ولم ينسب إليها شيء في الكتاب والسنة ، إنما نسب إلى ( من في السماء ) ، وهو الله تبارك وتعالى .
قال سبحانه وتعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) الآية .
ولذا لما نسب بعض الصحابة رضي الله عنهم فعلا من أفعال الله - وهو إنزال المطر- نسبوه إلى غير الله قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه أنه قال - : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ؛ فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب . رواه البخاري ومسلم .
ثانياً :
قول : أنا أثق بنفسي / يجب أن تثق بنفسك / الثقة بالنفس ...
الثقة المطلقة يجب أن تكون بالله وحده
ولذا يتبرأ الإنسان من حوله وقوته فيقول : لا حول ولا قوة إلا بالله .
والثقة إنما تكون بما عند الله من نصر وإعانة ومدد ورزق وتفريج كربات وغير ذلك
وهذا هو شأن الأنبياء والصالحين
فهذا نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام يقف أما البحر والعدو من خلفه فيقول أصحابه ( إنّا لمدركون ) فيرد عليهم بلسان الواثق بنصر الله ( كلا إن معي ربي سيهدين ) فيأتيه الفرج والنصر بالأمر الرباني ( اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم )
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يختبئ في الغار فيقف المشركون أمام باب الغار حتى رأوا أقدامهم فيقول أبا بكر رضي الله عنه : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا ، فقال : ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما . رواه البخاري ومسلم .
والأمثلة على هذا كثيرة ، ولولا خشية الإطالة لأوردت منها وسردت .
فلا يثق المسلم بنفسه بل يثق بالله وبما عند الله .
ومن هذا الباب أن النبي عليه الصلاة والسلام : من سمع بالدجال فلينأ عنه ، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات . رواه أحمد وأبو داود . ومعنى ( ينأ عنه ) أي يبتعد عنه حتى لا يُفتن .(2/139)
وهذا دليل على أن النفس لا يُوثق بها بل تُجنّب مواطن الفتن والهلكة .
والثقة بالنفس ربما دفعت صاحبها إلى التعالي والغرور ونتيجة ذلك العُجب الذي هو أكبر من الذنب ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك ؛ العجب العجب . رواه البيهقي في شعب الإيمان ، وحسنه الألباني .
ثالثاً :
كلمة : مسيحي / مسيحية / إخواننا المسيحيين !! ....
وهذه الأخرى مما يكثر تردادها على ألسنة كثير من الصحفيين والإعلاميين عموما بل على ألسنة كثير من الناس إذا تحدثوا عن النصارى .
بل إنني سمعت أحدهم وهو يتحدث عن النصارى فقال : إخواننا النصارى ...!!!
والنصارى قد سماهم الله كذلك .
أعني سماهم ( نصارى )
كما في قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى .. ) الآية .
وكما في قوله تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى .. ) الآية .
وكما في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء .. ) الآية .
والآيات في هذا كثيرة .
وكذلك سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سماهم ( نصارى )
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار . رواه مسلم .
وكما في قوله عليه الصلاة والسلام : لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه . رواه مسلم أيضا .
وقوله عليه الصلاة والسلام : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله . رواه البخاري .
والأحاديث في هذا كثيرة .
ولم يُسمِّهم الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بهذه التسمية أو بأهل الكتاب أو الروم لكن لم يرد في الكتاب ولا في السنة تسميتهم بالـ ( المسيحيين )
لأن المسيحيين على الحقيقة هم أتباع المسيح عليه الصلاة والسلام .(2/140)
وهم الذين شهدوا أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
وهم الذين يعتقدون أنه ما صُلِب ولا قُتِل بل رفعه الله إليه .
وهم الذين آمنوا ببشارة عيسى عليه السلام ( ومُبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد )
أما من يعتقدون أنه إله أو ابن الله فأين هم ودين المسيح ؟
بل إن المسيح عليه الصلاة والسلام برئ منهم .
فإنه ينزل في آخر الزمان – كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم – فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية . كما في الصحيحين .
لأن هذه الأشياء مما أُلصِقت بشريعته وهو براء منها .
فلا تصح تسمية النصارى بـ ( المسيحيين ) بل يُسمّون كما سماهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ( نصارى )
174-كُلُّك عورات..
ما أكثر ما نشتغل بعيوب الناس ، ناسين أو متناسين أموراً مهمة :
الأولى : أنهم بشر مثلنا ، وأنهم يقعون في الخطأ ويقع منهم الخطأ .
الثاني : أننا مُلئنا عيوباً لو اشتغلنا بها وبإصلاحها لأشغلتنا عن عيوب الناس .
الثالث : أن من تتبّع عورات الناس تتبّع الله عورته ، فالجزاء من جنس العمل .
الرابع : أننا أغرنا على الإنصاف فقتلناه غيلة ! فنظرنا في سيئات أقوام وأكبرناها وأعظمناها ، وكتمنا حسناتهم .
وقديماً قيل :
أرى كل إنسان يرى عيب غيره *** ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وما خير من تخفى عليه عيوبه *** ويبدو له العيب الذي لأخيه
روى ابن جرير في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) قال : إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم ، غافلاً عن ذنوبه .
ومن كان كذلك فقد تمّت خسارته ، كما قال بكر بن عبدالله : إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ، ناسيا لعيبه ، فاعلموا أنه قد مُكِرَ بِهِ .
وكم هو قبيح أن ينسى الإنسان عيوب نفسه ، وينظر في عيوب إخوانه بمنظار مُكبِّر(2/141)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذل أو الجذع في عين نفسه . قال أبو عبيد : الجذل الخشبة العالية الكبيرة . رواه البخاري في الأدب المفرد مرفوعاً وموقوفاً ، وصحح الشيخ الألباني وقفه على أبي هريرة ، ورواه ابن حبان مرفوعاً - أي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - .
ولنتذكّر في هذه العجالة أن الجزاء من جنس العمل .
روى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : كان بالمدينة أقوام لهم عيوب ، فسكتوا عن عيوب الناس ، فأسكت الله الناس عنهم عيوبهم ، فماتوا ولا عيوب لهم ، وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم ، فتكلموا في عيوب الناس ، فأظهر الله عيوباَ لهم ، فلم يزالوا يعرفون بها إلى أن ماتوا .
وروى الجرجاني في تاريخ جرجان عن أحمد بن الحسن بن هارون أنه قال : أدركت بهذه البلدة أقواما كانت لهم عيوب ، فسكتوا عن عيوب الناس ، فنُسيَت عيوبهم .
قال ابن رجب – رحمه الله – :
وقد روى عن بعض السلف أنه قال : أدركت قوما لم يكن لهم عيوب ، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبا ، وأدركت قوما كانت لهم عيوب ، فكفوا عن عيوب الناس فنُسيت عيوبهم ، أو كما قال . وشاهد هذا حديث أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان في قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوارتهم ، فإنه من اتبع عوراتهم ، تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته . خرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وخرج الترمذي معناه من حديث ابن عمر .
واعلم أن الناس على ضربين :
أحدهما :(2/142)
من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة ، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها ؛ لأن ذلك وهذا هو الذي وردت فيه النصوص وفي ذلك قال الله تعالى : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) . والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه ، واتّهم به مما بريء منه كما في قضية الإفك .
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف : اجتهد أن تستر العصاة ، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب . ومثل هذا لو جاء تائبا نادما وأقر بحده لم يفسره ولم يستفسر بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه ، كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماعزا والغامدية ، وكما لم يستفسر الذي قال : أصبت حدا فأقمه عليّ ، ومثل هذا لو أخذ بجريمته ولم يبلغ الإمام ، فإنه يشفع له لا يبلغ الإمام ، وفي مثله جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم . خرجه أبو داود والنسائى من حديث عائشة .
والثاني :
من كان مشتهرا بالمعاصي معلنا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له ؛ هذا هو الفاجر المعلن ، وليس له غيبة كما نصّ على ذلك الحسن البصري وغيره ، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود ، وصرح بذلك بعض أصحابنا ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها . انتهى كلامه – رحمه الله – .
قال القرطبي في التفسير :
قال بكر بن عبد الله المزني : إذا أردت أن تنظر العيوب جملة فتأمل عيّاباً ، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب … وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره …
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا *** فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا ***ولا تعب أحداً منهم بما فيكا
انتهى .
فيا أخي :
ويا أختي :(2/143)
كيف إذا كان من يُوقع في عرضه من أهل العلم والصلاح ؟
ثم نرميه بالبدعة أو المروق من الدّين دون بيّنة ولا تثبّت .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال . رواه أبو داود ، وغيره ، وصححه الألباني – رحم الله الجميع –
فليحذر الذين يخوضون في أعراض عباد الله ، خاصة الصالحين والمُصلحين .
فيا أخوتاه :
نحن – بَعْدُ - ما فرغنا من عيوب أنفسنا حتى نشتغل بعيوب غيرنا !
ولعل من اشتغل بعيوب الخلق ، يُبتلى بالانشغال عن عيب نفسه حتى تعطب .
ويا أخي الحبيب :
ويا أختي الكريمة :
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى = ودينك موفور وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ = فكلّك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً = فدعها وقل : يا عين للناس أعينُ
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى = وفارق ولكن بالتي هي أحسنُ
وصية مُحب :
أن نُقبل على أنفسنا فنزكّيها بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، ونترك الاشتغال بعيوب الناس ، فإننا لن نُسأل في قبورنا إلا عن رجل واحد : ( ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم ؟ )
وإني لأحسب أنه سلِم منّا اليهود والنصارى ، ولم يسلم مِنّا إخواننا ، كما قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – .
وكنت أودّ الاختصار والاقتصار على بعض ذلك ، ولكن ...
ولا زال في الجعبة الكثير والكثير عن الإنصاف ، ولعلي أُفرِد له مقالاً خاصاً .
175-كلاب الروم !!
عندما تضعف أمة الإسلام فإن كلاب الأمم تطمع بخيراتها ومقدّراتها
بل تتجرأ إلى غزو ديارها
وإن كلاب الأمم بعامة لا يُجدي معها سوى لغة إلقام الحجر !
ولا يردعها سوى لغة ( خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم ) !ولا يردّها خاسئة ذليلة حقيرة إلا منطق سليمان عليه الصلاة والسلام ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ )(2/144)
ولا يقطع دابرها سوى مقولة : ( مَنْ لِكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله )
ولا يردّها عما عزمت عليه غير منطق ( الجواب ما تراه لا ما تسمعه ) !
لقد كان هذا هو منطق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد يوم أطلقها مُدوّية من بغداد
لقد تجرأ نقفور ملك الروم فكتب ( مُجرّد كِتابة !!! ) إلى هارون ملك العرب أما بعد : فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق ، فحملت إليك من أموالها وذلك لضعف النساء وحمقهن ، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك وافتد نفسك وإلا فالسيف بيننا !
فلما قرأ الرشيد الكتاب اشتد غضبه وتفرق جلساؤه خوفاً من بادرة تقع منه ، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب :
من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم !
قرأت كتابك يا ابن الكافرة ! والجواب ما تراه دون ما تسمعه .
ثم ركب من يومه وأسرع حتى نزل على مدينة هرقلة وأوطأ الروم ذلاً وبلاءً ، فقتل وسبى وذل نقفور ، وطلب الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة ، فأجابه الرشيد إلى ذلك .
لله أبوك يا هارون الرشيد !
ألا يوجد مثلك اليوم رَجُل رشيد ؟!!
والله إن الأمة بحاجة إلى مُخاطبة كلب الروم – اليوم – بهذا الخطاب ، وبهذه القوّة ، وبهذه اللغة .
وكم هو والله بحاجة إلى أن يُعرّف قدره .
إن طلب الروم يعيث اليوم في الأرض فساداً ولا هارون !
أليس مِنا القائد الرشيد ؟؟؟
بلى
ولكن الأمة استنوقت ! إلا من رحم الله وقليل ما هم .
يا ألف مليون تكاثر عدّهم = إن الصليب بأرضنا يتبخترُ
فالحرب دائرة على الإسلام يا = قومي ، فهل منكم أبيٌّ يثأرُ
إنا سئمنا من إدانة مُنكرٍ = إنا مللنا من لسانٍ يزأرُ
يتقاسم الأعداء أوطاني على = مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالمي ألا ترى = شعباً يُباد وبالقذائف يُقبرُ ؟
أين العدالة أم شعار يحتوي = سفك الدماء وبالإدانة يُسترُ ؟(2/145)
ما دام أن الشعب شعب مسلمٌ = لا حل إلا قولهم : نستنكرُ !
يا أمتي والقلب يعصره الأسى = إن الجراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يحمي ربى أوطاننا = إلا الجهاد ومصحف يتقدّر
لقد تعادت كلاب الرّوم على أمتي
لقد عادت الرّوم في عتمة الليل = ولم يُحسن المسلمون البدارا
ولقد عَوَت بنا ذئاب الروم
تعدو الذئاب على مَن لا كِلاب له = ويتّقين صولة المستأسد الضاري
فمتى نسمع زئير المستأسد الضاري ؟؟؟
عسى أن يكون قريبا .
176-كل أمة محمد بخير إلا أنت ..!!
أترضى أن تكون كذلك ؟
أترضى أن تكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها بخير إلا أنت ؟!
أترضى أن تكون أمة كاملة بعافية إلا أنت ؟
تأمل في قول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يُصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ! وقد بات يستره ربه ، ويُصبح يكشف ستر الله عنه . رواه البخاري .
فهل رضيت بهذا أيها العاصي ؟
إلى كل صاحب معصية ظاهرة
وإلى من جاهَرَ بمعصيته
وإلى من تبجّح بالمعايب ، وادّعى الحُريّة
إلى من نفث دخان سيجارته أمام الناس
إلى من أسمع الحيّ والشارع الذي يمرّ به أصوات الموسيقى الصاخبة ، أو الأغاني الماجنة
إلى من باع المُحرّمات جهاراً نهاراً
إلى من ساهَم بالحرام بيعا أو شراء أو مساهمة
إلى من تبرّجت وأظهرت محاسنها
إلى من لبست الضيق والقصير أمام الناس – رجالا أو نساءا –
إلى من غيّرت خلق الله ، بنمص أو وشم أو بِتَفلّج أو وصل شعر
إلى من وقفت على قارعة الطريق أو في السوق تُكلّم هذا أو تُحادِث ذاك
إلى هذا وإلى تلك
إليهم جميعاً
قبل أن تُجاهِروا بمعاصيكم قفوا ألف مرّة ، وسائلوا أنفسكم :
أَمِن العقل أن تكون أمة الإسلام بخير ما عدانا ؟
أمْ مِن الحكمة أن نكون من شرّ الناس ؟
أمْ مِن الوعي أن نكون دعاة على أبواب جهنم – ربما – بأفعالنا ؟(2/146)
وليست المجاهرة في صورتها الظاهرة الواضحة فحسب ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يُصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ! وقد بات يستره ربه ، ويُصبح يكشف ستر الله عنه .
هذا نوع من أنواع المجاهرة ، ولون من ألوان الوقاحة ، وصورة من صور نزع الحياء
لا يكتفي العاصي بأن تجرأ على معصية من لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء ، حتى أصبح يُعلن بسوءاته أمام الناس ، ويفتخر بقاذوراته أمام الملأ ، ويُظهر معايبه على أنها مفاخر !
ما حيلتي فيمن يرى = أن القبيح هو الحسن
وقول ربنا أصدق وأبلغ :
( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا ) ؟
فيا من جاهَر بالمعصية لا تظنّ أن هذه المجاهرة تعود عليك وحدك
أو أنها لا تضر إلا بك
أو أنك تملك مُطلق الحريّة في ممارسة ما تُريد
ولكنك بفعلك هذا هوّنت من شأن المعصية
وزيّنتها للآخرِين
وجرأت غيرك عليها
فتحمل وزرهم مع أوزارك
فاستتر بستر الله سترك الله فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العَرض .
177-كرهت أن أُعجله حتى يقضي حاجته..
ضع نصب عينيك كل عظيم فسوف ترى هذا العظيم أعظم من كل عظماء الدنيا
وتخيل كل عالم تجد أنه أفضل منهم
وانظر إلى ركب الأنبياء تراه وأفضلهم
وأرسل الطرف في ذريّة آدم يبدو لك أنه سيدّهم
هو إمام الأمة
وهو سيد ولد آدم
وهو خير خلق الله جميعاً
ومع ذلك يجد من الوقت ما يُكلّم به جارية
أو يقضي به حاجة عجوز
أو يُلاعب به طفلا(2/147)
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر وهو حامل الحسن أو الحسين ، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة ، فصلى ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس : يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها فظننا أنه قد حدث أمر ، أو أنه قد يُوحى إليك . قال : فكلّ ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضى حاجته . رواه الإمام أحمد والنسائي .
تأمل في جوابه صلى الله عليه وسلم لأصحابه : فكلّ ذلك لم يكن !
لم يحدث أمر جلل
ولم يكن يوحى إليّ
ولكن ابن بنته ارتحله ( ركب على ظهره )
وفي تعبيره : ارتحلني ما يفوق الوصف من الشفقة والرحمة بالصغير
ارتحلني : أي جعلني كالراحلة له !
لا إله إلا الله !
وسبحان الله !
أهذا سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ؟!
أهذا الذي يأتيه خير السماء ؟!
أهذا أفضل الأنبياء والرسل الله فضلا عن غيرهم ؟!
أهذا قائد الأمة ؟!
يكون ظهره مركبا لابن بنته ؟!
حتى استنبط بعض العلماء من فعل الصبي أنه لو لم يكن قد اعتاد على هذا في البيت لما تجرأ عليه أمام الناس !
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسين فيرى الصبي حمرة لسانه فيهشّ إليه ، فقال له عيينة بن حصن بن بدر : ألا أرى تصنع هذا بهذا ؟! والله ليكون لي الابن قد خرج وجهه وما قبلته قط ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لا يرحم لا يرحم . رواه ابن حبان بهذا اللفظ .
وعلى هذا المنوال سار أصحابه الذين دانت له الأصقاع بينما لبسوا جلود الضأن
وهم في بيوتهم يُلاعبون أهليهم ويُداعبون صبيانهم ويهشّون لهم
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليعجبني الرجل أن يكون في أهل بيته كالصبي ، فإذا ابتغي منه وُجد رجلا . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وقال ثابت بن عبيد : كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في أهله ، وأزمَته عند القوم .(2/148)
قال الحكيم الترمذي : وكان السلف الصالح ينبسطون إلى أهاليهم وأولادهم وإخوانهم ، ويُظهرون النشاط في الأمور ، ويتفقدون من أنفسهم الوقوف عند الحدود كي لا يرتطموا في النهي .
وقال إبراهيم النخعي : يُعجبني أن يكون الرجل في أهله كالصبي ، فإذا بُغي منه وُجد رجلا .
يعني إذا طُولب بما لا يجوز في الحق وُجد صلبا في دينه .
تذكّرت هذه المعاني يوم أن أصرّ ابني الأصغر – الذي تجاوز عمره السنتين بقليل – أن ألعب معه !
فهو لا يرى الدنيا سوى أرجوحة وحلوى !
تركت ما كان بيدي وقمت معه
ذهبت معه إلى الأرجوحة
أصرّ على ركوبي معه !
رَكِبتُ !!
وتفكّرت كم بيني وبينه من مدى زمني ؟!
كم تفصل بيننا سنوات العمر ؟
ثم جال بخاطري كلمات كان يُرددها
فردّدتُ وردّد معي
هذا قمرٌ ... ما أحلاه
هذا نجم ... ما أبهاه
هذا بحر ... مَنْ سوّاه ؟
إنه الله القدير
إنه الله القدير
فكنت أقول له الكلمة الأولى ويقول الثانية !
فحفر هذا الموقف في ذهن طفلي مشهداً لا أظنه ينساه
أما إني ما كنت أعي ماذا بعد هذا المشهد
إلا لما سمعته مراراً يقول : ركبت في ( الملديحة ! ) وركب معي أبوي !
وقال ... وقلتُ ...
وكرر هذه الكلمات كثيراً !
علمت بعدها كم للتبسّط مع الأطفال من أثر
وكم لِلَعب الأب أو لجلوسه مع أطفاله من كبير القدر
يرون أنه قريب منهم
وأنه يُشاركهم أفراحهم وأحزانهم
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقا ، وكان لي أخ يقال له : أبو عمير ، كان فطيما ، فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال : أبا عمير ما فعل النغير ؟ قال : فكان يلعب به . رواه البخاري ومسلم .
كيف بك لو دخلت على عمر بن الخطاب فرأيته يمشي على يديه ورجليه يحمل صبيا له على ظهره ؟!
هل تخيّلت هذا المشهد ؟!
إنه خليفة المسلمين
إنه أمير المؤمنين
إنه الذي قيل فيه :
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً = مِن بأسه وملوك الروم تخشاه(2/149)
لكنه هكذا يكون في بيته !
يكون مع صبيانه كالصبي !
هذه بعض أخلاق أسلافنا ، وبعض جوانب التربية عندهم .. فلله درّهم .
178-قَطَع الله يدك !
يتصوّر بعض الناس أن الرفق واللين هو الذي يجب أن يسود التعامل بين الناس عموما
بين الداعي والمدعو
بين المُنكِر وصاحب المُنكَر
وتسمع العتب على من اشتدّ في النَّكير !
أو اللوم على من أغلظ في القول – ولو كان لمرة واحدة –
فيقولون :
" إن منكم مُنفِّرين " ... لا تنفِّروا الناس !
ويستدلّون بـ ( أدْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) ويكتفون بهذا القدر من الآية !
ومنهم من يستدل بقول الله عز وجل لموسى مع فرعون ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )
والحقيقة أن هذا خطأ في الاستدلال ، وقصور في التّصوّر .
فلكل مقام مقال
ولكل حالة لباس
فالبس لكل حالة لبوسها *** إما نعيمها وإما بؤسها
فلا تصلح الشدّة في موضع الرفق واللين
ولا يصلح اللين في موضع الشدة والقوة
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
أما استدلالهم بالآية ( أدْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) فإن الله سبحانه وتعالى ختمها بقوله :
( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )
ثم قال سبحانه : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ )
قال ابن القيم – رحمه الله – :(2/150)
جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق ؛ فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يُدعى بطريق الحكمة ، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يُدعى بالموعظة الحسنة ، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة ، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن . هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية .
وقال أيضا : وأما المعارضون المَدْعُوّون للحق فنوعان :
نوع يُدعون بالمجادلة بالتي هي أحسن ، فإن استجابوا ، وإلا فالمجالدة ، فهؤلاء لا بُدّ لهم من جدال أو جلاد . انتهى .
وأما الاستدلال بقول الله عز وجل لموسى وهارون : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )
فنقول : كيف فهم موسى عليه الصلاة والسلام هذا الأمر ؟
هل فهمه على القول الليِّن مُطلقاً ، وعلى الرخاوة عموماً ؟
هذا ما لم يفهمه موسى عليه الصلاة والسلام بدليل أنه أغلظ لفرعون في موطن الشدة والقوة
فلما قال له فرعون : ( إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا )
ردّ عليه موسى بقوّة فقال : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا )
مَثْبُورًا ؟
نعم !
هالكاً مدحورا مغلوبا !
وهذا مثله مثل الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى لِنبيِّه صلى الله عليه على آله وسلم : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )
وسوف أستعرض معكم بعض المواقف التي فيها شِدّة وقوّة في الإنكار ، ولا تعارض بينها وبين هذه الآية ، كما لا تعارض بين أمر موسى – عليه الصلاة والسلام – بالقول الليّن ، وبين شدّته على فرعون وقوّة لفظه وجزالة خطابه معه .
وهذه بعض المواقف من حياته صلى الله عليه على آله وسلم
والشدّة تكون مع الكافر وتكون مع المسلم .(2/151)
اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ! سفّه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا . لقد صبرنا منه على أمر عظيم . فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت ، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول قال عبد الله بن عمرو : فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فقال : تسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح . فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ! حتى إن أشدهم فيه وَصَاة قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشداً ، فو الله ما كنت جهولا ! قال : فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد بإسناد حسن .
أليست هذه شِدّة وغِلظة ؟
ولو قيلت اليوم لكافر لعُدّ ذلك من الغِلظة والتنفير !
ومن أشد ما رأيت مواقف الصحابة يوم الحديبيبة مع أنهم ليسوا في موقف قوة ، ولكن ردودهم وأقوالهم كانت هي القويّة .
في يوم الحديبية أرسلت قريش رُسلها لمفاوضة النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، فلم تُفلح تلك الجهود قام عروة بن مسعود الثقفي – وكان مشركا - فقال : أي قوم ! ألستم بالوالد ؟
قالوا : بلى .
قال : أوَ لست بالولد ؟
قالوا : بلى .
قال : فهل تتهمونني ؟
قالوا : لا .
قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلّحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟
قالوا : بلى .
قال : فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه .(2/152)
قالوا : ائته ، فأتاه فجعل يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لِبُدَيْل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يَفِرُّوا ويدعوك !
فقال له أبو بكر : امصص ببظر اللات ! أنحن نفرّ عنه وندعه ؟
فقال عروة : من ذا ؟
قالوا : أبو بكر .
قال عروة : أما والذي نفسي بيده لولا يَدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك .
وجعل عروة يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بِنَعْلِ السيف ، وقال له : أخِّرْ يَدَكَ عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟
قالوا : المغيرة بن شعبة .
فقال : أي غدر ! ألست أسعى في غدرتك ؟
وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء . ثم إن عروة جعل يرمق أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه .
.....
فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم والله لقد وَفَدْتُ على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملِكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فَدَلَكَ بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ... الحديث . رواه البخاري .
أليست هذه أيضا شِدّة وغِلظة وقوّة ؟(2/153)
ولو قيلت اليوم لكافر لعُدّ ذلك من الغِلظة والتنفير !
ومع هذه الشِّدة رجع إلى قومه بهذه الصورة المشرقة التي نقلها بكل صدق وأمانة لقومه ، وعرض عليهم ما عَرَضَه عليه رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم .
كان هذا مع أئمة الكفر
فماذا كان مع أئمة النفاق ؟!
لما كان في غزوة تبوك قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم : إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئا حتى آتي . فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تَبِضّ بشيء من ماء . قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم . فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول . رواه مسلم .
يحتاج المُعاند إلى أن يُعامل بشيء من الشدة والغلظة .
وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله ، فقال : كُلْ بيمينك . قال : لا أستطيع ! قال : لا استطعت . ما منعه إلا الكبر . قال : فما رفعها إلى فيه .
فقوله : لا استطعت . من باب الدعاء عليه .
فما فعها إلى فيه : أي ما رفع يده إلى فمِه .
أليست هذه شِدّة في الإنكار ؟
وثمة مواقف أُخر ظهرت فيها الشِّدّة في التعامل مما يدلّ على أن الرفق واللين ليس هو التعامل السائد أو الحل الدائم .(2/154)
حَدّث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلاً فقال : احتفظي به . قال : فَغَفَلَتْ حفصة ، ومضى الرجل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا حفصة ما فعل الرجل ؟ قالت : غفلت عنه يا رسول الله فخرج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قطع الله يدك . فَرَفَعَتْ يديها هكذا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأنك يا حفصة ؟ فقالت : يا رسول الله قلت قبل لي كذا وكذا ! فقال لها : ضعي يديك ، فإني سألت الله عز وجل أيما إنسان من أمتي دعوت الله عليه أن يجعلها له مغفرة . رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح .
وروى البيهقي مثل هذه القصة وأنها قعت لعائشة – رضي الله عنها –
والرجل المدفوع إلى حفصة – رضي الله عنها – إما كان أسيراً أو محبوساً ولم يكن له قيد .
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل ، فنزعه فطرحه ، وقال :يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده . فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم : خُذ خاتمك انتفع به . قال : لا والله لا آخذه أبدا ، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والنّزع يدل على الشِّدّة .
وعلى هذا سار أصحاب النبي صلى الله عليه على آله وسلم في التعامل بقوّة وشِدّة فيما يحتاج إلى الشدّة .
روى مسلم عن عمارة بن رؤيبة – رضي الله عنه – أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال : قبّح الله هاتين اليدين ! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة .(2/155)
وكان حذيفة بالمدائن فاستسقى ، فأتاه دهقان بقدح فضة ، فرماه به ، ثم قال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال : هن لهم في الدنيا ، وهي لكم في الآخرة . متفق عليه .
وهذا عبد الله بن عمر يُحدّث فيقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنوكم إليها .
فقال بلال بن عبد الله بن عمر : والله لنمنعهن !
قال سالم بن عبد الله بن عمر : فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّاً سيئا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن ؟! متفق عليه .
ما رأيكم :
لو جاء مُدخِّن تفوح منه روائح التدخين
أو جاء عامل ملابسه كلها زيوت أو دهانات
فأمسك بهم إمام المسجد أو المُحتَسِب ( رجل الهيئة ) ثم طردوا عن المسجد أو من المسجد !
ماذا يكون موقف المُشاهِد لذلك الموقف ؟؟؟
سيقول :
ما بالكم تُنفِّرون الناس !
إن منكم مُنفّرين
تعاملوا بلطف !
لا تُضيّقوا على عباد الله !
ما كان الرفق في شيء إلا زانه .
وربما تلا الآية ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )
لكن هذا الفعل أو التصرف هو ما كان يحدث في زمن النبي صلى الله عليه على آله وسلم .
قال عمر – رضي الله عنه – : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا . رواه مسلم .
يعني البصل والثوم .
قال بعض أهل العلم : وإنما يُخرجون إلى البقيع لأنه جهة المقبرة ، والموتى لا يتأذّون بتلك الروائح !
وينبغي التفريق في التعامل بين الجاهل الذي يحتاج إلى تعليم ، وبين المُعاند .
ويدلّ على ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه – ، وهو في صحيح مسلم .(2/156)
والحديث مع شيء من فوائده طرحته في أحد المنتديات ، وقد وضعته على هذا الرابط خشية الإطالة أكثر مما أطلت .
فالحديث بتمامه وفوائده هنا :
حديث معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه –
http://saaid.net/Doat/assuhaim/41.htm
وما هذه إلا أمثلة لم أُرِد بها الحصر .
179-قولوا لأبي عبد الله وجدنا ما وعدت حقا..
قال إمام أهل السنة أبو عبد الله الإمام أحمد بن حنبل : قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز .
قال الإمام الحافظ أبن كثير رحمه الله :
وقال الدارقطني : سمعت أبا سهل بن زياد سمعت عبد الله بن أحمد يقول : سمعت أبي يقول : قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمرّ . وقد صدّق الله قول أحمد في هذا ، فإنه كان إمام السنة في زمانه ، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه ، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان ، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يُصلّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس ، وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جدا ، فلله الأمر من قبل ومن بعد . اهـ .
وفي تاريخ دمشق أن الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر بعث عشرين رجلا فحزروا كم صلى على أحمد بن حنبل ، فحزروا فبلغ ألف ألف وثمانين ألفا ، سوى من كان في السفن في الماء .
وقال ابن كثير أيضا :(2/157)
ولا شك أن جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك وتعظيمهم له ، وأن الدولة كانت تحبّه ، والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة ، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعا لو جمعهم سلطان قاهر وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته وانتهوا إليها ، هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوسا من جهة السلطان ، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة مما ينفر منها طباع أهل الأديان فضلا عن أهل الإسلام وهذه كانت جنازته . اهـ .
ولا شك أن جنائز أهل العِلم لتُوحي بقدرهم في نفوس الناس .
وتُشعر بقدر ما حملوه وما بذلوه .
يتجمّع الناس وتزدحم الجموع غير رغبة في دنيا ولا رهبة من سلطان .
يودّعون علما غزيراً وتواضعا جمّاً بل ويدفنون رجلاً طالما أحبّته القلوب .
ولقد قضى الله وقدّر وأنزل قدره المحتوم بالعالم الجليل والشيخ المجاهد الشيخ العلاّمة عبد الرحمن آل فريان رحمه الله في هذا اليوم الخميس السابع من شهر رجب من عام 1424 من الهجرة النبوية .
وفي هذا اليوم وصلني الخبر المؤلم وعلِمت بالخطْب الجلل
فذهبت للصلاة على الشيخ رحمه الله ووصلت مع أذان العصر ، وإذا أفواج المصلين تؤمّ المسجد الجامع
بل قد ازدحم المدخل المؤدي للجامع قبل أن أصِل إليه
توافد الناس وفاء للشيخ رحمه الله
وما أن وصلت المسجد الجامع حتى فوجئت بازدحامه حتى لم أجد لي مكاناً سوى في مؤخرة الجامع بل عند الباب ، ولو تأخرت لحظة واحدة لم أجد لي مكاناً
وتدافع الناس ووقفوا فأطالوا الوقوف
لا يجد الواحد منهم مكانا يُصلي فيه رغم اتّساع الجامع
ثم أُقيمت الصلاة وتدافعت جموع المصلين داخل المسجد حتى قيل لهم : ارجعوا لا مكان لكم
فرجعوا
وصلى الناس خارج المسجد وفي الطرقات ، وفي الظل والشمس
ولما وقفنا لصلاة الجنازة سُمع النشيج من خارج المسجد(2/158)
عندها تذكرت مقولة الإمام أحمد رحمه الله : قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز .
وخَطَرَ ببالي قول معاوية لابنه – وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما يُسأل عن مسائل مِن العِلم ويلتف الناس حوله - : هذا والله الشرف .
وتبادر إلى ذهني قول أم ولد لهارون الرشيد وقد انجفل الناس إلى ابن المبارك عند قدوم هارون الرشيد الرَّقة فتقطّعت النعال وارتفعت الغَبَرَة ، فلما رأتِ الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالمٌ من أهل خراسان قدم الرَّقة يُقال له عبدُ الله بنُ المبارك ، فقالت : هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان .
هذا يا إخوتي المُلك وهذا يا أحبتي الشرف
ولكن ما أزهد الناس في هذا الشرف وأرغَبهم عن هذا المُلك
فنسأل الله أن يرحم الشيخ برحمته الواسعة وأن يُسكنه فسيح جناته
وأن يجزيه عنّا خير ما جزى عالماً على علمه
لقد قضى الشيخ عمره في العلم والتعليم ، والدعوة إلى الله في القرى والهجر والمناطق النائية
بل لقد أجرى الله على يديه الخير في تأسيس الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم
وها هي اليوم يتزايد عدد طلابها على مائة ألف
وعُرف الشيخ رحمه الله بالقوة في الحق فلا تأخذه في الله لومة لائم..
180-قطيع كشويهات الغنم !
والله والله إيمان مُغلّظة = ثلاثة من بعد ثانيها
إني لأحمد الله على نعمة الهداية وعلى نعمة التّمسّك بالسنة على ما عندي من ضعف
لكني أعرف قدر هذه النّعمة عندما أرى تلك الوجوه الخاشعة بل الباكية أحياناً العاملة الناصبة على غير هُدى وعلى غير سنة بل على بدعة وضلالة .
كم أرثي لتلك القطعان البشرية التي نخرت في عقولها البدعة ، وعشعشت الضلالة في أفكارها
بل كم أحمد الله عندما أرى تلك العمائم المكوّرة على رؤوس فارغة إلا من الخرافة والبدعة والضلالة !
فيارب لك الحمد على نعمة السنة
كم رأيت في ساحات المسجد النبوي من أصحاب تلك العمائم السوداء من يذهب ويجيء والمسلمون يُصلّون !(2/159)
وقد نلتمس عُذراً لمن تفعل ذلك من النساء ولكن ما عُذر من يفعل ذلك من ذُكرانهم ؟!
كم تغدو تلك القطعان في ذهاب ومجيء وهي على غير هُدى ؟!
عندها تذكرت وصف الله تبارك وتعالى للكفار وتشبيههم بالأنعام حيث قال : ( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )
ووالله إني لأكون جالسا أو ماشياً فيمرّ الشاب بثياب عربية أو بملابس إفرنجية فأرى في وجهه ظُلمة البدعة وسواد الشرك .
بل ألمح فيه ما قاله ابن القيم رحمه الله
حيث قال :
تأمل حكمته تبارك وتعالى في عقوبات الأمم الخالية وتنويعها عليهم بحسب تنوع جرائمهم ،كما قال تعالى : ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )(2/160)
وتأمل حكمته تعالى في مَسخ من مُسخ من الأمم في صور مختلفة مناسبة لتلك الجرائم ، فإنها لما مُسخت قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضت الحكمة البالغة أن جُعلت صورهم على صورها لتتم المناسبة ويكمل الشبه ، وهذا غاية الحكمة ، واعتبر هذا بمن مُسخوا قردة وخنازير كيف غلبت عليهم صفات هذه الحيوانات وأخلاقها وأعمالها ؟ ثم إن كنت من المتوسِّمين فاقرأ هذه النسخة من وجوه أشباههم ونظرائهم كيف تراها بادية عليها ، وإن كانت مستورة بصورة الإنسانية ؟ فاقرأ نسخة القردة من صور أهل المكر والخديعة والفسق الذين لا عقول لهم بل هم أخفّ الناس عقولا وأعظمهم مكرا وخداعا وفسقا ، فإن لم تقرا نسخة القردة من وجوهم فلست من المتوسمين ، واقرأ نسخة الخنازير من صور أشبهاهم ولاسيما أعداء خيار خلق الله بعد الرسل ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هذه النسخة ظاهرة على وجوه الرافضة يقرأها كل مؤمن كاتب وغير كاتب ، وهي تظهر وتخفى بحسب خنزيرية القلب وخبثه ، فإن الخنزير أخبث الحيوانات وأردؤها طباعا ، ومن خاصيته أنه يَدع الطيبات فلا يأكلها ويقوم الإنسان عن رجيعة فيبادر إليه ! فتأمل مطابقة هذا الوصف لأعداء الصحابة كيف تجده منطبقا عليهم فإنهم عمدوا إلى أطيب خلق الله وأطهرهم فعادوهم وتبرّؤوا منهم ، ثم والواكل عدو لهم من النصارى واليهود والمشركين ، فاستعانوا في كل زمان على حرب المؤمنين الموالين لأصحاب رسول الله بالمشركين والكفار ، وصرّحوا بأنهم خير منهم ! فأيّ شَبه ومناسبة أولى بهذا الضرب من الخنازير ؟؟ فإن لم تقرأ هذه النسخة من وجوههم فلست من المتوسمين ، وأما الأخبار التي تكاد تبلغ حد التواتر بمسخ من مسخ منهم عند الموت خنزيرا فأكثر من أن تذكر ها هنا . اهـ .(2/161)
وحدّثني بعض الأفاضل أنه سأل الشيخ محمد بن قاسم رحمه الله عن سرّ تغير ملامح وجوه صبيان الرافضة بعد السابعة ، فقال : لعل الصبيان لا يُلقّنون سب الصحابة إلا بعد سن السابعة !
وسُئل رافضي عن أبرز أسباب هدايته فقال : تأملت أقوال واستدلالات أهل السنة فإذا هم يقولون : قال الله ، قال رسوله صلى الله عليه وسلم
وتأملت في كُتبنا وأقوال علمائنا فإذا هي قال أبو عبد الله قال فلان !
فالحمد لله الذي أنعم علينا بالسنة النبوية ، ونسأله سبحانه وتعالى الثبات عليها
ولكن مع ذلك فلِلّه في إيجادهم حكمة
كما قيل :
........ همجٌ رعاعٌ = وفي إيجادِهم لله حكمة
وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه :
الناسُ ثلاثة : فعالمٌ ربانيّ ، ومتعلّمٌ على سبيل نجاة ، وهمجٌ رَعَاع أتباعَ كلِّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .
والضدّ يُظهر حسنه الضدّ = وبِضدّها تتبين الأشياء
والله المستعان وعليه التّكلان
ونعوذ بالله من الخذلان
181-قضية تعدد الزوجات بأعين الأمم المعاصرة..
قضية تعدد الزوجات بأعين الأمم المعاصرة .. ( نصرانية ترى التعدد ضرورة ) !!!
[ موضوع طويل ولكن أرجو قراءته حتى نهايته ، فقد تضمّن حقائق و.. و ... ]
أولاً :
هذه القضية أجلب عليها أعداء الإسلام بخيلهم ورَجِلِهم زاعمين أن هذا الفعل – أي التعدد – وحشية لا ترتضى وشهوانية غير مقبولة ، وانتقاص لحقِّ المرأة لا يُستساغ ، و ظُلْمٌ لها ، و … إلخ تلك الافتراءات .
ثانياً : التعدد من منظور عصري !
"كيف يجوز أن يجرؤ الغربيون على الثورة ضد تعدد الزوجات المحدود عند الشرقيين ما دام البغاء شائعاً في بلادهم ؟ … فلا يَصحّ أن يُقال عن بيئة : أن أهلها ( موحِّدون للزوجة ) ما دام فيها إلى جانب الزوجة الشرعية خدينات من وراء ستار!
ومتى وَزَنَّا الأمور بقسطاس مستقيم ظهر لنا أن تعدد الزوجات الإسلامي الذي
يَحفظ
ويَحمي
ويُغذي
ويَكسو النساء(2/162)
أرجح وَزْناً من البغاء الغربي الذي يسمح بأن يَتّخِذ الرجل امرأة لمحض إشباع شهواته ، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها أوطاره "
[ ليس هذا من قول أحد دعاة الإسلام !!
إنما هو من قول ( أني بيزانت ) زعيمة التيوصوفية العالمية ، وذلك في كتابها : الأديان المنتشرة في الهند فاعتبروا يا أولي الأبصار ! ]
قال ( اليوتنان كولونيل كادي ) :
إن تعدد الزوجات تُجيزه الشريعة الإسلامية بشروط محدودة ، وبالفعل نرى العالم كله يستعمله .
وقال أيضا :
من الواضح أن الفرنسوي الثري الذي يُمكنه أن يتزوّج باثنتين فأكثر ، هو أقل حالاً من المسلم الذي لا يحتاج إلى الاختفاء إذا أراد أن يعيش مع اثنتين فأكثر وينتج عن ذلك هذا الفرق : أن أولاد المسلم الذي تعدّدت زوجاته متساوون ومُعْتَرَف بهم ، ويعيشون مع آبائهم جهرة بخلاف أولاد الفرنسوي الذين يُولدون في فِراشٍ مُخْتَفٍ فهم خارجون عن القانون .
وهذا ما دعا ( الصِّين ) أن تعتزم إدخال تعديلات على قوانين الزواج الحالية في محاولة للحدّ من ظاهرتي
: ( تنامي العلاقات غير الشرعية ، والعنف بين المتزوّجين ) .
ولذا يقول المسؤول البرلماني الصيني (هو كانج شينج ) : إن التشريع الحالي بحاجة إلى تحديث … وأن هناك حاجة إلى إجراء تغييرات لتسهيل إيجاد علاقة زواج ونظام أسري أكثر تحضّراً في الأمة .
[ نظام أسري أكثر تحضّراً ] !!!!
ويُفيد الدّارِسُون لوضع المجتمع الصيني أن نسبة الطلاق المرتفعة في الصين قد حَفَزَتْ السلطات على اقتراح [ تجريم ! ] إقامة أي علاقة خارج الزواج ، وإرغام مرتكبي الزنا على دفع تعويضات لشركائهم في الزواج ، وإلزامهم بقضاء ثلاث سنوات منفصلين قبل إيقاع الطلاق .
نشرت صحيفة الحياة في العدد (13099) أن أستاذة " لاهوت " في جنوب أفريقيا دَعَتْ إلى السماح للبيض بتعدد الزوجات ، لمواجهة ارتفاع معدل الطلاق في البلاد ، وهو من أعلى المعدلات في العالم .
وتقول الأستاذة " لاندمان " :(2/163)
ليس هناك سوى عدد محدود للغاية من الرجال في العالم ، فقد قُتِل بعضهم في الحروب ، والآن حان الوقت كي تختار المرأة زوجاً من بين الرجال المتزوجين ، وأن تتفاوض مع زوجته على أن تُصبح فرداً من أفراد أسرته … ( بتصرّف عن الصحيفة ) .
ها نحن تراهم يعتبرون التعدد حَلاًّ لارتفاع معدل الطلاق ، وقلّة الرجال !!
فأحكام الجاهلية المعاصرة مبنيّة على الفساد !
وصدق الله الذي سمّى حُكم غيره حكماً جاهلياً
فقال : ( أَفَحُكم الجاهلية يبغون ) ؟؟ ( ومن أحسن من الله حُكماً لقوم يوقنون ) ؟ [المائدة:50]
فما خالف حُكم الله فهو حُكمٌ جاهلي أيّاً كان .
ثالثاً : الإسلام والتعدد
كلمة حق في موضوع التّعدد سمعتها من أحد دعاة الإسلام
حيث قال :
الإسلام لم يُنشئ التعدد ، وإنما حَدَّده .
ولم يأمر بالتعدد على سبيل الوجوب ، وإنما رخّص فيه وقيَّدَه . اهـ .
نعم . لقد جاء الإسلام والرجل يتزوج بما شاء مِنْ النساء ، حتى أسلم بعض أهل الجاهلية وعنده عشر نسوة !!
فحدد الإسلام العدد بأربع نسوة فقط .
ولما حدد الله التعدد بأربع لم يُوجبه على عباده بل أباحه لهم بشروطه من العدل والاستطاعة .
إذا لم يكتفِ الرجل بزوجة واحدة ، أو كانت زوجته عقيم لا تُنجب ، إلى غير ذلك ، فإن الشريعة الإسلامية توجد له مخرجاً وتفتح له أفاقاً ، فَلَهُ أن يتزوّج أخرى تُناسبه دون أن يلجأ للوقوع في أعراض الآخرين ، وما يلي ذلك من غشّ للمجتمع ، واختلاط في الأنساب ، وما يعقب ذلك من حسرة الضمير ، وتأنيب النفس اللوامة .
أو يلجأ للتخلّص من زوجته لتتاح له الفرصة بالزواج بأخرى
أيريدون أن تكون الحياة الزوجية جحيم لا يُطاق ؟؟
فيلجأ الأزواج حينئذٍ إلى قتل زوجاتهم غيلة ؟؟
وقد حدث هذا في بلاد الحضارة المادية !!
[ في تقرير لمكتب البحث الفيدرالي الأمريكي عام 1979م قدّر أن (40% ) من النساء اللاتي يتعرضن للموت يقتلهن أزواجهن ! ](2/164)
[ وتقرير للوكالة الأمريكية المركزية للفحص والتحقيق : هناك زوجة يضربها زوجها كل 18 ثانية في أمريكيا ]
أيريدون ضرب وقتل الزوجات أم يُريدون أن يبقى عدد من النساء بلا أزواج ؟
فمن المعلوم أن النساء أكثر من الرجال
وأن الحروب والحوادث تطحن الرجال فتترمّل النساء
فمن للأرامل والمطلقات ؟
إن لم تكن قضية التعدد حلاً من الحلول ؟؟
ولذا لما توفِّيَ زوج حفصة بنت عمر بن الخطاب جاء عمر يعرضها على أبي بكر وعثمان حتى تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري .
وهذا باب واسع للمواساة في الإسلام ، وحكمة بالغة في مشروعية التعدد .
وإن غضبت النساء !
أو زمجر أعداء دين الله !
أليست المرأة يسوؤها أن تبقى مطلقة ؟
ويَشُقّ عليها أن تظل أرملة ؟
ويعييها أن تطول أيمتها ؟
ولكنها عاطفة المرأة التي تسبق عقلها في كثير من الأحيان ، والإنصاف عزيز !
فما دام الأمركذلك إذا تأيّمت أو ترمّلت أو طُلّقت
فلماذا لا ترضى بالتعدد كحلٍّ لمشكلة اجتماعية قد تقع هي فيها يوماً من الأيام ؟
وقد تكون ضحيّتها هي فليس أحد من البشر مخلّد .
وقد قيل لِخَيْرِهم : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) [الأنبياء:34] .
إذاً لتفترض المرأة أن زوجها مات أو قُتل أو أنها طُلّقت .. فكيف يكون مصيرها ؟
أترضى أن تكون قعيدة بيتها ؟
أم يكون عرضها عرضة لكلّ لائك ؟
عندها تصيح - وقد لا تُسمع - المجتمع ظالم ظالم ظَلَمَ المُطلّقة ، ما ذَنْبُها ؟
ألا ترحمون !
ونسبة النساء أعلى من نسبة الرجال ، وسوف يأتي زمان يُصبح الرجل الواحد في مقابل خمسين امرأة .
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أنه قال : ألا أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم أحد بعدي سمعه منه ؟ : إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويفشو الزنا ويُشرب الخمر ، ويذهب الرجال ، وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيّم واحد . رواه البخاري ومسلم .(2/165)
وفي حديث أبي موسى : ويُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يَلُذْنَ به من قِلّةِ الرجال وكثرة النساء . متفق عليه .
إذاً هذه نتيجة حتمية للحروب وكثرة القتل التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، والتي عبّر عنها بالهَرْج ، حتى لا يدري القاتل فيما قَتَل ، ولا المقتول فيما قُتِل !
جاء ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قَتَل ، ولا المقتول فيم قُتِل ، فقيل : كيف يكون ذلك ؟ قال : الهرج . القاتل والمقتول في النار .
وقد حدث ما يُشبه هذا قبل أكثر من ثلاثمائة سنة !
فقد نقص عدد رجال الألمان بعد حرب الثلاثين سنة كثيراً ، فقرّر مجلس حكومة ( فرانكونيا ) إجازةَ أن يتزوّج الرجل بامرأتين !!
[ إنه لم يَقُم الدليل حتى الآن بأي طريقة مُطْلَقَة على أن تعدد الزوجات هو بالضرورة شرّ اجتماعي وعقبة في طريق التّقدّم … وفي استطاعتنا أيضا أن نُصرّ على أنه في بعض مراحل التّطور الاجتماعي عندما تنشأ أحوال خاصة بعينها – كأن يُقتل عدد من الذكور ضخم إلى حدّ استثنائي في الحرب مثلاً – يُصبح تعدد الزوجات ضرورة اجتماعية ، وعلى أيّة حال فليس ينبغي أن نَحْكم على هذه الظاهرة بمفاهيم العصور القديمة المتأخرة ، لأنها كانت في أيام محمد صلى الله عليه وسلم مقبولة قبولاً كاملاً ، وكانت مُعتَرفاً بها من وجهة النظر الشرعية ، لا بَيْنَ العرب فحسب ، بل بين كثير من شعوب المنطقة أيضا ]
(هذا نص ترجمة ما قالته الكاتبة الإيطالية " لورافيشيا فاغليري " فَلِمَ لَم تُشنّ عليها الغارات !! وتُوصم بالتّخلّف والرجعية ؟! أَلأَنَّها إيطالية ؟! ذات دمٍ أزرق وعيون زرقاء !! )(2/166)
[ وإذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها بالحروب ، ولم يكن لكل رجل في الباقين إلا زوجة واحدة ، وبَقيَتْ نساء عديدات بلا أزواج ، ينتج عن ذلك نقص في عدد المواليد لا محالة ، ولا يكون عددهم مساوياً لعدد الوفيات … وتكون النتيجة أن الأمة " الموحِّدة للزوجات " تفنى أمام الأمة المعددة للزوجات ]
[هذا ما قاله الفيلسوف الإنجليزي " سبنسر " في كتابه : أصول الاجتماع ]
فإذا كان الأمر كذلك ، فَمَنْ لامرأةِ المقتول ، خاصة إن كانت حديثة عهد بعرس !
وقد حدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
في قصة غسيل الملائكة ، وفي قصة الشاب الأنصاري
وإليك بيانهما :
أما قصة غسيل الملائكة حنظلة ، فقد روى الحاكم في المستدرك أن حنظلة بن أبي عامر تزوج فدخل بأهله الليلة التي كانت صبيحتها يوم أحد ، فلما صلى الصبح لَزِمَتْهُ " جميلة " فَعَادَ فكان معها ، فأجنب منها ثم أنه لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقُتِل يوم أحد وغسّلته الملائكة
وأما قصة الشاب الأنصاري فقد رواها الإمام مسلم في صحيحه من طريق أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت فالتفت فإذا حيّة فوثبت لأقتلها فأشار إليّ أن اجلس ، فجلست ، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم ، قال : كان فيه فتى منّا حديث عهد بعرس قال : فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة .(2/167)
فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به وأصابته غيرة ، فقالت له : اكفف عليك رُمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ، فدخل فإذا بِحَيّةٍ عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه ، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتاً الحيّة أم الفتى ؟ قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا ، فقال : استغفروا لصاحبكم ثم قال : إن بالمدينة جِنّاً قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان .
فهذه من الشواهد على أن هناك من ترمّلت في أوج سعادتها ، وأول أيامها ، وعزّ شبابها ، فَلَمْ تبقَ مع زوجها سوى ليلة أو ليالٍ
فمن لها بعد ذلك ؟؟
ماذا لو كانت ابنتك ؟
أو أختك ؟
أو قريبتك ؟
ماذا كنت تتمنّى لها ؟
ألست تطلب لها الستر ، ولو في ظل رجل مُعدِّد ؟
بلى والله .
فلماذا الاعتراض على حُكم أحكم الحاكمين ؟؟؟
وأنتِ أيّتها المرأة ماذا لو كنت أنت المترمّلة ؟
أما كنت تبحثين عن ستر الله ، ولو مع مُسنٍّ معدِّد ؟
إن لسان حال كثيرات ممن فاتهن قطار الزواج ونعق الشيب بمفارق رؤوسهن يقول مرحباً بزوج أيّاً كان ذلك الزوج ، بل إننا نسمع آهات الكثيرات منهن وقد فاتهن الزواج وهُنَّ يتحسرن على ردِّ من تقدّم إليهن ، ويشتكين هجران الناس لأبواب آبائهن ، فلا أحد يطرق الباب ولا أحد يخطبهن .
فيا ضيعة الأعمار لا تتعوّض !
ويَنْقِمن بلسان الحال أو المقال على من تتشبّث بزوجها !! ولا ترضى أن يُشاركها فيه غيرها .
فَعَلامَ عدم الرضا عن حُكمٍ شُرع لمصلحتك ، بل ولمصلحة بنات جنسك ؟؟
أمّا الغربيون فسُنّتهم التعدد ، ولكن مع العشيقات والخليلات ، فيتّخذ أحدهم عشرات الخليلات ، وربما لم يُعاشر زوجته زمَناً طويلاً فتلجأ هي الأخرى إلى تعديد الأخدان .(2/168)
[ حدّثني طبيب مسلم يُقيم في فرنسا أن دار حوار بينه وبين طبيبة فرنسية حول الخيانات الزوجية ، فسألها : لو كنتِ مع زوجك فأغمضتِ عينيك ، هل تأمنيه ألاّ يخونك ؟!! فقالت : لا ، ولا هو يأمنني !! ]
فمباح لهم اتّخاذ العشرات
وحرام علينا تزوّج ثانية أو ثالثة أو رابعة !!
وهناك طائفة من الأمريكان يُسمّون "شيعة المورمون "
وهم نصارى ، ويقولون بتعدد الزوجات
ومن منسوبي تلك الطائفة من يتزوّج عشر نساء !!
بل كان لقائدهم " يونج " عشـ 20 ـرون زوجة !!!
وللرجل منهم أن يجمع بين الأخوات ، وبين الأم وابنتها …
والسؤال : لِمَ لَمْ نسمع يوماً من الأيام مَنْ ينتقد تلك الطائفة ، أو يُشنّع عليها ؟؟؟
لِتُعلم حقيقة الهجوم الصارخ على التعدد ، وأنه جزء من الهجمة الشرسة على دين الإسلام ، لا على التعدد نفسه .
حلال للنصارى من كل جنس ، حرام على بني الإسلام !!
أو قُل : هو الكيل بمكيالين ، والوزن بميزانين .
ولا لوم على من كان أعشى البصيرة أنْ سقط في حُفَر الضلال ، أو تردّى في هوّة التّبعية ، أو خنق نفسه بِرِبقة التقليد الأعمى !
وما على العنبر الفوّاح مِن حرجٍ **أنْ مات مِن شَمِّه الزبّال والجُعَل !
طُرفة :
حدثني أخي وقد ألقى محاضرة تعريفية عن الإسلام في جامعة في فنزويلا فسألته فتاة عن الحجاب فأجابها
ثم سألته أخرى عن تعدد الزوجات ، ولماذا يكون للرجال دون النساء ؟
فأجابها على الفور : لِمَن يكون الولد ؟
فطأطأت رأسها ، وضحك عليها زملاؤها وزميلاتها !
-------------------
(( فاتني التنبيه إلى أمر مهم
وفاتتني الإشارة إلى أمر بالغ الأهمية
ذلكم هو مناقشة قضية التعدد
لا يجوز مناقشة قضية التعدد هل تؤيد أو تُعارض ؟
بل ذلك كفر بالله العظيم إذ هو متضمن لردّ ما شرعه الله العليم الحكيم
ولكن يجوز أن نُناقش هل يُناسب التعدد فلان من الناس
أي قضية شخص بعينه(2/169)
فقد لا يُناسب التعدد شخصاً بعينه ، إما لعدم استطاعته القيام بحق الزوجات ، أو لعدم القدرة على العدل
وأذكر ان إحدى الأخوات سألتني سؤالاً حول هذه القضية قالت فيه :
مع علمنا ان الله سبحانه وتعالى عادل واحكم الحاكمين أود ان اقرا رأيك في التعدد بالزوجات بعد ان كنت اعلم انه لا يحق للزوج ان يتزوج بامراة أخرى الا اذا كان له سبب الإباحة وهي أسباب مختلفة اذكر منها ما التذكرة وأرجو ان تعدل علي وتخبرني الباقي :
المرض
النشوز
حال النساء المؤمنات وان زاد تعدادهم عن الرجال في زمن معين
عدم قدرة المراة على أداء واجباتها الزوجية (يتبع المرض )
اما اذا كانت المراة من اختيار الزوج ولا تقصر في واجباتها وليس بها ما بنفر فهل يحق للرجل التعدد في زمننا هذا وبالطريقة التي بات الرجال يتبعونها فلا ترى المراة الا وان أصبحت الزوجة الأخرى ويقال ان الرجل اشتهى أخرى فأين غض البصر وأين واجب الزوج في ان يقضي شهواته في بيته حتى ان غلبه الأمر ان يعود إلى بيته ....
فأجبتها :
ولا شك أن هذا خطأ في التصور وفي معرفة أحكام الشريعة
فكان أن أجبتها آنذاك
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك ورزقنا وإياك الفقه في الدِّين
قضية التعدد أختي الفاضلة ليست بالصورة التي تصورتيها ، وهي تحتاج إلى تفصيل
أولاً :
ليُعلم أن هذه قضية محسومة بكتاب الله ، فلا يجوز أن يُقال : ما رأيك بقضية التعدد . هل تصلح أولا ؟
وهناك فرق بين التعدد كقضية عامة وتشريع رباني ، وبين التعدد ومناسبته لشخص بعينه .
فالأول عرضه ومناقشته كفر بالله ؛ لأنه ردّ للتشريع الرباني .
والثاني وارد ؛ إذ لا يصلح التعدد لكل إنسان
وفرق بين القضيتين .
ثانياً :
التعدد كان ولا يزال معروفاً عند أمم الأرض
وقد سمعت أحد دعاة الإسلام يقول : الإسلام لم يُنشئ التعدد ، وإنما حَدَّده ، ولم يأمر بالتعدد على سبيل الوجوب ، وإنما رخّص فيه وقيَّدَه . انتهى كلامه .(2/170)
نعم . لقد جاء الإسلام والرجل يتزوج بما شاء مِنْ النساء ، حتى أسلم بعض أهل الجاهلية وعنده عشر نسوة !! فحدد الإسلام العدد ، ولما حدد الله التعدد بأربع لم يُوجبه على عباده بل أباحه لهم بشروطه من العدل والاستطاعة .
إذا لم يكتفِ الرجل بزوجة واحدة لقضاء وطره ، أو كانت زوجته عقيم لا تُنجب ، أو اراد تكثير سواد الأمة ، إلى غير ذلك .
فإذا احتاج الإنسان إلى هذا الزواج الثاني أو الثالث أو الرابع فإن الشريعة الإسلامية توجد له مخرجاً وتفتح له أفاقاً ، فَلَهُ أن يتزوّج أخرى تُناسبه دون أن يلجأ للوقوع في أعراض الآخرين ، وما يلي ذلك من غشّ للمجتمع ، واختلاط في الأنساب ، وما يعقب ذلك من حسرة الضمير ، وتأنيب النفس اللوامة .
ودون أن يلجأ للتخلّص من زوجته لتتاح له الفرصة بالزواج بأخرى ، كما هو الحال عند النصارى .
بالإضافة إلى أن عدد النساء أكثر من الرجال في حالات الحروب – مثلاً – وفي آخر الزمان ، فإن النبي صلى الله عليه على آله وسلم أخبر النبي صلى الله عليه على آله وسلم عن ذلك بقوله : إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويفشو الزنا ويُشرب الخمر ، ويذهب الرجال ، وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيّم واحد . رواه البخاري ومسلم .
وفي حديث أبي موسى : ويُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يَلُذْنَ به من قِلّةِ الرجال وكثرة النساء . متفق عليه .
فالله لم يشرع التعدد عبثاً بل شرعه لعباده لحكمة ومصلحة
وليس رخصة يُلجأ إليها عند الضرورة أو الحاجة .
ولذا قال سبحانه : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ )
لتتصور المرأة أنها ترمّلت أو طُلّقت . فمن لها ؟
الشاب – غالباً – يُريد شابة مثله(2/171)
والمتزوّج لا تُريده زوجته يتزوّج عليها !
فمن للمطلقة ؟
ومن للأرملة ؟
وماذا لو كانت هي المطلقة أو الأرملة ؟
أليست تعتبر تمسّك الزوجات بأزواجهن أنانية ؟؟؟
إذاً فلننظر إلى التعدد من عدة جوانب .
ولا يُعكّر على قضية التعدد أن أساء استخدامها بعض أو كثير من الناس
فبعض الناس يتزوّج بأخرى ليُأدّب الأولى !
إذاً صارت الزوجة الثانية ( عصا ) !!!
وما أن تنتهي مرحلة التأديب والتلويح بالزوجة الثانية يُطلقها وتعود إلى بيت أهلها مطلقة !
أو يتزوّج ليتباهى بذلك
أو يتزوّج لمصلحة شخصية أو مقاصد مادية
أو غير ذلك من مقاصد الناس اليوم
إن مقاصد الشريعة أعظم من ذلك
إنه يجب على من أراد التعدد أن يُحسن النيّة في هذا الزواج سواء كانت الثانية أو الثالثة أو الرابعة
بأن يكون قصده :
إعفاف نفسه وأعفاف زوجاته
وتكثير سواد أمة محمد صلى الله عليه على آله وسلم القائل : تزوجوا الودود الولود فإني مُكاثر بكم الأمم .
وستر عورة
وكفالة أيتام في حجر أرملة
ونحو ذلك
فقد تزوّج النبي صلى الله عليه على آله وسلم لهذه المقاصد .
فلم يتزوّج بكراً سوى عائشة – رضي الله عنها – ولم يتزوّجها لكونها بكر ، بل جاءه الملك بصورتها في قطعة حرير ، كما في صحيح البخاري ومسلم .
فإذا تزوّج الرجل زوجة ثانية أو ثالثة فلا ينبغي للمرأة أن تُقيم الدنيا وتُقعدها على زوجها ، وإنما عليها الصبر والاحتساب .
لأن الزوج لم يرتكب أمراً مُحرّما ، بل مارس حق من حقوقه المشروعة .
وبعض النساء إن لم يكن كثير منهن تعلم بوقوع زوجها في فاحشة الزنا وربما تحمّلت وسكتت ، لكن أن يتزوّج عليها زوجها فهذه قضية لا تُغتفر !
إنه يجب أن تتحمّل وتسكت في قضية التعدد
وتُقيم الدنيا ولا تقعدها في قضية الفاحشة
وواجب على الزوج إذا عدّد العدل بين الزوجات في النفقة والمبيت .
وأما من تزوّج عليها زوجها فإنها تُنصح بالصبر
فقد تزوّج النبي صلى الله عليه على آله وسلم على زوجاته وصبرن(2/172)
حتى أن سودة – رضي الله عنها – وهبت ليلتها لعائشة خشية أن تُطلّق هي – رضي الله عنها – وطمعاً أن تبقى أُمّاً للمؤمنين وزوجة للنبي صلى الله عليه على آله وسلم في الدنيا والآخرة .
وعلى هذه الزوجة التي تزوّج عليها زوجها أن تؤدي الواجبات التي عليها ، وتسأل الحقوق التي لها .
والغالب أن الزوج لا يتزوّج إلا إذا كان هناك تقصير أو نقص
وقد تقول بعض النساء :
ماذا ينقصه ؟
ما قصّرت في شيء !
ونحو ذلك .
فهل كانت تتعاهد مواضع عينه أن لا تقع على قبيح ؟
وهل كانت تتعاهد مواضع أنفه فلا يشمنّ منها إلا أطيب ريح ؟
وهل كانت تتعاهد جوعه ونومه ؟
فإن الجوع مَلهَبة … وتنغيص النوم مَغضبة !
كما قالت تلك المرأة الحكيمة لابنتها ليلة زفافها .
والمُلاحظ أن الزوجة بعد الأطفال – خاصة مع كثرتهم – تتغيرّ ، وربما انصرفت إلى أطفالها والاهتمام بهم عن الاهتمام بنفسها أو بزوجها
والذي كان ينبغي أن توازن بين الأمور
فلا تُهمل نفسها
ولا تُهمل زوجها
ولا تُهمل أطفالها
فتُعطي كل ذي حق حقّه .
وإنما أطلت للفائدة . ))
182-سيرة مُجرم !
قصة تهزّ الوجدان
قصة من أحسن القصص
ومن أصحّ القصص
ما خطتها يد كاتب
ولا تدخّلت فيها أيدي القصاص .
هذه القصة لرجل أساء بل بالَغ في الإساءة
وظلم وتجاوز الحدّ في الظُّلم
أسرفَ على نفسِه . أساء وتعدّى وظلم .
كأني انظرُ إليه ... يقطُرُ سيفَه دما .
قد أحاطت به خطيئتُه .
قلبُه يهزأُ بالصخر قساوةً .
ومحاجِرُه قد تحجّرتْ .
فلا قلبُه يَخشع ، ولا عينُه تدمع .
وقد استعاذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من قلبٍ لا يخشع . كما عند مسلم .
أما الرجل صاحب القصة فرجلٌ من بني إسرائيل .
خطيئتُه كُبرى . وجريمتُه نُكرى .
فما خطيئتُه ؟
وأيُّ ذنبٍ ارتكبَه ؟
وأيّ جُرمٍ أتى به ؟
لقد سَفَكَ الدّمَ الحرام بغير حِلِّه .
وأزهق أنفُساً بريئة .
أتُرونَهُ قتلَ نفساً ؟
لا .
قتلَ عشراً ؟
لا .
لا والله بل قتلَ تسعةً وتسعينَ نفساً .(2/173)
ما أبشعه من جُرم ! . وما أعظمها من خطيئة !
لكنّه أحسَّ بالنّدم . وشَعَرَ بخطورةِ الأمر . وبفَدَاحةِ الخَطْب ، فردّدَ : هلْ لي من توبة تساءل ، وكرّرَ السؤال .
فدُلَّ على غيرِ دليل ، دُلَّ عابدٍ ما استنار بنور العِلم . فتعاظمَ الخطيئةَ وحَجّرَ واسعاً ، فحجّر رحمة الله التي وسعت كلّ شيء . فقال : لا . أبعدَ قتلِ تسعةً وتسعينَ نفسا ، ليس لك من توبة .
فما كان منهُ إلا أن استلَّ سيفَه ، وأطاحَ برأسِه . فأتمَّ به المائة .
وعلى نفسِها جَنَتْ بَراقِش !!
غير أن السّؤالَ ما زالَ يترددُ صَدَاه ، ويهتفُ به .
فأعادَ السؤال وكرّره : هل لي من توبة ؟
فدُلَّ على عالمٍ قد أنارَ اللهُ بصيرتَه ... قد استنار بنورِ العِلم .
فقال العالِم : نَعَمْ .
وقد كان هذا الجواب كافياً ، إذ هو على قدر سؤاله .
ولكن كعادة العلماء الربانييين يُشخّصون الداء ، ويصفون الدواء ، ويُفْتُون السائل ويُرشِدون الضال .
فقال له :
نعم . وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التّوْبَةِ ؟
ثم زاده في الدلالة والإرشاد فقَال لهُ : انْطَلِقْ إِلَىَ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللّهَ مَعَهُمْ ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَىَ أَرْضِكَ ، فَإِنّهَا أَرْضُ سَوْءٍ .
فانطلق الرَّجُل . لا يلوي على شيء . تحمِلُه النِّجاد . وتحطُّه الوِهاد . يُسارعُ الخُطى ويحُثُّ السير . يُريد أرضَ الخير .
فلما انَتَصَفَ الطّرِيقُ دنا الأجل ، وأَحسَّ بالْمَوْتِ ، فنأى بِصَدْرِهِ شوقاً لتلك الدِّيار التي سمِع بها ولم يَرَها . غيرَ أن الأجلَ كان أسرع ، فوافته المنيّة .(2/174)
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ . فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرّحْمَةِ : جَاءَ تَائِباً مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَىَ اللّهِ . وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ : إِنّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطّ . فأوحى الله إلى هذه أن تقرّبي ، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي . فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيَ . فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ . فَقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ . فَإِلَىَ أَيّتِهِمَا كَانَ أَدْنَىَ ، فَهُوَ لَهُ . فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَىَ إِلَىَ الأَرْضِ الّتِي أَرَادَ بمسافة شبر واحد . فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرّحْمَةِ
لقد أقبلَ على الله فأقبلَ اللهُ عليه . بل خَرَقَ لأجْلِهِ نواميسَ الكونِ ، بتباعدِ أرضٍ وتقارُبِ أخرى . وأنزلَ مَلَكاً يَحْكُمُ في قضيّته .
أيُّ قُربةٍ تقرّبَ بها ذلك الرَّجُل ؟ وما العملُ الذي قدَّمه ؟
لقد تقرّبَ إلى الله بتوبةٍ نصُوح .
أتَرونَ اللهَ يفرحُ بتوبةِ عبده وهو سبحانه الغني عن العالمين ، وعباده هم الفقراء إليه ؟
قال عليه الصلاة والسلام : للهُ أشد فرحابتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرضِ فلاةٍ ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح . رواه مسلم .
فأيُّ فضلٍ يتفضّلُ به ملِكُ الملوك على عبدٍ أساء وبالغَ في الإساءة . ثم أقبل فأقبلَ اللهُ عليه .
أما هذه القِصّةُ فأصلُها في الصحيحين من حديثِ أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه .
183-قصّات رجاليّة !!
في مدينة ( الثقبة ) يوجد شارع فريد من نوعه !
هذا الشارع لم أرَ مثله ولا قبله ولا بعده
فترى بين كل مَطْعم ومَطعم مَطعماً !
وبين كل حلاّق وحلاّق حلاقاً !
وبين كل مغسلة ثياب ومغسلة أخرى مغسلة !(2/175)
ولم يكن هذا الذي لفت نظري وإنما الذي لفت نظري واستوقفني عبارة قرأتها على لافتة أحد الحلاّقين
تلكم العبارة هي ( قصّات رجاليّة )
فتعجّبت وطال تعجبي
آالقصّات تكون للرجال ؟!
هل استنوقت الِجمال ؟!
إن كلمة ( رجل ) كلمة ذات معنى
إن كلمة ( رجل ) كلمة لها روح
ولذا لم ترد في كتاب الله إلا في مواطن معدودة
ولا ترد إلا في أمر ذي بال
ولا يُقال ( رجل ) إلا لمن استكمل صفات الرجولة
لا لمن تأنّث !
أو تشبّه بالكفّار
فالتّشبّه ضعف وتبعية مقيتة
تأمل معي – رعاك مولاك –
تأمل معي في آيات الكتاب العزيز
في قصة موسى مع قومه : ( قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )
وفي خبر النذير الذي جاء إلى موسى : ( وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ )
وفي قصة مؤمن آل فرعون : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ )
وفي قصة صاحب يس :
( وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ )
ومضى في موعظته لبني قومه :
( اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ )
حتى قيل له : ( ادْخُلِ الْجَنَّةَ )(2/176)
فـ ( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ )
وفي أصحاب محمد قال سبحانه : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا )
وفي شأن المؤمنين : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ )
هذه صفات الرجال في كتاب ربنا
وفي آيات المواريث ورد بلفظ ذَكَر
ليشمل الرجال وغير الرجال !
قال سبحانه : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ )
وقال لوط لقومه : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ )
فهؤلاء ذُكران وليسوا برجال !
فالرجولة مظهر ومَخْبر
والرجولة مطلب
ما هذه السّحنات ما هذه الملامح والصفات ؟!
ما كل هذا الصرح يُطفئ وهجه تلك السمات ؟!
هل أنت حبيب عيني أم دنا منه الممات ؟!
من قال تُغريني الخصور اللدن أو تلك المهاة ؟!
أو ذلك الطول الموسوق فيكم والنمنمات ؟!
أو تلكم النغمات في الأفواه أو تلك اللماة ؟!
أبحسن أوصاف الأنوثة فيكم تحلو الحياة ؟!
أم بالدَّلال الغض في الأطراف تسبون البنات ؟!
من قال إن الحب يورى أو بذا تُسبى الفتاة ؟!
لا يا حبيبي فالرجولة تلك عشقي في الأنام
ما ضيم فضل في حماها ، فالحمى سامي المقام
ما ذُلّ شخص في رباها أو شكا ظُلم الظلام
جودٌ ونبلٌ والشهامة في الخصام
والصدق والقلب العفيف هما لها خير الزمام
وهي السماحة والإباء الحق في عُرف الهُمام
لم أدرِ هل خُلُقٌ هي .. أم أنها الرجل الإمام ؟
والحق تلك كلاهما شِيمٌ وأقوام عِظام
فالمرء وصفٌ .. والصفات معالم بين الأنام
فكن الرجولة تزدري أوصافُها كلَّ الحطام(2/177)
وكن الرجال بفعلهم تخطو الدنا نحو الأمام
فالوجد عندي سيد يُسبي بسادات كرام
وهي الرجولة مطلبي بل مهر قلبي بالتمام
فلترتديها في فعالك .. في خصالك والكلام
ما بالحديث العذب تمهرني ولا عبث اللئام
بل بالرجولة حلية شاهت بعصر الإنهزام
عصر المذلة والخضوع المرّ .. عصر الانفصام
عصرٌ به شَكَتْ الرجولة جُلّ ألوان السّقام
فكن الرجولة ترتقي .. تسمو خُطاك على الدوام
تلك الرجولة عشق نفسي والغرام
وهي القيودُ لعذب نبضي .. إنها كل الكرام
( كانت تلك قصيدة بعنوان : تلك الرجولة مطلبي للأستاذة الفاضلة إنصاف بنت علي بخاري )
هذه أبيات للشاعر الدكتور أحمد فرح عقيلان رحمه الله :
أفدي الشباب الطامحين إلى العُلا = متسلحين بُطولة وصمودا
دَمِيَتْ على شوك العُلا أقدامهم = فَجَنى بها الوطن الحبيب ورودا
لهفي على ابن الأكرمين مُخنفسا = رخصاً يُسابق في الدَّلال الغِيدا
مُستَعبَد التفكير خلف عدوّه = كالقرد يقضي عمره تقليدا
بسوالفٍ وسلاسل وأظافر = يعصي الإله لكي يُطيع يهودا
الشَّعر مُنسدل على أكتافه = يتسلّح الأمشاط لا البارودا
والضَّيِّق الشفاف صوّر شكله = أنثى وصيّر عقله محودا
فالكعب عالٍ والقميص مُزخرف = وغداً ترى خالاً له ونهودا !!
إن كان يُكره للفتاة تبرّج = أنكون نحن المائسين قُدودا ؟
إضاءة
روى الإمام وكيع بن الجرّاح في أخبار القضاة عن عطاء بن مسلم قال :(2/178)
كنت عند ابن أبي ليلى ، فشهد رجل عنده بشهادة ، فقال : اكتبوا شهادته ، ثم نظر إلى شعره مُصففاً على جبينه ، فقال : تُصفف شعرك ؟ ردّوا شهادته ! فقال : إن لي عُذراً ، فقال : وما عُذرك ؟ قال : إن برأسي شجاج ، فأنا أُفاديها بهذا الشعر . قال : لا بأس اكتبوا شهادته ، ثم نظر فإذا أظفاره فيها آثار الحناء ، فقال له : تخضب يدك بالحناء ؟ ردّوا شهادته ! فقال : إن لي عُذراً ، قال : وما هو ؟ قال : إن لي أباً شيخاً فأنا أخضبه . قال : لا بأس اكتبوا شهادته ، ثم ولّى ، فنظر في قفاه فإذا هو يجرّ ثوبه ، فقال له : تجرّ ثوبك ؟ ردّوا شهادته ! فقال : إن لي عُذراً ، قال : وما عُذرك ؟ قال : إنا ثلاثة إخوة في حالنا بعض الضعف ، وإنا قطعنا هذا القميص على أوسطنا يتجمّل به إذا خرج ، وإني إذا لبسته أنا أجرّه . قال : لا بأس اكتبوا شهادته .
مُعاناة لقبول شهادة شاهد ، فكيف لإثبات الرجولة ؟؟؟
ونقول إن الرجولة مطلب لأمة الإسلام أجمع
تُريد الأمة اليوم رجالاً كأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فـ
كُن كالصحابة في زهدٍ وفي ورع = القوم هُم ما لهم في الناس أشباهُ
عبّاد ليل إذا جنّ الظلام بهم = كم عابدٍ دمعه في الخدّ أجراه
وأُسدُ غاب إذا نادى الجهاد بهم = هبُّوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً = يُشيّدون لنا مجداً أضعناه
يا رب .
184-قسيمة مخالفة!
في يوم من الأيام استوقفنا رجل أمِن ليُحرر للسائق مخالفة مرورية !
عندما نظرت في هيئته ومظهره وجدت عِدّة مخالفات شرعية ، فكان هذا المقال !
ماذا لو استوقف كل مِنّا نفسه ليُحرر لها مخالفة بل مُخالفات ؟
فأي مُخالفة سيُحرر ؟؟؟
وأي مُخالفة ستُحرر لها قسيمة ؟؟؟
أهي مخالفات في الاعتقاد ؟
أم هي مخالفات في السلوك ؟
أم هي مخالفات في أعمال القلوب ؟
أم هي مخالفات في اللباس ؟
أهي مخالفات في التربية ؟
أم هي مخالفات في التعامل مع الجيران ؟(2/179)
أم هي مخالفات في التعامل مع الباعة ؟
أم هي مخالفات في التعامل مع الهاتف ؟
أم هي مخالفات في التعاملات الأُسريّة ؟
أم هي مخالفات في علاقتنا بربِّنا ؟
أم هي مخالفات في الطهارة ؟
أو في الصلاة ؟
أو في جميع نواحي الحياة ؟
أم مخالفات في وجه الشخص – ذكراً كان أو أنثى – ؟
أم ... أم ... ؟؟
سَلْ ما شئت ، وتساءل كيفما شئت !
وسَلي ما شئت ، وتساءلي كيفما شئت !
فلا بُدّ من وقفة بل وقفات مع المخالفات
ولدينا الكثير والكثير من المخالفات التي تحتاج إلى تحرير قسيمة بل قسائم
ماذا لو كُنّا نقف أمام كل مُخالفة لنسدد قيمة قسيمة تلك المخالفة ؟
وماذا لو صنعنا صنيع عالم المسلمين ابن وهب ؟
قال ابن وهب : نذرت أني كلما اغتبتُ إنسانا أن أصومَ يوما ، فأجهدني ، فكنت اغتابُ وأصوم ، فنويت أني كلما اغتبت إنسانا أن أتصدقَ بدرهم ، فمِن حُبِّ الدراهم تركت الغيبة .
نحتاج إلى مثل ذلك السلوك وإلى تلك التربية النفسية والرقابة الذاتية
وقد سمعت عن امرأة عاقلة لاحظت أنها تشتري ما لا تحتاج ، فإذا رجعت إلى بيتها وقلّبت أغراضها وما اشترته ندِمت على ما فعلت ، فهذا لا حاجة له وذاك يُمكن الاستغناء عنه ، وتلك الأشياء لا تلزمني ، وهكذا .. فلما رأت ذلك نذرت أنها إذا اشترت شيئاً أن تتصدّق بمثل قيمته ، فكانت تخرج إلى السوق وتقسم المبلغ نصفين ، فإذا اشترت شيئا أخذت من ذلك المبلغ ما يُقابله للصدقة ، فَحَدَّ ذلك من رغبة الشراء وحب التملك لكل شيء .
وربما كان الشيطان يقول : أي بليّة هذه ؟!
وربما كان قعودها في بيتها أحب غليه من خروجها للسوق رغم أن السوق مبيض الشيطان ومفرخه !
فلنتّبع طريقة ذلك العالم الرباني
لنحاول تحرير مخالفة وبأقل الأسعار !
بريال واحد مقابل كل خطأ
وليكن ذلك الريال في حساب الصدقات
مقابل غيبة كل إنسان
مقابل كل تقصير في طاعة
مقابل كل إساءة لإنسان
مقابل تجاوز الإشارات والخطوط الحمراء
مقابل تجاوز حدود الله عز وجل(2/180)
لو فعلنا مثل ذلك لوقفنا في صف واحد كما نقف عند إشارات المرور !
اللهم قنا شر أنفسنا وشر الشيطان وشركه..
185-في قالب الشفقة والإصلاح !
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – :
فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره ، مع علمه أن المغتاب برئ مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون ، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه ، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة ، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم .
ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى ؛ تارة في قالب ديانة وصلاح ، فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير ! ولا أحب الغيبة ! ولا الكذب ! وإنما أخبركم بأحواله . يقول : والله إنه مسكين أو رجل جيد ، ولكن فيه كيت وكيت ! وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله ! وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه .
ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يُخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا ، وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه .
ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه فيقول : لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه كيت وكيت ! ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده ، أو يقول : فلان بليد الذهن قليل الفهم ! وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته وأنه أفضل منه .
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة ، فيجمع بين أمرين قبيحين : الغيبة والحسد ، وإذا أُثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح ، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه .
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ، ليُضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به .
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجّب ، فيقول : تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت ؟ ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت ؟ وكيف فعل كيت وكيت ؟ فيخرج اسمه في معرض تعجبه .(2/181)
ومنهم من يخرج الاغتمام فيقول : مسكين فلان غمّني ما جرى له ، وما تم له ، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف ، وقلبه منطوٍ على التّشفّي به ، ولو قدر لزاد على ما به ، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفّوا به ، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه .
ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر ، فيُظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول ، وقصده غير ما أظهر والله المستعان .
انتهى كلامه – رحمه الله – بطولِه ، وهو كلام نفيس للغاية .
وقال تلميذه ابن القيم – رحمه الله – :
الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتهما ، فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا وحكاية كلام الناس والطعن على من يبغضه ومدح من يحبه ونحو ذلك ، فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر ، ولهذا قال لمعاذ امسك عليك لسانك فقال : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . ولا سيما إذا صارت المعاصي اللسانية معتادة للعبد فإنه يعز عليه الصبر عنها ، ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة ، ويطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتّفكّه في أعراض الخلق ، وربما في أهل الصلاح والعلم بالله والدين ، والقول على الله ما لا يعلم ، وكثير ممن تجده يتورع عن الدقائق من الحرام والقطرة من الخمر ومثل رأس الإبرة من النجاسة ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام ، كما يحكى أن رجلا خلا بامرأة أجنبية فلما أراد مواقعتها قال : يا هذه غطِّي وجهك ! فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام ، وقد سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض فقال : انظروا إلى هؤلاء يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم .
186-فهي زانية..(2/182)
لو اُمِرت المرأة أن تتعطّر عند كل خروج لرأت أنها كُلِّفت بأمر شاق !
ولكن من النساء من تأبى إلا أن تحمل الإثم مضاعفاً ، فتحمل وزرها ووزر غيرها
فشكى كثير من الصالحين والصالحات ما تعجّ به الأسواق من المنكرات
ومن أكثرها تهاوناً وأعظمها خطرا : التّعطّر
فمن حين أن تهُمّ المراة بالخروج من المنزل إلا وتبدأ بالتّزيّن والتّجمّل
فتتجمّل وتأخذ زينتها وكأنها تذهب إلى مجْمَعِ نساء أو كأنما تتجمّل لزوجها ، بل إن هناك من الأزواج من يشتكي من هذا ، فيقول : إنه لا يرى زوجَتَه في أبهى حُلّة إلا عند خروجها للسوق أو للزيارة !
واشتكى بعضُ السائقين من ذلك إذ هو بشر من لحمٍ ودمّ ، ولو كان قلبُه قُدّ من الصخر لتحرك لتلك الفتنة المُتحرّكة .
وكان أحد السائقين - وكان فيه بقية من دين وخير – قد قال للمرأة التي كانت تركب معه في أبهى حُلّة . قال : ماما .. أنا بشر ، فتنبّهت تلك المرأة فلم تعُد تتطيّب ، وليتها تنبّهت فلم تركب مع السائق لوحدها .
والمرأة إذا خرجت فليست بحاجة للزينة ؛ لأن الشيطان سوف يُزيّنها في عيون الناس ولذا قال عليه الصلاة والسلام : المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان . رواه الترمذي وغيره ، وهو حديث صحيح .
قال ابن مسعود : المرأة عورة ، وأقرب ما تكون من ربها إذا كانت في قعر بيتها ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان .
ومعنى استشرفها : أي زينها في نظر الرجال ، وقيل : نظر إليها ليغويها ويغوى بها .
ويرفع أبصار الرجال إليها فلا يزال يُحسّنها في عيونهم ولو لم تكن كذلك .
ثم إن من النساء من إذا أرادت أن تخرج تعطّرت وهذا لا شك إثم عظيم وتساهل خطير من قبل أولياء الأمور أولاً ، ثم من قِبَلِ النساء ثانيا .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى من شهِدت الصلاة أن تمسَّ طيبا أو بخورا ، فكيف بمن تذهب لمكان هو من أعظم مواضع الفتنة .(2/183)
ولذا قال صلى الله عليه وسلم : إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيبا . رواه مسلم .
وقال : أيما امرأة أصابت بَخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة . رواه مسلم .
بل قال : إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة . رواه مسلم .
أي تلك الليلة قبل خروجها .
قال العلماء : لئلا يحركن الرجال بطيبهن ، ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة ، كحسن الملبس والتحلي الذي يظهر أثره ، والزينة الفاخرة .
فإذا كانت المرأة لا تأتي لبيت من بيوت الله بالطيب أو البَخور ، مع أن الله أمر بأخذ الزينة للمساجد ، فكيف تخرج به عند خروجها للسوق أو المدرسة ؟
وقد ورد التشديد في الطيب للنساء ، فقال عليه الصلاة والسلام : أيما امرأة استعطرت فمرّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية . رواه الإمام أحمد وغيره .
وسبب ذلك :
1 – إما أنها تتسبب في تلك الفاحشة بما تُحرّكه من شهوة برائحة ذلك الطيب
2 – أنها تتحمّل كإثم الزانية بذلك .
3 - أو أن ذلك يجرّها للوقع في الفاحشة .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعطّرت أن تغتسل حتى لو كانت تريد المسجد .
فقد لقيَ أبو هريرة رضي الله عنه امرأةً فوجد منها ريح الطيب ينفح ولذيلها إعصار ، فقال : يا أمة الجبار ! جئت من المسجد ؟
قالت : نعم .
قال : وله تطيبت ؟
قالت : نعم .
قال : إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : لا تُقبل صلاةٌ لامرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وحسنه الألباني .
" حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة "
ليذهب أثر الطيب وتذهب رائحته .
وطيبُ المرأة ما ظهر لونه وخفي ريحُه ، كما قال عليه الصلاة والسلام .
وإذا خرجت المرأة بذلك الطيب وبتلك الزينة إلى الأسواق ، فلا تمرّ برجل إلا حرّكت قلبه إلا من رحم الله .(2/184)
بل منهن من تذهب بتلك العطورات إلى المستشفيات فلا تمرّ بمريض في طريقها إلا ازداد مرضا وتأخر برؤه ، بل ربما مات بسبب أطيابها !
وهذه ظاهرة خطيرة مُضرّة
فالعطورات مما يضرّ بعض المرضى بل ربما قتل بعضهم .
وقد أحْدَثت بعضُ النساء زينة للسوق فاخترعن ما يسمينه : مكياج السوق ، بل ذكرت بعض الأخوات أنها رأت في دورات المياه الخاصة بالنساء رأت بعض الفتيات عندما تخلع النقاب يُرى أنها وضَعَتْ المكياج والزينة الكاملة للعينين ولما حول العينين ، فَعَلى أي شيءً يدلُّ هذا ؟
ولم يزل الشيطان يستجريهن ويستهويهن حتى أحدثن مكياج العزاء ، وعش رجبا ترى عجبا !
هذه زينة باطنة بالطيب والأصباغ ، وزينة ظاهرة باللباس الجالب لأنظار الناس .
فتلبس المرأة الضيّق سواء في اللباس من بنطال ونحوه ، أو كان بعباءة ضيّقة مُخصّرة
تقول عنها إحدى الأخوات : فهي أضيق من قميصها الذي تلبسه في منزلها ، فهي مخصّرة جذابة جداً ؛ تجعل النحيفة ممتلئة ، وتجعل البدينة رشيقة ، فتُخفي العيوب ، وتُظهر المحاسن والمفاتن .
تزيد على ذلك بعض العبارات التي كُتِبت على العباءة ، أو الزركشة المُلفتة للنظر .
فما هذه سوى خطوات نزع الحجاب ، فَيَومٌ عباءة فرنسية ، وآخر عمانية ، وثالث مغربية ، وهكذا ... حتى يصدق على المرأة قول الشاعر :
تجيء إليك فاقدةُ الصوابِ = مهتكةُ العباءة والحجابِ
وما يُلبس تحت تلك العباءات الفاضحة من ملابسَ ضيقة أو شفافة أشد في الفتنة .
في أحد الشوارع قابلتني بعضُ الفتيات فحرّك الهواء عباءاتَهن فظهرت الملابس الضيقة ( البناطيل ) فأخذن يُمسكن العباءات خوفا من العتاب والإنكار .
وليس هذا هو الحجاب الذي يُريده الله عز وجل .
إن الحجاب سِترٌ ووقاء . وعِفّةٌ وحياء ، وطُهرٌ ونقاء .
إن الحجاب الذي نبغيه مَكرُمةٌ = لكلِّ حواء ما عابت ولم تَعِبِ
وهذه المظاهر من التّبرّج الذي هو أبرز صفات المنافقات ..(2/185)
ووالله لا تخرج المرأة بذلك الطيب أو بتلك الملابس الفاتنة لضيق أو لِقصر إلا تحمّلت الإثم مُضاعفا :
- إثمها هي يوم خرجت متبرّجة
- إثم من جرأتها من النساء على فعل مثل ذلك " ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها "
- إثم من فتنته من الشباب .
( لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ )
وكنت قد أشرت إلى شيء من فتن الأسواق هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/30.htm
( هذا جزء مقتطف مع التّصرّف من محاضرة بعنوان " فتنة التسوّق " )
187-فلسطين = قضيّتنا
هذه آهات مكلوم ، ونفثات مصدور ، وحُرقات قلب يتقطّع .
هي كلمات وليست قصيدة !!
فلسطين جرحٌ نازفٌ
فلسطين مسرى نبيّنا
فلسطين قبلتنا الأولى
ويجب أن تكون هي قضيّتنا الأولى
فكم نحمل لها من اهتمام ؟؟
أهي أهمّ أم متابعة المباريات ؟؟
ثم يقولون لنا : الجسم السليم في العقل السليم !!
والصحيح أنها تصنع العقل السقيم في الجسم السقيم [ بوضعها الحالي ]
لهثٌ وراء الكرة !
وغرام بالرياضة !
بل وولاء عليها وعداء
وربما تساقط من أجلها (( شهداء ))
وربما عُلِّقتْ من أجلها آيات التنزيل على واجهات الملاعب
( وما النصر إلا من عند الله )
فلسطين هي قضيّتنا الأولى
أهي أهمّ أم الموضة ومتابعة كل جديد ؟؟
وإذا قيل للمرأة المسرِفة : تبرعي لبني دينك في فلسطين
قالت : ما عندي شيء !
وإذا جودلت في إسرافها احتجت ( شيخة الإسلام ) : إن الله يُحب أن يُرى أثر نِعمته على عبدِه !
أو صاحت بوجه من دعاها : تريدني أُقتِّر على نفسي ؟؟
أو ألْبَس المرقّع
لا يا أُخيّه
رويدك ... رويدك
ما دعونا لهذا
بل دعوناك لتُعطي قضيّتك الأولى جزءاً من اهتمامك
كيف ؟؟
بحمل همّ تلك القضية
قضية أهلنا في الأرض المُباركة
بالتّألم لآلامِهم
والتوجّع لمصابهم(2/186)
والتّضرع والدعاء لهم في أوقات الإجابة كما لو كان المُصاب هو ابنك
بتحري أوقات إجابة الدعاء ( في جوف الليل – بين الأذان والإقامة – حال السجود – بعد التشهّد وقبيل السلام – عند نزول المطر – عند إفطار الصائم – حال السفر – آخر ساعة من يوم الجمعة... ) وغيرها من أوقات الإجابة .
بتبنّي القضية
بإظهارها للناس ، وحثّ الناس على التكاتف مع أهلنا هناك
بتوعية الناس بخطر اليهود وشدة مكرهم ، وأنهم لا إيمان لهم ولا عُهود
وأن المبتغي الصُّلح مع اليهود مُتطلّب في الماء جذوة نار
بالتحذير من التّبعيّة المقيتة لهم وتقليد نساءهم أو شبابهم
بالنصرة بجميع أشكالها ( بالمال : بمدّ يد العون لتضميد جراحهم – بالدعاء والتّضرع – بمُعاداة اليهود على الدوام – بتعرية المنافقين الذين يُوالون اليهود ... )
إن امرأة في المدينة النبوية قدّمت ما لم يستطع تقديمه الرجال
فمن هي تلك المرأة ؟؟
وماذا قدّمت ؟؟
هي رفيدة
وقد أنشأت مستشفى مُصغّراً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن خيمة تُداوي فيه الجرحى .
وقد تساءلت وسألت بعض الأخوات الفاضلات عن دورهن في القضية
وأنه لا يشفي غليلهن سوى الاستشهاد في سبيل الله
فأقول : رفع الله قدركن ورزقكن الشهادة وأنتن في بيوتكن
والذي تجدْنه في نفوسكن لا يُذهبه سوى مُقاتلة القوم الكافرين .
وصدق الله : ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
ولئن صدقتن الله في ذلك ليصدقكن
فهذه أم حرام تُحدّث أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ يوما في بيتها ( أي نام وقت القيلولة ) فاستيقظ وهو يضحك .
قالت : يا رسول الله ما يضحكك ؟
قال : عجبت من قوم من أمتي يركبون البحر كالملوك على الأسرة .(2/187)
فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم .
فقال : أنت معهم .
ثم نام فاستيقظ وهو يضحك ، فقال : مثل ذلك مرتين أو ثلاثا .
قلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم
فيقول : أنت من الأولين .
فتزوج عبادة بن الصامت بأم حرام ، فخرج بها إلى الغزو في زمن معاوية
فركبت أم حرام بنت ملحان البحر ، فلما رجعت قرّبت دابة لتركبها فوقعت فاندقّت عنقها فماتت . رواه البخاري ومسلم .
وينبغي أن يُعلم أنه ليس على النساء جهاد
ولذا لما سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل . أفلا نجاهد ؟ قال : لا ، لكن أفضل الجهاد حج مبرور . رواه البخاري .
وهذا خاص بالنساء والضّعفة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى لما ستأذنته عائشة في الجهاد قال : جهادكن الحج . رواه البخاري .
ولعله من سوء حظ يهود أنهم يُقاتِلون أُمّة يتسابق أطفالها لقتال أعدائهم
وتتمنى نساؤها الفوز والظّفر بالشهادة على ثرى فلسطين
وتتقطّع نفوس بعض نساءها حُرقة وشوقا إلى أرض لهن إليها انتماء
فاتظري يا أمّة العجول
وانتظري يا أمة الغدر والمكر
وانتظري يا أمّة الحِيَل
وانتظري يا أمّة البهتان
فلسوف يأتي يوم تحصدون فيه حصاد الهشيم
وتُستأصل شأفتكم
وتُقتلع جذوركم
والنصر لاح
والفجر أوشك
وإن غداً لِناظِرِه قريب
يا بني أمتي :
تحرك اليهود في كل مكان بل وتحرك لأجلهم النصارى
تحرك اليهود أفرادا وجماعات
نصروا قضيّتهم وناصروا دولتهم
جمعوا التبرعات وأرخصوا الأموال وهم أشد الناس على ( حياة )
بل سمعت أمس أن شركة ( ماكدونالدز ) للأطعمة خصصت دخولياتها ليوم السبت لنصرة اليهود !
وربما نُشارك في تلك الحملة وفي دعم اليهود وخُذلان إخواننا وأهلنا وبعض جسد أمتنا هناك
فالمهزلة عندنا ليست على المستويات الرسمية بل حتى على المستويات الشعبية
فمن يدعم تلك الشركات اليهودية في شتى المجالات سوى الشعوب المتمثلة في الأفراد(2/188)
وهمّ الكثير منهم : شهوات بطنه وفرجه
أما هموم أمته فآخر ما يُفكّر فيها أو يلتفت إليها
وشعارهم :
للبيت رب يحميه !!!
ولم يتركوا الأكل والشرب أو شهواتهم وملذّاتِهم ليقولوا :
للبطن رب يُغذّيه !!!
كان شعار أبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الردّة :
أيُنقص الدين وأنا حيّ ؟؟
وشعار الكثير من أبناء أمتنا اليوم :
أتنقص الأطعمة والأشربة ونحن أحياء !!!
أمتي هل لكِ بين الأمم = منبرٌ للسيف أو للقلم
أتلقّاكِ وطرفي مُطرقٌ = خجلاً من أمسك المنصرم
أمتي كم غُصّةٍ داميةٍ = خَنَقَتْ نجوى عُلاكِ في فمي
ألإسرائيل تعلو رايةٌ = في حمى المهدِ وظلِّ الحرمِ
كيف أغضيتِ على الذل ولم = تنفضي عنك غُبار التُّهمِ
أوَما كنتِ إذا البغي اعتدى = موجةً من لهبٍ أو من دمِ ؟
فيمَ أقدمتِ ؟ وأحجمتِ ولم = يشتفِ الثأر ولم تنتقمي
اسمعي نوح الحزانى واطربي = وانظري دمع اليتامى وابسمي
ودعي القادة في أهوائها = تتفانى في خسيس المغنمِ
رب " وامعتصماه " انطلقت = ملء أفواه البنات اليُتّمِ
لامَسَتْ أسماعهم لكنها = لم تُلامس نخوة المعتصمِ
أمتي كم صنمٍ مَجَّدْتِهِ = لم يكن يحمل طُهر الصنمِ !
لا يُلام الذئب في عُدوانه = إن يك الراعي عدو الغنمِ
فاحبسي الشكوى فلولاك لما = كان في الحُكم عبيد الدرهمِ
وإلى كل من في قلبه شجى وشجن عن فلسطين أُهدي هذه القصيدة
وهذه القصيدة بعنوان :
روضةُ القدس
للشيخ عبد الله بن سليمان المزروع القاضي بديوان المظالم
وهي هنا :
http://www.suhuf.net.sa/2002jaz/apr/10/fe7.htm
188-فضل أعدائي عليّ !
عداتي لهم فضل عليّ ومِنة ٌ = فلا صرف الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها = وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
هكذا نظر الشاعر إلى لغة النقد ، سواء صدرت من صديق أو من عدو
فإن كان نقداً بناء فهو المقصود وانتفع به(2/189)
وإن كان نقداً لأجل النقد أو نتيجة حسد لسعي الفتى فإنه ينظر إليه من زاوية أخرى ، ألا وهي إبراز عيوبه بادية أمام عينيه فيتحاشاها ويتلافاها بقدر استطاعته
فهو يسأل ربه أن لا يصرف عنه هذا النوع من الأعداء !
هذا النوع الذي يبحث عن الزّلاّت بالمناظير والمكبّرات حتى يُبصروا القذاة في عيون الآخرين والجذوع في أعينهم مُعترضة لا يرونها !
فـ
" يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذل أو الجذع في عين نفسه "
[ هذا لفظ حديث رواه البخاري في الأدب المفرد مرفوعاً وموقوفاً ، وصحح الشيخ الألباني وقفه على أبي هريرة ، ورواه ابن حبان مرفوعاً - أي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ]
قال أبو عبيد : الجذل الخشبة العالية الكبيرة
وهم نافسوه فجعلوه يُنافس في كل شرف مروم فلم يرضَ بما دون الثريا
ويرى الشافعي أن النقد – وربما السب – يصقل معدن الإنسان حتى يبدو طيب معدنه وكريم أصله
يخاطبني السفيه بكل قبح = فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما = كعود زاده الإحراق طيبا
فلا تغضب إن حسدوك على حثيث سعيك
فما يُحسد خامل
ولا يُنافِس في المكارم عاجز
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه = فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها = حسدا وبغيا : إنه لدميم !
وترى اللبيب محسّداً لم يَجتلِب = شتم الرجال وعرضه مشتوم
فسر قُدُماً – رعاك الله –
سِر وكُن حليما صبورا
سِر وادفن الشر بمقبرة الخير والإحسان !
ألم تر أن الحلم زين مُسوِّد = لصاحبه ، والجهل للمرء شائن
فكن دافناً للشر بالخير تسترح = من الهم ، إن الخير للشر دافن
ربما كان النقد أمرّ من العلقم ، ولكنه إذا نظر في بواطنه شكر الناقد على نقده
فلم يحمله النقد على الحقد
إذ لا يحمل الحقد سيد في قومه
فإن الذي بيني وبين عشيرتي = وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم = قدحت لهم في كل مكرمة زندا
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم =وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا(2/190)
ولا أحمل الحقد القديم عليهم = وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وأعطيهم مالي إذا كنت واجدا = وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وُجِّه النقد الآثم لسيد ولد آدم
فقال له جدّ الخوارج : ما عدلتَ !
وقال له مرّة :
يا محمد اتق الله !
فَرَدّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ويلك ! أوَ لستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟
ثم ولّى الرجل ، فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟
قال : لا ، لعله أن يكون يصلي .
فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم . رواه البخاري ومسلم .
لما عفوت ولم أحقد على أحد = أرحت قلبي من غمّ العداواتِ
إني أحيى عدوي عند رؤيته = لأدفع الشر عني بالتحياتِ
وأظهر البشر للإنسان أبغضه = كأنما قد حَشَى قلبي محباتِ
لما عفا استراح قلبه وصفا
189-غضيض الطّرف عن هفواتي..
قال أبو عبد الله الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله :
أحب من الإخوان كلّ مواتي = وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده = ويحفظني حياً وبعد مماتي
فمن لي بهذا ؟ ليت أني أصبته = لقاسمته مالي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان أقلهم = - على كثرة الإخوان - أهل ثقاتي
كُلنا يُحب ذلك الموصوف
وكُلنا يُحب أن يُغضّ الطرف عن عثراته وهفواته
لأنه ما مِنّا إلا وله من العثرات ما لا يعلمه إلا الله ، وله من الهفوات ما لو نُشر لافتضح أمره
وإذا كُنا كذلك فلنعامل الناس كما نُحب أن نُعامل
قال عليه الصلاة والسلام : من أحب أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه . رواه مسلم .
إن العُذر مطلوب للآخرين كما هو مُلتمس للنفس
فما إن يقع أحدنا في خطأ إلا ويبحث عن الأعذار ليعتذر عن خطأ وقع فيه أو ارتكبه !
فما بالنا لا نلتمس ذلك لإخواننا ؟(2/191)
وما بالنا لا نطلب لعلمائنا ما نطلبه لأنفسنا ؟
فما إن تبدو لنا زلة مِن عالِم أو هفوة من داعية إلا ونُبادر على نشرها وتطييرها في الآفاق
وربما كانت مكذوبة عليه فنكون ممن يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق !
أو ربما كان له عُذراً مقبولاً عند الله وعند الناس
أو ربما كان الخطأ في أعيننا على حد قول القائل :
نعيب زماننا والعيب فينا !
وربما لو وقفنا موقف ذلك العالم لقلنا بما قال بالحرف الواحد دون زيادة ولا نُقصان
لأن تقدير المصالح والمفاسد مرتبط بنظرة الشخص وبزمانه ومكانه .
وربما رأينا - بعد مدة – أن رأيه هو الصواب ، وأننا كُنا على خطأ !
وربما رجع عن رأيه في مسألة ما فكيف لنا الرجوع ؟!
إن العُذر والإعذار محبوب إلى الله وإلى الخلق
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين . رواه البخاري ومسلم .
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً : وليس أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل . رواه مسلم .
وسبق أن كتبت حول هذا الموضوع ، وهو هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/66.htm
ولكن هذه خاطرة مرّت عجلى !
190-عوضه الله خيراً منه ... قصة واقعية..
مشاهد حقيقية عاصرتها وعايشتها .
المشهد الأول :
قبل سنوات كنّا في زيارة أحد الأصدقاء في المدينة النبوية وبينما كُنّا نهمّ بدخول بيته إذ لقيه رجل كبير في السن كان يعرفه من قبل
فما كان من صاحبنا إلا أن أخذ الرجل جانباً واخذ يتحدث معه قليلاً
لاحظنا تأثر الرجل المسنّ وأخذ يُجفف دمع عينيه بأطراف غترته
ثم انصرف الرجل المُسنّ ، وعاد صاحبنا
دَلَفَ إلى بيته ودلفنا معه
وما إن جلسنا معه في بيته حتى بادرنا قائلا :
هذا الرجل الذي رأيتموه معي كان من أمره عجبا
قلنا : ما شأنه ؟
قال : هذا رجل فقير ... أعرفه جيداً(2/192)
وقبل أيام أعطاني رجلٌ يعرفه مبلغ خمسمائة ريال ، وطلب مني أن أعطيه إياها نظرا لقرب سكني من سكن هذا المسنّ .
قاطعناه : وما الغرابة في ذلك ؟
رد قائلاً : ( خُلِقَ الإنسان من عجل ) !
قال صاحبنا :
قال لي هذا المُسنّ : كنت يومي هذا لا أملك شيئاً
فأعطتني زوجتي عشرين ريالاً ... حتى أحصل على كمية من الوقود لسيارتي لعلّي أحمل الركاب بالأجرة لنحصل في النهاية على دريهمات نطلب بها طعام العشاء
قال الرجل المسنّ : وعندما خرجت من بيتي لقيني رجل يشكو الفقر والفاقة والجوع والمسغبة ، فرحمته وأعطيته رأس مالي ( العشرين ريال )
ثم خرجت لا أدري ما الله صانع بي فلقيتك ( يعني صاحبنا )
فأعطيتني هذا المبلغ الذي لم أحلم به ، ولم أفكّر به .
من أجل ذلك بكى الرجل المسنّ لما رأى لطف اللطيف الخبير
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى **** ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها **** فُرِجت وكنت أظنها لا تفرج
قال الله عز وجلّ على لسان نبيِّه يوسف : ( إن ربي لطيف لما يشاء )
فالله لطيف بعباده ...
ومن المعلوم أن :
من أعطى لله ، ومنع لله ، وأحب لله ، وأبغض لله ، فقد استكمل إيمانه .
كما جاء بذلك الخبر .
فهذا قريب من الله قريب من الخلق .
-----------------------
المشهد الثاني :
امرأة صالحة تحرص ألا تترك العمرة في كل عام
وتتلهف نفسها لحج بيت الله كل سنة
تقوم الليل ... تتصدق ...
في أحد أيام العيد ... ذهبت للمصلى ... صلّت صلاة العيد
حث الخطيب على الصدقة ، وخصّ النساء بذلك .
قامت بعض الفتيات بترتيب مسبق بجمع التبرعات من أمام النساء
فتّشت هذه المرأة عما تتصدّق به ... فلم تجد شيئاً
لم يكن شيء أقرب إليها من أسورة ذهب كانت على معصمها
ولم تقنع بذلك فنزعت خواتمها وتصدقت بها لفقراء المسلمين الذين أصابهم الضر في مشارق الأرض ومغاربها
عادت بعد انقضاء صلاة العيد إلى بيتها
تقدّمت إحدى حفيداتها لتُعايدها ثم قبّلت رأسها(2/193)
وناولتها ( هدية العيد ) فإذا هي : خواتم ذهبية جديدة !
سبحان الله
ما أسرع العِوَض من الكريم المنان
سبحان الله
ما أكرم الله
اصرخ معي في وجه كل مُرفّهٍ ***** يسخو على ما يشتهيه ويُنفقُ
ويظلّ مقبوض اليدين إذا ***** دعا داعي الجهاد وخاب من يتشدّقُ
وأصدق من ذلك وأبلغ قول رب العزة سبحانه : ( هَا أَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ) .
وفي القصص عبرة وعظة .
191-عندها قالت : ما هذه الفوضى ؟؟
في شهر الله المحرم عزمتُ على زيارة طيبة الطيبة ، فشددتُ رحلي ، وجمعت متاعي وغادرت إليها ، وقضيت فيها يومين من أجمل أيام عمري بصحبة شاب صالح زاد تلك الرحلة جمالاً إلى جمالها .
كم هو جميل أن تأخذ دورة إيمانية في رحاب طيبة الطيبة .
وكم هو ممتع أن تبتعد عن مشاغل دنياك وضوضاء مدينتك إلى حيث الراحة النفسية .
ثم عُدتُ من رحلتي وأنا أرثي لِحالي على فراق طيبة الطيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام .
عُدتُ وبقلبي شوق الرجوع ، ووله العودة إليها مرة ثانية بل مرّات ومرّات .
رجعت أدراجي والنفس تتوق لزيارة قادة بمشيئة الله .
ركبتُ الطائرة لأعود إلى بلدي وحيث أسكن .
ولَفَتَ نظري ذلك الموقف في الطائرة .
فتاة في مقتبل العمر تمطّت الطائرة وحيدة فريدة .
جاء بها المُضيف حتى أجلسها إزائي في الجهة المقابلة على مقعد مستقل ليس بجواره مقاعد أخرى .
قال لها : هذا مخرج طوارئ ! هل تجلسين هنا ؟
قالت : الشكوى لله ! وش أسوي !
جلست ... وبعد قليل جاء صاحب المقعد يحمل بطاقةً بها رقم ذلك المقعد .
رجع إليها المضيف ... قال لها : لو سمحت هذا مقعد هذا الرجل .
( ولم يكن لدى الرجل تقدير لذلك الموقف )
وقد فهمت من لكنة المضيفة - اللكنة الأعجمية – أن تلك الفتاة لا تُريد أن تجلس بجوار رجل غريب .(2/194)
فأكبرتُ ذلك الموقف منها بقدر ما أصغرت فيها وفي وليّها التفريط في سفرها دون محرم
قامت وهي متضجّرة ... تتأفّف ... إيش ها الفوضى ؟؟؟!
[ تخيّلت نفسي وقد وقفتُ أحاورها حول ذلك الموقف ]
أي فوضى يا أُخيّه ؟؟
فتخيّلت أنها صرخت في وجهي : وأنت إيش دخلك ؟؟!! ما لك دعوى !!
وكأني أجبتها : يا أختي الفاضلة نحن من أُمّة قال نبيّها صلى الله عليه وسلم : المؤمنون تكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم .
وما احترقتُ عليك إلا غيرة على نساء المسلمين .
فكأنها قالت : ما رأيت الفوضى ؟؟؟ وإلا أعجبك الذي صار ؟
فتصوّرت أني كررت السؤال : من هو الأحق بالوصف بالفوضى ؟؟
ومن هو منشأ الفوضى ؟؟
قالت : ما فهمت ؟؟
قلت : ليست الفوضى في أنهم لم يوفروا لك مقعدا مستقلا
بل الفوضى أصلا عندك
قالت : كيف ؟
قلت : الفوضى في اصل سفرك لوحدك دون وجود محرم
قالت : ليس المهم وجود المحرم ، فالسفر قصير ، وأنا واثقة بنفسي .
قلت : هذا منشأ الفوضى
قالت : وضّح ما تقول ؟
قلت : وجود المحرم ضروري
قالت : وهل من دليل على ما تقول ؟
قلت : قال عليه الصلاة والسلام : لا يخلوَنّ رجلٌ بامرأةٍ إلاّ مع ذي مَحْرَم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم .
فلما قال عليه الصلاة والسلام ذلك قام رجلٌ فقال : يا رسولَ الله امرأتي خَرجَت حاجّةً ، واكتَتَبتُ في غزوةِ كذا وكذا ، قال : انطلق فحُجّ مع امرأتِك . متفق عليه .
ولم يسأله عليه الصلاة والسلام هل هي مع رفقة مأمونة أو لا ؟
وهل معها نساء أو لا ؟
بل أمره أن يترك الخروج للجهاد ويلحق بامرأته درءاً للمفسدة .
هل تريدين أن تعرفي أهمية وجود المحرم ؟
قالت : نعم
قلت : إذا اسمعي هذه القصة التي حدّث بها الحسن بن عمارة
بينما امرأة تطوف بالبيت وكانت من أجمل النساء ، فَسَمَت إليها عيون الناس ، فلحق بها الشاعر عمر بن أبي ربيعة وأخبرها أنه عمر وأنه قد خامر قلبه منها شيء فزجرته فلم ينزجر .(2/195)
فقالت لِوَليٍّ لها : اخرج معي إذا خرجتُ من المسجد ، فلما رآها عمر بن أبي ربيعة حاد عنها وابتعد
فأنشدت تُسمعه :
تعدو الكلاب على من لا كلاب له === وتتقي صولة المستأسد الحامي
لما قيلت هذه القصة في مجلس الخليفة المنصور قال :
قد سمعت هذا من أبي ، وَودِدّتُّ أن ذوات الخدور جميعا تسمعنه .
ولذا لما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب : ما حملك على الزنا ؟ قالت : قربُ الوساد ، وملول السواد ، تعني قرب وساد الرجل من وسادتي ، وطول السواد بيننا . أي كثرة الاختلاط والمخالطة .
وأما قولك إنه سفر قصير
فأقول : هو سفر طالما أنه سُمّي سفر
والنص واضح " ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم "
وكم من امرأة سافرت سفرا قصيرا كان فيه هلاكها
قالت : كيف ؟
قلت : ركب إلى جوارها كلبٌ بشري ، فأغواها وأغراها
وقد سمعتِ قول تلك المرأة : تعدو الكلاب ....!
وكم رأينا جُرأة السفهاء على النساء خاصة إذا كُنّ من غير محارم
بينما لا يجروء أحدهم أن يلتفت مجرّد التفات عند وجود المحرم
ومن هنا تتبيّن حكمة الحكيم العليم سبحانه وتعالى حينما حرّم سفر المرأة من غير محرم .
وأما قولك إني واثقة بنفسي
فأقول : إذا كانت أمهات المؤمنين اللواتي هن أطهر نساء العالمين ، وهن بمنزلة الأمهات قال الله لهن : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا ) .
وأدّب الله المؤمنين إذا سألوهن أن يكون ذلك السؤال من وراء حجاب ، فقال الله جل جلاله : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ )
أما لماذا ؟
فاستمعي إلى الجواب من العزيز الوهاب : ( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )
فتحركت بِذرة الخير في نفسها ، وعادت إلى رشدها ، وقالت :
أعذرني فقد كنت جاهلة بذلك
واستغفر الله وأتوب إليه .(2/196)
ملحوظة :
ما جرى هذا الحوار على أرض الواقع بل تخيّلته كما أسلفت ..
192-((( عندنا صيدة ! ... فإذا هي زوجته ))) قصة واقعية..
حدّث أحد الدعاة فقال :
هذه قصة حقيقية واقعية سُجلت بأحد أقسام الشرطة .
اثنان من الشباب ... اجتمعا على معصية الله ... يؤزهم الشيطان أزّا ... ويدفعهم دفعا .
والمصيبة أنهما متزوجان .
أحدهم قام يوماً من الأيام بمغامرة !
فبعد أن اتصلت عليه امرأة ... ونشأت بينهما علاقة محرمة .
واعدها في يوم من الأيام أنه سوف يسهر معها .
وليخلو له الجو في بيته ... اعتذر لزوجته أن لديه عمل ... ولا بُد أن تذهب لأهلها .
وذهبت المسكينة .
وذهب الذئب الغادر إلى حيث واعد تلك المرأة .
قالت له : نريد أن نجلس قليلاً في الحديقة ثم نذهب إلى البيت ... فوافق .
وبعد أن ذهبا إلى البيت ... طلبت منه أن يُحضر العشاء والشراب أولاً ...
خرج من بيته إلى أحد المطاعم وأخذ معه شيئا من الشراب ...
وبينما هو في طريقه ... استوقفته سيارة المرور " الشرطة "
قالوا له : أنت قطعت الإشارة ... أوقف سيارتك واركب معنا .
أوقف سيارته وركب معهم ...
وبعد أن وصل إلى مركز الشرطة ... طلب الاتصال بصديق عزيز ...
أخذ زاوية من المبنى واتصل بأعز أصدقاءه :
تكفى ... البيت فيه صيده ... والعشاء وفي السيارة والسيارة في المكان الفلاني ...
خذ العشاء ورح لبيتي وأكمل المشوار ... وإذا انتهيت من الفريسة رجعها بيتها ...
أخاف إن زوجتي تجي للبيت ثم تصير فضيحة .
قال صديقه : أبشر ... مادام فيه صيده !
انطلق الصديق الوفي إلى بيت صديقه العزيز !
فماذا رأى ؟؟؟
وأي لطمة لُطمها ؟؟؟
وأي صفعة تلقاها ؟؟؟
يا لهول الفاجعة !
أتدرون من وجد ؟؟؟
وجد
زوجته هو .
ومع من كانت تخلوا وتسمر ؟
مع أعز أصدقاءه !
صُعِق ... صرخ ... أنت طالق بالثلاث ... بالأربع ... بالألف !
وما ذا يُفيدك هذا ؟؟
يداك أوكتا وفوك نفخ .
عفوا تعف نساءكم في المحْرَمِ ****وتجنبوا مالا يليق بمسلم(2/197)
إن الزنا دين إذا أقرضته **** كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزنِ في قوم بألفي درهم **** في أهله يُزنى بربع الدرهم
من يزنِ يُزنَ به ولو بجداره **** إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
ياهاتكا حُرَمَ الرجال وتابعا**** طرق الفساد عشت غيرَ مكرم
لو كنت حُراً من سلالة ماجدٍ**** ما كنت هتّاكاً لحرمة مسلمِ
يُروى أن رجلا أوصى ابنه عندما أراد الابن السفر ، فقال له : احفظ أختك ، فاستغرب الابن من هذه الوصية وهو يريد أن يسافر ويبتعد عن أخته ، فمضت الأيام ، فرأى الأب ساقي الماء يقبل ابنته ، فلما عاد الابن قال له أبوه : ألم أقل لك احفظ أختك . قال وما ذاك ؟ قل له : دقّة بدقّة ، ولو زدتّ لزاد السقا .
إنها لعظات وعِبر
وذكرى لكل مدّكر
193-عندما وقع حادث لأخي..
في سنة من السنوات وبينما كان أحد إخواني في طريقه لبيت الوالد – متّع الله به –
خرج أحد العمال بسيارته فاصطدم به أخي ، وكانت الضربة من جهة العامل ، فأُغمي على العامل ، ونُقل للمستشفى ، وحضر رجال المرور وتم احتجاز أخي تلك الليلة .
لم نهنأ بنوم تلك الليلة وتواصلت الجهود للإفراج عن أخي .
ولكن لم يتم من ذلك شيء نظراً لخطورة حالة العامل .
وتوالت الجهود والمساعي حتى يسر الله خروج أخي صباح اليوم التالي بعد أن تحسنت حالة العامل وكتب تنازلا خطياً .
لست هنا بصدد سرد قصة حياتي ولا قصة حياة أخي !
بل إن هذا الحادث وما تبعه تبادر إلى ذهني في ظل بعض الأحداث التي تعصف بعالمنا الإسلامي .
كيف كان تعاطفنا مع أخي ؟
لقد سهرنا لأجله ... ووقفنا جميعا وقفة رجل واحد
وكان بعضنا يتمنى لو افتداه بكل غال ونفيس
وعرض آخرون البقاء مكانه ويخرج إلى أهله وأولاده
وليس هذا بمستغرب على أخوة أشقاء .
بل المستغرب هو القطيعة
إن لنا أخوة في مشارق الأرض ومغاربها ... لم نحفل بهم ... ولم نشعر بمصابهم
بل ربما ساعدنا في نكاية جراحهم الراعفة
أليس الله أثبت الأخوة بيننا وبينهم ؟(2/198)
ألم يقل الله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) وهذا يقتضي الحصر والقصر
أي أن المؤمنين إخوة وليس ذلك إلا بين المؤمنين .
تأمل هذا الموقف من سفير الإسلام الأول
لما مر مصعب بن عمير رضي الله عنه لما مرّ بأخيه " أبي عزيز " ورجل من الأنصار يأسره . قال صعب : شد يديك به فأن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك . قال أبو عزيز : يا أخي ! هذه وصاتك بي ؟ فقال له مصعب : إنه أخي دونك .
يعني أن الأنصاري أخي دونك ، وإن كنت أخي من اللحم والدم .
ياله من تجسيد للأخوة الإسلامية
لقد ضرب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أروع الأمثلة في صدق الأخوة .
أما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، فكان أحدهم يُخيّر أخاه بين زوجاته ، ويُشاطره ماله ؟؟
روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قال : لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع ، فقال سعد بن الربيع : إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي ، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها ، فإذا حَلّت تزوجتَها ... الحديث .
أي أخوة أعظم من هذه الأخوة التي شادها الإسلام على أحسن نظام ؟؟
واليوم تفصّمت عُرى هذه الأخوة أو ضعفت ضعفا شديداً ، وهزُلت حتى بدا من الهزال كلاها !
يتمثل ذلك الضعف بمشاهد متكررة ؛ منها :
يأتي أحدهم إلى مكاتب العمل أو مكاتب الاستقدام لاستخراج تأشيرة ( راعي ) يرعى الغنم ، فيُسأل عن ديانة الراعي ، فيقول : أي شيء !
أكان يضيره أن يقول : مسلم . بملء فمه ؟؟
نعم . بعضهم يضيره أن يستقدم مسلما يُصلي خمس مرات في اليوم يُعطل عليه بعض مكاسبه الدنيوية الدنيئة !
وبعضهم يضيره أن يتعطل عمله نصف نهار في يوم الجمعة !
وآخر يضيره أن يحج أو يصوم ، وهكذا ...
وثالث يقول – ويا خطورة ما يقول – يقول : الكافر أحسن من المسلم !(2/199)
أما تأمل هذه الآية : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً )
أما علم أنه بفعله ذلك ينصر الكفر والكفار على إخوانه .
لقد قُدّر لي زيارة جنوب الهند ، وفي تلك المدينة الهادئة الوادعة يقف فندق " ريم " شاهدا على ما أقول .
وتقف تلك الحافلات الصغيرة شاهدة علينا
كيف ذلك ؟
قال لي بعض المسلمين :
كانت القوة والغلبة والشوكة في هذه المدينة للهندوس ، ثم يسر الله خروج بعض المسلمين من هذه المدينة وعملوا في بعض دول الخليج فعادوا بعد سنوات وقد حصلوا ما حصلوا من أموال .
ثم ماذا ؟؟
أنشأ أحدهم ذلك الفندق
واشترى آخر حافلات نقل صغيرة
وثالث أنشأ سوقا ... وهكذا .
فقويت شوكة المسلمين ، وأصبحت لهم قوة اقتصادية في تلك المدينة .
فأيهما نُعين ؟؟
واليوم تتوالى الدعوات إلى مُقاطعة سلع العدو الذي بارزنا بالعداوة ، وكشر عن أنيابه ، وأبرز براثنه
فتتقدّم شهوات النفوس الضعيفة وتدخل في سباق محموم مع صدق الأخوة ، فما تلبث شهوات النفوس أن تنتصر على الأخوة المتهلهلة !
أعجزنا أن نَصْدُق في أخوتنا ولو في شراء بضاعة على حساب أخرى ؟؟
أعجزنا أن نُثبت صدق الأخوة ولو بمجرد الاختيار ؟؟
أعجزنا أن نُثبت صدقنا في أخوتنا ونقول كما قال مصعب
ونقول اليوم بملء أفواهنا : إنهم إخواننا من دونكم أيها الكفرة ؟؟
لقد عجزنا عن ذلك كله إلا من رحم ربي .
لقد ضعفت الأخوة يوم ضعف رابطها الإيماني .
فما ضعفت الأخوة الإيمانية إلا يوم ضعف الإيمان ..
194-عندما تناثر الجمر..
أعطتها صغيرها ... مشى ببطء وهو يحملها ... مشى بها الهوينا
يقصد بها أضياف والده ...
يفوح شذاها وينبعث عبيرها
دَلَفَ غرفة الجلوس ... تعثّر بطيات السجّاد
سقط الطفل ... وسقطت من يده
هرع أبوه ... بل هرع غير واحد
تُرى ما الذي حدث ؟؟(2/200)
وإلى أي شيء يتسابقون ؟؟
إنها المجمرة ( المبخرة ) التي كان يحملها الصغير
سقطت أرضاً ... فتناثر الجمر على السجاد
لم يكن ذلك الاهتمام من أجل السجاد ... ولا من أجل نفسية ذلك الصغير
هذا هو الموقف الأول
والموقف الثاني
كان قبل ما يزيد على عشر سنوات
حينما كُنّا في موسم الحج في ( منى )
نجلس بأمان في أحد الخيام
فجأة تطاير القوم كما يتطاير الشرر
كان الخوف قد خيّم على النفوس
والذعر قد اعترى الوجوه
هبّ أحد الشباب إلى حيث انطلق أنبوب الغاز
وهو يصيح حريق ... حريق
أحدهم سحب اسطوانة الغاز
أغلقها بسرعة ... دفعها بعيدا
وآخر تناول ما كان بِقُرْبِه من ماء وقذفه على الخيمة
ورابع قطع طُنُب الخيمة
خمدت النار وكفى الله شرها
هل تأملتم هذين الموقفين
وهل تفحّصتم هاتين الصورتين
ما هو القاسم المشترك بينهما ؟؟
إنه خشية الحريق
والخوف من النار
إذ مُعظم النار من مُستصغر الشرر
ولا يُلام امرئ على ذلك
إن النار عدو لا يرحم – كما يُقال –
ولكن اللوم يقع على من هرب من قط ووقف لأسد هصور !
كذلك بالضبط
من هرب من شرر ووثب في النار
يهرب الناس من جزء من سعين جزء
" ناركم هذه التي يوقد بن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم " رواه البخاري ومسلم .
عجبت من هذا ... وطال تعجبي
ومن قبلي تعجب سيد الخلق صلى الله عليه وسلم .
يوم قال :
ما رأيت مثل النار نام هاربها ، ولا مثل الجنة نام طالبها . رواه الترمذي وغيره ، وهو في صحيح الجامع
عجب أننا نهرب من نار الدنيا ولا نهرب من نار الآخرة
عجب أن نقي أهلينا نار الدنيا ولا نقيهم نار الآخرة
عجبت أننا نهرع لنطفي نار الدنيا ولا نهرع لنقي أنفسنا نار الآخرة
وهي – أي نار الآخرة – أشد حرّاً
تأمل قوله صلى الله عليه وسلم : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ، فهو أشدّ ما تجدون من الحر ، وأشد ما تجدون من الزمهرير . متفق عليه .(2/201)
ثم تأمل قوله صلى الله عليه وسلم : ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار . رواه البخاري .
تجد عجباً
إننا نهرب من وهج الصيف
ونلجأ لبيوتنا من حرّ القيظ
ولا نحتمل نفس جهنم
ولكننا نُعرّض أنفسنا للعذاب الشديد
نُعرّضها للعذاب نتيجة الإسبال .
وإنما خصصته بالذِّكر لأنه مما تساهل فيه الرجال .
ثم تأملي – أخيّتي – صورة أخرى
عندما تفرّ المرأة من أمام النار
وعندما تتضجّر نتيجة الحر
ولكنها تُعرّض نفسها لتلك النار الهاوية
عندما تسقط في الامتحان نتيجة شهوة عاجلة
ومما تساهلت فيه بعض النساء أو كثير منهن
تساهلن في المحرمات الموجبات لِلّعن ، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله
" لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن "
ما هو القاسم المشترك بين هذه الأصناف ؟
" المغيرات خلق الله " كما في الصحيحين .
بل ربما دخلت المرأة النار بسبب لسانها
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار ، وتفعل وتصّدّق ، وتؤذي جيرانها بلسانها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا خير فيها هى من أهل النار .
وقيل : فإن فلانة تصلى المكتوبة ، وتصدق بأثوار من أقط ، ولا تؤذي أحدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي من أهل الجنة . رواه البخاري في الأدب المفرد وغيره ، وهو حديث صحيح .
ثم هي – أي المرأة – لا تتقي النار ، ولا تهرب منها .
ثم تأملوا صاحب البيت الذي شرّفه الله وكلّفة بالولاية والقوامة
انظروا إليه كيف يهرع ؟ وكيف يفقد صوابه لو شبّ حريق في بيته ؟
ولكن الحريق المعنوي قد اشتعل في بيته
وما سمع نهي ربّه ولا أطاع أمره
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )(2/202)
لقد أدخل النار إلى بيته وأشعلها وربما مات وما انطفأت فاشتعلت عليه في قبره نارا
لقد أدخل الأطباق الفضائية الفارغة غالباً إلا من كل سوء ورذيلة
لقد أدخل بيته المجلات الساقطة الرديئة
لقد أدخل بيته سائقاً كافراً أو مسلماً وجعله يخلو بمحارمه
لقد أدخل بيته خادمة شابة كافرة كانت أو مسلمة ، وفي البيت وقود الشباب يضطرم
غير أن تلك الأشياء وغيرها لا يحس بها وإن اكتوى بنارها
ولكنه يُحسّ بجمرة واحدة ربما تكون قد انطفأت أو بقي حرّها دون وَهَجها
عذراً أحبائي فقد أردتها كليمات ، فإذا بها كلمات تطول ولم آت على كل ما أريد قوله . والله ولي التوفيق
195- عندما تكون ذكياً فتحوّل العداوة إلى مودة !
هل توافقوني الرأي في أن الشاعر أخطأ عندما قال :
كل العداوات قد ترجى مودّتها *** إلا عداوة من عاداك في الدِّينِ
لماذا قلتُ : أخطأ ؟
لأن عداوة الدِّين يُمكن أن تنقلب إلى مودّة .
بل الذّكّي يقلبها رأسا على عقب فيُحوّل البغضاء إلى محبة
تأمل في هذه المواقف
كيف أن أُناساً يُضمرون العداوة والبغضاء لسيّد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم – ثم تحوّلت تلك العداوة إلى مودّة ومحبّة
الموقف الأول :
قالت عائشة رضي الله عنها : جاءت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يُذلّهم الله من أهل خبائك ، وما على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يُعزهم الله من أهل خبائك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأيضا والذي نفسي بيده . متفق عليه .
قال النووي – رحمه الله – : " والذي نفسي بيده " فمعناه : وستزيدين من ذلك ، ويتمكن الإيمان من قلبك ، ويزيد حبك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ويقوى رجوعك عن بغضه . انتهى .
ما سبب ذلك :(2/203)
لعل سبب ذلك ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب ، فقال له العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر ، فلو جعلت له شيئا . قال : نعم . من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .
هل تميّز أبو سفيان بشيء عن الناس ؟؟
طالما أن من أغلق عليه بابه فهو آمن ؟؟
إلا أنه فن تأليف القلوب
وفن كسبها
الموقف الثاني :
عن أبي هريرة رضيَ اللّه عنه قال: بَعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبلَ نجدٍ ، فجاءت برجل من بني حنيفةَ يقال له : ثُمامة بن أُثال , فرَبطوهُ بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندَك يا ثمامة ؟
فقال : عندي خيرٌ . يا محمدُ إن تَقتلني تَقتلْ ذا دم ! وإن تُنعِم تنعم على شاكر , وإن كانت تريدُ المالَ فسلْ منه ما شئتَ .
فتُرِكَ حتى كان الغَد ثم قال لهُ : ما عندَك يا ثمامة ؟
فقال : ما قلتُ لك : إن تُنعِم تنعم على شاكر.
فتركه حتى كان بعدَ الغدِ فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك .
فقال : أطلقوا ثمامة .
فانطلَقَ إلى نخلٍ قريبٍ من المسجدِ فاغتسلَ , ثم دخل المسجدَ ، فقال : أشهد أن لا إلهَ إلاّ الله , وأشهد أنّ محمداً رسول الله .
يا محمد ! واللّهِ ما كان على الأرض وجهٌ أبغضَ إليّ من وَجهِك , فقد أصبحَ وَجهُكَ أحبّ الوجوهِ إليّ .
واللّهِ ما كان من دِينٍ أبغضَ إليّ من دِينك , فأصبح دينك أحبّ الدّين إليّ .
واللّهِ ما كان من بلد أبغضَ إليّ من بلدك , فأصبحَ بلدُكَ أحبّ البلاد إليّ .
وإن خَيلَكَ أخذتني , وأنا أُريد العمرةَ , فماذا ترى ؟ فبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأمَرَه أن يَعتمر.
فلما قدِمَ مكة قال له قائل : صَبوت ؟(2/204)
قال : لا والله , ولكن أسلمتُ مع محمدٍ رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم , ولا واللّهِ لا يأتيكم من اليمامَةِ حَبةُ حِنطة حتى يأذَن فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم . متفق عليه .
أي شيء كلّف هذا الموقف ، وهذا التحوّل من البغض إلى الحُبّ ؟؟
الموقف الثالث :
عن ابن شماسة المهري قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا ، وحوّل وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول :
يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ؟
قال : فأقبل بوجهه فقال : إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . إني قد كنت على أطباق ثلاث :
لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منّي ، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار .
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه . قال : فقبضت يدي .
قال : مَالَكَ يا عمرو ؟
قال قلت : أردت أن أشترط .
قال : تشترط بماذا ؟
قلت : أن يغفر لي .
قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ، وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أجلّ في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه ولو متّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة .
ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنّاً ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي . رواه مسلم .
سبب إسلامه رضي الله عنه :
وبعد إسلامه :(2/205)
كان – رضي الله عنه – يظنّ أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان رسول الله يُحسن معاملته ، كما يُحسن معاملة غيره ، ولكنه – رضي الله عنه – ظنّ أن له مزيّة على غيره عندما أمّره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل ، وهو حديث عهد بإسلام .
فسأل : أيّ الناسِ أحبّ إليك ؟ قال : عائشة . قلت : منَ الرجال؟ قال : أبوها . قلتُ ثمّ مَن ؟ قال : عُمر . فعدّ رجالا ً. فسكتّ مَخافَةَ أن يَجعلَني في آخِرهم . متفق عليه .
وهذا صفوان بن أمية يُعطيه النبي صلى الله عليه وسلم مائة من النَّعَم ، ثم مائة ، ثم مائة
قال ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال : والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ . رواه مسلم .
عجيب حال نبي الله صلى الله عليه وسلم وكسبه للقلوب ، بل تحويلها من أقصى العداوة والبغضاء ، إلى أقوى المحبة وأشدّها .
إذا تستطيع أن تكسب القلوب بـ
ابتسامة
إجابة دعوة
تبسّط وتواضع
هدية تسلل السَّخيمة
احترام وتقدير ، وإنزال الناس منازلهم
مُقابلة الخطأ والسيئة بالعفو والصفح والتجاوز
عندها تستطيع أن تقلب العداوات إلى صداقات وإلى مودة ومحبة
ولكن هذه تحتاج إلى نفوس كبار عِظام تُقابل السوء بالحُسنى ، وتتخلّى عن حظوظها .
وصدق الله العلي الأعلى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )
196-عندما تكون المنايا أماني..
يقول المتنبي :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا = وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وأقول :
لا يا أبا الطيب
إن المنايا كانت أماني لمن رفعوا رؤوسهم بدين الله عز وجل بل كانوا يستعذبون طعم الموت ، كما قيل عنهم :(2/206)
عباد ليل إذا جن الظلام بهم = كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم = هبُّوا إلى الموت يستجدون رؤياه
لا يا أبا الطيب
لقد كانت المنايا عذابا في ذات الله
حتى إن أحدهم ليُطعن فيفور الدم من كبده فوراناً فيرى أنه فاز بتلك الطعنة .
روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين ، فلما قدموا قال لهم خالي : أتقدمكم ، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا كنتم مني قريبا ، فتقدم ، فأمنوه ، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه ، فأنفذه ، فقال : الله أكبر ! فزت ورب الكعبة !
وخال أنس هو حرام بن ملحان رضي الله عنه .
وفي رواية للبخاري : لما طُعن حرام بن ملحان يوم بئر معونة قال بالدم هكذا ، فنضحه على وجهه ورأسه ، ثم قال : فزت ورب الكعبة !
وجاء في بعض الروايات فقال المشرك الذي قتله : فقلت في نفسي ما قوله فزت ؟!
لا يا أبا الطيب
إن أحد أولئك يستبطئ نفسه أن يأكل تمرات تؤخّره عن الموت
فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض ؟! قال : نعم . قال : بخ بخ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها . قال : فإنك من أهلها ، فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قُتل . رواه مسلم .
لقد مضى إلى أرض المعركة وهو يقول :
ركضا إلى الله بغير زاد = إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد = وكل زاد عرضة للنفاد
غير التقى والبر والرشاد(2/207)
وقال آخر : إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن ، فرمى ما في يده ، فحمل بسيفه ، فقاتل حتى قتل .
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد : أرأيت إن قُتلت فأين أنا ؟ قال : في الجنة . فألقى تمرات في يده ، ثم قاتل حتى قُتل .
وفي يوم أُحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين . فقام عمرو بن الجموح ، وهو أعرج ! فقال : والله لأقحزن عليها في الجنة ، فقاتل حتى قُتل .
وهذا رجل آخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجود بنفسه فلا يرضى لها ثمناً دون الجنة
عن أنس رضي الله عنه قال : غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غِبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين ، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع . فلما كان يوم أحد ، وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم ، فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضّر ، إني أجد ريحها من دون أحد . قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع .
قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنه برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قُتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفة أحد إلا أخته ببنانه .
قال أنس : كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ( الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) إلى آخر الآية . رواه البخاري ومسلم .
بل تعال لترى من يتمنّى أن يُقتل ويُمثّل به بعد موته(2/208)
حدّث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال يوم أحد : ألا تأتي ندعو الله تعالى ، فَخَلَوا في ناحية فَدَعَا سعد ، فقال : يا رب إذا لقينا العدو غداً فلقّني رجلا شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله ويُقاتلني ، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله ، وآخذ سلبه ، فأمّن عبد الله ، ثم قال عبد الله رضي الله عنه : اللهم ارزقني غداً رجلا شديداً بأسه شديداً حرده ، فأقاتله ويقاتلني ، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني ، فإذا لقيتك غداً . قلت لي : يا عبد الله فيمَ جُدع أنفك وأذناك ؟ فأقول : فيك وفي رسولك . فتقول : صدقت .
قال سعد : كانت دعوته خيراً من دعوتي ، فلقد رأيته آخر النهار ، وإن أنفه وأذنه لمعلق في خيط .
أرأيت يا أبا الطيب كيف كان الموت أمنية عند أولئك الأبطال العِظام ؟؟؟
لقد كانوا يَهبُّون إلى الموت يستجدون رؤياه .
أما أهل الدنيا وأرباب الأموال الذين أُشربت قلوبهم حب الدنيا كما أُشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل فأنى لهم ذلك ، بل إنهم ليرون الموت مُصيبة ، وفراق الدنيا خسارة ليس بعدها خسارة !
وما ذلك إلا لأنهم فارقوا الدينار والدرهم !
وما ذلك إلا لأنهم عمروا دنياهم بخراب أخراهم .
قيل لأبي حازم : ما لنا نكره الموت ؟ قال : لأنكم أخربتم آخرتكم ، وعمرتم دنياكم ، فكرهتم الانتقال من العمران إلى الخراب .
ولما احتضر " بِشرٌ " فَرِح ، فقيل له : أتفرح بالموت ؟! قال : تجعلون قدومي على خالق أرجوه ، كمقامي مع مخلوق أخافه ؟!
أرأيت يا أبا الطيب ؟
كيف كانت أماني القوم ؟
إن أمانيهم هي المنايا
وإلى لقاء مع أمنية إمام القوم صلى الله عليه وسلم .
197-عندما انتفض النصراني وارتعدت يداه .... أتدري لماذا ؟؟....(2/209)
قبل أكثر من ثلاث سنوات نُشِرَ في مجلة الدعوة الغراء وبالتحديد في عددها رقم (1620) الصادر في 4 شعبان 1418 هـ تحت عنوان ( أيّ سرٍّ هذا ؟ ) بقلم د. نعمان السامرائي ، وكان المقال يتحدّث عن تأثير القرآن على غير المسلمين وممن لا يفهمون العربية ، وذكر أمثلة لذلك ، وذكر أيضا أن مجموعة من الأطباء قاموا بإجراء دراسة لمعرفة أثر القرآن على المسلم وغير المسلم ، فكانت النتائج الطبيّة التي تم قياسها بواسطة ( المَجَسّات ) أن التأثر الجسمي يحدث لدى المسلم والكافر ... إلخ .
وحدثني بعض الدعاة قال : كنا في الفلبين في صيف عام 1420هـ فحضر إلينا شابٌ فلبيني نصراني الديانة ، وطلب إسماعه القرآن ، فواعدوه صلاة الفجر ، فحضر وسمع القرآن من صوت نديّ ، وقارئ مجوّد ، ثم طلب إسماعه القرآن مرة أخرى ، فواعده أحد الدعاة في الفندق الذي نزلوا فيه ، فحضر واستمع للمرة الثانية ، قال : فتحدّرت دوعه على خدّيه ، برغم أنه أعجمي لا يُجيد ولا يفهم من العربية حرفاً واحداً .
وفي رمضان الماضي من عام 1421هـ في المسجد الكبير في مدينة ( استراسبورغ ) الفرنسية طلب مسؤول الديانات في البلدية – وهو نصراني - أن يحضر للمسجد لسماع القرآن ، فواعدوه صلاة العشاء فحضر وبيده ترجمة معاني القرآن باللغة الفرنسية ، وجلس في آخر المسجد ، وقد دلّوه على الموضع الذي سيقرأ منه الإمام في صلاة التراويح ، وصلّى بنا قارئ مغربي ، وكان نديّ الصوت ، حافظ لكتاب الله ، وتابع النصراني مع الإمام في قراءته ، وهو يقرأ تفسير الآيات - التي كان يسمعها - من خلال ترجمة معاني القرآن ، وعند نهاية صلاة الراويح ، وإذا بالرجل ترتعد يداه ، ويطلب من أحد الشباب أن يُمسك له المصحف ، فخاف ذلك الشاب وخرج من المسجد حتى جاء شخص آخر وأمسك المصحف ، ويدا الرجل لا تزال في رعدة .(2/210)
فتذكرت قول الله عز وجل ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق )
ولا شك أن ما حصل لذلك النصراني من أثر سماع كلام الله تبارك وتعالى ، الذي أَمرنا أن نُسمعه حتى المشركين ، وكلام الله له تأثير قوي حتى على الجمادات .
قال تبارك وتعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ) .
ثم رجعت بالذاكرة إلى قصة جبير بن مطعم ، وقد قدم المدينة ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ) قال جبير : كاد قلبي أن يطير . رواه البخاري .
وفي رواية للبخاري أيضا قال جبير : وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي .
فما بال قلوب كثير من الناس قست حتى جاوزت حدّ الصخر في الفساوة ، بل لعل بعضها يهزأ بالصخر قساوة ، ثم إنهم عن ذكر ربهم وتلاوة آياته معرضون ، ولكتابه هم يهجرون ؟
( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) .
= فائدة =
قال ابن القيم :
هجر القرآن أنواع :
أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .
والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .
والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه .
والرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه .
والخامس : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها ، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به .
وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى كلامه – رحمه الله – .
198-علامات ليلة القدر..
هذا ما تيسر جمعه على عجلة من أمري !
الأولى : أن تكون لا حارة ولا باردة
الثانية : أن تكون وضيئة مُضيئة
الثالثة : كثرة الملائكة في ليلة القدر(2/211)
الرابعة : أن الشمس تطلع في صبيحتها من غير شعاع
وإليكم – رعاكم الله – الأدلة :
قال عليه الصلاة والسلام : ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة ، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة . رواه ابن خزيمة وصححه الألباني .
وقال عليه الصلاة والسلام : إني كنت أُريت ليلة القدر ثم نسيتها ، وهي في العشر الأواخر ، وهي طلقة بلجة لا حارة ولا باردة ، كأن فيها قمرا يفضح كواكبها ، لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها . رواه ابن حبان .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى . رواه ابن خزيمة وحسن إسناده الألباني .
وقال صلى الله عليه وسلم : وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها . رواه مسلم .
يعني تطلع في اليوم الذي يليها
وتلك العلامة بشارة لمن قام تلك الليلة
لأنها تكون بعد انقضاء ليلة القدر لا قبلها
وهناك علامات أخرى لكنها لا تثبت
مثل أنه لا تنبح فيها الكلاب ، ولا يُرمى فيها بنجم ، أو أن ينزل فيها مطر .
199-عبوديات خفيّة ... !!! ( فتّش في نفسك )..
يَقْصُر بعض الناس مفهوم العبادة على الركوع والسجود فحسب .(2/212)
وهي في الحقيقة أعم من ذلك وأشمل بكثير ، فقد عرّفها شيخ الإسلام بقوله : العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والآمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة ، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله ، وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) وبها أُرسل جميع الرسل . انتهى كلامه – رحمه الله – .
ومن هنا يتبيّن أن العبادة تشمل الصلاة بما فيها الركوع والسجود وتشمل الذبح والنذر والدعاء والطواف بل تشمل الطاعة والخضوع والاتباع في التشريع – كما سيأتي – .
ومن بين العبوديات الخفيّة التي قد تعزب عن بعض الأذهان :
عبودية الهوى ..
عبودية الشهوات.
عبودية الطاعة والخضوع..
فعبودية الهوى كذلك سماها الله عز وجل حيث قال : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه ) ؟
وقال جل جلاله : ( أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم )
قال الحسن – رحمه الله – : هو المنافق لا يهوى شيئا إلا رَكِبَه .
وقال قتادة : هو الذي كلما هوى شيئا رَكِبَه ، وكلما اشتهى شيئا أتاه ، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى . اهـ .
فليس الأمر اتّباعاً لشريعة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل هو اتّباع لما وافق الهوى .
فتلك عبادة الهوى ( إن يتّبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) .(2/213)
ومثل هذا اتّباع ما وافق رغبات النفس من الفتاوى ، لا أنه يبحث عن الحق ولا أنها تطلب الحق وتنشده .
وأما عبودية الشهوات :
فقد قال عليه الصلاة والسلام : تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض .
وفي رواية قال : تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش . رواه البخاري .
وهذا من باب الدعاء على من كان كذلك .
من كان يُوالي لشهوته ويُعادي عليها ... إن أًُعطيَ رضي ... وإن لم يُعطَ سخط .
يرضى لرضا الدينار والدرهم ، ويسخط لسخطهما !!
يرضى للفراش الوثير واللباس الفاخر ، ويسخط ويتسخّط خشونة العيش !
أو ترضى ( هي ) لرضا الذهب والفضة ووجودهما ، وتسخط لفقدهما !!
فهذا دعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان كذلك بأنه لا يُوفّق ، بل يُصاب بالانتكاسة وتنقلّب عليه الأمور حتى لو أُصيب بشوكة فلا يستطيع إنتقاشها وإخراجها .
وذكر الدينار والدرهم والخميصة والقطيفة لا يُراد به الحصر بقدر ما يُراد به ذكر أمثلة لما يتهافت عليه الناس ، والتي هي مما حُبِّب للناس كما في قوله تعالى : ( زُيّن للناس حُبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ) ثم قال سبحانه ( ذلك متاع الحياة الدنيا ) .
فشهوات البطن قد تكون معبودة من دون الله .
وشهوات الفرج قد تكون كذلك .
والشهوة الخفية : شهوات المناصب !
وخذ على سبيل المثال ذلك المُدخِّن الذي يستأسر وينقاد ذليلاً لسيجارة !!
بل ربما تنازل عن كرامته في سبيل الحصول على سيجارة ... وإن كان صبيا فربما تنازل – عياذاً بالله – عن عرضه لأجل سيجارة لعينة !
ومُدمن الخمر ، ومُتعاطي المخدّرات مستعد لأن يُضحي بكل ما يملك حتى يُضحّي بمتاع بيته بل يتنازل عن عِرْضِه في سبيل الحصول عليها ...(2/214)
فانظر – عافاك الله – كيف أصبح عبداً ذليلاً لشهوة بطنه التي ربما قتَلَتْه.
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن . رواه ابن حبان وغيره وهو حديث صحيح .
وانظر – حماك الله – إلى ذلك الذي ينحني خاضعا ذليلا تحت قدمي عاهرة فاجرة ، حتى سجد أحدهم تحت قدميها فما رفع رأسه – عياذاً بالله من سوء الخاتمة – فإن من عاش على شيء مات عليه .
قال ابن القيم – رحمه الله – معلقا على قول الشاعر الخبيث :
وصلك أشهى إلى فؤادي ..... من رحمة الخالق الجليل ( نعوذ بالله )
قال – رحمه الله – : ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة ، بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله فصار عبدا مخلصا من كل وجه لمعشوقه ، فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبودية المخلوق مثله ، فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع ، وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذلِّه لمعشوقه ، فقد أعطاه حقيقة العبودية .
وذاك عبد الأطباق الفضائية ( الدشوش ) لا يستغني عنها وليس عنده استعداد أن يتنازل عن النظر إلى وجوه وعورات المومسات البغايا .
وهذه أمثلة لا يُراد بها الحصر .
وأما عبودية الطاعة والخضوع :
فأوضح دليل عليها قصة عدي بن حاتم وقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) قال عدي قلت : يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم ! قال : أجل ، ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه ، فتلك عبادتهم لهم .
وقال حذيفة : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم أطاعوهم في المعاصي .
فيا أخيّ الحبيب قف مع نفسك وفتّش عن تلك العبوديات الخفية .
ويا أخيّتي المسلمة قفي مع نفسك وسائليها وفتّشي فيها .
علما أنني لم أرد الحصر فيما ضربته من أمثلة لكنها إشارات لذوي وذوات الألباب .(2/215)
أخيراً :
لا تكن عبداً لغير الله ، فهو سبحانه أهل الثناء والمجد ، وهو أهل التقوى والمغفرة ، ولا أحد غيره يستحق أن يُصرف له شيء من العبودية ، ولذا قال موسى جوابا لفرعون ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) والمعنى إن كنت أنت يا فرعون الذي فعلت ذلك فأنت تستحق أن تُعبد وأنت يا فرعون توقن في قرارة نفسك أنك لست الذي تفعل ذلك كلّه .
وقد كان السلف والعلماء من بعدهم يُربُّون تلاميذهم على عدم التّعلّق بمتاع الحياة الدنيا ، وأن لا يكون المسلم عبداً لشهوة أيّاً كانت .
200-البُشرى العاجِلة ..
المؤمن له البشرى في هذه الدنيا
وله البشرى عند مفارقة الدنيا
وله البشرى في الآخرة
قال جل جلاله : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ )
فأما البشرى في الدنيا فإنه إذا عمل الأعمال الصالحة الخالصة لله عز وجل ثم أُثني عليه بها فإن ذلك لا يُنقص أجره ولا يضرّه ؛ لأنه إنما عمل العمل لله عز وجل .
وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ، ويحمده الناس عليه ؟ قال : تلك عاجل بشرى المؤمن . رواه مسلم .
عاجل بشرى المؤمن لأنه لم يعمل العمل ابتداء ولا انتهاء من أجل أن يَراه الناس ، لكنه لما عمل العمل أطلع الله عليه الناس فحمدوه عليه .
بخلاف من يعمل العمل ليُحمد عليه ، أو من يُحب أن يُحمد بما لم يعمل !
( لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
وقال عليه الصلاة والسلام :
إذا سرّتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن . رواه الإمام أحمد .
فالمؤمن تسرّه الحسنة التي عملها ، وإن كان يهمه أن تُقبل منه .(2/216)
وتُحزنه سيئته ويتمنى أنه لم يُقارفها .
ومن البشرى أن يَعمل المسلم العمل لله عز وجل فيورِثه ذلك ثناء الخلق ، فيفرح بهذا الثناء .
قال عليه الصلاة والسلام : أهل الجنة من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيراً ، وهو يسمع ، وأهل النار من ملأ أذنيه من ثناء الناس شراً ، وهو يسمع . رواه ابن ماجه وصححه الألباني .
والرؤيا الصالحة بُشرى للمؤمن لقوله عليه الصلاة والسلام : إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب ، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة ، والرؤيا ثلاثة : فرؤيا الصالحة بشرى من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه . رواه مسلم .
وقد وصف الله عز وجل القرآن بأنه بشرى للمؤمنين ، فقال تبارك وتعالى : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )
وقال : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )
وأما البشرى عند مفارقة الدنيا
فقد قال سبحانه وتعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي )
وعند مُفارقة هذه الدنيا تكون البشرى للمؤمنين
( فأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ )
وتتنزّل ملائكة الرحمن على المؤمنين بالرحمة والبشرى(2/217)
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ )
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه . قالت عائشة : إنا لنَكْرَه الموت . قال : ليس ذاك ، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّرَ برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه ، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضر بُشِّرَ بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه ، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه . رواه البخاري .
فالمؤمن يُحبُّ لقاء الله لأنه أحسن العمل فيُقدم على ربّ راضٍ غير غضبان .
والفاجر والكافر يكره لقاء الله لأنه أساء العمل فيُقدم على رب غضبان .
وأما البشرى في الآخرة فإن المؤمنين الذين سبقت لهم الحسنى ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )
ويا بهجة نفوس المؤمنين يوم يُبشّرون بالجنات ورضا رب الأرض والسماوات
( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
هؤلاء لهم البشرى ، وأولئك لهم الحسرات(2/218)
( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )
فيا لطول حسراتهم وهم يوبّخون هذا التوبيخ ، ويُقرعون بهذا التقريع .
ويا لبؤس بضاعة النفاق المُزجاة .
ولخيبة آمالهم وهم يعتذرون فلا يُعذرون
ويَسْتَجْدُون ولا يُجابون
ويَستَحسِرون فيزيدون ألماً وحسرة
(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)
فاللهم لا تجعلنا ممن فَتَنُوا أنفسهم وتربَّصوا وارتابوا وغرّتهم الأماني .
واجعلنا ممن قيل فيهم :
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )
201-ظاهرة الإعجاب ... الأسباب والعلاج ..
لعلي أفصّل في الموضوع
وإن كنت سوف أطيل فأرجو قراءة الموضوع كاملا
وذلك لانتشار هذه الظاهرة بشكل واضح بين الطالبات..
-----------------
ثمة ظاهرة انتشرت بين الفتيات ، ألا وهي ظاهرة الإعجاب ، إعجاب بعض الفتيات بعضهن ببعض ، أو إعجاب بعضهن ببعض المعلمات .
وسبب انتشار مثل هذه الأمور :
1 - فراغ القلب مِن حُبِّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
2 - عدم الإخلاص في محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
3 - عدم النظر في عواقب الأمور .
4 - التّعلّق بالصور .(2/219)
5 - عدم النظر بعين البصيرة فيمن تعلّقت بها الفتاة .
أما لو أن القلوب مُلئت بمحبّة علاّم الغيوب لم يكن فيها محلّ للتعلّق بفتاة حسناء !
قال صلى الله عليه وسلم : ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار . متفق عليه .
هذه خصال يجد بها المؤمن والمؤمنة حلاوة الإيمان .
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... وهذا مفقود عند المُعجَبات والمُعجِبات .
وأن يُحب المرء لا يُحبُّه إلا لله ... وهاذ معدوم عندهن .
إذ أساس العلاقة عندهن :
حسن الهندام !!
جمال القوام !!
حسن المنطق !!
جمال الصورة !!
والقلب الخاوي من محبّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتعلّق بمثل هذه الصور الجميلة .
===========
ولو خلُصت محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لما تعلّق متعلّق بغير الله الذي تألهه القلوب ، ولم تُحبّ سوى من دلّها على الخير وهداها إليه .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين .
ولما قال عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا والذي نفسي بيده ؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال له عمر : فإنه الآن . والله لأنت أحب إلي من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر . رواه البخاري .
فالمعجَبات ببنات جنسهن حُرمن هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية ، وتَعَلّقْنَ ببُنيّات مثلهن !
============
وعدم النظر في العواقب الأخروية ، فإن أي محبة ليست لله تنقلب عداوة يوم القيامة باستثناء المحبة الفطرية كما تكون بين الوالد وولده والزوج وزوجه .
قال سبحانه وبحمده : (الأَخِلاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِينَ )(2/220)
إلا المتقين الذين كانت محبّتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
والذين قامت محبتهم على التواصي بالحق والتواصي بالصبر .
والذين أُسِّست علاقاتهم على التعاون على البر والتقوى .
وأما الإعجاب فهو مبني على التعاون على الإثم والعدوان .
=======
وهذا الإعجاب في حقيقته هو العشق الذي يُفسِد القلب حتى لا يستقر ولا يرتاح إلا بذكر معشوقِه .
وإن كان بين الفتيات .
قال ابن القيم - رحمه الله - :
العشق هو الإفراط في المحبة ، بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق ، حتى لا يخلو من تخيُّلِه وذِكره والفكرِ فيه ، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه ، فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القُوى ، فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يَعُزُّ دواؤه ويتعذر ، فتتغيّر أفعاله وصفاته ومقاصده ، ويختلُّ جميع ذلك فتعجز البشر عن صلاحه ، كما قيل :
الحبُّ أولُ ما يكون لجاجةً *****تأتي به وتسوقه الأقدار
حتى إذا خاض الفتى لُججَ الهوى*****جاءت أمور لا تُطاق كبار
والعشق مبادئه سهلةٌ حلوةٌ ، وأوسطه همٌّ وشغلُ قلب] وسقم ، وآخره عَطَبٌ وقتلٌ . إن لم تتداركه عنايةٌ من الله كما قيل :
وعش خاليا فالحب أوله عنى **** وأوسطه سقم وآخره قتل
وقال آخر :
تولّهَ بالعشق حتى عَشِق ***** فلما استقل به لم يُطِقْ
رأى لجةً ظنها موجةً ***** فلما تمكن منها غَرِق
والذنب له ( أي للعاشق ) ، فهو الجاني على نفسه ، وقد قعد تحت المثل السائر : يداك أوكتا وفوك نفخ . انتهى كلامه - رحمه الله - .
وأما دواء هذا الداء العُضال :(2/221)
فقال فيه - رحمه الله - : ودواء هذا الداء القتال أن يعرف إن ما اُبتُليَ به من هذا الداء المضاد للتوحيد ؛ إنما هو مِن جهله وغفلة قلبه عن الله ، فَعَلَيْهِ أن يعرف توحيد ربِّه وسُننه وآياته أولا ، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بم يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه ويُكثر اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه ، وأن يرجع بقلبه إليه وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله ، وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه ، فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشقُ الصور ؛ فإنه إنما تمكن من قلب فارغ كما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وليعلم العاقل أن العقل والشرع يوجبان تحصيلَ المصالح وتكميلَها ، وإعدامَ المفاسد وتقليلَها ...
ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية ، بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف ما يُقدّرُ فيه من المصلحة ، وذلك من وجوه :
أحدها : الاشتغال بذكر المخلوق وحبِّه عن حب الرَّبِّ تعالى وذكره ؛ فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه ، ويكون السلطان والغلبة له .
الثاني : عذاب قلبه بمعشوقه ، فإن من أحب شيئا غير الله عُذِّبَ به ولا بُدّ ، كما قيل :
فما في الأرض أشقى من محبٍّ ***** وإن وجد الهوى حلو المذاقِ
تراه باكيا في كل حين ***** مخافةَ فُرقَةٍ أو لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ***** ويبكي إن دنو خوفَ الفراق
فتسخن عينه عند الفراق *****وتسخن عينُه عند التلاقِ
والعشق وإن استعذبه صاحبه ، فهو من أعظم عذاب القلب .
الثالث : أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقِهِ يسومه الهوان ، ولكن لِسكرة العشق لا يشعر بمصابه ؛ فقلبه :(2/222)
كعصفورة في كف الطفل يسومها ***** حياضَ الردى والطفل يلهو ويلعب !!
فعيش العاشق عيش الأسير الموثق …
الرابع : أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه ؛ فليس شيءٌ أضيعُ لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور :
أما مصالح الدِّين فإنها منوطة بِلَمِّ شعث القلب وإقباله على الله ، وعشقُ الصور أعظم شيءٍ تشعيثا وتشتيتا له .
وأما مصالح الدنيا فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين ، فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه ؛ فمصالح دنياه أضيع وأضيع . انتهى كلامه - رحمه الله - .
والعشق ( الذي تُسمِّيه الفتيات : الإعجاب ) من الخطورة بمكان :
قال ابن القيم :
فإنه يكون كفراً ، كَمَن اتّخذ معشوقه نِدّاً ، يُحبه كما يحب الله ، فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه ؟ فهذا عشقٌ لا يُغفر لصاحبه ، فإنه من أعظم الشرك ، والله لا يغفر أن يشرك به وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك ، وعلامة هذا العشق الشركي الكفرى أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه ، وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحقّه وحقّ ربِّه وطاعته قدّم حق معشوقه على حقِّ ربه وآثر رضاه على رضاه ، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه ، وبذل لربه إن بذل أردى ما عنده ، واستفرغ وسعه في مرضات معشوقه وطاعته والتقرب إليه ، وجعل لربه إن أطاعه الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته . انتهى كلامه - رحمه الله - .
ويشتد الخطب ، وتعظُم البليّة إذا كان المُعجَبُ به شخص من أهل الكفر والزندقة فإن الزندقة هي إنكار المعلوم من الدِّين بالضرورة .
فيكون الإعجاب بالكافر أو الكافرة لما عندهم من تقنية وحضارة مادية ، ويكون
عادة المعجَب بهم يغفل أو يتغافل عما وصلوا إليه من حضيض في مجال الروح .
ومن تغلغل في مجتمعاتهم رأى بعين بصيرته ما وصلوا إليه سواء في مجال الدين أو في جال الأخلاق .(2/223)
وقد رأيت بأم عيني ما يَصِلُون إليه يومي السبت والأحد ، فإنها عندهم يومي إجازة ، ومن ثم يسهرون ويسكرون ، فلا تسل عنهم وعن قذارتهم !!!!
ولا شك أن الإعجاب بهؤلاء وما هم عليه من الكفر يُعتبر ناقضاً من نواقض الإسلام ، وقد عدّ الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا من نواقض الإسلام .
يأتي بعد ذلك في الخطورة إذا كان المُعجَب به من أهل البدع فإذا كانت المعلمة أو الطالبة ليست من أهل السُّنة مثلاً ؛ فإن الإعجاب بها قد يصل إلى درجة الكفر ، خاصة إذا رضيَت بما هي عليه من مذهبٍ باطل ، أو إذا صحّحت مذهبها .
ولو تأملت الفتاة مَنْ تعلّقت بها
لو تأملتها بعين بصيرتها لعلمت أن هذه الصورة الظاهرة ليست هي كل شيء !
فـ ( تحت ) هذه الصورة الظاهرة ما تنفر منه النفوس
ولذا لما أراد الله عز وجل أن يُثبت أن عيسى عبدٌ لله ولرسوله وأنه كسائر البشر ، وأن ينفي عنه وعن أمِّه الألوهية قال سبحانه : ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ) .
فالذي يأكل الطعام يحتاج ما يحتاجه الناس من قضاء حاجة ونحوها . فتأملي .
كذلك لو تأملت الفتاة في مُعجَبَتِها
كيف لو أصاب تلك الفتاة حريق أو تشوّه ؟؟ كيف تنظر إليها ؟؟؟
كيف لو رأتها بعد ستين أو سبعين سنة ؟؟!!!
بل كيف لو رأتها بعد ثلاثة أيام من دفنها ؟؟؟؟
بل كيف لو ماتت مَنْ أُعجِبت بها وقيل للفتاة المتعلّقة بها :
تعالي لتنامي بجوارها الليلة فقط ؟!
تعالي ودّعيها ... ونامي في بيت أو غرفة هي مسجّاة بها ؟؟!!
وأخيراً :
إلى من حباها الله شيئا من الجَمال ، فابتُليَت بمن تُعجب بها
اتقي الله وراقبيه في السر والعلن
اتقي الله لا يُسلب منك هذا الجمال
لا تجعلي لضعيفات النفوس عليك من سبيل .
اقطعي كل علاقة جاءتك من هذا الباب .
وأقدّم اعتذاري عن الإطالة على طبق النُّصح .(2/224)
تم الكلام والحمد للرحيم الرحمن الكريم المنان ، والصلاة والسلام على خير الأنام .
202-طِبتَ وطَأبَ ممشَأك ..
( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )
ماذا أصاب عبد الرحمن من الخير ؟!
في يوم الأربعاء زرت إخواناً لي عرفتهم عن طريق الشبكة ، وعن طريق منتديات المشكاة على وجه الخصوص . أحببتهم في الله على غير أرحام بيننا .
زرتهم فتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم :
ما من عبد أتى أخاه يزوره في الله، إلا ناداه مناد من السماء : أن طبت وطابت لك الجنة ، وإلا قال الله في ملكوت عرشه : عبدي زار فيّ ، وعليّ قِراه ، فلم يرض الله له بثواب دون الجنة . رواه الحافظ الضياء في المختارة
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا عاد المسلم أخاه أو زاره قال الله عز وجل : طبت وطاب ممشاك ، وتبوأت في الجنة منزلا . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وثانية أن صلينا على والد أخ كريم ، وتبعنا الجنازة حتى دُفنت
فتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم : من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يُصلي عليها ويفرغ من دفنها ، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين ، كل قيراط مثل أحد . رواه البخاري ومسلم .
ثم عزّينا الأخ الكريم
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في التعزية : ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة . رواه ابن ماجه .
وثالثة أن صلينا صلاة العشاء في جمع كثير
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وصلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كانوا أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وقد أمّنا العالم الرباني الشيخ محمد بن صالح المنجد
ثم شنّف أسماعنا بمحاضرة قيّمة حرّك فيها القلوب ، وكانت بعنوان : تحريك القلوب .
وقد اجتمعنا في بيت من بيوت الله(2/225)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فاللهم لك الحمد ماذا أصبنا من الخير يوم زُرنا إخواننا .
إنه يوم حافل بالخير والأجر بالنسبة لي .
203-شيّك على الإيميل ... وشوف المسج على الموبايل !
كم هي الكلمات الأعجمية التي نسمعها كل يوم وباستمرار ؟
وليست مُسمَّيَات لمخترعات العصر التي لم تُفلح المجمعات اللغوية في استنطاق اللغة وتسميتها بلغة القرآن التي قال على لسانها حافظ إبراهيم :
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن ..... فهل ساءلوا الغوّاص عن صدفاتي ؟
وسعت كتاب الله لفظا وغاية.....
أليس باستطاعتنا أن نقول بدل شيّك على الإيميل أن نقول : تفحص بريدك أو تفحص البريد أو افحص البريد ؟ وما شابهها .
أوَليس باسطاعتنا أن نقول رسالة بدل ( مسج ) ؟
وأن نستبدل كلمة ( موبايل ) بكلمة عربية فصحى كـ( جوّال ) أو نقّال
وكم هائل من الكلمات الأعجمية لدى مستخدمي الشبكة العالمية
إن استعمال مثل تلك الكلمات يُزري بلغة القرآن .
ويُشعر بضعف أهل الإسلام .
ويُوحي بالهزيمة النفسية .
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول : لا تعلّموا رطانة الأعاجم .
أي من دون حاجة لها فيكون تعلمها مدعاة للرطانة بها ، وإظهار التفاخر بها حينا ، والتباهي أحيانا أخرى ، وهجر لغة القرآن .
وأذكر أننا كنا في مجلس عام يكثر فيه عوام الناس وكان في المجلس أحد المتخاذلين وكان قد ذهب إلى أمريكا ، فأخذ يتحدّث عن سفره وأنه لو بقي خمس سنوات لحصل على ( القرين كارت ) !!!!! وكرر هذه الكلمة عدة مرات ، وهو يعني البطاقة الخضراء .
وقد كره السلف التحدّث بلغة الأعاجم من غير حاجة .(2/226)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : وأما الخطاب بها ( أي بلغة الأعاجم ) من غير حاجة في أسماء الناس والشهود كالتواريخ ونحو ذلك فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب ، وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا .
ونقل عن الشافعي قوله : سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجارا ، ولم تزل العرب تسميهم التجار ، ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب ، والسماسرة اسم من أسماء العجم ، فلا نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجرا إلا تاجرا ولا ينطق بالعربية فيسمى شيئا بالعجمية ، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب ، فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا نقول ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأوْلى بأن يكون مرغوبا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بالعجمية . انتهى .
وأما أن يتكلم الرجل بالكلمة الواحدة من دون أن يكون هناك اعتزاز بلغة القوم كأن يكون الحامل له على ذلك الكلام أن يكون المُخاطَب يفهم تلك اللغة أكثر من غيرها ، وعليه يُحمل ما رواه البخاري في الصحيح من حديث أم خالد بنت خالد رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام كساها خميصة سوداء ثم قال لها : يا أم خالد هذا سنا . والسنا بلسان الحبشة الحَسَن .
وقد وُلِدت أم خالد هذه بأرض الحبشة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : وفي الجملة فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب ، وأكثر ما كانوا يفعلون إما لكون المخاطب أعجميا أو قد اعتاد العجمية يريدون تقريب الأفهام عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد ابن سعيد بن العاص وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبوها فكساها النبي صلى الله عليه وسلم قميصا وقال : يا أم خالد هذا سنا .(2/227)
وقال – رحمه الله – : فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون . انتهى .
فأهيب بنفسي وبإخواني الحرص على لغة العرب ما أمكن ، لا لأنها لغة العرب بل لأنها لغة القرآن ولغة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم .
204-شيخ مفتون..
كثير من الناس لا يتوقّى الظُّلم ولا دعوة المظلوم
ويتناسى أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .
وأن الله يرفعها فوق الغمام ، ويقول : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين . رواه الإمام أحمد وغيره .
فـ لله كم هلك بسببها من هالك
وكم شقي بسببها من سعيد
وكم افتقر بسببها من غني
وكم زال بسببها من مُلك
هذا أحد السابقين إلى الإسلام ، وأحد العشرة المبشرين يدعو على من ظلمه ، فما مات الظالم حتى رُئى أثر دعاء المظلوم على من ظلمه .
عن عبدُ الملكِ بنُ عُميرٍ عن جابرِ بنِ سَمُرةَ قال : شَكا أهلُ الكوفةِ سَعدَ بن أبي وقاص إِلى عمرَ رضي الله عنه ، فعزَلَهُ واستعملَ عليهم عَمّاراً ، فشَكَوا حتى ذَكروا أَنّهُ لا يُحسِنُ يُصلّي ، فأَرسلَ إِليه فقال : يا أبا إسحاق ! إنّ هَؤلاء يَزعُمونَ أَنّكَ لا تُحسِنُ تُصلّي ! قال أبو إِسحاق ( سعد ) : أمّا أنا واللهِ فإني كنتُ أُصلي بهم صلاةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أخرِمُ عنها ، أُصلّي صلاةَ العِشاءِ فأَركُدُ في الأُولَيَيْنِ ، وَأُخِفّ في الأُخرَيَينِ . قال : ذاكَ الظنّ بكَ يا أبا إِسحاقَ ، فأَرسلَ معه رجُلاً – أو رجالاً – إلى الكوفةِ فسألَ عنه أهلَ الكوفةِ ، ولم يَدَعْ مسجداً إِلاّ سألَ عنه ، وَيُثنونَ مَعروفاً ، حتى دخلَ مسجداً لِبني عبسٍ ، فقامَ رجلٌ منهم يُقالُ له : أُسامةُ بنُ قَتادةَ ، يُكْنىَ أَبا سَعدةَ قال : أمّا إِذ نَشَدْتَنا ! فإِنّ سَعداً كان لا يَسيرُ بالسرِيّةِ ، ولا يَقسِمُ بالسّوِيّة ، ولا يَعدِلُ في القَضيّة .(2/228)
قال سعدٌ : أَما وَاللهِ لأدْعوَنّ بثَلاثٍ : اللّهمّ إِن كان عبدُكَ هذا كاذباً قامَ رِياءً وَسُمعةً ، فأَطِلْ عمرَهُ ، وَأَطِلْ فَقرَهُ ، وَعَرّضْهُ للفِتَنِ ، وكان بَعدُ إِذا سُئلَ يقول: شَيخٌ كبيرٌ مَفتون أصابَتْني دَعوةُ سعد . قال عبدُ الملكِ بن عمير : فأنا رأيتُه بعدُ قد سَقطَ حاجِباهُ عَلَى عَينيهِ منَ الكِبَرِ ، وإِنه ليَتعرّضُ للجواري في الطّرقِ يغمزهُنّ .
وفي رواية : فما مات حتى عميَ ، فكان يلتمس الجدران ، وافتقر حتى سأل ، وأدرك فتنة المختار فقُتِلَ فيها . رواه البخاري ومسلم مختصراً .
وسعد رضي الله عنه كان مُجاب الدعوة
فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : أقبل سعدٌ من أرضٍ له ، فإذا الناس عكوفٌ على رجل ، فاطّلع فإذا هو يسبُّ طلحة والزبير وعلياً ، فنهاه ، فكأنما زاده إغراءً ، فقال : فقال : ويلك ! تريدُ أن تسبَّ أقواماً هم خيرٌ منك ؟ لتنتهينّ أو لأدعونّ عليك . فقال :كأنما تخوفُني نبيّ من الأنبياء ! فانطلق فدخل داراً فتوضأ ، ودخل المسجد ثم قال : اللهم إن كان هذا سبّ أقواماً قد سبقت لهم منك حسنى ، أسخطك سبُه إياهم ، فأرني اليوم آيةً تكونُ للمؤمنين آيةً . قال : وتخرج بُختيةٌ من دار بني فلان لا يردُها شيء حتى تنتهي إليه ، ويتفرّقَ الناسُ ، وتجعلَه بين قوائمها وتطأه حتى طفي ، قال : فأنا رأيت سعداً يتبعه الناس يقولون : استجاب الله لك يا أبا إسحاق .
قال الإمام الذهبي : في هذا كرامة مشتركة بين الداعي ، والذين نِيلَ منهم .
و عن قَبيصة بن جابر قال : قال ابن عمّ لنا يوم القادسية :
ألم تر أن الله أنزل نصره = وسعدٌ بباب القادسية معصَمُ
فأُبنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ = ونسوةُ سعد ليس فيهن أيّمُ(2/229)
فلما بلغ سعداً . قال : اللهم اقطع عنّي لسانه ويده ، فجاءت نُشّابَةٌ أصابت فاه ، فخرس ، ثم قُطعت يدُه في القتال ، وكان في جسد سعد قروح فأخبر الناس بعذره عن شهود القتال ، فعذروه ، وكان سعد لا يجبن ، وقال : إنما فعلت هذا لما بلغني من قولكم .
وهذا أحد السابقين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة يدعو على امرأة ظلمته فيستجيب الله دعاءه
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ أَرْوَىَ بِنْتَ أُوَيْسٍ ادّعَتْ عَلَىَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنّهُ أَخَذَ شَيْئاً مِنْ أَرْضِهَا ، فَخَاصَمَتْهُ إِلَىَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ ، فَقَال سَعِيدٌ : أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئاً بَعْدَ الّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ قال : وما سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ قَال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَقُولُ : مَنْ أَخَذَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْماً طَوّقَهُ إِلَىَ سَبْعِ أَرضِينَ . فَقَال لَهُ مَرْوَانُ : لاَ أَسْأَلُكَ بَيّنَةً بَعْدَ هَذَا ، فَقَال سعيد : اللّهُمّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَعَمّ بَصَرَهَا ، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا . قَال : فَمَا مَاتَتْ حَتّىَ ذَهَبَ بَصَرُهَا ثُمّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ .
وفي رواية : قال : فرأيتها عمياء تلتمس الجدر ، تقول : أصابتني دعوة سعيد بن زيد فبينما هي تمشي في الدار مرّت على بئر في الدار ، فوقعت فيها فكانت قبرها . رواه البخاري ومسلم ، واللفظ له .
فهذه نماذج لدعوات من ظُلموا فانتصروا بدعواتهم ، فاستجاب الله لهم .
ألا ترون أن الظلم الذي صدر من هؤلاء إنما كان الأساس فيه اللسان ؟
فكيف بغيره من الظُّلم ؟؟؟
والظُّلم عاقبته وخيمة .
قال محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله :(2/230)
فلا تعجل على أحد بظلم = فإن الظلمَ مرتَعُه وخيمُ
ولا تفحش وإن بُليت ظلما = على أحد فإن الفحش لُوم
ولا تقطع أخا لك عند ذنب= فإن الذنب يغفرُه الكريم
ولكن دارِ عورتَه بِرِفْقٍ = كما قد يُرقعُ الخَلَقُ القديم
ولا تجزع لريب الدهر واصبر = فإن الصبر في العقبى سليمُ
فما جزعٌ بِمُغْنٍ عنك شيئا = ولا ما فات تُرْجِعُهُ الهموم
قال ابنٌ ليحيى البرمكي - وهم في السجن والقيود - : يا أبتِ بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال ؟!
فقال : يا بنى دعوة مظلوم سَرَتْ بليل ونحن عنها غافلون ، ولم يغفل الله عنها ، ثم أنشأ يقول :
رب قوم قد غَدَوا في نعمةٍ = زمناً والدهرُ ريانُ غَدَق
سَكَتَ الدهرُ زمانا عنهمُ = ثم أبكاهم دماً حين نَطَق
( ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية ) .
فحذار – رحمني الله وإياكم – من عواقب الظُّلم .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
إذا ظالمٌ أبدى من الظلم مذهبا = ولج عتوا في قبيح اكتسابه
فكِِلْه إلى ريب الزمان فإنها = ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالما متجبرا = يرى النجم تيها تحت ظل ركابه
فلما تمادى واستطال بظلمه = أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مالٌ ولا جاه يُرتجى = ولا حسناتٌ تُلتقى في كتابه
وعوقب بالظلم الذي كان يقتفي = وصَبّ عليهِ الله سوط عذابه
فحذارِ حذارِ من دعوة مظلوم ، يسهر ليله يدعو على من ظَلَمَه .
روي أن بعض الملوك رقم على بساطه :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا = فالظلم عقباه تُفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه = يدعوا عليك وعين الله لم تَنمِ
205-شهادة الدكتوراه أم شهادة الزوج ؟!
تقول إحداهن : كنت قد حصلت على الشهادة العالية ( الدكتوراه ) ولم تكن واحدة من قريباتي أو جاراتي حازت ما حُزته أو نالت ما نلته من شهادة
غير أن كُليمات من زوجي في اجتماع عائلي كانت أغلى عندي من شهادة الدكتوراه ! وأكثر فخراً منها(2/231)
وتمضي قائلة : لقد أحسست بتلك الكلمات وكأنها تاج فَخَار على رأسي
وقد تتساءلون : ماذا قال لها زوجها ؟
ما هي تلك الكلمات التي فاقت شهادة الدكتوراه ؟
لقد قال لها : سَلِمَتْ يداك .. لقد كان طبخك اليوم رائعا موفّقاً !
قال لها ذلك وهي بين أخواته وأمهاته
فأحسّت أنها سيدة الموقف !
وأنها استطاعت أن تكسب رضا زوجها
وأنها أتقنت ما صنعت
ولو كانت تلك الكلمات بين الزوج وزوجه بعد صنيع طعام أو حتى شراب لكان لها أبلغ الأثر وعظيم الوقع في نفس الزوجة
ولذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما عاب طعاما قط ؛ إن اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه . كما في الصحيحين .
فهل يضير الأزواج أن يفعلوا كما فعل ؟
وأن ينهجوا هذا النهج ؟
إن الزوج العاقل من يكسب قلب زوجته بكلمة أو بكلمات لا تُكلّفه شيئا !
بل ويكسب الحرص والاجتهاد في كل مناسبة على إتقان العمل
فإذا علمت الزوجة أن زوجها سوف يُثني عليها اجتهدت فيما تعمل
وفي المقابل إذا علمت أنه لا يهتم ولا يكترث – اجتهدت أو قصّرت – فإنها لن تُعير ذلك أدنى اهتمام !
ومن هنا كان حديث الرجل أهله من مثل ذلك لا يُعدّ كذباً
قالت أم كلثوم بنت عقبة - وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمى خيرا ، ولم أسمعه يُرخِّص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث : الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها . رواه البخاري ومسلم .
حديث الرجل امرأته
وحديث المرأة زوجها(2/232)
قال الحافظ في الفتح : قال الطبري : ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح ، وقالوا : إن الثلاث المذكورة كالمثال ، وقالوا : الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة أو ما ليس فيه مصلحة . وقال آخرون : لا يجوز الكذب في شيء مطلقا ، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم : دعوت لك أمس ، وهو يريد قوله : اللهم اغفر للمسلمين . ويَعِد امرأته بعطية شيء ، ويريد إن قدر الله ذلك ، وأن يظهر من نفسه قوة .
ثم قال : واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها ، أو أخذ ما ليس له أو لها . اهـ .
وقال الإمام النووي : وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه . اهـ .
فهذا مما راعته الشريعة الغرّاء لما يترتب عليه من المصلحة
فالشريعة لم تُهمل حتى حديث الرجل مع امرأته ، أو حديث المرأة مع زوجها
وقد قلت مرة لمحدّثي : لا يكون في حديث الرجل مع امرأته صريح الكذب ، فلا تكون من أقصر النساء ، فيقول لها : أنت أطول من زرافة !!
فماذا يضير الزوج الحصيف أن يكسب قلب زوجته بكلمات معدودات ؟
وماذا عليه لو أذهب عن حليلته التّعب والنّصب بكلمات يطيب معها قلبها
ولو نظرنا في أنفسنا لحرصنا على ذلك
فانظر في نفسك كم للكلمة الطيبة عليك من أثر ؟
ماذا لو عملت عملاً ثم قيل لك : أحسنت ؟!
وماذا لو عملت عملاً للآخرين ثم لم تُقابل إلا بالصّمت ؟!
إن قول : ( أحسنت ) للمحسن مما يجعله يزيد في الإحسان
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : من صنع إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
والثناء على المُحسن من حُسن المكافأة ، ومِن مُقابلة الإحسان بالإحسان .
ورب كلمة سَلَتَت التّعب وأزالت النَّصَب وأذهَبَت الإعياء !
206-شجرة ذات حُرمة..
يُشرّف رب العزة سبحانه بعض الأماكن دون بعض .(2/233)
ويُفضّل بعض الأشخاص على بعض ، كما فضل بعض الأنبياء على بعض .
ويُجعل لبعض المخلوقات حُرمة دون بعض
وقد جعل الله لبعض الشجر حُرمة وذلك بأن حرّم قطعه أو كسر شيء من أغصانه
فمنه ما حُرّم لأجل حُرمة المكان كشجر مكة – حرسها الله –
ومنه ما حُرّم لأجل ذات الشجر ، كالسّدر
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قاطع السدر يُصوّب الله رأسه في النار . رواه البيهقي في السنن الكبرى ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .
والسّدر ورد في القرآن في أكثر من موضع ، فمن ذلك :
* ما جاء في قصة المعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ورؤيته لجبريل على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح .
قال سبحانه وتعالى : ( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى )
روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء والمعراج ، وفيه :
قال : ثم انطلق بي جبريل حتى نأتي سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي . قال : ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك .
وفي رواية : ورُفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال هجر ، وورقها كأنه آذان الفيول ، في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، فسألت جبريل ، فقال : أما الباطنان ففي الجنة ، وأما الظاهران النيل والفرات .
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها . رواه مسلم .
ومِن المواضع التي ذُكر فيها السدر :(2/234)
* أن أصحاب اليمين من أصحاب الجنة في سدر منزوع الشوك .
قال تبارك وتعالى : ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ) الآيات .
جاء في تفسير السدر المخضود أنه الذي نُزِع شوكه .
أو أنه الموقّر بالثمر . قال بهما ابن عباس رضي الله عنهما .
قال قتادة : كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك فيه .
قال ابن كثير بعد أن نقل الأقوال فيه : والظاهر أن المراد هذا وهذا ، فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر ، وفي الآخرة على العكس من هذا لا شوك فيه وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله .
ولولا فضل السدر لما جُعل في الجنة .
ومِن المواضع التي ذُكر فيها السدر :
* في خبر سبأ : ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ )
وللسدر خصائص ومزايا ، فمن ذلك :
أنه يطرد الهوام ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لمن كُنّ يُغسلن ابنته : اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافورا . رواه البخاري ومسلم .
وقال في شأن المحرِم الذي وقصته ناقته : اغسلوه بماء وسدر . رواه البخاري ومسلم .
وهو نافع – بإذن الله – للتداوي به من السّحر والعين والرّبط
ولذا ينصح العلماء به ، فيُوصون بأخذ سبع ورقات سدر برّي ثم يُقرأ فيها وتُطحن ثم توضع في ماء ويُغتسل ويُشرب منه .
ومن فوائده ما ذكره ابن القيم رحمه الله حيث قال :(2/235)
والنبق ثمر شجر السدر ، ويعقل الطبيعة ، وينفع من الإسهال ، ويدبغ المعدة ، ويُسكن الصفراء ، ويغذو البدن ، ويشهى الطعام ، ويولد بلغما ، وسويقه يقوي الحشا ، وهو يُصلح الأمزجة الصفراوية ، وتُدفع مضرته بالشهد ، واختلف فيه هل هو رطب أو يابس على قولين ، والصحيح أن رطبه بارد رطب ، ويابسه بارد يابس .
207-شاوروهنّ واعصوهنّ..
قرأت مقالا لإحدى الأخوات بعنوان : بكل فخر .. نحن أساس المشكلات !
أوردت فيه :
يقول الشاعر ...
رأيت الهمّ في الدنيا كثير ****وأكثر ما يكون من النساء
وقيل ... وراء كل مشكله ابحث عن امرأة . انتهى كلامها حفظها الله .
=============
فكان هذا المقال إثر تلك الكلمات .
=============
نسمع أحياناً من بعض الناس من يُردِّد :
شاوروهن واعصوهن !!!
أو شاوروهن وخالِفوهن !!!
ولا شك أن هذا القول من الإجحاف في حق النساء .
ففي كثير من الأحيان إذا أصاب الرجل الهَمّ لجأ - بعد الله - إلى أُمِّه طالباً منها المشورة والدّعاء .
أو ربما لجأ إلى حليلته يبثّها شكواه ، فتُخفف عنه مِن همِّه .
تأملوا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار بعد أن جاءه المَلَك رجع صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زملوني زملوني ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع ، ثم قال لخديجة : أي خديجة مالي ؟ وأخبرها الخبر . قال : لقد خشيت على نفسي .
قالت له خديجة : كلا . أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ، والله إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ... الحديث . رواه البخاري ومسلم
فمن الذي آزر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدّأ من روعه وطمأنه إلا خديجة رضي الله عنها ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف لها حقّها وقدرها حتى بعد موتها .(2/236)
أيستعيبون استشارة المرأة ، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشورة امرأة في قضية تَهُمّ المسلمين بل قد أهمّت رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مشهود من أيامه صلى الله عليه وسلم .
أما سمعتم - رعاكم الله - عن إحجامِ الصحابة عن حلقِ رؤوسهم يوم الحديبية ، فلما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لهم : قوموا فانحرُوا ثمّ احْلِقوا .
قال الرواي : فوَ اللهِ ما قامَ منهم رجُلٌ حتى قال ذَلكَ ثلاثَ مَرّاتٍ .
فلمّا لم يَقُمْ منهم أحدٌ دَخلَ على (( أُمّ سَلمةَ )) فذَكرَ لها ما لقيَ منَ الناسِ .
فقالت أُمّ سَلمةَ : يا نبيّ اللهِ أتُحِبّ ذَلك ؟ أخرُجْ ثمّ لا تُكلّمْ أحداً منهم كلمةً حتى تَنْحَرَ بُدْنَك وتَدْعو حالِقَكَ فيَحْلِقَك .
فأخذ بمشورتها
فخرَجَ فلم يُكلّمْ أحداً منهم حتى فعل ذلك : نحرَ بُدْنَهُ ودَعا حالِقَهُ فحلَقَه ، فلما رأَوا ذَلكَ قاموا فَنَحروا ، وجَعلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضاً ، حتى كادَ بعضُهم يَقتُلُ بعضاً غَمّاً . كما عند البخاري في الصحيح .
فمن الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر فيه الرّشَد ؟؟
ومن الذي أزاح الهمّ عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟
وليست هذه حادثة فريدة فقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أخرى في قضية تُعَدُّ مِنْ أخطر القضايا ، فقد سأل زينب بنت جحش عن عائشة بعد حادثة الإفك ، وما جرى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الهَمّ .
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري ، فقالت : ما عَلِمْتِ ، أو ما رأيتِ ؟ فقالت : يا رسول الله أحْمِي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً .
قالت عائشة : وهي التي كانت تُساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فَعَصَمها الله بالورع . متفق عليه . ( ومعنى تُساميني أي تُنافسني في المكانة )(2/237)
فأين هذا من أناس لا يرون للمرأة رأياً ، كما أنهم لا يرون لها حقاً ؟؟
لقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاته ، وأخذ برأيهن .
ولم يَقُل : شاوروهن وخالفوهن . كما يلهج به بعض الناس .
وهذا الحديث " شاوروهن وخالفوهن " لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم .
كما أن حديث : هلكت الرجال حين أطاعت النساء . حديث ضعيف .
وحديث : طاعة المرأة ندامة . حديث موضوع مكذوب كما بيّن ذلك كلّه الشيخ الألباني – رحمه الله – .
قال ذو النون : أما إنه من الحمق :
التماس الإخوان بغير الوفاء ، وطلب الآخرة بالرياء ، ومودة النساء بالغلظة .
فاستوصوا بالنساء خيراً . كما أوصاكم بِهنّ مَنْ هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله عليه وسلم .
قال المباركفوري : والمعنى أوصيكم بِهنّ خيراً ، فاقبلوا وصيتي فيهن .
مع أطيب التمنيات لجميع الأخوة والأخوات .
208-زهدهم وزهدنا..
كان سلف هذه الأمة يزهدون في الدنيا الفانية
وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الزهد فيها
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أطيّن حائطا لي أنا وأمي ، فقال : ما هذا يا عبد الله ؟ فقلت : يا رسول الله شيء أصلحه . فقال : الأمر أسرع من ذاك . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه .
وفي رواية للترمذي : فقال ما هذا ؟ فقلنا : قد وَهَى فنحن نصلحه . قال : ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك .
بارك الله فيك إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالزهد في الدنيا ، والرضا منها باليسير ، والقناعة بالرزق ، والكفاف .
قال عليه الصلاة والسلام : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك . رواه ابن ماجه .
قال محمد بن واسع : إني لأغبط رجلا معه دينه ، وما معه من الدنيا شيء ، وهو راض .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغل بعض المواقف لتذكير أصحابه بقدر الدنيا ، وهوانها على الله ؛ لأجل أن يزهدوا فيها .(2/238)
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق داخلا من بعض العالية والناس كنفته ، فمرّ بجدي أسكّ ميت ، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال أيكم يحب أن هذا له بدرهم فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به قال أتحبون أنه لكم قالوا والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت فقال فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم . رواه مسلم .
وفي رواية لمسلم قالوا : فلو كان حيا كان هذا السكك به عيبا . ( الأسكّ : صغير الأذنين )
قال عمر رضي الله عنه : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير ، فجلست ، فأدنى عليه إزاره ، وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه ، فنظرت ببصرى في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة ، وإذا أَفيقٌ مُعلّق . قال : فأبتدرت عيناي .
قال : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟
قلت : يا نبي الله ! ومالي لا أبكى ، وهذا الحصير قد أثّر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار ، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته وهذه خزانتك ؟
فقال : يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ، ولهم الدنيا ؟ متفق عليه .
( القَرَظ : ورق شجر السّلم )
( أَفيق : الجلد الذي لم يُدبغ )
( فابتدرت عيناي : لم أتمالك نفسي أن بكيت فسالت دموعي )
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير ، فأثّر في جنبه ، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه ، فقلت : يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالي وللدنيا ؟ ما أنا والدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها . رواه الإمام أحمد .(2/239)
فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّق قلوب أصحابه بالدنيا ، ولا كان يعدهم إياها إلا نادراً ، بل كان يُعلّق قلوبهم بالآخرة ، ويُرغّبهم بالجنة .
قال ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته بوضوئه وحاجته . فقال لي : سَلْ . فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة . قال : أوَ غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك . قال : فأعِنِّي على نفسك بكثرة السجود . رواه مسلم .
والتربية العملية ، كالتربية بالقدوة ربما كانت أفضل من ألف موعظة .
ولذا لما كشف الصحابة رضي الله عنهم عن بطونهم يشكون الجوع ، وقد ربطوا الحجارة على بطونهم كشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه فإذا هو قد ربط حجرين !
ولسان الحال يقول : لست بأحسن حال منكم !
قال أبو طلحة رضي الله عنه : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين . رواه الترمذي .
بل إنه عليه الصلاة والسلام خُيّر بين أن يكون عبداً رسولا أو ملكاً نبياً فاختار الأولى .
جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى السماء ، فإذا ملك ينزل ، فقال جبريل : إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خُلق قبل الساعة ، فلما نزل قال : يا محمد أرسلني إليك ربك . قال : أفملكاً نبيا يجعلك ، أو عبدا رسولا . قال جبريل : تواضع لربك يا محمد . قال : بل عبداً رسولاً . رواه الإمام أحمد .
بل كانت قلوب القوم مُعلّقة بالله ونيل رضاه .(2/240)
جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتّبَعَهُ ثُمّ قال : أُهَاجِرُ مَعَكَ ، فَأَوصَى بِهِ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْض أَصْحَابِهِ ، فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَبْياً ، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ ، فَلَمّا جَاءَ دَفَعُوهُ إلَيْهِ ، فَقَال : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : قسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَال : مَا هَذَا ؟ قَال : قَسَمْتُهُ لَكَ ، قَال : ما على هَذَا اتّبعتك ، وَلَكِنّي اتّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إلَى هَهُنَا - وَأَشَارَ إلَى حَلْقِهِ - بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنّةَ ، فقال : إنْ تَصْدُقِ اللّهَ يَصْدُقْكَ . فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثُمّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوّ ، فَأُتِيَ بِهِ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ ، فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قال : صَدَقَ اللّهَ فَصَدَقَهُ ، ثُمّ كَفّنَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي جُبّةِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، ثُمّ قَدّمَهُ ، فَصَلّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاَتِهِ اللّهُمّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِراً فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيداً أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ . رواه النسائي والحاكم .
وما كانت الدنيا تدخل إلى قلوبهم بل كانت في أيديهم ، وما كان في اليد فما أسرع أن يُلقى .(2/241)
روى البخاري عن سعيد بن مرجانة صاحب علي بن حسين قال : قال لي أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار . قال سعيد بن مرجانة : فانطلقت به إلى علي بن حسين ، فعمِد علي بن حسين رضي الله عنهما إلى عبدٍ له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار ، فأعتقه .
قال حماد بن زيد قال رجل لمحمد بن واسع أوصني . قال : أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة قال : كيف ؟ قال : ازهد في الدنيا .
هذا كان زهد القوم ، فكيف زهدنا اليوم ؟
لا تُعرضن بذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
القوم زهدوا في الفاني ، ونحن قد زهدنا ، ولكن في الباقي !
الدنيا كانت في أيدي القوم ، ونحن أُشربت قلوبنا حبّ الدنيا!
القوم تسابقوا وتسارعوا في الباقيات الصالحات
ونحن نتسابق ونُسارع في الفانيات الذاهبات !
تأمل في زهد كثير من الناس في الباقيات الصالحات ، ثم قارن ذلك بتسابقهم المحموم على مساهمة مشبوهة أو ربوية صريحة واضحة !
حدّث ابن عمر رضي الله عنهما : أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تبع جنازة فله قيراط . فقال ابن عمر : أكثر أبو هريرة علينا ، فصدّقت عائشة أبا هريرة ، وقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله . فقال ابن عمر رضي الله عنهما : لقد فرطنا في قراريط كثيرة . رواه البخاري ومسلم .
يرى أن أجوراً عظيمة فاتت عليه ، وفرّط فيها .
وكانوا يرون أن الدلالة على الأجور من المغانم التي تُهدى .(2/242)
قال محمد بن واسع قدمت مكة فلقيت بها سالم بن عبدالله بن عمر فحدثني عن أبيه عن جده عمر عن النبي أنه قال : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير . كَتَبَ الله له ألفَ ألفَ حسنة ورفع له ألفَ ألفَ درجة ، وبَنى له بيتا في الجنة قال محمد بن واسع : فقدمت خراسان ، فأتيت قتيبة بن مسلم فقلت : أتيتك بهدية ، فحدثته الحديث . قال : فكان قتيبة يركب في موكبه حتى يأتي السوق ، فيقولَها ، ثم ينصرف .
قال الذهبي : هذا إسناد صالح غريب . والحديث حسنه الألباني .
ولكننا نفتقد ذلكم الحسّ – إلا من رحم الله - .
بل نشاهد الزهد في الأجور العظيمة التي تُقدّر بمئات الألوف بل ربما بلغت الملايين ، ولعل تعجّل الحجاج يوم الثاني عشر أوضح شاهد على ذلك .
أما لو جلسوا في تلك البقاع الطاهرة ، والرحاب المباركة لأدركوا صلوات الواحدة منهن بمائة ألف صلاة .
بل قد نزهد في مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك في كفالة يتيم .
ونزهد في بناء قصر في الجنة ، أو نغرس نخلا لنا فيها ، أو نحصل على كنز من كنوزها .
ونزهد في دعاء ملائكة الرحمن ، في صبيحة كل يوم : اللهم أعطِ مُنفقاً خلفا .
ونستكثر أن نُنفق في وجوه البر والخير .
كل ذلك نزهد فيه ، ولكننا لا نستكثر أن نُنفق على مدار العام في لهو وباطل ، أو على أقل الأحوال فيما لا فائدة فيه .
قبل أيام رأيت شخصاً دخل سوقا من الأسواق ، واشترى ثلاث صُحف يومية ، وأكاد أجزم – من مظهره – أنه من صغار الموظفين !
فإذا كان يشتري الصحف بشكل يومي ، فكم هي نفقات تلك الصحف فقط ؟
السنة 354 يوماً × 6 ( قيمة 3 صحف ) = 2124 ريالاً
هذه قيمة ثلاث صحف لشخص واحد ! لسنة واحدة .
فكيف به لعشر سنوات أو لعشرين سنة ؟
2124 × 20 = 42480 ريالاً !
إنه مبلغ ليس باليسير .
وسوف يُسأل عن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيمَ أنفقه ؟(2/243)
ماذا لو قيل له : اكفل يتيماً ، مع أن كفالته السنوية قد لا تتجاوز ألف ريال ؟!!
أكاد أجزم أنه سوف يعتذر بقلّة ذات يده ، ومحدودية دخله !
ألا يستطيع أن يستغني عن صحيفة بل عن الصحف اليومية ؟؟؟
ماذا لو قيل له : خلّف مشروع صدقة جارية تجري لك بعد الموت ؟
لا تزيد نفقته على خمسة آلاف ريال ، وادفعها على أقساط !
فماذا سيكون الجواب حينها ؟!!
المُدخّن ... كم يُنفق على إتلاف صحّته ؟؟؟
مُدمن الأغاني ... كم يُنفق على أشرطة الأغاني ؟؟؟
وفي عالم المرأة – خاصة المرأة العاملة – حدّث ولا حرج !
مكياج وعطورات وكماليات و .... و .... و ....
وماذا لو قيل لها : أنفقي ؟!
لتبادرت الأعذار في ذهنها الواحد يسبق الآخر !!
وغيرها من الأمثلة التي تحتاج إلى وقفات ووقفات .
أليس هذا من الزهد في الآخرة ، والإقبال بِنَهمٍ على الدنيا ؟؟؟
ولا يعني هذا أن كاتب هذه الأسطر بريئاً مما قال !
كما لا يعني أنه لا يوجد من يُنفق ويبذل .
فأمة الإسلام لا زالت بخير – والحمد لله - .
فيا رب
إن زهدنا في الباقيات ، وتنافسنا في الذاهبات ، فاغفر لنا الزلاّت ، وتجاوز عن الخطيئات .
إلهي لا تعذبني فإني = مُقِرٌّ بالذي قد كان مني
وما لي حيلة إلا رجائي = لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا = وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها = عضضت أناملي وقرعت سني
أُجن بزهرة الدنيا جنونا = وأقطع طول عمري بالتمني
ولو أني صدقت الزهد عنها = قلبت لأهلها ظهر المجنِّ
يظن الناس بي خيراً وإني = لشرّ الخلق إن لم تعفُ عنِّي
( وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ )
209-رفعتَ اسمنا..
كنت أمشي في طريقي للمسجد ومعي ابني البالغ من العمر تسع سنوات ، فَلَفَتَ نظري علبة ورقية ( كرتون خضار ) كُتِب على ناحيتيه م . محمد عبد الله ... ( يعني مؤسسة محمد عبد الله ) .(2/244)
فوقفت وأخرجت ( الكرتون ) وقطعت الجوانب التي عليها لفظ الجلالة ثم عدت إلى البيت ورفعتها وأردت بذلك أمرين :
الأول : رفع اسم الله عن الامتهان والقاذورات .
والثاني : تربية الأبناء على تعظيم شعائر الله ، واحترام وإجلال اسم الله أن يُمتهن ، فلما قطعت الجوانب التي عليها لفظ الجلالة دفعتها إلى ابني وسألته : تدري لماذا قطعتها ؟ فنظر فيها وقرأ ما كتب قال : لأن فيها اسم الله .
وكنت قد عودتهم في البيت على رفع ما كان فيه اسم الله ووضعه في مكان خاص ، يتم من خلاله تعظيم اسم الله ورفعه ، وتربيتهم على ذلك .
ولي على تلك الكتابة ( كتابة لفظ الجلالة على العلب والصناديق والأكياس ) ملحوظتين :
الأولى : كتابة لفظ الجلالة على علب ومعلبات مصيرها حاويات المخلفات ، وصناديق القمامة ، فَعَلى من كان في اسمه أو اسم أبيه لفظ الجلالة مراعاة ذلك ، لئلا يُمتهن اسم الله تبارك وتعالى .
ويلحق بذلك ما إذا كان المحل يقع على شارع يكون لفظ الجلالة في اسم صاحب الشارع ، كـ ( شارع عبد الله بن عباس ) أو ( شارع عبدالله بن الزبير ) وما شابه ذلك ، فيُكتب على المغلّفات عنوان المحل دون أن يشعر بلفظ الجلالة ، فيؤدي ذلك إلى امتهانه من حيث لا يشعر .
ويلحق بهذا الأوراق الرسمية التي كُتِبت البسملة عليها ، فعندما يفرغ منها الموظف أو لا يكون له بها حاجة يمزقها ثم يرميها في سلة المهملات ، مع العلم أنه يوجد في كثير من المكاتب ( فرّامات ورق ) وبالتالي لا يكون للفظ الجلالة رسم في تلك الأوراق بعد تمزيقها .
وأعجبني أحد الموظفين فقد دخلت عليه في مكتبه وإذا عنده مظروف قد كتب علي ( القصاصات التي تشتمل على اسم الله ) وقد علق ذلك المظروف في المكتب بين زملائه ، ثم يجمعها ويقوم بإحراقها بنفسه .(2/245)
والثانية : أن كتابة اسم العلم واسم أبيه دون وجود فاصل ( ابن ) هو تقليد غربي ، إذ أن التبنّي الذي أبطله الإسلام لا زال موجودا عندهم وبالتالي يُضاف الاسم إلى الشخص دون لفظ ( ابن ) لأنه ليس ابنا على الحقيقة ، وهذا يقع عندهم حتى في إضافة الزوجات إلى الأزواج ، فالمرأة الغربية لا تحتفظ باسمها رغم دعاوى المساواة بين الجنسين !!
ويلحق بهذا كتابة اسم العائلة منسوبا إلى لفظ الجلالة كـ ( العبدالله ) أو ( العبد الرحمن ) وعليه فَقِس أسماء بعض العوائل التي في تنتسب إلى شخص اسمه معبّد لله .
وهذا يقتضي إضافة صفة الله إلى العبد ، فيُصبح العبد هو ( الرحمن ) مثلا . بخلاف ما إذا كانت النسبة ( آل عبد الرحمن ) ونحوها ، فلا محذور فيها ولا لبس .
وفي رفع اسم الله رفع لمن رفع اسم الله ورفعة له في الدنيا والآخرة ، والجزاء من جنس العمل .
قال محمد بن الصلت : سمعت بشر بن الحارث وسئل ما بال اسمك بين الناس كأنه اسم نبي ؟ قال : هذا من فضل الله وما أقول لكم ، كنت رجلا عيارا صاحب عصبة فجزت يوما فإذا أنا بقرطاس في الطريق فرفعته فإذا فيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فمسحته وجعلته في جيبي وكان عندي درهمان ما كنت أملك غيرهما ، فذهبت إلى العطارين فاشتريت بهما غالية [ نوعاً من الطيب ] ومسحته في القرطاس فنمت تلك الليلة ، فرأيت في المنام كأن قائلا يقول لي : يا بشر بن الحارث رفعت اسمنا عن الطريق وطيبته لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة ثم كان ما كان . رواه أبو نعيم في الحلية .
قال سعيد بن أبي سكينة بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلى رجل يكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال له : جوّدها فإن رجل جوّدها فغُفِر له . قال سعيد : وبلغني أن رجل نظر إلى قرطاس فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقبّله ووضعه على عينيه فغفر له . ذكره القرطبي في التفسير .(2/246)
ولا يعني هذا أنه كلما وجد المسلم ورقة فيها اسم الله رفعها وطيبها ، لكن عليه أن يرفع اسم الله ، وأن يُبعده عن الامتهان ، وأن يُربي أولاده على ذلك ، فلا تمتهن الكتب الدراسية والأوراق المحترمة التي فيها شيء من القرآن أو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بل حتى كراساتهم إذا كان في أسمائهم أو أسماء آبائهم لفظ الجلالة .
والصحف والمجلات لا تخلو من اسم الله عز وجل ، واسم الله شأنه عظيم ، فيجب أن يُحترم ، ولا يُمتهن .
ولذا فإنه لا يجوز اتخاذ الصحف سُفرة للطعام كما يفعل بعض الناس ، كما لا يجوز إلقائها في المزابل لما تشتمل عليه من اسم الله ، وأعظم منه إذا كانت تشتمل على شيء من الآيات القرآنية .
كما لا يجوز الدخول بالصحف أو المجلات المشتملة على اسم الله لدورات المياه وأماكن قضاء الحاجة لما فيه من امتهان لاسم الله عز وجلّ .
والله أعلم .
210-رُدِّي برَكَتَك..
في حديث النواس بن سمعان – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذَكَر نزول عيسى ابن مريم – عليه الصلاة والسلام – ، وخروج الدجال ومَقْتَلِه ثم هلاك يأجوج ومأجوج ثم قال :
ثم يُقال للأرض أنبتي ثمرتك ، وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرُّمانة ويستظلون بقحفها ، ويبارك في الرَّسْل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس . رواه مسلم .
قال الإمام أحمد : وُجد في بعض خزائن بني أمية حبة حنطة بحجم النواة ، مكتوب عليها : هذا ينبت في زمن العدل .
هكذا كان ، و ( هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إلا الإِحْسَانُ ) ؟
وما ربك بظلاّم للعبيد
ولكن الناس أنفسهم يظلمون
أنظر – بعين بصيرتك – إلى أثار الظلم .
كيف صغُرت معها الثمار
وكيف نقصت معها البركة
بل انظر إلى ظلم بني آدم لأنفسهم
كيف اسودّ الحجر الأسود من خطاياهم(2/247)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نزل الحجر الأسود من الجنة ، وهو أشد بياضاً من اللبن ، فسودته خطايا بني آدم . رواه الترمذي ، وصححه الألباني .
211- رجل تُصيبه السهام ولا يتحرك !!
عندما قرأت تلك القصة وقفت ... وتأملت ... وتعجبت
رجل تصيبه السهام ولا يتحرّك
من يكون ذلك الرجل ؟
أكان لا يُحس ؟!
أم كان نائماً ؟!
أم كان ميتاً ؟!
كلا
لا هذا ولا ذاك
بل كان واقفاً منتصباً صافاً قدميه متجها بقلبه وقالبه إلى القبلة
فتتابعت عليه السهام الواحد تلو الآخر
وهو ينزع السهام ولا يتحرك ولا يضطرب
ولولا خوفه على حبيبه ما تحرّك
أدع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدّثنا بالقصة
روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني في غزوة ذات الرقاع – فأصاب رجلٌ امرأة رجلٍ من المشركين ، فحلف – يعني المشرك – أن لا انتهي حتى أهريق دما في أصحاب محمد ، فخرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلا . فقال : من رجل يكلؤنا ؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ، فقال : كُونا بِفَمِ الشِّعب . قال : فلما خرج الرجلان إلى فَمِ الشعب اضطجع المهاجري ، وقام الأنصاري يصلي ، وأتى الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم ، فرماه بسهم ، فوضعه فيه ، فنزعه ، حتى رماه بثلاثة أسهم ، ثم ركع وسجد ، ثم انتبه صاحبه ، فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب ، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدمّ قال : سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى ؟ قال : كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها .
وفي رواية لأحمد :(2/248)
فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال : سبحان الله ألا أهببتني ؟ قال : كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها ، فلما تابع الرمي ركعت فأريتك ، وأيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها .
عجيب والله ... كم هو عجيب
أن يتعايش مع صلاته ومع كلام ربِّه حتى لا يأبه بالسهام !
ولولا خشية إضاعة ثغر وكّله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه ما قطع صلاته ولا قراءته حتى ولو خرجت روحه !
ولم تكن تلك حالة فريدة بل لها نظائر في حياة السلف
فهذا عروة بن الزبير يُحدّث عنه ابنه هشام فيُخبر أن أباه عروةَ بنَ الزبير وقعت في رجله الآكلة ، فقيل ألا ندعوا لك طبيبا ؟ قال : إن شئتم . فقالوا : نسقيك شرابا يزول فيه عقلك ، فقال : امض لشأنك ! ما كنت أضن أن خلقا يشرب ما يزيل عقله حتى لا يعرف ربّه !! فوُضِع المنشار على ركبته اليسرى ، فما سمعنا له حسا فلما قُطِعتْ جعل يقول : لئن أخذت لقد أبقيت ، ولئن ابتليت لقد عافيت .
وما ترك جزأه بالقرآن تلك الليلة .
ورده وجُزأه هو المهم عنده !
ولذا قال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم : إن في الصلاة لشغلا . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه .
وهذا عبد الله بن الزبير يُصلي في الحرم فيُرمى بالمنجنيق من قبل جيش الحجاج ، فما يتحرك ولا يضطرب وهو في صلاته !
وهذا ميمون بن حيان يقول : ما رأيت مسلم بن يسار متلفتاً في صلاته قط خفيفة ولا طويلة ، ولقد انهدمت ناحية المسجد ففزع أهل السوق لهدته ، وإنه لفي المسجد في صلاة فما التفت .
ألا تعجون معي ؟!
كيف هي صلاة القوم ؟؟
وكيف حضور قلوبهم في الصلاة ؟
فكيف هي صلاتنا اليوم ؟!!
لا تُعرضن بذكرنا مع ذكرهم = ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد !(2/249)
إنما نقضي أعمالنا ، وننجز مشاريعنا ، ونبني بيوتنا ، ونفتح أسواقنا ، بل ربما أصلحنا ما تعطّل أو فسد أو انكسر في بيوتنا ونحن في صلاتنا !!!
لا تُعرضنّ ..!!
فننصرف ولا ندري كم صلينا
وننصرف ولم تؤثر فينا صلاتنا
ثم نتساءل أليس ربنا قال في محكم كتابه : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) فما بالنا لا ننتهي عن كل فحشاء وكل منكر ؟
تردّ علينا صلاتنا
ألم يقل ربنا في أول الآية : ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ ) وهنا بعد تأتي ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )
فها هو حال القوم تلاوة بخشوع وتدبّر مع إقامة للصلاة وليس مجرّد أداء بل إقامة تامة حسنة كما تُقام القداح وتصفّ فهذه الصلاة هي التي تؤتي أكلها بإذن ربها ، وهي التي تنهى فعلاً عن الفحشاء والمنكر .
" إن الرجل ليصلي ثم ينصرف ما كتب له إلا نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها ثمنها تسعها عشرها "
فكم لك من صلاتك ؟
وكم لي من صلاتي ؟
ليس لنا منها إلا ما عقلنا ووعينا وأدركنا
رحماك ربنا رحماك ما عبدناك حق عبادتك
212- رأيتهن ... في صحراء قاحلة !
من شمال المملكة إلى جنوبها
امتطيت صهوة سيارتي
قطعت المفاوز
وجُزت القفار
وفي منتصف الطريق
رأيتهن ... !!
منهن من وقفت !
ومنهن من جلست
يترقبن الحدث
ينتظرن يوماً مشهوداً
تذكرت وقوف الناس
واجتماعهم وازدحامهم في الميقات
ثم أجَلْتُ النظر فإذا :
هذا واقف وذاك جالس وثالث يمشي
ورابع قد اتكأ على أريكته يبتغي من فضل الله
وخامس يشهد منافع له
وسادسة تجلب بضاعتها ... وهكذا
زحام شديد
في برد ومكان بعيد
لا تتوفر فيه وسائل الراحة بل وسائل الحياة
قد اختلط الحابل بالنابل
واجتمع رجال ونساء
وأناسيّ وأنعام !!
وكان يُجمع لذلك اليوم المشهود من منتصف شهر رمضان !
كان ذلك في جوف تلك الصحراء القاحلة
حيث تنقطع ظهور المطيّ(2/250)
وحيث يهلك أناسٌ تنقطع بهم وسائل المواصلات
فتساءلت والأسى يمضع القلب
والألم يعصر الفؤاد
ما الذي جَمَعَ هؤلاء ؟؟
ولِمَ اجتمعوا ؟؟
وكيف اجتمعوا في هذا المكان ؟؟
وفي هذا الوقت بالذات ؟؟
فجاء الجواب ليزيد الحرقة حرقة
ويجعل الأسى مآسي
جاء الجواب وليته لم يأت !
جاء الجواب :
إنما اجتمع هؤلاء
وازدحم أولئك
وتجمهر هذا الجمع
لاختيار ملكة جمال
ملكة جمال ؟!
إي ورب الكعبة !
لكنها من نوع آخر
ومن عالم آخر
لها خدٌّ أسيل !!
وطرف ليس بالكحيل !!
وجِيِدٌ طويل لو تعلق به صبيٌّ لحمله !!
كان ذلك المشهد لمرور على ميدان فسيح
لاختيار ملكة جمال الإبل !!!
إيهٍ أمتي
إيه أمتي
بُنيّاتك تُنتهك أعراضهن في كشمير
وأبناؤك تُراق دماؤهم في فلسطين
وتسفك على ثرى الشيشان
وتهراق على ذرى جبال أفغانستان
وفئام من أبناءك يهرعون خلف ناقة !!
يقيمون ثمنها بالملايين !!
وتحصد الجوائز !!
وتفوز بالسيارات !!
فآهٍ ثم آه
بل ألف آه
بل مليون آه
لو كان خلال الرماد وميض نار
ولكن لا حياة لمن تنادي
أيا أمتي
أليس صديق هذه الأمة قد أنفق ماله في سبيل الله
وليس في سبيل ناقة أو باقة
ألستِ من هدم الأصنام ولو كانت من ذهب ؟؟
أليس بَنُوكِ من ركلوا أكوام الأموال ؟؟
أليسوا كما قال إقبال :
كُنّا نرى الأصنام من ذهب **** فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
أين تكالب أولئك على حطام الدنيا وزخرفها
أين هم عن المساجد ؟؟
أين هم عن رياض الجنة وحلق الذِّكر ؟؟
أين ... أين ؟؟
أين هم عن ساحات الوغى ؟؟
فلو حلفت لما حنِثت
أن لو نادى منادي الجهاد
لقعدوا مع القاعدين
ولقالوا : ذرنا نكن مع القاعدين
ولقالوا : شغلتنا أموالنا وأهلونا
ولأوجدوا آلاف الأعذار
للقعود أو الفرار
يا أمتاه
ذاك ماضيك وهذا حاضرك
ذاك مجدٌ صنعه طُلاّب الآخرة
وهذا زيفٌ صنعته أيدي طلاّب الدنيا !!
وشتان شتان
بين عباد الدنيا ... وعباد الرحمن
ويا أمتي
يا أمتي لست عقيمة *** ما زلتِ قادرة على الإنجاب..(2/251)
213-ذهبت ربّات البيوت بالأجور ... !
تطبخ
تغسل
تكنس
تُعنى بشؤون بيتها
تتعب من أجل الجميع
تُرضع أطفالها
تُربي أولادها
تحفظ زوجها إن غاب
تسرّه إذا نظر
لا تخرج للجمعة والجماعة
لا يجب عليها الجهاد بالسيف
لكنها تُشارك الرجل في الأجر
كيف ذلك ؟
تُجيب عليه وافدة النساء
أسماء بنت يزيد الأنصارية التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت :
بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك وأعلم - نفسي لك الفداء - أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي .
إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك ، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات .
قواعد بيوتكم
ومقضى شهواتكم
وحاملات أولادكم
وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحج بعد الحج ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله .
وإن الرجل منكم إذا أخرج حاجا أو معتمرا ومرابطا حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أولادكم
فما نشارككم في الأجر يا رسول الله ؟
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ، ثم قال :
هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه ؟
فقالوا : يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا .
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها : انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تَبَعّل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته تعدل ذلك كله .
فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا .
رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وهو في تاريخ واسط .
قال ابن الأثير :
التَّبَعُّل : حسْن العِشْرة .
فإذا قَصَرت المرأة معنى العبادة على الركوع والسجود فحسب فاتها الأجر العظيم .
لأنها تتصور أن العمل في البيت وخدمة الزوج وحسن المعاشرة وتربية الأولاد تظن أن ذلك كله ليس من العبادة في شيء .(2/252)
وهذا قصور في تصوّر العبادة .
وإذا نظرنا في تعريف العبادة نجد أنها – كما قال شيخ الإسلام - :
هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والآمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة ، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله .
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خَلَق الخلق لها ، كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، وبها أُرسل جميع الرسل . انتهى كلامه – رحمه الله – .
فأنت أخيه في عبادة ما دمت في خدمة زوجك وبنيك
طالما أنك في طلب مرضاته
وما زلت في إحسان معاشرته
فهنيئاً لك الأجر في قعر بيتك بشرط :
احتساب الأجر
و
إحسان النيّة
ختاماً :
لا أُعدم منك دعوة بظهر الغيب
والله يتولاكِ .
214-خذوا زينتكم..
لكل حادث حديث ، كما يُقال .
وقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى بأخذ الحذر حال الحرب ، وبأخذ العدة عند القتال ، وبأخذ الأسلحة حال الخوف ، وبأخذ الزينة عند كل صلاة ، وهذا الأخير ما سأكتب عنه في هذه العجالة .
إن المتأمل لأحوال بعض المصلين يجد عجباً .(2/253)
فهذا يأتي إلى المسجد بقميص نومه ، وذاك بزي عمله ، وثالث بثياب مهنته ، وآخر بملابس الرياضة غير آبهين بما سيُقدمون عليه – وهو الوقوف بين يدي الله سبحانه – بينما تراهم جميعاً يلبسون أفضل ثيابهم عند حضور مناسبة أو إجابة وليمة ، ولو دُعي أحدهم لمقابلة مسؤول – أياً كان هذا المسؤول – لأخذ كامل زينته ولبس أجمل ما عنده من الثياب ، وتهندم أحسن هندام ، ووقف أمام المرآة ، واستشار أخاه أو صديقه وتعطّر بأزكى العطور وأرقاها . كل ذلك ليبدوا جميلاً لمن رآه ، ولا غرابة في ذلك فالله جميل يحب الجمال . والنفس تحب التجمل وتحبِّذه .
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بأخذ الزينة عند كلّ صلاة ، فقال : ( يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )
قال ابن كثير : ولهذه الآية وما ورد في معناها من السُّنّة يستحب التجمّل عند الصلاة ، ولاسيما يوم الجمعة ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة ، والسواك لأنه من تمام ذلك ، ومن أفضل اللباس البياض .
قال نافع : تخلفت يوما في علف الركاب ، فدخل عليّ ابن عمر ، وأنا أصلى في ثوب واحد ، فقال لي : ألم تُكْسَ ثوبين ؟ قلت : بلى . قال : أرأيت لو بعثتك إلى بعض أهل المدينة ! أكنت تذهب في ثوب واحد ؟ قلت : لا . قال : فالله أحق أن يُتجمّل له أم الناس ؟
وعن نافع قال : رآني بن عمر ، وأنا أصلى في ثوب واحد ، فقال : ألم أكسك ؟ قلت : بلى . قال : فلو بعثتك كنت تذهب هكذا ؟ قلت : لا . قال : فالله أحق أن تتزيّن له .
ولا يُلام المسلم على أخذ زينته فليس لبس المرقع قُربة ، ولا ارتداء الثياب البالية سُنّة .(2/254)
والتّجمّل مطلوب على كلّ حال ، ابتداءً من التّجمل للصلاة والوقوف بين يدي الله ، إلى التجمّل للمناسبات ، والتّجمّل لزيارة الإخوان ، والتّجمّل للزوجة ، كما قال ابن عباس : إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ؛ لأن الله تعالى يقول : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) [ وسأفرد موضوعا للتجمل بين الزوجين ]
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الراوي فأدركت من آخر حديثه وهو يقول : يا رسول الله قد قُسِمَ لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما ، أفليس ذلك هو البغي ؟ قال : لا ، ليس ذلك بالبغي ، ولكن البغي من بطر - قال أو - قال : سفه الحق وغمط الناس . والشراك هو سير النعل .
وعند أبي داود عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم - وكان رجلا جميلا - فقال : يا رسول الله إني رجل حُبِّبَ إليَّ الجمال ، وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك نعلي وإما قال بشسع نعلي ، أفمن الكبر ذلك ؟ قال : لا ولكن الكبر من بطر الحق ، وغمط الناس .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجمّل للوفود .
قال الإمام البخاري – رحمه الله – باب التجمل للوفود .
ثم ساق بإسناده عن ابن عمر قال : وَجَدَ عمر حُلة استبرق تُباع في السوق ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ابتع – أي اشتر – هذه الحلة فتجمل بها للعيد وللوفود . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هذه لباس من لا خلاق له . الحديث .
وإنما أنكر عليه نوع الحلّة لا التّجمل للعيد والوفد .
وقال البراء رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعا ، وقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئا أحسن منه . متفق عليه .
وليست الحلّة المذكورة هنا حمراء خالصة .(2/255)
وفي قصة مناظرة ابن عباس للخوارج ، قال ابن عباس : فخرجت إليهم ولبست أحسن ما يكون من حلل اليمن . قال أبو زميل : كان بن عباس جميلا جهيراً . قال ابن عباس : فأتيتهم وهم مجتمعون في دارهم قائلون ، فسلّمتُ عليهم فقالوا : مرحبا بك يا ابن عباس . فما هذه الحلة ؟! قال : قلت : ما تعيبون عليّ ، لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحُلل .
قال صالح بن أبي حسان : سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود ؛ فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود . رواه الترمذي .
وجاء عبد الكريم أبو أمية إلى أبى العالية وعليه ثياب صوف ، فقال أبو العالية : إنما هذه ثياب الرهبان ! إن كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا . رواه البخاري في الأدب المفرد .
ويتأكّد التّجمّل إذا كان يوم الجمعة ، فقد استفاضت الأحاديث في هذا الباب ، وهي مشهورة معلومة – إن شاء الله - .
قال ابن أبي ليلى : أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أصحاب بدر وأصحاب شجرة إذا كان يوم الجمعة لبسوا أحسن ثيابهم ، وإن كان عندهم طيب مسّوا منه ، ثم راحوا إلى الجمعة .
فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب تعظيم شعائر الله ، فلا تؤتى المساجد إلا برائحة طيبة زكية ، ولباس نظيف ساتر – وسواء في ذلك الكبار والصغار - ، لا أن يأتي المصلِّي إلى المسجد وكأنه خارج إلى البقالة أو داخل غرفة نومه !
إن تعظيم شعائر الله – جل وعلا – مطلب شرعي ، وضرورة مُلِحّة ، ذلك أن المساجد بيوت الله وتعظيمها من تعظيم من تُنسب إليه .
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب)..
215-حوار طريف بين وثني ونصرانية !!!
قبل سنوات قدِم إلى فرنسا شخص وثني من تشاد .
كان هذا الوثني حاصل على شهادة " الدكتوراه " ، وجاء إلى فرنسا ليُكمل بعض البحوث والدراسات .
أقام في فرنسا حتى يُنهي دراساته وبحوثه(2/256)
وفي يوم من الأيام دخل أحد المطاعم الفرنسية … حضرت " النادلة " لتُلبي له طلباته
طلب عدة أصناف لم يكن بينها " لحم الخنزير " .
لمحته الفرنسية وهي تضع الطعام ، تأملت في وجهه … لا يبدو مُسلماً .
لما وضعت الطعام بين يديه استأذنته بسؤال ، فأذن لها ، وطلب منها أن تجلس ليُحادثها .
قالت : هل أنت مسلم ؟
قال : لا .
قالت : لماذا لا تأكل لحم الخنزير ؟ المسلون وحدهم هم الذين لا يأكلونه .
رد عليها بسؤال : هل لحم الخنزير هو أحسن لحم ؟
قالت : طبعاً . لا
قال : هل هو الطعام الوحيد ؟
ردّت هي : لا .
قال : إذن هذه حُريّة ، وأنا آكل ما شئت !
ثم قال الدكتور الوثني للفرنسية النصرانية : أنتم ليس عندكم دِين !
قالت : كيف ذلك ؟
قال : من أين جاءتكم النصرانية ؟
أليس من الشرق ؟
ألستم تعتقدون أن عيسى وُلِد في فلسطين ؟
قالت : نعم .
قال : فهذا ليس دينكم ! هذا دين شرقي !
واليهودية دين شرقي !
فهذه أديان دخيلة عليكم !
ثم أردف قائلاً :
أنتم لا تُحبون الفلسطينيين . أليس كذلك ؟
قالت : نعم
قال : كيف تدّعون محبة السيد المسيح الذي وُلِد في فلسطين ، ولا تُحبّون أهل بلده ؟؟!!!
وضعت يدها على خدّها ، ثم حكّت رأسها ، وأطرقت في حيرة من أمرها !!!
عندها استغل الدكتور الوثني الموقف للدعوة لِدِينِه !!
فقال : كوني مثلي !
قالت : وكيف ؟
قال : نعبد ما شئنا !
ليس لنا رب واحد ولا إله معيّن !
نعبد النار … نعبد الحشرات … نعبد الأشجار !!
لا أحد يقول هذه ديانتنا !
انقلب رأس الفرنسية بعد هذا الحوار الذي لم يستغرق سوى دقائق أثناء تناول الوثني لوجبة طعام !
وفي المساء رجعت إلى بيتها وأخذت تناقش زوجها بما ناقشها به الوثني !
زوجها يُدعى " ميشل "
" ميشل " صار كل مساء يتعرض لنوبة صداع إثر نقاش حادٍّ بينه وبين زوجته .. التي يُصدع رأسها نتيجة نقاش الدكتور الوثني .. الذي أصبح يتردد على المطعم ، فقلب رأس الفرنسية ! فانقلبت رأساً على عقب !(2/257)
" ميشل " صار يطلب من زوجته البحث عن عمل آخر !! سلامة لِدِينها !! وإبقاءً على رأسه !!
هذه القصة حدّثني بها مسلم أفريقي يُقيم في فرنسا ، وقد شهِد بعض فصول القصة .
سُقت هذه القصة لطرافتها ، من باب " الإحماض " الذي كان يقول عنه ابن عباس رضي الله عنهما .
فقد كان ابن عباس يقول لأصحابه إذا داموا في الدرس : أحمضوا . أي ميلوا إلى الفاكهة ، وهاتوا من أشعاركم .
وعليكم البحث في طيّات القصة عن فائدة .
216-حريص عليكم ...
وصفه
ربُّه
بذلك
فقال : ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )
هذا من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن .
( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) يشق عليه ما يشقّ عليكم ، وما يُسبب لكم العَنت ، وهو الحرج والمشقّة .
( حَرِيصٌ عَلَيْكُم )
وسبب ذلك الحرص رحمته بالمؤمنين ورأفته بهم .
وقد جاء في وصفه صلى الله عليه وسلم :
( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ )
ولعلي أستعرض شيئا من حرصه عليه الصلاة والسلام على أمته .
فمن صور حرصه صلى الله عليه وسلم :
حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته يوم القيامة :
قال عليه الصلاة والسلام : إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض – ثم ذكر مجيئهم إلى الأنبياء – فقال :
فيأتونني فأقول أنا لها ، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول : يا رب أمتي أمتي ... الحديث . رواه البخاري ومسلم .
ودعوى الأنبياء يومئذٍ : اللهم سلّم سلّم .(2/258)
قال أبو عبدالرحمن السلمي – في قوله تعالى ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )
قال – رحمه الله – :
انظر هل وصف الله عز وجل أحدا من عباده بهذا الوصف من الشفقة والرحمة التي وصف بها حبيبه صلى الله عليه وسلم ؟ ألا تراه في القيامة إذا اشتغل الناس بأنفسهم كيف يدع نفسه ويقول : أمتي أمتي . يرجع إلى الشفقة عليهم . اهـ .
حرصه على هداية أمته :
قال عليه الصلاة والسلام لما تلا قول الله عز وجل في إبراهيم ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) وقول عيسى عليه السلام ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فرفع يديه وقال : اللهم أمتي أمتي وبكى ، فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك ، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم ، فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك . رواه مسلم .
حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الناس أجمع :
كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه ، فقال له : أسلم ، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . رواه البخاري .
مع أنه غلام يهودي ، ولم يعد خادما للنبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه الحرص على هداية الخلق .
حرصه صلى الله عليه وسلم على عدم المشقّة عليهم في التكاليف :
في الصلاة :(2/259)
لما فُرضت الصلاة على أمته خمسين صلاة ، استشار موسى عليه الصلاة والسلام ، فقال موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم .
فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُراجع ربّه حتى خفف الله عن هذه الأمة فصارت خمس صلوات .
ولما أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال : إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي . رواه مسلم
ولما صلى في رمضان ، وصلى رجال بصلاته ، ترك القيام في الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال : أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها . متفق عليه .
في الحج :
لما قال عليه الصلاة والسلام : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ، ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه . رواه مسلم .
في السنن :
لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة .
وفي رواية : لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة . رواه البخاري ومسلم .
شفقته بنساء أمته :
قال عليه الصلاة والسلام : إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي ، فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشق على أمِّه . رواه البخاري .
حرصه على مراعاة نفسيات أصحابه :
قال عليه الصلاة والسلام : لولا أن أشق على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله ، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي . رواه البخاري ومسلم .
حرصه صلى الله عليه وسلم على شباب أمته :(2/260)
حدّث مالك بن الحويرث رضي الله عنه فقال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين ليلة ، - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا - فظن أنا قد اشتقنا أهلنا ، فسألنا عن من تركنا من أهلنا ، فأخبرناه ، فقال : ارجعوا إلى أهليكم ، فأقيموا فيهم ، وعلموهم ، ومروهم . متفق عليه .
فاللهم صلِّ وسلّم وزد وأنعم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم .
اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبيّاً عن أمته .
اللهم احشرنا في زمرته ، وأوردنا حوضه ، واسقنا من يده الشريفة .
217-حرام نفرح ؟
عندما يحصل لبعض الناس ما يسرّه من أمور دنياه ، فإنه يفرح فرحاً شديداً !
فرحاً يُصاحبه أشر وبَطَر ، يرتكب معه ما حرّم الله .
وعندما يُنكر عليه يردّّ مستغربا : حرام نفرح ؟!
وهذه كلمة سمعناها كثيراً ، ولا زلنا نسمعها بين حين وآخر .
لقد ذمّ الله الفرح في كتابه ، وهو الفرح الذي يُصاحبه أشر وبَطَر .
قال سبحانه وتعالى عن قارون : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )
قال المؤمنون منهم : يا قارون لا تفرح بما أوليت ، فتبطر .
قال مُجاهد : المرحين الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
لماذا مُنِع الفرح هنا ؟
لأن الفرح والأشر والبطر يقود إلى نسيان الآخرة وبالتالي الإفساد في الأرض ، من أجل ذلك قال الله عز وجل بعد ذلك مباشرة : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )(2/261)
وقال الله عز وجل عن سليمان عليه الصلاة والسلام وبلقيس : ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ )
يعني أنتم تفرحون بهذه الأمور التي لا أحفل بها .
قال ابن كثير رحمه الله : أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف ، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف .
إن الذي يفرح في الدنيا فرحاً يُخرجه إلى الأشر أو إلى أن يرتكب ما حرّم الله تطول حسرته يوم القيامة
ولذا قال الله عز وجل عن أصحاب الشمال : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ) لماذا ؟ ( إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُور )
فلما أكثر الفرح في الدنيا ، طالت حسرته في الآخرة .
قال ابن كثير : ( كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) أي فرحاً لا يُفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه ، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل . اهـ .
ومن على شاكلته يختال ويتبختر
قال عز وجل : ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى )
وأما أصحاب اليمين فقال عز وجل : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا )
لماذا لأنه كان في الدنيا خائفاً وجِلاً ، ومن كان كذلك لم يُخرجه فرحه إلى الأشر والبطر .
وهذا من عدِل الله سبحانه وتعالى .(2/262)
ولذا قال عليه الصلاة والسلام فيما يروي عن ربه جل وعلا قال : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين ؛ إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة . رواه ابن حبان .
قال الله جل جلاله : ( أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ؟؟
إن الفرح يجب أن يكون بكتاب الله عز وجل وباتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
قال تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )
لما قدم خراج العراق إلى عمر بن الخطاب خرج عمر ومولى له فجعل عمر يَعدّ الإبل ، فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل عمر يقول : الحمد لله ، وجعل مولاه يقول : يا أمير المؤمنين هذا من فضل الله ورحمته ، فبذلك فليفرحوا . فقال عمر : كذبت ليس هو هذا ، يقول الله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) يقول بالهدى والسنة والقرآن فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ، وهذا مما يجمعون . رواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان .
وقد بكى أُبي بن كعب رضي الله عنه فرحاً بأن ذُكِر في الملأ الأعلى .
قال صلى الله عليه وسلم لأُبيّ رضي الله عنه : إن الله أمرني أن أقرأ عليك قال آلله سماني لك قال الله سماك لي قال فجعل أبي يبكي . رواه البخاري ومسلم .
طفح السرور عليّ حتى إنني *** من عظم ما قد سرني أبكاني
وانظر بعين بصيرتك إلى فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونبي الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة فاتحاً وذقنه يكاد يمسّ رحله من تواضعه لله عز وجل ، مع أنه في موطن نصر وعِزّ وتمكين وغلبة على أعدائه .
ومع ذلك دخل مُتخشِّعاً خاضعاً لله ، لم يدخل دخول الفرحين الأشِرين .(2/263)
قال عبد الله بن مغفل رضي الله عنه : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجِّع .
وفي رواية : يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح - أو من سورة الفتح - قراءة لينة يقرأ وهو يرجِّع . رواه البخاري .
لقد طأطأت له أعناق صناديد قريش ، وذّلت له رؤوس طالما انتفشت وانتفخت بالكبر والكُفر !
وقبل ذلك حدّث له النصر المُبين في يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله وأذلّ فيه الكفر وأهله ، في ذلك اليوم المشهود ، يوم بدر .
ولعمر الحق إن كان من شيء يستحق الفرح والبطر إنه لذلك النصر المبين .
إلا أنه لم يُسمع للجيش صراخ وعويل أو بطر وطغيان كما تفعل جيوش الظالمين إذا غَلَبت ، أو حققت نصراً ولو موهوماً !
ولذا لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقيهم المسلمون يهنئونهم بفتح الله عليهم ، فقال سلمة بن سلامة بن وقش : ما الذي تهنئون به ؟ والله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبُدن المعلّقة ننحرها ! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا ابن أخى أولئك الملا من قريش . رواه الحاكم في المستدرك ، وصححه على إرساله .
فما حملهم النصر والعِزّ على الأشر والبطر ، كما فعلت قريش حين أقبلت إلى أرض المعركة ، فإنها أقبلت بفخرها وخيلائها ، ورجعت بذلِّها وخيبة آمالها !
ولقد كان سلف هذه الأمة ينهون عن الفرح المؤدّي للأشر والبطر
فقد رأى الفضيل بن عياض رجلا يضحك ، فقال له : ألا أحدثك حديثا حسنا ؟ قال : بلى . قال : ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )
وقيل ليوسف بن أسباط : ما غاية الزهد ؟ قال : لا تفرح بما أقبل ، ولا تأسف على ما أدبر . قيل : فما غاية التواضع ؟ قال : أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحداً إلا رأيت أنه خير منك .
لأن هذه الدنيا طُبِعت على كدر
فما يُفرح به اليوم قد يُساء به غداً
فقد يولد المولود اليوم ويُفرح به ، وقد يموت غداً(2/264)
ولذا قيل :
ولدتك أمك يا بن آدم باكيا = والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمد إلى عمل تكون إذا بكوا = في يوم موتك ضاحكا مسرورا
218-حتى تكون عند ربك مرضيا..
لما أثنى الله عز وجل على إسماعيل قال :
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا )
فهل تريد أن تكون عند ربّك مرضيّاً ؟
إن رضا الله عز وجل مطلوب مُدرَك
ورضا الناس مطلوب لا يُدرك
قال سهل بن أبي سهل الحنفي – شيخ الشافعية بخراسان - : إذا كان رضا الخلق معسوراً لا يُدرك ، كان رضا الله ميسوراً لا يُترك ، إنا نحتاج إلى إخوان العشرة لوقت العُسرة .
فالخلق إن قصّرت في حقّهم غضبوا
وإن أسأت لم يغفروا
وإن زللت لم ينسوا !
قال ابن حزم رحمه الله : وأنا أعلمك أن بعض من خالصني المودة ، وأصفاني إياها غاية الصفاء في حال الشدة والرخاء ، والسعة والضيق ، والغضب والرضا تغير عليّ أقبح تغير بعد اثني عشر عاماً متّصلة في غاية الصفاء ، ولسبب لطيف جداً ما قَدّرت قط أنه يُؤثر مثله في أحد من الناس ، وما صلح لي بعدها ، ولقد أهمني ذلك سنين كثيرة هماً شديداً . اهـ .
إن اجتهدت في طلب رضاهم عدّوك طيّباً مسكينا !
أو ظنّوك تريد منهم مصلحة لنفسك !
وإن أرادوا منك شيئا لم يعذروك
وإن طلبوا منك حاجة وجب عليك تلبيتها
وإلا كنت الذي لا نفع فيه !
قال ابن القيم رحمه الله :
غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم منك ، وإن أضرّ ذلك بدينك ودنياك ، فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرّتك ، والرب تبارك وتعالى إنما يريدك لك ، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته ، ويريد دفع الضرر عنك ، فكيف تعلق أملك ورجاءك وخوفك بغيره ؟ اهـ .
أمّا ربك سبحانه وتعالى فيُريد منك أيسر من هذا
يُريدك لك – كما قاله العالم الرباني –
يُريدك لنفسك .. لنفعك .. لحاجاتك(2/265)
يُريد منك - حتى يرضى عنك - أن تعبده ولا تشرك به شيئا
يقول الله لأهون أهل النار عذابا : لو أنّ لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم . فيقول : فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم ؛ أن لا تشرك بي ، فأبيت إلا الشرك . رواه البخاري ومسلم .
يُريد منك كلمات معدودات في كل يوم فيرضى عنك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ؛ إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي في الكبرى .
وأهون من ذلك أن تشرب شربة من الماء فتحمد ربّك عليها
أو تأكل أكلة فتحمد الله عليها فيرضى عنك ملك الملوك وديّان يوم الدّين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها . رواه مسلم .
ثم تأمل الخصال التي ذكرها الله عز وجل في صفات إسماعيل عليه الصلاة والسلام
فأول صفة ذكرها أنه صادق الوعد ، يفي بوعده مع ربّه ومع الناس .
وتأمل كيف قدّم هذه الصِّفة على إقامة الصلاة والزكاة والأمر بهما ؟
كما قدّم الله عز وجل في صفات المؤمنين الإعراض عن اللغو على إقامة الزكاة وعلى حفظ الفروج
( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) الآيات .
مما يدلّ على أهمية هذه المعاني الجميلة والأخلاق الفاضلة في شريعة الإسلام .
فاطلب رضا من إذا رضي أثابك وأرضاك..............
219-جوانب مشرقة وصفحات مضيئة من حياة الجاهلية الأولى !!
لست مُمجّداً للجاهلية الأولى ، ولا مُثنياً على أهلها !
وإنما أردت أن أُبرز بعض الجوانب التي افتقدتها جاهلية الألفية الثالثة !(2/266)
وحتى لا يعترض عليّ معترض أود التذكير بأن النبي صلى الله عليه على آله وسلم قال : إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، وفي رواية : لأتمم صالح الأخلاق (1) .
فالتتميم لا يكون إلا على شيء موجود ، ويحتاج إلى تكميل ، فكُن – رعاك الله – على ذِكرٍ من ذلك .
لقد كانت هناك جوانب مشرقة ، وصفحات مضيئة
فلقد كان للجوار حقّه عند أهل الجاهلية
وكان للوفاء بالعهد والذِّمة قدره
وكانت الرُّسل لا تُقتل ، وهذه أعراف دولية !
وكان للحرم حُرمته وتعظيمه
وكان للحياء نصيب بقية
وإلى تفصيل ذلك
فقد ذكر أهل السيَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره فقال : أنا حليف ! والحليف لا يجير . فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال : إن بني عامر لا تجير على بني كعب ! فبعث إلى المُطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك ، ثم تسلح المُطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطاف بالبيت وصلى عنده ، ثم انصرف إلى منزله .
وكان الإنسان إذا أجار شخصا اُحتُرِم ذلك الجوار وما يجرؤ عليه أحد(2/267)
لما ابتلي المسلمون في مكة واشتد البلاء خرج أبو بكر – رضي الله عنه – مهاجراً قِبل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدّغِنة وهو سيد القارة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . قال ابن الدغنة : إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج ، فإنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكَلّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار . فارجع فاعبد ربك ببلادك ، فارتحل ابن الدغنة ، فرجع مع أبي بكر ، فطاف في أشراف كفار قريش ، فقال لهم : إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج . أتُخرجون رجلا يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويَقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة ، وآمنوا أبا بكر ، وقالوا لابن الدغنة : مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره ، فليصل ، وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا بذلك ، ولا يستعلن به . فإنا قد خشينا أن يَفْتِنَ أبناءنا ونساءنا . قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يُعجبون وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة ، فقدم عليهم فقالوا له : إناكنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره ، وإنه جاوز ذلك ، فابتنى مسجدا بفناء داره ، وأعلن الصلاة والقراءة ، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأتِه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْهُ أن يردَّ إليك ذمتك فإنّا كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرّين لأبي بكرٍ الاستعلان . قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال : قد علمت الذي عقدت لك عليه ، فإما أن تقتصر على ذلك(2/268)
، وإما أن ترد إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفِرت في رجل عقدت له . قال أبو بكر : إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله . رواه البخاري .
والشاهد هنا :
فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة ، وآمنوا أبا بكر .
فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفِرت في رجل عقدت له .
ولما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة قال : والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يَلقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي ! فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له : يا أبا عبد شمس وَفَتْ ذمّتك ، وقد رددت إليك جوارك . قال : لِمَ يا ابن أخي ! لعله آذاك أحد من قومي ؟ قال : لا ولكني أرضى بجوار الله عز وجل ، ولا أريد أن أستجير بغيره . قال : فانطلق إلى المسجد فاردد عليّ جواري علانية ، كما أجرتك علانية . قال : فانطلقا ثم خرجا حتى أتيا المسجد ، فقال لهم الوليد : هذا عثمان قد جاء يرد على جواري . قال لهم : قد صدق . قد وجدته وفيّاً كريم الجوار ، ولكني قد أحببت أن لا أستجبر بغير الله ، فقد رددت عليه جواره ، ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة في المجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد وهو ينشدهم :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل .
فقال عثمان : صدقت . فقال : وكل نعيم لا محالة زائل(2/269)
فقال عثمان : كذبت ! نعيم أهل الجنة لا يزول . قال لبيد بن ربيعة : يا معشر قريش والله ما كان يُؤذى جليسكم . فمتى كان هذا ؟ فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا ! فلا تجِدنّ في نفسك من قوله . فَرَدّ عليه عثمان حتى سرى - أي عظم - أمرهما ، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضّرها ! والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال : أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنيّة ، فقد كنت في ذمة منيعة ! فقال عثمان : بلى والله ! إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله ، وإني لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس . فقال عثمان بن مظعون فيما أصيب من عينه
فإن تكُ عيني في رضا الرب نالها ***يدا ملحد في الدين ليس بمهتد
فقد عوّض الرحمن منها ثوابه *** ومن يُرضه الرحمن يا قوم يسعد
فإني وإن قلتم غوي مُضلل *** سفيه على دين الرسول محمد
أريد بذاك الله والحق ديننا *** على رغم من يبغي علينا ويعتدي
وهذا من احترام العهد والجوار .
وكانت الرسل لا تُقتل ، وهذا يكاد يكون من الأعراف الدولية من قبل الإسلام !
جاء بن النّوّاحة وابن آثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما : أتشهدان أني رسول الله ؟ قالا : نشهد أن مسيلمة رسول الله ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آمنت بالله ورسله . لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما . قال عبد الله بن مسعود : فمضت السنة أن الرسل لا تُقتل . رواه الإمام أحمد .
وجاء في رواية عند الدارمي أن ابن مسعود – رضي الله عنه – لقي النّوّاحة فضرب عنقه . فقالوا له : تركت القوم وقتلت هذا ؟ فذكر القصة .
فابن النّوّاحة كان في المرة الأولى رسولاً فعصم ذلك العُرف دمه ، وفي المرة الثانية شهد أن مسيلِمة رسول ! فما نفعه مسيلمة !!
وهذا النعمان بن مقرِّن يُغلظ القول ليزدرجرد ملك الفُرس في حوار طويل فيقول له يزدجرد :
لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم .(2/270)
وأما بقية الحياء عندهم فمنه ما جاء في قصة إسلام أبي ذر – وهي قصة طويلة – قال فيها : فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم فما يطوف بالبيت أحد ، وامرأتين منهم تدعوان إسافا ونائلة قال : فأتتا عليّ في طوافهما فقلت : أنكحا أحدهما الأخرى . قال : فما تناهتا عن قولهما . قال : فَأَتَتَا عَلَيَّ . فَقُلْتُ : هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَة ِ. غَيْرَ أَنِّي لاَ أَكْنِي . فانطلقتا تولولان وتقولان : لو كان ههنا أحد من أنفارنا . قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان قال : ما لكما ؟ قالتا الصابئ بين الكعبة وأستارها قال : ما قال لكما ؟ قالتا : إنه قال لنا كلمة تملأ الفم ! رواه مسلم .
وروى البخاري ومسلم علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام وكلنا فارس . قال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : الكتاب . فقالت : كتاب ! فأنخناها فالتمسنا فلم نرَ كتابا فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنَّكِ ، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته .
فهذه المرأة لم ترضَ أن تُجرّد من الثياب وهي امرأة مُشركة .
وتلك النسوة لم يرضين بسماع كلمة شاذّة .
وهذا يدل على أن أهل الجاهلية كان عندهم بقية من حياء .
وأما مراعاة الحرم فقد كان أهل الجاهلية يُراعون حُرمة البيت الحرام ، بل ويُعظّمون الدعاء عنده .(2/271)
ولذا لما صلّى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجيء بِسَلَى جزور بني فلان ، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ؟ فانبعث أشقى القوم ، فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه . قال ابن مسعود : وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي مَنَعَة . قال : فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره فرفع رأسه ثم قال : اللهم عليك بقريش – ثلاث مرات – فشقّ عليهم إذ دعا عليهم . قال : وكانوا يَرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة . ثم سمّى : اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط – وعد السابع فلم نحفظه – قال ابن مسعود : فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر . رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – : وفي الحديث تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار ، وما ازدادت عند المسلمين إلاّ تعظيماً ، وفيه معرفة الكفار بِصِدْقِه صلى الله عليه وسلم لخوفهم من دعائه ، ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له .
ومن تعظيم للحرم أنهم لما أعادوا بناء الكعبة اشترطوا أن لا يدخل في بنائها مهر بغيّ ! ولا ربا !
( هذه الأشياء مستقبحة حتى عند أهل الجاهلية الأولى ) !!
ولذا قال – عليه الصلاة والسلام – لعائشة : إن قومك قصُرت بهم النفقة – يعني في بناء الكعبة – أي لأجل ذلك الشرط الذي اشترطوه في البناء .
ومن ذلك أنهم لما أرادوا قتل خبيب – رضي الله عنه – خرجوا به خارج حدود الحرم !
أخلص من هذا أن الجاهلية الأولى كان لديهم بقية من أخلاق فاضلة توارثوها .
ولذا قال – عليه الصلاة والسلام – : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت . رواه البخاري .(2/272)
قال ابن رجب – رحمه الله – :
مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : يُشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن .
أخيراً :
قارن هذه المعاني والأخلاق بأخلاق أرباب الحضارة المادية !
وقارن جاهلية أبي جهل بجاهلية الألفية الثالثة !
لترى أن البون شاسعاً ، والفرق كبيراً ، فيا بُعد ما بينهما !
إن أبا جهل قتل امرأة واحدة – هي سُميّة – وعُيِّر بتلك الفِعلة !
فأين هذا ممن يقتل الأطفال في العراق ؟؟
وأين هذا ممن قتل الأطفال والشيوخ في أفغانستان ؟؟
وأين هذا ممن قتل ولا يزال يقتل الأطفال والشيوخ في فلسطين ؟؟
لِتعلم أن وجه جاهلية أبي جهل خير من وجه جاهلية الأبواش الأوباش !!
---------------
(1) حديث : إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق ، وفي رواية ، لأتمم مكارم الأخلاق .
رواه أحمد ( 2/ 381 ) وابن أبي شيبة ( 6/324 )والحاكم (2/670 ) وقال : صحيح على شرط مسلم ، وتعقّبه الألباني ( الصحيحة 1/112 ) بقوله : وابن عجلان إنما أخرج له مسلم مقروناً .
قال الهيثمي في المجمع (9/15 ) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، ورواه البزار إلا أنه قال : لأتمم مكارم الأخلاق . ورجاله كذلك ، غير محمد بن رزق الله الكلوداني ، وهو ثقة .
والرواية الثانية : رواها البيهقي في الكبرى ( 10/191 ) والقضاعي في مسند الشهاب (2/192 ) ويُنظر كلام حافظ المغرب ابن عبد البر في فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر للمغراوي (10/256، 257) .
220-جهادكن الحج..
عندما ينطق " الجهلانيون " بأن الإسلام كلّف المرأة بما لا يُطاق
أو أنها في أغلال ، أو أنها ترسف في القيود
إلى غير ذلك مما تُفرزه ألسنتهم المبسوطة بالسوء
فقد أُوتوا بسطة في الألسن مع ضيق في الأفق والفهم والعَطن !
ومُكِّن لهم في كثير من الصحف والدوريات والمطبوعات !(2/273)
فأردت هنا الإشارة إلى التيسير المتعلق بالمرأة المسلمة من ناحية التكاليف الشرعية
فالمرأة المسلمة قد أُعفيت من الكسب وبالتالي لا تُلزم بالنفقة ، في حين تُلزم المرأة الغربية بالكسب والنفقة !
والمرأة المسلمة أُعفيت من الجهاد ، فلا يجب عليها .
ولذا لما استأذنت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، فقال : جهادكن الحج . رواه البخاري .
وفي رواية عن عائشة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله نساؤه عن الجهاد ، فقال : نِعْم الجهاد الحج . رواه البخاري .
وقد أُسقطت عنها الصلاة في أيام أقرائها ، فلا يجب عليها قضاء الصلاة التي تركتها بسبب العذر الشرعي .
بينما تؤمر بقضاء الصيام لأن الصيام شهر في السنة .
وأُذِن لها في الإفطار إذا شق عليها الصيام ، كأن تكون حاملاً أو مُرضِعاً .
وأُذِن لها أن تضع مِن ثيابها إذا كانت كبيرة في السِّن بحيث لا ترجو نكاحاً .
ومِن باب التيسير أن المرأة المسلمة لا تُجبر على زوج لا ترتضيه ، أو شريك حياة لا تُريده .
فإن كانت بكراً فتستأذن ، وإن كانت ثيباً فتُستأمر
قال عليه الصلاة والسلام : لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن . قالوا : يا رسول الله وكيف إذنها ؟ قال : أن تسكتْ . رواه البخاري ومسلم .
أردت الإشارة لا الحصر ..
221-جارات أسماء .. نِسوة صِدق..
نِعْم النساء نساء الأنصار
امتدحتهن المهاجرات الأُوَل
قالت عائشة رضي الله عنها : نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين . رواه مسلم .
هُنّ جارات صِدق لمن جاورهن
يُساعدن من احتاجت للمساعدة(2/274)
هذه أسماء بنت أبي بكر – ذات النطاقين - تقول : تَزَوّجَني الزّبَير وما له في الأرضِ مِنْ مالٍ ولا مَمْلوكٍ ولا شيءٍ غيرَ ناضحٍ وغير فَرَسِهِ ، فكنتُ أعلِفُ فرسَه ، وأستقي الماء ، وأخرِزُ غَربَهُ وأعجِن ، ولم أكن أُحسِنُ أخبز ! وكان يَخبزُ جاراتٌ لي من الأنصار ، وكنّ نِسوَةَ صِدق ، وكنتُ أنقل النّوَى من أرض الزّبير التي أقطَعَهُ رسولُ صلى الله عليه وسلم على رأسي ، وهي مِنِّي على ثُلثَي فَرسَخ ، فجِئتُ يوماً والنّوَى على رأسي ، فلقيتُ رسولَ صلى الله عليه وسلم ومعهُ نَفَرٌ من الأنصار ، فدَعاني ثم قال : إخْ إخ ، ليحمِلَني خَلفَه ، فاستحيَيتُ أن أسيرَ معَ الرّجال ، وذكرتُ الزّبيرَ وغَيرَتَه ، وكان أغيَرَ الناس ، فَعَرَفَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أني قد استحييتُ فمضى ، فجئتُ الزّبيرَ فقلتُ : لَقيَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النّوَى ومعهُ نفرٌ من أصحابه ، فأناخَ لأركبَ ، فاستَحييتُ منه وعرَفتُ غَيرتَك ، فقال : والله لَحملُكِ النّوى كان أشدّ عليّ من ركوبِك معه ، قالت : حتى أرسلَ إليّ أبو بكرٍ بعدَ ذلك بخادمٍ تَكفيني سِياسةَ الفَرَس ، فكأنما أعتَقَني . رواه البخاري ومسلم .
هذه رافدة رحلة الهجرة
بل هذه من كانت تنقل المؤن لركب الهجرة المبارك
هذه ذات النطاقين التي افتخرت بهذه التسمية إذ كانت بسبب خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وخدمة أبيها قبيل الهجرة ، فكانت تنقل لهم الطعام .
كانت تعمل بيدها في أرض زوجها ومزرعته
بل كانت تنقل علف الدابة على رأسها من مسافة
وكانت هي التي تطلب الماء
وتخرز بيدها غَرب الماء
وتعجن العجين
أما الخبز فلم تكن تُحسنه !
وهذا ما دعا جاراتها من نساء الأنصار أن يَخبزن لها
فلم يمنعهن أنها تعمل بيدها أو أنها في بيت مستقل أن يكنّ عونا لها
فلم يقلن : لِتتعلّم كيف تخبز !
ولم يقلن : شؤون بيوتنا أولى من شؤون بيتها !(2/275)
لقد كان ذلك المجتمع متماسكاً متآلفاً تسوده روح الألفة والمودة والتعاون والمحبة الصادقة
ويكفي في وصْفِهِ تعبير أسماء رضي الله عنها : وكنّ نِسوَةَ صِدق .
أما اليوم - وقد انفتحت الدنيا على الناس - فنجد أن هناك من تبخل بالرأي والمشورة فضلا عن الفعل أو الإعانة !
كما أن هناك من يبخل أيضا برأيه ومشورته أو بنصحه ومقولته !
وربما كان البُخل في طبخة أو وصفة !
وهذا ربما كان غاية في البخل !
والعُذر في ذلك : لا أريد أن يكون فلان أو فلانة أحسن منّي !
أو لا أريد أن يعرف الناس ما أعرفه أنا !
حب الذّات غدا مُقدّماً في زمن اللذّات !
ولو أنني أسعى لنفسي وجدتني = كثير التواني للذي أنا طالبه
ولكني أسعى لأنفع صاحبي = وعار على الشبعان إن جاع صاحبه
222-جاءوا إلى صلاة الجمعة بثياب قذرة متّسِخة..!!
صلينا صلاة الجمعة .
عامة الناس جاءوا بثياب نظيفة ، والكثير حضروا بأبدان نظيفة أيضا .
ثم تصوّرت لو أنّ ما خَفِيَ ظَهَر ، ولو أنه بدا ما استتر .
وتذكّرت حينها قول ابن مسعود رضي الله عنه حينما قال لأصحابه : لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي رجلان .
( يعني ما مشى خلفي رجلان . وهذا دليل على شدة تواضعه وخوفه من الله )
وتذكّرت قول ابن عمر رضي الله عنه فإنه لما قال له أبو الوازع : لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم . فغضب ثم قال : إني لأحسبك عراقيا وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه ؟
وقول ميمون بن مِهران وقد قال له رجلٌ : يا أبا أيوب ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم . قال : أقبل على شأنك . ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم .
تصوّرت وأنا أرى بيض الثياب
تصوّرت لو برزت خطايا القلوب على الثياب !
كيف تكون مناظر المُصلّين ؟؟؟
كيف لو ؟
لو ظهر الحسد على شكل بقع سوداء !
أو تمثّل الكبر والغرور على هيئة طين أسود يُلطّخ أثواب المصلين !
أو تشكّلت الغيبة والنميمة على أشكال دم قاتم على أثواب المصلين !(2/276)
بل كيف لو ظهرت تلك القاذورات المعنوية ؟
فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الآثام التي توجب الحدود سمّاها " قاذورات "
فقال عليه الصلاة والسلام : اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها ، فمن ألمّ فليستتر بستر الله ، وليتب إلى الله ، فإنه من يُبْدِ لنا صفحته نُقِم عليه كتاب الله عز وجل . رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ، ورواه غيره ، وصححه الألباني .
فهي قاذورات وأي قاذورات ؟
قاذورات وإن تلذذ بها أصحابها
قاذورات وإن تلذذ بها منتكسي الفِطَر
ماذا لو ظهرت تلك القاذورات على وجوه وثياب أصحابها ؟؟؟
لو ظهرت آثار الزنا
لو بَدَتْ آثار الربا
لو تشكّلت على هيئات وأشكال مختلفة على أثواب أصحابها
على هيئة نجاسة تُلطّخ أجزاء من الثوب
كيف سيُقابلون الناس ؟؟؟
أما يستحي أولئك أن يلقوا ربهم بتلك القاذورات ؟؟؟
أما يستحون أن يُقابلوا مولاهم بتلك الخطايا ؟؟؟
ورحم الله أبا العتاهية حينما قال :
كيف إصلاح قلوب إنما هن قروح
أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح
فإذا المستور منّا بين ثوبيه فضوح
رحماك ربنا
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العَرض .
اللهم استرنا بسترك
اللهم لا تبتلينا فنفتضح.
223-تربية امرأة ..!
كلمة يتداولها العامة اليوم يقولون عن بعض ضعاف التربية وضعاف العزم والهمة ، يقولون عنه :
تربية امرأة !!
وهذه الكلمة ليس على إطلاقها
فكم من الأئمة الأعلام ربتهم أمهاتهم وكانوا هداة مهتدين
يأتي على رأسهم إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد - رحمه الله –
فكم قدمت له أمه من عناية ورعاية حتى أصبح إماما للدنيا ولها – إن شاء الله – مثل أجره .
كذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله فقد ربّته أخته سِتّ الرَّكب بنت علي بن محمد بن محمد بن حجر .
قال ابن حجر : وُلِدتْ في رجب سنة سبعين في طريق الحج ، وكانت قارئة كاتبة أعجوبة في الذكاء وهي أمي بعد أمي .
وغيرهم كثير هذا في الماضي(2/277)
أليست الخنساء من شواهد التاريخ على صدق التربية ؟؟
وعلى شدتها ؟؟
وعلى علو همتها ؟؟
وقبلها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها
وخبرها مع ابنها هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/83.htm
وقد يُقال :
هذا كان في الزمن الماضي يوم لم تكن هناك مغريات وفتن ونحو ذلك
فأقول :
بل حتى في هذا الزمن نساء صادقات وفي التربية جادّات
نساء ممن عاصرناهم وعاصرونا
امرأة أعرفها شخصياً
زوجة أحد الأقارب توفي زوجها وترك لها ستة أبناء
فلما عُرِض عليها الزواج بعد انقضاء عدتها بَكَت
فقيل : ما يُبكيك ؟
قالت : أخشى أن أترك تربية أبنائي لغيري فيضيعوا .
فلم تتزوج بعد زوجها ، بل أوقفت حياتها على أبنائها .
فَسَعَتْ في تربيتهم وتعليمهم وتحفيظهم القرآن .
فحفظ بعضهم القرآن كاملا
واليوم
أكبر أولادها نال الشهادة العالية ( الدكتوراه )
وأصغرهم يدرس في كلية الطب
والبقية بين معلّم وموظف وطبيب
وهم من خيار أهل البلد إذا عُد الأخيار
هذه نتيجة جهد امرأة صادقة لا تركض ولا تلهث خلف ( الموضة ) ولا تجري وراء كل جديد
وحدثني أحد المشايخ عن امرأة عندهم في الحي
لها ثلاثة أولاد
كأنهم أيتام وما هم بأيتام !!
تخلّى عنهم أبوهم فشمّرت الأم عن ساعد الجد ، وسعت في تربيتهم تربية جادة
يقومون الليل
بعضهم يحضر للمسجد قبل الأذان ، بل أحدهم يؤذن أحيانا لصلاة الفجر ، عندما يتأخر المؤذن .
ألحقَتْهُم بحلقات تحفيظ القرآن الكريم
يقول محدثي : أرى فيهم الجدية وعلو الهمة وصدق التآخي
وما هذه النسوة – حفظهن الله – إلا خير شاهد على صدق التربية ، وجدية النشأة ، وقوّة العزيمة .
إذاً لماذا يقول بعض الناس عن الخامل : تربية امرأة ؟!
لأن بعض الأمهات العصريات ممن همهن الجري وراء كل جديد ، واللهث خلف سراب الموضة ، والركض إثر شهوات النفس ومتعها وملذاتها
آثرن ذلك على حساب أولادهن
فيومٌ للسوق
وآخر للحديقة
وثالث للملاهي
ورابع للتمشية(2/278)
وضاع الابن بين أوقات الأم وتمشياتها وزياراتها
وآخر ما تسأل عنه الأم أولادها من بنين وبنات !!
ولا يهمها سوى أن يُوفَّر للابن سيارة
لماذا ؟
لتذهب وتعود وتغدو وتروح حسب مزاجها
وليَضِعْ الابن بعد ذلك !!!
وبعض الأمهات الجادات لا تُريد أن يُوفر لأولادها سيارات حفاظاً على أولادهن ، وحرصاً على مضيِّهم في تعليمهم ودراستهم ، بعيداً عن الفوضى والعبث .
هذا هو السبب – في نظري – في رخاوة تربية بعض الأمهات في هذه الأزمنة .
إذا ليس العيب أن يتربى الرجل على يد امرأة ، فكم من عظماء الرجال تربوا على أيدي أمهاتهم فأفادوا أمماً لا أمَّة واحدة !
ولكن العيب في بعض النساء واهتماماتهن
كذلك يُقال عن بعض الرجال
فأعرف رجلا من الأقارب لا يهش ولا ينشّ !! في تربية أولاده
وأولاده أحق بوصف الرخاوة والضياع
وليس هذا من باب الشماتة . بل من باب الذِّكر والتذكير
ومن باب الإنصاف
أن يُذكر ما للرجل وما عليه ، وما للمرأة وما عليها .
فبارك الله في نساء مؤمنات تفوق إحداهن عشرات الرجال ..
224-تأملات في آيات ... في البلد الأمين..
المكان : المسجد الحرام
الزمان : ليلة الثلاثاء 20 / 5 / 1423 هـ
الوقت : صلاة العشاء
صلينا العشاء – بفضل الله – في المسجد الحرام
وأمّنا الشيخ الفاضل والعالم الرباني ؛ الرجل الأسيف الشيخ سعود الشريم – حفظه الله –
وكانت القراءة من آخر سورة الزمر
افتتح تلاوته بقول الله عز وجل : ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ )
وقرأ الشيخ ورق وخشع في تلك الآيات
وأكثر ما استوقفني هذه الآية
حيث يأمر رب العالمين سبحانه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك ، وأن يُعلنه للناس ، وأن يصدع به .
وتأملت في : ( أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ )
فمن أمر بعبادة غير الله فهو جاهل
ومن أمر بالخضوع لغير الله فهو جاهل
جاهل مُركّب !
جاهل بحث ربّه
وجاهل بحق نفسه(2/279)
جاهل بحق ربّه وما يجب له سبحانه ، ولذا قال سبحانه بعد تلك الآية بقوله : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )
فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو جاهل بحقّ ربِّه أياً كان ، ومهما أوتي من العلم ، أو نال من الشهادات ؛ لأنه عَدَل المخلوق بالخالق ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ )
ولذا جاء السؤال الاستنكاري : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ؟
أيكون المالك الخالق المُدبِّر كمن لا يملك ولا يخلق ولا يُدبِّر ؟؟
وطُغاة البشر ومَن ادّعى أنه يخلق يعلم – علم يقين – في قرارة نفسه أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يَهدي
ولذا لما سأل فرعون – سؤال استكبار – سأل موسى : من ربكما ؟
جاءه الجواب من موسى – وهو يُعرّف ربه - : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )
فكأن لسان الحال يقول : إن كنت يا فرعون أنت الذي أعطيت كل خلق خلقه ثم هديت كل مخلوق لما فيه قوام حياته فأنت إله !
وفرعون يعلم – في قرارة نفسه – قبل غيره أنه لا يملك من ذلك شيئاً !
ولذا نقل فرعون الحوار والسؤال ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ) ؟!
أما كنت تسأل عن الإله ؟
أما كنت تسأل : مَن ربكما ؟
وفي طيات حديث فرعون تبيّن ضعفه وذله ومهانته
ألم يقل عن موسى وأتباعه : (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ) ثم أتبع ذلك بقوله : ( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ )
ألم يقل فرعون : ( فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى )
ها هو يستعين بوزيره ليُحاول تغطية الفضيحة وستر ما انكشف من زيف الربوبية الفرعونية !
ثم أتبع ذلك بالظن ( وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ )
هذا هو شيخ الطغاة !
هذا فرعون الذي أمر العباد بعبادته
هذا فرعون الذي أشهد العالم عليه أنه : جاهل مُركّب !
هذا فرعون الذي استكبر هو وجنوده(2/280)
ه ذا فرعون الذي يُعلن تبعيته لموسى بل لبني إسرائيل الذين كان يستضعفهم
أليس هو القائل في نهاية المطاف ( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ؟
هذا سيد الجاهلين !
إشارة :
من علامات الجاهلين الاستهزاء بالآخرين
ولذا لما قال موسى لقومه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً )
ردّوا عليه فـ ( قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً )
فأجابهم : ( قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )
225-تأبَّطَتْ خنجرا..
ويح مَنْ عادى أمة هذه لمحات من شجاعة بعض نسائها .
ويحهم ! يُريدون قتال أمة تتمنّى نساؤها قبل رجالها الشهادة في سبيل الله !
يا ويحهم ونساء الأمة - قبل رجالها - يتمنّين سفك دمائهن فداء لدين الله عز وجل !
ونساء الأمة ركبن البحر غازيات مع أزواجهن !
هذه أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها لا تقف همتها عند حدّ(2/281)
قال أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان ، فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته ، وجعلت تفلي رأسه ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استيقظ وهو يضحك . فقالت : وما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عُرضوا عليّ غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة . قالت : فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ،فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم وضع رأسه ، ثم استيقظ وهو يضحك ، فقلت : وما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عُرضوا عليّ غزاة في سبيل الله ، كما قال في الأولى . قالت : فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم . قال : أنت من الأوّلين . فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان ، فصُرعت عن دابتها حين خرجت من البحر ، فهلكت . رواه البخاري ومسلم .
وكانت تحت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه آنذاك .
ولم تكن هذه فريدة في بابها ، ولا وحيدة في فعلها .
بل لها مثيلات من الصحابيات الجليلات .
قالت أم عطية الأنصارية رضي الله عنها : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات ، أخلفهم في رحالهم ، فأصنع لهم الطعام ، وأداوي الجرحى ، وأقوم على المرضى . رواه مسلم .
وهذه أم سُليم رضي الله عنها وقد شهدت حنينا وأُحداً ، وهي من أفاضل النساء
قال محمد بن سيرين : كانت أم سليم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعها خنجر .
وروى ثابت عن أنس رضي الله عنه أن أم سليم اتخذت خنجراً يوم حنين ، فقال أبو طلحة : يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر ! فقالت : يا رسول الله إن دنا مني مشرك بَقَرتُ به بطنه !
وأما نُسيبة بنت كعب رضي الله عنها شهدت أُحداً مع زوجها رضي الله عنه وعنها ، وشهدت فتح خيبر ، وفتح مكة ، وشهدت حُنيناً .(2/282)
ثم شهدت قتال مسيلمة الكذاب .
قالت أم سعيد بنت سعد بن ربيع : دخلت على أم عمارة ، فقلت : حدثيني خبرك يوم أُحد .
فحدّثت عن خروجها يوم أُحد فقالت :
خرجت أول النهار إلى أُحد ، وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ، فجعلت أُباشر القتال ، وأذب عن رسول الله بالسيف ، وأرمي بالقوس حتى خَلَصَتْ إليّ الجراح . قالت : فرأيت على عاتقها جرحا له غور أجوف ، فقلت : يا أم عمارة من أصابك هذا ؟ قالت : أقبل ابن قميئة وقد ولّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح : دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا ! فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه ، فكنت فيهم ، فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان ، فكان ضمرة بن سعيد المازني يُحدث عن جدته - وكانت قد شهدت أُحداً تسقي الماء - قالت :كانتْ ام عمارة يومئذ تُقاتل أشد القتال ، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها ، حتى جُرحت ثلاثة عشر جرحاً .
وكانت تقول : إني لأنظر إلى بن قميئة وهو يضربها على عاتقها ، وكان أعظم جراحها فداوته سنة ، ثم نادى منادي رسول الله إلى حمراء الأسد ، فشدّت عليها ثيابها ، فما استطاعت من نزف الدم ، ولقد مكثنا ليلتنا نُكمّد الجراح حتى أصبحنا ، فلما رجع رسول الله من الحمراء ما وصل رسول الله إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها ، فرجع إليه يخبره بسلامتها ، فسُرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
ما هذه إلا نماذج لمن عطّرن التاريخ بِسِيَرِهنّ ، وخلّد التاريخ ذِكرهن .
ووالله ما عقمت هذه الأمة ، فهي أمة ولود مِعطاء
وكم هي الأسئلة التي ترد من فتيات ناهزن الاحتلام يسألن :
كيف السبيل إلى نُصرة الدِّين ؟
وأين الطريق إلى رفع راية الإسلام ؟
وكيف نستطيع أن نُجاهد ؟(2/283)
بل هو سيل من الأسئلة الواردة من نساء الأمة : ماذا نستطيع فعله ؟
وطوفان من العتاب : لِماذا لا يُفتح باب الجهاد ؟!
فويح أعداء أمة الإسلام يُريدون القضاء عليها وفيها مثل هذه النسوة .
وهن إن لم يكن اليوم أمهات فهن أمهات المستقبل .
فانتظري أمة الصليب فالفجر قادم ، وستُغلب الرّوم .
وتربّصي أمة العِجْل فغداً يكون نداء الجَمَاد :
" يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله " كما في الصحيحين .
وعندها فقط يذهب غيظ قلوب قوم مؤمنين ، وتُشفى صدورهم .
( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء )
اللهم أذهب غيظ قلوب المؤمنين والمؤمنات ، واشف صدورهم .
226-بين نبيّ وابنه..
فضل الله واسع ، والله واسع عليم
ويؤتي فضله من يشاء
فقد أعطى بعض عباده المال
وآتى آخرين الولد
وآتى صفوة خلقه النبوّة
وفضّل بعض النبيين على بعض
وقد يُؤتي الله عز وجل بعض العلم والفهم لبعض أنبيائه دون بعض
بل ربما آتى الابن ما لم يؤتِ الأب
ليتبيّن فضل الله ، وتفاوت العطاء
فقد فهّم الله سليمان عليه الصلاة والسلام ما لم يُفهّمه والده داود
قال سبحانه وتعالى : ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ )
ثم جاء التأكيد على أن الله آتاهما فضلا من فضله : ( وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا )
ثم ذكر ما فضّل به داود فقال : ( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ )(2/284)
ثم ذكر ما فضّل به سليمان فقال : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) الآيات .
أما قضية الغنم ، فقد جاء في تفسيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كَرْمٌ قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم ، فقضى داود بالغنم لصاحب الكَرْم ، فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : تدفع الكَرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكَرم فيصيب منها ، حتى إذا عاد الكَرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى صاحبها .
ومثل هذا الحكم لما تحاكمت امرأتان إلى داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ، ففهّم الله سليمان الحُكم .
قال عليه الصلاة والسلام : كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت لصاحبتها : إنما ذهب بابنك ! وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ! فتحاكمتا إلى داود عليه السلام ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما ! فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله ! هو ابنها ، فقضى به للصغرى . رواه البخاري ومسلم .
بل آتى الله سليمان من الملك ما لم يُؤته بشر
قال نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام :
( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )
ولذا لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة قال : إن الشيطان عرض لي فشدّ عليّ ليقطع الصلاة عليّ ، فأمكنني الله منه فَذَعَتّه ، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه ، فذكرت قول سليمان عليه السلام : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ) فرده الله خاسيا . رواه البخاري ومسلم .
و(2/285)
( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )
227-بغداد ومآتِم الظلم ..
مآتم الظلم تتلوهن أعياد = إياكِ أن تجزعي إياكِ بغدادُ
قد استبدّ بأهليك الطغاة أذى = وراح يمتحن الأحرار جلاّدُ
حتى تهدّم صرح الظلم وانكفأت = قدر الفساد وأهل الظلم قد بادوا
نهاية الظلم يا بغداد واحدةٌ = الله والحق والتاريخ أشهادُ
بغداد المنصور إياك أن تجزعي فهذا هو قَدَرُك المحتوم أن تكوني ضمن أرض قَدَرها الفتن .
قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : إن الفتنة ها هنا ها ، إن الفتنة ها هنا ها ، إن الفتنة ها هنا ، حيث يطلع قرن الشيطان . رواه البخاري ومسلم .
ومما يدلّ على أن المقصود بذلك العراق ما فهمه الصحابي الجليل راوي الحديث ، وراويه عنه وهو ابنه .
فعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه قال : يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة ! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الفتنة تجيء من ها هنا ، وأومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان . رواه مسلم .
ومن العراق كان مقتل الحسين
فقد سُئل عبد الله بن عمر سأله رجل عن المحرم يقتل الذباب . فقال : أهل العراق يسألون عن الذباب ، وقد قتلوا بن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : هما ريحانتاي من الدنيا . رواه البخاري .
وفي رواية له عن ابن أبي نعم قال : كنت شاهداً لابن عمر وسأله رجل عن دم البعوض ، فقال : ممن أنت ؟ فقال : من أهل العراق . قال : انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض ، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : هما ريحانتاي من الدنيا .
ومن العراق بدأ الرفض وانتشر فيه مذهب الرافضة
فقد كانت الكوفة هي معقل الرافضة ومنشأ القوم !
قال الذهبي في ترجمة عدي بن ثابت : ثقة لكنه قاص الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة !(2/286)
ومن العراق خرجت الخوارج
قال يسير بن عمرو : قلت لسهل بن حنيف رضي الله عنه : هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئا ؟ قال : سمعته يقول - وأهوى بيده قِبَل العراق - : يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية . رواه البخاري .
عن أبي نضرة قال : كنا عند جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقال : يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم قفيز ولا درهم . قلنا : من أين ذاك ؟ قال : مِن قِبل العجم يمنعون ذاك ، ثم قال : يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدى . قلنا : من أين ذاك ؟ قال : من قبل الروم . رواه مسلم .
والروم هم النصارى .
وفي العراق كان مَعمل وضع الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم !
قال الإمام محمد بن شهاب الزهري : يا أهل العراق يخرج الحديث من عندنا شبراً ويصير عندكم ذراعا !
وفي بغداد بدأت فتنة القول بخلق القرآن
وفيها عُذِّّب الإمام أحمد رحمه الله على تلك البدعة الهوجاء الشوهاء !
ومِن العراق خرج القول بالقدر(2/287)
ففي صحيح مسلم عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قِبلنا ناس يقرؤون القرآن ، ويتقفّرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قَدَرَ ، وأن الأمر أُنف . قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ، ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب . ثم ذكر الحديث بطوله في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم .
وفي الكوفة والبصرة كان جهلة القراء أسرع من غيرهم إلى الفتن
وفي العراق ظهر الإرجاء أول ما ظهر .
وفي شوارع بغداد سالت دماء المسلمين على أدي التتار الأُوَل ، حتى جَرَتْ الميازيب بدماء المسلمين
ولا تزال تجري على أيدي عبّاد الصليب الهمج !
فلكِ الله يا بغداد
يا زهو تاريخي مراكب أمتي = تاهت وأذرعة الفناء تلوّحُ
الحرب تسحب ذيلها وأمامها = أسرٌ تفرّ من الرصاص وتنزحُ
تُلقي بيان الموت مُقتضباً له = معنى عميق والضحايا تشرحُ
ثم سأل أحد الأخوة فقال :
تقع العراق شمال شرق المدينة المنورة .. بينما تقع اليمامة (نجد) تماما شرق المدينة المنورة ( انظر خارطة العالم)
كيف تفسر ذلك ياشيخنا الفاضل .
وجزاك الله خيرا .
فأجبته :
هذا الكلام الذي أشرتَ إليه – حفظك الله – لا يصح شرعا ولا واقعا
والقاعدة أن الراوي أدرى بمرويِّه
أي أنه أدرى بمعنى ما روى
خاصة إذا كان من الصحابة أو من التابعين
وقد قلت في أصل المقال :(2/288)
ومما يدلّ على أن المقصود بذلك العراق ما فهمه الصحابي الجليل راوي الحديث ، وراويه عنه وهو ابنه .
فعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه قال : يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة ! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الفتنة تجيء من ها هنا ، وأومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان . رواه مسلم .
هذا من ناحية تفسير الراوي لما رواه .
ومن ناحية ثانية فقد جاء التصريح بأن أرض الزلازل والفتن والتي يطلع منها قرن الشيطان
جاء التصريح بأنها أرض العراق ، وهي المقصودة في الحديث بـ ( نجد )
فقد جاء في لفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهما : اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا . قالوا : وفي نجدنا ؟ قال : اللهم بارك لنا في شامنا ، وبارك لنا في يمننا . قالوا : وفي نجدنا ؟ قال: هنالك الزلازل والفت ن، وبها – أو قال: منها – يخرج قرن الشيطان .
والذي يدلّ على أن المقصود بـ ( نجد ) هنا هي أرض العراق قوله عليه الصلاة والسلام :
اللهم بارك لنا في مكتنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم بارك لنا في شامنا، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مُدنا . فقال رجل : يا رسول الله ! و في عراقنا . فأعرض عنه ، فرددها ثلاثا ، كل ذلك يقول الرجل : وفي عراقنا ، فيُعرض عنه ، فقال : بها الزلازل والفتن ، وفيها يطلع قرن الشيطان .
وقال الألباني : صحيح على شرط الشيخين .
ثم قال الشيخ رحمه الله :(2/289)
وإنما أفضتُ في تخريج هذا الحديث الصحيح وذِكر طرقه وبعض ألفاظه لأن بعض المبتدعين المحاربين للسنة والمنحرفين عن التوحيد يطعنون في ألإمام محمد بن عبد الوهاب مجدد دعوة التوحيد في الجزيرة العربية ويحمِلون الحديث عليه باعتباره من بلاد نجد المعروفة اليوم بهذا الاسم وجهلوا أو تجاهلوا أنها ليست هي المقصودة بهذا الحديث وإنما هي العراق كما دلّ عليه أكثر طرق الحديث ، وبذلك قال العلماء قديما كالإمام الخطابي وابن حجر العسقلاني وغيرهم . وجهلوا أيضا أن كون الرجل من بعض البلاد المذمومة لا يستلزم أنه هو مذموم أيضا ، إذا كان صالحا في نفسه ، والعكس بالعكس ، فكم في مكة والمدينة والشام من فاسق وفاجر ، وفي العراق من عالم وصالح ، وما أحكم قول سلمان الفارسي رضي الله عنه لأبي الدرداء حينما دعاه أن يُهاجر من العراق إلى الشام :
أما بعد ، فإن الأرض المقدّسة لا تُقدّس أحداً ، وإنما يُقدّس الإنسان عمله .
انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله .
وألفاظ الحديث تدلّ على أنهم كانوا يُسمّون العراق ( نجداً ) ، وهي ما ارتفع من الأرض .
وأما الواقع فإن الناظر في الخريطة يجد أن العراق جهة المشرق
انظر إلى الخريطة هنا :
لو رسمت خطا مستقيما من المدينة النبوية إلى القدس لاتجه السهم إلى جهة الشمال تماماً
ولو رسمت خطاً مستقيما من المدينة النبوية إلى بغداد لاتجه السهم إلى جهة الشمال الشرقي ، وهو جهة المشرق
فتطابق واقع الخريطة والأرض مع الحديث .
ولو كان المقصود ( نجد ) المعروفة اليوم لأشار إلى جهة الشرق وليس إلى جهة المشرق ..
وليُعلم أن الحق أحب إلينا من الأرض !
فليس هذا القول تعصبا لنجد فمكة وطيبة الطيبة أحب إلينا من بلادنا .
والله تعالى أعلى وأعلم .
ولا تزال أرض العراق موعودة بالفتن !
والله المستعان..
228-رُجحان عقل امرأة..
المرأة شقيقة الرجل ، ومنه خُلِقت .
وكمال عقل المرأة ورجحانه أمر مُشاهد(2/290)
ودعونا نقف وقفات مع نساء مؤمنات رجحت عقولهن ، وتبيّن ذلك في مواقف في حياتهن ، ربما عجز أفذاذ الرجال عن بعض تلك المواقف .
أما الموقف الأول : فهو لامرأة من الأنصار
والقصة التي أريد أن أغوص في غورها جَرَتْ أحداثها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وبالتحديد مكاناً في مدينته ، في طيبة .
وفي بيت رجل من الأنصار .
تدور أحداث القصة في بيت بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنه
حيث تزوّج بامرأة أخرى ، هي عمرة بنت رواحة ، وهي أخت عبد الله بن رواحة رضي الله عنه .
ثم ولدت له ولداً سمّاه أبوه : النعمان .
فهو النعمان بن بشير رضي الله عنه .
كبُر الابن وترعرع ، فأحبت أمه أن يُخص بعطيّة ، وأن يُفرد بهديّة ، وأن يُمنح مِنحة .
تردد الأب قبل أن يُجيب طلبها ، وقبل أن يُحقق رغبتها .
فأخّرها عاماً كاملاً
ثم نزل عند رغبتها
فأعطى هذا الابن قطعة أرض ، وفي رواية أنه أعطاه غُلاماً .
وعلى كلٍّ فقد أعطاه عطية ، ومنحه مِنحة ، ووهب له هِبة .
ولكن هذه المرأة العاقلة لم تهتبل الفرصة ، ولم تغتنم الوقت لإقرار العطية ، وعدم التردد كما كان من قبل .
بل لم ترضَ حتى تأخذ العطية الصبغة الشرعية ، فمراد الله ورسوله مُقدّم على مراد النفس
وطاعة الله ورسوله أحب إليها من تحقيق أمنيتها
فقالت لزوجها : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولم يكن من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بُدّ
والردّ إلى الله ورسوله فَرض .
فذهب بشير بن سعد رضي الله عنه إلى مُفتي الأمة ومُعلّمها
ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عما أشكل عليه ، ويعرض عليه ما قالته زوجته الحصيفة العاقلة .
قال النعمان بن بشير بن سعد رضي الله عنهما : فأخذ بيدي وأنا غلام ، فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا . قال : ألك ولد سواه ؟ قال : نعم . قال : لا تشهدني على جور .
وفي رواية قال : لا أشهد على جور .(2/291)
وفي رواية : فقال عليه الصلاة والسلام : أكُلّ بَنيك قد نَحَلْتَ مثل ما نحلت النعمان ؟ قال : لا . قال : فأشهد على هذا غيري . ثم قال : أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال : بلى . قال : فلا إذاً .
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال : لا . قال : فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم . قال : فرجع فَرَدّ عطيته .
ولكن بشير بن سعد رضي الله عنه رضي بحُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلّم له ، وانقاد وأذعن .
والأعجب رضا تلك الزوجة الحصيفة العاقلة التي رضيت بحُكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأذعنت وانقادت وسلّمت ، فطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مُقدّمة على رغبات النفس .
هذا موقف تمثّل فيه رجحان عقل عمرة بنت رواحة رضي الله عنه .
وأصل القصة في الصحيحين .
وأما الموقف الثاني فهو لامرأة عظيمة
لامرأة مِن أفاضل النساء .
بل لامرأة فاقت بشجاعتها بعض أفذاذ الرجال
فقد اتخذت خنجراً يوم حنين ، فقال أبو طلحة : يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجراً . فقالت : يا رسول الله اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بَقَرتُ به بطنه . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذلكم الموقف لامرأة انفردت عبر التاريخ بمهر فريد
إنها الرميصاء " أم سُليم " ، وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنه .
فقد خطبها أبو طلحة فقالت : إني قد آمنت ، فإن تابعتني تزوجتك . قال : فأنا على مثل ما أنت عليه ، فتزوجته أم سليم ، وكان صداقها الإسلام .
قال أنس رضي الله عنه : خطب أبو طلحة أم سليم ، فقالت : إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركا ، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها عبد آل فلان ! وأنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت ! قال : فانصرف أبو طلحة وفي قلبه ذلك ، ثم أتاها وقال : الذي عرضت عليّ قد قبلت . قال : فما كان لها مهر إلا الإسلام .
ومن رجحان عقلها رضي الله عنها وأرضاها تماسكها يوم موت ابنها(2/292)
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : كان ابن لأبي طلحة يشتكي ، فخرج أبو طلحة ، فقُبض الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ قالت أم سليم : هو أسكن ما كان ! فقرّبت إليه العشاء ، فتعشى ، ثم أصاب منها ، فلما فرغ قالت : وارِ الصبي ، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : أعرستم الليلة ؟ قال : نعم . قال : اللهم بارك لهما . فولدت غلاما ، قال لي أبو طلحة : احفظه حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرسلت معه بتمرات ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أمعه شيء ؟ قالوا : نعم ، تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها ، ثم أخذ من فيه فجعلها في فيّ الصبي ، وحنكه به ، وسماه عبد الله . رواه البخاري .
وفي رواية قال أنس رضي الله عنه : ثقل ابن لأم سليم ، فخرج أبو طلحة إلى المسجد ، فتوفي الغلام ، فهيأت أم سليم أمره ، وقالت : لا تخبروه ، فرجع وقد سَيّرت له عشاءه ، فتعشى ، ثم أصاب من أهله ، فلما كان من آخر الليل قالت : يا أبا طلحة ألم تر إلى آل أبي فلان استعاروا عارية فمنعوها ، وطُلبت منهم فشقّ عليهم ، فقال : ما أنصفوا . قالت : فإن ابنك كان عارية من الله ، فقبضه ، فاسْتَرْجَع ، وحَمِد الله .
فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال : بارك الله لكما في ليلتكما .
فَحَمَلَتْ بعبد الله بن أبي طلحة ، فولدت ليلا ، فأرسلت به معي ، وأخذت تمرات عجوة فانتهيت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهنأ أباعر له ويَسمها ، فقلت : يا رسول الله ولدت أم سليم الليلة .
فمضغ بعض التمرات بريقه ، فأوجره إياه ، فتلمظ الصبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حب الأنصار التمر ! فقلت : سمِّه يا رسول الله . قال : هو عبد الله .
قال عباية : فلقد رأيت لذلك الغلام سبع بنين كلهم قد ختم القرآن .(2/293)
( وتُنظر ترجمتها رضي الله عنها في سير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 304 )
هل تُريدون من مزيد ؟!
إليكم ثالثة ، وحقّها أن تكون الأولى !
هي امرأة عاقلة راجحة العقل
وهي زوجة أبي سلمة رضي الله عنه
قالت أم سلمة رضي الله عنها قال أبو سلمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل : ( إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) عندك احتسبت مصيبتي ، وأجرني فيها ، وأبدلني ما هو خير منها . فلما احتضر أبو سلمة قال : اللهم اخلفني في أهلي بخير ، فلما قُبض قلت : ( إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) اللهم عندك احتسب مصيبتي ، فأجرني فيها . قالت : وأردت أن أقول وأبدلني خيراً منها ، فقلت : ومن خير من أبى سلمة ؟ فما زلت حتى قلتها ، فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردّته ، ثم خطبها عمر فردّته ، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبرسوله ، أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى امرأة غيرى ، وأني مصبية ، وأنه ليس أحد من أوليائي شاهد ، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما قولك إني مصبية ، فإن الله سيكفيك صبيانك ، وأما قولك إني غيرى ، فسأدعو الله أن يذهب غيرتك ، وأما الأولياء فليس أحد منهم شاهد ولا غائب إلا سيرضاني . قالت : قلت : يا عمر ، قُمْ فزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد ومسلم مختصراً .(2/294)
وفي رواية لمسلم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله ( إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيراً منها ، إلا أخلف الله له خيراً منها . قالت : فلما مات أبو سلمة قلت : أي المسلمين خير من أبي سلمة ؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إني قلتها ، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : أرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له ، فقلت : إن لي بنتاً ، وأنا غيور . فقال : أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها ، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة .
لقد تردّدت في تطبيق السنة ، وحدّثتها نفسها أن لا تقول ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك من هول المصيبة ، لكنها سُرعان ما تراجعت وقالت ما أُمِرتْ به ، فأخلفها الله خيراً ، وذلك ببركة امتثال السنة .
ولم تستعجل في قبول الخِطبة ، بل أخبرت بعيوب نفسها التي تراها عيوباً !
امرأة مُصبية أي كثيرة الصبيان
وغيرى أي شديدة الغيرة
وعُذر اعتذرت به أنه ليس أحد من أوليائها شاهد
كل هذا يدلّ على رجحان عقلها رضي الله عنها وأرضاها
فلو كان النساء كمن ذكَرْنا = لفضِّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب = ولا التذكير فخر للهلال
وفي هذا الموضوع مزيد نماذج :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/61.htm
والله أسأل أن يُصلح أحوال نساء الأمة .
229-انظروا ... ماذا قدّم للملك ؟؟!
أراد التّقرّب
ونيل الزّلْفى
التّقرّب إلى من ؟
إلى الملك
انطرح له ذليلا
لم يكتف بذلك بل سجد بين يديه
لكنه لم يُحسن اختيار الهدية
إذ اختار ثوبا باليا ممزقا مرقعاً
لماذا ؟
ليُقدّمه للملك !!!
أيليق ذلك بالملك ؟؟
لا يليق بآحاد الناس
بل لا يليق بالفقراء
بل لو أهداه لمجنون لردّه عليه !
أكان على علم به ؟؟
نعم
إذاً ... لماذا قدّمه ؟؟(2/295)
وكيف تجرأ على فعلته ؟؟
وقدّم للملك ما لو قُدِّم له هو لوَصَفَ من قدّمه بالبخل !!
إذ كيف يُقدّم ذلك لي ؟؟
لقد قدّم للملك ما لا يرضاه لنفسه
هل تريدون معرفة السبب ؟؟
أم معرفة المقصود من ذلك ؟؟
إنه أنا وأنت
إنه أنتِ و هي
قدّمنا أعمالنا قُربة وطاعة بين يدي
الملك القدوس السلام
وانطرحنا بين يدي الملك الدّيّان ليقبلها
لكنها ربما كانت مخرّقة مرقعة
وربما كانت بالية !
يا لحيائنا من ربنا
كيف تجرأنا على ربّ السماوات العُلى ؟؟
وعلى تقديم قُربة وطاعة تُقرّبنا من ملك الملوك سبحانه
وهي بتلك الحالة ؟؟
قال محمد بن المنكدر - رحمه الله - : الصائم إذا اغتاب خَرَق ، وإذا استغفر رقع .
وقال بعض السلف :
الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه ، فمن استطاع منكم أن لا يأتي بصوم مخرق فليفعل .
هل أدركنا ذلك ؟؟
ربما نحن نتقرّب إلى الله بهذا الصيام المخرّق المرقع
فوا حياءً من الله
أنرضى ذلك للملك القدوس السلام ؟؟
أنرضى له سبحانه ما لا نرضاه لأنفسنا ؟؟
نحن جميعا لا نرضى ولا نقبل أن يُهدى إلينا ثوب مرقع مخرق
فكيف رضيناه لربنا ؟؟
لعل في هذا زاجراً للنفوس
أن تقع في أعراض عباد الله
ولعل فيه عِضة وعبرة
لكي نحسن العمل
إن الله يُحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه
فيا إخوتاه
ويا أخياتي
دعونا نقف مع أنفسنا وقفة محاسبة
وقفة مُصارحة
كم رصيدنا من الأعمال الصالحة الخالصة ؟؟
كم هي الأعمال الصالحة التي قدمناها على الوجه المرضي ؟؟
كم من عمل صالح عملناه بإتقان ؟؟
كم نعقل من صلاتنا ؟؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها خمسها ربعها ثلثها نصفها .
فكم هو نصيبك منها ؟؟
كم عملا أنجزت وأنت بين يدي مولاك ؟؟
كم طريقا سلكت وأنت في صلاتك ؟؟
كم فستاناً أصلحتِ وأنتِ في صلاتكِ ؟؟
كم زيارة زرتيها وأنتِ في صلاتكِ ؟؟
كم بيتاً شيدناه ونحن نقف بين يدي ملك الملوك سبحانه ؟؟(2/296)
بل كم حذاء اشتريناه ونحن في بيت من بيوت الله وبين يدي صاحب الفضل والإنعام ؟؟
وكم تَسَوّقنا ونحن في قُربة وطاعة نتقرّب بها إلى الملك الديان ؟؟
ورُبّ صاحب مهنة أصلح الخلاّط و ( السيفون ) وهو في صلاته !!!!
شتان بيننا وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الذي كان يُجهّز الجيوش وهو في صلاته
بل نادى أحد قادته وهو على المنبر يخطب
فصاح : يا سارية الجبل . يا سارية الجبل .
فأكرم الله أمير المؤمنين بأن بلّغ صوته للقائد ( سارية )
فانحاز ساريةُ إلى الجبل فنصرهم الله .
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم **** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
230-امرأة مؤمنة على شَفيرِ النَّار ..!!
هي امرأة كبقية النساء تُحب الحياة
لقد آمنت بالله ، فرضيت به رباً ومالكاً ومُدبِّرا
ورضيت به حَكَماً وحاكماً
آمنت بالله فامتُحن إيمانها ، واختُبر صدقها
فنجحت وجاوزت الامتحان .
عُرضت على الفتنة ، وتعرّضت للبلاء الذي ربما لا تُطيقه الصمّ الصلاب
لكنها صمدت ... كصمود الجبال
ورسخت أقدامها كرسوخ الرواسي
فلما علم الله منها صدق إيمانها ثبّتها أيما تثبيت ، وربط على قلبها .
فأي امرأة تلك ؟
هي امرأة عاشت ردحاً من الزمن على الكفر والشرك .
فعمرها في الإيمان قصير .
من هي ؟
ومن تكون ؟
إنها المرأة التي قصّ علينا خبرها من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
فهاكِ القصة بطولها
قال صلى الله عليه وسلم :(2/297)
قال كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فأبعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما يعلمه ، فكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه ، فشكى ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس ، فرماها فقتلها ، ومضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني ! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وانك ستُبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل عليّ ، وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص ، ويُداوى الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك كان قد عَمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله ، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من ردّ عليك بصرك ؟ قال : ربي ! قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل . فقال : إني لا أشفى أحداً ، إنما يشفى الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فدعا بالمئشار ، فوُضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا(2/298)
به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشى إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء يمشى إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله . فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : باسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام ، فأُتيَ الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك . قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخُدّت ، وأضرم النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ، أو قيل له : اقتحم ، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أمه اصبري ، فإنك على الحق . رواه مسلم .
فيا لها من امرأة مؤمنة تقف على شفير النار ، وتُقبل عليها بحرّها ولهيبها ، وهي تعلم إلى أين تذهب ، وعلى أي شيء تُقدِم ، ومع ذلك تتقدّم وما ردّها أنها سوف تموت وتهلك وتحترق .
وإنما نظرت إلى من لا ذنب له ، ولا قضية له ، نظرت إلى صبيها ، فجاءها التثبيت وبادرها الصبي :
يا أمه اصبري ، فإنك على الحق .(2/299)
ومن عادة الكبير قبل الصغير أن يخاف من النار ، ويُروّعه حرّها ولظاها ، ولكن هذا الصبي شجّع أمّه على المضي قُدماً ، وما ذلك إلا تثبيت من الله ، لما رأى من صدق إيمانها .
واليوم لا تُدعى المرأة المسلمة إلى نار تلظّى ، وإنما تُدعى إلى ظل وارف تتفيأ ظلاله ، إلى التمسّك بتعاليم دينها .
فمنهن من تترك الظلّ الوارف ، ويتقحّمن النار ، بطوعهن واختيارهن ، لا نتيجة إيمان بل نتيجة تمرّد وعصيان !
قال صلى الله عليه وسلم : إنما مثلي ومثل الناس ، كمثل رجل استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ، فجعل ينزعهن ويغلبنه ، فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تقحّمون فيها . رواه البخاري ومسلم .
فما بال أقوام يتقحّمون النار تلبية لرغباتهم واتِّباعاً لشهواتهم ، في حين كان أقوام يتقحّمون النار ويتدافعون فيها هربا من نار الآخرة .
لقد كان أولئك القوم الذين جاء ذكرهم في سورة البروج يقتحمون في النار ، ويتسابقون إليها هربا من نار الآخرة ، وثباتاً على الإيمان .
جاء في رواية للإمام أحمد : فأمر بأفواه السكك فخُددت فيها الأخدود ، وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه ، وإلا فأقحموه فيها . فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون .
ولكنهم تدافعوا إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
قال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )
والقصة لا تنقضي عجائبها ، فمن ذلك :
أن ذلك الملك كان يستعين على استعباد الناس بالسِّحر والسّحرة
أنه كان يعلم أنه ليس هو ربهم !
أن زيف ذلك الملك ظهر عند أول امتحان(2/300)
أنه ما سُلّط على الغلام ، ولا استطاع قتله حتى اتّبع تعليماته
عجيب ! ملك يدّعي الربوبية لا يستطيع قتل غلام واحد حتى يفعل ما يأمره به الغلام !!
كفاية الله لعبده المؤمن ، وحفظه لمن حفظه .
بقاء الحق وظهوره ما بقي له بصيص أمل ، ويتمثل ذلك في وجود راهب واحد .
عدم المساومة على قضية الإيمان ، ولو كان الثمن هو النفس والنفيس
فالراهب وجليس الملك لم يرجعا عن دينهما ولو شُق كل واحد منهما إلى شقين .
عدم رجوع الناس عن الإيمان بعد أن ذاقوا حلاوته ، ولو أدّى ذلك إلى فتنتهم وحرقهم بالنار
إلى غير ذلك من الدروس والعبر التي لا تنقضي .
والله تعالى أعلى وأعلم
231-النَّار ولا العَار !
يقولون : لكلٍّ وارث !
ولئن مات أبو جهل فإن جهله باقٍ لم يندرس !
ولئن هلك أبو لهب فتركته لا زالت تُقسم !
ولئن قتل الله أبيّ بن خلف فميراثه لم ينفد !
فلا يزال في الناس " ورثة " لأولئك القوم !
وَرِثوا الجهل ! فأخذوا منه بِحظٍّ وافر !
فلم يكتفوا بذلك ، بل نشروه ! وعملوا بِه !
وما بعض العبارات التي نسمعها بين حين وآخر إلا دليل على بقاء ذلك الميراث !
وهذه عبارة جاهلية تتردد بين الحين والآخر .
يقولها بعض الجاهلين في مقابل فضيحة أو خوف عار !
ثم ماذا ؟
ثم تقع الفضيحة والعار ، ويُعرّض نفسه للنار .
فإذا ما وقعت فتاة تَمُتّ بِصِلَةٍ إلى أحد أولئك ، إذا ما وقعت في فاحشة ، أو سقطت في أوحال الرذيلة تنادوا مُصبحين : النار ولا العار !!
وأقسموا بالله جهد أيمانهم ليدفُنّنها ولو بعد حين ؛ ليُدفن معها العار ، ولتتوارى معها الفضيحة !
مساكين أولئك !
هلكوا وأهلكوا !
هلكوا بأنفسهم بفعلهم ذلك ، الذي هو صورة من صور العار ، أو وجه قبيح من وجوهه !
وأهلكوا غيرهم مرّات وكرّات !
أهلكوا غيرهم يوم أهملوا بُنيّاتهم حتى إذا وقعن فريسة سهلة لأنياب الذئاب ، صرخوا وضجّوا وضوضوا !(2/301)
أليسوا هم من سلّموا بُنيّاتهم للسائقين ؟؟ يَداً بِيَد دون تماثل في المَبيع !
أليس هذا صنيع أيديهم ؟؟؟
أليس هذا بما كسبت أيديهم ؟؟؟
( لست ألتمس الأعذار لمن وقعت في الفاحشة )
ثم أهلكوا غيرهم بأن أقحموه في الجريمة
إن لم تفعل فلست مِنّا ولسنا منك !
إن لم تغسل العار غسلناه نحن !
إن لم تقتل فشارك " اشهد واحضر وادفن " !
وربما صاح بهم صائح
أو هتف بهم أوسطهم سِنّاً وأرجحهم عقلا :
يا قوم ... أيهما أهون عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ؟؟؟
يا قوم ... أتدرون ما النار التي تُفضِّلونها على العار ؟؟؟
يا قوم ... إن غمسة واحدة في النار تُنسي نعيم الدنيا وملذّاتها لأنعم أهل الدنيا ، وأكثرهم تَرفاً .
يا قوم ... إن ضمّة القبرِ تُمسي ليلة العُرس ! فكيف بعذاب الله في الآخرة ؟؟؟
صاح حتى بُحّ صوته !
وهتف حتى انقطع الصدى !
ولا مُجيب ولا أُذن ...
ربما كانوا يدرون ...
ولكنهم لا يُحبُّون الناصحين !
حقيقة هذه الكلمة تقشعر لها الأبدان ( النار ولا العار )
ولكن من يُطلقها مُدوّية لا يحسب لها حِساباً ، ولا يُفكّر في معناها .
أمَا إن ماعز بن مالك – رضي الله عنه – آثر عذاب الدنيا على عذاب الآخرة .
وما ضرّه ذلك :
لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم . كما في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام .
ومثله الغامدية التي لم يهدأ لها بال حتى أُقيم عليها الحد علانية ، وما ضرّها ذلك أيضا :
لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم . وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى . كما في صحيح مسلم أيضا .
والمسألة تحتاج إلى فقه دقيق وإلى نظرة شرعية مُتّزِنة ، لا نظرة جاهلية مختلّة مُضطربة !
ومثل تلك الكلمة الآثمة " النار ولا العار " كلمات أخرى لا تقل جُرماً عنها !
قبل أيام سُئلت عن كلمة هي أشد فظاظة ، وأعظم جُرماً(2/302)
يقول السائل : شخص بينه وبين آخر عداوة ، وحملته شِدّة العداوة على أن قال : لو أعلم إن " فلان " يدخل الجنة ، تمنّيت النار ولا رؤيته !
عياذاً بالله من الاستهانة بعذاب الله ، أو بأمره ونهيه .
أنسي هؤلاء مشهدا من مشاهد يوم القيامة ؟؟؟
( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا )
نسوا يوم يكون الموت والمساواة بالبهائم أغلى الأماني ؟؟
( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )
ويوم يكون العدم خير من الوجود ؟؟ ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )
ويوم يَسال أهل النار تخفيف العذاب ليوم واحد ؟؟ ( وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ )
أم تناسوا هذا الموقف ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ )
لماذا ؟؟؟
لأنها ( لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى )
فاللهم أجرنا من خزي الدنيا ، ومن عذاب الآخرة .
وسبحانك اللهم ، وبحمدك . أشهد أن لا إله إلا أنت . أستغفرك وأتوب إليك .
232-المِسك يا ( مسك ) ..
المسك أطيب الطيب
قال صلى الله عليه وسلم : كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين فاتخذت رجلين من خشب وخاتما من ذهب مغلق مطبق ، ثم حشته مسكا - وهو أطيب الطيب - فمرّت بين المرأتين فلم يعرفوها ، فقالت بيدها هكذا ، ونفض شعبة يده . رواه مسلم .
وعند أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : ذُكر المسك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هو أطيب الطيب .
والمسك تُحبه النفوس
ولذا جعل الله تُربة الجنة من المسك(2/303)
قال صلى الله عليه وسلم – في حديث الإسراء الطويل - : ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك . رواه البخاري ومسلم .
ووُصِف عرق أول زمرة تدخل الجنة بذلك
قال صلى الله عليه وسلم : أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر ، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون ، آنيتهم فيها الذهب ، أمشاطهم من الذهب والفضة ، ومجامرهم الألوة ، ورشحهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا .
ولما كان المسك مُحبباً إلى النفوس كانت رائحة الحور العين أطيب من المسك
قال عليه الصلاة والسلام : لقاب قوس أحدكم خير من الدنيا وما فيها ، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى الدنيا لملأت ما بينهما ريح المسك ، ولَطُيِّب ما بينهما ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها . رواه الإمام أحمد .
ووُصفت رائحة حوضه عليه الصلاة والسلام بذلك
فقال عليه الصلاة والسلام : حوضي مسيرة شهر ؛ ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من شرب منها فلا يظمأ أبدا . رواه البخاري ومسلم .
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ، فقال : هو نهر أعطانيه الله عز وجل في الجنة ؛ ترابه المسك ، ماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل تَرِدُه طير أعناقها مثل أعناق الجُزُر ( الإبل ) فقال أبو بكر : يا رسول الله انها لناعمة ؟! فقال : آكلها أنعم منها . رواه الإمام أحمد .(2/304)
وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينما أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوّف . قال : فقلت : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك عز وجل . قال : فضربت بيدي فيه ، فإذا طينه المسك الأذفر ، وإذا رضراضه اللؤلؤ . . رواه الإمام أحمد .
والرضراض : الحصى أو صغار الحصا .
ولطيب رائحة المسك فقد شُبّهت رائحة كفه عليه الصلاة والسلام برائحة المسك
قال وائل بن حجر رضي الله عنه : لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يمس جلدي جلده ، فأتعرّفه بعد في يدي ، وإنه لأطيب رائحة من المسك .
قال أبو جحيفة رضي الله عنه : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء ، فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ، وبين يديه عنزة كان يمر من ورائها المرأة ، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم . قال : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج ، وأطيب رائحة من المسك . رواه البخاري .
وعند أحمد عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال : أُتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء ، فشرب منه ، ثم مج في الدلو ثم في البئر ، ففاح منه مثل ريح المسك .
ولفظه عند ابن ماجه : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أتى بدلو فمضمض منه ، فمجّ فيه مسكا أو أطيب من المسك ، واستنثر خارجا من الدلو .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحب المسك ويتطيّب به
قالت عائشة رضي الله عنها : كأني انظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو محرم . رواه مسلم .
وشُبِّه الجليس الصالح بحامل المسك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك ، إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحا خبيثة . رواه البخاري ومسلم .(2/305)
ووُصفت رائحة دم الشهيد وشُبّهت بالمسك
قال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم ، والريح ريح المسك . رواه البخاري ومسلم .
وشُبه به طيب خلوف فم الصائم عند الله يوم القيامة ؛ لأنه أثر عبادة يُحبها الله
قال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك . رواه البخاري ومسلم .
وفي الكلمات الخمس التي أمر الله بهن يحي عليه الصلاة والسلام أن يُبلغهن بني إسرائيل : وآمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرّة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك ، وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك . . رواه الإمام أحمد .
ووُصفت الريح التي تقبض أرواح المؤمنين برائحة المسك
قال صلى الله عليه وسلم : لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ، ثم يبعث الله ريحا كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته ، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة . رواه مسلم .
ورائحة روح المؤمن إذا خرجت وصعدت إلى السماء كرائحة المسك
قال صلى الله عليه وسلم :إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها - فذكر من طيب ريحها ، وذكر المسك - قال : ويقول أهل السماء : روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه ، فينطلق به إلى ربه عز وجل ، ثم يقول : انطلقوا به إلى آخر الأجل . قال : وإن الكافر إذا خرجت روحه - وذكر من نتنها ، وذكر لعناً - ويقول أهل السماء : روح خبيثة جاءت من قبل الأرض . قال فيقال : انطلقوا به إلى آخر الأجل . قال أبو هريرة رضي الله عنه : فَرَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا . رواه مسلم .(2/306)
قال أبو العالية : كان لأنس بستان يحمل في السنة مرتين ، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك . رواه الترمذي .
وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه .
فنسأل الله أن تكون روائح أرواحنا إذا فارقت أجسادنا أطيب من المسك
ونسأله تبارك وتعالى أن يُوردنا حوض نبيه الذي ريحه أطيب من ريح المسك
ونسأله سبحانه مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم الذي رائحة كفه أطيب من المسك
ونسأله سبحانه أن يُدخلنا الجنة التي ترابها المسك
233-المرأة والفوز..
المرأة نصف المجتمع
لا
بل هي المجتمع كلّه
على حدّ مقولة : المرأة نصف المجتمع ، وهي تلد النصف الآخر !
وهي نصف الدِّين لمن ظفِر بها
قال عليه الصلاة والسلام : من تزوّج فقد استكمل نصف الإيمان ، فليتق الله في النصف الباقي . رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان ، وحسّنه الألباني .
وكأن في هذا إشارة إلى العزاب بنقص دينهم
بل إشارة إلى الرجال جميعاً أن دينهم وإيمانهم لا يكمل إلا ( بامرأة )
فهم بحاجة إلى النصف الآخر شرعاً وعقلاً وطبعاً .
وليس مجرّد تحصيل حاصل
بل هو الفوز والظفر
أي فوز تعني ؟
أهو الفوز الرياضي ؟؟؟
أم هو الفوز الدراسي ؟؟؟
كلا . لا هذا ولا ذاك
بل هو الفوز والظّفر بـ " ذات الدين " بالمرأة المتدينة الصالحة
فإذا تعددت وتنوّعت واختلفت مقاصد الناس في الزواج فعليك بالظفر والفوز بصاحبة الدِّين
" تُنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين ترِبَتْ يداك " متفق عليه .
ومعنى تَرِبَتْ يداك : أي التصقتا بالتّراب . كناية عن الفقر .
وهذا من باب الدعاء على من نكح وتزوج لمقصد آخر غير الدّين .
لماذا ذات الدّين بالذات ؟؟؟
1 – لأنها خير متاع الدنيا .
" الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم .
2 – لأنها تُعين على الطاعة .(2/307)
" ليتخذ أحدكم : قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة "
قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سُئل : أي المال نتخذ ؟ رواه الإمام أحمد وغيره ، وصححه الألباني .
3 – لأنها من خصال السعادة
" ثلاث من السعادة ، وثلاث من الشقاوة ؛
فمن السعادة : المرأة تراها تعجبك ، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك .
والدابة تكون وطية فتلحقك بأصحابك .
والدار تكون واسعة كثيرة المرافق .
ومن الشقاوة : المرأة تراها فتسوءك ، وتحمل لسانها عليك ، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك .
والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك ، وإن تركبها لم تلحقك بأصحابك .
والدار تكون ضيقة قليلة المرافق " رواه الحاكم ، وهو في صحيح الجامع .
4 – لأنها أمان نفسي .
" خير النساء من تسرّ إذا نظر ، وتطيع إذا أمر ، ولا تخالفه في نفسها ومالها " رواه الإمام أحمد وغيره ، وحسنه الألباني .
فأي فوز – بعد تقوى الله – أعظم من الفوز بامرأة صالحة ؟؟؟
وها هنا وقفة نفسية مع قوله صلى الله عليه وسلم عن المرأة الصالحة : وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك .
يؤكد علماء النفس أن الرجل – أيّاً كان – بحاجة إلى المرأة المتدينة !
والمرأة بحاجة إلى الرجل المتديّن !
لماذا ؟؟؟
لأن الدِّين الذي يحمي صاحبه ضرورة من ضرورات الأمن النفسي
وذلك في حالة غياب أحدهما عن الآخر يبقى الودّ محفوظاً لا لأجل الطرف الآخر فحسب ، بل لأن المتديّن – حقيقة – يُراقب الله ، ويعلم أن الله مُطّلع عليه .
حدثني طبيب مسلم عربي يُقيم في فرنسا قال :
أول ما أتيت إلى هذه البلاد الأوربية تركت زوجتي وأطفالي في بلدي ريثما أجد السكن المناسب وأُنهي بعض الترتيبات .
قال : فعملت في إحدى المستشفيات ، وفي يوم من الأيام سألتني طبيبة فرنسية :
أين زوجتك ؟
قال : قلت : في بلدي .
قال : فعرضت عليّ أن أبيت معها على فراشها ولو ليلة واحدة !
( مع أنها ذات زوج ) !!(2/308)
قال : فرفضت ذلك وبشدّة .
قالت : لماذا ؟ وأنت الآن أعزب ؟ وزوجتك بعيدة عنك ؟
قال : لِعدّة اعتبارات :
الأول : أن ديني ينهاني عن هذا الفعل القبيح .
الثاني : أن عقيدتي تغرس في نفسي مراقبة الله وحده في الخلوة والجلوة .
الثالث : أنني أحفظ الودّ لزوجتي ، وكما أنني لا أرضى أن تخونني كذلك لا أخونها .
الرابع : أن هذه الأمر ، وهذا الفعل دَيْنٌ مردود على صاحبه .
قال : فرأيت الدهشة على وجهها .
قال صاحبنا الطبيب :
ثم سألتُ تلك الطبيبة :
هل تأمنين زوجك ؟
قالت :
لو كُنت أجلس معه على طاولة واحدة ، فأغمضت عيني لم آمن خيانته ! وهو كذلك لا يأمنني !
فتأملوا حال أولئك الذين وصفهم العليم بهم بأنهم ( كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا )
ثم تأملوا حال المرأةالمسلمة الصالحة التي تحفظ زوجها وإن غاب عنها السنوات الطوال
فهي :
" لا تخالفه في نفسها ومالها "
وهي :
إن نظر إليها أعجبته ، وإن غاب عنها أمِنها على نفسها وعلى ماله .
" المرأة تراها تعجبك ، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك "
إذاً :
الفوز والظفر بِذاتِ الدِّين مطلبٌ شرعي ، وضرورة نفسيّة .
" فاظفر بِذاتِ الدِّين "
أخيراً :
كالعادة ! سوف أعتذر عن الإطالة .
(هذه خاطرة مكيّة )
كُتبت في البد الحرام
وأستودعكم الله .
234-إِني أُصرَع ..!!
روى البخاري ومسلم عن عطاء بن أبي رباح قال :
قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟
قلت : بلى .
قال : هذه المرأة السوداء ! أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله لي .
قال : إن شئت صبرتِ ، ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك .
قالت : أصبر .
ثم قالت : فإني أتكشف ، فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها .
مِنْ فوائد هذا الحديث :
1 – أن العبرة بتقوى الله لا بألوان ولا بأجناس الناس .
2 – كرامة تلك المرأة على الله ، حيث تمشي على الأرض وتعلم أنها من أهل الجنة .(2/309)
3 – إثبات الصّرع ، وهو على نوعين :
أ – صرع طبيعي ( نتيجة مرض )
ب – صرع نتيجة المس ( وهذا يُنكره كثير من النفسانيين ) !
4 – الذي أهمّ تلك المرأة أنها تتكشّف !
5 – جواز طلب الدعاء من الآخرين .
6 – الجنة لمن صبر على ما يُصاب به ، مع الإيمان بالله .
7 – تصبّر المرأة على ما تُصاب به ، وهو الصَّرَع ، في مقابل سلعة الله الغالية ( الجنة ) .
8 – هوان الدنيا في أعين أهل الإيمان
فما هذه الدنيا وإن جَلّ قدرها *** سوى مُهلة نأتي لها ونروحُ
9 – حرص تلك المرأة على أن لا تتكشّف حتى وهي في حالة فقدان الوعي أو بعضه .
أين هذا من حرص بعض نساء المسلمين اليوم على التّكشّف والتّعرّي وهو في أتم صحة وعافية ، وأكمل نضارة وشباب ؟؟؟
الدنيا – في عين تلك المرأة – مُحتقرة
الدنيا لا تهمّ
المرض لا يهمّ
الصَّرع لا يهمّ
التّأذي به لا يهمّ
وإنما الذي يهمّ هو الستر والتّستّر وعدم التكشّف .
وهذا الأمر هو الذي أهمّ أم سلمة – رضي الله عنها –
لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه . قالت أم سلمة : يا رسول الله فكيف تصنع النساء بذيولهن ؟ قال : يرخينه شِبراً . قالت : إذا تنكشف أقدامهن ! قال : يُرخينه ذراعا ، لا يَزدن عليه . رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي .
فلما قال – عليه الصلاة والسلام – : من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه .
اهتمّت أم سلمة وظنّت أن الخطاب للرجال والنساء
فحملها ذلك على السؤال عن ثياب النساء
فجاءها الجواب : يُرخينه شبراً . يعني أسفل من الكعب .
فورد عليها إشكال – عندما تركب المرأة الدابة أو تنزل منها أو تصعد درجاً ونحوه –
إذا تنكشف أقدامهن !
فجاء الجواب الأخير
يُرخينه ذراعا ، لا يَزدن عليه .(2/310)
وهذه أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها – تشغلها قضية الستر يدفعها الحياء وهي امرأة كبيرة السن عمياء – من القواعد من النساء – ومع ذلك لا ترضى لنفسها بلباس فيه شُبهة .
لما قَدِمَ المنذر بن الزبير من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب رقاق عتاق بعدما كف بصرُها . قال : فلمستها بيدها ، ثم قالت : أف ! ردوا عليه كسوته . قال : فشق ذلك عليه ، وقال : يا أمه إنه لا يشف . قالت : إنها إن لم تشف ، فإنها تصف ، فاشترى لها ثيابا مروية فقَبِلَتْها . رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى .
واليوم تُشمّر بعض النساء عن ثيابها حتى تنكشف ساقيها كأنها تُريد أن تخوض لُجّة البحر !
لِحدِّ الركبتين تُشمّرينا *** بربِّك أي نهرٍ تعبرينا ؟؟!!
في حين أن بعض الرجال هم الذين يجرّون أذيالهم شبراً وربما جرّوا عباءاتهم ذراعاً !
إن قضيّة السِّتر والتّستّر هي التي كانت تشغل بال نساء السلف في جميع الأحوال
حال السلامة والعافية كما في حال أم سلمة
بل وحتى حال الكِبَر كحالِ أسماء
وحال المرض والإغماء كما في حال المرأة السوداء
وبعد الانتقال من هذه الحياة ! كما في حال فاطمة الزهراء – رضي الله عنها –
فقد قالت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء ، أن يُطرح على المرأة الثوب فيصفها ، فقالت أسماء : يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة ؟ فَدَعَتْ بجرائد رطبة فَحَنَتْها ثم طَرَحَتْ عليها ثوبا ، فقالت فاطمة رضي الله عنها : ما أحسن هذا وأجمله .
لقد كانت قضيّة السِّتر هي شُغلهن الشاغل ، حتى في حال رفع قلم التكليف ، أو بعد مُفارقة الدنيا
وأصبحت قضيّة العُري والتّعرّي !! وتشمير الملابس !! وتضييقها !! وتشقيقها !! هي قضيّة العديد من نساء الأمة اليوم !
شتّان شتّان
ويا بُعد ما بينهما
لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليم والأغر ابن حاتم(2/311)
فَهَمّ الفتى الأزدي إتلاف مالِه ***وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
ولا يحسب التمتام أني هجوته *** ولكنني فضّلت أهل المكارم
أُخيّه :
فلتكن قضية السِّتر هي قضيّتك التي لا تقبلين المساومة عليها أبداً
ستركِ الله في الدنيا والآخرة .
235- الدِّين أم الحذاء؟!
قال سفيان بن عيينة: قال أبو حازم سلمة بن دينار لجلسائه - وحلف لهم -: لقد رضيت منكم أن يُبقي أحدكم على دينه كما يُبقي على نعله!
هل يمكن أن يكون اهتمام بعض الناس ببعض مسائل دينه أقل من اهتمامه بحذائه؟
ربما تتفاجأ إذا قلت لك: نعم
وتُفاجأ أكثر إذا كان الجواب: هذا حال كثير من الناس إن لم يكن حال أكثر الناس.
وتُصاب بالذّهول إذا اكتشفت بعض ذلك في نفسك!
هنا أُعيد السؤال:
أيهما أكثر اهتماماً عندك دِينك أو حذاءك؟
عندما يُريد أحدنا أن يشتري حذاء له, أو لولده – إن كان له ولد – فإنه لا يكتفي بدخول أقرب محل وتناول أقرب حذاء!
بل يدخل محلاً وآخر وربما دخل عشرة محلاّت!
ويسأل عن الحذاء والنوعية
ويتحرّى الحذاء الجيّد
ويبحث عن النوع المريح
وعندما يغبرّ الحذاء يُلمّع!
وإذا بلي الحذاء اعتنى به وأصلحه!
فهل يفعل الشيء نفسه في تعامله مع دينه؟
أحياناً كثيرة: لا يفعل الشيء نفسه فيما يتعلق بدِينه!
عندما تعرض له شُبهة فإنه يأخذ بأقرب قول
فيُقلّد من لا تبرأ الذمّة بتقليده
ويأخذ بقول من لا يحلّ له الأخذ بقوله
ولربما عرضت له مسألة فرأى في الشارع من يُحسن به الظنّ فسأله, وقلّده في دين الله عز وجل!
وعندما يُنبّه إلى الخطأ الذي وقع فيه يقول: سمعت في المسألة كذا وكذا!
فتُبادره: ممن سمعت؟
فيقول: من أخي! أو تقول هي: من أختي!
وقبل فترة رأيت رجلين صليا خلف إمام مُقيم فلما قام للركعة الثالثة جلسا حتى انتهى الإمام من صلاته، فسلما معه، ثم سألتهما عن فعلهما، فأجابا بأن هناك من أفتاهم بذلك.
سألت من يكون؟
وعن مَنْ مِن العلماء؟
فأشارا إلى رجل كان ينتظرهما، فجاء، ثم سألته(2/312)
فقال: سمعت فتوى!
قلت: من الذي أفتى؟
قال: ما أدري! ولكني سمعت!
قلت: ما سمعته قد يكون حقاً وقد يكون بخلاف ذلك، وربما يكون في مسألة أخرى غير هذه الصفة، والخلاف في هذه المسالة خلاف ضعيف..
أهكذا يكون السؤال؟!
وهكذا يكون الحرص على الدِّين؟!
ألم أقل لكم إن الاهتمام بالدِّين عند بعض الناس أقل من الاهتمام بشراء حذاء!
ومن الناس مَن إذا سمع بحديث بادر في نشره وإذاعته دون أن يُكلّف نفسه السؤال عن الحديث وصحته قبل نشره ونسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
وإذا سمع بفتوى أخذ بها دون التأكد منها
بل يأخذ أحياناً بما يوافق هواه!
أو يتماشى مع رغبته!
وهو لا يرضى أن يأخذ بهذا في خاصة نفسه فيما يتعلق بأمور دنياه
ولا يرتضي هذا المسلك في سائر أموره!
فلا يرتضي هذا في مراجعة أي طبيب!
ولا في سؤال أي مهندس!
ولا في إصلاح سيارته عند أقرب ورشة!ولكنه يبحث في ذلك كله عن أمهر أهل الصنعة وأحذق أهل المهنة!
وربما بقي أياما أو أسابيع يسأل ويبحث ويتحرّى حتى يقع على الخبير!
إن الدِّين هو رأس المال بل أغلى وأثمن وأجلّ
ولذا كان مِن دُعائه عليه - الصلاة والسلام -: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادى، وأجعل الحياة زيادة لي في كل خير، وأجعل الموت راحة لي من كل شر. رواه مسلم.
فهل نهتم ونعتني بديننا كما نهتمّ ونعتني بدنيانا؟!
236-إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا..
هذا وعد مَنْ لا يُخلف وعده
( وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً )
وقد وعد الله سبحانه وتعالى بالمُدافعة عن المؤمنين فقال : ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا )
وتأخذ المدافعة أشكالاً مختلفة ، وصوراً متعددة .
دافع الله عن نبيه نوح فكان في الطوفان المغرق نجاة له ولمن آمن معه .
ودافع الله عن أوليائه فحماهم مِن مكر الماكرين ومِن كيد الكائدين(2/313)
فقد دافع رب العزة جل جلاله عن خليله إبراهيم حينما أُلقي في النار
فكانت النار برداً وسلاماً ، بل وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا
قال تبارك وتعالى : ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ )
وتوالتْ عليه الهبات وتتابعت عليه الأعطيات ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ )
وفي هذا الموضوع مُدافعة الله عز وجل عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/77.htm
ولم تكن هذه المدافعة خاصة بالأنبياء والرُّسل ، بل هي عامة للمؤمنين على مرّ التاريخ .
فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : أقبل سعدٌ من أرضٍ له ، فإذا الناس عكوفٌ على رجل ، فاطّلع فإذا هو يسبُّ طلحة والزبير وعلياً ، فنهاه ، فكأنما زاده إغراءً ، فقال : فقال : ويلك ! تريدُ أن تسبَّ أقواماً هم خيرٌ منك ؟ لتنتهينّ أو لأدعونّ عليك . فقال :كأنما تخوفُني نبيّ من الأنبياء ! فانطلق فدخل داراً فتوضأ ، ودخل المسجد ثم قال : اللهم إن كان هذا سبّ أقواماً قد سبقت لهم منك حسنى ، أسخطك سبُه إياهم ، فأرني اليوم آيةً تكونُ للمؤمنين آيةً . قال : وتخرج بُختيةٌ من دار بني فلان لا يردُها شيء حتى تنتهي إليه ، ويتفرّقَ الناسُ ، وتجعلَه بين قوائمها وتطأه حتى طَفي ، قال : فأنا رأيت سعداً يتبعه الناس يقولون : استجاب الله لك يا أبا إسحاق - مرتين - رواه الطبراني في الكبير ، وقال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، ورواه ابن أبي شيبة مختصراً .
قال الإمام الذهبي : في هذا كرامة مشتركة بين الداعي ، والذين نِيلَ منهم(2/314)
والبُختية هي الناقة الخراسانية الكبيرة .
وحدّثني أبي عن رجل أدركه أنه ترك بعيره يرعى يوماً من الأيام ، ولم يكن يملك غيره ، فلما رجع إليه آخر النهار وجد بعيراً آخر أكبر منه قد اعتدى عليه وكسر رقبته ، فأراد أن يأخذ ما عليه من متاع ، فطارده ذلكم البعير الضخم !
فهرب منه ، ولكن دون جدوى ، ثم خلع ثوبه وطرحه على شجرة لعله يوهم البعير ، ولكن دون جدوى ! حتى بقي الرجل عارياً !
وبينما هو يفرّ منه إذ وجد وادياً فنزل فيه وتبعه البعير فوجد دِحْلاً أو جحراً ضيقاً فدخل فيه فألقى البعير جِرانه وأخذ يبرك على ذلك الجحر ، قال الرجل : وكنت أدخلت مؤخرة جسمي أولاً وصار رأسي إلى مدخل الجحر ، وبينما أنا كذلك انتظر الموت إذ خرجت حية من أسفل ذلك الجحر حتى مرّت على ظهري ثم خرجت فلسعت الجمل حتى مات .
يقول الرجل : فخرجتُ وحمِدت الله على ذلك .
ولا شك أن هذا من مُدافعة اله عن المؤمنين .
فنحن يا أيها الكرام أحوج ما نكون إلى مُدافعة من لا يُغلب جُنده ، ولا يُهزم حِزبه ، ولا يُردّ أمره .
قال قتادة في قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) : والله ما يضيع الله رجلا قط حفظ له دينه .
وليس معنى ذلك أن لا يتعرّض المؤمن لأدنى أذى أو ابتلاء وامتحان .
237-أول من نصر الإسلام امرأة ..
لما بدأت بوادر هذا الدّين
ولما حلّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حلّ
ونزل به ما لو نزل بالجبال لدكّها دكّاً
رجف فؤاد الحبيب صلى الله عليه وسلم
وارتعدت فرائصه
وخاف مما نزل به وطرأ عليه
لم يجد قلبا أقرب من قلب خديجة
ولم يلجأ بعد الله إلا إليها
فعاد إليها وهو يقول : زمّلوني زمّلوني ... دثّروني دثّروني
فوَقَفَتْ خديجة رضي الله عنها إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم في موقف يعجز عنه آحاد الرجال وَقَفت صامدة ثابتة
لقد وقفت موقف الثبات
حالفة بالله لا يُخزي الله رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/315)
ولكنها لم تُبادره بالسؤال بل زملته حتى ذهب عنه الروع
فلما قال عليه الصلاة والسلام لحبيبته وحليلته : أي خديجة ! ما لي ؟ لقد خشيت على نفسي . ثم
أخبرها الخبر .
فانبرتْ تحلف وتُقسِم بالله بل وتُبشِّره ! :
كلا ، أبشر ، فو الله لا يخزيك الله أبدا .
ثم طيّبت نفسه وعلّلت قسمها ، بل وأتبعته بقسم آخر
فقالت :
فو الله إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ ، وتكسِب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
ثم لم تكتفِ بذلك بل انطلقت به خديجة رضي الله عنها حتى أتت به ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة
فقالت له خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك .
فقال ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعا أكون حيا حين يُخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوَ مخرجيّ هم ؟! فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي ، وإن يُدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . والقصة في الصحيحين .
فمن تمام نُصرة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن هدّأت روعه وفعلت به ما طلب من التّغطية ، ثم طيب نفسه بما تعرفه عنه من خصال البِرّ والخير ، ثم ذهبت به إلى من تعلم منه النّصح لها ولزوجها ، ذهبت به إلى رجل صالح ، هو ورقة بن نوفل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين . رواه الحاكم وصححه .
فَحُقّ لخديجة بعد ذلك أن لا ينساها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعد موتها بل حفظ لها العهد والودّ(2/316)
ولما أكثر النبي صلى الله عليه وسلم مِن ذكر خديجة قالت عائشة رضي الله عنها وقد غارت : ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق ! قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها . قال : ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها ؛ قد آمَنَتْ بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذا حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء . رواه الإمام أحمد .
بل ويرتاح عليه الصلاة والسلام ويهتز سرورا لاستئذان أشبه استئذان خديجة ! ولصوت أشبه صوت خديجة رضي الله عنها
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة ، فارتاع لذلك ، فقال : اللهم هالة ! قالت : فَغِرْتُ ، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ! حمراء الشدقين ! هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيرا منها .
قال العيني رحمه الله : قوله : فعرف استئذان خديجة " أي تذكر استئذانها لشبه صوتها بصوت خديجة وقوله " فارتاع لذلك " من الرّوع أي فزع ، ولكن المراد لازمه وهو التغير ، ويُروى " فارتاح " بالحاء المهملة أي اهتز لذلك سروراً . اهـ .
قلت : رواية " فارتاح " رواها مسلم .
ومن وفاءه صلى الله عليه وسلم لها أنه كان يشتري الشاة فيذبحها ثم يبعث بها لصواحب خديجة رضي الله عنها .
قالت عائشة رضي الله عنها : ما غِرت على امرأة ما غِرت على خديجة ، ولقد هلكت قبل أن يتزوجنى بثلاث سنين لما كنت أسمعه يذكرها ، ولقد أمره ربّه عز وجل أن يبشرها ببيت من قصب في الجنة ، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها . رواه البخاري ومسلم .
فبُشِّرت ببيت في الجنة لأجل ما وقفته من مواقف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولتثبيتها له .
فأول نصر لهذا الدّين كان على يد امرأة
فَحُقّ للنساء أن يفخرن بهذا الإنجاز
ولو كان النساء كمثل هذي = لفُضِّلت النساء على الرجال(2/317)
وما التأنيث لاسم الشمس عيب = ولا التذكير فخر للهلال
238-أوربا المتخلِّفة !!
أعرف أولاً أن هذا العنوان سوف يُثير حفيظة من كان هواه ( غربياً ) !!
وأعرف ثانيا أنني ربما أرمى بالمبالغة !
ولكن – رعاكم الله – لا تتعجلوا عليّ حتى تقرؤوا مقاليه .
وأعدكم بأني لن أتحدث إلا عن علم ، سواء مما رأيته رأي عين ، أو سمعته مباشرة ، أو قرأته بنفسي ، فلا تحكموا حتى تتموا قراءة ما كتبته .
=======
جمعني مجلس باثنين من الأقارب ؛ أما أحدهما فهو حاصل على شهادة الدكتوراه من أوربا ، وأما الآخر فمدير مدرسة .
فدار الحديث حول الغرب وتطوّر أوربا يشوب ذلك الحديث نظرة إعجاب بالغرب وانبهار بالحضارة المادية ، وتلمس منه نوع ازدراء للمجتمعات الإسلامية .
فطرحت السؤال الآتي :
ما هو مقياس التطور والحضارة في نظركم ؟
فكان الجواب :
الجانب التقني ( التكنولوجي ) والجانب الإداري .
فقلت :
أولاً : أغفلتما الركن الأساس ، ألا وهو الجانب الأخلاقي .
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والقوم يشكون ويتذمّرون من انحطاط الأخلاق .
حتى قالت قائلتهم - وهي الدكتورة أيدا أيلين في بحث لها - : إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا ، وسِرّ كثرة الجرائم في المجتمع ، هو أن الزوجة تركت بيتها لِتُضاعِف دَخْل الأسرة ، فزاد الدّخل ، وانخفض مستوى الأخلاق !
وقال لي بعض المسلمين الذين يعيشون في أوربا ، إن المرأة أو الفتاة التي تسير في الشارع مع والديها تُعتبر معقدة وليست ذات صديق !! فتحتاج إلى والديها حتى لا تصاب بأمراض نفسية أكثر ، إذ تُعتبر معقدة !!!
وكذلك من تراها في الشارع بصحبة الكلب أو الكلاب !!!
ومن تهاوي جانب الأخلاق ما يشهد به كل عاقل :
كثرة الجرائم والانتحار
كثرة حوادث الاغتصاب
تفكك الأواصر والروابط الاجتماعية
انتشار الشذوذ بين الرجال وبين النساء
انتشار نكاح ذوات المحارم .... إلى سلسلة يطول ذكرها ويصعب شرحها .(2/318)
ثانياً : أغفلتما الجانب الاجتماعي ، والغرب يشكو – بعامة – تفكك الأسرة ، قال الأستاذ شفيق جبري في كتابه أرض السحر : إن المرأة الأمريكية أخذت تخرج عن طبيعتها في مشاركتها الرجل في أعماله ، إن هذه المشاركة لا تلبث أن تُضعضع قواعد الحياة الاجتماعية ، فكيف تستطيع أن تعمل في النهار ، وأن تُعنى بدارها وبأولادها في وقت واحد ؟
بل إن القوم في ظل ذلك لا يستطيعون العيش دون الكأس والمرقص ، بل هم في لهف لنهاية الأسبوع حيث يتراقصون ويسكرون ويتساقطون فيشعر الواحد منهم بذهاب الهمّ ولو لوقت قصير !!
فقال لي الدكتور :
الغرب فصّل ثوبا ولبسه !!
فقلت : ليس كل من لبس ثوبا أصبح لائقا به مناسباً له ، ومع ذلك فعقلاء الغربيين والعاقلات منهم يَشْكُون جميعا ذلك الثوب الذي يُخالف الفطرة .
( ولو أردت أن أنقل كلامهم لطال بنا المقام والمقال )
وأما الجانب الإداري :
فإن مما يتبجّح به الغرب حقوق الإنسان ، وهي لمن جمع ثلاثة أوصاف ( أن يكون غربياً – وأن يكون نصرانيا – وأن يكون أبيضا ) !!!
فإذا اختل وصف من هذه الأوصاف سقطت إنسانيته ، وأصبح ( لا إنسان ) !!
وخذ على سبيل المثال :
التفرقة العنصرية في أمريكا وأوربا ، بل إن طوائف تعيش في أوربا من عشرات السنين ، وهي نصرانية ، ولا تزال أوربا تنظر إليهم نظرة الاحتقار والدُّونيّة ! وهم من يُسمونهم الغجر ، أو يسمونهم ( الختيانوس ) فلا يتزوّجون منهم ولا يُزوّجونهم !! ( اختل وصف الجنس واللون )
وخذ مثالاً آخر :
الغربي الأبيض البوسنوي لم تتحرك منظمات حقوق الإنسان يوم سُفك دمه ، أما لماذا ؟ فالجواب : لأنه مسلم ( اختل وصف الديانة ! )
وخذ مثالاً ثالثاً على الجوانب الإدارية :
وفي فرنسا قابلت طبيبا مسلما فقال لي : هنا عندك تأمين صحي تتعالج وتعيش !! أما إذا لم يكن عندك تأمين صحي فلا قيمة لك ولو مُتَّ على الرصيف .(2/319)
ثم قدّر الله أن سافرت من عنده إلى مدينة أخرى فقيل لي : هنا دكتور مسلم وهو مريض يُعاني من مرض في القلب ، فلو زرته ، فذهبت لزيارته بصحبة ابن أخته ، فقصّ لي قصة خاله ومعاناته مع المرض ، وأنه جاء إلى فرنسا لتقديم بحث ثم يعود إلى بلده ، فسقط هنا مريضا ، فلو لم يتكفّل بعض تجار المسلمين بنفقات علاجه لمات على قارعة الطريق ... لأنه لا يملك تأمينا صحيا !!!
أليس بشراً ؟؟؟؟!!!
هذا مما يحدث في أوربا !!!!
وهم لا ينضبطون في بلادهم حُبّاً في النظام بل خشية العقوبة ، والغرامات المالية ... فقد تعاملت معهم شخصيا في بعض سفاراتهم ، والتي تُمثّل بلادهم فكان من الطبيعي أن تجلس الساعة والساعتين في انتظار معاملة !! بل ترددتُّ أكثر من أسبوع على إحدى السفارات للحصول على تأشيرة ، وفي النهاية أُعيد إليّ جوازي دون سبب مُقنع أو مبرر مقبول ( ولكن من أمن العقوبة أساء الأدب !! )
ولو كان ذلك في بلادهم لتم إنجاز الأوراق في وقت قياسي خشية الملاحقة القانونية !!
ومما شاهدته بنفسي أن بعض الحدائق في أوربا يُمنع دخول الكلاب فيها ، حِفاظاً على النظافة ، وقد يدخِلُ بعضهم كَلْبه ( المُدلّل !! ) لتلك الحدائق ، ليقوم بتمشيته ! وعندها يُضطرّ لأن يحمل معه المناديل الورقية في جَيْبِه لالْتِقاط مُخلّفات كلبه وفضلاته ، خوفاً من العقوبة !!
وخذ مثالاً رابعاً :
في فرنسا يعيش أكثر من خمسة ملايين مسلم ليس لهم مقبرة مستقلة ، بينما توجد في باريس ( التي يُسمونها زورا وبهتانا عاصمة النور ) توجد أكبر مقبرة للكلاب !!
فهل هذا يُعدُّ تقدّماً أو تحضُّراً ؟!!
وخذ وخذ وخذ
وأنت قد عشت هناك سنوات ورأيت وخبرت
أليس كثير من الناس هناك يتحاشون السير ليالي نهاية الأسبوع خوفا من حوادث الطرق التي يتسبب فيها السكارى ؟؟
بل في بعض الدول الأوربية تأتي نتائج إحصائيات حوادث نهاية الأسبوع لتفوق حوادث الأسبوع كاملا بل ربما فاقت حوادث الشهر كاملا ؟؟(2/320)
وفي بعض الدول هناك أسابيع مقدّسة تتعطّل فيها الأعمال لمدة أسبوع فربما جاءت نتائج حوادث ذلك الأسبوع الذي يُتعاطى فيه الخمر بشراهة !! تأتي نتائجه أكثر من خمسين أو مائة قتيل نتيجة حوادث السكارى ؟؟
وخذ مثالاً وليس الأخير في حياتهم :
كنت يوما من الأيام في مدينة أوربية صغيرة وأردنا الخروج من تلك المدينة فإذا بالشارع العام – وهو أكبر شارع في المدينة – إذا به مغلق ، فأخذنا نبحث عن مخرج ، حتى خرجنا ، فسألت عن سبب إغلاقه ؟ قالوا : تحبّ أن ترى الجواب ؟ قلت : نعم .
فانطلقوا بي إلى مكان نرى منه الشارع الرئيسي وهو محاط بسياج حديدي من الجانبين ، فوقنا قليلا ، ثم مرّ عِجلٌ صغير يجري !! وإذا القوم خلفه يجرون !! كأنه قد قتل لهم قتيلا أو سرق لهم شيئا ثمينا !!!
فقلت : لماذا هذا ؟
قالوا : هذه رياضة ( أوربية ) يُقيمونها كل سنة !!
فقلت : أما لو عملناها نحن المسلمين – ولن نعملها – لعدُّوا ذلك تخلفا ووحشية !!! ولتنادت جمعيات حقوق الحيوان لوقف هذه الهمجية !!!
كما تتنادى لوقف ( وحشية ) ذبح الحيوان !!
أما أن تُعمل في قلب أوربا !! فهذا التقدّم والحضارة !!
وأما الجانب التقني ( التكنلوجي ) :
فقد سافرت بنفسي على طائرة ( فوكر ) ذات المراوح الجانبية ، سافرت عليها في أوربا في رحلة دامت أكثر من ساعة !! وسافرت عليها أيضا في دولة آسيوية ( نامية ! ) فأي فرق بين تلك الدولة الآسيوية الفقيرة وبين تلك الدولة الأوربية ( التي تُعتبر متحضرة متقدّمة ) ؟؟!!
فقال الآخر – وهو مدير مدرسة – :
هذا لا يُعدّ مقياسا للتطور والتخلّف !! يمكن أنهم يستخدمون تلك الطائرات في الرحلات القصيرة !!
فقلت :
يا صاحبي سافرت عليها في رحلة بين مدينتين من أكبر المدن الأوربية ، ودامت الرحلة أكثر من ساعة !! ( يعني كأنك تسافر من الرياض إلى جدة ! )(2/321)
ولكن ما حيلتي فيمن كان هواه غربياً !!! يرى الغرب والغربيين عند النجم !! أو مثل الكوكب الغابر في السماء !!
ما حيلتي فيمن يرى ***** أن القبيح هو الحسن ؟؟!!!
ومن مظاهر التخلّف أنك لا تدخل محلاًّ إلا وتُصمّ آذانك من آثار الموسيقا الصاخبة دون مراعاة لمشاعر الناس .
وأنك لا تدخل محلا أو مكانا عاما إلا وسحب الدخان تعلو المكان ، من آثار السجائر دون مراعاة لمريض أو مسنّ أو غيره .
ولكن الجانب التقني في بعض الدول الغربية أعمى بعض العيون عن رؤية واقع القوم وحقيقة حياتهم ، والمناظر المؤلمة من الداخل .
( ولي وقفات مع بعض المظاهر في أوربا ، ولولا خشية الإطالة لسردت كثيرا منها )
ولعل القارئ الكريم يرجع إلى كتابين ذُكر فيهما الكثير عن الواقع الغربي بالأرقام والإحصائيات :
الأول : أمريكا كما رأيتها للدكتور مختار المسلاتي ، وقد عاش في أمريكا ردحا من الزمن .
والثاني : المرأة بين الفقه والقانون للدكتور مصطفى السباعي .
( ومعذرة على الإطالة ) وشكرا للجميع .
239-أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الدنيا ، وإنما تمنى ما له علاقة بمنازل الآخرة ، بل برفيع المنازل ، وعالي الدرجات .
فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة ، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني ، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل . رواه البخاري ومسلم .
هذه كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا كانت النفوس كبار = تعبت في مرادها الأجسامُ
أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشجع الشجعان حتى إنه ليحتمي به صناديد الأبطال عند اشتداد النِّزال(2/322)
قال البراء رضي الله عنه : كنا والله إذا احمر البأس نتقي به ، وإن الشجاع منّا للذي يحاذي به ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم
وقال عليّ رضي الله عنه : كنا إذا احمرّ البأس ، ولقي القوم القوم ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه . رواه الإمام أحمد وغيره .
من هنا كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم عالية ، كانت منزلة رفيعة ، ألا وهي الشهادة في سبيل الله .
وليست مرة بل مرّات
تأمل :
" والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل "
وفي رواية للبخاري :
والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ، ثم أحيا ثم أقتل ، ثم أحيا ثم أقتل ، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا .
وما ذلك إلا لكرامة الشهيد والشهادة على الله .
ولذا لما قُتِل من قُتِل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ولقوا ربهم تبارك وتعالى ، فسألهم : ماذا يُريدون ما اختاروا غير العودة للدنيا من أجل أن يُقتلوا في سبيل الله مرة ثانية .
لما قُتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جابر ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك ؟ قلت : بلى . قال : ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب ، وكلّم أباك كفاحا ، فقال : يا عبدي تمنّ عليّ أعطك . قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية ! قال : إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون . قال : يا رب فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .(2/323)
وقال عليه الصلاة والسلام : لما أصيب إخوانكم بأُحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب . فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فأي كرامة يُكرم الله عز وجل بها الشهيد الذي قُتِل في سيل الله لإعلاء كلمة الله ؟
قال عليه الصلاة والسلام :
للشهيد عند الله عز وجل سبع خصال :
يُغفر له في أول دفعة من دمه .
ويرى مقعده من الجنة .
ويُحلى حلة الإيمان .
ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين .
ويُجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر .
ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها .
ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه ، وهو في صحيح الجامع.
فأي كرامة فوق هذه الكرامة ؟
وأي فضل فوق هذا الفضل سوى رؤية وجه الرب سبحانه وتعالى ؟
ولما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة . رواه النسائي .
تلك كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو عليه الصلاة والسلام لا يتمنى إلا ما كان يُقرّبه إلى الله عز وجل .
فهل نتمنى ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
أما إنها لو كانت أمنية صادقة لكفى .
قال صلى الله عليه وسلم : من مات ولم يغز ، ولم يحدث به نفسه ، مات على شعبة من نفاق . رواه مسلم .(2/324)
وقال عليه الصلاة والسلام : من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه . رواه مسلم .
وأختم بوصية الصِّدِّيق رضي الله عنه : احرص على الموت توهب لك الحياة .
وإن تعجب فاعجب لمن قال تلك الكلمة ؟
لقد قالها أبو بكر رضي الله عنه لسيف الله المسلول رضي الله عنه .
وبقول الخنساء :
نهين النفوس وهَوْن النفوس = يوم الكريهة أوقى لها
وما أروع قول الحصين المرّي :
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد = لنفسي حياة مثل أن أتقدما
240-أمة قاهرة ...
لما فتحت مدائن قبرص وقع الناس يقتسمون السبي ، ويفرقون بينهم - أي بين سبايا العدو - ويبكى بعضهم على بعض ،
فتنحى أبو الدرداء ثم احتبى بحمائل سيفه فجعل يبكى ، فأتاه جبير بن نفير فقال : ما يبكيك يا أبا الدرداء أتبكى في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ، وأذل فيه الكفر وأهله ؟ فضرب على منكبيه ، ثم قال : ثكلتك أمك يا جبير بن نفير ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره ؛ بينما هي أمة قاهرة ظاهرة على الناس لهم الملك حتى تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى ، وإنه إذا سُلط السباء على قوم فقد خرجوا من عين الله ليست لله بهم حاجة . رواه سعيد بن منصور في السنن وأبو نعيم في الحلية .
تذكرت هذه المقولة في بلاد الأندلس ( أسبانيا )
فبينما أمة الإسلام أمة قاهرة ظاهرة على الناس في بلاد الأندلس ذات صولات وجولات تقف على حدود فرنسا ( في بواتيه ) وتهدد عروش الكفر يخاف الكل سطوتها حتى ضيّعت أمر الله وفتحت على نفها ثغرات قاتلة ابتداء من أبرز أسباب الهلاك ( التنافس على الدنيا ) ( فتنافسوها كما تنافسوها ) يعني الذين من قبلنا ( فتهلككم كما أهلكتهم ) إلى ( الركون إلى الدنيا وكراهية الموت ) وقد عبّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ ( الوهن )
إلى التناحر والتقاسم إلى دويلات يصفها شاعر معاصر لها هو الحسن بن رشيق بقوله :(2/325)
مما يزهدني في أرض أندلس ***** أسماء معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها***** كالهرِّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
إلى ثغرات أخرى مثل ( موالات الكافر والاستنصار به على المسلم ) ولو أدى ذلك إلى التنازل عن شيء من الأرض أو الدين .
إلى الانهماك في الملذّات واتّباع الشهوات ، وتقديم الطرب وأهله على الجهاد والمجاهدين ، بل والإنفاق عليه أكثر من الإنفاق في سبيل الله .
بينا هي أمة قاهرة إذ فتحت على نفسها تلك الثغرات وغيرها حتى إذا تمكّن العدو منها ، خرجت ذليلة تجرّ أذيال الهزيمة حتى قالت أم أبي عبد الله الصغير لابنها الذي أضاع نفسه وملكه : إبكِ مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال .
فلما أضاعوا أمر الله ضاعوا .
رأيت هذا رأي عين في أسبانيا ، فبينما المسلمون ترتفع منائرهم تناطح السحاب ، وتصدح منابرهم بأصوات الحق عالية مدوّية ، حفظهم الله يوم حفظوا حدوده وأطاعوا أوامره .
ثم أضاعوا أمر الله فضيّعهم الله ، حتى أصبح المسلمون اليوم في بلاد الأندلس يُمنحون شقوقا - ربما تكون تحت الأرض - ليُصلّوا فيها ، بل هذا المنح هو منح مؤقت قابل للاسترجاع في أي وقت .
فكم بين الأمس واليوم ؟
كم بين دخول طارق بن زياد فاتحا بوابة الأندلس ( جبل طارق ) منتصرا ، وكم بين خروج أبي عبد الله الصغير ذليلا منهزما يتلوا تلك الهزائم سقوط الأندلس ومحاكم التفتيش وما صاحبها من ذل للمسلمين حتى كان الاختتان يُعدّ جريمة في عرف النصارى ، ولما أعلن النصارى العفو عمن خرج من المسلمين من بلاد الأندلس خرج يومئذ أكثر من خمسمائة ألف مسلم .
كم بين دخول طارق بن زياد فاتحا وبين تلف الأنفس اليوم - غرقا - في ذلك المضيق لجوءا إلى ( أسبانيا ) بحثا عن لقمة العيش ؟
كم بين دخول الفاتحين أعزّة ، وبين لجوء المهجّرين إلى بلاد المشركين ؟
كم بين ذلك الأمس المشرق واليوم المظلم ؟(2/326)
من عَرَفَ الأمس ببطولاته وانتصاراته فلن يعتقد أن هناك صلة بين الأمس واليوم ؟
بل ربما لن يعتقد أن ثمة صلة بين أولئك الآباء وهؤلاء الأحفاد .
كيف لو خرج طارق أو عبد الرحمن الناصر ورأى ما حلّ بالأندلس ، وما حلّ بقصر الحمراء ومسجد قرطبة الجامع ؟
أما إنه لن يبكي على الأطلال بل سيموت كمداً .
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ ***** إن كان في القلب إسلام وإيمان
وكفى …
241-الصحافة ... والكيل بمكيالين ، والوزن بميزانين..
عندما تختل الموازين ، و تنقلب القيم ، وتنتكس الفِطَر ، وتتغيّر المفاهيم
وعندما يَقِلّ العدل أو ينعدم القسطاس المستقيم
فتكتسي نفوس بثوب الجَور ، وتتّزر أُخَر بإزار الظُّلم ، وترتدي رداء الحَيْف ، وتتحلّى بِحُلْية القوم البُهْت
فعندها لا تَسَلْ عن العدل في الأقوال فضلا عن العدل في الأفعال
وحينها تُعبأ عقول أقوام بما يُمليه أقوام يحيفُون في حُكمهم
ويشتطُّون بعيدا بآرائهم ، ويقذفون قذفاً مُريعاً بثمر أقلامهم
ذلك الثمر الذي كأنه ثمر الصبّار ، إن لُمِس اشتاك لامِسُه ، وإن نُظِر ما سرّ ناظِره
عندما يكيل أقوام بمكيالين ، ويَزِنُون بميزانين
فإنهم ولا شك داخلون تحت صنف ( المطففين ) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالُهم أو وزنوهم يُخسرون .
والتطفيف أعمّ من أن يكون في مكيل وموزون فحسب
قال سلمان رضي الله عنه : الصلاة مكيال من أوفى أوفِيَ به ، ومن طفّفَ فقد علمتم ما للمطففين .
ولما انصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من صلاة العصر لقي رجلا لم يشهد العصر ، فقال عمر : ما حبسك عن صلاة العصر ؟ فذكر له عذراً ، فقال عمر : طَفّفتَ .
فكما يكون التطفيف في الكيل والميزان فإنه يكون في سائر الأعمال والأقوال .
قال الإمام مالك : يقال لكل شيء وفاء وتطفيف .
ولعلي أستعرض بعض الصور التي يقع فيها التطفيف مما نُشاهده ونُعايشه .(2/327)
عندما يتكلّم خطيب عن منكر ظاهر ، فربما ذكر جهات أو أشخاص ، فإن أعمدة الصحافة ترميه عن قوس واحدة :
= ما بالُه يُشهّر بالناس !!
= أين ذلك الخطيب من منهجه صلى الله عليه وسلم حينما يقول : ما بالُ أقوام !!
وهم يقينا لا يقصدون الاقتداء ولا التأسي بدليل انقلاب الموازين لديهم كما سيأتي .
وعندما يقع الخطأ من كاتب فيُناصح سراً أو جهارا
فإنه سيُواجه بسهم آخر :
كونوا عونا لأخيكم على الشيطان ، ولا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم !
وعندما يُخطئ صحفي مُصحِّف ، أو كويتب مُلمّع يحمل شهادة الخامس الابتدائي!! أو السادس على أكثر تقدير !!!
فيأتي من يرد عليه
فإنه واجدٌ – ولا بُدّ – صخرات في طريقه
تُهوّن خطأ ذلك الكاتب وأنه ما أتى بعظيم !! والمسألة قابلة للنقاش !! أو المسألة اجتهادية !! وأختلف فيها العلماء !!
وعندما يقع خلل في أي قطاع من القطاعات ، فإن لم يكن له صلة بالدين والمتدينين فإن خطأه مُغتفر ، وخلله يسير !!
ولو كان الأمر يتعلق بأرواح الناس وأمنهم ، فإنه أمر يهون ! ويُمكن مُعالجته .
ولكن :
دعونا نرى الكفّة الأخرى للميزان
ونُبصر بعين البصيرة الطريقة الثانية في الكَيْل
ماذا لو أخطأ خطيب ما في خُطبته ، كأن يلحن فيها أو يأتي فيها بأقوال شاذّة ، أو يُخالف فيها الفتوى ، أو يخطب خطبة واحدة !
فإنه يستحيل أن تصدر صحف يوم السبت دون أن تتناوله ولو أمكن لتناولته بالصوت والصورة !
ولن تأتي الحِكمة !
بل سيغيب منهج ( ما بالُ أقوام ) !
وسيختفي ما ردّدوه : ( كونوا عونا لأخيكم على الشيطان ، ولا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم ! )
وسيظهر ذلك الفعل بثوب النّصح !
ولن يكون فيه شُبهة تشهير !
بل لا بُدّ من تبيين الأمر للناس !!
ولا بُدّ أن يفهم الناس الصواب من الخطأ !!
وعندما يجتهد رجل الحسبة في أمر قابل للاجتهاد فإنه يوضع عند رأسه عَلَم !
ويُطوّف به في آفاق الصحف !
انظروا إلى هذا الجاهل الذي لا يفهم !(2/328)
ومن ثم تُلصق به تُهمٌ هو من براء
هاهو يأمر الناس وينسى نفسه !
هاهو يقول ، ويُخالِف قوله فعله !
هاهو يأمر نساء الناس ونساؤه متبرّجات !
بل ربما رُميَ بالفسق والفجور – عياذا بالله –
كل هذا جائز عند انقلاب الموازين
وداخل تحت باب : التحذير من الأخطاء
وواقع تحت مظلّة : حُريّة الكلمة !
وإذا ردّ غيور على هذا الهراء
فإن ردّه لن يُنشر ، وإن ،ُشر ففي خبايا الزوايا ، بعد أن تُجرى له عمليات استئصال !!!
وربما كانت عمليات استئصال لِقَلبِ وكبد المقال !! فماذا بقي منه ؟؟؟!
لقد رأينا شراسة الهَجْمة على الهيئات عموماً ، وعلى رئاسة تعليم البنات خصوصاً عندما وقع حريق بمدرسة واحدة ( لا تهويناً من شأن الأرواح )
بل كيف كانت الهجمة شرسة حتى تكاد الصحيفة تقطر دَماً ، أو تتساقط منها نيوب الذئاب !!!
لقد مات مبدأ ( ما بالُ أقوام )
وكُفّنت قاعدة ( عدم التشهير )
لأن الأمر يُوافق أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضَلُّوا عبر صُحفهم !! التي هي تكايا لأنواع الزواحف والذئاب – كما قال الشاعر – !!
وعندما طالب الغيورون بما فيه مصالح أمتهم عامة ومجتمعهم خاصة
خرج علينا من يُدندن بما لا طائل تحته
دعونا الآن نهتم بأمر فلسطين
وهو لم يعرف فلسطين قبل اليوم
إنما كان يغرف الفِلسَ من الوَحل والطين
حينما كان يُتاجر بالمبادئ ، ويأكل ( العيش ) بالمتاجرة بالغرائز !
والإعلانات بأجساد الفتيات على صحف سوّدوها بأفعالهم
وحينما اهتم الناس بقضية الساعة ، واتجهت الأنظار إلى مشرق الدنيا
صاح : يا قوم ! أين أنتم من قضية فلسطين ؟؟
بل قال بعضهم : كيف يذهب من يذهب إلى أفغانستان أو غيرها ، ويتركون فلسطين ؟!!
وهو ما رفع بقضية فلسطين رأسا أصلاً !
ولكنها محاولات صرف الأنظار عن كل قضية ساخنة بقضية أخرى .
ولما قيل ذلك للشيخ المجاهد عبد الله عزام - رحمه الله –
رد عليهم شاعر من شعراء الإسلام :(2/329)
أجبهم يا رعاك الله : أن كابول == في شرعنا أخت القدس لو عقلوا
وهذا الصائح له في صياحه ذلك قدوة وأسوة ، فسوف يصيح أستاذه بالمؤمنين يوماً ما !
فقد ثبت في صحيح مسلم ضمن حديث طويل عنه عليه الصلاة والسلام : فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علّقوا سيوفهم بالزيتون ، إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم ، فيخرجون ، وذلك باطل ، فإذا جاءوا الشام خرج .
أذكر أن مُغنيّاً غنى بكلمات أقل أحوالها أنها مشتبهة ، فأفتى فيه بعض العلماء بما تبيّن له آنذاك ، وحسبما أدّاه إليه اجتهاده
فرفعت بعض الصحف عقيرتها ، ودعت بالويل والثبور لذلك العالِم ! المتسرع في فتواه ، المتشدد فيها !
وأصبحت تلك الصحف درعاً واقياً وحصنا حصيناً لذلك المُطبِّل التافه !
بل رأينا مِن الكُتّاب مَنْ أصبح مُفتياً ، ولو كان تخصصه ( جغرافيا ) !!!
ولكن تلك الصحف لم تقف يوماً من الأيام ولا أظنها تقف في يوم من الأيام لتُدافع عن عرض عالِم ، أو تذب عن دين الله .
ولسان حالها بل لسان مقالِها : وللبيت ربٌّ يحميه !
أليس للمغنّي ربٌ يحميه ؟؟؟!!!!
ليتبيّن بذلك عور موازينهم ، وخلل مفاهيمهم ، بل واختلال عقولهم
إن كانت الكُرة في مرماهم التمسوا لأنفسهم الأعذار ! وتذاكروا أحاديث الرُّخص ! بل والأحاديث الموضوعة !
وإن كانت الكرة في مرمى خصومهم أصبحوا مُفتين وقُضاة !
فنشروا أعراضهم على الملأ بأي عذر وبأي حُجّة !
وجعلوهم تحت مشرحة الصّحافة !
فأي سخافة هذه يا قوم ؟؟؟
وختاماً هذه وصيةٌ من ربّ العالمين : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
وهذه أخرى
( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ )
والعدل هو الإنصاف كما قال ابن جرير - رحمه الله - .
242-الكتابة على الجدران ، وأخبار بني إسرائيل..(2/330)
يقول أحد المشايخ : من حسنات ( الإنترنت ) أنها خفّفت الكتابة على الجدران وأبواب الحمامات !
تدرون لماذا يقول هذا ؟
لأن بعض الكتابات في بعض الساحات والمنتديات تُشبه إلى حدّ كبير الكتابة والخربشة التي نراها على بعض الجدران ، وأحياناً تكون تلك الكتابات على جدران الحمامات !
وقبل فترة سألني أحدهم عن موقف المسلم تجاه ما يُنشر في الشبكة العنكبوتية ( الإنترنت ) ؟
فقلت له : الشبكة ( الإنترنت ) تُعامل مُعاملة أخبار بني إسرائيل !
وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم وردت به الأخبار الصحيحة في شريعتنا ، فهي حق .
وقسم لم يرد في شريعتنا تصديق له ولا تكذيب ، فهذا لا يُصدّق ولا يُكذّب .
وقسم ثالث يُخالف ما جاءت به الشرائع ، ويُعلم قطعاً كذبه ، فهذا يُردّ ولا يُروى إلا على سبيل التحذير .
وقد نبّه إلى ذلك الحافظ ابن كثير في مقدمة التفسير .
واليوم كنت أتصفح أحد المنتديات فأخذت أتأمل شريط التمرير لآخر المواضيع فرأيت عجبا
أربعة مواضيع (ألعاب خفيفة ) ( أروع الألعاب ... ) ( أجمل الألعاب ) ( أحلى الألعاب ) !!
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم !
أفي هذا الوقت العصيب الذي تتآمر فيه قوى الصليب على ديار الإسلام ، فما أن يفرغوا من بلد حتى يُغيروا على بلد ؟!
ونحن ما إن نفرغ من لعبة حتى نبدأ أخرى !
بل نلعب لعبة ولمّا نفرغ من أخرى !
أربع ألعاب في وقت واحد !
أما إني لا أحرّم اللعب ..
ولكن ينبغي أن يكون بقدر
وأن يكون في وقت دون وقت..
أفيقوا يا أحبتنا أفيقوا ..
243-الفرق بين ( الضال و الغاوي )
قال ابن رجب – رحمه الله – :
الأقسام ثلاثة :
راشد ، وغاو ، وضال
فالراشد عرف الحق واتبعه
والغاوي عرفه ولم يتبعه
والضال لم يعرفه بالكلية
فكلُّ راشدٍ هو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامة فهو راشد ؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا . انتهى كلامه .
وقال رحمه الله :(2/331)
وإنما وَصَفَ – يعني النيّ صلى الله عليه وسلم - الخلفاءَ بالراشدين – في الحديث - ؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به ، والراشد ضد الغاوي ، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه . اهـ .
وقد وصَف الله أتباع إبليس بأنهم من الغاوين ، فقال : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )
وقال : ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )
ووصَف الله الذي أوتيَ الآيات فردّها بأنه من الغاوين ، فقال : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ )
وفَرْقٌ بين الغواية والضلالة .
فلم يَرِد وصف أحد من أنبياء الله بالغواية ولا بالضلال البعيد ولا بالضلال المبين .
وقد قال قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ )
فنفى عن نفسه الضلال ، وقال : ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ )
وقال الخليل عليه الصلاة والسلام لقومه : ( لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )
ولما قال فرعون لموسى : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
ردّ عليه موسى بقوله : ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ )
أي قبل النبوة وقبل أن يمتنّ الله عليّ بالرسالة .
وأما قوله تعالى في شأن نبيِّه صلى الله عليه وسلم : (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ) فهذا يُفسّره قوله تعالى : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) أي قبل النبوة ( وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا )(2/332)
وقد نفى الله عز وجل الضلال والغواية عن نبيّه ، فقال سبحانه : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى )
وهذا نفي للضلال ، ويُراد به أحد أمرين :
الأول : نفي الضلال بعد البعثة .
والثاني : نفي الضلال المبين ، والذي وصفه سبحانه بـ ( الضلال البعيد ) وبـ ( الضلال المبين )
فهذا منفيٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير – رحمه الله – :
وقوله تعالى ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال وهو الجاهل الذي يسلك طريق بغير علم ، والغاوي هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره فنَزّه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى ، وطرائق اليهود وهي علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد . انتهى كلامه .
ولما كانت السبل ثلاثة ( راشد وضال وغاوي ) كانت الطرق ثلاثة
ولذا فإن المصلّي يقرأ في كل ركعة : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )
فيسأل ربّه هداية الصراط المستقيم الأقوم
ويستعيذ بالله من صراط المغضوب عليهم ، وهم ( اليهود )
ومن صراط الضالين ، وهم ( النصارى )
وإن أعجب فعجبي من أقوام يُكررون هذه الاستعاذة ما يزيد على سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة ثم تراهم يسيرون بسير الغرب الكافر ، ويهتدون بهديه ، ويقتدون ببغاياه وبُغاته !
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين .
244-العزة المفقودة ( عزة المسلم )(2/333)
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان : رأيت بدمشق في أواخر سنة ثمان وستين وستمائة ( 668 ) جزءاً بخط الشيخ تاج الدين عبد الله بن حمويه شيخ الشيوخ كان بها وكان قد سافر إلى مراكش وأقام بها مدة وكتب فصولا تتعلق بتلك الدولة فمن ذلك فصل يتعلق بهذه الوقعة فينبغي ذكره ها هنا فقال لما انقضت الهدنة بين الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المملكة الغربية وبين ( الأذفونش ) الفرنجي صاحب غرب جزيرة الأندلس وقاعدة مملكته يومئذ طليطلة وذلك في أواخر سنة تسعين وخمسمائة عزم الأمير يعقوب وهو حينئذ بمراكش على التوجه إلى جزيرة الأندلس لمحاربة الفرنج وكتب إلى ولاة الأطراف وقواد الجيوش بالحضور وخرج إلى مدينة ( سلا ) ليكون اجتماع العساكر بظاهرها فاتفق أنه مرض مرضا شديدا حتى أيس منه أطباؤه فتوقف الحال عن تدبير ذلك الجيش فحُمل الأمير يعقوب إلى مراكش فطمع المجاورون له من العرب وغيرهم في البلاد وعاثوا فيها وأغاروا على النواحي والأطراف وكذلك فعل الأذفونش فيما يليه من بلاد المسلمين بالأندلس ، واقتضى الحال تفرقة جيوش الأمير يعقوب شرقا وغربا واشتغلوا بالمدافعة والممانعة فكثر طمع الأذفونش في البلاد وبعث رسولا إلى الأمير يعقوب يتهدد ويتوعد ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس وكتب الأذفونش إليه رسالة من إنشاء وزير له يعرف بابن الفخار ، وهي :
باسمك اللهم فاطر السموات والأرض وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح أما بعد :(2/334)
فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب ولا ذي عقل لازب أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمت الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية وإخلادهم إلى الراحة وأنا أسومهم بحكم القهر وجلاء الديار ، وأسبي الذراري وأُمثّل بالرجال ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة ، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم ، فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعا ، ولا تملكون امتناعا ، وقد حُكيَ لي عنك أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال ، وتماطل نفسك عاما بعد عام تُقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربك ؟ ثم قيل لي : إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا لِعلّةٍ لا يسوغ لك التقحم معها ، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان وترسل إلى جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات وأجوز بجملتي إليك وأقاتلك في أعز الأماكن لديك فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك واستحقيت إمارة الملتين والحكم على البرّين والله تعالى يوفق للسعادة ويسهل الإرادة لا رب غيره ولا خير إلا خيره إن شاء الله تعالى ، فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزقه وكتب على ظهر قطعة منه : ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) الجواب ما ترى لا ما تسمع
ولا كتب إلا المشرفية عنده ***** ولا رسل إلا الخميس العرمرم
- قلت وهذا البيت للمتنبي –(2/335)
ثم أمر بكتب الاستنفار واستدعى الجيوش من الأمصار وضرب السرادقات بظاهر البلد من يومه وجمع العساكر وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة ، فعبر فيه إلى الأندلس وسار إلى أن دخل بلاد الفرنج وقد أعتدّوا واحتشدوا وتأهبوا فكسرهم كسرة شنيعة وذلك في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ( 592 ) انتهى ما نقلته من الجزء المذكور .
قلت ( القائل ابن خلكان ) : ثم وجدت في كتاب تذكير العاقل وتنبيه الغافل تأليف أبي الحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البياسي هذه المكاتبة وجوابها قد كتبها الأذفونش بن فرذلند إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الآتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى وجواب يوسف على هذه الصورة أيضا ، والله أعلم .
قلت وذكر البياسي بعد هذا ما يدل على أنه نقلها من خط ابن الصيرفي الكاتب المصري فإن كان كذلك فما يمكن أن تكون هذه الرسالة إلى يعقوب بن يوسف لأن ابن الصيرفي متقدم التاريخ على زمان يعقوب بكثير ، والله أعلم .
انتهى كلامه – رحمه الله – .
تلك العِزّة المفقودة ...
وتلك نخوة أهل الإسلام ...
وتلك نصرتهم لدين الله ...
وتلك نصرتهم لدين النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم .
245-أهل الكتاب في الخطاب القُرآني ..
قال العالم الرباني ابن قيم الجوزية رحمه الله :
الأقسام أربعة :
1 – ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) وهذا لا يذكره سبحانه إلا في معرض المدح .
2 – و ( الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ ) لا يكون قط إلا في معرض الذم .
3 – و ( الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) أعم منه ، فإنه قد يتناولهما ، ولكن لا يُفرد به الممدوحون قط .
4 – و ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) يعمّ الجنس كله ، ويتناول الممدوح منه والمذموم ، كقوله :
( مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) الآية .(2/336)
وقال في الذم : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ ) . انتهى .
وأرى أن هذا من قبيل الوصف وليس من جنس الخطاب ، أعني ما أورده ابن القيم من آيات في رابعاً .
وإنما الذي يصدق عليه أنه خطاب مثل قوله تعالى في الذم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )
وكقوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) .
ويُمكن إضافة نوع خامس ، وهو :
5 - الأمر والنهي في ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )
كقوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ) الآية .
وكقوله تبارك وتعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ ) الآية .
وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى ، ويُقصد به أحياناً اليهود ، وأحياناً أخرى النصارى ، ويُفهم المقصود من سياق الكلام .
ويَرِد وصف أهل الكتاب بالمدح والذمّ
وقد يرِد المدح والذمّ في آية واحدة كقوله تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
وهذا يُقصد به اليهود .
246-أنت ملك ...؟؟؟
ميم ... مفتوحة(2/337)
لام ... مكسورة
كاف ... مضمومة منوّنة
أنتَ أو أنتِ
أنت ولا أحد غيرك
مَلِكٌ
كيف ؟؟؟
ومتى ؟؟؟
هذا ما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه .
حيث جاء رجلٌ إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله قائلاً :
ألسنا من فقراء المهاجرين ؟
فقال له عبدُ الله :
ألك امرأةٌ تأوي إليها ؟
قال : نعم .
قال : ألك مسكنٌ تسكنُه ؟
قال : نعم .
قال : فأنت من الأغنياء .
قال الرجل : فإن لي خادماً .
قال : فأنت من الملوك !
رواه مسلم .
وشكا رجل ضيقَ حالِه إلى يونسَ بنِ عبيد
فقال له يونس : أيسرُّك أن لك ببصرك هذا الذي تبصرُ به مائةَ ألفَ درهم ؟
قال الرجل : لا .
قال : فَبِيَدِكَ مائةَ ألفَ درهم ؟
قال : لا .
قال : فبرجليك ؟
قال : لا .
فذكّره نعمَ اللهِ عليه ، فقال يونس : أرى عندك مئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجة . رواه أبو نعيم .
يعني أرى عندك مئات الألوف ونِعمٌ لا تُقدّر بثمن ... وأنت مع ذلك تشكو الحاجة !
هل تأملت نعم الله عليك ؟؟؟
قليل المتأمل ...
قال سبحانه : ( وقليل من عبادي الشكور )
هل تأملت نعمة لم تشعر بها ؟؟؟
نعمة تُلازمك يومك كله وليلك كلّه
قال ابن القيم – رحمه الله – :
ويكفي أن النَّفَسَ من أدنى نِعَمِهِ التي لا يكادُون يعدّونها ، وهو أربعةٌ وعشرون ألفَ نَفَس في كل يوم وليلة . فـ ( لِلّه ) على العبد في النَّفَس خاصةً أربعةٌ وعشرون ألفَ نعمة كلَّ يوم وليلة . دع ما عدا ذلك من أصناف نِعَمِهِ على العبد ، ولكل نعمةٍ من هذه النعم حقٌّ من الشكر يستدعيه ويقتضيه . انتهى كلامه .
روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أولَ ما يُسألُ العبدُ عنه يومَ القيامة من النعيم أن يُقالَ له : ألم نُصحِّ لك جسمَك ، ونُرويك من الماء البارد ؟ حديث صحيح .
قال ابن مسعودٍ : النعيم : الأمن والصحة .
قال أبو الدرداء : كم من نعمةٍ لله في عرقٍ ساكن .(2/338)
وهذه الجوارح وتلك الأعضاء لا تُقدّر بثمن ، ولو كانت تقدّر بالأثمان لكان الأثرياء وأصحابُ رؤوس الأموال أكثرَ الناسِ صحةً ، غير أن المشاهد عكس ذلك .
ومع نهاية هذا العام
وتوديع هذه السنة
هلا عُدت إلى نفسك بالملام
وألقيت عليها خطاب العتاب
يا نفس : هذه نعم الله عليك تترى
ونعمه عليك تتوالى
وأنت تُبارزين مولاك بالمعاصي
أفلا تستحين منه حق الحياء ؟
ويحك يا نفس احرصي **** على ارتياد المَخْلَصِ
ويحك يا نفس
لو أن مُجرما – مهما كان جُرمه – شهد عليه أربعة لكفى بهم لإدانته
كيف وقد شهد عليك ما يزيد على ثلاثمائة شاهد
كلهم يشهد عليك
وشهادتهم مُدونة محفوظة في كتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة
كان توبة بن الصمة - رحمه الله - محاسباً لنفسه فحسب فإذا هو ابن ستين سنة ، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم ، فصرخ ، وقال :
يا ويلتى ألقي المليك بواحد وعشرين ألف ذنب ؟
فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ، ثم خرّ مغشيا عليه ، فإذا هو ميت .
فسمعوا قائلا يقول : يا لك ركضه إلى الفردوس الأعلى . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
هكذا فلتكن المحاسبة .
فيا أخوتاه ويا أخيّاتي :
قبيل وداع هذا العام أحسنوا فيما بقي ليُغفر لكم ما قد مضى .
قال فضيل بن عياض لرجل : كم أتت عليك ؟ ( يعني كم مضى من عمرك )
قال : ستون سنة .
قال : فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك . توشك أن تبلغ .
فقال الرجل : يا أبا علي إنا لله وإن إليه راجعون .
قال له الفضيل : تعلم ما تقول ؟
قال الرجل : قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون .
قال الفضيل : تعلم ما تفسيره ؟
قال الرجل : فسِّره لنا يا أبا علي .
قال : قولك إنا لله تقول أنا لله عبد وأنا إلى الله راجع . فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع ، فليعلم بأنه موقوف ، ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسئول ، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً .
فقال الرجل : فما الحيلة ؟
قال يسيره .
قال : ما هي ؟(2/339)
قال تُحسِن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي . فإنك إن أسأت فيما بقي أُخِذتَ بما مضى وما بقي .
ألا إنها دعوة للمحاسبة .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وتزينوا ، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا .
وفي رواية أنه قال : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتزينوا يوم تعرضون لا يخفى منكم خافية .
وقال ميمون بن مهران - رحمه الله - : لا يكون العبد تقيا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه ؟
وأستودعكم الله .
247-أنا حُر !
عبارة لعلكم سمعتموها يوما من الأيام عندما يُنكر على صاحب مُنكر أو على والغ في معصية ، أو على مسرف على نفسه ، أو على مقصّر في طاعة ربِّه
إذا ما ذُكّر بالله تَعالى وتعاظم في نفسه وردّ بكبرياء بملء فمِه : أنا حُرّ !
بدلا من أن يتّصف بصفات المؤمنين الذين إذا ذُكِّروا تذكّروا ، والذين تنفعهم الذكرى
( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )
وتُردّد عليه ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ )
ثم تُخاطبه بقول الله ( فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى )
فيرد عليك مرة أخرى ممتلئاً غيظاً : أنا حُرّ !
فهل هو مُحِقّ ؟؟؟
هل هو فعلاً حُرّ ؟؟؟
ليس الأمر كذلك
فهو عبد رغم أنفه ... شاء أم أبى ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا )
والعبودية عبوديتان :
عبودية خاصة لأهل الإيمان والإسلام
وعبودية عامة لكل الخلق
إما عبودية شرف وفخر وعِزّ
وإما عبودية ذلّ وقهر وخنوع
إما عبودية عز وفخر وشرف وتكريم ، وهي العبودية لله عز وجل التي قيل فيها :
ومما زادني شَرَفاً وفخراً *** وكِدتُ بأخمُصي أطأُ الثّريا
دخولي تحت قولِك يا عبادي *** وأن صَيّرتَ أحمدَ لي نبيّاً
وإما عبودية ذل ومهانة لغير الله .(2/340)
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم من تعلّق بشيء من متاع الدنيا وشهواتها وملذّاتها سماه عبداً لها
قال صلى الله عليه وسلم : تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة ، إن أعطي رضى ، وإن لم يُعط لم يرض . رواه البخاري .
وفي رواية له : تَعِسَ عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة . إن أُعطي رضي ، وإن لم يُعط سخط . تعس وانتكس ، وإذا شِيك فلا انتقش .
وهذا دعاء على عبد الدنيا ... عبد الزخرف والبهرج ( عبد الدينار والدرهم )
دعاء على عبد الدنيا ... عبد المتاع والمظاهر ( عبد الخميصة والخميلة والقطيفة )
دعاء عليه من سيد ولد آدم – صلى الله عليه على آله وسلم – بالتّعاسة وعدم السعادة
دعاء عليه أن تنتكس عليه أموره وتتقلّب عليه ، فلا يدري لها وجها
دعاء عليه أن لا يوفق حتى لإخراج شوكة إن أصابته
لماذا ؟؟؟
لأنه أصبح والدنيا أكبر همِّه
يوالي عليها ( إن أُعطي رضي )
ويُعادي عليها ( وإن لم يُعط سخِط )
يرضى لوجود الدينار والدرهم
ويسخط لفقدهما
وليس معنى ( عبد الدينار والدرهم ) أنه يركع ويسجد للدينار والدرهم ، وإنما تعلق قلبه بهذه المظاهر الدنيوية الزائفة الزائلة .
فأصبح وأمسى وهي همّه .
ونام وقام وهي في قلبه .
وما ذُكر في الحديث لا يُراد به الحصر ، وإنما هذه أمثلة لما يتعلق به الإنسان فيُصبح عبدا له .
فهذا تعلق بالدنانير والدراهم
وذاك تعلّق بالبيوت والفُرش والأثاث والمتاع
وثالث تعلّق ببغي من بغايا بني ألأصفر ( الروم ) !
ورابع تعلق بسيجارة
وخامس تعلق بحقنة
وسادس أو سادسة تعلقوا بالمغني الفلاني ، فعلى صوته ينامون ، وعلى صوته يستيقظون
فصوته ومعازفه أذكار صباحهم ومساهم !!!
والجامع المشترك بينهم أنهم لا يصبرون عنها ، ولا يرضون بفراقها ، وإن غابت سخطوا .
فأي ذلّ ومهانة أشد من تعلق الإنسان بالهمم البهيمية ؟؟؟
أرأيتم كيف أن الذي زعم أنه ( حُرّ ) أنه عبد ذليل مُهان مُحتقر ؟؟؟
لماذا ؟؟؟(2/341)
لأنه صار عبداً لكل فُلانة وفلانِ
قال العالم الرباني ابن القيم – رحمه الله – :
نزّه سماعك إن أردت سماع ذيّاك الغِنا عن هذه الألحان
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا ياذلة الحرمان
إن اختيارك للسماع النازل الأدنى على الأعلى من النقصان
والله إن سماعهم في القلب والإيمان مثل السم في الأبدان
والله ما انفك الذي هو دأبه أبدا من الإشراك بالرحمن
فالقلب بيت الرب جل جلاله حُبا وإخلاصا مع الإحسان
فإذا تعلق بالسماع أصاره عبدا لكل فلانة وفلان
نعم :
فإذا تعلق بالسماع أصاره *** عبدا لكل فلانة وفلان
فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه
واجعلنا من الذين إذا نُصحوا انتصحوا ، وإذا ذُكّروا تذكروا ، وإذا أذنبوا استغفروا .
واجعلنا عبيداً لك وحدك لا لغيرك .
وسبحانك اللهم وبحمدك . أشهد أن لا إله إلا أنت . أستغفرك وأتوب إليك .
248-الحروب الصليبية..اعتذار أم تكرار ؟
قال صاحب كتاب ( التنصير – تعريفه – أهدافه – وسائله – حسرات المنصِّرين ) :
يُريد النصارى أن ينسى المسلمون الحروب الصليبية حتى تزول الحواجز النفسية التي يظنون أنها هي التي تحول بينهم وبين النصرانية
ومن أجل ذلك انطلقت من أوربا ( مسيرة مُصالحة ) نصرانية للاعتذار للمسلمين عن الحملات الصليبية ، وقد بدأت هذه المسيرة عام 1996 م في فرنسا ، ثم تبعها في ألمانيا حوالي 1000 شخص عام 1997 م معظمهم من سلالة الصليبيين ، وقد زارت هذه المسيرة تركيا ولبنان ، والتقت بعض المسؤولين وبعض المارّة وقدّمت لهم بعض الهدايا مع اعتذار شفهي عن جرائم أجدادهم الصليبيين !! الذين غزوا المنطقة قبل تسعمائة سنة ، وارتكبوا فيها المجازر وألحقوا بالبلاد الدمار .
ومضى صاحب الكتاب قائلاً :
فهل يظن النصارى السذّج أن المسلمين ينسون ذلك التاريخ بهدية تافهة واعتذار بارد ؟؟
فهلا أقاموا مُدناً في بلاد المسلمين عما دمّروه ؟
وهلاّ قدموا إعانات مالية لأبناء المسلمين ؟(2/342)
وهلا قدموا تدريبا تعليميا وتقنيا ؟
وهلا قدموا رعاية مالية للمعوزين والأيتام ؟
كما يُقدّمون اليوم لليهود ضريبة لما ارتكبوه في حقّهم – كما افترى ذلك اليهود !! ( يعني بذلك ما يسميه اليهود قضية الأفران !! زعموا )
ولكن هل نَسيت تلك المسيرات النصرانية أن دماءنا لا زالت راعفة في البوسنة والهرسك ؟
وأن جراحنا لا زالت دامية في كوسوفا ؟
وأن إخواننا المسلمين في تلك البلاد يسكنون الخيام بعد أن دَمّرت النصرانية بيوتهم ؟
فمتى ستتجوّل مسيرة مُصالحة أخرى عن هذه الجرائم ؟؟
انتهى كلامه .
وعليه أقول :
هل نسينا دماءنا النازفة في الشيشان بمباركة العالم الغربي .
وإن نسينا كل جرح فلن ننسى جرح الأمة الغائر . جرح الأقصى
وجراحنا التي لا زال ينكؤها النصارى في جُزر الملوك بأندونيسيا
فيُحرقون المساجد على من فيها ، ثم تُجرف الجثث كما تُجرف النفايات
وغيرها ... الكثير الكثير من جرائم النصارى في حق المسلمين بل في حق الإنسانية .
وكل ذلك يتم تحت سمع وبصر العالم الغربي ( المتحضّر ) دونما نكير أو تشدّق بحقوق الإنسان ؟؟!!
وما بال عظيم الروم ( هرقل ) يُريد أن يُعيدها جذعة !!
ما باله يُريد أن يُعلنها حروبا صليبية ؟؟
أيُريد – بزعمه – حرب الإرهاب أم توليد الإرهاب ؟!!
ما بال وزير دفاعه يُعلن أن الحرب ستشمل ( 60 ) بلدا ؟؟!!
فإذا ما كان له ما يُريد ، وإذا ما سيّرها حروبا صليبية
فمتى سيُقدّم الاعتذار البارد ؟!!
ومتى ستُقدّم لنا ورود ( السلام ) وهدايا ( التعايش السلمي ) !!
ومتى سيندمل جرح أمتنا ؟!!
ومتى ستُفيق أمتي لتعلم علم يقين أن النصارى هم النصارى ، وأن اليهود هم اليهود ؟
وأن تتذكّر جيدا عداوة العدو المتربص وهي تستعيذ بالله من سلوك صراطه في كل يوم ( 17 ) مرة ( غير المغضوب عليهم ) اليهود ( ولا الضالين ) النصارى .
وأن تعي ( ولن ترضى )
قال الدكتور الشاعر يوسف أبو هلالة :
أنا أقسمت بالذي ذرأ الكون من عدم(2/343)
وكسى ثوب عزة كل من بالهدى اعتصم
ورمى مدمن الضلال بسوط النقم
إن قنعنا بسخفنا وركنّا إلى النعم
فخطى الخصم ماضيات من القدس للحرم
عندها يندم الجميع ولا ينفع الندم
249-الحجاب عادة..
الداخل إلى هنا أحد شخصين :
إما مغضب
وإما فَرِح
أما الغيور فقد دلَفَ مغضبا من هذا العنوان !
ويُريد أن يرى تخبّط كاتبه أو يردّ عليه !
وأما الفَرِح فإنه يبحث عما يتشبّث به في هذه المسألة
ويُريد من يُعينه بشبهة تبعث على شهوة .
فيا هذا لا تفرح إن الله لا يُحب الفرحين .
ويا هذا لا تغضب وعليّ لا تعجل .
والآن لنكمل العنوان :
الحجاب عادة أم عبادة ؟
لنتأمل تعريف العبادة – كما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – بقوله : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
وقال : العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها .
فهل حجاب المرأة المسلمة مما يُحبّه الله ويرضاه ؟
وأعني بالحجاب ستر جميع البدن لقوله صلى الله عليه وسلم :
المرأة عورة . حديث حسن رواه الترمذي وغيره .
لا شك أن الحجاب عبادة .
ولذا قال الله جل جلاله مُخاطبا نبيّه :
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً )
قالت عائشة رضي الله عنها : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن مروطهن فاختمرن بها . رواه البخاري .
والخمار هو غطاء الوجه .
فهل تستشعر المرأة المسلمة أن الحجاب عبادة وقربة وطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ؟
وهل ترى أنها في عبادة ؟ كما لو كانت تُصلّي وتتصدّق وتصوم وتقرأ القرآن ؟
وهل تلبس المسلمة حجابها وتحتسب في ذلك الأجر من الله ؟
وهل علمت المسلمة أن العبادات – غالبا – بخلاف هوى النفس ؟(2/344)
فكما أن الصوم يُجهدها ويحتاج إلى مُجاهدة ، وكذلك الحج وغيرها من العبادات البدنية ، فكذلك الحجاب ، وإن شق عليها لبسه والتّمسك به ، وإن لمزها المنافقون ، فهو يحتاج إلى مجاهدة النفس عليه .
وهل تَمَسّك المسلمة بحجابها عبادة أو هو عادة نساء بلدها ؟
وهل تفرح بلبسه ؟ أو هي تتضايق منه ؟
وهل هي تُحبّ حجابها أو هي كارهة له متسخِّطة لوجوده تتمنّى التخلّص منه في أقرب فرصة ؟
فإن كانت الأولى فهي مؤمنة .
وإن كانت الثانية
فلتحذر أن تكون ممن قال الله فيهم :
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
أخيّتي :
تأملي حجابك ... هل هو ما يُريده الله منك ؟
وهل هو وفق سُنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وهل هو حجاب أو لباس شهرة ؟
هل هو لباس ستر وعفاف أو هو لباسٌ يُنادي العيون لتقتحم نظراتها جسدك الطاهر .
فإن كانت الأولى فأبشري .
وإن كانت الثانية :
فاقرئي قول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم :
من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة . رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح .
فهل لبست النقاب الواسع ، نقاب الفتنة فتبعتك عيون هي رسلٌ لقلوب مريضة ؟!
وكوني صريحة مع نفسك :
هل لبست النقاب لأجل رؤية الطريق أو لأجل إظهار جمال العين ؟
إن كان لأجل رؤية الطريق فما دخل الرموش والحواجب والوجنتين بالرؤية ؟؟!!
وإن كان لأجل الفتنة
فأيما شاب كنت سببا في فتنته فلتحملي وزره إلى وزرك .
ألا تعلمين أن للعيون حديث جميل ، وقول رقيق ، وكلام لطيف ؟
والنفس تعرف من عينيّ محدّثها = إن كان من حزبها أو من أعاديها !!
أما سمعت قول جرير :
إن العيون التي في طرفها حور = قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا
بل هن أمضى من السهام وأفتك من السِّحر
جَعَلت علامات المودةِ بيننا = مصائد لحظ هنّ أخفى من السّحر
فأعرف منها الوصل في لين طرفها = وأعرف منها الهجر في النظر الشزر(2/345)
فاتقي الله أمة الله وتمسكي بحجاب يُقرّبك إلى الله
لا بحجاب يُباعدك من الله ويُقرّبك من النار .
أجارك الله من النار أخيّتي .
وحماك من دعاة السوء والرذيلة .
كلٌّ يُريدك له ... ودعاة الإسلام يُريدونك لله وحده .
========
وإتماماً للفائدة لعلي أُذيّل هذا المقال ببسط مفيد عن أدلة وجوب ستر وجه المرأة الحُرّة
كنت قد ناقشت فيه بعض الأخوة الأعزة .
من أدلة وجوب تغطية وجه المرأة بحضرة الرجال الأجانب
من الكتاب العزيز :
قال سبحانه وتعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً }
قال ابن عباس - في تفسير الآية - : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة .
وقال ابن سيرين سألت عَبيدة السَّلماني فقال بثوبه ، فغطى رأسه ووجهه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه .
ولا يرد على هذا قول من قال إن الحجاب خاص بأمهات المؤمنين ؛ فإن الآية واضحة في النص على نساء المؤمنين عامة ( وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ )
وإنما اختصت أمهات المؤمنين بحجب أشخاصهن .
قال سبحانه : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ )
ولا أريد الإطالة في هذه النقطة .
ومن الأدلة قوله سبحانه وتعالى : ( وَلْيَضْرِبْن بِخُمُرِهِنَّ َ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )
قالت عائشة رضي الله عنها : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله : ( وَلْيَضْرِبْنَ ِبِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) قالت : شققن مروطهن فاختمرن بها . رواه البخاري .
والخمار هو غطاء الوجه .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : خمروا الآنية . متفق عليه .
والتخمير بمعنى التغطية . أي غطّوا الآنية .
وخمار الوجه هو الغطاء الذي يُسدل عليه .(2/346)
وكل هذا يدلُّ على أن غطاء الوجه كان معروفاً عندهم وليس بدعاً من القول أو ضرباً من العادات
ومن السنة النبوية :
قول عائشة رضي الله عنها : كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحرِمات فإذا حاذونا سدلتْ إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه .
وهذا عام في أمهات المؤمنين وغيرهن .
ومن ادّعى خصوصية أمهات المؤمنين بهذا الأمر فقد غلِط .
وذلك لأن عائشة رضي الله عنها أفتت نساء المؤمنين بذلك .
فقد روى إسماعيل بن أبي خالد عن أمه قالت : كنا ندخل على أم المؤمنين يوم التروية فقلت لها : يا أم المؤمنين هنا امرأة تأبى أن تغطي وجهها . فرفعت عائشة خمارها من صدرها فغطت به وجهها . رواه ابن أبي خيثمة .
وكان عليه العمل عند غير أمهات المؤمنين .
كما روت ذلك فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر وهي جدتها .
روى الإمام مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت : كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق .
وهذا من أظهر الأدلة على وجوب الحجاب
إذ لو كانت تغطية وجه المرأة أمام المحارم من المستحَبّات لما جاز للنساء ارتكاب محظور من محظورات الإحرام لأجل أمر مسنون .
فإحرام المرأة في وجهها .
فإذا لم تكن بحضرة رجال أجانب فإنه يحرم عليها تغطية وجهها ، فإذا كانت بحضرة رجال أجانب وجب عليها تغطية وجهها .
وهنا تعارَض واجب وأوجب
والواجب كشف الوجه أثناء الإحرام
والأوجب تغطية الوجه عن الرجال الأجانب .
فدلّ فعل أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين من بعد على أن تغطية الوجه ليست مختصة بأمهات المؤمنين .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : المرأة عورة . رواه الترمذي وغيره .
فلا يُستثنى من هذا الدليل الصحيح شيء إلا بدليل صحيح ، ومن استثنى بغير دليل فقد تحكّم برأيه ، وخالف السُّنّة .
وأما الاستدلال على عدم وجوب تغطية وجه المرأة بنظر الخاطب فهذا من العجائب .(2/347)
فإن العلماء يستدلون به على ستر الوجه وتغطيته . إذ لو كانت المرأة سافرة الوجه لما احتاج الخاطب أن ينظر إليها لأنه سيكون قد رآها وعرفها .
وفعل الصحابة رضي الله عنهم يدل على ذلك بناء على ما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا جناح على أحدكم إذا أراد أن يخطب المرأة أن يغترها ، فينظر إليها ، فإن رضي نكح وإن سخط ترك . رواه عبد الرزاق .
وروى جابر رضي الله عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر إلى بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل . قال جابر : فخطبت امرأة من بني سليم فكنت أتخبأ لها في أصول النخل ، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها . رواه أبو داو والحاكم وقال : هذا حديث صحيح .
وروى ابن ماجه عن محمد بن سلمة قال : خطبت امرأة فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها في نخل لها ، فقيل له : أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها .
وقد نقل الشوكاني عن ابن رسلان اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق .
وأما الاستدلال بآية النور في الأمر بغض الأبصار فليس فيه مستند لمن قال بعدم وجوب تغطية الوجه .
إذ المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان . كما قال من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
فإذا كانت كذلك وجب غض البصر عن المرأة ولو كانت متحجبة ، إذ قد يظهر منها شيء أو قد ينظر الرجل إلى جسم المرأة فيُفتن بها .
وإذا كانت الأذن تعشق صوت المرأة كما قال بشار بن برد :
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة = والأذن تعشق قبل العين أحيانا !
فإذا كان هذا في الأذن فالنظر إلى جسم المرأة أشد في الفتنة ، وعندها يجب غض البصر .(2/348)
بل ألم تسمع إلى تغزل بعض الشعراء بجسم المرأة ، وبخصرها وغير ذلك .
ويؤمر المسلم بغض البصر لما يكون من الجواري ونساء العجم .
قال الإمام البخاري رحمه الله :
قال سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن . قال : اصرف بصرك عنهن ، يقول الله عز وجل : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )
قال قتادة : عمّا لا يحل لهم .
( خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ) من النظر إلى ما نهى عنه ، وقال الزهري : في النظر إلى التي لم تِحض من النساء ، لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يُشتهى النظر إليه ، وإن كانت صغيرة ، وكَرِه عطاء النظر إلى الجواري التي يُبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري . انتهى ما علقه الإمام البخاري رحمه الله .
من أجل ذلك وجب غض البصر .
========================
ولم أرَ لمن قال بجواز كشف المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب سوى حديث أسماء في جواز كشف الوجه واليدين : إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا .
فهذا حديث ضعيف له أكثر من سبع علل . كما بينه العدوي في رسالة الحجاب .
وحديث الخثعمية في الحج . وليس صريحا في الدلالة على ذلك ، إذ رواه أبو يعلى عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال : كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه ابنة له حسناء فجعل يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها . قال : فجعلت ألتفت إليها وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ برأسي فيلويه .
قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح .
ولا يُعارضه قولها : إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة . فإن الأب يُطلق على الجد أيضا .
ويُحتمل أنها كانت وضيئة ، أي يُعرف ذلك ولو من وراء حجابها .(2/349)
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي الفجر ، فيشهدُ معه نساءٌ من المؤمنات متلفعاتٌ بِمُرُوطِهنّ ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ، ما يَعرفُهُنّ أحدٌ من الغَلَسِ . رواه البخاري ومسلم .
وليس في الحديث ما يدلّ على جواز كشف الوجه ، إذ يُرد المتشابه إلى المحكم .
وقد تظافرت أدلة الوحيين على وجوب تغطية المرأة لوجهها .
وأما الأحاديث التي قد يُفهم منها كشف الوجه كهذا الحديث فليست صريحة في الدلالة .
وغاية ما في هذا الحديث نفي المعرفة ، وهو محتمل لوجوه :
إما نفي معرفة أعيانهن من قِبل النساء أنفسهن .
أو أنه قبل نزول الحجاب ، كما قاله الباجي ، فيما نقله عنه ابن الملقّن .
ثم إن مِن عادة النساء في ذلك الزمن أنهن ينصرفن قبل الرجال
قالت أم سلمة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث هو في مقامه يسيرا قبل أن يقوم . قالت : نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال . رواه البخاري .
بمعنى أنهن لو كشفن وجوههن مع الغلس وانصرافهن قبل الرجال لم يكن فيه من حرج ، كما أنه ليس فيه مستمسك للقول بجواز كشف المرأة لوجهها بحضرة الرجال الأجانب .
==========
فهذه أختي الفاضلة أدلة الكتاب والسنة متضافرة في وجوب ستر وتغطية وجه المرأة .
بل وأقوال سلف هذه الأمة .
وأي فتنة أعظم من مجمع المحاسن ، وجه المرأة .
سائلا الله جل جلاله أن يجعل الحق هدفنا والجنة غايتنا .
250-التسوّق بين الفتنة والمتعة..
كان من الصحابة من يأتي السوق لإقامة ذِكرِ الله حال الغفلة .
فقد كان ابن عمر يقول : إني كنت لأخرج إلى السوق وما لي حاجة إلا أن أُسلِّم ويُسلَّم عليّ . رواه ابن أبي شيبة .
وكان بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يُكبر ويُسبِّح ويذكر الله تعالى ، فقال له رجل : يا أبا بكر في هذه الساعة ؟ قال : إنها ساعةُ غفلة .(2/350)
وكانت الأسواق تُذكرهم بالآخرة ، فإن ابن مسعود رضي الله عنه ما خرج إلى السوق فمرّ على الحدادين فرأى ما يُخرجون من النار إلا جعلت عيناه تسيلان .
وكان طاووس اليماني إذا مرَّ في طريقه على السوق فرأى تلك الرؤوس المشوية لم ينعس تلك الليلة .
وكان عمرو بن قيس إذا نظر إلى أهل السوق بكى ، وقال : ما أغفل هؤلاء عما أُعِدّ لهم .
وإنما كانوا يحرصون على إقامة ذكر الله في الأسواق لأنها مواطن غفلة ولغو ولهو ، ويعظم أجر الذّاكرِ لله في مواطن وأوقات الغفلة ، ولذا كانت صلاة الضحى تعدل 360 صدقة ، كما في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يُصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ؛ فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى . رواه مسلم .
ومن هذا الباب عِظم أجر الذاكر في السوق .
قال محمد بن واسع قدمت مكة فلقيت بها سالم بن عبد الله بن عمر فحدثني عن أبيه عن جده عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير . كَتَبَ الله له ألفَ ألفَ حسنة ورفع له ألفَ ألفَ درجة ، وبَنى له بيتا في الجنة قال محمد بن واسع : فقدمت خراسان فأتيت قتيبة بن مسلم فقلت : أتيتك بهدية ، فحدثته الحديث . قال : فكان قتيبة يركب في موكبه حتى يأتيَ السوق ، فيقولَها ، ثم ينصرف .
قال الذهبي : إسناده صالح غريب . والحديث حسنه الألباني .
وروى ابن أبي شيبة عن أبي قلابة : قال التقى رجلان في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : يا أخي تعال ندعو الله ونستغفره في غفلة الناس لعله يُغفر لنا ، ففعلا ، فقُضيَ لأحدهما أنه مات قبل صاحبه ، فأتاه في المنام ، فقال : يا أخي أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق .(2/351)
وقال عبد الله بن أبي الهذيل : إن الله ليحب أن يُذكر في الأسواق ، وذلك لِلَغطِ الناس وغفلتِهم ، وإني لآتي السوق ومالي فيه حاجة إلا أن أذكرَ الله .
قال حميد بن هلال : مثل ذاكر الله في السوق كمثل شجرة خضراء وسط شجر ميت .
ولما دخل الحسن بن صالح السوق فرأى هذا يخيط وهذا يصنع ، بكى ، ثم قال : انظر إليهم يُعللون حتى يأتيَهم الموت .
وكان مالك بن دينار يقول : السوق مكثرة للمال مذهبة للدِّين .
=====
هكذا كانوا مع الأسواق .
فكيف أصبحت أحوالنا مع الأسواق
أصبحنا نُسمّيها :
((( متعة التسوق ))) !!!
فنعوذ بالله من أحوال أُناسٍ لا يجدون الراحة والمتعة إلا في مواضع الفتنة . فيُسمّونها : مُتعة التّسوّق !
يجودن راحتهم في الأسواق التي هي أبغضُ البلاد إلى الله .
قال عليه الصلاة والسلام : أحب البلاد إلى الله مساجدها ، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها . رواه مسلم .
وما ذلك إلا لأن المساجد أماكن العبادة وذِكرِ الله عز وجل .
بينما الأسواق هي أماكن الغفلة .
قال الإمام النووي - رحمه الله - : أحب البلاد إلى الله مساجدها ؛ لأنها بيوتُ الطاعات ، وأساسُها على التقوى . وقوله : وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ؛ لأنها محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وإخلاف الوعد والإعراض عن ذكر الله ، وغير ذلك مما في معناه ... والمساجد محل نزول الرحمة ، والأسواق ضدها .
وحذّر رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم من المنازعات والخصومات التي تقع في الأسواق فقال : إياكم هيشات الأسواق . رواه مسلم
قال النووي : أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إن التجار هم الفجار . قيل : يا رسول الله أوَ ليس قد أحلَّ الُله البيع ؟ قال : بلى ، ولكنهم يُحدِّثون فيكذبون ، ويحلفون ويأثمون . رواه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني .
وحذّر السلف من كثرة دخول الأسواق .(2/352)
قال سلمان – رضي الله عنه – : لا تكونن – إن استطعت – أول من يدخل السوق ، ولا آخر من يخرج منها ، فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته . رواه مسلم .
وقال ميثم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه على آله وسلم : يغدو الملك برايته مع أول من يغدو إلى المسجد فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منزله ، وإن الشيطان ليغدو برايته مع أول من يغدو إلى السوق . قال ابن عبد البر : وهذا موقوف صحيح السند .
وقال أبو عثمان : إن السوق مبيض الشيطان ومفرخه ، فإن استطعت أن لا تكون أول من يدخلها ولا آخر من يخرج منها فافعل .
وفي الأسواق تجتمع الشياطين للتحريش بين الناس وحملِهم على المفاسد سواء ما كان منها في التعامل والمعاملات ، أو ما كان منها في فساد الأخلاق وشَيْن الطبائع .
ومن عجبٍ أن أفضل الأوقات وأحبها إلى الله تُقضى في الأسواق ، فيقضون ليالي رمضان في الأسواق والتّسوّق .وإذا قيل لهم في ذلك .
قالوا : تُريدوننا نحضر الأعياد بملابس قديمة !
لا . لا نُريد لكم ذلك ، ولكن هلاّ كان ذلك قبل ذلك ؟
أي قبل مواسم الخيرات .
وأشدّ ما تكون فتنُ الأسواق في العشر الأواخر من رمضان ، في تلك العشر التي هي أفضل ليالي الشهر بل أفضل ليالي العام فتضيع تلك المواسم بين السوق والمطبخ .
وتتدافع النساء في تلك الأيام على شراء ملابسِ العيد .
ووالله إن الواحد مِنّا ليدخل لتلك الأسواق ، فما يجد قلبه الذي كان يجده قبل دخول الأسواق !
فيكون الرجل أو المرأة بين بيته ومسجده ومصحفه في أيام وليالي رمضان ثم تعرض له الحاجة فيدخل السوق ، فيتغيّر عليه قلبه .
وقد يقول بعض الناس إنه لا يجد ذلك ولا يُحسّ به !
فالجواب ما قاله ابن القيم – رحمه الله – : مرض القلوب لا يُشعر به غالباً .(2/353)
أو قوله : وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها ، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته ، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق ، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألّم بورود القبيح عليه ، وتألّم بجهله بالحق بحسب حياته . وما لجرح بميت إيلام . انتهى .
وإن كثيراً من النساء أضعن ليالي الشهر الكريم بين الأسواق ، فلو سُئلت إحداهن كم سوق دخلته في رمضان ، لغلِطت في العدّ !
ولو سُئلت كم مرة قرأتِ القرآن ، لما ردّت !
وإن كانت غير قارئة للقرآن لقالت : لا أُحسن القراءة !
ألا تُحسنين قراءة سورة الإخلاص ( قل هو الله أحد ) كرريها عشر مرات ، ففي كل عشرٍ قصر في الجنة . كما في المسند وغيره ، وحسنه الألباني .
والمؤسف حقاً أن تتباهى النساء في مشترياتهن – في هذا الشهر وفي غيره – طلباً للمباهاة ، وأن لا تكون " فلانة " أحسن مني ! أو لست أقل من " فلانة " !
تقول مُعلِّمة خليجية عن زميلتِها : كانت تقوم بالتدريس معنا فتاة تلبس النادر من الثياب والحُليّ ... تقول : وحاولت مُجاراتِها على حساب بيتي وزوجي وأولادي ... إلى أن قالت : وقدّر الله أن تموت تلك المُدرِّسة في حادث وتأسفنا عليها وبعد ثلاثة أشهر اكتشفنا أنها غارقة في الديون وأن أهلَها يستجدون أهلَ الخير لسداد الديون ، تقول : فقلت : لا للترف والمظاهر .
إسراف وتبذير وحبٌّ للمظاهر .
في أحد محلات بيع العطور تم تكريم بائع لأنه باع على إحداهن ما قيمته خمسة عشر ألف ريال مرة واحدة .
وامرأة اشترت من محِلاًّ يبيع صابون الجسم اشترت منه بأكثر من عشرين ألف ريال
وهذه بلا شك تدلّ على زيادة الترف الذي يُخشى معه من العقوبة التي لا تتخلّف عن المترفين .
وفي الأسواق ربما أُضيعت بسبب التسوّق الصلوات ، وعُصي رب الأرض والسماوات .
وإذا كان هذا يُستقبح في غير رمضان فهو في رمضان أشد قُبحاً وأعظم جُرماً .(2/354)
ذلك أن رمضان شهر الغُفران ، فمن لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر له ؟
قال عليه الصلاة والسلام : " أتاني جبريل فقال : يا محمد من أدرك رمضان فلم يُغفر له فأبعده الله . قل آمين . قلت : آمين . رواه ابن خزيمة والحاكم وصححه .
النساء وأهداف التسوّق :
منهن من تخرج للسوق دون غايةٍ أو هدف ، فتقول بعض النساء نريد زيارة السوق ، ولما تُسأل : لماذا ؟ وماذا تُريدين ؟ تقول : إن لقينا شيء زين اشتريناه !
فالخروج أصلاً لم يكن لهدف ، وإنما لإزجاء الوقت ، وإضاعة المال ، وربما الدِّين .
ومنهن من تخرج وتُخْرِج معها أهلَ بيتها ، حتى تُرى المرأةُ الكبيرةُ في السن والتي بلغت من الكِبر عِتيّا تُجَرُّ في الأسواق دون ذنب أو جناية !
فهل تذكّرت تلك النسوة أنهنّ مسؤولاتٌ عن أعمارِهنّ .
فلن تزول قدما عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه ؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه
فهذه الأوقات التي تُهدر هي عمر الإنسان ، فمن رامَ قتل الفراغ فقد رام قتلَ نفسه
ومنهن من تخرج للتعرّف على كل جديد ، تتباهى به ، أو بمعرفته !
ومنهن من تخرج للسوق في ليالي رمضان لإضاعة الحياء وقلّة الدِّين ، ويتمثّل ذلك في فتنة الشباب والشابات !
فتنة الشباب بما ترتديه من ملابس ، وما يفوح منها من عطورات .
وفتنة الشابات بتجرئتهنّ على ذلك الفعل المَشين وتهوينه في أعينهن .
ومن أساب كثرة ارتياد الأسواق وجودَ الخدم في البيوت .
فلو كانت المرأة تُعنى ببيتها وأولادِها لما وجدت أوقات فراغٍ تقضيها في الأسواق والحدائق والمطاعم التي انتشرت في الأسواق .
ومن النساء من أدمنت خروج السوق فلا يُمكن بعد ذلك أن تستغني عن السائق أو الخادمة ، فلا تَتَصوّر هي أن تعيش بدون هذين ، ولو افتقرت لاستطاعت العيش ولاقْتَصَرت على ضروريات الحياة .
وكانت السؤال في أوساط النساء : هل عندك خادمة ؟ فأصبح السؤال مع تزايد الترف وكثرة المال : كم عندك من خادمة ؟(2/355)
ووجود الخادمة في البيت له تبعاته من إهمال التربية والبيت والزوج ، وكثرة الخروج فتُصبح المرأةُ خرّاجةً ولاّجة ، لا همّ لها سوى شهوات البطن واللباس ، ومن كانت كذلك فهي لا تصلحُ أُمّاً ولا تُحسن التربية .
وكُنت قرأت قبل فترة بعض الإحصائيات عن مرضٍ نفسي تفشّى في أوساط الكفّار ، وكنت أظنه حِكراً عليهم ، وإذا بي أسمع به في أوساط نساء المسلمين !
ذلكم المرض هو ما عُرِف بـ ( إدمان التسوّق )
فتشير بعض الأرقام إلى وجود ثمانمائة ألف مدمن تسوّق بشكل مرعب في بريطانيا
بينما العدد تضاعف في أمريكا فيوجد ثلاثة ملايين ونصف المليون مدمن تسوّق !
و مدمنوا التسوق بعضهم أفلس وباع كل ما عنده ، فانتشرت عيادات مكافحة الإدمان .
تقول إحدى الأخوات إنها تعرِف فتاة تربّت في عائلة مُحافظة ، وكانت أمُها هي التي تقضي حوائج البنات ، فتذهب للسوق ما يُقارب ست إلى ثمان مرّات في السنة ، تقول : المصيبة وقعت بعد زواجها من زوج كانت أمُّه مُدمنةَ أسواق ، ولم تكتفِ بذلك بل كانت تطلب من زوجة ابنها أن تلبس العباءة الفرنسية وترتدي الضيّق من الملابس وأخذ الزينة الكاملة عند الخروج ، تقول عن أمّ زوجها : إنها مُدمنة تسوّق بغرض توسيع الصدر ؛ لأنها يضيقُ صدرها باستمرار ... إلى أن قالت : المشكلة أنها ترتاد السوق في رمضان بشكل شِبهَ يومي من أجل الجوائز !!!
ضاع ليلُ رمضان بين السوق والسائق !
أخيراً :
قد يعترض مُعترض فيقول جعلتم التسوّق فتنة !
فأقول : ما هو تعريف الفتنة أولاً ؟
الفتنة تُطلق على عدة معاني ، منها :
اختبار الذهب ، فتنته على النار ، أي عرضته عليها .
والامتحان : فُتِن فلان ، أي امتُحِن .
ويُطلق على الجنون ، ومنه قوله تعالى : ( بأيكم المفتون ) قال أبو عبيد : المجنون .
والتعلّق بالنساء ، يُقال : فَتَنَتْه المرأة ، إذا تعلّق بها .
وقد قال عليه الصلاة والسلام : ما تركت بعدي ( فتنة ) أضرّ على الرجال من النساء . متفق عليه .(2/356)
وقد قسّمت الفتن إلى صغار وكبار كما في حديث حذيفة المتفق عليه .
قال عمر : أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال ؟ قال حذيفةُ : فقلت : أنا . قال عمر : إنك لجريء ! وكيف قال ؟ قال قلت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فقال عمر : ليس هذا أريد ، إنما أريد التي تموج كموج البحر . قال حذيفةُ فقلت : مالك ولها يا أمير المؤمنين ؟ إن بينك وبينها بابا مغلقا . قال : أفيكسر الباب أم يفتح ؟ قال قلت : لا بل يكسر . قال : ذلك أحرى أن لا يغلق أبدا . قال فقلنا لحذيفة : هل كان عمر يعلم من الباب ؟ قال : نعم . كما يعلم أن دون غد الليلة . إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط . قال شقيق بن عبد الله : فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب ، فقلنا لمسروق : سله ، فسأله فقال : عمر .
ويُطلق الفاتن على الشيطان .
وعلى من يُثير الفتنة .
وعلى المضلّ عن الحق .
ومن هنا جاء هذا العنوان .
والله أعلم .
251-الإفساد في الأرض..
تأملت الآيات التي ذكر الله فيها الإفساد فرأيت أن الله – تبارك وتعالى – إذا ذكر الإفساد بهذا اللفظ نفى الإصلاح ، أو ذكره معه .
لتعلم أن المفسدين يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون .
ولعلي أتتبّع الآيات التي ورد فيها ذكر الإفساد لنتعرف على أنواع الإفساد وصوره :
1 – الشرك بالله إفساد . قال الله تبارك وتعالى : ( الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ )
فهؤلاء جمعوا بين إفسادين :
كفرٌ بالله
وصدٌ عن سبيل الله
وقال سبحانه وبحمده : ( وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ )(2/357)
2 – النِّفاق إفساد في الأرض . قال الله تبارك وتعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ )
3 – تكذيب الرسل ، ورد الحق برغم الإيقان به . قال الله تبارك وتعالى عن آل فرعون : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )
وقال سبحانه وتعالى عن قوم صالح ، وأن صالحاً قال لهم : ( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ )
ويدخل فيه الصدّ عن سبيل الله . قال الله تبارك وتعالى : (وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )
4 – اللجوء إلى غير الله ودعاء الأموات إفساد . قال الله تبارك وتعالى : ( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ )
5 – قتل النفس إفساد ، وتعظم الجريرة إذا كان المقتول مُصلحاً . قال الله تبارك وتعالى : ( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ )
واشترك القوم بالرأي والمكيدة ، فهو إفساد الطبقة المتنفّذة المتسلّطة ، ولذا قال سبحانه :
( قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ )
والتبييت قتله ليلا(2/358)
فهم خفافيش الظلام التي يبهرها النور فلا تستطيع أن تتحرك وتعمل إلا تحت جُنح الظلام .
وقتل الأنفس البريئة إفساد
قال جل جلاله عن فرعون : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )
ولذا قالت الملائكة ( قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ) ؟
6 – بخس الموازين والتطفيف بالكيل إفساد . قال الله تبارك وتعالى على لسان شعيب : ( فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا )
7 – التقاطع في الأرحام وعدم وصلها . قال الله تبارك وتعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ )
8 – نقض العهد ، وعدم الوفاء به ، وقطع ما أمر الله به أن يُوصل . قال الله تبارك وتعالى : ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )
ولذا قال سبحانه وتعالى بعدها مباشرة : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
وقال جل جلاله : (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )(2/359)
9 – الإسراف ومجاوزة الحد في الغي والتمادي في المعاصي إفساد . قال الله تبارك وتعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام : ( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ )
وقال سبحانه وتعالى عن الألدّ الخصِم : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ )
10 – إيقاد نيران الحروب بين عباد الله إفساد . واليهود هم أهل هذا التخصص . قال الله تبارك وتعالى : ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )
11 – السِّحر إفساد . قال الله تبارك وتعالى : ( قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) .
12 – الجبروت والتكبّر على عباد الله إفساد ، والإفراط في الفرح والأشر والبَطَر . قال جل جلاله عن رمز الثراء الفاحش " قارون " : ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )
13 – ارتكاب المنكرات وإتيان ما حرّم الله من الفواحش . قال الله تبارك وتعالى على لسان لوط : ( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ )
فماذا كان جواب القوم المفسدين ؟
(ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )(2/360)
فكانت دعوته (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ )
14 – السرقة إفساد . قال جلا وعلا عن إخوة يوسف : ( قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ )
كل ذلك إفساد بغير إصلاح ، وإن ادّعوا أنهم مُصلحون فقد كذبهم الله .
( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ؟
لا يستويان .
أخيراً :
إن عزب عني شيء من معاني الإفساد ، فسبحان من لا يعزب عنه مثقال ذرّة .
وإن خفي عليّ شيء فسبحان من لا تخفى عليه خافية .
ولو بقيت أتأمل كتاب الله وأتفكّر فيه لما انقضت عجائبه .
والله ولي الصالحين .
والله لا يُحبّ المفسدين .
252-الأسد المُزيّف ..!!!!!
حَكَى ابن الأسود فقال :
كان ملك الغابة يتربّع على كرسيه في غابة كثيفة الأشجار...
كان أسداً شجاعاً تهابه جميع حيوانات الغابة ...
مرض في يوم من الأيام فلم يجد من أولاده المخلصين من يأتيه بالدواء
الكل مشغول بنفسه ... مشغول بخلافه مع إخوانه
ترك الأسد مملكته بحثاً عن دواء
فلما خلا المكان من الهزبر الهصور ... جاء دعيّ وجلس على كرسيه
وتقنّع بقناع أسد ... ولبس جلد أسد على صدره وذراعيه
لكنه لما أراد أن يزأر زعق وزقح
فلم ينكشف أمره لكل من كان يسكن الغابة لأول وهلة
تعاظم في نفسه وتغطرس وتكبّر وتجبّر
وزاد الطين بلّة والأمر سوءاً أن قرّب منه من ليس أهلا للقرب
قرّب أراذل الحيوان ...
قرّب منه ومن مجلسه ( الخنزير )
ولم يكتف بذلك بل جعله نديمه وجليسه ومستشاره !
راح الخنزير يعيث في الغاب الفساد
فيقتل صغار الحيوان وفراخ الأطيار
ويقطع الأشجار
ويهدم البيوت ويُسقط الأوكار
وكان الخنزير يضرب بسيف من حديد باسم رئيس الغابة
وكان رئيس الغابة على علم بما يجري ، لكنه كان يغضّ الطرف عن مساوئ جليسه
تذمّر من كان في الغابة حتى كرهوا الرئيس وجليسه(2/361)
كان رئيس الغابة – في كل مرة – يجد مُبرراً للأفعال الشنيعة التي يقوم بها ( الخنزير )
وكان مع كل فعلة شنيعة أو خسيسة يأتي بها جليسه كان يأمر جميع حيوانات الغابة بالتحلّي بالصبر وضبط النفس والأعصاب
وزيادة على ذلك أوكل أمر أمن الغابة إلى الفئران التي كانت تقرض الأشجار وتكسر الأغصان
وذات يوم شبّ حريق هائل في الغابة فزع منه الجميع ...
ربما كان الخنزير هو من أشعله فهو خبيث الطبع أحمق التصرّف
وكانت أصابع الاتهام تُشير إليه
فقد أخرج أولاده وأخبر أصحابه
فلم يُصابوا بأذى
هاج رئيس الغابة وضرب بيده على منضدة كانت أمامه قائلاً :
سألقن من فعل تلك الفعلة درسا لن ينساه
وسأعرفه بنفسي ومن أكون
وسيدفع ثمن ذلك باهضا
وجه أصابع الاتهام فورا إلى النمر والأسد
الأسد كان مريضا وهو أضعف من أن يفعل تلك الفعلة
وهو كان قد خرج في الصحراء يبحث عن نبتة بريّة تكون دواء له
والنمر كان يقضي وقته بعيدا عن فوضى الغابة
كان يسير على أطراف الشواطئ يبحث عن صيد أو طعام من طعام البحر
ولما نمى إلى علم الرئيس أن من اتّهم برئ لم يرض أن يتراجع
أصدر أوامره للحيوانات بالحضور لسماع حديثه
اجتمعت حيوانات الغابة لسماع حديث الرئيس
لكنه لم يستطع أن يمتلك قلب الأسد
وليست لديه شجاعة النمر
ظل يوما وليلة مختبئا في مخبأ تحت الأرض
ظهر بعد ذلك وعليه آثار الرعب من ذلك الحريق
وقف أمام الحيوانات يُلقي خطابا عصامياً
وحينما رأى علامات الكُره بادية ظاهرة على وجوه حيوانات الغابة أدار ظهره للجميع
لكن الجميع فوجئوا بما لم يكن بحسبانهم
فوجئوا بسوءة الرئيس وقد ظهرت ... وباحمرار قفاه يبدو واضحا
همس كل حيوان لصاحبه
هذا سيد الغاب الدّعيّ ؟
إنه القرد الحقير
كيف لبّس علينا الأمر ؟
كيف صبرنا على الذلّ والهوان ؟
كيف صبرنا على صديقه المدلل ( الخنزير ) ؟؟
الذي كان يسومنا سوء العذاب
ماذا كان يُريد بإلصاق تلك التهمة بالنمر والأسد ؟
كيف ... كيف ؟؟(2/362)
تتابعت الأسئلة ...
ظهرت علامات الدهشة والاستغراب على وجوه الجميع
سقط من أعين الجميع
عادوا إلى منازلهم وجحورهم وأوكارهم وأعشاشهم
وقد تغيّرت نظرتهم للرئيس المزعوم
أهذا الذي ملأ الدنيا ضجيجا ؟؟
أهذا الذي بثّ العيون والفئران في كل مكان ؟؟
أهذا الذي زعم أنه زرع الأرض وملأ الأشجار هيبة ؟؟
سكتت الحيوانات على مضض ...
غير أن الأسد لم يمت وإن كان قد مرض
فهو سينتفض ...
وعندها سيتطاير الأشبال تطاير الشرر ويَثِبُون وثبة أبيهم من قبل
وعندها سيندم القرد والخنزير
وتكون نهاية الأدعياء
ويعود الأسد لسالف عزّه ومجده
ويُحرر الغابة من كل قرد وخنزير وفأرة..
253-ألا تُجاهد ؟
تتوق نفوس للجهاد في سبيل الله ، وتطير شوقاً إليه ، ، فتعلّقت بالثريا ، وهي تمشي على الثرى ، ولكنها رامَتْ عسيرا ، وتمنّت عزيزاً .
تحرّقوا على وضع أمّتهم ، غير أنهم اكتفوا من الغَنيمة بالغُنَيمة !
فماذا صنع أصحابها ؟
قعدوا خلف الصفوف ، فلا هُم بالذين بلغوا مُناهم ، ولا هم بالذين مشوا مع القافلة ، أو ساروا مع الرّكب .
تركوا أبواب الجهاد المشرعة أمامهم ، ونظروا إلى أبواب – ربما – لا سبيل إلى الوصول إليها
تناسوا مراتب الجهاد ، التي ذكرها ابن القيم في الزّاد
فللجهاد ثلاث عشرة مرتبة ذكرها ابن القيم فقال :
الجهاد أربع مراتب :
جهاد النفس ، وجهاد الشيطان ، وجهاد الكفار ، وجهاد المنافقين .
ثم قال :
فجهاد النفس أربع مراتب :
إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شَقِيتْ في الدارين .
الثانية : أن يجاهدها على العمل به بعد علمه ، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .
الثالثة : أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه ، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله .(2/363)
الرابعة : أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله ، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين ، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات . اهـ .
ثم شرع - رحمه الله - في بيان ما يترتب على جهاد النفس ، فقال :
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان :
إحداهما : جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان .
الثانية : جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات .
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب :
بالقلب واللسان والمال والنفس ، وجهاد الكفار أخص باليد ، وجهاد المنافقين أخص باللسان .
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب :
الأولى ، باليد إذا قدر ، فإن عجز انتقل إلى اللسان ، فإن عجز جاهد بقَلْبِه .
فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد . و من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق.
ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة ، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان ؛ والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
وقال أيضا :
وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يُكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد .
وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها ، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد ، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله فإنه كمّل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل . اهـ .
تركوا هذه المراتب وغيرها(2/364)
نسُوا أن القيام على شؤون الأرامل والمساكين بمنزلة الجهاد في سبيل الله .
قال عليه الصلاة والسلام : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، أو القائم الليل الصائم النهار . رواه البخاري ومسلم .
وما ذلك إلا لِعِظم هذا الفعل ، ولأن هذا العمل مما يتعدّى نفعه .
ودُونك يا رعاك الله هذا الباب من أبواب الجهاد قد فُتِح ، ألا وهو باب هذه العشر .
التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ما العمل في أيامٍ أفضلُ من العمل في هذا العشر . قالوا : ولا الجهاد ؟ قال : ولا الجهادُ إلا رجل خرج يُخاطر بنفسه ومالِهِ فلم يرجع بشيء . رواه البخاري .
فهذا باب من أبواب الجهاد ، وهذا عمل لا يعدله الجهاد ، إلا في حال واحدة : مَن خرج بنفسه ومالِه فلم ترجع ولا المال .
ودونك باباً آخر فُتِح أيضا ، وهو الحج المبرور
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ قال : لا ، لكن أفضل الجهاد حج مبرور . رواه البخاري .
وباب ثالث غَفَل عنه الكثير ، واستهان به كثير
ألا وهو باب قدّمه النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله .
ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها . قال : ثم أي ؟ قال : ثم برّ الوالدين . قال : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله .
ولا يعني هذا التهوين من شأن الجهاد في سبيل الله ، إذ هو ذروة سنام الدّين ، ولكني أردت التنبيه والتذكير بهذه الأبواب المُشرَعة المفتوحة ، فدونك إياها فاختر ما شئت منها فادخُل ، وخذ ما يُناسبك منها واعمل ، ولا تكن كالمُنْبَتّ لا أرضا قَطَع ، ولا ظهراً أبقى !
دونك أبوابَ البر ، ومفاتيح الخير ، وطُرُق الأجر
فانهض بعزم ، وسِر بحزم
ولا تتأخر أو تتقهقر
قال ابن الجوزي :(2/365)
سار القوم ورجعتَ ، ووصلوا وانقطعتَ ، وذهبوا وبقيتَ ، فإن لم تلحقهم شقيتَ .
أفلح قوم إذا دعوا وثبوا = لا يحسبون الأخطار إن ركِبوا
سارُون لا يسألون ما فعل = الفجر ولا كيف مالَت الشهب
عوّدهم هجرهم مطالبة = الراحة أن يَظفُروا بما طلبوا
أيها المبارَك :
لا تحقرن من المعروف شيئا
لا تحقرن كلمة ، فرب كلمة أدخلت الجنة
لا تستصغر نفسك ، فهمّتك مُعلّقة بالثريا
لا تستهن بمقترح تُقدّمه
أو رأي تطرحه
أو مشورة تقوم بها
فقد حُمِيت المدينة يوم الخندق برأي سلمان
وانزاح عن النبي صلى الله عليه وسلم همّه يوم الحديبية بمشورة أم سلمة
وهزِمت جحافل المشركين يوم بدر بفضل من الله ثم برأيٍ من الحباب بن المنذر
إن باستطاعتك أن تفعل الكثير والكثير
باستطاعتك كفالة يتيم
أو رعاية أرملة
أو من في حكمهم ، من زوجات المفقودين والمساجين .
باستطاعتك دعوة كافر إلى الإسلام ، أو ضال إلى طريق الإيمان .
هل سمعت قَسَم النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فقد قال لعليّ رضي الله عنه يوم خيبر : " فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من أن يكون لك حُمْر النَّعَم " .
هل استهنت بهذا الخير العظيم ، والثواب الجزيل ؟
وأقعدك الشيطان عن العمل لهذا الدّين ، رجاء أن تظفر بالذروة !
فَتَرَكَكَ في الحضيض قاعداً عن العمل ، مُزهِّداً لك سائر القُرُبات ، ومُحقّرا في عينك بقية الطّاعات !
وقد يقول قائل : وهل يُمكن أن يأمر الشيطان بالإحسان ؟!
فأقول : نعم
وذلك أنه يأمر بالعمل المفضول ليترك المسلم العمل الفاضل .
فهل تتصوّر أن يأمرك الشيطان بقراءة القرآن ؟!
الجواب : نعم
أما متى وكيف ؟
فربما أمرك الشيطان بقراءة القرآن ليُفوّت عليك عملاً فاضلا حاضراً ، كأن يأمرك بقراءة القرآن وقت الأذان أو وقت الأذكار ، فهذه تفوت ويفوت وقتها ، وقراءة القرآن لا يفوت وقتها .(2/366)
وربما أمرك بصلاة النافلة وترك ما يكون نفعه أعظم ، من بِرّ والد ، وصلة رحِم ، وعيادة مريض ، واتّباع جنازة ، ونُصرة مظلوم ، وإغاثة ملهوف ، ورعاية يتيم أو أرملة ... إلى غير ذلك .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله سبع عقبات يقعد فيها الشيطان لابن آدم ، فذكر منها :
العقبة السادسة : وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات ، فأمَرَهُ بها [ يعني الشيطان يأمره بها ] ، وحسّنها في عينه وزيّنها له ، وأَراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسبا وربحاً ، لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية فشغله بالمفضول عن الفاضل ، وبالمرجوح عن الراجح ، وبالمحبوب لله عن الأحبّ إليه ، وبالمرضي عن الأرضى له . ولكن أين أصحاب هذه العقبة ؟ فهم الأفراد في العالم ، والأكثرون قد ظفِر بهم في العقبات الأول ، فإن نجا منها بفِقْهٍ في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل ، ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها ، ومفضولها وفاضلها ، ورئيسها ومرؤسها ، وسيدها ومَسُودِها ، فإن في الأعمال والأقوال سيداً ومسوداً ، ورئيسا ومرؤوسا ، وذروة وما دونها ، كما في الحديث الصحيح : سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت .. الحديث ، وفي الحديث الآخر : الجهاد ذروة سنام الأمر ... ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولى العلم السائرين على جادة التوفيق قد أنْزَلُوا الأعمال منازلها ، وأعطوا كل ذي حق حقه . انتهى كلامه رحمه الله .
فهذه أبواب الخير مفتوحة ، وطرقه مُشرعة
فيا أُخيّ دونك من الأبواب ما تنصر به الدِّين ، وترفع به الرأس
والله يتولاك
254-ألا تُغطُّون عنّا أست قارئكم !
كم هي عزيزة تلك الأمة التي أعزها الله فسادت الأرض في سنوات قليلة
أمَا إنها ما عزّت ولا سادت بالمال ، بل كانت أقل الأمم أموالاً(2/367)
حتى كان إمامهم – أحياناً - إذا سجد بَدَتْ عورته !
قال عمرو بن سلمة رضي الله عنه :كنا بماء ممرّ الناس ، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم :
ما للناس ما للناس ؟! ما هذا الرجل ؟
فيقولون : يزعم أن الله أرسله ! أُوحي إليه أو أوحى الله بكذا !
فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري ، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه ، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق ، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم ، فلما قدم قال : جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقا ، فقال : صلُّوا صلاة كذا في حين كذا ، وصلوا صلاة كذا في حين كذا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآنا ، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مِنِّي لما كنت أتلقى من الركبان ، فقدموني بين أيديهم وأنا بن ست أو سبع سنين ! وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عنِّي ، فقالت امرأة من الحي : ألا تغطُّون عنّا أست قارئكم ؟! فاشتروا فقطعوا لي قميصا ، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص . رواه البخاري .
أي حافظة تلك حافظة ذلك الصبي الذي حفظ مما يُذكر أنه نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
وأي غلام نبيه ذلك الذي كان يحفظ ويعقل قبل سن السابعة ؟
وأي أمة تلك التي سادت الدنيا ويتقدّمها ابن السابعة ؟
بل أي أُمة تلك التي يتقدّمها صبي تبدو عورته إذا سجد ؟
وهذا مثال آخر من حال تلك الأمة التي لم تلتفت للدنيا ولم تتكالب عليها(2/368)
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله جئت أهب لك نفسي ، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست ، فقام رجل من أصحابه فقال : يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها ، فقال : فهل عندك من شيء ؟ فقال : لا والله يا رسول الله ! فقال : اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا ، فذهب ثم رجع فقال : لا والله ما وجدت شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظر ولو خاتم من حديد ، فذهب ثم رجع فقال : لا والله يا رسول الله ، ولا خاتم من حديد ، ولكن هذا إزاري - قال سهل : ماله رداء - فلها نصفه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تصنع بإزارك ! إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء ، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء ، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدُعي ، فلما جاء قال : ماذا معك من القرآن ؟ قال : معي سورة كذا وسورة كذا عدّدها ، فقال : تقرؤهن عن ظهر قلبك ؟ قال : نعم . قال : اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن .
رجل لا يجد سوى إزار ليس معه رداء !
رجل لا يجد سوى ما يستر به عورته !
وهذا مثال ثالث :قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه ، فنقبت أقدامنا ، ونقبت قدماي ، وسقطت أظفاري ، وكنا نلفّ على أرجلنا الخرق ، فسميت غزوة ذات الرقاع ، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا . رواه البخاري ومسلم .
أولئك أي رجال كانوا ؟
لم يضرّهم أن حفيت أقدامهم
ولم يغضّ من قدرهم أن عريت أجسادهم
أو إن افتقروا فلم يجدوا ما يُنفقون
أو إن جاعوا فلم يجدوا ما يأكلون
ولكنهم طوّعوا الأحمر والأبيض والأسود لِدين حملوه(2/369)
فهم حَمَلَة مبادئ ، لا أصحاب مظاهر فحسب !
ذلكم هو الجيل الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه
وذلكم الجيل هو الجيل الذي أصاخ له سمع الدنيا
وذلكم الجيل الذي تربّى على سمع وبصر نبي الله صلى الله عليه وسلم
وذلكم الجيل الذي عاش القرآن وتمثّله
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا أُخيّ المجامع !
أما إني لو أردت أن أسوق شيئا من أخبارهم في فقرهم وجوعهم ومسغبتهم لطال بنا المقام
ولكن حسبك أن إمام القوم وسيدهم وقدوتهم – صلى الله عليه وسلم – يمر عليه الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبياته نار . كما في الصحيحين .
ويكفيك أن تعلم أن سرية مكونة من ثلاثمائة فارس ليس لهم طعام سوى تمرة واحدة لكل فارس في كل يوم !
( وسبق خبر السرية في موضوع : من عجائب المخلوقات )
أين الذين يُنادون بتحجيم المقاطعة !
وأن ضررها علينا أكبر !
حتى قال قائلهم : رزقنا على الله ثم على أمريكا !!
أين هو من هذه النماذج الشامخة الباسقة الضاربة جذورها في تخوم التاريخ ؟!!
الأمة اليوم لا ينقصها مال ولا تنقصها ثروات
وإنما تنقصها قُدوات .
قُدوات صالحة
في زمن الغثائية والافتقار إلى القُدوات
في زمن تعيش فيه الأمة انفصاماً بين أولها وآخرها
بين عزّها ومجدها وبين أجيالها الحاضرة
إننا نحتاج فعلاً إلى قُدوات
فـ
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً *** يُشيّدون لنا مجداً أضعناه
يا رب
255-آلبِرّ يُرِدن ؟!
قبل سنوات وأمام أحد الجوامع الكبيرة حيث يؤمّ المصلين في صلاة التراويح رجل حافظ لكتاب الله ، يأخذ بالألباب إذا قرأ ..
وتُصغي له القلوب
ويأخذ بمجامع الأفئدة فيهزّها هزّاً
ذهبت للصلاة خلف ذلك الإمام حيث يقرأ في صلاة التراويح جزء كاملاً ، وهذا نادر في زماننا !
فرأيت – لما ذهبت – ما راعني !
رأيت مجموعة من النساء أتين مع مجموعة من السائقين !
حضرت الواحدة منهن مع السائق لتُصلّي التراويح !
وربما فاح الطيب منهن ، أو من بعضهن !(2/370)
فتذكرت : آلبِرّ يُرِدن ؟!
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فأمر فضُرب له خباء ، وأمَرت حفصة فضُرب لها خباء ، فلما رأت زينب خباءها أمَرت فضُرب لها خباء ، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : آلبِرّ يُردن ؟
فلم يعتكف في رمضان ، واعتكف عشراً من شوال .
وفي رواية في الصحيحين :
آلبرّ أردن بهذا ؟ ما أنا بمعتكف ، فرجع ، فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال .
أحضرت تلك النسوة بتلك الطريقة يُردن البرّ والخير ؟
أحضرن يُردن الأجر والثواب ؟
أحضرن يُردن مغفرة الذنوب ؟
فمثل تلك النسوة يُقال لهن : ارجعن مأزورات غير مأجورات !
ليتهن رجعن كفافاً
لم يرتكبن ما حرّم الله من الخلوة بالأجنبي
ولم يأتين للصلاة مع السائق
ولم يُصلين صلاة التراويح
إن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ، وإن كانت تأتي إلى المسجد ماشية ، رغم كثرة أجر الخُطا
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها . رواه أبو داود .
ويوم أمس الأحد قرب أحد الجوامع الذي تُقام فيه محاضرات نسائية أسبوعية رأيت جمعاً من السائقين يقفون خلف مجموعة من السيارات ، فقلت في نفسي :
آلبرّ أردن بهذا ؟
حينها تذكرت قول ابن مسعود رضي الله عنه : وكم من مريد للخير لن يصيبه . رواه الدارمي .
أردن الخير – ولا شك – لكنهن أخطأن طريقه
أردن الخير – ولا ريب – لكنهن أضعن بابه
أردن الخير ، ولكن " كم من مريد للخير لن يصيبه "
فاتقين الله معاشر النساء
واعلمن أن بقاءكن في بيوتكن جاهلات خير لكن من حضوركن للمساجد ودور العلم بصحبة السائق الأجنبي الذي ربما كان كافراً !(2/371)
لقد قالت أمنا أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها لمن طافت بالبيت سبعة أشواط و استلمت الركن مرتين أو ثلاثا ، فقالت لها : لا آجرك الله . لا آجرك الله . تدافعين الرجال ؟! ألا كبّرتِ ومررتِ . رواه الشافعي والبيهقي .
هذا والمرأة تطوف ببيت الله وتسلتم أركانه
تُريد الأجر والثواب
تُريد رضا الله
تُريد الخير
ولكن هذا لم يشفع لها بل أغلظت لها عائشة رضي الله عنها القول ، وشدّدت النكير عليها .
كيف بك أُمّاه لو رأيت ما تفعله بعض الصالحات من نساء أمتي اليوم ؟
كيف وأنت تقولين : لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل .
قال يحيى بن سعيد : فقلت لعمرة – الراوية عن عائشة - : أنساء بني إسرائيل منعهن المسجد ؟ قالت : نعم . رواه البخاري ومسلم .
وإنما مُنعت نساء بني إسرائيل من المساجد لما أحدثن وتوسعن في الأمر من الزينة والطيبِ وحسنِ الثياب . كما قال الإمام النووي في شرح مسلم .
قال ابن المبارك : أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين ، فإن أبَت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطهارها ولا تتزين ، فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها من ذلك .
نسأل الله أن يُصلح أحوالنا رجالاً ونساءً
ونسأل الله أن يُفقهنا في ديننا .
256-ما يحدث في المنطقة مذكور في سورة البقرة..
ما يحدث في العالم الإسلامي أجمع ، وما يحدث في المنطقة العربية ، وبالأخص في العراق مذكور في كتاب ربنا !كيف ؟
وأين ؟
مذكور في سورة البقرة
لن أتكلّف كما فعل الذين تعسّفوا وُجود أحداث 11 سبتمبر في القرآن !
ولكن سأقف مع آيات دلالاتها أوضح من الشمس في رابعة النهار .
هل تأملت قوله تعالى : ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) ؟
الأمنية : أن يصدونا عن ديننا(2/372)
السبب : الحسد
هل كان عن جهل ؟
لا . بل بعد ما تبين لهم الحق .
ثم تأمل قوله تبارك وتعالى : ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )
فهم لا يُريدون لهذه الآمة من خير
بل إن هذا الأمر ليس في سورة البقرة فحسب بل هو مبثوث مبسوط في كتاب الله تعالى .
تأمل قوله عز وجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ) ؟
وحسدتنا اليهود على نعمة الله وفضله الذي آتانا إياه
قال عليه الصلاة والسلام : ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين . رواه ابن ماجه وغيره ، وصححه الألباني .
فما يحدث في المنطقة العربية والإسلامية ليس بغريب ، بل ما حدث في البوسنة وما حدث في كوسوفا وما يحدث في الشيشان وأفغانستان والعراق إنما هو نتيجة لهذا الحسد والحقد الصليبي .
وإن ادّعوا العدل والحرية والمساواة فهي مجرّد دعاوى جوفاء ما تلبث أن تسقط أقنعتها أمام الحقائق التي كضوء الشمس في رابعة النهار ، ولا يُنكرها إلا خفافيش الظلام ، وكل نعاميّ الرأس ! من يُنكر الحقائق الباهرة ويتعامى عن الأدلة القاطعة ليقول : هذا تصرف فردي ! أو هذا ردّة فعل !
وما أمثال هؤلاء إلا كأمثال النّعام الذي يُخفي رأسه عن عدوّه ظاناً أنه إذا كان لا يرى عدوّه فإن عدوه لا يراه !(2/373)
فإلى متى نتعامى عن الحقائق القرآنية والسنن الربانية .
وأما تلك الدعاوى الفجّة فهي أوضح من أن تُفنّد
فقد باتت واضحة لكل ذي بصر وبصيرة .
وحسبك أن تعلم أنه خلال هذا اليوم الأربعاء 23/1/1424 هـ أن وكالات الأنباء ذكرت أن ما لا يقل عن 15 شخصاً لقوا حتفهم بالإضافة إلى 30 جريحاً إثر سقوط صاروخين في منطقة سوق شعبية مزدحمة في بغداد.
كما تناقلت الأخبار : إلقاء قنابل عنقودية على حي سكنى في البصرة .
أهذا ما جاءت من أجله أمريكا ؟؟؟
جاءت لقتل الأبرياء !
جاءت لهدم المنازل على أهلها !
جاءت لتخليص الشعب أم للتخلّص من الشعب ؟!!
ويُصرّح رامسفيلد قائلاً : أسرنا 3500 عراقي ومزيد من قواتنا في الطريق .
أهذا العدل المنشود والحرية المطلوبة ؟؟؟
257-أحمي سمعي وبصري..
هذا منطق امرأة عاقلة ، تعلم علم يقين أنها مسؤولة عما تقول ، محاسبة عليه ، مَجزيّة به .
قالت عائشة رضي الله عنها : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش عن آمري : ما علمت ؟ أو ما رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا . قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع . رواه البخاري ومسلم .
ومعنى تُساميني : تعاليني من السمو ، وهو العلو والارتفاع ، أي تطلب من العلو والرفعة والحظوة عند النبي صلى الله عليه وسلم ما أطلب ، أو تعتقد أن الذي لها عنده مثل الذي لي عنده . قاله ابن حجر .
هذه جارة أو ضرّة ، وعادة الضرائر الكيد ، إذ أن عائشة رضي الله عنها وزينب بنت جحش رضي الله عنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وما استغلت قضية التنافس لإسقاط جارتها ، والإضرار بضرّتها.ومع ذلك قالت هذه المقولة العظيمة بكل تجرّد وإنصاف : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا .
من التي تستطيع مثل تلك المقولة ؟
ومن التي تحمي سمعها وبصرها ؟(2/374)
وتلك الجارية عاقلة سُئلت عن مثل ذلك ، فَحَمَتْ سمعها وبصرها
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك ؟ فقالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق ، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين ، فتأتي الداجن فتأكله ! رواه البخاري ومسلم .
وتلك أم أيوب رضي الله عنها ألمحت لأبي أيوب رضي الله عنه حول ما يدور ، فقالت لأبي أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى ، وذلك الكذب . أفكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك ؟ قالت : لا والله ! قال : فعائشة والله خير منك . فلما نزل القرآن وذكر أهل الإفك قال الله عز وجل ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ) ذكره ابن كثير .
إن حماية السمع والبصر مطلب ضروري ، خاصة أمام أعراض عباد الله .
ولذا قال عز وجل : ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )
وقال عليه الصلاة والسلام : ومن قال في مؤمن ما ليس فيه ، أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فأعراض عباد الله مرتعها وخيم .
فالمسلمة في فسحة من أمرها وفي سعة ما لم تقول أو تتكلم ، فإذا تكلمت أو قالت أُخذت وحُوسبت على مقالتها .
قال عليه الصلاة والسلام : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم . رواه البخاري ومسلم .
فإذا تكلّم أو عمِل جرى عليه القلم ، ومن ثمّ يُحاسب على ما قال .
إن بعض النساء ربما جلست في المجلس الواحد فتناولت عشرات الأعراض ، وربما اتهمت بريئة في عرضها ، أو حَكَمَتْ على مظلومة بأنها ظالمة ، وهكذا في سلسلة يطول سردها .
فمن أين لها الخلاص والنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .(2/375)
إنها لو تركت أعراض عباد الله لما سُئلت : لِمَ تركت فلانة ولم تتكلّمي فيها ؟
لكنها إذا تكلّمت سُئِلت .
فإن كان ما قالته باطلاً فكيف تخرج منه ؟
إن تلك الكلمات ربما كانت سببا في إشاعة الفساد في المجتمع المسلم .
ولذا لما حذّر الله المؤمنين من الوقوع في أعراض المؤمنين والمؤمنات قال :
( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك مباشرة :
( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ )
ليُعلم أن القول والكلام ربما كان سببا في إشاعة الفاحشة وانتشار الفساد في المجتمع المسلم .
وربما كان التطاول على الأعراض سببا في هلاك القائل ومن قيل فيه .
وربما كانت سببا في فساد دنيا المتكلِّم إذا بلغ ذلك الكلام من قيل فيه ، وكان مظلوماً فدعا على ظالمه ، ومن أشاع ضدّه ذلك القول .
كما هنا :
http://www.almeshkat.net/vb/showthre...threadid=12350
وليس هذا في عالم النساء فحسب بل حتى في عالم الرجال .
فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه يذبّ عن عرض أخيه المسلم .(2/376)
قال كعب بن مالك رضي الله عنه : ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه ، ونظره في عطفيه . فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا . فسكت رسول الله . رواه البخاري ومسلم .
فهل نحمي أسماعنا وأبصارنا أن نقول في مؤمن أو مؤمنة ما ليس فيهما ؟
إننا بحاجة لمنطق زينب بنت جحش رضي الله عنها : أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا .
ولمنطق معاذ رضي الله عنه : ما علمنا عليه إلا خيرا .
فهل نُحسن الظن بإخواننا وأخواتنا ؟؟؟
258-أصابتني جنابة..!!
أنحى عليّ صاحبي باللائمة معاتباً ... فقال : وأنت ... وأنت ... وأنت ...
فقلت : على رسلك اُخيّ .
قال : ولِمَ ؟ وأنت من أنت !
فقلت : أذكر ( أصابتني جنابة ، ولا ماء )
قال : هل تعني أنك كنت جنباً ؟
قلت : لا . لا لهذا أشرتُ ، ولا إليه أومأتُ .
فردّ عليّ : ما فهمت إذاً .
قلت : إن من خُلُق نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أنه كان يُبادر بالسؤال قبل التعنيف .
قال : البيّنة على ما تقول .
قلت : البينات أشهر من أن تذكر . وخذ على سبيل المثال .
ما ذكرته آنفا ( أصابتني جنابة ولا ماء ) .
قال : هل من توضيح ؟
قلت : على الرحب والسّعة . ولكن القصة طويلة ، وأقتصر فيها على الشاهد .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فلما صلى رأى رجلاً معتزلاً لم يُصَلِّ في القوم ، فقال : يا فلان ! ما منعك أن تصلي في القوم ؟ فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك . رواه البخاري ومسلم .
فلم يُبادر ذلك الرجل بالإنكار قبل الاستفسار .
وهاك مثالاً آخر :(2/377)
صلى النبي صلى الله عليه وسلم في حجته صلاة الصبح في مسجد الخيف في منى ، فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه ، فقال : عليّ بهما . فجئ بهما ترعد فرائصهما ، فقال :ما منعكما أن تصليا ؟ فقالا : يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا . قال : فلا تفعلا . إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم ، وهو حديث صحيح .
وتريد مثالاً ثالثاً ؟
قال : نستفيد .
لما بعث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه رسالة إلى أهل مكة يُخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، ما حملك على ما صنعت ؟ قال حاطب : والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم . أردت أن يكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق ، ولا تقولوا له إلا خيرا . متفق عليه .
وخذ مثالاً رابعا :
لم يقتصر السؤال والاستفسار على أصحابه ، بل تعداهم إلى الأعداء الأباعد .
ومن ذلك : أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة ، فأرسل إليها ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قالت : أحببت أو أردت إن كنت نبيا ، فإن الله سيطلعك عليه ، وإن لم تكن نبيا أريح الناس منك . رواه البخاري ومسلم .
ثم كان هذا هدي أصحابه من بعده ، أي أنهم يستفسرون قبل أ، يُعاتبوا أحداً .(2/378)
حدّث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال : مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد فسلّمت عليه ، فملأ عينيه منى ثم لم يرد على السلام ، فأتيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ! هل حدث في الإسلام شيء ؟ مرتين . قال : لا . وما ذاك ؟ قال : قلت : لا . إلا أنى مررت بعثمان رضي الله عنه آنفا في المسجد فسلمت عليه ، فملأ عيينة منى ، ثم لم يرد علي السلام . فأرسل عمر رضي الله عنه إلى عثمان رضي الله عنه ، فدعاه ، فقال : ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام ؟ قال عثمان رضي الله عنه : ما فعلت . قال سعد : بلى . قال : حتى حلف ، وحلفت . قال : ثم إن عثمان رضي الله عنه ذكر ، فقال : بلى ، وأستغفر الله وأتوب إليه . إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشّى بصري وقلبي غشاوة . قال سعد : فأنا أنبئك بها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة ، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من هذا ؟ أبو أسحق ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : فَمَهْ ؟ قال قلت : لا والله ، إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك . قال : نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له . رواه بطوله الإمام أحمد - رحمه الله – وهو حديث حسن .
وهذا مثال آخر من حياة أصحابه عليهم الرضوان ، من أنهم كانوا يستفسرون قبل المعاتبة .(2/379)
استأذن أبو موسى رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه ثلاثا ، فكأنه وجده مشغولا ، فرجع ، فقال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ ائذنوا له . فدُعي له ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : إنا كنا نؤمر بهذا . قال : لتقيمن على هذا بينة أو لأفعلن . فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار . فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا . فقام أبو سعيد فقال : كنا نؤمر بهذا . فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ألهاني عنه الصفق بالأسواق . متفق عليه .
ومثال ثالث رواه الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انصرف من صلاة العصر ، فلقي رجلا لم يشهد العصر ، فقال عمر : ما حبسك عن صلاة العصر ؟ فذكر له عذراً ، فقال عمر : طَففتَ .
ولست أريد استقصاء الأدلة والأمثلة ، ولكن في الإشارة عبارة
وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق .
وفي هذا كفاية وعظة وعبرة
قبل أن تلقي باللائمة على أخيك أو تعنِّفه استفسر واسأل ، فربما كان له عذر وأنت لا تدري .
قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه : ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرّاً ، وأنت تجد له في الخير محملا .
قال جعفر بن محمد : إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره ، فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً ، فإن أصبته وإلاّ قُل : لعل له عذراً لا أعرفه
وقال محمد بن سيرين : إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً ، فإن لم تجد له عذراً فقل له عذر .
259-أثر هدية حاج..
حدثني الشيخ صالح السنغالي – خريج الجامعة الإسلامية ومقيم في فرنسا – قال :
كان لي صاحب من أبناء بلدي مقيم في فرنسا ، ولا يعرف من العربية حرفاً ، فكتب الله له الحج فَحَجّ إلى بيت الله الحرام ، وعند مغادرته المملكة أُهديَ إليه مصحف المدينة النبوية ، ففرح به فرحاً شديداً ، وحزن حزناً شديداً في الوقت نفسه لأنه لم يستطع أن يقرأ في هذا المصحف .(2/380)
وعندما عاد من الحج واستقر به المقام في فرنسا حيث محل إقامته جاء إلى صاحبه ( الشيخ صالح ) وألحّ عليه أن يُعلمه اللغة العربية ويُقرئه القرآن ، قال : فاتفقنا أن يأتي إليّ في كل يوم سبت حتى أُعلّمه اللغة والقرآن ، ثم طُرِدَ من عمله ، فكانت الفرصة أكبر لتعلّم اللغة والقرآن ، وأصرّ ألاّ يبحث عن عمل حتى يُتقن قراءة القرآن .
وتم له ما أراد ، فبعد ستة أشهر أخذ يقرأ القرآن قراءة جيدة مجوّدة .
فلله همّة ذلك الأعجمي ، ويا حسرة على بعض طلبة وطالبات الجامعات الذين يتخرجون أحياناً ولم يُفرِّقوا بين ( الم ) الحروف المقطّعة بين ( ألم . نشرح لك صدرك ) !
فما أعظم الهدية ، وما أعظمهها إذا كانت كتاب الله .
فهنيئاً لمن أهدى كتاب الله في منافذ المملكة ، وهنيئاً لمن أسهروا أنفسهم ، وأنفقوا أوقات راحتهم في أيام معدودة ، يعود بعدها الحجاج بأعظم زاد ، ألا وهو التقوى .
ـــــــــــــ
امرأة تعمل في مجال التعليم الجامعي أهدت لإحدى طالباتها هدية مغلّفة ، وقال : اهتمّي بها .
فلما فتحتها الطالبة وجدت مصحفاً أنيقاً جميلاً ، فكان سبب هداية الطالبة .
فهل جربتم إهداء المصحف ، سواء كان لأبناءنا أو لبناتنا أو للأعاجم ، سواء من الحجاج أو من العمالة الوادة التي – أحياناً – لا تعرف من الإسلام سوى اسمه ، ولا من القرآن سوى رسمه .
يتواجد بيننا آلاف العمال من أبناء المسلمين ممن يجهلون دينهم ويحتاجون إلى من يُرشدهم ويدلّهم على الحق حتى يرجعوا إلى بلادهم دعاة خير .
260-محاضرة ( أئمة الهدى – ابن القيم-)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )(2/381)
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيٌّ بعث الله نبيّاً ، كما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد انقطعت النبوة وذهبت وبقيَ حملةُ ميراث النبوة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر . رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وصححه الألباني .
وإن من نِعَمِ الله على هذه الأمة أن جعل فيها من يُجدد لها أمر دينها كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد
لها دينها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
والعلماء هم مصابيح الدُّجى ، وأئمة الهدى .
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في مقدمة كتاب الردّ على الجهمية – على ما ذكر ابن القيم – وذكر أن ابن وضّاح نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :(2/382)
الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يَدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، ومن ضال جاهل قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين .
قال ابن القيم – رحمه الله - : ولولا ضمان الله بحفظ دينه وتكفّله بأن يُقيمَ له من يجدد أعلامه ، ويُحيى منه ما أماته المبطلون ، ويُنعش ما أخمله الجاهلون ، لهُدِّمت أركانه وتداعى بنيانه ، ولكن الله ذو فضل على العالمين . اهـ .
ولئن كان الناس في أسفارهم يَهتدون بالنجوم في ظلمات البر والبحر ، فإن العلماء هم نجومُ الهداية . بهم يهتدي السالكون إلى الله والدار الآخرة ، فهم مناراتٌ يُهتدى بها ، وإذا غابت النجوم ضل الناس وتاهوا في دياجير ظلمات البر والبحر ، وإذا غاب العلماء عن الساحة ضل الناس وتخبّطوا في ظلمات الشُّبُهات والشهوات .
فَدَوْرُ العلماء كبير ، وشأنهم عظيم ، فهم يُبصِّرون الناس من العمى ، ويدلُّونهم على ما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة ، ولا أدلّ على ذلك من قصة الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً فسأل : هل لي من توبة ؟ فدُلَّ على رجل عابدٍ لكنه جاهل ، فحجّر واسعاً وقال : لا ليس لك من توبة ، فأتمّ به المائة ، ثم سأل : هل لي من توبة ؟ فَدُلَّ على عالم ، فقال : نعم ، ومن يحول بينك وبينها ، ثم زاد في إرشاده ، فقال له : انْطَلِقْ إِلَىَ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَىَ أَرْضِكَ فَإِنّهَا أَرْضُ سَوْءٍ .
أو قصة ذلك الدجّال الذي كان يدّعي علم الغيب ، وذلك أن رجلاً كان في مجلس أحد الخلفاء ، وكان بين أيديهم صُرّةً فيها دراهم فكان يخرج من المجلس ويقول : ليأخذ كلُّ(2/383)
واحد منكم حفنةً من الدراهم ثم يَخرج هو ، ويَعُدُّ كلُّ واحدٍ ما أخذ ، ثم يَدخل ويُخبرَهم بما مع كلّ واحد ، فيكون الأمر كما قال ، فتعجّبوا ، حتى دخل أحدُ العلماء ، فأمر ذلك الدجّال أن يخرج ، فخرج ، ثم ادخل العالمُ يده في الصرة وأخرج حفنةً من الدراهم من غير أن يَعُدّها ووضعها في جيبه ، وقال للدجال : أدخل ، فلما دخل أخذ يُخمّن ويتوقّع فلم يدرِ كم معه بالتحديد ، ثم أزال ذلك العالم اللبس ، وأوضح الحقيقة بأن ذلك الدجّال يستخدم الشياطين ، وكلُّ إنسان وُكِّلَ به قرين – كما أخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم - فإذا عدّ الدراهم عدّ معه القرين ، ثم أخبر قرين الساحر أو الكاهن أو العرّاف ، فيُخبر بما أُخبرَ به .
فالعالم ينظر بنور الله ، ويكشف الله على يديه الشُّبهات والمتشابهات .
وقد روى الإمام اللالكائي من طريق الوليد بن هشام عن أبيه قال : بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلا قد ظهر يقول بالقدر وقد أغوى خلقاً كثيرا ، فبعث إليه هشام فاحضره .
فقال : ما هذا الذي بلغني عنك ؟
قال : وما هو ؟
قال : تقول إن الله لم يقدر على خلق الشر ؟
قال : بذلك أقول ، فاحْضِر من شئت يحاجّني فيه .
فإن غلبته بالحجة والبيان علمت أني على الحق ، وإن هو غلبني بالحجة فأضرب عنقي .
قال : فبعث هشام إلى الأوزاعي ، فأحضَره لمناظرته .
فقال له الأوزاعي : إن شئت سألتك عن واحدة ، وإن شئت عن ثلاث ، وإن شئت عن أربع !
فقال : سَلْ عمّا بدا لك .
قال الأوزاعي : أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى ؟ قال ليس عندي في هذا شيء .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه واحدة .
ثم قلت له : أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر ؟
قال : هذه أشد من الأولى .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه اثنتان .
ثم قلت له : هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم ؟
قال : هذه أشد من الأولى والثانية .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه .(2/384)
فأمَر به هشام فضُربت عنقه .
ثم قال للأوزاعي : يا أبا عمر فسّر لنا هذه المسائل .
فقال : نعم يا أمير المؤمنين .
سألته : هل يعلم أن الله قضى على ما نهى ؟
نهى آدم عن آكل الشجرة ، ثم قضى عليه فأكلها .
وسألته : هل يعلم أن الله قضى حال دون ما أمر ؟
أمر إبليس بالسجود لآدم ، ثم حال بينه وبين السجود .
وسألته : هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم ؟
حرم الميتة والدم ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه .
قال هشام : والرابعة ما هي يا أبا عمرو ؟
قال : كنت أقول : مشيئتك مع الله أم دون الله ؟
فإن قال : مع الله فقد اتخذ الله شريكا ، أو قال : دون الله فقد انفرد بالربوبية ، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها .
قال هشام : حياة الخلق وقِوام الدين بالعلماء .
والعلماء هم صمام الأمن للأمة بإذن الله ، فإذا ذهب العلماء تخبّط الناس في دياجير الظلمات ، واستفتوا من ليس أهلاً للفتوى ، وتصدّر الأوغاد ، ونطق الرويبضة يُحدّث الناس كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : تأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين وينطق فيهم الرويبضة . قيل : يا رسول الله وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة . رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال ابن حجر : إسناده جيّد ، وحسّنه الألباني .
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يَترك عالما اتخذ الناس رؤساً جهالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا .
والعلماء هم أهل البصيرة والنّظر الثاقب ، ولذا كان يُقال : إن الفتن إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء ، وإذا أدبرت عرفها كلّ أحد .(2/385)
ولذا جاء في وصف الفتن العظيمة : تدعُ الحليم حيراناً .
بمعنى أنه إذا كان العالم الحازم الحليم يَحارُ في الفتن فغيره من باب أولى .
ولا تُنال الإمامة في الدِّين إلا بالصبر واليقين ، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميّة .
فمن لم يصبر على تعلّمِ العلم لم يفقه في دين الله : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ )
ولما قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كلّه ؟ قال : بنفي الاعتماد ، والسيرِ في البلاد وصبرٍ كصبرِ الجماد ، وبكور كبكور الغراب . ذَكَرَه الخطيب في «الرحلة في طلب الحديث»
والشعبي قال عنه ابن سيرين : لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون .
وإذا تقدّم غير العالم ، وتصدّر الحَدَث كان في ذلك هلاكه وهلاك مَن تبِعه .
ولذا جاء في وصف الخوارج أنهم حدثاء الأسنان ، كما عند البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام : يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة .
قال ابن حجر : قوله : حدثاء الأسنان أي صغارها وسفهاء الأحلام أي ضعفاء العقول .
ولما تطاول الناس في البناء في زمن عمر قال عمر رضي الله عنه : يا معشر العرب الأرض الأرض . إنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ، فمن سوّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم ومن سوّده قومه من غير فقه كان هلاكا له ولهم . رواه الدارمي(2/386)
وهذا ما يُشاهد في السنوات الأخيرة فقد لوحظ قبض العلماء ، وأبْرَزَتْ الفضائيات وبعض وسائل الإعلام الأخرى من ليسوا أهلاً للتّصدّر ، ولا يُظنّ أن الفضائيات التي تُتاجِر بالغرائز وإثارة الفتن والشهوات ، وتقذف بالشُّبهات قذفاً مُروّعاً ، لا يُظنّ بها أنها ستُبرِزُ العلماء الصادقين الذين يجب أن تَصْدُرَ الأمة عن رأيهم ، إنما يُبرزون – في الغالب – من يُوافقهم على باطلهم أو على الأقل مَنْ يَسكُت عن عوراتهم ، ويغضّ عنها طرفاً .
فالعلماء الصادقون يُحارَبون من قبل أهل الباطل في كل زمان ومكان ، حيث يُفتون بما لا يُعجب أهل الرّيْب والفساد ، ومن ثم يُرمون عن قوس واحدة بما هم منه براء ، ثم تذهب الليالي والأيام ويبقى للعلماء ذِكرهم وثناء الناس عليهم .
ولا عجب أن تُحارب الدعوات الصادقة وتُلفّق الاتهامات لأصحابها ، كما تعرّضت دعوة الأئمة المجددين ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب ومن سار بسيرهم ، ودعا بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ الشرك ، وإلى تقديم الكتاب والسنة على آراء الرجال .
وكان ابن القيم – رحمه الله – أحد أولئك العلماء الصادقين ، الذين تعرّضوا قديماً وحديثاً إلى النيل من أعراضهم ، بل وإلى إلصاق التُّهم العريضة الذين هم بريئون منها .
وقبل الدخول في سيرته ، وقبل أن أقف مع فوائد هذه السلسة ، وما فيها من تدارُسِ سيَرِ أئمة الهدى ، أودُّ التعريف بابن القيم ، والتفريق بينه وبين ابن الجوزي وسبب الخلط بينهما .
فأولاً : التعريف به – رحمه الله – :
هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي . الشهير بـ ( ابن قيّم الجوزية ) أو ابن القيم اختصاراً .
وُلِد – رحمه الله – سنة إحدى وتسعين وستمائة للهجرة .
وسببُ تسميته بابن قيم الجوزية ، أن والده – رحمه الله – كان قَيِّماً على المدرسة الجوزية بدمشق ، والقيّم هو الناظر أو الوصي ، وهو ما يُشبه المدير في زمننا هذا .(2/387)
وكان والدُ ابن القيّم من علماء دمشق .
وأما بالنسبة للخلط بينه وبين ابن الجوزي – رحمه الله – فإن سبب ذلك يعود إلى الاشتراك في التّسمية ، حيث إن المدرسة التي كان أبوه قيّماً لها تُنسب لابن الجوزي ، إذ هو واقِفُها ، وهو – أي ابن الجوزي – واعظُ بغداد ، وصاحب المصنّفات الكثيرة ، وهو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن الجوزي القرشي البغدادي ، ت ( 597 هـ ) وهو مُتقدّم على ابن القيم . رحم الله الجميع .
وغَلِطَ في الخلط بينهما بعض الكتاب حتى نسبوا بعض كُتب ابن الجوزي إلى ابن القيّم .
وقد نشأ ابن القيم – رحمه الله – في بيت علم وفضل .
فأبوه وأخوه وابنُ أخيه وابناه عبد الله وإبراهيم كانوا من العلماء البارزين في عصرهم .
أخلاقه :
وكان – رحمه الله – صاحبَ هِمّةٍ عالية وخُلُقٍ فاضل .
قال عنه تلميذُه ابن كثير : وكان حسنُ القراءة والخُلُق ، كثير التّودد ، لا يحسِد ُأحداً ولا يؤذيه ، ولا يستعيبه ، ولا يحقد على أحدٍ ، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله ، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة .
وقال عنه تلميذُه الآخر ابن رجب : وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجُّد وطول صلاةٍ إلى الغاية القصوى ، وتألُّهٍ ولهْجٍ بالذِّكر ، وشغفٍ بالمحبة والإنابة والاستغفار ، والافتقار إلى الله والانكسار له ... ولا رأيتُ أوسع منه علماً ، ولا أعرف بمعاني القرآن والسُّنّة وحقائق
الإيمان أعلم منه ، وليس هو المعصوم ولكن لم أرَ في معناه مثله .
طلبُه للعلم :
طلب العلم صغيراً ، فقد بدأ في طلب العلم وعمره سبع سنوات ، كما ذكر ذلك في كتابه النافع الماتع ( زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم ) فقد ذَكَر أنه سمِع من شيخه الشهاب العابر ، وشيخُه هذا توفي سنة ( 697 هـ ) وابن القيم وُلِدَ سنة ( 691 ) كما تقدّم .(2/388)
وكان ابن القيم في أولِ حياته قد تأثّر ببعض أقوال أهل البدع إلى أن قيّض الله له شيخَ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – على ما ذَكَرَ هو في النونية حيث قال :
يا قومُ واللهِ العظيم نصيحةٌ *** من مشفق وأخٍ لكم مِعوانِ
جرّبت هذا كلَّه ووقعت في*** تلك الشباك وكنت ذا طيرانِ
حتى أتاح لي الإله بفضله *** من ليس تجزيه يدي ولساني
حبرٌ أتى من أرض حرّان فيا *** أهلا بمن قد جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهلُه *** من جنة المأوى مع الرضوان
أخَذّتْ يداه يدي وسار فلم يَرُم *** حتى أراني مَطْلَعَ الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها *** نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثارا عظيما شأنُها *** محجوبةً عن زمرة العميان
ووردت رأس الماء أبيض صافيا *** حصباؤه كلالئ التيجان
ورأيت أكوابا هناك كثيرةً *** مثل النجوم لواردٍ ظمآن
ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي *** لا زال يشخب فيه ميزابان
ميزابُ سنته وقولُ إلهه *** وهما مدى الأيام لا يَنيان
والناس لا يردونه إلا من الـ *** آلاف أفرادا ذوو إيمان
وردوا عِذاب مناهل أكرِم بها *** ووردتم أنتم عذاب هوان
ثم لازم ابنُ القيمِ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية وأخذ عنه الكثير ، وكان أكثر ذلك بعد عودة شيخِ الإسلام من مصر سنة ( 712 هـ ) إلى أن مات شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
قال تلميذه ابن رجب : تفقّه في المذهب ، وبرع وأفتى ، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وتفنن في علوم الإسلام ، وكان عارفاً في التفسير لا يُجارى فيه ، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى ، والحديث ومعانيه وفقهه ، ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك .
ومما يدلّ على سعة علمه واطلاعه كثرة مصنّفانه حتى أنه كان يؤلف ويكتب المجلدات في أسفاره .
ومن ذلك أنه ألّف بعض الكتب في أسفاره ، فمن ذلك :
1 – مفتاح دار السعادة .
2 – زاد المعاد .
3 – روضة المحبين .
4 – بدائع الفوائد .
5 – تهذيب سنن أبي داود .(2/389)
ولا غرابة في ذلك فهو تلميذ الإمام الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
ولا غرابة أن يؤلف ويكتب ويُصنِّف في أسفاره ، فهو بحرٌ لا تُكدِّره الدلاء ، ولا أدل على ذلك من كتابه ( الداء والدواء ) وطُبِع باسم آخر ( الجواب الكافي ) فقد ألّفه إجابة على سؤال واحد وَرَدَ إليه .
ابتلاؤه وامتحانه :
الابتلاء سُنّةٌ ربانية ، وقد سُئل الإمام الشافعي – رحمه الله – :يُبتلى المرء أو يُمكّن له ؟
فقال : يُبتلى المرء ثم يُمكّن له ؟
وابن القيّم – رحمه الله – لم يتبوأ تلك المكانة العالية إلا بعد أن ابتُلي .
قال ابن رجب : وقد امتُحِن وأُذيَ مراتٍ وحُبِسَ مع تقيّ الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه ، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ .
كما امتُحن بسبب بعض فتاواه في بعض المسائل التي خالَف فيها علماء عصره ، والتي استبان له فيها الحق أو أنه رأى أن الحقّ فيما ذَهَبَ إليه مما أدّاه اجتهاده إليه .
ومن ذلك أنه أنكر شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
قال ابن رجب : وقد حُبِسَ مدةً لإنكاره شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
وأفتى في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه يقع طلقة واحدة .
وكان مع ذلك – أي مع مخالفته للمذهب أحياناً - شديد الاحترام للأئمة ، فهو يحكي أقوالهم ، ويستأنس بها لما يختاره .
قال – رحمه الله – : وكثيرا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ، ونقول هذا هو الصواب وهو أولى أن يؤخذ به ، وبالله التوفيق .اهـ .
طريقته في التأليف :
ألفّ ابن القيم – رحمه الله – فكان يعتمد في مؤلفاته على الدليل من الكتاب والسنة ، فلا يُخالف الدليل متابعة للمذهب أو ردّاً للسنة ، حاشاه ذلك ولم يكن هذا من شأن العلماء بل هو من شأن السَّفَلة والبطّالين ، الذين ثَقُلَ عليهم الكتاب والسنة والتنقيب في بطون الكتب .(2/390)
ثم إنه – رحمه الله – ( كما قال الشيخ الفاضل بكر أبو زيد ) : لا يتهم دليلاً من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة ، أو ناقص الدلالة أو قاصرها ، أو أن غيرَه أولى منه .
قال : ومتى عرض له شيءٌ من ذلك فليتّهم فهمَه ، وليعلم أن البليّة منه .
ثم إنه – رحمه الله – يُقدّم أقوال الصحابة رضي الله عنهم على من سواهم .
ومما يُميّز مؤلفاته – رحمه الله – سعة علمه وشمولية أفكاره .
ومما يُميّز مؤلفات ابن القيم – رحمه الله – حُسنَ الترتيب والسياق ، وهذه ميزةٌ بارزة في مؤلفاته ، لا تكاد تجدها لسواه ، فكلامه مرتّب ، فهو يُعالج القضية التي بين يديه أو التي يُناقشها وكأنها تخصصه وفنّه الذي لا يُتقن سواه ، فهو كما ذكر معالي الشيخ صالح آل الشيخ عن شيخه الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – فإنه قال : شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل فيهدمه بضربة واحدة ، وأما ابن القيم فينقضه حجراً حجراً .
ولا يعني هذا أن كلام ابن تيمية – رحمه الله – غير مرتّب ، فمن تأمل كتابه منهاج السنة النبوية أو الجواب الصحيح وغيرهما من كُتُبِه يجد في من ذك الشيء الكثير .
وابن القيم – رحمه الله – أفكاره مرتّبة سواء كان ذلك في الردود أو في تقرير المسائل أو في التقعيد والتأصيل .
ومن ذلك أنه – رحمه الله – لما أراد أن يُدلل على فضل العلم وشرفِه ساق فضله من أكثر من مائةٍ وخمسين وجهاً ، بدأ بالأهم فالأهم ، وذلك في المجلّد الأول من مفتاح دار السعادة ، وقد تقدّم أنه ألّف هذا الكتاب في بعض أسفاره .
ومما امتازت به مصنّفات ابن القيم – رحمه الله – الإنصاف ، فهو يُنصف خصومه وينظر إلى الأمور بعين إنصاف لا بعين هضم لحقوق الآخرين وإسقاط الرموز ، وغمر حسنات الآخرين المخالفين .
لما قال صاحب منازل السائرين: اللطيفة الثالثة أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم .(2/391)
قال – رحمه الله – متعقّباً له : هذا الكلام إن اُخذ على ظاهره فهو من أبطل الباطل الذي لولا إحسان الظن بصاحبه وقائله ومعرفة قدره من الإمامة والعلم والدين لنسب إلى لازم هذا الكلام ، ولكن من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ، ومن ذا الذي لم تَزِلّ به القَدَم
ولم يَكْب به الجواد .
وقال صاحب منازل السائرين في موضع آخر : الرجاء أضعف منازل المريدين ؛ لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه ، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة وفائدة واحدة نطق بها التنزيل والسنة وتلك الفائدة هي كونه يبرد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس .
فقال – رحمه الله – : شيخ الإسلام (1) حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامِله ثم نبين ما فيه … فأما قوله الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله ، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )
وقال في موضع ثالث : شيخ الإسلام – يعني الهروي - حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يقول : عمله خير من علمه ، وصدق -رحمه الله – فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشقُّ له فيها غبار ، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله ، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
وتلك الأخطاء لو وجدها صبيان الصحف لطاروا بها ولطيّروها ، ولَبَنَوْا عليها قصوراً ، ولَشيّدوا عليها منارات ، يظنّون أنهم بهذا الفعل أتوا بما لم تأت به الأوائل !
فهذا شيء من إنصافه ، وله وصيةٌ في ذلك .(2/392)
قال – رحمه الله – : فإذا أردت الاطلاع على كُنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرِّده من لباس العبارة ، وجرِّد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ، ناظرا بعين الإنصاف ، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تامّاً بكل قلبه ، ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشّزَر والملاحظة ، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ ، والناظر بعين المحبة عكسه ، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق . اهـ .
فما أحوجنا إلى هذا الأدب من هذا العالِم الرّباني ، وما أحوج الناس إلى الإنصاف ، وطلاّب العلم على وجه الخصوص .
وقد ألّف ابن القيم – رحمه الله – في شتى العلوم ، في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلله ورجاله والفقه وأصوله ، واللغة ، والسلوك والأخلاق ، وله كتاب في الفروسية ، وله كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل كتاب حافل نافع في بابه لم يُسبق إلى مثله ، أفاد وأجاد فيه ، وله كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الآنام صلى الله عليه وسلم ، وهو كتابٌ فريدٌ في بابه كذلك ، وألّف كُتباً في الفوائد التي كان ينتقيها ويجمعها بين الحين والآخر ، مثل : كتاب بدائع الفوائد ، وكتاب الفوائد .
وكان – رحمه الله – مُغرماً بجمع الكتب ، ولذلك فهو في بعض كُتُبه ينقل أحياناً عن مائة مصدر أو أكثر .
وهو شاعر مُجيد ، وناظم فريد فله القصيدة النونية الموسومة بـ ( الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ) فهي اسم على مُسمّى ( كافيةٌ شافية ) .
وله القصيدة الميميّة .
وله قصائد أخرى أجاد فيها وأفاد .
فمن ذلك قوله :
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا *** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له *** تَوَقَّهُ إنه يرتدُّ بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض *** فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومُفْنِياً نفسه في إثر أقبحهم *** وصفا للطخ جمال فيه مستلب(2/393)
وواهبا عمره في مثل ذا سفها *** لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ما له خطر *** بطيف عيش من الآلام منتَهَب
غُبِنت والله غبنا فاحشا فلو اسـ *** ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
وواردا صفو عيش كله كدر *** أمامك الورد صفوا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا *** لكل داهية تدنو من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب *** وضاع وقتك بين اللهو واللعب
من أبرز تلاميذه – رحمه الله – :
ابن رجب الحنبلي صاحب المصنّفات المفيدة ، فَلَه ( فتح الباري شرح صحيح البخاري) ولكنه لم يُتمّه ، ولو أتمّه لكان أفضل شروح البخاري ، وله كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلِم .
ومن تلاميذ ابن القيم أيضا : ابن كثير صاحب التفسير والتاريخ المسمّى ( البداية والنهاية ) .
ومن تلاميذه كذلك الذهبي صاحب المصنّفات في علوم الحديث والتاريخ والتراجم .
وممن تتلمذ على يديه : السُّبكي ، وابن عبد الهادي ، والفيروز أبادي صاحب القاموس ، وأولاده هو ، وغيرهم .
وفاته – رحمه الله –
توفي – رحمه الله – ليلة الخميس الثالث عشر من شهر رجب من عام واحد وخمسين وسبعمائة للهجرة ، عن ستين سنة .
وصُلِّيَ عليه من الغد بعد صلاة الظهر بالجامع الأموي ثم بجامع جرّاح ، وقد ازدحم الناس على تشييع جنازته .
قال ابن كثير : وقد كانت جنازته حافلة – رحمه الله – شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة ، وتزاحم الناس على حمل نعشه .
الدروس والفوائد :
إنما تُذكر سيرُ هؤلاء الأئمة الأعلام لأخذ الفوائد والعبر والدروس ، ومن تلك الدروس :(2/394)
1 - ما نحن فيه في هذه السلسلة ، مِن ذِكرٍ لأولئك الأعلام ، وثناء عطرٍ على أولئك الأئمة وكأنهم يعيشون بيننا ، وكأننا نعرفهم معرفة الصديق لصديقه ، وما ذلك إلا لأنهم صدقوا مع الله فصدق الله معهم – فيما نحسب – والناس شهود الله في أرضه كما قال صلى الله عليه وسلم ، فيكون ذلك دافعاً ومرَغِّباً في طلب العلم والاستزادة منه ، فالذِّكر للإنسان عمر ثاني .
قال ابن القيم – رحمه الله – : ومن تأمل أحوال أئمة الإسلام كأئمة الحديث والفقه كيف هم تحت التراب وهم في العالمين كأنهم أحياء بينهم لم يَفْقِدوا منهم إلا صورَهم ، وإلا فذكرُهم وحديثُهم والثناءُ عليهم غير منقطع ، وهذه هي الحياة حقا ، حتى عُدّ ذلك حياة ثانية ، كما قال المتنبي :
ذكر الفتى عيشه الثاني وحاجته *** ما فاته وفضول العيش أشغال . اهـ .
ولو لم يكن في العلم إلا ما قاله الإمام أحمد : موعدنا يومَ الجنائز ، لكان كافياً في الترغيب فيه ، فهذه جنائز العلماء تشهد بذلك ، والعلم خير من المال كما قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . فالعلم خادم والمال مخدوم ، والعلم حارس والمال محروس .
فكيف وصاحب العلم مذكور في حياته وبعد مماته ، وسعيه مشكور في الدنيا والآخرة .
والأمر كما قيل :
يا رُبَّ حيٍّ رخام القبر مسكِنَه *** وربَّ ميتٍ على أقدامه انتصبا
وقيل :
الناس صنفان : موتى في حياتهمُ *** وآخرون ببطن الأرض أحياء
وقيل أيضا :
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات
ويعني هذا أن من الناس من يعيش في هذه الدنيا وهو – كما يُقال – : تكملة عدد ، ولله في وجودهم حكمة !
كما قيل :
إذا ما مات ذو علم وتقوى *** فقد ثُلِمت من الإسلام ثُلمة
وموتُ الحاكم العدلِ المولّى *** بحكم الشرع منقصةٌ ونقمة
وموت العابدِ القوّام ليلاً *** يُناجي ربّه في كل ظلمة
وموتُ فتىً كثير الجود محلٌ *** فإن بقاءه خصبٌ ونعمة(2/395)
وموتُ الفارس الضرغام هدمٌ *** فكم شهِدتْ له بالنصر عزمة
فحسبُك خمسةٌ يُبكى عليهم *** وباقي الناس تخفيف ورحمة
وباقي الناس همجٌ رعاعٌ *** وفي إيجادِهم لله حكمة
والمقصود بهذا كما قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه : الناسُ ثلاثة : فعالمٌ ربانيّ ، ومتعلّمٌ على سبيل نجاة ، وهمجٌ رَعَاع أتباعَ كلِّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .
وقد ثبت في جامع الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا إن لدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكرُ الله وما والاه وعالِمٌ أو متعلم .
والجهل أضرُّ على صاحبه من المرض أو الموت .
وفي الجهل قبل الموتِ موتٌ لأهله *** وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم *** وليس لهم حتى النشور نشور
فهذه أصناف الناس فاختر لنفسك من أيِّ الأصناف تريد أن تكون ؟
أتريد أن تكون ممن يُذكر في كل مجلس علم ؟ ويتردد اسمه فوق المنابر ؟ وممن وَرّث علماً يُنتفع به فيجري عليه عمله إلى يوم القيامة ، كما في الحديث .
أو ممن يموت فلا يُدرى عنه ؟ وربما لا يُذكر بخير ولا يُترحّم عليه ؟!
وإن كان القطار فاتَكَ فلا أقل من أن تحرِص على من تحت يدك ، فكم ورّث من أبٍ عالماً أفاد الأمة بعلمه ، وكم ورّثت من أمٍّ مِن عالم كان سبباً في هداية الخلق ؟
فعلى يدِ مَنْ تربّى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ؟
وعلى يد مَنْ تربّى خاتمة الحفاظ ابن حجر ؟
وغيرهم من علماء الإسلام .
واعلم أن من علماء الإسلام من لم يطلب العلم إلا بعد المشيب ، فمنهم من طلب العلم بعد الأربعين ، وإن تعجب فاعجب ممن طلب العلم بعد السبعين ! كما في ترجمة صالح بن كيسان .
ولا تحقرن من المعروف شيئاً ، واعلم أن أفلام الكارتون لا تُخرّج علماء ولا رجال ، فاحرص على أولادك ومن استرعاك الله إياهم .(2/396)
ألسنا نذكر أولئك الأئمةَ الأخيار الأبرار فنترحّم عليهم ، ونذكرهم بكلِّ خير ؟
بل ربما ذكرنا أولئك الأئمة أكثر من ذكرنا آبائنا وأقاربنا .
في كل يوم وفي كثير من بقاع الأرض وفي كثير من مساجد المسلمين يقرأ الإمام على جماعته من كتابٍ لعالم من العلماء فيُصدّر عبارته وقراءته بقوله : قال المؤلّف – رحمه الله – .
2 - أن العلم هو الملك الحقيقي ، ولذا لما ابتنى معاوية بالأبطَح مجلسا جلس عليه ومعه ابنه قُرَظَة فإذا هو بجماعة على رحال لهم ، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى :
من يساجلني يساجل ما جداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكُرب
قال : من هذا ؟
قالوا : عبدالله بن جعفر .
قال : خلُّوا له الطريق ، ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى :
بينما يذكرنني أبصرنني *** عند قِيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى ؟ قلن:نعم *** قد عرفناه وهل يخفى القمر
قال : من هذا ؟
قالوا : عمر بن أبي ربيعة .
قال : خلُّوا له الطريق فليذهب .
قال : ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسأل ، فيقال له : رميت قبل أن أحلق ؟ وحلقت قبل أن أرمي ؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج ، فقال : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بنُ عمر .
فالتَفَتَ إلى ابنه قُرَظَة وقال : هذا الشرف . هذا والله شرف الدنيا والآخرة .
وبينما كان الرشيد يوماً في مجلِسِ الخلافة سأل يحيى ابنَ أكثم:ما أنبلُ المراتب ؟ قال يحيى : قلت : ما أنت فيه يا أمير المؤمنين . قال : فتعرفُ أجلّ مني ؟ قلت : لا . قال : لكني أعرفه ؛ رجلٌ في حلْقه يقول حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قلت :يا أمير المؤمنين أهذا خير منك وأنت ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليُّ عهد المؤمنين ؟ قال : نعم ، ويلَك هذا خير مني ؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله لا يموت أبدا ، ونحن نموت ونفني والعلماء باقون ما بقي الدهر . رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث .(2/397)
ولما قَدِم هارون الرشيد الرَّقة انجفل الناس خَلْفَ عبدِ الله بنِ المبارك و تقطعت النعال وارتفعت الغَبَرَة ، فأشرفت أمُّ ولدِ أمير المؤمنين من برجٍ من قصر الخشب ، فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟
قالوا : عالمٌ من أهل خراسان قدم الرَّقة يُقال له : عبدُ الله بنُ المبارك ، فقالت : هذا والله الملك ! لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان .
رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
وقال أبو الحسن بن فارس : سمعت الأستاذ ابن العميد يقول : ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوةً ألذَّ من الرياسة والوزارة التي أنا فيها حتى شهدت مذاكرة سليمانَ ابنِ أيوب بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجِعَابي بحضرتي فكان الطبراني يَغلب بكثرة حفظه ، وكان الجعابي يَغلب الطبراني بفطنته وذكاء أهل بغداد ، حتى ارتفعت أصواتُهما ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبَه فقال الجعابي : عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي ، فقال : هاتِه ، فقال : حدثنا أبو خليفة حدثنا سليمان بن أيوب وحدّث بالحديث ، فقال الطبراني : أنا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو خليفة ، فاسمع مِنِّي حتى يعلو إسنادك !
فإنك تروي عن أبي خليفة عني ، فخجل الجعابي وغلبه الطبراني .
قال ابن العميد : فودِدتُّ في مكاني أن الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فَرِح الطبراني لأجل الحديث . رواه الخطيب في تاريخ بغداد .
قال ذلك ابن العميد ، ومن هو ابن العميد ؟
قال عنه الذهبي في السير : الوزير الكبير ، وقال أيضا : كان عجباً في الترسّل والإنشاء والبلاغة ، يُضرب به المثل ، وقيل : بُدئت الكتابة بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد .(2/398)
3 - كم من الأغنياء والأثرياء والوجهاء في زمن ابن القيم وقبله وبعده ذهبوا وذهبت وجاهاتهم وذهب معها ذكرهم ، وما ذلك إلا دليلٌ صريحٌ على أن العلم خيرٌ من المال كما تقدّم ، قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه : مات خُزّانُ الأموال وهم أحياء ، والعلماءُ باقون ما بقيَ الدّهر .
وصدق الله : ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) .
وما دام ذكرُ لعبدٍ بالفضل باقياً *** فذلك حيٌّ وهو في التربِ هالكُ
4 - أن مَنْ أجَلّه الناس لأجل علمه بقيَ له الإجلال وبقيَ له التقدير والاحترام ، بخلاف من أجلّه الناس لأجل دنياه أو جاهه ، فإنه إذا ذهب عنه ذلك تركه الناس وهجروه ، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري - : نعم المرضعة ، وبئست الفاطمة .
وكانت العرب تقول : مَنْ وَدّكَ لأمرٍ مَلّكَ عند انقضائه .
وكان يُقال : إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو سلطان فلا يُعجبك ذلك ، فإن زوال الكرامة بزوالهما ، ولكن ليُعجبُك إن أكرموك لعلمٍ أو دِين .
قال الإمام مالك : بلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه دُعيَ إلى وليمة فأتَى فحُجِبَ فَرَجَعَ فلبِس غير تلك الثياب فأُدخِل ، فلما وُضِعَ الطعام أدخل كمّه في الطعام ! فعوتب في ذلك، فقال : إن هذه الثياب هي التي أُدخلت فهي تأكل!!
وكانوا بنو عمي يقولون : مرحباً *** فلما رأوني مُعسِراً مات مرحبُ !(2/399)
5 - ملازمة الشيوخ والأخذ عنهم ومشافهتُهم ، فقد استفاد ابن القيم من شيخه ابن تيمية كثيراً ، ولازمه ملازمة الظلّ كما يُقال ، فتجده يقول كثيراً : قال شيخنا ، سألت شيخي ونحو ذلك ، وانتفاعه بوصاياه أكثر ، فمن ذلك ما حكاه في مفتاح دار السعادة قال : وقال لي شيخ الإسلام - رضى الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجَة ، فيتشرّبها ، فلا ينضح إلا بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمرّ الشبهات بظاهرها ، ولا تستقرُّ فيها ، فيراها بصفائه ويدفعُها بصلابته ، وإلا فإذا أَشْرَبْتَ قلبك كلَّ شبهة تمرُّ عليها صار مقَرّاً للشبهات . أو كما قال ، فما أعلم أنى انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك .
وقد لازم ابنُ القيم شيخَه ابنَ تيمية ستة عشر عاماً وهو يقرأ عليه فنون العلم .
ولهذا كان يُجلُّ شيخَه ويُثني عليه ، وهذا من الوفاء لمن تعلّم منه الإنسانُ علماً .
ولم يكن تقديره لشيخه وإجلاله له لم يكن ذلك ليمنعه من مخالفة شيخه في بعض المسائل التي رأى أن الحق فيها خلاف ما ذهب إليه شيخُه ، فالحق أحقُّ أن يُتّبع .
وهو مع ذلك يقول : والله يشكر لشيخ الإسلام سعيه ويعلي درجته ويجزيه أفضل جزائه ويجمع بيننا وبينه في محل كرامته فلو وجد مريده سعة وفسحة في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لما فعل كيف وقد نفعه الله بكلامه وجلس بين يديه مجلس التلميذ من أستاذه وهو أحد من كان على يديه فتحه يقظة ومناما ، وهذا غاية جهد المقل في هذا الموضع فمن كان عنده فضل علم فليجد به أو فليعذر ، ولا يبادر إلى الإنكار فكم بين الهدهد ونبي الله سليمان ، وهو يقول له : ( أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) وليس شيخ الإسلام أعلم من نبي الله ولا المعترِض .
هكذا يجب أن ينظر طالب العلم إلى نفسه وإلى شيوخه ، وإن خالفهم في مسألة أو رأى .(2/400)
أو استبان له الدليل وما شابه ذلك ، مما قد يخفى على الشيخ ويتّضح للتلميذ ، فإنه يجب أن يَعلم أنه حَفِظ شيئاً وغابت عنه أشياء .
فأوصي نفسي وأوصي إخواني بالحرص على تعلّم العلم النافع ، والتّلقي عن الشيوخ والاستفادة ممن بقيَ فربما احتاجت الأمة إليك كما احتاجت الأمة إلى ابن عبّاس فصار عالمها ومفتيها ، وكان يطلب العلمَ صغيراً ، فقال لرجلٍ من الأنصار : هلم يا فلان فلنطلب العلم ، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء .
قال : عجبا لك يا ابن عباس ! ترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ فيهم ؟
قال : فتركت ذلك وأقبلت أطلب العلم .
6 - أن فقد العلماء مصيبة يجب أن تكون عبرة وذكرى ، فيُسارَع إلى ملازمة الأحياء منهم قبل أن تتخطّفَهم يدُ المنون ، وكم ندِم المفرِّطون ولكن حينما لا ينفعُ النّدم .
7 - أن العلم كنز خفيف الحمل ، يزيد بكثرة الإنفاق منه كما قال أبو إسحاق الألبيري – رحمه الله – وهو يُوصي ابنه أبا بكر :
أبا بكر دعوتُك لو أجبتا *** إلى ما فيه حظّك لو عقلتا
إلى عِلْمٍ تكون به إماماً *** مُطاعاً إن نهيتَ وإن أمرتا
ويجلو ما بعينيك مِن غِشاها *** ويهديك الطريق إذا ضللتا
وتحملُ منه في ناديكَ تاجاً *** ويكسوك الجمال إذا عريتا
ينالُك نفعُه ما دمتَ حياً *** ويبقى ذكرُه لك إن ذهبتا
هو العضبُ المهنّد ليس ينبو *** تُصيبُ به مقاتِل من أردتا
وكنزٌ لا تخافُ عليه لصّاً *** خفيف احِحملِ يوجدُ حيثُ كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه *** وينقص إن به كفّاً شددتا
فلو قد ذقتَ من حلواه طعماً *** لآثرتَ التّعلّمَ واجتهدتا
ولم يشغلك عنه هوىً مطاعٌ *** ولا دنيا بزخرفها فُتنتا
إلى أن قال :
ستجني من ثمار العجز جهلاً *** وتصغُرُ في العيون إذا كَبُرتا
وتُفقدُ إن جَهِلْتَ وأنت باقٍ *** وتوجدُ إن علمتَ ولو فُقدتا(2/401)
8 - أن نحرص على قراءة سير أئمة الإسلام وتتبع طريقتهم والإفادة منهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ، بخلاف من خالفوا نهج سلف الأمة ، وتعلّقوا بمناهج أرضية أو مِنْ وَضع خلف الأمة ، يجعلون لهم قواعد وأصول تخالف أصول أهل الإسلام من صنع بُنيّات أفكارهم ، فكم بُليَت الأمة بأمثال هؤلاء ، الذين وقفوا كما وقف حمارُ الشيخ في العقبة – كما يُقال – فلا هُم بالذين تعلّموا العلم وأخذوا به ، ولا هم بالذين بقوا على عقائد عجائز نيسابور ، فتخبّطوا في دياجير الظلمات ، وقالوا عن أئمة الإسلام : هم رجال ونحن رجال !
وصدق من قال : هم رجال وأنتم ذكور !!
أحدُ أولئك المتعالمين – وهو شابٌ من أبناء هذه البلاد – نُشِرَ له مقالات ، فصار يُدعى في المجالس ويتصدّر فيها ، وظنّ نفسه أنه إمام الأئمة ! حتى صار يَنال من أئمة الإسلام ويطعن في إمام أهل السنة أحمد بن حنبل بل ويُثني على شيخ المعتزلة والمبتدعة أحمد بن أبي دؤاد ، ويُعرّض بشيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية وابن القيم ، ولم يعلم أنه يقف مع أهل البدع في صفٍّ واحد ، ويرمي الإسلام بقوس أعدائه شاء أم أبى .
وليس النَّيْل من أولئك إلا طعناً في الدِّين مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ ، والطّعن في حَمَلَةِ الإسلام طعنٌ في الإسلام .
وكان أبو حنيفة – رحمه الله – يقول : سيرُ الرجال أحبُّ إلينا من كثير من الفقه .
لأن دراسة سير الرجال خصوصاً العلماء والصالحين تُكسب القارئ أخلاقاً حميدة ، بل وتُعرِّفُه على أسلاف أمّتِه وقدرهم وقيمتهم ، وتحثُّه على أن يسلك سبيلَهم ، ويتشبّه بهم فإن التّشبُّه بالكرام فلاح .
ولأن دراسة سير أولئك العظماء تُعرّف القارئ بقدر أولئك ، وكم من السنوات أمضوا في طلب العلم ، وكم أمضوا من الجهود في صدّ كيدِ أعداء الإسلام ، وكم من الأوقات أمضوها في التأليف والتصنيف الذي نفع الله به الأمة .(2/402)
لقد سرد الإمام الذهبي أكثر من مائتين وخمسين صفحة في ترجمة الإمام أحمد – رحمه الله – ثم يأتي متطاول مثل هذا القزم ليرمي ذلك الإمام الجبل بما يرميه به .
وربما كانت أعمار أولئك الأغمار الذين ينالون من سلف الأمة لا تعادل سنوات الطلب في حياة أولئك الأئمة ، أو عمر تأليف كتاب واحد لأحد أئمة الإسلام .
بل لعل نَعل الإمام أحمد خيرٌ وأنفع للأمة من هؤلاء الصبيان !
وأين هي جهود أولئك الأغمار سوى مقال في صحيفة ، وافتيات على موائد الكبار .
أما علموا أن ابن القيم ثنى ركبتيه ستة عشر عاماً مستفيداً من شيخه حتى وفاته ، وهو مع ذلك يغترف من بحر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
9 - أن أولئك الأئمة ما كانوا يرون لأنفسهم حقّاً ، بل كانوا يُزرون بأنفسهم ويهضمونها ويرمونها بالتقصير بخلاف المتأخرين الذين يُلمّعون أنفسهم قبل أن يتعلّموا العلم ، وكم من أولئك الذين يُدعون ( مفكرون إسلاميون ) ليس لديهم سوى ثقافة المَجلاّت ، وبحوث النّشَرات ، وجهل بأبجديات العلوم الشرعية ، وذلك مبلغُهم من العِلْم ، فتجد أحدَهم يخبط خبط عشواء في مسائل يعرفها صغار الطلبة ، وهم يُشار إليهم بالبنان ، ولا يرضى أحدهم أن يدعى باسمه مجرّداً عن الألقاب بل ربما ألّف أحدُهم رسالةً أو كتاباً وخط على الغلاف بخط عريض تأليف الشيخ فلان،أو يكتب تحت اسمه أحد علماء البلد الفلاني!
فحال هؤلاء لا ينتهي من العجب ، بينما نجد ابن القيم – رحمه الله – يقول عن نفسه متضرّعاً مبتهلاً :
بُني أبي بكر كثيرٌ ذنوبه *** فليس على من نال من عرضه إثمُ
بُني أبي بكر جهول بنفسه *** جهول بأمر الله أنّى له العلمُ
بُني أبي بكر غدا متصدّراً *** يُعلّم علماً وهو ليس له علمُ
بُني أبي بكر غدا متمنياً *** وِصال المعالي والذنوب له همُّ
بُني أبي بكر يروم تَرقّياً *** إلى جنة المأوى وليس له عزمُ
بُني أبي بكر لقد خاب سعيُه *** لم يكن في الصالحات له سهم(2/403)
هكذا كانوا يُزرون بأنفسهم ، ويرون أنهم مقصّرون .
وكم يحتاج المتعالم من هؤلاء إلى وصية عمر رضي الله عنه حينما قال : تفقّهوا قبل أن تُسوّدوا .
ذَكَرَ ابن كثير كلمة الإمام أحمد – رحمه الله – : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز ، فقال : وقد صدق الله قول أحمد في هذا فإنه كان إمام السنة في زمانه وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان ، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يُصلِّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يُصلِّ عليه إلا طائفة يسيرة جدا فلله الأمر من قبل ومن بعد .
قال أبو جعفر الطحاوي كنت عند أحمد بن أبي عمران فمرَّ بنا رجل من بني الدنيا فنظرت إليه وشُغلت به عما كنت فيه من المذاكرة ، فقال لي : كأني بك قد فكرتَ فيما أُعطى هذا الرجل من الدنيا ؟! قلت له : نعم ، قال : هل أدلُّك على خلةٍ ؟!
هل لك أن يُحَوِّلَ اللهُ إليك ما عنده من المال و يُحَوِّلَ إليه ما عندك من العلم فتعيشَ أنت غنيا جاهلا ويعيشَ هو عالما فقيرا ؟
فقلت : ما اختارُ أن يُحَوِّلَ اللهُ ما عندي من العلم إلى ما عنده ، فالعلم غنى بلا مال ، وعزٌ بلا عشيرة ، وسلطانٌ بلا رجال .
وفي ذلك قيل :
العلم كنزٌ وذخرٌ لا نفاد له *** نِعم القرينُ إذا ما صاحبٌ صحِبا
قد يجمع المرءُ مالاً ثم يُحرمُه *** عما قليل فيلقى الذلَّ والحَرَبا
وجامعُ العلم مغبوطٌ به أبداً *** ولا يُحاذر منه الفوتَ والسَّلَبَا
يا جامعَ العلم نِعمَ الذُّخْرِ تجمعُه *** لا تعدلنَّ به درا ولا ذهبا
أسأل الله أن يحشرنا في زمرة من أحببنا من أئمة الإسلام وعلمائه العِظام .
261-محاضرة ( مِنْ واجبات المرأة المسلمة )(2/404)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن المرأة مُخاطَبَةٌ – غالباً – بما يُخاطَب به الرجل في الكتاب والسّنة ، وإن ورد الخطاب بلفظ التّذكير .
قال ابن القيم : قد استقر في عرف الشارع أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكَّرين إذا أطلقت ولم تقترن بالمؤنث فإنها تتناول الرجال والنساء ؛ لأنه يُغلّب المذكَّر عند الاجتماع ، كقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة:183] اهـ.
ولما كان الأمر كذلك فإنه يجب على المرأة – عموماً – ما يجب على الرجل ، إلا فيما اختصّ به الرجل .
فالمرأة مُخاطبةٌ بالإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه(2/405)
وهي مُخاطبةٌ بأركان الإسلام ( الشهادتين ، والصلاة والصيام والزكاة والحج ) إلا أنه خُفِّفَ عنها في الصلاة فتسقط عنها حال الحيض والنفاس ، وخُفِّفَ عنها في الصيام فتُفطر حال العذر وتقضي ، وخُفِّفَ عنها في الحج فلا تُطالَب بأداء الحج - ولو كانت مستطيعة - ما لم يكن هناك مَحرَم يَحفظها ويَرعى شؤونها .
وخُفِّفَ عنها في الجهاد ، فقد استأذنت عائشةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، فقال : جهادكن الحج . رواه البخاري .
والمرأة إذا آمنت بالله وأطاعت ربّها كان لها الجزاء الأخروي ، فقد ذُكِرَتْ مع الرجل في مواطن بيان الجزاء في الآخرة .
قال تبارك وتعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) [النساء:124]
وقال جل جلاله :
( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) [النحل:97] .
وقال عز وجل : ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [غافر:40].
ومِنْ هنا كان على المرأة المسلمة واجبات ، وعليها حقوق .
فمن واجبات المرأة :
أن تؤذّي الصلاة في وقتها ، إلا أنه خُفِّف عنها في حضور الجماعة ، فلا تجب عليها ، بل إن صلاتها في بيتها أفضل .
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر ، فإن مَن تَرَكَ صلاةً واحدة من غير عذر فقد برئت منه الذمة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت ، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا ، فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة ، ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شَرّ . رواه ابن ماجه ، وحسّنه الألباني .(2/406)
وأداء الصلاة على أول وقتها مِن أفضل الأعمال وأحبِّها إلى الله .
فقد سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحبُّ إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها . رواه البخاري ومسلم .
وبعض النساء تؤخِّر الصلاة حتى يخرج وقتها ، وإذا كان هذا بغير عذرٍ شرعي فإنها تُردّ على صاحبها ، لقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)[النساء:103].
وبعض النساء تؤخّر الاغتسال بعد الطُّهر يوم أو يومين وأحياناً ثلاثة ، فتجلس هذه الأيام لا تُصلي وهي قد طهُرت ، فما عذرها أمام الله ؟
والواجب عليها المبادرة إلى الاغتسال بعد الطهر ثم تصلي الصلاة التي عليها ، ولو كان الأمر في شيء يتعلّق بالمرأة كَحَقٍّ من حقوقها لما رَضِيَتْ بتأخيره أو نقصه أو بخسه فهي لا ترضى أن يُخصم عليها شيء من راتبها إذا كانت مُعلّمة ، ولا يُنقص شيء مِنْ درجاتها إن كانت طالبة ، ولا يُقصّر في شيء من حقوقها إن كانت زوجة ، بينما هي تٌقصِّر في حقّ ربِّها ، وفي فريضة من أعظم الفرائض ، بل هي أعظم الفرائض بعد الشهادتين .
ومما يجب على المرأة المبادرة بقضاء رمضان إن كانت أفطرت منه شيئاً ، ولا تؤخّره إلى رمضان القادم .
وتجب عليها الزكاة في مالِها إن كان لها مال وبلغ النصاب وحال عليه الحول .
ومتى ما وَجَدتْ المال والمَحرَم وأمن السبيل وجب عليها المبادرة إلى الحج .
ومما يجب على المرأة – وتغفل عنه كثير من النساء – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ويتأكّد هذا الأمر بين بنات جنسها .
فقد كانت نساء الصحابة يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر بين بنات جنسهن ، بل وحتى في حق الرجال .
رأت عائشة على امرأة بُرْداً فيه تصليب ، فقالت : اطرحيه اطرحيه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى نحو هذا قضبه . رواه الإمام أحمد . ومعنى قَضَبَه : أي قطعه .(2/407)
وما أكثر الملابس التي فيها صُلبان ، وواجب المسلمة أن تأمر بإزالته ، وتُبيّن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الأمر ، كما فَعَلَتْ عائشة رضي الله عنها .
فتُبيّن الحكمة إن عُلِمَتْ ، وتوضّح الدليل إذا وُجِدَ .
ومن ذلك أنه قيل لعائشة رضي الله عنها : إن امرأة تلبس النعل ، فقالت : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء . رواه أبو داود وهو حديث صحيح .
ودخلت مولاة لعائشة عليها فقالت لها : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها : لا آجرك الله . لا آجرك الله تدافعين الرجال ! ألا كبّرتِ ومررتِ . رواه البيهقي والشافعي .
وأنكرت قَشْرَ الوجه ، فقالت : يا معشر النساء إياكن وقشر الوجه . رواه أحمد .
ولما دَخَلَتْ نسوةٌ من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها قالت : لعلكن من
الكُورة - أي البلدة - التي تدخل نساؤها الحمام ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت سترها فيما بينها وبين الله عز وجل .
رواه الحاكم ، وهو حديث صحيح .
فدلّ هذا على حُرمة وضع الثياب في غير بيت الزوج ، كَمَنْ تضع ثيابها عند " الكوافيرة " وفي المَشاغِل ومن ثم تبدو العورات ، وتُهتك الأستار التي بين المرأة وبين الله عز وجل .
ومثله المسابح والأندية الرياضية والمراكز الاجتماعية ونحوها .
ويلحق به التّهتّك في قصور الأفراح ، فتأتي المرأة وما ظهر منها أقل مما سُتِر ، فيظهر الصدر والظهر وأحياناً أجزاء من البطن وأما ظهور الساقين وأحياناً الفخذين فحدّث ولا حرج ، فانتشر بين النساء ما يُسمّى بـ " العاري " ، وهذا فيه أكثر من محذور شرعي : أولاً : أن هذا هو اللباس الكاسي العاري .
ثانياً : أن هذا من وضع الثياب في غير البيت .
ولا شك في تحريم هذا النوع من اللباس ولو كان بين النساء .(2/408)
إن عورة الرجل مع الرجل ما بين السُّرة إلى الركبة ، ومع ذلك لو خرج رجل يُريد الصلاة وليس عليه إلا سروالاً يستر ما بين السرة والركبة ، لعُدّ هذا من السَّفَه وقلةِ العقل .
وهنا أودُّ التنبيه على أمر قد يقول به بعض الناس ، وشبهةٌ قد تُثار بين حين وآخر ، وهو قول بعضهم : إن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل .
فهذا قول على الله بغير علم ، فليس عليه أثارةٌ من علم ، ولا رائحةٌ من دليلٍ ولو كان ضعيفاً ، يعني ليس هناك حديث سواء صحيح أو ضعيف يقول : إن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل .
فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : المرأة عورة . فإنه لا يُستثنى من هذا الدليل الصحيح إلا بدليل صحيح ، ومن استثنى بغير دليل فقد تحكّم برأيه ، وخالف السُّنّة .
ثم إن الله لما ذَكَرَ الزينة وما يظهر منها للمحارم قَرَنَ المحارم مع النساء ، فدلّ على أن ما يجوز أن تُظهره المرأة للمرأة ما يظهر عادة أمام النساء والمحارم ، وهي مواضع الزينة
والوضوء ، وما عداها فهو داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : المرأة عورة . رواه الترمذي وغيره
ومما يدلّ على ذلك أيضا أن عورة الأَمَة على النصف من عورة الحُرّة ، ويُوضّحه قوله صلى الله عليه وسلم : إذا زوج أحدكم خادمه – عبده أو أجيره – فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة . رواه أبو داود وغيره ، وهو صحيح .
فهل إذا قيل إن عورة الحُرّة مع الحُرّة كعورة الرجل مع الرجل ، هل يعني هذا أن تُظهر الأَمَة جميع عورتها أمام النساء ؟ أو تستر السوءة المغلّظة فقط ؟
هذا لا يقول به عاقل .
والإماء هنّ اللواتي كُنّ يُظهرن شيئاً من أجسادهن ، فهل هانت بنات الرجال ، وكرائم الحرائر حتى يتشبّهن بالإماء ؟
إن عمرَ رضي الله عنه كان يَضرِب الإماء إذا تَشبّهنَ بالحرائر ، واليوم كم مِن الحرائر مَنْ تحتاج دِرّة عمر لتشبُّهها بالإماء ؟!(2/409)
قال البيهقي : والصحيح أنها لا تبدي لسيدها بعدما زوّجها ، ولا الحرة لذوي محارمها إلا ما يظهر منها في حال المهنة . اهـ
وهكذا كان لباس نساء الصحابة في البيوت ،كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
ومما يجب على المرأة غضّ بصرها وحفظ فرجها ، والبعد عن أسباب الوقوع في الفاحشة والرذيلة .
فالمرأة المسلمة مخاطَبةٌ بذلك ، من أجل ذلك قال الحق سبحانه : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) وقد ختم الله الآية بالخطاب للمؤمنين عامة ، فقال : ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
والتّبرج من أسباب الطرد من رحمة الله والبعد عن الجنة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية ، إذا اتقين الله ، وشر نسائكم المتبرِّجات المتخيِّلات ، وهن المنافقات ، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم . رواه البيهقي ، وهو صحيح .
والأعصم الذي في يديه بياض ، أو في إحدى يديه .
فدلّ هذا على أن غضّ البصر سبب لحفظ الفرج ، والبعد عن أسباب الافتتان بالرجال ، فإن المرأة خُلِقَتْ من الرجل ، وجُعِلَتْ نِهمتها فيه ، كما قال ابن عباس .
ولذا يجب على المرأة أن تحتجب عن الرجال الأجانب .
وهذا مما تساهل فيه كثير من النساء ، خاصة أمام أبناء العم والخال ونحوهم ، ولا يجوز للمرأة أن تكشف إلا لمحارمها ، وهم الزوج ومَنْ يحرم عليها الزواج بهم .(2/410)
وهم الذين ذَكَرَهم الله في قوله : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
فهؤلاء يجوز للمرأة أن تكشف لهم ، أما من عداهم فلا يجوز أن تكشف لهم .
ومما تساهلت فيه كثير من النساء لبس البرقع أو النقاب الواسع ، والذي يَفتِن أكثر مما يَستر ، والمقصود من الحجاب الستر والبعد عن الريبة ، فإن المرأة إذا احتجبت وتستّرت لم يكن فيها مطمع لأصحاب النفوس المريضة .
بخلاف ما إذا أظهرت عينيها فإنها تُنادي على نفسها ، ولو كانت حَسَنَة النيَّة .
فتبتعد المسلمة المصونة العفيفة عما يجلب لها الشر ، وما يُوقعها في مهاوي الردّى .
وقد شبّه النبي صلى الله عليه وسلم دخول قريب الزوج على زوجة قريبِه بالموت ، فقال : إياكم والدخولَ على النساء ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أفرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت . رواه البخاري ومسلم .
والحمو هو قريب الزوج ، لأنه يَدخل بيت قريبه من غير نكير .
هذا إذا كان قريب الزوج ، فكيف بغيره ؟
ويجب على المرأة طاعة والديها وطاعة زوجها في غير معصية الله .(2/411)
كما يجب على المرأة أن لا تَرضى بأن تُساوَم على دينها ، فتتعلّم وتعمل في حدود عمل المرأة ، لا أن تتعلّم لتعمل ثم تتمرّد على خالقها وتنبذ دينها وراء ظهرها .
وقد اجتمع سفير الدولة العثمانية في بلاد الإنجليز مع كبراء الدولة ، فقال أحد الكبراء للسفير : لماذا تُصرّون أن تبقى المرأة المسلمة في الشرق الإسلامي متخلِّفة معزولة عن الرجال محجوبة عن النور ؟! فردّ السفير العثماني – بذكاء وسرعة بديهة - : لأن نسائنا المسلمات في الشرق لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن ! فخجل الرجل وسكت وبُهِت الذي كفر .
قال جول سيمون : يجب أن تبقى المرأة امرأة ، فإنها بهذه الصفة تستطيع أن تجد سعادتها ، وأن تهبها لسواها .
ومعنى أن تبقى المرأة امرأة ، أن تبقى كما خلقها الله ، ولأجل المهمة التي وُجِدت من أجلها .
ويعني أن لا تتدرج المرأة في أعمال الرجل ، فإنها بذلك تفقد أنوثتها ورقّتها التي هي زينة لها .
وخلاصة القول في مسألة عمل المرأة – العمل الذي يُخرجها عن أنوثتها إلى مخالطة الرجال ، والقيام بأعمالهم – ما قاله الفيلسوف الألماني شوبنهور : اتركوا للمرأة حُريّتها المطلقة كاملة بدون رقيب ، ثم قابلوني بعد عام ! لِتَرَوا النّتيجة ، ولا تنسوا أنكم سَتَرْثُون معي للفضيلة والعِفّة والأدب ، وإذا ما متّ فقولوا : أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة
إن اللطيف الخبير ركّب المرأة في صورة لا تصلح إلا لها ، وركّب الرجل في صورة لا تصلح إلا له ، بل ذلك مُشاهدٌ في كلِّ ذكرٍ وأُنثى .
فإذا كان هناك من الرجال من يتكسّر في مِشيته ويخضع في قوله عُدّ هذا خلاف الفطرة التي فطر اللهُ الناس عليها ، وعُدّ من التخنّث الذي يأباه كرام الرجال .
وفي المقابل إذا كان هناك امرأة تتطبّع بطباع الرجال ، وقد اخشوشنت عُد هذا خلاف الفطرة ، وعُدّ من التّرجل الذي لُعِنَتْ فاعلته .
وقد أُجريَ استفتاء في إنجلترا عن المرأة العاملة فكان من نتائجه :(2/412)
أن الفتاة الهادئة هي الأكثر أنوثة ، لأنها تُوحي بالضعف ، والضعف هو الأنوثة !
أن الأنوثة لا يتمتّع بها إلا المرأة التي تقعد في بيتها .
وما ذلك إلا لأن المرأة الغربية تمرّدت على خالقها وصادَمَتْ فطرتها وسَبَحَتْ عكس التيار ، فَجَنَتْ يداها ما غَرَسَته لها المدنية والحضارة .
وكم هي صيحات النساء الغربيات بل وعقلاء الرجال عنهم يُنادون بحياة شرقية للمرأة الغربية ( يعني مثل حياة المرأة المسلمة ) ، والمرأة المسلمة تُنادي أو يُنادى لها أن تتطور وتتحضّر لتُصبِحَ مثل المرأة الغربية .
عجيب أن يُراد لنا أن نبدأ من حيث بدأ الآخرون ، ونسلك الطرق المظلمة التي سلكوا ، ونشرب من الماء الآسن الذي منه شربوا ، وصدق المصطفى المعصوم ، والصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال : لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لسلكتموه . قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ رواه البخاري ومسلم .
وتخصيص جحر الضب – والله أعلم – لأنه أشد الجحور التواء وانحداراً ، مع ما فيه من الهوامّ وذوات السّموم .
فلا مانع أن تتعلّم المرأة وتعمل في محيط النساء ، وليس من شرط التعليم أن تعمل المرأة ، بل إذا تعلّمت علّمتْ أولادها ، وربما علّمت أسرَتها ، فكم من الأمهات لا يُحسنّ الصلاة ، ولا قراءة الفاتحة وبناتهن في المدارس والجامعات !
فَلِمَ تتعلّم الفتاة ؟
هل تتعلّم لتُكثر من حجج الله عليها ، كما قالت عائشة رضي الله عنها .
يعني أن تُقيم الحجة على نفسها أمام الله ثم لا تعمل بما عَلِمَتْ ، بل تتعلّم وتُفني عمرها وتؤخّر زواجها لتحصل على الشهادة التي تؤهّلها إلى الوظيفة فحسب .
وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تزولا قدما عبدٍ حتى يُسأل عن علمه ماذا عَمِلَ به ؟(2/413)
وهذه الفترة – أعني فترة الشباب – هي المرحلة الذهبية من عمُرِ الإنسان ، ولذا فإنه يُسأل يوم القيامة عن عمره فيمَ أفناه ، وعن شبابه فيمَ أبلاه . كما أخبر بذلك مَنْ لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
وإن كانت مرحلة الشباب داخلة في العمر ، إلا أنها لما كانت مرحلة القوّة والاكتساب كان السؤال عنها خاصة .
فيجب على المسلمة أن تلتزم بشرع ربها وخالقها وباريها وفاطرها ، فهو سبحانه الذي خَلَقَ الخلق ، وهو سبحانه أعلم بما يُصلح أحوالهم .
قال عز وجل : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14].
والله سبحانه هو الذي شَرَعَ هذه الشريعة ، وأمر بالتمسك بها ، فلا صَلاح للأمّة إلا بالتّمسك بها ، والعمل بمقتضاها .
ومما يجب على المسلمة أن تبتعد عن مواطن الريبة ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبر أن أبغض الأماكن إلى الله الأسواق ، وأن المرأة إذا خَرَجَتْ استشرفها الشيطان ، وأن بيتها خيرٌ لها ، فيكون خروجها للسوق ونحوه بقدر حاجتها ، ويكون بوجود مَحرَم لها ، لا أن تكون خرّاجة ولاّجة تطوف الأسواق ، وتتعرّف على كل جديد كل يوم ، بل ربما كل صبح ومساء .
ثم إذا خرجت المرأة مِن بيتها فإنها لا تخرج متطيبة ولا متجمّلة ، إذ المقصود من الحجاب الستر والحشمة والبعد عن الريبة ، لا لَفْْتَ الأنظار إليها سواء بشكل العباءة أو عطوراتها الفوّاحة ، والأمر في غاية الخطورة ، وهو من الإثم بمكان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : أيما امرأة استعطرت مرّتْ على قومٍ ليجدوا رِيحها فهي زانية . رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح
ولذا لما لَقِيَتْ امرأةٌ أبا هريرة فوجد منها ريح الطيب ينفح ، ولذيلها إعصار – يعني غبار - قال : يا أمة الجبار جئت من المسجد ؟
قالت : نعم .
قال : وله تَطَيّبْتِ ؟
قالت : نعم .(2/414)
قال : إني سمعت حِبِّي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : لا تُقْبَلُ صلاةٌ لامرأةٍ تطيبت للمسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة ؛ فاذهبي فاغتسلي . رواه لإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
وقد أُمِرتْ المرأة أن تخرج إلى المسجد غير متعطّرة ولا متجملة .
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة . رواه مسلم .
وقالتْ زينب امرأةُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وعنها : قال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تَمَسَّ طيبا . رواه مسلم .
ويجب على المسلمة أن لا تخضع بالقول للبائع ولا لمن تُكلِّمَه سواء كان ذلك بالهاتف أو مباشرة .
وقد أدّب الله أمهات المؤمنين ، فقال : (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا)[الأحزاب:32]
وهُنّ القدوة والأسوة لنساء الأمّة . ولهذا قال بعض العلماء : إن المرأة إذا تكلّمت فإنها تجعل إصبعها في فمها إذا كلّمت الرجال الأجانب ؛ لأنه أبعد عن الخضوعِ في القول .
لأن المرأة إذا خضعت بالقول ظَنّ من في قلبه مرض أنها إنما خضعت لإعجابها به وهنا يتدخّل الشيطان ليوقع بينهما ، وهذا ما يُريده الشيطان ؛ أن يجعل بني آدم معه في النار ، وقد أقسَم على هذا .
واليوم لا يُقال : تضع المرأة أصبعها في فمه ، بل يُقال لها : لا تخضع بالقول ، ولا تتكسّر في كلامها ولا في مشيتها .(2/415)
ويجب على المسلمة إذا كانت أُمّاً أن تُربي أولادها على هدي الشريعة لتنتفع بهم أولاً ، وتنتفع بهم الأمة ثانياً ، فإن صلاح الأولاد مطلب ضروري ، إذ أن صلاحَ الأولاد فيه خيرٌ كثير ونفع عظيم ، فالولد الصالح يكون بارّاً بوالديه حال حياتهما وبعد وفاتهما ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له . رواه مسلم .
فتربية الأولاد الذكور والإناث إنما تكون على معالي الأمور والتّرفّع بهم عن سفاسفها ، فإن الله تعالى يُحبّ معالي الأمور ويكره سفاسفها ، كما صحّ بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
التربية الإيمانية على حبِّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لا على حُبِّ المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات ، واللاعبين ، ونسيان نجوم الأمة من أعلام الصحابة وأئمة الهدى ، واتّخاذ سَقَطَ الناس قدوة وأسوة لأبنائنا وبناتنا .
فعندما تموتُ امرأةٌ غربيةٌ كافرة ، أويموتُ مُغَنٍّ مسلم لم يُقدّم لأمّته سوى طربٍ وزمر تضِجّ الصحف بل عامة وسائل الإعلام ، ويموت في عام واحد عدد من علماء الإسلام فما يُذكر كثيرٌ منهم بل ربما لم يُعرف بعضهم .
مُدرِّسة في إحدى مدارس رياض الأطفال تسأل طفلين :
فسألت الأول : ما هي أمنيتك ؟ فيقول أن أكون صحابياً !
وتسأل الثاني نفس السؤال ، فيقول : أن أكون لاعباً !
ولا شك أن تلك الإجابات لم تأتِ مِن فراغ ، ولم عبثاً ، ولم تكن من صنع أفكار أولئك الأطفال .
إنها أمانة أُنيطت بالأم ، ومسؤولية حُمّلت إياها ، وسوف تُسأل عنها يوم القيامة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم . رواه البخاري ومسلم .
فلتُعِدّ للسؤال جواباً ، وأن يكون الجواب صواباً . والله المستعان .
262-محاضرة: ( الملعونات على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم )(2/416)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فقد روى الإمام مسلم عن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده ، فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه فكأنه أبطأ عليه فلعنه ، فلما أصبح قالت له أم الدرداء : سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته سمعت أبا الدرداء يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة .
والأنجاد : هو متاعُ البيت الذي يزيّنُه .
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ادع على المشركين . قال : إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة .
واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
ولما كان كذلك فقد حذّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من التعرض لأسباب اللعن ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : اتقوا اللعانَيْن . قالوا : وما اللعانان يا رسول الله ؟ قال : الذي يتخلَّى في طريق الناس أو في ظلهم . رواه مسلم .(2/417)
أي الذي يقضي حاجته في طريق الناس وفي ظلِّهم ، فيتعرّض لِلَعنة الناس ، فتصيبه .
واشتكى رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يلقاه مِنْ جارِه من الأذى ، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُخرِج متاعه إلى الطريق ، فانْطَلَقَ فأخرج متاعه ، فاجتمع الناس عليه ، فقالوا : ما شأنك ؟ قال : لي جار يؤذيني ، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق ، فجعلوا يقولون : اللهم العنه . اللهم اخزه ، فبلغه فأتاه فقال : ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك . رواه البخاري في الأدب المفرد .
والناس شهود الله في أرضه ، فلا يُعرّض الإنسان نفسه لِلعن الناس .
ويكثر اللعن في أوساط النساء ، ولذا لما خطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد أتى النساء فقال : يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار . فقلن : وبِمَ ذلك يا رسول الله ؟ قال : تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير . رواه البخاري .
فهذا تحذير للمسلمات مِنْ كثرة اللعن والسب والشتم ، فيجب على المسلمة تجنّب السب واللعن ؛ فإن كثرتَه سبب لدخول النار .
وقد لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عدداً من النساء ، لا على سبيل التعيين بل بِذِكْرِ الصفات التي مِنْ كانت فيها استحقّت اللعن .
وأمر بلعن نساء اتّصفن ببعض الصفات المنهي عنها .
قال صلى الله عليه وسلم : سيكون في آخر أمتي رجال يَرْكَبون على السُّروج كأشباه الرجال ينزلون على أبواب المسجد . نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات » رواه أحمد والحاكم وصححه . وأصله عند مسلم .
قال ابن عبد البر : وأما معنى قوله : كاسيات عاريات . فإنه أراد اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يَصِف ولا يَسْتُر ؛ فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة.
فالمرأة التي تلبس العاري – ولو امام النساء - قد عرّضت نفسها أن تكون من هذا الصنف الذي لعنه النبي صلى الله عليه وسلم .(2/418)
والمرأة التي تلبس الملابس الضيّقة - ولو امام النساء - هي في حقيقتها كاسية ، وهي عارية من كمال الستر ، إذ يُشترط في لباس الرجل والمرأة على حدٍّ سواء ألاّ يصف ولا يشِفّ ، فلا يكون ضيقاً يُبدي حجم الجسم ، ولا شفافاً يصف لون البشرة .
قال النووي : معنى ( كاسيات ) أي من نعمة الله ، و ( عاريات ) من شُكرها . وقيل معناه : تستر بعض بدنها ، وتكشف بعضه إظهاراً لجمالها ونحوه ، وقيل : تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها .
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول : لا تلبسوا نساءكم القباطي ، فإنه إن لا يشِف يَصِف . رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة . والقباطي ثياب رقاق .
فلا خير في امرأة تُعرّض نفسها للّعن ، والواجب أن تبتعد المسلمة عن أسباب اللعن فإن الأمر ليس بالأمر الهيّن ، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15].
كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول للتابعين : إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات . رواه البخاري .
إذا كان هذا يُقال لخير القرون بعد قرن الصحابة ، فماذا يُقال لنا نحن الذين نرتكب الكبائر الصريحة الموبقات المهلِكات ؟ ثم نظنّ بأنفسنا خيراً ، وننتظر الفردوس الأعلى !
وممن لعنهنّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم :
الواشمات والمستوشمات
والنامصات والمتنمصات
والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله .(2/419)
فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بنِ مسعود رضي الله عنه أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله . قال : فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت : ما حديث بلغني عنك ؛ أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ؟ فقال : عبد الله وما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ، فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ، فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عز وجل : (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7] فقالت المرأة : فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن ! قال : اذهبي فانظري . قال : فَدَخَلَتْ على امرأة عبد الله فلم تر شيئا ، فجاءت إليه فقالت : ما رأيت شيئا ، فقال : أما لو كان ذلك ما جامعتنا .
أي لو كان ذلك منها ما ساكَنَتْنا .
وتفسير تلك الأصناف الملعونة :
الواشمات هي التي تفعل الوشم ، وهو ما يُرسم تحت الجلد سواء في الوجه أو في غيره
والمستوشمات اللواتي يطلبن مَنْ يفعل بهن الوشم .
والنامصات اللواتي ينمصن النساء ، والنّمص هو نتف شعر الوجه وشعر الحاجبين على وجه الخصوص ، والمتنمصات مَنْ يطلبن من غيرهن أن يفعلن بهن ذلك .
والمتفلجات للحسن ، مَنْ يُباعدن بين أسنانهن سواء كان ذلك بعملية أو بغيرها إذا تحقق فيها تغيير خلق الله ، وذلك من وحي الشيطان ، لقوله تعالى حكاية عن إبليس : (وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) [النساء:119] .
ويدخل في هذا الحديث الوشْر ، وهو تحديد الأسنان وبردها ، لتكون في مستوى واحد .(2/420)
وقد تتساءل بعض النساء عن نمص الحاجب إذا كان عريضا ، أو عن بَرْدِ الأسنان إذا كانت كباراً ، أو إذا كانت تتزيّن بذلك لزوجها ، فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألته ، فقالت : يا رسول الله إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمعّط ، وفي رواية ( فتمزّق ) شعرها ، وإني زوجتها أفأصل فيه ؟ فقال : لعن الله الواصلة والموصولة . رواه البخاري ومسلم .
فإذا كان هذا فيمن تساقط شعرها ، وتُريد أن تُزيِّنَها لزوجها فلم يُرخّص لها ، فكيف بمن تتخذه للزينة ، فتلبس ما يُسمّى " الباروكة " بقصد التجمّل ؟
ومثله نتف الحواجب أو شعر الوجه أو تفليج الأسنان أو وصل الشعر بشعر آخر فكلّ ذلك داخل تحت اللعن ، فليس هناك عذر لفعل شيء من تلك المحرمات .
ولما حجّ معاوية بن أبي سفيان قال وهو على المنبر – وتناول قَصّةً من شعر كانت بيد حرسي – : أين علماؤكم ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ، ويقول : إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم . رواه البخاري .
وروى البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب قال : قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة آخر قدمة قدمها فخطبنا فأخرج كُبّةً من شعر ، فقال : ما كنت أرى أحدا يفعل هذا غير اليهود ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور ، يعني الوصال في الشعر .
وممن لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال ، والمتشبهين من الرجال بالنساء . كما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس .
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء . رواه أبو داود .
وقد أفتى العلماء أن وضع العباءة على الكتف تشبّهٌ بالرجال .
وأن لبس النعال الكبيرة المفتوحة والتي تُشبه نعال الرجال مِن التّشبّه بالرجال .(2/421)
قيل لعائشة رضي الله عنها إن امرأة تلبس النعل ، فقالت : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء . رواه أبو داود وهو حديث صحيح .
وأن لابسة البنطال " البنطلون " تدخل تحت حديث : صنفان من أهل النار .
والتّبرج من أسباب الطرد من رحمة الله والبعد عن الجنة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية ، إذا اتقين الله ، وشر نسائكم المتبرِّجات المتخيِّلات ، وهن المنافقات ، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم . رواه البيهقي ، وهو صحيح .
والأعصم الذي في يديه بياض ، أو في إحدى يديه .
وممن لعنهن النبيُّ صلى الله عليه وسلم : الخامشةَ وجهها ، والشاقةَ جيبها ، والداعيةَ بالويل والثبور . رواه ابن ماجه وابن حبان ، وهو حديث حسن .
أي التي تفعل هذه الأفعال عند المصيبة .
فإما أن تخمش وجهها بأظفارها إظهاراً للجزع ، وإما أن تشقّ جيبها تسخُّطاً على القَدَر ، وإما أن تدعوا بالويل والثبور .
فتقول : يا ويلي . أو يا هلاكي ، أو يا خسارتي ، أو يا مُصيبتي ! إذا مات الميت أو وقعت المصيبة .
وهذا بالإضافة إلى أنه من أفعال الجاهلية فهو يؤذي الميت .
وكل هذا مما يُعرّض المسلمة لأمر خطير بل هو في غاية الخطورة ، وهو اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله التي وسعت كلّ شيء و(رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56].
ورحمة الله للمتقين ، لقوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:156] .
فالواجب على المسلمة أن تبتعد عن أسباب العن ، وألا تُعرّض نفسها أن يُشَكّ في أمرها بعد موتها : هل يُترحّم عليها أو لا ؟(2/422)
فإنه لا أحد يتوقّف أو يتردد في الترحّم على عامة أموات السلمين ، لكن هناك توقّف أو تردد فيمن مات على كبيرة ، وكثيراً ما يُسأل عن حُكم الترحّم على أهل الكبائر . ولا شك أن ما تُوعِّد فاعلُه بلعنةٍ أو بنارٍ أو ترتّب على فعله حدٌّ في الدنيا أو الآخِرة أنه من الكبائر ، وأهل الكبائر تحت المشيئة ، إن شاء الله غفر لهم وإن شاء عذّبهم .
والكبائر لا يُكفِّرها إلا التوبة النصوح ، بخلاف الصغائر ، فإنها تُكفِّر بالصلاة والصيام والعمرة ، واجتناب الكبائر ، لقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) [النساء:31] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر . رواه مسلم .
وفي رواية له : ما لم تُغْشَ الكبائر .
فاجتنبي الكبائر ، وخذي على نفسك العهد من هذه اللحظة ومن هذا اليوم أن تُقلعي عما اقترفتيه من كبائر ، مما ورد ذِكره أو مما لم يَرِد مما تلبّستي به .
فإن التوبة تجبّ ما قبلها ، ولا تقولي : ( سوف ) و ( إذا ) و ( لعل ) فإن هذه من جنود إبليس
وإن هَوى بك إبليسُ لمعصيةٍ ..فأهلكيه بالاستغفار يَنْتَحِبِ ..
263-محاضرة: ( آثار المعاكسات )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )(2/423)
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن مِنْ النِّعم التي وُضِعت في غير موضعها ، واستعملت في غير ما وُجدت له : الهاتف ؛ فهو سلاح ذو حدّين .
فكم له من ضحية ، وكم مِن مآسي كان أولُها عَبَث بهذا الجهاز ، والنتيجة العار والفضيحة .
فَبَلِيّةُ الشباب التدخين ، وبلية الفتيات الهاتف ، ويجمع بينهما : أن كلاهما أولُه دلع وآخره ولع
وهكذا يَرضى الشيطان من بني آدم أن يضعوا أول خطوة على طريق المعصية ، ليُوقعهم فيما هو أكبر ، وقد حذّر الحقُّ تبارك وتعالى من اتِّباع خطوات الشيطان فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور:21].
أما لماذا ؟ فاستمعي الجواب من العزيز الوهاب : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة:168].
وإن كثيراً من الناس اتّخذوا عدوهم صديقاً ، فَعَصَوا الرحمن ، وأطاعوا الشيطان واتّبعوا خُطُواته .
وقد قال الحق سبحانه : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6] .(2/424)
إن كثيراً من الشباب الذين يُحاولون إيقاع الساذجات من الفتيات في شباكهم عبر خدعة الحب أو وعود الزواج أو الأحلام الوردية ، يستدرجونهن مِن خلال تلك الوسائل وينصبون لهن شِباك الهاتف وتسجيل الصوت وأحيانا الاحتفاظ بالصور ، فإذا حَصَلَ على مُراده ، وأخذ من الفتاة أعزّ ما تملك ، ما يلبث أن يُكشّر عن ناب المكر والخديعة ، ويبحث عن ساذجة أخرى ، وهكذا ، وقد تبكي دماً أو تعضّ على يديها ندماً ، ولكن بعد فوات الأوان .
أما الشاب فيقول بلسان حاله ومقاله : لو لم يبق في الدنيا سوى تلك المُغفّلة ما تزوّجتها ! وهو الذي كان يضعُ لها الشمسَ في يد ، والقمرَ في الأخرى !
هل تُصدّق الفتاة أن ذلك الشاب المعاكس فعلاً يُريد الزواج بها ؟
أو أنه لا يستطيع أن ينساها ؟ ولا يستطيع أن يعيش بدونها ! وكأنها الماء أو الهواء !
وهو الذي يتهددها ويتوعّدها إن لم تخرج معه ، هذا حبٌّ بِلَوي الذراع !
إن المسلمة يجب أن تبتعد عن مواطن الريبة ، وأن تجعل بينها وبين الريبة والفاحشة خندقاً بحيث لا يطمع فيها طامع ، ولا يلتفت إليها كلّ ساقط وضائع .
لا أن تجعل بينها وبين الفاحشة شعرة ما تلبث أن تنقطع ، ويكون ذلّ المعصية وعار الجريمة يُطاردها طوال حياتها ، وربما بعد مماتها إن لم تندم وتتُب .
ولذا كان عمر بن الخطاب يكتب إلى الآفاق : لا تدخلن امرأة مسلمة الحمام إلا من سقم ، وعلموا نساءكم سورة النور . رواه عبد الرزاق .
وذلك لما اشتملت عليه من الآداب التي يجب أن تُراعيها المرأة ، وأن تبتعد عن مواطن الشُّبُهات.
وأن تبتعد عن كلّ ما يُثير الغرائز ، فإن أعداء الإسلام ما يَودُّون لها خير ، ويُريدونها أن تكون لقمة سائغة ، وفريسة سهلة المّنال ، فهم يُتاجرون بالغرائز ، ويتفنّنون في عرض الصور والأفكار التي هي سبيل وطريق للفاحشة .(2/425)
وإن الفتاة متى ما درات حول الحمى وقعت فيه ، كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى ، أما من ابتعدت عن الشبهات وعما تشابه عليها فقد استبرأتْ لدينها وعِرضها ، بمعنى أنها طَلَبَتْ البراءة لدينها وعِرضها ، فتبقى بريئة الدين ، نقيّة العِرض ، طاهرة الأردان .
أما مَنْ عَبَثَتْ فإنها حامتْ حول الحِمى ، فهي توشك أن تقع فيه ، فتُدنِّس دينها وعرضها ، وتبقى ملوّثة السُّمعة ، قلقة النفس ، مضطرة .
وهذا بالإضافة إلى أن نتيجته عار في الدنيا ، فإن مآله ومردَّه في الآخرة عذابٌ أليم وخزيٌ عظيم ، إن لم يُتَبَ منه .
أُخيّتي :
قبل أن ترفعي سماعة الهاتف تذكّري ماذا يُراد بك ؟
وقبل أن تخضعي بالقول تذكّري أن الله مُطّلع عليك فلا تجعليه أهون الناظرين إليك .
إن استترت عن أبيكِ وأخيك ، فتذكّري مَنْ لا تخفى عليه خافية ، وقد قال سبحانه وتعالى في شأن المنافقين : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء:108].
وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا ، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا » قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا ، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم . قال : « أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها » رواه ابن ماجه ، وهو حديث صحيح .
إذا خلوتَ بريبة في ظلمةٍ والنفسُ داعيةٌ إلى الطُّغيانِ
فاستحيي من نظر الإله وقل لها : إن الذي خَلَقَ الظلام يراني
وقد قيل : ربَّ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني .
كم هي المآسي نتيجة كلمة واحدة ، كانت البداية والانطلاق في مغامرات نفق مظلم يُرى أولُه ولا يُعلم على ماذا ينطوي .(2/426)
إن الشاب الذي يتّصل بالفتاة ويطلب منها مُحادثته مُدّعياً براءته ، وأنه لا يُريد سوى التحدّث والدردشة – كما يُقال – ثم يُظهر لها إعجابه بها ، ويُثني عليها ، فتغترّ بذلك وهي كما قيل :
خدعوها بقولهم حسناءُ والغواني يغرّهن الثناء
وتنساق الضعفية ، كما تُساق الشاة إلى مكان الذّبح ، وهي لا تشعر .
فتُصبح كما قيل :
وليس يَزجُرُكم ما توعظون به والبَهْمُ يزجُرُها الراعي فتنزجرُ
أصبحتم جُزُراً للموتِ يقبضكم كما البهائم في الدنيا لها جَزَرُ
إن كثيراً من شباب المعاكسات يقولون : إن مَنْ انساقت وراء كلمة مِنِّي ربما تنساق وراء كلمة أخرى مِنْ شخص آخر .
ويقولون : إن كانت كلّمتني وطاوعتني لأجل مالي فسوف تجد مَن هو أكثر مالاً مِنِّي .
وإن كانت كلّمتني لجمالي فسوف تجد مَن هو أجمل مِنِّي .
وأن كانت كلّمتني وهي لا تعرفني فما الذي يمنعها أن تُكلّم غيري ؟
وقائل ذلك مُحقٌّ في ذلك ، فإن مَنْ خانتْ أهلها ، وحادَثَتْ شخصاً لا تعرفه ، فعهودها مستحيلة ، فما الذي يضمن له ألا تخونه .
فهو ينظر بعين عقله وهي تنظر بعين عاطفتها التي عليها غشاوة .
واللّومُ يقعُ عليها هي ، ولذا فهي التي تُعطيه الإشارة إلى أن يُكلّمها ، وأن يُعاود الاتصال ، ومِن ثمّ يُسجِّل صوتها ويُهددها به إن لم تُطاوعه أن يُبلغ أهلها ، وهذا دليل على بداية الخيانة ، فتُطاوِعَه المسكينة ، وتظنّ أنه لقاء واحد برئ ، ولكن الأمر – كما
قيل - : رحلة الألف ميل بدايتها خطوة واحدة .(2/427)
خرجت والْتَقَتْ به في السوق أو في السيارة دقائق معدودة ، ثم عاود ( قيسٌ ) الاتصال ، وأظهر لها إعجابه بها ، وانه لم ينم تلك الليلة ، و… ، وطلب اللقاء مرة ثانية وتحت ضغط التهديد طاوعته ، ولم يكن اللقاء في هذه المرّة دقائق فقد يطول ، وربما التُقِطَتْ فيه الصور التذكارية والتي هي عبارة عن بداية قاصمة الظهر ، ثم تُصبح تلك الصور والأشرطة التي سُجِّلتْ بصوتها وسائل تهديد وضغطٍ حتى تقع في الفخّ ، ويأخذ منها أعزّ ما تملك ، فأخذ منها شرفها وعفّتها ، وأعظم من ذلك دينها .
فقد أصبحت في عِداد الزواني ، اللوتي لا ينكحهن إلا زانٍ مثلهن أو مشرك ، كما قال تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)[النور:3].
فيا أُخيّة : إحذري
إن المعاكس ذئبٌ يُغري الفتاة بِحِيلَة
يقول : هيّا تعالَيْ إلى الحياة الجميلة
قالت أخاف العـ ـار والإغراق في درب الرذيلة
والأهل والإخوان والجيران بل كلّ القبيلة
قال الخبيث بمكر لا تقلقي يا كحيلة
إنّا إذا ما التقينا أمامنا ألف حيلة
متى يجيء خطيبٌ في ذي الحياة المليلة
ألا ترين فلانة ألا ترين الزميلة
وإن أردتِ سبيلاً فالعرسُ خيرُ وسيلة
وانقادت الشاة للذئب على نفسٍ ذليلة
فيا لِفُحشٍ أتته ويا لِفِعالٍ وبيلة
حتى إذا الوغد أروى من الفتاة غليلَة
قال اللئيم : وداعاً ففي البنات بديلة
قالت : ألَمّا وقعنا أين الوعود الطويلة
قال الخبيث وقد كـ شّر عن مكرٍ وحيلة
كيف الوثوقُ بغرٍّ وكيف أرضى سبيلَه
مَنْ خانت العرض يوماً عهودها مستحيلة
بكَتْ عذاباً وقهراً على المخازي الوبيلة
عارٌ ونارٌ وخزيٌ كذا حياةٌ ذليلة
مَنْ طاوع الذئبَ يوماً أوردَهُ الموتَ غِيلة
وقد قال بعضهم لما وقعت الفتاة ، وانتَهك عِرضَها ، قال شامتاً :
اسكتي يافتاة . أقصد يا امرأة !(2/428)
فالمعاكسُ لا يَهمُّه شرفك ولا عرضك ولا سمعتك ، إنما يَهُمُّه أن يتمتّع بك ، ثم يَرْمي بك على قارعة الطريق ، إن لم يتّخذك – أجارك الله وحماك – وسيلةَ تسلية ومُتعة له ولأصدقائه ، وعندها لا تستطيع الفتاة أن تتخلّص من تلك الورطة ، ولا أن تنجو من تلك المصيبة ، فقد وقعت في الفخّ ، وارتمت في الشِّباك ، وأصبحت بغياً – أجاركن الله – بعد أن كانت في عليائها لا تُنال إلا بأغلى المهور ، ولا ترتضي أي خطيب ، بل تَشْتَرِط أو يُشترط لها شروطاً معيّنة .
ما الذي أنزلها مِنْ عليائها وأبراجها إلى الحضيض الأسفلِ إلا خُطوةٌ من خطوات الشيطان ، وعبثٌ تَعُدُّه بعض البنات عبثاً بريئاً بزعمها :
أنتِ أعلى أنتِ أغلى أنتِ أنقى يا أُخيّهْ
فاحذري أُخيّة :
وفكّري في عواقب الأمور قبل أن تضعي رقماً ، أو تخضعي بالقول لوغدٍ مُتلاعبٍ بأعراض المسلمين ، والشواهد على هذا كثيرة ، والحقائق والوقائع أشهر من أن تُذكر ، وأكثر من أن تُحصر في عجالة .
إن العلاج الناجع ، والحل الناجح لمثل هذه القضايا ، إلا تخوض الفتاة غمارها ، ولا تقترب حولها ، ولا تُفكّر بذلك مجرّد تفكير ، ولتعلم أنها اليوم تملك أمرها ، وتحفظ شرفها ، وتحمي عرضها ، بامتناعها عن سماع كلمة واحدة ، وإغلاق سماعة الهاتف في وجه كل عابث ومُتلاعِب ، وألا تجعل للشيطان عليها سبيلاً ، فلا تجعل الهاتف في غُرفتها فهي بذلك تقطع سُبُلَ الشر ، وتغلق طُرُقَ الغواية ، وتدفع الريبة عن نفسها .
ووالله إن الشاب إذا واجهته الفتاة بصرامة فأغلقت في وجهه السماعة ، وإن عاود الاتصال أسمعته ما لا يُرضيه ، والله إنه لا يجرؤ على الاتصال أو العبث .
وعلى سبيل المثال : فتاة سَمِعَتْ مُتّصلاً يُحاول الخضوع لها في القول ، فأغلقت السماعة ، ثم حاول مرة ثانية فَدَعَتْ عليه دعوةً شديدة ، فما عاود الاتصال .
فمثل تلك الفتاة يقول عنها الشباب : لا فائدة فيها ، ما يُمكن الوصول إليها .(2/429)
وأذكر لك شيئاً من وسائل المعاكسين لتكوني منها على حذر .
من وسائل المعاكسين :
الاتصال أول مرّة ثم يُبدي اعتذراً لطيفاً ، يكون مثار إعجاب الفتاة .
الاتصال بدعوى أنهم اتّصلوا عليه سواء على الجوال أو النداء ( البيجر ) ثم يسأل عن البيت أو يدّعي تقديم خدمة .
الاتصال بزعم أنه لديه مشاكل ، وأنه يحتاج من يقف بجانبه ، وإلى من يستمع منه ، ليستدرّ عطف الفتاة ، لتشاركه في حلّ مشكلاته ، وكأنها حلاّل المشاكل .
الاتصال بزعم أنه يعرفها أو يعرف أهلها وأنه مُعجبٌ بها ، وقد يكون استقى تلك المعلومات عن طريق أخته مثلاً ، أو عن طريق تصيّد أحد الأطفال عبر سماعة الهاتف ليأخذ منه المعلومات الكاملة عن البيت وأهله ، وهذا من الأخطاء التي تترتّب على ردّ الأطفال على الهاتف .
الاتصال والسكوت عدة مرات وتحمّل الكلمات الجارحة ، وإظهار سعة الصدر ، أو الفرح بتلك الكلمات ولو كانت جارحة ما دامت منك !
الاتصال بدعوى أنه يبحث عن زوجة وأنه بحث وبحث ولم يجد ، فيرجو أن تُساعديه وأنه سمِع عن حصافة عقلك ونباهتك ويُريد منك أن تخدميه .
وكل هذه محاولات لبدء الحديث واستماع الشكوى ، ومن ثم تسجيل الصوت كخطوة أولى ، يليها ما بعدها من خطوات شيطانية آثمة .
ومهما يكن من أمر فلا تُخدعي ، وإياك أن تُستدرجي ، وحذار من الخطوة الأولى ، فهي الزلة المُهلِكة ، وإن كنت وقعت في الخطوة الأولى ، فالرجوع أيسر من السقوط في الهاوية ، واقطعي كل صلة ، ولا تتركي له فرصة ليُهددك بصوتك أو صورتك ، لا تستمعي إليه ، وفي كل مرة أغلقي السماعة ، وإن أردت الخلاص فلا تردّي على الهاتف إلا بقدر الحاجة من غير خضوع بالقول .(2/430)
وإن كان صادقاً في تهديده فإنه سيفضح نفسه ، وإن تجرأ وفضحك بين أهلك أو عند إخوانك بإرسال شريط بصوتك أو حتى أشرطة ، فو الله لأن يَفتضح أمر الفتاة بين أهلها أنها اتّصلت أو كلّمت شاباً غريباً ثم يؤدِّبوها على غلطتها خير لها ألف مرة من أن تَفتضح أنها زانية –أجارك الله -
مع العلم أن كثيراً من الشباب إنما يهددون فقط ؛ لأنهم سيُفتضح أمرهم ، وربما تُعرف أصواتُهم فينالهم من العقاب ما ينالهم .
وإن كنت وقعت في أول حُفرة فكلّمك شاب أو كلّمتيه ، فاتركيه واهجريه فوراً
فلا هو مُحبّ ولا هو عاشقٌ ولهان ، ولا أدل على ذلك من أن الفتاة لو ادّعت أنها أُصيبت بسرطان مثلاً أو فشل كلوي لقطع علاقته معها ، وفرّ منها فراره من الأسد .
وإذا أظهر الشاب أنه ( قيس ) القرن العشرين ! وأنه يذوب وَجداً في محبوبته فلتُجرّب الفتاة ، ولتطلب منه إثبات صدق دعواه ، بأنها مريضة وتحتاج إلى عين –مثلاً – أو كِلية ، أو أن والدتها – مثلاً – أو والدها في المستشفى ويحتاج إلى عين أو كِلية !
فلا شك أنه سيُثبت أنه لا هو بـ ( قيس ) ولا هي ليلى ! وفي البنات بدائل !
ولو وقعت فتاة في شباك المكالمات فأظهرتْ للشاب أن أهلها عزموا على تزويجها وإن عليه أن يتقدّم لخطبتها ، فَسَترى النتيجة بعينها .
ويُصبح الأمر كما قيل :
إذا اشتبكت دموعٌ في خدود تبيّن مَن بكى ممن تباكى
إذاً كلّ ما تحلمين به من معاكس أو يُصوّره لك إنما هي احلام يقظة عما قليل تستيقظين منها ، فأفيقي أُخيّة قبل أن تُفيقي على صفعة قويّة .
أفيقي من سكرة الحب الموهوم ، والزواج المزعوم ، قبل أن تندمي وحينها لا ينفع الندم .
إن شباب المعاكسات نسخة واحدة ، يتّفقون في أنهم مخادعون ، محتالون ، وللحبِّ يدّعون ويُظهرون ، وأنهم للزواج يسعون ويُريدون ، وهم كذّابون أفّاكون .
ويتّفقون في أنهم ينصبون شباك الوهم في طريق بنات المسلمين .(2/431)
يرمون الأرقام أمام الأقدام ، وهذا دليل على الخسّة والوضاعة ، فليست هذه أفعال الرجال ، والرجال منهم براء ، ولكنهم تعوّدوا الاصطياد في الماء العكر .
إن مَن يُريد الزواج يأتي البيوت من أبوابها ، لا أن يتسوّر بيوت المسلمين عبر الأسلاك ، فهذه أساليب الأراذل من بني الإنسان .
فكيف ترتضي الفتاة معاكساً ساقطاً يكون زوج المستقبل ، وشريك العمر .
إن شاباً كهذا لا عهد له ولا ذمّة ، فالذي رمى لك اليوم رقماً رماه لعشرات غيرك .
والذي اتّصل بك اليوم اتّصل بغيرك .
والذي زعم حُبّكِ زَعَمَه لسواك .
والذي وعدك بالزواج وَعَدَ به أُخريات .
فمثل هذا عهوده مستحيلة . ولا تقول الفتاة عن مَنْ يُكلّمها إنه يختلف عن الآخرين .
يا بنت الإسلام استمعي نغماً أشدوه بإشفاقِ
صُوني بحيائكِ مملكةً مِنْ شَهْدِ جمالٍ دفّاقِ
الدُّرَةِ أنتِ فلا تَدَعِي كَفّاً تَمْسَسْكِ بلا واقِ
كوني بالحشمة شامخةً بجمالكِ فوقَ الأعناقِ
كوني حوريّةَ جنّتِنا في الخُلد جِوارِ الْخَلاقِ
ما طاب الحُسْنُ من امرأةٍ تَرْمِيهِ بوحْل الأسواق
بل حُسن المرأة حِشمتُها يَكْسُوه جَمَالُ الأخلاقِ
أخيراً : إياك وصُحبة السوء ، ومَنْ تدعوكِ لخوض تجربةٍ مريرة يُسمّونها الحب !
أو من تدعوك للتعرف على صديقٍ لها أو على أخيها ، فإنما هي من أتباع الشيطان الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير .
إن بعض الفتيات تفعل هذا بزعمها أو بتلبيس الشيطان عليها لتضمن زوجاً ، أو لتحدد فارس احلامها ، أو لتعيش الحب .
وكل هذه أوهام وخيالات ، هي في حقيقتها سراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا
جاءه لم يجده شيئاً ، ووجد عنده الحسرة والندامة .
أخيّتي :
اتقي الله وراقبيه في السر والعلانية ، واعلمي انه سبحانه أنعم عليك بِنعمٍ شتّى ، فلا تعصيه بنِعمه ، ولا تُحاربيه بها ، واستعملي تلك النعم والجوارح في شكره وفي مرضاته .(2/432)
قال ربُّك ومولاك : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) [الإسراء:36]
واعلمي أن رسولك قال صلى الله عليه وسلم : البِرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس . رواه مسلم .
فأنت ولا شك تخشين وتكرهين أن يطّلع عليك أحد من أهلك وأنت تتصلين اتصالا مُريباً .
264-محاضرة: (آثار الذنوب على الفرد والمجتمع)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن للطاعةِ من البركةِ ما يبقى حتى بعدَ موتِ صاحِبِها. قال سبحانه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا)(2/433)
وقال سبحانه في قصة موسى مع الْخَضِر : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) .
فَحَفِظ الله الأبناء بصلاح الآباء ، وذلك من بركة الطاعة .
وإن للمعصية ضرراً وشؤماً يلحقُ صاحبَها ولو بعد الموت ، قال سبحانه عن آل فرعون : (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
وقال جل جلاله عن بني إسرائيل : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا) [الأعراف:166-168] .
قال ابن القيم – رحمه الله – : وما الذي أخرجَ الأبوينِ من الجنّةِ دارَ النَّعيمِ والبهجَةِ والسرور إلى دارِ الآلام والأحزانِ والمصائب ؟(2/434)
وما الذي أخرجَ إبليسَ من ملكوتِ السماءِ وطردَه ولَعَنَه ، ومسخَ ظاهرَه وباطنَه ، فَجَعَلَ صورتَهُ أقبحَ صورةٍ وأشنَعها ، وباطِنَه أقبحَ من صورتِه وأشْنَع ، وبُدِّلَ بالقربِ بُعداً ، وبالرحمةِ لَعْنَةً ، وبالجمالِ قُبْحَاً ، وبالجنة ناراً تلظى ، وبالإيمان كفرا ، وبموالاةِ الوليِّ الحميدِ أعظمَ عداوةٍ ومُشاقّةٍ ، وبِزَجَلِ التسبيحِ والتقديسِ والتهليلِ زَجَلَ الكفرِ والشركِ والكَذِبِ والزورِ والفحش ، وبلباسِ الإيمانِ لباسَ الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ ، فهانَ على الله غايةَ الهوانِ ، وسَقَطَ من عينه غايةَ السقوطِ وحَلَّ عليه غضبُ الربِّ تعالى فأهْواهُ ، ومَقَتَهُ أكبرَ المقتِ فأرداهُ ، فصار قَوّاداً لكل فاسقٍ ومجرم . رضي لنفسه بالقيادةِ بعد تلك العبادةِ والسيادةِ ! فَعِيَاذاً بك اللهمَّ من مخالفةِ أمرِك ، وارتكابِ نهيِك .
وما الذي أغرقَ أهلَ الأرضِ كلَّهم حتى علا الماءُ فوقَ رؤوسِ الجبال ؟ وما الذي سلطَ الريحَ على قومِ عادٍ حتى ألقتْهُم موتى على وجهِ الأرضِ ، كأنهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ ؟ ودَمَّرَتْ ما مَرَّتْ عليه مِنْ ديارِهم وحروثِهم وزروعِهم ودوابِّهم ، حتى صاروا عبرةً للأممِ إلى يومِ القيامة .
وما الذي أرسلَ على قومِ ثمودَ الصيحةَ حتى قَطّعَتْ قلوبَهم في أجوافِهم ، وماتوا عن آخرهم
وما الذي رفعَ قرى اللوطيةِ حتى سَمِعَتْ الملائكةُ نبيحَ كلابِهم ، ثم قَلَبَهَا عليهم فجعل عاليَها سافِلَها فأهلكَم جميعا ، ثم أتْبَعَهُم حجارةً من السماءِ أمطرَها عليهم ؟ فَجَمَعَ عليهم مِن العقوبةِ ما لم يَجْمَعْهُ على أُمّةٍ غيرِهم ، ولإخوانهم أمثالُها ، وما هي من الظالمين ببعيد .
وما الذي أرسلَ على قومِ شُعيبٍ سحابَ العذابِ كالظُّلَلِ ، فلما صار فوقَ رؤوسهم أمطرَ عليهم ناراً تلظى ؟
وما الذي أغرقَ فرعونَ وقومَه في البحر ، ثم نَقَلَ أرواحَهم إلى جهنمَ ؛ فالأجسادُ للغرقِ ، والأرواحِ للحَرَقِ ؟(2/435)
وما الذي خسفَ بقارونَ وداره ومالِهِ وأهلِه ؟
وما الذي أهلكَ القرونَ من بعد نوحٍ بأنواعِ العقوباتِ ودمَّرها تدميرا ؟
وما الذي بعثَ على بني إسرائيل قوماً أولي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خلالَ الديارِ ، وقَتَّلُوا الرجال ، وسَبَوا الذراريَ والنساء ، وأحرقوا الديارَ ونهبوا الأموالَ ، ثم بعثهم عليهم مرةً ثانيةً فأهْلَكُوا ما قَدَرُوا عليه ، وتَبَّرُوا ما علو تتبيرا ؟
إنها الذنوبُ المهلكات . قال سبحانه : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ)
وقال جل جلاله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)
وصدق الله : (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
إن الذّنوب تُورِث الذِّلّة والمهانة .(2/436)
روى الإمام أحمدُ في الزُّهد وغيرُه عن جُبيرِ بنِ نُفيْر قال : لما فُتِحَتْ قبرص فُرِّقَ بين أهلِها فبكى بعضُهم إلى بعض ، ورأيتُ أبا الدرداءِ جالساً وحدَه يبكي ، فقلتُ : يا أبا الدرداء ! ما يبكيكَ في يومٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه ؟ قال : ويحَك يا جبير ؛ ما أهونَ الخلقِ على اللهِ إذا أضاعوا أمرَه . بينا هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ لهم الملكُ ، تركوا أمرَ اللهِ فَصَارُوا إلى ما ترى إنه ليس هناك أحدٌ بينه وبين الله نَسب ، ولذا قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه . رواه مسلم .
فَعَمَلُ المسلم هو حسبُه ونسبُه وهو فخره وشرفُه في الدنيا والآخرة .
كم رفَعَ العِلم أقواماً ، وكم خفض الجهل آخرين .
كان عطاء ابن أبي رباح عُبيداً أسوداً لامرأة من مكة وكان أنفه كأنه باقلاء ، فجاءه سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين جاء هو وابناه إلى عطاء ، فجلسوا إليه وهو يصلي فلما صلى انفتل إليهم ، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج ، وقد حوّل قفاه إليهم ثم قال سليمان لابنيه : قوما ؛ فقاما ، فقال : يا بَني لاتَنِيَا في طلب العلم ، فإني لا أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود .
وكان محمد بن عبد الرحمن الأوقص عنقُه داخلٌ في بدنه ، وكان منكباه خارجين كأنهما زُجّان ، فقالت أمه : يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوكَ منه المسخورَ به ، فعليك بطلب العلم ؛ فإنه يرفعك ، فولى قضاء مكة عشرين سنة ، وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم . ومرت به امرأة وهو يقول : اللهم اعتق رقبتي من النار ، فقالت له : يا ابن أخي وأي رقبة لك !
فالعلم الذي يُثمر تقوى الله والبعد عن معصيته هو العلم الحقيقي ، فإن مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف .(2/437)
إنه لو لم يكن من شؤم المعصيةِ إلا أن صاحبَها وإن مضى في الغابرين ، وذهَبَ في الذّاهبين لا يزالُ يُكتبُ عليه إثمُها ، ويجري عليه عذابُها ، إذا كانت متعدية .
: « لا تُقتلُ نفسٌ ظُلما إلا كان على ابنِ آدمَ الأولِ كفلٌ قال النبيُّ مِنْ دمها لأنه أولُ من سَنَّ القتل » رواه البخاري ومسلم .
ومثله آثام المُغنّين والمُغنّيات ، وسائر أهل الفجور الذين لا تزال معاصيهم بين الناس عبر الأشرطة المرئية والمسموعة ، فإنه كلما استمعها مُستَمِع أو شاهدها مُشاهِد كُتِبَ عليهم مثل آثام مَن استمع أو شاهَد، ويتوب الله على مَن تاب .
يدلّ على ذلك قوله : « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها بعده مِن غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده مِن غير أن ينقص من أوزارهم شيء » رواه مسلم
قال ابن القيم : ومن آثار الذنوب والمعاصي إنها تحدث في الارض أنواعا من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41] ، فالمراد بالفساد والنقص والشر والالآم التي يُحدثها الله في الأرض بمعاصي العباد ، فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة ، كما قال بعض السلف :كل ما أحدَثْتُم ذنبا أحدَث الله لكم من سلطانه عقوبة ، والظاهر والله أعلم أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ، ويدل عليه قوله تعالى : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) فهذا حالنا ، وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا ، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة .(2/438)
ومن تأثير معاصي الله في الأرض ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم إلا وهم باكُون ، ومَن شُرب مياهِهم ، ومن الاستسقاء من أبيارهم لتأثير شؤم المعصية في الماء ، وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار ، وما ترى به من الآفات ، وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده في ضمن حديث قال : وُجِدَتْ في خزائن بعض بني أمية حنطةٌ الحبة بقدر نواة التمرة ، وهي في صرةٍ مكتوب عليها : كان هذا يَنْبُتْ في زمن من العدل .
وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب .اهـ .
وإن مِنْ شؤمِ المعصية على صاحِبِها ما يلي :
1- أن المعصيةَ تُورِثُ صاحِبَها وحشةً في القلب ، وتكونُ سبباً في حِرْمانِ العلم .
وذلك أن القلبَ بيتُ الرب – كما يقول ابن القيم – فإذا عُمِرَ بغير ذكر مولاه أظلم ، وبِقَدْر إعراض العبد عن ذِكْرِ الله يكون لديه من الضّنْكِ وضيق الصّدر وانقباض النفس ، وإن انطَلَقَ صاحبها في الحياة فهو غير سعيد ، لأن التّقيَّ هو السعيد ، وأما العلم فهو نورٌ ، ونورُ الله لا يؤتاه عاصي – كما قال الإمام الشافعي – .
والمعصية سبب في ضيق الصدر ، وقَلَق النفس ، قال سبحانه وتعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) .
وهذا بخلاف الطاعة التي تشرح الصدر ، وتطمئن معها النفس ، قال جل جلاله : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
2- أنّ صاحبَ المعصيةِ تلعنُه حتى البهائم ، بخلاف صاحب الطاعة .
قال مجاهدٌ في تفسير قولِه تعالى : (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) قال : إن البهائمَ تلعنُ عصاةَ بني آدم إذا اشتدت السنةُ وأمسكَ المطر ، وتقول : هذا بشؤم معصية ابن ادم .(2/439)
أما صاحب الطاعة فقال فيه صلى الله عليه وسلم : إن اللهَ وملائكتَه وأهلَ السماوات والأرَضين حتى النملةَ في جحرها وحتى الحوتَ ليُصَلُّون على معلمِ الناس الخير . رواه الترمذي وابن ماجه ، وهو حديث صحيح .
وقال صلى الله عليه وسلم لما مُرَّ عليه بجنازة : مستريح ومستراح منه . قالوا : يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه ؟ فقال : العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا ، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب . رواه البخاري ومسلم .
3- حِرْمانُ الطاعة ، كما قال ابن القيم :
حُبُّ الكتابِ وحبُّ ألحانِ الغناء في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعان .
وذلك أن الطاعة قُربةٌ إلى الملك الديان ، فلا يجد عبدٌ لذة الطاعة إلا بابتعاده عن المعصية ، ولذا قال سبحانه في المنافقين : (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ()[التوبة:46].
قال الفضيل : إذا لم تقدر على قيام الليل ، وصيام النهار ، فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك .
وقال شابٌ للحسن البصري : أعياني قيام الليل ، فقال : قيدتك خطاياك .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة .
4- أن المعاصي سببٌ لِهوانِ العبدِ على ربِّه ، فلا عِزّةَ إلا في طاعةِ العزيزِ سبحانه .
قال الحسنُ البصري عن العصاة : هانُوا عليه فَعَصَوه ، ولو عَزُّوا عليه لَعَصَمَهُم .
وقال عبدُ الله بن المبارك :
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ وقد يورثُ الذُّلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيرٌ لنفسِك عِصيانُها
قال الحسن بن صالح : العملُ بالحسنة قوةٌ في البدن ، ونورٌ في القلب ، وضوءٌ في البصر ، والعملُ بالسيئة وهنٌ في البدن ، وظلمةٌ في القلب ، وعمىً في البصر .(2/440)
وقال إبراهيم بنُ ادهم : إن للحسنة ضياءً في الوجه ، ونوراً في القلب ، وسَعَةً في الرزق ، وقوةً في البدن ، ومحبةً في قلوب الخلق . وإن للسيئة سواداً في الوجه ، وظلمةً في القبر والقلب ، ووهناً في البدن ، ونقصاً في الرزق ، وبُغْضَةً في قلوب الخلق .
5- أن المعصية إذا أحاطتْ بصاحبها أدخَلَتْهُ النار ، قال سبحانه : (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
قال القرطبي : السيئة الشرك . قال ابن جريج : قلت لعطاء : (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) قال : الشرك ، وتلا : (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) وكذا قال الحسن وقتادة ، قالا : والخطيئة الكبيرة .
وإن الذنوب إذا اجتَمَعتْ أهلكتْ صاحبها ، كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إياكم ومحقَّرات الذنوب ،فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه . قال ابن مسعود رضي الله عنه : وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة ، فَحَضَر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجئ بالعود حتى جمعوا سواداً ؛ فأجَّجوا ناراً وأنضَجَوا ما قَذَفوا فيها . رواه الإمام أحمد وغيره .
6- أن الذنوب تَخُونُ صاحبَها في أحلك الظروف ، وأصعب المواطن ، خاصة عند الموت(2/441)
قال ابن القيم : ومن عقوباتها - أي المعاصي - أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه … وثَمّ أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمرّ ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال الى الله تعالى ، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة ، كما شاهَدَ الناس كثيرا من المحتضَرين أصابهم ذلك ، حتى قيل لبعضهم : قل لا إله إلا الله ، فقال : آه آه . لا أستطيع أن أقولها ... وقيل لآخر :قل لا إله إلا الله ، فجعل يهذي بالغناء ... وقال : وما ينفعني ما تقول ، ولم أدع معصية إلا ركبتها ثم قَضَى ، ولم يَقُلْها ، وقيل لآخر ذلك ، فقال : وما يُغْنِي عَنِّي ، وما أعلم أني صليت لله تعالى صلاة ، ثم قَضَى ولم يقلها ، وقيل لآخر ذلك فقال : هو كافر بما تقول ، وقَضَى ، وقيل لآخر ذلك ، فقال : كلما أردت أن أقولها فلساني يُمسِك عنها . اهـ .
وهل تُهزمُ الجيوش ، وتَذِلُّ الأمم إلا بالذنوب والمعاصي .
وهل أصاب الصحابة ما أصابهم يوم أحد وحُنين إلا بشؤم المعصية .
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) [آل عمران:155].
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة:25].
فهؤلاء الأخيار الأبرار أصابهم ما أصابهم بذنبٍ واحدٍ ، فما بال من جَمَع المئين .
يا ناظِراً يرنو بعينيّ راقدِ ومُشاهِداً للأمر غيرُ مشاهِدِ
تَصِلِ الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد
أنسيتَ ربك حين أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ
7- أن الذنوب تُغطّي القلب ، حتى تنقلب عليه الحقائق ، فلا يعرف معروفاً ولا يُنكر مُنكَراً .(2/442)
قال صلى الله عليه وسلم : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا ، لا يعرف معروفا ولا ينكر مُنكَراً إلا ما أشرب من هواه . رواه مسلم .
وضدُّها التقوى ؛ فَبِها تُكشف وجوه الحقائق ، ويُميّز المسلم بين الحقّ والباطل ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [الأنفال:29].
8- أن الذنوب تكون بمثابة الغطاء على القلب ، فلا يذكر الله عز وجل ، ولا يتذكّر الدار الآخِرة ، فيُحجب قلبُه في الدنيا عن ربِّه ، ثم يَحجِبْه ربُّه جل جلاله عن رؤية وجهه الكريم : (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين:14-17].
9- أن الذنوب والمعاصي سبب في زوال النِّعم .
قال سبحانه وبحمده : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل:112].
قال الإمام الشافعي :
إذا كنت في نعمةٍ فارعَها فإن المعاصي تُزيلُ النّعم
وحُطها بطاعةِ ربِّ العباد فَرََبُّ العبادِ سريعُ النِّقَم(2/443)
10- ومن شؤم المعصية أنها تكون سبباً في عذاب القبر ، فقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال : أمَا إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، ثم قال : بلى ؛ أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله . رواه البخاري ومسلم
ومِنْ عقوبات المعاصي في الآخِرة :
11- عذاب المتكبّرين ، قال صلى الله عليه وسلم : يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ، يغشاهم الذّل من كل مكان ، فَيُساقُون إلى سِجن في جهنم يُسمى بولُس ، تعلوهم نار الأنيار ، يُسقون من عصارة أهل النار ، طينة الخبال . رواه أحمد والترمذي ، وهو صحيح .
12- إعراض الله وحجابه عن العاصِين ، فيا حسرة على العباد عندما يُعرِض عنهم رب العِزّة سبحانه .
قال صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة ، والديوث ، وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى . رواه أحمد والنسائي .
13- أن أهل المعاصي والكبائر خاصة يُعتبرون من أهل الجرائم ، فيُحشرون يوم القيامة سُود الوجوه .
قال عز وجل : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا) .
قال البغوي : والزُّرقة هي الخضرة في سواد العين ، فيُحشرون زرق العيون سود الوجوه ، وقيل : زُرقا : أي عميا ، وقيل : عِطاشا .
ويوم القيامة تسودّ وجوه العُصاة . قال تبارك وتعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) .(2/444)
هذا غيضٌ من فيض ، ونزرٌ يسير مِن آثار الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع ، في الدنيا والآخِرة ، لتكن على بصيرة قبل أن تُقدم على معصية الله ، وليِّ نعمتِك ، ومانحَك الصحة والعافية ، ومعافيك في بدنك ، ومؤمّنك في وطنِك ، ومسبغ عليك نِعمَه ظاهرة وباطنه .
فيا عجباً كيف يُعصى الإله أ م كيف يجحده جاحِدُ
أُخي :
اشتر نفسك اليومَ فإن السوقَ قائمةٌ ، والثمن موجود ، والبضائع رخيصة ،
وسيأتي على تلك السوق والبضائعِ يومٌ لا تَصِلِي فيها إلى قليل ولا كثير .
ذلك يوم التغابن : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا)
إذا أنت لم ترحل بزاد من التُّقى وأبصرتَ يومَ الحشرِ مَنْ قد تزوّدا
نَدِمْتَ على أن لا تكونَ كمثلِه وأنك لم تُرْصِدْ كما كان أرصدا
قام سوق الجنة والنار ، وكلٌّ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو مُوبِقُها . فاختاري لنفسك
وقبل الختام أود توضيح أمرٍ ، والإجابة على سؤال قد يطرأ ، وهو سؤال يرد أحياناً : لماذا يتنعّم الكفّار في هذه الحياة الدنيا ، ولا تُصيبُهم هذه العوبات ؟
وجواباً عليه أقول :
أولاً : لا يخفى على كلِّ ذي لبٍّ ما يُصيبَهم من كوارث وزلازل وأعاصير وفيضانات وغيرها مما هو مُشاهَدٌ وواضح .
ثانياً : أن الكفار عُجِّلتْ لهم طيّباتهم في هذه الحياة ، قال الحقّ تبارك وتعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف:20].
وصحّ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال : الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر . رواه مسلم .(2/445)
وإذا كان الأمر كذلك فإن الكفار يعيشون جنّتهم في هذه الحياة الدنيا ، وما يُصيبُهم من أمراض وكوارث وغيرها إنما هي بعض عقوباتهم ، بخلاف المسلم فإن ما يُصيبه في هذه الحياة الدنيا إنما هو كفّارة لذنوبه وتمحيصٌ له .
وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يُعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيُطعم بحسنات ماعمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها . رواه مسلم .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف:32] .
والله سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال حبة من خردل : (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [ النساء : 40] .
(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس:44] .
وما يُصيب الناس من مصائب وكوارث وأمراض إنما هو بما كسبتْ أيديهم ، وهو مؤاخذةٌ لهم ببعض ما كسبوا ، قال سبحانه : (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى:30] .
265-أطَايب الكَلام..
حُسن الحديث وطيب الكلام من الخصال الموجبة للجنة
سأل أبو شريح النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أخبرني بشيء يوجب لي الجنة . قال : طيب الكلام ، وبذل السلام ، وإطعام الطعام . رواه ابن حبان .(2/446)
وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول – أول مقدمه المدينة - : أطعموا الطعام ، وافشوا السلام ، وصِلوا الأرحام ، وصلُّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والضياء في المختارة ، واللفظ له .
ولا يكون الحج مبروراً تمام البرّ حتى يُطيب صاحبه الكلام ، ويبتعد عن بذيء الكلام والآثام
ولذا لما قال عليه الصلاة والسلام : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . قيل : وما بره ؟ قال : إطعام الطعام ، وطيب الكلام . رواه الحاكم وصححه والبيهقي في الكبرى .
ومما حَبّب الدنيا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ، خصال الخير ، أما الدنيا لِذَاتِها أو لِلَلذّاتها فليست ذات شأن عندهم .
روى ابن المبارك في كتاب الجهاد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لولا ثلاث ، لولا أن أسير في سبيل الله عز وجل أو يغبر جبيني في السجود ، أو أقاعد قوما ينتقون طيب الكلام كما يُنتقى طيب الثمر لأحببت أن أكون قد لحقت بالله عز وجل .
وروى ابن المبارك في الزهد أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال : لولا ثلاث ما أحببت البقاء : ساعة ظمأ الهواجر ، والسجود في الليل ، ومجالسة أقوام يَنتقون جيد الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر .
وفي رواية أنه قال : لولا ثلاث لأحببت أن لا أبقى في الدنيا ؛ وضعي وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار أقدمه لحياتي ، وظمأ الهواجر ، ومُقاعدة أقوام يَنتقون الكلام كما تُنتقى الفاكهة .
وفي تاريخ دمشق عن شعبة قال : سمعت حميد الأوزاعي قال : قال رجل من رهط أبي الدرداء :
ولولا ثلاث هن من حاجة الفتى = أجدك لم أحفل إذا قام رامسي(2/447)
قال أبو الدرداء : لكني لا أقول كما قال ، لولا ثلاث ما باليت متى متّ : لولا أن أسير غازيا في سبيل الله ، أو أعفر وجهي في التراب ، ولولا أن أقاعد قوما يلتقطون طيب الكلام كما يُلتقط طيب التمر ، ما باليت متى متّ .
وذكر الجاحظ في البيان والتبيين بعض الآثار عن فضل طيب الكلام فقال :
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : نِعمت الهدية الكلمة من الحكمة يحفظها الرجل حتى يلقيها إلى أخيه .
وكان يُقال : اجعل ما في الكتب بيت مال ، وما في قلبك للنفقة .
وكان يُقال : يَكتب الرجل أحسن ما سمع ، ويحفظ أحسن ما كتب .
وقال أعرابي : حرف في قلبك خير من عشرة في طومارك .
وقال عمر بن عبد العزيز : ما قُرن شيء بشيء أفضل من علم إلى حلم ، ومن عفو إلى قدرة .
وكان ميمون بن سياه إذا جلس إلى قوم قال : إنا قوم منقطع بنا فحدثونا أحاديث نتجمل بها .
وفخر سليم مولى زياد بزياد عند معاوية ، فقال معاوية : أسكت فو الله ما أدرك صاحبك شيئا بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني .
وضرب الحجاج أعناق أسرى فلما قَدّموا إليه رجلا ليضرب عنقه قال : والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو ، فقال الحجاج : أف لهذه الجيف أما كان فيها أحد يحسن مثل هذا ؟ وأمْسَكَ عن القتل .
وقدموا رجلا من الخوارج إلى عبد الملك لتضرب عنقه ودخل على عبد الملك ابن صغير له قد ضربه المعلم وهو يبكي فهمّ عبد الملك بالمعلم فقال : دعه يبكي فانه أفتح لجرمه وأصح لبصره وأذهب لصوته ، فقال له عبد الملك : أما يشغلك ما أنت فيه عن هذا ؟! قال : ما ينبغي للمسلم أن يشغله عن قول الحق شيء ، فأَمَرَ بتخلية سبيله . انتهى ما ذكره الجاحظ . اهـ .
وسُئل الأوزاعي : ما إكرام الضيف ؟
قال : طلاقة الوجه ، وطيب الكلام .
وإني لطلق الوجه للمبتغي القِرى = وإن فنائي للقرى لرحيب
أضاحك ضيفي عند إنزال رحله = فيخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يُكثر القِرى = ولكنما وجه الكريم خصيب(2/448)
وقد جعل ابن القيم رحمه الله طيب الكلام وانتقاءه من الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها
فعدّ من تلك الأسباب :
مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر . اهـ .
وختاماً :
هل أنت ممن ينتقي الكلام أم تُطلق لِلسانك العنان ؟
266-إِسلام الجوارِح..
الإسلام ليس كلمة تُقال باللسان فحسب ، بل هو اعتقاد وقول وعمل .
فإذا صدق المسلم في إسلامه وتوجهه إلى الله أسلمت جوارحه .
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده . رواه البخاري ومسلم .
وهذا من أفضل الناس منزلة .
بدليل ما جاء في رواية مسلم : أي المسلمين خير ؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده .
والأعضاء بمثابة الرعية التي تتبع الملِك
فالقلب هو ملك الجوارح ، فإذا أسلم وصدق في توجهه إلى الله أذعنت الجوارح وانقادت لله .
قال عليه الصلاة والسلام : ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب . رواه البخاري ومسلم .
ومن معاني إسلام الجوارح خضوعها لله عز وجل
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال : اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ، ومخي وعظمي وعصبي ، وإذا رفع قال : اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ، وإذا سجد قال : اللهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره . تبارك الله أحسن الخالقين . رواه مسلم .
ومن هذا المعنى ما يُقال في سجود التلاوة
" سجد وجهي للذي خلقه ، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
فلا بُد لمن صدق في إسلامه أن تنقاد جوارحه لله عز وجل .
قال سفيان بن عبد الله الثقفي : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك . قال : قل آمنت بالله فاستقم . رواه مسلم .(2/449)
قال القاضي عياض رحمه الله : هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، وهو مطابق لقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) أي وحّدوا الله وآمنوا به ثم استقاموا ، فلم يحيدوا عن التوحيد ، والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن توفّوا على ذلك . اهـ
فلا يكفي مُجرّد القول بل لابُد من العمل ، والاستقامة على الطريق القويم ، جسداً وروحاً ، وقلباً وقالباً .
يستقيم حتى في تعامله ومعاملاته .
يستقيم في قوله وفعله .
ليحصل التوافق والتطابق بين القول والفعل .
فإن المنافق هو الذي يتعارض قوله مع فعله ، ولذا فـ ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )
تتناقض ظواهرهم مع بواطنهم ، وإن قالوا ما قالوا بألسنتهم .
ولذا قال سبحانه : ( إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ )
وجاء في وصف ألسنتهم على وجه الخصوص ( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا )
إذا أسلم العبد وانقاد لله عز وجل واستسلم على الحقيقة صار سمعه وبصره لله ، فإن نظر نظر فيما أحل الله ، وإن استمع ففيما أحل الله .
وإذا أسلم وصدق في إسلامه أسلمت يده ورجله لله ، فإن بطش فـ لله ، وإن مشى فـ لله .
ولذا قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي :
وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه .
فماذا يُقابل تلك المحبة الربانيّة ؟(2/450)
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يُبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها .
ثم ماذا له من موعود الله عز وجل ؟
وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه . رواه البخاري .
هذا هو الذي أسلمت جوارحه لله ، فأحبه الله ، إن سأل فسؤاله مسموع ، وإن استعاذ أعاذه مولاه .
فسمعه وبصره لله ، ويده ورجله لله .
فلا يستمع إلا ما يُرضي ربّه .
ولا ينظر إلا فيما أحل الله له .
ولا يبطش ولا يضرب إلا لله .
ولذا قالت عائشة رضي الله عنها : ما ضَرَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله ، فينتقم لله عز وجل . رواه مسلم .
ولا يمشي إلا لله ، فلا تحمله رجلاه إلى فاحشة ولا إلى مكان تُنتهك فيه محارم الله عز وجل .
ولذا عُد من الفخر قول معن بن أوس :
لعمرك ما أهديت كفي لريبة = ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها = ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة = من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
ولست بماش ما حييت لمنكر = من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
وإذا أسلمت الجوارح والأعضاء لله عز وجل سلِمت من زنا الجوارح
ذلكم الزنا الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام : إن الله كتب على بن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ؛ فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنّى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه . رواه البخاري ومسلم .
فهل أسلمت جوارحنا لله ؟
هل سلم الناس من ألسنتنا ؟
هل سلم الأقربون - قبل غيرهم – من ألسنتنا ؟
فلم نغتب
ولم نَنِمّ
ولم نبهت
ولم نكذب
ولم نقل بقول الزور
ولا بشهادة الزور
ولا بالإفك نطقنا
ولا بالحلف الكاذب أكلنا
ولا إلى الشر سعينا
ولا بالأيادي ضاربنا وضربنا !
أيها الكرام :(2/451)
إن اللسان أخطر جارحة ، فإذا أسلم اللسان سلِم منه صاحبه قبل غيره
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : الفم والفرج . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
ومن حفظ جوارحه فقد ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة .
قال عليه الصلاة والسلام : من يضمن لي ما بين لحييه ، وما بين رجليه ، أضمن له الجنة . رواه البخاري .
وقال عليه الصلاة والسلام : اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا ائتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم .
وعن أبي قراد السلمي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا بطهور ، فغمس يده فيه ، ثم توضأ فتتبعناه فحسوناه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حملكم على ما صنعتم ؟ قلنا : حب الله ورسوله . قال : فإن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله ، فأدوا إذا ائتمنتم ، واصدقوا إذا حدّثتم ، وأحسنوا جوار من جاوركم . رواه الطبراني في الأوسط وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ، وهو في صحيح الجامع .
إن اللسان هو أكثر ما يُذهب الحسنات .
ولذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال : أتدرون ما المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ؛ فيُعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيَتْ حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم ، فطرحت عليه ، ثم طرح في النار . رواه مسلم .
أرأيتم كيف ذهبت حسناته التي تعب في جمعها في الدنيا ؟
لقد ذهبت عن طريق لسانه ويده !
ما أسلم لسانه ولا أسلمت يده .
ما سلم المسلمون من لسانه ويده .
تأمل خطايا هاتين الجارحتين :
شتم هذا ، وقذف هذا ... من آفات اللسان .(2/452)
وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ... من آفات اليد .
فهل أسلمت جوارح من كان كذلك ؟
ثم تأملوا حال تلك الصوّامة القوّامة المتصدّقة التي تفعل الخير .
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانة تصوم النهار ، وتقوم الليل ، وتفعل ، وتصّدق ، وتؤذي جيرانها بلسانها . فقال : لا خير فيها ، هي في النار . قيل : فإن فلانة تُصلي المكتوبة ، وتصوم رمضان ، وتتصدق بأثوار من أقط ، ولا تؤذي أحدا بلسانها . قال : هي في الجنة . رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد .
أرأيتم كيف ذهبت حسنات تلك الصوّامة القوّامة المتصدّقة التي تفعل الخير ، لقد أذهبها اللسان وحده !
فلا هي سلمت من تبعات وخطورة لسانها ، ولا سلم أقرب الناس إليها من لسانها .
فإذا أسلمنا فلتسلم منا الجوارح
ولتنقاد ولتذعن لخالقها وباريها ، مُعلنة أنها أسلمت لله رب العالمين .
267-تَحرِيم أذيّة المُصلين ..!!
هناك بعض التصرفات التي تصدر ممن يعتادون المساجد فيها أذىً لإخوانهم المصلّين أحببت التنبيه على شيء منها ، ومنها :
1. الروائح الكريهة :
كروائح الثوم والبصل والكراث
قال عمر بن الخطاب – في خطبته – : ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم ، لقد رأيت رسول الله إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمَرَ به فأُخرِجَ إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً . رواه مسلم .
وقال جابر بن عبدالله : نهى رسول الله عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها ، فقال : « من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تأذى مما يتأذى منه الإنس » رواه مسلم .(2/453)
فقوله : فَغَلَبَتْنا الحاجة : أي الجوع والفقر . وفي حديث أبي سعيد – الذي رواه مسلم أيضا – قال : لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا في هذه البقلة والناس جياع ، فأكلنا منها أكلا شديدا ، ثم رحنا إلى المسجد فَوَجَدَ رسول الله الريح فقال : من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنا في المسجد .فتبيّن بهذا أنهم لم يأكلوها إلا من حاجة وفاقة وجوع ، لا أنها عذر في التّخلّف عن الجماعة كما يظنّه بعض الناس ، بل كان من يأكلها يُطرد من المسجد كما كان المنافق يُمنع من الخروج للجهاد ، فهذا من العقوبات لمرتكبي المخالفات ، وكلٌّ بحسبه .
ويتّفق العقلاء على أن روائح الدخان أخبث من روائح البصل والثوم ، مع أن البصل والثوم فيهما فائدة ، والدخان مُضرّ بل فيه أضرار جسيمة يُدركها المدخّنون قبل غيرهم .
ومن الروائح المؤذية للمصلين روائح الجوارب التي طال لبسها .
فتجنّب أخي المسلم أذيّة إخوانك المسلمين بأي رائحة كريهة ، وليعلم المسيء بروائحه أنه يؤذي حتى الملائكة
ومِنْ الروائح المؤذية : روائح العَرَق ، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق ، فيخرج منهم العرق ، فأتى رسولَ الله إنسانٌ منهم – وهو عندي – فقال النبي : « لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا » .
وقالت رضي الله عنها: كان الناس مَهَنَةَ أنفسِهم ، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم ، فقيل لهم : لو اغتسلتم رواه البخاري .
2. الأصوات غير المرغوبة :
أ - الجوّالات(2/454)
وأسوأ ما يُصنع فيها ما أُدخِل عليها من نغمات موسيقية ، وربما كانت ألحانا لبعض الأغاني . فيا مسلمون ألم يَبقَ غير الموسيقى ندخلها مساجدنا ؟ ألا فليتّق الله من يفعل ذلك ، وليُغلق جهاز الجوال قبل الدخول في الصلاة ، أوْ لا يُحضره أصلاً فإن المساجد لم تُعمر لذلك حتى لا ينشغل ويُشغل غيره . وصَلِّ صلاة مودّع ، ورأيت بعضهم يرد على الجوال فور انتهاء الصلاة .
ولست أدري كيف تحضر قلوب هؤلاء أثناء الصلاة وأحدهم مشغول البال بأجهزته المحمولة ؟ وقد قال رسول الله : « لا صلاة بحضرة الطعام ، ولا هو يدافعه الأخبثان » . رواه مسلم .
ولست أدري مرة أخرى لماذا يُحضر الجوّال في صلاة الجمعة والكسوف ؟ وأي ضرورة تدعو إلى حمله في تلك المواطن .
ب - أصوات تنظيف الأنف !!
بعض المصلّين بمجرّد أن يُسلّم من الصلاة يُقرّب علبة المناديل ويتناول منديلاً أو أكثر ثم يبدأ بعصر أنفه وتنظيفه مصدِراً أصواتاً تتقزّز منها نفوس المصلّين ، وربما أدّى ذلك إلى خروج بعض المصلين ممن كان ينوي البقاء في المسجد ليذكر الله أو يقرأ القرآن ، فيتسبب ذلك الذي يُنظّف أنفه بصوتٍ عالٍ – ربما – في الصّدّ عن سبيل الله من حيث لا يشعر .
أما علم هؤلاء أن تنظيف الأنف له أماكن خاصة ، ومحله من الوضوء قبل أو بعد غسل الوجه على روايتين ، والذي عبّر عنه الرسول بـ ( الاستنثار ) وقال ( فلينتثر ) أي يجعل الماء في انفه عند الوضوء ويدفعه بالهواء ، ويكون ذلك في دورات المياه حتى يأتي إلى لمسجد نظيفاً متطهراً ، ثم إذا حدث شيء وأراد أن ينظّف أنفه فليخرج من المسجد ويُنظّف أنفه ولا يؤذي المصلين ولا يكون شافعاً له أن يستتر بطرف ثوبه ما دام أنه سيُصدر أصواتاً مرفوضة ، وبعض المصلين يُخفي وجهه ثم يعزف (سمفونية) أنفه ، ويُعقبها بـ ( أخٍ ثم تُفّ ! ) وهذا يتكرر منه بعد كل صلاة ، والأدهى من ذلك أنه يُسمع كل من كان في المسجد .(2/455)
ولو قُدِّرَ أن هذا فعله أحد في بيت مسؤول من المسؤولين لَعُدّ هذا من سوء الأدب في مجالس الأكابر ، فكيف وهو في بيت من بيوت الله ، ويُسيء الأدب مع الله ؟
وقد سمع النبي يوماً أصحابه وهم يرفعون أصواتهم بالقرآن فقال : « ألا إن كلكم يناجي ربه ، فلا يؤذي بعضكم بعضا ، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة » رواه الإمام مالك في الموطأ والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ورواه غيرهما ، وهو حديث صحيح .
إذا كان هذا في قراءة القرآن الذي هو قُربة إلى الله تعالى فكيف بغيره من الأصوات التي تؤذي المسلمين ؟ وربما كانت سبباً في الصدّ عن سبيل الله .
ومثال ذلك : أن ينوي مصلٍّ أن يقعد في مصلاّه بعد صلاة الفجر ويذكر الله حتى تطلع الشمس طلوعاً حَسَنَاً ومن ثم يُصلّي ركعتين ، فما يفجأه إلا تلك الأصوات وقد تعالت ، فيُصاب بالاشمئزاز والنفور وربما خَرَجَ من المسجد ، فأخشى أن يأثم من يفعل ذلك .
ويُصرّ بعض المُصلِّين أن يُسمع الناس إذا تمخّط أو نظّف أنفه ، كأن يكون يُريد الخروج من المسجد مُتّجهاً إلى الباب وقبل الباب يقف ويُنظّف أنفه متمخّطاً بصوت يسمعه كل من في المسجد . ألا يستطيع أن ينتظر لحظة حتى يخرج ؟!
ت - أصوات التّجشؤ :
وهو ما يُسمّى بـ ( التّغار أو التّراع ) وهو صوت يُخرجه الشبعان ، مصحوباً بروائح ما في المعدة .
وقد تجشّأ رجل عند النبي فقال له : كُفّ عنّا جُشاءك ، فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة . رواه الترمذي وغيره .
3. اصطحاب الأطفال دون سنّ السابعة :
قال رسول الله : « مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر » .
قال بعض العلماء : لا يؤمرون إلا إذا بلغوا سبع سنين كاملة . أي دخلوا في الثامنة ، ولا يمنع تعليمهم الصلاة في البيوت قبل ذلك حتى إذا حضروا للمساجد وإذا هم يُحسنون الوقوف في الصفّ والتأدّب بآداب المساجد .(2/456)
وبعض الناس يستدل بما وقع من دخول الحسن والحسين المسجد وهما صبيّان صغيران أو دخول ابنة بنته - أمامة بنت أبي العاص - ، ومن عجيب ما سمعت أن يَعُدّه بعضهم سنة ، فيأتي بصبيانه لأشرف البقاع فيؤذون المصلين حتى في الحرمين ، وبعضهم أحضر صبياً غير مميز فبال في المسجد ، ثم زاد الطين بِلّة بأن استدلّ بفعل رسول الله .
فالجواب على هذا من وجهين :
أولاً : أن هذا وقع اّتفاقاً ، ولم يُحضرهما النبي إلى المسجد ابتداءً . وما وقع اتّفاقاً ليس مما يُتّخذ سنة ، كنزوله تحت شجرة أو صلاته في مكان على طريق سفره ، ولذا أمَرَ عمر بن الخطاب بقطع الشجرة التي بايع النبي أصحابه تحتها .
روى ابن أبي شيبة عن نافع قال : بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها . قال : فأمر بها فَقُطِعَتْ .
ويدل هذا على أن ما وقع اتّفاقاً منه ليس محل استدلال ولا تعبّد ، بخلاف ما وقع تعبّداً أو أمَرَ به أو فَعَلَه ابتداءً .
وثانياً : أن ذلك إنما حصل مرة واحدة ، ولم يكن شأنه وديدنه كحال بعض الآباء الذي كلما خَرَجَ جاءته الأوامر باصطحاب الطفل للمسجد لا يُشغلنا بالصياح ! وكأن المسجد دار حضانة !
والصغير غير المميّز يقطع الصف ، ويأثم من يأتي به إلى المسجد ، لما يتسبب في وجود فرجة في الصف ، ولما يُسببه كثير من الأطفال من إزعاج للمصلين ، وربما تسبب في إشغال مُصلٍّ أو أذهب عنه الخشوع .
وقد رأيت من يأتي بصبيانه دون سنّ السابعة وقد أُلبِسُوا ما يُبدي الفخذ !
أين تعظيم شعائر الله ؟ ، وأين تربية الناشئة على تعظيم بيوت الله ؟
(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) [الحج:32].
268-إِطلالَة القَاطِع !!
الأخ الفاضل ( القاطع 266 ) أخ فاضل أحسبه والله حسيبه
اغتبته قبل أن أراه !
فقد كنا في مجلس الأخ الفاضل الكريم : ولد السيح – حفظه الله – وكان ذلك أول لقاء لي بإخواني المشكاتيين الأفاضل(2/457)
فقال مُضيّفنا : الأخ القاطع يعتذر لارتباطه ببعض حاجات أمّه .
فقلت : له من اسمه نصيب !
وكنت قلتها على سبيل الدعابة
ولكني أحسست بعدها أنني ذكرته بسوء ما كان ينبغي لي أن أذكره به
خاصة وأني لم أره من قبل ولا أعرفه معرفة جيدة آنذاك
فأرسلت له رسالة خاصة عبر مشكاة الخير
وإذا بي أُفاجأ بعد أيام باتصال هاتفي وصوت غير معروف ولكنه قريب للقلب
فسلّم سلام من يعرفني منذ زمن !
ثم أردف قائلا : لن تعرفني !
تساءلت في نفسي : كيف ولماذا ؟
قطع علي السؤال وكانت المفاجأة إذ قال : أنا القاطع
تصببت عرقا ! وخجلت أن يكون هو الذي يُهاتفني
عندها ووقتها تلاقت أرواحنا قبل أن تتلاقى أجسادنا
والأرواح جنود مُجنّدة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف . كما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام .
وتوالت الاتصالات بيننا من غير أن يرى أحدنا صاحبه
ثم قدّر الله ويسر أن نلتقي
عندها علمت أن المرء بأصغريه – قلبه ولسانه –
لا أريد أن أقطع عنق صاحبي !
ولكن في شهر جمادى الآخرة من عام 1424 هـ التقيت أخي القاطع في أطهر وأشرف وأعظم بقعة ، في المسجد الحرام
وقد حدثني أنه أطلّ على الناس وهم في طوافهم حول البيت وقد ازدحم البيت بالطواف
قال : فعجز ذهني عن تصور حاجاتهم ومسائلهم
كيف باجتماع الخلائق جميعا في مكان واحد وصعيد واحد يوم القيامة ؟
فأخبرته أنني زرعت مرة شجرة عند باب بيتي فتعبت من تعاهدها وسقياها ثم ماتت !
وهي شجرة واحدة
فكيف لو وُكِل إلينا رزق بعض الخلق أو الإنفاق عليهم ؟
والله جل جلاله في عليائه يُعطي ويمنع
يخفض ويرفع
يُعزّ ويُذلّ
يُميت ويُحيي
يشفي ويُعافي
( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )
فـ ( سبحان من وسع سمعه الأصوات )
سبحان من لا تشتبه عليه الأصوات ، ولا تختلف عليه اللغات
سبحان من قسم الأرزاق والهبات بين خلقه(2/458)
( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ؟
سبحان من لا تُواري منه سماء سماء ، ولا أرض أرضا
سبحان من يعلم مثاقيل الجبال ومقادير البحار وعدد قطر الأمطار
سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك
( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )
يا رب
وقف السائلون ببابك يرجون من جودك ونوالك
فجُد علينا وعليهم ربنا ولا تطردنا عن جنابك
269-أربَعَة عُلمَاء في مَأزَق..!!
هم :
محمد
و
محمد
و
محمد
و
محمد
=========
أربعة من العلماء العاملين
وكعادة العلماء الربانيين
يعيشون فقراء
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف
لا يستجدون الناس شيئاً
ولو جاعت بطونهم
أو عريت أجسادهم
==========
إليكم قصتهم
كما رواها الخطيب البغدادي عن أبي العباس البكري قال :
جمعت الرحلة بين :
محمد بن جرير
ومحمد بن إسحاق بن خزيمة
ومحمد بن نصر المروزي
ومحمد بن هارون الروياني
جمعت بينهم الرحلة بمصر ، فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم ، وأضر بهم الجوع ، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه ، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة ، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام !
فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة
فقال لأصحابه : أمهلوني حتى أتوضأ ، وأصلي صلاة الخِيَرَة
قال فاندفع في الصلاة
فإذا هم بالشموع ، وخصيٌ من قبل والي مصر يدق الباب
ففتحوا الباب فنزل عن دابته
فقال : أيكم محمد بن نصر ؟
فقيل : هو هذا .
فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه
ثم قال : أيكم محمد بن جرير ؟
فقالوا : هو ذا .(2/459)
فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه
ثم قال : أيكم محمد بن هارون ؟
فقالوا : هو ذا .
فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه
ثم قال : أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة ؟
فقال : هو ذا يصلي ، فلما فرغ دفع إليه الصرة ، وفيها خمسون دينارا .
ثم قال : إن الأمير كان قائلا بالأمس ، فرأى في المنام خيالاً . قال : إن المحاميد طووا كشحهم جياعا ، فأنفَذَ إليكم هذه الصرار .
وأقسَمَ عليكم إذا نفدت فابعثوا إلي أمدُّكم .
فهذه نماذج لدعوات من صدقوا مع الله فصدقهم الله .
وها نحن في استقبال هذه العشر المباركة ، فيها ليلة عظيمة القدر عند الله
فهل نستقبلها بأعمال صالحة ودعوات صادقة ؟؟
ولعل دعوة صادقة سَرَت في جوف الليل
زُفّت بزفرة حرّى يرفعها الله فوق الغمام
يكشف بسبببها ما بالأمة من هوان ومذلّة
ويكشف ما بنا من عجز وضعف وخور
=======
هؤلاء العلماء الفضلاء هم :
محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ [ المشهور بـ ( ابن جرير ) ]
ومحمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح ( صحيح ابن خزيمة ) ، وصاحب كتاب التوحيد .
ومحمد بن نصر المروزي صاحب كتاب تعظيم قدر الصلاة ، وكتاب قيام الليل .
ومحمد بن هارون الروياني صاحب المسند ( مسند الروياني ) .
=====
معاني كلمات :
أرملوا : نفد طعامهم وزادهم .
يستهموا : يقترعوا ، أي يُجروا القرعة بينهم .
طوو كشحهم : أي باتت بطونهم خاوية .
270-بَيتُ العصفُور..
سبحان من صنع فأتقن
وتبارك من خلق فأحسن
فإن ربي لما ذكر بعض بديع صنعه قال : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ )
ثم قال :
( هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )(2/460)
ولما ذكر الجبال الرواسي
( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ )
ولما ذكر خلق الإنسان قال : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ )
ولما ذكر سبحانه وتعالى الطير قال : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ )
وقال عنها تبارك وتعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ )
أفلا يُبصرون خلقنا ؟
أفلا يتدبّرون بديع صُنعنا ؟
ولما خلق ربي خَلْقه لم يتركهم سُدى ، ولم يدعهم هَمَلا
بل ( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )
فأعطى كل مخلوق ما تقوم به حياته
وألهم كلّ مخلوق ما يقف أمامه العقل حائراً من دقة تصرّفه وعجيب صُنعه
وقبل أيام أردت أن أنزع عُشّاً مهجوراً لطائر صغير يُسمّى " العصفور "
ذلكم الطائر لا يتعدّى حجمه قبضة اليد
بل لو قبضت عليه بكفِّك لاستطعت إخفاءه عن الأنظار
إلا أن الملفت للنظر كِبَر حجم ذلك العشّ الذي أخرجتُه من الشُّبّاك ، فيتراوح وزن العشّ ما بين 3 – 5 كيلو في شبّاك قد لا يتجاوز الذِّراع طولاً وعرضا !
لقد جمعه طائر صغير ورفعه لشُبّاك نافذة تقع في الطابق الثاني !
فأكبرتُ همّة ذلك الطائر
لقد جمع الطائر غُصنا إلى غُصن
واختار الأغصان الخفيفة الرقيقة
واختار من الأغصان ما يكون دافئا شتاءً ، بارداً صيفاً
ليّنا على بيضه وفراخه !
لو كُلّفت بجمع مثل ذلك العشّ لاعتبرت ذلك من المشقّة
ولو كُلّفت ببناء العشّ كما بناه ذلك الطائر لشقّ ذلك عليّ
فقل للجاحد من ألهم هذا الطائر ؟
وقل للمعاند من علّم هذا البهيم ؟
وقل للمكابِر من أمدّه بالقوّة ؟
وقل للخائر أي همة تلك التي كانت لدى العصفور ؟(2/461)
وسائِل ضعيف العزم أي توكّل يتوكّله ذلكم الطائر ؟
" لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ؛ تغدو خماصا ، وتروح بطانا "
في يوم من الأيام استلقيت على ظهري بعد صلاة الفجر ثم أخذت أتأمل في غدو الطير
تغدو جميعا تبحث عن لقمة عيشها
ليس فيها مُتكاسل أو لا محلّ للمتكاسل بينها
تغدو زرافات ووحدانا
ليس لها إجازة
وليس عندها أعذار
بل الكل يُحب البِدار !
تغدو في صبيحة كل يوم
وتروح في عشية كل يوم
تغدو وتنطلق أول النهار وهي جائعة
وتعود آخر النهار وهي شبعانة
تبذل من المجهود كما بين طرفي النهار
لا تعرف الكسل
ولا يعرفها الملل
فسبحان مَنْ ( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )
271-بَيانٌ من المَلك ...حَول....!
البيان الأول : حول منفذي الأحداث
..
..
..
..
..
والبيان الثاني : حول نتائج الأحداث والعاقبة
..
..
..
..
..
..
..
..
بيان من الملك القدُّوس
..
..
البيان الأول : عن اليهود ...
قال سبحانه وتعالى : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين )
..
..
.. والبيان الثاني : حول نتائج الأحداث وإفرازاته وإعلان الهزيمة المبكرة
قال سبحانه وتعالى : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون )
أما لماذا ؟
فـ ( ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون )
فلا بد من التمايز بين الفريقين
ليظهر أولياء الرحمن وينكشف أولياء الشيطان
( وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب )
( لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما )
لو تزيّلوا : لو تمايز الكفار عن المؤمنين لأنزل الله العذاب الأليم على الكفار .(2/462)
هلا تأملنا كتاب ربنا فنظر بعين البصيرة إلى الأحداث من خلال نصوص الوحيين .
ولعل التاريخ يُعيد نفسه
تأمل :
لما نصر الله المسلمين في فِحْلٍ وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بأنطاكية دعا رجالا منهم فأدخلهم عليه .
فقال : حدثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم ! أليسوا بشرا مثلكم ؟
قالوا : بلى .
قال فأنتم أكثر أو هم ؟
قالوا : بل نحن
قال : فما بالكم ؟
فسكتوا ، فقام شيخ منهم ، وقال : أنا أخبرك أنهم إذا حملوا صبروا ، ولم يكذبوا ، وإذا حملنا لم نصبر ، ونكذب ، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويتناصفون بينهم ، ويرون أن قتلاهم في الجنة وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر .
ومن أجل أنا نشرب الخمر ، ونزنى ونركب الحرام ، وننقض العهد ونغصب ونظلم ، ونأمر بالسخط وننهى عما يرضى الله ، ونفسد في الأرض .
فقال : يا شيخ لقد صدقتني .
ولأخرجن من هذه القرية ، وما لي في صحبتكم من حاجة ، ولا في قتال القوم من أرب .
فقال ذلك الشيخ : أنشدك الله أن لا تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر .
فقال : قد قاتلتم بأجنادين ودمشق وفِحلٍ وحمص كل ذلك تفرون ولا تصلحون .
فقال الشيخ : أتفر وحولك من الروم عدد النجوم ! وأي عذر لك عند النصرانية ، فثناه ذلك إلى المقام ، وأرسل إلى رومية وقسطنطينية وأرمينية وجميع الجيوش
فقال لهم : يا معشر الروم إن العرب إذا ظهروا على سورية لم يرضوا حتى يتملكوا أقصى بلادكم ويسبوا أولادكم ونساءكم ويتخذوا أبناء الملوك عبيدا فامنعوا حريمكم وسلطانكم
وأرسلهم نحو المسلمين ، فكانت وقعة اليرموك ، وأقام قيصر بأنطاكية فلما هزم الروم وجاءه الخبر وبلغه أن المسلمين قد بلغوا قنسرين فخرج يريد القسطنطينية وصعد على نشز وأشرف على أرض الروم
وقال : سلام عليك يا سورية ! سلام مودع لا يرجو أن يرجع إليك أبدا(2/463)
ثم قال: ويحك أرضا ! ما أنفعك أرضا ! ما أنفعك لعدوك لكثرة ما فيك من العشب والخصب، ثم إنه مضى إلى القسطنطينية .
272-مَاذَا لو قيلَ لك : هَذا النَاكِح أمه ؟
يستعظم كثير من الناس أموراً عظيمة ، ويستشنع آخرون أشياء شنيعة .
فلو قيل لبعض الناس : فلان نكَحَ أمه
لاستشنعوا ذلك واستعظموه ، وهو كذلك .
لكن لو قيل لهم : إن فلاناً يتعامل بالربا
لما تعاظموا ذلك ، ولربما أصبح المرابي جليسهم وأنيسهم .
ولا مانع عندهم من تزويجه
والتعامل بالربا أعظم من أن ينكح الرجل أمه .
والمرابي أشد مما لو وقع الشخص على أمّه
قال عليه الصلاة والسلام : أهون الربا كالذي ينكح أمه ، وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه . صحيح الجامع الصغير للألباني
وقال عليه الصلاة والسلام : الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه . صحيح الجامع الصغير للألباني .
وقال عليه الصلاة والسلام : درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية . رواه الإمام أحمد وغيره ، وصححه الألباني .
فإذا كان هذا أهون الربا
وإذا كان هذا في درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم
فما بالكم بأعظم الربا ؟
وما ظنكم بمن يأكل الآلاف بل يتجرّع ملايين الدراهم والدنانير من ربا صريح ؟
لا شك أن هذا أعظم وأشنع
غير أن كثرة المساس تُذهب الإحساس
فلما تعامل به الناس ، واستمرءوه خف ذلك في موازينهم .
كما أن هذا أهون الربا ... والربا وأربى وأعظم الربا استطالة المرء في عرض أخيه ... إما بقذفٍ وهو أعظم الاستطالة ، وإما باالغيبة والنميمة ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا . متفق عليه .
فهذا يُبيّن عِظَم حُرمة هذه الأشياء ، وأنها كحرمة يوم النحر في بلد الله الحرام مكة المكرمة في شهرٍ محرم ، وهو شهر ذي الحجة .
ولو قيل لبعض الناس : فلان فعل بأمه الفاحشة أو وقع على محارمه(2/464)
لاستعظموا ذلك ، وهو ورب الكعبة عظيم شنيع .
لكن لو قيل لهم :
فلان يذهب للسحرة ...
أو فلان يتعلّم السحر ...
أو فلانة ذهبت للساحرة لتُحبّب زوجها إليها ...
أو فلان يطوف بالقبور ويدعو الأموات ...
أو فلان يقع في الشرك ، ولديه شركيات ...
لما كان ذلك مستعظما !!
ولا شك أن المعصية والكبيرة مهما عظمت فإنها لا تبلغ حدّ الشرك ما لم يستحلّها فاعلها .
وصاحب الكبيرة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه .
غير أن تعلّم السحر أو الذهاب إلى السحرة والرضا بما هم عليه كفرٌ بواح بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
قال عليه الصلاة والسلام :
من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
ومن طاف بالقبور أو دعا الأموات فقد أحيا شريعة فرعون هذه الأمة أبي جهل
وأقام دين عمرو بن لحي الخزاعي ، الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعائه في النار .
ومن مات على الشرك فهو خالد مخلدٌ في النار .
( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ )
(إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء )
فهذا أعظم وأبشع وأشنع .
فالشرك أقبح القبائح وأعظم الذنوب .
فماذا لو قيل لك : هذا الناكح أُمّه ؟
هل كنت تُطيق النظر إليه ؟؟؟
أدع لك الجواب !
وثم ميزان مقلوب أو موازين مقلوبة ومختلة ...
غير أني أخشى الإطالة ، ولعلي أكتب عنها لاحقا .
273-اهتَم بِمفَاتِيح بيتك..!!
هل رأيتم عاقلا يُهمل مفاتيح بيته ؟
إنه إن أهملها فلن يستطيع أن يفتح باب بيته
وإن أهملها ربما وقع في ضيق وحرج أحوج ما يكون إليها
وإن لم يتعاهدها ربما صدئت ، وربما انكسرت أو تلِفَتْ
إذا لا بُدّ من العناية بالمفاتيح
ولا أريد هنا مفاتيح بيتك في هذه الدنيا
بل مفاتيح بيتك الذي في موطنك الأصلي(2/465)
فحيّ على جنات عدن فإنها *** منازلك الأُولى وفيها المخيم
ولكننا سَبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلّم ؟
الجنة هي موطنك الأصلي لولا سعي العدو لإخراجك منها .
وتلك الدار لا تُفتح إلا بمفتاح قد تعاهده صاحبه واهتم به
قيل لوهب بن منبه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟
قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلاّ له أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك ، وإلا لم يُفتح لك . رواه البخاري تعليقا .
وذكر أبو نعيم الأصفهاني في كتابه " أحوال الموحدين " : أن أسنان هذا المفتاح هي الطاعات الواجبة من القيام بطاعة الله تعالى وتأديتها ، والمفارقة لمعاصي الله تعالى ومجانبتها . ذكره العيني في عمدة القارئ .
فاحرص على تعاهد أسنان هذا المفتاح
وكلمة التوحيد " لا إله إلا الله " لها شروط وأركان
أما أركانها : فـ
نفي
وإثبات
نفي لجميع المعبودات من دون الله
وإثبات لوحدانية الله جل جلاله
وأما شروطها فذكرها الشيخ حافظ حكمي رحمه الله بقوله :
مَن قالها معتقداً معناها *** وكان عاملا بمقتضاها
في القول والفعل ومات مؤمنا *** يُبعث يوم الحشر ناج آمنا
فإن معناها الذي عليهِ *** دَلّتْ يقينا وهَدَتْ إليهِ
أن ليس بالحق إلهٌ يعبدُ *** إلا الإلهُ الواحدُ المنفردُ
بالخلق والرزق وبالتدبيرِ *** جلّ عن الشريك والنظيرِ
وبشروط سبعةٍ قد قُيِّدَتْ *** وفي نصوص الوحي حقا وردت
فإنه لم ينتفع قائلُها *** بالنطق إلا حيث يستكملها
العلم واليقين والقبولُ *** والانقيادُ فادْرِ ما أقولُ
والصدق والإخلاص والمحبهْ *** وفقك الله لما أحبّه
العلم واليقين والقبولُ *** والانقيادُ فادْرِ ما أقولُ
والصدق والإخلاص والمحبهْ *** وفقك الله لما أحبّه
فـ
العِلم
واليقين
والقبول
والانقياد
والصدق
والإخلاص
والمحبة
أسنان مفتاح الجنة .
فإياك أن تثلم منها شيئا .
274-انتَصِر ثُمَّ اكسَب (2500)..في ثلاثِ دَقائِق !!
المسألة تحتاج إلى صبر
فالنصر مرهون بالصبر(2/466)
والنصر صبر ساعة
إذاً إذا كنتم تُريدون الفوز فما عليكم سوى الصبر
ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
خصلتان - أو خلتان - لا يحافظ عليهما رجل مسلم إلا دخل الجنة ، هما يسير ومن يعمل بهما قليل .
يُسبحُ في دبر كل صلاة عشرا .
ويحمد الله عشرا .
ويُكبر الله عشرا .
فذلك مائة وخمسون باللسان ، وألف وخمسمائة في الميزان .
ويُكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه .
ويحمد ثلاثا وثلاثين .
ويُسبح ثلاثا وثلاثين .
فذلك مائة باللسان ، وألف في الميزان .
فأيكم يعمل في اليوم ألفين وخمسمائة سيئة ؟
قالوا : يا رسول الله ! كيف هما يسير ، ومن يعمل بهما قليل ؟
قال : يأتي أحدكم الشيطان إذا فرغ من صلاته فيذكِّره حاجته ، فيقوم ولا يقولها .
ويأتيه إذا اضطجع فينوِّمه قبل أن يقولها .
قال عبد الله بن عمرو : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم يعقدهن في يده . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان وغيرهم ، والحديث في صحيح الجامع .
فقوله عليه الصلاة والسلام : مائة وخمسون باللسان .
لأنه يقول كل واحدة ( 10 ) ، فالمجموع ( 30 ) × عدد الصلوات = 150
وقوله : وألف وخمسمائة في الميزان .
لأن الحسنة بعشر أمثالها فـ 150 × 10 = 1500
وقوله : فذلك مائة باللسان ، وألف في الميزان .
هذه تكون عند النوم ، فيقول ما مجموعه ( 100 ) × 10 = 1000
فالمجموع الكلي = 2500
وهذه لا تستغرق سوى ثلاث دقائق من وقت المسلم .
فهل يتسابق الناس إليها كما يتسابقون إلى المسابقات ؟؟
أو كما يتهافتون على العروض الخاصة ؟؟
أو كما يلهثون خلف سراب المَيْسِر ؟؟
مع أن هذه الأبقى ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً )
وهذه تحتاج إلى مُجاهدة هذا العدو المُبين الذي يحرص على أن لا نقولها .
ولعلي أذكر صيغ التسبيح الواردة بعد الصلوات المكتوبات لتعمّ الفائدة :
1 - هذه صيغة
سبحان الله ( 10 مرات )
الحمد لله ( 10 مرات )(2/467)
الله أكبر ( 10 مرات )
[ كما في هذا الحديث المتقدم ]
2 - وهذه الصيغة الثانية ، وهي الأشهر
سبحان الله ( 33 مرة )
الحمد لله ( 33 مرة )
الله أكبر ( 33 مرة )
وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير .
من قالها : غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر . كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عند مسلم .
3 – وهذه الصيغة الثالثة :
سبحان الله ( 33 مرة )
الحمد لله ( 33 مرة )
الله أكبر ( 34 مرة )
كما في حديث كعب بن عجرة – رضي الله عنه – مرفوعاً : معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن : ثلاث وثلاثون تسبيحة ، وثلاث وثلاثون تحميدة ، وأربع وثلاثون تكبيرة ، في دبر كل صلاة . رواه مسلم .
وهذه تُقال عند النوم ، وهي أفضل من وجود خادمة !
قال عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة – رضي الله عنها – لما أتته تسأله خادما وشكت العمل فقال : ألا أدلك على ما هو خير لكِ من خادم ؟ تسبحين ثلاثا وثلاثين ، وتحمدين ثلاثا وثلاثين ، وتكبرين أربعا وثلاثين حين تأخذين مضجعك . متفق عليه .
4 – وهذه الصيغة الرابعة :
سبحان الله ( 25 مرة )
الحمد لله ( 25 مرة )
الله أكبر ( 25 مرة )
لا إله إلا الله ( 25 مرة )
كما في حديث زيد بن ثابت – رضي الله عنه – ، وهو في المسند وعند الترمذي والنسائي وغيرهم ، وصححه الألباني .
فهذه أربع صيغ للتسبيح بعد الصلاة ، والأفضل للمسلم أن يُنوّع بين هذه الصيغ .
ويُعقد التسبيح بالأصابع ، كما في حديث عبد الله بن عمرو المتقدّم ، ويكون بأصابع اليد اليمنى .
ولم يصح عن النبي صلى الله عليه على آله وسلم ولا عن أحد من أصحابه أو عن أحد من زوجاته التسبيح بالحصى أو بالنوى أو بغيرها مما ابتدعه الناس للتسبيح ، كالسّبحة أو العداد الآلي الجديد !(2/468)
بل قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم : يا نساء المؤمنات عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس ، ولا تغفلن فتنسين الرحمة ، واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
وقد أنكر ابن مسعود – رضي الله عنه – على من كانوا يُسبّحون بالحصى ، بل رماهم بالحصباء ، كما عند الدارمي وابن وضاح في النهي عن البدع .
فعلى هذا يكون التسبيح بغير الأنامل بدعة مُحدثة .
275-تَعرَّف عَلَى المُجرِم الأَثِيم..!
لو سمعت كلمة ( مُجرم ) لتبادر على ذهنك :
شخصية قاتِل
أو مُروّج مُخدّرات
أو خرّيج سجون !
ولكن عندما يُقال عن شخص بأنه مُجرِم فإنه أعمّ من أن يكون في هذه الشخصيات
بل قد يكون في أعظم من هذه الأعمال ، وإن لم يكن في أعين الناس عظيماً
فالشِّرك جريمة ، ولكن من يدعو من دون الله من يدعو أو يتوسّل بالأموات أو يطوف بالقبور لا يُعدّ عند كثير من الناس مُجرماً ، بل قد يرونه رجلا صالحاً !
والفيصل في ذلك كلام ربنا تبارك وتعالى
إن لفظ الإجرام إذا ورد في كتاب الله ورد في شأن الكفار والمشركين والمكذبين
قال جل شأنه :
( وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )
وقال جل وعلا :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ )
قال ابن كثير : يقول تعالى وكما جعلنا في قريتك يامحمد أكابر من المجرمين ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصدّ عن سبيل الله وإلى مخالفتك وعداوتك ، كذلك كانت الرسل من قبلك يُبتلون بذلك ثم تكون لهم العاقبة .
وقال جل جلاله :(2/469)
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ )
وقال تبارك وتعالى :
( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ )
وقال هود لقومه :
( اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ )
فتولّوا : ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ )
وقال سبحانه وتعالى عن قوم لوط الذين كذبوا رسولهم :
( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ )
أي انظر يامحمد كيف كان عاقبة من يجترىء على معاصي الله عز وجل ويكذب رسله . قاله الحافظ ابن كثير .
وقال تبارك وتعالى عن قوم فرعون : ( فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ )
وقال في عموم الأمم السالفة : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ )(2/470)
وقال سبحانه وتعالى في المنافقين : ( لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ )
وقال في المعرضين المكذبين :
( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) الآية .
وجهنم هي مآل المجرمين
( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا )
أي أيقنوا بدخول النار .
( وتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ )
( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا )
( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى )
وأما المُجرم الاصطلاحي اليوم فإنه لا يخلد في نار جهنم إذا كان معه أصل التوحيد .
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ )
والمُكذِّب بالقدر مُجرم أثيم :
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )
والمجرمون يُحشرون وقد تغيّرت ألوانهم
( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا )
قال ابن كثير : قيل معناه : زرق العيون من شدّة ما هم فيه من الأهوال .(2/471)
تذكرت هذه المعاني لما تكلّمت عن أحد دعاة الشرك فقيل لي : تتكلّم عنه وكأنك تتكلّم عن مُجرِم ؟!
والمُشرِك أعظم جُرماً من سافك الدم الحرام في البد الحرام في الشهر الحرام
والمشرِك أعظم جُرماً ، وليس بعد الكفر ذنب أعظم من الكفر بالله .
ولذا لما سأل ابن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله نِدّاً وهو خلقك . قلت : إن ذلك لعظيم . قلت : ثم أي ؟ قال : وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك . رواه البخاري ومسلم .
276-إِذا لاحظتكَ عيونَها..!!
سبحان الله
كم يقف الذهن ذاهلاً عندما يتأمل فيها
وكم تَحار فيها العقول
بل كم من ذوي الألباب وقفوا مشدوهين تجاهها
فلا يملك العبد إلا أن يوحّد ربّه معلنا توحيده
ولا يملك إلا أن يقول : سبحان الله !
إنها
العناية
وأي عناية ؟
أنها العناية الربانية
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نَمْ فالحوادث كلّهن أمان
عندما تكون في عين الله فمكر أعدائك لك
وكيدهم في صالحك
فلا تهتم ولا تحزن
تأمل – رعاك الله -
في أحوال بعض أنبياء الله ورسله
هذا نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام يولد في زمان يُذبح فيه الأطفال كذبح الخِراف
فتخاف عليه أمه حتى كاد قلبها يطير
فتؤمر أن تُلقيه ! وأين ؟
في البحر !
سبحان الله ! أتلقي بوليدها وفلذة كبدها في بحر متلاطم ؟
نعم .. وسيكون له من البحر شأن !
ولسان الحال يقول : ألقيه ، ونحن نرعاه .
فتُلقيه ويكاد قلبها يخرج من بين أضلاعها فيتبعه .
وهنا تظهر العناية الربانية فيحمله الموج – وأنّى له أن يتأخر – يحمل موسى إلى قصر عدوّه !
فتبدو العناية الربانية بعطف قلب امرأة فرعون عليه ، وبحنوّها عليه
فتتوسل ( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا )
ثم تبدو العناية أكثر أن يعود إلى حضن أمه ، فترضع أبنها مقابل أجرة !(2/472)
ويعيش موسى في قصر فرعون تحرسه عين الله !
نمْ فالحوادث كلهن أمان !
وذاك نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام
يتكرر معه موقف الكيد والمكر
فتكون عناية الله هي التي ترعاه
يُخرج من البئر ويُحمل إلى مصر
ثم تتكرر المقولة : ( أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا )
يوم قال عزيز مصر لامرأته : ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا )
وهكذا يعيش في قصر بدلاً من جُبّ ضيق
ويُكاد مرة أخرى ، ويُتّهم في عِرضه ، ويُسجن ، ثم يُظهر الله براءته
ويُمكن له في الأرض ويعيش عزيزاً مكرماً
نمْ فالحوادث كلهن أمان !
وهذه مريم تبتعد عن أهلها فيأتيها الطّلق ويأخذها الكرب
فلا تدري أتحمل همّ الولادة أم همّ الوليد أم همّ ما سيُقال عنها ؟
غير أن العناية الربانية لاحظتها
فيأتيها النداء مِن تحتها
( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا )
والمعجزة هنا – كما يقول جمع من المفسّرين – أنه جذع يابس لترى من خلاله إحياء المَوات !
تمر يتوفّر في غير زمانه
بل ويُنشأ من جذع يابس
ويُجرى من تحتها نهر
ويُفرّج عنها الهمّ فإذا سُئلت فقد كُفيت الجواب بمجرّد إشارة !
فأي عناية تلك ؟
إنها عناية أرحم الراحمين ، وأحكم الحاكمين .
نمْ فالحوادث كلهن أمان !
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نَمْ فالحوادث كلّهن أمان
277-أُصيبَ بِصَدمةٍ نفسية..!!
رجل طُرِد من عمله = فأُصيب بصدمة نفسية
آخر احترق بيته = فأُصيب بصدمة نفسية
ثالث خسِر في تجارته = فأُصيب بصدمة نفسية
امرأة تزوّج عليها زوجها = فأُصيبت بصدمة نفسية
ثانية اكتشفت أن زميلتها في العمل هي ضرّتها = فأُصيبتْ بصدمة نفسية
ثالثة طُلّقت = فأُصيبتْ بصدمة نفسية
إلى غير ذلك مما نسمع به بين الحين والآخر بهذه العبارة ( أُصيب بصدمة نفسية )
ومما لا شك فيه أن هذه الصدمات النفسية لم تكن تُعرف عند أسلافنا ، ولم تعرف إلى نفوسهم طريقاً .
لماذا ؟(2/473)
أعُدِمَ الإحساس عندهم ؟؟
أم أنهم لا يُحسّون ؟؟
أم أن نفوسهم تختلف ؟؟
أو تغيّر الزمان ؟؟
ما السِّرّ إذاً ؟؟؟
السِّرّ – بارك الله فيكم – يكمن في الإيمان بالله والرضا بالقضاء .
السِّرّ يكمن في صدق الإيمان بالله
( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )
حتى يتبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب
وحتى تظهر حقيقة الإيمان بالركن السادس من أركان الإيمان
الإيمان القدر خيره وشرّه . حلوه ومُرِّه
والتسليم لله سبحانه وتعالى في مواطن القضاء والقدر
وحقيقة الصبر ، واحتساب الأجر ، وصدق الإيمان بالقضاء والقدر تظهر على محكّ " الصدمة الأولى "
فمن صبر عند الصدمة الأولى ... عند تلقّي الخبر ... عند وقوع الفاجعة
من صَبَر في هذه المواطن ، وعوّد نفسه عليه ، وتصبّر ، لم تضرّه نازلة تنزل به .
و " إنما الصبر بالتّصبّر " كما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام .
ومن صَبَر في هذا الموضوع " عند الصدمة الأولى "
وصبر في تلك الحالة " أول وقوع الخبر "
من كان كذلك لم يُصب بأذى .
ومن آمن بالله وحقق الإيمان بالقضاء والقدر ، وأيقن أن الكلّ من عند الله [ الخير والشر ]
وآمن أيضا أن الله لم يخلق ولم يُقدّر شرّاً محضا خالصاً ، علِمَ أن ما يُصيبه ليس شرّاً على كل حال ( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )
ثم نَظَر إلى المُقدَّر بعين البصيرة فتلمّح المنحة في طيّ المحنة .
ثم تذكّر أن هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة
وليس لها قدر عند العقلاء
وأنها دار ابتلاء وامتحان
وأنه خُلِق في كَبَد ... في همٍّ وغمٍّ ونكد ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ )
طُبِعت على كدرٍ وأنت تُريدها *** صفواً من الأقذاء والأكدار
ومُكلّف الأيام ضد طباعها *** مُتطلّب في الماء جذوة نار
فإذا استحضر المسلم أو المسلمة هذه الأمور مُجتمعة هانت عليه المصائب فلم يجمع على نفسه كُومة مصائب !(2/474)
= المصيبة التي وقعت – من خسارة أو حريق أو طلاق أو زواج زوج !
= مصيبة المرض النفسي .
= فوات الأجر بالجزع والتّسخّط .
= تحصيل الإثم بالتّسخّط .
والمسألة تحتاج إلى صبر ومُصابرة ، وجهد ومُجاهَدة .
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ )
والله يتولّى السرائر .
وأترككم في حفظ الله ورعايته .
278-يَا غُلام ... احمِل المَمْطَرَة..!
قال الحسن بن محمد :
قحط الناس في بعض السنين آخر مدة " الناصر " فأمر القاضي منذر بن سعيد بالبروز إلى الاستسقاء بالناس ، فصام أياما وتأهّب واجتمع الخلق في مصلى الربض ، وصعد الناصر في أعلى قصره ليشاهد الجمع ، فأبطأ منذر ، ثم خرج راجلا متخشعا ، وقام ليخطب فلما رأى الحال بكى ونشج وافتتح خطبته بأن قال : سلام عليكم . ثم سكت شبه الحسير ، ولم يكن من عادته ، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ، ثم اندفع فقال : ( سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) الآية . استغفروا ربكم وتوبوا إليه وتقربوا بالأعمال الصالحة لَدِيه . فضجّ الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء والتضرع ، وخطب فأبلغ فلم ينفضّ القوم حتى نزل غيث عظيم .
واستسقى مرة فقال يهتف بالخلق : ( يا أيها الناس انتم الفقراء إلى الله ) الآية . فهيّج الخلق على البكاء .
قال : وسمعت من يذكر أن رسول " الناصر " جاءه للاستسقاء .
فقال للرسول : ها أنا سائر فليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة في يومنا هذا ؟
فقال : ما رأيته قط اخشع منه في يومه هذا ؛ إنه منفرد بنفسه ، لابس اخشن الثياب ، مفترش التراب ، قد علا نحيبه واعترافه بذنوبه يقول : رب هذه ناصيتي بيدك ، أتُراك تعذب الرعية وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم ، أنْ يفوتك مني شيء .
فتهلل منذر بن سعيد وقال : يا غلام احمل الممطرة معك ! إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء .(2/475)
وحدثنا بعض كبار السن – متّع الله بهم – أنهم كانوا إذا أرادوا الخروج إلى صلاة الاستسقاء ، تأهبوا قبل ذلك ، وتصدقوا ، ثم غطّوا ما كان لديهم مما يتأثر بالمطر من محاصيل وأطعمة !
أبعد هذا اليقين يقين ؟
وبعد هذا الظن الحسن بالله يخيب ظن ؟
ثم قارن هذا بما أخبرني به بعض الثقات
قال : خرجنا من صلاة الاستسقاء فمررنا في طريقنا على حاوية نفايات ، قال : والله لقد اقشعر جلدي مما رأيت !
قلت له : ماذا رأيت ؟
قال : رأيت أكوام الخبز تعلو القاذورات والنجاسات في تلك الحاوية !
قال : ثم عمدت إلى الخبز فرفعته ، وقلت في نفسي : أمع هذا نرجو سُقيا ؟
كيف لو تأمل المتأمل في أحوال الأمة جمعاء – شعوبا وجماعات وأفرادا –
انظر إلى أطباق الفجور تُطاول - ربما – منائر المساجد !
وانظر إليها يلفت نظرك كثرتها !
حتى رأيت بيتاً بعضه من الطين وبعضه الآخر من الطوب وقد اعتلاه طبق فضائي ! يكاد يخرّ السقف من فوقهم من ثقل ذلك الطبق ، وتهالك ذلك البيت !
بل كيف لو تأمل المتأمل في تعاملات الناس اليوم ؟
كم هي نسبة الربا في تعاملاتنا ؟
وربما عند بعض الناس في تعاملات يومية
وربما أكل بعض الناس الحرام بحجة أنه لا يجد عملاً !
سبحان الله !
أما كانت العرب في جاهليتها تقول : تموت الحُرّة ولا تأكل بثدييها !
وهذا لأنه لم يجد عملاً في وقت من الأوقات لجأ إلى العمل المحرّم يقتات منه ويُطعم منه مَن يعول .
أما علم هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يُطيل السفر ، أشعث أغبر ، يَمُدّ يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِي بالحرام ؛ فأنى يُستجاب لذلك . رواه مسلم .
أما إني لا أُقنِّط الناس ولكنها وقفة محاسبة
وموقف مراجعة مع النفس
فكم نطلب السقيا ولا نُسقى ؟
وكم ندعو فلا يستجاب لنا ؟
ولا حول ولا قوة إلا بالله
279-أتخَافُ مِن ذُبّان ؟
قال ابن القيم رحمه الله :(2/476)
واصدع بما قال الرسول ولا تخف = من قلة الأنصار والأعوان
فالله ناصر دينه وكتابه = والله كاف عبده بأمان
لا تخش من كيد العدو ومكرهم = فقتالهم بالكذب والبهتان
فجنود أتباع الرسول ملائك = وجنودهم فعساكر الشيطان
لا تخش كثرتهم فهم همج الورى = وذبابه أتخاف من ذبان ؟
وقال شاعر الصحوة :
أبعد هذا نهاب الظالمين وهم = أذلّ منزلة مِن حِلس حمّار ؟
وقول الله أصدق وأبلغ : ( أَليْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) ؟
ورأس الكفر وأساسه إبليس ، ومع ذلك قال الله عز وجل : ( فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا )
ولما ذكر الله خلفاء إبليس ونوّابه في الأرض من أئمة الكفر قال : ( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ )
وقال تبارك وتعالى : ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )
إن الخوف والجبن والخور مِن سِمات المنافقين
( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ )
وهم أسرع الناس فراراً عند الشدائد
( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاّ يَسِيرًا )(2/477)
الخوف والهلع يُخرس ألسنتهم ، فإن ذهب الخوف وزال الرّوع رأيتهم أحدّ الناس ألسنة
( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا )
هذا هو شأن المنافقين
فما شأن المؤمنين ؟
لا يخشون إلا الله
( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا )
إن أوعِدوا أو تُوعِّدوا أيقنوا أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله
( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا )
بل إنهم لما خوّفوا بغير الله لم يخافوا ، وإنما زادهم إيماناً وتسليما .
( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )
إننا أمام حروب طاحنة ، وفتن متلاطمة ، لا نعلم ما الله صانع فينا وفيها
ولكن يجب أن لا تتزعزع ثقتنا بالله
ولا يحدث عندنا أدني شك أو ريب في أن الحافظ الله(2/478)
وأن التوكّل هو : اعتماد القلب على الله ، والثقة بما عنده سبحانه وتعالى ، واليأس مما في أيدي الناس .
إن الخوف منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم
فخوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع ، وهو خوف السِّرّ ، لا يكون إلا لله عز وجل .
فإذا صُرِف هذا الخوف لأحد غير الله فقد وقع صاحبه في الشرك بالله عز وجل ؛ لأنه عَدَل الخالق بالمخلوق ، وخاف من المخلوق كما يخاف من الخالق ، وربما أشدّ !
ومن هذا الباب الخوف من السّحرة أو الدجالين أو الخوف من الجن بحيث يُقرّب لهم القرابين ، أو يخاف أن يوقعوا به مكروها لم يُقدّره الله عز وجل .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام في وصيته لابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فلتسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم ان الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على ان يضروك لم يضروك الا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف . رواه الإمام أحمد والترمذي .
والخوف من الله يحمل صاحبه على مراقبة الله عز وجل .
قال ابن القيم رحمه الله : الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل ، فإذا تجاوز ذلك خِيف منه اليأس والقنوط . قال أبو عثمان : صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهراً وباطنا . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله .
فهذا الخوف عبادة .
ومن الخوف ما هو جِبلّي ، كالخوف من العدوّ أو من وحشّ مًفترس ونحو ذلك .
ومن هذا النوع خوف نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام .
( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ )
( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ )(2/479)
( وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرني أن أحرق قريشا ، فقلت : ربِّ إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ! قال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نُغزك . رواه مسلم .
وربما خرج هذا النوع بصاحبه إلى الخوف المُحرّم ؛ كأن يحمله الخوف على ترك صلاة الجماعة وما شابه ذلك .
ولذا قال الله جل جلاله : ( قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ )
فما دون الله عز وجل لا يملكون نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا .
( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا )
بل إن الله عز وجل ضرب مثلاً لضعف مَن يُدعى من دون الله فقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ )
فتأمل هذا المثال يتبين لك ضعف الكفّار اليوم وإن بلغوا شأنا في الحضارة المادية .
أتستطيع دول الحضارة مُجتمعة أن تخلق ذباباً ؟
بل ما هو أقل وأحقر من ذلك
أتستطيع تلك الدول مجتمعة أن تستنقذ لُقمة أخذها الذباب ووضعها في فمه ؟
لا ورب الكعبة لا تستطيع(2/480)
ووعد الله حق ، وقوله صدق ( وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ) ، ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا ) ؟
وإنما ذكر الله عز وجل الذباب في هذا المثال – والله أعلم - لما يمتلكه من خاصية سرعة تحويل الطعام إلى مادة أخرى عن طريق مادة في اللعاب .
أبعد هذا نخاف ممن هم أقلّ وأذلّ من الذّباب ؟؟؟
لا تخش كثرتهم فهم همج الورى = وذبابه أتخاف من ذُبّان ؟
280-إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً..!
عظّم الله شأن الوقت إذ هو الحياة
فأقسم الله بالضُّحى وبالعصر وبالصُّبح وبالفجر وبالليل وبالنهار ، وهذه هي حياة الإنسان .
كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله حيث قال : الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل فيهما .
يعني أن الليل والنهار يأخذان من حياتك فخذ منهما وتزوّد فيهما لما أمامك
قال أبو الدرداء رضي الله عنه :
ابن آدم طأِ الأرض بقدمك ، فإنها عن قليل تكون قبرك .
ابن آدم إنما أنت أيام ، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك .
ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك .
ومما يدلّ على أهمية الوقت أن الله جعله محِل العبادات ، وجعل قبول تلك العبادات منوطاً بأوقاتها .
قال سبحانه : ( إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا )
ولذا أوصى أبو بكر عمرَ فقال : إني موصيك بوصية - إن أنت حفظتها - إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل ، وإن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار ، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة ، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم في الدنيا الحقّ وثقله عليهم ، وحُقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفّتِه عليهم ، وحُقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً .
ولذا كان السلف يضنون بأوقاتهم ويبخلون بها
قال الحسن البصري – رحمه الله – :(2/481)
أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم على دراهمكم ودنانيركم !
وكان يقول : ابن آدم إنك بين مطيّتين يُوضِعانك : الليل إلى النهار ، والنهار إلى الليل ، حتى يُسلمانك إلى الآخرة ، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطراً .
وهذا عامر بن عبد قيس – أحد التابعين – يقول له رجل : كلّمني . فيقول له : أمسك الشمس !
وما ذلك إلا ليشعره بقيمة الوقت .
قال عبدُ الرحمن بن مهدي : لو قيل لحماد بن سلمة : إنك تموتُ غداً ، ما قَدَر أن يزيد في العمل شيئا .
وقال عفان بن مسلم : قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة ، ولكن ما رأيت أشدّ مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله من حماد بن سلمة .
وقال موسى بن إسماعيل : لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكا قط صدقتكم ، كان مشغولا بنفسه ؛ إما أن يُحدِّث ، وإما أن يقرأ ، وإما أن يسبح ، وإما أن يصلي . كان قد قسم النهار على هذه الأعمال .
ولذا مات حماد بن سلمة في المسجد وهو يصلي .
هكذا كانت تُقضى الأوقات .
ولذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : إني لأكره أن أرى الرجل فارغا ، لا في عمل الدنيا ، ولا في عمل الآخرة .
وهذا أحد علماء السلف ، وهو محمد بن سلاَم البيكندي – شيخ البخاري - يحضر مجلس شيخه ، والشيخ يُملي وهو يكتب الحديث فانكسر قلمُه ، فأمر أن يُنادى : قلمٌ بدينار ! فتطايرت إليه الأقلام .
وما ذلك إلا لحرصه على وقته وخشية أن يضيع منه شيء .
فالوقت عندهم أثمن من كل شيء .
الوقت عندهم أثمن من الدينار والدّرهم .
بل من شُحِّهم بأوقاتهم وحرصهم عليها كان بعضهم يجعل بريَ الأقلام في أوقات مجالسة مَنْ يزوره .
كما كان ابن الجوزي – رحمه الله – يصنع .(2/482)
قال رحمه الله : الزمان أشرف شيء ، والواجب انتهابه بفعل الخير ... فصرت أُدافع اللقاء جهدي – يعني لقاء البطالين - ... ثم أعددت أعمالاً لا تمنع المحادثة لأوقات لقائهم ، لئلا يمضي الزمان فارغاً ، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطعَ الكاغد وبَريَ الأقلام وحزم الدفاتر ! فإن هذه الأشياء لا بُدّ منها ، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب ، فأرصدتها لأوقات زيارتهم ، لئلا يضيع شيء من وقتي !
وكان – رحمه الله – يحتفظ ببري الأقلام حتى قيل إنه أوصى عند موته أن يُسخّن فيها الماء الذي سوف يُغسّل به بعد موته .
وأوصى ابن الجوزي ابنه فقال : واعلم يا بني أن الأيام تبسط ساعات ، والساعات تبسط أنفاساً ، وكل نَفَسٍ خِزانة ، فاحذر أن يذهب نَفَسٌ بغير شيء ، فتَرى في القيامةِ خزانةً فارغة فتندم .
قال الإمام الذهبي عنه : ما علمت أحداً صنّف ما صنف ابن الجوزي .
وأما الإمام ابن عقيل – رحمه الله – ففي أخباره العجب !
حتى كان يقول : إني لا يحلّ لي أن أُضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة وبَصَري عن مًطالَعة ، أعملت فكري في راحتي وأنا مُنطرِح ، فلا أنهض إلا وقد خَطَرَ لي ما أُسطِّره ، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة .
لماذا هذا الحرص على الوقت ؟؟؟
أما لماذا ؟
فلأن الوقت أثمن ما يملكه البشر
قال ابن هبيرة رحمه الله :
والوقتُ أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيعُ
نعم . الوقت لا يُقدّر بثمن .
ولذا يُسأل الإنسان عن وقته الذي أمضاه طيلة حياته
فيُسأل يوم القيامة :
عن عمره فيمَ أفناه ؟
وعن شبابه فيمَ أبلاه ؟
فيُسأل عن مرحلة الشباب ؛ لأنها هي مرحلة القوة ، ومرحلة الاكتساب ، وفيها الصحة والفراغ بخلاف حال الكِبَر ، وهي ومرحلة العمل للدار الآخرة .
كثير من الشباب أو الفتيات يقولون : إذا بلغنا الأربعين تُبنا !(2/483)
أو يقول بعضهم : إذا كبرنا عقلنا ! [ هكذا يقولون ] !!!
وما علموا أن من شبّ على شيء شاب عليه ، ومن شاب على شيء مات عليه ، ومن مات على شيء بُعِث عليه .
ثم ما الذي يضمن لهؤلاء الأعمار ؟
من يضمن لهم أن يعيشوا إلى ستين أو سبعين سنة ؟
ثم إذا عاشوا هذا العمر ، فمن يضمن لهم السلامة من الآفات ؟
مَنْ يزور بعض المستشفيات يرى شبابا في مقتبل أعمارهم بعضهم لا يستطيع أن يقضي حاجته ، وبعضهم على كرسي متحرك منذ عشر سنوات أو أكثر .
كم يتمنى بعضهم أن يُعطى العافية ليستغل دقائق عمره .
وكم يتحسّر على أيام شبابه التي أمضاها في غير طاعة الله .
فلا تقل : لا زالت في مرحلة الشباب
ولا تقولي : لا زلت صغيرة
ولا تقل : إذا كبُرت فسوف اعمل وأعمل
ولكن بادر الآن واستغل وقتك فهو عمرك ، وسوف تسأل عنه .
وتذكروا أن الفراغ نعمه يجب استغلاله في طاعة الله ، حتى لا تكن من الخاسرين .
قال صلى الله عليه على آله وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة ، والفراغ . رواه البخاري .
والغبن هو الخسارة البيّنة .
فمتى اجتمعت الصحة والفراغ فقد تمّت النعمة للعباد .
فقد يُعطى الإنسان الصحة ولا يُعطى الفراغ ، فيكون يكدح طوال النهار ، ثم يأتي آخر النهار وهو في غاية الجهد والتعب والإعياء والنَّصَب .
وقد يكون الإنسان فارغاً ولكنه منشغل بصحته ، فليس لديه صحة ليعمل في فراغه .
فمتى ما اجتمعت الصحة مع الفراغ ولم يستغلها المسلم أو المسلمة فقد تمّت خسارتهم .
فحتى لا تكن ممن خسر الخسران المبين في عمره وصحته عليك باستغلال وقتك .
كان يُقال لنا في وقت الصبا قول من لا ينطق عن الهوى : اغتنم خمساً قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناءك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك .
فما عرفنا قيمة الفراغ إلا بعد أن شغلتنا أموالنا وأهلونا !
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – :
صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين :(2/484)
أحدهما : قولهم : الوقت سيف ، فإن لم تقطعه قطعك .
والثاني : قولهم : نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل .
كم نُضيع الأعمار ؟
فإذا جاء الصيف قلنا حرّ !
وإذا جاء الشتاء قلنا بَرْد !
وإذا جاء الربيع شُغلنا بزينته !
إذا كان يؤذيك حرّ المصيف *** ويُبسُ الخريف وبَرْدُ الشتاء
ويُلهيك حسنُ زمانِ الربيع *** فأخذك للعلم قل لي : متى ؟؟؟
وأما من لم يغنم وقته فسوف يندم محسناً كان أو مُسيئا
إن كان مُحسِناً ندّم أن لا يكون ازداد إحسانا
وإن كان مُسيئا ندم على إساءته وتفريطه بوقته
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : ما من أحد يموت ألا ندم . قالوا : وما ندامته يا رسول الله ؟ قال : إن كان محسنا ندِم أن لا يكون أزداد ، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع . رواه الترمذي
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه ، نقص فيه أجلي ولم يَزِد فيه عملي .
فيا لحسرة ضياع الأوقات وفوات الباقيات الصالحات
فالكافر أو المُفرِّط يتمنّى يوم القيامة أن لو استغل ساعات عمره فعمل لآخرته
( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )
فهو لا يتمنّى غير ذلك في تلك الساعة .
ويوم القيامة يُوبّخ الكافر على تضييعه لعُمرِه
( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ )
قال ابن كثير رحمه الله : أي أوَ ما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم ؟
ولذا كان قتادة رحمه الله يقول : اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله أن نُعيّر بطول العمر .
وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه على آله وسلم أنه قال : أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلّغه ستين سنة .
وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس خير ؟
قال : من طال عمره ، وحسن عمله .
قيل : فأي الناس شر ؟(2/485)
قال : من طال عمره ، وساء عمله . رواه الإمام أحمد والترمذي .
فالأعمار سريعة التّقضّي سريعة الزوال
وكم من إنسان سوّف وأكثر من : " سوف " و " لعل "
فمرّت الأيام سريعا وانقضى أجلُه ، ولو قيل له تمنى : لقال أتمنى ساعة أذكر فيها ربي وأعبده وأقوم بشيء من حقِّه .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
وا أسفي لمنقطع دون الركب ، متأخر عن لحاق الصّحب ، يعدّ الساعات في " متى " و " لعل " ، ويخلو في " عسى " و " هل " !
يا من يعد غدا لتوبته = أعلى يقين من بلوغ غدِ ؟
المرء في زلل على أمل = ومنية الإنسان بالرصد
أيام عمرك كلها عدد = ولعل يومك آخر العدد
إخواني :
الحزم الحزم
والعزم العزم
يا آدمي أتدري ما مُنيت به = أم دون ذهنك ستر ليس ينجابُ
يوم ويوم ويفنى العمر منطويا = عام جديب وعام فيه اخصاب
فلا تغرنك الدنيا بزخرفها = فأريها أن بلاها عاقل صاب
والحزم يجني أمورا كلها شرف = والخرق يجني أموراً كلها عاب
وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – من أنواع الغيرة : الغيرة على وقت فات .
والوقت إذا فات ومضى لا يُمكن تعويضه
وأما المال فيذهب ويُمكن تعويضه في وقت آخر .
ها هو الوقت بين يديك ، وهو عمركِ فاعمره بما يسرّك في القيامة أن تَراه .
إن اليوم والليلة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة
ولكن من الناس من تمر عليه وقد ملّ منها ومن طولها لطول فراغه ، وعدم إشغال نفسه بما ينفع .
ومن الناس من يتمنّى أن اليوم والليلة يطول حتى يقضي منهما مآربه من بحث ومطالعة وحفظ ومراجعة ومذاكرة وزيارة في الله ونحو ذلك .
بل يُقسم بعضهم لو بيع الوقت لاشتراه !
ويتمنى آخرون لو أن الأوقات يُمكن فيها السّلف والدَّين والقرض ! ليقترضوا من أوقات البطّالين !
إخواني وأخواتي :
تأملوا في يومكم وليلتكم
كم هي الأوقات التي تم استغلالها ؟
وكم هي الأوقات التي هي لكم لا عليكم ؟
وكم هي الأوقات التي أمضيناها في طاعة الله ؟(2/486)
ربما تكون لدى بعض الناس لا تتجاوز نصف ساعة من أربع وعشرين ساعة .
والبقية من الوقت ؟
ذهبت أدراج الرياح !
وضاعت سبهللا !
فيا ضيعة الأعمار لا تتعوّض .
طويت صحائفُ الأيام ، وبقيت شاهدة علينا بما أودعناها .
نسيناه فيما مضى من أيام وأعمال ، ولكنه عند ربي في كتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها
قال ابن القيم – رحمه الله – بعد أن ذكر عشرةَ أشياء ضائعة . قال :
وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة :
إضاعة القلب
وإضاعة الوقت
فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة
وإضاعة الوقت من طول الأمل
فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل
والصلاح كله في اتِّباع الهدى والاستعداد لِلقاء .
والحرص على الوقت دليل على صحة القلب
قال ابن القيم رحمه الله :
ومن علامات صحته – يعني القلب - أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشدّ الناس شحّاً بماله .
وأختم القول بقول ابن الجوزي رحمه الله :
حيث قال رحمه الله :
يا طويل الأمل في قصير الأجل
أما رأيت مستَلبا وما كمُل ؟
أتؤخر الإنابة وتعجل الزلل
ويمضي ابنُ الجوزي قائلاً :
يا أخي :
التوبة التوبة قبل أن تصل إليك النوبة
الإنابة الإنابة قبل أن يُغلق باب الإجابة
الإفاقة الإفاقة فيا قُرب وقت الفاقة
إنما الدنيا سوق للتجر ، ومجلس وعظ للزجر ، وليل صيف قريب الفجر
المكنة مُزنة صيف
الفرصة زورة طيف
الصحة رقدة ضيف
الغرة نقدة زيف
الدنيا معشوقة وكيف ؟
البدار البدار فالوقت سيف
يا غافلا عن مصيره
يا واقفا في تقصيره
سبقك أهل العزائم ، وأنت في اليقظة نائم .
قف على الباب وقوف نادم ، ونكّس رأس الذل وقل : أنا ظالم ، وناد في الأسحار مذنب وواجم ، وتشبه بالقوم وإن لم تكن منهم وزاحم ، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم .
قم في الدجى نادبا ، وقف على الباب تائبا ، واستدرك من العمر ذاهبا ، ودع اللهو والهوى جانبا . انتهى .
ويقول :
يا من أنفاسه محفوظة ، وأعماله ملحوظة(2/487)
أيُنفق العمر النفيس في نيل الهوى الخسيس
جَدّ الزمان وأنت تلعب = والعمر لا في شيء يذهبُ
كم كم تقول غدا أتوب = غداً غدا والموت أقرب
أمَا عمرك كل يوم ينتهب ؟
أمَا المُعظم منه قد ذهب ؟
في أي شيء ؟ في جمع الذهب
تبخل بالمال والعمر تَهَب
فالعمر قصير فلا تُقصِّره بتضييعه والتفريط فيه .
العمر كما بين الأذان إلى الصلاة
أذان المرء حين الطفل يأتي *** وتأخير الصلاة إلى المماتِ
دليل أن محياه يسير *** كما بين الأذان إلى الصلاة !
فالوقت هو الحياة
فاحفظه حفظك الله
فمن حفظ الله حفظه الله .
وها نحن نقف على أبوب الإجازة الصيفية فمغبون فيها وخاسر ، ورابح فيها ومع الله مُتاجر
فاختر لنفسك .
وها نحن على عتبات ثمانين يوماً أو تزيد فماذا أعددت لها للاستفادة منها ؟؟
بعلم نافع
أو حفظٍ لكتاب الله
أو دعوة إلى الله
أو تعليم جاهل
أو قراءة في كتاب
أو ملازمة شيخ أو شيوخ
أهيب بنفسي وبك أن لا تمرّ هذه الأيام والليالي دون فائدة
قد هيئوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
281-الفرق بين القرآن والحديث القدسي وبين الحديث النبوي والحديث القدسي..
الفرق بين القرآن والحديث القدسي
القرآن : نزل به جبريل عليه الصلاة والسلام على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، والوحي أنواع .
أما الحديث القدسي فلا يُشترط فيه أن يكون الواسطة فيه جبريل ، فقد يكون جبريل هو الواسطة فيه ، أو يكون بالإلهام ، أو بغير ذلك .
القرآن : قطعي الثبوت ، فهو متواتر كله .
أما الحديث القدسي منه الصحيح والضعيف والموضوع .
القرآن : مُتعبّد بتلاوته ، فمن قرأه فكلّ حرف بحسنة ، والحسنة بعشر أمثالها .
أما الحديث القدسي : غير مُتعبد بتلاوته .
القرآن : مقسم إلى سور وآيات وأحزاب وأجزاء .
أما الحديث القدسي : لا يُقسّم هذا التقسيم .
القرآن : مُعجز بلفظه ومعناه .
أما الحديث القدسي : فليس كذلك على الإطلاق .(2/488)
القرآن : جاحده يُكفر ، بل من يجحد حرفاً واحداً منه يكفر .
أما الحديث القدسي : فإن من جحد حديثاً أو استنكره نظراً لحال بعض روايته فلا يكفر .
القرآن : لا تجوز روايته أو تلاوته بالمعنى .
أما الحديث القدسي : فتجوز روايته بالمعنى .
القرآن : كلام الله لفظاً ومعنى .
أما الحديث القدسي : فمعناه من عند الله ولفظه من عند النبي صلى الله عليه على آله وسلم .
القرآن : تحدى الله العرب بل العالمين أن يأتوا بمثله لفظاً ومعنى .
وأما الحديث القدسي : فليس محلّ تحدٍّ .
---------------------------------------------------------
الفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي
الحديث القدسي : ينسبه النبي صلى الله عليه على آله وسلم إلى ربه تبارك وتعالى .
أما الحديث النبوي : فلا ينسبه إلى ربه سبحانه .
الأحاديث القدسية : أغلبها يتعلق بموضوعات الخوف والرجاء ، وكلام الرب جل وعلا مع مخلوقاته ، وقليل منها يتعرض للأحكام التكليفية .
أما الأحاديث النبوية : فيتطرق إلى هذه الموضوعات بالإضافة إلى الأحكام .
الأحاديث القدسية : قليلة بالنسبة لمجموع الأحاديث .
أما الأحاديث النبوية : فهي كثيرة جداً .
وعموماً :
الأحاديث القدسية : قولية .
والأحاديث النبوية : قولية وفعلية وتقريرية .
يُنظر لذلك : " الصحيح المسند من الأحاديث القدسية " للشيخ مصطفى العدوي ، و " مباحث في علوم القرآن " للشيخ مناع القطان – رحمه الله – .
------------------------------------------------------------
الفرق بين الحديث والأثر
الحديث إذا أُطلق في الاصطلاح فهو أعم من أقوال النبي صلى الله عليه على آله وسلم .
بل يشمل الأحاديث القولية التي قالها الرسول صلى الله عليه على آله وسلم .
ويشمل الأفعال ، فوصف أفعال النبي صلى الله عليه على آله وسلم داخلة في مسمى الحديث ، كوصف وضوئه أو صلاته .
ويشمل أوصافه عليه الصلاة والسلام ، كذِكر صفة خَلقية أو خُلقية .(2/489)
ويشمل تقرير النبي صلى الله عليه على آله وسلم لأمر من الأمور ، كإقراره أصحابه على أكل الضب والضبع .
وإذا أُطلق الحديث فإنه يشمل أقوال النبي صلى الله عليه على آله وسلم وأفعاله كما تقدّم ، ويشمل أقوال الصحابة وأفعالهم ، فيُقال – مثلاً – بعد رواية حديث ما : والحديث موقوف من قول فلان من الصحابة ، ويشمل المقطوع ، وهو ما ورد عن التابعين من أقوالهم .
ويشمل كذلك : الحديث الضعيف فيُطلق عليه حديث ضعيف ، وكذلك الحديث الموضوع .
ويُطلق على ما تقدّم الخبر .
فهو بهذا الاعتبار يُرادف لفظ السُّنَّة .
وأما عند التقسيم الاصطلاحي ، فيختلف عند بعض العلماء التقسيم إلى :
حديث : وهو ما أُثِر عن رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية – زاد بعضهم - قبل البعثة أو بعدها .
والصحيح أن لفظ " الحديث " ينصرف في الغالب إلى ما يُروى عن النبي صلى الله عليه على آله وسلم بعد النبوة .
وخبر : وهو مُرادف للحديث عند المُحدِّثين .
وفرّق بعضهم بينهما فقيل :
الحديث ما جاء عن النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، والخبر ما جاء عن غيره .
ولذا قيل لمن يشتغل بالسنة : مُحدِّث ، ولمن يشتغل بالتواريخ إخباري .
وقيل بين الحديث والخبر عموم وخصوص مطلق ، فكلّ حديث خبر ، وليس كل خبر حديث .
وأثر : وهذا قد يُطلقه المُحدِّثون على المرفوع من حديثه عليه الصلاة والسلام ، وعلى الموقوف من أقوال أصحابه يُطلقون عليها : ( أثر ) ، ولذا يُسمّى المحدِّث : أثري . نسبة للأثر .
ويُقال في الحديث القدسي : في الأثر الإلهي .
إلا عند فقهاء خراسان ، فإنهم فإنه يُسمّون الموقوف بالأثر ، والمرفوع بالخبر .
وخلاصة القول في هذا :
إذا أُطلِق لفظ " الحديث " فإنه يُراد به ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، وقد يُراد به ما أضيف إلى الصحابي أو إلى التابعي ، ولكنه يُقيّد – غالباً – بما يُفيد تخصيصه بقائله .(2/490)
ويُطلق الخبر والأثر ويُراد بهما ما أُضيف إلى رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم ، وما أُضيف إلى الصحابة والتابعين ، إلا أن فقهاء خراسان فرّقوا بينها كما تقدّم .
وهذا عند المحدِّثين ، ولذا فإنه لا فرق عندهم بين " حدثني " وبين " أخبرني " .
ويختلف إطلاق السُّنّة عند أهل العلم كل بحسب تخصصه وفَنِّه .
إطلاقات السُّنّة
* تُطلق السُّنّة على ما يُقابل البدعة ، فيُقال : أهل السنة وأهل البدعة ، ويُقال : طلاق سني وطلاق بدعي .
* وتُطلق السُّنّة على ما يُقابل الواجب ، فيُقال : هذا واجب وهذا سُنّة .
* وتُطلق السُّنّة على ما يُقابل القرآن ، فيُقال : الكتاب والسنة .
* و تُطلق السُّنّة ويُقصد بها العمل المتّبع ، فيُقال : فعل رسول الله كذا ، وفعل أبو بكر كذا ، وكلٌّ سُنة .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسُنة الخلفاء الراشدين .
ومن كان عنده زيادة علم فلا يبخل به علينا
والله يحفظكم
282-رَأى النّعش فَتفاءل..
التفاؤل سمة الناجحين
التفاؤل طريق الصامدين
التفاؤل خطوات على يقين
أن تتفاءل في أصعب المواقف وفي أحلك الظروف فأنت تنظر بنور الله
أن تتفاءل عندما يكفهر وجه الزمن أنت على يقين بربّ العالمين
أن تتفاءل عندما تتكالب الأعداء فأنت واثق بنصر الله
أن يُدفع بك إلى السجن فترى أنك في جنة تفاؤل وأي تفاؤل ؟
أن ترى الخير في طيّات الشر
وأن ترى المحن مِنحاً فأنت في قمة التفاؤل !
هذا نبي الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تفاؤلاً ، وكان يُحب الفأل ويكره الطّيرة
خرج إلى بدر في قلّة قليلة ، وكان يتفاءل بالنصر ، حتى بشّر بهلاك رؤوس الكفر ، بل حدد مواقع هلكتهم !
ثم تكالبت عليه الأعداء في المدينة فأخذ يحفر الخندق مع أصحابه ، وهو يربط على بطنه حجرا من الجوع ، ومع ذلك كان متفائلا بالنصر ، بل ويُبشّر بنصر وتمكين لأمته ، حتى غمز المنافقون ذلك الوعد .(2/491)
ويُصدّ عن بيت الله عام الحُديبية ، فيتفاءل عندما قدِم سُهيل بن عمرو ، فقال : من هذا ؟ قالوا : سهيل بن عمر . قال : لقد سهل لكم من أمركم . كما عند البخاري .
هل رأيت إنسانا يُوضع على رأسه التراب ليُهان فيتفاءل بذلك ؟
انظر إلى جند المسلمين حينما قدموا على يزدجرد فأغلظوا له القول ، فقال : لو قتل أحد الرسل قبلي لقتلتكم ثم استدعى بوقر من تراب ، وحُمل على أعظمهم ، وقال : ارجعوا إلى صاحبكم وأعلموه أني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسية ، ثم يدوخ بلادكم أعظم من تدويخ سابور ، فقام عاصم بن عمر فحمل التراب على عنقه وقال : أنا أشرف هؤلاء ، ولما رجع إلى سعد قال : أبشر فقد أعطانا الله تراب أرضهم ! وعجب رستم من محاورتهم ، وأُخبر يزدجرد بما قاله عاصم بن عمر ، فبعث في أثرهم إلى الحيرة ، فأعجزوهم .
أي تفاؤل ووقْر من التراب يوضع على رأسه كالإهانة له ؟
إلا أنها النظرة الفاحصة إلى بواطن الأمور وحقائق الأشياء ، والتفاؤل بالفأل الحسن .
ولا تعجب إن سمعت أو قرأت من رأى ( نَعْشاً ) يُحمل عليه ميّت فتفاءل !
روى الإمام وكيع بن الجرّاح في أخبار القضاة عن سليمان بن بلال قال :
كان يحيى بن سعيد قد ضاق واشتدت حاله حتى جلس في البيت ، فبينا هو على ذلك إذ جاءه كتاب أبي العباس يأمره بالخروج إليه ، فكنت أنا الذي جهّزته ، ووكّلني بالقيام على أهله والنفقة عليهم ، فلما خرجنا من داره نوه يُريد العراق ، كان أول ما لقينا جنازة قد طلعت ، فتغيّر وجهي لذلك ، فقال : كأنك تطيّرت ؟ قلت : نعم . فقال : فلا تفعل . فو الله لئن صدقنا الفأل ليُنعش الله هذا أمري ! فكان كما قال ، فأصاب خيراً ، وبَعث إليّ بقضاء دَينِه .
أي نفس تلك ؟
وأي تفاؤل ذلك ؟
يُزجّ بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في السجن فما يزيد على أنْ نظر إلى سور القلعة التي سُجن فيها ، وقال : فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب .(2/492)
فلله درّه من إمام يرى في السجن خلوة بِربِّه
وفي القتل شهادة
وفي النفي سياحة
وما رأيت أكثر تفاؤلاً من فضيلة شيخنا الشيخ د . ناصر العُمر ، فما رأيت شِدّة إلا رأيته مُتفائلاً مُستبشراً بعواقب تلك الشدة ، وهو يقول : لا تحسبوه شراً لكم .
وكثيراً ما سمعته يُردد :
اشتدّي أزمةً تنفرجي *** قد آذن ليلك بالبَلَجِ
هنا أقف
لأقول :
تفاءلوا بالخير تجدوه .
حتى مع تتابع الأزمات ، واشتداد الأمور .
فلنكن متفائلين ، وبالله واثقين .
283-أربع أُمنيات لأربع نِساء أوربيات ( بريطانية . ألمانية . إيطالية . فرنسية)
الأولى بريطانية
وكتبت أمنيتها قبل مائة عام !
قالت الكاتبة الشهيرة آتي رود - في مقالة نُشِرت عام 1901م - :
لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم ، خير وأخفّ بلاءً من اشتغالهن في المعامل حيث تُصبح البنت ملوثة بأدرانٍ تذهب برونق حياتها إلى الأبد .
ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين ، فيها الحِشمة والعفاف والطهارة … نعم إنه لَعَارٌ على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتَها مثَلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يُوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ، وترك أعمال الرجال للرجال سلامةً لِشَرَفِها .
والثانية ألمانية
قالت : إنني أرغب البقاء في منزلي ، ولكن طالما أن أعجوبة الاقتصاد الألماني الحديث لم يشمل كل طبقات الشعب ، فإن أمراً كهذا ( العودة للمنزل ) مستحيل ويا للأسف !
نقلت ذلك مجلة الأسبوع الألمانية .
والثالثة إيطالية
قالت وهي تُخاطب الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله – :
إنني أغبط المرأة المسلمة ، وأتمنى أن لو كنت مولودة في بلادكم .
والرابعة فرنسية
وحدثني بأمنيتها طبيب مسلم يقيم في فرنسا ، وقد حدثني بذلك في شهر رمضان من العام الماضي 1421هـ
حيث سأَلَتْه زميلته في العمل - وهي طبيبة فرنسية نصرانية - سألته عن وضع زوجته المسلمة المحجّبة !(2/493)
وكيف تقضي يومها في البيت ؟
وما هو برنامجها اليومي ؟
فأجاب : عندما تستيقض في الصباح يتم ترتيب ما يحتاجه الأولاد للمدارس ، ثم تنام حتى التاسعة أو العاشرة ، ثم تنهض لاستكمال ما يحتاجه البيت من ترتيب وتنظيف ، ثم تُعنى بشؤون البيت المطبخ وتجهيزالطعام .
فَسَألَتْهُ : ومَن يُنفق عليها ، وهي لا تعمل ؟!
قال الطبيب : أنا .
قالت : ومَن يشتري لها حاجيّاتها ؟
قال : أنا أشتري لها كلّ ما تُريد .
فَسَأَلَتْ بدهشة واستغراب :
تشتري لزوجتك كل شيء ؟
قال نعم :
قالت : حتى الذّهَب ؟!!! ( يعني تشتريه لزوجتك )
قال : نعم .
قالت : إن زوجتك مَلِكة !!
وأَقْسَمَ ذلك الطبيب بالله أنها عَرَضَتْ عليه أن تُطلِّق زوجها !! وتنفصل عنه ، بشرط أن يتزوّجها ، وتترك مهنة الطّب !! وتجلس في بيتها كما تجلس المرأة المسلمة !
وليس ذلك فحسب ، بل ترضى أن تكون الزوجة الثانية لرجل مسلم بشرط أن تقرّ في البيت .
هذه بعض الأمنيات لبعض الغربيات وفضّلت أن أنقل أمنية أكثر من امرأة من جنسيات مختلفة ، وما هذه إلا نماذج .
ومن عجبٍ أننا نرى بعض المسلمات – أو من ينتسبن للإسلام – يُحاولن السير على خُطى الغربيات وتقليدهن في كل شيء .
وأحيانا أخرى يُراد ذلك لهنّ ، وأن يدخلن جحر الضب الذي يُمثّل شِدّة الانحدار مع الالتواء والتّعرّج ، وهذا السرّ في تخصيص جحر الضب .
فمهما كان سبيل اليهود والنصارى ( الغرب ) منحدرا نحو الهاوية وملتويا ومتعرّجا فإن فئاماً من هذه سيتبعون أثره ويقتفون خطوه
وهنا قد يرد السؤال :
هل هذا القول صحيح ؟
وهل يُمكن أن يكون في بلاد الحضارة المادية ؟
فأقول إنه نداء الفطرة التي فطر الله الناس عليها
فالمرأة مهما بلغت فهي امرأة .
لها عواطفها وحاجاتها الأنثوية
لها عاطفة الأمومة
فهي امرأة وإن استرجلت !!!
وإن قادت الطائرة ...
وإن ركبت أمواج البحر ...
وإن لعبت كرة السلة !!! أو كرة المضرب الأرضي !!! أو صارت سبّاحة ماهرة !!!(2/494)
وإن ... وإن ...
فهي امرأة ... امرأة ... امرأة
وكما لا يصلح للجمل أن يستنوق ، فلا يليق بالرجل أن يتخنّث .
فهو رجل ... رجل ... رجل .
ولذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء
والمتشبهات من النساء بالرجال .
وأمر بإخراج المخنّثين من البيوت .
أختاه هل وعَيتِ ماذا يُراد بك ؟؟
يُريدون تحريرك !
نعم !
ولكن :
من كل فضيلة
ومن كل حياء
ومن كل خلقٍ كريم
لا تستجيبي للدعاوى إنها .... فِتنٌ وفيها للشكوك مثار
284-تدخّلات الشياطين في حَياة الآدميين..
تتدخّل الشياطين في حياة الآدميين لإفساد حياة بني آدم
• وأعظم ما يكون التّدخّل إذا كان بالدعوة إلى الإشراك بالله عز وجل
قال سبحانه وتعالى : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )
وقال عليه الصلاة والسلام : ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومى هذا ؛ كل مال نحلته عبدا حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمت عليهم ما أحللتُ لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا . رواه مسلم .
• وثمة مشاركات للشياطين في حياة بني آدم في المال والولد
قال سبحانه وتعالى للشيطان : ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا )
ثم قال سبحانه وتعالى مُستثنياً : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً )
ولا غرابة فـ " الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدّم " كما قال عليه الصلاة والسلام ، والحديث متفق عليه .
• ويحضر الشيطان عند كل أمر من أمور بني آدم(2/495)
قال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه ، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ، ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان ، فإذا فرغ فليلعق أصابعه ، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة . رواه مسلم .
• ويقف الشيطان عند أبواب بيوت بني آدم ليُشاركهم السّكنى والطعامقال صلى الله عليه وسلم : إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال : أدركتم المبيت والعشاء . رواه مسلم .
• ويُحاول أن يُشارك بني آدم في طعامهم وشرابهم
قال حذيفة رضي الله عنه : كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده ، وإنا حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يستحلّ الطعام أن لا يُذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها ، فأخذت بيدها ، فجاء بهذا الأعرابي ليستحلّ به ، فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها . رواه مسلم .
• ويسعى الشيطان لتخطّف الصبيان !
قال عليه الصلاة والسلام :
إذا استجنح الليل أو كان جنح الليل فكفُّوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلّوهم ، وأغلق بابك واذكر اسم الله ، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله ، وأوكِ سقاءك واذكر اسم الله ، وخمِّر إناءك واذكر اسم الله ، ولو تعرض عليه شيئا . رواه البخاري ومسلم .
• ويُحاول أن يُشارك الأزواج في المعاشرة(2/496)
قال صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال : بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضي بينهما ولد لم يضرّه الشيطان . رواه البخاري ومسلم .
• ويُحاول أن يُفسد على الناس صحتهم ! فيتسلّط عليهم بالغضب
استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما فاشتدّ غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد ؛ لو قال : أعوذ بالله من الشيطان ، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : تعوّذ بالله من الشيطان ، فقال : أترى بي بأسا ؟ أمجنون أنا ؟ اذهب ! رواه البخاري ومسلم .
• بل يسعى ليُحزن بني آدم
( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتدتّ على أثره . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي : لا تحدّث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك .
قال جابر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد يخطب ، فقال : لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه . رواه مسلم .
• بل يأتي إلى الإنسان فيُحاول أن يُفسد عليه عبادته
فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة ثم قال : إن الشيطان عرض لي فشدّ عليّ ليقطع الصلاة علي ، فأمكنني الله منه ، فَذَعَتّهُ ، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه ، فذكرت قول سليمان عليه السلام : رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ، فردّه الله خاسيا . رواه البخاري ومسلم .
( ذعتّه : أي خنقته )(2/497)
وشكا عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه ما يجد من الوسواس في الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلبسها عليّ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوّذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا . قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني . رواه مسلم .
وقال عليه الصلاة والسلام : إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته فيأخذ شعرة من دبره فيمدّها فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا . رواه الإمام أحمد ، وقال محققو المسند : حديث حسن .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الشيطان يطيف بالعبد ليقطع عليه صلاته فإذا أعياه نفخ في دبره ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ، ويأتيه فيعصر ذَكَرَه فيريه أنه خرج منه شيء ، فلا ينصرف حتى يستيقن .
وقال عليه الصلاة والسلام : إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قُضي النداء أقبل حتى إذا ثوّب بالصلاة أدبر ، حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول : اُذكر كذا ، اُذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلّى . رواه البخاري ومسلم .
وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة ، فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم . رواه البخاري .
• وللنساء نصيب ! فيُريد أن يُفسد على النساء عبادتهن(2/498)
قالت حمنة بنت جحش رضي الله عنها : كنت استحاض حيضة كثيرة شديدة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأُخبره ، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش ، فقلت : يا رسول الله إني امرأة استحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها ، قد منعتني الصلاة والصوم ؟ فقال : أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم . قالت : هو أكثر من ذلك . قال : فاتخذي ثوبا ، فقالت : هو أكثر من ذلك ، إنما أثجّ ثجّاً ! فقال لها : إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان .. الحديث . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم .
• وللأطفال نصيب أيضا فيطعن في بطن كل مولود من مواليد بني آدم !
قال عليه الصلاة والسلام : ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد ، فيستهل صارخا من مسّ الشيطان إياه إلا مريم وابنها . رواه البخاري ومسلم .
• ويحاول أن يطّلع على عورات بني آدم !
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الكنيف قال : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث . رواه البخاري ومسلم .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا دخلت الغائط فأردت التكشّف فقُل : اللهم إني أعوذ بك من الرجس والنجس والخبث والخبائث والشيطان الرجيم . رواه ابن أبي شيبة .
وقال عليه الصلاة والسلام : إن هذه الحشوش محتضرة ، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل : أعوذ بالله من الخبث والخبائث . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في الكُبرى وابن ماجه ، وهو حديث صحيح .
وقال عليه الصلاة والسلام : ستر ما بين الجن وعورات بنى آدم إذا دخل الكنيف أن يقول : بسم الله . رواه ابن ماجه من حديث علي رضي الله عنه .
ورواه الترمذي بلفظ : ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول : بسم الله .
والحديث صححه الألباني في الإرواء بمجموع طُرقه .
• وتُصيب الشياطين بعض بني آدم بالعين إذا لم يتحصنوا بالأذكار !(2/499)
رأى النبي في بيت أم سلمة رضي الله عنها جارية في وجهها سفعة ، فقال : استرقوا لها ، فإن بها النَّظْرة . رواه البخاري .
قال العيني في عمدة القارئ : قوله : " استرقوا لها " أي اطلبوا من يرقي لها ، وقوله : " فإن بها النظرة " أي أصابتها عين . يُقال رجل منظور إذا أصابته العين ، وقال ابن قرقول : النَّظْرة بفتح النون وسكون الظاء ، أي عين من نَظَرَ الجن ، وقال أبو عبيد : أي أن الشيطان أصابها ، وقال الخطابي : عيون الجن أنفذ من الأسنّة . اهـ .
ما هي طرق وأساليب الوقاية منه ؟
أما طرق وأساليب الوقاية منه فـ :
• الاستعاذة بالله من الشيطان وشَرْكِه
قال سبحانه وتعالى : ( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ )
وقد قال تبارك وتعالى قبل ذلك : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )
أي وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته . فاستعذ بالله ، أي فاستجر بالله من نزغِه . كما قال ابن جرير رحمه الله .
وتقدّم حديث " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد ؛ لو قال : أعوذ بالله من الشيطان "
ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم من همزِه ونفخِه ونفثِه . كما في المسند وسنن أبي داود .
وهمزه الموتة ، ونفثِه الشعر ، ونفخِه الكبرياء .
ولما قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه : يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت . قال : قُل : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشرّ الشيطان وشَرْكِه . قال : قُلها إذا أصبحت وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضجعك . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .(2/500)
• ضبط النفس عند الغضب
استوصى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني . قال له عليه الصلاة والسلام : لا تغضب . فردد مرارا قال : لا تغضب . رواه البخاري .
وعند الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل : يا رسول الله أوصني . قال : لا تغضب . قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشرّ كله .
ومن ضبط النفس أن يتحوّل الإنسان من حالته التي تُعينه على البطش إلى أقل منها
قال عليه الصلاة والسلام : إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ،فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وفي رواية للإمام أحمد عن أبي الأسود عن أبي ذر قال : كان يسقي على حوض له ، فجاء قوم ، فقال : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟! فقال رجل : أنا ، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقَّه ، وكان أبو ذر قائما ، فجلس ، ثم اضطجع ، فقيل له : يا أبا ذر ، لِمَ جلست ثم اضطجعت ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع .
• التّوكّل على الله عز وجل
قال سبحانه وتعالى عن الشيطان : ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ )
فتسلّط الشيطان وقدرته وأمره ونهيه يكون على من أطاعه واتّبعه .
• الوضوء
قال عليه الصلاة والسلام : استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن . رواه الإمام أحمد وابن ماجه .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات ، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه .(3/1)
وأشكل هذا على بعض الناس : كيف يبيت الشيطان على الخياشيم ، مع أن من قرأ آية الكرسي في ليلة لن يزال عليه من الله حافظ ، ولا يقربنّه شيطان حتى يُصبح .
فالجواب – كما أشار إليه الحافظ ابن حجر – :
إما أن من قرأ آية الكرسي مخصوص بالحفظ دون غيره .
أو أن الشيطان لا يقربه قربان وسواس ، فلا يقرب قلبه فيضرّه بالوسواس ، بل يبيت على خيشومه ، ولا يصل إلى قلبه .
• الأذان
تقدّم أنه " إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين "
• قراءة سورة البقرة في البيوت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة . رواه مسلم .
وفي رواية له : لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة .
وقال عليه الصلاة والسلام : اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه . اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران ، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجّان عن أصحابهما . اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة ، وتركها حَسْرة ، ولا تستطيعها البطلة . قال معاوية بن سلاّم : بلغني أن البطلة السحرة . رواه مسلم .
• وفي سورة البقرة :
آية الكرسي التي من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ، كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وفيها آخر آيتين . قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم : الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه . رواه البخاري ومسلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام ، فأنزل منه آيتين فختم بهما سورة البقرة ، ولا تُقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها الشيطان . رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي في الكبرى .
• صلاة النافلة في البيوت(3/2)
إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته ، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا . رواه مسلم .
• تعويذ الصبيان
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ، ويقول إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق : أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامّة . رواه البخاري .
• دوام ذكر الله عز وجل
ذِكر الناس داء ، وذِكر الله دواء .
وذكر الله شفاء ، والغفلة طريق الشيطان إلى قلوب الأشقياء
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان جاثم على قلب بن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .
• إصابة الشياطين بالصرع قبل أن يصرعوا الشخص !
وكيف ذلك ؟!
قال ابن القيم رحمه الله : وبالذِّكر يَصرع العبدُ الشيطان ، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان . قال بعض السلف : إذا تمكن الذِّكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان ، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون : ما لهذا ؟ فيقال : قد مسّه الإنسي ! وهو [ أي الذِّكر ] روح الأعمال الصالحة فإذا خلا العمل عن الذِّكر كان كالجسد الذي لا روح فيه ، والله أعلم . اهـ .
• المحافظة على الذكر بعد الصلاة وقبل النوم
وسبق أن كتبت موضوعاً بعنوان : انتصر ثم اكسب ، وهو هنا :
http://saaid.net/Doat/assuhaim/56.htm
• المحافظة على الذِّكر عند النوم وعند القيام منه
وتقدّمت الإشارة إلى فضل قراءة آية الكرسي عند النوم ، وأن من قرأها لا يقربه شيطان .
• المحافظة على أذكار الصباح والمساء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب ، وكُتب له مائة حسنة ، ومُحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه . رواه البخاري ومسلم .(3/3)
وروى أبو داود عن عبد الله بن خبيب أنه قال : خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا ، فأدركناه ، فقال : أصليتم ؟ فلم أقل شيئا . فقال : قل . فلم أقُل شيئا ، ثم قال : قُل . فلم أقل شيئا ، ثم قال : قُل ، فقلت : يا رسول الله ما أقول ؟ قال : قُل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء .
وقال عقبةُ بن عامر رضي الله عنه : لقيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : يا عقبة بن عامر . ألا أعلمك سُوراً ما أنزلت في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلهن ؟ لا يأتين عليك ليلة إلا قرأتَهن فيها : قل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس .
قال عقبة : فما أتت علي ليلة إلا قرأتُهن فيها ، وحُق لي أن لا أدعهن وقد أمرني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد وغيره ، وأورده الألباني في الصحيحة .
• التعوذ منه في الصلاة
وقد تقدّم ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه .
• ذكر الله عند إغلاق الأبواب
قال عليه الصلاة والسلام : أغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله ، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية للإمام أحمد : أجيفوا الأبواب واذكروا اسم الله عليها ، فإن الشيطان لا يفتح باباً أُجيف وذُكر اسم الله عليه .
• ذكر الله عند تغطية الآنية
وتقدّم الحديث في ذلك " وأغلق بابك واذكر اسم الله ، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله ، وأوك سقاءك واذكر اسم الله ، وخمِّر إناءك واذكر اسم الله ، ولو تعرض عليه شيئا "
• إغلاق الفم عند التثاؤب
قال عليه الصلاة والسلام : أما التثاؤب فإنما هو من الشيطان ، فإذا تثاءب أحدكم فليردّه ما استطاع ، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان . رواه البخاري .(3/4)
وقال : إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه فان الشيطان يدخل مع التثاؤب . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
• التعوّذ عند الخروج من المنزل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله . قال : يُقال حينئذ : هُديت وكُفيت ووُقيت ، فتتنحى له الشياطين ! فيقول له شيطان آخر : كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي ؟ رواه أبو داود .
• ذكر الله عند دخول المنزل
تقدّم فيه الحديث قول الشيطان لأصحابه " لا مبيت لكم ولا عشاء " ، وذلك إذا ذكر الرجل ربه عند دخول منزله وعند طعامه .
• ذكر الله عند الطعام والشّراب
وتقدّمت الأحاديث في ذلك ، وأن الشيطان يُحاول أن يستحل طعام بني آدم عن طريق الأطفال أو غيرهم ممن ينسى الذِّكر عند الطعام .
والحل : أن يُذكّر الجميع بالتسمية على الطعام والشّراب .
• التعوذ عند دخول دورات المياه
وتقدّمت الاستعاذة ، ومنها " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " . رواه البخاري ومسلم .
• الانتهاء عن الوساوس
قال عليه الصلاة والسلام : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ . رواه البخاري ومسلم .
• إرغام أنف الشيطان "
أي أنك تجعل أنفه في الرّغام وهو التراب والطين
قال عليه الصلاة والسلام : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثا أم أربعا ، فليطرح الشك ولْيَبْنِ على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسلّم ، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته ، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان . رواه مسلم .
وذكر ابن القيم رحمه الله كلاما طويلا حول مسألة مراغمة الشيطان وإغاظته ، فليُرجع إليه في مدارج السالكين .
• البعد عن الخلوة بامرأة أجنبية(3/5)
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : من أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، لا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن . رواه الإمام أحمد .
والله تعالى أعلى وأعلم .
285-هل نُوطئ الخيل تُخُوم أرض الرّوم ؟
قال ابن إسحاق : وبعث رسول الله أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون .
فساروا حتى بلغوا تخوم البلقاء من أرض الشام حيث قتل أبوه زيد وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم ، فأغار على تلك البلاد ، وغنم وسبى ، وكرّ راجعاً سالماً مؤيداً .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على حماية المدينة من التهديدات المعادية
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أُحد ، وكان القوم أصابهم ما أصابهم من جِراح ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم تهديد قريش وعزمها على إعادة الكرّة ، أمر أصحابه باللحاق بالجيش المكيّ ، فخرجوا صبيحة اليوم التالي ، فساروا حتى بلغوا حمراء الأسد ، وأرهبوا عدوّهم ، ثم أقام في حمراء الأسد ثلاثة أيام .
ولما بلغه عزم قريش على غزو المدينة ، استشار أصحابه ، ثم أخذ بمشورة سلمان رضي الله عنه في حفر الخندق .
وكان هذا الاستعداد والتهيؤ بمثابة الصدمة للعدو الذي لم يكن هذا في حسبانه .
فلما أجلى الله الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم . رواه البخاري .(3/6)
ويوم بلغه أن سيد بني حنيفة ، وهو ثمامة بن أثال رضي الله عنه يُهدد أمن المدينة ، وأنه عازم على غزو المدينة ، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد فجاءت به مُكبلاً مُقيّداً فرُبط في سارية من سواري المسجد ثم عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يُسلم في القيد حتى إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفكِّه ، ذهب إلى بعض نخل المدينة ثم اغتسل ثم أسلم . وخبره في الصحيحين .
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الدولة العظمى في زمانه ( دولة الروم ) تُهدد المدينة لم ينتظر حتى يُفاجئه جيش الرّوم ، بل أرسل إليهم جيشاً يطأ أرضهم وديارهم ويُرهب أعداء الله .
فجيّش جيشاً وأمر عليه ثلاثة من خيار أصحابه ، فسار ذلك الجيش حتى بلغ مؤتة ، وهي بأرض الشام ، وفيها وقعت غزوة مؤتة .
ثم لما بلغه أنهم يُهددون أمن المدينة ثانية سار بنفسه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، ولم يلق قتالاً ، وإنما أقام فيها أياماً ثم رجع .
فأصبح أعداء الإسلام في موقف الدفاع !واليوم – ويح اليوم – وما أشبه اليوم بالأمس ، والليلة بالبارحة
اليوم أصبحنا نحن الذين نخاف أعداء الله ونرهبهم ، بدلاً من أن نُرهبهم !
أصبحت اليهود لديها وزارة (( الحرب )) !
ولدى دول الإسلامية وزارات (( دفاع ))
الذين أذلّهم الله يُحاربون !!
والذين أعزّهم الله بالدِّين يُدافعون !!
وأضحى الكافر يزبد ويرعد ويُهدد ويتوعّد
ونحن الذين نُطأطئ رؤوسنا مذعنين قائلين : سيدي الرئيس ! نحن شعوب تُحبّ السلام !
شتان شتان بين هَمّ وهَمّ
وفرق واضح بين قضية وقضية
وبون شاسع بين اهتمام واهتمام
قارن أحوال أسلافنا بما نحن عليه اليوم !
لقد كان همّ قائد الأمة صلى الله عليه وسلم انتشار الإسلام ، وحماية حمى الدين
وعلى هذا سار أصحابه من بعده .
بل سارت عليه جيوش الإسلام وأمراؤه .
قال ابن كثير رحمه الله :(3/7)
فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ، ليس لهم شغل إلا ذلك ، قد عَلَتْ كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وبرها وبحرها ، وقد أذلّوا الكفر وأهله ، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعباً ، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه ، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه ، فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك ، يقتل ويسبي ويغنم ، حتى وصل إلى تخوم الصين ، وأرسل إلى مَلِكه يدعوه فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرة هدية ، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده ، بحيث أن ملوك تلك النواحي كلها تؤدي إليه الخراج خوفا منه .
ثم ذكر خبر مسلمة بن عبد الملك بن مروان وجهاد للروم في الشام ثم قال : وامتلأت قلوب الفرنج منهم رعباً ، ومحمد بن القاسم - ابن أخي الحجاج - يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم ، وموسى بن نضير يجاهد في بلاد العرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرها .
الله أكبر أي عزّة هذه ؟
وأي نصرٍ ينصر الله به مَن ينصره ؟
أين تلك الجيوش التي كانت ترعى البلاد رعياً !
أين هي وجيوش الروم – اليوم – تنهى وتأمر ؟!
أيا عمر الفاروق هل لك عودة = فإن جيوش الروم تنهى وتأمر ؟
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم = وجُندك في حطين صلوا وكبروا
يحاصرنا كالموت ألف خليفة = ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر
تناديك من شوق مآذن مكة = وبدر تنادي يا حبيبي وخيبر
نساء فلسطين تكحّلن بالأسى = وفي بيت لحم قاصرات وقُصّر
وليمون يافا يابس في غصونه = وهل شجر في قبضة الظلم يزهر ؟
اللهم إليك نشكو ضعفنا ، وقلّة حيلتنا ، وهواننا على الناس .
286-تَحذِير من قبل صَاحِب...
تحذير
..
..
..
..
تحذير..
مِنْ قِبَلِ..
صاحب الخلق العظيم
صلى الله عليه وسلم
حيث قال عليه الصلاة والسلام :(3/8)
من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال .
فليحذر الذين يخوضون في أعراض عباد الله
وكل حجتهم : سمعت الناس يقولون شيئا فقلت
وليعلموا أن المُرتقى صعب..
وأن العقبة كئود ..
وأن السؤال واقع ..
وأن الجواب عسير ..
إلا على من يسّره الله عليه ..
287-اصرف بَصَرك ..واحفَظ قلبك..
اصرف بصرك
هذا أمر نبوي كريم
بِهِ يُحفظ القلب من الصّدع
والجوارح من الإثم
فيبقى القلب سليما خالياً من الحسرات
وتسمو النفس وتزكو
والأهم من ذلك هو حفظ الفروج
إذ أن حفظ الأعراض من الضروريات والكلّيّات الخمس التي جاءت بها الشريعة .
ولذا جاء التأكيد على هذا المعنى في كتاب الله فقال الله جلّ الله :
( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ )
وماذا ؟
( وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )
لماذا ؟
( ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ )
وقال مثل ذلك في حق المؤمنات للتأكيد عليهن أيضا :
( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ )
ولا سبيل لحفظ الفروج إلا بإغلاق المنافذ !
والعين رسول القلب ورائده !
بل هي تزني وزناها النّظر ، كما في الصحيحين
قال عليه الصلاة والسلام : إن الله كتب على بن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ؛ فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه .
وغض البصر خصلة من ست خصال من أتى بهن مع إيمان بالله عز وجل ضمِن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا أؤتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضُّوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم . رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه.
وغض البصر من حق الطريق ، لأن الطريق حق للجميع .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إياكم والجلوس على الطرقات .(3/9)
فقالوا : ما لنا بدّ ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها .
قال : فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها .
قالوا : وما حق الطريق ؟
قال : غضّ البصر ، وكف الأذى ، وردّ السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . رواه البخاري ومسلم .
وأما السبيل إلى غض البصر ففي أمور :
الأول :
عدم إتباع النظرة النظرة
وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمه هذا المعنى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : يا علي ، لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى ، وليست لك الآخرة . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
والثاني :
صرف البصر عما إليه نظر
قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة ، فأمرني فقال : اصرف بصرك . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
قال الإمام البخاري :
قال سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن . قال : اصرف بصرك عنهن ، يقول الله عز وجل :
( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )
قال قتادة : عما لا يحل لهم .
( خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ) من النظر إلى ما نهى عنه ، وقال الزهري : في النظر إلى التي لم تحض من النساء ، لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يُشتهى النظر إليه ، وإن كانت صغيرة ، وكره عطاء النظر إلى الجواري التي يُبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري . انتهى ما علقه الإمام البخاري رحمه الله .
الثالث :
تذكّر عظيم الجزاء عند الله
وأن من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه
وأن يترك هذا النظر من أجل النظر إلى وجه ربِّه الكريم
وأن يتذكر أن الله مُطّلع عليه لا تخفى عليه خافية .
الرابع :
أن يتذكّر الرجل المتزوّج أن الله أغناه بحلاله عن حرامه ، فلا يكن كأخسّ الحيوان !
قال ابن القيم رحمه الله : ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمرّ بالطيبات فلا يلوي عليها ، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قَمّه !
الخامس :(3/10)
- وهو خاص بالمتزوجين أيضا - فِعله عليه الصلاة والسلام في علاج ما يقع في القلب من أثر النظر
فقد رأى عليه الصلاة والسلام امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته ، ثم خرج إلى أصحابه ، فقال : إن المرأة تُقبل في صورة شيطان ، وتُدبر في صورة شيطان ، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأتِ أهله ، فإن ذلك يرد ما في نفسه . رواه مسلم .
قال النووي : قال أهل اللغة : المعس الدّلك ، والمنيئة : الجلد أول ما يوضع في الدباغ .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله بعض فوائد غض البصر أسوقها للفائدة :
قال رحمه الله :
وفي غض البصر عدة فوائد :
أحدها : تخليص القلب من ألم الحسرة ، فإن من أطلق نَظَرَه دامت حسرته ، فأضرّ شيء على القلب إرسال البصر ، فإنه يُريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ولا وصول له إليه ، وذلك غاية ألمه وعذابه .
قال الأصمعي : رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة فجعلت أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها ، فقالت لي : يا هذا ما شأنك ؟ قلت : وما عليك من النظر فأنشأت تقول :
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا = لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه = ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية ، فإن لم تقتله جرحته ، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس ، فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل :
كل الحوادث مبداها من النظر = ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها = فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها = في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسرّ مقلته ما ضرّ مهجته = لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه . ولِي من أبيات :
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا = أنت القتيل بما ترمي فلا تُصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له = توقّه إنه يأتيك بالعطب(3/11)
الفائدة الثانية : أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح ، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه .
الفائدة الثالثة : أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته ، وإذا استنار القلب صحّت الفراسة ، لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوّة تظهر فيها المعلومات كما هي ، والنظر بمنزلة التنفس فيها ، فإذا أطلق العبد نظرةً تنفّست نَفسُه الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها . كما قيل :
مرآة قلبك لا تريك صلاحه = والنفس فيها دائما تتنفس
وقال شجاع الكرماني : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، وأكل من الحلال لم تخطئ فراسته . وكان شجاع لا تخطئ له فراسة .
والله سبحانه وتعالى يجزى العبد على عمله بما هو من جنسه ، فمن غضّ بصره عن المحارم عوّضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته ، فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته ، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته .
الفائدة الرابعة : أنه يفتح له طُرق العلم وأبوابه ويُسهل عليه أسبابه ، وذلك بسبب نور القلب ، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات وانكشفت له بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض ، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم ، وانسد عليه باب العلم وطرقه .
الفائدة الخامسة : أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته ، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة ، وفي الأثر : إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله . ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذُلِّ القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه .
قال الحسن : إنهم وإن هملجت بهم البغال طقطقت بهم البراذين إن ذل المعصية لفي قلوبهم ، أبى الله إلا أن يذلّ من عصاه .
وقال بعض الشيوخ : الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله .(3/12)
ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه ، وفيه قسط ونصيب من فعل من عاداه بمعاصيه .
وفي دعاء القنوت : إنه لا يذلّ من واليت ، ولا يعزّ من عاديت .
الفائدة السادسة : أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر ، وذلك لقهره عدوه بمخالفته ، ومخالفة نفسه وهواه .
وأيضا فإنه لما كفّ لذته وحبس شهوته لله - وفيها مسرّة نفسه الأمارة بالسوء - أعاضه الله سبحانه مسرّة ولذّة أكمل منها .
كما قال بعضهم : والله للذّة العفة أعظم من لذة الذنب .
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحا وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما ، وهاهنا يمتاز العقل من الهوى .
الفائدة السابعة : أنه يُخلِّص القلب من أسر الشهوة ، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه ، فهو كما قيل :
طليق برأي العين وهو أسير .
ومتى أسَرَت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار :
كعصفورة في كف طفل يسومها = حياض الردى والطفل يلهو و يلعب
الفائدة الثامنة : أنه يسد عنه باباً من أبواب جهنم ، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل ، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول ، فمتى هتك الحجاب ضري على المحظور ولم تقف نفسه منه عند غاية ، فإن النفس في هذا الباب لا تقنع بغاية تقف عندها ، وذلك أن لذتها في الشيء الجديد ، فصاحب الطارف لا يقنعه التليد ، وإن كان أحسن منه منظرا وأطيب مخبرا ، فغض البصر يسدّ عنه هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه .
الفائدة التاسعة : أنه يقوي عقله ويزيده ويثبته ، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب ، فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب ، ومُرسِل النظر لو علم ما تجني عواقب نظره عليه لما أطلق بصره قال الشاعر :
وأعقل الناس من لم يرتكب سببا = حتى يُفكر ما تجني عواقبه(3/13)
الفائدة العاشرة : أنه يُخَلِّص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة ، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق ، كما قال الله تعالى عن عشاق الصور :
( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ )
فالنظرة كأس من خمر ، والعشق هو سكر ذلك الشراب ، وسُكر العشق أعظم من سُكر الخمر ، فإن سكران الخمر يفيق ، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات .
كما قيل :
سُكران : سكر هوى وسكر مدامة = فمتى إفاقة من به سكران ؟
ثم قال :
وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا ، وإنما نبهنا عليه تنبيها ، ولا سيما النظر إلى من لم يجعل الله سبيلا إلى قضاء الوطر منه شرعا كالمردان الحسان ، فإن إطلاق النظر إليهم السم الناقع والداء العضال .
قال سعيد بن المسيب : إذا رأيتم الرجل يحدّ النظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه .
وكان إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهما من السلف ينهون عن مجالسة المُردان .
قال النخعي : مجالستهم فتنة . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله .
وقال رحمه الله :
إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور ، والقلب كعبة ، وما يرضى المعبود بمزاحمة الأصنام ..
تدور عينك على المحرمات كأنه قد ضاع منك شيء !
288-أترونَ هذه طارحة ولدها في النّار؟!!
قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ،
فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟
قلنا : لا والله ! وهى تقدر على أن لا تطرحه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أرحم بعباده من هذه بولدها . رواه البخاري ومسلم .
هكذا اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم الموقف ليُذكّر أصحابه ويعِظهم
وليذكّرهم بسعة رحمة الله عز وجل
أن الله هو أرحم الراحمين
وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها(3/14)
وكان يقول لهم : إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض ، فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار .
ولكنه مع ذلك لا يغفل عن الموازنة
فقد قال لهم : لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد .
فلا إفراط ولا تفريط
ورحمة الله عز وجل وسعت كل شيء فـ يا لحرمان المحرومين
ويا لبُعد الملعونين
ويا لشقاء المطرودين
يوم لا يسعهم واسع الرحمة
يقول رب العزة سبحانه : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ )
وفي دعاء الملائكة ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ )
فيا لحرمان المطرودين الملعونين الذين رضوا بالذل والهوان ، ورضوا بأ يُطردوا ويُبعدوا عن رحمة أرحم الراحمين
ويا لبعد القلوب القاسية
تلك القلوب التي تهزأ بالصخر قساوة
( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )(3/15)
أمَا إن من القلوب ما يفوق الصخر قساوة
ومن العيون ما يفوق الأرض الجدباء جفافا
فلا قلوبهم ترحمهم
ولا أعينهم تدمع
وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع
فما تُنزع الرحمة إلا من قلب شقي
قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أتُقبِّلون صبيانكم ؟! فقالوا : نعم ، فقالوا : لكنا والله ما نُقبّل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَأَمْلِك إن كان الله نزع منكم الرحمة ؟! رواه البخاري ومسلم .
ولما قدم الأقرع بن حابس فأبصر النبي صلى الله عليه وسلم يُقبّل الحسن ، فقال : إن لي عشرة من الولد ما قبّلت واحدا منهم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه من لا يرحم لا يرحم . رواه البخاري ومسلم .
إن الرحمة بالولد قبل غيره من أسباب رحمة الله عز وجل بالوالد
قالت عائشة رضي الله عنها : جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها ، فأطعمتها ثلاث تمرات ، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها ، فاستطعمتها ابنتاها ، فشقّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما ، فأعجبني شأنها ، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله قد أوجب لها بها الجنة ، أو أعتقها بها من النار . رواه مسلم .
وعند البيهقي في شُعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة منكم إلا رحيم . قالوا : يا رسول الله كلنا رحيم . قال : ليس رحمة أحدكم نفسه وأهل بيته حتى يرحم الناس .
وتتعدى الرحمة بني الإنسان حتى يؤمر برحمة الحيوان البهيم
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، أو قال : إني لأرحم الشاة إن أذبحها ، فقال : والشاة إن رحمتها رحمك الله . رواه الإمام أحمد .
ولا تجتمع الرحمة والشقاوة .(3/16)
قال عليه الصلاة والسلام : لا تُنزع الرحمة إلا من شقي . رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود .
ولا يصلح الأشقياء إلا للنار
كيف بهم إذا سمعوا هذا النداء
وإذا سمع هذا الأمر الرباني :
( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ )
" والأرض تحتوي اليوم في بعض نواحيها قلوبا أقسى ، وطبائع أجسى ، وجِبلاّت لا يؤثر فيها إلا كلمات من نار وشواظ كهذه الكلمات ، ومشاهد وصور كهذه المشاهد والصور المثيرة "
أما لو علم العباد بما أعدّ الله عز وجل لعباده المؤمنين وما لهم من الكرامة لما فتروا عن الطّلب
قال عليه الصلاة والسلام :(3/17)
إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا : هلموا إلى حاجتكم ، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا ، فيسألهم ربهم - وهو أعلم منهم - : ما يقول عبادي ؟ قال : تقول : يُسبّحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال : فيقول : هل رأوني ؟ قال : فيقولون : لا والله ما رأوك . قال : فيقول : وكيف لو رأوني ؟ قال : يقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة ، وأشد لك تمجيدا ، وأكثر لك تسبيحا . قال : يقول : فما يسألونني ؟ قال : يسألونك الجنة . قال : يقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون لا والله يا رب ما رأوها . قال : يقول : فكيف لو أنهم رأوها ؟ قال : يقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا ، وأشد لها طلبا ، وأعظم فيها رغبة . قال : فمم يتعوذون ؟ قال : يقولون : من النار . قال : يقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون : لا والله يا رب ما رأوها . قال : يقول : فكيف لو رأوها ؟ قال : يقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فرارا ، وأشد لها مخافة . قال : فيقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم . قال : يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم ، إنما جاء لحاجة . قال : هم الجلساء لا يشقي بهم جليسهم . رواه البخاري ومسلم .
اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلوب
ونعوذ بك اللهم من الشقاء
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير . رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطيهما من تشاء ، وتمنع منهما من تشاء ، ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك .
289-أُستاذي وشيخي وقدوتي ومعلِّمي وإمامي..
ليست مبالغة بل هي الحقيقة
وليس هذا من الغلو
وما هذا من التعصّب ، فكلّ تعصب مذموم إلاّ ما كان له
وكل إمام يُرد عليه إلا هذا الإمام
وكل شيخ يَصدر عن شيوخه إلا هذا الشيخ
قال ابن القيم رحمه الله :(3/18)
العلم الصافي هو العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان الجنيد يقول دائما : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، فمن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يُقتدى به .
وقال أيضا : علمنا هذا متشبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو سليمان الداراني : إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة .
وقال النصر آبادي : أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة ، وترك الأهواء والبدع ، والاقتداء بالسلف ، وترك ما أحدثه الآخرون ، والإقامة على ما سلكه الأولون .
فهذا العلم الصافي المتلقّى من مشكاة الوحي والنبوة يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية .
وحقيقتها : التأدب بآداب رسول الله باطنا وظاهرا ، وتحكيمه باطنا وظاهرا ، والوقوف معه حيث وقف بك ، والمسير معه حيث سارَ بك ، بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألْقَيت إليه أمرك كله سرّه وظاهره ، واقتديت به في جميع أحوالك ، ووقفت مع ما يأمرك به فلا تخالفه ألبته ، فتجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لك شيخا وإماما ، وقدوة وحاكما ، وتعلّق قلبك بقلبه الكريم ، وروحانيتك بروحانيته ، فتجيبه إذا دعاك ، وتقف معه إذا استوقفك ، وتسير إذا سارَ بك ، وتقيل إذا قال ، وتنزل إذا نزل ، وتغضب لغضبه ، وترضى لرضاه ، وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك ، وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزله ما تسمعه من الله بإذنك .
وبالجملة : فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلمك ومربيك ومؤدبك ، وتُسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ ، كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية ، ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك .
وهذان التجريدان : هما حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .(3/19)
والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحق العبادة سواه ، ورسوله المطاع المتَّبع المُهتدَى به الذي لا يستحق الطاعة سواه ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته فيطاع تبعا للأصل .
وبالجملة : فالطريق مسدودة إلا على من اقتفى آثار الرسول واقتدى به في ظاهره وباطنه .
فلا يتعنّى السالك على غير هذا الطريق فليس حظّه من سلوكه إلا التعب ، وأعماله ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) .
ولا يتعنّى السالك على هذا الطريق ، فإنه واصل ولو زحف زحفا ، فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قعدت بهم أعمالهم ، قامت بهم عزائمهم وهمهم ومتابعتهم لنبيهم ، كما قيل :
من لي بمثل سيرك المدلل = تمشي رويدا وتجي في الأول
والمنحرفون عن طريقه إذا قامت بهم أعمالهم واجتهاداتهم قعد بهم عدولهم عن طريقِه . انتهى كلامه رحمه الله .
وقد كثُرت الدعاوى في اتِّباعه صلى الله عليه وسلم
وكثُر المدّعون لمحبته
الذين يزعمون أنهم قد استمسكوا بسنته ، واتّبعوا هديه
إلا أن الواقع يُصدّق تلك الدعوى أو يُكذّبها
فكم تُعظّم أقوال بعض الشيوخ على حساب قوله عليه الصلاة والسلام
وكم تُقدّم آراء الرجال على رأيه صلى الله عليه وسلم بحجة : هل أنت أعلم مِن فلان ؟!
أو بمتعلّق قال فلان : كذا ، وقال وفلان : كذا ! ولستَ بأكثر علما واطّلاعاً منهم !
أو في مذهبي كيت وكيت !
وكم يُردّ قوله عليه الصلاة والسلام ولا تُرد الأعراف
وكم يُساء الأدب مع سيد ولد آدم
وكم يُتقدّم بين يديه
وكم .. وكم ..
فهذا التساقط في الأسوة والقدوة والتخلّف في الانتساب إلى مُعلّم البشرية عليه الصلاة والسلام
كافية بتعرية تلك الدعاوى في الاتِّباع
واضحة في تعظيم الشيوخ أكثر من تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام(3/20)
تُسطّر برهانا جليّاً أن أقوال الرجال أكثر إجلالاً في نفوس الأتباع من أقول النبي المجتبى والرسول المصطفى .
تقول بكل وضوح :
والدعاوى ما لم يُقيموا عليها = بيّنات أبناؤها أدعياءُ
فالقول في وادٍ ، والفعل في وادٍ
ورب العالمين قال في محكم التنزيل : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا )
وقال رب العزة سبحانه وتعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )
إن كنتم صدقتم في دعوى الإيمان بالله واليوم الآخر فردّوا ما تنازعتم فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم .
عندما تتناقش مع طالب علم – فضلا عن جاهل – في مسألة ما ، فتراه يُقدّم أقوال الرجال ، وآراء أهل العلم قبل أن يُقدّم الدليل من الكتاب والسنة .
فإذا ما استحضرت الدليل وسُقته له على أحسن نسق ، مُبيّناً مَن روى الحديث بل ودرجته ، فتُفاجأ به يقول : قال شيخنا كذا !
فيتبادر إلى ذهنك قول ابن عباس رضي الله عنهما : ألا تخافون أن يخسف الله بكم الأرض ؟! أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون قال أبو بكر وعمر ؟!
أو قول ابن عمر رضي الله عنهما : أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر ؟!
لقد قدّم ابن عمر رضي الله عنهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول أبيه !
ومن هو أبوه في الإسلام ؟
هكذا تكون الأسوة والقدوة ..
290-أرضَى بجوارِ الله عزَّ وجل..
اللهُ اللهُ لا أبغي به بدلاً = اللهُ اللهُ مقصودي ومعتمدي
عندما تسمو همّة المؤمن ، ويتسامق به إيمانه ، فإنه لا ينظر تحت قدميه ، بل ينظر إلى السماء مُتطلعاً إلى العلياء ، وذلك في كل أمر من أموره .
فإن استعان فبالله
وإن سأل سأل الله
وهو لا يرضي بما دون الجنة(3/21)
بل يرضى باليلاء إذا كان في سبيل الله .
لما ابتلي المسلمون في مكة واشتد البلاء خرج أبو بكر مهاجراً قِبل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارَة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . قال ابن الدغنة : إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكَلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك ، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج ، أتُخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة : مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به ، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له : إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْهُ أن يرد إليك ذمتك فإنا كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان . قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال : قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني(3/22)
أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر : إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله . رواه البخاري .
هذا ما كان من شأن الصِّدِّيق رضي الله عنه وأرضاه .
فما هو خبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه وارضاه ، وهو أحد السابقين ؟
قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : لما رأى عثمان بن مظعون رضي الله عنه ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء ، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة . قال : والله إن غدوي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي وأهل ديني يَلْقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي ، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له : يا أبا عبد شمس وَفَتْ ذمّتك ، وقد رددت إليك جوارك . قال : لم يا ابن أخي ؟ لعله آذاك أحد من قومي . قال : لا ولكني أرضى بجوار الله عز وجل ، ولا أريد أن أستجير بغيره . قال : فانطلق إلى المسجد فاردُد عليّ جواري علانية ، كما أجرتك علانية . قال : فانطلقا ثم خرجا حتى أتيا المسجد ، فقال لهم الوليد : هذا عثمان قد جاء يرد عليّ جواري . قال لهم : قد صدق ، قد وجدته وفيّاً ، كريم الجوار ، ولكني قد أحببت أن لا أستجبر بغير الله ، فقد رددتُ عليه جواره ، ثم انصرف عثمان ، ولبيد بن ربيعة في المجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد : وهو ينشدهم :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال عثمان : صدقت .
فقال : وكل نعيم لا محالة زائل .
فقال عثمان : كذبت ، نعيم أهل الجنة لا يزول .
قال لبيد بن ربيعة : يا معشر قريش ، والله ما كان يؤذى جليسكم ، فمتى حدث فيكم هذا ؟
فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه في سفهاء معه ! قد فارقوا ديننا ، فلا تجدن في نفسك من قوله .(3/23)
فَرَدّ عليه عثمان حتى سرى - أي عظم - أمرهما ، فقام إليه ذلك الرجل ، فلطم عينه فخضّرها ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان ، فقال : أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية ، فقد كنت في ذمة مَنِيعة . فقال عثمان : بلى ، والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله ! وإني لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس .
فقال عثمان بن مظعون فيما أصيب من عينه :
فإن تك عيني في رضا الرب نالها = يدا ملحد في الدين ليس بمهتد
فقد عوض الرحمن منها ثوابه = ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد
فإني وإن قلتم غوي مضلل = سفيه على دين الرسول محمد
أريد بذاك الله والحق ديننا = على رغم من يبغي علينا ويعتدي
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما أصيب من عين عثمان بن مظعون رضي الله عنه :
أمن تذكر دهر غير مأمون = أصحبت مكتئبا تبكي كمحزون
أمن تذكر أقوام ذوي سفه = يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين
لا ينتهون عن الفحشاء ما سلموا = والغدر فيهم سبيل غير مأمون
ألا ترون أقل الله خيرهم = أنا غضبنا لعثمان بن مظعون
إذ يلطمون ولا يخشون مقلته = طعنا دراكا وضربا غير مأفون
فسوف يجزيهم إن لم يمت عجلا = كيلا بكيل جزاء غير مغبون
والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله ! وإني لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس .
أي عِزّة يمتلكها المؤمن بالله عز وجل ؟
وأي استعلاء على الأعداء ، لإظهار عزة المسلم ؟
وأي صبر على البلاء ، بل أي تلذذ بالضرّاء ؟؟؟
فرضي الله عنهم ما أزكى سيرهم ، وما أطيب دروس مدرستهم .
فاللهم احشرنا في زمرتهم
291-ظاهرة الفحش والتفحش..
المقصود بالفُحش : ما قبُح من قول أو فعل .
قال الراغب : الفحش والفحشاء ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال .
ويرِد ذِكر الفاحشة في القرآن ويُراد بها الزنا ، ويُراد بها أيضا إتيان الذَّكر لِذَكَر مثله .(3/24)
قال الفيروز آبادي : الفاحشة : الزنا ، وما يشتد قبحه من الذنوب ، وكل ما نهى الله عز وجل عنه ، والفحشاء البخل في أداء الزكاة ، والفاحش البخيل جدا والكثير الغالب ، وقد فحش فحشا ، والفحش : عدوان الجواب . اهـ .
وفي المصباح : كل شيء جاوز الحد فهو فاحش ومنه غبن فاحش إذا جاوز الزيادة بما لا يعتاد مثله .
الفاحِش : هو ذُو الفُحْش في كلامه وفِعَاله . والمتَفَحّش: الذي يتَكلّفُ ذلك ويَتَعمّدُه.
وكلُّ خَصْلةٍ قبيحة فهي فاحِشة ، من الأقوال والأفعال .
ومنه الحديث : فإن الله لا يُحِبّ الفُحْش ولا التفَاحُش .
أراد بالفُحْش التّعَدّي في القَول والجواب . لا الفحشَ الذي هو من قَذَع الكلام ورَدِيئه . والتّفَاحُش: تَفَاعُل منه .
الأمر بقول الحسن من الكلام :
قال الله تبارك وتعالى : ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزَغُ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبينا )
وقال سبحانه : ( وقولوا للناسِ حُسنا )
ووصف الله ورثة الفردوس بقوله : ( والذين هم عن اللغو معرضون )
ونَعَتَ عباد الرحمن الذين هم عباده بقوله : ( وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما ) وهم الذين ( إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )
وقال : ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ) وكان جوابُهم ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين ) .
فهذا أمرٌ بقول الحسن من الكلام ، وحثٌ على ترك قبيحه ، ومدحٌ لمن أعرض عن جهل الجاهلين ، وسبِّ المقذعين .
والأمر هنا بقول الكلام الحسن نهي عن ضدِّه وهو القول الفاحش ، والفُحش من الكلام
ووُصِفَ المؤمنون في السنة بأحسن الأوصاف ، فنُعتوا بأنهم ليسوا طعّانين ولا لعّانين . وبأنهم عن الفحشِ من القول بعيدين .
فعن عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطّعّانِ ولاَ اللّعّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيّ . حديث صحيح . رواه أحمد والترمذي .(3/25)
قال ابنُ الأثير : لا يكونُ المُوْمِن طَعّاناً . أي وقّاعاً في أعْرَاضِ الناس بالذّم والغِيبَة ونحوهما وهو فعّال ، مِن طَعَن فيه وعَليه بالقَول يَطْعَنُ ـ بالفتح والضم ـ إذا عَابه . ومنه الطّعن في النّسَب . اهـ .
قال عبدالله بن مسعود : ألأَمُ أخلاقَ المؤمنِ الفحش . أي أكثرها لؤماً .
وفي صحيح مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَعَثَ إِلَىَ أُمّ الدّرْدَاءِ بِأَنْجَادٍ مِنْ عِنْدِهِ . فَلَمّا أَنْ كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنَ اللّيْلِ ، فَدَعَا خَادِمَهُ فَكَأَنّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ فَلَعَنَهُ . فَلَمّا أَصْبَحَ قَالَتْ لَهُ أُمّ الدّرْدَاءِ : سَمِعْتُكَ اللّيْلَةَ لَعَنْتَ خَادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ . فَقَالَتْ : سَمِعْتُ أَبَا الدّرْدَاءِ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ يَكُونُ اللّعّانُونَ شُفَعَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
والأنجاد : هو متاعُ البيت الذي يزيّنُه .
فانظر إلى أمِّ الدرداء كيف لم تمنعها هديةُ عبدالملك من نصحِه وقولِ كلمةِ الحق له .
وحُسْنَ الخُلقِ ليس بالأمر الهيّن ، وهو من أصعب الأشياء على النفوس ، ولذا كان هو أثقلُ شئٍ في ميزان المؤمن يوم القيامة .
وليس حُسن الخلق : احتمال الأذى من الناس فحسب . بل يُضاف إليه : كف الأذى عن الناس .
فقد يستطيع بعضُ الناسِ أن يَكُفَّ أذاه عن الآخرين ، لكنه لا يقدُر على تحمّل أذاهم . والعكس .
فمن جمع هاتين الخصلتين فهو الموفّق .
وعند أبي داود والترمذي ـ بسند صحيح ـ عن أَبي الدّرْدَاء رضي الله عنه ِ: أَنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: مَا من شيْءٌ أَثْقَلُ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ، فَإِنّ الله تعالى ليُبْغِضُ الفاحِشَ البَذِيءَ .(3/26)
وبِحُسنِ الخُلق يبلغ العبد منازلَ لا يدركُها بعمله ، بل إنه يدركُ درجة الصائم النهار القائم الليل إذا حسُن خُلُقه .
فعن عَائِشةَ رضي الله عنها قالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: إِنّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ الْقَائِمِ . رواه أحمد و أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي . وهو صحيح .
فهذه رُتبةٌ عالية ، ومنزلةٌ سامية ، وشرفٌ عظيم ، ينالُه المسلم بحُسن خُلُقِه .
قال ابنُ حجر : حسنُ الخُلُق : اختيار الفضائل وترك الرذائل .
والصورةُ المقابلة هي صورةُ ذلك الفاحش الذي إن تركه الناسُ فإنما يتركونه اتّقاءَ فُحشه وهم يهُشّون ويبُشّون له تجنباً لسوء خُلُقِه . فهذا من شرارِ الناس كما قال الصادقُ المصدوق .
عن عائشة رضي الله عنها أنه استأذَنَ على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال : ائذَنوا له فبئسَ ابن العَشِيرة ـ أو بئسَ أخو العشيرة ـ فلما دخلَ ألانَ له الكلام . فقلتُ له : يا رسولَ الله قلتَ ما قلتَ ثم ألنتَ له في القول . فقال: أي عائشة إن شر الناسِ مَنزِلةً عندَ الله مَنْ ترَكهُ ـ أو وَدَعه ـ الناسُ اتّقاءَ فُحشِه . رواه البخاري ومسلم .
وعند البخاري : فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة متى عهِدْتِني فاحشاً ؟ إنّ شرّ الناسِ عندَ الله منزلةً يومَ القيامة مَن تَركهُ الناسُ اتقاءَ شرّه .
لا والله يا رسول الله ما عهدناك فاحشاً ، وما عهدتك العرب في جاهلية ولا في إسلام ، وأنّى يكون الفحش من أخلاقك وأنت الذي قال ربك في وَصْفك بقوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) .
شهمٌ تُشيد به الدنيا برمتها على المنائر من عُربٍ ومن عجم
وكما أن العبد يبلغ درجة الصائم القائم بحُسْنِ خُلُقِه ، فإنّه قد يَحْبَطُ عملُه ويصبحُ من أهل النار بسوء خُلُقِه .(3/27)
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها فقال : " لا خير فيها هي في النار " . قيل : فإن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بأثوار من أقِطْ ولا تؤذي أحداً بلسانها . قال : " هي في الجنة " . رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم وصححه وابن حبان . وهو حديث صحيح .
وفي صحيح مسلم عَنْ عِيَاضٍ الْمُجَاشِعِيّ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي يَوْمِي هََذَا. ـ ثم ذكر أهل الجنة وأهل النار ـ قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنّةِ ثَلاَثَةٌ : ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدّقٌ مُوَفّقٌ. وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلّ ذِي قُرْبَىَ وَمُسْلِمٍ. وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ ذُو عِيَالٍ .
قَال : وَأَهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ : الضّعِيفُ الّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ ، الّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً . وَالْخَائِنُ الّذِي لاَ يَخْفَىَ لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقّ إِلاّ خَانَهُ . وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ . وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ ، وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ .
قال ابن الأثير : " وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ " هو السيئ الخُلق .
و " الذي لا زبْر له " أي لا عقْل له يزبُرُه وينهاه عن الإقدام على ما لا ينبغي .
والفحش لا يُحِبّه الله جل وعلا ، ولا خير في خلقٍ لا يُحبّه ربُ العالمين . ولا من أحب ذلك الخُلق .(3/28)
وقد قَرَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم التحذير من الفحش بالتحذير من الظلم . فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اتّقُوا الظّلْمَ فَإِنّهُ ظّلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتّقُوا الْفُحْشَ فَإِنّ الله لا يُحِبّ الْفُحْشَ وَالتّفَحّشَ ، وَإِيّاكُمْ وَالشّحّ فَإِنّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالظّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا ، وَأَمَرَهُم بِالْقَطِيعَةِ فَقَطعُوا ».
رواه أحمد والحاكم وابن حبان وهو حديث صحيح .
والفحش ينافي الحياء.
وأنت تلاحظ أن الإنسان الفاحش ـ في الغالب ـ يكونُ صفيق الوجه ، قليل الحياء ، يشتمُ لأتفه الأسباب ، ويسُبُّ لأدنى سبب ، بخلاف الحيي فإنه يستحي إذا سابّه أحدٌ أن يردّ عليه فلا يُتوقّع منه أن يبتدئ هو بالسب والشتم .
وهذه المعاني يوضّحها حديثُ أنسٍ رضي الله عنه حيث يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان الفحش في شيء قط إلا شأنه ، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه . حديث صحيح . أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي .
كما أن الفحش ينافي الرفق . فإنك لا تجد الفاحش رفيقاً بعباد الله ، ولا رحيماً بضعفائهم ، يسُبُّ كلَّ أحد ، ويشتم كلَّ إنسان
وعند ابن حبّان : " ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان الفحش في شيء قط إلا شانه " .
وفي الصحيحين من حديث عائشةَ رضيَ اللّه عنها : أنّ اليهودَ أتوُا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : السامُ عليك . قال : وعليكم . فقالت عائشة : السامُ عليكم ولعنَكمُ اللّهُ وغَضِبَ عليكم . فقال رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم : مَهلاً يا عائشة عليكِ بالرفق وإياكِ والعُنف ـ أَوِ الفُحش ـ قالت : أوَ لم تَسمعْ ما قالوا ؟ قال : أَوَ لم تَسمعي ما قلتُ ؟ ردَدْتُ عليهم ، فيُستجابُ لي فيهم ، ولا يُستَجاب لهم فيّ .(3/29)
فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أرشد زوجه إلى ما فيه الرفق حتى مع ألدّ أعداء الدين مع اليهود .
تأمل حال بعض السائقين عندما يمتطي صهوة سيارته لا يرى في الطريق غيره ، ولا يبصر في الدرب سواه ، فهو وحده الذي يعرف أصول القيادة وغيره همجٌ رعاع ! لا يفهمون ولا يعرفون !!
وما إن تنحرف إليه سيارةٌ -ولو شيئاً يسيراً - أو كانت حركة غير مقصودة من الآخرين إلا أخذ في السبِّ والشتم بل ربما وصل الشتم - أحياناً - الآباء والأجداد ، ومن أعطاه السيارة ومن منحه رخصة القيادة و … و …
أين هم من هذا الرفق النبوي حتى مع أعداء الله : اليهود ؟
أعْجَبُ ولا ينقضي عجبي من تلك النوعيات من الناس !
ألم يَعُدْ للحُلم موضعا ؟
هل انتهت كلمات العتاب من قواميس اللغة ؟
أليس الدعاء بالصلاح للغير أولى من السب واللعن ؟
ألَم يمتدحُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أشج عَبْد الْقَيْسِ بقوله : إِنّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبّهُمَا اللّهُ : الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ . كما عند مسلم
إن السب واللعن أمرٌ مرفوضٌ في دين الله ، ولو كان المسبوب بهيمة عجماء لا تعي ما يُقال ، ولا تدرك حقيقة السِّباب ولا تفهم الخطاب . لما في ذلك من تعوُّدِ اللسان على قول الفُحش .
روى مسلمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهَ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَىَ نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا . فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا . فَإِنّهَا مَلْعُونَةٌ .
قَالَ عِمْرَانُ : فَكَأَنّي أَرَاهَا الآنَ تَمْشِي فِي النّاسِ ، مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ .(3/30)
وعند مسلم أيضا من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ ، وَهُوَ يَطْلُبُ الْمَجْدِيّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيّ ، وَكَانَ النّاضِحُ يَعْقُبُهُ مِنّا الْخَمْسَةُ وَالسّتّةُ وَالسّبْعَةُ ، فَدَارَتْ عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَىَ نَاضِحٍ لَهُ ، فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ، ثُمّ بَعَثَهُ فَتَلَدّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التّلَدُّنِ . فَقَالَ لَهُ : شَاءَ لَعَنَكَ اللّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ هَذَا اللاّعِنُ بَعِيرَهُ ؟ قَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ قَال : انْزِلْ عَنْهُ ، فَلاَ تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ . لاَ تَدْعُوا عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَىَ أَوْلاَدِكُمْ ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَىَ أَمْوَالِكُمْ ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ.
هذا إذا كان في حق دابةٍ عجماء ، فكيف بمن يسُبّ عباد اللهِ المؤمنين ؟ وكيف بمن لا يسلم منه قريب ولا بعيد ؟
وفي الصحيحين عن ثابتَ بن الضحّاك - وكان من أصحاب الشجرةِ - أنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال : من حَلفَ على ملةٍ غير الإسلام كاذباً فهو كما قال ، وليس على ابن آدمَ نَذرٌ فيما لا يَملك ، ومن قَتلَ نفسهُ بشيءٍ في الدنيا عُذّبَ به يومَ القيامة ، ومَن لَعنَ مُؤمناً فهو كقتْلِه ، ومن قَذَف مؤمناً بكفر فهو كقتْلِه .
وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للنساء : يا مَعشرَ النساءِ تَصَدّقْنَ, فإني أُرِيتكُنّ أكثرَ أهلِ النارِ. فقُلنَ: وبمَ يا رسولَ اللّهِ ؟ قال : تُكثرْنَ اللّعْنَ ، وَتَكفُرْنَ العَشيرَ . متفق عليه .
ظاهرة الفحش سِمة من سمات آخر الزمان ، ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش .(3/31)
عن أبي سَبْرة قال : كان عبيد الله بن زياد يسألُ عن الحوض حوضِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وكان يُكذِّبُ به بعدما سأل أبا برزة والبراء بن عازب وعائذ بن عمرو ورجلاً آخر وكان يُكذِّب به ، فقال أبو سَبْرَة : أنا أحدّثك بحديث فيه شفاءُ هذا . إن أباك بعث معي بمال إلى معاوية فلقيت عبدَ الله بنَ عمروٍ فحدّثني مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأملى عليّ فكتبت بيدي فلم أزد حرفاً ولم أنقُص حرفاً . حدّثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يحب الفحش أو يبغض الفاحش والمتفحش . قال : ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحشُ والتفاحش ، وقطيعةُ الرحم ، وسوءُ المجاورة ، وحتى يؤتمن الخائن ويُخوّن الأمين . وقال : ألا وإن موعدكم حوضي عرضه وطوله واحد ، وهو كما بين أيلة ومكة , وهو مسيرة شهر، فيه مثل النجوم أباريق ؛ شرابه أشد بياضاً من الفضة ، مَنْ شَرِب منه مشرباً لم يظمأ بعده أبداً.
فقال عبيد الله : ما سمعت في الحوض حديثاً أثبتُ من هذا فصدّق به وأخذ الصحيفة فحبسها عنده . رواه أحمد والحاكم وصححه ، وهو حديث حسن .
فهذا الحديث فيه علامة من علامات النبوة حيث ظهر الفحش والتفاحش في أوساط الناس .
إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لخّص مهمة البعثة في كلمتين فقال : إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق . وفي رواية " لأتمم مكارم الأخلاق "
ألا إن الفحش ليس من الأخلاق في شئ ، فليس هو من مكارم الأخلاق ولا هو يدانيها وليس من أخلاق الإسلام .
فعن جابر بن سمرة قال: كنت جالساً في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي سمرة جالس أمامي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الفحش والتفاحش ليسا من الإسلام في شيء ، وأن خير الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً . رواه أحمد والطبراني في الكبير وأبو يعلى في مسنده .(3/32)
وهذه الظاهرة - أي الفحش - هي التي يفرح بها الشيطان ، بل هي مهمّته بين المصلين لقوله عليه الصلاة والسلام : إِنّ الشّيطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المُصَلّونَ وَلَكِنْ في التَحْرِيشِ بَيْنَهُمْ. رواه أحمد و مسلم والترمذي واللفظ له .
فبالتحريش بين المصلين يوقع الشيطان العداوة والبغضاء ، وهو يتّخذُ من ظاهرة الفحش سبيلاً إلى ذلك التحريش
فيبدأ الكلام والتهاتر والتطاول بين اثنين . يبدأ صغيراً فلا يزال يكبر ، ولا يزال الشيطانُ ينفخُ أوداجَ كلٍّ منهما ويستبّان حتى لا يدريان ما يقولان ، وحتى لا يَعُدْ للصلح موضعاً .
ومن ذلك :
فرحُ الشيطان وتدخُّله إذا وقع السباب
ولا شك أن السباب والشتائم من الأخلاق الرديئة التي يرتضيها الشيطان لأتباعه ويحثُّهم عليها .
وقد وقع رجلٌ في أبي بكرٍ الصديق ذات يوم يسبُّه ويؤذيه فلما ردَّ أبو بكر عليه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فعند أحمد وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بَيْنَمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَعَ رجُلٌ بِأَبي بَكْرٍ فآذَاهُ ، فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، ثُمّ آذَاهُ الثّانِيَةَ فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، ثُمّ آذَاهُ الثّالِثَةَ فانْتَصَرَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ . فقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ انْتَصَرَ أَبُو بَكْرٍ فقَال أَبُو بَكْر : أَوَجَدْتَ عَلَيّ يَا رَسُولَ الله ؟ فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السّماءِ يُكَذّبُهُ بِمَا قَالَ لَكَ ، فَلمّا انْتَصَرْتَ وَقَعَ الشّيْطَانُ ، فَلمْ أَكُنْ لأجْلِسَ إِذْ وَقَعَ الشّيْطَانُ .
قال الشيخُ الألباني عن هذا الحديث : حسنٌ لغيره .(3/33)
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان بأسانيد صحيحة عن عياضٍ المجاشعي قال : قلت : يا رسول الله الرجل يشتِمُنى من قومي وهو دوني أعليّ من بأس أن أنتصر منه ؟ قال : " المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان " .
قال أبو حاتم - أي ابن حبان - أطلق صلى الله عليه وسلم على المستب - شيطان - على سبيل المجاورة ، إذ الشيطان دَلَّهُ على ذلك الفعل حتى تهاتر وتكاذب .
قال ابن الأثير : أي يتقاولانِ ويتقابحانِ في القول. من الهِتر بالكسر ، وهو الباطل والسّقَط من الكلام .
وعلاج ذلك ـ وفّقك الله ـ الاستعاذةُ بالله من الشيطان وشَرْكِه
روى البخاري ومسلم عن سليمانَ بن صُرَدٍ رضي الله عنه قال: اسْتبّ رجُلانِ عندَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فغضبَ أحدُهما فاشتدّ غضبه حتى انتفخَ وجههُ وتغير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلمُ كلمةً لو قالها لَذهَبَ عنه الذي يجد " فانطلقَ إليه الرجلُ فأخبرَه بقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : تَعوّذ باللّه من الشيطان . فقال : أترَى بي بأس ، أمجنونٌ أنا ؟ اذهَبْ .
فخَسِرَ التوجيه النبوي الكريم ، وظنّ أنه لا يستعيذ من الشيطان سوى المجانين .
أخي رعاك الله :
أما سمعتَ وصفَ مَعْتبَةِ النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال أنسُ بن مالك رضيَ الله عنه : لم يكنِ النبي صلى الله عليه وسلم سَبّاباَ ولا فحاشاً ولا لعّاناً ، كان يقول لأحدِنا عندَ المعتبة : ما لهُ ترِبَ جبينهُ ؟ أخرجه البخاري .
ما أجمله من عتاب ، وما أرقّه من أسلوب ، وما أروعه من خُلق كريم ، يصدر من معلمٍ كريم .
قال ابن القيم : جمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحُسن الخُلق ؛ لأن تقوى الله تُصلِحُ ما بين العبد وبين ربِّه ، وحُسن الخُلق يُصلح ما بينه وبين خلقِه ، فتقوى الله تُوجِبُ له محبّةَ الله ، وحُسن الخُلق يدعو الناس إلى محبته . اهـ .
أخي الكريم :(3/34)
قبل أن تُطلق لنفسك العنان لشتم الآخرين أو سبّهم ، تذكّر جيداً قول الإمام الشافعي رحمه الله :
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وذنبُك مغفورٌ وعرضُك صيّنُ
لسانُك لا تذكر به عورة امرءٍ فكلّك عوراتٍ وللناس ألسنُ
فإذا شتمتَ الناس أو تنقّصتَهم أو أظهرت عيوبَهم انتقصك الناس وأظهروا عيوبَك .
أخي عفا الله عني وعنك :
إذا كانت نفسُك تعُزّ عليك فصُنها من سِباب الناس ، فإن من صان لسانه عن السباب فقد صان نفسه وحمى عِرضه .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
أُحبُّ مكارمَ الأخلاقِ جَهدي
وأكره أن أعيبَ وأن أُعابا
وأصفحُ عن سبابِ الناسِ حلماً
وشرُّ الناسِ من يهوى السبابا
ومن هاب الرِّجالَ تهيّبوه
ومن حقرَ الرِّجالَ فلن يُهابا
إن بذاءةَ اللسانِ من صفات المنافقين
ففي الصحيحين عنّ أنَسٍ رضيَ اللهُ عنه قال: « قيلَ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : لو أتَيتَ عبدَ اللهِ بنَ أبيّ . فانطلقَ إليهِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وركبَ حماراً ، فانطَلَقَ المسلمونَ يمشونَ معَهُ ـ وهي أرضٌ سَبِخةٌ ـ فلمّا أتاهُ النبيّ قال: إِليك عنّي ، واللهِ لقد آذاني نَتَنُ حمارِكَ . الحديث .
والسَّبِخَة : هي الأرض التي تعلوها ملوحة ، ولا تنبت إلا بعض الشجر ، فإذا سارت عليها الدّواب أثارت الغبار .
وليس المقصود نتنَ الحمار أو رائحتَه الكريهة ـ كما زعَم ـ لكن لِمَا كان يكره من ظهور الإسلام وعُلُوِّ أهلِه .
وهم ـ أي المنافقين ـ الذين كانوا يغمزون الصحابةَ ويطعنون فيهم حتى قالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغبُ بطوناً ولا أكذبُ ألسناً ولا أجبنُ عند اللقاء .
أعاذك الله من النفاق وخِصالِه .(3/35)
وعند أبي داود - بسند صحيح - عن أبي جُرَىَ جَابِرِ بنِ سُلَيْمٍ قالَ: « رَأَيْتُ رَجُلاً يَصْدُرُ النّاسُ عن رَأْيِهِ لا يَقُولُ شَيْئاً إلاّ صَدَرُوا عَنْهُ ، قُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قالُوا: هَذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قُلْتُ : عَلَيْكَ السّلاَمُ يَا رَسُولَ الله مَرّتَيْنِ ، قال: لا تَقُلْ عَلَيْكَ السّلاَمُ فإنّ عَلَيْكَ السّلاَمُ تَحيّةُ المَيّتِ قُلِ السّلاَمُ عَلَيْكَ . قالَ قُلْتُ : أنْتَ رَسُولُ الله ؟ قالَ : أنَا رَسُولُ اللهِ الّذِي إذَا أصَابَكَ ضُرّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ ، وَإنْ أصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أنْبَتَهَا لَكَ وَإذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ أوْ فَلاَةٍ فَضَلّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدّهَا عَلَيْكَ قالَ قُلْتُ : اعْهَدْ إلَيّ . قال : " لا تَسُبّنّ أحَداً ". قال : فمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرّا وَلا عَبْداً وَلا بَعِيراً وَلا شَاةٍ . قال : وَلا تَحْقرَنّ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ ، وَأَنْ تُكَلّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ إِنّ ذَلِكَ مِنَ المَعْرُوفِ ، وَارْفَعْ إزَارَكَ إلَى نِصْفِ السّاقِ ، فإنْ أبَيْتَ فإلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَإيّاكَ وَإسْبَالَ الإزَارِ فإنّهَا مِنَ المَخِيلَةِ وَإنّ الله لا يُحِبّ المَخِيلَةَ ، وَإنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلاَ تُعَيّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فإنّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ».
ورواه أحمد مختصراً ، وزاد : " ولا تشتمنّ أحدا " .
فانظر إلى هذا التوجيه النبوي الكريم ، كم شمِلَ من الآداب الشرعية ، والأخلاق الإسلامية !
وانظر إلى قولِه عليه الصلاة والسلام : " وَإنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلاَ تُعَيّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فإنّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْه .(3/36)
ولعلّك - رعاك الله - على ذِكرٍ من قِصةِ أبي بكر - رضي الله عنه - عندما سابّه شخصٌ فنَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السّماءِ يُكَذّبُ السابّ بِمَا قَال .
فهل رأيتَ أفضل من أن يُدافعَ عنك مَلَكٌ من ملائكة السماء .
أما إذا انتصرت لنفسِك وُكِلتَ إليها وتخلّى عنك المَلَك وتدخّل الشيطان .
وهذا يظهرُ جلياً في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر : فَلمّا انْتَصَرْتَ وَقَعَ الشّيْطَانُ .
وهذا ابن عمر رضي الله عنهما أراد أن يلعنَ خادماً ، فقال : اللهم الع ، فلم يُتِمّها ، وقال : إنها كلمةٌ ما أُحُّب أن أقولها .
وأخرج عبدالرزاق عن سالم قال : ما لعنَ ابنُ عمر خادماً قط ، إلا واحداً فأعتقه .
وأخرج الخرائطي عن زيد بن أسلم قال : جعلَ رجلٌ يسُبُّ ابنَ عمر ، وابنُ عمرَ ساكت فلما بلغ باب داره التفت إليه فقال : إني وأخي عاصماً لا نسُبُّ الناس .
إنها التربيةُ النبوية ، والسيرةُ العُمَريّة .
والسِّباب يخدِشُ الصيام ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : وإِذا كانَ يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ ولا يَصخَب ، فإِن سابّهُ أحدٌ أو قاتَلهُ فلْيَقُلْ إِني امرؤٌ صائم " . متفق عليه من حديث أبي هريرة .
ففيه إشعارٌ للآخرين بأنه صائم ، وليس لديه استعدادٌ للسبِّ أو الشتم .
وفيه تربية للنفس بكبح جماحجها وتعويدها على كظم الغيظ .
وهذا في حقيقته من دروس الصيام التي ينبغي أن يتربّى عليها المسلم ليس في رمضان فحسب ، بل في جميع العام .
وفي حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يَدَع قولَ الزّور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يَدَع طعامَهُ وشرابه " . رواه البخاري .
وبوّب عليه البخاري في صحيحه : باب قولِ الله تعالى: ( وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ ) .
قال العلماء : الجهل : أي السفاهة ، وعدم الحلم ، مثل الصخب في الأسواق ، والسب مع الناس .(3/37)
ولو أننا - أيها الأخوة - تربينا بهذه التربية العظيمة لخرج رمضان والإنسان على خلُقٍ كريم .
ومما يجدرُ إيرادُه هنا وصيةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل الذي قال للرسولِ صلى الله عليه وسلم أوصِني قال : " لا تَغضب " . فردّدَ مراراً ، قال : " لا تَغضب ". رواه البخاري
إذ ليس المقصود ألاّ يجد في نفسه الغضب أو ألاّ يشعُر بالغضب ، أو لا يغضب أبداً ، بل المقصود - والله أعلم - ألا يتصرّف حال الغضب تصرفاً لا يُحمد عليه . أما الخواطر والعواطف وخلجات النفس فإن الإنسان لا يتحّكم فيها .
ومن هنا جاء التوجيه النبوي الكريم : إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فأنت - رعاك الله - تتحكم في تصرُّفاتك وليس الناس هم الذين يتحكّمون في تصرفاتك
وهذا يتّضح جلياً في قوله عليه الصلاة والسلام : لَيْسَ الشّدِيدُ بِالصّرْعَةِ . قَالُوا : فَالشّدِيدُ أَيّمَ هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ : الّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ . متفق عليه .
أي : يملك نفسه وتصرُّفاتِه ، فلا يتسخّط ، ولا ينبني على غضبِه سبابٌ أو شتمٌ لعباد الله ، أو تعدٍ عليهم باليد أو باللسان .
وهذا هو الشديد القوي الذي يكبحُ جِماحَ نفسِه ، ولا يُطلقُ لنفسه العنان .(3/38)
عن ابنَ عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال : قَدِمَ عُيينةُ بن حِصن فنزلَ على ابن أخيهِ الحرّ بن قيس ، وكان - أي الحر - من النفر الذين يُدنيهم عمرُ ، وكان القُرّاء أصحابَ مجالسِ عمرَ ومشاورتِهِ كهولاً كانوا أو شُبّاناً. فقالَ عُيينةُ لابن أخيه : يا ابنَ أخي لكَ وجه عندَ هذا الأمير ، فاستأْذِنْ لي عليه ، قال: سأستأذنُ لك عليه . قال ابنُ عباسٍ : فاستأذَنَ الحرّ لعُيينة ، فأذِنَ له عمر فلما دخل عليه قال : هِيْ يا ابن الخطّاب ، فو اللهِ ما تُعطينا الجَزْل, ولا تَحكُم بيننا بالعدل . فغضبَ عمرُ حتى همّ به فقال له الحرّ : يا أمير المؤمنين ، إن اللهَ تعالى قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم : ( خُذِ العفوَ وأمرْ بالعُرف وأعرِض عن الجاهلين ) وإنّ هذا من الجاهلين . واللهِ ما جاوزَها عمرُ حينَ تلاها عليه وكان وقّافاً عند كتاب اللّه . رواه البخاري ، وقال : العرف : المعروف .
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما العِلمَ بالتعلُّم والحِلْم بالتّحلُّم
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيدٍ الخُدريّ رضيَ اللّهُ أنّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال : " ومَن يَتصبّرْ يُصبّرْهُ اللّه ، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ منَ الصبر " .
فمن أراد أن يُصبحَ حليماً فليُعوِّد نفسه على الصفح والعفو ، كما أن العلم لا يُنالُ براحة الجسد ، بل لابد من الصبرِ عليه وتحمُّلِ الأذى في سبيله ، وكان العلماء يقولون : من لم يتحمل ذُلّ التعلم ، عاش في ذُلّ الجهل .(3/39)
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهَ صلى الله عليه وسلم قَال : أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ . فَقَالَ : إِنّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هََذَا ، وَقَذَفَ هََذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هََذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هََذَا ، وَضَرَبَ هََذَا فَيُعْطَىَ هََذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهََذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَىَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ .
والشاهد قوله عليه الصلاة والسلام : " وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هََذَا " فالشتم من أسباب فناءِ الحسنات والإفلاسِ يوم القيامة ، وبالتالي سببٌ لدخول النار . عافانا الله وإياك .
أرأيت - أخي - خطورة الفُحش من القول ، وأن عاقبةَ السبِّ والشتم وخيمة . فكلُّ من سببتَه أو شتمتَه ولم يَعفُ عنك فإنه سيأتي يوم القيامة ـ في يوم أحوج ما يكون فيه الخلق إلى الحسنات ـ ليأخذ من حسناتك فإن قل الرصيد من الحسنات خفِّفَ عنه من سيئاته وطرحتْ عليك ـ أجارك الله من ذلك ـ .
أخي - رعاك الله -
ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذَا اسْتَفْتَحَ الصّلاَةَ كَبّرَ ثُمّ قَال : إنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللّهُمّ اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَعْمَالِ وَأَحْسنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إلاّ أَنْتَ وَقِنِي سَيّىءَ الأَعْمَالِ وَسَيّىءَ الأَخْلاَقِ لاَ يَقِي سَيّئَهَا إلاّ أَنْتَ . رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب .(3/40)
ولما سأل أبو ذرٍّ رضي الله عنه رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَال : الإِيمَانُ بِالله وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ . قَالَ : قُلْتُ : أَيّ الرّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَعْلاَهَا ثَمَنا . قَالَ : قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ ؟ قَال : تُعِينُ صَانِعا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ . قَال : قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ ؟ قَال : تَكُفّ شَرّكَ عَنِ النّاسِ ، فَإِنّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ . متفق عليه .
فالمسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده .
يعني إذا عجَز المسلم عن العمل وعن إعانة الآخرين فلا أقلَّ من أن يكُفَّ شرَّه عن الناس ، وهو المستفيد إذ أن فِعلَه هذا صدقةٌ منه على نفسه .
وقد أوصى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا ذرٍّ بتقوى الله ومخالقة الناس بخُلُقٍ حسن . فعن أَبِي ذَرٍ قالَ: قالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : اتّقِ الله حَيْثُ مَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السّيّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ . رواه أحمد والترمذي وقال : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ . ورواه الدارمي ، وهو حديث حسن .
فهل من يكيل للناس السِّبابَ والشتائم اتّقى الله وخالقَ الناسَ بخُلُقٍ حسن ؟
أو أنه لم يتّقِ الله في عبادِ الله ، ولم يُخالقِ الناسَ بِخُلُقٍ حسن ، بل خَالَقَهُم بخُلُقٍ سيئ ؟
292-محاضرة : ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق النساء)..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )(3/41)
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن الله افترض على هذا الأمة فريضة عظيمة ، بها نجاة سفينة المجتمع ، وعليها مدار حفظ أمن هذه الأمة ، وبه عصمتها من الزيغ والهلاك .
وإن الأمة إذا تركتْ هذه الفريضة دبّ فيها الداء مِن داخلها ، وأصابها العطب من قبل أبنائها وبناتها ، واتّسع الخرق على الراقع .
هذه الفريضة عدّها بعض العلماء رُكناً سادساً من أركان الإسلام ، فلا شكّ أن هذا دليل على أهميّتها .
إذ لا قوام لشعائر الدين ، ولا حماية مِن عبث العابثين ، ولا أخذ على أيدي السفهاء والجاهلين وكفّ أيدي المفسدين إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولما كان الأمر كذلك كانت خيرية هذه الأمة مرتبطة بهذه الشعيرة العظيمة ، فقال الحق سبحانه وتعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)
[ آل عمران:110 ] .
وعلّق الله فلاح هذه الأمة على قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104] .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمان من العذاب بإذن الله ، وإعذار إلى الله .(3/42)
قال سبحانه : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:164-165] .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمان مِن تَسَلُّط السفهاء على المجتمع ، قال صلى الله عليه وسلم : وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنّ بالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنّ عَنِ المُنْكَرِ ، أو لَيُوشِكَنّ الله أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ، ثُمَ تَدْعُونَهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ ( ).
وتَرْكُهُ سبب في غضب الله وعدم إجابة الدعاء ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يُستجاب لكم ( ) .
وإذا تُرِك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشرت الفواحش وعمّت المنكرات ، ثم يكون ذلك مؤذناً بحلول نقمة الله وعذابه .
قال صلى الله عليه وسلم : إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله . رواه الحاكم وصححه ، وهو حديث صحيح .
وقد جعل الله تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبرز صفات المؤمنين والمؤمنات ، فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة:71] .
كما جعل ضِدّه أبرز صفات المنافقين والمنافقات ، فقال : (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة:67].
فالمؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، استجابة لله ولرسوله .(3/43)
وقد تقدم شيء من الآيات الدالة على وجوبه على الرجل والمرأة ، وأما من السنة ، فكقوله صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم .
فقوله صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكراً . عام في كلّ مَنْ رأى مُنكراً سواء كان الرائي للمُنكَر رجلاً أو امرأة .
فالإنكار متعلّق بالرؤية أو العلم بالمنكر .
فيُنكرون على مَنْ فعل المنكر ، ولو كان مِنْ أقرب الناس ، فإن دين الله لا محاباة فيه فقد قَدِمَ المنذر بن الزبير من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب رقاق عتاق بعدما كف بصرُها . قال : فلمستها بيدها ، ثم قالت : أف ! ردوا عليه كسوته . قال : فشق ذلك عليه ، وقال : يا أُمّه إنه لا يَشِفّ . قالت : إنها إن لم تَشِفّ ، فإنها تَصِفْ ، فاشترى لها ثيابا مروية فقَبِلَتْها . رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى .
لكن ينبغي أن يُعلم أنه ليس المقصود هو الإعذار أمام الله فحسب ، يعني لا تقول المسلمة مثلا : أنا أدّيت ما عليّ ، وأعذرت أمام الله .
ليس الأمر كذلك فإن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإعذار أمام الله ، وإقلاع صاحب المنكر عن منكره ، والإتيان بما تُرِكَ من معروف ، وتقليل المنكرات بحسب الإمكان والاستطاعة ، وفشو الخير والمعروف بين الناس .
إذ تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الماوردي : هو أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله .
ولا بُدّ أن يُضبط بالرفق ، فإن الرفق ما كان في شيءٍ إلا زانه ، ولا نُزع من شيءٍ إلا شانه ، كما قال صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم - .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر .(3/44)
وذلك بأن لا يترتّب على إنكار المنكر منكر أكبر مما أُنكِر ، ويكون الأمر برفق ، والنهي بحكمة إذ المقصود الإصلاح لا التّشفي والانتصار للنفس .
ولتتذكّر المسلمة أنها إذا أَمَرَتْ بمعروف فامْتَثَلَ مَنْ أَمَرَتْه ، فلها مثل أجر مَنْ عَمِلَ المعروف ، وأنها إذا نَهَتْ عن منكرٍ فانتهى مَنْ نََهَتْهُ فإن لها الأجر عند الله تعالى .
وكم من المنكرات التي لا يطّلع عليها سوى النساء ، مثل :
منكرات الأفراح .
ومنكرات البيوت .
ومنكرات الطالبات .
ومنكرات الأسواق النسائية .
فيتعيّن على المرأة المسلمة إنكار تلك المنكرات حسب استطاعتها .
وكم من المنكرات التي لا يليق إنكارها إلا مِن قبل النساء ، ويكون إنكارها من قِبَلِهِنّ أبلغ في كثير من الأحيان .
إذ قد يجلب إنكار الرجل - في بعض الأحيان - شبهة أو يُحدث ضجّة وما أشبه ذلك ، فإن الرجل إما أن يُكلّم المرأة بصوت عالٍ يحدث معه ضجّة أو فضيحة ، أو يُكلم المرأة سِرّاً ، وهذا يجلب شبهة على الرجل ، وكلا الأمرين مرّ ، ولكن لا بدّ من إنكار الرجل لما تخلّت المرأة عن دورها .
وقد استفاض واشتهر إنكار الصحابيات فمن بعدهن من التابعيات وغيرهن ، وما ذلك إلا لعلمهن بضرورة قيامهن بهذا الواجب ،وأن عليهن مثل ما على الرجال في ذلك
وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها على مَنْ كانت تلبس لباساً فيه صورة صليب ، فقد رأت على امرأة بُرْداً فيه تصليب ، فقالت : اطرحيه اطرحيه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى نحو هذا قضبه . رواه الإمام أحمد . ومعنى قَضَبَه : أي قطعه .
وحدّثت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تَصالِيب إلا نَقَضَه . رواه البخاري .
وما أكثر الملابس التي فيها صُلبان ، وواجب المسلمة أن تأمر بإزالته ، وتُبيّن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الأمر ، كما فَعَلَتْ عائشة رضي الله عنها .(3/45)
فتُبيَّن الحكمة إن عُلِمَتْ ، ويوضّح الدليل إذا عُلِم .
ومن ذلك أنه قيل لعائشة رضي الله عنها : إن امرأة تلبس النعل ، فقالت : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَة من النساء . رواه أبو داود وهو حديث صحيح .
وروى البخاري عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال . قال : كيف تَمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال ؟ قلت : أبعد الحجاب أو قبل ؟ قال : إي لعمري . لقد أدركته بعد الحجاب . قلت : كيف يخالطن الرجال ؟ قال : لم يكن يخالطن ، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم ، فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت : عنك ، وأَبَتْ .
ومعنى ( حَجْرَة ) أي ناحية . يعني أنها لا تُزاحم الرجال في الطواف .
ودخلت مولاة لعائشة عليها فقالت لها : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها : لا آجرك الله . لا آجرك الله تدافعين الرجال ألا كبّرتِ ومررتِ . رواه الشافعي والبيهقي .
وأنكَرَتْ عائشةُ قَشْرَ الوجه ، فقالت : يا معشر النساء إياكن وقشر الوجه . كما في مسند الإمام أحمد .
ولما دَخَلَتْ نسوةٌ من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها قالت : لعلكن من الكورة - أي البلدة - التي تدخل نساؤها الحمام ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت سترها فيما بينها وبين الله عز وجل . رواه أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
فدلّ هذا على حُرمة وضع الثياب في غير بيت الزوج ، كَمَنْ تضع ثيابها عند " الكوافيرة »" وفي المَشاغِل ومن ثم تبدو العورات ، وتهتك المرأة الستر الذي بينها وبين الله عز وجل .
ولم يقف إنكار نساء الصحابة على بنات جنسهنّ ، فقد أنكرت أم الدرداء على عبد الملك بن مروان .(3/46)
فقد روى الإمام مسلم عن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده ، فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل ، فدعا خادمه ، فكأنه أبطأ عليه ، فَلَعَنَهُ ، فلما أصبح قالت له أم الدرداء : سمعتك الليلة لَعَنْتَ خادمك حين دعوته ، سمعت أبا الدرداء يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة .
والأنجاد : هو متاعُ البيت الذي يزيّنُه .
وإنكار نساء السلف كثير سواء كان على بنات جنسهن أو كان على الرجال .
وكم مِن أمٍّ أنكرت على أولادها حتى استقاموا ، فلها مثل أجورهم .
وكم مِن امرأةٍ أنكرت على زوجها حتى هداه الله على يديها فلها مثل أجره .
وكم مِن بنتٍ أنكرت على أبيها أو أمِّها أو أخيها أو زميلتها فكانت سبباً في صلاحِ أمرهم وتركهم للمنكرات ، فلها مثل أجورهم .
ولعل الكثير سمعنَ قصة تلك البُنيّة الصغيرة التي دَخَلَتْ على أبيها في جوف الليل وهو ساهرٌ على ما حرّم الله من الأفلام الساقطة وما شابهها فقالت : يا أبتِ اتقِ الله .
شبهات وجوابها :
يستدل بعض الناس على تقاعسه وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتلك المقولة الفاسدة دع الخلق للخالق . ولست وكيلاً على بني أدم ، وغيرها من الكلمات .
وقد قام أبو بكر رضي الله عنه خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105] وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه . رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وهو صحيح .(3/47)
قال أبو أمية الشعباني : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ قال : أيّة آية ؟ قلت : قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105] قال : أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شُحّاً مُطاعَاً ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام ، فإن من ورائكم أياما ، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم . قيل : يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم .
قال ابن القيم – رحمه الله – في ذِكْرِ شيء من مكايد إبليس :
وزيّن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس ، وحسن الخُلُق معهم ، والعمل بقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105] . اهـ .
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب ، تبدأ بالقلب ، فينتفض إذا عَلِمَ بالمنكر ، وبأنه منكَر ، ولا يُنكر المنكر إلا قلب المؤمن ، فيُؤدّي ذلك إلى التغيير باللسان ، فإن لم يُستَجب له غيّر باليد إن استطاع ، وقال بعض العلماء بعكس ذلك ، يعني أن يُغيّر باليد ، ثم باللسان ، ثم بالقلب ، غير أنه لا يمكن لليد أن تُغيّر إلا إذا كان الإنكار نابِعاً من القلب
وإنكار القلب أقلّ درجات الإنكار ، فإذا كان هناك منكر في مكان ما ، ولم يُغيّر بعد الإنكار وجبت مفارقة المكان .(3/48)
ويخطئ بعض الناس حينما يقول : أنا أنكرت ، وسوف أجلس - يعني في مكان فيه منكَر - ، وقلبي قد أنكر المنكَر ، وهو إنما يتّبع هواه وما تُريده نفسه .
فيُقال له : لو أنكر قلبك المنكر وأبغضه لفارقت المكان ، كما لو كنت في مكان يُسبّ فيه والدك أو يُسبّ فيه شخصك ، فإما أن ترد وتُنافح أو تقوم من ذلك المكان .
وينبغي أن يُعلم أن هناك فرقاً بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الانتصار للنفس إذا لم يُستجب للمنكِر ، فليس من شرط الإنكار تغيُّر المنكر وزوالَه .
فإذا أنكرتْ المسلمة وقامت بما وجب عليها وفارقت المنكر ، فقد أعذرت إلى الله وعندها يَرِدُ قوله تعالى : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) [الغاشية:22] أما قبل ذلك فلا .
ومِنْ تلبيس إبليس قول بعض الناس : لا فائدة من الإنكار فالزمان قد فَسَد ، ولن تُصلِح الناس ، وما أشبه هذه الكلمات .
وقد سُئل سفيان الثوري – رحمه الله – أيأمر الرجل مَنْ يَعلم أنه لا يَقبل منه ؟ فقال : نعم ، ليكون ذلك معذرة له عند الله تعالى .
يعني يؤدّي ما عليه وعلى أقل أحواله أنه أعذر أمام الله .
وتلبيس آخر للشيطان ؛ وهو أن يقول – المسلم أو المسلمة : كيف آمر بالمعروف
وأنهى عن المنكر وعندي تقصير ومعاصي ؟
قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ، ولا نَهى عن منكر .
وقال الحسن البصري لمُطرِّف بن عبد الله : عِظ أصحابك ، فقال : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل ، قال : يرحمك الله ! وأيُّنا يفعل ما يقول ؟ ودّ الشيطان أنه قد ظفِرَ بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ، ولم يَنْهَ عن منكر .
ولو لم يعظِ الناس مَنْ هو مذنبُ فَمَنْ يعظ العاصين بعد محمدِ - صلى الله عليه وسلم - .
أمثلة :(3/49)
* إذا رأت المسلمة امرأة تطوف بالبيت وقد لبِستْ قفازاً أو نقاباً فإنها تُنكر عليها ، وتُبيّن لها قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين . كما عند البخاري .
ولكن تستفسر منها قبل ذلك هل هي مُحرِمة ، أو تطوف طواف تطوّع .
* إذا رأت المسلمة امرأة تلبس العباءة على الكتف تقول لها : أفتى العلماء أن هذا الفعل تشبّهٌ بالرجال ، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبِّهات من النساء بالرجال . رواه البخاري .
* إذا رأت من تنتف شعر وجهها فإنها تُنكر عليها وتُبيّن لها حُرمة ذلك الفعل ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمّصة .
* كذلك إذا رأت من تصِل شعرها أو تلبس الباروكة .
* إذا رأت امرأة تلبس العاري والضيق أو البنطال " البنطلون " – ولو كان ذلك في أوساط النساء – فإنها تُبيّن لها أن هذا اللباس هو الكاسي العاري ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من أهل النار لم أرهما – فَذَكَرَ منهما – ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا . رواه مسلم .
وهكذا تتناصح المسلمات ويُنكر بعضهن على بعض ، بل ويُنكرن على آبائهن وإخوانهن وأزواجهن ، ولكن بلطف وأدب .
وهذا من التواصي الحق الذي هو سبب الفلاح ، كما بيّنه الحق تبارك وتعالى في سورة العصر .
ولا خير فينا إن لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، فيأمر بعضنا بعضا ، وينهى بعضنا بعضاً ، فإن الله لعن بني إسرائيل بترك الإتمار بالمعروف وترك التناهي عن المنكر ، قال سبحانه : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة:78-79].(3/50)
وقال عز وجل عنهم : (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة:62-63].
وقال صلى الله عليه وسلم : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي يَقْدِرون أن يُغَيِّروا عليهم ولا يُغَيِّروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا . رواه أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
فدلّ هذا على أن الساكت على المنكر أشد ممن ارتكبه ، لأنه بسكوته جرّأ صاحب المنكَر وجرّأ غيره ، ولو تناهى الناس عن المنكر لما انتشر منكَر . والله تعالى أعلم .
-------------
[1] رواه أحمد ( 5/388 ) والترمذي ( 4/468 ) وقال : حديث حسن ، وابن أبي شيبة ( 7/460 ) ، وهو حديث حسن .
[2] رواه أحمد ( 6/159 ) وابن ماجه ( 4/359 ) وابن حبان ( 1/526 إحسان ) وهو حديث حسن .
293-محاضرة : ( أحوال البرزخ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )(3/51)
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن الدّور التي تَمُرُّ بالإنسان ، ويمرُّ بها ثلاث لا رابعة لها :
دار الدنيا ، ودار البرزخ ، والدار الآخِرة .
ولكل دارٍ خصائصها وأحكامُها التي تُميّزها عن غيرها .
فالدنيا ظلٌّ زائل ، وهي دار الفناء ، ومتاع الغرور .
كما في قوله تبارك وتعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)
وقال صلى الله عليه وسلم : الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة . رواه مسلم .
وما هذه الدنيا وإن جلّ قدرها سوى مُهلة نأتي لها ونروحُ
والدار الآخرة هي الحياة الحقيقية . قال تبارك وتعالى : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
وبين الدّارين دارُ البرزخ ، وهي مرحلة متوسطة بين الدنيا والآخرة ، وهي تأخذ من أحكام هذه ومن أحكام هذه .
ذلك لأن الإنسان مركّب من الروح والجسد ، فأحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها ، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها ، وفي الآخرة يكون النعيم أو العذاب على الأرواح والأبدان جميعاً .
ولعلي أتحدّث قبل الدخول في الموضوع حول مسألة مهمة ، كانت من المُسلَّمات عند سلف الأمّة ، ألا وهي ثبوت عذاب القبر ونعيمه، وهذه المسألة مما أنكرته المُعتّزِلة ، وأنكرها بعض العصرانين ممن يتصدّرون للفُتيا عبر القنوات ، أو قُل ممن تُصدِّرهم الفضائيات ، وتُبرِزُهم على حساب العلماء الصادقين المخلصين .
وقد بلغني أن مُعَمَّمَاً قال في إحدى القنوات أنه لا يوجد آية ولا حديث تدلّ على إثبات عذاب القبر .(3/52)
وقد أُكره أحد العلماء في الصلاة على أحد شيوخ المعتزلة ، فقال في صلاة الجنازة : اللهم إنه يُنكر عذا القبر فأذقه إياه !
أقول مُستعيناً بالله :
لا بُد أن يُعلم أن إثبات عذاب القبر ونعيمه من عقيدة أهل السنة والجماعة ، قال الإمام الطحاوي – رحمه الله – : ونؤمن بملك الموت ، الموكّل بقبض الأرواح وبعذاب القبر لمن كان له أهلا وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الاخبار عن رسول الله وعن الصحابة رضوان الله عليهم ، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران . اهـ .
والإيمان بعذاب القبر ونعيمه داخل في الركن الخامس من أركان الإيمان ، وهو الإيمان باليوم الآخِر . فالقبر أول منازل الآخرة .
ولا يستقيم إيمان عبد حتى يأتي بالستة الأركان وهي :
الإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورسُله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعّمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ، ويحصل له معها النعيم أو العذاب ، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين . اهـ .
وأما ثبوت عذاب القبر في القرآن الكريم :
فقال سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
قال قتادة في قوله تعالى : (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قال : صباحَ ومساءَ الدنيا ، يُقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخا ونقمة وصغاراً لهم .
وقال ابن زيد : هم فيها اليوم يُغدى بهم ويُراح إلى أن تقوم الساعة .
قال ابن كثير : وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور . اهـ .(3/53)
وقال جلّ ذِكرُه : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
قال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو عذاب القبر .
وورد خلاف ذلك عن جماعة من السلف .
ولا إشكال في ذلك فهو محتَمَل ، كما أنه لا إشكال في ختم الآية بقوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
يعني : لِمَا يَعْلَمون من عذاب القبر ، وتُدركه سائر المخلوقات على ما سيأتي بيانه .
وقال عز وجل : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)
قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية : وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا ، وأن يراد به عذابهم في البرزخ وهو أظهر لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا أو المراد أعم من ذلك . اهـ .
وفي قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)
قال أبو سعيد : يُضيّق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه فيه .
وقال الإمام البخاري : باب ما جاء في عذاب القبر ، وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)
قال : هو الهوان ، وقوله جل ذكره : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)
ثم ساق بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عذاب القبر حقّ .
وقال الحسن البصري رحمه الله في تفسير هذه الآية – أعني قولَه تعالى : سنعذبهم مرتين – قال : عذاب الدنيا ، وعذاب القبر .
وقال سبحانه : (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
قال مجاهد : ما بين الموت إلى البعث .(3/54)
قال ابن القيم في قوله تعالى : (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)
هذا في دورهم الثلاث ليس مختصا بالدار الآخرة ، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما هو في الدار الآخرة ، وفي البرزخ دون ذلك كما قال تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ) .
فالأبرار في نعيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة ، والفجار والكفار في جحيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة .
فهذه الآيات وغيرها مما استدلّ به أهل السنة على ثبوت عذاب القبر .
وأما الأحاديث الواردة في عذاب القبر فهي كثيرة .
قال ابن كثير : وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا . اهـ
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ بالله من عذاب القبر في كلّ صباح ومساء
قال عبد الرحمن بن أبي بكرة لأبيه : يا أبت إني أسمعك تدعو كل غداة : اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي ، اللهم عافني في بصرى ، لا إله إلا أنت ، تُعِيدها ثلاثا حين تصبح ، وثلاثا حين تمسى ، وتقول : اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، لا إله إلا أنت ، تعيدها حين تصبح ثلاثا ، وثلاثا حين تمسى . قال : نعم يا بنى إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن ، فأحب أن أستنّ بسنته . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوّذ بالله من عذاب القبر دُبُرَ كلِّ صلاة .
فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا ، وفتنة الممات .(3/55)
وكان سعد بن أبي وقاص يُعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات كما يُعلِّم المعلِّم الغلمان الكتابة ، ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ منهن دُبُر الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ، وأعوذ بك من عذاب القبر . رواه البخاري .
وقالت عائشة : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندي امرأة من اليهود ، وهي تقول : هل شعرتِ أنكم تُفتنون في القبور ؟ قالت : فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنما تفتن يهود ، قالت عائشة : فلبثنا ليالي ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل شعرت أنه أُوحِي إليّ أنكم تُفتنون في القبور . قالت عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يَستعيذُ من عذابِ القبر . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : قالت : وما صلى صلاة بعد ذلك إلا سمعته يتعوّذ من عذاب القبر .
وعنها رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا تشهّد أحدكم فليستعذ بالله من أربع ، يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال . رواه البخاري ومسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمهم هذا الدعاء كما يُعلِّمهم السورة من القرآن ، يقول : قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات رواه مسلم .(3/56)
وقال عوف بن مالك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة ، فَحَفِظْتُ من دعائه وهو يقول : اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرِم نُزَله ، ووسِّع مُدْخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونَقِّه من الخطايا كما نَقّيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبْدِلْه دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وزوجا خيرا من زوجه ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر ، أو من عذاب النار . قال : حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت . رواه مسلم .
وعن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه ، إذ حَادَتْ به فكادت تُلقيه ، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة ، فقال : مَنْ يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال : رجل أنا . قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال : ماتوا في الإشراك ، فقال : إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها ، فلولا أن لا تَدَافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : تعوّذوا بالله من عذاب النار ، قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ، فقال : تعوّذوا بالله من عذاب القبر . قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر . رواه مسلم .
إذا عُلِمَ هذا فإن ما يتعلّق بالقبر من عرض وفتنة وسؤال ، وعذاب ونعيم ، هو من عِلْم الغيب الذي لا نَعْلَم كيفيّته ، ويجب علينا الإيمان به والتسليم فيه لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنؤمن به من غير سؤال عن كيفيّته ، وكيف يقع ؟ لأن عقولَنا قاصرة عن إدراك ذاتها ، فكيف تُدرك ما حُجِبَ عنها ؟
قال ابن القيم : أحاديث عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم .(3/57)
وقال ابن أبي العز : وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا ، وسؤال الملكين ، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك ، والإيمان به ، ولا نتكلّم في كيفيته ، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عَهَْد له به في هذه الدار ، والشرع لا يأتي بما تُحِيلة العقول ، ولكنه قد يأتي بما تَحَار فيه العقول . اهـ .
وعذاب القبر ليس مما يستحيل عقلاً ، ومن ذلك :
1 – أن النائم قد يرى في منامه أنه يُنعّم ، وإلى جواره آخر يرى أنه يعذّب ، ولا يشعر أحدهما بما يجري لصاحبه ، كما أنه لا يُدرِك ذلك سوى صاحب المنام .
قال ابن القيم : ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمِّه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة مطابق للعقل وأنه حق لا مِرْيَة فيه ، وأن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقِلّة علمه أُتيَ ، كما قيل :
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
2 – أن العذاب يُمكن أن يقع على الأجساد حتى ولو أرِمَتْ وتبعثرت وتناثرت ، ويدلّ على ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أسْرَف رجل على نفسه ، فلما حضره الموت أوصى بنيه ، فقال : إذا أنا متّ فاحرقوني ، ثم اسحقوني ، ثم أذروني في الريح في البحر ، فوالله لئن قَدَرَ عليّ ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا ، قال : ففعلوا ذلك به ، فأمَرَ الله البَرّ فَجَمَع ما فيه ، وأمَر البحر فجَمَع ما فيه ، فإذا هو قائم ، فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : خشيتك يا رب ، أو قال مخافتك ، فغُفِر له بذلك .
فالذي جمَعَ أجزاء جسمه المتحللة في الهواء والماء ، قادر على أن يوقع العذاب على كلّ ذرّة من جسمه في أي مكان كان ، ذلك أنه (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ) .(3/58)
وقد تكلّم العلماء على هذه المسألة وضربوا لها الأمثلة بالذي يموت غرقا في الماء ، أو حرقا بالنار ، بل حتى المصلوب ، ومن أكلته السباع ، إن كان ممن استحق عذاب القبر ، وأراد الله عذابه فإنه سبحانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .
وأما الروح فلا إشكال في وقع العذاب عليها ؛ لأنها باقية .
3 – أن عذاب القبر مما تُدركه المخلوقات غير الإنس والجن ، لقوله صلى الله عليه وسلم عن الكافر أو المنافق : ثم يُضرب بِمِطرقة من حديد بين أُذنيه ، فيصيحُ صيحةً يَسمعها من يَلِيْه إلا الثقلين . رواه البخاري وقد تقدم .
وقال صلى الله عليه وسلم عن أهل القبور : إنهم يُعذّبون عذاباً تسمعه البهائم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا السبب يذهب الناس بِدَوابِّهم اذا مُغِلَت إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعيلية والنصيرية وسائر القرامطة من بني عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام وغيرهما ، فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك ، كما يقصدون قبور اليهود والنصارى ، والجهال تَظن أنهم من ذرية فاطمة ، وأنهم من أولياء الله ، وإنما هو من هذا القبيل ، فقد قيل : إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يَذهب بالمغل . اهـ .
وقد حدّثني بعض المسلمين الذين يُقيمون في بلاد الكفار ، أن الكفار الذين يدفنون موتاهم بالتوابيت مدة معلومة ثم يجمعون عظامهم بعد ذلك في مكان واحد ، ثم تُستخدم التوابيت في دفن آخرين ، وأنهم يجدون في التوابيت آثار أظفار وخدوش على جدران التوابيت ، وهم يعتقدون أن سبب ذلك أن من الأموات من دُفِنَ حيّاً !
وإنما هو من عذاب القبر ، ولعل قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يدلّ عليه .(3/59)
4 - أن سماع عذاب القبر ليس مستحيلاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : فلولا أن لا تَدَافنوا لدعوت الله أن يُسمِعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه . رواه مسلم ، وقد تقدّم .
فما تَرَك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سؤال الله أن يُسمع هذه الأمة من عذاب القبر إلا خشية ألا يتدافنوا . ولما كانت الحكمة مُنتفية في حق البهائم أُسْمِعت عذاب القبر .
وأما أحوال الناس في البرزخ فَعَلَى أنواع :
النوع الأول : وهم أعلى الناس منزلة في قبورهم ، وهم الأنبياء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء .
النوع الثاني : الشهداء ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل : ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة . أي لما كان يُقاتِل . رواه النسائي وهو حديث صحيح
ولما حَفَر جابر بن عبد الله قبر أبيه ، وكان من قُتِل يوم أحد . قال : فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير هُنيّةٍ في أُذنه . رواه البخاري .
وهؤلاء – أي الشهداء – يُنعّمون في قبورهم ، ويأمنون فتنة القبر ، وسؤال المَلَكين .
ويلحق بهذا النوع من يأمن فتنة القبر وعذاب القبر ، وهو من مات مرابطا ، ومن مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من مات مرابطا في سبيل الله أُجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل ، وأُجري عليه رزقه ، وأمِن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع . رواه ابن ماجه وغيره ، وهو حديث صحيح .
وقال عليه الصلاة والسلام : من مات مرابطاً في سبيل الله أمّنَه الله من فتنة القبر .
وكذلك من يموت ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، فإنه يأمن فتنة القبر ، فمن مات كذلك فإن هذا من المُبشِّرات له ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وهو حديث صحيح .(3/60)
النوع الثالث : مَنْ يُنعّم في قبره ، وإن كان يتعرّض للسؤال والامتحان ، وهو المؤمن الذي يفتح له باب من الجنة وباب من النار ، فيقال هذا كان منزلك لو عصيت الله أبدلك الله به هذا ، فإذا رأى ما في الجنة قال : رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي ، فيقال له : اسكن . رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب .
ويُقال له : نَم نوم العروس .
النوع الرابع : من يُعذّب مدة ثم ينقطع عنه العذاب ، وهو عذاب بعض العُصاةِ الذين خفّت جرائمُهم ، فيُعذّب بحسب جُرمه ثم يُخفف عنه العذاب .
وهذا قد عدّه بعض العلماء من المكفِّرات العشر التي تُكفّر بها السيئات .
النوع الخامس : من عذابه دائم غير منقطع ، كما هو الحال في الكفار ، وكما تقدّم في حقّ آل فرعون ، فإنهم يُعرضون على النار صباح مساء .
وفي حديث البراء – وهو حديث طويل ، رواه الإمام أحمد وغيره – قال صلى الله عليه وسلم - في شأن الكافر أو المنافق - : ثم يُفتح له باب من النار ، ويُمْهَد له فِراش من النار .
وفيه : وإن الكافر - فذكر موته – ثم قال : وتُعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان : من ربك ؟ فيقول هاه هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول هاه هاه لا أدري ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيُنادي منادٍ من السماء أنْ كَذَب ، فافِرشوه من النار ، وألبِسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار ، قال : فيأتيه من حرِّها وسمومها ، قال : ويُضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه - زاد في حديث جرير-قال : ثم يُقيِّض له أعمى أبكم معه مرزبةٌ من حديد لو ضُرب بها جبل لصار تُرابا ، قال : فيضربه بها ضربه يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين ، فيصير ترابا ، قال : ثم تُعاد فيه الروح . رواه أحمد وأبو داود واللفظ له .(3/61)
قال ابن القيم عن حديث البراء : هذا حديث ثابت مشهور مستفيض ، صحّحه جماعة من الحفاظ ، ولا نعلم أحدا من أئمة الحديث طَعَن فيه ، بل رووه في كتبهم ، وتلقّوه بالقبول ، وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه ، ومساءلة منكر ونكير وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي الله ثم رجوعها إلى القبر .
والميّت يُعرض عليه مقعَده ومنزله في كل يوم مرتين :
مصداق ذلك في كتاب الله في الآية المذكورة في عذاب آل فرعون .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده
بالغداة والعشي ؛ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يُقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة . رواه البخاري ومسلم .
فَيَزداد العبد بشارة وسروراً وفرحاً إن كان من أهل الجنة ، ويزداد حسرة وألماً وندَماً إن كان من أهل النار .
السؤال في القبر :
أعني به سؤال الملكين للمقبور ، والأسئلة معروفة ، وقد ثبت في أسماء الملكين أنهما منكر ونكير ، وثبت في وصفهما أنهما أسودان أزرقان .
أما ما يُروى من أنهما يحفران الأرض بأنيابهما ويطآن في اشعارهما ، وأن أعينهما كالبرق الخاطف ، وأصواتهما كالرعد القاصف . فهذا حديث موضوع مكذوب .
وأما ما يتعلّق بسؤال الملكين ، فهو ثابت في الصحيحين وغيرهما .
فَعَن أنس بن مالك قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم قال : يأتيه ملكان فيُقعدانه ، فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال : فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، قال : فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : فيراهما جميعا . رواه البخاري ومسلم .(3/62)
زاد البخاري قال: وأما المنافق والكافر فيقال له:ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ! فيُقال : لا دريت ولا تليت ، ثم يُضرب بمطرقة من حديد بين أُذنيه ، فيصيحُ صيحةً يسمعها من يليه إلا الثقلين .
وقد أوصى عمر بن العاص رضي الله عنه ، فقال : فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ، ولا نار ، فإذا دفنتموني فشُنّوا علي التراب شَنّا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تُنحر جَزور ويُقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رُسُل ربي. رواه مسلم .
والميّت يسمع بعد الدّفن :
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الميت إذا وضع في قبره إنه ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا .
لكن كيفية السّماع لا نعلمها لأنها ليست من جنس سماع الدنيا ، وكذلك عودة روحه إلى جسده ليست من جنس تعلّق الروح بالبدن في الدنيا .
سؤال التّثبيت للميت :
هذه الأمة تُفتن في قبورها ، كما قال عليه الصلاة والسلام .
فقد روى البخاري ومسلم عن أسماء قالت : أتيت عائشة وهي تصلي ، فقلت : ما شأن الناس ؟ فأشارت إلى السماء ، فإذا الناس قيام ، فقالت : سبحان الله قلت : آية ؟ فأشارت برأسها أي نعم فقمت حتى تجلاّني الغشي ، فجعلت أصب على رأسي الماء ، فحمد اللهَ عز وجل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال : ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي حتى الجنة والنار ، فأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريب من فتنة المسيح الدجال ، يُقال : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن ، فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا ، هو محمد ثلاثا ، فيُقال : نَم صالحا ، قد علمنا إن كنت لموقنا به ، وأما المنافق أو المرتاب - لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته .(3/63)
وروى البخاري ومسلم أيضا عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أُقعد المؤمن في قبره أُتيَ ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ)
وفي رواية لهما : أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر .
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت ، فإنه الآن يُسأل . رواه أبو داود وغيره ، وهو حديث صحيح .
ضمة القبر وضغطته :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للقبر ضغطة ، ولو كان أحدٌ ناجياً منها لنجا منها سعد بن معاذ . روى الإمام أحمد وغيره ، وصححه الألباني .
فهذا الحديث يدلّ على أنه لا ينجو من ضغطة القبر أحد ، إلا أن بعض العلماء استثنى الأنبياء من ذلك .
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : هذه الضمّة ليست من عذاب القبر في شيء ، بل هو أمر يَجِدُهُ المؤمن كما يَجِد ألَمَ فَقْدِ ولده وحميمِه في الدنيا ، وكما يَجِد من ألم مرضه وألم خروج نفسه وألَم سؤاله في قبره وامتحانه ، وألم تأثره ببكاء أهله عليه وألم قيامه من قبره ، وألم الموقف وهوله ، وألم الورود على النار ، ونحو ذلك فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد وما هي من عذاب القبر ولا من عذاب جهنم قط ، ولكن العبد التّقِيّ يَرفق الله به في بعض ذلك أو كُلِّه ، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه . قال الله تعالى :( وأنذرهم يوم الحسرة )، وقال : (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر) . فنسأل الله تعالى العفو واللطف الخفي . ومع هذه الهزّات فَسَعْدٌ ممن نعلم أنه من أهل الجنة وأنه من أرفع الشهداء رضي الله عنه . كأنك يا هذا تظن أن الفائز لا يناله هَول في الدارين ، ولا روع ، ولا ألم ، ولا خوف ؟ سَل ربك العافية ، وأن يحشرنا في زُمرة سعد . اهـ .(3/64)
الاستعداد للحياة البرزخية :
1 - إن من أيقن وآمن بأن القبر منزله وإن طالت به الحياة ، وأنه سوف يُسأل عن ربِّه ودينه ونبيِّه ، من آمن بذلك وجب عليه الاستعداد للسؤال ، بل ويُعدُّ للسؤال جواباً ، ولا بُدّ أن يكون الجواب صواباً ، ويظنّ بعض الناس أنه إذا كان يعرف الجواب في هذه الدنيا فسوف يُجيب على أسئلة المَلَكين ، وليس الأمر كذلك ، فإنهما ملكان عظيمان يَفزع لهول منظرهما من رآهما ، وكم من طالب دخل الامتحان وهو واثق من نفسه وأجوبته ثم أُصيب بقلق واضطراب أذهب عنه جميع المعلومات ، وهو يقف بين يدي بشرٍ مثله ، ولذا قال الله عز وجل : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ)
فليس التّثبيت لكل أحد بل هو للمؤمنين .
وقد جاء في حديث البراء – في شأن المؤمن – قال صلى الله عليه وسلم : فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به ، وصدقت . فينادى مناد في السماء ان صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره . فالشاهد قوله : قرات كتاب الله فآمنت به وصدّقت .(3/65)
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : أين أنت من يوم ليس لك من الأرض إلا عرض ذراعين في طول أربعة أذرع ؟ أقْبَلَ بك أهلك الذين كانوا لا يُحبون فراقك وجلساؤك وإخوانك فأطبقوا عليك الثنيات ، ثم أكثروا عليك التراب ، ثم تركوك بمثل ذلك ، ثم جاءك ملكان أسودان أزرقان جعدان أسماءهما منكر ونكير ، فأجلساك ثم سألاك : ما أنت ؟ أم على ماذا كنت ؟ ثم ماذا تقول في هذا ؟ فإن قلت : والله ما أدري سمعت الناس قالوا قولا فقلته ، يقولان : والله لا دريت ولا نجوت ولا هديت ، وإن قلت : محمد رسول الله أنزل الله عليه كتابه فأجبت به وبما جاء به ، فقد والله نجوت وهديت ، ولم تستطع ذلك إلا بتثبيت من الله مع ما ترى من الشدة والخوف . رواه ابن أبي شيبة .
2 - الابتعاد عما يكون سبباً في عذاب القبر ، فقد مَرّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال : أمَا إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله . رواه البخاري ومسلم .
فالنميمة من اسباب عذاب القبر ، وهي نقل الكلام بين الناس على سبيل الإفساد وكذا عدم الاستتار من البول ، وعدم التّنزّه منه .
وهذه الأمور مما يتساهل فيها الناس ، ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : وما يُعذّبان في كبير ، ثم قال : بلى . أي إنه لكبير عند الله ، ولكنه ليس كذلك عند الناس .
ثم أخذ جريدة فشقّها باثنيتن ، ثم وضع على كل قبر واحدة ، ثم قال : لعلّه يُخفف عنهما ما لم ييبسا .
ومن أسباب عذاب القبر نياحة الأحياء على الأموات ، لقوله صلى الله عليه وسلم : الميت يعذب في قبره بما نِيحَ عليه . رواه البخاري ومسلم .(3/66)
قال العلماء : هذا إذا كان النَّوحُ من عادته ، أو من عادة أهله ، وكان يراهم ويعلم ذلك منهم حال حياته ، ولم يكن ينهاهم عن ذلك ، ولذا لما طعن عمر رضي الله عنه أغمي عليه ، فصيح عليه ، فلما أفاق قال : أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الميت ليعذب ببكاء الحي . رواه البخاري ومسلم .
3 - من الأمور التي يُستعدّ بها للحياة البرزخية : حفظ وتلاوة سورة تبارك ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر . رواه الحاكم وغيره ، وحسّنه الألباني .
ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ سورة تبارك وسورة السجدة ، كما في المسند والأدب المفرد للبخاري وسُنن النسائي ، وهو حديث صحيح .
4 - اتِّباع الجنائز وزيارة القبور ، فإنها تُذكّر بالآخرة ، كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .
فإن المسلم إذا زار المقابر ، ورأى كثرة القبور ، وأنه لا فرق فيها بين غني وفقير ، وأمير ومأمور ، عَلِمَ أن الزاد لتلك الحُفَر هو العمل الصالح .
يستوي في ضَرِيحِهِ عبدُ ارضٍ وحُرِّها
- أي في المكان - .
وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال – في المؤمن إذا وُضِعَ في قبره – قال : ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت تُوعد ، فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير فيقول : أنا عملك الصالح . رواه الإمام أحمد وغيره ، وقد تقدّمت الإشارة إليه
وفي المقابل فإن الكافر يأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث .
فَمَن علِمَ أن عملَه هو جليسُه في قبره حرص على إتقان العمل وتحسينه ما استطاع إلى ذلك سبيلا .(3/67)
5 - الحرص على أكل الحلال ، وتجنّب أكل الحرام من الربا والغش والتدليس في المعاملات وغيرها ، وقد أوصى جُندب بن عبد الله أصحابَه فقال : إن أولَ ما
يُنْتِن من الإنسان بطنُه ، فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل . رواه البخاري
6 - الاجتهاد في إخلاص العملِ لله سبحانه ، فإن العمل الصالح لا ينفع صاحبه إلا إذا كان خالصاً لله ، وإلا فإنه يخونه أحوج ما يكون إليه .
7 - تربية الأولاد التربية الإيمانية ، فإن الولد الصالح مما ينفع والديه حتى بعد موتهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث - وذكر منها - : أو ولدٍ صالحٍ يدعو له . رواه مسلم .
8 - إذا مررت بالقبور فتذكّر حُفرتَك ، وقد كان السَّلف إذا رأوا الظُّلمَة تذكّروا ظُلمَة القبور ، وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته ، فيقال له : قد تَذْكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا ؟ فيقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن : القبر أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه . رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه .
قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – :
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبارُ يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يوما راغما جدثا
في قعر مظلمة غبراء موحشة يطيل في قعرها تحت الثرى اللَّبَثَا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الرّدى لم تُخلقِي عبثا
9 - أن مَن سكن القبور فإن مآله إلى البعث والنشور .
سَمِعَ أعرابيٌّ قارئاً يقرأ : ( ألهاكم التّكاثر حتى زرتم المقابر )، فقال : بعثٌ وربّ الكعبة . لأنه لا بد للزائر أن يرتحل .
أخيراً :
هل تفكّرت ما مصيرك بعد الموت ؟
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعرى بعد الباب ما الدار(3/68)
الدار جنة عدن إن عملت بما يُرضي إلإله وإن خالفت فالنار
وقد قيل :
اتفرح والمنية كل يوم تُريك مكان قبرك في القبور
هي الدنيا وإن سرتك يوما فإن الحزن عاقبة السرور
هل أنت مُستعدٌّ لتلك الخمسة الأشبار ؟
ألم تسمع أماني المفرطين عندما يقفون بين يدي رب العالمين ؟
قال الله جل جلاله عن أمنية المفرّط : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)
وقبل الختام : تنبيه
حُرمة الميت في قبره :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كسر عظم الميت ، ككسره حيا . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم ، وهو حديث صحيح .
ومما يقع فيه بعض الناس ، ويدخل في هذا الباب :
أولاً : الجلوس على القبور : لا تُصلُّوا، وهذا لا شك أن فيه انتهاكاً لحُرمةِ المقبور . وقد قال رسول الله إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها . رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : لأن يجلس أحدكم على جمرة فتُحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس ( وفي رواية أو يطأ ) على قبر . رواه مسلم .
ثانياً : المشي بالنِّعال بين القبور ، وهذا كثير لمن تأمّله ، وقد رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يمشي بنعليه بين القبور ، فقال : يا صاحب السبتيَّتين ألقهما ، فنظر الرجل ، فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه فَرَمَى بهما .
قال عبد الرحمن بن مهدى : كنت أكون مع عبد الله بن عثمان في الجنائر فلما بلغ المقابر حدثته بهذا الحديث ، فقال : حديث جيد ، ورجل ثقة ، ثم خلع نعليه ، فمشى بين القبور .
وقد ورد الوعيد الشديد على المشي على القبور ، فقال عليه الصلاة والسلام : لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحبُّ إليّ من أن أمشي على قبر مسلم ، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق . رواه ابن ماجه بسند صحيح .
وقد كان ذِكر الآخرة ومنازلِها كثير في خُطب سلف هذه الأمة .(3/69)
خطب عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ، فقال : الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأؤمن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليُزِيح به علّتكم ، وليوقظ به غفلتكم ، واعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت ، وموقفون على أعمالكم ومَجْزِيُّون بها ، فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ، فإنها دار بالبلاء محفوفة ، وبالفناء معروفة ، وبالغدر موصوفة ، وكل ما فيها إلى زوال ، وهي بين أهلها دول وسجال ، لا تدوم أهوالها ، ولن يسلم من شرها نُزّالها ، بينا أهلها منها في رخاء وسرور إذا هم منها في بلاء وغرور ، أحوال مختلفة وتارات متصرّفة ، العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لا يدوم ، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدَفة ، ترميهم بسهامها ، وتقصمهم حمامها ، وكلٌّ حتفه فيها مقدور ، وحظه فيها موفور ، واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من زهرة الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا ، وأشدّ منكم بطشا ، وأعمرُ ديارا ، وأبعد آثارا ، فأصْبَحَتْ أموالهم هامدة من بعد نُقْلَتِهم ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستَبْدَلوا بالقصور المشيدة والنمارق الممهدة الصخور والأحجار في القبور التي قد بُني على الخراب فناؤها ، وشُيِّد بالتراب بناؤها ، فمحَلّها مقترِب ، وساكنها مغترِب بين أهل عمارة مُوحشين ، وأهل محلة متشاغلين ، لا يستأنسون بالعمران ، ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان على ما بينهم من قُرْب الجوار ، ودُنوّ الدار ، وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البِلى ؟ وأظلتهم الجنادل والثرى ؟ فأصبحوا بعد الحياة أمواتا ، وبعد غضارة العيش رُفاتا ، فُجِع بهم الأحباب ، وسَكَنُوا التراب ، وظعنوا فليس لهم إياب ، هيهات هيهات ، كلا إنها كلمة ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ، وكأنْ قد صِرتم إلى ما صاروا إليه من البلى والوحدة في دار المثوى ،(3/70)
وارتُهِنتم في ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو قد تناهت الأمور ؟ وبُعثرت القبور ، وحُصِّل ما في الصدور ، ووقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل ، فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب ، وهُتكت عنكم الحجب والأستار ، وظهرت منكم العيوب والأسرار ، هنالك تُجزى كل نفس بما كسبت . اهـ .
وشيع عليٌّ رضي الله عنه جنازة فلما وُضِعت في لحدها عجّ أهلها وبَكوها ، فقال : ما تبكون ؟ أما والله لو عاينوا ما عاين ميتهم لأذهلتهم معاينتهم عن ميِّتهم .
294-مَوقِف مَعَ الشَيخ العثيمين – رَحِمَه الله –
صليت في يوم من الأيام في مسجد ( الهداية ) بحي السلام بالرياض
فقمت لألقي كلمة بعد الصلاة ، وكانت عن ( نعمة الهداية )
تكلمت وألقيت ما في جعبتي !
ولم أرَ من كان في روضة المسجد إذ حال بيني وبين رؤيته اللاقطة الصوتية !
فلما فرغت من الكلمة انصرفت عن يساري ، وإذا بي كأني اسمع صوتا
التفت فلم أر شيئا ... غير أن بعض الجماعة أشاروا إلى من كان في روضة المسجد
التفت أكثر ... ماذا أرى ؟
إنه جبل العلم
إنه الشيخ الفاضل والعالم الرباني
إنه الشيخ ( ابن عثيمين ) – رحمه الله –
أشار إليّ
فأجبته وما كان لمثلي أن يتأخر عن إجابة مثله..
كان جالساً فسلّمت عليه وقبلت رأسه..
جلست بين يديه..
أسندت ركبتي إلى ركبتيه أو قريبا منها..
أطرقت برأسي وأصغيت بسمعي إليه..
اعتذرت له مقدماً أنني ما رأيته ولا علمت بوجوده..
أثنى على الكلمة تشجيعا منه لتلميذ من تلاميذه ..
نبّهني إلى مسألة
راجعته فيها بأدب الطالب مع معلمه..
والتلميذ مع شيخه..
والابن مع أبيه..
قلت له : أحسن الله إليك . المسألة قال فيها ابن القيم كذا وكذا في شفاء العليل وفي مفتاح دار السعادة
قال : القول ما قلته لك .
قلت : سمعاً وطاعة !
أردفتُ قائلا : لو علمت أنك هنا ما تكلّمت !
قال : الحمد لله إنك ما علمت !
تذكرت حينها قول أحد إخواني في الله(3/71)
حيث قال : المُدن الكبيرة تتكلّم ولا تعلم من أمامك !
يكون أمامك أستاذ الجامعة والقاضي والعالم
فلا بُدّ أن تكون الكلمة بمستوى السامعين..
رحم الله شيخنا برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته
وجمعنا به في دار كرامته وبحبوحة جنته
295-مَوعِظَة عَلَى لِسانِ مَجنُون..!!
كان أحد الشباب لا يُصلي ، ولا يعرف طريق المسجد .
وفي يوم من الأيام رآه إمام المسجد في المسجد ، فأراد أن يأخذ بيده ويشد عضده ، فزاره في بيته ، وكم دُهش عندما علِم بسبب هدايته ، ومحافظته على صلاته ، بل في صلاته تلك لأول مرة ، والتي رآه فيها الإمام .
لعلكم تتساءلون عن السبب ؟
قال صاحبنا : تعرفون المجنون " فلان " ؟
نعم . ومَن مِنّا لا يعرفه ! ( مجنون – متخلّف عقلياً – مهبول ... )
أشهر مجنون في القرية ! بل يُضرب به المثل !
عُرف ذلك المجنون - جنوناً لا يُرجى برؤه – بمتابعة معدات الشركات ! والجري خلف كل شركة تُصلح طريقاً ، أو تعمل في الحفريات !
يهيم على وجهه ، يجري هنا وهناك من غير غاية ولا هدف .
وقد أصيب ذلك المجنون بمرض " السكر "
كل هذا ليس فيه غرابة .
لَفَتَ نظر ذلك الشاب في يوم من الأيام أن ذلك المجنون يتقيأ ، فخاف عليه ، لعلمه السابق بإصابته بمرض السكر ، فوقف عنده ، وقال : اركب معي ، لنذهب للمستشفى .
أتدرون بما ردّ عليه المجنون ؟؟
قال المجنون للعاقل : أنت لا تصلي !
قال : اركب . " ما هو شغلك هذا " .
فرد عليه المجنون . قال : لا . ما أركب معك وأنت ما تصلي ... أنت كافر !!!
قال صاحبنا الشاب : اركب ، ونصلي قدّام - على الطريق - !
رد المجنون : لا ... هذا المسجد ( وكان المسجد قريبا منهم )
قال الشاب : طيب ... إذا صليت تركب معي .
قال المجنون : نعم .
رجع الشاب إلى المسجد القريب ، وتوضأ ، وصلى ، ثم عاد فأخذ المجنون إلى المستشفى .
وبينما هو في طريقه للمستشفى أخذ يتأمل في هذا الراكب إلى جواره
إنه " مجنون " وقد قال ما قال ...(3/72)
وأنا الذي أعتقد أني عاقل وبكامل قواي العقلية يعيب عليّ مجنون !
ثم أخذ ينظر إلى حالة تلك المجنون وثيابه
ثم يُعيد النظر ويُكرره .. في نفسه
شتّان بينه وبين المجنون
لقد كانت تلك الكلمات سبب هدايته ...
بل لقد أيقظت قلبه من رقدات الغفلة .
لا غرابة أن يُجري الله الحكمة والموعظة على لسان مجنون .
وقد أيد الله إمام أهل السنة الإمام أحمد بـ " لص عيّار " !
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : كنت كثيرا أسمع والدي يقول : رحم الله أبا الهيثم . غفر الله لأبي الهيثم . عفا الله عن أبي الهيثم .
فقلت : يا أبتِ من أبو الهيثم ؟ فقال : لما أخرجت للسياط ومدت يداي ، إذا أنا بشاب يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي : تعرفني ؟ قلت : لا . قال : أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار ! مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق ، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا ، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدِّين . قال : فضُربت ثمانية عشر سوطا بدل ما ضرب ثمانية عشر ألفا ، وخرج الخادم فقال : عفا عنه أمير المؤمنين .
وقوّى قلبه رجل من الأعراب .
قال الإمام أحمد – رحمه الله – : ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق . قال : يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيداً ، وإن عِشت عِشتَ حميداً ، فقوّى قلبي .
فقد يُجري الله الموعظة على لسان لصّ ، أو رجل لا يقرأ ولا يكتب ، أو على لسان صبيّ أو مجنون .
والشواهد كثيرة .
فلعلكم سمعتم بقصة الأبكم الفصيح ؟
أو بقصة تلك الطفلة التي وعظت أباها ثم ماتت بعد ساعات ؟
والله المستعان ، وعليه التكلان .
296-سَامِحني فَلقَد أخطَُأت في حَقكِ 100 مرَّة !
هذا صديق قديم
بل صديق حميم
لكنه كثير الأخطاء
وافر الهفوات !
كل مرة يُخطئ يعود ليعتذر
ولكنه أكثر الأخطاء
لو عُدّت أخطاؤه لتجاوزت الـ 100 خطأ !
وكعادته كرر الخطأ
وجاء يطرق الباب(3/73)
خرج إليه صديقه لينظر من الطارق
فوجئ بأنه صاحب الهفوات !
كثير الخطأ في حقِّه
ما إن رآه حتى تمعّر وجهه
بل التقت حواجبه !
وتغيّرت تضاريس جبينه !
أنت ؟!
قال : سامحني .. أرجوك سامحني
أعترف أنني أخطأت
فهل سوف تُسامحني
أخذ بيده .. شدّ عليها
ودون جدوى سحب صاحبه يده من يده
وقال : لا فائدة
لن يستقيم أمرنا
لن تستقيم صداقتنا على هذه الأخطاء
لم تُجدِ مَسْكَنته
ولم ينفع توسّله
ناداه : أرجوك
أنا .. وتعلثم
كثير الخطأ
كثير الزلل
أشاح عنه بوجهه
ولكن هذا لا يُحتمل
ولا يُصبر عليه !
وقد صبرت عليك صبر الكرام
ولم يتغير من طبعك شيء
ولم تترك زلاّتك
ولم تعتبر بأخطائك
أخطاؤك كثيرة
وزلاتك لا تُحتمل
وأنت لا يُصبر عليك
فإما أن تترك هذه السلوكيات أو تعيش دون أصدقاء
فما هو موقفك أنت – أخي القارئ – تجاه هذا الصَّدِيق ؟
ما سألتك طالباً الجواب !
ولا أريد الحل
أريدك أنت !
أنا ؟
نعم أنت
وما شأني أنا
أنت يا كثير الخطايا
أنت يا عظيم الخطر
أنت يا كبير الزلل
أنت .. يا من تستكثر من غيرك ما تراه قليلا من نفسك
أنت .. يا من تقع في الخطايا
أنت .. يا من تُكثر الذنوب .. ولا تتوب
أكثر من بشر أن يُخطئ في حق بشر مائة مرة
وليس بكثير منا أن نرتكب الأخطاء بالمئات ؟
وفي حقّ مَنْ ؟
في حق من أسبغ علينا نِعمه ظاهرة وباطنة
في حق من يُصبّحنا بالنِّعم ويُمسينا
في حق من خلقنا ورزقنا ، وكفانا وآوانا
أيا نفس
أما آن لك أن تتوبي ؟
297-وَتَمايلي طَرباً..
يتلذذ الناس بما يتلذذون به
ويستمتعون بما يستمتعون به
ويجدون لذة أنفسهم فيما يشتهون ويرغبون
غير أن تلك اللذائذ زائلة فانية بل منها ما ينقلب إلى حسرات باقية
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها = من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها = لا خير في لذة من بعدها النار
فتحصيل المعصية له تعب وتبِعات
والقيام بالطاعة يكتنفه تعب ومشقة
وفي المعصية لذّة ، وفي الطاعة لذّة(3/74)
ولكن بعد المعصية انقباض نفس وضيق صدر وتأنيب ضمير
وبعد الطاعة لذّة وفرح وسرور بأداء العبادة
فما الذي يبقى ؟
وأي لذة تبقى ؟
تبقى لذة العبادة
تبقى لذة طلب العلم
تبقى لذة الأُنس بالله
تبقى لذة مرافقة الأخيار
وتلك لعمر الحق أكمل لذّات الدنيا
أنظر إلى حال أكمل البشر
انظر إلى حال سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام أين وجد اللذة ؟
وكيف سأل ربها إياها ؟
كان عليه الصلاة والسلام يجد راحة نفسه وقرّة عينه في الصلاة
فقد كان يقول لبلال : أرحنا بها . يعني بالصلاة
وكان يقول : وجُعِلت قرّة عيني في الصلاة .
وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام : اللهم وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة . رواه الإمام أحمد والنسائي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وَلَيْسَ لِلْقُلُوبِ سُرُورٌ وَلا لَذَّةٌ تَامَّةٌ إلا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِمَا يُحِبُّهُ .
وقال أيضا : فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْفَرْحَةَ وَالسُّرُورَ وَطِيبَ الْوَقْتِ وَالنَّعِيمَ الَّذِي لا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَالإِيمَانِ بِهِ : وَانْفِتَاحِ الْحَقَائِقِ الإِيمَانِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْقُرْآنِيَّةِ .
كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : لَقَدْ كُنْت فِي حَالٍ أَقُولُ فِيهَا : إنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ .
وَقَالَ آخَرُ : لَتَمُرُّ عَلَى الْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا طَرَبًا وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا نَعِيمٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ الآخِرَةِ إلا نَعِيمَ الإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَة . انتهى كلامه رحمه الله .
ولك أن تتصوّر أين قال شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الكلام ؟
قاله وهو في السجن !
وتوجد اللذة في طلب العلم وتحصيله(3/75)
قال الإمام العلم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله :
سهري لتنقيح العلوم ألذّ لي = من وصل غانية وطيب عناق
وصرير أقلامي على صفحاتها = أحلى من الدّوْكاء والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها = نقري لألقي الرمل عن أوراقي
وتمايلي طربا لحل عويصة = في الدرس أشهى من مدامة ساق
وأبيت سهران الدجى وتبيته = نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي
وتأمل هذا المجلس من مجالس العلم والمناظرة
قال أبو الحسن بن فارس : سمعت الأستاذ ابن العميد يقول : ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوةً ألذَّ من الرياسة والوزارة التي أنا فيها حتى شهدت مذاكرة سليمانَ ابنِ أيوب بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجِعَابي بحضرتي فكان الطبراني يَغلب بكثرة حفظه ، وكان الجعابي يَغلب الطبراني بفطنته وذكاء أهل بغداد ،حتى ارتفعت أصواتُهما ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبَه فقال الجعابي : عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي ، فقال : هاتِه ، فقال : حدثنا أبو خليفة حدثنا سليمان بن أيوب وحدّث بالحديث ، فقال الطبراني : أنا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو خليفة ، فاسمع مِنِّي حتى يعلو إسنادك
فإنك تروي عن أبي خليفة عني ، فخجل الجعابي وغلبه الطبراني .
قال ابن العميد : فودِدتُّ في مكاني أن الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فَرِح الطبراني لأجل الحديث . رواه الخطيب في تاريخ بغداد .
قال ذلك ابن العميد ، ومن هو ابن العميد ؟
قال عنه الذهبي في السير : الوزير الكبير ، وقال أيضا : كان عجباً في الترسّل والإنشاء والبلاغة ، يُضرب به المثل ، وقيل : بُدئت الكتابة بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد .
بل تأمل مجلس خليفة من خلفاء المسلمين
قال يحيى ابن اكثم : قال الرشيد : ما أنبل المراتب ؟
قلت : ما أنت فيه يا أمير المؤمنين .
قال : فتعرف أجل مني ؟
قلت : لا .
قال : لكني اعرفه ! رجل في حلقه يقول : حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله .(3/76)
قلت : يا أمير المؤمنين أهذا خير منك ؟ وأنت ابن عم رسول الله وولي عهد المؤمنين ؟
قال : نعم . ويلك هذا خير مني ؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله لا يموت أبدا ، ونحن نموت ونفنى ، والعلماء باقون ما بقي الدهر .
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا إذاً بالسيوف .
أتدرون متى قال ذلك ؟
بعد أن فرغ من أكل كُسيرات يابسات ثم شرب من النهر !
قال بعض الصالحين : مساكين أهل الدنيا ! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها .
قيل له : وما هو ؟
قال : معرفة الله عز وجل .
فحُقّ للصالحين أن يبحثوا عن اللذّة الحقيقية ، كما يبحث عُبّاد الشهوات عن اللذائذ المُحرّمة
والله ولي الصالحين .
298-حَافِظ عَلَى هُدوئَك..!
عندما تُستفزّ
وحينما تُستثار
ويُراد منك أن تثور وتغضب
فَكُن في غاية الهدوء
أَعْلَمُ أن ذلك من الصعوبة بمكان خاصة في بداية الأمر
ولكن تذكّر : " إنما العلم بالتعلّم ، وإنما الحلم بالتحلّم ، من يتحر الخير يُعطه ، ومن يتقِّ الشر يُوقه " .
ربما يصعب عليك كظم الغيظ أو كتمان الغضب
ولكن عندما تتذكّر عظيم الأجر في كظم الغيظ وكتمان الغضب وقَسْر النَّفْس وكَبْتَ جِماحها يَهُون عليك ذلك .
وإنما تؤخذ النَّفْس وتُربّى بالرياضة
وتذكّر :
إنما يُمدح الإنسان بكظم الغيظ
ويُثنى عليه بحَبْسِ النَّفْس
ولذا قيل :
الحليم يتغافل ، والكريم إذا قَدر عفا
وهل رأيت الناس يُثنون على أهوج ؟!
أو يَمدحون أرعَن ؟!
فالثور إذا هاج لم يقف لِهَيَجَانه شيء !
ويكفي في ذمّ البطش والانتقام أنه من صفات الحيوان الأهوج !
ويكفي في فضل كظم الغيظ وحبْس النفس أنه من صفات الكرماء .
فقد وُصِف النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .(3/77)
قالت عائشة رضي الله عنها : ما ضَرَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نِيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله ، فينتقم لله عز وجل . رواه مسلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس : إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة . رواه مسلم .
قال سعيد بن عبد العزيز : فضل شداد بن أوس الأنصار بخصلتين : ببيان إذا نطق ، وبكظم إذا غَضِب .
وروي عن القعنبي قال : كان ابن عون لا يغضب ، فإذا أغضبه رجل قال : بارك الله فيك !
فكُن كما قال الإمام الشافعي :
يخاطبني السفيه بكل قبح = فأكره أن أكون له مُجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما = كعُودٍ زاده الإحراق طيبا ..............
299-دَهَنَتْنِي بالطِّيب !
النفس البشرية تُحب الجمال ، وتتعلّق به
ولذا حُبب إلى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والطِّيب .
فليس من نفس إلا وهي تُحب الجمال ، وتكره الابتذال .
وما مِن نفس طَيّبة إلا وهي تُحبّ الطِّيب .
قال ابن القيم رحمه الله :
فإن الطَّيِّب لا يُناسبه إلا الطِّيب ، ولا يَرضى إلا به ، ولا يَسكن إلا إليه ، ولا يطمئن قلبه إلاَّ به ... وكذلك لا يَخْتَار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها ، ومن الرائحة إلا أطيبها وأزكاها ، ومن الأصحاب والعُشراء إلا الطيبين منهم ؛ فَرُوحُه طيب ، وبَدَنه طيب ، وخُلُقه طيب ، وعمله طيب ، وكلامه طيب ، ومطعمه طيب ، ومشربه طيب ، وملبسه طيب ، ومنكحه طيب ، ومدخله طيب ، ومخرجه طيب ، ومُنْقَلبه طيب ، ومثواه كله طيب .. . اهـ .
والنساء شقائق الرجال ، فإنهن يُرِدْن ما يُريده الرِّجال ..
وليس تجمّل الرَّجُل للمرأة عيباً أو بِدعاً من الأفعال .
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسِّواك – كما في صحيح مسلم – ليكون صلى الله عليه وسلم طيّب الفمّ ، زَكيّ الرائحة .(3/78)
وكان عليه الصلاة والسلام يتطيّب لنسائه .
قالت عائشة رضي الله عنها : كنت أُطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه ، ثم يصبح مَحْرِماً ينضخ طِيباً . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن القيم :
وكان صلى الله عليه وسلم يُكثِر التطيب ويُحِبّ الطيب .
وقال :
وكان يُكثِر التطيب ، وتشتدّ عليه الرائحة الكريهة ، وتشقّ عليه ، والطيب غذاء الروح التي هي مطية القوى تتضاعف وتزيد بالطِّيب ، كما تزيد بالغذاء والشراب والدَّعَة والسرور ومُعاشرة الأحبة وحدوث الأمور المحبوبة ... والمقصود أن الطِّيب كان من أحب الأشياء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله تأثير في حفظ الصِّحة ، ودَفْع كثير من الآلام وأسبابها ، بسبب قوة الطبيعة به . اهـ .
قال ابن عباس : إني لأتزين لامرأتي كما تتزيّن لي ، وما أحب أن أستَنَظِف كل حقي الذي لي عليها ، فتستوجب حقها الذي لها عليّ ، لأن الله تعالى قال : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) .
والشاهد وله : " وما أحب أن أستَنَظِف كل حقي الذي لي عليها " فهو ينظر للمسألة نَظْرَة موازنة ، فإنه إذا أخَذَ الحقّ كاملا لزِمه أداء الواجب كاملاً .
ومعنى " أستنظِف " أي آخذ حقي كاملاً .
قال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي : أتيتُ محمد بن الحنفية ، فَخَرَجَ إليّ في ملحفة حمراء ، ولحيته تَقْطُر من الغَالِيَة ، فقلت : ما هذا ؟! قال : إن هذه الملحفة ألْقَتْها عليّ امرأتي ، ودَهَنَتْنِي بالطيب ، وإنهن يَشْتَهين منّا ما نَشْتَهيه مِنْهُنّ .
قال القرطبي في التفسير :(3/79)
" قال العلماء : أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم ، فإنهم يَعْمَلون ذلك على اللَّبَق والوفاق ، فربما كانت زينة تَلِيق في وقت ولا تَلِيق في وقت ، وزينة تَلِيق بالشباب ، وزينة تَلِيق بالشيوخ ولا تَلِيق بالشباب ، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حفّ شاربه ليق به ذلك وَزَانَه ، والشاب إذا فعل ذلك سَمج ومُقِت ، لأن اللحية لم توفر بعد ، فإذا حفّ شاربه في أول ما خَرَجَ وجهه سمج ، وإذا وفرت لحيته وحفّ شاربه زانَه ذلك ، وكذلك في شأن الكسوة ، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق فإنما يُعْمَل على اللبق والوفاق ، ليكون عند امرأته في زينة تَسُرّها ، ويُعِفُّها عن غيره من الرجال ، وكذلك الكحل من الرجال ، منهم من يَلِيق به ، ومنهم من لا يليق بهم ، فأما الطيب والسِّواك والخلال والرَّمي بالدَّرن وفُضُول الشَّعر والتطهير وقَلْم الأظفار ، فهو بَيِّنٌ مُوافق للجميع ، والخضاب للشيوخ ، والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زِينة ، وهو حُليّ الرجال ... ثم عليه أن يَتَوخَّى أوقات حاجتها إلى الرجل فيُعفها ويُغنيها عن التطلّع إلى غيره " .
و " الخِلال " هو إخراج ما بين الأسنان من بقايا الطعام ، وفي الحديث : حبذا المتخلِّلُون من أمتي . رواه الطبراني في الأوسط ، وهو في صحيح الترغيب .
فالنّفس لا شك تُحب الجمال ، وترغب في الروائح الزكيّة ، فالزوج يَسُرّه أن تكون زوجته عَطِرَة ، وهو يَبِيت بروائح تتقزز منها النفوس ، وتَنْفُر منها الطِّباع ، بل وتأباها السباع !! أو يكون ممن لا يَعتَنِي بأسنانه فتَفُوح منها روائح تُسبب في نُفُور زوجته منه .
فينبغي للأزواج العناية بمظاهرهم ، والتّجمّل لنسائهم ، فكما يُريد الرجل من زوجته أن تتجمّل له فليتجمّل لها ليكون ذلك أدعى لغضّ بصرها ، وإعفاف نفسها .
وقد بلغتني شكوى غير واحدة من النساء أن أزواجهن يتجمّلون ويتطيّبون عند خروجهم فحسب .(3/80)
حتى قالت إحداهن : اشتريت طيبا وأهديته لزوجي ، وقلت له : تطيّب منه لي !
والأمر كما قال محمد بن الحنفية رحمه الله : وإنهن يَشْتَهين منّا ما نَشْتَهيه مِنْهُنّ .
فتجمّل لزوجتك .. لتكسب قلبها ..
وأحبّها .. تُبادِلك الشّعور ..
وأغنِها عن النّظر إلى غيرك ..
فإن الحياة الزوجية بمثابة الرّصيد البنكي !
إن أَخَذْتَ منه ، ثم أَخَذْتَ منه .. فإن مآله إلى النّفاد .. ومصيره إلى الانتهاء ..
حينها تَطلب المال فلا تحصل عليه .. وتبحث عن عَصَب الحياة فلا تجده .
وهكذا الحياة الزوجية
إذا أخَذّتَ فأعْطِ
وإذا أُعطِيتَ فقابِل
وهذا من شُكر المعروف ، ومُكافأة الْمُحسِن .
وفي الحديث : من صنع إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تُروا أنكم قد كافأتموه . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
300-رَوعَة..مِن رَوعَة عِيالك..!
جَلَسَ بَقِيّة بن الوليد إلى إبراهيم بن أدهم ، فقال له : ما شأنك لا تتزوج ؟
قال : ما تقول في رجل غَرّ امرأته وخدعها ؟
قلت : ما ينبغي هذا .
قال : فأتزوج امرأة تطلب ما يطلب النساء ؟ لا حاجة لي في النساء .
قال بقيّة : فجعلت أثني عليه ، قال : فَفَطِن ، فقال : لك عيال ؟
فقلت : نعم .
قال : روعة من روعة عيالك أفضل مما أنا فيه .
وقال بقيّة بن الوليد مَرّة : صحبت إبراهيم بن أدهم في بعض كور الشام وهو يمشي ومعه رفيقه فانتهى إلى موضع فيه ماء وحشيش ، فقال لرفيقه : أترى معك في المخلاة شيء ؟
قال : معي فيها كِسَر ، فنثرها ، فجعل إبراهيم يأكل ، فقال لي : يا بقية ادن فَكُل .
قال : فرغبت في طعام إبراهيم فجعلت آكل معه .
قال : ثم إن إبراهيم تمدد في كسائه ، فقال : يا بقية ما أغفل أهل الدنيا عَنّا ! ما في الدنيا أنعم عيشا مِنّا ، ما أهتمُّ بشيء إلا لأمر المسلمين ، ثم التفت إليّ ، فقال: يا بَقِيّة لك عيال ؟ قلت : إي والله يا أبا إسحاق ، إن لنا لعيالاً .(3/81)
قال : فكأنه لم يعبأ بي ، فلما رأى ما بوجهي ، قال : ولعل روعة صاحب عيال أفضل مما نحن فيه
فصاحب العيال إذا صَرَخ أحدهم وَقَف شعر رأسه ! ظانّا أن أحدهم أُصِيب بسوء .
وإن سمِع صوت سقوط وجَلَبَة فزع من مكانه ..
وربما هبّ من نومه ..
ولعله ابْيَضّ بعض شعر رأسه لتصرفات بعض أولاده !
وهو يسعى لراحتهم .. ويجتهد في المحافظة عليهم .. ويحرص غاية الحرص على سلامتهم .
فالولد مَبْخَلَة مَجْبَنة مَحْزَنَة
جاء الحسن والحسين يستبقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمّهما إليه ، ثم قال : إن الولد مَبْخَلَة مَجْبَنة مَحْزَنَة . رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، والحاكم واللفظ له وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
فلأجل الولد يبخل الأب بمالِه
ولذا كان من أوصاف أهل الْجَنّة : وعفيف مُتَعَفِّف ذو عيال . رواه مسلم .
لأن صاحب العيال في الغالب يدفعه الحرص على عياله أن لا يتعفف ، سواء عن الحرام ، أو عما في أيدي الناس ..
ذلك أن لديه دوافع الحرص والطَمَع ..
قد لا يحرص من يعيش لنفسه .. أما من كان صاحب عيال فإنه غالباً يحرص عليهم .. يخشى عليهم الفقر والفاقة ..
ولما كان الأمر كذلك فقد قال الله مُخاطِباً الآباء إذا كانوا فقراء : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) .
وخاطَبَهم إذا كانوا أغنياء ، فقال : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) .
لذا كان من تعفف مع وُجود الولد من أهل الجنة ..
ولأجل الولد يَجبن الوالد عن القتال إذا تذكّر أولاده ..
فيتأخر خوفا عليهم أن يكونوا عالة يتكفَّفُون الناس ..
ولذا قال سبحانه وتعالى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) .
وعلى الولد يحزن الوالد
يحزن إن مسّهم الضرّ .(3/82)
يَحزن إذا مرِض أحدهم .
يحزن إن أصابتهم سهام المنايا
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون . رواه البخاري ومسلم .
وقديما قيل :
لولا بُنيات كزغب القطا = رُدِدن من بعض إلى بعضِ
لكان لي مضطرب واسع = في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا = أكبادنا تمشي على الأرض
لو هَبّت الريح على بعضهم = لامتنعت عيني من الغمض
فليهنك الولد يا صاحب الولد
فَـ " روعة من روعة عيالك أفضل مما فيه " أهل الزّهد والانقطاع للعبادة .
301-فقّاعة البَاطِل..!
هل شاهدت السَّيل وَزَبَده ؟
هل رأيت فقّاعات تعلو وجه الماء ؟
تتطاير .. وتتصاعد
والماء يهدر هدير الفَحَل !
ثم ما يلبث السيل أن يختفي عن وجه الأرض بعد أن يمكث أياماً يَرتَوي منه الناس
وتتبخّر تلك الفقّاعات !
ويزول الزَّبَد .. ويختفي إلى الأبد
فلا الزَّبَد بَقِي ولا السَّيل
غير أن الزَّبَد تلاشى وذهب هو وأثره ، فما نَفَعَه التَّعالِي !
وأما السيل فتَطَامَن .. فنزل في جوف الأرض .. فاستقرّ في أودية لا تظهر للعيان
يُنتفع به وقت الحاجة .. بل تنتفع به الأجيال
وحينما يحتاج الناس إلى الماء فإنهم يستنبطونه من داخل الأرض .. فينتفعون به
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ)
وهكذا الحق والباطل
الباطل له جعجعة وجَلَبَة
له صوت هدير بكل دعوى فجّة !
يعلو وجه الأرض عُلوّ فساد
يَذهب أهل الباطل .. ويزول باطلهم
فلا يبقى لهم ذِكر حَسَن
ولا أثَر نافِع(3/83)
(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)
حينما ترى صولة الباطل تُراودك الظُّنون
ويَظنّ المنافقون أنْ لا قيام للحَقّ
(هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا)
هكذا يَرون صَولَة الباطل
ولا تثريب على أعشى البصيرة إذا لم يَرَ نور الحقيقة
فـ " نور الحق أضوأ من الشمس فَيَحِقّ لخفافيش البصائر أن تعشو عنه " !
أما الْحَقّ فإنه يَسْرِي كما سَرى السَّيل ، لا يقف في وجهه سدٌّ مَنِيع ، ولا حصن منيف .
وإذا جاء نهر الله بَطَل نهر مِعقل !
الْحَقّ ينتشر على وجه الأرض كانتشار ضوء النّهار
لا تردّه يَد ، ولا يحجزه منخل !
بل يُضيء الأرض والسّماء
لا تستطيع أمم الأرض مَنْعَه ولا ردّه
هذا هو : الْحَقّ
ثابتٌ ثبوت الجبال الرواسي بل أرسى
واضح وضوح الشمس في رابعة النهار بل أجلى
باقٍ إلى قيام الساعة
يَمكث في الأرض فلا يُمكن اجتثاثه
هو في قُرآن يُتلَى
هو في سُنة ماضية
هو في عِلم تُنبش كنوزه .. وتُكتشف أسراره
هو في مبادئ راسخة
هو في قلب كل موقِن
لا يَزيدُه المكر إلا صفاء
ولا الكيد إلا جلاء
ولا كثرة الطّعَنات إلا رسوخاً
ولا تتابع الضربات إلا صلابة
أما الزَّبَد فإنه سُرعان ما يزول .. وإن انتفش !
وسُرعان ما يتلاشى وإن عَضَده السلاح والنار والحديد !
رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورة من صور الباطل .. فنفخها فطارت !
قال عليه الصلاة والسلام : بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذَهَب ، فأهَمَّني شأنهما ، فأُوحِي إليّ في المنام أن انفخهما ، فنفختهما فطارا ، فأولتهما كذَّابَين يَخرجان بعدي ، فكان أحدهما العنسي ، والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة . رواه البخاري ومسلم .(3/84)
هكذا هي فقّاعة الباطل .. تزول بالنّفخ .. وتطير في الهواء
لا ثبات لها ولا استقرار .
واليوم تظهر بعض هذه الفقّاعات في صورة كاتِب صحفي !
في هيئة مُتفيهق أعلامي !
زادُه القِيل والقال
يَكيل التُّهم ضد أسلافه
ويتنكّر لمبادئه
(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ)
ولا يهمّنّك شأنهم
بل انفخ هذه الفقّاعات تطير .. إذ لا قرار لها !
أصحاب المبادئ الراسخة ماتوا ودُفنوا تحت الأرض .. وهم كالسيل تحت الأرض ويُنتفَع به
فـ
الناس صنفان : موتى في حياتهمُ *** وآخرون ببطن الأرض أحياءُ
وأصحاب المبادئ الهدّامة والأفكار المنحرِفة ماتوا وتلاشى ذِكرهم كتلاشي الفقّاعات
الناس لا تذكرهم بخير
بل تلعنهم
ولهم سلف بـ ( أبي رغال ) !
وما أبو رغال ؟
أبو رغال دلّ أبرهة على الطريق إلى مكة ، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس ، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فَرَجَمَت قبرَه العرب !
شخص لا قيمة له
أراد النّفع والنّفع فحسب .. فهو نفعي لا غير !
ولو على حساب قومه .. ولو على حساب بيت تُعظِّمه العرب قاطبة
ليس لديه مبدأ .. النفع والمصلحة الشخصية عنده فوق كل اعتبار !
دلّ العدو على عورات قومه !
دلّ عدوّه على الطريق إلى مكة ( بلد الإسلام )
ومات أبو رغال .. وتلاشَتْ فقّاعته !
وبَقِي له سوء الذِّكر مسطور مزبور في كُتب التواريخ
مات ابن أبي دؤاد .. حامل لواء البدعة
ومات أحمد بن حنبل رحمه الله
فالأول زَبَدٌ تلاشى إلا قليلاً
والثاني سَيلٌ نفع الله به
كم ورّث من عِلم ؟
وكم تَرَك من قول ؟
وكم خلّف من حِكمة ؟
ما نفع ابن أبي دؤاد أن كان قاضي قضاة زمانِه
ولا الْمُقدَّم عند حاكم عصره وأوانه
أليس هو القائل للخليفة : اقتل أحمد ودمه في رقبتي ؟!
فيا بُعد ما بين الرَّجُلَين !
الدنيا كلّها تعرِف من هو أحمد بن حنبل !
ولكن من يعرِف ابن أبي دؤاد ؟
سائِل الدنيا ..
واسأل التاريخ
ففي التاريخ مُعتَبَر
وفي الأيام مُدَّكَر(3/85)
302-إذا هَبَّتْ رياحُك فاغْتَنِمْها..
وَعَد إبليس وتوعّد بني آدم أنه لا يزال يُغويهم .. (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) .. و (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً)
وقال عليه الصلاة والسلام : إن الشيطان قال : وعِزَّتِك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم . فقال الرب تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي لا أزال أغْفِر لهم ما استغفروني . رواه الحاكم وغيره وهو حديث صحيح .
ومن ذلك الإغواء .. والاستيلاء والاحتواء .. حِرصه – لعنه الله – على التفريق بين المتحابِّين .. وعلى تفريق الأزواج على وجه الخصوص ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن إبليس يَضَعَ عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا فيقول : ما صنعتَ شيئا ، قال : ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرّقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ، ويقول : نِعْمَ أنت . قال الأعمش : أراه قال : فيلتزمه .
وحينما تَهُبّ زوابِع الغَضَب فتَعْصِف بالحياة الزوجية .. يَرقُص إبليس طرباً .. حِرصا على تشتيت الشَّمل ! وطلبا للعداوة والبغضاء .. ورغبة في التفريق بين الزوجين !
ولربما نَفَخ في أوداج أحد الزوجين حتى يَحمرّ وجهه ! وتنتفِخ أوداجه ! فتعلو الأصوات .. وتتتابَع الكلمات .. ويحْتَدّ الخصام .. ويؤول الأمر إلى طلاق وفراق .. تُكسَر معه الآنية ! وتُحطّم معه الأضلاع !(3/86)
اسْتَبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما فاشتدّ غضبه حتى انتفخ وجهه وتَغَيَّر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد ؛ لو قال : أعوذ بالله من الشيطان ، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : تعوّذ بالله من الشيطان ، فقال : أترى بي بأسا ؟ أمجنون أنا ؟ اذهب ! رواه البخاري ومسلم .
فما يكون من خِصام إلا وللشيطان منه نصيب !
فـ " المستبان شيطانان يَتَهَاتَرانِ ويتكاذبان " كما في المسنَد والأدب المفرد للبخاري .
وهذا من تربّص إبليس بذرية آدم ..
وقد دَخَل إبليس على بني آدم من ثلاث طُرُق : الغفلة والغضب والشهوة !
قال ابن القيم : ودُخُولُه على العبد من هذه الأبواب الثلاثة ، ولو احترز العبد ما احترز العبد ما احترز فلا بُدّ له من غفلة ، ولا بُدّ له من شهوة ، ولا بُدّ له من غضب . وقد كان آدم أبو البشر من أحلم الخلق وأرجحهم عقلا ، وأثبتهم ، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه . فما الظن بفراشة الحلم ، ومَنْ عقله في جَنْبِ عقل أبيه كَتَفْلَةٍ في بَحر ؟! ولكن عدو الله لا يخلص إلى المؤمن إلا غيلة على غِرة وغفلة فيوقعه . اهـ .
إن تلك المداخل يُمكن إحكام غلْقِها ! أو على الأقل الاحتراس من دُخول العدوّ منها !
وذلك بـ :
1 - التفاهم بين الزوجين .. بعيداً عن الصَّخَب ! في ظِلّ احترام مُتبَادَل ..
فالحياة الزوجية ليست ثَكَنَة عسكرية !
2 - إذا غضِب أحدهما استرضاه الآخر !
قال أبو الدرداء لأمِّ الدرداء : إذا غَضِبْتُ فَرَضِّينِي ، وإذا غَضِبْتِ رَضَّيْتُك . فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق !
3 – استغلال ساعات الصَّفاء .. وأوقات الهناء .. وأيام طِيب اللقاء !
فإن النفس لها نُفُور ! ولها سُكُون
وقديما قيل :
إذا هَبَّتْ رياحُك فاغتنمْها = فإنّ لكل خافقةٍ سكونُ(3/87)
ولا تزهَدْ عن الإحسان فيها = فما تدري السكونُ متى يكونُ
وإن دَرَّتْ نياقك فاحتلبها = فما تدري الفصيل لمن يكون
فحينما تَهُبّ رياح الصفاء في أيام الهناء .. ويكون طِيب اللقاء .. تكون النفس في سُكون .. والقلب في ارتياح .. عندها يكون كل طَرَف على استعداد للسَّمَاع والتفاهُم ..
حينها يَحسن أن يتم الاتِّفاق على عدم التغاضُب !
ومن ثَمّ يتم كشف حسابات بأخطاء الحياة الزوجية .. يتم التوصُّل فيها إلى حَلّ يُرضي جميع الأطراف !
ولا أعني تنغيص ساعات الصفاء .. بل استغلالها الاستغلال الأمثل لِعرض المشكلة بأرَقّ عِبارة ، وألطف إشارة .. يُصرِّح كل طَرف بما يجول في خاطِره .. وبما يكون سببا للنَّكَد .. ليتم اجتنابه مُستَقبَلاً .. ويتم تحاشيه فيما يُستَقْبَل من أيام ..
قد تكون سُرعة غضب أحد الزوجين هي سبب نَكَد الحياة الزوجية ..
وقد يكون إهدار كرامة أحد الطرفين للآخَر ! وإهماله سبب قَتَر الحياة الزوجية !
أما إنه لا يَحسُن عرض المشكلة ، ولا التحدّث بالخطأ أمام الناس .. بل ولا أمام الأولاد ..
كما لا يَحسُن ذلك أن يكون في وقت انشغال بالِ .. أو تشويش ذِهْن !
بل يتم اختيار أنسب الأوقات لِحلِّ تلك المشكلات ..
وقد تكون المشكلة أوهَى من بيت العنكبوت ! وتتم إزالة خيوطها في جلسة مُصارَحة ..
وقد يكون من الأنسب أن يَسأل أحد الزوجين صاحبه : لديّ ما أقوله .. فهل لديك استعداد لسماعه ؟!
هذا .. بعد تفحّص الْجَبِين !
ورؤية أسارير الوجه !
أما إن كان الجبين مُقطِّباً ! أو الوجه عابِساً ! فلن تزداد الأمور إلا سوءاً ! والمشكلات إلا تعقيداً !
أما إذا بَرَقَتْ أسارير وجهه .. وكان طَلْق الْمُحَيّا .. بَرّاق الثنايا – فعندها قُل يُسمَع لك !
وإني لأحسب كثيراً من مشكلات الحياة الزوجية تبدأ من نُقطَة .. وتنتهي بِطلْقَة وفُرْقَة !
وينبغي هنا أن لا نُغفِل الأسباب الجوهرية وراء تدهور الحياة الزوجية !
ومن ذلك :(3/88)
1 - المعاصي والمنكَرَات التي تكون في البيوت .. أو تكون من أحد الزوجين .. فيُعاقَب العاصِي بِتَغيّر صاحبه ..
قال الفضيل بن عياض : إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خُلُق حماري وخادمي .
وسبقت الإشارة إلى هذا في :
هذا بِذنْبِي ...
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/76.htm
ومِن ذلك تضيع الصلوات .. والسهر المحرَّم .. وصُوَر ذوات الأرواح .. والأغاني والموسيقى ..
2 – إهمال كل طَرَف للآخَر .. وربما سَكَت كل طَرَف على مَضض عن أخطاء صاحبه ..
وفَرْق – رعاكم الله – بين التغاضي عن بعض الأخطاء والهفوات .. وبين السكوت عنها مُطلَقاً !
فالتغاضي مطلوب .. وبِه قوام الحياة الزوجية .. والسكوت الْمُطلَق قد يُدمِّر الحياة الزوجية !
والحياة الزوجية كالرصيد في البنك ! فإن أخذت منه .. من غير عطاء .. نفِد الرصيد ..
فالحياة الزوجية بحاجة إلى إيداع ! وهي بحاجة إلى تغطيةِ رَصِيدِ العواطِف !
ويكون ذلك بِهدية ..
بِكلمة طيبة ..
بتقبّل النُّصْح ..
بالاعتراف بالخطأ ..
بمعرفة عيوب النفس .. حتى لا يتمادى الإنسان في أخطائه ..
أما المكابَرَة .. والجفاء .. ورَمْي الأعباء والأخطاء .. فهذا يَهدِم رُكن الحياة الزوجية ( المودّة )
فَرُكْنا الحياة الزوجية مَحَبّة ورحمة : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)
3 – موقف كل طَرَف موقف العِداء !
وقد يكون الإعلام له دور في صناعة ذلك !
كيف ؟
بتصوير العلاقة بين الرجل والمرأة بِعِلاقة ( القط والفأر ) !!
وكل طرف يبحث أو يُفتِّش عن زلاّت صاحبه !
وكلٌّ من الزوجين يقِف موقف العداء من صاحبه !
إن الحياة الزوجية حياة تكامل .. لا حياة تطاحن !
كما قالت المرأة الحكيمة : " كُونِي له أمَةً يَكُن لكِ عَبداً " !
4 – تَصَوُّر بعض النساء أنه لا أمل في الإصلاح ! وأن الزوج لا يُمكِن أن يُغيِّر طبْعَه !
ومتى ما شعرت المرأة بهذا الشعور ، فلن تُغيِّر ولن تتغيَّر ..
وسوف يزداد الأمر سوءاً ..(3/89)
ويُذكر قصة – رمزية – تقول القصة :
جاءت امرأة في إحدى القرى لأحد العلماء وهي تظنه ساحرا ، وطلبت منه أن يعمل لها عملا سحريا بحيث يحبها زوجها حُبًّا لا يَرى معه أحد من نساء العالم . ولأنه عالم ومُرَبّ قال لها : إنك تطلبين شيئا ليس بسهل ! لقد طلبت شيئا عظيما . فهل أنت مستعدة لتحمل التكاليف ؟
قالت : نعم
قال لها : إن الأمر لا يتم إلا إذا أحضرت شعرة من رقبة الأسد
قالت: الأسد قال : نعم
قالت : كيف أستطيع ذلك والأسد حيوان مفترس ولا أضمن أن يقتلني أليس هناك طريقة أسهل وأكثر أمنا
قال لها : لا يمكن أن يتم لك ما تريدين من محبة الزوج إلا بهذا وإذا فكرت ستجدين الطريقة المناسبة لتحقيق الهدف ....
ذهبت المرأة وهي تضرب أخماس بأسداس تفكر في كيفية الحصول على الشعرة المطلوبة فاستشارت من تثق بحكمته فقيل لها أن الأسد لا يفترس إلا إذا جاع وعليها أن تشبعه حتى تأمن شَرّه . أخذت بالنصيحة وذهبت إلى الغابة القريبة منها ، وبدأت ترمي للأسد قطع اللحم وتبتعد ، واستمرت في إلقاء اللحم إلى أن ألِفَتِ الأسد وألِفَها مع الزمن . وفي كل مرة كانت تقترب منه قليلا إلى أن جاء اليوم الذي تمدد الأسد بجانبها وهو لا يشك في محبتها له ، فوضعت يدها على رأسه وأخذت تمسح بها على شعره ورقبته بكل حنان و، بينما الأسد في هذا الاستمتاع والاسترخاء لم يكن من الصعب أن تأخذ المرأة الشعرة بكل هدوء ! وما إن أحست بتملّكِها للشعرة حتى أسرعت للعالم الذي تظنه ساحرا لِتُعْطِيه إياها ، والفرحة تملأ نفسها بأنها ستتربع على قلب زوجها وإلى الأبد .
فلما رأى العالم الشعرة سألها : ماذا فعلت حتى استطعت أن تحصلي على هذه الشعرة ؟
فشرحت له خطة ترويض الأسد ، والتي تلخصت في معرفة المدخل لقلب الأسد أولاً - وهو البطن - ثم الاستمرار والصبر على ذلك إلى أن يحين وقت قطف الثمرة .(3/90)
حينها قال لها العالم : يا أمة الله ... زوجك ليس أكثر شراسة من الأسد !! افعلي مع زوجك مثل ما فعلت مع الأسد تملكيه . تَعَرّفي على المدخل لِقَلْبِه وأشبعي جوعته تأسريه ، وضعي الخطة لذلك واصبري .. تنالي مُرادَك ..
إن الزوج مهما كان شرِساً لن يكون أشرس من الأسد !
وإن الزوج الذي يقف موقف عداء .. بل وموقف يأس من إصلاح صاحبه .. ربما يبدأ بِهدم الحياة الزوجية من هذا الْمُنْطَلَق ..
5 – إغفال وسائل الإصلاح .. من دعاء .. وتحكيم .. ودَفْعٍ للسوء بالصَّدَقات .. وبَحْثٍ عن مفاتيح القلوب .. بل ومفاتيح الرِّجَال !
فإن لكل شخص مفتاحاً ! كما أن لكل باب مفتاحاً !
وإنما تُفتَح الأبواب بمفاتيحها !
وكم نغفل عن الدعاء ..
وربما فُتِحت به مغاليق .. وصُرِفتْ به من قلوب ..
وأُصْلِح به من عيوب ..
والشواهد كثيرة
موضوعات ذات صِلة :
حافظ على هدوئك !
http://www.almeshkat.net/vb/showthread.php?s=&postid=201281#post201281
الغضب بين الشرع والطب
http://www.almeshkat.net/vb/showthread.php?s=&threadid=29327
303-تُرِيدِين لُقْيَان الْمَعَالِي رَخِيصَةً ؟
إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل .
وإن ورثة الأنبياء لهم نصيبهم من ذلك البلاء بِقَدْرِ ما تَحَمَّلُوا من ذلك الميراث ، وعلى قَدْرِ ما كُتِبَ لهم من منازل ودرجات في العُقْبَى
وحاملةُ لواء الدعوة اليوم أشدّ بلاء لِقِلَّةِ الْمُعِين وكَثْرَة المفْسِدِين ..
وهذا ما شَكَاه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مِنْ شَكْوى : جَلَد الفاجِر وعَجْز الثقة .
وقد يكون البلاء بعدم استجابة المدعوّين ، فعلى الداعية حينئذ أن تَتَعَزَّى – بعد تَفَقُّدِ النفس – بـ " يأتي النبي وليس معه أحد " . كما في الصحيحين .
وقد يكون البلاء مِن تَخَاذُلِ قريب أو خُذلان حَبيب
وهذا أشدّ على النفس من وَقْعِ الحسام المهند !
يخادعني العدو فما أُبالي = وأبكي حين يَخْدَعُني الصَّدِيقُ(3/91)
وقد يكون ِبنَقْدٍ لاذِع .. أو بِغَمْزٍ جارح
أو بكلمة حادّة تصل إلى سويداء القلب ، فتغرِز فيه خنجَراً ، وتَتْرُك فيه أثراً !
إلى غير ذلك من أنواع البلاء
وعلى كُلٍّ فإن طريق الدعوة ليس محفوفاً بالورود
بل هو محفوف بالمخاطر .. مَفْرُوش بالبلاء .. يَحُفّه الأذى .. وقد يكتنفه الرَّدَى
على قدر فضل المرء تأتي خُطُوبُه = وتُعرَف عند الصبر فيما يُصِيبُه
ومَنْ قَلَّ فيما يَتَّقِيه اصْطِبَاره = فقد قَلَّ مما يَرْتَجِيه نَصِيبُه
قال ابن القيم :
يا مخنّث العزم ! أين أنت والطريق طريقٌ تَعِبَ فيه آدم ، وناح لأجله نُوح ، ورُمِي في النار الخليل ، وأضْجِعَ للذَّبْحِ إسماعيل ، وبيع يوسف بِثَمَنٍ بَخْس ، ولبث في السجن بضع سنين ، ونُشِرَ بالمنشار زكريا ، وذُبِحَ السيد الحصور يحيى ، وقَاسَى الضُّرّ أيوب ، وزاد على المقدار بكاء داود ، وسار مع الوحش عيسى ، وعَالَجَ الفقر وأنواع الأذى محمد – تَزها أنت باللهو واللعب ؟! . اهـ .
وكما أن دون الشهد إبر النحل فإن دون العلياء أصناف البلاء
ودون تَسَنُّم الذُّرَى أنواع الابتلاء
ذريني أنَلْ ما لا يُنال مِن العُلا = فَصَعْبُ العُلا في الصَّعْبِ والسَّهْلُ في السَّهْلِ
تُريدِين لُقْيان المعالي رخيصةً = ولا بُدّ دون الشَّهْد مِن إبرِ النَّحْلِ
ودون الصعود إلى القمة تحمّل المشقّة ، واحتمال السقوط
ومن يتهيّب صعود الجبال = يَعِش أبد الدهر بين الْحُفَر
ودون التَّمْكِين للشيطان كَمِين !
سئل الإمام الشافعي رحمه الله : أيما أفضل للرجل أن يُمَكَّن أو يُبْتَلَى ؟ فقال : لا يُمَكَّن حتى يُبْتَلَى .(3/92)
قال ابن القيم : والله تعالى ابْتَلَى أولي العزم من الرُّسُل فلما صبروا مَكَّنَهَم ، فلا يَظُنّ أحد أنه يَخْلُص من الألم البتة ، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول ، فأعقلهم مَنْ بَاعَ أَلَماً مُسْتَمِراً عظيماً بِأَلَمٍ مُنْقَطِع يسير ، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر . اهـ .
فالابتلاء سُنَّةٌ ماضية
وطَرِيقٌ سِالكة
وكم أجرى الله من أنواع النعماء بعد الصبر على البلاء
ولذا عُدّ البلاء من النعماء التي يجب أن تُذكَر فَتُشْكَر
قال عليه الصلاة والسلام : من أُبْلِي بلاء فَذَكَرَه فقد شَكَرَه ، وإن كَتَمَه فقد كَفَرَه . رواه أبو داود .
وكم من كريم يُبْتَلَى ثم يَصْبرُ ؟
وقول الله أصدق وأبلَغ : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)
فلا تُنال الإمامة في الدِّين إلا بالصبر واليقين ..
فلرُبّما كان الدُّخول إلى العُلا = والْمَجْدِ من بَوَّابَةِ الأحزانِ
ودون دعوى المحبّة إثبات صِدْق قَدَم الصِّدق
فإن الله إذا أحبّ قوما ابتلاهم
والله يبتلي عِباده ، بل يبتلي الصفوة منهم لتظهر معادنهم
فالإنسان يُبتلى ليُهيأ للجنة
و " ليس المراد أن يُعذَّب ولكن يُبْتَلَى لِيُهَذَّب " كما يقول ابن القيم .
فالمؤمن يُهيأ لِوطنه الأصلي .. فيُطهّر من دَرَنِ الدار ، ومن شَعَثِ الأسفَار !
ودون الانتقال إلى دار الكرامة تَطهير وطَهارة
وفيما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : " لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يَلْقَى الله وما عليه من خطيئة " رواه الإمام أحمد والترمذي .
قال ابن القيم : الدنيا مجاز والآخرة وَطَن ، والأوطار إنما تُطْلَبُ في الأوطان .
وقال :
فَحَيَّ عَلى جنات عدن فإنها = منازلك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبي العدو فهل تُرى = نعود إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ ؟(3/93)
ومن خَطَب الحسناء بَذَل مُهجَةَ النَّفْسِ !
ولن تَعْرِف النفس النعيم وعِزّه = إذا جَهِلَتْ حال المذلّة والضرّ
تَهُون علينا في المعالي نفوسنا = ومن يخطب الحسناء لم يُغْلِها مهر
الداعية .. سَمَتْ نفسه ، وعَلَتْ هِمّتُه .. حتى عانَقَتِ السَّحَاب
فهو يسعى بِنفسٍ واحدة لِهمومٍ شَتّى
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها = فالنفس واحدة والهمّ منتشر
والمرء ما عاش مَمْدود له أمَل = لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
وإن تَعجَب فاعجَب لِصبْرِ أهل الباطل مع ما يُقاسُون من شدّة وانتقاد ، رغم أنهم لا يَرجون من الله جزاء ، ولا مِن خَلْقِه شُكورا .
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : كنت كثيرا أسمع والدي يقول : رحم الله أبا الهيثم . غفر الله لأبي الهيثم . عَفَا الله عن أبي الهيثم . فقلت : يا أبتِ من أبو الهيثم ؟ فقال : لما أُخْرِجْتُ للسياط ومُدَّتْ يداي ، إذا أنا بشاب يَجْذِبُ ثوبي من ورائي ويقول لي : تعرفني ؟ قلت : لا . قال : أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرّار ! مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُرِبْتُ ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق ، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا ! فاصْبِرْ أنت في طاعة الرحمن لأجل الدِّين . قال : فضُربت ثمانية عشر سوطا بدل ما ضُرِبَ ثمانية عشر ألفا ، وخَرَجَ الخادم فقال : عَفَا عنه أمير المؤمنين .
فائدة : في لسان العرب :
الطرار : هو الذي يَشُقّ كُمَّ الرَّجُل ويَسِلّ ما فيه ، من الطرّ وهو القطع والشق .
أهل البطل يَصبِرون وهم لا يَرْجُون
بل إنهم يتألّمون ويَصبِرون !
(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)
أفلا يكون أوْلَى بالصبر من يَرجو لقاء الله ؟!
بلى والله .
304-لماذا الْهُجْرَان ؟(3/94)
نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا)
أُمَّتَه
هَجروا مصدر عِزّتهم ..
تَنَاسَوا أسباب نُصرتهم ..
تَركوا تحصيل سعادتهم ..
ألم يَقُل : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ؟
قال الإمام القرطبي (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) :
تفريح الكروب ، وتطهير العيوب ، وتكفير الذنوب ، مع ما تَفَضَّلَ به تعالى من الثواب في تلاوته . اهـ .
القرآن .. رحمة للمؤمنين ..
وهو أمَان من الشَّقاء
هو عِصمة من الضَّلال
هو سعادة لا شقاء معها
ألم يَقُل رب العِزّة سبحانه : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) ؟
قال عليه الصلاة والسلام : تركت فيكم ما لن تَضِلُّوا بعده إن اعتصمتم به ؛ كتاب الله . رواه مسلم .
وقال ابن عباس : من قرأ القرآن واتَّبَع ما فيه هداه الله في الدنيا من الضلالة ، ووقاه الله يوم القيامة سوء الحساب .
وقال رضي الله عنهما : أجَارَ الله تعالى تَابِع القرآن من أن يَضِلّ في الدنيا ، ويَشْقَى في الآخرة .
القرآن ..
هِداية لكل صواب .. (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)
" أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب " كما قال القرطبي .
ودَلالة لكل حيران
(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)
وهو ذِكرى وعِبرة
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا)
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)
وهو بُشرى ، بل بُشريات للمؤمنين والمؤمنات
(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)
قال ابن القيم : قيل لعامر بن عبد القيس : أما تسهو في صلاتك ؟ قال : أوَ حديث أحبّ إليّ من القرآن حتى أشتغل به ؟!(3/95)
القرآن .. حياتك يا ميِّت !
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)
قال عمر : تَعَلَّمُوا كتاب الله تُعْرَفُوا به ، واعْمَلُوا به تكونوا من أهله .
القرآن .. عِمارة قلبِك
" الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرِب " رواه الإمام أحمد والترمذي .
القرآن .. فيه خيرية الأنام" خيركم من تَعَلَّم القرآن وعَلّمَه " رواه البخاري ، وقال : وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج . قال : وذاك الذي أقعدني مَقعدي هذا .
القرآن حِصنك الحصين ، وحِرزك الْمَكِين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يَنْفُر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة . رواه مسلم .
وفي رواية له : لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان يَنْفُر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة .
حِرزُك من كل شيطان ، ومن كُلّ ساحِر وفتّان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة ، وتركها حَسْرة ، ولا تستطيعها البَطَلَة . قال معاوية بن سلاّم : بلغني أن البَطَلَة السحرة . رواه مسلم .
روى ابن أبي شيبة من طريق عبيد بن عمير قال : كان عبد الرحمن بن عوف إذا دخل مَنْزِله قرأ في زواياه آية الكرسي .
قراءة القرآن سبب في نَيْلِ محبة الله
ففي الحديث : مَنْ سَرَّه أن يُحبّ الله ورسوله فليقرأ في الْمُصْحَف . رواه البيهقي في شُعب الإيمان
وقال عثمان رضي الله عنه : إن قلوبنا لو طَهُرَتْ ما شَبِعَتْ من كلام الله .
وقال رضي الله عنه : ما أحب أن يأتي عليّ يوم ولا ليلة إلا أنظر في كلام الله ، يعني القرآن في المصحف .
وقال ابن مسعود : أديموا النظر في المصحف .
القرآن .. بَرَكة في زَمَنٍ قَلّتْ فيه البَرَكة
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ)
(وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ)(3/96)
وفي الحديث : " اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة ، وتركها حَسْرة " رواه مسلم .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : البيت إذا تُلِيَ فيه كتاب الله كَثُرَ خيره ، وحضرته الملائكة ، وخرجت منه الشياطين ، والبيت الذي لم يُتْلَ فيه كتاب الله ضاق بأهله ، وقَلّ خيره ، وحضرته الشياطين ، وخرجت منه الملائكة . رواه ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة في المصنَّف .
القرآن ..
شفاء للأدواء ..
شفاء للقلوب التي في الصدور ..
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)
" فالقرآن هو الشفاء التامّ من جميع الأدواء القلبية والبدنية ، وأدواء الدنيا والآخرة ، وما كل أحدٍ يُؤهّل ولا يُوفّق للاستشفاء به ، وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووَضَعَه على دائه بِصِدْقٍ وإيمان وقَبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه ؛ لم يُقاومه الدّاء أبداً . وكيف تُقاوِم الأدواء كلام ربّ الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدّعها ، أو على الأرض لقطّعها ، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه ، لمن رَزَقَه فَهماً في كتابه ... فمن لم يَشْفِه القرآن فلا شَفَاه الله ، ومن لم يَكْفِه فلا كَفَاهُ الله " قاله ابن القيم .
القرآن ..
نُور يُستضاء به في دياجير ظلمات التِّيْه
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) ..
القرآن .. نُور يُهتَدَى به(3/97)
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
القرآن شافِع مُشَفَّع
" يجيء القرآن يوم القيامة كالرَّجُل الشاحب ، فيقول : أنا الذي أسهرت ليلك ، وأظمأت نهارك" رواه ابن ماجه
القرآن عِزّ الدنيا ورِفعة الآخرة
وفي المسند : " وإن القرآن يَلْقَى صاحبه يوم القيامة حين يَنْشَقّ عنه قبره كالرَّجُل الشاحب ، فيقول له : هل تعرفني ؟
فيقول : ما أعرفك .
فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر ، وأسهرت لَيْلَك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة ، فيُعْطَى الْمُلْك بيمينه ، والْخُلْد بشماله ، ويُوضَع على رأسه تاج الوقار ، ويُكْسَى والداه حُلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا ، فيقولان : بِمَ كُسْينا هذه ؟ فيُقال : بأخذ ولدكما القرآن ، ثم يُقال له : اقرأ واصعد في درجة الجنة وغُرَفِها ، فهو في صعود ما دام يقرأ ، هذًّا كان أو ترتيلا " .
عليك بالقرآن ..
استجلب رزقك بالقرآن
" يقول الرب عز وجل : مَنْ شَغَلَه القرآن وذِكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" رواه الترمذي وغيره ، وهو قابِل للتحسين بمجموع طُرُقه
واستَدْفِع همّك وغمّك بالقرآن
ففي المسند :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أصاب أحداً قط هَمّ ولا حزن ، فقال :
اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيّ حُكمك ، عَدْلٌ فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تَجْعَل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب هَمِّي ؛ إلا أذهب الله هَمّه وحُزنه ، وأبدله مكانه فَرَجا .
فقيل : يا رسول الله ألا نتعلمها ؟(3/98)
فقال : بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها .
القرآن ..
لا يَخْلَق ولا يَبْلى لِِكثرة التِّرداد
القرآن ..
كتاب الله . فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحُكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، مَنْ تَرَكَه مِن جَبّار قَصَمَه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذِّكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يَشبع منه العلماء ، ولا يَخْلَق على كثرة الرَّدّ ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تَنْتَهِ الجن إذ سمعته حتى قالوا : (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) مَنْ قال به صَدَق ، ومَن عَمِلَ به أُجِر ، ومَنْ حَكَمَ به عَدَلَ ، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم ..
قال عبد الله بن مسعود : من أراد العِلْم فليقرأ القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين .
القرآن ..
سَمِعَه أقحاح العرب ، وأساطين اللغة ، فما تمالكوا أنفسهم .. فأصْغَوا إليه ..
لما أجار ابنُ الدّغنة أبا بكر رضي الله عنه ، طَفِقَ أبو بكر يَعْبُدُ ربَّه في داره ، ولا يَسْتَعْلِن بالصلاة ، ولا القراءة في غير داره ، ثم بَدَا لأبي بكر فابْتَنَى مسجدا بِفِنَاء داره ، وبَرَز ، فكان يُصَلّي فيه ويقرأ القرآن ، فيتقصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، يَعجبون ويَنظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً ، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ! فأرسلوا إلى ابن الدّغنة ، فقدم عليهم ، فقالوا له : إنا كنا أجَرْنَا أبا بكر على أن يَعْبُد ربه في داره ، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره ، وأعلن الصلاة والقراءة ، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا ! رواه البخاري .(3/99)
أخرج ابن إسحق والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : حُدِّثتُ أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خَرَجُوا ليلة يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل رجل منهم مَجْلِساً يستمع فيه ، وكلٌّ لا يَعْلَمُ بمكان صاحبه ، فَبَاتُوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعتهم الطريق فتلاومُوا ، فقال بعضهم لبعض : لا تَعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ! ثم انصرفوا حتى إذا كان الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتُوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل واحد منهم مجلسه ، فباتُوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نَعود ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا ، فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟
قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يُراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفتُ معناها ، ولا ما يُراد بها .
قال الأخنس : أنا والذي حَلَفْتُ به .
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكُنّا كفرسي رهان ، قالوا مِنّا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نُصدِّقه فقام عنه الأخنس وتركه !
فيا أخوتاه ..
لا تهجروه
قال ابن القيم :
هجر القرآن أنواع :
أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .
والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .
والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه .(3/100)
والرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه .
والخامس : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها ، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به .
وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . اهـ .
مشروع مُقتَرَح
لكي لا نَهجُره .. إليك – رعاك الله – هذا المشروع المقترح :اقرأ القرآن في كل أسبوع
قال الإمام البخاري في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في قراءة القرآن :
وقال بعضهم : في ثلاث ، وفي خمس ، وأكثرهم على سَبْع .
قد يكون صعبا في البداية .. والصعوبات في البدايات
ثم ما يلبث أن يكون سَهلا مُيسَّرا
فإذا أردتَ أن تختم القرآن في كل أسبوع .. فاقرأ في كل يوم أربعة أجزاء وثلاثة أوجه تقريبا
واجعل بداية قراءتك مع بداية الأسبوع ، لتَفُزْ بِختمة في نهاية الأسبوع .. وإذا كانت في آخر ساعة من يوم الجمعة ، ثم دَعَوتَ ، فقد جَمَعْتَ بين الدعاء في آخر ساعة من يوم الجمعة وبين الدعاء عند ختم القرآن ..
كان أنس إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته فَدَعا لهم .
وتعاهَد نفسك مع العمل بالقرآن .. حتى لا تكون هاجراً للعَمَل به .
لفتة :
سألتني فتاة فقالت : اعْتَدتُ أن أخْتِم القرآن في كل خمسة أيام ! فكيف أجتهد في العشر الأواخر ؟!
فهزّني هذا السؤال !
واحْتَقَرْتُ نفسي وعملي !
فهل يَهزّك لِتعود إلى القرآن ، وإلى الاجتهاد في قراءته .. وإلى تعاهده ؟!!
أرجو ذلك
305-تبًّا له ثم تَبّ..
لما بَعَثَ الله نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الناس .. وكانت بعثه إلى الناس كافة ..
حَرِص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنقاذ البشرية من التِّيه والضلال الذي ترسف فيه ..
كما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنقاذ البشرية من النار ..
تمثّل ذلك الحرص في دعوة الناس ليلا ونهاراً .. سِرًّا وجهاراً ..
وتمثّل ذلك الحرص في دعوة كل الناس ..
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى ..(3/101)
وأرسل الرُّسُل والْكُتُب إلى الرؤساء والزعماء ..
تمثّل ذلك الحرص أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طفل يهودي يُصارِع المرض .. يوشك على مفارقة الحياة ..يَهتم به عليه الصلاة والسلام .. يَعتني به .. يَعرض عليه الإسلام : أسْلِم .. فَيَلْتَفِتْ الصبي إلى والده .. كأنه يستأذنه .. ولما كان والده يعرف حقيقة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال : أطِع أبا القاسم .. فيتشهّد الطفل ويشهد شهادة الحق .. ثم يموت !
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فرحا مُستبشراً وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . كما في صحيح البخاري .
وكما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على دعوة الأباعِد فقد حرص الأقارب .. فدعا قومه ورهطه .. فصاح بهم يوماً على الصفا وهو بمكة ، فجعل يُنادي :
يا بني فهر.. يا بني عَدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا ، فجعل الرَّجُل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تُريد أن تغير عليكم ، أكنتم مُصَدِّقي ؟
قالوا : نعم ، ما جَرّبنا عليك إلا صدقا .
قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .
فقال أبو لهب : تَبًّا لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فَنَزَلت : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) . رواه البخاري ومسلم .
أبو لهب هو عبد العُزّى .. تَبّ وخسِر ، فما عَزّ !
فـ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) " الأول دعاء عليه ، والثاني خبر عنه " كما قال ابن كثير .
فقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) أي خَسِر وخاب ، وضل عمله وسعيه . (وَتَبَّ) أي وقد تَبّ : تحقق خسارته وهلاكه . قاله ابن كثير .
" وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والبُغْضَة له ، والازدراء به ، والتنقّص له ولدينه " ..(3/102)
فما زاد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عِزّة ورِفعة ..
وما زاد ( عبد العزى ) إلا ذلاًّ ومهانة .. فلا يُذكر إلا ويُذكر ذمّه !
زاد جهل أبي جهل .. وتباب أبي لهب ..
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتضوّع طِيباً .. كَعُودٍ زاده الإحراق طِيباً
أبو لهب .. ظنّ أنّ ماله ينفعه ، أو يُغني عنه شيئا .. فقال الله : (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)
ولم يقتصر الشقاء على أبي لهب بل تعدّاه إلى زوجِه ..
قال ابن كثير : وكانت زوجته من سادات نساء قريش وهي أم جميل ، واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان ، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده ، فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم ، ولهذا قال تعالى : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) يعني تحمل الحطب فتُلْقِي على زوجها ليزداد على ما هو فيه ، وهي مهيأة لذلك مُسْتَعِدّة له . اهـ .
قالت أسماء بنت أبي بكر : لما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) اقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها وَلْوَلَة ، وفي يدها فِهْر وهي تقول : (مُذَمَّماً أبَيْنَا ، ودِينه قَلينا ، وأمْره عصينا)(3/103)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها لن تراني ، وقرأ قرآنا اعْتَصَمَ به ، كما قال تعالى (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا)، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، ولم تَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر إني أُخْبِرتُ أن صاحبك هجاني ! قال : لا ، ورب هذا البيت ما هجاكِ ! فَوَلَّتْ وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها ! رواه أبو يعلى ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، والحاكم في المستدرك ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وقد صَرَف الله عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم سبّ حمالة الحطب !قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تعجبون كيف يَصرف الله عَنِّي شتم قريش ولعنهم ؟ يشتمون مُذَمَّما ، ويلعنون مُذَمَّما ، وأنا محمد . رواه البخاري .
حمّالة الحطب أنفقت مالها للصَّد عن دين الله ، فكان عليها حسرة وندامة !
وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة في عنقها فاخرة ، فقالت : لأُنْفِقَنّها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير : فأعقبها الله منها حَبْلاً في جيدها من مَسَدِ النار .
صَبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .. فكانت النُّصْرَة له ، والرِّفعة له ، والعِزّة له ..
وكانت الذلّ والصَّغار على من خالَف أمره ..
عداوة أبي لهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظَهَر فيها آية من آيات النبوة ، وعلامة من علامات صِدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ..(3/104)
قال ابن كثير : قال العلماء : وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نَزَلَ قوله تعالى : (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) فأخْبَرَ عنهما بالشقاء وعدم الإيمان لم يُقيّض لهما أن يُؤمنا ، ولا واحد منهما ، لا باطنا ولا ظاهرا ، لا مُسِرَّا ولا مُعْلِناً ؛ فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة . اهـ .
عداوة أبي لهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. وحملته المسعورة ضدّ دِين الإسلام .. لم تَثنِ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
بل كانت عداوته سبباً لِنشر دِين الله !
كانت عداوة أبي لهب سبباً للسؤال عن حَالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وعن دعوته .. وعن لفتْ الأنظار إليه !
قال طارق بن عبد الله المحاربي : إني بِسُوقِ ذي المجاز إذْ أنا بإنسان يقول : يأيها الناس قولوا : لا إله إلا الله ؛ تفلحوا . وإذا رجل خلفه يرميه قد أدْمَى ساقيه وعرقوبيه ، ويقول : يأيها الناس إنه كذاب فلا تُصَدِّقوه . فقلت : من هذا ؟ فقالوا : محمد زَعَم أنه نبي ، وهذا عمه أبو لهب يَزعم أنه كذاب !
ظنَ أبو لهب .. فَخَابَ ظنّه !
ظنّ أنه يحجب الشمس بالْمُنْخُل ( الغربال ) .. فَخَابَ ظنّه !
ظنّ أن ماله يُغني عنه .. فَخَابَ ظنّه !
ظنّ أنه يَصدّ عن دِين الله .. فَخَابَ ظنّه !
ظنّ أنه سوف يثني عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يُفرِّق الناس عنه .. فَخَابَ ظنّه !
ولئن مات ( أبو لهب ) وهَلَك .. فإن لكل وارث !
وما تناقلته بعض الصحف والمواقع .. وما أثير على المنابِر .. من أخْبَارِ وَرَثَة ( أبي لهب ) الذين حاولوا اقتفاء أثَرَه ! والسير بسيرته المذمومة ! والاستهزاء بِسيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ..
فَخَابَ ظنّ الوَرَثَة كما خَابَ ظنّ المورِّث !
خابوا وخسروا ..(3/105)
ولئن ساء كل مسلم ما نُشِر في بعض صُحُف الدانمارك .. فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله لم يَخْلُق شَرًّا مَحْضاً !
فـ ( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
فقد كان تضمّن ذلك السوء خيراً ، منه :
= ظهر وانكشف وجه الحقيقة عن وجه الحضارة الغربية .. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) .
= ظهر لكل ذي بَصَر عداوة النصارى .. وأنّ من يطلب رضاهم مُتطلِّب في الماء جذوة نار !
وقول الله أصدق وابلغ (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ..
= تجلّى نفاق بعض الصُّحُف والكُتَّاب .. الذين التَزموا الصمت تجاه هذا الْخَطْب الْجلل !
فماذا عساهم يقولون ؟
ماذا عسى أُغَيْلِمة الصحافة وسفهاء قومي يقولون ؟
أليسوا الذين كانوا يُلمِّعُون الغَرْب والغُراب ! تحت شِعار ( الآخر ) سَتْراً للكافر !
إلا أن الحقيقة التي تجلّتْ .. كشَفَتْ عن وجوه من الحقائق !
وصَمَتْ من كانوا يُنادون باحترام ( الآخر ) !
ومن كانوا يَودّون لو صَمَتَ دُعاة الإسلام ..
أليسوا هم من يُنادي بـ ( حُريّة الفِكر ) فإذا هم يُنادون بـ ( حُريّة الكُفْر ) !
إذا تكلّم ( صادق ) نَصَبُوا له العِداء ..
وإن تَبجّح ( كافر ) سَكَتُوا وكأن الأمر لا يَعنيهم .. وهو لا يعنيهم .. لأن انتسابهم إلى الإسلام ( دعوى ) من غير بيِّنَة !
هاهو ( الآخر ) بزعمكم يتطاول على دين الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فبماذا أجبتم ؟
= تَهَافُتْ دعاوى ( قبول الآخر ) الذي لم ولن يَقبلكم ! حتى " يجتمع الماء والنار ، والضَّب والحوت " !(3/106)
شأنكم في ذلك شأن ذلك ( الْمُتَفَرْنِس ) الذي أمضى عمره في التذلّل للغرب .. ولو كان على حساب دِين ومبدأ .. فإذا الغرب يَرفضه ويَلفظه .. بل وينبذه نَبْذ الحذاء المرقّع !
وها هو يقول عن نفسه : " وأصبح (محمد أركون) أصولياً متطرفاً !! أنا الذي انْخَرَطْتُ منذ ثلاثين سنة في أكبر مشروع لنقد العقل الإسلامي ! أصْبَحْتُ خارج دائرة العلمانية والحداثة "
ويقول أيضا : " والمثقف الموصوف بالْمُسْلِم يُشار إليه دائماً بضمير الغائب : فهو الأجنبي المزعج ! الذي لا يمكن تمثّله ، أو هضمه في المجتمعات الأوروبية ، لأنه يَسْتَعْصِي على كل تحديث أو حداثة ! " .
وقد أخبر الله عن ذلك الرفض ، وعن تلك العداوة المتأصِّلة بقوله : (هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) .
= وفي هذا الْحَدَث تميّز الطيب من الخبيث .. والصادق من الكاذب .. (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .
إذا اشتبكت دموع في خُدود = تَبَيَّنَ من بَكى ممن تباكى
تبيَّن الْمُحبّ الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الدَّعِيّ الْمُدَّعِي !
= وفي الغرب ( مُنصِفُون ) .. فقد تُثيرهم تلك الحملات الشعواء على طلب الحقائق .. فيهدي الله بِتلك الصحيفة رجالاً ونساء كانوا في ( عَمَاء ) !
ومن سُنّة الله " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " كما في الصحيحين .
وفي شِعْر أبي تمام :
وإذا أراد الله نَشْر فَضَيلة = طُويت أتَاحَ لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جَاوَرَتْ = ما كان يُعْرَف طِيب عَرف العُود(3/107)
= أن الصِّدام المباشِر ، والمساس الواضِح أبلغ وأيقَظ للقلوب .. وهذا يُبيِّن مدى خطورة الغزو الفكري ، وأنه أخطر من الغزو العسكري – وإن كان مُدمِّراً – .
ذلك أن اليهود والنصارى يقولون في الله قولاً عظيماً .. ومع ذلك وُجِد من يُحبّهم أو يتعاطَف معهم .. إلا أن هذا الذي صَدَر من نصارى ( الدانمارك ) أيقظ في الأمة قلوباً غافلة ، أو مُستَغفَلة ! ..
فالنصارى قالت قولاً عظيماً في الله من قَبْل ومن بعد .. قالوا في الله قولاً عظيماً (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) .
وما قالته النصارى في حقّ الله أعظم وأكبر ..
وقد أخبر الله وخبره الحقّ ، وقال وقوله الصِّدْق (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) .
وإن تلك الحملات الشعواء على الإسلام وأهله .. لم تُغيِّر قناعات الشعوب ..
يقول مُحدِّثي : سَافَرْتُ إلى بلد أفريقي في رِحلة عمل .. فاقتضى الأمر أن أتعامل مع (أفريقي نصراني) .. فلما انتهى تعاملنا معه .. سألناه عن أفضل مدينة سياحية في بلدهم .. فأرشدنا إليها .. فسألناه عن طبيعتها وأمْنِها .. فأخبرنا أن غالبية سُكانِها من المسلِمين ..
يقول صاحبي :
فسألته : كيف تكون الأكثر أمْناً وغالبية سُكانها من المسلمين ؟ .. مع ما نسمع في وسائل الإعلام عن المسلمين ؟!
فقال النصراني : هذه جعجعة إعلامية !
نحن نعرف المسلمين .. فَدِينُهم يأمرهم بذلك !
يقول : فتعجّبت من شهادة النصراني وهو في بلده ..
إن ما يُقال أو يُثار ضد الإسلام أو ضدّ نبيِّه صلى الله عليه وسلم يسوء كل مسلم ..(3/108)
إلا أنّ هذا الشرّ لا يَخلو من خير ..
هُم يُريدون أمراً .. والله يُريد أمراً .. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
دبّروا .. ومكروا .. وقلّبوا الأمور .. فأبْطَل الله سعيهم .. ووردّ كيدهم في نحورهم .. وحاق بهم مكرهم ..
وهذه سُنَّة الله في نصر أوليائه ، وخُذلان أعدائه ..
لقد سَعى المنافقون بكل حيلة .. فَصَرّفوا الأمور ، وأرادوها ظهرا لبطن ، وبَطْناً لِظَهْر وطلبوا بكل حيلة إفساد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فَنَصَرَ الله نبيّه .. وأظْهَر دينه ..
قال تعالى : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ)
(وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ) أي دَبَّرُوها من كل وجه ، فأبْطَل الله سعيهم . كما قال ابن جُزيّ .
قال ابن كثير : يقول تعالى مُحَرِّضاً لِنبيه عليه السلام على المنافقين (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ ) ، أي لقد أعْمَلُوا فكرهم ، وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك ، وخُذلان دِينك وإخماده مدة طويلة ؛ وذلك أول مَقْدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رَمَتْه العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمْرٌ قد تَوَجَّه ! فَدَخَلُوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعَزّ الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ، ولهذا قال تعالى : (حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) . اهـ .
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على نُصْرَة هذا الدِّين ..(3/109)
فقال عليه الصلاة والسلام : ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين ، بِعِزّ عزيز ، أو بِذُلّ ذليل ، عِزًّا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر . رواه الإمام أحمد .
والله ليكونن هذا وإن رَغِمَتْ أنوف !
والله ليُتمَّنّ الله نوره ولو كَرِه الكافرون ..
مِن دعاء عمر رضي الله عنه في القنوت :
اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يُكذبون رسلك ، ويقاتلون أولياءك ، اللهم خالف بين كلمتهم ، وزلزل أقدامهم ، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين . رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي .
306-ثِياب الرّياء والزّور ..
قاتَلَ الله التَّصَنُّع ما أسْرَع افْتِضَاحه
ما يَلْبَث أن يُهْتَك سِتْره
فكما تُظْهِر فَلَتات اللِّسَان مَخْبُوء الْجَنَان
كذلك يَغْلِب الطّبْعَ التَّطَبُّع
فَيَنْكَشِف رَقيق سِتْرِه
وتَبدُو حَقائق أمْرِه
فَثَوبُ الرياء رَقيق شفّاف يَشِفّ عما تحته !
يقول أبو ذؤيب :
ثَوْبُ الرِّياء يَشِفُّ عَّما تَحْتَهُ *** فَإذا التَحَفْتَ بهِ فإنّك عَارِي
والهُوْنُ فِي ظِلِّ الهْوَيْنَا كَامِنٌ *** وَجَلالَةُ الأخْطارِ في الأخْطَارِ
والتَّصَنُّع بِضاعةٌ جَاهِليّة !
كان الرجل في الجاهلية يَلبس ثوبين إذا كان رأسًا في الناس !
وكان أهل التَّصَنّع _ آنذاك _ يَتَزَيّنون بما ليس فيهم
فَيَتَصَنّع _ أحدهم _ بأكْمَامٍ إضافية ! فيبدو كأنه يَلبس ثوبين حتى يُحْسَب من أهل الشَّرف والسِّيادة !
أفٍّ لتلك الأنفس التي رَضيت من الشَّرَف بـ " أطْراف أكْمَام" !
والتي تَصَنّعت بالزُّور لِتُمْدَح بما ليست مِن أهله أو بما لم تنله ولن تنله !
نُفُوس مَريضة تَزَيّنَتْ بما شَانَهَا
إذ ليس السُّمُوّ إلى العَلياء مِن شِأنِهَا !
تَمَسَّكَتْ بأهْدَاب وتَبِعَتْ سَرَاب
فَكَانَتْ كأصَمِّ الكِلاب ! نَبَح لما رأى الكِلاب تَتَثَاءب !(3/110)
وهذا الْمَرَض قد جاء دِيننا بِعلاجَه ..
جاء ذَمّ الْمُتَشَبِّع بما لَم يُعْطَ ..
وجاء النهي عن التَّشَبُّع بما ليس في الإنسان أو أن يكذب بأنّ " لَهُ .. وَعِنْدَه"
وشَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم فاعِل ذلك بـ " لابِس ثَوبي زُور " .
فَهو : مُتَصَنِّع - مُتَبَاهٍ - في نَفْسِه مُتَعَاظِم .
وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يَتَعاظَم الإنسان في نفسه ، أو يَختال في مِشْيَتِه ، فقال عليه الصلاة والسلام : مَن تَعَظَّمَ في نفسه أو اخْتَال في مِشْيَته لقي الله وهو عليه غضبان . رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما .
قال الصنعاني : أي مَن عَظَّمَ نَفْسَه إما باعتقاد أنه يَستحق مِن التعظيم فوق ما يَستحقه غيره ممن لا يعلم استحقاقه الإهانة .
ويُحْتَمل هنا أن تَعَاظَم بمعنى تَعَظّم - مُشَدَّدَة - أي : اعتقد في نفسه أنه عَظيم . اهـ .
ومَتى تَعاظَم الإنسان في نفسه تَرَفَّع على غيره ، وهذه شُعْبَة مِن الْكِبْر .
إذ الْكِبْر يَدور على أمْرَين :
الأول : دَفْع الْحَقّ ورَدّه .
والثاني : ازدراء الناس واحتقارهم .
وهَذَان نَاتِجان عن تَعاظُم النفس ..
وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم : ما الكِبْر ؟ قال : سَفَه الْحَقّ ، وغَمْص الناس . رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد .
وفي حديث ابن مسعود : الكِبْر بَطَر الحق وغَمْط الناس . رواه مسلم .
وفي رواية لأحمد : الكِبْر مَن سَفِهَ الْحَقّ وازْدَرى الناس . رواه الإمام أحمد .
قال النووي : أما بَطَر الحق فهو دَفْعُه وإنكاره تَرَفُّعًا وتَجَبُّرًا .
وقال ابن الأثير : " وغمص الناس " أي احْتَقَرَهم ولم يَرَهم شيئا .
وقال السِّنْدي : " سَفَه الحقّ " أي يَرى الحقّ سَفَها وباطِلا ، فلا يَقْبَله ، ويَتَعَظّم عنه . اهـ.
وقد تَعَوّذ الصَّالِحُون مِن تَعَاظُم ذَواتهم في نُفوسهم(3/111)
قال عتبة بن غزوان : أعُوذ بالله أن أكون في نَفْسِي عَظيما ، وعِند الله صَغيرا . رواه مسلم
فالتَّعاظُم مِن طَبْعِ إبليس !
قال عليه الصلاة والسلام : لا تَقُل تَعِسَ الشيطان ، فإنك إذا قُلْتَ تَعِس الشيطان تَعَاظَم حتى يكون مثل البيت ، ويقول : بِقُوّتي صَرَعْتُه ! وإذا قُلْتَ بِسم الله تَصَاغَر حتى يصير مثل الذباب . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى .
ويَكفي في قُبِح التَّعَاظُم أنه مِن طَبْع إبليس !
وأن إبليس أُخْرِج من الجنة بسبب ما عِنْدَه مِن الكِبْر .
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)
فاللهم إني أعُوذ بالله أن أكون في نَفْسِي عَظيما ، وعِندك صَغيرا .
307-كَالْمُنْبَتّ
لكل عمل بداية ، ولكل بِداية نهاية
قد تَصْعُب البدايات ، وقد تَثْقُل وطأتها ، وربما تألم الإنسان فصبر – رجاء ثَمَرَة عَمَله ، وقِطاف جُهده ، ونتيجة صَبْرِه .
كما يَصبر الفلاح في رجاء الثمر ..
أو كما تتحمل المرأة ألَم الْحَمْل والوَضْع رَغبة في زينة الحياة الدنيا
وتَعْظُم مصيبة كل منهما حينما لا يتحقق ما رَجَاه ، ولا يَتِمّ ما أمَّلَه
وحينما يعمل الإنسان عملا - يظن أنه لله - مع رفقة يؤمل معهم النجاح
أو يَرجو معهم الفلاح
فيفاجأ في منتصف الطريق أنه كَالْمُنْبَتّ .. لا أرْضًا قَطَع ، ولا ظَهْرًا أبْقَى !
وأنه إن تَعِبَتْ دَابَتُه ، أو كَلّ ، أو تَنَقّبَتْ أقْدَامه ، أو تَخَلّف عن رُفْقَته ؛ فلن يَجِد مَن يَسأل عنه ، أو يَشُدّ مِن أزْره .
بل قد يَجِد من يَخذُلَه ..
ويَعظُم في عِينِه الْمُصاب إذا كان ذلك ممن يُؤمِّل مِنه شَدّ عَضُده !
شأن ذلك الإنسان شأن بعير أجْرب هزيل ، وَقَفَ بِصاحبه في أرض مَسْبَعَة ! فَنَفَذَ صاحِبُه بِجِلْدِه وتَرَك الأجْرب طَعاما للسِّباع !(3/112)
أو كَجَمَلِ السّوء .. كَثُرَتْ سَكاكِينه إن سَقَط في سُوق جَزّارِين ، أو بين جَوعَى !
ومَنْزِلة ذلك الإنسان - الذي استبان له ما استبان - مَنْزِلة النوى من الثمر !
كان النوى يَظُن أنّ إحَاطَة أجزاء الثمر به - حَفاوة به ، فلما أُكِلَ الثمر اسْتَبَان له لِمَن كان القَدْر ، وبِمَن كانت الْحَفَاوة !
ما زِيدَ على أن رُمِي بالنَّوى رَمْيًا ! أو أُطْعِم الدّواب على أحْسَنِ حال !
وهذا حال الأصحاب حينما تكون العلاقة بينهم مَبْنِيّة على تَشَاكُل الطِّبَاع وتَوافق الهوى
قال ابن القيم رحمه الله :
الاجتماع بالإخْوان قِسْمَان :
أحدهما : اجتماع على مُؤانَسَة الطّبع وشَغْل الوقت ؛ فهذا مَضَرّته أرْجَح مِن مَنْفَعَتِه ، وأقَلّ ما فيه أنه يُفْسِد القَلْب ، ويُضِيع الوقت .
الثاني : الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة ، والتواصي بالحقّ والصّبر ؛ فهذا من أعْظم الغنيمة وأنْفَعها ، ولكن فيه ثلاث آفات :
إحداها : تَزَيّن بَعضهم لِبعض .
الثانية : الكَلام والخلطة أكثر مِن الحاجة .
الثالثة : أن يَصير ذلك شَهوة وعَادة يَنْقَطِع بها عن المقصود . اهـ .
وقد يَكون الاجتماع على هَوى نَفس .. قال الجاحظ : وخلاف الهوى يُوجِب الاستثقال ، ومُتَابَعَتُه تُوجِب الألفَة . اهـ .
فالاجتماع على مُؤانَسَة الطّبع وشَغْل الوَقْت .. قد نَظُنّه اجتماعا على طاعة الله ، وفي ذات الله ..
أو نَحسبه لأجْل العمل لله ..
وقد يَستبين لنا أن ذلك مُجرّد ظَنّ أو وَهْم ..
وقُل مِثْل ذلك في عَمَل عامِل داخل بَوتَقَةٍ حِزبيّة ! أو إطار جَمَاعة .. وهو يَظُنّ أنه يَعمَل لله .. ويُؤاخي في الله ..
إلا أنه سُرْعان ما تتكشّف لك حقائق الأمور حينما يُطْعَن في جَمَاعته ، أو يُنال مِن حِزبه ! أو تُنْتَقَد طريقته في العمل .. فتجِده ينتفض ! ويغضب .. لا لله .. ولكن للجماعة أو الْحِزْب !(3/113)
إذا كان هذا في الدنيا .. فكيف يكون الحال حين ينكشف المستور ؟
ويوم تكون الخلة عداوة ؟ ( الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) .
أو حِين يَبدو لأقْوام من الله ما لم يَكونوا يَحْتَسِبُون .
وحين يتجلى لنا - في هذه الدنيا - أنّ ما كُنّا نَظُنّه بَانَ أنه ليس سِوى ظنّ ، وما كُنّا نَحسبه قد تلاشى وتبدد - حينها نَتَذَكّر اعْترافات أقوام طالت بهم الحسَرات : ( إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) .
أو حِين يَستبين لأقوام أنهم كانوا الأخْسَرين (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) .
فيا لَهْف نفسي .. ويا طول حَسْرَتي .. إن بَدَا لي ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون .
أما إن بَدَا لي في دنياي فَحَسْب - فأمْره أيْسَر وأهْون .
والسؤال الذي يَطرح نفسه :
ما مَدى مَتانة علاقاتنا وصداقاتنا ؟
وهل هي قائمة على التواصي بالحق والصبر عليه؟
كَم هِي علاقاتنا التي بحاجة إلى كَشف حساب ومن ثم مراجعة ؟
وكَم هُم الأصحاب الذين هم بحاجة إلى مَحَكّ في قاعة اختبار ؟!
حفظت من أبي – مَتّع الله به – كلمة في هذا الباب يقول : جَرّب صَديقك قبل أن يُجَرّبَك .
ويُروى أن لقمان قال لابنه : إذا أرَدْت أن تُؤاخِي رجلا فأغْضِبه ، فإن أنْصَفَك وإلا فاحْذَرْه .
وقال سفيان الثوري : إذا أرَدْتَ أن تَعْرِف مَالَك عِند صَدِيقك فأغْضِبه ، فإن أنْصَفَك في غَضَبِه وإلا فَاجْتَنِبْه .
قال الشاعر :
لا تَحْمَدَنّ امْرءًا يُرْضِيك ظَاهِره *** واخْبُر مَوَدّته في العتْب والغَضَب
والله المستعان .
308-نِعْمَة الله عَلى هذه الأُمَّة
لقد أنْعَم الله على هذه الأمّة بِنِعَمٍ كثيرة ..(3/114)
وقد تكرر في القرآن ذِكْر أحوال الأُمَم الماضية .. ومِن أغْراض ذلك التِّكْرار التَّذْكِير بِامْتِنان الله على هذه الأمَّة أنْ رَفَع الله عنها الآصَار والأغْلال التي عَلى الأُمَم السَّالِفَة ..
وفي آخِر آية مِن سُورَة البَقَرَة : (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) ..
وفي الحديث : قال الله : قَد فَعَلْتُ . رواه مسلم .
فالمؤمِنون دَعوا الله ربّهم أن لا يَحْمِل عليهم إصْرًا كالذي حَمَل على الأمم السالفة ، فاسْتَجَاب الله للمؤمنين .. وأنْزَل الآيات تُتْلَى في هذا الشأن ليُعلَم فضل الله ، وتتبيَّن مِنَّته على هذه الأمَّة ..
ذلك أن الضِّدّ يُظهِر حُسْنه الضِّدّ .. وبِضِدِّها تتبيَّن الأشياء ..
ومِن تِلك النِّعَم التي أنْعَم الله بها على هذه الأمَّة .. نِعْمَة التَّوبَة ..
تلك العِبادة الغَائبة في دُنيا كَثير مِن الناس .. بل كثير مِن الناس لا يستَحضِر أصْلاً أنها عِبَادة ! فَضلاً عن أن يَتَقَرَّب بِها !
حينما تتأمّل سِياق أخْبار بني إسرائيل في الكِتَاب الْمُبِين تَجِد أنَّ الله لم يَقْبَل توبة طائفة منهم إلا بِإزْهَاق الأنفُس ..
وَقَفْتُ طويلا مع قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ..
وقَفْتُ مُتأمِّلا ..
كم مرّة سمعنا وقرأنا هذه الآية ؟!
كم مرّة اسَتَوْقَفَتْنَا هذه الآية لِنَتَأمَّل عِظَم نِعْمَة الله .. وكَبِير مِنَّته علينا ؟(3/115)
قرأت هذه الآية – بِحَمْدِ الله كثيرا – وسَمِعْتُها كَثِيرًا .. إلاّ أن القُرْآن لا تنقضي عجائبه .. ولا تَزِيغ بِه الأهْواء ، ولا تَلْتَبِس بِه الألْسِنَة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يَخْلَق عَلى كَثْرَة الرَّدّ ..
وقَفْتُ مُتأمِّلا .. شاكِرًا لِرَبِّي وحامِدًا ..
ماذا لَو لَم يَكن من الذَّنْب والتَّقْصِير تَوبة ؟!
ماذا لَو لَم يكن توبة إلا بِقَتْل النُّفُوس ، وإزهاق الأرْوَاح ؟!
ودَعُونا نَقِف مع ما رُوِي عن بني إسرائيل – من باب : حدِّثُوا عن بني إسرائيل – فيما يَحتَمِل التَّحْدِيث ..
يُرْوَى أنَّ يُوشِع بن نُون خَرَج عليهم وهُم مُحْتَبُون ، فَقَال : مَلْعُون مَن حَلَّ حَبْوَتَه ، أوْ مَدَّ طَرْفَه إلى قَاتِله ، أو اتَّقَاه بِيَدٍ أوْ رِجْل ؛ فَمَا حَلَّ أحَدٌ مِنْهم حَبْوَتَه حَتى قُتِل مِنهم - يَعْنِي مَن قُتِل - وأقْبَل الرَّجُل يَقْتُل مَن يَلِيه ..
قال ابنُ عبّاس رضي الله عنهما : أمَرَ مُوسَى قَوْمَه عَن أمْرِ رَبِّه عَزَّ وَجَلّ أن يَقْتُلُوا أنْفُسَهم . قال : وأخْبَر الذين عَبَدُوا العِجْل فَجَلَسُوا وقَام الذين لَم يَعْكُفُوا عَلى العِجْل فأخَذُوا الْخَنَاجِر بأيْدِيهم وأصَابَتْهُم ظُلْمَة شَدِيدَة فَجَعَل يَقْتُل بَعْضُهم بَعْضًا ، فَانْجَلَتِ الظُّلْمَة عَنْهم وقَد جَلَوا عَن سَبْعين ألَفَ قَتِيل ، كُلّ مَن قُتِل مَنْهم كَانَتْ لَه تَوْبَة ، وكُلّ مَن بَقِي كَانَتْ لَه تَوْبَة .
وقال سعيد بن جُبير ومُجاهِد : قَام بَعْضُهم إلى بعض بالْخَنَاجِر يَقْتُل بَعْضُهم بَعْضًا لا يَحْنُوا رَجُلٌ عَلى قَرِيب ولا بَعِيد ، حتى ألْوَى مُوَسى بِثَوبِه فَطَرَحُوا مَا بأيْدِيهم ، فَكَشَف عَن سَبْعِين ألفَ قَتِيل .
لقد وُضِع السَّيْف على الرِّقاب .. وسالتِ الدِّماء .. وأُزْهِقَتِ الأنْفُس .. وقُتِل العدد الكبير .. كُل ذلك مِن أجْل تحقّق التوبة .. ونَيْل رِضا الله ..(3/116)
والله إنه لَمَشْهَد عجيب .. يَقِف له شَعْر الرأس .. ولا ينقضي مِنه العَجَب ..
وأن يَكون ذلك الاسْتِسْلام مِن أقْوَام سَارَعُوا إلى الشِّرْك بالله .. لكنّهم سُرْعان ما نَدِمُوا ..
وأن يَكون ذلك الانْقِيَاد مِن أقْوَام عُرِفُوا بِكثْرَة الْمُخالَفَة ..
كان ذلك في بني إسرائيل .. وسِيق في التَّنْزِيل للتحذير مِن مَسَالِك القَوم .. ولِبيَان نِعْمَة الله على هذه الأمَّة .. وإظْهَار فضل هذه الأمَة أيضا على سائر الأُمم ..
في هذه الأُمَّة .. ليس بَيْن الإنسان وبين التَّوبَة .. إلا النَّدَم ..
إذا كان الذَّنْب بين الإنسان وبين ربِّه ..
ولذا جاء في الحديث : النَّدَم تَوْبَة . رواه الإمام أحمد وغيره .
وذلك لأن النَّادِم يَحْمِلُه ذلك النَّدَم على أمُور :
الإقلاع عن الذَّنْب .
العَزْم على عَدم العَوْدَة فيه .
الاستغفار لِمَا مضَى .
وقال عليه الصلاة والسلام : ويَتُوب الله على مَن تَاب . رواه البخاري ومسلم .
قال سفيان بن عيينة : التَّوبَة نِعْمَة مِن الله أنْعَم الله بِهَا على هذه الأُمَّة دُون غَيرها مِن الأُمم ، وكانَتْ تَوْبَة بَني إسْرائيل القَتْل ..
وقد أخْبَر الله أنه يُحِبّ التَّوابِّين ..
وذلك لِمَا يَظْهَر مع كَثْرَة التَّوبَة مِن معنى اسْم " التَّوَّاب " ..
ولأن طبيعة بني آدم الخطأ بل كثْرَة الخطأ ..
وفي الحديث : " كُلّ بَني آدَم خَطَّاء ، وخَيْر الْخَطَّائين التَّوابُون " رواه الترمذي وابن ماجَه.
فتُقابَل كثرة الخطايا بِكثرة التوبة .. فيَكون المسلم توّابا ..
ولأن التوبة سبيل الفلاح (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
وتارِك التوبة ظالِم (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ..
ونَحن في شَهْر الخير .. وموسم المؤمنين ..
والكُلّ يبحث عن أسباب الفَلاح ..
ويَلْتَمِس مَوَاطِن النَّجَاح ..
وداعِي الشَّرّ قد غَاب – أو كَاد –(3/117)
ورُؤوس الشياطين قد صُفِّدَتْ وقُيِّدَتْ ..
ولم يَبْق أمَام الْمُسْلِم إلاَّ أن يَتوب إلى الله .. وأن يَعُود إلى الله ..
ليَرَى مِن حُسْن صَنِيع الله بِه ..
ويَرى إقْبَال مَولاه عليه ..
ألَم يُخْبِر مَن لا يَنْطِق عن الهوى – صلى الله عليه وسلم – أن ربّه قال عَن عَبْدِه : وإن تَقَرَّب إليَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعًا ، وإن تَقَرَّب إليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إليه بَاعًا ، وإن أتَاني يَمْشِي أتَيْتُه هَرْوَلة . رواه البخاري ومسلم . ؟
قِف مُتأمِّلا في غِنَى ربّ العِزَّة عَن عِباده .. وفَقْرِهم إليه ..
ومع ذلك يَفْرَح رَبُّنَا تَبَارَك وتَعَالى بِتَوبَة عَبْدِه إذا تَاب ..
ومِن الْمُتقَرِّر عَقْلاً وشَرْعًا : أنَّ الله لا تَنْفَعُه طَاعة الطَّائعِين .. ولا تَضُرُّه مَعْصِيَة العَاصِين ..
الغَنِيّ في عُلاه .. والعَزيز في عِزِّه وسُلْطَانه .. يَتَودَّد ويَتَحَبَّب إلى عِبَادِه .. !
هذا – والله – مَثَارُ الْعَجَب ! ومُنْتَهى الكَرَم ..
قال ابن القيم :
ليس العَجَب مِن مَمْلُوك يَتَذَلَّل لله ويَتَعَبَّد لَه ، ولا يَمَلّ مِن خِدْمَتِه مَع حَاجَتِه وفَقْرِه إليه، إنَّمَا العَجَب مِن مَالِكٍ يَتَحَبَّب إلى مَمْلُوكِه بِصُنُوف إنْعَامِه ، ويَتَوَدَّد إليه بأنْوَاع إحْسَانه ، مَع غِنَاه عَنه ..
كفى بك عزًّا أنك له عَبْد *** وكَفَى بِكَ فَخْرًا أنه لَك رَبّ . اهـ .
والتوبة عِبَادة .. بل ومِنَّةٌ ربَّانية .. لا تَخْتَصّ بالعُصَاة وأصْحَاب الْجَرَائم وأرْبَاب العَظَائم
وإنما هي مِنَّة الله عَلى خِيرَتِه مِن خَلْقِه .. بل عَلى أفْضَل خَلْقِ الله .. فقد امْتَنّ الله بِنِعْمَة التَّوبَة على سَيِّد وَلَدِ آدَم – محمد عليه الصلاة والسلام – .
قال تعالى : (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) الآية ..(3/118)
يقول ابن القيم رحمه الله بَعْد أن سَاقَ هَذه الآيَة :
هذا مِن أعْظَم مَا يُعَرِّف العَبْد قَدْر التَّوبَة وفَضْلها عِنْد الله ، وأنَّها غَاية كَمَال الْمُؤمِن ، فإنه سُبْحَانه أعْطَاهم هَذا الكَمَال بَعْد آخِر الغَزَوَات ، بَعْد أن قَضَوا نَحْبَهم ، وبَذَلُوا نُفُوسَهم وأمْوَالَهم ودِيَارَهم لله ، وكان غَاية أمْرِهم أن تَابَ عَليهم ، ولِهَذا جَعَل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْم تَوْبة " كَعْب " خَيْر يَوْم مَرّ عَليه مُنْذ وَلَدَته أُمُّه إلى ذَلك اليَوم ، ولا يَعْرِف هَذا حَقَّ مَعْرِفَته إلاَّ مَن عَرَف الله ، وعَرَف حُقُوقه عَليه ، وعَرَف مَا يَنْبَغِي لَه مِن عُبودِيته ، وعَرَف نَفْسَه وصِفَاتِها وأفْعَالها ، وأنَّ الذي قَامَ بِه مِن العُبُودية بالنِّسْبة إلى حَقّ رَبِّه عَليه كَقَطْرَةٍ في بَحْر ، هذا إذا سَلِم مِن الآفَات الظَّاهِرَة والبَاطِنة ؛ فَسُبْحَان مَن لا يَسْع عِبَاده غَيْر عَفْوِه ومَغْفِرَته وتَغَمّده لَهم بِمَغْفِرَته ورَحْمَته ، ولَيْس إلاَّ ذَلك أو الْهَلاك . اهـ .
ومِن حسَنَات التَّوبَة .. أن السَّيئَات تُبَدَّل إلى حَسَنات ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعْلَم آخِر أهْل الْجَنَّة دُخُولاً الْجَنَّة ، وآخِر أهْل النَّار خُرُوجًا مِنها ؛ رَجُلٌ يُؤتَى بِه يَوْم القِيَامَة فيُقَال : اعْرِضُوا عَليه صِغَار ذُنُوبِه وارْفَعُوا عَنه كِبَارَها ، فتُعْرَض عليه صِغَار ذُنوبه فيُقَال : عَمِلْتَ يَوْم كَذا وكَذا كَذَا وَكَذَا ، وعَمِلَتْ يَوْم كَذَا وكَذَا كَذا وَكَذا ، فَيَقُول : نَعَم ، لا يَسْتَطِيع أن يُنْكِر ، وهو مُشْفِق مِن كِبَارِ ذُنُوبَه أن تُعْرَض عليه ، فيُقَال له : فإنَّ لك مَكَان كُلّ سَيئة حَسَنة ، فَيَقُول : رَبِّ ! قَد عَمِلْتُ أشْياء لا أرَاها هَهُنَا ! فَضَحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ نَواجِذُه . رواه مسلم .(3/119)
وفي التَّنْزِيل : (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) ..
فهذا نِدَاء إلى تَصْحِيح هَذا الْمَفْهُوم حَوْل هَذه العِبَادَة العَظِيمَة ..
واسْتِغلال أوْقَات الرَّحَمات .. والتَّعَرّض للنَّفَحَات ..
وفي الحديث : " افْعَلُوا الْخَيْر دَهْرَكم ، وتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ الله ، فإنَّ لله نَفَحَات مِن رَحْمَتِه يُصِيب بِهَا مَن يَشَاء مِن عِبَادِه " . رواه الطبراني ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني ، وإسْناده رِجاله رِجال الصحيح غير عِيسى بن موسى بن إياس بن البكير ، وهو ثقة . والحديث حسَّنَه الألباني .
فَبَادِر أيُّها الكَرِيم
وسَارِعِي أيّتُها الكَرِيمَة
دُونَكُم شَهْر التَّوبَة والغُفْرَان والعِتْقِ من النِّيرَان ..
دُونَكُم طُرُق الأجْر مُتَنَوِّعَة .. وأبْوَاب التَّوبَة مُشْرَعَة
فالبِدَار البِدَار قَبْل أن يُغلَق البَاب ..
وقَبْل أن يُحَال بَين القَلْب وسُلُوك الصِّرَاط ..أمَا عَلِمْتَ أيُّها الكَرِيم أن هُناك مَن تَمَنَّى التَّوبَة .. ولكن حِيلَ بَيْنَهُم وبَيْن ما يَشْتَهُون .. جزاءً وِفَاقا ..
قَال رَبُّ العِزَّة سُبْحَانه : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) ..
قال الْحَسَن البَصْرِي : مَعْنَاه مِن الإيمَان والتَّوْبَة والرُّجُوع إلى الإنَابَة والعَمَل الصَّالِح ، وذلك أنَّهُم اشْتَهَوه في وَقْت لا تَنْفَع فِيه التَّوْبَة .
أمَا سَمِعْتَ بِقِصَّة جَبَلَة بن الأيْهَم ؟(3/120)
كَان مِن مُلُوك النَّصَارَى فَأسْلَم في أيَّامِ عُمَر ، وحَجَّ مَعه ، فَبَيْنَما هو يَطُوف بِالكَعْبَة إذْ وَطئ إزَارَه رَجُلٌ مِن بَنِي فِزَارة ، فَانْحَلَّ إزِارُه فَرَفَع جَبَلةُ يَدَه فَهَشَم أنْفَ الفِزَارِيّ ، فَاسْتَعْدَى عَلَيه عُمَر ، فَاسْتَحْضَرَه عُمَر فَاعْتَرَف ، ثم طَلَبَه للقِصَاص فَاسْتَنْكَف واسْتَكْبَر ! وسَألَ عُمَر أن يُمْهِلَه لَيْلَتَه تِلك ، فَلَمَّا ادْلَهَمّ الليل رَكِب في قَوْمِه ومَن أطَاعَه وسَارَ إلى الشَّام ثُم دَخَل بِلادَ الرُّوم ورَاجَع دِينَه دِينَ السُّوء ، أي أنه ارْتَدَّ عَن دِين الإسلام .
ولَمَّا بَدَا له أن يَعُود حِيْلَ بَيْنَه وبَيْن مَا أرَاد ، فَكَان مِمَّا قَال :
تَنَصَّرتْ الأشْرافُ مِن عَارِ لَطْمةٍ *** ومَا كَان فِيها لَو صَبَرْتُ لَهَا ضَرَرْ
تكنّفني فيها اللجاجُ ونَخْوةٌ *** وبِعْتُ بها العَينَ الصَّحِيحةَ بالعَوَرْ
فَيَا لَيْت أُمِّي لَم تَلِدْنِي ولَيْتَني *** رَجَعْتُ إلى القَول الذي قَالَه عُمرْ
ويَا لَيْتَنِي أرْعَى الْمَخَاض بِقَفْرةٍ *** وكُنْتُ أسَيرًا في رَبِيعَة أوْ مُضَرْ
ويَا لَيْتَ لي بالشَّام أدْنَى مَعْيِشةٍ *** أجْلِس قَومِي ذَاهِب السَّمْع والبَصَر
أدِين بِمَا دَانُوا بِه مِن شَرِيعة *** وقَد يَصْبِر العَوْد الكَبِير عَلى الدَّبَر
وكَان جَبَلَة بَعْدَ ذَلِك إذا سَمِع هَذه الأبْيَات تُغَنَّى له بَكَى حتَّى يَبُلّ لِحيَته ..
فالبِدَار البِدَار .. قبل أن يُحَال بَيْنَك وبَيْن التَّوبَة ..
وقَبْل أن يُغلَق بَاب التَّوبة ..
وقَبْل أن تَتَمَنَّى الأوْبَة ..
وليكَن الْحِدَاء في هذه الأيام – حُداء عُمير بن الحمام - :
رَكْضًا إلى الله بِغَيْر زَاد *** إلاَّ التُّقَى وعَمَل الْمَعَاد
والصَّبْر في الله عَلى الْجِهَاد *** وكُلّ زَاد عُرْضَة للنَّفَاد
غير التُّقَى والبِرِّ والرَّشَاد ...
هَنِيئا لَك أيُّها التَّائب ..(3/121)
وهَنِيئا لكِ أيَّتُها التَّائبَة ..
والله يحفظك ..
309-أمَا واللهِ لَو عَلِم الأنَام .. ؟
يُرْوى في ذلك مِن أخْبَار الصالحين بَعض مَا يُستَنْكَر .. ففي خَبَر امْرأة عَابِدَة زاهِدَة .. أطالَتِ السَّهَر .. فقال لها زَوجُها : ألا تَنَامِين ؟ فقالت : كيف يَنَام مَن عَلِم أنَّ حَبِيبَه لا يَنَام ؟
وفي خَبَر آخر تُحدِّث به ابنة أحد الصَّالِحين .. قالت : كنت أقول لأبي : يا أبتاه ألا تَنام ؟
فيَقُول : يا بُنَيَّة كيف يَنَام مَن يَخَاف البَيَات .
ونحو ذلك ..
وهذا لا شكّ أنه خِلاف السُّنَّة ..
فقد كان مِن هَدِيه صلى الله عليه وسلم أنّه يَنام ويَقوم .. ويأكل الطَّيِّبَات .. ويتزوّج النِّسَاء ..
جَاء ثَلاثة رَهْط إلى بُيُوت أزْوَاج النبي صلى الله عليه وسلم يَسْألُون عَن عِبَادَة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا أُخْبِرُوا كأنّهم تَقَالُّوهَا ، فقالوا : وأين نَحْن مِن النبي صلى الله عليه وسلم قد غَفَر الله لَه مَا تَقَدَّم مِن ذَنْبِه ومَا تَأخَّر ؟ قال أحَدُهم : أمَّا أنَا فإني أُصَلِّي الليل أبَدًا ، وقال آخَر : أنَا أصُوم الدَّهْر ولا أُفْطِر ، وقال آخَر : أنَا أعْتَزِل النِّسَاء فلا أتَزَوَّج أبْدًا . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال : أنتم الذين قُلْتُم كَذا وكَذا ؟ أمَا والله إني لأخْشَاكُم لله وأتْقَاكُم لَه لَكِنِّي أصُوم وأُفْطِر ، وأُصَلِّي وأرْقُد ، وأتَزَوَّج النِّسَاء ؛ فَمَن رَغِب عن سُنَّتِي فَلَيْس مِنِّي . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لِمُسْلِم : وقَال بَعْضُهم : لا آكُل اللَّحْم .
ولَمَّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وعِنْدَها امْرَأة . فَقَال : مَن هَذه ؟ قالت : فُلانة - تَذْكُرُ مِن صَلاتِها - قَال : مَه ! عَليكم بِمَا تُطِيقُون ، فو الله لا يَمَلُّ الله حتى تَمَلُّوا . رواه البخاري ومسلم .(3/122)
وفي رواية لْمُسْلِم : قالت عائشة : فَقُلْتُ : هذه الْحَولاءُ بنتُ تُويت ، وزَعَمُوا أنَّها لا تَنامُ الليل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَنامُ الليل ! خُذُوا مِن العَمَل مَا تُطِيقُون ، فوالِله لا يَسْأمُ الُله حَتى تَسْأمُوا .
ودَخَل النبي صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِد ، فإذا حَبْلٌ مَمْدُود بَيْن السَّارِيَتَين ، فقال : مَا هَذا الْحَبْل ؟ قَالوا : هَذا حَبْل لِزَيْنَب ، فإذا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا . حُلُّوه . لِيُصَلِّ أحَدُكم نَشَاطَه ، فإذا فَتَرَ فَلْيَقْعُد . رواه البخاري ومسلم .
قال بعضُ الحكماء : إنَّ لِهَذه القُلُوب تَنَافُرًا كَتَنَافُرِ الوَحْشِ ؛ فَتَألَّفُوهَا بالاقْتِصَادِ في التَّعْلِيم ، والتَّوسُّطِ في التَّقْدِيم ، لِتَحْسُنَ طَاعتُها ، ويَدُوم نَشَاطُها .
وكان ابن عباس يَقُول لأصْحَابه إذا دَامُوا في الدَّرْس : أَحْمِضُوا . أي : مِيلُوا إلى الفَاكِهَة وهَاتُوا مِن أشْعَارِكم ، فإنَّ النَّفْس تَمَلّ .
فما يُذْكَر مِن أخْبَار الصَّالِحين – إنْ صَحَّتْ – في هذا الباب فهو خِلاف السُّنَّة .. وخِلاف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم ..
ثمّ هو خِلاف الطَّبِيعَة البشرية ..
فإنَّ مِن كَمَال الإنسان أن يَنَام !
ثم إن في النَّوْم قُوّة على الطاعة والعِبادة ..
شأن النَّفْس كشأن أجاوِيد الْخَيْل ..
إن أُنْهِكَتْ هَلَكَتْ .. وإنْ أُجِمَّتْ جَرَتْ ..
ولا تَسْتَجِمّ الْخَيْلُ حَتى نُجِمَّها *** فَيَعْرِفها أعْدَاؤنا وهي عُطَّفُ
لذلك كَانت خَيْلُنا مَرةً تُرى *** حِسَانا ، وأحْيانا تُقَاد فَتعجَفُ
وثَمّ تنبيه آخر .. هو في قوْل القائل :
أمَا والله لَو عَلِم الأنَام *** لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا ونَامُوا
لَقَد خُلِقُوا لأمْرٍ لَو رَأتْه *** عُيُون قُلُوبِهم تَاهُوا وهَامُوا(3/123)
مَمَات ثُم قَبْر ثُم حَشْر *** وتَوْبِيخ وأهْوَال عِظَامُ
وأعْرَف الْخَلْق بالله .. وبِما خُلِقوا له .. هم الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام
فالأنبياء والرُّسُل أعْرَف الْخَلْق بالله .. وهُم أنْذَرُوا وبشَّروا .. وخوّفُوا وحذَّرُوا ..
عَلِمُوا ما يَجِب لله .. وما يَكُون بعْد الْمَوْت ..
وهُم مع ذلك يَنامُون .. ويأكُلون ويشْرَبُون ..
وقد عَاب الْمُشْرِكُون على الأنْبِياء أكْلَهم وشُرْبَهم !
(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ) ؟
فأتَاهُم الْجَواب .. مِن العَزِيز الوَهَّاب : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) .. إذْ هَذه طَبِيعَة البَشَر التي لا يَنْفَكُّون عَنْها ..
فكأن قَوْل القائل :
أمَا والله لَو عَلِم الأنَام *** لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا ونَامُوا
كأن فيه إزْرَاء بِمَنْصِب النُّبُوَّة ..
إذ قد عَلِم الأنْبِيَاء لِمَا خُلِقُوا .. وقَد نَامُوا وهَجَعُوا .. وأكَلُوا وشَرِبُوا .. وتَزوَّجُوا النِّسَاء ..
قال ربّ العِزّة سُبْحَانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) .
قال الإمَام القُرطبي في تَفْسِير الآية : أي : جَعَلْنَاهُم بَشَرًا يَقْضُون مَا أحَلَّ الله مِن شَهَوات الدُّنْيَا ، وإنَّمَا التَّخْصِيص في الوَحْي . اهـ .
هذه إشارة إلى ما تضَمَّنَتْه هذه الأبيات .. وما تضمّنه قَول بَعض الصَّالِحِين والصَّالِحَات مما تقدَّم..
وقد يُقال : هذه أخْبَار أوْرَدَها بعضُ أهْل السِّيَر في كُتُبهم ..
فأقول : وهل اشْتَرَط أهل السِّيَر والتَّراجم صِحّة ما يُورِدُونه ويَنقُلُونه ؟
فإنّهم قد يُورِدُون مِن الأخْبَار ما يَصِحّ وما لا يَصِحّ .. وقد يَنْشَط العَالِم فيتعقّب ويُنقد .. وقد لا ينشَط لذلك ..(3/124)
والْمُؤمِن يَنْشُد الْحَقّ ..
والْحِكْمَة ضالَّة الْمُؤمِن أنّى وَجَدَها فهو أحَقّ بِها ..
310-لا تُشَبِّه الْحُسْن بِالقَمَر
تَفَيْهَق بعض الأدباء الْمُعَاصِرِين فَقَالُوا : لا تُشَبِّه الْحُسْن بِالقَمَر !
أمَّا لِماذا ؟
فقد أجَابُوك بِقَولهم :
لأن القَمَر عِبَارَة عن عَاكِس لِضَوء الشَّمس .. وهو مُكوَّن مِن أحْجَار .. فليس فيه وَجْه جَمَال ليُوصَف بِه الْحُسْن ..
وهذه فَلْسَفَة باهِتَة .. وإلغَاء للعُقُول بل وللأبْصَار !
قد تُنْكِر العَيْن ضَوء الشَّمْس مِن رَمَدٍ *** ويُنْكِر الفَمُ طَعْمَ الْمَاء مِن سَقَمِ
أليس لنا عُيون تُبصِر ؟
ألَسْنَا نَرى القمر ليلة البَدْر في جمالِه ؟
ألَسْنَا نرَى حوْلَه هالَة تَزيد جمَاله جَمَالا ؟
بلى .. ويَراه كُلّ ذي بَصَر ..
فَقُل للعُيُون الرُّمْد للشَّمْس أعْيُن *** تَرَاها بِحَقٍ في مَغِيب ومَطْلَعِ
وسامِح عُيونًا أطْفأ الله نُوَرَها *** بأبْصَارِها لا تَسْتَفِيق ولا تَعِي
أمَّا كون القَمَر يَعْكِس ضَوء الشَّمس – إن صَحّ – فهذا يَزِيده حُسْنا إلى حُسنِه .. وجَمَالا إلى جَمَالِه ..
بل هذا مِمَّا يَزِيد في مَنَافِعه ..
ولذا قال رَب العِزّة سبحانه : (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) ..
قال القرطبي : يَنِير الأرْض إذا طَلَع .
وقال ابن كثير : (وَقَمَرًا مُنِيرًا) أي : مُشْرِقًا مُضِيئًا بِنُورِ آخَر مِن غَير نُور الشَّمْس . اهـ .(3/125)
ألا تَرَى أن الله وصَفَ الشَّمْس بِالسِّرَاج (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) ، (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) .. ووَصَف نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم بالسِّرَاج (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) .. للجَامِع بيْنَهما ؟ وهو : الْهِدَايَة وعُمُوم النَّفْع ..
وَوَصَف القَمَر بأنه " نُور " (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) وَوَصَف نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم بِالنُّور .. (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) ..
قال القرطبي : وسَمَّى نَبِيَّه نُورًا ، فقال : (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) ، وهذا لأنَّ الكِتَاب يَهْدِي ويُبَيِّن وكَذَلك الرَّسُول . اهـ .
إنَّّ الرَّسُول لَنُور يُسْتَضَاء بِهِ *** مُهَنَّد مِن سُيُوف الله مَسْلُولُ
بل إن تَشْبِيه الإنسان بالشَّمْس وَارِد في أشْعَار العَرَب .. مع كَوْن الشَّمْس مُحْرِقة .. إلا أنَّهم أرَادُوا التَّشْبِيه .. و التَّشْبِيه لا يَقْتَضِي الْمُطابَقَة بين الْمُشَبَّه والْمُشَبَّه بِه مِن كُلّ وَجْه .
ألَم يُشَبِّه النَّابِغَة النعْمَانَ بن المنذر بالشَّمْس ؟
إذ يَقول :
فإنك شَمْس والْمُلُوك كَوَاكِب *** إذا طَلعت لم يَبْد مِنهن كَوْكَب
وشَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الْمُؤمِن بالْجَمَل وبِالنَّحْلَة وبِالنَّخْلَة ..
وفي شرح مُختَصَر الروضة للطُّوفِي : مِثْل الشَّيء مَا سَاواه مِن كُلّ وَجْه في ذاتِه وصِفاتِه ، وَ شِبْه الشَّيء وشَبِيهه مَا كان بَيْنَه وبَيْنَه قَدْر مُشْتَرَك مِن الأوْصَاف " . اهـ .
والتَّشْبِيه بالقَمَر وارِد في كُل ما هو حَسَن ..
فقد كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يُشَبَّه بِالقَمَر ..(3/126)
قال كعب بن مالك وهو يُحَدِّث حِين تَخَلَّف عن تَبُوك : فلَمَّا سَلَّمْتُ على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَبْرُق وَجْهُه مِن السُّرُور ، وكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُه حتى كَأنه قِطْعَة قَمَر ، وكُنَّا نَعْرِف ذَلك مِنه . رواه البخاري ومسلم .
وَوَصَف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أوّل زُمْرَة تَدْخُل الْجَنَّة فشّبَّهَهم بالقَمَر ..
قال عليه الصلاة والسلام : أوَّل زُمْرَة تَلِج الْجَنَّة صُورَتهم عَلى صُورَة القَمَر لَيْلَة البَدْر . رواه البخاري ومسلم .
فالتَّشْبِيه بِالقَمَر تَشْبِيه حَسَن ..
وليس لِمَن مَنَع مِنه حُجَّة قائمة ..
بل حُجّته واهية داحِضَة ..
311-يَخافون من دُمية !
في خَبَر إعلامي :
(أطْلَقَتِ السُّلُطَات التونسية حَمْلَة مُدَاهَمَات لِمَحِلاَّت تَبِيع الدُّمية "فُلَّة" بِدَعْوى أنها يُمْكِن أن تُشَجِّع الفتيات الصَّغيرات على ارْتِدَاء الحجاب)
يا لَهُم مِن جُبناء !
يَخافُون مِن دُميَة !
إيهٍ .. بلَد العِلْم والعُلَماء ..
كانت تونس يُقال لها : أفريقية !
كانت قلعة مِن قِلاع العِلْم
كانت منارة مِن مَنارات الإسلام
واليوم .. ويح اليوم .. تُحارِب قِطعة قماش تُوضَع على الرَّأس - شأنها شأن دُول الكُفر - !
واليوم - ويح اليوم - .. تُحارِب دُميَة زَعَمُوا أنها مُحَجَّبَة !
كل يوم تتعرّى العلمانية وتتكشّف ودعاوى الديموقراطية .. وتَبْدُو سَوْءَات القَوم !
فَرنسا تَعْتَبِر نَفْسَها بَلَدا علمانيا .. بَلَد حُرِّيَّة .. وهي تُحَارِب قِطعة قِماش تُوضَع على الرأس !
وبعيني .. رأيت اليهود في شوارع فرنسا يرتدون قُبَّعاتِهم السود – التي كَـ " لَوْن قُلُوبِهم ! " - ولهم تَواجُدهم .. ولا أحَد يَجْرُؤ على الْمِسَاس بهم !
بل حدثني مسلم يُقيم هناك أن مُدير إحدى المدارس مَنع تِلك الْمَنَادِيل التي تُوضَع على رؤوس البُنيَّات !(3/127)
قال : فَذهَبْتُ إلى الْمَدْرَسَة فَوجدت الْمُدِير يَهوديا !
فسألته عن سبب منعه ذلك ؟
فقال : هذا لباس إسلامي ، ونحن في بلد علماني !
قلت : وهل منعتم قُبَّعات اليهود ؟
قال : لا
قلت : ولِمَ ؟
قال : هذه ليست شِعارًا دِينيا !
أقول :
كَذَب عدو الله !
بل هي شعارات حَاخَامَاتهم !
وهي شعار لهم يُميِّزهم عن غيرهم !
إلا أنه الْمِكيال بِمكيالين ! ولوَزن بِميزانين !
عجبا !
حرام على بَلابِله الدَّوح *** حَلال للطَّيْر مِن كُلّ جنسِ !!
يوما بعد يوم .. وعاما بعد آخر .. تَسقط .. وتَتهاوى .. دَعاوى الحرية .. وشعارات الديموقراطية ..
فلا حُرِّيَّة ولا ديموقراطية إذا كان ذلك سيَكون سَبَبًا في انتشار الإسلام !
ولكن : مُوتُوا بِغَيْظِكم ..
والله ليُظْهِرنّ الله هذا الدِّين ..
وفيما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : ليبلغن هذا الأمر ما بَلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر الاَّ أدخله الله هذا الدِّين ، بِعِزّ عَزِيز ، أو بِذُلّ ذَليل ، عِزًّا يُعِزّ الله به الإسلام ، وذُلاًّ يُذِلّ الله بِه الكُفْر . رواه الإمام أحمد .
مُوتُوا بِغَيظِكم ..
إنَّ هذا الدِّين لا يَمُوت ، ولا يَُردُّه كَيْد كَائد ، ولا يُضْعِفه مَكْر مَاكِر .. بل لا يَزيدُه ذلك إلاَّ قُوّة وصلابة ..
ولا يَحِيق الْمكْر السَّيئ إلاَّ بِأهْلِه !
وبين أيديكم دَرس الشيشان مَاثِل .. مِن مَدْرَسة العُنْفُوان !
ظَنَّ أهل الصليب .. وعُبَّاد الْمَال .. أنهم قَضَوا على الإسلام في الجمهوريات .. حينما هَجّروا أهلها إلى سيبيريا - حيث الجليد – حيث هَجَّرُوا البقيَّة البَاقِيَة والتي نَجَتْ مِن القَتْل ..
وحسِبُوا أنَّ مِنْجَلهم قد اسْتَأصَل شَأفَة الإسلام .. واقْتَلَعَه مِن جُذوره !
وأنَّ مِطْرَقَتهم قد كَسَرَت سَاعِد الإسْلام !
وحينما شَاخَتْ الشيوعية عِند السِّتِّين ، وأثْبَتَتِ فَشَلَها للعَالَمِين !(3/128)
انتَفَضتِ الْجُمْهُورِيَّات الإسْلامية .. وخَرَج مَن خَرَج مِن تِلك الأقْبِيَة انْدَهَشَتْ رُوسيا وشُدِهَتْ أنّ الإسلام لم يَشِخ ! وأنه لا زال فَتِيًّا رَغْم الْجِراح !
حينما خَرَج من الأقبِيَة حُفَّاظ القُرآن !
أدْرَكَ كُهَّان الشَّرْق والغَرْب أنَّ الإسلام لا يَمُوت !
وهذا ما نَطَق به ( لويس التاسع ) في حروبه الصليبية على بلاد الإسلام !
لويس التاسع - أو لويس القديس - الذي غَزا مِصر في حملة صليبية سَابِعة سَافِرَة ! وَقَع فيها بالأسْر ! ثم فَادَى نَفْسَه مُقَابِل فِدْيَة ضَخْمَة !
بل عَرفوا أن الطَّرْق لا يَزِيد الإسْلام إلاَّ صَلابَة ..
ولا تَزِيدُه الْمِحَن إلاَّ شِدَّة واشتِدَادا في عُودِه ..
وأنَّ دِمَاء الشُّهَداء كالضِّيَاء ..
فَهَبُوا أنكم مَنَعْتُم الحِجاب في فَرنسا أو في تُونس !
أجْلِبُوا على الإسلام بِخَيْلِكم ورَجِلِكم ! فإننا نَرى الصُّبْح يَلُوح مِن تَحت حَوافِر خُيولِكم !
قَلِّبوا الأمور حتى تَدُور .. فالدوائر على الباغي تَدور !
أثِيروا الغُبار ..
ومزِّقوا الحجاب ..
فلا تَكُون الْجِنَايَة إلاَّ عليكم !
أشعِلوا نِيران الْحَرب .. فالله لكم بالمرصاد ..
أفْسِدُوا في الأرض ، فـ (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) ..
انْفُخُوا نِيران الفِتَن .. فلَكم سَلَف في " الَوَزَغ " الذي كان يَنْفُخ النار على إبراهيم عليه السلام ! كما في الصحيحين .
أشْعِلُوها وزِيدُوها ضِرَاما .. فلن تَبلغ عُشْر نَار قَوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ..
" حتى إنْ كَانت المرأة تَمْرَض فَتَنْذُر إن عُوفِيتْ أن تَحْمِل حَطَبًا لِحَرِيق إبراهيم " !
ومع شِدَّة تلك النار .. جَعَلها الله بَرْدًا وسَلامًا .. ورَدّ كَيْد الكَائدِين في نُحُورِهم
وحَكَم اللهُ وقَضَى وهو الْحَقّ الْمُبين .. أنْ جَعَل الكَائدين هُم الأخْسَرين .. وهم الأسْفَلِين ..(3/129)
(وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) .
(فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ) .
كِيدُوا ما شئتم مِن كَيْد .. وامْكُرُوا مَا بَدَا لكم مِن مَكْر ..
امْكُروا الْمَكْر الكُبَّار !
وانْتَظِروا يَوم يُقَال : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) .
قَتِّلُوا .. وشَرِّدُوا ..
والْقُوا بالتُّهَم جُزَافًا !
وإن شِئتُم فَقُولُوا كَمَا قَال أسْلافُكم : ما أُرِيكم إلاَّ مَا أرَى ! ومَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ !
موتُوا بِغيْظِكم فالله مُتِمّ نورِه ولو كرِه الكافرون ..
مهْما بَلَغ مُكْرُكم .. ومهما كان دَهاؤكم ..
ومهما بَلَغ الْجَبَرُوت والقُوَّة ..
فلن تبْلُغوا طُغيان شيخ الطُّغاة وإمام الضَّلالَة – فِرعون – الذي قَتَّل الأطفال .. بل أبَاد الذُّكُور خَوفًا مِن رَضِيع يَكون زَوَال مُلْكِه على يَدِه !
فأبَى الله إلاَّ أن يَكُون فِرْعَون هو الرَّاعِي لذلك الصَّغِير .. بل تُرْضِعُه أمُّه على حِسَاب فرعون !
وكمَا قِيل : مِن مأمَنِه يُؤتَى الْحَذِر !
ما أشْبَه الليلة بالبارِحة !
فِرْعَون يَخاف مِن طفل رَضِيع !
وفِرْعَون يَخَاف مِن دُمْيَة !
الله أكْبَر .. إنَّها السُّنَن ..
وما أشْبَه الليلة بِالبَارِحة !
ألْقَاب مَمْلَكَة في غَير مَوْضِعِها = كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَة الأسَدِ
312-قَرين قَارُون !
التاريخ – غالبا – يُخَلِّد أسْمَاء الْمُتمَيِّزين !
سَواء كان تَمَيّزهم في الْخَيْر أوْ في الشَّر !
فَيُسَطِّر التاريخ أسْمَاء العُظَماء ، الذين دَخَلوا مِن أوْسَع بَوّابات التاريخ .. عُلَماء عامِلِين ، وقَادَة فاتِحِين .. وأمَرَاء عَادِلِين ، وعُبَّاد مُتَهَجِّدِين مُجْتَهِدِين .. وكُرَمَاء حُلَمَاء .. أو فُرسَان أتْقِيَاء ..(3/130)
ويُدَوِّن أسْمَاء آخَرِين .. بَرَزُوا في الشَّر ، واجْتَهَدُوا في الفَسَاد والإفْسَاد ، حتى أصْبَحُوا أئمة يُقَتَدى بهم في الشَّر ! (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) .. ولله في إيجادِهم حِكْمَة ..
ومِن هؤلاء قائد التُّجَّار الفُجَّار إلى النار .. صاحِب الخزائن التي يَعَجَز الرِّجَال عن حَمْل مَفَاتيحها .. فكيف بِمَا فيها ؟!
صَاحِب الْحُلَّة الفَارِهة واللبَاس الفَاخِر .. إذْ كان يَنظُر في عِطْفَيه .. ويَجُرّ إزاره مُختالا فَخورا .. مُتَبَخْتِرًا مُتَكَبِّرا ..
خَرَج على قَوْمِه في زِينَتِه ..
خَرَج يَخْطُر بِمِشْيَتِه .. يَهُزّ أكْتَافَه .. قد أعْجَبَتْه نَفْسه ..
سَرَّح شَعْرَه .. وتَبَاهَى بِزِينَتِه ..
حتى أخَذَتْ زِينتُه بالأبْصَار لأوَّل وَهْلَة ..
(قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)
إلاَّ أن أهل العِلْم والإيمان يَنْظُرُون بِبَصَائرهم قبل أبْصارِهم
(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ)
فكانت عاقِبَة البَغْي والكِبْر (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) ..
عند ذلك بَان لأهل الدنيا ما كَان فيه قَارُون مِن غُرور : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) ..(3/131)
وفيما أخبر به نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم : بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ الأَرْضُ ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي التَّارِيخ مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَف بِقَارُون كُلّ يَوْم قَامَة ، وَأَنَّهُ يَتَجَلْجَل فِيهَا لا يَبْلُغ قَعْرهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . ذَكَره ابن حجر .
ما يَنفَعُه أن خُلِّد ذِكْره بالسُّوء ؟!وما يُجْدِي عنه أن لا يَبْلَى جَسَدُه .. وهو فيما هو فيه مِن العَذَاب ؟!
ما أغنَى عنه مَالُه وما كَسَب !
لا الْمَال أغنى أو نَفَع .. ولا الْجَاه أجْدَى أو شَفَع .. ولا الوَلَد أو الْخَدَم والْحَرَس دَفَع ..
فإنَّ الْخَسْف لَم يَكن بِشَخْصِه .. بل بِه وبِدَارِه ..
قَارُون في ظِلّ طُغْيَان الْمَال .. لَم يَسْتَمِع إلى نُصْح النَّاصِحِين .. ولَم يَلْتَفِتْ إلى شَفَقَة الْخائفِين ..
(إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)
لا يُحِب الأشِرِين البَطِرِين .. الذين يَدْفَعُهم الْفَرَح إلى مُجاوزة الْحُدود .. ويُخرِجهم الأشَر إلى العُدْوَان .. ويَحْمِلهم الْبَطَر إلى ازدِراء الْخَلْق ..
أمَا إنَّ النَّاصِحِين لَم يُطالِبُوا قَارُون بالتَّخَلِّي عن دُنْيَاه .. ولا إنْفَاق كُنُوزِه .. بل طَلَبُوه أن يُوازِن بَيْن الدَّارَين .. (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(3/132)
ثم ذَكَّرُوه بِأصْل هَذه النِّعَم ، فقالوا : (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) .. والْمَعْنَى : قَابِل الإحْسَان بإحْسَان ..
وبعد أن رَغَّبُوه .. حَذَّرُوه مِن مَغَبَّة عَمَلِه .. فقالوا : (وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ..
فما كان جواب الْمُتَكبِّر الْمُتَجبِّر الباغي ؟!
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) !
قال أبو سليمان الداراني : أرَاد العِلْم بِالتَّجَارب ووُجُوه تَثْمِير الْمَال ، فكأنه قال أُوتِيته بِإدْرَاكِي وبِسَعْيِي !
وقال ابن عطية : ادَّعَى أنَّ عِنده عِلْمًا اسْتَوْجَب به أن يَكُون صَاحِب ذَلك الْمَال وتِلك النِّعْمَة . اهـ .
..
ولئن مَات قارُون فقد أبْقَى ذِكْره السيئ ! فلا يُذْكَر بِخير !
ولئن ذَهَب قارُون فقد بَقِي لَه وَرَثَة ! حمَلُوا غَطْرسَته .. وتَبَنَّوا أفْكَاره !
أعْتَدُّوا بِذواتِهم ! وتَاهُوا على الوَرَى بِما أُوتُوا .. مِمَّا لم يَكن لهم في كثير مِنه حَول ولا قُوَّة !
فلا هُم اخْتَارُوا آباءهم .. ولا أوْجَدُوا أنفسهم مِن عَدَم ..
بل خَلَقَهم الله مِن ضَعْف .. وهُم خَلْقٌ لا يَتَمَاسَك .. فما يَلْبَث أن يُرَدّ إلى ضَعْف ..(3/133)
ووَرَثَة قارُون بَاقُون على مَرّ الأزْمَان .. !وهكذا هو الإنسان بِطَبعَه الكَنُود الْجَحُود .. (فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، وإذا كان الأمر كذلك فـ (قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .. بل (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) " فَبَسْط الرِّزْق على الكَافِر لا يَدُلّ على كَرَامَتِه " (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، وذلك لأنَّ الدنيا دَار امْتِحان .
ومِن وَرَثَة قارُون مَن إذا وُسِّع له في رِزْقَه حَمَله ذلك على التَّمادي في المعاصي ! زاعِمًا أنه إنما أُوتي ما أُوتِي لِكَرَامَته على الله (فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ..
هذا مغْرُور .. ويُقابِله جَاحِد (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) ..
وليس الأمر كَما ظَنُّوا ، فقد نَفَى الله ذلك بِقَولِه : ( كَلاَّ )
قال ابن القيم : " فَرَدَّ اللهُ سُبحانه على مَن ظّن أنَّ سَعَة الرِّزْق إكْرام ، وأنَّ الفَقْر إهَانة ، فقال : لَم أبْتَلِ عبدي بالغِنى لِكَرَامَتِه عَلَيَّ ، ولم أبْتَلِه بالفَقْر لِهَوانِه عليَّ " .(3/134)
والمعنى " ليس كُلّ مَن وَسَّعْتُ عليه وأعْطَيته أكُون قد أكْرَمته ، ولا كُلّ مَن ضَيَّقْتُ عليه أكُون قد أهَنْته ؛ فالإكْرام أن يُكْرِم اللهُ العَبدَ بِطَاعته والإيمان به ومَحَبته ومَعْرفته ، والإهانة أن يَسْلُبْه ذلك " كما قال ابن القيم .
ومِن وَرَثَة قارُون مَن إذا عَلَّمه الله عِلْمًا .. وشَبّ وترَعْرَع على نِعَم الله .. كَفَرها .. وجَحَدها
وقال : أنا عِصَامِيّ .. صنعتُ نفسي بنفسي !
وقديما قال أحد هؤلاء :
وإني وإن كُنت الأخِير زَمانه *** لآتٍ بما لم تَستطعه الأوائل
فأراه الله ضعفه وعَجْزه على يَديّ طِفل صغير .. قال له : لقد أتَتِ الأوائل بثمانية وعشرين حَرفًا ، فَأتِ أنتَ بِحَرْف واحِد ! فبُهِتَ الذي تَكَبَّر ! وانْقَطَع الذي تَجَبَّر !
وربما ارْتَقَى الإنسان مُرْتَقًى صَعْبًا ! فادَّعْى مَا ليس لأحَدٍ مِن البَشَر ، كَقول الشاعر :
[ أوْجَدت نَفْسي مِن اللاشي والانعِدَام ] !
ولا يُوجِد مِن العَدَم إلاَّ الله تبارك وتعالى .
فإن كان الشاعر صَادْقًا أنه أوْجَد نفسَه مِن عَدَم .. فَلْيَمْنَع عنها الْمَوْت .. أو لِيَدْفَع عنها البلاء !
وقد يَدَّعِي الإنْسَان ذلك في غيره ، كَقَول الشاعر في مَمْدُوحِه :
[ يصَيِّر مِن الإصْرار مَا لا يصِير ] !
عَجِبْت .. وطال عَجَبِي ! أن يُقال هذا في حَقّ مَخْلُوق لا يَمْلك لِنَفْسه – فَضْلاً عَن غيره – نَفْعًا ولا ضَرًّا .. ولا مَوتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا ..
فإنَّ الإنسان عموما لو تسلَّطَتْ عليه بعوضة ! لَمَا اسْتَطاع الْخَلاص مِنها !
كَم مرَّة آذتْه حتى تَورَّم جِلْدُه ؟!وكم مرّة تسلَّط عليه " فَيْرُوس " لا يُرَى بالعين الْمُجرَّدَة .. فطَرَحَه أرْضًا .. وألْزَمَه فِراشه ؟!
وهو – أي الإنسان – مع ذلك يَمْشي على الأرض وهي تَشْتَكِي ظُلْمَه وجَوْرَه !(3/135)
بَصَقَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ : قَالَ اللَّهُ : ابْنَ آدَمَ ! أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ .. رواه الإمام أحمد .
وإذا كان ذلك حال قارون .. وحَال ورَثَتِه .. فَحَال المؤمن النَّظَر إلى أنَّ مَا بِه مِن نِعْمَة فَمِن الله وَحْده .. يَرى أنه لا َحْول له ولا طَوْل .. فَيَبْرأ مِن حَوْلِه وقُوّته ، فهو يُردِّد : لا حول ولا قوّة إلا بالله ..
المؤمن لا يَتعاظَم في نفسه .. ولا يَخْتَال في مِشْيَتِه ..
قال عُتْبَة بن غزوان رضي الله عنه : وإني أعُوذ بالله أن أكُون في نفسي عَظيما ، وعِند الله صَغيرا . رواه مسلم .
المؤمِن يَرى أنه إذا أَنْعَم عليه مَولاه .. فَبِمَحْضِ جُودِه وكَرَمِه ..
وإن قُدِر عليه رِزْقه .. فذلك بِذَنْبِه .. ولِحِكْمَة يَعْلَمها الله .. فهو على عِلْم " أنَّ الله تعالى نَحَّى أولياءَه عن الاغْتِرار بالدُّنيا وفَرْط الْمَيْل إليها " كما قال القرطبي .
والله سبحانه وتعالى " مَاضٍ في عَبْدِه حُكْمُه ، عَدْل فيه قَضاؤه ، له الملك وله الحمد ، لا يَخْرُج في تَصَرّفه في عباده عن العَدل والفَضْل ؛ إن أعْطَى وأكْرَم وهَدَى ووَفَّق ، فَبِفَضْلِه ورَحْمته ، وإن مَنَع وأهَان وأضَلّ وخَذَل وشَقِي فَبِعَدْلِه وحِكْمَتِه " كما يقول ابن القيم .
فَحَذَار حَذَار مِن الاغْتِرار ..
وحَذَار مِن حَمْل شيء مِن مِيرَاث قَارُون !
313-مَالذي رَفَعَ قَدرَهم؟
أولئك أقوام لا قيمة لهم في موازين الجاهلية
حتى كان أحد صناديد الجاهلية يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إن سرّك أن نتبعك فاطرد عنك فلانا وفلانا ، ناسا من ضعفاء المسلمين .(3/136)
فجاء الأمر من فوق سبع سماوات : ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
كان هذا في مكة قبل الهجرة
وما زاد بعد ذلك إلا شدّة
قال ابن القيم رحمه الله :
وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يُجرّ في الرمضاء على جمر الفتنة ، فنشر بَزّاً طُوي عن القوم من يوم قوله : أحد أحد ، ورفع صوته بالأذان فأجابته القبائل من كل ناحية ، فاقبلوا يؤمون الصوت ، فدخلوا في دين الله أفواجا .
إنني سوف أتحدّث عن رجال أفذاذ الواحد منهم بألف
وواحد كالألف إن أمر عنى
وربما كانوا رجالاً لا قيمة لهم في موازين الجاهلية والجاهلين
ولكنهم انفردوا بالصدارة زمناً ، وبقي ذكرهم أزماناً
حتى كان بعض الخلفاء يتمنى أنه مكان ذلك العالم
لما ابتنى معاوية بالأبطَح مجلسا جلس عليه ومعه ابنه قُرَظَة ، فإذا هو بجماعة على رحال لهم ، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى :
من يساجلني يساجل ماجداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكُرب
قال : من هذا ؟ قالوا : عبدالله بن جعفر ، قال : خلُّوا له الطريق ، ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى :
بينما يذكرنني أبصرنني *** عند قِيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى ؟ قلن : نعم *** قد عرفناه وهل يخفى القمر
قال : من هذا ؟ قالوا : عمر بن أبي ربيعة ، قال : خلُّوا له الطريق فليذهب .
قال : ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسأل ، فيقال له : رميت قبل أن أحلق ؟ وحلقت قبل أن أرمي ؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج ، فقال : من هذا ؟ قالوا : عبد الله بنُ عمر ، فالتَفَتَ إلى ابنه قُرَظَة وقال : هذا الشرف . هذا والله شرف الدنيا والآخرة .
هكذا يُثير معاوية في ابنه ما يُثير
ويُربي فيه ما يُربي
من حُبّ العلم ، ورفعة أهله
حتى حلف له : إن هذا لهو الشرف !
وكأنه يُشير إليه من طرف خفي : ليس فيما فيه أبوك !
وهذا خليفة آخر يُشير بتلك الإشارة(3/137)
قال إبراهيم الحربي كان عطاء ابن أبي رباح عبداً اسود لامرأة من مكة ، وكان أنفه كأنه باقلاّء ! فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابْنَاهُ ، فجلسوا إليه وهو يصلي ، فلما صلى انفتل إليهم ، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج ، وقد حول قفاه إليهم ، ثم قال سليمان لابْنَيه : قوما ، فقاما ، فقال : يا بَنيّ ! لا تَنِيا في طلب العلم ، فإني لا أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود !
إن الذي رفعه هو العلم
قال أبو العالية : كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش ، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير ، فتغامز بي قريش ، ففطن لهم ابن عباس فقال : كذا هذا العلم ، يزيد الشريف شرفا ، ويجلس المملوك على الأسرّة !
وذاك مولى ! رفعه القرآن وعلم الكتاب والسنة
روى مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستعمل نافع بن عبد الحارث على مكة فَلَقِيَه عمر بعسفان فقال : من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى . قال : ومَنْ ابن أبزى ؟! قال : مولى من موالينا ! قال : فاستخلفت عليهم مولى ؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله عز وجل ، وإنه عالم بالفرائض . قال : عمر أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ، ويضع به آخرين .
وهذا عالم آخر وعَلَم فذّ أصله مولى !
نعم أبوه كان عبداً يُباع ويُشترى !
ولكنه علا وارتفع بالعلم النافع ، علم الكتاب والسنة
لما قَدِم هارون الرشيد الرَّقة انجفل الناس خَلْفَ عبد الله بنِ المبارك و تقطعت النعال و ارتفعت الغَبَرَة ، فأشرفت أمُّ ولدِ أمير المؤمنين من برجٍ من قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالمٌ من أهل خراسان قدم الرَّقة يُقال له عبدُ الله بنُ المبارك ، فقالت : هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان . رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .(3/138)
ذلكم هو العالم المجاهد البطل الذي لا يُشقّ له غبار ، والعالم الذي فاق الأقران ، هو عبد الله بن المبارك رحمه الله
وذاك علم آخر من أعلام الإسلام ، وإمام من أئمة التابعين
وهو مولى !
لكنه سيّد من سادات التابعين ، ساد بالعلم النافع
ذلكم هو الإمام محمد بن سيرين رحمه الله
فمن الذي لا يعرف ابن سيرين رحمه الله ؟
( ولعله يُفرد له ترجمة في مشكاة أعلام النبلاء )
وهذا عالم تولى القضاء بمكة عشرين سنة ، وكانت تهابه الخصوم .
ذلكم هو : محمد بن عبد الرحمن الأوقص عُنقُه داخل في بدنه ، وكان منكباه خارجين كأنهما زُجّان فقالت أمه : يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منه المسخور به ، فعليك بطلب العلم ، فإنه يرفعك ، فولى قضاء مكة عشرين سنة ، وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم قال : ومرت به امرأة وهو يقول : اللهم اعتق رقبتي من النار فقالت له : يا ابن أخي وأيّ رقبة لك ؟!
فبأي شيء ارتفع هؤلاء ؟
إنما رفع الله قدرهم ، وأعلى ذِكرهم ، بالعِلم النافع
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )
العلم الذي يُورث الخشية
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )
العِلم الذي لا يكون مقصوراً ولا محصوراً
بل هم علماء عامّة
يُعلّمون الناس ، ويُخالطون الناس ، ويصبرون على أذاهم
" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم "
وأختم بكلمة إمام أهل السنة يوم قال لأهل البدع :
قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز !
فكم شهِد جنازة ذلك العالم الرباني ؟
على أقل تقدير !
قال فتح بن الحجاج : سمعت في دار الأمير أبي محمد عبد الله بن طاهر أن الأمير بعث عشرين رجلا فحزروا كم صلى على أحمد بن حنبل ؟ قال : فحزروا فبلغ ألف ألف وثمانين ألفا ، وقال غيره وثلاث مائة ألف سوى من كان في السفن في الماء .(3/139)
ذلكم هو الشرف !
ذلكم هو العِلم
وكفى .
314-إني أُحِبُّ أن أُشكَر...
قال أبي بن كعب رضي الله عنه ثم في قوله عز وجل : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ )
قال : جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، شهدنا .
قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم ، أو تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين ، فلا تشركوا بي شيئا ، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي .
فقالوا : نشهد إنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك ، ورفع لهم أبوهم آدم فنظر إليهم ، فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة وغير ذلك ، فقال : رب لو سوّيت بين عبادك .
فقال : أني أُحب أن أُشكر . رواه الحاكم في المستدرك
وجاء هذا المعنى عن الحسن رحمه الله عند ابن أبي شيبة وعند البيهقي في شعب الإيمان
تذكرت هذا المعنى ( أني أُحب أن أُشكر ) وأنا في المسجد
إذ جاء رجل يزحف على مقعدته ، حتى وصل إلى الإمام فكلمه قليلاً ثم أخذ يزحف باتجاه الصف الأول لمر من أمام المصلين
فإذا هو رثّ الهيئة ، وقد بُتِر أحد ساقيه
وكان إلى جواري رجل كبير في السن فلما رآه أخرج له مبلغا من المال ، فلما أعطاه إياه وانصرف عنه ذلك السائل بكى ذلك الرجل الذي كان إلى جواري ، ثم سمعته يحمد الله ويشكره(3/140)
هل تأملنا في أصحاب البلاء وأصحاب العاهات فحمدنا الله على ما نحن فيه من نعماء ؟
فقد قال عليه الصلاة والسلام : من رأى صاحب بلاء فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ، إلا عوفي من ذلك البلاء ، كائنا ما كان ما عاش . رواه الترمذي وابن ماجه
وعند الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً :
من رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ، لم يصبه ذلك البلاء .
قال أبو جعفر محمد بن علي : إذا رأى صاحب بلاء ، فتعوّذ منه يقول ذلك في نفسه ، ولا يُسمع صاحب البلاء .
قال علماؤنا : إذا كان البلاء نحو مرض أو عاهة فإنه يتعوّذ في نفسه لئلا يؤثر في نفس المريض أو المبتلى
وإن كانت معصية كشرب خمر أو تعامل بالربا ونحو ذلك ، فإنه يتعوّذ مما وقع فيه لأنه أبلغ في نفسه إذا سمع الناس يتعوّذون بالله مما ابتلي هو به .
هل فكّرنا أننا في عافية ؟
نقوم ونقعد
ننام وننهض
نذهب حيث شئنا
لا نحتاج إلى مساعدة أحد
هذه نِعم تحتاج مِنّا إلى شكر بل على مزيد شكر
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : كم مِن نعمة لله في عرق ساكن .
كيف لو اضطرب ذلك العِرق أو تحرّك ؟
هل يهدأ لك بال ؟
هل ترتاح بنوم ؟
قليل من يتأمل في نعم الله عليه التي لا تُعد ولا تُحصى .
فاللهم ارزقنا شُكر نِعمك
وأعِنّا على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك
315-أمَا آن لهذه أن تُعتَق !
تهتف به : أرجوك أعتقني
لا تقتلني
لا تستأصلني
لم يلتفت إلى ندائها ولا إلى استغاثاتها
تستجديه :
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم = أُذنِب وإن كثرت فيَّ الأقاويل !
ثم تصرخ به : يا هذا ! أنا وصية نبيِّك
أما آن لك أن تُكرمني ؟
أكرمني طاعة لنبيِّك عليه الصلاة والسلام
أعفِني كما أعفاني نبيّك صلى الله عليه وسلم
ارفع عني يد العذاب
وسيف الاستئصال
أنا زينتك
أنا وقارك
أنا سِرّ تميّزّك
استيقظ على صوت ضميره(3/141)
وتردد في صداه قول نبيِّه عليه الصلاة والسلام : خالفوا المشركين ، وفروا اللحى ، وأحفوا الشوارب . رواه البخاري ومسلم .
وأمره عليه الصلاة والسلام : خالفوا المشركين ، أحفوا الشوارب ، وأوفوا اللحى . رواه مسلم .
وتأكيده عليه الصلاة والسلام : جزوا الشوارب ، وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس . رواه مسلم .
وتذكر قوله عليه الصلاة والسلام : أعفوا اللحى ، وحفوا الشوارب . رواه الإمام أحمد .
فعفا عنها ورفع عنها يد العذاب وسيف الاستئصال
أعفاها ووفرها طاعة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم
واقتداء به عليه الصلاة والسلام
ومخالفة لأعدائه من المجوس وسائر المشركين
أفما آن لك أن تُعتقها – إن لم تكن أعتقتها - ؟
إنها زين لك ووقار
طول اللحى زين القضاة وفخرهم = وتميز عن غلمة سفهاء
لو كان في قصر بها فخر لها = لم يُرو فيها سنة الإعفاء
يا هذا ..
أما علمت أنها مِن سُنن الأنبياء ؟
ألم يقل هارون لموسى ( يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ) ؟
فيا عجبا في زاهد في هدي الأنبياء ! مُعرِضاً عن طاعة خاتم الأنبياء !
316-الحَميد..
هو المحمود الممدوح بكل لسان
وهو المحمود على كل حال ، إذ لا يُحمد على مكروه سواه
وهو الذي يَحمَد ويُحمد
وهو أهل الحمد والثناء
ولذا فإن ربك يُحب المدح ، ويُحب أن يُثنى عليه
قال عليه الصلاة والسلام : ولا شخص أحب إليه المدحة من الله ، من أجل ذلك وعد الله الجنة . متفق عليه .
وفي رواية : ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ، فلذلك مدح نفسه .
ربنا المحمود ، ولذا حمِد نفسه بنفسه ، فقال : ( الْحَمْدُ لِلّهِ ) وصُدّرت بها بعض سور الكتاب العزيز .
والمحمود هو مستحق مطلق الحمد والشكر
قال سبحانه : ( وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )(3/142)
والحميد يُحب أن يُحمد بأنواع المحامد القولية والفعلية ، ولذا لما قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ) ختم الآية بقوله ( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) .
وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا )
وأُمِر نوح أن يقول : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
وبالحمد للحميد لهج الأنبياء
فهذا أبو الأنبياء يقول : ( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء )
وهذا الابن وأبيه ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ )
بل لهَجَت به الملائكة الكرام
( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
ومن أجل ذلك يلهج أهل الجنة بالحمد للحميد
( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ )
( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ )
( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ )
فربنا جل جلاله يُحب أن يُحمد فهو الحميد(3/143)
مواطن الحمد
من مواطن الحمد :
في الصلاة
في الحديث القدسي " فإذا قال العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) قال الله تعالى : حمدني عبدي . رواه مسلم .
وفي الصلاة
إذا رفع المصلي رأسه من الركوع
كان النبي صلى الله عليه وسلم يوما يُصلي إذ جاء رجل قد حَفَزه النَّفس ، فصلّى وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة قال : سمع الله لمن حمده . قال الرجل : ربنا ولك الحمد حمداً طيبا مباركا فيه ، فلما انصرف قال : من المتكلم ؟ قال : أنا . قال : رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول . رواه البخاري .
وابتدرها بضعة وثلاثون ملكا بعدد حروفها !
بل إن الصلاة - وإن كانت كلها حمد وشكر – إلا أنها تُفتتح بالحمد وتُختتم به
كيف ذلك ؟
تأمل قول المصلي في أشهر صيغ الاستفتاح :" سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك وتعالى جدك ، ولا إله غيرك "
ثم يختم صلاته بقوله في الصلاة الإبراهيمية :
" إنك حميد مجيد "
فيفتتح صلاته بحمد ربه وتمجيده ، ويختتم صلاته بمثل ذلك .
وإذا قام إلى صلاة التهجد حمِد الله
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد ؛ أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن .. الحديث . متفق عليه .
وفي افتتاح الخُطب
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح خُطبه بالحمد
ومِن مواطن الحمد عند الفراغ من الطعام والشراب
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال : الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوّغه وجعل له مخرجا . رواه أبو داود .
وكان إذا رفع مائدته قال : الحمد لله كثيرا طيبا مباركا غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا . رواه البخاري .
وعند النوم ، وعند القيام من النوم(3/144)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا ، فَكَمْ ممن لا كافي له ولا مؤوي . رواه مسلم .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده اليمنى تحت خده اليمنى ثم يقول : اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت . فإذا استيقظ من الليل قال : الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور . رواه الإمام أحمد .
وعند مسلم : كان إذا أخذ مضجعه قال : اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت ، وإذا استيقظ قال : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور .
وعند لبس الثوب الجديد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أكل طعاما ثم قال : الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة ، غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ومن لبس ثوبا فقال : الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة ، غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . رواه أبو داود ، وهو في صحيح الجامع .
وعند ركوب الدابة أو السيارة
عن علي بن ربيعة قال : شهدت علياً رضي الله عنه أُتي بدابة ليركبها ، فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ثلاثا ، فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ، ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، ثم قال : الحمد لله ثلاثا ، والله أكبر ثلاثا . سبحانك إني قد ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم ضحك . قلت : من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ، ثم ضحك فقلت : من أي شيء ضحكت يا رسول الله ؟ قال : إن ربك ليعجب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
وإذا رأى ما يُسرّ به
وإذا رأى ما يكره(3/145)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يُحب قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال . رواه ابن ماجه .
ولفظ الحمد شكر وحمد
قال عليه الصلاة والسلام : ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله ؛ إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ . رواه ابن ماجه .
وعند رؤية أهل البلاء
" من رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ، لم يصبه ذلك البلاء " رواه الترمذي .
وعند هداية ضال
كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه فقال له : أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم مات . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . رواه البخاري .
ومن أعظم مواطن الحمد ؛ الحمد عند المصيبة
قال عليه الصلاة والسلام : إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع . فيقول الله : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمُّوه بيت الحمد . رواه الإمام أحمد والترمذي .
ومن أعظم مواطن الحمد ما يكون في المقام المحمود
وأعظم مواطن الحمد يوم العرض الأكبر حينما يقوم نبينا صلى الله عليه وسلم فينطرح بين يدي مولاه ، ويقوم في المقام المحمود فيحمده بمحامد كثيرة .
قال عليه الصلاة والسلام : فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن ، يُلهمنيه الله ، ثم أخرّ له ساجدا ، فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يُسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . متفق عليه .
وإذا دخل آخر أهل الجنة الجنة تدخل على الرجل زوجتاه من الحور العين فتقولان : الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك . رواه مسلم .(3/146)
فاحرص – رحمك الله – على حمد مولاك فرب حَمْدٍ على شربة أو أكلة يكتب الله لك بها الرضا إلى يوم تلقاه
قال عليه الصلاة والسلام : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها . رواه مسلم .
هذا ما تيسرت كتابته حول اسم الحميد ، ومواطن الحمد .
317-الحَمد لله..ماتَ ابني..
من يستطيع ذلك ؟
من يصبر عند الصدمة الأولى ؟
من يتصبّر فيقول عند نزول المصيبة وحلول الكارثة : ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) .
ولذا كان عمر رضي الله عنه يقول في هذه الآية : نعم العدلان ، ونعمت العلاوة .
قال المفسرون : أراد بالعدلين : الصلاة والرحمة ، وبالعلاوة : الاهتداء .
مَن يتصبر عند الصدمة الأولى هم القلّة
لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر ، فقال : اتقي الله واصبري . قالت : إليك عني ! فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه فقيل لها : إنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين ، فقالت : لم أعرفك ، فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى . رواه البخاري ومسلم .
هل تأملت العنوان ؟
الحمد لله ... مات ابني !
أهذا موطن من مواطن الحمد ؟
أيكون الحمد على المصيبة ؟
قال أبو سنان : دفنت ابني سنانا ، وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر ، فلما أردت الخروج أخذ بيدي ، فقال : ألا أبشرك يا أبا سنان ؟ قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟
فيقولون : نعم .
فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟
فيقولون : نعم ، فيقول : ماذا قال عبدي فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد . رواه الإمام أحمد والترمذي وهو حديث حسن .(3/147)
وروى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة .
حدّث هشام بن عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهم أن أباه عروةَ بنَ الزبير وقعت في رجله الآكلة ، فقيل ألا ندعوا لك طبيبا ؟ قال : إن شئتم . فقالوا : نسقيك شرابا يزول فيه عقلك ، فقال : امض لشأنك ، ما كنت أضن أن خلقا يشرب ما يزيل عقله حتى لا يعرف ربّه !! فوُضِع المنشار على ركبته اليسرى ، فما سمعنا له حسا فلما قُطِعتْ جعل يقول : لئن أخذت لقد أبقيت ، ولئن ابتليت لقد عافيت .
وما ترك جزأه بالقرآن تلك الليلة .
وكان مرةً في سفر فأصيب عروة بابنه محمد ركضته بغلة في اصطبل فلم يسمع منه في ذلك كلمة ، فلما كان بوادي القرى قال : ( لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) ثم قال : اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحدا وأبقيت لي ستة ، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفا وأبقيت ثلاثة ، ولئن ابتليتَ لقد عافيت ، ولئن أخذتَ لقد أبقيت .
قال الوليد بن عبد الملك : ما رأيت شيخا قط أصبرَ من هذا .
أما إنه أعطيَ عطاءً هو خيرُ عطاءٍ وأوسعُه .
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحدٌ عطاء خيرا وأوسع من الصبر .
والتعزية مما يهوّن المصيبة .
مات ابنٌ لعبد الرحمن بن مهدي ، فجزع عليه جزعاً شديداً حتى امتنع عن الطعام والشراب ، فبلغ ذلك الإمام الشافعي فكتب إليه أما بعد :
فَعَزِّ نفسك بما تُعَزِّ به غيرك ، ولتستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك ، واعلم أن أمضى المصائبِ فقْدُ سرورٍ مع حرمان أجر ، فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزر ؛ وأقول :
إني مُعَزِّيكَ لا إني على طمع من الخلود ولكن سُنّةُ الدينِ
فما المُعزِّي بباقٍ بعد صاحبه ولا المُعزَّى ولو عاشا إلى حين(3/148)
فكانوا يتهادونه بينهم بالبصرة .
حضر ابنُ السماك جنازةً فعزَّى أهلها ، وقال : عليكم بتقوى الله والصبر ، فإن المصيبةَ واحدةٌ إن صبر لها أهلُها ، وهي اثنتان إن جزعوا ؛ ولعمري للمصيبة بالأجر أعظم من المصيبة بالميت ، ثم قال : لو كان مَنْ جَزِعَ على مَيِّتِهِ رُدَّ إليه لكان الصابرُ أعظم أجراً وأجزل ثواباً .
تَعَزَّ فإن الصبر بالحرِّ أجمل .... وليس على ريب الزمان مُعَوّل
فلو كان يُغني أن يُرى المرء .... جازعا لحادثة أو كان يُغني التذلل
لكان التّعزي عند كل مصيبة .... ونائبة بالحُرِّ أولى وأجملُ
ومما يُخفف من وقع المصيبة أن يتأمل العبد في ذلك الميت :فإن كان صغيرا فربما كان في موته خير له ولوالديه إذا احتسبا الأجر
وربما كان في موته خير لوالديه .
كيف ذلك ؟
تأمل قصة موسى مع الخضر – عليهما السلام – كيف قتل الخضر غلاما صغيرا حتى قال موسى :
( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) ؟
لكن ما خفي على موسى عليه الصلاة والسلام وأظهره الله للخضر هو حقيقة ذلك الطفل لو عاش .
قال عليه الصلاة والسلام : إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِعَ كافرا ، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا . متفق عليه .
وهذا ما خشيه الخضر : (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)
وهذا من لطف الله بعباده ، أنْ خلّص أبويه منه حتى لا يُرهقهما طغيانا وكفراً بالله ، بل أبدلهما خيرا منه وأزكى ، وقد ورد أنه سبحانه أبدلهما به وخلف عليهما جارية ولدت نبياً أو أنبياء .
فسبحان من بيده ملكوت كل شيء ...
كم في طيّات الأمور من ألطاف اللطيف الخبير ؟
وكم هي العِبَر التي سُتِرت عن العباد ...
ولو كُشِفت لهم حجب الغيب لعلموا علم يقين أن الله أرحم بالعباد من أمهاتهم .
ولأدركوا أن المصائب مِحَنٌ في طيّها منح ٌ.(3/149)
وصدق الله :( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ) .
لا تحسبوه شراً لكم على مستوى الأفراد والشعوب
ما يُصيبك في خاصة نفسك فلا تحسبه شراً لك
وما يُصيب الأمة ( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ) .
ونحن اليوم نعيش مُصيبة أمّة لا مُصيبة أفراد فحسب
نتعزّى بأن الفجر قادمٌ وبقوّة
ولكن لا بُدّ للفَجر من مخاض ، ولا بُد للنور من وِلادة
وعندما ينبلج ضوء الحق تنبهر خفافيش الظلام
ويخنس صوت الباطل
وينقمع كل دَعيٍّ ومُنافق
تنوّعت الجراح فلا اصطبار *** يواجهها ولا قلب يُطيقُ
يُدنّس عرض مُسلِمة وتُرمى *** ويلطم وجهها وغد حليقُ
وتتبعها ملايين الضحايا *** تذوق من المآسي ما تذوق
وكم من مسجد أضحى رُكاماً *** وفي محرابه شبّ الحريقُ
تُعذّبني نداءات اليتامى *** وصانع يُتمهم حُرٌّ طليقُ
تُسافر بي الجراح فليت شعري *** متى يحني على قدمي الطريقُ
يُخادعني العدو فما أُبالي *** وأبكي حين يخدعني الصديق
سألت عن الصمود رجال قومي *** فخاطبني من الإعلام بوقُ
أتنسى أن إسرائيل أختٌ ؟ *** لها في المسجد الأقصى حقوق
كأن رجال أمتنا قطيع *** وإسرائيل في صَلَفٍ تسوقُ
وأمتنا تنام على سرير *** تهدهدها المفاتن والفسوق
كتاب الله يدعوها ولكن *** أراها لا تُحسّ ولا تفيق
أقول لأمتي والليل داجٍ *** بِكَفّكِ لو تأملتِ الشروق
شاعر الأمة / د. عبد الرحمن العشماوي
318-التَقوَى ها هُنا..والبَاقي مَظاهِر !!
يقول بعض الناس - جدلاً - : التقوى ها هنا ، ويُشير إلى صدره
وهذه كلمة حق أُريد بها باطل
وقد سمعتها في جوار بيت الله الحرام
إذا تجادل رجلان : مغربيّ ومشرقيّ
وكان الكلام حول " زينة الرجال " ، وكان المشرقيّ يُنكر على المغربي أنه " لا شارب ولا لحية " !!
فردّ المغربيّ : التقوى ها هنا ، وأشار إلى صدره .
وهذه – لا شكّ – أنها كلمة حق أُريد بها باطل .
نعم .
النبي صلى الله عليه وسلم قال : التقوى ها هنا ، وأشار إلى صدره .(3/150)
ولكن التقوى لها أثر على الجوارح إذا استقرّت في القلب .
الإيمان له حقيقة ، وله ثمار ، وحقيقته ما وَقَرَ في القلبِ ، وصدّقه العمل ، وما عدا ذلك فدعاوى لا مستند لها .
وقد قيل :
وإذا بحثت عن التّقيّ وجدته *** رجلاً يُصدّق قوله بِفِعالِ
وإذا اتّقى اللهَ امرؤٌ وأطاعه *** فيَداه بين مكارمٍ ومَعالِ
وعلى التَّقيِّ إذا ترسّخ في التُّقى *** تاجان : تاج سكينة وجمال
وإذا تناسبت الرجال فما أرى *** نسباً يكون كصالح الأعمال
وقد حصل ما يُشبه ذلك الفَهْم في زمنِ عمرَ بنِ الخطاب – رضي الله عنه – .
فقد روى عبد الرزاق في المصنف أن عمر بن الخطاب استعمل قُدامةَ بنَ مظعون على البحرين – وهو خالُ حفصة وعبد الله بن عمر – فقدم الجارود سيد عبد القيس على عمر من البحرين ، فقال : يا أمير المؤمنين إن قدامةَ شَرِبَ فسَكِرَ ، ولقد رأيت حدّاً من حدود الله حقّاً عليّ أن أرفعَه إليك .
فقال عمر : من يشهدُ معك ؟
قال : أبو هريرة ، فدعا أبا هريرة فقال : بِمَ تشهد ؟
قال : لم أرَهُ يشرب ، ولكني رأيتُهُ سكران .
فقال عمر : لقد تنطّعتَ في الشهادة .
قال : ثم كتب إلى قدامة أن يَقْدُم إليه من البحرين ، فقال الجارودُ لعمر : أقم على هذا كتابَ الله عز وجل ، فقال عمر : أخصمٌ أنت أم شهيد ؟ قال : بل شهيد . قال : فقد أديتَ شهادتَكَ .
قال : فقد صمت الجارود حتى غدا على عمر ، فقال : أقم على هذا حدَّ الله .
فقال عمر : ما أراك إلا خصما ! ، وما شهد معك إلا رجل .
فقال الجارود : إني أنْشُدُكَ الله .
فقال عمر : لتُمسكنَّ لسانَك أو لأسوأنّك .
فقال الجارود : أما والله ما ذاك بالحق . أنْ شَرِبَ ابنُ عمك وتسوءني .
فقال أبو هريرة : إن كنت تشكُّ في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فَسَلْها – وهي امرأة قدامة – فأرسل عمر إلى هند ابنةِ الوليد ينشُدُها ، فأقامت الشهادة على زوجها .
فقال عمر لقدامة : إني حادُّك .(3/151)
فقال : لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تجلدوني !
فقال عمر : لِمَ ؟
قال قدامة : قال الله تعالى : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
فقال عمر : أخطأتَ التأويل . إنك إذا اتقيتَ اجتنبتَ ما حرّمَ اللهُ عليك .
قال : ثم أقبل عمر على الناس ، فقال : ماذا تَرون في جَلْدِ قدامة ؟
قالوا : لا نرى أن تجلده ما كان مريضا .
فَسَكَتَ عن ذلك أياماً ، وأصبح يوماً وقد عَزَمَ على جَلْدِهِ ، فقال لأصحابه : ماذا ترون في جَلْدِ قدامة ؟
قالوا : لا نرى أن تجلده ما كان ضعيفا .
فقال عمر : لأن يلقى اللهَ تحتَ السياطِ أحبُّ إلي من أن يلقاه وهو في عنقي . ائتوني بسوطٍ تامّ فأمر بقدامة فجُلد .
والشاهد قول المُحَدَّث الملهمِ عمر – رضي الله عنه – : أخطأتَ التأويل . إنك إذا اتقيتَ اجتنبتَ ما حرّمَ اللهُ عليك .
كما أن قدامةُ – رضي الله عنه – لم يَحتجَّ على عمر – رضي الله عنه – بأن التقوى ها هنا ، ولم يُشِرْ إلى صدره .
قال ابنُ حبان في روضة العقلاء : أولُ شُعبِ العقل لزوم تقوى الله ، فإن مَنْ اصلَحَ جُوّانِيّه أصلَحَ اللهُ بَرّانيَّه ، ومن فَسَدَ جُوّانيّه أفسد اللهُ بَرّانيّه . اهـ .
قال أبو محمد الأندلسي في نونيته :
إن التّقيَّ لربِّه مُتنزِّهٌ *** عن صوتِ أوتارٍ وسمعِ أغانِ
وتلاوةُ القرآن من أهل التُّقى*** سيما بحُسن شجا وحُسنِ بيان
أشهى وأوفى للنفوس حلاوةً *** مِن صوت مزمارٍ ونقرِ مَثَانِ
هذا ما فهمه سلف هذه الأمة .
((( إنك إذا اتقيتَ اجتنبتَ ما حرّمَ اللهُ عليك )))
و
" ليس الإيمان بالتّمني ولا بالتّحلِّي ، ولكنه ما وَقَرَ في القلوب ، وصدقته الأعمال " كما قال الحسن – رحمه الله – .(3/152)
ويُقال مثل هذا القول بالنسبة للمرأة ، فإن الإيمان إذا وقر في قلبها حملها ذلك على التمسّك بدينها ، ولو طالتها ألسنة السوء ، أو نالها الأذى ، وما خبر سُميّة عنا ببعيد .
ورحم الله عبداً ترك المِراء ، وأقبل على نفسه فأصلحها .
319-( فِتنَة التَسوق )
الحمد لله مُعزِّ مَنْ أطاعه ، ومُذلّ مَنْ عصاه .
أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه ، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى .
وأصلي وأُسلّم على من بعثه ربه هاديا ومُبشّرا ونذيرا ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
أمَّا بعد :.
فإنَّ الله تبارك وتعالى فضّل بعض العباد على بعض ، وشرّف بعض الأزمنة على بعض وجعل لبعض الأماكن حرمةً دون بعض .
وإن الله عز وجل أحب بعض الأماكن وأبغض بعض .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : أحب البلاد إلى الله مساجدها ، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها . رواه مسلم .
وما ذلك إلا لأن المساجد أماكن العبادة وذِكرِ الله عز وجل .
بينما الأسواق هي أماكن الغفلة .
قال الإمام النووي - رحمه الله - : أحب البلاد إلى الله مساجدها ؛ لأنها بيوتُ الطاعات ، وأساسُها على التقوى . وقوله صلى الله عليه وسلم: وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ؛ لأنها محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وإخلاف الوعد والإعراض عن ذكر الله ، وغير ذلك مما في معناه ... والمساجد محل نزول الرحمة ، والأسواق ضدها .
وحذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنازعات والخصومات التي تقع في الأسواق فقال : إياكم وهيشات الأسواق . رواه مسلم
قال النووي : أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إنَّ التجار هم الفجار . قيل : يا رسول الله أوَليس قد أحلَّ الُله البيع ؟ قال : بلى ، ولكنهم يُحدِّثون فيكذبون ، ويحلفون ويأثمون . رواه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني .
وحذّر السلف من كثرة دخول الأسواق .(3/153)
قال سلمان رضي الله عنه : لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها ، فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته . رواه مسلم .
وقال ميثم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يغدو الملك برايته مع أول من يغدو إلى المسجد فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منزله ، وإن الشيطان ليغدو برايته مع أول من يغدو إلى السوق . قال ابن عبد البر : وهذا موقوف صحيح السند .
وقال أبو عثمان : إن السوق مبيض الشيطان ومفرخه ، فإن استطعت أن لا تكون أول من يدخلها ولا آخر من يخرج منها فافعل .
وفي الأسواق تجتمع الشياطين للتحريش بين الناس وحملِهم على المفاسد سواء ما كان منها في التعامل والمعاملات ، أو ما كان منها في فساد الأخلاق وشَيْن الطبائع .
والأسواق عُرفت منذ القدم إذ من خلالها يتم تبادل المصالح والبيع والشراء .
قال ابن عباس : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية ، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها ، فأنزل الله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) [البقرة:198] الآية . رواه البخاري .
قال الإمام البخاري - رحمه الله - : باب ما ذكر في الأسواق . وقال عبد الرحمن بن عوف : لما قدمنا المدينة قلت : هل من سوق فيه تجارة ؟ قال سوق قينقاع وقال : أنس : قال عبد الرحمن : دلوني على السوق ، وقال عمر : ألهاني الصفق بالأسواق .(3/154)
وعند البخاري عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ؟قال : أجل ! والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخابٍ في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا .
والصخب هو رفع الصوتِ بالخصام .
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يبغض كلَّ جعظريٍّ جوّاظٍ سخابٍ في الأسواق . جيفة بالليل حمار بالنهار . عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة .
وقد أنكر المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يمشي في الأسواق !
( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ) [الفرقان:7] ؟
فجاءهم الجواب من العزيز الوهاب : ( وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ) [الفرقان:20]
أي أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بِدعاً من الرسل ، فكذلك كان الأنبياء والرسل من قبله .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة يمشي في الأسواق ويتفقد أحوالَها وأحوال التجار .
فقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على صبرة طعام ، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا ، فقال : ما هذا يا صاحب الطعام ؟قال : أصابته السماء يا رسول الله . قال : أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ؛ من غش فليس مني . رواه مسلم .(3/155)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي السوق ، ويُمازحُ أصحابه ، وكان رجل من أهل البادية اسمه زاهر ،كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية ، فيجهزَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ، وكان رجلا دميما فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ، فقال له : من هذا ؟ أرسلني ، والتفت ، فعرف النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : من يشتري مني هذا العبد ؟ وجعل هو يلصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : إذا تجدني كاسداً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لكنك عند الله لست بكاسد . رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح .
وكان من الصحابة من يأتي السوق لإقامة ذِكرِ الله حال الغفلة .
فقد كان ابن عمر يقول : إني كنت لأخرج إلى السوق وما لي حاجة إلا أن أُسلِّم ويُسلَّم عليّ . رواه ابن أبي شيبة .
وإنما يعظم أجر الذّاكرِ لله في السوق لأنه في موطن غفلة ولغو ولهو .
قال محمد بن واسع قدمت مكة فلقيت بها سالم بن عبد الله بن عمر فحدثني عن أبيه عن جده عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير . كَتَبَ الله له ألفَ ألفَ حسنة ورفع له ألفَ ألفَ درجة ، وبَنى له بيتا في الجنة قال محمد بن واسع : فقدمت خراسان فأتيت قتيبة بن مسلم فقلت : أتيتك بهدية ، فحدثته الحديث قال : فكان قتيبة يركب في موكبه حتى يأتيَ السوق ، فيقولَها ، ثم ينصرف .
قال الذهبي : هذا إسناد صالح غريب . والحديث حسنه الألباني .(3/156)
وروى ابن أبي شيبة عن أبي قلابة قال : التقى رجلان في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : يا أخي تعال ندعو الله ونستغفره في غفلة الناس لعله يُغفر لنا ، ففعلا ، فقُضيَ لأحدهما أنه مات قبل صاحبه ، فأتاه في المنام ، فقال : يا أخي أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق .
ولذا قال حميد بن هلال : مثل ذاكر الله في السوق كمثل شجرة خضراء وسط شجر ميت
وكان بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يُكبر ويُسبِّح ويذكر الله تعالى ، فقال له رجل : يا أبا بكر في هذه الساعة ؟ قال : إنها ساعةُ غفلة .
وكان مالك بن دينار يقول : السوق مكثرة للمال مذهبة للدِّين .
وقال عبد الله بن أبي الهذيل : إن الله ليحب أن يُذكر في الأسواق ، وذلك للغطِ الناس وغفلتِهم ، وإني لآتي السوق ومالي فيه حاجة إلا أن أذكرَ الله .
وكانت الأسواق تُذكرهم بالآخرة ، فإن ابن مسعود رضي الله عنه ما خرج إلى السوق فمرّ على الحدادين فرأى ما يُخرجون من النار إلا جعلت عيناه تسيلان .
وكان طاووس اليماني إذا مرَّ في طريقه على السوق فرأى تلك الرؤوس المشوية لم ينعس تلك الليلة .
وكان عمرو بن قيس إذا نظر إلى أهل السوق بكى ، وقال : ما أغفل هؤلاء عما أُعِدّ لهم .
ولما دخل الحسن بن صالح السوق فرأى هذا يخيط وهذا يصنع ، بكى ، ثم قال : انظر إليهم يُعللون حتى يأتيَهم الموت .
ولدخول السوق تبعات .
قال سفيان الثوري في وصيته لبعض أصحابه : وأقِلَّ دخول السوق ؛فإنهم ذئاب عليهم ثياب ، وفيها مردة الشياطين من الجن والإنس ، وإذا دخلتها فقد لزمك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فإذا دخل المسلم أو المسلمة السوق فقد لزمهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد علّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار على رؤية المنكر ، فقال : من رأى منكم منكرا فليُغيّره . رواه مسلم .(3/157)
ومن النساء من إذا رأت منكرا أو تعرضت لمضايقة فإنها لا تُخبر بذلك خشية أن تمنع من الذهابِ إلى السوق مرة ثانية .
وقد كثُرت الأسواق ، فتكاد ترى بين السوق والسوق سوقاً .
وكثرة الأسواق علامة من علامات الساعة ، قال عليه الصلاة والسلام : لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ، ويكثر الكذب ، وتتقارب الأسواق ، ويتقارب الزمان ، ويكثر الهرج . قيل : وما الهرج ؟ قال : القتل . رواه الإمام أحمد وابن حبان ، وقال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سمعان وهو ثقة .
فنعوذ بالله من أحوال أُناسٍ لا يجدون الراحة والمتعة إلا في مواضع الفتنة . في الأسواق التي أبغضُ البلاد إلى الله ، فيُسمّونها : مُتعة التّسوّق !
......................................
أما ما يتعلق بفتن الأسواق
فإن من يدرس ظاهرة لا بدّ أن يُشخص الحالة ويعرف الأسباب ثم يصف العلاج النافع والدواء الناجع .
ففتن الأسواق منشؤها من البيوت ، إذ أن النساء اللواتي في الأسواق إنما خرجن من البيوت ، ولم يأتين من عالم آخر .
ويُمكن أن نُجمل أسباب فتن التسوّق بالأسباب التالية ، ثم نعود عليها بالبيان والتفصيل :
أولاً : ضعف الوازع الديني لدى كثيرٍ من أولياء الأمور والتهاون في أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من قِبل الرجال والنساء .
ثانياً : الثقة المُفرِطة بالنساء .
ثالثاً : تخلّي أصحابُ القوامة عن قِوامتهم ، أو التهاون في ذلك .
رابعاً : العجز والاتّكالية ، وعدم تحمّل أولياء الأمور المسؤولية المُلقاة على عواتقهم .
خامساً : وجود السائق ، وهو نتيجة لما سبق .
سادساً : وجود الخدم في البيوت .
سابعاً : كثرة الأموال في أيدي الناس رجالاً ونساءً .
ثامناً : حب الشراء ، ومعرفة ومتابعة كلِّ جديد .
تاسعاً : إتباع هوى النفوس ، وإتْبَاعِ النساء أهوائهن .
وبيان تلك الأسباب وما نتج عنها هذا أوانُه ، فأقول وبالله التوفيق :(3/158)
أولُ الأسباب : ضعف الوازع الديني لدى كثيرٍ من أولياء الأمور .
ومن ضعفِ الدِّين ضعف الغيرة ، التي بسبب ضعفها أُضيعت الحُرمات ، وهُتكت الأعراض ، وفُرّط في الأمانة .
والغيرة خُلُقٌ كريم لا يتّصف به سوى كرام الرجال وكرائم النساء .
وهي صفة من صفات الكمال .
ولذا قال صلى الله عليه وسلم لسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لما قال له سعدٌ : لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ . فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقال : أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ فَوَالله لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَالله أَغْيَرُ مِنّي ، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ الله حَرّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ الله ، وَلاَ شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثُ الله الْمُرْسَلِينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلاَ شَخْصَ أَحَبّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْجَنّةَ . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن القيم رحمه الله : فَجَمَعَ هذا الحديثُ بين الغيرةِ التي أصلُها كراهةُ القبائح وبُغضُها ، وبين محبةِ العُذرِ الذي يوجبُ كمالَ العدلِ والرحمةِ والإحسانِ ... فالغيورُ قد وافقَ ربَّهُ سبحانه في صفةٍ من صِفاتِه ، ومَنْ وافقَ الله في صفه من صفاتِه قادته تلك الصفة إليه بزمامه وأدخلته على ربِّه ، وأدنته منه وقربته من رحمته ، وصيّرته محبوباً له . اهـ .
قال علي رضي الله عنه : أما تغارون أن تخرج نساؤكم ؟ فإنه بلغني أن نساءَكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج . رواه الإمام أحمد .
كيف بك يا أبا الحسن لو رأيت النساء يزاحمن الرجال في كلِّ سوق وميدان ؟!
بل كيف بك لو رأيت نساء المسلمين اليوم في الأسواق بصُحبة السائقين .(3/159)
وإن المرأة إذا عرفت الغيرة من وليها جعلت ذلك في حسبانها ، كما قالت أسماء رضي الله عنها حيث قالت : فلقيتُ رسولَ صلى الله عليه وسلم ومعهُ نَفَرٌ من الأنصار ، فدَعاني ليحمِلَني خَلفَه ، فاستحيَيتُ أن أسيرَ معَ الرّجال ، وذكرتُ الزّبيرَ وغَيرته وكان أغيَرَ الناس . رواه البخاري ومسلم .
فلا تتمادى المرأة – غالبا – إلا إذا كان وليها متساهلا في القوامة ، غاضا بصره عن كثير من الأمور ، باردَ الغيرة على محارمه .
ومن تأمل قصة يوسف عرف ذلك ، فلما خلت امرأة العزيز بيوسف عليه السلام راودته عن نفسه لأنها عرَفت عن زوجها أنه ليس بغيور ، وهذا ما ظهر بعد انكشاف أمرها فلم يزِد على أن قال له : ( يوسف أعرض عن هذا ) ، وقال لها : ( واستغفري لذنبك ) .
ومن برود الغيرة أن يسمح الرجل لزوجته أو ابنته أن تركب مع السائق ويخلو بها ويُحادثها سواء كان سائقا خاصّاً أو كان سائقا عاما كأصحاب سيارات الأجرة .
ومن ضعفِ الغيرة أن تُترك المرأة تخرج متى شاءت من غير أن يُعلم إلى أين تذهب ومع من تذهب .
ومن مظاهر ضعف الغيرة أن تترك المرأة في الأسواق تروح وتغدو من غير حسيب ولا رقيب ، فتخلو بالباعة وتُحادثهم وربما تُمازحهم وتُلين لهم القول .
بل إن بعض الآباء أو الأزواج يترك زوجته تذهب مع السائق لعملها من بعد الفجر ولا ترجع إلا قبيل العصر أو بعده .
وثاني الأسباب : الثقة المُفرِطة بالنساء ، وهي الثقة العمياء المطلقة .
وفي هذا يقول بعض الناس : أن أثق بمحارمي ! وأنتم تُشككون الناس في أهليهم .
فأقول : إذا كانت أمهات المؤمنين اللواتي هن أطهر نساء العالمين ، وهن بمنزلة الأمهات قال الله لهن : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا ) [الأحزاب:32].(3/160)
وأدّب الله المؤمنين إذا سألوهن أن يكون ذلك السؤال من وراء حجاب ، فقال الله جل جلاله :
( َإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ )
أما لماذا ؟ فاستمع إلى الجواب :
( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )[الأحزاب:53]
ولقد حدثني بعضُ الثقات أنه رأى في بعض البراري ما يزيد على عشر نسوة ليس معه إلا سائق . فهل هانت الأعراض إلى هذا الحدّ ؟ هذه نتيجة مِنْ نتائج الثقة المفرِطة .
ثالث الأسباب : تخلّي أصحابُ القوامة عن قِوامتهم ، وتسليم ذلك الشرف وتلك المسؤولية للنساء .
ناسين أو مُتناسين أن القِوامة للرجال دون النساء ، وأن اللهَ سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه حفِظ أم ضيّع . كما قال عليه الصلاة والسلام .
بل تناسوا قولَه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) [التحريم:6].
وتبع ذلك إهمال كثير من أولياء الأمور ( الآباء – الأزواج – الإخوان ... ) لمُهمتهم في القوامة ، فالمرأة مهما كانت صالحة فلا تترك تذهب لوحدها للسوق أو لغيره دون محرم ، لأنها سوف تختلط بالرجال وتخلو بالباعة من أصحاب المحلات .
وقد روى البخاري عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال . قال : كيف تَمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال ؟ قلت : أبعد الحجاب أو قبل ؟ قال : إي لعمري ! لقد أدركته بعد الحجاب . قلت : كيف يخالطن الرجال ؟ قال : لم يكن يخالطن ، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم ، فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت : عنك ، وأَبَتْ .
ومعنى ( حَجْرَة ) أي ناحية . يعني أنها لا تُزاحم الرجال في الطواف .(3/161)
ودخلت مولاة لعائشة عليها فقالت لها : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها : لا آجرك الله . لا آجرك الله . تدافعين الرجال ألا كبّرتِ ومررتِ . رواه الشافعي والبيهقي .
فإذا كان هذا في الطواف في أشرف وأطهر البقاع ، فكيف بالأسواق ؟
فما لم يَقُم الآباء بما أُوكِل إليهم من مهام وواجبات فسوف يطول الحساب ، وتعظم الجريرة ، وتزداد التّبِعة .
رابع الأسباب : العجز والاتّكالية ، وعدم تحمّل المسؤولية المُلقاة على عواتق الأولياء من الرجال .
فيحرص الآباء والإخوة على وجود السائق ليذهب كلٌّ منهم في سبيله دون أن يُقال له هات أو خذ ، وتفرح النساء بالسائق لأول وهلة ثم إذا تخلّى أولياءُ الأمور عن مُهمّاتهم وألقوا بالحمل على المرأة مع السائق تضجّرت واشتكت ولكن بعد أن وقعت في الفخ .
وقد اشتكت نساء كثير ذلك الوضع حتى أُوكِل إليهن شراء ملابس الأولاد ، وجلب الفاكهة ، والذهاب بالمريض إلى الطبيب ، بل وتعدّى الأمر ذلك كلِّه إلى شراء مستلزمات الرجل !! وتسديد الفواتير ، فلم يبقَ للرجل دورٌ في حياة تلك المرأة .
بل إننا أصبحنا نرى المرأة في أسواق الخضار بل وفي أسواق المستلزمات الرجالية .
وعند ذلك وُجِدت الاتكالية على المرأة وتعوّد أصحابُ القِوامة على العجز والراحة والدّعة ، ومن ثمّ يُجَنُّ جنون المرأة إذا سافر السائق ؛ لأنها تعودت على كثرة الخروج وتعوّد هو على الراحة ، فكان السائق يقوم بدور الأب أو بدور الزوج دون أن يخرم منه شيئاً .
خامس الأسباب : وجود السائق ، وهو نتيجة لما سبق من العجز والاتكالية وحُب الراحة .
حتى أنك ترى البيت الواحد وفيه ثلاثة أو أربعة أبناء وكلُّ واحد يمتلك سيارة ومع ذلك يوجد السائق .(3/162)
وأذكر أنني في يوم من الأيام وقفت عند منزل أحد الأصدقاء وبينما أنا في انتظاره إذا بالسائق يدخل البيت دون سلام أو كلام أو أدنى صوت ، ثم جاء شاب لو أراد أن يَهُدّ سارية لهدّها ، ثم جاء آخر ثم جاء الثالث وكلُّ واحد أوقف سيارته ودخل .
فتألمت لذلك الوضع ، واعتصر قلبي ألماً من ذلك التفريط مع وجود أولئك في بيت واحد
وفي الحقيقة ما وجود السائق في أغلب الأحيان إلا مظهر من مظاهر الترف ، وإفراز من إفرازات وتَبِعات عملِ المرأة وإخراجِها من بيتها ، فلسنا بحاجة للسائق في الأعمّ الأغلب إلا لزيادة المظاهر ، وحبِّ التميّز ، واتّباع أهواء النساء ورغباتهن !! وأننا لسنا أقل من غيرنا ، وليس غيرنا بأحسن منا !! ولا أدلّ على ذلك من وجود أكثر من شاب في البيت ربما يكون عاطلاً ، ومع ذلك يؤتى بالسائق ليقوم بتوصيل البنين والبنات ، ويجوب بالأم الأسواق لمعرفة الجديد ، والتعرف على الأخبار ، وتفقّد أحوال الرعية !!
وثمة أمر آخر يُصدِّق ما ذكرت ، وهو ما يُلفت الأنظار – أحياناً – مِنْ وجود سائقين بسيارات متهالكة !! مما يؤكد أن هناك أُسَراً لا تستطيع توفير بعض الضروريات ومع ذلك تُوفّر الكماليات للمظاهر فقط .
وهذا الصنيع دعوةٌ – غير مباشرة – للعقوق ، فيتعلّم الأبناء عدم تلبية حاجيّات والديهم ، في حين يظهر عدم احتياجِ أهلهيم إليهم ، وعدم تحمُّلِهم المسؤولية ، عندها يُصبح الداء مركّباً ، عقوقُ والِدَين ، واتّكاليةٌ على الغير ، فلو أراد أحدهم أن يشتري خبزاً لنادى على السائق وأصدر أوامره وزمجر وهدد إن تأخّر ! بينما هو يتّكئ على أريكته يُشاهد مسلسلاً أو مباراة أو غيرها من توافه الأمور !
والله يُحبّ معالي الأمور ، ويكره سفسافها . كما قال عليه الصلاة والسلام .
وهناك الكثير من البيوت استغنت عن السائق الأجنبي بعد أن وقعت المصائب ، وانتُهكت الأعراض .(3/163)
وربما كان السائق كافراً يُروّج لديانته ، ويُعبّر من خلاله الأب عن دياثته أحيانا !!
بل أصبح السائق عند بعض الأُسر من مظاهر التباهي ، ومن هنا تشترط بعض الأسر أن يكونَ جميلا وسيما !! فاعتبروا يا أولي الأبصار .
وشهود العيان كُثر ، ولست شامتاً بل معتبراً ومُذكِّراً .
ومَن ادّعى أنه لا يستغني عن السائق في إيصال بناته أو زوجته ، قيل له أنت أحد رجلين :
إما رجل لا تحسن القيادة أو مريض أو صاحب عذر وأنت تركب مع السائق في كل ذهاب ومجيء ، أو يركب معه رجل عاقل بالغ ذو محرم للنساء ، فلا حرج عليك إن شاء الله .
أو أنك صاحب مشاغل أو تجارة تلهث وراء دنياك ، وتُضيع أخرتك ، تُضيع أمانة كُلِّفت بحفظها ، وسوف تُسألون .
والأمر جِدُّ خطير ، فاحذروا عواقبه الوخيمة .
وأعرف بعض المسئولين من أصحاب المناصب العليا تسير حياتهم اليومية دون الحاجة إلى سائق ، وهم يقومون بأنفسهم بإيصال أولادهم بينين وبنات إلى مدارسهم وقضاء حوائج أهليهم .
وأذكر أن أحد الشباب الغيورين أراد أهلُه إحضارَ سائق – مثلنا مثل الناس – !! فأقسم إن جاء السائق ليدفُنه تحت عتبة الباب !! وهذا من باب التهديد ، وذلك دليل على شدة غيرته . فاستغنى أهله عن السائق ولم تتوقف عجلة الحياة بِهِم ، كما أنهم لم يموتوا جوعاً ومسغبة !
ولا تحتاج إلى كبيرِ عناء لترى وضعَ السائقين أو حالَهم ، فبمجرد أن تمر من أمام مدرسة من المدارس ترى ذلك ظاهراً باديا ، بل ما إن تسلك طريقا إلا وترى ما يعتصر له القلب وتدمع له العين من إهمال وتفريط وخلوة بالأجنبي الذي ربما كان كافراً لا يرقب في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذِمّة .
وإذا ركبت المرأة مع السائق وغاب الرقيب فلا تسل عن التفريط والضحك والثرثرة وليس هذا حكم عام لكنه أمرٌ مُشاهد .
فكم من امرأة تُرى مع السائق تلتفت يمنة ويسرة وتنظر إلى هذا وذاك ، بل بعضهن يُصبح رأسُها كأنه جهازُ مراقبة ، كأنه رادار !(3/164)
فلا يجوز للمرأة أن تخلو بالسائق مهما كان العذر .
وإذا كانت فريضة الله التي فرض على عباده ، والركن الخامس من أركان الإسلام ، إذا كان يسقط عن المرأة في حال عدم وجود محرم ، أفلا يدل هذا دلالة أكيدة وصريحة على حماية المرأة ؟
ولذا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يخلوَنّ رجلٌ بامرأةٍ إلاّ مع ذي مَحْرَم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم . قام رجلٌ فقال : يا رسولَ الله امرأتي خَرجَت حاجّةً ، واكتَتَبتُ في غزوةِ كذا وكذا ، قال : انطلق فحُجّ مع امرأتِك . متفق عليه .
وقد شبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلوة بالمرأة بالموت ، ولو كان من اختلى بها من أقاربها من غير محارمها ، ولو كان من أقارب الزوج ، فقال عليه الصلاة والسلام : إيّاكم والدخولَ على النساء ، فقال رجلٌ من الأنصار : يا رسولَ الله أفرأيتَ الحَمو ؟ قال : الحَمو الموتُ . متفق عليه .
والحمو : قريبُ الزوج ، أو قريب الزوجة من غير محارمها .
وقال عليه الصلاة والسلام : ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان. قالها ثلاثا . رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه على شرط الشيخين ورواه غيرهما .
فلم يَستثنِ من الخلوة شيئا ، لا داخل البلد ولا خارجه ، بل قال صلى الله عليه وسلم : لا يخلوَنّ رجلٌ بامرأةٍ إلاّ مع ذي مَحْرَم .
كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يَقُل : إلا مع وجود من يقطع الخلوة ، بل قال : إلاّ مع ذي مَحْرَم .
قال ميمون بن مهران : ثلاث لا تبلون نفسك بهن : لا تدخل على السلطان وإن قلت آمره بطاعة الله ، ولا تصغين بسمعك إلى هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه ، ولا تدخل على امرأة ولو قلتَ أعلمُها كتابَ الله .
وقال أيضا : لأن أوتمن على بيتِ مالٍ أحبّ إلي من أن أوتمن على امرأة .
وما ذلك إلا لخطورة الخلوة . خاصة في السيارات التي كأنها مقصورات .(3/165)
سادس الأسباب : وجود الخدم في البيوت ، مما يُولّد أوقاتا لدى النساء من الأمهات والزوجات والبنات ، فتشعر بالضيق والملل ، فترى أنه لا بُدّ من الخروج للأسواق لقضاء أمتعِ الأوقات !! وإلا لو انشغلت المرأة في نفسها وفي بيتها لما وجدت وقت فراغ تقضيه بين السوق والسائق .
سابع الأسباب : كثرة الأموال في أيدي الناس رجالاً ونساءً .
وثامن الأسباب : حب الشراء ، ومعرفة ومتابعة كلِّ جديد .
وتاسع الأسباب : إتباع هوى النفوس ، وإتْبَاعِ النساء أهوائهن .
وسوف أشير إلى علاج هذه المظاهر فيما بعد – إن شاء الله – .
هذه تقريبا مُجمل الأسباب .
وأما أعراض ذلك المرض .
فتبدأ من قبل أن تخرج المرأة من بيتها وحين تهُمّ المراة بالخروج .
فتتجمّل وتأخذ زينتها وكأنها تذهب إلى مجْمَعِ نساء أو كأنما تتجمّل لزوجها ، بل إن هناك من الأزواج من يشتكي من هذا ، فيقول : إنه لا يرى زوجَتَه في أبهى حُلّة إلا عند خروجها للسوق أو للزيارة .
واشتكى بعضُ السائقين من ذلك إذ هو بشر من لحمٍ ودمّ ، ولو كان قلبُه قُدّ من الصخر لتحرك لتلك الفتنة المُتحرّكة .
وقد قال أحد السائقين - وكان فيه بقية من دين وخير - قال للمرأة التي كانت تركب معه في أبهى حُلّة . قال : ماما .. أنا بشر ، فتنبّهت تلك المرأة فلم تعُد تتطيّب ، وليتها تنبّهت فلم تركب مع السائق لوحدها .
والمرأة إذا خرجت فليست بحاجة للزينة ؛ لأن الشيطان سوف يُزيّنها في عيون الناس ولذا قال عليه الصلاة والسلام : المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان . رواه الترمذي وغيره ، وهو حديث صحيح .
قال ابن مسعود : المرأة عورة ، وأقرب ما تكون من ربها إذا كانت في قعر بيتها ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان .
ومعنى استشرفها : أي زينها في نظر الرجال ، وقيل : نظر إليها ليغويها ويغوى بها .
ويرفع أبصار الرجال إليها فلا يزال يُحسّنها في عيونهم ولو لم تكن كذلك .(3/166)
ثم إن من النساء من إذا أرادت أن تخرج تعطّرت وهذا لا شك إثم عظيم وتساهل خطير من قبل أولياء الأمور أولاً ، ثم من قِبَلِ النساء ثانيا .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى من شهِدت الصلاة أن تمسَّ طيبا أو بخورا ، فكيف بمن تذهب لمكان هو من أعظم مواضع الفتنة .
قال صلى الله عليه وسلم : إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيبا .
وقال : أيما امرأة أصابت بَخوراً فلا العشاء الآخرة . رواهما مسلم .
قال العلماء : لئلا يحركن الرجال بطيبهن ، ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة ، كحسن الملبس والتحلي الذي يظهر أثره ، والزينة الفاخرة .
فإذا كانت المرأة لا تأتي لبيت من بيوت الله بالطيب أو البَخور ، مع أن الله أمر بأخذ الزينة للمساجد ، فلأن تُمنع منه عند خروجها للسوق أو المدرسة من باب أولى .
وقد ورد التشديد في الطيب للنساء ، فقال عليه الصلاة والسلام : أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية . رواه الإمام أحمد وغيره .
بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعطّرت أن تغتسل حتى لو كانت تريد المسجد .
فقد لقيَ أبو هريرة رضي الله عنه امرأةً فوجد منها ريح الطيب ينفح ولذيلها إعصار ، فقال : يا أمة الجبار ! جئت من المسجد ؟ قالت : نعم .قال : وله تطيبت ؟ قالت : نعم . قال : إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : لا تُقبل صلاةٌ لامرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وحسنه الألباني .
وطيبُ المرأة ما ظهر لونه وخفي ريحُه ، كما قال عليه الصلاة والسلام .
ثم تخرج المرأة بذلك الطيب وبتلك الزينة إلى الأسواق ، فلا تمرّ برجل إلا حرّكت قلبه إلا من رحم الله ، بل منهن من تذهب بتلك العطورات إلى المستشفيات فلا تمر بمريض في طريقها إلا ازداد مرضا وتأخر برؤه بل ربما مات بسبب أطيابها .(3/167)
وقد أحْدَثت بعضُ النساء زينة للسوق فاخترعن ما يسمينه : مكياج السوق ، بل ذكرت بعض الأخوات أنها رأت في دورات المياه الخاصة بالنساء رأت بعض الفتيات عندما تخلع النقاب يُرى أنها وضَعَتْ المكياج والزينة الكاملة للعينين ولما حول العينين ، فَعَلى أي شيءً يدلُّ هذا ؟
ولم يزل الشيطان يستجريهن ويستهويهن حتى أحدثن مكياج العزاء ، وعش رجباً ترى عجبا !
هذه زينة باطنة بالطيب والأصباغ ، وزينة ظاهرة باللباس الجالب لأنظار الناس .
فتلبس المرأة الضيّق سواء في اللباس من بنطال ونحوه ، أو كان بعباءة ضيّقة مُخصّرة
تقول عنها إحدى الأخوات : فهي أضيق من قميصها الذي تلبسه في منزلها ، فهي مخصّرة جذابة جداً ؛ تجعل النحيفة ممتلئة ، وتجعل البدينة رشيقة ، فتُخفي العيوب ، وتُظهر المحاسن والمفاتن .
تزيد على ذلك بعض العبارات التي كُتِبت على العباءة ، أو الزركشة المُلفتة للنظر .
فما هذه سوى خطوات نزع الحجاب ، فَيَومٌ عباءة فرنسية ، وآخر عمانية ، وثالث مغربية ، وهكذا ... حتى يصدق على المرأة قول الشاعر :
تجيء إليك فاقدة الصوابِ... مهتكة العباءة والحجابِ
وما يُلبس تحت تلك العباءات الفاضحة من ملابسَ ضيقة أو شفافة أشد في الفتنة .
في أحد الشوارع قابلتني بعضُ الفتيات فحرّك الهواء عباءاتَهن فظهرت البناطيل فأخذن يُمسكن العباءات خوفا من العتاب والإنكار .
وليس هذا هو الحجاب الذي يُريده الله عز وجل .
إن الحجاب سِترٌ ووقاء . وعِفّةٌ وحياء ، وطُهرٌ ونقاء .
إن الحجاب الذي نبغيه مَكرُمةٌ لكلِّ حواء ما عابت ولم تَعِبِ(3/168)
ليس المقصود من الحجاب لُبس السواد فحسب بل ستر المفاتن حتى في حقّ كبيرات السن ولذا قال الله جل جلاله : ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )[النور:60] .
ولذا لما قَدِمَ المنذر بن الزبير من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب رقاق عتاق بعدما كف بصرُها . قال : فلمستها بيدها ، ثم قالت : أف ! ردوا عليه كسوته . قال : فشق ذلك عليه ، وقال : يا أمه إنه لا يشف . قالت : إنها إن لم تشف ، فإنها تصف ، فاشترى لها ثيابا مروية فقَبِلَتْها . رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى .
قال أسامة بن زيد كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها فكسوتها امرأتي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك لم تلبس القبطية ؟ قلت : يا رسول الله كسوتها امرأتي ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : مُرها فلتجعل تحتها غلالة فإنى أخاف أن تصف حجم عظامها . رواه الإمام أحمد وغيره ، وروى نحوه أبو داود عن دحية الكلبي رضي الله عنه
ولذا كان عمر رضي الله عنه يقول : لا تلبسوا نساءكم القباطي ، فإنه إن لا يشف يصف .
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه . قالت أم سلمة : يا رسول الله فكيف تصنع النساء بذيولهن ؟ قال : يُرخينه شبرا . قالت : إذا تنكشف أقدامهن . قال : يُرخينه ذراعا لا يَزدن عليه . رواه أحمد وغيره .
وهذا يدلّ على شدّة حرص أمهات المؤمنين والصحابيات على ستر أقدامهن ، مع أن القدم ليس موضع زينة ، بخلاف الساق فهو موضع زينة في السابق ، حيث كانت تُلبس فيه الخلاخيل .(3/169)
ولذا قال الله : ( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [النور:31] .
فكم من عباءة اليوم تحتاج إلى عباءةٍ ! كما قيل .
في كتاب مراوغات الحجاب : فأصبح أكبرُ همِّ المرأة المسلمة لباسا عاريا تلبسه ، ونزلت إلى الميدان بأقذر أسلحتها ، أسلحةِ الأغراء ، وتعلمت المرأة المسلمة فنون الأغراء ، وذلك عبر الأفلام العارية ، والقصةِ العارية ، والصورةِ العارية . ووجدت المرأة المسلمة محرَّرين ومحرَّرات ممن يتكلم بلسانها ومن بني جلدتها يشرحون لها كيف تكون جذابةً "مغرية" . إغراءً في البيت وفي الشارع ، إغراءً في اللفظ والحركة ، إغراءً في الملبس والزينة ، إغراءً في المشية والجلسة والنظرة . انتهى .
وتجرأت بعض النساء فلبسن لِبْسة الرجال ، فوضعن العباءة على الكتف ، متناسياتٍ قوله صلى الله عليه وسلم : لعن رسول الله الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل .
ولعن رسول الله الرَّجُلَة من النساء . رواهما أبو داود وغيره ، وصححهما الألباني .
ولا بد من التذكير بمعنى اللعن فهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
وكلُّ تلك الأفعال هربا من أن يُقال لها : قروية أو قديمة ونحوها من الكلمات .
فلله كم هدمت تلك الكلمات من حياء ، وكم هتكت من عفة ، وكم جَنَت على شرف .
يقول الأستاذ محمد قطب : حدث منظر على الشاطئ قبل سنوات ، فتاة كان بها بقية ضئيلة من الحياء ، حياء الأنثى الطبيعي الفطري ، هذه المرأة لبست "المايوه" وجلست على الرمال حول الشاطئ ليلتقط المصور لها صورة ، فما الذي حدث ؟
جلست بهذه البقية الضئيلة من الحياء مضمومة الرجلين ، فقام المصور يفسح ما بين رجليها ليلتقط لها صورة تقدُّمية ، ولكنها راحت في حياء ضئيل - تتأبى عليه- عندئذ قال لها بلهجةٍ ذاتِ معنى : "الله ! هوه أنت فلاحة ولا إيه ؟!! ".(3/170)
وفي الحال دبت هذه الكلمة في صدرها فنخرت ما بقي من الحياء وجلست منفرجة الرجلين في طلاقة همجية ، لتُلتقط لها الصورة . انتهى .
بل وتجرأت بعضُ النساء فأخذت تُرضع صبيّها في السوق أمام الرائح والغادي ، والويل كل الويل لمن أنكر عليها . فإن تركت ولدها مات جوعاً ؟! وإن تركت التسوّق ماتت همّاً وغمّاً وكمدا !
ومن ويلات خروج المرأة إلى الأسواق أنْ تركت أولادها عند خادمتها التي ربما كانت كافرةً مُشركة أو تركتهم عند القنوات الفضائية يتلقّفون سمومَها .
هل نسيت المرأة أن هذا الخروج ربما يكون آخرَ خروجٍ لها للسوق .
كما قال ابن عباس : إن الرجل ليمشي في الأسواق ، وإن اسمه لفي الموتى .
كم من امرأة خرجت تمشي برجليها وعادت محمولة ؟
وقبل مدة وجيزة حدثونا عن امرأة خرجت بكامل زينتها وبجميع وسائل الإغراء ، خرجت إلى أحد المُجمّعات والأسواق الكبيرة المشهورة ، فلما أُنكِر عليها تلفظت بألفاظ قبيحة تجرأت فيها على ربِّ العزة جل جلاله فلم تُجاوز السوق فسقطت ممددة ونُقلت على الفور إلى إحدى المستشفيات .
فهل تُريد المسلمة أن يُختم لها وهي بالسوق على تلك الحال ، أوْ وهيَ على ذلك الوضع المُزري ، والحالة المَشينة ؟
إذاً فلتتقِ الله ولتعلم أن من أحب شيئا أكثر منه ، ومن أكثر من شيء مات عليه .
ومِن فِتن التسوّق ذلك النقاب الذي توسّعت فيه النساء ، فأصبحن يتجملن به .
وقد تبدل حال النقاب ، حتى أصبح نقاب فتنة وشهرة ، وقد ورد الوعيد الشديد على من لبس لباس شهرة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوبا مذلّه ، ثم تلهب فيه النار . رواه أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .(3/171)
وقد قالت عائشة رضي الله عنها في توسّع النساء في زمانها في مسألة الخروج للعبادة ، الخروج للمساجد وبيوت الله : لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل . قال يحيى بن سعيد : فقلت لعمرة : أنساء بني إسرائيل منعهن المسجد ؟ قالت : نعم . رواه البخاري ومسلم .
وإنما مُنعت نساء بني إسرائيل من المساجد لما أحدثن وتوسعن في الأمر من الزينة والطيبِ وحسنِ الثياب . ذكره النووي في شرح مسلم .
قال ابن المبارك أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين ، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطهارها ولا تتزين ، فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها من ذلك .
ومثله النقاب ، وإنما منعه من منعه من العلماء لتوسع النساء فيه توسعاً غير محمود .
قال ابن حجر في موضوع آخر مشابه : وفائدة نهيهن – أي النساء – عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه فيُفضي بهن إلى الأمر المحرم لضعف صبرهن ، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرم . اهـ .
وما يترتّب على ذلك النقاب أو اللثام من عدم غض البصر من قبل المرأة ، بل وتتجرأ في النظر إلى الرجال الأجانب وكأنها لم تؤمر بغضِّ بصرها .
وقد اعترفت امرأة وقعت في الفاحشة بأنه لم يجرها إليها سوى النقاب .
ووالله إن الرجل ليُغضي حياءً من نظرات بعض النساء من خلف النقاب .
وقد جعل الله غض البصر سببا لحفظ الفروج .
فتذكري أختي المسلمة : أنه أيما شاب كنت سببا في فتنته فلتحملي وزره إلى وزرك .
وأيما امرأة أغريتيها بذلك اللباس أو بذلك العمل أو كنت سببا في تجرِأتها عليه فإنك ستحملين مثلَ وُزرِها .
ألا تعلمين أن للعيون حديث جميل ، وقول رقيق ، وكلام لطيف ؟ كما قيل :
والنفس تعرف من عينيّ محدّثها إن كان من حزبها أو من أعاديها !!
بل هن أمضى من السهام وأفتك من السِّحر(3/172)
جَعَلَتْ علاماتِ المودةِ بيننا مصائدَ لحظٍ هنّ أخفى من السّحر
فأعرف منها الوصل في لين طرفها وأعرف منها الهجر في النظر الشزر
وسهام اللحظ ربما فتكت في القلب أشد من فتك السلاح
ولذا قيل :
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
وقيل :
عيناه تسطو على فؤادي والموت في سطوة العيون
قال ابن القيم - رحمه الله - :
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعثَ الطرفِ يرتاد الشفاء له تَوَقَّهُ إنه يرتدُّ بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرضٌ فهل سمعت ببرءٍ جاء من عطب
ومُفْنِياً نفسه في إثرِ أقبحهم وصفا للطخ (1) جمال فيه مستلب
وواهبا عمره في مثل ذا سفها لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ما له خطر بطيف عيش من الآلام منتَهَب
غُبِنت والله غبنا فاحشا فلو اسـ ترجعت ذا العقد لم تُغبن ولم تَخِبِ
وواردا صفو عيش كلّه كدر أمامك الورد صفوا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا لكل داهية تدنو من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب وضاع وقتُك بين اللهو واللعب
قال - رحمه الله - : والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء . اهـ .
فاتقي الله أمة الله وتمسكي بحجاب يُقرّبك إلى الله
لا بحجاب يُباعدك من الله ويُقرّبك من النار .
أجارك الله من النار أخيّتي .
وحماك من دعاة السوء والرذيلة .
وتذكّري أن التبرج من علامات النفاق . قال صلى الله عليه وسلم : وشرُّ نسائكم المتبرجات المتخيلات ، وهن المنافقات لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم . رواه البيهقي .
وها قد وصلت المرأة إلى السوق بكامل زينتها تفوح منها روائح العطور الصارخة تُنادي على نفسها أنني ها هنا فهلمّوا !
إذا أرادت أن تركب السيارة أو تنزل منها هزّت أكتافها فيتقدّم السائق ليأخذ شنطَتَها التي كانت تُبدي شيئاً من مفاتنها بطريقة وضعها .(3/173)
عن يمينها السائق وعن شمالها الخادمة ، وبيمينها الجوال ذو الألوان الزاهية والنغمات الجذّابة ، وربما جرّت خلفها أطفالاً صغاراً لا ذنب لهم سوى أن أمهم تُحب الفتن !
فهذه المرأة قد نادت على نفسها في سوق الغزل وقِلّةِ الحياء ، نادت عليها عباءتُها الضيقة ، ونقابُها الواسع ، وأطيابُها العطرة ، فهي فتّانةٌ .. فتّانةٌ .. فتّانة !
تدخل إلى السوق تمشي مِشية الطاووس متبرجة متبخترة .
ألا تذكر تلك المرأة قوله صلى الله عليه وسلم : بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه إذ خَسَفَ الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . متفق عليه .
تلك الفاتنة ليست واحدة أو فريدة من نوعها بل هُنّ كُثُر هداهن الله .
وعندما تدخل محِلاً فإنها تقف أمام البائع كأنما وقفت أمام زوجَها ، تنظر إليه وينظر إليها .
تُحادثه ويُحادثها ، وربما تُمازِحه ويُمازِحها ، والأدهى من ذلك أنه ربما ألبسها ليعرف المقاس ، وليس هذا ضربا من الخيال بل الواقع أمر منه .
في أحد المحلات سمعت بأذني فتاةً تقول للبائع وهي تماكسه : الله يخلّيك نزّل في السعر فلما لم يوافق قالت : يا حُبي لك نزّل لي .
عجيب !! تتنازل عن كرامتِها وتتخلى عن أنوثتها مقابل خمسة أو عشرة ريالات .
وقد حدثني أحد الباعة في بعض أسواق الذهب يقول : أصابتني ردّة فعل من النساء فلا أثق في امرأة أن تكون زوجة لي لكثرة ما أراه من النساء ، وأهل مكة أدرى بشعابها !
إحداهن تُخرج صدرها لتُري البائع القلب الذي تُريد أن تبيعه ، وما علمت أنها ربما اشترت قلبَ البائعِ نفسه !
ترى العشرات يبحثن عن كلِّ جديد . يسألن عن الموضة . يَزرن أغلب الأسواق .
يجرين هنا وهناك . لا بحثاً عن مصلّى بل ركضاً وراء المسابقات ، وجرياً خلف التخفيضات ، ويلهثن خلف الجوائز ، وإن طارت العباءات ! وإن ذهب الحياء ! المهم أن تفوز ! بل دأبت بعضُ الأسواق على تخصيص النساء بالمسابقات والجوائز .(3/174)
ومع ذهاب الحياء ذهب الدين .
قال عيه الصلاة والسلام : الحياء والإيمان قُرِنا جميعا ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر . رواه الحاكم وصححه .
حتى إن الرجل إذا مشى على الرصيف وقابلته امرأة يُضطر إلى أن يبتعد ويتنحّى عن الطريق حتى لا تُضايقه المرأة .
أين هذا من واقع نساء السلف ؟
روى أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : استأخرن فأنه ليس لكن أن تحققن الطريق ، عليكن بحافات الطريق ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به . والحديث صححه الألباني .
بل أين هذا من واقع نساءِنا قبل عشرين سنة ، كانت إحداهن إذا قابلها الرجل التصقت بالجدار ، فيُرى أثرُ الجدار في عباءتها .
كم من امرأة خرجت بزينتها وزوجها آخر من يعلم !
وكم تاهت من فتاة وضاعت من عذراء وأبوها ألهاه الصفقُ في الأسواق ، وانشغل في دنيا الأوراق ، وأوكل الأمر إلى السوّاق .
خَرَجَتْ وأبوها في شُغُلٍ يجري في دنيا الأوراق
قد أوكَلَ أمرَ بُنيّته ورماه بِكَفِّ السّواقِ
خَرَجَتْ للسوق مُعطّرةً تتكسّر في خطو السّاقِ
كم تُحدق في عينيّ رجلٍ يُغضي مِن ذاك الإحداقِ
خَجِلَتْ عيناه وما خَجِلَتْ عيناها بنتُ الأعراقِ
هذا ما تَكشِف سوءتَه بالغفلة ساحُ الأسواقِ
بنتُ الإسلام ووا أسفي تجترّ سمومَ الأطباقِ
تنساقُ وراءَ حضارتهم وتُحاكي نهجَ الفسّاق
يُهدي الإسلام لها بَصَراً وتُقلّد عُميَ الأحداقِ
تُصغي بصفاء براءتِها عبثاً لنعيقِ الأبواقِ
خُلُقُ الإسلام يُهذّبُها فَتَحِنُّ لسوء الأخلاقِ
يا بنت الإسلامِ استمعي نغماً أشْدوه بإشفاقِ
صُوني بحيائكِ مملكةً مِن شهْدِ جمالٍ دفّاقِ
الدُّرّة أنتِ فلا تَدَعِي كَفّاً تمسَسْك بلا واقِ
كم خانَ الحُسُنُ من امرأةٍ تتجرّعُ كاسَ الحُرّاقِ(3/175)
كوني بالحشمة شامخةً بجمالكِ فوق الأعناقِ
يا نورَ الليلِ وبهجتَه يا بسمةَ ثغرِ المشتاقِ
ما طاب الحُسن من امرأة ترميه بِوَحْلِ الأسواقِ
بل حُسنُ المرأةِ حشمتُها يكسوه جمالُ الأخلاقِ
ومن النساء من تخرج للسوق لإزجاء الوقت والتسلية .
ومنهن من تخرج للسوق دون غايةٍ أو هدف ، فتقول بعض النساء نريد زيارة السوق ولما تُسأل : لماذا ؟ وماذا تُريدين ؟ تقول : إن لقينا شيء زين اشتريناه !
فالخروج أصلاً لم يكن لهدف .
ومنهن من تخرج وتُخْرِج معها أهلَ بيتها ، حتى تُرى المرأةُ الكبيرةُ في السن والتي بلغت من الكِبر عِتيّا تُجَرُّ في الأسواق دون ذنب أو جناية !
هل تذكّرت تلك النسوة أنهنّ مسئولات عن أعمارِهنّ .
فلن تزول قدما عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه
فهذه الأوقات التي تُهدر هي عمر الإنسان ، فمن رامَ قتل الفراغ فقد رام قتلَ نفسه
وقد ذَكَرْتُ أن من أساب كثرة ارتياد الأسواق وجودَ الخدم في البيوت .
فلو كانت المرأة تُعنى ببيتها وأولادِها لما وجدت أوقات فراغٍ تقضيها في الأسواق والحدائق والمطاعم التي انتشرت في الأسواق .
ومن النساء من أدمنت خروج السوق فلا يُمكن بعد ذلك أن تستغني عن السائق أو الخادمة ، فلا تَتَصوّر هي أن تعيش بدون هذين ، ولو افتقرت لاستطاعت العيش ولاقْتَصَرت على ضروريات الحياة .
وكانت السؤال في أوساط النساء : هل عندك خادمة ؟ فأصبح السؤال مع تزايد الترف وكثرة المال : كم عندك من خادمة ؟
ووجود الخادمة في البيت له تبعاته من إهمال التربية والبيت والزوج .
وكثرة الخروج فتُصبح المرأةُ خرّاجةً ولاّجة ، لا همّ لها سوى شهوات البطن واللباس ، ومن كانت كذلك فهي لا تصلحُ أُمّاً ولا تُحسنُ التربية .
وكُنت قرأت قبل فترة بعض الإحصائيات عن مرضٍ نفسي تفشى في أوساط الكفّار وكنت أظنه حِكراً عليهم ، وإذا بي أسمع به في أوساط نساء المسلمين .(3/176)
ذلكم المرض هو ما عُرِف بـ ( إدمان التسوّق )
فتشير بعض الأرقام إلى وجود ثمانمائة ألف مدمن تسوّق بشكل مرعب في بريطانيا
بينما العدد تضاعف في أمريكا فيوجد ثلاثة ملايين ونصف المليون مدمن تسوّق .
و مدمنو التسوق بعضهم أفلس وباع كل ما عنده ، فانتشرت عيادات مكافحة الإدمان
تقول إحدى الأخوات إنها تعرِف فتاة تربّت في عائلة مُحافظة وكانت أمُها هي التي تقضي حوائج البنات ، فتذهب للسوق ما يُقارب ست إلى ثمان مرّات في السنة ، تقول : المصيبة وقعت بعد زواجها من زوج كانت أمُّه مُدمنةَ أسواق ، ولم تكتفِ بذلك بل كانت تطلب من زوجة ابنها أن تلبس العباءة الفرنسية وترتدي الضيّق من الملابس وأخذ الزينة الكاملة عند الخروج ، تقول عن أمّ زوجها : إنها مُدمنة تسوّق بغرض توسيع الصدر لأنها يضيقُ صدرها باستمرار ... إلى أن قالت : المشكلة أنها ترتاد السوق في رمضان بشكل شبهَ يومي من أجل الجوائز . ضاع ليلُ رمضان بين السوق والسائق .
وأشدّ ما تكون فتنُ الأسواق في العشر الأواخر من رمضان ، في تلك العشر التي هي أفضل ليالي الشهر بل أفضل ليالي العام فتضيع تلك المواسم بين السوق والمطبخ .
وتتدافع النساء في تلك الأيام على شراء ملابسِ العيد . أفلا كان قبل ذلك ؟
ومن أسباب فتن الأسواق : كثرة الأموال في أيدي الناس رجالاً ونساءً .
فالمرأة العاملة لا بُدّ أن تُنهي المرتّب قبل أن يأتي آخر الشهر ، وآخر ما يخطر ببالها أن هناك أناسٌ جياع وفقراء ومحاويج ، ربما كان الإحسان إليهم سببا في سعادتها في الدنيا والآخرة .
وأسرف بعض الناس في تبديد ماله وجعل المال في أيدي النساء ، وقد قال الله تبارك وتعالى : ( ولا تؤتوا السفهاءَ أموالَكم التي جعل الله لكم قياما ) ولو طُلب منه أن يتصدّق أو يُنفق في سبيل الله لاعتذر بكثرة الواجبات والالتزامات ونحو ذلك .(3/177)
وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة العاملة ، ففي إحدى المدارس تبرّعت المُدرِّسات لبناء مسجد يشتركن فيه فتوقّف بناء المسجد بعد ذلك برغم أن من تكفلن به كلُّهن من المُدرِّسات . بخلٌ في الخير ، وإسراف في الشرّ !
وإذا طُلب من هؤلاء التسوّق خرجت المئات بل الآلاف ، وعند التبرع أو الدعم لمشروع خيري تتأخر العشرة ويتقدّم الريال بكل فخر ! بل ربما تأخر وتباطأ !
وسوف يُسأل العبدُ يومَ القيامة عن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟
والمال لله كم عِشنا نثمِّرُه لا خير في المال ضاعت عنده القيمُ
تقول مُعلِّمة عن زميلتِها : كانت تقوم بالتدريس معنا فتاة تلبس النادر من الثياب والحُليّ ... تقول : وحاولت مُجاراتِها على حساب بيتي وزوجي وأولادي ... إلى أن قالت : وقدّر الله أن تموت تلك المُدرِّسة في حادث وتأسفنا عليها وبعد ثلاثة أشهر اكتشفنا أنها غارقة في الديون وأن أهلَها يستجدون أهلَ الخير لسداد الديون ، تقول : فقلت : لا للترف والمظاهر .
إسراف وتبذير وحبٌّ للمظاهر .
في أحد محلات بيع العطور تم تكريم بائع لأنه باع على إحداهن ما قيمته خمسة عشر ألف ريال مرة واحدة .
وامرأة اشترت من محِلاًّ يبيع صابون الجسم اشترت منه بأكثر من عشرين ألف ريال
وإليكم بعض الأرقام التي تدلّ على كثرة استهلاك مواد التجميل والعطور ، وهي بلا شك تدلّ على زيادة الترف الذي يُخشى معه من العقوبة التي لا تتخلّف عن المترفين .
وهذه الإحصائيات قبل ست سنوات :
تم استهلاك 538 طُنّاً من أحمر الشفاه .
43 طُنّاً من طلاء الأظافر .
41 طُنّاً من مُزيلات الطلاء .
232 طُنّاً من مسحوق تجميل العيون .
445 طُنّاً من مواد صبغة الشعر
كما تم إنفاق 1200 – 1500 مليون ريال على العطور .
وعُرِف ذلك عن طريق الجمارك والاستيراد بالكميات وما تضخّه المؤسسات والشركات في الأسواق .
وبعد ذلك بسنتين جاءت الإحصائيات التالية لدول الخليج :
ثلاثة مليارات ريال أنفقت على العطورات .(3/178)
خمسة عشر مليون ريال على صبغات الشعر .
ستمائة طُن من أحمر الشفاه .
خمسون طُنّاً من طلاء الأظافر .
أنسي هؤلاء أن المالَ مالُ الله ؟
قال سبحانه : ( وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) [النور:33]
وقال جل جلاله : ( وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) [الحديد:7]
وقال عليه الصلاة والسلام : إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن اللهَ مستخلفُكم فيها ، فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أولَ فتنةِ بنى إسرائيل كانت في النساء . رواه مسلم .
ومن فتن الأسواق ومنكراتِها :
تعويد الأطفال على الأسواق خاصة البنات ، والتساهل في لباسهن ، بحجة أنهنّ صغيرات ، فيُلبسن الضيق والعاري أحيانا ، وأحيانا يُتّخذن زينة !
ومِن مُنكرات الأسواق :
الاستهزاء والسخرية بمن يرتاد الأسواق ، فهذه طويلة وتلك قصيرة ، وأخرى يُستهزأ في لباسها ، ورابعةٌ في مِشيتِها ، وهكذا ، وقد قال الله : ( لا يسخر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن ) .
ومنها أيضا : تأخير الصلوات عن أوقاتها إلى أن تعود للبيت متى ما رَجَعَت .
ومن ذلك التساهل في خلع الملابس في محلات الملابس لمعرفة المقاسات ، في تلك الغُرف التي وُضِعت لذلك الغرض ، وفي هذا عِدةُ محاذير :
أولاً : هتك الأستار في تلك الأسواق ، وقد دَخَلَ نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت : لعلكن من الكُورَة التي تدخل نساؤها الحمّام ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها ، فقد هتكت سترها فيما بينها وبين الله عز وجل . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .(3/179)
ومثله النوادي النسائية التي يُنادي بها أشباه الرجال ، ومحلات الكوافيرات والمشاغل ونحوها ، وقد بلغني أنه بلغ من تهاون بعض النساء أنهن يظهرن عوراتِهنّ أمام النساء وذلك من أجل نزع الشعر ، وهذا أمرٌ محرّم لا يجوز – أعني إبداء العورات – .
ثانياً : أن بعضَ المحلات يستغلّها ضعافُ النفوس بوضع مرايا عاكسة بحيث يُرى من وراءها ، ومن ثمّ يقوم بعضهم بالتصوير من حيث لا تشعر المرأة .
ثالثاً : أن من النساء من يخلعن ملابسهنّ في مُصلّيات الأسواق ، ثم يُخلِّفن الأوراق وأغلفة الملابس داخل المُصلّيات .
ومن المحاذر في الأسواق النسائية لُبس الضيق والشفاف أمام النساء .
ومنهن من تخرج بلباس ساتر فإذا وصلَت إلى السوق وغابت عن الرقيب غيّرت ملابسها ولبست الضيق والقصير والشفاف بحجة أن ذلك بين النساء .
فكم من امرأة أُصيبت بالعين أو المسّ نتيجة ذلك التهاون .
ومن مخاتلات بعض الفتيات أنهن اتخذن الأسواق للقاء الأخدان .
فتُصرّ بعضُ الفتيات على الذهاب إلى سوقٍ مُعيّن .
ثم تُصرّ بعد ذلك على أن تعود لنفس السوق لإعادة سلعة أو شراء ما أعجبها من محلٍِّ بعينه ، وربما ضربت المواعيد ، وربما أغراها بعض السفهاء من الباعة أو المتسكعين .
وبهذه المناسبة أُذكّر أصحاب المحلات في أن يتقوا الله في نساء المسلمين ، فيحرص بعض أصحاب المحلات على أن يكون البائع جميلاً وسيما يجذب النساء ، وليعلم أنه يتأكّل بأعراض المسلمين .
ومن الأسباب التي تُعين على فِتن الأسواق : إتّباع هوى النفوس وإتْباع النساء رغباتِهنّ .
وربما يُسارع الرجل في ذلك طلبا لرضا زوجته أو بناته ، ونسيَ أن مَنْ يَطلب رضاها اليوم ربما تأتي تُخاصمُه يوم القيامة .
تقول : يارب سَلْ هذا لِمَ فرّط في حق القِوامة .
أو تقول : سلْهُ يارب لم ضيّعني .
أنسيت – رعاك الله – قوله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يُحِطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة . متفق عليه .(3/180)
أم تناسيت قولَ ربّك : ( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) .
فاحذر أن تكون الزوجة أو البنت هي من تُخاصِمُك يوم القيامة .
واحذر أن تكون تطلب رضاها في الدنيا وهي تطلب هلاكَك في الآخرة .
ولعلي أستعرض بعض طرق العلاج لتلك الفتن التي تعج بها الأسواق .
فمن طُرق العلاج :
ردع النفس فما كل ما تُريد تشتري .
قال عمر رضي الله عنه : كلما اشتهيتَ شيئا اشتريته ؟ لا تكون من أهل هذه الآية : ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ) .
وسَوقُ النفس بسوط الخوف من الله ، والحذر من العقوبة نتيجة الإسراف والترف .
ومن طُرق العلاج ما فعلته تلك المرأة العاقلة التي لاحظت أنها تشتري ما لا تحتاج ، فإذا رجعت إلى بيتها وقلّبت أغراضها وما اشترته ندِمت على ما فعلت ، فهذا لا حاجة له وذاك يُمكن الاستغناء عنه ، وتلك الأشياء لا تلزمني ، وهكذا .. فلما رأت ذلك نذرت أنها إذا اشترت شيئاً أن تتصدّق بمثل قيمته ، فَحَدَّ ذلك من رغبة الشراء وحب التملك .
وهذه طريقةٌ مَرعية .
قال ابن وهب : نذرت أني كلما اغتبتُ إنسانا أن أصومَ يوما ، فأجهدني ، فكنت اغتابُ وأصوم ، فنويت أني كلما أغتبت إنسانا أن أتصدقَ بدرهم ، فمِن حُبِّ الدراهم تركت الغيبة .
وقد ذَكَرَتْ بعضُ الأخوات أن المرأة لو امتلكت السوق في بيتها فإنها تريد سوقاً آخر ، فلا يردعها مثلُ هذا الحزم .
ولله كم تشتكي خزائن الملابس ، وكم تئن الحقائب التي مُلئت بلباس صيف ، وأخرى بلباس شتاء ، وثالثة بألبسة الزيارات ، ورابعةٌ بألبسة السهرة ، وهكذا ...
في حين يموت من يموت من المسلمين جوعا وعُريا ومسغبة .
ومن طُرقِ العلاج :
الحزم من قِبلِ أولياء الأمور ، وعدم التهاون مع المرأة خاصة في اللباس والخلوة المحرمة ، سواء مع السائق أو مع البائع .
وعدم السماح بلبس الضيق والقصير والمُشقق في الثياب والعباءات .(3/181)
فإنك موقوف بين يدي الله ومُحاسبٌ ومسئول .
ومن ذلك أيضا :
إشغال النفس بالطاعة ، فإنك إن لم تشغل نفسك بالطاعة شغلتك بالمعصية .
وأن تتذكر الفتاة أن الحجاب عبادة وطاعة وقربة ، فكما تتقرّب على الله وتتعبّد بالصلاة والصيام وغيرها من الطاعات فالحجاب عبادة وليس عادة .
الحجاب عبادة أمر بها الله عز وجل ، وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن طُرقِ العلاج :
أن تُوكل عملية الشراء للأمّ أو البنت الكبيرة ، وتتولّى عملية الشراء مرة واحدة ، وتخرج بصحبة محرم أو امرأة عاقلة .
كذلك :
ترشيد عملية الشراء ، سواءً فيما يُعطى للزوجة والبنات من أموال ، أو فيما يشترينه
ويتبع ذلك أن يُحدد الهدف والوِجهه .
فنريد سوق كذا لكذا وكذا .
كذلك يتم تدوين الطلبات بورقة وترتيب الأفكار حتى يتم توفير الجهد والوقت .
ومنها :
أن يُستغنى عن السائق ما أمكن ولو غضبت النساء لأول وهلة فسُرعان ما يرضخن ويتعوّدن على عدم وجود سائق ، ولنفترض أن السائق مات أو مُنعَ الاستقدام .
ولكي يُسَدّ ذلك الفراغ الذي يتركه السائق لا بُدّ أن يقوم الرجال بما أوجب الله عليهم من حق القِوامة ، والقيام بخدمة الأهل ، وقضاء حوائجهم فهذا عبادة .
فلسنا أفضل ولا أشرف من سيّدِ ولدِ آدم عليه الصلاة والسلام .
قالت عائشةُ رضي الله عنها تصفُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : كان يكون في مهنةِ أهله - تعني في خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة . رواه البخاري .
وأن يُخصص يومٌ في الأسبوع للشراء أو يوم في كل أسبوعين أو حتى في الشهر .
بحيث تخرج المرأة مع ذي محرم لها يُفرّغ نفسه لها ذلك اليوم وتقضي كلَّ ما تُريد .
وحدّثني بعض الصالحين أنه خصص لأهله يوم الخميس ، ويُفرّغ نفسه لهم ذلك اليوم لقضاء ما يُريدون وشراء ما يحتاجون ، فيخرج صباح ذلك اليوم ويقضي لهم ما يُريدون دون تَعرّضٍ للفتن .(3/182)
وبهذا تُحفظ الأوقات والأموال والجهود ، وتُحاول الأُسرة قضاء الأوقات فيما ينفع لا في أوكار الشياطين ومبيضها ومفرخِها .
وليس العيب أن يصحب الرجل أهله يقضي لهم ما يُريدون ، ولكن العيب أن تترك النساء مع السائق يجوبُ بهن الأسواق ، ويخلو بهن ، ويذهب بهن حيث شئن .
ومن أهل الفضل والصلاح من يترك الخروج للأسواق خشية الفتنة ولكنه يُعرّض أهله لها .
وقد كان عبدالله بن عمر يخرج إلى السوق فيشتري ، وكان سالم بن عبد الله دهرَه يشتري في الأسواق ، وكان من أفضل أهل زمانه ، فقيل لمالك : أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق ، فيشتري حوائجه فيُحابى بفضله ؟ فقال : لا ؛ وما بأس بذلك ، قد كان سالم يفعل ذلك .
تقول إحدى الأخوات : فكم من رجلٍ يظهر عليه التُّقى وأهلُه يخرجون للأسواق يتمنّون لو رافقهم أو كفاهم شراء مستلزمات المنزل .
واحذر – رعاك الله – أن تكون ممن وصفهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله : سيكون في آخر أمتي رجالٌ يركبون على السروج كأشباه الرجال . ينزلون على أبواب المساجد . نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف . اِلْعَنُوهنّ فإنهن ملعونات . رواه الإمامُ احمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
وهذا دليل على أنهم من أهل الخير والصلاح ، إذ اشتغلوا بالعبادة ، ولكنّهم فرّطوا في أمرِ نسائِهم ، فأصبحن كاسياتٍ عارياتٍ ، وربما هم آخر من يعلم .
وهذا يُشاهد في أطهر البقاع . حيث يشتغل بعضُ الناس بالصلاة في الحرم أو بالاعتكاف ويترك نسائه من سوق إلى سوق ، ولو حرص عليهنّ لكان أولى من اعتكافه .
ومن طرق العلاج كذلك :
الاستغناء عن الخادمة ما أمكن فكم أفسدن من بيوت بالسحر والكهانة ونحوها ؟
وكم تركن من آثار سيئة بِبثِّ ما يعتقدنه من شرك وخُرافة ؟
وكم فسد بسببهن من أخلاق الشباب والفتيات .
فالشاب الذي يتوقّد شباباً ويتفجّر حيوية يجد أمامه الإغراء ، والفتاة تفرّغت للهاتف والقنوات .(3/183)
فالاستغناء عن الخادمات مطلبٌ مُلِحّ من مطالب التربية الجادّة ، عدا أصحاب الظروف الخاصة .
وأخيراً إليك أختي المسلمة :
أنتِ يا أمل الأمة ، ويا ذُخرها ، ويا حاميةَ العرين ، ويا مُربيّة الأجيال ، ويا سليلة المجد .
أنتِ للمجدِ والمجدُ لكِ .
أنت للإسلام حصنٌ حصين ، وإذا شئتِ فأنتِ فِتنةٌ مُتحركة .
فاختاري لنفسك ، فأنتِ اليوم صاحبةُ القرار .
أختاه دونكِ حاجزٌ وسِتارُ ولديكِ مِن صِدقِ اليقينِ شِعارُ
عودي إلى الرحمن عوداً صادقاً فَبِهِ يزولُ الشرُّ والأشرار
أختاه : هلا تذكرتي سوقَ الجنة ؟ فتتركي من أجله أسواق الدنيا إلا لحاجة ماسّة .
وختاماً :
أزجي الشكر الجزيل لصاحب فكرة هذه المحاضرة لإمامِ هذا المسجد .
وأُثنّي بالشكر للأخوات اللواتي كتبن عما يرينه ويعلمنه من منكرات وفتن الأسواق
فمن لا يشكر الله لا يشكر الناس . سائلاً الله أن يجزي الجميع خير الجزاء .
وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهن ، وأن يجعلهن هاديات مهديات وسائرَ نساءِ المسلمين .
وأن يوفق أولياء الأمور للأخذ على أيدي نسائهم ، وأن يأطروهن على الحق أطرا .
320-( طريق الهداية : المراتب- الأسباب- الموانع )
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )(3/184)
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن المسلم يقف بين يدي ربّه في كل يوم وليلة يسأل ربه مسألةً عظيمة ، ونعم المسألة هي.
والمسلم أحوجُ ما يكون إلى هذه المسألة ، فهو أحوجُ إليها من حاجته إلى الطعام والشراب ، وهو مُحتاجٌ لها مع كلّ نفس .
هذه المسألة هي سؤالُ هدايةِ الصراط المستقيم .
(اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )
والذين أنعم اله عليهم هم أهلُ طاعةِ الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، قال سبحانه وتعالى :
(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا )
فما هي الهداية ؟
الهداية : دِلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب . وقيل : سلوك طريق يوصل إلى المطلوب .
وعرّفها ابن القيم بقوله : هي معرفة الحق والعملُ به .
فَعُلِمَ من هذا أن الهداية تُستطاع بفعل الأسباب بعد توفيق الله ، ولذا قال سبحانه :
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )
وقال عز وجل : ( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا )
وقال جل جلاله : ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى )
وقال سبحانه وبحمده : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ )(3/185)
قال ابن القيّم : فعل الرب تعالى هو الهدى ، وفعل العبد هو الاهتداء ، وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي والعبد المهتدي . قال تعالى : ( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي )
وقال – رحمه الله – : (الفوائد 166 -171 ) : تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سببَ الهداية والإضلال . اهـ .
ولا بُدّ من فعل الأسباب والمجاهدة في الله حتى تحصل الهداية التامة ، لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )
قال ابن القيم ( الفوائد 87 ) : علّق سبحانه الهداية بالجهاد ، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً .... أي في ذات الله ، كما في الآية السابقة .
ولا يُتصوّر أن ملكاً من الملائكة سوف يأخذ بيد العبد للهداية ، فيأخذ بيده إلى المسجد أو يأخذ بيده ويُساعده على إخراج منكرات بيته أو محلِّه ، بل لا بُدّ أن تُبذل الأسباب أولاً ثم يسأل العبدُ ربَّه التوفيق .
ولذا كان الأنبياء والرسل يبذلون الأسباب المستطاعة ثم يسألون ربّهم التوفيق والإعانة .
وقد قسّم ابن رجب الناس إلى ثلاثة أقسام ، فقال : الأقسام ثلاثة : راشد ، وغاو ، وضال ؛ فالراشد عرف الحق واتبعه ، والغاوي عرفه ولم يتبعه ، والضال لم يعرفه بالكلية ؛ فكلُّ راشدٍ هو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامة فهو راشد ؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا . اهـ .
وقال رحمه الله : وإنما وَصَفَ – يعني النيّ صلى الله عليه وسلم - الخلفاءَ بالراشدين – في الحديث - ؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به ، والراشد ضد الغاوي ، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه . اهـ
وقد وصَف الله أتباع إبليس بأنهم من الغاوين ، فقال : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )(3/186)
ووصَف الله الذي أوتيَ الآيات فردّها بأنه من الغاوين ، فقال : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
وفَرْقٌ بين الغواية والضلالة .
ولذا لما قال فرعون لموسى : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
ردّ عليه موسى بقوله : ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ )
أي قبل النبوة وقبل مجيء الرسالة .
وقد امتنّ اللهُ تبارك وتعالى على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة العظيمة ، والمِنّةِ الجسيمة فقال : ( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى )
وهذا يُفسِّرُه قولُه سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
فدلّ هذا على أن الهداية نعمة لا تحصل بتمامها إلا بفعل الأسباب .
وقد قال تبارك وتعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )(3/187)
قال بعض العلماء في تفسير الآية : أي أنه لا يهديهم ؛ لأن القوم عرفوا الحق وشهدوا به وتيقّنوه وكفروا عمداً ، فمن أين تأتيهم الهداية ؟ فإن الذي تُرتجى هدايته من كان ضالا ولا يدرى أنه ضال ، بل يظن أنه على هدى فإذا عرف الهدى اهتدى ، وأما من عرف الحق وتيقنه وشهد به قلبه ثم اختار الكفر والضلال عليه فكيف يهدي اللهُ مثل هذا ؟
وقبل الدخول في الأسباب نتطرق إلى مراتب الهداية .
وقد قسّمها ابن القيم رحمه الله إلى أربع مراتب :
المرتبة الأولى :
الهداية العامة ، وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والآدمي لمصالِحِهِ التي بها قام أمْرُه .
قال تعالى : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )
فذكر أموراً أربعة : الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، فسوّى خلقه وأتقنه وأحكمه ثم قدّر له أسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه إليها والهداية تعليم ، فذكر أنه الذي خلق وعلم ، كما ذكر نظير ذلك في أول سورة أَنْزَلَها على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون أنه قال لموسى : ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وهذه المرتبة أسبقُ مراتب الهداية وأعمُّها . اهـ .
وهذه المرتبة هي التي قال الله فيها ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )
المرتبة الثانية :
هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته على عباده ، وهذه لا تستلزم الاهتداء التام .
قال تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )
يعني بيّنا لهم ودَلَلْناهم وعرّفناهم ، فآثروا الضلالة والعمى .(3/188)
وقال تعالى : ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ )
المرتبة الثالثة :
وهذه المرتبة أخص من الأولى وأعم من الثانية ، وهي هدى التوفيق والإلهام .
قال الله تعالى : ( وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فَعَمّ بالدعوة خلقه ، وخص بالهداية من شاء منهم . قال تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) مع قوله : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
فاثبت هداية الدعوة والبيان ونفي هداية التوفيق والإلهام ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الحاجة : من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وقال تعالى : ( إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ) أي من يضله الله لا يهتدي أبدا ، وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة المستلزمة للاهتداء ، وأما الثانية فشرط لا موجب ، فلا يستحيل تخلف الهدى عنها بخلاف الثالثة ، فإن تَخَلُّف الهدى عنها مستحيل .
المرتبة الرابعة :
الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة والنار .
قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ )
وأما قول أهل الجنة : ( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ )(3/189)
فيُحتمل أن يكونوا أرادوا الهداية إلى طريق الجنة ، وأن يكونوا أرادوا الهداية في الدنيا التي أوصلتهم إلى دار النعيم ، ولو قيل : إن كلا الأمرين مراد لهم ، وأنهم حمدوا الله على هدايته لهم في الدنيا ، وهدايتهم إلى طريق الجنة كان أحسن وأبلغ . انتهى كلامه رحمه الله .
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ اقتصاص الخلق بعضهم من بعض ، ثم قال : فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا .
ويهديهم ربهم بسبب إيمانهم بالله عز وجل
قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ )
فَمَن هُدي في هذه الحياة الدنيا هُديَ في الآخرة ، ( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً )(3/190)
وقد قال الله في أهل الجحيم : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24} مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ {25} بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ {26} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ {27} قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ {28} قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {29} وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ {30} فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ {31} فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ {32} فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ {33} إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ {34} إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ )
والمقصود بـ أَزْوَاجهم : نظراءهم وأشياعهم وأضرابهم .
ومن أسباب الهداية :
أولاً : التوحيد ، فهو أعظم أسباب الهداية ، ولذا لما ذَكرَ الله الشرك قال : ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا )
فالموحِّد على خير ، وهو إلى الخير أقرب .
وقال على لسان خليله إبراهيم : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )
فهذا وعدٌ بالهداية لأهل التوحيد .
ثانياً : امتثال ما أَمَرَ الله بهِ ورسولُه ، واجتناب ما نَهى الله ورسوله عنه ، قال عز وجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا {66} وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا {67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا )(3/191)
قال ابن جرير – رحمه الله - : يعني بذلك جل ثناؤه ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا أجراً يعني جزاء وثوابا عظيما وأشد تثبيتا لعزائمهم وآرائهم وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما ، يعني طريقا لا اعوجاج فيه ، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم ، وذلك الإسلام ، ومعنى قوله ولهديناهم : ولوفّقناهم للصراط المستقيم . اهـ
وقال الحافظ ابن كثير : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما يُنهون عنه لكان خيراً لهم أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي وأشد تثبيتا ، قال السدي : أي وأشد تصديقا ، وإذا لآتيناهم من دنا أي من عندنا أجرا عظيما يعني الجنة ، ولهديناهم صراطا مستقيما أي في الدنيا والآخرة . اهـ .
وإذا كانت الذنوب سبباً لسوء الخاتمة ، وللطبع على القلب ، كان تركها سبباً للهداية ، وأشد في الثّبات على دين الله .
فالمحافظة على الصلاة – مثلاً – وإقامتها كما أمر الله ، مما أُمِرَ به المسلم ، ثم هي سبب في الابتعاد عن الفواحش والمنكرات ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )
وبها يستعين العبد على الصبر على ما ينوبه في الحياة ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )
قال ابن كثير : إن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر .
وبها يستعين العبد على الشدائد : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )
وبها يستعين بالصبر على المصائب : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا {21} إِلَّا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ )(3/192)
والأعمال الصالحة عموماً مما يُقرِّب إلى علاّم الغيوب .
ولما ذكر الله تبارك وتعالى جملة من أنبيائه ورسله قال لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )
وقال جلّ ذكره في وصف كتابه : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
ثالثاً : الإنابة والتوبة والرجوع إلى الله جل جلاله .
قال تبارك وتعالى : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ )
وقال سبحانه : ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ )
وهذه الثلاث : أعني التوحيد والسلامة من الشرك ، وفعل الطاعات وما أُمِرَ به العبد ، والإنابة إلى الله يجمعها قولُه تعالى: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ {17 } الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ )
فالذين اجتنبوا الشرك ، وأنابوا إلى الله ، واستمعوا القول فاتّبعوا أحسنه ، هم أهل الهداية .
والله تبارك وتعالى يُحبُّ التوابين ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ )
فإذا أحبّهم هداهم .
فمن تاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى أحبّه الله ، ومَن أحبّه الله هداه بهداه
رابعاً : الاعتصام بالله جل جلاله .
قال سبحانه : ( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )(3/193)
وقال جل جلاله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا )
والاعتصام بالله يكون بالتمسك بحبل الله المتين ، التمسك بالقرآن العظيم .
قال سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا )
والتمسك بكتاب الله أمان بإذن الله من الضلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله . رواه مسلم .
وكذا التمسك بالسنة .
والقرآن يهدي للتي هي أقوم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فواضحٌ مما تقدّم
وأما في الآخرة فلقوله صلى الله عليه وسلم : يُقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها. رواه أحمد وأصحاب السنن .
وتكرر في الكتاب العزيز وصف القرآن بأنه هُدى للمؤمنين .
خامساً : الإخلاص لله تعالى ، فإن المسلم يعمل العمل ، ويظن أنه على شيء وليس كذلك .
قال سبحانه : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ )
وإن أقواماً يأتون يومَ القيامة ، فيبدوا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ، كما قال الحق سبحانه : ( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ )
وإن آخرين يَظُنّون أنهم يُحسنون صُنعا ، وليسوا كذلك .
قال سبحانه : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا )(3/194)
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة . متفق عليه .
فإذا لم يكن العمل خالصاً لله عز وجل كان سبباً في ضلال وانتكاس صاحبِه ، وكان وبالاً على صاحبه يوم القيامة .
سادساً : الدعاء ، والاجتهاد فيه ، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن
مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
وفيه أيضا عن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قل : اللهم اهدني وسددني ، وأذكر بالهدى هدايتك الطريق ، والسداد سداد السهم .
وعَلّمَ رسولُ الله سِبْطَه الحسن بن علي ، علّمه دعاء القنوت المشهور ، فقال الحسن : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت . رواه أبو داود وغيره .
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم : اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين . رواه أحمد والنسائي .
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : رب أعني ولا تُعن علي ، وانصرني ولا تنصر علي ، وامكر لي ولا تمكر علي ، واهدني ويسر الهدى لي ، وانصرني على من بغى علي رب اجعلني لك شكارا ، لك ذكارا ، لك رهابا ، لك مطواعا ، لك مخبتا ، إليك أواها منيبا ، رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبت حجتي وسدد لساني ، واهدِ قلبي ، واسلل سخيمة صدري . رواه أحمد والترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح .(3/195)
ولما سُئلت عائشة - رضي الله عنها - بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت :كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . رواه مسلم
فَدَلّ على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الدعاء ، وإرشاده إليه ، وتعليمه لأصحابه وأحفاده
وفيما يرويه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تبارك وتعالى أنه قال : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم . رواه مسلم .
فاسأل ربك الهداية ، فقد قال خليلُ الله إبراهيمُ : ( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )
ومن دعاءِ المؤمنين : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )
سابعاً : المجاهدة على فعل الطاعات ، وترك المنكرات ، والصبر على ذلك .
قال تبارك وتعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )
ثامناً : كثرة ذكر الله تبارك وتعالى ، فإن الإعراض عن ذكر الله سبب في الضلال ، كما في قوله تعالى : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ )
وهذه الهداية لا تكونُ مهيأةً في كلِّ وقتٍ للعبدِ المسلم ، فإن الحقّ سبحانه وتعالى قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )(3/196)
وفي هذا حثٌ على المبادرةِ بالاستجابة لله ولرسوله ، قبل أن يأتي يومٌ يَبْحَثُ فيه المسلمُ عن قلبه فلا يجده ، أي أنه يُحالُ بينه وبين قلبه .
وإليك هذه القِصّةً التي تدل على صحة هذا القول، وأنه قد يُحال بين المرء وبين قلبه .
هذه القصة لرجلٍ كان من ملوك النصارى فأسلم . وهو جبلة بن الأيهم .
أسلم في أيامِ عمر ، وحج معه فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطئ إزاره رجلٌ من بني فزارة ، فانحلّ إزارُه فرفع جبلةُ يده فهشم أنف الفزاري ، فاستعدى عليه عمر ، فاستحضره عمر فاعترف ، ثم طلبه للقصاص فاستنكف واستكبر ، وسأل عمرَ أن يمهله ليلته تلك ، فلما ادْلَهَمّ الليل ركب في قومه ومن أطاعه وسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم وراجع دينه دين السوء ، أي أنه ارتد عن دين الله .
ولما بدا له أن يعود حِيْلَ بينه وبين ما أراد ، فكان مما قال :
تنصَّرتْ الأشرافُ من عارِ لطمةٍ وما كان فيها لو صبرتُ لها ضررْ
تكنّفني فيها اللجاجُ ونخوةٌ وبِعْتُ بها العينَ الصحيحةَ بالعَوَرْ
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعتُ إلى القول الذي قاله عمرْ
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ وكنتُ أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ أجلس قومي ذاهب السمع والبصر
هذه القصة ذكرها المؤرخون ، أمثال ابن الجوزي وابن عساكر وابن كثير وغيرُهم .
هذه إجمالاً واختصاراً أسباب الهداية .
وبضدِّها تظهر الأشياء ، فأذكر موانع الهداية كما ذكرها ابن القيم باختصار :
السبب الأول : ضعف معرفته بهذه النعمة ، وأنه لم يقدرها قدرها .
وانظر – رعاك الله – بعين بصيرتك إلى حال أكثر الناس ، الذين ربما بلغوا شأنا عظيماً في أمور الدنيا ، وهم يُقيمون على الشرك والضلالة ، ويصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )(3/197)
السبب الثاني : عدم الأهلية … فإذا كان القلب قاسيا حجريا لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه كما لا تُنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبُذر فيها كل بذر ، فإذا كان القلب قاسيا غليظا جافيا لا يعمل فيه العلم شيئا وكذلك إذا كان مريضا مهينا مائيا لا صلابة فيه ولا قوة ولا عزيمة
لم يؤثر فيه العلم .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه مابعثني الله به فعلِم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به . كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
السبب الثالث :قيام مانع وهو إما حسد أو كبر ، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر ، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله ، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم . اهـ
ومن ذلك ما ذكره الله عن المشركين : ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً)
فكان الجواب : ( قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً )
وحقيقة المسألة تعنّت واستكبار ، وإلا لو جاءهم ملك لقالوا : هذا تختلف طبيعته عن طبيعتنا ، فهو من عالَم آخر ، ويُطيق ما لا نُطيق !
وقد قال الله تبارك وتعالى : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ )
فسيقولون حينها هذا ليس بِمَلَك !(3/198)
السبب الرابع : - مما ذكره ابن القيم - مانع الرياسة والملك ، وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبرٌ عن الانقياد للحق ، لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه واقرُّوا بها باطنا واحبوا الدخول في دينه لكن خافوا على ملكهم . اهـ .
وقد أخبر الله عن فرعون أنه ما مَنَعَه من الإسلام والانقياد إلا ذلك ، وإلا فقد أيقن فرعون بصدق موسى ، قال الله عز وجل : (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )
ومثلهم الملأ الذين حكى الله أخبارهم ، فكانوا يخشون إن آمنوا أن تذهب هيمنتهم ، ويذهب جاههم ، ويتساووا بالعبيد ، قال الله جل جلاله : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {4} أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ {6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ {7} أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ )
السبب الخامس : مانع الشهوة والمال وهو الذي منع كثيراً من آهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته ، فيدخلون عليه منها ، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا : إن محمدا يُحَرِّم الزنا ويحرم الخمر .(3/199)
وهذا الذي مَنَع أبا جهل من الإسلام ، فإنه لما أتاه الأخنس فدخل عليه في بيته قال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ، قال : تنازعنا ونحن بنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكُنّا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ، ولا نصدقه ، فقام عنه الأخنس ، وتركه .
السبب السادس : محبة الآهل والأقارب والعشيرة ؛ يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم ، وهذا سبب بقاء خلقٍ كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم .
ومن ذلك أن بعض أهل الباطل ممن انتحلوا مذاهب هدّامة لما تبيّن لهم الحق ما منعهم أن يتّبعوه ويهتدوا إلا أنهم يخشون أن تذهب مكانتُهم أو تتلاشى .
السبب السابع : محبة الدار والوطن ، وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنوى ، فيضنّ بوطنه .
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام فقال له : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ، فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول ، فعصاه فهاجر قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال ، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، فعصاه فجاهد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة .
السبب الثامن : مَنْ تخيّل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده وذمّاً لهم ، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال .(3/200)
ولذا لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة وجاءه أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب - آخر ما كلمهم - : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله . كما في الصحيحين .
فهذا مانعٌ من موانع الهداية ، بالإضافة إلى صُحبة السوء ، فإنها تمنع من الهداية والاستقامة والالتزام والتمسّك بشرع الله .
فيُسمعون صاحبهم الذي ربما أراد الاستقامة على دين الله عبارات النبز والاستهزاء والسخرية حرصاً منهم على بقاءه ضالاً كحالهم .
السبب التاسع :
متابعة من يعاديه من الناس للرسول وسبقه إلى الدخول في دينه وتخصصه وقربه منه ، وهذا القدر منع كثيرا من اتِّباع الهدى ؛ يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب أرضا يمشي عليها ويقصد مخالفته ومناقضته ، فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله وان كان لا عداوة بينه وبينهم وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار .
ومن ذلك قول بعض أهل الباطل : الخير فيما خالف العامة .
السبب العاشر :
مانع الإلف والعادة والمنشأ ؛ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة ولهذا قيل هي طبيعة ثانية فيربى الرجل على المقالة وينشأ عليها صغيرا فيتربى قلبه ونفسه عليها كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد ولا يعقل نفسه إلا عليها ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال ويصعب عليه الزوال وهذا السبب وإن كان اضعف الأسباب معنى فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل ليس مع أكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربي تربى عليه طفلا لا يعرف غيرها ولا يحسن به فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية . اهـ .(3/201)
وقد أخبر الله عن المشركين أنهم ما منعهم من الهداية واتِّباع الرسول إلا أنهم وجدوا آبائهم على هذا الدين وهم ألِفوه ونشأوا عليه : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ {24} فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )
وهذا المانع لم يكن ليمنع الصحابة رضي الله عنهم مِن مُتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصديق خَبَرِه ، وامتثال أمره ، ولو كان مُخالِفاً لطبائع نفوسهم ، كما في خَبَرِ تحريم الخمر .
قال أنس : إني لقائم أسقيها - أي الخمر - أبا طلحةَ وأبا أيوبَ ورجالاً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ، إذ جاء رجلٌ فقال : هل بلغكم الخبر قلنا : لا . قال : فإن الخمر قد حُرِّمَتْ . فقال : يا أنس ! أرِقْ هذه القِلال ، قال : فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبرِ الرجل . متفق عليه .
ومن الأسباب التي يُمكن أن تضاف :
= الشرك بالله ؛ فإنه أعظمُ أسباب الضلال ، قال الله على لسان نبيه ومُصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ )(3/202)
وقال جلّ ذِكره : ( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
= عدم الانقياد لأوامر الله وعدم السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {167} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً {168} إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا )
وإذا كان اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أسباب الهداية ، كما في قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {157} قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )(3/203)
= فإن عدم التصديق بخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو التشكيك فيما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب ضلال .
قال جل ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
= اتِّباع الهوى ، قال سبحانه وتعالى لنبيِّه داود عليه الصلاة والسلام : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )
وحذّر الله عباده المؤمنين أن يكونوا كالذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، وبيّن تبارك وتعالى أن سبب زيغه وضلاله هو اتّباع الهوى ، فقال جل جلاله : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
فَحَذار « فكم تعرقل في فخّ الهوى جناح حازم ».
فهذا مركب الهوى قلّ من ركبه ثم تخلّى عنه ، لأنه يهوي بصاحبه كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه.
وقد حذّر الله تبارك وتعالى من الزيغ الذي هو نتيجةٌ لاتّباع الهوى ، فقال سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )(3/204)
قال ابن المبارك : إن البصراء لا يأمنون من أربع : ذنب قد مضى لا يَدري ما يَصنع فيه الرب عز وجل ، وعمر قد بقي لايدري ما فيه من الهلكة ، وفضل قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج ، وضلالة قد زُيِّنت يراها هدى ، وزيغ قلب ساعة ، فقد يُسلب المرء دينُه ولا يشعر .
ولقد حرص السلف على هداية الخلق إلى الصراط المستقيم ، لعلمهم بفضل هداية الخلق ، وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالب حين بعثه يوم خيبر ، فقال له : فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم . متفق عليه .
ولو لزم الأمر أن يشتري الهداية بماله لما كان ذلك مُستكثراً .
ومما ورد في كتب التاريخ والتراجم أن سعيد بن عثمان بن عفان لما استعمله معاوية رضي الله عنه على خراسان فمضى سعيد بجنده في طريق فارس فلقيه بها مالك بن الريب - وكان شاعرا فاتكا لصا و هو من شعراء الإسلام في أول أيام بني أمية - و كان من أجمل الناس وجها و أحسنهم ثيابا ، فلما رآه سعيد أعجبه ، و قال له :مالك و يحك ! تفسد نفسك بقطع الطريق ، وما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العبث و الفساد ، وفيك هذا الفضل ؟ قال : يدعوني إليه العجز عن المعالي ومساواة ذوي المروءات ، و مكافأة الإخوان . قال سعيد : فإن أنا أغنيتك واستصحبتك ، أتكف عما كنت تفعل ؟ قال : أي و الله أيها الأمير أكف كفّاً لم يكف أحد أحسن منه . قال : فاستصحبه وأجرى له خمسمائة درهم في كل شهر
وهو الذي يقول :
ألم تَرَني بِعتُ الضلالة بالهدى وأصبحتُ في جيش ابن عفّان غازيا
فاحرص رعاك الله أن تكون مشعل هداية لبيتك ، فانقل ما تسمعه إلى زوجتك وبيتك .
و ليُعلم أن الهداية نعمة عُظيمة ، ومنَّةٌ جسيمة ، فلا تحصل إلا بفعل السباب ، وببذل الوسع في تحصيلها .(3/205)
قال ابن القيم : إن لم يَصرف عنه الموانع والصوارف التي تمنع موجب الهداية وتصرفها لم ينتفع بالهداية ولم يتم مقصودها له ، فإن الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه ، ومعلوم أن وساوس العبد وخواطرَه وشهواتِ الغيّ في قلبه كل منها مانعُ وصول أثر الهداية إليه ، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تامّاً فحاجاته إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه وهي أعظم حاجة للعبد .
أخيراً – رعاك الله – استمع إلى هذه الآيات وتأمل قول الله : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ {54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ {56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )
فهو يقول : لو أن الله هداني ، وهو لم يأخذ بالأسباب الجالبة للهداية.(3/206)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( مجموع الفتاوى 19/ 99 ، 100 ) : وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العُجم ، فإن الحمار والجمل يميّز بين الشعير والتراب ، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده … ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد ، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف مِنّة عليهم أن أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبيّن لهم الصراط المستقيم ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشر حالاً منها ، فَمَنْ قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية ، ومن ردّها وخرج عنها فهو من شر البرية ، وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم – ثم ذَكَرَ حديث أبي موسى المتقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم – فقال : فالحمد لله الذى أرسل الينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفى ضلال مبين ، وقال اهل الجنة : ( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ )
والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة ، وأسس بنيانه عليها ، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم فاذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خرب الله العالم العلوى والسفلى وأقام القيامة وليست حاجة أهل الأرض الى الرسول كحاجتهم الى الشمس والقمر والرياح والمطر ولا كحاجة الانسان الى حياته ولا كحاجة العين الى ضوئها والجسم الى الطعام والشراب بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه فى أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده . انتهى كلامه رحمه الله .(3/207)
وإن تعجب فاعجب لمسلم يسأل ربَّه عز وجل في اليوم والليلة سبع عشرة مرة يسأله هداية الصراط المستقيم وأن يُعيذه من طُرق المغضوب عليهم وهم اليهود وطرق الضالين وهم النصارى ، ثم يتّبع طريقتهم ، ويسلك أثرهم ويتشبّه بهم .
321-( الأُسرَة والإجَازة )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الزوجين الذّكرَ والأنثى .
الحمد لله القائل : ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ )
والصلاةُ والسلام على أنبياء الله ورُسُلِه الذين قال الله فيهم : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ) .
وصلّى الله على من بعثه ربُّه هادياً ومُبشِّراً ونذيرا .
وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد :.
فأسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوما ، وتفرّقنا من بعده تفرقا معصوما وأن نكون ممن يُقال لهم في ختام مجلسهم : انصرفوا مغفوراً لكم .
أيها الأحبة الكرام : أبدأ أولاً بعناصر هذه المحاضرة ، وهي كما يلي :
أولاً : تعريف الأسرة .
ثانيا : لماذا الاهتمام بالأسرة ؟
ثالثاً : أين موقع الإجازة من الإسلام ؟
رابعاً : مِن فوائد الإجازة .
خامساً : أقسام الناس في الإجازة .
سادساً : الترفيه بين المشروع والممنوع .
سابعاً : الأسرة والحياء .
ثامناً : الأسرة والسفر .
تاسعاً : مُقترحات .
عاشراً : أخطاء ومُنكرات في الإجازات .
فأبدأ بتفصيل ذلك مُستعينا بالله فهو المستعان وعليه التُكلان .
أولاً : تعريف الأسرة
قال ابن منظور في لسان العرب : الأُسرة الدرع الحصينة .
و أُسْرَةُ الرجل : عشيرتُه ورهطُه الأَدْنُونَ ؛ لأَنه يتقوى بهم .(3/208)
وعرّفها بعض الباحثين الاجتماعيين بأنها : رابطة اجتماعية تتكون من زوجٍ وزوجةٍ وأطفالِهما ، وتشمل الجدود والأحفاد وبعض الأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة .
ثانياً : لماذا الاهتمام بالأسرة ؟
لأنه لا مجتمع بدون أسرة ، فالأسرة هي لبنة من لبِنات المجتمع ، والمجتمع ما هو إلا عبارة عن أُسر ، فإذا صَلَحت الأسر صَلَحَ المجتمع ، وإذا فَسَدَت الأسر فَسَد المجتمع .
وقد ظهرت الدعوة إلى إلغاء الأسرة والقضاء على النظام العائلي في القرنِ التاسع عشر وأوائلِ القرنِ العشرين ، ولكن هذه الدعوات باءت بالفشل الذريع ، ورفضتها البشرية ؛ لأنها على خلاف ما فطرهم الله عليه .
ولأن الميلَ إلى تكوينِ الأسرةِ هو ميلٌ فطري ، ولذا فشِلَ النظامُ الشيوعي في تطبيق قانونِ إلغاءِ الأسرة ، ومحاولةِ القضاءِ على النظامِ العائلي .
وكلُّ إنسان يميل - فطرياً - إلى أن يختص ببيتٍ وزوجةٍ وذريّة .
والأُسَر يقتدي بعضُها ببعض ، ويتآلف بعضُها مع بعض .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : الناس كأسرابِ القَطا مجبولون على تشبُّه بعضِهم ببعض . انتهى .
ولذا تسمع قول بعض الأسر والعوائل : كل الناس يفعلون هذا .
مما يعني تأثرَ بعضِهم ببعض .
وقد تناولتُ فيما سبق موضوعَ الشبابِ والسفرِ للخارج .
واليوم نتدارسُ موضوعَ الأسرةِ والإجازة .
ثالثاً : أين موقع الإجازة من الإسلام ؟
الترويح عن النفوس مطلوب ، لأن القلوب تَكلّ ، وإذا كلّت عَمِيَتْ .(3/209)
لَقِيَ أبو بكرٍ رضي الله عنه حنظلةَ الأُسيدي فقال له : كيف أنت يا حنظلة ؟ قال : قلت : نافق حنظلة .قال : سبحان الله ! ما تقول ؟ قال قلت : نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرُنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأى عين ، فإذا خرجنا من عندِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسْنا الأزواجَ والأولادَ والضّيعاتِ فنسينا كثيرا . قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا . قال حنظلة : فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلتُ : نافق حنظلة يا رسول الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ قال حنظلة قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرُنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأى عين ،فإذا خرجنا من عندك عافسْنا الأزواجَ والأولادَ والضيعاتِ . نسينا كثيرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذِّكر ، لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعة . ثلاث مرات . رواه مسلم .
وفي رواية له : فقال : يا حنظلة ساعةً وساعةً ، ولو كانت تكون قلوبُكم كما تكونُ عند الذِّكر ، لصافحتكم الملائكةُ حتى تُسلِّم عليكم في الطُّرُق .
إذاً فالقلوب تحتاج إلى راحة .
والنفوس تحتاج إلى شيء من الاستجمام .
رابعاً : مِن فوائد الإجازة .
1 – طلب رضا الله ومرضاته
ويكون ذلك بقصد بيت الله الحرام أو مسجد نبيِّه صلى الله عليه وسلم أو مسراه فكّ الله أسرَ المَسْرَى .
ويكون بقصد زيارة الأقارب وصلة الأرحام إلى غير ذلك من المقاصد المشروعة المطلوبة .
2 – ( من فوائد الإجازة ) ليُعلم أن في دينِنا فُسحة .
رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام الحبَشة يلعبون في المسجد فكأنه علم ما في نفس عائشة من حداثة سنِّها وحبها للعب ، فقال لها : أتحبِّين أن تنظري إليهم ؟ رواه النسائي في الكبرى ، وقال ابن حجر : إسناده صحيح .(3/210)
قالت عائشة : وكان يومَ عيدٍ يلعبُ السودانُ بالدَّرَقِ والحِرابِ ، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال : تشتهين تنظرين ؟ فقلت : نعم ، فأقامني وراءه خدِّي على خَدِّهِ ، وهو يقول : دونكم يا بني أرْفِدَة .حتى إذا مللت قال : حسبك ؟ قلت : نعم .قال : فاذهبي متفق عليه .
وفي روايةٍ في الصحيحين قالت : رأيتُ النبَّي صلى الله عليه وسلم يُسترني بِرِدِائِه ، وأنا أنظر إلى الحبشةَ يلعبون في المسجد حتى أكونَ أنا الذي أسأم ، فاقدروا قَدْرَ الجاريةِ الحديثةِ السنِّ الحريصةِ على اللهو .
وفي رواية للإمام أحمد قالت عائشة رضي الله عنهن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ، إني أرسلت بحنفية سمحة .
ومن فوائد الإجازة :
3– إدخالُ السرورِ على الأهل .
فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : خرجتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأنا خفيفةُ اللحم فنزلنا منزِلا فقال لأصحابه : تقدموا . ثم قال لي : تعالي حتى أسابقْكِ ، فسابقني فسبقتُه ، ثم خَرَجْتُ معه في سفرٍ آخر ، وقد حملتُ اللحمَ ، فنزلنا منزلا ، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال لي : تعالي أسابقْكِ ، فسابقني فسَبَقَنِي ، فضرب بيده كتفي وقال :هذه بتلك . رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى ، وغيرهم ، وهو حديث صحيح .
وقوله صلى الله عليه وسلم : هذه بِتلك . أي واحدة بواحدة !
4– ( من فوائد الإجازة ) إذهاب الملل والسآمة .
يأسِنُ الماء عند وقوفِه ، وتملُّ النفوس من روتين الحياة ، وتصدأُ القلوب كما يصدأ الحديد .
إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يفسدهُ إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الغابِ ما افترست والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يُصب
والشمسُ لو وقفتْ في الفُلكِ دائمةً لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ
والبدرُ لولا أفولٌ منه ما نظرتْ إليه في كلِّ حينٍ عَينُ مُرتَقِبِ(3/211)
والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَى ً في أَمَاكِنِهِ والعودُ في أرضه نوعٌ من الحطب
فإن تغرَّب هذا عزَّ مَطْلَبُهُ وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ
وإذا كثُرَ تِكرارُ أمرٍ ما على النفوس ملّته ، وإن كان مما لا يُملُّ عادةً .
ولذا لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها امرأة . فقال : من هذه ؟ قالت : فلانة . تذكرُ من صلاتِها . قال : مه ! عليكم بما تطيقون ، فو الله لا يملُّ الله حتى تملوا . متفق عليه
وفي رواية لمسلم قالت عائشة : فقلت هذه الحولاءُ بنتُ تويت ، وزعموا أنها لا تنامُ الليل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تنامُ الليل ! خذوا من العمل ما تطيقون فوالِله لا يسأمُ الُله حتى تسأموا .
وكان ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه يُذكِّرُ أصحابَه كلَّ يومِ خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن إنا نحبُّ حديثَك ونشتهيه ، ولودِدْنا أنك حدثتَنا كلَّ يوم ، فقال : ما يمنعني أن أحدثَكُم إلا كراهيةُ أن أمِلَّكَم . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولُنا بالموعظة في الأيامِ كراهيةَ السآمةِ علينا . متفق عليه .
فإذا كان هذا فيما يتعلّق بذكر الله الذي هو غذاء القلوب ، فما بالُكم بغيره ؟
قال بعضُ الحكماء : إن لهذه القلوب تنافراً كتنافرِ الوحشِ فتألّفوها بالاقتصادِ في التعليم ، والتوسطِ في التقديم ، لتحسُنَ طاعتُها ، ويدوم نشاطُها .
وكان ابن عباس يقول لأصحابه إذا داموا في الدرس : أحمضوا . أي ميلوا إلى الفاكهة وهاتوا من أشعاركم ، فإن النفس تملّ .
.5– ( ومن فوائد الإجازة ) تجديد النشاط ، وكسر الروتين ، والتّقوّي على العبادة
وذلك أن النفس تشعر بالارتياح بعد قضاء إجازة خاصة إذا صاحب ذلك تغيير مكان .
ولا تستجم الخيلُ حتى نُجِمّها فيعرفها أعداؤنا ، وهي عِطّفُ
لذلك كانت خيلُنا مرةً تُرى حسانا ، وأحيانا تقاد ، فتعجِفُ(3/212)
دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ، فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتين فقال : ما هذا الحبل ؟ قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلّقت به . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا . حُلُّوه . لِيُصلِّ أحدُكم نشاطَه ، فإذا فَتَرَ فليقعد . متفق عليه .
ومن فوائد الإجازة
6– السير في الأرض . قال سبحانه وتعالى : ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ) .
فيسير المسلم في الأرض مسير نظر واعتبار وتفكّر .
ويجب أن يكون وِفق قواعدَ وضوابط .
أ – أن لا يمرّ بديار المُعذّبين وآثارهم ، فلا يدخلها بقصد الفُرجة .
ب – أن لا يكون السير ولا تكون السياحة إلى بلاد الكفار لِعِظم الأخطار .
جـ - أن يكون نظر تفكّر واعتبار لا نَظر فُرجةٍ وتفكُّه أو نظر شماتة .
د – أن لا تُضيّع الفرائض ولا يُفرّط فيها .
7– ( من فوائد الإجازة ) تآلف القلوب ، واجتماع أفراد الأسرة .
عندما ينهمك بعضُ الناس في عمله يدفعُه ذلك ويحمِلُه على التفريط في حق أهله وأسرته ، فلا يكاد يجلس معهم سوى مرة في الأسبوع أو ينسى ذلك ، ولا يُعيره اهتماماً وربما كان ذلك سببا في ضياع بعض أفراد الأُسرة .
فتأتي الإجازة لتجمعَ أفرادَ الأسرةِ وتؤلِّفَ بينهم ، ويحتاج رب الأسرة إلى الجلوس مع أولاده بصدرٍ مشروح ونفسٍ مُطمئنة بعيداً عن هموم العمل ، ليسمع مُشكلة هذا وهم ذاك ، وتسمع الأم هم بناتِها وما يُعانين منه من مُشكلات ونحوها .
وهذا أمرٌ يغفل عنه كثيرٌ من الناس ، فيُرجّح جانب عملِه على حقِّ أسرتهِ .
وربما حمَلَ همّ عملِه إلى بيته فحمله معه أفرادُ أُسرتِه .
بل ربما حمله معه في إجازته وفي إجازة أُسرتِه . وربما انشغل في إجازته عن أهله وولده
وربما انشغلت بعض النساء العاملات بعمل لم يُكلّفن به خلال إجازاتِهن مما ينتج عنه بعد الأم والأب أحيانا عن البيت وبالتالي يؤدّي ذلك إلى تفكك الأُسر .(3/213)
انظر - رعاك الله - إلى فقه سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فقد زار سلمانُ رضي الله عنه أخاه أبا الدرداء فما وجده لكنه وجد أم الدرداء وهي متبذِّلة ، فسألها عن شأنها ، فقالت : أخوك أبو الدرداء ليس له بنا حاجة في الدنيا ! فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما ، فقال له : كُل . قال : فإني صائم . قال : ما أنا بآكل حتى تأكل . قال : فأكل ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم . قال له سلمان : نَم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَم فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَم . فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قُم الآن ، فَصَلَّيَا ، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقّا ، ولنفسك عليك حقّا ، ولأهلك عليك حقّا ، فأعطِ كل ذي حق حقّه ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان . رواه البخاري .
والذي ذَكَرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم هو أبو الدرداء كأنه يشتكي سلمان .
ومعنى ( متبذّلة ) أي لابسة ثياب البذلة وهي المهنة ، أي أنها قد تركت الزينة . وعرّضت عن إعراض زوجها عنها بقولها : أخوك أبو الدرداء ليس له بنا حاجة .
فانظر إلى فقهِ هذا الصحابيِّ الجليل . أعني سلمانَ رضي الله عنه .كيف قدّم الحقوق والواجبات على النوافل من الصيام وقيام الليل ، وما ذلك إلا لأن حقَّ الأهلِ أولى ، وهو ما أقرّه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم .
فكيف بمن يضيع الأوقات في السهر على المحرمات ويترك الحقوق والواجبات ؟!
قال ابن حجر : وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خُشي أن ذلك يُفضي إلى السآمةِ والمللِ وتفويتِ الحقوقِ المطلوبةِ الواجبةِ أو المندوبةِ الراجحِ فعلُها على فعلِ المستحب المذكور .
ومثله قصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .(3/214)
قال رضي الله عنه : أنكحني أبي امرأةً ذاتَ حسب ، فكان يتعاهد كَنَّتَهُ فيسألها عن بعلها ، فتقول : نِعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا ، ولم يَفْتش لنا كَنَفاً مذ أتيناه ! فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : القني به . فلقيته بعد ، فقال : كيف تصوم ؟ قلت : كل يوم . قال : وكيف تختم ؟ قلت :كل ليلة . قال : صم في كل شهر ثلاثة ، واقرأ القرآن في كل شهر . قال قلت : أطيق أكثر من ذلك . قال : صم ثلاثة أيام في الجمعة . قلت : أطيق أكثر من ذلك . قال : أفطر يومين ، وصم يوما . قال قلت : أطيق أكثر من ذلك .قال : صم أفضل الصوم . صوم داود . صيام يوم وإفطار يوم ، واقرأ في كل سبع ليال مرّة . فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم . متفق عليه .
وفي رواية في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ فقلت : بلى يا رسول الله . قال : فلا تفعل . صم وأفطر ، وقم ونَم ، فإن لجسدك عليك حقّأً ، وإن لعينك عليك حقّاً ، وإن لزوجك عليك حقّاً ، وإن لزورك عليك حقّاً .
وفي رواية : زوّجني أبي امرأة من قريش ، فلما دخلت على جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة ، فجاء عمرو بن العاص إلى كَنّته حتى دخل عليها ، فقال لها : كيف وجدت بعلك ؟ قالت : خير الرجال أو كخير البعولة مِنْ رجل لم يَفتش لنا كَنَفَاً ، ولم يعرف لنا فراشا ، فأقبل عليّ فعذلني وعضّني بلسانه ، فقال : أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فَعَضَلْتَها وفعلت وفعلت ، ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته – ثم ذكر الحديث . كما في المسند .
ومعنى ( عضّني ) أي شدّد علي القول .(3/215)
فانظر إلى شدّة نكير عمرو بن العاص على ابنه الذي لا يُعطي زوجته حقوقها ، وإن كان مُشتغلاً بالعبادة ، ولو كان الأمر مباحاً أو يسيراً لما أنكر عليه وشدّد عليه في الإنكار ولما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأذن له أن يصوم الدهر كلّه ، وما ذلك إلا ليُوازن بين حقوق أهله ونفسه .
ومعنى ( كَنّته ) أي زوجة ابنه .
وقوله صلى الله عليه وسلم : صُم ثلاثة أيام في الجمعة : أي في الأسبوع .
وقولها : لم يفتش لنا كنفاً : أي لم يكشف لنا ستراً ، وهو كناية عن عدم إعطائها حقها من المعاشرة .
ومعنى ( لزورك ) : أي لزائرِك .
وفي رواية : ولِولدِك عليك حقّاً .
خامساً : أقسام الناس في الإجازة .
ينقسم الناس في قضاء الإجازة إلى أقسامٍ عِدّة بحسب رغباتِ نفوسهم واحتياجاتِهم .
فقسمٌ يقضيها في أداء واجب كـ برّ والد أو صلة رحم واجبة ونحو ذلك .
وقسمٌ يقضيها في القيام بمسنون كـ زيارة الأقارب أو زيارةِ الأصدقاء ، وأداءِ العمرة ، والدعوةِ إلى الله ، والتّفكّرِ في ملكوت السماوات والأرض ، ونحوِ ذلك .
وقسمٌ يقضيها في سفر مباح ، كـ سفرِ النُّزهة المباح ، وطلبِ برودة الجو أو البحث عن علاجٍ ، ونحوِ ذلك .
وقسم يقضيها في أمور مكروهه ، كأن يقضيها في اللهو والعبث أو في النوم ، أو يقضيها في سفرٍ من الأسفار من غير فائدة مرجوّة ، ولا هدفٍ منشود ، مباهاةً للناس ، ولو أدى ذلك إلى تحمل الدَّيْن أو أدى إلى الإسراف أحيانا .
وقسمٌ يقضي إجازته في أمور محرمة ، كالسفر إلى بلاد الكفار أو بلاد العهر والفجور أو ما يُصاحب ذلك السفر من تهتّك وسفور ، أو تضييع لفرائض الله عز وجل .
وقسمٌ ينتظر الإجازة بفارغ الصبر ، فهو لها بالأشواق ، فإذا قدِمت طار مع رُفقته وترك أسرته ، وربما لجئوا إلى الناس يستجدونهم ويطلبون منهم المساعدة ، وهو في لهو ولعب ، وربما في سفر مُحرّم
ولسانُ حالِ أُسرتِه عموما وزوجته خصوصاً :(3/216)
لا تسألوني عنه إنه طارا مضى وأشعل في أعماقي النارا ..
لا تسألوني عنه حين ودّعني شممت في قوله غِشاً وأسرارا ..
مضى وفي أعيِن الأطفال أسئلةٌ أُجيب عنها أكاذيباً وأعذارا ..
مضى يجرب أحضاناً ينامُ بها ينسى على دفئها الأطفال والدارا..
هكذا يمضي بعضُ الناس وأسرتُه تتمنّى لو صحِبَهم في نُزهة برية أو رحلة خَلَوية ، أو إجازة صيفية .
تتمنّى أُسرتُه أنْ لو قضى معهم إجازةً واحدة .
ويتمنّى أهلُه لو أعطاهم شيئا من حقِّهم المشروع .
وقد تقدّم " إن لأهلك عليك حقاً ، ولِولدِك عليك حقّا "
وتُشير بعضُ الأرقام والإحصائيات إلى أن :
63% من السياح يسافرون بصحبة الأصدقاء .
29% فقط مع العائلة .
8% بمفردهم .
ولست مع سفر الأسر الأسفار المُحرّمة ، وستأتي الإشارة إلى ذلك .
ولا شك أن قضاء الإجازة إذا كان في أمرٍ أصله مباحاً وصاحبته نيّة صالحة فإنها تُؤثّر فيه .
سادساً : الترفيه بين المشروع والممنوع .
الترفيه عن النفس والأهل والأولاد مطلوب
مطلوبٌ لاستعادةِ النشاط
وتغييِر الجو
وكسرِ الروتين .
والترفيه لا يحرم لكونه مُجرّد ترفيه ، بل يحرم لما يُصاحبُه .
إما من تضييع فرائض الله .
أو من ارتكاب ما حرّم الله .
أو تضييع الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا .
وقد يُنكر بعض الناس على من يُسافر سفراً مُباحاً لمجرّد الترويح عن النفس .
وربما استدلُّوا بقوله عليه الصلاة والسلام : وليس من اللهو إلا ثلاثٌ : مُلاعبةُ الرجلِ امرأتَه ، وتأديبُه فرسَه ، ورميُه بقوسِه . رواه الإمامُ أحمد من حديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه ، ورواه النسائي في الكبرى من حديثِ جابر رضي الله عنه .
وهذا لا يدلُّ على الحصر ؛ لأنه ورد غيرُ هذه الثلاث كما في رواية النسائي .
ثم إنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُمازِح أصحابه .
فقد مازَح صلى الله عليه وسلم زاهراً والتزمه من خلفه وقال : من يشتري العبد .(3/217)
وثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتبادحون بالبطيخ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال . رواه البخاري في الأدب المُفرَد .
وتقدّم قولُ عائشة رضي الله عنها : فاقدروا قَدْرَ الجاريةِ الحديثةِ السنِّ الحريصةِ على اللهو .
سابعاً : الأسرة والحياء .
تظن بعض الأسر أن الحياء في البيوت فحسب ، أو أنه حياءٌ ممن يُعرف .
ناسين أن الحياء يجب أن يكون حياءً من الله قبل أن يكون حياء من الناس .
وربما لفَتَ نظرَك تصرّفاتُ بعضِ الأسر ، في المجمّعات أو التّجمّعات أو المصايف والمتنزّهات حتى شُوهِدت بعض النساء تقود الدراجة النارية في مثل تلك الأماكن .
وربما رأيت جلباب الحياء قد خُلِع بحجّة أن هذا ديدن الناس .
ويجب أن تتّصف الأسر بالحياء في البيوت وخارجها .
والحياء خُلقٌ كريم ، بل هو صفةٌ من صفات الله عز وجل .
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان يُوصف بأنه أشدُّ حياءً من العذراء في خِدرها ، كما في الصحيحين .
فبأي شيءٍ وُصفَ النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وبأي شيء شُبِّه ؟
لقد وُصِف بالحياء ، بل بِشِدّةِ الحياء .
وشُبِّه حياؤه بحياء العذراء في خِدرِها وفي غُرفتها الخاصة .
فتأملوا هذا الخُلق الكريم ، واحرصوا على المحافظة عليه .
قال ابن حبان : الواجب على العاقل لزوم الحياء ؛ لأنه أصل العقل ، وبذر الخير ، وتركه أصل الجهل ، وبذر الشر . والحياء يدل على العقل كما أن عدمه دال على الجهل
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
قال في روضة العقلاء : الحياء من الإيمان ، والمؤمن في الجنة ، والبذاء من الجفاء ، والجافي في النار ، إلا أن يتفضل الله عليه برحمته فيخلصه منه .
إذا قل ماءُ الوجه قلّ حياؤه ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك فإنما يدل على وجه الكريم حياؤه
ثامناً : الأسرة والسفر .(3/218)
تكثُر الأسفار في الإجازات ، وتتنوّع الوُجُهات ، وتختلف المقاصد .
ومن هُنا تختلف نظرة الناس إلى السفر .
وقد قيل :
تغربْ على اسمِ الله والتمس الغنا وسافر ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ
تفريجُ همٍّ واكتساب معيشة وعلمٌ وآدابٌ وصُحبةُ ماجدِ
فإن قيل في الأسفار ذلٌّ وغربةٌ وتشتيتُ شملٍ وارتكابُ شدائدِ
فَموتُ الفتى خيرٌ له من حياتِه بدارِ هوانٍ بين ضدٍّ وحاسدِ
وقال آخر :
إذا قيل في الأسفارِ خمسُ فوائدِ أقول وخمسٌ لا تقاسُ بها بلوى
فتضييعُ أموالٍ وحملُ مشقّةٍ وهمٌّ وأنكادٌ وفرقةُ من أهوى
وأبلغ منه قوله عليه الصلاة والسلام : السفر قطعة من العذاب . متفق عليه .
وفي الأسفار تحصل المشاقّ ، ويقعُ التّعب ، ويحصلُ النّصَب .
وعلى الأُسر إذا سافرتْ أن تحرص على أمور :
أولُها : الحرص على الهداية والكفاية والوقاية
ثبت عند أبي داود من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله يُقال حينئذ : هُديت وكُفيت ووُقيت ، قال : فتتنحى له الشياطين ، فيقول له شيطان آخر : كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي ؟
وعند أبي داود عن أم سلمة قالت : ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال : اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ، أو أزل أو أزل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل علي .
فإذا أرادت الأسرة أن تُغادر البيت فليكن هذا منهم على بال .
ففي هذا الدعاء هدايةٌ وكفايةٌ ووِقاية .
ثانيها : الحرص على مُصاحبةِ الملك .
احرص على مُصاحبةِ الملك لِتُحفظ بحفظه .
هل رأيت تلك السيارات التي تناثرت على جَنَبات الطريق ، فتناثرت تلك الأُسر ، وتطايرت حاجياتُها ، وأصابها ما أصابها
أجزم أن من أسباب ذلك عدم الحرص على الأدعية والأذكار .
وقد يُعدُّ هذا ضربا من المبالغة أو من التهويل ، وليس الأمر كذلك .(3/219)
تأمل معي هذا القدر من دعاء السفر الذي كان يدعو به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :
اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى . اللهم هَوّن علينا سفرنا هذا واطْوِ عنّا بُعده . اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل . اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنظر ، وسوء المنقلب في المال والأهل . رواه مسلم . وفي رواية له :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاءِ السفر ، وكآبةِ المنقلب والحورِ بعد الكون ، ودعوةِ المظلوم ، وسوءِ المنظرِ في الأهلِ والمال .
وإذا رأيت أن النفوس قد تغيّرت في السفر فاعلم أن من أسباب ذلك عدم المحافظة على دعاء السفر ونحوه ، فإن دعاء السفر تضمن الاستعاذة بالله من المشقة والهم والحُزن.
وكما أن المحافظةَ على الأذكار سببٌ في حفظ اللهِ لِعبدِه ، فإن التفريط في الأذكار قد يكون سبباً في وقوع ما يسوء .
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة قال : أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك . رواه مسلم .
ولست بالشامت فيمن أصابتهم الحوادث، فإن المُذكِّر قد يُذكّر الناسَ بشيءٍ وينساه ، فيُصاب هو .
ولذا لما حدّث أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم . ثلاث مرات حين يُمسي لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح .
ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات ، لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي .
فأصاب أبانَ بنَ عثمان الفالج ، فجعلَ الرجلُ الذي سمع منه الحديث ينظر إليه ، فقال له : مالك تنظر إليّ ؟ فو الله ما كذبتُ على عثمان ، ولا كذب عثمانُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت فنسيت أن أقولها .(3/220)
وفي رواية : ولكني لم أقله يومئذ ليمضيَ اللهُ عليَّ قدرَه . رواه أبو داود والترمذي ، وهو حديث صحيح .
إذاً فلا تستغرب مثلَ هذا القول .
أعني لا تستغرب أن يُقال إن ما يُصيب بعض الأسر في الحوادث قد يكون بسبب تفريطهم في الأدعية والأذكار .
ولتحرص الأسرة على اقتناء شيء من الكتيبات والقصص وكُتيّب " حِصْنِ المسلم " ففيه الكثير من الأدعية والأذكار ، وإذا انطلقت الأسرة مسافرة فليقرأ أحدُ أفرادِها دعاءَ السفر ، وليُردد من لم يحفظه من الصغار أو الكبار .
ثالثاً: لِقطع المسافات الطويلة أقترِح أن يُقطع الملل بقراءة القرآن من بعض أفراد الأُسرة ويروي أحدُهم قصة ، وآخر يُنشد أنشودة .
وهذه طريقة مرعية عند سلفِ هذه الأمة .
قال سلمة بن الأكوع : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ، فقال رجل من القوم : أي عامر ! لو أسمعتنا من هُنيهاتِك ، فنزل يحدو بهم ، يذكر " تالله لو الله ما اهتدينا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذا السائق ؟ قالوا : عامر بن الأكوع . قال : يرحمه الله . فقال رجل من القوم : يا رسول الله لو متعتنا به ، فلما صافّ القوم قاتلوهم ، وأصيب عامر رضي الله عنه . رواه البخاري .
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لِحَادِيهِ – الذي يحدو ويُنشد بصوت حسَن - : ويحك يا أنجشة ! رويدَك سوقَك بالقوارير .
قال أبو قِلابة : فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلّم بها بعضكم لعبتموها عليه . قوله : سوقَك بالقوارير .
وفي رواية لمسلم قال أنس : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حَادٍ حسنُ الصوتِ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : رويداً يا أنجشة لا تكسر القوارير . يعني ضعفة النساء .
ولإذهاب الملل والسآمة عن الصغار تُجلب لهم بعض الألعاب يلهون بها داخل السيارة يقطعون بها السفر .(3/221)
رابعاً: استغلال أوقات الإجابة خاصة أن بعض الأسفار توافقُ آخرَ ساعةٍ من يوم الجمعة ، وفيه ساعةُ إجابة ، فيحسُن تذكير أفراد الأسرة بهذه الساعة ، وحثِّهم على الدعاء .
خامساً:– تذكيرُ أفرادِ الأسرة بعضِهم لبعض ببعض آيات الله الكونية ، فإذا مرّوا بالإبل على الطريق تذكّروا قوله سبحانه : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقت )
وإذا مرّوا بالجبال – مثلاً – تذكروا ما يتعلّق بها من آيات ، وكيف أنها على عِظمِها تكون يومَ القيامةِ كالصُّوف .
وهكذا ...
وإذا أقبل الليل وهم في سفرهم حرصوا على أذكار المساء .
وهناك بعض الكُتيّبات وبعض البطاقات التي توضع في الجيب يحس الحصول عليها والمحافظة على أذكار الصباح والمساء .
ولا تُضيّق الأسرة على نفسها في سفرها ، ولتترخّص بِرُخصِ السفر ، فإن الله يحب أن تُؤتى رخصُه ، كما يكره أن تؤتى معصيتُه . كما في المسند وغيره .
تاسعاً : مُقترحات .
هذه الإجازات من أثمنِ الأوقات ، وينبغي اغتنام الأوقات بما يعود بالنفع والفائدة .
ولعلي أسوق بعضَ المُقتَرَحات للتذكير بها .
1 - الاستفادة من الإجازة لكل أفراد الأسرة .
فيُستفاد من الدروس العلمية التي تجمع العلمَ الغزير في الوقت اليسير ، ويُمكن الاستفادة منها للرجال والنساء حيث تُوجد في كثيرٍ منها أماكن للنساء .
وهي في مُختلَف المناطق ، وفي أوقات متفرقة من الإجازة .
كما يُمكن أن يُلحقَ أفرادُ الأسرةِ بما يُناسبهم .
فيُلحقُ الذكور والإناث بالمراكز الصيفية إن وُجِدت ، أو بحلقِ تحفيظِ القرآنِ الكريم واستغلالِ تلك الفُرص الذهبية ، وقد أُعلِن عن دورة لحفظ كتاب الله خلالَ سبعةِ أسابيع
أو يُلحقون بما يعود عليهم بالنفع العاجل أو الآجل ، كالدورات التدريبية على الحاسب أو تعلّم السباحة ، وقد كان عمرُ رضي الله عنه يكتب مما يكتب به إلى الآفاق : وعلموا صبيانكم الكتابة والسباحة . كما عند عبد الرزاق في المُصنّف .(3/222)
وتُلحق البنات بدورِ تحفيظ القرآن ، وهي بحمد الله قد انتشرت ، فيجد رب الأسرة ذلك في ميزان حسناته يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون .
وقد تكون هناك أوقات خاصة عند البنات فيحسُن أن يُعلّمنَ أعمال المنزل من طبخ وخياطة ونحو ذلك ، ولا يترك هذا الأمر للخدم فحسب .
فإن عمل المرأة في بيتها أجر وغنيمة إذا احتسبت ذلك .
ويحسن أن يحفظ أفراد الأسرة سورةَ تبارك وهي المُنجية من عذاب القبر ، وسورةَ الكهف ، خاصة العشر الآيات الأولى منها ، فإنها تعصم من الدجال .
2 - يُمكن أن يُستفاد من بعض الوقت في حفظ شيء من السنة النبوية ، وتعلّم الآداب التي يستفيد منها جميعُ أفرادِ الأسرة في حياتِهم وفي تعامُلاتِهم .
ويُضاف إلى ذلك تعلّم شيء من سيرة النبي المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم ، ودراسة بعض سيرِ أصحابه رضوانُ الله عليهم .
فإن كثيراً من أولادنا يجهلون الكثير عن سيرته صلى الله عليه وسلم ، بينما يحفظون أسماء الفنانين واللاعبين .
3 - يُوصى بالاستفادة من المخيّمات الصيفية التي تُقام في المصايف حتى لا تذهب الأوقات هَدرا ، وتضيعُ سدى .
وفي تلك المُخيّمات برامج يستفيد منها جميع أفراد الأسرة .
4 - يُمكن عمل مسابقات في البيت لحفظ شيء من القرآن أو من السنة ، أو شحذ الهمّة لطلب العلم ، ووضعِ لوحةٍ حائطية تُكتب عليها أسئلة المسابقة ، وأسماء الفائزين .
5 – السفر إلى بلد الله الحرام ، وأداء العمرة ، وتعليق قلوب أفراد الأسرة بالبيت العتيق ، وزيارة المدينة النبوية والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، والتذكير بما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سبيل إقامة هذا الدين .
6 – ترتيب أوقات يُزار فيها الأقارب ، والتّذكير بحقوقِ الأقاربِ وفضلِ صِلةِ الرّحم .
7 – ترتيب وقت آخر لزيارة المقابر والتذكير باليوم الآخر .(3/223)
8 - أقترح أن يتم ترتيب أفكار قضاء الإجازة ، وأن يُدوّن ذلك على ورقة بحيث يُعرف في أي شيء يتم قضاء الإجازة ، وفق برنامج مُحدد مُفيد .
9 – يجب أن تحرص الأسرة عند النزولِ في مكان من الاستعاذة بالله ، وأن يقولوا: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق . ليُحفظوا من الهوام والجن وغير ذلك خاصة في الرحلات البريّة ، وعند البُروزِ إلى الصحاري .
فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : من نزل منزلا ثم قال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضُرُّه شيءٌ حتى يرتحل من منزله ذلك . رواه مسلم .
10 - جرّب أوقات يصح أن نُسمّيها " ميّتة " بالنسبة لكثير من الأُسر .
جرّب مع أسرتك أن تنام مُبكّرا وتستيقظ مُبكّراً ، فإن البكور مُبارك .
جرّب تلك الأوقات لتجلس فيها مع بعض أفراد أُسرتِك .
وجرّب فيها الجلوس في الحدائق والمتنزهات أو على شواطئ البحار ، فإن المكان يكون لك وحدَك ، مع طيبِ الجو ونقاءِ الهواء .
اجلس حتى ترتفع الشمس وأبحث لك عن ظلٍّ وارف وسوف تجد مُتعةَ صفاءَ الجو وقلّةِ المُرتاد .
11- بعض الأسر تُمضي الوقت كلَّه في لهو ولعب وأحيانا في تسوّق دون أن تكون هناك فائدةٌ تُذكر .
بينما يحرص بعض أرباب الأسر في أسفارِهم وإجازاتِهم على تحصيل الفائدة إلى جانب المتعة .
وتحرص بعض الأُسر على اكتساب الفوائد واقتناص الأوابد .
فيُجعل قدرٌ من القرآن للحفظِ في كلِّ يوم ، وتكون التنزّهات والتّمشيات والاستجابة لطلبات أفراد الأُسرة بقدر ما قاموا به من حفظٍ وتعاونٍ بينهم وتفاهمٍ لتسودَ روحُ المحبةِ بين أفرادِ الأُسرة .
عاشراً وأخيراً : أخطاء ومُنكرات .
أولاً : السفر المُحرّم إلى بلاد الكفر والعُهر .(3/224)
فبعضُ الأُسر تتهيأ لهذه الإجازة ، فما أنْ تقفُ الإجازة على الأبواب إلا وقد وقفوا على أبوابِ المطارات وعتباتِ الطائرات ، وعندها تُودَّعُ العباءات ، وتُلفُّ كالثوبِ الخَلِق ويُلفُّ معها الحياء وكأنهم لما غابوا عن بلادِهم غابوا عن عينِ الله .
ولا شك أن هؤلاء قد استخفُّوا بِنظرِ الله ، بل جعلوه أهونَ الناظرين إليهم .
لقد ربطوا أمتِعَتَهم ليُسافروا إلى بلادٍ تُقتلُ فيها الفضيلة ، وتوأد فيها العِفّة ، ولا وجود في أرضها للحياء ، فلا تسل بعد ذلك عما جنته يدُ الولي .
وربما تفرّق أفرادُ الأسرةِ عند وصولِهم فلا شأن لفردٍ بآخر ، فكلٌّ يُغنّي على ليلاه .
وربما سافرت بعض العوائل إلى مثل تلك البلاد من غير وجودِ محرم .
ثانياً : ( من الأخطاء والمنكرات في الإجازة ) السهر .
في الإجازات يتم تبادل الزيارات ، وتكثر الرحلات ، كما تكثر النُزُهات البرية خاصة في ليالي الصيف ، ثم يمتد السهر إلى ساعات متأخرة بالإضافة إلى قِصَرِ الليل وينبني على ذلك ما يلي :
1 – كثرة النوم ، مما يؤدّي إلى إضاعة الصلوات ، وإهدار أنفسِ الأشياء ، وهو الوقت .
ومما يُلحظ خلال الإجازات أن بعض ألسر تسهر حتى ساعة متأخرة من الليل ، ويشدّ بعضُهم أزر بعض على السهر ، ويتعاونون على ذلك ، ولكن لا تجد أحداً يشد من أزر أحد للبقاء حتى تؤدّى صلاةُ الفجر .
ولا تجد فردا من أفراد الأسرة يُعين آخر على تخصيص وقت لقيام الليل مثلا أو قراءة القرآن ، أو التعاون على البر والتقوى .
2 - ( مما يترتّب على ذلك السهر )
الاعتماد الكامل على الخدم ، وترك الجميع يغطُّ في سُبات عميق .
ومن الأخطاء والمنكرات :
ثالثاً : تُقيمُ بعضُ الأُسر احتفالات لأبنائها الناجحين أو لبناتِها الناجحات ، ويصحبُ تلك الاحتفالات ما يصحبُها من موسيقى صاخبة أو أغاني ماجنة ورقصٍ ونحو ذلك .(3/225)
رابعاً : جلوس بعض الأسر قريباً من بعض بحيث لا يفصل بعضها عن بعض سوى أمتار ، خاصةً في البراري والمتنزّهات أو على شواطئ البحار ، مما لا يؤمن معه نظرةٌ مُحرّمة أو التقاطُ صور ، خاصة مع ظهور بعض أجهزة الجوال التي يُمكن من خلالها التصوير دون أن يشعر بذلك المُصوَّر .
خامساً : اصطحابُ بعضِ الأجهزةِ الجالبةِ للشر والفتنة والرذيلة .
عندما تخرج بعض الأُسر إلى الحدائق أو الشواطئ ونحوها فإن بعض الأسر تُصرُّ على اصطحاب بعض الأجهزة التي اعتادوا عليها فهي لهم بمنزلة الماء والهواء !
ولا شك أن إراحة العيون بل القلوب من مثل تلك الأجهزة مطلبٌ مُلِحّ .
فَلِمَ الحرص على اكتساب الذنوب وإزعاج الآخرين بأصوات الموسيقى ؟
لقد قالت بُنيّةٌ لأبيها بعد أن رأت ما يُعرض في تلك القنوات . قالت : بابا اليوم شفت وحده ما عليها ثياب !
إذاً فلتحرِص الأسرة خاصة عند السكن في الشقق والفنادق لِتحرِص على حجب تلك القنوات أو إلغائها عن طريق إدارة الفندق أو الشُّقة .
ولِمَ يُصرّ البعض على ارتياد الأماكن العامة ومُضايقة الآخرين سواء كان ذلك بالتدخين وتلويث الهواء ، أو كان بتصرّفات بعض أفراد أسرته ، أو ترك المكان أشبهَ ما يكون بِمَزبَلَة !
سادساً : عدمُ إعطاء الخدم حظّهم من الإجازة والفسحة ، مما يؤدي إلى تكليفهم ما فيه مشقة
ولئن كان الاعتماد على الخدم سائغاً عند بعض الناس أيام الدراسة وأوقات العمل فلا يسيغ أبدا الاعتماد عليهم في كل وقت حتى في أوقات الإجازات ، وعدم إعطائهم إجازات حتى في أيام الجُمَع
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه ، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلةً أو أكلتين ، أو لقمةً أو لقمتين ، فإنه وَليَ حَرَّه وعِلاجَه . متفق عليه .(3/226)
وقال عليه الصلاة والسلام : هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم . متفق عليه .
وهذا في حق الموالي ، فكيف بالأحرار ممن ألجأتهم ظروف الحياة وضيق المعيشة على خدمةِ الآخَرِين ؟؟
ولا شك أن الاعتماد على الخدم والسائقين خطأ ، لأنه يُعوّد أفرادَ الأسرة على الكسل والاتكالية والاعتماد على الآخرين في كل صغيرة وكبيرة .
فمتى تتعلّم البنات ؟
ومتى يُعتمد على البنين ؟
ومتى يتحمّلون المسؤولية ؟
وخِتاماً :
أسأل الله أن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا .
وأن يُجزل لكم الأجر والمثوبة ، وأن يجزي الأخ بشير العنزي خير الجزاء .
322-( خَمْسٌ لا يَعلمهن إلاَّ الله )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن الله تبارك وتعالى أثنى على الذين يؤمنون بالغيب ، وما ذلك إلا لأنهم آمنوا وصدقوا بما لم يروه من موعود الله ومن خبر رسوله صلى الله عليه وسلم .(3/227)
قال الله جل جلاله : ( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
والإيمان بالغيب هو الذي ينفع صاحبَه .
أما إذا عاين العبد ورأى رأي عين فإنه لا ينفعه الإيمان ، بل لا يكون إيمانا بالغيب .
كأن يُعاين ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب عند الاحتضار ، فإن الإيمان حينئذ لا ينفعه لأنه آمن بما هو مشاهد فلا يكون إيمان بالغيب .
قال الله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )
ولذا لما آمن فرعون عند معاينة الموت ومُصارعة الغرق لم ينفعه إيمانه ، فقال لما أدركه الغرق : (آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
فقال الله جل جلاله : ( آَلآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )
يعني الآن تؤمن لما عاينت الهلاك ... فأين أنت وقت الإمهال وزمن قبول التوبة ؟
كما أنه لا ينفعه الإيمان حينما يُدرك طلوع الشمس من مغربها ، لأنه آمن بشيء مُشاهد .(3/228)
قال الله تبارك وتعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ )
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون ، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو
كسبت في إيمانها خيرا . متفق عليه .
وقال عليه الصلاة والسلام : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض . رواه مسلم .
وقد يبتلي الله عباده ليعلم سبحانه من يخافُه بالغيب ومَنْ يعلم علم يقين أن الله مطّلعٌ عليه .
قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
وقد وعد الله الذين يخشونه بالغيب بالمغفرة في الدنيا والأجر الكبير في الآخرة .
قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )
وأما علم الغيب فهو مما اختص الله به نفسه وحَجَبَه عن عباده لمصلحتهم .
قال ابن القيم – رحمه الله – وهو يُبيّن العلم الممنوح للعباد والعلم الممنوع :(3/229)
قال : ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك [ أي علم ما سوى ما ينفعهم ] مما ليس في شأنهم ولا فيه مصلحة لهم ولا نشأتهم قابلة له ، كعلم الغيب وعلمِ ما كان وكلّ ما يكون ، والعلم بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال ومساقط الأوراق وعدد الكواكب ومقادِيرها ، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى وما في لجج البحار وأقطار العالم وما يُكِنُّه الناس في صدورهم ، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ، إلى سائر ما عزب عنهم علمه ، فمن تكلف معرفة ذلك فقد ظلم نفسه وبخس من التوفيق حظه ولم يحصل إلا على الجهل المركب والخيال الفاسد في أكثر أمره .
وقال أيضا : ومن حكمته سبحانه ما منعهم من العلم علم الساعة ومعرفة آجالهم وفي ذلك من الحكمة البالغة مالا يحتاج إلى نظر فلو عرف الإنسان مقدار عمره فإن كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش وكيف يتهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت فلولا طول الأمل لخربت الدنيا وإنما عمارتها بالآمال ، وإن كان طويل العمر وقد تحقق ذلك فهو واثق بالبقاء فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد ويقول إذا قرب الوقت أحدثت توبة ، وهذا مذهب لا يرتضيه الله تعالى عز وجل من عباده ولا يقبله منهم ولا تصلح عليه أحوال العالم ولا يصلح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمته وسبق في علمه ، فلو أن عبدا من عبيدك عمل على أن يُسخطك أعواما ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه ولم يفز لديك بما يفوز به من همه رضاك ، وكذا سُنة الله عز وجل أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم ينفعه توبة ولا إقلاع ...
إلى أن قال – رحمه الله – : فَبَانَ أن من حكمة الله ونِعمه على عباده أنْ ستر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم ،فلا يزال الكيِّس يترقب الموت وقد وضعه بين عينيه فينكف عما يضره في معاده ويجتهد فيما ينفعه ويُسرُّ به عند القدوم . انتهى كلامه .(3/230)
وإن الله اختص نفسه بعلم خمسة أشياء ، فلا يعلمها نبيٌّ مرسل ولا مَلَكٌ مُقرّب .
فمن ادّعى علم شيءٍ من هذه الخمس فقد أعظم الفرية ، وافترى على الله الكذب ، وقد قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ )
وهذه الخمس سماها الله عز وجل مفاتح الغيب : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )
وكذلك سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله عليه الصلاة والسلام : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله . رواه البخاري .
وإنما سُمّيت مفاتيح الغيب لأنها مفاتيح لما بعدها كما ذكر العلماء .
فقالوا :
قيام الساعة مفتاح لليوم الآخر .
ونزول الغيث مفتاح لحياة الأرض .
وعلم ما في الأرحام مفتاح لحياة المخلوقات .
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا مفتاح للأرزاق .
وما تدري نفس بأي أرض تموت مفتاح للقيامة الصغرى لكل إنسان بحسبه .
وهذه الخمس تُعرف بالعلامات والأمارات والدلائل(3/231)
كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال رضي الله عنه :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزاً للناس ، فأتاه رجل ، فقال :يا رسول الله ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر . قال : يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال : يا رسول الله ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربَّها فذاك من أشراطها ، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ثم أدبر ، فقال ردوه ، فلم يروا شيئا ، فقال : هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم رواه البخاري ومسلم .
فالله سبحانه هو عالِم الغيب والشهادة .
وقد وصف الله نفسه بذلك فقال تبارك وتعالى : ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ )
وقال جل وعلا : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلاّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا )(3/232)
وقال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا )
وقال جل جلاله: ( وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )
وقال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
ولما قالت جارية : وفينا نبي يعلم ما في غد . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين . رواه البخاري .
وقالت عائشة : ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) وقرأت : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد ، فقد كذب ، ثم قرأت : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا )
ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ، ثم قرأت : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) الآية . متفق عليه .
وفي رواية لمسلم قالت رضي الله عنها : ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية – وذَكَرَتْ منهنّ - : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ )(3/233)
ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة أمره الله عز وجل أن يقول : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )
ولما سأله جبريل متى الساعة ؟
قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل .
ولما خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قام النبي عليه الصلاة والسلام فزعا يخشى أن تكون الساعة فأتى المسجد فصلى . والحديث متفق عليه .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى الساعة فغيره من باب أولى .
بل إن ملكا من الملائكة العِظام وهو إسرافيل الذي وُكِّل بالنفخ في الصور لا يعلم متى يؤمر .
قال عليه الصلاة والسلام : كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وأحنى جبهته وأصغى سمعه ينظر متى يؤمر . قال المسلمون : يا رسول الله فما نقول ؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا . رواه الإمام أحمد والترمذي .
وقال صلى الله عليه وسلم : خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة . ما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا بن آدم . رواه الإمام أحمد وغيره .
ويُنزل الغيث .
فلا يعلم عدد قطر الأمطار ، ولا متى ينزل المطر إلا الله .
ويجب على المسلم أن يعتقد جازما أن الغيث منّةٌ من الله سبحانه وتعالى ، فلا يُنسب نزول الغيث إلى نجم ولا إلى نوء .(3/234)
ولذا لما صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال :هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال : قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب . رواه البخاري ومسلم .
والنجوم أو الكواكب أو غيرها من مخلوقات الله لا يُنسب لها فعل ولا ترك .
بخلاف ما إذا كان ذلك للتوقيت لا لنسبة الأفعال إليها .
مثل قول بعض الناس : يالله بنوٍّ .. وما أشبه ذلك .
ويعلم مافي الأرحام .
وهذه المسألة مما يُشكل على بعض الناس فيظنون أن الطب اليوم توصل لمعرفة ما في الأرحام ، وليس الأمر كما ظنوا .
فالله عز وجل قال ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ) فلفظ ( مَا فِي الأَرْحَامِ ) عام يشمل الإنس والجن والوحش ، ومافي البحر من ذوات الأرحام ، والطيور ذوات الأرحام .
فلا يعلم جميع مافي هذه الأرحام إلا الله ، ولا يُحيط بها إحاطة شاملة تامة إلا الله عز وجل .
ثم إنهم لا يعلمون مافي الأرحام إنما يُحاولون ويتوقّعون فيقولون بنسبة كذا ذكر وبنسبة كذا أنثى ، ثم قد تقع ما توقعوه وقد لا يقع كما قالوا .
( إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ )
ثم – ثالثاً – لا يتكلمون عما في الأرحام إلا بعد ظهور علامات ، فهم كمن يتكلّم عن الغيث بالعلامات الدالة عليه من غيم وسحاب .
أو كمن يتكلّم عن الساعة بعلاماتها وأماراتها الدالة على قُربها .
ومهما أوتوا من علم فلن يستطيعوا معرفة أمرين :
الأول : جميع مافي الأرحام .
والثاني : معرفة مافي الأرحام قبل أربعين يوم .(3/235)
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول : إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك فيقول يا رب أذكر أو أنثى ، فيجعله الله ذكرا أو أنثى ، ثم يقول يا رب أسويٌّ أو غيرُ سويّ ، فيجعله الله سويا أو غير َسويّ ، ثم يقول يا رب ما رزقه ؟ ما أجله ؟ ما خلقه ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا .
فهذا المَلَك علِمَ بعد مضي أربعين يوما ، فإذا علِمَ أحد بعده فلا يكون من علم الغيب المُطلق .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . الحديث . رواه البخاري ومسلم .
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا .
وما تدري نفس بأي أرض تموت .
وهذه يُمكن أن يعرف منها علامات وأمارات بأشياء يُسبشر بها ولا يُجزم بها ولا يُعوّل عليها .
وقد ورد في تفسير قوله تعالى : ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أنها الرؤيا الصالحة .
وقال عليه الصلاة والسلام : لم يبق من النبوة إلا المبشرات . قالوا : وما المبشرات قال : الرؤيا الصالحة . رواه البخاري .
وفي الحديث الآخر : قالوا :يا رسول الله وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له . رواه أحمد وغيره .
وقال عليه الصلاة والسلام : الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .
وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها .(3/236)
ومن هذا الباب – أعني باب الرؤى – ما يقع لبعض الصالحين أنه يرى في المنام رؤيا فيُقال له تلحق بنا – مثلاً – بعد ثلاث ، وما أشبه ذلك .
أو أن يرى رؤيا فتُأوّل على أنه يأتيه مال في يوم كذا أو بعد أسبوع أو شهر وما أشبه ذلك
فكل هذا من الأشياء التي يُستبشر بها ولا يُعوّل عليها كما تقدّم . فهي مُبشّرات .
وقد روى ابن المبارك في كتاب الجهاد عن ثابت البناني أن فتى غزا زمانا وتعرض للشهادة فلم يصبها فحدث نفسه فقال: والله ما أراني إلا لو قفلت إلى أهلي فتزوجت قال ثم قَالَ في الفسطاط ( أي نام عند الظهيرة ) ثم أيقظه أصحابه لصلاة الظهر فبكى حتى خاف أصحابه أن يكون قد أصابه شيء ، فلما رأى ذلك قال إني ليس بي بأس ، ولكنه أتاني آت وأنا في المنام فقال : انطلق إلى زوجتك العيناء ( واسعة العين ) قال فقمت معه فانطلق بي في أرض بيضاء نقية ، فأتينا على روضة ما رأيت روضة قط أحسن منها ، فإذا فيها عشر جوار ما رأيت مثلهن قط ولا أحسن منهم ، فرجوت أن تكون إحداهن ، فقلت : أفيكن العيناء ؟ قلن : هي بين أيدينا ونحن جواريها . قال : فمضيت مع صاحبي فإذا روضة أخرى يضعف حسنها على حسن التي تَرَكْت ، فيها عشرون جارية يضاعف حسنهن على حسن الجواري اللاتي خلّفت ، فرجوت أن تكون إحداهن ، فقلت : أفيكن العيناء ؟ قلن : هي بين أيدينا ونحن جواريها حتى ذكر ثلاثين جارية . قال : ثم انتهيت الى قبة من ياقوتة حمراء مجوفة قد أضاء لها ما حولها ، فقال لي صاحبي : ادخل . فدخلت ، فإذا امرأة ليس للقبة معها ضوء ، فجلست فتحدثت ساعة فجعلت تحدثني فقال صاحبي : اخرج انطلق . قال : ولا أستطيع أن أعصيه . قال : فقمت فأخَذَتْ بطرف ردائي فقالت أفطر عندنا الليلة ، فلما أيقظتموني رأيت إنما هو حلم ، فبكيت ف، لم يلبثوا أن نودي في الخيل . قال : فركب الناس فما زالوا يتطاردون حتى إذا غابت الشمس وحل للصائم الإفطار أصيب تلك الساعة وكان صائما .(3/237)
فهذا من هذا الباب لا أنه يُجزم له بالموت تلك الساعة وذلك اليوم في ذلك المكان .
وكم تعرّض سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه للقتل ولم يُقتل بل مات على فراشه
ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها . كما قال عليه الصلاة والسلام .
ومما يلحق بهذا الباب – أعني باب علم الغيب – مايدّعيه بعض الناس من علم النجوم ، وما يُسمّونه بالأبراج ، وما يتعلّق بذلك مما يزعمونه من غنى أو فقر أو مرض .
وهذه كلُّها من أمور الجاهلية كما في قوله صلى الله عليه وسلم : أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة رواه مسلم .
وقال ابن عباس : خلال من خلال الجاهلية : الطعن في الأنساب ، والنياحة والاستسقاء بالأنواء كما في صحيح البخاري .(3/238)
قال قتادة رحمه الله تعالى : إن الله تبارك وتعالى خلق هذه النجوم لثلاث خصال جعلها زينة السماء ، وجعلها يهتدي بها ، وجعلها رجوماً للشياطين ، فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلّف ما لا علم له به ، وإن ناسا جهلة بأمر الله تعالى قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة مَنْ غرس بنجم كذا وكذا كان كذا ، و مَنْ ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ولعمري ما من نجم إلا يُولد به القصير والطويل والأحمر والأبيض والحسن والدميم ، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذه الطير شيئا من الغيب ... ولعمري لو أن أحداً علم الغيب لعلم آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة يأكل منها رغدا حيث شاء ونُهيَ عن شجرة واحدة فلم يزل به البلاء حتى وقع بما نهي عنه ، ولو كان أحد يعلم الغيب لعلم الجن حيث مات سليمان بن داود عليهما السلام فلبثت تعمل حولا في أشد العذاب وأشد الهوان لا يشعرون بموته فما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل من منسأته أي نأكل عصاه ، فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانت الجن تعلم الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، وكانت الجن تقول مثل ذلك : إنها كانت تعلم الغيب ، وتعلم ما في غد ، فابتلاهم الله عز وجل بذلك ، وجعل موت نبي الله عليه الصلاة والسلام للجن عظة ، وللناس عبرة . اهـ .
وقد كان سلفُ هذه الأمة ينهون عن تعلّم علم النجوم لأنه يدعوا إلى الكهانة والسحر والشعوذة ، وربما نُسب إليها شيء من الأفعال .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لمولاه كُريب : يا غلام إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة .(3/239)
وإذا علم أيضا أن النفع والضر بيد الله لم يلجأ إلا إلى الله ، ولم يطلب الشفاء إلا من الله ، وهو مع ذلك مأمور بفعل الأسباب المباحة .
وهاهنا مسألة .
وهي أن بعض الناس عبدٌ لله في الرخاء ، وأما في الشدة فإنه ينسى ربّه بخلاف المشركين الأوائل الذين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ، وبخلاف من وصفه الله بقوله : ( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
فإذا أصابته مصيبة من مسٍّ أو سحر أو عين لجأ إلى السحرة و والكهان والمشعوذين .
وحال بعض الناس إذا أصيب بشيءٍ مما تقدّم كحالِ تلك المرأة التي مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي عند قبر ، فقال : اتقي الله واصبري . قالت : إليك عني ،فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوّابين ، فقالت لم أعرفك ، فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى . متفق عليه .
والإتيان إلى السحرة والعرافين والكهان الذين يدّعون أنهم يعلمون الغيب فيه خطورة على دين المسلم ....
وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من مجرّد سؤال هؤلاء لما يُحدثون في دين الناس مِنْ لَبْسٍ وخداع
فقال عليه الصلاة والسلام : من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة . رواه مسلم .
وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام : من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد وغيره .
وقال صلى الله عليه وسلم : من أتى كاهنا فصدقه بما يقول أو أتى امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد وغيره .(3/240)
والكاهن هو الذي تخدمه الشياطين فيُخبرونه بالمُغيَّبات وبما يسترقون من السمع فيُضيف إلى نلك الكلمة الواحدة التي استرقتها الشياطين مائة كِذْبَة حتى يُلبّس على الناس
وقد سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بشيء . قالوا : يا رسول الله فإنهم يحدّثون أحيانا الشيء يكون حقا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقرها في أذن وليّه قرّ الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كِذْبَة . رواه البخاري ومسلم .
والعرّاف : قيل هو الكاهن ، وهو الذي يُخبر عن المستقبل .
وقيل اسم عام للكاهن والمنجّم والرمّال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدِّمات يستعملها .
وتصديق هؤلاء الكُهان والعرافين والمنجمين وغيرهم من الدجاجلة الأفّاكين يكون كفراً بالله من وجهين :
1 – تصديقهم بما يقولون وبما يدّعون من كذبٍ وافتراء أنهم يعلمون شئياً من الغيب ..
2- عمل ما به شرك مِن ذبح أو تقرّبٍ أو إراقة ماء أو لبن في مكان معين دون ذكر اسم الله ونحو ذلك .
والسحر يعتمد ويقوم على ثلاثة أركان :
الكفر بالله – الكذب – الاستعانة بشياطين الجن .
ويُستخدم السّحر لترويج الباطل ، كما في قصة فرعون ومحاولة تضليل الناس وصدّهم عن الحق بما كان يتعاطاه من السّحر وتوظيف السحرة لصالح إفكه وما يفتريه .
وكما في قصة أصحاب الأخدود ، فقد روى الإمام مسلم من حديث صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت ، فأبعث إلي غلاما أعلمه السحر ... في قصة طويلة .
والسّحر بضاعةٌ يهودية .
ولذا حاولت يهود أن تسحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود ، ومع ذلك صبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليُخيل إليه أن يأتي الأمر وهو لم يأته .(3/241)
ولم يكن لهذا السحر تأثير على تبليغه صلى الله عليه وسلم لدين الله تعالى .
قالت عائشة : سَحَرَ رسولَ الله رجل من يهود يُقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله حتى إذا كان ذات يوم وذات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا ثم قال : يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر ثم رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي والذي عند رجلي للذي عند رأسي ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب قال : من طبه قال لبيد بن الأعصم قال : في أي شيء ؟ قال في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر . قال فأين هو ؟ قال : في بئر ذي أروان ، قالت : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ثم قال : يا عائشة والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين قالت فقلت : يا رسول الله أفلا أحرقته ؟ قال : لا أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرتُ بها فدُفنت . رواه البخاري ومسلم .(3/242)
قال الله عز وجل : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )
قال القرطبي – رحمه الله – : هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا وهم اليهود .
وكذا قال ابن جرير الطبري – رحمه الله – .
والساحر حدّه ضربة بالسيف ، ولا يُستتاب ، ولذا أمر عمر رضي الله عنه بقتل كل ساحر وساحرة .
وذلك لعظيم خطر الساحر وشرّه ، وأنه كافر بالله العظيم .
قال بجالة بن عَبَدة : أتانا كتاب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . قال فقتلنا ثلاث سواحر . رواه أحمد وغيره .
وقد قتلت حفصة جارية لها سحرتها .
وقتل جندب الخير ساحراً كان يدعي أنه يحيي الموتى ، فقال بعد أن قتله : ليحيي نفسه إن كان صادقا .
وهم يدّعون علم الغيب أعني السحرة والكهان والعرافين والمشعوذين .
ويُلبّسون على الناس الأمر ... كما تقدّم من أنهم يسمعون الكلمة الواحدة فيزيدون عليها مائة كِذْبَة .
فلا يأتي إلى هؤلاء ويطلب العلاج عندهم إلا من قل حظُّه ونصيبه من الإيمان .(3/243)
ومن الناس من إذا ابتلي ذهب إلى السحرة والكهان والعرافين والمشعوذين يلتمس عندهم الشفاء ، وما يدري أنه يُذهب دينه بذهابه إليهم ، بل قد يُذهب دينه ودُنياه .
والله عز وجل لا يبتلي عباده عبثاً ، بل يبتلي عباده لحكم عظيمة ، منها :
أن الابتلاء سنة ربانية ، وامتحان ، فكلّ هذه الحياة امتحان وابتلاء ، ليعلم الله من يُطيعه ورسله بالغيب ، ومن يصبر على بلاء مولاه ممن يتسخّط الأقدار ، ولا يرضى بما قسم الله له .
ومِنْ حِكَمِ الإبتلاء : أن الله يكتب للعبد منزلة لا يبلغها العبد بعمله فيبتليه حتى يصل إلى تلك المنزلة .
ومنها : أن العبد يقع في الخطايا وتقع منه الزلات ، فيكون البلاء تطهيراً له من الذنوب ، وإن البلاء لا يزال بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه ذنب .
أن الله عز وجل يحب الدعاء ، ويحب أن يسمع تضرع عبده فربما ابتلاه ليسمع دعائه وتضرعه ويرى انطراحه بين يدي مولاه .
أن الأبدان ربما صحّت بالعلل . فيكون أحيانا هذا المرض يطرد أمراضا أخرى أو يُصرف به كثير من الأمراض .
وما ثم إلا الله في كل حالة فلا تتّكل يوما على غير لطفه
فكم حالة تأتي ويكرهها الفتى وخيرته فيها على رغم أنفه
وليعلم المسلم أن صبره في هذه الدنيا على البلاء والابتلاء خير له في الآخرة ، ولذا إذا رأى الناس يوم القيامة ما لأهل البلاء مما أعدّه الله لهم تمنّوا أنهم تعرضوا للبلاء لرفعة درجاتهم .
قال صلى الله عليه وسلم : يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض .
فإذا صبر العبد وانطرح بين يدي ملاه وتضرع إليه وأخبت وأناب فرّج الله عنه وإلا كان دعاؤه والتجاؤه إلى الله عبادة وقربة .
ليعلم العبد أن الله جاعل له فرجا ومخرجا ، وأنه لن يغلب عسرٌ يُسرين ، وأنه من يتقّ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .(3/244)
فإذا ذهب الإنسان إلى هؤلاء لبّسوا عليه الأمر ، وربما أورثوه الشكّ في دينه .
بخلاف ما إذا استرشد وسأل أهل العلم والتقى .
ولا أدلّ على ذلك من قصة قاتِل المائة .
فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعه وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على راهب فأتاه ، فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال : لا فقتله ، فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة . انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء .
والعلماء هم الذين يُبصّرون الناس من العمى ، ولا أدلّ على ذلك من قصة ذلك الدجال الذي يدعي علم شيء من الغيب ، وكان ...
فإذا علم المسلم وأيقن أن السحرة لا يعلمون الغيب ، فإنه لا يذهب إليهم ولا يأتيهم .
ومما يدلّ على ضعف السحرة والكهان والعرفين أنهم يستعينون بالضعفاء ، وهم الجن والجن لا يعلمون الغيب .
ومما يدلّ على ضعف الجن أن الله سخّر الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام ، فلما مات بقيّ سنة كاملة وهو متكئ على عصاه والجن مسخّرة تخدمه ولا يعلمون أنه قد مات إلا بعد أن أكلت دابة الأرض ( الأرضة ) من عصاه فلما انكسر العصا خرّ سليمان فعلت الجن وتبيّن لهم أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .(3/245)
كما قصّ الله تبارك وتعالى ذلك في كتابه فقال : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ )
فعلمت الإنس وتبيّن أمر الجن الذين كانوا يدّعون علم الغيب أنهم لا يعلمون شيئا حتى مما يقع أمامهم وعلى مرأى ومسمع .
فهم أذلّ وأحقر من أن يعلموا الغيب أو أن يملكوا ضرا أو نفعا .
وتأمل حال سحرة فرعون ، كيف جمعوا كل ما استطاعوا إليه سبيلا ، وطلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام الانتظار ( أرجه وأخاه ) حتى يجمعوا كل ما يستطيعون من سحرهم وكيدهم ، ولكن الأمر كما ذكر الله عز وجل ( ولا يُفلح الساحر حيث أتى ) فجمعوا كيدهم وصفوا صفوفهم ، وألقوا حبالهم وعصيّهم وارهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم كما وصفه الله ، حتى أوجس موسى في نفسه خيفة منها ، فأوحى الله إليه ألا يخاف ، وأن يُلقي عصاه فإذا هي كحية عظيمة تلقف وتتلقف وتبتلع كل ما به يكيدون ، وكل ما جمعوا ...
وإذا كانوا صادقين – أعني السحرة والمشعوذين والعرافين والكهان ومن يدّعون علم الغيب فليُخبرونا بما سيكون ، لأنهم لا يُخبرون غالباً إلا بما كان ، وهذا ليس من علم الغيب .(3/246)
ومما يدلّ على ضعفهم أيضا أنهم لا يستطيعون أن يعملوا السحر إلا بأخذ أثر من آثار من يُريدون أن يعملوا له السحر .
كما أنهم لا يستطيعون أن يسحروا من تحصّن بالأذكار والأوراد الشرعية .
قال ابن القيم – رحمه الله – : وبالذِّكر يصرع العبدُ الشيطان ، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان . قال بعض السلف : إذا تمكن الذكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان ، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون ما لهذا فيقال : قد مسه الإنسي . انتهى كلامه .
فإذا ابتُلي المسلم بشيء من المس أو السحر أو العين فليتّق الله وليصبر ، ولا يأتي إلى السحرة ليفكّوا عنه السحر بسحر مثله ، فإن من الناس من يظن ظنّاً خاطئا ويعتقد اعتقاداً باطلا وهو أنه لا يفك السحر إلا ساحر .
وهذا غير صحيح لا من جهة النقل ونصوص الكتاب والسنة ولا من جهة العقل والتجربة ...
وأن الإنسان إذا أتى هؤلاء السحرة والعرافين والكهان فإما أن يصدقهم وإما ألا يُصدقهم .
فإن صدّقهم كفَرَ بالله كما تقدّم ، وإن لم يُصدّقهم لم تُقبل له صلاةٌ أربعين يوما .
ولكن عليه بعد تقوى الله والإنابة إليه والتوبة من مظالم العباد عليه بالصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم .
ثم عليه بالرقية والقراءة والعزيمة الشرعية .
وللقراءة شروط :
1 – أن تكون بالقرآن والسنة والأدعية المعروفة .
2 – أن تكون بلسان عربي مبين مفهوم .
3 – أن لا يعتقد أن النفع من القاريء أو من القراءة نفسها ، إنما النفع بيد الله ويكون الاستشفاء بكلام الله عز وجل .
ومما يمنع الجن وتسلطهم على الإنس قراءة سورة البقرة في البيت .
كما قال عليه الصلاة والسلام : اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة . قال معاوية بن سلاّم – : بلغني أن البطلة السحرة . رواه مسلم .
وكذلك تعويذ الصبيان بالمعوذات .(3/247)
فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعوّذُ الحسنَ والحسينَ ويقول : إن أباكماكان يَعوّذُ بها إسماعيلَ وإسحاق : أعوذُ بكلماتِ الله التامّة ، من كلّ شيطانٍ وهامّة ، ومن كل عينٍ لامّة . رواه البخاري .
وروى البخاري عن عمرو بن ميمون الأودي قال :كان سعدٌ ـ أي ابن أبي وقاص ـ يُعلّم بَنيهِ هَؤلاءِ الكلماتِ كما يُعلم المعلمُ الغِلمانَ الكتابَة ، ويقول : إِنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذُ منهنّ دُبُرَ الصلاةِ : اللّهمّ إِني أَعوذُ بكَ منَ الجُبنِ ، وأَعوذُ بكَ أَن أُرَدّ إِلى أَرذَلِ العُمر وأَعوذُ بكَ من فتنةِ الدّنيا ، وأَعوذُ بكَ من عَذابِ القَبر . فحدّثتُ بهِ مُصعَباً – يعني ابن سعد – فصدّقُه .
تعويذٌ واستعاذة بالله وحده .
وكذلك إخراج الصور من البيوت ... صور ذوات الأرواح ...
وقد امتنع جبريل من دخول منزل النبي صلى الله عليه وسلم لوجود جرو كلب ...
ويلحق بهذا آلات اللهو والطرب ، وما يُعرض فيها من صور الرجال والنساء .
وذكر الله عند دخول المنزل .
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا دخل الرجل بيته فذكر الله ثم دخوله وعند طعامه قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء .
وكذلك المحافظة على الورد اليومي من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك التّصبّح بسبع تمرات من تمر المدينة ، فإن من تصبّح بسبع تمرات من تمر المدينة لم يضره سم ولا سحر .
وأن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ، أعني صلاة النافلة .
وأن يقول إذا نزل منزلا أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق .
والمحافظة على الوضوء .
وقراءة آية الكرسي عند النوم ... وكذلك آخر آيتين من البقرة .
كثرة ذكر الله ، والابتعاد عن الغفلة .(3/248)
إنما يعتمدون على التمتمات والطلاسم التي لا تفهم ، والخرز والتعلّق بغير الله .
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى ووحدانيّته أن يكفيّنا شر الأشرار ، وأن يُجنّبنا كيد الفجار ، وأن يشفي مرضانا ويُعافي مُبتلانا وأن يرحم موتانا .
323-إِذ صَاحَ فيهم الشيطان !
الإشاعة
تعريف الإشاعة :
قال ابن منظور في لسان العرب : شاعت القطرة من اللبن في الماء و تشيّعت تفرقت ... وشيع فيه أي تفرق فيه ، وأشاع ببوله إشاعة حذف به وفرّقه ، وأشاعت الناقة ببولها واشتاعت وأوزغت وأزغلت كل هذا أرسلته متفرّقا ورمته رمياً وقطعته ، ولا يكون ذلك إلا إذا ضربها الفحل . قال الأصمعي : يُقال لما انتشر من أبوال الإبل إذا ضربها الفحل فأشاعت ببولها : شاع . انتهى كلامه .
وقال في مادة ( نمم ) : النمّ : التوريش والإغراء ورفع الحديث على وجه الإشاعة والإفساد .
ويكفي في ذم الإشاعة أنها مأخوذة من هذا الأمر !
إذاً فالإشاعة هي نقل الكلام من غير تثبّت وبثّه وتفريقه دون ضابط أو قيد .
والإرجاف نوع من أنواع الإشاعات :
قال عز وجل : ( لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً )
وربما تسبب الإرجاف والشائعات في هزيمة الجيوش .
دوافع الإشاعة :
يدفع مُروّجي الإشاعات عدّة دوافع ، أرى أنها تتخلص في :
1 – تحسين القبيح ، وتغيير الحقائق .
2 – تنفير الناس من المصلحين ، وذلك بتشويه سمعة الصالحين ، والطعن في طُهر الطاهرين .
3 – إسقاط رموز الأمة .
4 – خذلان الجيوش ، وفتّ عضد الأمة .
5 – التساوي في السقوط في الرذيلة !
6 - إزجاء المجالس بالأحاديث الغريبة التي لم يسمع بها أحد !
تاريخ الإشاعة :(3/249)
يُعدّ أول من روّج الإشاعات الكاذبة تحت مُسميات برّاقة ، وتغطيتها بستور شفافة ، وبتغيير المُسمّيَات لتحسين القبيح – يُعد أول من فعل ذلك – إبليس !
تأمل كيف دخل إبليس على آدم وزوجه ؟
( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ )
من أين أتى إبليس ؟ ومن أين دخل عليهما ؟
من باب تُحبه النفوس .
من باب الخلد في الدنيا والملك فيها .
ومِن باب تغيير المسمّيات وتبديل الحقائق والترويج لبضاعته عن طريق تلميع ما يدعو إليه !
بل أقسم وحَلَف انه لا يُريد إلا الخير ، وأنه من الناصحين !
وتغيير الأسماء لا يُغيّر المُسمّيات ، ولا يُبدّل الحقائق .
كما أن هذا الفعل مُتضمّن لما أشرت إليه سابقاً من أسباب الإشاعة ، وهو : التساوي في السقوط في الرذيلة .
فإبليس لم يُرِد أن يتفرّد بالشقاوة ، ولا يكون وحيداً في المعصية ، فروّج لما يُريد حتى كان له ما أراد لكنه لم يلبث أن قطع آدم عليه الصلاة والسلام عليه الطريق !
ومن هذا الباب إشاعة الفاحشة في المؤمنين والمؤمنات .
ومن هنا قال عثمان رضي الله عنه : ودّت الزانية لو أن النساء كلهن زنين !
فربما حملت لواء الإشاعة من سقطت في أوحال الرذيلة ، فأشاعت عن بعض المؤمنين أو المؤمنات أنهم قد سقطوا في أوحال الرذيلة .(3/250)
ومن هنا جاء النهي عن " قذف المحصنات المؤمنات الغافلات " وعُدّ من السبع الموبقات كما في الصحيحين .
ثم تَبِع إبليس على ذلك مَنْ سار على دربه واقتفى أثره !
فأشاع من مُجرمي الأمم ما أشاعوه ضد أنبياء الله وأوليائه ، وما ذلك إلا لتنفير الناس منهم ومِن قبول دعوتهم .
أشاعوا أن الأنبياء سُفهاء ! وأنهم سَحَرَة ، وأنهم كَذَبَة ... إلى غير ذلك مما هو معلوم .
فقد قال الملأ من قوم نوح لِنوح عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ )
وقالت عادٌ لنبي الله هود عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ )
وهذا يوسف عليه الصلاة والسلام يتعرّض لحملة إعلامية مُغرِضة !
تقول امرأة العزيز : ( مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فيُظهر الله براءته ولكنه يُسجن ، ثم تثور حملة إعلامية أخرى على امرأة العزيز ليُظهر الله براءته مرة أخرى أمام المجتمع الذي ثارت فيه تلك الشائعة !
( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ )
فتُريد أن تُفنّد ما أُشيع حولها ، وتُعذر من نفسها ، وتُبيّن ما حملها على ذلك ، فتردّ الشائعة بمكر ودهاء ! وتؤكد إشرارها على مطلبها ، وإن كان غير شرعياً !(3/251)
( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ )
وهكذا تعرّض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى مَن يُروّج ضدّهم الإشاعات ويتقوّل عليهم الأقاويل .
ولليهود نصيب من ذلك ! بل لهم النصيب الأكبر ، فما مِن نبيّ إلا وأشاعوا عليه ما أشاعوه ، من اتهام له في عرضه أو في دينه أو في أهله .
فقد قالت اليهود عن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام : إنه آدر ! يعني به عيب في أعضائه التناسلية .
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر ! فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فخرج موسى في إثره يقول : ثوبي يا حجر ، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى ، فقالوا : والله ما بموسى من بأس ، وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضرباً . فقال أبو هريرة : والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالحجر .
وفي رواية : ونزلتْ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا )
وأما نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام فتعرّض للشائعات من قومه ، ومن أعدائه !
فهذا مثال لما تعرّض له من شائعات من قِبل قومه(3/252)
وإليك مثال لما تعرض له من شائعات مِن قبل أعدائه
( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ )
حتى قيل في الأمثال : صار فرعون واعظاً !
واليهود قد ألصقوا التهم ، وروّجوا الشائعات ضد مريم عليها السلام .
تأمل ما حكاه الله عز وجل عن بني إسرائيل ( قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا )
فأظهر الله براءتها وردّ عنها وأسُكتت الشائعات وأُظهرت الحقيقة .
ولا غرو أن يكونوا كذلك ، فهم قَتَلَة الأنبياء !
بل هم من قالوا عن الله عز وجل ما قالوه ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
هذه إشارات لتاريخ الإشاعة .
ثم صارت الإشاعة عِلماً يُدرّس ، وسلاحاً يُستخدم في الحروب ، وذلك لسرعة انتشاره ، وقوة تأثيره .
آثار الإشاعة :
عندما تثور الشائعات فإنها تُخلّف وراءها آثاراً ربما تكون مُدمّرة ، وربما تكون آثاراً سيئة يبقى أثرها في الناس وعلى الناس .
فمن آثارها :
1 – تحطيم معنويات الجيوش ، وهذا يكون في الحروب خاصة .
ولذا أشاع المشركون مقتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد للفتّ في عضد وعزيمة الجيش المسلم .
ففي يوم أُحد انتهى أنس بن النضر - عم أنس بن مالك - إلى عمر وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم ، فقال :ما يجلسكم ؟ قالوا : قد قُتل محمد رسول الله .
قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، واستقبل القوم فقاتل حتى قُتل .
2 – الصد عن سبيل الله
ولذا حرص المشركون على إشاعة الشائعات والأكاذيب ضد نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وما ذلك إلا للصدّ عن سبيل الله وعن دينه .(3/253)
فقد كانوا يقولون عنه : إنه ساحر .. كاهن .. شاعر ... إلى غير ذلك من الأكاذيب التي يُروّجونها بين الناس .
قال الطفيل بن عمرو : كنت رجلا شاعراً سيداً في قومي ، فقدمت مكة فمشيت إلى رجالات قريش ، فقالوا : إنك امرؤ شاعر سيد ، وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه فإنما حديثه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا ، فإنه فرّق بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وابنه ، فو الله ما زالوا يحدثوني شأنه وينهوني أن أسمع منه حتى قلت : والله لا أدخل المسجد إلا وأنا سادّ أذني . قال : فعمدت إلى أذني فحشوتها كرسفاً ( قطناً ) ، ثم غدوت إلى المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائما في المسجد ، فقمت قريبا منه وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ، فقلت في نفسي : والله إن هذا للعجز ، وإني امرؤ ثبت ما تخفى علي الأمور حسنها وقبيحها ، والله لأتسمعن منه ، فإن كان أمره رشداً أخذت منه ، وإلا اجتنبته ، فنزعت الكرسفة ، فلم أسمع قط كلاماً أحسن من كلام يتكلم به ، فقلت : يا سبحان الله ! ما سمعت كاليوم لفظاً أحسن ولا أجمل منه ، فلما انصرف تبعته فدخلت معه بيته ، فقلت : يا محمد إن قومك جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا ، فأخبرته بما قالوا ، وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول ، وقد وقع في نفسي أنه حق ، فاعرض عليّ دينك ، فعرض علي الإسلام فأسلمت . ثم ذكر بقية قصته .
ومن آثار الإشاعة :
3 – الطعن في طُهر الصالحين ، ونقاء المصلحين ، والخوض في أعراض عباد الله بغير بيّنة .
ومن هنا استغل المنافقون تخلّف عائشة رضي الله عنها عن الجيش فطعنوا في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أظهر الله براءة عائشة رضي الله عنها بوحي يُتلى إلى يوم القيامة .(3/254)
فما بال أقوام يخوضون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعنون به ؟ بل ويُرددون ما ردده أجدادهم رغم براءة عائشة رضي الله عنها بنصّ كتاب الله عز وجل .
ويتعرّض المُصلحون على مرّ التاريخ لشيء من ذلك ، فإنهم إذا أمروا ونهوا أصلح الله بهم ، وربما قطعوا على أقوام شهواتهم ، فلجئوا إلى تشويه سمعتهم ، والطعن في أعراضهم ، وإشاعة الشائعات ضدهم .
ويُقصد من ذلك :
4 – إسقاط رموز الأمة ، فلا تثق الأمة بعلمائها ، ولا تصدر عنهم .
وكان أحد المنافقين في بعض المجالس فأخذ يطعن في عرض أحد العلماء المعاصرين ، بل اتهمه أنه أرسل إحدى بناته لتدرس في بلاد الغرب ، وزعم أنه رآها لوحدها هناك !
وكان في المجلس أحد الشيوخ الذين يعرفون ذلك العالم ، فسأله : أمتأكد مما تقول ؟
فرد جازماً : نعم . أنا رأيتها بنفسي !
فرد عليه الشيخ قائلاً للحاضرين : اشهدوا على كذب هذا الرجل ! الشيخ فلان – الذي يتحدث هذا عنه – رجل عقيم !!
فبُهت الذي أشاع الإشاعة !
ومن آثارها :
5 – ما يترتب على إثارة الإشاعة من الطعن في أعراض عباد الله
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال . رواه أبو داود .
وقد أدّب الله المؤمنين في مقابل الخوض في حديث الإفك فقال سبحانه وتعالى : ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ )
موقف الإسلام من الإشاعة :
يرفض الإسلام الإشاعة لما لها من آثار سيئة بين المسلمين ، ويُرخّص فيها في الحرب خذلانا للعدو
قال نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق : خذّل عنا ، فإن الحرب خدعة .
والإشاعات مرفوضة ممجوجة .(3/255)
وقد عاب الله عز وجل على من يُطيّر الأخبار دون توثيق أو تأكد فقال سبحانه وتعالى : ( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً )
وأمر الله عز وجل بالتأكد من الخبر فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )
وقال عليه الصلاة والسلام : بئس مطية الرجل : زعموا . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
كيف يتم التصدي للإشاعة بأسلوب حكيم :
يتم التصدّي للإشاعة بعدة طرق :
1 – توضيح الحقائق وتجليتها للناس .
2 – عدم ترك مجال لإثارة الإشاعة ، ومن هذا الباب قوله عليه الصلاة والسلام لرجلين من الأنصار وقد مرّا به ومعه صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله عنها فقال : على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي . فقالا : سبحان الله يا رسول الله ، وكبُر عليهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا . رواه البخاري ومسلم .
3 – الابتعاد عن مواطن التّهم .
قال عمر رضي الله عنه : من تعرّض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن .
4 - إحسان الظن بالمسلمين ، والتماس الأعذار لهم .
5 – زيادة الوعي والتحذير من الخوض في أعراض عباد الله .
6 – عدم الالتفات إلى الشائعات ، خاصة إذا كانت من باب التخويف بالذين من دون الله عز وجل .(3/256)
فقد قال سبحانه وتعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )
فلما لم يلتفتوا إليها بل اعتصموا بالله وتوكّلوا عليه كفاهم الله عز وجل شرّ القوم .
وينبغي أن يُعلم أن الإشاعات باقية إلى قيام الساعة !
فقد جاء في أخبار آخر الزمان ذِكر فتح القسطنطينية قال عليه الصلاة والسلام : فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علّقوا سيوفهم بالزيتون ، إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم ، فيخرجون ، وذلك باطل . رواه مسلم .
وهذا يدلّ على أن الإشاعة بضاعة شيطانية ، منه بدأت وإليه تعود !
324-اكسر مِجدَافك ..!
عندما ينظر شخص إلى الناس نظرة استعلاء ، وينظر إلى نفسه نظر تزكية ورِفعة
فإن ذلك يدفعه إلى أن يرى هَلَكَة الناس نصب عينيه !
وكأنه ينظر إلى مصارع القوم !
أو عندما ينظر إلى المجتمعات من زاوية سوداء ، فإن الصورة التي يراها صورة قاتمة يرى من خلالها السوء ، والسوء فحسب !
ومن ثم يقول : هلك الناس !
وهو بهذا أو ذاك إما أنه أسرع الناس وأشدّهم هلاكاً
أو أنه تسبب في هلاك الناس بالإيحاء !
إنك عندما تجلس إلى صاحب النظرة السوداء القاتمة ، فإنك لن ترى سوى الأفق القاتم
ولن ترى سوى سيل عذاب قد انعقد غمامه !
ولن تُبصر سوى ليل بلاء قد ادلهمّ ظلامه !
فتُحدّثك نفسك أن الزمان قد فسد !
أو أنه زمان الشح المطاع ، والهوى المتبع ، والدنيا المؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه !
وتكاد ترى أن الخير في العُزلة
وأن الدجال يكاد يطرق بابك !
وأن الساعة قائمة العشية !(3/257)
هذه نظرة
ونظرة أخرى ينظر بها الشخص على فساد الأخلاق
فإن حدّثك حدّثك عن فساد أخلاق الناس ، وكأنه حاز كل فضيلة !
أو أنه تسربل بسربال كل خلق كريم
فأصبح يذمّ الناس
وكأنه يستلّ نفسه من هذا السوء كما تُسلّ الشعرة من العجين !
فلو سمِعه سامع وكان فيه بقية خير لزهد فيما عنده من الخير ، ولظنّ أن الناس كلهم على شاكلته !
فحدّث نفسه لِمَ يُحاول الإصلاح والناس قد أوشكوا على الهلاك ، بل هم على شفا هَلَكة !
ولِمَ يدعو من يدعو وهو في الناس كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود !
وربما تمثّل :
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه = إذا كنت تبني وغيرك يهدم ؟!
أو قال :
ما جُهود المصلحين إلا كقطرة في بحر !
أو كمن يكتب سطراً ويمسح عشرة !
وما هذا إلا كمن يرى صاحِب زورق يُجدّف بمجداف واحد !
فيصيح به :
ألقِ مجدافك ودع الأمواج تلعب بك ظهراً لبطن !
لا فائدة من مِجداف واحد ، وأمامك ألف موجة !!
استسلم للغرق ! وانتظر الموت ! ولا تُحرّك ساكناً !
من أجل هذا وذاك قال من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام : إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم . رواه مسلم .
قال الإمام النووي رحمه الله :
روي أهلكهم على وجهين مشهورين : رفع الكاف وفتحها ، والرفع أشهر ... ومعناها أشدهم هلاكاً ، وأما رواية الفتح فمعناها : هو جعلهم هالكين ، لا أنهم هلكوا في الحقيقة ، واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم ؛ لأنه لا يعلم سرّ الله في خلقه . قالوا : فأما من قال ذلك تحزّنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه . انتهى .
وفي هذا المعنى قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لن يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس كلهم في ذات الله ، ثم يعود إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً .
فـ
يا أمتي لستِ عقيمة = ما زلت قادرة على الإنجاب(3/258)
فأمتي أمة ولود ، ما عُدِم الخير فيها ، ولا جفّت منابعه .
325-اعتَرِف أَحسَن لَك ..!
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير .
كم بين آدم وإبليس ؟
لا أقصد كم بينهما من مدّة زمنية .
لكني أقصد كم بينهما من فرق أمام الذّنب ؟
آدمُ عصى ربه فتاب وأناب واعترف بالذّنب فقال وزوجه : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) .
فكانت النتيجة : ( ثم اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى ) .
قال ابن القيم – رحمه الله – : فكم بين حالِه ( يعني آدم ) وقد قيل له : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤ فيها ولا تضحى ) ، وبين قوله : ( ثم اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى ) .
فالحال الاولى حال أكل وشرب وتمتع ، والحال الأخرى حال اجتباء واصطفاء وهداية ، فيا بعد ما بينهما . انتهى كلامه – رحمه الله – .
كم بين آدم حال اعترافه بالذّنب وانكسار قلبه وانطراحه بين يدي مولاه ، وبين إبليس الذي عصى ربّه واستكبر وأبى .
هذا حال الناس على مرّ الأيام .
فريق إذا وقع في المعصية أقرّ بالذّنب واعترف بالخطيئة وسأل ربه العفو والمغفرة .
وفريق إذا وقع في السيئات وهلك في الموبقات عاند وكابر ، أو احتقر الذّنب وجاهر بالمعصية .
والاعتراف بالذنب من سمات الأنبياء والصالحين .
فهذا نبيُّ الله نوح يقول بلسان العبد الفقير : ( رب إني أعوذ بك أن أسألك ماليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) .
وذاك نبيُّ الله يونس يخرج غاضبا فيجد نفسه في ظلمات بعضها فوق بعض ، فيُناجي ربّه بلسان المعترفِ بِذَنبِه المقرّ بخطيئته : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) .
فاستجاب اللهُ له ، وجاء الجواب : ( فاستجبنا له ) وزيادة ( ونجيناه من الغم )
وكانت دعوته نبراسا للمؤمنين ، يدعون ربهم مقرِّين بالخطيئة معترفين بالذنب منكسري القلوب بين يدي علام الغيوب .(3/259)
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : دَعْوَةُ ذِي النّونِ - إذْ دَعَا وَهُوَ في بَطْنِ الحُوتِ - : لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ ، فَإِنّهُ لَمْ يَدْعُ بها رَجُلٌ مُسْلِمٌ في شَيْءٍ قَطّ إلاّ اسْتَجَابَ الله لَهُ . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
قال الألبيري :
ونادِ إذا سجدتَّ له اعترافاً ****** بما ناداه ذا النونِ بن متّى
وذاك نبيُّ الله القويُّ الأمين ( موسى ) يقول بعد أن وقع في الخطيئة :
( ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) .
فكان الجواب : ( فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ) .
وذاك نبي الله داود الذي استغفر ( ربه وخرّ راكعا وأناب ) قال الله جل جلاله : ( فغفرنا له ذلك ) وزيادة ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) .
وذاك ابنه سليمان الذي تاب وأناب ( قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي )
فوهب له ربُّه ملكا عظيما وسخّر له الريح والجن والطير .
إذا تأملتم هذا
فتأملوا مناجاةَ النبيِّ عليه الصلاة والسلام ، وهو يُناجي ربّه في دُجى الليل الساكن .
فقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام إذا قام يتهجّد من الليل أن يقول – بعد أن يُثني على الله عز وجلّ بما هو أهلُه – :
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت . رواه البخاري ومسلم .
ثم تأملوا هذا الدعاء من أدعيته عليه الصلاة والسلام ، وهو يقول :
اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي . رواه البخاري ومسلم .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده :
اللهم اغفر لي ذنبي كلَّه ، دِقَّه وجِلَّه ، وأولَه وآخرَه ، وعلانيتَه وسرَّه . رواه مسلم .
ولما سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسولَ اللّه علمني دُعاءً أَدعو به في صلاتي قال : قل :(3/260)
اللهمّ إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يَغفرُ الذّنوبَ إلا أنتَ ، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندَك ، وارحمني إنكَ أنتَ الغفور الرّحيم . رواه البخاري ومسلم
فإذا كان هذا القول يُقال لخير الأمة بعد نبيِّها فماذا يُقال لنا ؟؟
والاعتراف بالذنب من صفات المتقين .
قال الله عز وجل عن المتّقين : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ) .
وقال سبحانه : ( والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) أولئك هم ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) .
فهذا توسّلٌ بالإيمان ، واعتراف بالذنب ، وختمه بالدعاء بالنجاة من عذاب النار .
وإنما كان سيدُ الإستغفار سيداً لتضمُّنه الإقرار بالذنب والاعتراف بالخطيئة مع العلم يقينا بأنه لا يغفر الذّنوب إلا الله .
قال عليه الصلاة والسلام : سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال : من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة . رواه البخاري .
قال ابن القيم : فلا يرى نفسه ( يعني العبد ) إلا مقصرا مذنبا ، ولا يرى ربه إلا محسنا .
( أي فلا يرى العبد نفسه إلا مُقصِّرا في حق ربّه وسيده ومولاه جل جلاله )
وكلّما وقعت في الذّنب فتُب واستغفر الرحمن غفّار الذنوب .
وإلى متى ؟
حتى يكون الشيطان هو المحسور الذي يُهلكه الاستغفار .(3/261)
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : أذنب عبدٌ ذنبا ، فقال : اللهم اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له رَبّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب ، فقال : أي رب اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له رَبّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب ، فقال : أي رب اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له رَبّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، اعمل ما شئت فقد غفرت لك .
فقولُه : اعمل ما شئت فقد غفرت لك .
يدلّ على أن اللهَ لا يزال يغفر لعبده كلما استغفر مالم يُصرّ على معصيته أو يموت على الشرك طالما أنه موقنٌ أن له ربّاً يأخذ بالذنب ويغفره
كما في قوله عليه الصلاة والسلام : إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني . رواه الحاكم وغيره وهو حديث صحيح .
ولا يعني هذا أن يتمادى العبد في المعاصي ، فإن الله قال في كتابه العزيز : ( فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ) في الدنيا ( أو يصيبهم عذاب أليم ) في الآخرة .
قال أبو عبد الله الإمام أحمد بن حنبل : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك .
( يعني إذا ردّ بعض قول النبي صلى الله عليه وسلم ) .
وقال الله في الحديث القدسي : يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم . رواه مسلم .
قال عليه الصلاة والسلام : إن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه . متفق عليه .
والاعتراف بالذّنب إنما يُفيدُ صاحبَه إذا دَفَعَه وحَمَلَه على الاستغفار وطلب عفو ربِّه ومرضاتِه .(3/262)
وحذار من التمادي والإصرار على الذنب فيكون الاعتراف بالذّنب ساعة لا ينفع الندم ولا تُجدي الحسرات .
استمع إلى ما حكاه الله عن أهل النار : ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير )
واستمع إلى اعترافِهم بعد فوات الأوان : ( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عُدنا فإنا ظالمون ) فيأتيهم الجواب ( اخسئوا فيها ولا تُكلّمون ) .
واستمع إلى جواب أهل النار وقد سُئلوا : ( ما سلككم في سقر ) ؟
( قالوا لم نكُ من المصلين * ولم نكُ نُطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نُكذّب بيوم الدّين ) فما تُجدي الحسرات ، ولا تنفع العَبَرات ، ولا الشفاعات ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين )
وهاهم يقولون بألمٍ وحسرة : ( تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسوّيكم بربّ العالمين ) ثم يُلقون باللائمة والتّبعة على غيرهم ( وما أضلّنا إلا المجرمون ) وقد أيقنوا أنه لا نجاة ولا مفرّ ، وقد تصرّمت الأواصر ، وتقطّعت الأنساب ( فمالنا من شافعين * ولا صديق حميم ) .
فما يُجدي البكاء ولا العويل ، ولا ينفع الاعتراف بالذّنب فقد مضى زمنُ الإمهال ، وقبول التوبة .
لاتنفعهم المعذرة ولا تُقبل المعاذير : ( فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يُستعتبون )
يا ويلَهم مالَهم ؟
يأتيهم الجواب :
( ذلك بأنكم اتّخذتم آيات الله هزوا ) وليس هذا فحسب بل ( وغرّتكم الحياة الدنيا )
فما جزاؤهم ؟
( فاليوم لا يُخرجون منها ولا هم يُستعتبون )
----
فالبدار البدار بالاعتراف والإعتذار .
فإن كرام الرجال إذا أساء إليهم مسيء ثم اعتذر قبلوا عذره وصفحوا عنه
كما قال الإمام الشافعي – رحمه الله – :
قيل لي قد أسا إليك فلان*****ومقام الفتى على الذل عار
قلت قد جاءني وأحدث عذرا*****دية الذنب عندنا الاعتذار
والله عز وجلّ هو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين
فانطرحوا بين يدي مولاكم واعترفوا بذنوبكم واطلبوه المغفرة .(3/263)
نادِ مولاك معترفاً :
يارب إن عظمت ذنوني كثرة ***** فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ***** فمن ذا الذي يدعو ويرجو المجرم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا ****** وجميل عفوك ثم إني مسلم
وناجوه مناجاة المعترف ، ونداء المقترف :
يارب عفوَك لا تأخذ بزلّتنا **** واغفر أيا رب ذنبا قد جنيناه
ولا يأتيك اليائس فيُعظّم لك الذّنب فتيأس من روح الله ، فالله القائل عن نفسه :
( وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) .
وهو سبحانه الذي ناداك – كما في الحديث القدسي – :
يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي . يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي . رواه الترمذي .
( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين )
اللهم اغفر لنا وارحمنا .
إن تغفر اللهم تغفر جمّا ***** وأي عبد لك ما ألما
فـ
يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف = ثم ارعوى ثم انتهى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته : = ( إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ )
326-تَمْشِي عَلَى استِحيَاء..
صِفَات الكمال هي تِلك الصِّفَات التي اتَّصَف الله تبارك وتعالى بِها .
والحياء صِفَة مِن صِفَات الله عزّ وَجَلّ ..
ومِن أحَبّ الْخَلْق إلى الله مَن اتَّصَف بتِلك الصِّفَات .
" ومَن وَافَق الله في صِفَه مِن صِفاته قَادته تلك الصِّفَة إليه بِزِمَامه ، وأدْخَلَته على رَبِّه ، وأدْنته مِنه وقَرَّبَته مِن رَحمته ، وصَيَّرَته مَحْبَوبًا له ، فإنه سُبحانه رَحيم يُحِبّ الرُّحَماء ، كَريم يُحِبّ الكُرَماء ، عَليم يُحِبّ العُلماء ، قويّ يُحِبّ المؤمن القوي - وهو أحب إليه مِن المؤمن الضعيف ، حتى يُحِبّ أهل الحياء ، جَميل يُحِبّ أهل الْجَمَال ، وِتْر يُحِبّ أهل الوِتْر " كما قال ابن القيم رحمه الله .(3/264)
والحياء صِفَة مِن صِفَات الله عزّ وَجَلّ ، ففي الحديث الصحيح : " إن الله عز وجل حَيِيّ سِتِّير يُحِبّ الْحَيَاء والسِّتْر " . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
والحياء صِفَة مِن صِفَات الأنبياء ..
فقد وَصَف النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه الصلاة والسلام بالْحَيَاء .. بل بِشِدَّة الحياء ..
ففي الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام : إن موسى كان رَجلا حَيِيًّا سِتِّيرًا ، لا يُرَى مِن جِلْدِه شَيء اسْتِحْيَاء مِنه .
بذلك وُصِف القويّ الأمين ..
وحَياء العَذَارَى مَضْرِب الْمثَل .. !
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم أشدّ حَياء مِن العَذْراء في خِدْرِها . رواه البخاري ومسلم .
وفي حديث أنس رضي الله عنه : وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء . رواه البخاري ومسلم .
وكان الحياء خُلُقًا تتوارثه الأجيال ، وتَفْخَر به الأمم .. ففي خَبَر موسى عليه الصلاة والسلام حين وُورِده ماء مَدين أنه جاءته إحدى المرأتين تمشي على استحياء ..
(فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) .. قال عُمر رضي الله عنه : قد سَتَرَتْ وَجْهها بِكُمِّ دِرْعها .
وكان دليل هذا الحياء أنها لم تَنسب أمْر الدعوة والجزاء لِنفسها بل نسبته إلى أبيها ، فـ (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) ..
قال ابن كثير : وهذا تأدُّب في العبارة ، لم تَطلبه طَلبا مُطلقا ، لئلا يُوهِم رِيبة ، بل قالت : إن أبي يدعوك لِيجزيك أجْر مَا سقيت لنا ، يعني : لِيُثِيبك ويُكَافئك على سَقيك لِغَنَمِنَا . اهـ .
وما كان مِن موسى عليه الصلاة والسلام إلاّ أن قابَل الحياء بِحياء ..
كيف لا ، وهو الْحَيِيّ ؟(3/265)
قال سلمة بن دينار رحمه الله : لَمَّا سَمِع ذلك موسى أراد أن لا يَذهب ، ولكن كان جائعا فلم يَجِد بُدًّا مِن الذهاب ، فَمَشَت المرأة ومَشى موسى خلفها ، فكانت الريح تَضرب ثوبها فَتَصِف رِدْفها ، فَكَرِه مُوسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امْشِي خَلفي ودُلّيني على الطريق إن أخطأت ؛ ففعلت ذلك .
وكان الحياء مِن أخلاق العَرب في الجاهلية .. مِمَّا لَم يَنْدَرِس مِن الأخلاق ..
ففي قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه أنه قال للمرأتين كلامًا .. قال : فانطلقتا تُوَلْوِلان وتقولان : لو كان ها هنا أحد مِن أنفارنا ! قال : فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هَابِطان . قال : ما لكما ؟ قالتا : الصابئ بين الكعبة وأستارها ! قال : ما قال لكما ؟ قالتا : إنه قال لنا كلمة تَمْلأ الْفَمّ ! رواه مسلم .
فما أحوج المرأة على مَرّ الزَّمَان إلى هذا الْخُلُق النَّبِيل ، والوصْف الكريم ..
ذلك أنه لا يُوصَف أحَد – على وَجْه الْمَدْح – بِقِلَّة الْحَيَاء ..
وإنما يُذَمّ مَن يُذَمّ بِقِلَّة الْحَياء .. وصَفَاقة الوَجْه .. والوَقَاحَة .. !
ففي لسان العَرَب : وَقِح الرَّجُل إذا صار قَليل الْحَياء ، فهو وَقِحٌ .
وقال ابن الأثير : في حديث أبي الدراداء : وشَر نِسائكم السَّلْفَعَة . هي الْجَرِيئة على الرِّجَال . اهـ .
فالحياء زِينة للرِّجَال والنِّسَاء ..
وَوُصِف به خير الناس بعد الأنبياء .. فقد وُصِف الصِّدِّيق رضي الله عنه بذلك .
حَدَّث الإمام الزهري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يوما وهو يخطب : أيها الناس استحيوا من الله ، فوالله ما خَرَجْت لِحَاجَة منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِيد الغَائط إلاَّ وأنا مُقنع رأسي حَياء مِن الله .
ووُصِف عثمان رضي الله عنه بأنه شديد الحياء ..(3/266)
حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ ؟ رواه مسلم .
والحياء خَيْر .. ولا يأتي إلاَّ بِخير ..
قال عليه الصلاة والسلام : الحياء لا يأتي إلاَّ بِخَيْر . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحياء خَير كُله . قال : أو قال : الحياء كُله خَير .
وحِين مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ .. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الإِيمَانِ . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : مَرّ النبي صلى الله عليه وسلم على رَجُل وهو يُعَاتِب أخَاه في الْحَياء يقول : إنك لتستحيي ، حتى كأنه يقول : قد أضَرّ بِك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دَعْه ، فإن الحياء من الإيمان .
قال ابن القيم عن الحياء : هو أصْل كُلّ خَير ، وذَهابه ذَهَاب الْخَير أجْمَعه . اهـ .
وصاحِب الحياء يَقودُه حياؤه إلى الجنة ..
قال ابن حبان : الحياء مِن الإيمان ، والمؤمن في الجنة . اهـ .
ولَمَّا كان الحياء خُلُقا عالِيًا مِن أخلاق الإسلام وأهله ، فقد جَعَله النبي صلى الله عليه وسلم شُعْبَة مِن شُعَب الإيمان ، فقال : الإيمان بضع وسَبعون شُعبة ، والْحَيَاء شُعْبة مِن الإيمان . رواه البخاري ومسلم .
وكما أن الْحَيَاء مِن الإيمان فإن رَحِيل الإيمان مِن القلب مرتبط برحيل الحياء !
قال عليه الصلاة والسلام : الْحَياء والإيمان قُرِنا جَميعًا ، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر . رواه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرطهما . وصححه الألباني .
وفُسِّر لِبَاس التقوى بالحياء ..
قال تعالى : (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) ..(3/267)
وذلك لأنَّ الحياء يَحْجُز عن المعاصي .. وهو أحد معاني قوله صلى الله عليه وسلم : إذا لَم تَسْتَح فاصْنع ما شِئت . رواه البخاري .
قال ابن عبد البر : لفظ يقتضي التحذير والذم على قِلّة الحياء ، وهو أمْرٌ في معنى الْخَبَر ، فإنّ مَن لم يكن له حَياء يَحْجُزُه عن مَحَارم الله تعالى فَسَواء عليه فَعَل الكبائر منها والصغائر . اهـ .
قال ابن القيم : وبَيْن الذُّنُوب وبَيْن قِلَّة الحياء وعَدم الغَيرة تَلازُم مِن الطَّرفين ، وكل منهما يَسْتَدْعِي الآخر ويَطْلُبُه حَثِيثًا . اهـ .
قال ابن حبان رحمه الله : الحياء اسم يَشْتَمل على مُجَانبة المكروه مِن الخصال ، والحياء حياءان :
أحدهما : استحياء العَبد مِن الله جل وعلا عند الاهتمام بمباشرة ما خطر عليه .
والثاني : استحياء مِن المخلوقين عند الدخول فيما يَكرهون مِن القول والفعل معا .
والحياءان جميعا محمودان ، إلاَّ أنَّ أحدهما فَرْض ، والآخر فَضل ؛ فلزوم الحياء عند مُجانبة مَا نَهى الله عنه فَرض ، ولزوم الحياء عند مُقَارَفَة مَا كَرِه الناس فَضْل . اهـ .
ولا خير في وَجْه قَلّ حياؤه ..
إذا قَلّ مَاء الوَجْه قَلّ حَياؤه = ولا خير في وَجْه إذا قَلّ مَاؤه
حَياءك فاحْفَظْه عليك فإنما = يَدُلّ على وَجْه الكريم حَياؤه
ولأنَّ الْحَيَاء هو مَادَّة حَيَاة القَلب – كما يقول ابن القيم – .
وقديما قيل :
إذا لم تَخْش عاقبة الليالي = ولم تَستحي فاصْنع ما تَشاء
فلا والله ما في العيش خير = ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بِخير = ويبقى العود ما بقي اللحاء
وقليل الْحَياء في عِدَاد الأمْوَات .. !
قال ابن القيم : فَمَن لا حَيَاء فِيه مَيِّت في الدُّنيا ، شَقِيّ في الآخِرة . اهـ .
فنعوذ بالله مِن ذَهَاب الْحَياء .. الذي يَموت بسببه القلب ..
وبَعْد هذا كله - فلا غَرابة إذاً .. أن يَكون الحياء هو خُلُق دِين الإسلام ..(3/268)
قال عليه الصلاة والسلام : إنَّ لِكُلّ دِين خُلُقًا ، وخُلُق الإسلام الحياء . رواه ابن ماجه ، وقال الشيخ الألباني : حسن .
إلا أنَّ الحياء لا ينبغي أن يَحْجِب عن التَّعَلُّم والتَّفَقُه .. قالت عائشة رضي الله عنها : نِعْم النساء نِساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يَتَفَقَهن في الدِّين . رواه مسلم .
327-رفيق فرعون .. أفِق !
أفِق يا صاح !
هتف الداعي بك وصاح
أيسرّك أن تكون في القيامة رفيق فرعون ؟
وصاحب هامان ؟
وقرين أُبيّ بن خلف ؟
إن كنت لا تعلم فسوف تعلم
أما سمعت قول النبي المعلِّم ؟
أما سمعت قوله عن الصلاة " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف "
بل أما علِمت أنك بتركك الصلاة أصبحت حلال الدم ؟!
أما شعرت أنك تركت دينك فارقت الجماعة يوم تركت شعار الإسلام ؟
هذا قول من لا ينطق عن الهوى " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " رواه مسلم .
فأي دين بقي لمن ترك الصلاة ؟؟؟
أُخيّ .. لكل شيء عوض وخلف
وليس للدين عوض ولا خلف
تخيّل نفسك في ذلك الموقف
تخيل أنك قرين أُبيّ بن خلف
أو أنك تُساق سوقا عنيفا إلى النار فتلتفت يمينا فترى فرعون ، ثم تلتفت يساراً فترى هامان
وأمامك إمامك ( إبليس )
وخلفك ابن خلف
تخيّل هذا الموقف
كم تتمنى عندها أن تدفع وتخلُص من هذا الموقف ؟
تتمنّى أنْ لو كان لك مثل الدنيا وأمثالها لتقي نفسك من عذاب الله
أما علِمت أنك ما قُرنت بهؤلاء إلا لأنك بالغت في الإجرام ؟!
هؤلاء هم طُغاة البشرية ، وعُتاة الجاهلية على درجاتها
إن فعلك هذا – ترك الصلاة – أقبح من الزنا ، وأعظم من الربا ، وأشد من نكاح الأمهات
فهو ليس بالأمر اليسير
بل هو والله أمر جلل خطير(3/269)
تخيّل أن رب العزة جل جلاله أمر عباده بالسجود فسجد من كان يُصلي ويسجد في الدنيا ، وحاولت أنت وكررت المحاولة لتسجد مع المؤمنين لتكون من الناجين ، فسجد المؤمنون ، وأما المنافقون فحيل بينهم وبين ما يشتهون ؛ لأنهم ما كانوا لرب العزّة يسجدون
قال رسول رب العالمين : "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا " رواه البخاري .
إذا تخيّلت هذا الموقف فتخيّل أهل النار في عويل وصراخ
ثم تخيل أهل الجنة في فسحة وانشراح
أما أهل الجنة :
ذهب تعب العبادة ، وذهب نصب الطاعة ، وبقي لهم الأجر أوفر ما كان
وأما أهل النار:
فذهبت اللذّات ، وبقيت الحسرات
من أغلى أمانيهم أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحا
أيها التارك لدِينه بتركه لصلاته
لقد كُنت تؤمّل جنات النّعيم
وكنت تطمع في النعيم المقيم
وأنت على ترك الفرائض مُقيم
( أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) ؟
تالله لو شاقتك جنات النّعيـ = ـم طلبتها بنفائس الأثمان
تريد الجنات ، وأنت مُصرّ على ترك الصلوات ؟
أم تتمنى الفردوس وأنت عابد لهوى النفوس ؟
فإياك ونفسك !
قال ابن القيم : فالنفس داعية إلى المهالك معينة للأعداء طامحة إلى كل قبيح مُتّبِعةٌ لكل سوء ؛ فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة . اهـ .
يا صاح :
مولاك يدعوك إلى الصلاة
ونبيّك صلى الله عليه وسلم يوصيك بها ، وهو في السّكرات
كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة الصلاة . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
بالله ما عذر أمريء هو مؤمن = حقا بهذا ليس باليقظان ؟
قل لي أي عُذر تعتذر به عند مولاك وقد تركت أمره ، وارتكبت نهيه ، وعصيت رسوله ؟
فيا تارك الصلاة أقبل على مولاك
واستعتبته على خطاياك
واسأله العفو عن جرائمك السابقة من ترك الصلوات
إن الصلاة نور في الدنيا والآخرة(3/270)
قال عليه الصلاة والسلام : الصلاة نور . رواه مسلم .
لما مشوا إلى الصلاة في الظّلُمات أُعطوا النور التام يوم القيامة
" بشِّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة " رواه أبو داود والترمذي .
والصلاة برهان على صدق الإيمان ، وبرهان على عبودية الواحد الدّيّان
" من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة "
وفيها النجاة في الدنيا والآخرة
ينجو العبد في دنياه من همّه وغمِّه
ويسلم بها من السُّخط والتّسخّط
( إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ )
وهي نجاة من الشدائد ، وهي ثبات أمام الفتن والمصائب( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )
قال ابن كثير رحمه الله : الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر . اهـ .
وفوائد الصلاة أكثر من أن تُحصر ..
فأقِم صلاتك قبل أن تبكي عليك نُعاتُك.
328-إذا مسّ بالسراءِ عمَّ سرورُها..
نِعَم الله تترا على العباد في كل لحظة ، بل مع كل نَفَس..
( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )
وواجب العبد نحو نِعمِ ربِّه أن يَشْكرَها ولا يكفرها.
لأن النِّعم إنما تدوم بالشُّكر .
فما هو الشكرُ ؟
وكيف يكون ؟
الشكر هو : الثناء على المحسن بذِكرِ إحسانه بما أولاكه من المعروف .
وقيل : هو تصورُ النعمةِ وإظهارُها .
قال سهل بن عبدالله : الشكر : الاجتهاد في ذل الطاعة ، مع اجتناب المعصية في السر والعلانية .
وقال الجُنيد : الشكر ألاّ يُعصى اللهَ بِنِعَمِه .(3/271)
وقال الشِّبلي : الشكر : التواضع ، والمحافظة على الحسنات ، ومخالفة الشهوات ، وبذل الطاعات ، ومراقبة جبار الأرض والسماوات .
وهل هناك أكثرُ إحساناً عليك وإنْعاماً ممن رزقك وأنت في بطن أمك ؟ وسوّغ لك الطعامَ والشراب ؟ وألبسك لباسَ الصحة والعافية ؟ وأعطاك المال والأهل والولد ؟
وذكّرك مولاك بنعمته فقال : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )
قال مجاهدٌ وغيره : هذه نِعمٌ من اللهِ متظاهرة يُقرِّرُكَ بها كيما تشكر .
وقال ابن مسعود في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) :
حقّ تقاته : أن يُطاع فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر .
فالشُّكر إذاً من لوازم التقوى . ودخول الجنة مرتبط بتقوى الله ، وكذلك قبول العمل والدخول في رحمة أرحم الراحمين .
والشكر وصف ممدوح ووصف جليل
وقد وصف الله نبيّه نوحا بأنه ( كَانَ عَبْدًا شَكُورًا )
وامتدح الله عبده لقمان بأنْ آتاه الله الحكمة ورزقه الشكر ، فقال : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) .
والشُّكر مما أهمّ الأنبياء .
يُروى أن موسى عليه الصلاة والسلام قال يوم الطور : يا رب إن أنا صليت فَمِنْ قِبلك ، وإن أنا تصدقت فَمنْ قِبلك ، وإن أنا بلغت رسالتك فَمِنْ قِبلك ، فكيف أشكرك ؟ قال : الآن شكرتني .
والشُّكرُ يكون في ثلاثة مواضع :
بالقلب وباللسان وبالجوارح .
فبالقلب اعتقاداً أن الله وحدَه هو المنعمُ المتفضّلُ بهذه النِّعم لقوله تبارك وتعالى : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ )
وأن من سوى الله من الخلق إنما هم سببٌ لجريان شيء مِن النِّعم على أيديهم .(3/272)
وفي الحديث : لا يَشكرِ اللهَ من لا يشكرِ الناس . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وفي الحديث الآخر : إن أشكر الناس لله عز وجل أشكرهم للناس . رواه الإمام أحمد .
وقال عليه الصلاة والسلام : من صنع إليكم معروفاً فكافئوه .
فهذا كلّه يدلُّ على شكرِ الناس لا على نسبةِ النعمة إليهم
وشكر الناس أمرٌ مطلوب ، كما قال الله تعالى : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ )
قال الحسن : قال موسى عليه السلام : يا رب كيف يستطيعُ ابن آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه ؛ خلقته بيدك ، ونفخت فيه من روحك ، وأسكنته جنتك ، وأمرت الملائكة فسجدوا له ؟ فقال : يا موسى عَلِمَ أن ذلك مني ، فَحَمِدَنِي عليه ، فكان ذلك شكرا لما صنعته . رواه هناد في الزهد .
وقال صلى الله عليه وسلم : ما أنعم الله على عبد ، فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة . رواه الطبراني وغيره ، وصححه الألباني .
قال سليمان التيمي : إن الله أنعمَ على العباد على قدْرِه ، وكّلّفَهُم الشكرَ على قدْرِهم ، حتى رضيَ منهم من الشكر بالاعترافِ بقلوبهم بِنِعَمِهِ ، وبالحمد بألسنتِهم عليها .
ويكون الشكر باللسان لقوله تعالى : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )
فيتحدّث العبدُ بنعمة ربِّه عليه اعترافاً بها ، وقبولاً لها ، وشكراً لمن أسداها ، وأنعمَ عليه بها.
لو كلَّ جارحة منِّي لها لغةٌ = تثني عليك بما أوليتَ من حسنِ
لكان ما زان شكري إذا أشرتُ به = إليك أجمل في الإحسان والمنن
فيتحدثُ بنعمة الله عليه بلسان مقاله ، وبلسان حاله .
وفي صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : سيدُ الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدُك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .(3/273)
فتضمّنَ الحديثُ الاعترافَ بنعمةِ اللهِ عليه .
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الطعام قال : الحمد لله الذي أطعم وسقى ، وسوّغه وجعل له مَخْرَجا . رواه أبو داودَ والترمذي .
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأَكْلَةَ فيحمدَه عليها ، أو يشربَ الشّرْبَةَ فيحمدَه عليها .
قال بكر بن عبدالله : ما قال عبدٌ قط : الحمدُ لله مرةً ، إلا وجبت عليه نعمةٌ بقوله : الحمدُ لله ، فما جزاء تلك النعمة ؟ جزاؤها أن يقولَ : الحمد لله ، فجاءت نعمةٌ أخرى فلا تنفد نعماءُ الله . رواه ابن أبي الدنيا في الشكر .
فكلُّ نعمةٍ فمن الله وحدَه حتى الشكر فإنه نعمةٌ وهي مِنْهُ سبحانَه ، فلا يطيقُ أحدٌ أن يشكرَه إلا بنعمته ، وشكرُه نعمةٌ مِنْهُ عليه ، كما قال داود عليه الصلاة والسلام : يا رب كيف أشكرُك وشكري لك نعمةٌ من نعمك عليّ تستوجبُ شكراً آخر ؟ فقال : الآن شكرتني يا داود . ذكره الإمام أحمد في الزهد .
وذَكَرَ عن الحسن أنه قال : قال داود : إلهي لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار والدهرَ كلَّه لما أدّوا مالَكَ عليّ من حقِّ نعمةٍ واحدة .
إذا كان شكري نِعْمَةَ الله نعمةً = عليَّ له في مثلها يجبُ الشكرُ
فكيف وقوعُ الشكر إلا بفضله = وإن طالت الأيامُ واتصل العمر
إذا مس بالسراءِ عمَّ سرورُها = وإن مسَّ بالضراءِ أعقبها الأجر
وما منهما إلاّ له فيه مِنّةٌ = تضيقُ بها الأوهامُ والبرُّ والبحر(3/274)
وكتب ابن السماك إلى محمد بن الحسن – حين وَلِيَ القضاء – : أما بعد فلتكن التقوى من بالك على كلِّ حال ، وخفِ الله من كل نعمةٍ أنعم بها عليك من قِلّةِ الشكر عليها مع المعصية بها ، فإن في النعم حُجةٌ ، وفيها تَبِعَةٌ ؛ فأما الحجةُ بها فالمعصيةُ بها ، وأما التبعةُ فيها فقلّة الشكر عليها ، فعفى الله عنك كلما ضيعت مِنْ شكر ، أو ركبت من ذنب ، أو قصرت من حق .
هذا تحدّثٌ بالنعمة بلسان المقال
وأما بلسان الحال ففي لباس الإنسان ولباس أولاده وحالهم لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يُحب أن يُرى أثرُ نعمتِه على عبده . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
وفرق بين أن يَرى الخلق أثر النعمة وبين الإسراف .
لقوله عليه الصلاة والسلام : كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة . رواه البخاري تعليقا ، رواه الإمام أحمد والنسائي .
وقال ابن عباس : كل ما شئت والبس واشرب ما شئت ، ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة . علّقه البخاري ، ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق موصولا .
وفي المسند وغيرِه عن أبي الأحوص الجُشَميّ عن أبيه قال : رآني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعليّ أطمارٌ ، فقال : هل لك مال ؟
قلت : نعم .
قال : من أي المال ؟
قلت : من كل المال قد آتاني اللهُ عز وجل ؛ من الإبل والرقيق والخيل والغنم .
قال : فلتُرَ نِعَمُ اللهِ وكرامتُه عليك .
أي ليرى الناس أثر نعمة الله عليك ، فهذا من شُكرها بلسان الحال .
ويكونُ الشكرُ عَمَلاً بالجوارح بأن لا تعملِ الجوارحُ إلا بما يُرضي مولاها سبحانه .
فيعمل العبدُ بطاعة ربِّه ، خِدمةً لسيِّدِه ، لا يرى أنه صاحب معروفٍ بعمله ، بل ينظر إلى أعماله كلِّها على أنها قطرةٌ في بحر جودِ مولاه جل جلاله ، وأنه مهما عمِلَ من عملٍ فإنه لا يؤدّي شُكرَ أقلَّ نعمةٍ يتقلّبُ بها ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )(3/275)
وقد أنعم الله عز وجل على العبد بالجوارح والأعضاء التي لا تُقدّر بثمن ، ولو كانت تُباع أو تُتشرى لكان الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال أكثر الناس تمتعاً بالصّحة !
جاء رجلٌ إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله قائلاً : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبدُ الله : ألك امرأةٌ تأوي إليها ؟ قال : نعم . قال : ألك مسكنٌ تسكنُه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . قال الرجل : فإن لي خادماً . قال : فأنت من الملوك ! رواه مسلم .
وشكا رجل ضيقَ حالِه إلى يونسَ بنِ عبيد ، فقال له يونس : أيسرُّك أن لك ببصرك هذا الذي تُبصرُ به مائةَ ألفَ درهم ؟ قال الرجل : لا . قال : فَبِيَدِكَ مائةَ ألفَ درهم ؟ قال : لا . قال : فَبِرجليك ؟ قال : لا . قال فذكّره نعمَ اللهِ عليه ، فقال يونس : أرى عندك مئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجة . رواه أبو نعيم .
قال ابن القيم رحمه الله : ويكفي أن النَّفَسَ من أدنى نِعَمِهِ التي لا يكادُون يعدّونها ، وهو أربعةٌ وعشرون ألفَ نَفَس في كل يوم وليلة . فـ لِلّه على العبد في النَّفَس خاصةً أربعةٌ وعشرون ألفَ نعمة كلَّ يوم وليلة . دع ما عدا ذلك من أصناف نِعَمِهِ على العبد ، ولكل نعمةٍ من هذه النعم حقٌّ من الشكر يستدعيه ويقتضيه . اهـ .
جسدك هذا الذي تتمتّع به ومتّعه الله بالصحة سوف تُسأل عنه
قال عليه الصلاة والسلام : إن أولَ ما يُسألُ العبدُ عنه يومَ القيامة من النعيم أن يُقالَ له : ألم نُصحِّ لك جسمَك ، ونُرويك من الماء البارد . حديث صحيح رواه الترمذي وغيره .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عَدّ الماء البارد من النعيم الذي سوف نُسأل عنه ، قال جابر ابن عبد الله : جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، فأطعمناهم رطبا وسقيناهم من الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا من النعيم الذي تسألون عنه . رواه أحمد وغيره وهو صحيح
قال ابن مسعودٍ : النعيم : الأمن والصحة .(3/276)
قال أبو الدرداء : كم من نعمةٍ لله في عرقٍ ساكن .
وقد ذكّر الله عز وجل بهذه الجوارح فقال : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )
قال مجاهد : هذه نِعمٌ من اللهِ متظاهرةٌ يُقرِّرُكَ بها كيما تشكر .
وامتن الله عز وجل على العباد بالجوارح فقال : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
وما ذلك إلا لأن هذه الجوارح المذكورة هي وسائل المعرفة والإدراك ، فأيُّ عملٍ عَمِلَتَ بها ؟
وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى الآيات التي ورد فيها السمع والبصر والفؤاد ثم قال :
وهذا كثير جدا في القرآن ؛ لأن تأثره بما يراه ويسمعه أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه ، ولأن هذه الثلاثة هي طرق العلم وهي : السمع والبصر والعقل ، وتعلّق القلب بالسمع وارتباطه به أشدّ من تعلقه بالبصر وارتباطه به ، ولهذا يتأثر بما يسمعه من الملذوذات أعظم مما يتأثر بما يراه من المستحسنات ، وكذلك في المكروهات سماعا ورؤية ، ولهذا كان الصحيح من القولين أن حاسة السمع أفضل من حاسة البصر لشدّة تعلقها بالقلب وعظم حاجته إليها ، وتوقف كماله عليها ووصول العلوم إليه بها ، وتوقف الهدى على سلامتها . اهـ .
ثم إن العبد إذا شكر كان هو المستفيد على كل حال ، وذلك لعدّة أمور :
الأول : أن الشكر عبادة يُثاب عليها الشّاكر .
الثاني : أن الله وعد بالمزيد لمن شكر .
فاشكروا الله على نِعَمِهِ يَزِدْكُم ، فإن الله تبارك وتعالى وعد الشاكرين بالمزيد ، وتوعّد الكافرين بالعذاب الشديد ، فقال : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )
قال الربيعُ بنُ أنس : إن الله ذاكرٌ من ذكره ، وزائدٌ من شكره ، ومعذبٌ من كفره .(3/277)