1-خَان فـ هَان
حرص الإسلام على كل خُلُق فاضل ، وعلى كل معنى جميل .
فَحثّ على الوفاء " فوا ببيعة الأول فالأول أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" رواه البخاري ومسلم .
وأمر بأداء الأمانة " أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذي .
وحرص على الوضوح والنُّصْح ..
قال جرير بن عبد الله : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم . رواه البخاري ومسلم .
ومن هنا فإن من تمسّك بتلك المبادئ السامية سَمَا بنفسه ، وعلا شأنه .. وكان عند الله أعزّ وأعظم من بيت الله
ليس دمه فحسب ، بل دمه وماله وعِرضه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة ؟
قالوا : ألا شهرنا هذا .
قال : ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة ؟
قالوا : ألا بلدنا هذا .
قال : ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة ؟
قالوا : ألا يومنا هذا .
قال : فإن الله تبارك وتعالى قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها ، كَحُرْمَةِ يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا . رواه البخاري بهذا اللفظ .
ونظر ابن عباس إلى الكعبة فقال : ما أعظم حرمتك وما أعظم حقك ، والمسلم أعظم حرمة منك ؛ حَرّم الله ماله ، وَحَرّم دمه ، وَحَرّم عِرضَه وأذاه ، وأن يظن به ظن سوء .
ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك .
وقال سعيد بن ميناء : إني لأطوف بالبيت مع عبد الله بن عمرو بعد حريق البيت إذ قال : أي سعيد أعظمتم ما صنع بالبيت ؟ قال : قلت : وما أعظم منه ؟ قال : دم المسلم يُسفك بغير حقِّه .
وَحرّم الإسلام ترويع المؤمنين ، فقال عليه الصلاة والسلام : " من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه " رواه مسلم .(1/1)
وقال : " لا يحلّ لمسلم أن يُروِّع مُسلماً " . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
قد تعجب إذا علمت سبب وُورد هذا الحديث !
وذلك أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حَبْلٍ معه فأخذه ، ففزع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يَحِلّ لمسلم أن يُروِّع مسلما
كل هذا مُشعِر بعظيم قدر المؤمن عند الله .. وعظيم حُرمَتِه .
غير أن هذا القَدْر قد يَزول
وتلك المكانة قد تتلاشى أو تضعف .. عندما يَنزل المؤمن من عليائه ، أو يتخلّى عن عِزِّه .
فإنه ما رَفَع قَدْرَه إلا الإيمان .. وما أعلى شأنه إلا التمسّك بالمبادئ العِظام
وحين يتخلّى عن ذلك أو بعضه فإنه يُزِل نفسه منازل المهانة .. أو يُسكنها مساكن الذّلّة
حين يَخون الأمانة .. فإنه يُهدِر قَدْرَه ..
وحين يحفظ الأمانة .. يعلو قَدْرُه .
يَد المؤمن لو قُطِعت فإنه تُفدى بِنصف دِيَة
وحين يَخون فإنها تُقطَع في مقابِل خمسة دراهم !
ولذا حين اعترض المعرّي .. وادّعى تناقض الشريعة ، فقال :
يد بخمس مِئين عَسْجَدٍ وُدِيَتْ = ما بالها قُطِعت في ربع دينار ؟!
رَدّ عليه أهل العِلم .. فقال قائلهم ، وهو القاضي عبد الوهاب :
صيانة العضو أغلاها ، وأرخصها = صيانة المال ، فافهم حكمة الباري
كان الفضيل بن عياض لِصّاً يَقطع الطريق ..
ذَكَر الذهبي في السِّيَر عن الفضل بن موسى قال : كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق .
هكذا كان !
كان الجميع يَحذره ..
وكانوا يَخشون شَرّه !
فتاب وأناب .. ولزِم محراب العبودية .. فصار أهل العِلم يُجلّونه .. ويَقبَلونه ويُقبِّلونه !
بل صارت أقواله مناراً لأهل الإسلام .. ونبراساً لأهل الإيمان .
فإذا قال قولاً أصغى إليه الجميع .. واستمع له الحاضر والبادي !
فكم بين كونه لِصّاً يَقطع الطريق .. وبين كونه صالحا عابدا عالماً تُقطَع إليه المفاوز ، وتُضرب إليه أكباد الإبل ؟!
فيا بُعد ما بين الحالين !(1/2)
الأولى حال " خَان فـ هَان " والثانية حال " صَان فَعَزّ وكان "
قال ابن القيم رحمه الله :
يا مغرورا بالأماني ! لُعن إبليس وأُهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمِرَ بها ، وأُخْرِج آدم من الجنة بلقمة تناولها ، وحُجِبَ القاتِل عنها بعد أن رآها عيانا بملء كف من دم ، وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحلّ ، وأمر بإيساع الظهر سياطا بكلمةِ قَذْف ، أو بقطرة سكر ، وأبان عضوا من أعضائك بثلاثة دراهم ؛ فلا تأمنه أن يَحْبِسَك في النار بمعصية واحدة من معاصيه ، (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) .
صفر - 1426 هـ .
2-مقال وعظي: لا تغتروا
إنّ مِن نِعَمِ الله على هذه الأمَّة أن تتوالَى عليها مواسِم الْخَيْرَات ، وتتابَع عليها مِنَح العبَادات وللعِبَادة أهميَّة في حياة الإنسان عموما ، فالإنسان مُحتاج إلى الصِّلَة بِرَبِّه مَع كُلّ نَفَس ..
وتَكْمُن أهمية العَمَل الصَّالِح في مسائل كثيرة ، منها :
1 - عُلُوّ المنازل في الجنة .. وإنما تَعْلُو مَنَازل المؤمنين في الْجَنَّة بِقَدْر أعمالهم .. (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..قال القرطبي في تفسيره : أي : وَرِثْتُم مَنَازِلَها بِعَمَلِكُم ، ودُخُولُكم إيّاها بِرَحْمَة الله وفَضْلِه .
وقال ابن كثير في تفسيره : أي : بِسَبَبِ أعْمَالِكم نَالَتْكُم الرَّحْمَة فَدَخَلْتُم الْجَنَّة ، وتَبَوّأتُم مَنَازِلَكُم بِحَسَب أعْمِالِكم ، وإنّمَا وَجَبَ الْحَمْل عَلى هَذا لِمَا ثَبَت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :واعْلَمُوا أنّ أحَدَكم لَن يُدْخِله عَمَلُه الْجَنَّة . قَالوا : ولا أنْت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلاَّ أن يَتَغَمَّدَني الله بِرَحْمَةٍ مِنه وفَضْل .(1/3)
وقال في قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي : أعْمَالُكم الصَّالِحَة كانت سَبَبًا لِشُمُول رَحْمَة الله إياكم ، فإنه لا يُدْخِل أحَدًا عَمَلُه الْجَنَّة ، ولَكِن بِفضلٍ مِن الله ورَحْمَته ، وإنّمَا الدَّرَجَات تَفَاوتها بَحَسَب عَمَل الصَّالِحَات . اهـ .
وفي الحديث : إنَّ أهْل الْجَنَّة يَتَرَاءَون أهْل الغُرُف مِن فَوْقِهم كَمَا تَتَرَاءَون الكَوْكَب الدُّرِّي الغَابِر في الأُفُق مِن الْمَشْرِق أوْ الْمَغْرِب ، لِتَفَاضُل مَا بينهم . قالوا: يا رسول الله تلك مَنازل الأنبياء لا يَبْلُغُها غَيرهم ؟ قال : بلى والذي نفسي بيده ، رجال آمَنوا بالله وصَدَّقُوا الْمُرْسَلِين . رواه البخاري ومسلم .
2 - الدُّخُول تَحْت رَحْمَة أرْحَم الرَّاحِمِين .. (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)
3 - النَّجَاة مِن الْخُسْرَان الْمُبِين .. تأمّل سورة العصر .. (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ) . تَجِد أنّ الله عَلَّق الفَلاح على الإيمان به وعلى العمل الصالح ..
والعَمَل الصَّالِح سَبَب في النَّجاة في الدّنيا قبل الآخِرَة .. ولعلّك على ذِكْرٍ مِن قِصَّة الثلاثة الذين آواهم الْمَبِيتُ إلى غار .. فَدَعَوا الله بِصالِح أعمالِهم فَفَرَّج الله عنهم . والقصّة مُخرَّجة في الصحيحين .
4- الرِّفْعَة في الدُّنيا وفي الآخرة بالعمل الصَّالِح .. (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وقال عليه الصلاة والسلام : إنَّ الله يَرْفع بهذا الكتاب أقْوامًا ، ويَضَع بِه آخَرِين . رواه مسلم .(1/4)
والعناية بالعَمَل الصَّالِح أمْرٌ قد أهَمّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .. فقد كان السؤال عمّا يُبَاعِد مِن النار ، ويُقرِّب مِن الجنة
قال النبي صلى الله عليه وسلم لِرَبِيعَة بن كَعْب الأسلمي : سَل . قال : فقلت : أسْألك مُرَافَقَتك في الجنة . قال : أوْ غَير ذَلك ؟ قلت : هو ذاك . قال : فأعِنِّي على نَفْسِك بِكَثْرَة السُّجُود . رواه مسلم .
وثمّة أمْرٌ آخر أهمّ الصَّالِحين .. ربما أكْثَر مِن العَمَل، ألا وهو قَبُول العَمَل .. لَمّا نَزَل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)
قالت عائشة : يا رسول الله ! أهُو الذي يَسْرِق ويَزْنِي ويَشْرَب الْخَمْر ، وهو يَخَاف الله ؟ قال : لا يا بِنْت الصِّدِّيق . ولكنه الذي يُصَلي ويَصُوم ويَتَصَدَّق ، وهو يَخَاف الله عز وجل . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وفي رواية للترمذي : ولكنهم الذين يَصُومُون ويُصَلُّون ويَتَصَدَّقُون ، وهم يَخَافُون أن لا يُقْبَل مِنهم (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) .
ولَمَّا جاء سائل إلى ابن عمر ، فقال ابن عمر لابنه : أعْطِه دِينارًا . فأعْطَاه ثم قال له ابنه : تَقَبَّل الله مِنك يا أبتاه . فقال : لو عَلِمْتُ أنَّ الله تَقَبَّل مِنِّي سَجْدة واحِدَة ، أوْ صَدَقة دِرْهم واحِد لم يَكُن غَائب أحَبّ إليّ مِن الْمَوْت . أتَدْرِي مِمَّن يَتَقَبَّل الله ؟ (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) .
وكان فُضَالة بن عُبيد يقول : لأن أكُون أعْلَم أنَّ الله تَقَبَّل مِنِّي مِثْقَال حَبَّة مِن خَرْدَل أحَبّ إليَّ مِن الدّنيا ومَا فيها ؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى يَقول : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) .(1/5)
وبَكى عَامِر بن عبد الله في مَرَضِه الذي مات فيه بُكَاءً شَدِيدًا ، فقيل له : ما يُبْكِيك يا أبا عبد الله؟ قال : آيَةٌ في كِتاب الله : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) .
وكان مُطَرِّف بن عبد الله يَقُول : اللهم تَقَبَّل مِنِّي صَلاة يَوْم . اللهم تَقَبَّل مِنِّي صَوْم يَوم . اللهم اكْتُب لي حَسَنة ، ثم يقول : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) .
قال ابن رجب في قوله تعالى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) : لهذا كانت هذه الآية يَشْتَدّ مِنها خَوْف السَّلَف على نُفُوسِهم ، فَخَافُوا أن لا يَكُونوا مِن الْمُتَّقِين الذين يَتَقَبَّل الله منهم .
إذا عُلِم هذا فليُعْلَم أنَّه لا يَكفِي مُجرَّد العَمَل ، فالْمُحْبِطَات كثيرة ، وهي إمَّا أن تَكُون قَبْل العَمَل ، أو تَكون في أثْنَاء العَمَل ، أو تَكُون بَعْد العَمَل .
وبعضُها إما أن تُضعِف حَسَنات العَمَل ، أو تَذْهَب بِها بالكُلِّيَّة ..فقبْل العَمَل ، كالذي لا يُحسِن التَّطَهُّر للصَّلاة وفي أثناء العَمَل ، كالذي لا يُتقِن العمل ولا يُحسِنه ، أو يُرائي فيه .
دخل رجل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ ، فقام يصلي ويَنْقُر في سجوده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو مَات هذا على حَالِه هذه ، مَات على غَير مِلّة مُحمد صلى الله عليه وسلم يَنْقُر صَلاته كَمَا يَنْقُر الغُرَاب ! رواه أحمد وابن خزيمة .
وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : إنَّ الرجل ليصلي ستين سنة وما تُقبَلُ له صلاة ، لعله يُتِمّ الرُّكُوع ولا يُتِمّ السُّجُود ، ويُتِم السُّجُود ولا يُتِمّ الرُّكُوع . رواه أبو القاسم الأصبهاني ، وصححه الألباني .
وقال صلى الله عليه وسلم : لا صَلاةَ لِمَن لا يُقِيمُ صُلبَه في الركوع .(1/6)
وعن أبي وائل أن حذيفة رأى رَجُلاً لا يُتِمّ رُكُوعه ولا سُجُوده ، فلما قَضَى صَلاته قال له حذيفة: مَا صَلَّيْتَ ، قال : وأحْسَبُه قال : لو مُتّ مُتّ على غير سُنة محمد صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري .
وبعد العَمَل إما أن يُسمِّع بِعَمَلِه ، أو يُعجَب بِعَمَله ، أو يأتي بِما يُحبِطه مِن الشِّرْك .ولذا قال عليه الصلاة والسلام : مَن سَمَّع سَمَّع الله به ، ومَن رَاءَى رَاءَى الله بِه . رواه البخاري ومسلم .
قال العِزّ بنُ عبدِ السَّلام : الرِّياء أن يَعْمَل لِغَيْر الله ، والسُّمْعَة أن يُخْفِي عَمَلَه لله ، ثم يُحَدِّث بِه الناس . أو يَكون ذَهَاب الْحَسَنات بِظُلْم الناس ، وظُلْم النَّاس سَبَب لِذَهَاب الحسنات في الآخِرة .
ولو كان ذلك الظُّلْم مِن والِدٍ على وَلَدِه ، أو مِن زَوج على زَوْجَتِه .. فقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يُؤخَذ بِيَدِ العَبْد أوْ الأمَة يَوْم القِيَامَة فيُنْصَب على رُؤوس الأوَّلِين والآخِرِين ، ثم يُنادِي مُنَادٍ : هذا فُلان بن فُلان ، مَن كَان لَه حَقّ فَلْيَأتِ إلى حَقِّه ؛ فَتَفْرَح الْمَرْأة أن يَدُور لَهَا الْحَقّ عَلى أبِيهَا ، أوْ عَلى زَوْجِهَا ، أوْ عَلى أخِيهَا ، أوْ على ابْنِهَا ، ثُمّ قَرأ ابنُ مَسْعُود : (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ).
ولَو كان الظُّلْم أو الأذى باللسَان .. لَكان مُذْهِبًا للحَسَنَات ، روى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم - وصحَّحه - مِن حديث أبي هريرة أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنَّ فُلانة تَصُوم النهار ، وتَقُوم الليل ، وتَفعل ، وتَصَّدَّق ، وتُؤذي جِيرانها بِلِسَانِها . فقال : لا خَير فيها ، هي في النار . قيل : فإنَّ فَلانة تُصَلي المكتوبة ، وتَصوم رمضان ، وتَتَصَدَّق بأثْوارٍ مِن أقِط ، ولا تؤذي أحَدًا بِلِسَانِها . قال : هي في الجنة .(1/7)
وكما في حديث الْمُفْلِس .. وهو في صحيح مسلم ، وفيه : إنَّ الْمُفْلِس مِن أُمَّتِي يأتي يوم القيامة بِصَلاة وصِيام وزَكاة ، ويأتي قَد شَتَم هذا ، وقَذَف هذا ، وأكَلَ مَالَ هذا ، وسَفَك دَم هذا ، وضَرَب هذا ؛ فَيُعْطَى هَذا مِن حَسَنَاتِه ، وهذا مِن حَسَنَاتِه ، فإن فَنِيَتْ حَسَنَاتُه قَبْل أن يُقْضَى مَا عَليه أُخِذ مِن خَطاياهم ، فَطُرِحَتْ عَليه ، ثم طُرِح في النار .
وعلى المسلم أن يَكون خائفا مِن عَدَم قَبُول العمل ، فلا يُدِلُّ على الله بِعَمَله ، ولا يَمْتَنّ به .. بل يَعمَل العَمَل وهو خائف وَجِل أن لا يُتقبَّل منه .
ففي حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَن توضأ مثل هذا الوضوء ثم أتى الْمَسْجِد فَرَكَعَ ركعتين ثم جَلس غُفِرَ لَه مَا تَقَدَّم مِن ذَنْبه . قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تَغْتَرُّوا . قال ابن حجر : قد يَصِحّ العَمَل ويتخلف القبول لِمَانِع . اهـ .
وعلى المسلِم أيضا أن لا يَقْنَط مِن رَحْمَة الله .. بل يُحسِن العمل ، ويسأل الله القبول ، وهو مع ذلك يُحسِن الظّن بِربِّه .
قال الحسن البصري : إنَّ الْمُؤمِن جَمَع إحْسَانًا وشَفَقَة ، وإنَّ الْمُنَافِق جَمَع إسَاءة وأمْنًا . يَعْنِي إسَاءةً في العَمل وأمْناً مِن مَكْرِ الله .
المؤمن يَعمل الصَّالِحات ويجتهد في طَلَب رِضا ربّ الأرض والسَّماوات .. وهو مع ذلك يَخَاف مِن ذُنُوبه أن تُوبِقه .. قال ابن مسعود رضي الله عنه : إنَّ المؤمن يَرى ذُنُوبَه كأنه قَاعِد تَحْت جَبل يَخَاف أن يَقَع عليه ، وإن الفَاجِر يَرى ذُنُوبَه كَذُبَابٍ مَرّ على أنْفه ، فقال بِه هَكذا . رواه البخاري .(1/8)
وفي خَبَر الذي قال لِصاحِبه : والله لا يَغفر الله لك ، أوْ لا يُدْخِلك الْجَنَّة أبْدًا . فقال الله للمُذْنِب : اذهب فادْخُلِ الْجَنَّة بِرحمتي ، وقال للآخَر : أكُنْتَ عَالِمًا ؟ أكُنْتَ على مَا في يَدي قَادِرًا ؟ اذْهَبُوا بِه إلى النَّار . قال أبو هريرة : والذي نَفْسي بِيَدِه إنه لَتَكَلَّم بِكَلِمَة أوْبَقَتْ دُنْيَاه وآخِرَتِه . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فالعَمَل الصَّالِح بالِغ الأهميّة في حَياة الْمُسْلِم ، وأهّم مِنه أن يُحْسِن العَمَل ، وأن يُحَافِظ على حَسَنَات العَمَل الصَّالِح وإن قَلّ .
فالْهَج بِدُعَاء الْخَلِيل عليه الصلاة والسلام : (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..
ولا تَنْس أنه دَعَا بذلك الدعاء حينما كان يَعمل ذلك العَمَل العظيم (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) ..
قرأ وُهيب بن الوَرد : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ثم بَكى وقال : يا خليل الرحمن ! تَرْفَع قوائم بَيْت الرَّحمن وأنت مُشْفِق أن لا يُتَقَبَّل مِنْك .
الرياض - 5/10/1427 هـ .
3-تعرّف على المَلِك
هو المَلِك الذي لا يُرد أمره
هو المَلِك الذي ينفذ حكمه
هو المَلِك الذي يجب أن تتذلل له
بل تسجد بين يديه لتسأله حاجتك
مِن صفات كماله :
" أنه يجود ويعطي ويمنح ، ويعيذ وينصر ويغيث ، فكما يحب أن يلوذ به اللائذون يحب أن يعوذ به العائذون ، وكمال الملوك أن يَلوذ بهم أولياؤهم ، ويعوذوا بهم "
له الملك وحده دونما سواه
( لَهُ الْمُلْكُ )
هو ملك الملوك
( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ )(1/9)
" وملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه وأن يعوذوا به ، كما أمر رسوله أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه "
هو مالك المُلك
( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
قال عليه الصلاة والسلام : إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا مالك إلا الله . رواه البخاري ومسلم .
لا مالك على الحقيقة إلا الله . هو مالك يوم الدين، وفي ذلك اليوم يتجلّى المُلك يوم لا مالك إلا الله ، فيُنادي ربنا سبحانه وتعالى :
أنا الملك
ولذا يقرأ المُصلي : ( مالك يوم الدين ) أو ( ملِك يوم الدين )
تعرّف على ملك الملوك في حال رخائك يتعرّف عليك ويعرفك في الشدة
قال محمود الوراق :
شاد الملوك قصورهم وتحصنوا = من كل طالب حاجة أو راغب
فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن = يا ذا الضراعة طالبا من طالب
لا ينفع ولا يضر
ولا يُجيب المضطر
إلا ملك الملوك سبحانه .
( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) ؟
لا أحد إلا الله جل جلاله .
ولا يكشف البلوى
ولا يدفع الضرّ
إلا رب العزة سبحانه
( قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ )
اللجوء إليه وحده في الملمّات
لأن غيره لا ينفع ولا يضر
( وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ )
أما لماذا ؟
فيأتيك الجواب مباشرة :(1/10)
( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
من ذا الذي أمّله فانقطعت آماله ؟
من ذا الذي رجاه فخيّب رجاءه ؟
من ذا الذي سأله فَردّه ؟
من ذا الذي لجأ إليه فطرده ؟
من ذا الذي انطرح بين يديه فما رحِمه ؟
إذاً :
إليك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم :
احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله . رواه الإمام أحمد .
ومِن التّعرّف عليه جل جلاله في حال الرخاء كثرة الدعاء .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرب ، فليكثر الدعاء في الرخاء . رواه الترمذي .
وما أحوجنا إلى هذا التعرّف والتضرّع حتى لا نكون كمن وصفهم الله عز وجل بقوله ( فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) .
4-أحرام على بلابله الدّوح ؟؟؟
تذكرت قول الشاعر :
أحرام على بلابله الدوح *** حلال للطير من كل جنس
وأنا أقرأ هذا الخبر :
أعلن الجنرال الأمريكي - مساعد قائد العمليات الأمريكية - أن عرض تلك المشاهد يُعدّ انتهاكاً لمعاهدة جنيف .
بقي أن تعلم أن المقصود بتلك المشاهد عرض صور الأسرى وهم يُجيبون على أسئلة عسكريين عراقيين من خلال شاشة التلفاز !
وضمن إطار الخبر :
وبوش يحذر من إساءة معاملة الأسرى الأمريكيين .
أما أسرانا في كوبا فلا بواكي لهم، وأما ما يُفعل بهم مما لا يمتّ للإنسانية بِصِلة فهو لا يُعدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان فضلا عن معاهدات أو مواثيق !
وأما قتل المدنيين والأبرياء بل قتل الأطفال حتى الرُّضّع منهم فليس من انتهاك حقوق الإنسان ولا من انتهاك المعاهدات في شيء !(1/11)
وما أشبه الليلة بالبارحة
ففي أفغانستان قتلت القذائف الأمريكية الذكية أو الرحيمة المئات من المدنيين الأبرياء والعزّل
ففي إحدى القرى تم العثور على 160 جثة نتيجة القصف الأمريكي !
وإليك الخبر بطوله هنا
وفي العراق قصفت أمريكا بغداد قصفاً عنيفاً، بل إن نحو 70 صاروخا ضربت منطقة التلال التي تسيطر عليها جماعة أنصار الإسلام المسلحة .
والخبر هنا
وهذا ليس سِرّا يُذاع أو ظنّاً كاذباً ! بل هي الحقائق التي لا تعدو أن تكون الوجه الآخر للحضارة الغربية !
ودعاوى حقوق الإنسان أسلفت الحديث عنها هنا
http://al-ershaad.com/vb4/showthread.php?t=9070
نعم
حرام أن تُعرض صور الأسرى إذا كانوا من ذوي العيون الخضر والدماء الزرقاء ! حلال أن تُعرّى أجساد الأسرى في كوبا !
حرام أن تُعرض صور أسرى أمريكا وهم في لباسهم العسكري ! حلال أن يُلبسوا ملابس لا تصلح للحيوان فضلا عن الإنسان !
حرام أن تُعرض صور قتلى الحرب إذا كانوا جنوداً أمريكيين ! حلال أن يُقتل الأبرياء إذا كانوا مسلمين !
حرام أن يُسأل الجندي الأمريكي مُجرّد سؤال : من أين أتى ؟! حلال أن يُعذّب الأسير المسلم للإدلاء بمعلومات عن أشخاص ربما لم يسمع بهم !
حرام أن يُنقل الجنود الأمريكان - إذا أُسِروا - على سيارات الجيش ! حلال أن يُنقل أسرى كوبا في طائرات بضائع مكبلي الأيدي والأرجل ، قد أُغمِضت عيونهم ، وكُممت أفواههم !
عجيبة كل العجب هي الموازين الأمريكية !!
ضحايا قضية " لوكربي " دِية كل واحد منهم تزيد على مليوني دولار ! بينما ضحايا القصف الأمريكي لعرس ! في أفغانستان دِية كل واحد منهم لا تصل إلى ثلاثمائة دولار !!
أما لو كان المقتول كلباً أمريكياً لزادت ( فِديته ) !! على ذلك ! ولكنها العدالة والحرية والمساواة على الطريقة الأمريكية ! ولا نقول إلا ما افتتحنا به الكلام :
أحرام على بلابله الدوح *** حلال للطير من كل جنس
5-ما مدى اهتمامك بِدينك ؟
...(1/12)
قال سفيان بن عيينة : قال أبو حازم سلمة بن دينار لجلسائه - وحلف لهم - : لقد رضيت منكم أن يُبقي أحدكم على دينه كما يُبقي على نعله !
هل يمكن إن يكون اهتمام بعض الناس ببعض مسائل دينه أقل من اهتمامه بحذائه ؟
ربما تتفاجأ إذا قلت لك : نعم. وتُفاجأ أكثر إذا كان الجواب : هذا حال كثير من الناس إن لم يكن حال أكثر الناس ! وتُصاب بالذّهول إذا اكتشفت بعض ذلك في نفسك !
هنا أُعيد السؤال :
أيهما أكثر اهتماماً عندك دِينك أو حذاءك ؟
عندما يُريد أحدنا أن يشتري حذاء له أو لولده – إن كان له ولد – فإنه لا يكتفي بدخول أقرب محل وتناول أقرب حذاء ! بل يدخل محلا وآخر وربما دخل عشرة محلاّت ! ويسأل عن الحذاء والنوعية، ويتحرّى الحذاء الجيّد، ويبحث عن النوع المريح
وعندما يغبرّ الحذاء يُلمّع !
وإذا بلي الحذاء اعتنى به وأصلحه !
فهل يفعل الشيء نفسه في تعامله مع دينه ؟
أحيانا كثيرة : لا يفعل الشيء نفسه فيما يتعلق بدِينه !
عندما تعرض له شُبهة فإنه يأخذ بأقرب قول
فيُقلّد من لا تبرأ الذمّة بتقليده
ويأخذ بقول من لا يحلّ له الأخذ بقوله، ولربما عرضت له مسألة فرأى في الشارع من يُحسن به الظنّ فسأله وقلّده في دين الله عز وجل !
وعندما يُنبّه إلى الخطأ الذي وقع فيه يقول : سمعت في المسألة كذا وكذا ! فتُبادره : ممن سمعت ؟ فيقول : من أخي ! أو تقول هي : من أختي !
وقبل فترة رأيت رجلين صليا خلف إمام مُقيم فلما قام للركعة الثالثة جلسا حتى انتهى الإمام من صلاته ، فسلما معه ، ثم سألتهما عن فعلهما ، فأجابا بأن هناك من أفتاهم بذلك .
سألت من يكون ؟
وعن مَنْ مِن العلماء ؟
فأشارا إلى رجل كان ينتظرهما ، فجاء ، ثم سألته
فقال : سمعت فتوى !
قلت : من الذي أفتى ؟
قال : ما أدري ! ولكني سمعت !
قلت : ما سمعته قد يكون حقا وقد يكون بخلاف ذلك ، وربما يكون في مسألة أخرى غير هذه الصفة ، والخلاف في هذه المسالة خلاف ضعيف ..
أهكذا يكون السؤال ؟!(1/13)
وهكذا يكون الحرص على الدِّين ؟!
ألم أقل لكم إن الاهتمام بالدِّين عند بعض الناس أقل من الاهتمام بشراء حذاء !
ومن الناس مَن إذا سمع بحديث بادر في نشره وإذاعته دون أن يُكلّف نفسه السؤال عن الحديث وصحته قبل نشره ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وإذا سمع بفتوى أخذ بها دون التأكد منها
بل يأخذ أحيانا بما يوافق هواه !
أو يتماشى مع رغبته !
وهو لا يرضى أن يأخذ بهذا في خاصة نفسه فيما يتعلق بأمور دنياه، ولا يرتضي هذا المسلك في سائر أموره !
فلا يرتضي هذا في مراجعة أي طبيب !
ولا في سؤال أي مهندس !
ولا في إصلاح سيارته عند أقرب ورشة !
ولكنه يبحث في ذلك كله عن أمهر أهل الصنعة وأحذق أهل المهنة ! وربما بقي أياما أو أسابيع يسأل ويبحث ويتحرّى حتى يقع على الخبير !
إن الدِّين هو رأس المال بل أغلى وأثمن وأجلّ، ولذا كان مِن دُعائه عليه الصلاة والسلام : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادى ، وأجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، وأجعل الموت راحة لي من كل شر . رواه مسلم .
فهل نهتم ونعتني بديننا كما نهتمّ ونعتني بدنيانا ؟!
6-صرخة فتاة من ضحايا ( الشات )
الهذه قصة حقيقية ، ورسالة تقطر أسىً ، وصلتني عبر البريد
تقول الفتاة :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرجو منكم إفادتي في مشكلتي هذه :
أنا فتاة أبلغ من العمر 17 عاماً من بلد عربي ، لازلت في الدراسة الثانوية .. للأسف تعلمت استخدام ( الإنترنت ) لكني أسأت استخدامها ، وقضيت أيامي في محادثة الشباب ، وذلك من خلال الكتابة فقط ، ومشاهدة المواقع الإباحية ، رغم أني كنت من قبل ذلك متديّنة ، وأكره الفتيات اللواتي يحادثن الشباب .
وللأسف فأنا افعل هذا بعيداً عن عين أهلي ، ولا أحد يدري .(1/14)
ولقد تعرفت على شاب عمره 21 من جنسية مختلفة عني ... لكنه مقيم في نفس الدولة ، تعرّفت عليه من خلال ( الشات ) .. وظللنا على ( الماسنجر ) أحببته وأحبني حب صادق ( ولوجه الله ) لا تشوبه شائبة .
كان يعلمني تعاليم الدين ، ويُرشدني إلى الصلاح والهدى ، وكنا نُصلي مع بعض في أحيان أخرى ، وهذا طبعا يحصل من خلال الإنترنت فقط ؛ لأنه يدعني أراه من خلال ( الكاميرا ) كما أنه أصبح يريني جسده ، ... فأدمنت ممارسة العادة السرية .
ظللنا على هذا الحال مدة شهر ، ولقد تعلمت الكثير منه وهو كذلك ، وعندما وثقت فيه جعلته يراني من خلال ( الكاميرا ) في الكمبيوتر ، وأريته معظم جسدي ، وأريته شعري ، وظللت أحادثه بالصوت ، وزاد حُبّي له ، وأصبح يأخذ كل تفكيري حتى أن مستواي الدراسي انخفض بشكل كبير جداً . أصبحت أهمل الدراسة ، وأفكر فيه ؛ لأنني كلما أحاول أن ادرس لا أستطيع التركيز أبداً ، وبعد فترة كلمته على ( الموبايل ) ومن هاتف المنزل أخبرته عن مكان إقامتي كما هو فعل ذلك مسبقا ، ولقد تأكدت من صحة المعلومات التي أعطاني إياها.. طلب مني الموافقة على الزواج منه فوافقت طبعا لحبي الكبير له - رغم أني محجوزة لابن خالي - لكني أخشى كثيراً من معارضه أهلي ، وخصوصا أنه قبل فترة قصيرة هددني بقوله : إن تركتني فسوف أفضحك ! وأنشر صورك ! وقال : سوف أقوم بالاتصال على الهواتف التي قمت بالاتصال منها لأفضح أمرك لأهلك .
وعندما ناقشت معه الأمر قاله : إنه ( يسولف ) لكن أحسست وقتها بأنه فعلاً سيفعل ذلك ، وأنا أفكر جديا بتركه ، والعودة إلى الله .
وكم أخشى من أهلي ، فأنا أتوقع منهم أن يقتلوني خشية الفضيحة والسمعة ، لا أقصد القتل بذاته بل الضرب والذل ؛ لأن أبي وأمي متدينان ومسلمان ، وإذا عرفا بأني أحب شاب وأكلمه فسوف يقتلانني !
أنا لا أعرف ماذا أفعل !
أنا خائفة جداً .
أريد الهداية .
أريد العيش مطمئنة وسعيدة .
مللت الخوف والتفكير .(1/15)
أرجوكم ساعدوني ، وبسبب هذه المشكلة تركت الصلاة ، وتركت العبادة ؛ لأني يئست من الحياة ، مللت منها ، أود الموت اليوم قبل الغد ، لو ظللت عائشة على هذه الحياة فسوف يتحطّم مستقبلي ، ومستقبل أخواتي ، وتشوّه سمعتهن .
أريد تركه لكني أخشى من فضحه لي ؛ لأنه سيُعاود الاتصال ؟؟
كيف أمنعه من ذلك ؟؟
أريد العودة إلى الله فهل سيغفر لي ربي ؟؟
كيف التوبة وما شروطها ؟؟
ومتى أتوب؟؟
أخشى أن أعود إلى ما فعلته سابقا .
ما الحل ؟؟
كيف أتخلص من إدمان العادة السرية خصوصاً أني أصبت ببرود جنسي ؟
كيف أعالج ذلك من غير علم أهلي ؟؟
ماذا افعل ؟؟
أرجوكم ساعدوني .
لا أعرف ما أفعل .
لا أستطيع أن أُخبر أحد بهذا الأمر .
أرجوك أجبني ، وأرحني ، فلازلت أحمل هذه المشكلة كهمٍّ كبير لا يقوى ظهري على حمله ، فأنا التمس الجواب منكم .
أرجوكم ساعدوني .
ما الحل ؟؟
أرجوكم بسرعة فلقد يئست ..
ساعدوني لا أجد أحداً ينصحني ! فساعدوني ، ولا ترموا رسالتي ، فأنا بأمسّ الحاجة .
أرجوكم .
انتهت رسالة الأخت التي تفيض بالعِظات والعِبَر .
فهل مِن مُعتبِر ؟؟؟
سوف أقف مع قولها :
( أحببته وأحبني حب صادق [ ولوجه الله ] لا تشوبه شائبة )
وقفت طويلاً عند قولها : ( [ ولوجه الله ] لا تشوبه شائبة )المشكلة أن كل فتاة تتصوّر أن الذي اتصل بها مُعاكساً أنه فارس أحلامها ، ومُحقق آمالها !وإذا به فارس الكبوات ! وصانع الحسرات ، ومُزهق الآمال ، وصانع الآلام !
حُبّاً صادقاً ولوجه الله لا تشوبه شائبة !! هكذا تصوّرته في البداية ، ولكن تبيّن عفنه قبل أن ترسم النهاية !
ثم تبيّن انه نسخة من آلاف نُسخ الذئاب البشرية ! الذين لا يهمهم سوى إشباع رغباتهم . ها هي الآمال تتبخّر ، والآلام تتمخّض ! وها هو يُلوّح بعصا ( الصوت والصورة ) !
إن لم تُحبّيني فسوف أفضحك ، وأنشر صورك و .... !! حُبّ على طريقة الإدارة الأمريكية !!! أهذا حب صادق لوجه الله ؟؟؟
ومع قولها :(1/16)
( أنا خائفة جداً .
أريد الهداية .
أريد العيش مطمئنة وسعيدة .
مللت الخوف والتفكير )
سبحان الله !
ألم تكن في سعة من أمرها قبل أن تطأ أقدامها أرض جحيم ( الشات ) ؟
فما بالها اليوم خائفة ؟
ألم تكن في يوم من الأيام على طريق الهداية ؟
فهاهي اليوم تبحث عنه !
ألم تكن عابدة في مصلاها ؟
فما بالها تركت العبادة ؟
إنه شؤم المعصية الذي حُرمت بسببه لذّة الطاعة .
ألم تكن تعيش في سعادة غامرة ؟
فعن أي شيء بحثت في سراديب ( الشات ) ؟
بحثت عن السعادة ، ولكنها خرجت تصيح من الجحيم : ( أريد العيش مطمئنة وسعيدة )
بحثت عن السعادة فعادت بالندامة تتمنّى الموت اليوم قبل الغدّ !
كل هذا تمّ في غفلة الوالدين !
وعجيب قولها :
( وكم أخشى من أهلي ، فأنا أتوقع منهم أن يقتلوني خشية الفضيحة والسمعة ، لا أقصد القتل بذاته بل الضرب والذل ؛ لأن أبي وأمي متدينان ومسلمان ، وإذا عرفا بأني أحب شاب وأكلمه فسوف يقتلانني ! )
لقد فرّطا كثيراً ، وأهملا أكثر ، وضيّعا الأمانة .
إنها الثقة العمياء المُطلقة يوم تُعطى للبُنيّات على وجه الخصوص ، فتؤتي أُكلها حنظلاً وعلقما . يوم يقول الأب : أنا أثق ببناتي !! أو بمحارمي عموماً ! ثقة عمياء مطلقة !
وهل هن خير أم أمهات المؤمنين ؟ ومع ذلك قال الله عز وجل في أدب أمهات المؤمنين : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا )
وقال في أدب المؤمنين معهن : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ )
لماذا ؟
( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )
فهل مِنْ مُعتبِر ؟؟؟
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )
..(1/17)
* الرسالة وصلتني عبر البريد ، فرددت عليها ، واستأذنت الأخت - صاحبة المشكلة - في نشرها فأذِنَتْ ، ونشرتها كما هي ، إلا أني حذفت اسم بلدها .
فليست قصة من نسج الخيال ، ولا من القصص التي تصل عبر البريد لا يُعلم مصدرها ...
7-لا تَرهَبِي التيار ..أنتِ قويَّة..
هل صحيح أنك يا ابنة آدم أقوى من الصم الصلاب ؟
وأنك يا ابنة حواء أشد من الجبال الراسية ، وأعتى من الريح العاتية ؟!
وأنك أصلب من صِلاب الحديد ؟!
سُئل عليٌّ رضي الله عنه : أي الخلائق أشدّ ؟
فقال : أشدّ خلق ربك عشرة :
الجبال الرواسي ، والحديد تنحت به الجبال ، والنار تأكل الحديد ، والماء يطفئ النار ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يعني يحمل الماء ، والريح تقل السحاب ، والإنسان يغلب الريح يعصمها بيده ويذهب لحاجته ، والسُّكر يغلب الإنسان ، والنوم يغلب السكر ، والهم يغلب النوم ، فأشد خلق ربكم الهمّ .
نعم فأنتِ قوية
لا ترهبي التّيّار أنتِ قوية = بالله مهما استأسد التّيار
أنتِ قوية بالله
أنتِ قوية بأخواتك
أما سمعتِ قول ربك للقوي الأمين ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) ؟
إذا أحسست بالضعف فإياك أن تُسلمي قيادك لأعدى أعدائك
إياك أن تستسلمي لنزغات الشيطان
إياك أن تلفّي الحبل حول عنقك ثم تُسلميه لعدوّك يقودك حيث أراد
إياك أن تضعي القيد في يديك
ثم تقولي : قيّدوني !
لا . بل أنت من قيّدت نفسك
إياك أن تنظري من ثقب مُظلم فلا ترين إلا السواد
وإياك أن تكتبي أحرفك على صفحة سوداء بقلم اسود فتضيع جهودك
أنت حُرّة وهكذا خُلقت وولدتِ
نعم .. فُكّي القيود
وألقي الآصار
ثم اعلمي أن لك ميدانا رحبا فسيحاً سِيحي فيه
فالخيل لها مضمار لا تخرج عنه في السباق
أما إني لا أدعو لنبذ القيم والأخلاق والمبادئ
ولكن تشكو بعض الفتيات من وضعهن داخل البيوت
حتى أرسلت لي فتاة تشكو وضعها فتقول : في بعض الليالي الخاليات فكّرت كثيراً في الانتحار(1/18)
وأخرى أرسلت لي رسالة تُنبئ عن ضيق وضجر
وأخبرتني أنها لا تُكلّم أحداً في البيت ، وكأنما تعيش في عُزلة
فقلت من ينظر في الصفحة السوداء لن يرى سوى السواد
ومن ينظر من فتحة منظار مُغلق فلن يرى شيئا
هل رجعت إلى حمى الله عز وجل فرأيت كرمه ؟
هل أخذت كتاب ربك لتري الكون الفسيح ؟
لتعيشي حياة السعداء
هل تفاءلت بما يجري من حولك وإن كان لا يلوح في سمائك ما يُبشّر ؟!
هل تأملت أن مع العسر يسرا
وأن مع الفَرَج مع الكَرْب
إذا اشتملت على اليأس القلوب = وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت = وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضرّ وجهاً = ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث = يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت = فموصول بها الفرج القريب
فيا أُخيّه
أنت قوية بالله عز وجل
أنت عزيزة ما تمسّكت بحبله
إذا كان الله معك فأنت أمّة ولو كنت وحدك
إن باستطاعتك أن تقودي نفسك إلى الضيق
بل إلى الانتحار
عندما لا ترضين بقدر الله
عندما ترين أن كل شيء في الحياة ضدّك
أتدرين ما الانتحار ؟
إنه خسران الدنيا والآخرة
إنه أقرب طريق للجحيم
أتدرين ما الجحيم ؟؟؟
إنها مأوى الكافرين
إنها دار العذاب الأبدي
فمما فررتِ ؟
فررت من الضيق والعذاب النفسي لتُلقين بنفسك في عذاب لا طاقة لك به ، بل لا طاقة لجبال الدنيا به .
تأملي هذه الصورة من صور اليوم الآخر
وقارني بين الموقفين
وبين الحالَين
قال صلى الله عليه وسلم :
" يُؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في النار صبغة ، ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط ؟ هل مَرّ بك نعيم قط ؟
فيقول : لا والله يا رب .
ويُؤتى بأشدّ الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ صبغة في الجنة ، فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط ؟ هل مَرّ بك شدة قط ؟
فيقول : لا والله يا رب ! ما مرّ بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط " رواه مسلم .(1/19)
هذا أنعم أهل الدنيا ولكنه من أهل النار
أين ذهب تنعّمه في الدنيا ؟
أين ذهبت القصور الفاخرة ؟
والمراكب الفارهة ؟
أين ذهب الخدم والحشم ؟
أين ذهب اللذّات ؟
أين ما لذّ وطاب في الدنيا ؟
وأين ... وأين .. ؟
ذهبت كلّها بغمسة واحدة في النار ، فكيف بمن يُقاسي أهوالها ؟
كيف بمن طعامه الزقّوم ، وشرابه ( مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) ؟؟؟
وفي الصورة المقابلة
يُؤتى بالمؤمن الذي قاسى شدائد الدنيا
وذاق مرارة الفقر والحرمان
وعانى من الأمراض والأوجاع
ومن ضيق ذات اليد
ملبسه في الدنيا خشن
وطعامه أخشن
ليس له مال وفير
ولا قصور ولا دور
ربما بات الليالي جائعا
بل ربما تلوّى من الجوع حتى يسقط
وربما رقّع ثوبه رقعة بعد أخرى
وأصلح نعله مرّات ومرّات
وربما سُجن
أو عُذّب
أو ضُرب
أو عاش شريدا طريدا
ولكنه حَمَل الإيمان في قلبه فما ضرّه ذلك
لقي ربّه فلقي عنده العوض
فيغمس غمسة واحدة في نعيم الجنة
فينسى كل شدّة وكل بؤس
فالأول نسي كل نعيم في لحظة واحدة
والآخر نسي كل شدّة في لحظة واحدة
فلو كان البؤس والشدّة في الدنيا يُتقرّب بها إلى الله لاشتراها أُناس عرفوا قدر هذه الغمسة !
فكوني واثقة بالله
واعلمي أنه لا حزن يدوم ولا سرور
8-يوشك أن يرحل
.
لقد أصبح هزيلا .. بعد أن كان سمينا
لقد رَقّ عظمه !
وضعُف بدنه !
ولم يتبقّ منه إلاّ مثل الصَّبَابة
باتت أيامه معدودة
وأوشك على الرحيل
أتُراه في النَّزْع ؟!
لا ..
أتظنه يلفظ أنفاسه ؟!
ليس بعد ..
إلاّ أنه يوشك على الرحيل .. ويُؤذِن بالوداع
فأي شيء عَمِلْت لِوداعه ؟
وأي زادٍ هيأت لِرحيله ؟
أيرحل وأن تَنظُر ، ولا تُحرِّك ساكنا ؟
أيودِّعك وأنت عنه لاهٍ ؟!
ما هذا وَداع من أطلت مُعاشرته
كلا .. ولا ذاك بتوديع الصاحب
ذلكم هو العام الذي أنت فيه ..(1/20)
وتلك كانت صِفات التقويم الذي طويته أو تكاد تكويه !
أما كنت أمس في أوّل شهر الله الْمُحرَّم ؟
أمَا كان التقويم أوّل العام مليئا بالأوراق ؟
أمَا نَزعته ورقة ورقة ؟
أيا صاح ! إنما كُنت تَنْتَزِع أيام عُمُرك
وتطوي سِنِيّ حياتك
هَذا التقويم قد انتهى
والعام قد انصرم
فماذا أودعته ؟
وأي شيء استودعته ؟
أيا صاح ! أتُراه شاهدا لك أو عليك ؟
أكُنت غافلا فيه أم كُنت يَقِظًا ؟
أأودعته إحسانا أو إساءة ؟
أودّعته بتوبة واستغفار .. أو بِزيادة ذنوب وآثام ؟
لقد تصرّمت أيام عُمرك
قال عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ رَضي الله عنه في خُطْبته : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصَرْمٍ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا ، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لا زَوَالَ لَهَا ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ . رواه مُسلم .
يا مَن يعد غداً لتوبته ... أعلى يَقين من بلوغ غَدِ ؟
المرء في زللٍ على أمل ... ومَنية الإنسان بالرَّصَدِ
أيام عمرك كلها عدد ... ولعل يومك آخر العددِ
الرياض 16/11/1428 هـ
9-هَل تَاهَت الخُطى؟
الاسم عربي
والبلد عربي
والأصل عربي
وهي ابنة الإسلام التي وُلِدت عليه .
وربما طافت بالبيت العتيق ، وصلّتْ في المسجد الحرام
وهي توجِّه وجهها للبيت العتيق كل يوم خمس مرّات .
ولكنها لم تقُل يوما بقلبها : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)
ربما استفتحت صلاتها بـ " وجّهتُ وجهي للذي فَطَرَ السماوات والأرض "
ولكنها عن هذا غافلة
فهي ربما تُردِّد ما لا تفهم
أو تتكلّم بما لا تعِي
ربما قالت بلسانها : وجّهت وجهي للذي فَطَرَ السماوات والأرض ، ووِجْهة القَلب دُول الغرب !
وهي - بلا شك - تقرأ :(1/21)
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)
ولربما لم يَدُر بِخَلَدِها ماذا تعني هذه المسألة !
وهي أعظم مسألة
وأهمّ سؤال
وأعظم دعاء
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ولهذا كان أنفع الدعاء و أعظمه و أحكمه دعاء الفاتحة : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) فانه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته و ترك معصيته ، فلم يُصِبْه شَرٌّ لا في الدنيا و لا في الآخرة . اهـ .
ربما تهت خُطى بنت الإسلام فتبِعت خُطى غُراب الغَرْب !
و
إذا كان الغُراب دليل قومٍ = دلّهم على جيف الكلاب
بنت الإسلام ربما قرأت (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)
ثم ما تلبث أن تنصرف من صلاتها حتى تتصفّح مجلة أزياء غربية تبحث فيها عن لباس غربي تلبسه فتاة عربية !
بل ربما استعرضت تلك الأزياء في مُخيَّلتِها وهي تقرأ : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) !
ربما دَخَلَتْ جُحر الضبّ الْخَرِب !
" حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم "
وإنما عُبِّر بـ " جُحر الضبّ " دون غيره – والله أعلم – لثلاثة أسباب :
الأول : كون جُحر الضبّ أشد الجحور انحداراً للأسفل ، وهو هنا يعني الهاوية !
الثاني : كونه أشدّ الجحور تعرّجا والْتِواء .
والثالث : ما يُساكن الضبّ في جحره من الهوام ، كالعقارب ونحوها .
وسبيل المغضوب عليهم والضالين يتّصف بذلك
فهو منحدر نحو الهاوية
وهو مُتعرِّج ومُلتَوٍ ، حائد عن الجادة .
مع ما فيه من خطورة لسالِكيه من الضلال والشقاء !
ولذلك كانت الهداية في مُقابِل الغواية والضلال
وفي الهداية سعادة (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)(1/22)
وبعض بُنيّات الإسلام تنكّبن الصراط المستقيم ، وتاهتْ خُطاهنّ في ظلمات التِّيه !
فأي تِيهٍ تعيشه بعض بُنيّات الإسلام اليوم ؟!!
بنتُ الإسلام ووا أسفي = تَجترّ سموم الأطباقِ
تنساق وراء حضارتهم = وتُحاكي نهج الفسّاق
يُهدي الإسلام لها بَصَراً = وتُقلِّد عُمي الأحداقِ
أما حفيدات سُميّة وأسماء فَهُنّ :
قِصار الْخُطى شُمٌّ شموسٌ عن الْخَنَا ..............................
لا زِلْنَ يحتفظن بقيَِمهنّ
ومظاهرهن تدلّ على مخابِرهنّ
ولؤلؤة القاع تُحفظ في الأصداف !
وقول الله أصدق وأبلغ (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)
حفِظ الله الصالحات القانتات الحافظات للغيب
ورَدّ الله تائهات الْخُطى إلى طريق الرشاد وإلى جادة الْهُدى
10-دعوا الناس في غفلاتهم
يحرص الإسلام على تأليف القلوب ، وعلى إضفاء روح المحبة ، وعلى التآخي والاجتماع ، وعلى إصلاح ذات البين .كما حرص على حماية صرح الأخوّة .
وفي المقابل حرص الإسلام على نبذ كل ما يخدش الإخوّة ، وعلى إقصاء كل ما من شأنه إحداث الخلل والنِّزاع .ولذا قال عليه الصلاة والسلام : دعُوا الناس فليُصب بعضهم من بعض ، فإذا استنصح رجل أخاه فلينصح له . رواه الإمام أحمد .
وفي رواية : دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض ، وإذا استنصحك أخوك فانصح له .
وجاء النهي عن أسباب ضعف هذه الأخوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ،كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه . رواه مسلم .(1/23)
وقال صلى الله عليه وسلم : لا تباغضوا ، ولا تقاطعوا ، ولا تدابروا ، ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله ، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام . رواه البخاري ومسلم .
لأن هذه الأشياء مما يتنافى مع أخوة المؤمنين ، ومما يولد العداوة والبغضاء ، ويثير الأحقاد والإحَن ، ويكون سببا في الشحناء .فهذه الأمور من شأنها أن تُضعف بنيان الأخوة القائم على الإيمان
فجاء النهي عن التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر والتقاطع والبيع على بيع بعض، وجاء النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، كل ذلك لمراعاة هذه الأخوة القائمة على الإيمان ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )
وجاء النهي عن التقاطع وعن فساد ذات البين
قال عليه الصلاة والسلام : دَبّ إليكم داء الأمم الحسد ، والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم ؟ أفشوا السلام بينكم . رواه الإمام أحمد والترمذي .
واحتُمِل في سبيل التئام القلوب وإصلاح ذات البين ما لم يُحتمل في غيرها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا . رواه البخاري ومسلم . زاد مسلم : قال ابن شهاب : ولم أسمع يُرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث : الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها .
وإنما جاز الكذب في إصلاح ذات البين لما فيه من جمع الكلمة ووحدة الصف ، وائتلاف القلوب .قال الشيخ ابن سعدي : والصدق مصلحته خالصة ، والكذب بِضدّه ، ولهذا إذا ترتّب على أنواع الكذب مصلحة كبرى تزيد على مفسدته كالكذب في الحرب وفي الإصلاح بين الناس ، فقد رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لرجحان مصلحته . اهـ .(1/24)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على جمع القلوب ، وعلى إصلاح ذات البين .فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة ، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : اذهبوا بنا نصلح بينهم . رواه البخاري .
بل إنه عليه الصلاة والسلام تأخّر عن صلاة الجماعة من أجل الإصلاح بين المتخاصِمِين .
روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم ، فحانت الصلاة ، فجاء المؤذن إلى أبي بكر ، فقال : أتصلي للناس ، فأقيم ؟ قال : نعم ، فصلى أبو بكر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة ، فتخلّص حتى وقف في الصف ، فصفق الناس - وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته - فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك ، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه ، فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى . الحديث .
ولما تم نعيم أهل الجنة نزع الله ما في صدورهم من أسباب العداوة والبغضاء ثم أثبت لهم الأخوة فقال ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ )
قال ابن القيم رحمه الله – وهو يذكر أسباب انشراح الصدر - :
ومنها - بل من أعظمها - : إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه وتحول بينه وبين حصول البُرء ،فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره ، ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه لم يحْظَ من انشراح صدره بطائل ، وغايته أن يكون له مادّتان تعتوران على قلبه ، وهو للمادة الغالبة عليه منهما . انتهى .(1/25)
وهذا مع كونه يُريح صاحبه ويشرح صدره إلا أنه مما يُقيم صرح الأخوّة بين المؤمنين .. جعلنا الله ممن قيل فيهم ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ )
11-لا تَقْضِ حاجتك وسط السوق !
..
حينما تكون في مكان عام
أو في مكان اشتدّ فيه الزِّحام
أو في مَمَرٍّ ضيِّق
أو في حافلة صغيرة
أو في طائرة مُحلِّقة
أو تكون في ردهات الجامعة
أو في ممرات المستشفى
أو تكون ذاهباً إلى المسجد
أو عائدا من موعد
أو مُراجِعاً لمكتب
أو مُستقبِلاً لِمُسافِر
فإن المُدخِّن في جميع تلك الصور ، وفي كل تلك الأحوال .. لن يتوانَى عن إشعال سيجارته، ولن يتردد عن نفث سمومه، فَتَراه مُعلِناً انعِدام الذوق، ومُصرِّحاً بتلاشي الْخُلُق
فلا يُوقرِّ عالِماً لِعِلْمِه
ولا يَحترِم كبيراً لِكِبَرِه
ولا يَرحم صغيراً
ولا يَعطف على مريض
بل لو كان مَنْ بِجانِبه يُعاني رواه مسلم ضِيق التنفّس
أو كان من إلى جواره يشكو الحساسية !
إذاً .. فهناك علاقة بين التدخين .. وانعدام الذوق والْخُلًق !
[ وبينما كنت أكتب هذا المقال في أحد المطارات .. إذا أنا بثلاثة من الشباب جلسوا غير بعيد .. وأشعلوا سجائرهم .. ونَفَثُوا سمومهم .. وشَمُّوا أنتن ريح .. غير مُبالِين بالآخرين ، ولا آبِهين بالمكان ] !
هنا توقّفت عن الكتابة .. لأنتقل إلى مكان آخر ..
[ فالمدخِّن آذى حتى القَلَم ! ]
بحثت عن مكان آخر ، فإذا أجواء صالات المطار تعجّ بِكَرِيه الروائح !
فقلت : سبحان الله !
أبدعوى الْحُرِّيَّة تُعَكّر الأجواء ؟
وبدعوى الاختلاف في حُكمه تُقتَل الأنفس ؟
وَ هَبْ أن للمدخِّن الحرية في التدخين .. أليس لنا الحقّ في شم هواء نقيّ ؟
وافترض أنه مُختَلَف فيه .. فَشَمّ الهواء النقي ليس محلّ خِلاف !
فدعُونا نشمّ هواء نقياً ..(1/26)
إن المدخِّن لا يؤذي نفسه فحسب .. بل يؤذي نفسه ، ويُتلِف صحّته ، ويؤذي من يمرّ به، ويؤذي الذوق العام، ويضرّ زوجته وأطفاله إذا كان مُتزوِّجاً، ولو كان الْمُدخِّن لا يؤذي إلا نفسه لم يكن حرّ التصرّف في نفسه ومالِه
فالنَّفْس أمانة
والصحة نِعمة
والمال مال الله
وسوف يُسأل عن ماله من أين اكتسبه ؟.. وفيمَ أنْفَقَه ؟فماذا عساه أن يكون جوابه بين يدي الله ؟
ونفسه التي بين جنبيه سوف يُسأل عنها
فإن قَتَلَها بهذا السمّ من القَطِران والنيكوتين فسوف يتعرّض للوعيد الشديد ..
قال عليه الصلاة والسلام : مَنْ تَحَسَّى سُمّاً فقتل نفسه فَسُمّه في يده يتحَسَّاه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا . رواه البخاري ومسلم .
وقد قدّرَتْ إحصائيات رسمية في المملكة العربية السعودية خسائر مستشفى الملك فيصل التخصصي أن علاج الحالات المرضية بين المدخنين بلغت 10 مليارات دولار ، تم إنفاقها خلال 25 سنة مَضَت ، وهو ما دفع المستشفى إلى الاستمرار في مقاضاة شركات التبغ .
والتدخين يُسبب العديد من الأمراض الخطيرة الفتاكة ..
كسرطان الرئة ، وسرطان البلعوم ، وسطان الفم ، بل وأمراض القرنية !
وأضرار التدخين بَلَغَتِ الجنين في رحم أمِّه !
فأثبت الأطباء تأثر الجنين بالتدخين ، سواء كان من قِبل أمه أو من قبل أبيه !
وهناك أيضا التدخين السلبي ، وهو مضرّ ، وهو أن يُدخِّن شخص وإلى جوار ه آخر لا يُدخِّن ، فيؤثِّر عليه .
ولا زلت أتذكّر قبل ما يزيد على اثني عشر عاماً .. إذ مررت بِرجل مُسِنّ يعمل في إصلاح السيارات .. وإذا هو يُدخِّن سيجارته .. وكان ذلك الرجل قد تجاوز الخمسين عاماً .. كما أنه مُغترب عن أهله وولده لأجل لُقمة العيش .. ولما رآني أخفى السيجارة .. فوقت وسلّمت عليه .. ثم سألته إذا كان يملك " ولاّعة " وهي ما يُشعل به السجائر ..
فسألني : ماذا تريد بها ؟
فقلت : أريد أن أُحرِق مائة ريال !(1/27)
وأخرجت مائة ريال ، ولففتها كما تُلفّ السيجارة ..
فرفض أن يُعطين " الولاّعة " !
قلت له : ماذا لو رأيت شخصاً أحرق مائة ريال ؟ ماذا تقول عنه ؟
قال : أقول عنه : مجنون !
قلت : ماذا لو اشترى بها سجائر ثم أحرقها ؟
قال : هذا يختلف !
فظننت أنه سوف يتمحّل ويتهرّب من الجواب بطريقة فلسفيّة يتّبعها كثير من المدخّنين !
فقلت له : كيف يختلف ؟قال : الأول الذي احرق المائة ريال .. أحرق ماله فقط ! والثاني أحرق ماله وصحّتّه .
فقلت له : بارك الله فيك .. الرسالة وصَلَتْ !
فالتدخين إذا .. هو حَرق للمال والصحّة
والعقلاء يتّفقون على أن التدخين من الخبائث .. حتى مِن قِبَل المدخّنين أنفسهم ، قولاً وفِعلاً !
كيف ؟
الْمُدخِّن يحلو له أن يُدخِّن عندما يكون في حال قضاء حاجته !
أي عندما تجتمع الخبائث ..
ولكنه لا يَسْمح لنفسه ولا لأطفاله أن يأكلوا شيئا داخل دورات المياه ! وأماكن القاذورات !
ثم إذا انتهى من مَصّ سيجارته .. رَمَى بها ثم داسَها دَوْساً بِحذائه !
أليست هذه شهادة بأنه لا يستوي الخبيث والطيب ؟
( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )
وفي صِفة نبينا صلى الله عليه وسلم ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) .
ويتّفق العقلاء أيضا على خُبث رائحته .. مع ما فيه من أضرار
والمسلم مأمور باجتناب ما خَبُثَتْ رائحته ولو كان نافِعاً .
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من أكل ثوماً أو بصلا أو كُرّاثاً عن إتيان المساجد ، فقال عليه الصلاة والسلام : من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا ، أو ليعتزل مسجدنا . رواه البخاري ومسلم .
وقال عليه الصلاة والسلام : من أكل البصل والثوم والكراث فلا يَقرَبنّ مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم . رواه مسلم .(1/28)
قال جابر رضي الله عنه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث ، فَغَلَبَتْنَا الحاجة فأكَلْنا منها ، فقال : من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يَقرَبَنّ مسجدنا ، فإن الملائكة تأذى مما يتأذى منه الإنس . رواه مسلم .
بل كان من تُوجَد به هذه الروائح يُطرد من مساجد المسلمين عقوبة له ، فلا يَحضر أماكن اجتماعاتهم من لا يَحترم شعورهم ، ولا يأتي مساجدهم من كان كريه الرائحة !
قال عمر رضي الله عنه : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وَجَدَ ريحهما من الرجل في المسجد أمَرَ به فأُخْرِجَ إلى البقيع . رواه مسلم .
كما يتّفق العقلاء على ضرر التدخين
والمدخنون يَشهدون بذلك .
فهم أول من يَشعر بضرره .. ويُحسّ بِخَطرِه
فَصُدُورُهم تغلي بسببه !
وثيابهم تحترق منه !
وأولادهم يُعانُون أثَره .
والإحصائيات شاهدة على ذلك ، ناطِقة به .
أخي المدخِّن ..
إن كان ولا بُدّ .. فليكن بِسِتْر .. وإذا بُليتُم فاستَتِروا
إن المجاهِر بالتدخين .. يَجمع بين المجاهرة بالمعصية ، وبين الضرر والإضرار !
فهو يُجاهر بمعصيته .. ويَضُرّ بِنفسه .. ويَضُرّ غيره ..
آما آن للمدخِّن أن يَكفّ عنّا أذاه ؟!
12-والله لا أُكلّمك أبداً
تحدثت في مقال سابق بعنوان :
عقول للبيع أو للتأجير ... لعدم التفرّغ
http://www.al-ershaad.com/vb4/showthread.php?t=964
واليوم سوف أتحدّث عن نوعية أخرى من عقول بعض بني آدم، وذلك أن من الناس من يَزِن الأمور بعقله ، سواء فيما للعقل فيه مجال للنظر أو ليس له فيه مجال
في يوم من الأيام سُئلت عن حُكم إسبال الثياب للرجال ، فبيّنت الحكم . وذكرت أن الإسبال على نوعين :(1/29)
إن كان مُجرّد إسبال فهو كبيرة من كبائر الذنوب ، وقد تُوعّد المسبل بوعيد شديد كما في صحيح مسلم .وإن كان للخيلاء فإنه بالإضافة إلى كونه كبيرة من كبائر الذنوب ، فإن الله لا ينظر إلى صاحبه يوم القيامة . وذكرت الأدلة ، وكلام بعض أهل العلم في التفريق بينهما وفق قواعد أصول الفقه .
وهو هنا
http://al-ershaad.com/vb4/showthread.php?t=3003
وكان السائل سأل لحاجة في نفسه ! وظن أنني أوافقه فيما يذهب إليه ! فلما رآني خالفته تغيّر وجهه، ثم بلغني فيما بعد أنه قال لبعض جلسائه : إيش هذا ؟! يُعذبني الله على خِرقة ؟!
فهذا منطق أعوج ! وهذا قياس بالعقل السقيم وليس السليم !
يا هذا ! هل يُعذّب الله المشرك لأجل أنه طاف حول شجرة أو حول حجر ؟! هل يُعذّب الله من ذبح دجاجة لغير الله بقصد التقرّب ؟! وهل ... وهل .. ؟
وعلى هذا قِس .
ما هكذا تُورد الإبل، وما هكذا تُورد النصوص ، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم لم يكونوا يغضبون ذلك الغضب الشديد إلا عندما تُعارَض السنة بأقوال الرجال أو بالآراء، وإن كانت تلك الأقوال من أقوال كبار الصحابة رضي الله عنهم
وما ذلك إلا لتعظيمهم لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ولسنّته عليه الصلاة والسلام
فقد رأى عبد الله بن المغفل رجلا من أصحابه يخذف ، فقال له : لا تخذف ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو قال : ينهى عن الخذف ، فإنه لا يُصطاد به الصيد ، ولا يُنكأ به العدو ، ولكنه يكسر السن ، ويفقأ العين ، ثم رآه بعد ذلك يخذف ، فقال له : أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو ينهى عن الخذف ، ثم أراك تخذف ، لا أكلمك كلمةً .. كذا وكذا . رواه البخاري ومسلم .(1/30)
وفي رواية لمسلم : أن قريبا لعبد الله بن مغفل خذف ، فنهاه ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ، وقال : إنها لا تصيد صيدا ، ولا تنكأ عدوا ، ولكنها تكسر السن ، وتفقأ العين . قال : فعاد ، فقال : أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، ثم تخذف ، لا أكلمك أبدا .
نعم . لا يرضون بمعارضة قول سيّدهم وقدوتهم ، بل ويشتدّون على المخالِف
فهذا عمران بن حصين كان في رهط وفيهم بشير بن كعب فحدّث عمران يومئذ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء خير كله . قال : أو قال : الحياء كله خير ، فقال بشير بن كعب : إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله ، ومنه ضعف ! فغضب عمران حتى احمرّتا عيناه ، وقال : ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتُعارض فيه . فأعاد عمران الحديث ، فأعاد بشير ، فغضب عمران قال أبو السوار العدوي : فما زلنا نقول فيه : إنه منا يا أبا نجيد ، إنه لا بأس به . رواه البخاري ومسلم .
ولما قال عبد الله بن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها . قال : فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن . قال الراوي : فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّاً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : فضرب في صدره ، وقال : أحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول : لا !
وبلغوا من الامتثال أجمله وأحسنه واكمله، روى البخاري عن نافع عن ابن عمر قال : كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد ، فقيل لها : لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار ؟
قالت : وما يمنعه أن ينهاني ؟
قال : يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله .(1/31)
وروي أن عمر رضي الله عنه جَلَدَ رجلين سبّحا بعد العصر . أي صليا .
ورأى سعيد بن المسيب رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يُكثر فيها الركوع والسجود ، فنهاه ، فقال : يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة ؟!
قال : لا ، ولكن يعذبك على خلاف السنة . رواه البيهقي في الكبرى .
وبلغ من شدّة تمسُّك سلف الأمة بسُنّةِ نبيِّها مبلغاً استفاضت معه أقوالُهم .
واتّفقت كلمة العلماء أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة المتبوعة على ردِّ قولِهم إذا خالف الحديث .
قال الإمام أبو حنيفة : إذا صحّ الحديث فهو مذهبي .
وقال أيضا : لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه .
وقال أيضا : إذا قلت قولاً يُخالف كتاب الله تعالى وخبرِ الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي
وقال الإمام مالك : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي فكلّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه .
وقال أيضا : ليس أحدٌ بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما الإمام الشافعي فقال : أجمع المسلمون على أن من استبان له سُنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحِلّ له أن يدعها لقول أحد .
وقال أيضا : إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت .
وقال الإمام أحمد : من ردّ حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلَكَة .
وقال أيضا : لا تقلد في دينك أحداً من هؤلاء ، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ فخُذ به .
قال الحميدي : روى الشافعي يوماً حديثاً ، فقلت : أتأخذ به ؟
فقال : رأيتني خرجت من كنيسة ، أو عليَّ زُنّار حتى إذا سمعتُ عن رسول صلى الله عليه وسلم حديثاً لا أقول به ؟!
وهذا كله يدلّ على تعظيمهم لأقوال نبيِّهم صلى الله عليه وسلم .(1/32)
ويدلّ على تأدّبهم مع إمامهم عليه الصلاة والسلام
وعلى شدّة محبته صلى الله عليه وسلم
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لا تنبت إلا على ساق المتابعة والاقتداء
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى :
( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد . ولهذا قال : ( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ )
أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول ، كما قال بعض العلماء الحكماء : ليس الشأن أن تُحِبّ إنما الشأن أن تُحَبّ . وقال الحسن البصري وغيره من السلف : زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية ، فقال : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) اهـ .
وقال الإمام الطحاوي :
ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام .
قال ابن أبي العز : أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه . روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال : من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . وهذا كلام جامع نافع . اهـ .
فمن أحبّ سيد ولد آدم فليُعظّم أقواله وسُننه أكثر من تعظيمه لقول مَن سواه من البشر .(1/33)
أما دعوى محبته مع مُخالفته أو مع تقديم قول غيره على قوله فهذه دعاوى و " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " كما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام .
وليدع : ( ما اقتنعت - ما يُعقل - ما يدخل مزاجي ! ) ليدع هذه الكلمات وأمثالها عند الكوكب ، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله عن استلام الحجر ، فقال ابن عمر : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويُقبِّله . فقال : أرأيت إن زُحمت ؟ أرأيت إن غُلبت ؟
فقال ابن عمر : اجعل أرأيت باليمن ! رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويُقبِّله . رواه البخاري .
وقال لمن سأله عن قيام الليل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة . فقال السائل : أرأيت إن غلبتني عيني ؟ أرأيت إن نمت ؟ قال : اجعل أرأيت عند ذلك النجم . رواه ابن ماجه .
هكذا فلتُعظّم السنة، وليُربّى عليها الأولاد والأتباع .
13-عقول للبيع أو للتأجير ... لعدم التّفرّغ !!
ليست العقول سلعة تُعرض لتباع أو تؤجر ، كما أنها ليست مواداً تموينية تنتهي صلاحيتها !!
بل هي أسمى من ذلك ولذا خاطب الله العقل - كثيراً - في القرآن الكريم .
فيكون الخطاب للثناء على أصحاب العقول الذين يُعمِلون عقولهم ويتدبّرون فيما حولهم
ولذا ورد في غير موضع من كتاب الله بعد ذِكر الآيات الكونية ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
ويكون أحياناً لبيان أن أصحاب العقول هم الذين ينتفعون بالآيات والنذر ، كما في قوله تعالى : ( وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
وإما نعيّ على العقول التي لا تتدبّر
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )
وإما توبيخ للعقول التي قد غُلّقت وغُلّفت ، فهي تقتفي آثار آباء لا يعقلون(1/34)
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) ؟
وإما وصف للكفار بقلّة العقل
( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ )
أو تشبيه لهم بالعجماوات التي لا تعقل
( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً )
والعقل نوعان :
غريزي ومكتسب
وجرى الخلاف : هل العقل في القلب أو في الرأس ؟
وسبب الخلاف التباين في فهم ( قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )
وفصل ابن القيم – رحمه الله – بين الفريقين ، فقال :
الصواب أن مبدأه ومنشأه من القلب ، وفروعه وثمرته في الرأس . اهـ .
غير أن هناك من الناس من يعرض عقله للبيع أو للتأجير !!!
فيُلغي عقله تماماً ، أو يُعطِّله تعطيلا جُزئياً !
ومن خلال قصة إبراهيم الخليل مع قومه يبدو إلغاء العقول واضحاً جليّاً
فهاهو خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يُحرّك عقولهم ، ويستثير فيها صفة التفكير والتّدبّر مرة بعد أخرى ، فما تزداد عقولهم إلا إغلاقا !
هدم أصنامهم وتركها حُطاماً ، وأبقى لهم صنماً واحداً ليُقيم عليهم به الحجة
فلما رجعوا إذا بآلهتهم مُحطّمة !
( قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ )
فقال بعضهم بنظرة احتقار ( سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم ُ )
فكان لا بُدّ من حماية الآلهة ! ولا بُدّ من إحضار المُتّهم على أعين الناس ، فأُحضِر وسُئل :
( أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ) ؟؟
فأراد أن يُنعش عقولهم ، فقال : ( فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ )
فكأن عقولهم أرادت أن تتحرّك أو تُفكّر(1/35)
( فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ )
ولكن تلك العقول سُرعان ما عادت إلى غيّها ، وعلاها الصدأ الذي كانت تتمتّع به
فـ ( نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ )
وردّوا ببلاهة ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ )
وجرى بينهم وبينه الحوار مرة أخرى لتحريك تلك العقول ( أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) أين يُذهب بكم ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟؟
ولكن تلك العقول ما زالت سادرة في غيّها تُريد أن تنتصر لآلهة مُحطّمة مُكسّرة !!
( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ )
ولكن الله حافظ أوليائه ( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ )
ومرّات ومرّات جادلهم في ما يعبدون
ونظر في أعظم المخلوقات والأجرام السماوية ، فزعم عِبادة الكوكب ، لكنه كوكب يغيب ويأفل وهو لا يُحب الآفلين ، إذ من صفات الإله الذي يُعبد ويُلجأ إليه ويُستعان به أنه حيّ لا يموت يملك الضر والنفع
ومن ذلك إلغاء بعض الناس لعقولهم أمام شيوخهم أو كبرائهم حجتهم في ذلك : لستَ أعلم منهم !
أو معهم الدليل !
أو هم أدرى !
أو هم أعلم !
وتلك حجج داحضة عند الله
فلا يُعذر الشخص بإلغاء عقله ، ولا بتأجيره ! ولا بعرضه للتقبيل !
بل وهبك الله عقلا لترى الحق من خلاله
وهبك عقلاً وميّزك به لتبصر أنوار الحقائق
وإنك لترى عجبا من بعض الناس اليوم
فتقول له هذا قول سيد ولد آدم الذي تجب طاعته مطلقاً
فيقول : مذهبي كذا !
أو شيخي قال كذا !
وما علم أنه بذلك يردّ على سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام
ويردّ قوله
وهو على خطر عظيم
أما سمع قول مولاه سبحانه - وهو يُحذّر عباده - : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )(1/36)
أي من يُخالفون أمره عليه الصلاة والسلام
وقوله سبحانه : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا )
أليس من مشاقّة للرسول صلى الله عليه وسلم تقديم قول غيره على قوله ؟
وأشد خطرا وأعظم جُرماً حينما يُقال : دع الدِّين جانباً ! واحكّم عقلك
أو دع الدِّين جانياً ولنحتكم إلى العادات والأعراف القبلية
فهؤلاء على خطر عظيم
وهؤلاء عقولهم مغلقة لا للتحسينات ، بل لعدم الصلاحية
وأصحاب العقول في راحة !
تذكير :
أما إني لا أدعو لنبذ المذاهب المتبعة ، ولا أدعو لردّ فتاوى العلماء وأقوالهم ، فالعلماء لهم فضل علينا بعد فضل ربنا ، ولكني أدعو لتعظيم سنة النبي المصطفى والرسول المجتبى عليه صلوات ربنا
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم
وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين
وعلى أزواجه أمهات المؤمنين .
والله سبحانه وتعالى أعلم ..
14-حقوق اللا إنسان
...
تثور ثائرة الغرب إذا أُقيم حدٌّ من حدود الله في بلاد الإسلام ، وعلى الأخص في بلاد الحرمين الشريفين - حفظها الله وحرسها -
بينما لا يُحرّك ساكنا إذا قُتِل أو أعدم العشرات بل المئات بل الآلاف ، إذا لم يكن ذلك لإقامة شرع الله .
ويتشدّق الغرب بحقوق الإنسان ، ولم يعلم أن الإسلام كفلها للبشرية جمعاء إلا من أبى . فقد كفل الإسلام حقوق الناس مراعياً المصلحة العامة ، وهي بلا شك مقدّمة على الحقوق الخاصة والمصلحة الخاصة.
[ ولعلي أُفرد مقالاً خاصاً عن قضية الحدود في الإسلام ليتبيّن لكل ذي لبٍّ أنها هي المصلحة بعينها ] وسأقف معك أخي القارئ الكريم وقفات مع ما يُسمّى حقوق الإنسان ، ولمن تلك الحقوق ؟(1/37)
حقوق الإنسان التي يدّعيها الغرب هي لمن جمع هذه الأوصاف ( إنسان + غربي ( أوربي أو أمريكي ) + أبيض + نصراني ) وما عداه فليس إنسان وبالتالي فليس له حقوق ، وأرجو أن تُكمل معي قراءة الموضوع حتى لا ترميني بالمبالغة ، وأترك الحكم لك أخيراً .
فإذا ما اختلّ وصف من تلك الأوصاف اختلّت إنسانيته ، وبالتالي تلاشت حقوقه ! ( زاد بعض الفضلاء : إلا أن يكون يهوديا فله كل الحقوق مهما كان وصفه )
فالإنسان إذا كان أوربياً وكان أبيضاً ولم يكن نصرانياً فليس له حقوق ، بل حقّه أن يُسحق ويُقتل ويُشرّد ، وهذا ما أثبتته حرب البوسنة وكوسوفا وغيرها .
لقد شهِد التاريخ وشهدت الدنيا أن مسلمي البوسنة أو مسلمي كوسوفا ليس لهم حقوق ، بل اعترف حلف الأطلسي أخيراً أنه استخدم في تلك الحروب ( وجرّب ! ) أسلحة الدمار الكيميائية ، وأقرّ أنه استخدم مادة ( اليورانيوم ) المستنفد .
وكأنهم فئران تجارب !!
فلما اختل وصف الديانة انتفت حقو الإنسان ، وإن شئت قل أصبح ( لا إنسان ) ! ولو كان أبيضاً ولو كان في قلب أروبا ! وعندما يختل وصف اللون ( الأبيض ) فإنه يُصبح كذلك لا إنسان !
فالتفرقة العنصرية تشهدها أوربا وأمريكا على حدٍّ سواء ، فإذا كان إنساناً غربياً وكان نصرانياً لكن لونه ليس باللون الأبيض فليس له حقوق ، وأما أفريقيا فتشهد بذلك شهادة أوضح من الشمس في رابعة النهار ،
فأفريقيا السوداء والأفريقي الأسود ليس إلا خادما مطيعاً وعبداً مملوكاً للغرب يجب أن تصبّ خيرات بلاده في جيوب أسياده الغربيين ، بل ويجب أن تتحمّل بلاده ويتحمّل هو ضريبة التقنية والصناعة الغربية ولتدفن في أرضه نفايات الغرب ولو كانت نووية !
ويموت الأفريقي الأسود جوعاً ومسغبة وفائض القمح يُرمى في البحر ، لئلا يتضرر الاقتصاد الغربي ! فأين هي حقوق الإنسان المزعومة ؟ أما الإنسان الآسيوي فهو كذلك من منظومة العالم الثالث الذي هو الآخر ليس له إنسانية !(1/38)
وما جزر الملوك في أندويسيا إلا شاهد على ذلك ، ومن أراد الاستزادة فليُشاهد الفظائع على موقع أخبار جزر الملوك عبر الشبكة العالمية ( الانترنت ) ليعلم أن الغرب لا يحرك ساكناً إذا كان الإنسان صاحب الحقوق لا تتوفّر فيه تلك الأوصاف التي تقدم ذكرها .
وقد نشرت هيئة الإذاعة البريطانية( BBC ) في موقعها على الشبكة ( الانترنت ) في يوم الجمعة 15/11/1421هـ الخَبَر التالي :
نفذت الصين حكم الإعدام على ستة من أفراد جماعة عرقية تقاتل للحصول على الاستقلال في شمال غرب البلاد .
وأُعدِم الرجال الستة، وجميعهم من أقلية الإيغور المسلمة، بعد محاكمة علنية أقيمت في عاصمة إقليم شينجيانج الصيني الذي تقطنه أغلبية مسلمة الأسبوع الماضي !!
وقالت صحيفة شينجيانج الرسمية اليومية إن الرجال الستة أعضاء في ما سمته بمنظمة إسلامية "رجعية" ! قالت إنها تستهدف إقامة دولة مستقلة في الإقليم .
وأضاف تقرير الصحيفة أن المحكمة وجهت إليهم اتهامات بالقتل وإحداث البلبلة في البلاد !! ( لاحظ [ اتهامات ] ) !!!ويأتي تنفيذ هذا الحكم بعد شهر من إعدام خمسة رجال من أقلية الإيغور أيضا لمشاركتهم في انتفاضة ضد الحكم الصينين عام 1997 م !!
وفي الموقع نفسه والتاريخ ذاته : ذكرت وسائل الإعلام الصينية أن أحد عشر شخصا من منطقة زيانجيانج ذات الأغلبية المسلمة قد أُعدموا بعد إدانتهم بارتكاب أعمال قتل ونشاطات انفصالية محظورة .
وفي الموقع نفسه وذات التاريخ الخبر التالي : اختلفت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وقادة صينيون بشأن سجل حقوق الإنسان في الصين .
وانتقدت ( روبينسون ) سجل بكين الطويل في فرض أحكام طويلة الأمد بالسجن على نشطين مطالبين بالديمقراطية وحظرها حركة ( فالون جونج ) الروحية !! ( حركة بوذية )(1/39)
أما المسلمون فلا بواكي لهم ، فلم تتعرّض مفوّضة الأمم المتحدة لوضع المسلمين في الصين - خاصة في تركستان الشرقية ( الإيغور ) - من قريب ولا من بعيد وكلّ ما أهمّها هو وضع حركة ( فالون جونج ) الروحية الوثنية !!
وصدق الله : ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ).
ولاحظ أن من الإعدامات ما هو نتيجة ( اتهامات ) ، ومشاركة في انتفاضة ، ومع ذلك لم تُحرّك جمعيات حقوق الإنسان ساكناً ، لأننا نتحدّث عن ( لا إنسان ) !!
ألسنا نرى تدخل القوات الدولية ، وتحرّك القوى العالمية ، إذا ما كان المقتول نصرايناً ، ولا تُحرّك ساكناً إذا قُتِلت شعوب مسلمة أو أُحرقت بأكملها .
قتل أمرء في غابة جريمة لا تغتفر **** وقتل شعب كامل قضية فيها نظر !! والمسلم ليس له حقوق وإن كان يعيش تحت مظلتهم ويسكن أرضهم ! ولعلي أورد أمثلة من داخل المجتمعات الأوربية تشهد على ما قلت :
نشرت هيئة الإذاعة البريطانية ( BBC ) في موقعها على الشبكة ( الانترنت ) يوم الأربعاء 6/11/1421هـ تحت عنوان ( عنان يُهاجم سياسة أوربا تجاه الهاجرين ) - وفي الخَبَر - : كوفي عنان ينتقد الاتحاد الأوروبي بسبب سياساته تجاه المهاجرين وطالبي اللجوء .
ومما شاهدته ولا يزال شاهداً على الجناية على حقوق الإنسان :
** في جنوب أسبانيا يعيش آلاف المسلمين المهاجرين من دول المغرب العربي بحثاً عن العمل يعيشون حياة بدائية لا يمكن تصوّرها في أروبا إلا لمن رآها ، فلا توجد مقومات الحياة الضرورية فضلاً عن وجود الكماليات ، فلا ماء ولا كهرباء ولا بيوت أو دورات مياه بل يعيشون في أكواخ لا تصلح لعيش البهائم !
** في فرنسا يعيش أكثر من خمسة ملايين مسلم لا يوجد لهم مقبرة واحدة ولم تمنح لهم قطعة أرض واحد ليُقام عليها مقبرة بينما توجد مقبرة للكلاب ( نعم . للكلاب ! ) في باريس .(1/40)
** ينعم المواطن الفرنسي وكذلك المقيم بصورة نظامية بتغطية تكاليف العلاج مهما بلغت طالما أنه يملك تأميناً صحيّاً ، أما إن كان ليس لديه إقامة نظامية أو تأمين صحي فليس له حقٌّ في الحياة ، ورأيت بنفسي دكتوراً يُدرِّس في أحد أكبر الجامعات في إحدى دول المغرب العربي جاء لعمل بعض البحوث والدراسات فأصيب بنوبة قلبية وهو الآن يرقد في أحد المستشفيات الفرنسية ، وقد تكفّلت الجالية بعلاجه ، ولو لم تتكفّل الجالية المسلمة بعلاجه لم يكن له مكان في مستشفيات أوربا ، إما أن يدفع وإما أن يموت ، فليس له ثم حقوق ، ولو كان فيقلب أوربا .
بل إن ذلك في المدينة التي توجد فيها منظمة حقوق الإنسان والبرلمان الأوربي . ** في بعض دول أوربا تمنح الجاليات أماكن للصلاة لا تصلح للتخزين فضلاً عن أن تصلح للآدميين ، بل رأيت بعض الأماكن التي كانت حظائر للحيوانات أُعطيت للمسلمين مؤقتاً ليؤدّوا فيها الصلاة !
وقد نشرت هيئة الإذاعة البريطانية ( BBC ) في موقعها على الشبكة ( الانترنت ) يوم الجمعة 8/11/1421هـ تحت عنوان ( تحذير من كارثة إنسانية في أفغانستان ) - وجاء في الخَبَر - :
أنه توفي أكثر من خمسمئة شخص في مخيمات اللاجئين في غربي افغانستان من شدة البرد .
وقلّب ناظريك شرقاً وغرباً ترى فجائع المسلمين ألواناً ملوّنة . فهذه أمثلة ونماذج لحقوق المسلمين في الشرق والغرب .
فهل بقي للغرب من عذر على انتقاد الإسلام وحدود الشريعة وإقامة القصاص إلا ما ينطوي عليه من حقد دفين ، ليس هدفه حقوق الإنسان ، بل النَّيْل من الإسلام وأهله وحملته المتمسكين به ؟
ولا أدلّ على ذلك من غض النظر عن حوادث الإعدام إذا كان المعنيّ بالأمر غير المسلمين ، أو كان من قام به غير أهل الإسلام .
ونشرت هيئة الإذاعة البريطانية ( BBC ) في موقعها على الشبكة ( الانترنت ) يوم الجمعة 15/11/1421هـ ، تحت عنوان ( إعدام مزورين في الصين ) ، وفي الخَبَر :(1/41)
نفذت السلطات الصينية حكم الإعدام في سبعة أشخاص بعد أن أدانتهم إحدى المحاكم بالتورط في أكبر قضية تزوير أوراق نقدية في البلاد ...
وتقول منظمة العفو الدولية المعنية بحقوق الإنسان إن التقديرات تشير إلى أن السلطات نفّذت أكثر من ألف وسبع وسبعين عملية إعدام في عام تسعة وتسعين .
وذكرت المنظمة أن العدد الحقيقي أكبر بكثير نظراً لأن الإحصاءات الخاصة بحالات الإعدام لا تزال من أسرار الدولة في الصين .
سؤال :
ماذا لو كان هذا العدد ممن نُفّذ فيهم حُكم الإعدام في بلد إسلامي ؟؟؟!!
ثم لاحظ أخي القارئ الكريم صوت العتاب ، وفحوى الخطاب ، رغم أن من حوادث الإعدام ما هو مقابل تزوير !! وكأن منظمة العفو تُعاتب ابنها البار ، أو تربت على كتف صديقها الوفيّ !!
كما نشرت أيضا تحت عنوان ( من المتوقع أن تثير تصريحات كوشنير حوارا حول القتل الرحيم في أوروبا ) :
قال الدكتور كوشنير - الذي يعتبر من مؤسسي وكالة أطباء بلا حدود الفرنسية - : إن القتل الرحيم الذي يقع عندما يوقف الطبيب مواصلة علاج مريض في مرحلة الموت، يحدث كثيرا في فرنسا .
( و كوشنير هذا هو وزير الصحة الفرنسي )
وجاء في الخبر نفسه :
يُذكر أن هولندا ستصبح أول دولة في العالم تجيز القتل الرحيم عندما يبدأ تطبيق القانون الجديد في الخريف القادم
ويقوم الأطباء الهولنديون بمساعدة حوالي أربعة آلاف مريض على الموت سنويا ، لكنهم مع ذلك يواجهون مقاضاة في المحاكم إذا لم يتبعوا توجيهات صارمة .
هذه رحمة الغرب بالإنسان !!! بينما ذبح بهيمة الأنعام يعتبرونه وحشية !! فيلجئون إلى وسائل تعذيب كالصعق الكهربائي والخنق !! وغيرها .
هذه رحمة الغرب بالمريض !!!
وأما قتل مجرم واحد في بلد إسلامي إقامة لحدّ من حدود الله - قد يكون قَتَل نفسا أو أنفساً بغير حق وفساد في الأرض - فيراها الغرب ظلم ووحشية !!! يجب التنادي لها وإيقافها !(1/42)
وأذكر أن أحد القائمين على مركز إسلامي في أوربا - وهو دكتور - أخبرني أنه دخل مستشفى أوربياً بعد تعرضه لحادث أليم ... فكان يمتنع عن أكل ما يُقدّمونه من لحوم بحكم معرفته بحقيقة موتها !!
قال : فكان يأتي إليّ بصفة مستمرة شخص أو أكثر من قبل إدارة التغذية يُحاولون إقناعي بضرورة أكل اللحم لأهميته في بناء العظام وجبر الكسور
يقول : فكنت أجد المشقة في إقناعهم ، ويجهدون في إقناعي بأكل اللحوم. قال : فتقرر أن أنقل إلى مستشفى آخر ، فعزمت على أن أدّعي أنني نباتي لا آكل اللحوم لأرتاح من ( وجع الرأس ) !!
قال : فادّعيت ذلك، فكانوا يُشيدون بي !! ويرون هذه فلسفة خاصة لي الحق في التمسّك بها !!
هذا شيء من عَوَر الغرب !!!!
15-أعظم إنسان في القرآن والسنة
المقدمة
الحمد لله الذي كرّم الإنسان بالإيمان ، ومَيّزه بالعقل ، ولم يَجعله كسائر المخلوقات ، تعيش بلا هدف ، أو تعيش لغيرها ، بل جَعَله مُفكِّراً ، يَسمو بِفكره ، ويُعمِل عقله .
ومن هنا قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [الإسراء:70] .
هذا التكريم الرباني هو في الأصل للأصل ، أي لِجنس النوع الإنساني ، إلا أن الإنسان بِنفسه يسمو بالإيمان ، أو يَنحطّ بانعدامه .
وقد جَعَل الله له اختياراً ، وأعطاه عقلاً ، وأوضح له السَّبيل ، وأبَان له الطريق (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2 ، 3] .
وقال رب العزة سبحانه عن هذا الإنسان : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) [البلد:8-10] .(1/43)
ومِن عدل الله وحِكمته أن أرسل الرُّسُل ، وأنْزَل الكُتب ، وأقام البيّنات ، ونَصَب الأدلّة على وحدانيته .
فأيّد رُسُله بالمعجزات والآيات الباهرات ، فلم يَبْق أمام أعداء الرُّسُل - بل وأعداء العَقْل - إلا المكابَرة والمعانَدة .
فإن إنكار الوحدانية لله دَفْع بِالصَّدْر ، وضَرب بالوجْه .
فإن النفوس شاهدة بأن الله ليس له شريك .
بل الوجود أجمع شاهد بذلك .
وقد ضرب الله الأمثلة على ذلك ، فمن ذلك قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء:22] أي لو كان في الأرض والسماء آلهة مُتعددة لَفَسَدتِ السماوات والأرض ، فالعقل والمنطق يقول : إما أن يتغلّب إله على إله على آخر ، فيكون الغالِب هو المتفرِّد ، وإما أن يَذهب كل إلهٍ بما له من مُلك ومكان وخَلْق ، وهنا يَفسد أمر السماوات والأرض ، ولذا قال رب العزة سبحانه : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون:91]
ومِن هنا فإننا ندعو كل إنسان مُنصف عاقل أن يتأمل في هذا المعنى ، وأن يَعلم أن دعوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لم تَخرج عن دعوات الأنبياء السابقين ، بل هي مُنتظمة في سِلكهم ، سائرة في طريقهم ، مُقتفية آثارهم ، ومن هنا قال رب العزة سبحانه : (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:9] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أولى الناس بابن مريم ، والأنبياء أولاد علات ، ليس بيني وبينه نبي . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة . قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : الأنبياء إخوة من علات ، وأمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، فليس بيننا نبي .(1/44)
ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، حينما قال : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:129] .
هي بِشارة نبي الله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
قال الله تبارك وتعالى : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف:6] .
ونحن إذ نَضع بين يدي القارئ هذا الموضوع لنرجو الله وندعوه أن يَفتح به أعيناً عُمياً ، وآذانا صُمّا ، وقلوباً غُلْفا .
ونضع بين يدي القارئ أعظم إنسان في العالم [ محمد صلى الله عليه وسلم ] لِيَقف بنفسه على بعض البشارات التي وَرَدتْ في الكُتب المتقدمة من كُتُب أهل الكتابات ، والتي كانت سببا في إسلام الكثيرين من أهل الكتاب .
كما نضع بين يديه إشارات إلى البشارات من خلال واقع مُعاصِريه صلى الله عليه وسلم ، سواء ممن آمن به أو ممن لم يؤمن به ، وإن كان أضمر ذلك في نفسه ، وأقرّ به في قرارة نفسه .
كما نُشير إلى طريقة القرآن في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأشرنا إلى الأدلّة العقلية التي تقتضي صِدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأن دعوته ليست بِدعاً من الدعوات ، وهو لم يُخالِف الرُّسل والأنبياء في أصل الدعوة إلى وحدانية الله وإفراده بالعبودية .(1/45)
بل هذا أمر اتّفقت عليه الرسالات ، وتتابع عليه الأنبياء ، وأقر به الموحِّدون على مرّ الأزمان ، حتى كان ذلك الإقرار في فترات خَلتْ من الرُّسُل ، كتلك الفترة التي سَبَقتْ مَبعثه صلى الله عليه وسلم ، فقد وُجِد فيها من أفراد الناس من يُوحِّد الله ، ولا يأكل ما ذُبِح لغير الله ، وكان هؤلاء يُنكرون عِبادة غير الله .
وقد آن أن نترك القارئ مع محاور هذا الموضوع ، وهي كالتالي :
1- أعظم إنسان في العالم في القرآن والسنه.
2- أعظم إنسان في العالم في كتب أهل الكتاب.
( أعظم إنسان في العالم في القرآن والسنة )
محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة(1/46)
لقد قرر الله في كتابه الْمُبِين نبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم بِطُرق كثيرة مُتنوّعة ، " يُعرَف بها كمال صِدقه صلى الله عليه وسلم ، فأخْبَر أنه صدَّق المرسلين ، ودَعا إلى ما دَعوا إليه ، وأن جميع المحاسن التي في الأنبياء فهي في محمد صلى الله عليه وسلم ، وما نُزِّهوا عنه من النواقص والعيوب فمحمدٌ أولاهم وأحقّهم بهذا التنْزِيه ، وأن شريعته مُهيمنة على جميع الشرائع ، وكتابه مُهيمن على كل الكُتُب ، فجميع محاسن الأديان والكُتُب قد جَمعها هذا الكتاب وهذا الدِّين ، وفَاق عليها بِمحاسِن وأوصاف لو تُوجَد في غيره ، وقرّره نبوته بأنه أميّ لا يَكتب ولا يَقرأ ، ولا جَالَس أحدا من أهل العلم بالكُتُب السابقة ، بل لم يُفجأ الناس حتى جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أتوا ، ولا قَدَروا ، ولا هُوَ في استطاعتهم ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وأنه مُحال مع هذا أن يكون من تلقاء نفسه ، أو مُتقوّل ، أو متوهّم فيما جاء به . وأعاد في القرآن وأبدى في هذا النوع ، وقرّر ذلك بأنه يُخبِر بقصص الأنبياء السابقين مُطوّلة على الوجه الواقع الذي لا يستريب فيه أحد ، ثم يُخبر تعالى أنه ليس له طريق ولا وصول إلى هذا إلا بما آتاه الله من الوحي ، كمثل قوله تعالى لما ذَكَر قصة موسى مُطوّلة : (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ، (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ) ، وكما في قوله : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، ولما ذَكَر قصة يوسف وإخوته مُطوّلة قال : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) .(1/47)
فهذه الأمور والإخْبَارات المفصّلة التي يُفصِّلها تفصيلا لم يتمكّن أهل الكتاب الذين في وقته ولا من بعدهم على تكذيبه فيها ولا مُعارَضته - من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقّاً .
وتارة يُقرِّر نبوته بِكمال حكمة الله وتمام قُدرته ، وأن تأييده لرسوله ، ونَصْرِه على أعدائه ، وتمكينه في الأرض موافق غاية الموافقة لِحكمة الله ، وان مَن قَدَح في رسالته فقد قَدَح في حِكْمَة الله وفي قُدْرَته .
وكذلك نَصْره وتأييده الباهر على الأمم الذين هم أقوى أهل الأرض من آيات رسالته ، وأدلة توحيده ، كما هو ظاهر للمتأمّلين .
وتارة يُقرِّر نبوته ورسالته بما حازَه من أوصاف الكمال ، وما هو عليه من الأخلاق الجميلة ، وأن كل خُلُق عال سامٍ فَلِرَسول الله صلى الله عليه وسلم منه أعلاه وأكمله ؛ فَمَن عظُمت صِفته وفاقَتْ نُعُوته جميع الْخَلْق التي أعلاها الصِّدق . أليس هذا أكبر الأدلة على أنه رسول رب العالمين ، والمصطفى المختار من الْخَلْق أجمعين ؟
وتارة يُقرِّرها بما هو موجود في كُتُب الأولين ، وبشارات الأنبياء والمرسلين ، إما باسمه الْعَلَم ، أو بأوصافه الجليلة ، وأوصاف أمّته ، وأوصاف دِينه .
وتارة يُقرِّر رسالته بما أخبَر به من الغيوب الماضية ، والغيوب المستقبَلة ، التي وَقَعتْ في زمانه ، والتي لا تزال تَقَع في كل وقت ، فلولا الوحي ما وصل إليه شيء من هذا ، ولا له ولا لِغيره طريق إلى العلم به .
وتارة يُقرِّرها بِحفظه إياه ، وعِصمته له من الْخَلْق ، مع تكالب الأعداء وضغطهم ، وجدّهم التام في الإيقاع به بكل ما في وسعهم ، والله يَعصِمه ، ويمنعه ، وينصره ! وما ذاك إلا لأنه رسوله حقاً ، وأمِينه على وحيه .(1/48)
وتارة يُقرِّر رسالته بِذِكْر عظمة ما جاء به ، وهو القرآن الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وتحدّى أعداءه ومَنْ كَفَر به أن يأتوا بمثله ، أو بِعشر سور مثله ، أو بِسورة واحدة ، فعجزوا ، ونكصوا ، وباؤوا بالخيبة والفَشَل ! وهذا القرآن أكبر أدلّة رسالته ، وأجلّها ، وأعمّها .
وتارة يُقرِّر رسالته بما أظهر على يديه من المعجزات ، وما أجرى له من الخوارق والكرامات الدالّة - كل واحد بِمفرَدِه منها ، فكيف إذا اجتمعت - على أنه رسول الله الصادق المصدوق ، الذي لا يَنطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يُوحى .
وتارة يُقرِّرها بِعظيم شفقته على الْخَلْق ، وحُنوّه الكامل على أمّته ، وانه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وانه لم يُوجد ، ولن يُوجَد أحد من الْخَلْق أعظم شفقة وبِراً وإحساناً إلى الخلق منه ، وآثار ذلك ظاهرة للناظرين .
فهذه الأمور والطُّرُق قد أكثر الله من ذِكرها في كتابه ، وقرّرها بِعبارات مُتنوّعة ، ومعاني مفصّلة ، وأساليب عجيبة ، وأمثلتها تَفوق العد والإحصاء " [ بطوله من القاعدة السابعة من : " القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن " للشيخ السعدي رحمه الله ] .
فهذه الأمور التي قرّرها الشيخ وبسطها هي من ألأدلة العقلية المتّفقة مع الأدلة النقلية ، فالله تبارك وتعالى خاطَب العقول ، ولذا نَعى على العرب أنهم لا يُعمِلون عقولهم في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فمن ذلك :
قوله تعالى : ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأعراف:169] .(1/49)
وقوله تعالى : ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [يونس:16] .
وقوله سبحانه وتعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [يوسف:2] .
وقوله عز وجل : ( لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأنبياء:10] .
إلى غير ذلك من الآيات التي خاطَبتْ عقول الناس ، أفلا ترون إلى هذا النبي الذي أُرسل إليكم ، لم يكن قبل اليوم يتلو من كتاب ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) [العنكبوت:48] ؟
كما أن هذا النبي الذي أُرسِل إليكم لبِث فيكم سنين عددا قبل بعثته ، فأنتم تعرفون خُلُقَه ، وتعرفون أمانته ، وهو ذو نسب فيكم ، بل هو من أشرافكم .
هذا خطاب للعقول السليمة أن تتفكّر وتتأمّل قبل أن تُكذِّب هذا الرسول الذي يأتيهم بأنباء الغيب ، والتي لم يَجِدوا لها مَدْفَع ، إلا أن يُدفَع في الصَّدْر ، ويُقال عن الشمس في رابعة النهار ليس دونها غيم : هذا ليل !
فمن ذلك أنه أخبر بنبأ غَلَبة الرُّوم - النصارى - فيما بعد ، وذلك في أَمَدٍ قريب :
( غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) [الروم:2-6] .
وقد وَقَع هذا خلال الزمن الذي جاء به الوحي ، والذي حُدِّد بـ (بِضْعِ سِنِينَ) من الثلاث إلى التسع سنوات .(1/50)
ودارت الأيام ، ودَالَتْ الرّوم على فارس ، وانتصرتْ الروم من بعد غَلَبِهم .
هذه آيات باهرات ، ومعجزات ظاهرات ، لم يستطيعوا دَفعها ولا ردّها في حقيقة الأمر ، وإنما ردّوها ظلما وعُلوّاً ، كما قال تعالى عن آل فرعون مع موسى عليه الصلاة والسلام : ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) [النمل:13، 14] .
ثم يُذكّرهم مع جحودهم ، بأن هذا النبي لو كان كاذباً لم يُمكّن له في الأرض ، ولا نَصَره الله على أعدائه ، فقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) [الحاقة:40-46]
وهذه أدلة عقلية تُخاطِب العقول إن كانت تَعِي !
كيف يُمكِّن الله لمن كَذَب عليه ؟
وكيف يَنصر الله من زَعم أن الله أرسله ؟
( أي : لو كان كاذبا على الله لَقَصَمه ولم يُمكِّن له ولم يَنصره )
فإن سُنّة الله أنه يأخذ الظالم أخذ عزيز مُقتَدر ، وأنه يُملي للظالِم فإذا أخذه لم يُفلِتْه
والله لا يُحب الظالمين ، ولا يُحب الكاذِبين ، ولا يُصلِح أعمال المفسِدِين ، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:81] .
وقد نصر الله نبيَّه مُحمدا صلى الله عليه وسلم ، وأظهر صدقه ، وأيّده على أعدائه ، ونَصَره عليهم ، حتى طأطأت أمامه رؤوس الجبابرة ، وخضعت له صناديد قريش ، وبَلَغتْ دعوته المشارق والمغارِب ، واعترف بِصدقه القريب والبعيد ، والعدو الْمُحارِب .(1/51)
وقد صدّقه أهل الكتاب ، وعرفوه بصفاته المذكورة في كُتبهم .
روى البخاري من طريق عطاء بن يسار قال : لَقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة . قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صِفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحِرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سَمّيتُك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سَخّاب في الأسواق ، ولا يَدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينا عُميا ، وآذانا صُما ، وقلوبا غُلفا .
ومِن هنا فإننا نُخاطِب العقول التي تَعِي أن تتأمل في حياة ذلك الرجل العظيم ، الذي شهِد بنبوته كل مُنصِف من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام الذي كان يَهوديا فأسلَم لما رأى وجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتُ في الناس لأنظر إليه ، فلما استثبتّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وهو الذي قال الله في شأنه : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) ولذا ذهب غير واحد من المفسِّرين إلى أن المقصود بالآية هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه .
فهو قد شهد شهادة الحق ، وأخبر أن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة .
وقصة إسلامه في صحيح البخاري .
وشهِد كذلك هرقل ( رئيس النصارى في زمانه ) بصدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .(1/52)
فإنه لما جاء كتاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - عظيم الرُّوم - لم يَقُل : هذه رسالة خاصة بالعرب ، ولا بالأعراب ، كما لم يَقُل : هذا غير صادق ، وإنما قال لأبي سفيان - وكان أبو سفيان آنذاك مُشرِكاً - : فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشّمتُ لقاءه ، ولو كُنْتُ عنده لَغَسَلْتُ عن قَدَمِه . رواه البخاري ومسلم .
وآمن به ملِك الحبشة ( النجاشي ) ، وقال عن القرآن - وقد سَمِع آيات من سورة مريم - فبكى حتى أخضل لحيته ، وبَكَتْ أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلْيَ عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . رواه الإمام أحمد .
كما شهِد بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غير واحد من اليهود ، مع أنهم لم يُؤمِنوا به إلا أنهم اعترفوا أنه هو الذي ذُكِر ووُصِف في التوراة .
يهود يشهدون بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم
شهِدت اليهود بصدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الله عز وجل : ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ )
وعن أنس رضي الله عنه قال : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له : أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسْلَمَ ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . رواه البخاري .
فهذا اليهودي أمر ابنه أن يُطيع أبا القاسم ، مما يدلّ على أنه يعلم في قرارة نفسه بصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .(1/53)
وحدّث سلمة بن سلامة بن وقش - وكان من أصحاب بدر - قال : كان لناجار من يهود في بني عبد الأشهل قال : فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير فوقف على مجلس عبد الأشهل . قال سلمة : وأنا يومئذ أحْدَث من فيه سِناً على بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أنّ بعثاً كائن بعد الموت ، فقالوا له : ويحك يا فلان ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، يُجزون فيها بأعمالهم ؟ قال : نعم ، والذي يحلف به لودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه ، وأن ينجو من تلك النار غدا . قالوا له : ويحك وما آية ذلك ؟ قال : نبي يُبعث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده نحو مكة واليمن . قالوا : ومتى تراه ؟ قال : فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سناً ، فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة : فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً ، فقلنا : ويلك يا فلان ! ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ، وليس به !
وحدّثت صفية - رضي الله عنها - فقالت : كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حُيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا . قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغمّ . قالت : وسمعت عمي أبا(1/54)
ياسر وهو يقول لأبي حُيي بن أخطب : أهو هو ؟ قال : نعم والله ! قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم . قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ! رواه ابن إسحاق في السيرة فيما ذكره ابن هشام .
ها هم اليهود يشهدون بنبوة سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك جحدوا بها .
( فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لو آمن بي عشرة من اليهود ، لآمن بي اليهود . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : لو تابعني عشرة من اليهود ، لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم .
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
التواضع والبَسَاطَة في حياة سيّد السّادة
لقد تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يدَع لمتواضِع قولاً ، ولم يترك لِمُتَكَبِّر حجة .
فهو عليه الصلاة والسلام المؤيّد بالوحي ، وهو خليل الرحمن ، وهو من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عُرِج به إلى السماوات العُلى ، وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم ، بل هو أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك كان يتواضع لله فَرَفَعه الله عز وجل .
كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق(1/55)
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي السوق ، ويُمازحُ أصحابه ، وكان رجل من أهل البادية اسمه زاهر ، كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية ، فيجهزَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ، وكان رجلا دميما ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ، فقال له : من هذا ؟ أرسلني ، والتفت ، فعرف النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : من يشتري مني هذا العبد ؟ وجعل هو يلصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : إذا تجدني كاسداً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لكنك عند الله لست بكاسد . رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح .
ويُمازِح أصحابه ، وينام معهم
روى الإمام مسلم عن المقداد رضي الله عنه قال : أقبلت أنا وصاحبان لي ، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الْجَهْد ، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد منهم يقبلنا ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : احتلبوا هذا اللبن بيننا .
قال : فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه .
قال : فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يُوقظ نائما ويُسمع اليقظان .(1/56)
قال : ثم يأتي المسجد فيُصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب ، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي ، فقال : محمد يأتي الأنصار فيتحفونه ، ويصيب عندهم ما به حاجة إلى هذه الجرعة ! فأتيتها فشربتها فلما أن وَغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل ، ندمني الشيطان ! فقال : ويحك ما صنعت ؟ أشربت شراب محمد ؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وأخرتك ، وعَلَيّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي ، وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت .
قال : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلّم كما كان يسلم ، ثم أتى المسجد فصلى ، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا ، فرفع رأسه إلى السماء ، فقلت : الآن يدعو عَلَيّ فأهلك ، فقال : اللهم أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني .
قال : فعمدت إلى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هي حافلة وإذا هن حُفل كلهن ، فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه ، قال : فحلبت فيه حتى عَلَته رغوة ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أشربتم شرابكم الليلة ؟
قال : قلت : يا رسول الله اشرب ، فشرِب ، ثم ناولني فقلت: يا رسول الله اشرب ، فشرِب ، ثم ناولني فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى وأصبت دعوته ضَحِكْتُ حتى ألقيت إلى الأرض .
قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إحدى سوآتك يا مقداد !
فقلت : يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذه إلا رحمة من الله ، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها ؟
قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس .
فأي تواضع تكتنفه عَظَمة هذا النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ؟(1/57)
يُغضي حياءً ويُغضى من مَهَابتِه *** فلا يُكلّم إلا حين يبتسمُ
النبي صلى الله عليه وسلم يبيت مع أصحابه وهو قائد الأمة ، بل ويقتسمون اللبن بينهم بالسّوية !
واليوم نرى من ينتسب إلى العلم أو إلى المناصب الدنيوية لا يُكلِّمون الناس إلا من أطراف أنوفهم!
وربما لا يردّون السلام خشية أن تذهب الهيبة !
نبي الله يُسابِق أصحابه رضي الله عنهم
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابَقَ بين الخيل التي أُضمرت من الحفياء ، وأمدها ثنية الوداع ، وسابَقَ بين الخيل التي لم تُضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق .
وروى البخاري عن أنس قال : كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تُسمى العضباء وكانت لا تسبق ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فاشتدّ ذلك على المسلمين ، وقالوا : سُبِقَت العضباء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه .
سيّد ولد آدم يُدخل السرور على أهله ، فيُسابِق زوجته
قالت عائشة رضي الله عنها : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا خفيفة اللحم فنزلنا منزلا ، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك ، فسابقني فسبقته ، ثم خرجت معه في سفر آخر ، وقد حملت اللحم ، فنزلنا منزلا ، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال لي : تعالي أسابقك ، فسابقني فسبقني ، فضرب بيده كتفي وقال : هذه بتلك . رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى ، وغيرهم ، وهو حديث صحيح .
نبي الله صلى الله عليه وسلم يُجيب الدعوة ولو كانت على يسير الطعام
روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ له , فَأَكَلَ مِنْهُ , ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ .(1/58)
قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ , فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ , فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ , وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا . فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ انْصَرَفَ .
ويُجيب الدعوة ولو كانت من رجل فقير
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه . قال أنس : فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام ، فقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومرقا فيه دباء وقديد ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة .
وعند الإمام أحمد : أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام فأتاه بطعام وقد جعله بإهالة سنخة وقرع .
والإهالة : ما أذيب من الشحم ، وقيل : الإهالة الشحم والزيت ، وقيل كل دُهنٍ أُوتُدِمَ به . ذكره العيني .
والسَّنِخَة : أي المتغيرة الرِّيح . قاله ابن حجر .
بل يُجيب الدعوة ولو كانت من يهودي أو يهودية !
فقد أجاب صلى الله عليه وسلم دعوة امرأة يهودية حينما دعته إلى الطعام .
روى الشيخان عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك . قال : ما كان الله ليسلِّطك على ذاك .
وقال مُؤكِّدا على هذا المعنى :
لو دُعيت إلى ذراع أو كراع لأجبتُ ، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقَبِلْتُ . رواه البخاري .
سيد ولد آدم يجلس بين أصحابه فيأتي الرجل الغريب فلا يُميِّزه من بينهم حتى يسأل عنه !
فعن أبي هريرة قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه جاءهم رجل من أهل البادية فقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟
قالوا : هذا الأمغر المرتفق .
قال حمزة - أحد رواة الحديث - : الأمغر الأبيض المشرب حمرة .(1/59)
قال : إني سائلك فَمُشْتدّ عليك في المسألة .
قال : سل عمّا بدا لك .
قال : أنشدك بربِّ من قبلك ورب من بعدك آلله أرسلك ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن تأخذ من أموال الأغنياء فتردّه على فقرائنا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن نَحُجّ هذا البيت من استطاع إليه سبيلا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : فإني آمنت وصدّقت ، وأنا ضمام بن ثعلبة . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وعن أبي جري جابر بن سليم قال : رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدَرُوا عنه .
قلت : من هذا ؟
قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : عليك السلام يا رسول الله مرتين .
قال : لا تقل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الميت قل : السلام عليك .
قال : قلت : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرّ فدعوته كشفه عنك ، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فَضَلّت راحلتك فدعوته ردّها عليك .
قلت : اعهد إليّ .
قال : لا تسبن أحدا .
قال : فما سببت بعده حُرّا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة .
قال : ولا تحقرن شيئا من المعروف ، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف ، وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة ، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
من أجل ذلك لجأ أصحابه إلى تمييزه(1/60)
فعن أبي ذر وأبي هريرة قالا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يَعرفه الغريب إذا أتاه . قال : فبنينا له دُكاناً من طين فجلس عليه ، وكنا نجلس بجنبتيه . رواه أبو داود والنسائي .
قال ابن الأثير : الدكان الدَّكة المبنية للجلوس عليها .
نبي الله صلى الله عليه وسلم يستمع لامرأة في عقلها شيء
روى الإمام مسلم عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء ، فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقال : يا أم فلان ! انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها .
اسْتَمَعَ صلى الله عليه وسلم إلى ما تريد أن تقوله فلم يضع ذلك من قدره بل رفع الله منزلته صلى الله عليه وسلم .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهم حوائجهم
فعن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكر ، ويُقلّ اللغو ، ويُطيل الصلاة ويقصر الخطبة ، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته . رواه النسائي .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في بستان ويُدلِّي رجليه مع أرجلهم في البئر
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط بالمدينة على قُفّ البئر مُدلِّياً رجليه ، فَدَقّ الباب أبو بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : ائذن له وبشِّره بالجنة ، ففعل فدخل أبو بكر فَدَلَّى رجليه ، ثم دقّ الباب عمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له وبشِّره بالجنة ، ففعل ، ثم دقّ عثمان الباب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له وبشِّره بالجنة ، وسيلقى بلاء . رواه الإمام أحمد .
ارتعد منه رجل فقال له : هوِّن عليك ! فإني لست بملك إنما أنا بن امرأة تأكل القديد !(1/61)
طأطأت أمامه رقاب أعدائه ، فطأطأ رأسه تواضعاً لله
دَخَل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً مُتواضعاً حتى إن ذقنه ليمس رَحْلَه .
كان عليه الصلاة والسلام يركب الحمار ، ويُجيب دعوة المملوك ، ويأكل على الأرض ، ويعتقِل الشاة .
وكان يُردِف بعض أصحابه خَلْفَه
فقد أردف ابن عمِّه ابن عباس رضي الله عنهما
وأردف معاذ بن جبل رضي الله عنه
وهذا لا يفعله أرباب المناصب ولا أصحاب الأموال !
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه ، ويخصف نعله
كان في بيته يكون في مهنة أهله ، يعني في خدمتهم
سُئلت عائشة رضي الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة .
وقيل لعائشة رضي الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كما يصنع أحدكم : يخصف نعله ، ويرقع ثوبه . رواه الإمام أحمد .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه
قال عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أدَم حشوها ليف ، وإن عند رجليه قرظا مصبوبا ، وعند رأسه أُهُب معلقة ، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله ! فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ رواه البخاري ومسلم .
وسجد على الأرض من غير حائل بينه وبينها ، حتى سجد في ماء وطين من أثر المطر(1/62)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، وقد أُرِيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر ، فمطرت السماء تلك الليلة ، وكان المسجد على عريش فَوَكَف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين . رواه البخاري ومسلم .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الصبيان ويُلاعبهم
وكان يَمُرّ بهم فيُسلِّم عليهم
لو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسير معه الجبال ذهبا لكان ، ذلك أنه خُيِّر بين أن يكون عبداً نبياً وبين أن يكون نبيّاً ملِكاً ، فاختار أن يكون نبيّاً عبدا .
قال المسيح عليه الصلاة والسلام : طوبى للمتواضعين في الدنيا ، هم أصحاب المنابر يوم القيامة . طوبى للمُصلِحين بين الناس في الدنيا ، هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة .
16-رسالة جوال خطيرة
سألني أحد الأخوة عن رسالة وصلته عبر الجوال نصها :
بخيل مات طلع له بيتين في الجنة . باع واحد وأجر الثاني ، وسكن مع أخيه في جهنم .
فأقول : عياذاً بالله من غضب الله وسخطه وأليم عذابه
هذا من الاستهزاء بالأمور الغيبية مثل الجنة والنار .
وهي لا شك أنها مما جاءت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
والإيمان بهما جزء من الإيمان باليوم الآخر
فليحذر المسلم أن يتلاعب بالأمور الغيبية أو يجعلها مجالا للطرفة والنكتة أو الاستهزاء والسخرية
فإن المنافقين قيل لهم : ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) وكان ذلك مقابل كلمات قالوها في حملة هذا الدين لا في الدين نفسه .
فليُتنبّه لذلك فهو غاية في الخطورة .
نسأل الله السلامة والعافية .
والله أعلم .
17-المهندس الإيطالي ... والإبداع
أنت مُبدع ... !!! وأنتِ مُبدِعة ...!!!(1/63)
قال ابن القيم – رحمه الله – : ( مبدع الشيء وبديعه ) لا يصح إطلاقه إلا على الرب ، كقوله : ( بديع السماوات والأرض ) والإبداع : إيجاد المبدَع على غير مثال سَبق . انتهى كلامه – رحمه الله – .
وقال شيخه ( أعني شيخ الإسلام ابن تيمية ) – رحمه الله –( قال عن رب العزة سبحانه ) : مبدعٌ للسماوات والأرض ، والإبداع خلق الشيء على غير مثال ، بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما ، والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته مع استقلال الخالق به وعدم شريك له .
وقال – رحمه الله – : وأما مبدع العالم فهو المبدع لأعيانه وأعراضه وحركاته ، فليس له نظير ، إذ هو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .انتهى كلامه – رحمه الله – .
فالله هو المُبدِع ، وأما المخلوق فَمُبْدَع ( بفتح الدّال ) .
وقد اطّلعتُ على كتاب ألّفه وجمعه مهندس إيطالي ، يعمل في مجال الهندسة الإنشائية المعمارية ، وقد صمم عدداً من أبنية المساجد في أوربا .جمع فيه مؤلفه مجموعة من الصور . وكانت تلك الصور لأشجار وأزهار وحيوانات وقواقع بحرية ... إلخ
ثم أتى بما يُقابلها من بنايات ومناظر جمالية رسمها الإنسان أو خطّتها يد مهندس . وكان من تلك الصور الأخيرة : صور لبنايات ومنها ناطحات سحاب ، صور لمناظر جمالية ، صور لأبراج عالية ، صور لأماكن مختلفة ... إلخ .
ولما يُجري مُقارنة ويُناظر بين الصورتين بأن يجعل الأصل في صفحة ويُقابله بالصورة في الصفحة المقابلة يظهر التقليد وتتبيّن المحاكاة . فالأصل هو إبداع الباري سبحانه . والصورة تقليد الإنسان ومحاكاته .
تعجّبت كيف أن المهندسين لا يُبدعون في شيء مما صمموه ، وإنما يُحاكون ما يرونه في حياتهم اليومية ، أو من عبر نافذة طائرة ، أو من خلال رحلة بريّة ... إلى غير ذلك . فعلمت أن ذلك المهندس الإيطالي كان يستوحي أفكاره مما أبدعه بديع السماوات والأرض سبحانه وتعالى .(1/64)
وإن كان غيره أخفى ( إيحاءاته ) فهو قد أبداها وأظهرها في كتاب ضخم . فلم يَعُد للإنسان دور سوى التقليد والمحاكاة .
وهناك أنواع من الطائرات قد وُضعت فكرتها نتيجة مشاهدة حركات طير أو طيرانه . فالطائرات المروحية – مثلاً – مستمدة فكرتها من حركات وطيران ووقوع تلك الحشرة الصغيرة ذات الذيل الطويل ، والتي تعيش في المزارع قرب المياه .
ورأيت شريطا مرئيا عن ( سلوك الإحتيال عند الحيوان ) وكان مما فيه : حركات واحتيال طائر ( الفريقيت ) ومنه أخذت فكرة طائرات ( الفريقيت ) فأخذوا الفكرة من ذلك الطائر وطريقته في الطيران بل سموا تلك الطائرات باسمه !!
بل إن فكرة الطيران أساساً قد أُستُمدّت من الطير بجناحيه وذيله ! كما إن أجهزة المراقبة ( الرادار ) صُنعت تقليدا لذلك الطائر الليلي الأعشى ( الخفاش ) وما وهبه الله من ذبذبات ترتدّ عليه إذا اصطدمت تلك الذبذبات بأجسام صلبة .
ثم تأمل بعض الشاحنات وقد وُضِع على جنبيها قرون !! تراها تقليدا لقرون الاستشعار في بعض الحشرات !! حيث تتلمّس فيها وتتحسس الأشياء من حولها .
أجِل بطرفك وتأمل من حولك في البيوت والمصنوعات والبنايات وغيرها تجد هذا ظاهراً في كثير من الأحيان . ترى ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) .
ثم تأمل : ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير )
ومهما أوتي البشر من قوة فلن يستطيعوا إيجاد مادة أو إبداعها على غير مثال سابق ، فغاية ما في الأمر أن يُفرّقوا بين أجزاء المادة أو يجمعوا بين عناصر مادتين .
فالله عز وجل خلق الإنسان من طين ، وجعل هذه المادة بين أيديهم ، فأي شيء عملوا فيها أو عملوا منها ؟؟ إن كل ما يستطيعه البشر – مهما أوتوا من عِلم – أن يأخذوا حيوانا منويا ويؤلّفوا بينه وبين آخر . أما أن يوجدوا حيوانا منويا – لا يُرى بالعين المجردة – فهم أضعف وأذلّ .(1/65)
لقد تحدّى الله البشرية أن تخلق حشرة صغيرة حقيرة ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) بل هم أضعف من تلك الحشرة ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) لما وهب الله لتلك الحشرة من خاصية في لعابها تقوم على تحويل المواد الممضوغة إلى مادة أخرى تختلف بتركيبها عن المادة الأصلية .
فسبحان من خلق فأبدع ... ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون )
سبحان من خلق الأكوان من عدم **** وعمّها منه بالإفضال والمننِ
ألم تر إلى صنع الله الذي أتقن كل شيء في كِلية الإنسان ، كيف إذا أصيب الإنسان بفشل كلوي ؟
غاية ما يستطيعون أن يفعلوه أن يأتوا له بكلية إنسان آخر .
وقبل ذلك يستطيعون تصفية الدم من شيء الشوائب ويُحجب المريض عن كثير من الأشربة رغم أن عملية التنقية تُعمل له مرة أو مرتين في الأسبوع . فسبحان من ركّبها فيك على غير مثال سابق ، وجعلها تعمل ليل نهار . ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) ؟؟
فإذا أجاد الطالب أو الطالبة في مادة أو في رسم أو تصوير أو فكرة فلا يُقال له ( مُبدِع ) بل يُقال : إنه أجاد وأفاد وبرز في هذا الجانب ونحوها من الكلمات . ومثله كلمة تتكرر كثيرا ، وهي قولهم : قتل الإبداع !!
وعذراً على الإطالة .
18-والله لا يغفر الله لفلان
..
روى الإمام مسلم عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث أن رجلا قال : والله لا يغفر الله لفلان ، وإن الله تعالى قال : من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان ، فإني قد غفرت لفلان ، وأحبطت عملك .
ربما نتعاظم جميعا ما قاله ذلك الرجل !
ونتساءل :
من يستطيع أن يقول كما قال ذلك الرجل ؟ ومن يستطيع أن يُحجِّر واسعاً ؟ أو يحكم على مسلم بالخلود في النار ؟(1/66)
أقول : مَن يحمل راية التكفير الواسعة يستطيع أن يقول ذلك ، بل لا بُدّ أن يقول ذلك ! ومن يجرؤ على التكفير أو يتساهل في أمره فهو واقع في ذلك لا محالة !
وكيف ذلك ؟
إذا حكم على مُعيّن بأنه كافر فقد حكم بأن الله لا يغفر له ، وقد قال بلسان حاله – إن لم يكن بلسان مقاله - : والله لا يغفر الله لفلان !
وهذا أمر بالغ الخطورة
ولذا قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله : ولا نُكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلّه ، ولا نقول لا يضرّ مع الإيمان ذنب لمن عمله .
وشرح هذا القول ابن أبي العز بكلام نفيس في شرح الطحاوية أسوقه بطوله لنفاسته ، وشدّة الحاجة إليه في زماننا
قال رحمه الله في شرح قول الطحاوي المتقدِّم :أراد بأهل القبلة الذين تقدّم ذكرهم في قوله : " ونُسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي معترفين ، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين " يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب .
واعلم - رحمك الله وإيانا - أن باب التكفير وعدم التكفير ، باب عظُمت الفتنة والمحنة فيه ، وكثُر فيه الافتراق ، وتشتتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضت فيه دلائلهم ، فالناس فيه في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر ، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم - على طرفين ووسط - من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية .(1/67)
فطائفة تقول : لا نكفِّر من أهل القبلة أحدا ، فتنفي التكفير نفيا عاما ، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع ، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يُمكنهم ، وهم يتظاهرون بالشهادتين ، وأيضا فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا ، والنفاق والردّة مظنتها البدع والفجور ، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال : إن أسرع الناس ردّة أهل الأهواء ، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب ، بل يُقال لا نكفِّرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج ، وفرق بين النفي العام ونفي العموم ، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يُكفِّرون بكل ذنب ، ولهذا - والله اعلم - قيده الشيخ رحمه الله بقوله : ما لم يستحلّه . وفي قوله : " ما لم يستحلّه " إشارة الى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية ، وفيه إشكال ، فإن الشارع لم يَكْتَفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم ، ولا في العلميات بمجرّد العلم دون العمل ، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع إلا أن يُضمَّن قوله " يستحله " بمعنى يعتقده أو نحو ذلك .(1/68)
وقوله : ولا نقول لا يضرّ مع الإيمان ذنب لمن عمله - إلى آخر كلامه - رد على المرجئة ، فإنهم يقولون : لا يضرّ مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، فهؤلاء في طرف ، والخوارج في طرف ، فإنهم يقولون : نُكفر المسلم بكل ذنب ، أو بكل ذنب كبير ، وكذلك المعتزلة الذين يقولون : يَحبط إيمانه كله بالكبيرة ، فلا يبقى معه شيء من الإيمان ، لكن الخوارج يقولون : يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر ، والمعتزلة يقولون : يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ، وهذه المنزلة بين المنزلتين ! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار !
وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأوِّلا فيقولون : يَكفر كل من قال هذا القول ، لا يُفرّقون بين المجتهد المخطئ وغيره ، أو يقولون : يَكفر كل مبتدع ، وهؤلاء يَدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة ، فإن النصوص المتواترة قد دلّت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تُعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك ، والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه ، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ : " وأهل الكبائر في النار لا يُخلّدون إذا ماتوا وهم موحدون "(1/69)
والمقصود هنا : أن البدع هي من هذا الجنس ، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا ، لكن تأوّل تأويلا أخطأ فيه ، إما مجتهدا ، وإما مفرطا مذنبا ، فلا يقال : إن إيمانه حَبِط لمجرد ذلك ، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي ، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول : لا يكفر ، بل العدل هو الوسط ، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول ، أو إثبات ما نفاه ، أو الأمر بما نهى عنه ، أو النهي عما أمرَ به يُقال فيها الحق ، ويثبت لها الوعيد الذي دلّت عليه النصوص ، ويبين أنها كفر ، ويُقال : من قالها فهو كافر ، ونحو ذلك ، كما يُذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال ،
وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن ، وأن الله لا يُرى في الآخرة ، ولا يَعلم الأشياء قبل وقوعها ، وعن أبي يوسف رحمة الله أنه قال : ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر .
وأما الشخص المعيّن إذا قيل : هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر ؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة ، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معيّن أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار ، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت(1/70)
، ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب باب النهي عن البغي ، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يُذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب ، فيقول : أقصِر ، فوجده يوما على ذنب ، فقال له : أقْصِر ، فقال : خلني وربي ، أبُعثت عليّ رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك الله الجنة ، فَقَبَضَ أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالما ؟ أو كنت على ما في يدي قادرا ؟ وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار . قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبَقَتْ دنياه وآخرته ، وهو حديث حسن .
ولأن الشخص المعيّن يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له ، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص ، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ، كما غفر للذي قال : إذا متّ فاسحقوني ، ثم اذروني ، ثم غفر الله له لخشيته ، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته ، أو شك في ذلك ، لكن هذا التوقّف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته ، وأن نستتيبه ، فإن تاب وإلا قتلناه .
ثم إذا كان القول في نفسه كفرا قيل : إنه كفر ، والقائل له يَكْفر بشروط وانتفاء موانع ، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقا زنديقا ، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقا زنديقا ، وكتاب الله يبين ذلك ، فإن الله صنّف الخلق فيه ثلاثة أصناف :(1/71)
صنف كفار من المشركين ومن أهل الكتاب ، وهم الذين لا يُقرّون بالشهادتين . وصنف المؤمنون باطنا وظاهرا . وصنف أقرّوا به ظاهرا لا باطنا .وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة ، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر ، وكان مُقرّاً بالشهادتين فإنه لا يكون إلا زنديقا ، والزنديق هو المنافق .
وهنا يظهر غلط الطرفين ، فإنه من كَفّر كل من قال القول المبتدع في الباطن ، يلزمه أن يُكفِّر أقواما ليسوا في الباطن منافقين ، بل هم في الباطن يُحبّون الله ورسوله ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر أن رجلا كان على عهد النبي كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا ، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله قد جلده في الشَّراب ، فأُتيَ به يوماً ، فأمر به فجُلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ! ما أكثر ما يؤتى به ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تلعنوه ، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله .
وهذا أمر متيقّن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدّين ، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدِّين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة بل بفرع منها ، ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير .
فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخطِّئون ولا يُكفِّرون .
ولكن بقي هنا إشكال يَرِد على كلام الشيخ رحمه الله ، وهو أن الشارع قد سمّى بعض الذنوب كفرا ، قال الله : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )
وقال صلى الله عليه وسلم : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر . متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
وقال : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .(1/72)
و " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " . متفق عليهما من حديث ابن عمرو رضي الله عنه .
وقال : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر . متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد .
وقال صلى الله عليه وسلم : بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة . رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلم : من أتى كاهنا فصدّقه ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد كفر بما أُنزل على محمد .
وقال صلى الله عليه وسلم : من حلف بغير الله فقد كفر . رواه الحاكم بهذا اللفظ .
وقال : ثنتان في أمتي بهم كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت .
ونظائر ذلك كثيرة .
والجواب : أن أهل السنة متّفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يَكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية ، كما قالت الخوارج ، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملّة لكان مرتداً يُقتل على كل حال ، ولا يُقبل عفو ولي القصاص ، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر ، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام .
ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ، ولا يدخل في الكفر ، ولا يستحق الخلود مع الكافرين ، كما قالت المعتزلة ، فإن قولهم باطل أيضا .
إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) إلى أن قال : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ )(1/73)
فلم يُخرج القاتل من الذين آمنوا ، وجعله أخاً لولي القصاص ، والمراد أخوّة الدين بلا ريب .وقال تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) إلى أن قال : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ )
ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يُقتل بل يُقام عليه الحد ، فدلّ على أنه ليس بمرتد .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فطُرحت عليه ، ثم ألقي في النار .
فثبت أن الظالم يكون له حسنات يَستوفي المظلوم منها حقه ، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما تعدّون المفلس فيكم ؟ قالوا : المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار . قال : المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال ، فيأتي وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، فيَقتص هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا فَنِيَتْ حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ، ثم طُرح في النار . رواه مسلم .
وقد قال تعالى : ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) فدلّ ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته ، وهذا مبسوط في موضعه .والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة ، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلّد في النار ، لكن قالت الخوارج : نُسميه كافرا ، وقالت المعتزلة : نُسميه فاسقا ، فالخلاف بينهم لفظي فقط .(1/74)
وأهل السنة أيضا متّفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب ، كما وردت به النصوص ، لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضرّ مع الإيمان ذنب ، ولا ينفع مع الكفر طاعة .
وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تَبيّن لك فساد القولين ، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى .
ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافا لفظيا لا يترتب عليه فساد .
وهو : أنه هل يكون الكفر على مراتب كفراً دون كفر ؟
كما اختلفوا : هل يكون الإيمان على مراتب إيماناً دون إيمان ؟
وهذا الاختلاف نشا من اختلافهم في مسمى الإيمان هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافرا ، إذ من الممتنع أن يُسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ، ويُسمي رسوله - من تقدّم ذكره - كافراً ، ولا نُطلق عليهما اسم الكفر .
ولكن من قال : إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، قال هو كفر عملي لا اعتقادي ، والكفر عنده على مراتب ، كفر دون كفر ، كالإيمان عنده .
ومن قال : إن الإيمان هو التصديق ، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان ، والكفر هو الجحود ، ولا يزيدان ولا ينقصان قال : هو كفر مجازي غير حقيقي ! إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة ، وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان كقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ )
أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، إنها سميت إيمانا مجازا لتوقف صحتها عن الإيمان ، أو لدلالتها على الإيمان ، إذ هي دالّة على كون مؤدّيها مؤمنا ، ولهذا يُحكم بإسلام الكافر إذا صلّى صلاتنا .(1/75)
فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب ، إذا كانوا مُقرّين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد ، ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار ، كالخوارج والمعتزلة .
ولكن أردأ ما في ذلك التعصب على من يضادّهم ، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه ، والتشنيع عليه ، وإذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف ؟
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) .
وهنا أمر يجب أن يُتفطن له ، وهو :
أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة .وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة . ويكون كفراً إما مجازيا ، وإما كفراً أصغر على القولين المذكورين .
وذلك بحسب حال الحاكم :فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخير فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر .
وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ويسمى كافراً كفرا مجازيا أو كفراً أصغر .
وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور .(1/76)
وأراد الشيخ رحمه الله بقوله : " ولا نقول لا يضرّ مع الإيمان ذنب لمن عمله " مخالفة المرجئة ، وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك ، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة وتأوّلوا قوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ )
فلما ذَكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جُلدوا ، وإن اصرّوا على استحلالها قُتلوا ، وقال عمر لقدامة : أخطأتْ استك الحفرة ! أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر ، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرّم الخمر ، وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، فقال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يُحرّم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين ، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس ، ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك يُذمّون على أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة ، فكتب عمر إلى قدامة يقول له : ( حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ )
ما أدري أي ذنبيك أعظم ؛ استحلالك المحرّم أولاً ، أم يأسك من رحمة الله ثانيا ؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام .
انتهى كلام ابن أبي العز رحمه الله بطوله .
ولا زال للحديث بقية ، وللكلام صِلة
..
وبعد هذا لا يُظنّ أنني أُدافع عن أئمة الكفر، ولا أُنافح عن أهل الظلم والجور، فلكل نظام وزارة أعلام !(1/77)
ولا أقصد الذين بدّلوا نعمة الله كفرا ، وبدّلوا شرعه دساتير من زبالة أفكار الغرب، ولا أعني الذين يُوالون الكفّار جملة وتفصيلا .
ولكنني أردت وضع الأمور في مواضعها ، وتبيان بعض الحق في هذه المسألة التي زلّت بها أقدام، وهي مزلق كبير ، ومنعطف خطير، وزلّة القدم في مسائل المعتقد ربما أخرجت صاحبها من دين الإسلام .
وفرق بين أن يتحدّث الشخص في مسألة يُقال له إذا جانب الصواب : أخطأت، وبين أن يتكلّم في مسألة إذا جانب الصواب فيها يُقال له : كفرت
ولكي يُعلم خطورة هذا المزلق - وهو المسارعة في تكفير المعيّن - أسوق قوله عليه الصلاة والسلام في التحذير من التكفير، قال عليه الصلاة والسلام : أيما امرئ قال لأخيه : يا كافر ؛ فقد باء بها أحدهما ، إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه . رواه البخاري ومسلم . وفي رواية لمسلم : إذا كفّر الرجل أخاه ، فقد باء بها أحدهما .
أُخيّ :
لن تُسأل في قبرك إلا عن هذا الرجل الذي بُعث فيكم . ما تقول فيه ؟ ويوم القيامة تُسأل في خاصة نفسك وعن من ولاّك الله عليهم
فدع عنك هذا الأمر فالسلامة لا يعدلها شيء، إن الأنبياء يأتون يوم القيامة وكل يقول : نفسي نفسي ! بل كل نبي إذا أتته الخلائق للشفاعة لهم قال : نفسي ، ثم ذكر ذنبه ، إلا عيسى لا يذكر ذنبا ، ثم يُحيل الخلائق على سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام .
هل تأملت هذا ؟!
هذا وهم أنبياء يُلقون باللائمة على أنفسهم وينظرون في ذنوب أنفسهم، فهل نظرنا في ذنوبنا وعيوبنا قبل عيوب غيرنا ؟!
وكلك عورات وللناس ألسنُ
وثمة شُبهات يستمسك بها الجُرءاء على التكفير ، منها :
1 - استدلالهم بقوله تعالى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) فيستدلّون بهذه الآية على كُفر جنوده الحاكم وأتباعه بعد أن يُكفّروا الحاكم . وهذا خطأ من وجوه :(1/78)
الوجه الأول : أن كُفر فرعون كان كفراً أصلياً ، بخلاف المسلم الذي يكفر فله أحكامه في الشريعة المختلفة عن حُكم الكافر الأصلي ، وهي أحكام المرتد .
الوجه الثاني : أصعب في الحُكم عليه .فالكافر الأصلي يجب أن لا يختلف في كُفره اثنان، بينما المرتد اختلف في حكمه خيار هذه الأمة بعد نبيِّها عليه الصلاة والسلام .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب . قال عمر بن الخطاب لأبي بكر : كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم منِّي ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله ؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عِقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه ، فقال عمر بن الخطاب : فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .
لو كان كفر المرتد واضحاً بيِّنا لما اختلف فيهم خيار هذه لأمة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم . أما لماذا ؟ فلأن الإسلام عنده يقين ، فلا يُخرج من هذا اليقين بشبهة أو شكّ، فاليقين لا يزول بالشكّ .
ولا أعني أيضا عدم كُفر المعيّن ، إلا أن الحُكم على مُعيّن بالكفر وأن الله لا يغفر له من الصعوبة بمكان .
وللكلام بقية ، وللحديث صِلة ..
ولا زلنا مع الشُّبهات
2 – نظرهم إلى بعض القوانين والأنظمة المستوردة من الغرب.
فأقول : ليس كل نظام يُعتبر كُفرا، فالقوانين والأنظمة المتعلقة بحياة الناس تنقسم إلى ثلاثة أقسام : قسم يوافق الشريعة ، فلا إشكال فيه .وقسم يُخالف الشريعة ، وهذا محل النظر . وقسم لا يُخالف ولا يُوافق ، فهذا تقوم به مصالح الناس دون الإضرار بهم ، كأنظمة المرور ونحوها .(1/79)
وأما ما يُخالف الشريعة – ويضربون لذلك مثلاً بالمُحاكمات العسكرية – فأقول : ليس كل حاكم خالف حُكما شرعيا يكون به كافراً ، وقد تقدّم تفصيل ذلك في كلام ابن أبي العز رحمه الله .
فلو علِم الحاكم حكم الله ثم عدل عنه في قضية أو في مسألة فلا يكون كافرا كفرا يُخرج عن الملّة .
أرأيت إلى القاضي الذي يعلم بحكم الله عز وجل ثم يعدل عنه في قضية أو في مسألة محاباة لشخص أو خوفا من آخر ، هل تُراه يكفر بهذا الفعل ؟
الجواب : لا، وإن كان هذا الحكم الذي حكم به ليس هو حكم الله في تلك المسألة . وإن كان يدخل في الكفر الأصغر ، إلا أنه لا يُخرجه ذلك عن الملّة .
بل أرأيت حكم القبائل التي تتحاكم إلى شرع الله ثم تعدل عنه في قضية من القضايا إلى عاداتها وأعرافها ، هل يُحكم بكفر القبيلة بأسرِها ؟
الجواب : لا ، وإن كان يدخل في الكفر الأصغر أيضا .
بل أرأيت الرجل يتقدّم إليه الخاطب الذي لا يُرتضى دينه ولا خلقه ، بل قد يكون زانيا ، فيُزوّجه ويُعرض عن حكم الله في هذه المسالة ( الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) فهل يُحكم بكفره وخروجه عن ملّة الإسلام ؟
الجواب : لا ، بل يُحكم بأنه وقع في الشرك الأصغر ، والشرك الأصغر أكبر من الكبائر ، كما يُقرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
هل تستطيع أن تحكم لهؤلاء بالكفر ثم بالخلود في النار ؟!
وهذا على سبيل المثال ، وعلى هذا فـ قِس .وخذ على سبيل المثال : الحجاج بن يوسف الثقفي ، وما اشتُهر عنه من سفك الدماء بل سفَكَ دماء بعض الصحابة والعلماء ، كابن الزبير رضي الله عنه وسعيد بن جبير رحمه الله .
وهذه القضية قضية الدماء كان يعدل فيها عن شرع الله إلى رأيه وجبروته وبطشه .والصحابة مُتوافرون ، ومع ذلك لم يَحكموا بكفره ، وإن سمّوه ظالما ، أو قالوا عنه : خبيثاً ، ونحو ذلك ، إلا أنهم لم يُكفِّروه .(1/80)
ليُعلم أنه ليس كل من فعل الكفر يُعتبر كافرا، ولا كل من فعل بدعة يُعتبر مُبتدعاً
فمعاذ رضي الله عنه لما رأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها رأى في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يُعظّم فلما قدم قال : يا رسول الله رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها ، فرأيت في نفسي أنك أحق أن تعظم ، فقال : لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها . رواه الإمام أحمد .
وفي رواية : فلما قدم معاذ سجد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكر ذلك .
ومثله قصة الرجل الإسرائيلي الذي ظنّ أن الله لا يقدر عليه
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان رجل يُسرف على نفسه ، فلما حضره الموت قال لبنيه : إذا أنا متّ فأحرقوني ، ثم اطحنوني ، ثم ذروني في الريح ، فوالله لئن قدر عليّ ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا ، فلما مات فُعل به ذلك ، فأمر الله الأرض فقال : اجمعي ما فيك منه ، ففعلت ، فإذا هو قائم ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رب خَشْيَتك ، فغفر له .
فهذه من أفعال الكفار واعتقاداتهم ، ولكن منع مانع من كُفرهم . وهذا يؤكِّد هذه القاعدة : ليس كل من فعل الكفر يُعتبر كافراً .
ومِن شُبهات القوم
3 - التكفير بموالاة الكفّار ، فيقولون : الحاكم الفلاني أعان الكفّار وهذا من اتِّخاذ الكفار أولياء ، والله عز وجل قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )(1/81)
فهم قد غفلوا عن قوله سبحانه وتعالى : ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
فالله عز وجل أمر بالإحسان إلى طائفة من الكفّار .وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي بقوله : إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه . رواه البيهقي .وقبل منه الهدية ، وذلك قبل إسلام النجاشي .
وغفلوا عن قوله تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
فسماهم ظالمين .قال ابن جرير رحمه الله في قوله تعالى : ( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) يقول فالذين يفعلون ذلك منكم هم الذين خالفوا أمر الله فوضعوا الولاية في غير موضعها وعصوا الله في أمره .
كما غفلوا عن فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه يوم فتح مكة(1/82)
فإنه بعث كتاباً لأهل مكة يُخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فبعث النبي من أتى بالكتاب ، فقال عمر : يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ما صنعت ؟ قال حاطب : والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم . أردت أن يكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق ، ولا تقولوا له إلا خيرا ، فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه ! فقال : أليس من أهل بدر ؟ فقال : لعل الله أطّلع إلى أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ، أو فقد غفرت لكم ، فدمعت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم . رواه البخاري ومسلم .
فأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعاجله بالحكم بمجرّد فعل الكفر بل سأله :ما حملك على ما صنعت ؟ فأجاب حاطب بعذره .فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم ، ودرأ عنه الكُفر .
فهل سألنا من وقعت منه الموالاة : ما حملك على ما صنعت ؟! وهنا أسأل من يُسارع إلى التكفير : هل فعل حاطب هذا من موالاة الكفّار أو لا ؟وهل هو دلالة للكفار على عورات المسلمين ؟ وهل فيه إفشاء سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للكفّار ؟وهل فيه مظاهرة ومعاونة لهم على المسلمين أو لا ؟
الجواب : كل ذلك موجود في فعله ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُكفِّره بل سأله واستوضح منه الأمر ، فيدلّ هذا دلالة واضحة على أن الأمر يحتمل .ويدلّ أيضا على أنه ليس كل من فعل الكفر يُعتبر كافراً ، وإلا لحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفره .
بل إن الله تبارك وتعالى سمّى فعل حاطب موالاة ، ومع ذلك لم يُحكم بكفره .(1/83)
قال سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ )
والأدلة على هذا كثيرة
ومثله الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد اتق الله !فَرَدّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ويلك ! أوَ لستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ ثم ولّى الرجل ، فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟
قال : لا ، لعله أن يكون يصلي .فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ؟قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم . رواه البخاري ومسلم .
والذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما عَدَلْتَ ! ومع ذلك لم يُحكم بكفر هؤلاء جميعاً ولو فعلوا الكفر أو تلفّظوا به .بل يَقُوم بالشخص ما يقوم من موانع أو تأويل أو خوف ونحو ذلك .فلا بد من انتفاء الموانع ومن قيام الحجة على الشخص بنفسه .
وهم يُكفِّرون من وقف مع الكفار أو ساعدهم ، ويعتبرون هذا من الموالاة ثم يحكمون بِرِدَّّة مَن فعل ذلك .
وللكلام بقية مع هذه المسألة ..
ولتحرير المسألة يجب ان نقف مع تعريف أهل العلم للولاء :
قال الدكتور محمد بن سعيد القحطاني في كتاب الولاء والبراء ( 89 – 91 ) :(1/84)
الولاية : هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا . قال تعالى : ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ )
فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الود لهم، بالأقوال والأفعال والنوايا . اهـ .
ثم نقل عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
أن مسمى الموالاة ( لأعداء الله ) : يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات . اهـ .
وحريّ بكل من يُسارع في التكفير أن يعضّ على هذه الكلمات بالنواجذ .
فإذا عرفنا أن : الولاية : هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا .
تبيّن لنا أنه ليست كل نُصرة ولا كل محبة ولا كل إكرام أو احترام أو مدح أو ثناء على الكفار أنه يكون موالاة مُخرجة من الملة ناقلة عن الدِّين .بل قد تكون مُباحة كما لو تزوّج المسلم كتابية ( نصرانية أو يهودية ) فأحبها حب الرجل لزوجته ، لكان هذا من الحب المباح .
ولو مدح المسلم الكفّار ببعض ما فيهم من الخصال لم يكن كافراً بذلك .وتقدّم قول النبي صلى الله عليه وسلم في النجاشي .وفي صحيح مسلم أن المستورد القرشي قال عند عمرو بن العاص : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تقوم الساعة والرّوم أكثر الناس . فقال له عمرو : أبصر ما تقول ؟ قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف ، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك .(1/85)
فهذا من مدح النصارى بما فيهم ولا يكون من الموالاة المحرّمة فضلا عن أن تكون من الموالاة المخرجة عن الإسلام .
فلا بدّ في الولاية لكي تكون مخرجة عن الإسلام من توافر أركان التعريف :وهي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا .
بل ألا ترى إلى قول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم لما اجتمعوا في بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه ، فقال قائل منهم : أين مالك بن الدخيشن أو بن الدخشن ؟ فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحب الله ورسوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقل ذلك ، ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله . قال : الله ورسوله أعلم . قال : فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله . رواه البخاري ومسلم .
وتقدّم فعل حاطب وأنه من جنس الموالاة ، وأن الله سماه موالاة ، ولكنها من جنس الموالاة المحرّمة لا المكفِّرة .وللكلام بقية ، وللحديث صِلة مع شبهة أخرى ..
ومِن شبهات القوم :
4 – تصريح الربا وتشريع أبواب البنوك الربوية ، وأن هذا من استحلال ما حرّم الله .
ويُردّ على هذا القول بأن فعل الإنسان للمعاصي والموبقات لا يُخرجه من الإسلام إلا باستحلالها ، وفرق بين العمل بها ، وبين استحلالها .أليس صاحب بيت الدّعارة الذي فتح بيوت الخنا والفجور وقام عليها ودفع فيها مالَه بل وربما حرسها بحرِّ مَالِه لا نستطيع أن نحكم بكفره ، وإن حكمنا عليه بالفسق والفجور ، وهو يفتح أبواب تلك البيوت ويحميها .
فالإذن بالربا كبيرة من كبائر الذنوب – ولا نهوّن من شأنها – ولكن فرق بين أن نقول كبيرة من كبائر الذنوب ، وبين أن نقول كفر بالله العظيم .(1/86)
ولكي تتصوّر المسألة أكثر ، تصوّر قريبا لك فتح ملهى ليلي يتعاطى الناس فيه الفواحش والموبقات ؛ هل تحكم بكفره ؟ وأيهما أعظم فتح بنوك الربا وحمايتها ، أو حَمْل الناس عليها وعلى التعامل بها بالقوّة ؟
لقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول : من قال القرآن مخلوق فهو كافر .
ومع ذلك لم يُكفِّر المعتصم ولا كبير قُضاته ابن أبي دؤاد ، مع أنهم حملوا الناس على القول بتلك البدعة المكفِّرة ، وما سجنوا الإمام أحمد إلا ليقول بذلك القول ؟
فهذا القول كُفر ، وحماه المعتصم وتبنّاه ، ونافح عنه كبير قُضاته ، ومع ذلك لم يُحكم بكفر المعتصم . وهل يستطيع أحد اليوم أن يحكم بكفر المعتصم أو ابن أبي دؤاد ؟
فالمعتصم حَمَلَ الناس بقوّة السلطان على القول بتلك البدعة المكفِّرة . ولو حَمَلَ الحاكمُ الناس على بدعة مكفِّرة لم يُحكم بكفره إذا كان عنده أصل الإسلام .ولو حمل الناس على التعامل بالربا وألزمهم به لكان أهون مما لو فتح البنوك وحَرَسها وحماها .
والله يعلم أني أكره بيوت الربا وبنوكه كراهة شديدة ، إلا أن بيان الحق لا يعني حب الباطل .
من شُبهات القوم :
5 – اللجوء إلى محكمة العدل الدّولية ، والانضمام إلى هيئة ألأمم وإلى مجلس الأمن ، وهم يحكمون بغير ما أنزل الله .
والجواب عن هذه الشُّبهة
أن يُقال : إنهم أُلجئوا إليها .وهذا بخلاف من لجأ إليها ابتداء ورضي بها حَكَماً من دون الله .ولعل قائلا يقول : وما الذي ألجأهم إليها ؟
أقول : كما تُلجئك أنظمة وقوانين البلاد الغربية على احترام أنظمتها عند دخولها بل وقبل دخولها !وبعض من يحمل لواء التكفير أو قُل المسارعة فيه يعيش في بلاد الكفّار !وهو مع ذلك يحترم أنظمة البلد وقوانينه .
فهل نحكم بكفره ؟
ولو أُقيمت ضدّه دعوى أو شكاه كافر إلى محاكم بلاده لاضطر إلى اللجوء إلى تلك المحاكم ، ولو لم يستجب سوف يؤخذ بقوّة القانون إلى محاكم تلك الدّول الكافرة .
فهل نحكم بكفره ؟(1/87)
ومن شُبهات القوم :
6 - تقسيم بعضهم الناس إلى فريقين : مؤمنين وكفّار ، والناس إما يوالون المؤمنين فهم منهم ، وإما يوالون الكفار فهم منهم .
وتقدّم التقسيم في كلام ابن أبي العز رحمه الله .ونسي هؤلاء أن ثمة فريق ثالث ، وهم المنافقون، فـ " المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة " كما في صحيح مسلم .
وفي التنزيل مِن وصف المنافقين : ( وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ )
فهذا وصف المنافقين .فهم قد يميلون للكفار خوف زوال مُلك ، وقد يُعينونهم في ظرف مُعيّن ، وقد يخذلون المؤمنين في زمن مُعيّن ، فيكونون كما وصف الله عز وجل : ( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ )
أي في ذلك الحال .
ومثله قوله تبارك وتعالى في وصف المنافقين : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ )
فوصفهم بأنهم مرضى قلوب ، ولم يصفهم بالكفر بالله عز وجل . وهذا مما يغيب عن أذهان من يُسارعون إلى التكفير .وللحديث بقية في ذِكر شُبهة وجوابها ..
ومِن شُبهات القوم :(1/88)
7 – قولهم : يجب تكفير من لم يحكم بما أنزل الله ، أو من والى الكفّار فيحملون الناس على ذلك ، من باب تحقيق التوحيد بالكفر بالطاغوت استدلالا بقوله تعالى ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا )
وهذا لا يصح استدلالهم به ، إلا بعد الرجوع لتفسير الاية للنظر في معنى الطاغوت حتى يُكفر به
قال ابن جرير رحمه الله – بعد أن ساق الأقوال في معنى الطاغوت – :والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله فعُبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عَبَده ، وإما بطاعة ممن عبده له إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان من شيء . اهـ .
وقال الحافظ ابن كثير : أي مَن خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو . اهـ .
وقال ابن الجوزي رحمه الله : والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال . ثم ساق الأقوال كما ساقها ابن جرير رحمه الله ، وليس فيها تكفير المرتد أو البراءة مِن الحُكّام !
وهذا يعني أن المسلم ليس مُلزما بتكفير مسلم كائنا من كان .أما الكفّار فهو مُلزم بالبراءة منهم .
ولأن هذا الأمر – كما تقدّم – يختلف فيه كبار رجالات الأمة ، فكيف بغيرهم ؟ فلا يُكلّف الخلق الكفر بأمر مُشكل كهذا الأمر .فإذا كان الخلاف في شأن المرتدين وقع بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فكيف بسائر الأمة ؟
فهل تُكلّف الأمة بالكفر بأمر يقع فيه الخلاف بين خيار رجالها ؟ هذه مِن شُبهات القوم ، وهذه بعض أجوبتها .. والله الهادي إلى سواء السبيل .
الدِّين النصيحة ..
وقد رأيت أن عامة من يخوض في مسائل التكفير مِمّن لم ترسخ أقدامهم في العِلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ ) قال : حلماء فقهاء .(1/89)
قال الإمام البخاري رحمه الله : ويُقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره . عن سعيد بن جبير رحمه الله قال : ( كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ ) قال : علماء فقهاء .وقال سفيان بن عيينة : يُراد للعلم : الحفظ والعمل والاستماع والإنصات والنشر . اهـ .
وسؤال أُوجِّهه لكل جرئ على التكفير :هل تعلّمت العلم حتى تُناقش في الأمور الكبار ؟هل طلبت العلم ؟ هل جالست العلماء وثنيت ركبك عندهم ؟
إنه لا يتكلّم في أمور الطب ولا يصف الدواء إلا طبيب حاذق درس الطب ما يزيد على ست سنوات من عمره ! ولا يتكلّم في هندسة البناء إلا من أمضى قريبا من ذلك في دراسة هذا العلم
وقل مثل ذلك في سائل العلوم
بل إنك أنت لو مرض لك قريب أو مرضت أنت لما ذهبت إلى سبّاك أو نجّار ! لتبحث عنده عن الدواء !ولو تعطّلت سيارتك لما ذهبت للمنجرة لإصلاح عطل سيارتك !إذا ( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )
وعلوم الشريعة يجب أن لا يتكلّم فيها إلا من درسها ومارسها، وليست علوم الشرع كلأ مباحاً لكل مُتعالم !
وقد قيل : لا تكن أبا شبر !فمن هو أبو شبر ؟! وما خبر الأشبار ؟!
قال الشيخ بكر أبو زيد في حلية طالب العلم وهو يذكر المحاذير في طريق طالب العلم : احذر أن تكون أبا شبر !فقد قيل : العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول تكبّر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علِم أنه ما يعلم
وإني لأحسب أن أبا شبر يشتغل بالتكفير !! وهو لا يعلم أحكام المسح على الخفّين !! وإن مما يُلحظ من بعض الشباب المتحمّس أنه يتحدّث في مسائل لو عُرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر !
يعني أن عمر رضي الله عنه لما تنزل به النازلة والمسألة الكبيرة ما كان يُفاخر بعلمه ولا يُكابر ولا يدّعي أنه أعلم أهل زمانه – ومن هو عمر ؟ - وإنما كان يجمع لها كبار أصحابه ، حتى يجمع لها كبار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا غزوة بدر .(1/90)
فما بال بعضنا يتجرّأ على مسائل كتلك المسائل ؟! ربما يُقحم نفسه في مسائل يتورّع عن الخوض فيها بعض كبار العلماء – لا خوفا ولكن ورعا –
هل تعلم أن الإمام مالك - الذي كانت تُضرب إليه أكباد الإبل ، وتُقطع لأجله المسافات ، ويُتحمل لأجله عناء الأسفار – وهو الذي كان يُسمى إمام دار الهجرة ( يعني إمام المدينة ) وهو الذي كان كأنه السلطان في زمانه يأمر وينهى وتهابه الأمراء، بل لما رأى ما رأى من أحد العلماء - وهو لم يعرفه – أمر بسجنه فسُجن
ومع ذلك كان يُكثر أن يقول : لا أدري ! بل قيل عُرضت عليه أربعون مسألة أجاب عن ثمان مسائل ! وقال في الباقي : لا أدري ! فهل قلت في يوم من الأيام : لا أدري !
إن من أغفل وترك ( لا أدري ) أصيبت مقاتله، ومن ترك ( لا أدري ) قال على الله بغير علم، ومن تجرأ على القول على الله قال على الله بغير علم، فأقِلّ - أُخيّ – من القول على الله
لأن من قال بكل مسألة أخطأ ولا بُدّ، ومن تكلّم بكل ما علِم وقع في القول على الله بغير علم الذي هو قرين الشرك بالله، قال الله عز وجل : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )
ولا بد من احترام العلماء وأهل العلم الذين أمضوا أعمارهم في دراسته وممارسته ، ولو أخطأوا . فانظر في سيئاته تجد أنها تنغمر في بحور حسناته . وانظر إلى أثر ذلك العالم في الأمة
ثم انظر إلى أثرك وماذا قدّمت – أنت – للأمة ؟! قدّم عمره في مدارسة العلم وتدريسه، وقدّمنا – نحن – الكلام في عرضه ! قدّم جهده ووقته، وقدمنا له الطعن(1/91)
وهل هناك أحد بعد الأنبياء يخلو من الخطأ، من ذا الذي تُرضى سجاياه كلها = كفى المرء نُبلا أن تُعدّ معايبه، والله أسأل أن اكون وُفِّقت للهدى والرشاد والصواب . والله تعالى أعلى وأعلم .
19-حَاجَة الناس إلى العِلْم
قال الإمام أحمد : الناس مُحْتَاجُون إلى العِلْم أكثر مِن حاجتهم إلى الطعام والشراب ؛ لأن الطعام والشراب يُحْتَاج إليه في اليوم مرة أو مرتين ، والعِلْم يُحْتَاج إليه بِعَدَد الأنفاس .
وقال ابن القيم : حَاجة الناس إلى الشَّريعة ضَرورية فَوق حَاجتهم إلى كل شيء ، ولا نِسبة لحاجتهم إلى عِلْم الطِّبّ إليها . إلا تَرى أنّ أكثر العَالَم يَعيشون بِغير طَبيب ، ولا يكون الطبيب إلاَّ في بعض الْمُدُن الجامعة ...
وقد فَطَر الله بني آدم على تَناول ما يَنفعهم ، واجْتناب ما يَضُرّهم، وجَعَل لكل قَوم عَادة وعُرْفًا في اسْتِخْراج ما يَهْجُم عليهم مِن الأدواء ، حتى إنّ كَثيرا مِن أصُول الطِّب إنما أُخِذَت عن عوائد الناس وعُرْفهم وتجاربهم ، وأما الشريعة فَمَبْنَاها على تَعْرِيف مَوَاقع رِضَا الله وسَخَطه في حَرَكات العِباد الاختيارية ، فَمَبْنَاها على الوَحْي الْمَحْض .
والْحَاجَة إلى الشريعة أشدّ مِن الحاجة إلى التَّنَفُّس - فَضْلا عَن الطعام والشَّراب - لأن غاية ما يُقَدَّر في عدم التَّنَفُّس والطعام والشَّرَاب مَوْت البَدن وتَعَطُّل الرُّوح عنه ، وأما ما يُقَدَّر عند عَدَم الشَريعة فَفَسَاد الرُّوح والقَلب جُمْلة ، وهَلاك الأبد .
وشتان بَين هذا وهلاك البَدن بالموت ، فليس الناس قط إلى شيء أحْوج منهم إلى مَعرفة مَا جَاء به الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، والقيام به ، والدعوة إليه ، والصبر عليه ، وجِهاد مَن خَرَج عنه حتى يرجع إليه ، وليس للعالم صَلاح بِدون ذلك البتة ، ولا سَبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلاَّ بِالعُبور على هذا الْجِسر . اهـ .(1/92)
والعِلْم الذي يحتاجه الناس هو العِلْم الْمُوصِل إلى الله وإلى رِضوانه وإلى دار كرامته ..
ولَمَّا كان العِلْم الشَّرْعِيّ بهذه المثابة كان ولا بُدّ أن تكون العُلوم الأخرى خادِمة لهذا العِلْم ، وسالِكة طَرِيقَه ، ومُوصِلة إلى ما يُوصِل إليه .. فلا تكون علوما آلية جامدة ، بل تكون علوما تربط المسلم بِربِّه ، وتُوصِله إليه ، وتَزيد في إيمانه ..
وعلى سبيل المثال :
عِلْم الطِّب الذي يَدرس دقائق جسم الإنسان ، ويكشف عن خفاياه ، ويغوص في أنسجته ؛ ينبغي أن يُقْرَن ذلك العِلْم بإبْداع البَديع سبحانه وتعالى ، وإتقان الصانع جَلَّ جَلاله لِمَا خَلَق .. والْحَثّ على التَّدبُّر في الأنْفُس (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) .
والتَّذْكِير بِما يَمُرّ به الإنسان في مَراحِل خَلْقِه وأن ذلك مِن بَدِيع صُنْع الله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)
وهي دَعْوة للشُّكْر إذ جَعَل الله للإنسان مِن الْحَوَاسّ ما يَتَميَّز به ، وتَتَكوّن بِه معارِفه ، وتَزداد بِه مَدارِكه (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .(1/93)
قال ابن القيم : إن الله سبحانه في القرآن يُعَدِّد على عِباده مِن نِعَمِه عليهم أنْ أعْطَاهم آلات العِلْم ، فَيَذْكر الفؤاد والسمع والأبصار ، ومَرَّة يَذْكر اللسَان الذي يُتَرْجم به عن القَلب ... فَذَكَر سبحانه نِعْمته عليهم بِأن أخْرَجَهم لا عِلْم لهم ثم أعْطَاهم الأسْماع والأبْصار والأفئدة التي نَالُوا بها مِن العِلْم مَا نَالُوه ، وأنه فَعَل بهم ذلك لِيَشْكُرُوه . اهـ .
آيات تَتْرَى .. وعِبَر تتوالَى ..
ولعل ما في النفس من آياتهعَجَب عُجاب لو تَرى عَيناكا، قل للجنين يَعيش مَعْزُولا بِلاراعٍ ومَرْعى : ما الذي يرعاكا ؟ قل للوليد بَكى وأجْهش بالبكاءلدى الولادة : ما الذي أبكاكا ؟
وعِلْم الأحياء يَرْبط المسلم بِربِّه بِما تَضَمَّنَته دَقائق الأحياء مِن بَدِيع صُنْع الله .. (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) .
خَلَق فَسَوّى .. وقَدَّر فَهَدى .. خَلَق خَلْقًا عظيما .. وخَلَق خَلْقًا لا يُرى بالعين الْمُجرَّدَة ..
وما بين ذلك تفاوُت واتِّسَاع .. (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
عندها يَهتِف القلب ويُناجِي :
يا مَن يَرى مَدّ البعوض جَناحهافي ظُلمة الليل البهيم الأليل
ويَرى مَناط عروقها في نَحرهاوالْمُخّ مِن تلك العظام النُّحَّل
ويرى خَرير الدم في أوداجهامُتَنَقِّلا مِن مَفْصِل في مَفصل
ويرى مكان الوطء مِن أقدامهافي سَيرها وحَثيثها المستعجِل(1/94)
وحين يتأمَّل ما جَعَله الله مَن نِظام في هذا الكون .. بِما فيِه مِن مَنَافِع ومَضَارّ .. وما خَلَق الله مِن سَِاع عَادِيَة .. وذوات سُموم قاتِلة .. وأنّ الْحَكِيم يُنَزَّه عن العَبَث .. فَمَا خَلَق خَلْقًا إلا لِحْكَمة .. كَوْن مُتوازِن .. ودِقَّة مُتناهية (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .وحين يَقِف العقل مَشْدُوهًا أمام تلك الصَّنائع يَقِف مُتَسائلا :
وإذا ترى الثعبان يَنفث سُمّهفاسأله : مَن ذا بالسُّموم حشاكا؟
وأسأله كيف تعيش يا ثعبان أوتَحْيا وهذا السُّم يَمْلأ فَاكا ؟
وأسأل بُطون النحل كيف تَقاطرتشَهْدا وقُل للشَّهد من حلاَّكا ؟
بل سائل اللبن الْمُصَفَّى كان بيندَم وفَرْث ما الذي صَفَّاكا ؟
وإذا رأيت الْحَيّ يَخْرُج مِن حَنايامَيت فاسْأله : مَن أحْياكا ؟
وعَالِم الفَلَك وَثِيق الصِّلَة بِما يُقرِّب المسلم مِن ربِّه .. فهو يُذَكِّر بأن الله تبارك وتعالى هو (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) .
لله في الآفاق آيات لعلأقَلّها هو مَا إليه هَداكا
والكَون مَشْحُون بأسْرَار إذاحَاولت تَفْسِيرًا لها أعْياكَا(1/95)
فمَنَازِل القَمَر مَحَل اعْتِبَار لِكُلّ مُعتَبِر .. وجَرَيَان الشَّمْس مَحَطّ ادِّكار .. (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) .
تُعَاد الكَرَّة تِلْو الكَرَّة .. ويُعاد التذكير بعد التذكير .. وتُطرَق العقول يوما فيَوم .. مع كل طلوع شمس .. ومَع كُلّ أُفُول نَجْم .. حينما يَسْرِي شُعاع الشمس .. أو يَلُفّ الأرض ضِياء القَمَر .. وحينما يهْتَدِي الْمُهْتَدُون بالنجوم في ظُلُمات البَرّ والبَحْر .. فإن هذا مِن عَظِيم إبْداع الله في هذا الكون ..
وعِلْم الجيولوجيا يَجب أن يُسَخَّر للدَّلالة على البَارِي سُبحانه وتعالى ..
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .
وإذا رأيت البَدر يَسْري نَاشِرًاأنْواره فاسأله : مَن أسراكا ؟
وأسْأل شُعاع الشَّمْس يَدْنو وهي أبْعدكلّ شيء ما الذي أدناكا ؟
وعند ذاك .. يَزْدَاد الإيمان .. ويَسْجُد القُلْب في مِحْرَاب التوحيد .. ويَنْطَرِح في سُكون وإيمان ..
ولا يَملِك مَن لَه ذَرَّة مِن عَقْل إلا أن يُعلِن توحيد الله وتَفَرُّدَه بالإبْدَاع ..
إن اكْتَشَف الجيولوجي حَجَرًا .. أو رأى مَنْظَرا .. أو شَاهَد خَلْقًا مِمَّا مَضَى .. فإنما يَدعوه ذلك إلى الإيمان بالذي خَلَق كل شيء .. فلا يَمْلِك إلا أن يُنَزِّه ربّ العِزَّة سبحانه وتعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) .(1/96)
سائِل الْجِبَال الصُّمّ الصِّلاب .. من أرساها ؟
وإذا تَرى الْجَبل الأشَمّ مُنَاطِحًاقِمَم السَّحاب فَسَلْه مَن أرْسَاكا ؟
وإذا رَأيت النهر بِالعَذْب الزُّلالجَرَى ، فَسَلْه : مَن الذي أجراكا ؟
وهكذا في كُلّ عِلْم .. وفي كُلّ فَنّ ..
فاللُّغَوي في دَرْسِه .. والأديب في أدَبِه .. والشاعِر بِشِعْرِه ..
هذا بِلِسَانِه .. وذاك بِيَراعِه .. وثالث بِبَيَانِه ..
فينبغي أن تُسخَّر كل العُلوم للانقياد لله الواحد القهّار ..
فَما خَلَق الله خَلْقا إلاَّ لِحكْمَة ..
ولا أوْجَد شيئا إلاَّ وله حظَّه في توازُن هذا الكَون ..
فسبحان مِن خَلَق فَسَوّى .. وقَدَّر فَهَدى .. سبحان مَن خَضَعَ لِعَظَمتِه كلّ شيء .. وتبارك الذي أحسَن كلّ شيء خَلَقَه .. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) .
20-بيان اللبس في موضوع ( عاجل 00 آية السماء جاءت00كسوف وخسوف )
عاجل ...
آية السماء جاءت.. كسوف وخسوف والآية طلعت مع الشمس اليوم وقد كان الأخوة كتبوا منذ فترة طويلة مبشرين بحدوث الكسوف والخسوف في رمضان الحالي وهي من القرائن على زمن المهدي
وهذا ماثبت حدوثه في هذا الشهر ....لقراءة المزيد انقر الرابط أدناه :
&&&
من بريدي المتواضع
قال الشيخ عبدالرحمن السحيم:
آية السماء جاءت، جاء في الخبر تحت الرابط المذكور (( فإن كانت هذه الآية السماوية قد حدثت ورافقها الكسوف والخسوف في شهر رمضان فأبشروا فإنها بإذن الله بشارة للتمكين وزوال الظلم وخروج المهدي وزوال أمريكا ))
رحمك الله
أين الكسوف والخسوف ؟؟
هل وقع كسوف وخسوف في رمضان ؟؟
ثم إن الحديث المذكور ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن ابن عباس رضي الله عنهما
بل هو عن علي بن عبد الله بن عباس، ورواه عنه معمر بن راشد في الجامع، ورواه نعيم بن حماد في الفتن
ونعيم بن حماد قال عنه الذهبي : نعيم من كبار أوعية العلم ، لكنه لا تركن النفس إلى رواياته .(1/97)
وقال أيضا : لا يجوز لأحد أن يحتج به ، وقد صنف كتاب الفتن فأتى فيه بعجائب ومناكير !
ولعلنا جميعا على ذِكر مما انتشر في العام الماضي قبل شهر رمضان، وما قيل فيه وما حصل للناس من أخذ ورد وما وقعوا فيه من حيص بيص !
وأنه إذا كان رمضان منتصفه يوم جمعة فإنه سوف تحدث صيحة يسمعها كل أحد ! وأنه سوف يكون في ذي الحجة من العام نفسه كذا وكذا ! وكل ذلك مما نُقِل عن كتاب الفتن لنُعيم بن حماد، فلا داعي لنشر مثل ذلك
هذا من ناحية
ومن ناحية أخرى فإن الفتن لا يُستبشر بها، بل يُتعوّذ بالله من شرّها، فأرجو التكرم ببيان ذلك لمن أرسله لك على بريدك ( المتواضع ) !
والله يحفظكم ويرعاكم
21-بِه فابدأ ..
رَوى سُفيان بن عيينة عن سُفيان بن سعيد عن مِسْعَر قال : بَلَغَنِي أنَّ مَلَكًا أُمِر أن يَخْسِف بِقَرْيَة ، فقال : يا رَبّ فيها فُلان العَابِد ، فأوْحَى الله تعالى إليه أن بِه فَابْدَأ ، فإنه لَم يَتَمَعَّر وَجْهُه فيَّ سَاعَة قَط .
وقال مالك بن دينار : إن الله عز وجل أمَرَ بِقَرْيَة أن تُعَذَّب ، فَضَجَّتِ الْمَلائكَة ، قالت : إنَّ فِيهم عَبدك فُلانا . قال : أسْمِعُونِي ضَجِيجَه ، فإنَّ وَجْهَه لَم يَتَمَعَّر غَضَبًا لِمَحَارِمِي .
قِف مع هَذه الآثَار وَقْفَة تَأمُّل ..
وأجِل بِبَصَرِك في نَواحِي قَلْبِك !
ثم اسأل نفسك :
مَا هو الْمُنْكَر الذي يَتَمعَّر له وَجْهُك ؟
ومَا هو الشيء الذي يُنْكِرُه قَلْبك ؟
كثيرة هي الأشياء التي نُنْكِرُها .. وربما تالّمْنَا لِوُجُودِها .. وقد نسخَر بِهَا أو نضْحَك مِنْها !
وربما كانت مِمَّا لا يُثير السُّخْرِيَة ولا يُنْكَر !
كَم نضحك في دَواخِلنا .. لو رأينا شَخْصًا يلْبَس جَوَارِب مُلوَّنَة .. في كل قَدم لَون !
أوْ لَو رَأينا شَخْصًا يَلْبَس ثوبا غير ما اعتَاد الناس رُؤيتَه !
ومَاذا لَو رَأينا شَخْصًا يَلْبَس ثَوبًا قَصِيرًا ؟!(1/98)
كَثيرون هم الذين يُنْكِرون ذلك اللبَاس ! ولو كان سَاتِرًا للعَوْرَة .
وكَم نسْمَع عِبارات الغَمْز .. وكَلِمات الْهُزء ، ونَبَرَات اللمْز ! في حَقّ شاب قَصَّر ثَوبه إلى أنصَاف سَاقَيه ..
ولا نَسْمَع مثل ذلك في حقّ فَتاة أظْهَرتْ شَعْرَها وسَاقَيها .. بل ربما .. وشيئا مِن فَخِذيها !
حينما يَنْظُر بعضنا إلى امرأة قد أبْدَتْ شيئا مِن مَفَاتِنِها .. سَواء كان ذلك في سُوق مِن الأسْواق ، أو عبر قَنَاة فضائية ، أو مِن خِلال شَاشَة إلكترونية ! – ما الذي أنْكَرَه مِن ذلك ؟!
ربما لم يَتَمَعَّر وجْهُه .. ولم يَقشَعِرّ بَدَنه .. بل ربما لم يَدُر بِخَلَدِه ، ولم يَخْطُر بِبَالِه – أنَّ مَا رَآه مُنْكَر يَجِب إنْكَاره على دَرَجَات الإنْكَار .. بِيَدِه .. فإن لَم يَسْتَطِع فَبِقَلْبِه .. فإن لم يَسْتَطِع فلا أقَلّ مِن إنْكَارِه بِالْقَلْب .. فَيَتَمَعَّر القَلْب .. ويُفَارِق صاحِبُه الْمَكان ، قَبْل أن يُقضَى على صَاحِبه .. فيُطْمَس على قَلْبِه .. وتَنْطَمِس مَعَالِمُه .. ويَنْطَفئ مِنه سِرَاج الإيمان ..
ذلك أنه لا يُعَْذَر أحَد بِتَرْك إنْكَار القَلْب ..
إذ يَجِب على كُل مُسلِم ومُسْلِمَة الإنْكَار القَلْبِي .. فإن لَم يَفْعَل طُمِسَتِ الوُجُوه ، فَرُدَّتْ على الأدْبَار ..
وتأمّل قَول العزيز القهَّار : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً )
قال مُجاهد : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا) يقول : عن صِرَاط الْحَقّ ، (فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) ، أي : في الضَّلال .(1/99)
كَم نُوَاكِل ونُشَارِب ونُجَالِس أصْحَاب الْمُنْكَرَات .. ولم تَتَمَعَّر وجُوهنا .. أو تَشْمَئزّ قلوبنا مرَّة واحدة ؟؟
قال مَالك بن دِينار : اصْطَلَحْنَا على حُبّ الدُّنيا ، فلا يَأمُر بَعْضُنا بَعْضًا ، ولا يَنْهَى بَعْضُنا بَعْضًا ، ولا يَذَرُنا الله تَعالى عَلى هَذا . فَلَيْت شِعْرِي أيّ عَذَاب يَنْزِل ؟
إنَّ مَا نَرَاه مِن مُنْكَرَات يَجِب أن تَقْشَعِرّ مِنه القُلُوب والأبْدَان ..
وأنَّ نُنْزِل الأمُور مَنَازِلها ، ونَضَع الأشياء في مَوَاضِعِها ، ونَزِن ما نَرَاه ومَا نَسْمَعه بِمِيزَان الشَّرْع ، لا بَمَيزَان الأهْوَاء والعَوَاطِف .
إنَّ القلب الْحِيّ هو الذي اقْشَعَرّ حين اطَّلَع على المنْكَر أو سَمِع به .. فظَهَرتْ آثار تلك القشْعَرَيرَة على الوُجُوه فَتَمَعَّرَتْ وتَغَيَّرَتْ وانْقَبَضَتْ غَضَبًا لله عزّ وَجَلّ .
ذلك أنَّ حَياة القَلْب لا تُقَاس بِما فِيه مِن نَبْض .. وإنَّما يُقَاس بِمَا فِيه مِن مَعْرِفَة الْمَعرُوف ، وإنْكَار الْمُنْكَر ..
قيل عند ابن مسعود رضي الله عنه : هَلَك مَن لَم يَأمُر بِالْمَعْرُوف ويَنْه عن الْمُنْكَر . فقال ابن مسعود : هَلَك مَن لَم يَعْرِف قَلْبه مَعْرُوفًا ، ولَم يُنْكِر قَلبه مُنْكَرا .
وإنما تُقَاس حَيَاة القَلْب بِمَا فِيه مِن إيمان وخَيْر .. وبِرٍّ وتَقْوى ..
ومِن هُنا كان الانْتِفَاع بِالآيَات ، والاتِّعَاظ بالنُّذُر ؛ إنَّمَا هو لأصْحَاب القُلُوب الْحَيَّة
ولِذا لَمَّا ذَكَر الله مَصَارِع الأُمَم ، وهَلاك الْجَبَابِرَة قال بعد ذلك : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ..
وليس الْمَقْصُود بِالقَلْب تِلْك الْمُضْغَة التي في الصُّدُور !
قال في الكَشَّاف : (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي : قَلْب وَاعٍ ؛ لأنَّ مَن لا يَعِي قَلْبه فَكَأنه لا قَلْب له . اهـ .(1/100)
ولَمَّا دَعَا الله إلى النَّظَر والتَّفَكُّر والاعْتِبَار أعْقَب ذلك بِقَولِه : ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) ؟
ذلك لأنَّ قَلْب الكَافِر أغْلَف مُغلَّف !
أما قَلْب الْمُؤمِن فَفِيه سِرَاج يُزْهِر .. يَعْرِف بِه الْمُنْكَر فيُنْكِره ..
ولَمَّا تَرَك بنو إسرائيل التآمَر بالمعروف والتَّنَاهي عن المنكَر ضَرَب الله قلوب بعضهم ببعض ولَعَنَهم .
قال ابن مسعود : كان الرَّجُل يَلْقَى الرَّجُل فَيَقول له : يا هذا اتَّقِ الله ودَع مَا تَصْنَع فانه لا يَحِلّ لك ، ثم يَلْقَاه مِن الغَد فلا يَمْنَعه ذلك أن يَكون أَكِيلَه وشَرِيبَه وقَعِيدَه ، فلما فعلوا ذلك ضَرَبَ الله على قُلُوب بَعْضهم بِبَعْض ، ولَعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بِمَا عَصَوا وكانوا يَعْتَدُون .
22-لماذا عظم حق الزوج إلى هذا الحد ؟
من أسباب ذلك :
1 - أن الرجل هو الأصل ، فإن الله خلق آدم ثم خلق حواء من ضلِع آدم .
2 - تفضيل جنس الرجال بعامة . وليس معنى ذلك أن الرجل أفضل من المرأة على كل حال . بل الأمة المؤمنة خير من نساء الكفار ، كما قال تعالى : ( وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) أي ولو أعجبتكم نساء الكفار .
بل إن المرأة ربما كانت أفضل من الرجل ، إذا كانت هي مؤمنة وهو فاسق ، وهكذا . كما نقول في تفضيل جيل الصحابة بعامّة على من بعدهم .
ولا يعني أن يكون في أفراد الأجيال من بعدهم من أفذاذ العلماء من هو خير من بعض الصحابة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : وددت أنا قد رأينا إخواننا . قالوا : أو لسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد . رواه مسلم .(1/101)
وكما في قوله صلى الله عليه وسلم : فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ؛ للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم . قيل : يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم . رواه الترمذي وغيره .
3 - أن الزوج هو الكاسب ، وهو صاحب القوامة ، وهو المُنفق على زوجته، وأما الزوجة فإنها لا تُطالب بالكسب ولا بالنفقة . قال سبحانه وتعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) .
4 - أن الفتاة إذا بقيت في بيت أهلها رأى أهلها أن بقائها عالة عليهم، فإذا رزقها الله الزوج الذي يأخذ بيدها ، فله حق عليها .
روى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث أسماء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ في المسجد وعصبة من النساء قعود ، فقال بيده إليهن بالسلام فقال : إياكن وكفران المنعمين . إياكن وكفران المنعمين .
قالت إحداهن : نعوذ بالله يا نبي الله من كفران نعم الله . قال : بلى . إن إحداكن تطول أيمتها بين أبويها وتعنس فيرزقها الله عز وجل زوجا يرزقها منه مالا وولدا ، ثم تغضب الغضبة فتقول : والله ما رأيت منه ساعة خيرا قط ؛ فذلك كفران نعم الله ، وذلك كفران المنعمين .
هذه إشارة إلى سبب عِظم حق الزوج، ولذلك لما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة له فقال : يا رسول الله هذه ابنتي قد أبت أن تتزوج . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أطيعي أباك .
فقالت : والذي بعثك بالحق لا أتزوج حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قرحة فلحستها ما أدّت حقّه . قالت : والذي بعثك بالحق لا أتزوج أبدا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تنكحوهن إلا بإذن أهلهن . رواه ابن حبان وغيره .(1/102)
وهذا لا شك يدلّ على عِظم حق الزوج . والله تعالى أعلم .
23-الحب من أول نظرة !!
الحب من أول نظرة
دعاني الداعي لرؤيتها
كشفت الستر ونظرت ، وليتني لم أفعل
وقعت في قلبي من أول نظرة
وأنا الجاني على نفسي بنظري إليها
يسر مقلته ما ضرّ مهجته *** لا مرحبا بسرور جاء بالضرر
نظرت وليتني لم أنظر
فالبصر رسول القلب ، كما يقول ابن القيم - رحمه الله - .
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا *** لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وما كنت أعلم أن النظرة لها ذلك الأثر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها **** فَتْك السهام بلا قوس ولا وتر
حينها لُمْتُ نفسي ولكن :
وأنا الذي جلب المنية طرفه *** فمن المطالب والقتيل القاتل
فلا تلوموني
فمظهرها برّاق
ومنظرها جذاب
لها وجه طلعة الشمس إذ طلعت
ولها طلعة كطلعة البدر
ألوانها زاهية
تهفو إليها النفس
ويتعلق بها القلب
لا تسألوني : ما الذي شدّني إليها ؟
لها خاصية شد الانتباه
ولها ميزة لفت الأنظار
فهل أُلام إذا تعلق قلبي بها
فأصبحت لا أُطيق فراقها سوى سويعات
ثم أعود متلهفاً لرؤيتها
كم أكشف الأستار لرؤيتها في ليل أو في نهار
ولكن..
هل كنت وحيداً في هواها ؟
ربما ظننت ذلك
ولكني اكتشفت أن الأمر ليس كذلك
لقد اكتشفت أن لي شريكاً في حبها ...
فما العمل ؟
دلُّوني
لا تقولوا :
أتركها
فلا أستطيع ..!!
حبها خالط اللحم والعظم
بل جرى مع الدم
لا أظن أنه بالسهولة أن أترك حبها
فلها في شغاف القلب مسكن
ولها في سويدائه مكمن
ومن شغفي بها زُرت أهلها
محبة بها وبأهلها
فهل عرفتموها ؟
اسمها يبدأ بحرف الميم..؟!!
.
.
.
.
.
مِشكاة
http://www.almeshkat.net/
24-السيِّد الذئب ... والحمل الإرهابي ..!!
يذكرني الموقف المعاصر الذي نعيشه هذه الأيام بهذه القصة الرمزية
قصة الذئب والخروف !!
والتي صوّرها الشاعر بهذه الأبيات :(1/103)
اسمع على حين تذكير وموعظة **** حكاية الذئب ذي العدوان والحمل
إن كان للذئب أن يسعى لمكسبه **** فما الرعاء عن الخرفان في شغل
أتى إليه على جوع وقال له **** وفي السريرة معنى السوء والدّغل
ما ذا أتى بك في أرضي لتفسدها *** كدّرت صفوي خلطت الماء بالوحل
فقال للذئب يا مولاي موردكم **** عالٍ وإني وردت الماء من سفل
الماء من نحوكم جار فمن عجب *** مولاي أن تحسب التكدير من قبلي
وكنت ظمآن من حرّ ومن تعبٍ **** قضى علينا به الراعي بلا مهل
لم أدر أين قطيعي كنت أدركه **** وكنت أتبعه في آخر الرَّسل
ثم قال الحمل معتذراً :
فاسمح فإني ضيف في منازلكم **** والضيف يُكرم في حلّ ومرتحل
ولكنه لما كان قد قُضي أمره ... وقد بُيّتت نيّة أكله لم ينفعه عذر :
أبدى له الذئب عن لؤم وقال له **** بلى لقد جئتني بالحادث الجلل
عكّرت مائي ولم تقصد بذاك سوى ** إهانتي وأردت الشرّ بالعمل
هذا وإنك يوما كنت تشتمني **** من قبل عامين في أيامك الأُول
فطأطأ الحمل المسكين منحنيا **** أمامه قائلاً من غير ما خطل
مولاي هذا محال إنما عمري **** شهران ! إني لم أكبر ولم أحلِ
عمره شهران !! فكيف يسبّه قبل عامين ؟؟!!
تنمّر الذئب مستاءً وقال له **** بلى لقد نلت من عِرضي فلا تُطِل
إن لم تكن أنت فالجاني عليّ إذا ** أخوك لا تنتحل عذرا ولا تقلِ
فقال يا سيدي والله لم يك لي **** أخٌ لقد رُعتني باللوم والعذل
فقال إن لم يكن هذا وذاك فقد **** أراه جارك في مأوى وفي نُزُل
كم من خروف يُعادينا ويشتمنا *** ونحن نكظم غيظاً غير محتمل
قد قبّحوا بين كل الناس سيرتنا *** بين الثعالب والغزلان والوعل
فاليوم آخذ بحقي منك مكتفياً **** بالثأر عني وعن قومي وعن خوَلي
تحفّز الذئب واستعدى بوثبته *** وشقّ ما بين رجلي ذلك الحمل
لم يُغنه العذر لما كان معتذرا **** ولا أفادت قليلا صحة الجدل
هو الضعيف وإن صحّت مقاصده * فريسة للقويّ الفاتك البطل(1/104)
عندها عرَف كل ذي لبّ أنه ليس المقصود تحديد جُرم الحمل ( الخروف ) بقدر ما كان المقصود منه أكل لحمه الشهيّ والقضاء عليه !!
سواء كان له جرم أو كان بريئا !!
وعندها تنادى معشر الذئاب :
يستحق الحمل !!!
أتدرون لماذا ؟؟
لأنه إرهابي !!!
وهو الذي قد أرهب الذئاب !!! وعمره شهران !!!
ومن يدري فالأيام حبالى بكل جديد !!
فربما يُتّهم الحمل بأنه هو الذي كسر أنياب الذئب !!
وربما يُتّهم أيضا بأنه أدمى مُقَل الذئاب !!!
وربما يتهم بأنه أكل حفيد الذئب !!!
وبأن له أهدافا أخرى تُرهب الذئاب !!!
وأنه يُخطط على تدمير دولة الذئاب !!!
وبأنه ينوي - أو يُريد أن ينوي - احتلال بيت الذئب !!!
أو أنه هو الذي أوعز إلى العقارب أن تدخل بيوت الذئاب !!!
وهو - أي الحمل - لو فعل كل ذلك وأكثر منه ما كان ملوم
ذلك أن الذئاب قد قضت على بني جنسه
وأقضّت مضاجعهم
وربما استطلقت بطونهم إذا سمعوا عواء الذئاب !!
وذئب آخر أراد أن يأكل حملا فلم يجد له جريمة يُدينه بها
فقال الذئب للحمل :
عليك أن تسمع كلامي ولا تخالفني .
قال الحمل : سمعا وطاعة يا سيدي !
فقال الذئب : امشِ بجواري
فما كان من الحمل المطيع إلا أن فعل ما أمره به الذئب
فقال : الآن أتيت بالجرم المشهود !!
لقد وطئت ظلّي وأهنتني !!
فالتفت إليه الذئب وفلق هامته .. وكسر عظمه .. والتهم لحمه
لقد علِمَ الحمل أنه مأكول مأكول لا محالة !!
سواء أتى بجرم أم لم يأت بجرم !!
ورأسه مضروب مضروب !!
وبيته مدكوك دكّاً
وابنه مقتول من بعده بجرمه الذي لم يثبت !
مسكين أنت أيها الخروف !!
أنت الإرهابي !!
وأنت المتَّهم !!
وأنت المشتبه به الأول والأخير في عدوان الذئاب !!
25-أنت لك !
تأمل ما قاله العالِم الرباني ابن القيم رحمه الله
حيث قال :(1/105)
فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول ، بل إنما يقصد انتفاعه بك ، والرّبّ تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به ، وذلك منفعة محضة لك ، خالصة من الْمَضَرَّة ، بخلاف إرادة المخلوق نفعك ، فإنه قد يكون فيه مضرّة عليك ، ولو بِتَحَمُّل مِنّته . اهـ .
فالناس – غالباً – يُريدون انتفاعهم بعلاقاتهم
والخالِق يُريد نَفع خَلْقِه
الله تبارك وتعالى لا تنفعه طاعة الطائعين
ولا تضرّه معصية العاصِين
ما خَلَقَ الْخَلْق ليتكثّرَ بهم من قِلّة
ولا ليتقوّى بهم مِنْ ضَعْف
فهو الغني ذو الرحمة
هو الغني والعِباد هم الفقراء
هو القوي والْخَلْق هم الضعفاء
هو العزيز وهم الأذلاّء
الْخَلْق مُحتاجُون إلى مولاهم
ومولاهم مُستغنٍ عنهم
ومع ذلك يتودّد إليهم سبحانه وتعالى بأصناف النِّعم
ويتبغّضون إليه بالمعاصي
يتحبّب إليهم بِذِكْرِ صفاته ، ويُذكِّرهم إنعامه
بل ويفرح بتوبتهم
قال ابن القيم :
ليس العجب من مملوك يَتذلّل لله ويتعبد له ، ولا يَمَلّ من خِدْمَتِه مع حاجته وفقره إليه ، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه ، ويتودد إليه بأنواع إحسانه ، مع غِنَاه عنه .
كفى بك عِزّاً أنك له عبد *** وكفى بك فَخْراً أنه لك رَبّ
خَيْرُه سبحانه نازِل إلى خلقِه
وشرّهم إليه صاعِد
يُتابِع عليهم مِنَنَه
ويُبارزونه بأنواع المعاصي
ومع ذلك يصبر عليهم ويحلم عليهم
" لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم " كما في الصحيحين .
يُقيم لهم الحجج والبراهين ، ويُعْذِر إليهم
يُرسل إليهم النُّذُر
ويَضرب لهم الأمثال
لعلهم يفقهون عنه سبحانه
قال سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)
وقال : (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ)(1/106)
ودعونا – أيها الكرام – نقف مع سؤال كبير
لماذا فُرِضت الفرائض ؟
بل لماذا شُرِعت الشرائع ؟
ولماذا أُرسِلت الرُّسُل ؟
ولماذا أُنزِلت الكُتب ؟
إنما فُرِضت الفرائض ، وشُرِعت الشرائع ، أُرسِلت الرُّسُل ، أُنزِلت الكُتب لتحقيق هدفٍ سامٍ ، وغاية عُظمى ..
ألا وهي تحقيق التقوى .
قال جل جلاله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .
وهذه الحكمة موجودة في : الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وغيرها من الفرائض ..
تأمل قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)
وقِف مع قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
تجِد أن الصلاة والصيام شُرِعا وفُرِضا لتحقيق التقوى
فما هي التقوى التي أوصى الله بها الأولين والآخرين ؟
جمعها عمر بن عبد العزيز في كلمتين :
أداء ما افترض الله ، وترك ما حرّم الله .
هذا الذي يُريده الله من الأولين والآخِرِين .
وأنت – أيها الكريم – إذا فعلت ذلك فإنما تسعى لمصلحة نفسك !
قال عبد الله بن يزيد القسري : خير الناس للناس خيرهم لنفسه ؛ وذلك أنه إذا كان كذلك أبْقَى على نفسه من السَّرَق لئلا يُقطع ، ومن القتل لئلا يُقَاد ، ومن الزنا لئلا يُحَدّ ، فَسَلِم الناس منه بإبقائه على نفسه .
ولعلك على ذِكر مما سبق " والرّبّ تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به ، وذلك منفعة محضة لك ، خالصة من الْمَضَرَّة "
فهو يُريدك لمصلحة نفسك
يُريد منك فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات لمصلحتك أنت
لكي تصل بلا عناء إلى دار السعداء
تصل في النهاية بِسلام إلى دار السلام
تصل إلى دار النعيم في جوار الرحمن الرحيم(1/107)
فلو مَشَيتَ على الشوك لم يكن كثيراً لتبلغ منازل ألأبرار عند ملك الملوك
ولو سَعيتَ على الْمُحمَى من الإبر لكانت تلك الدار بِحُورِها وقُصُورِها تستحق منك ذلك وأكثر !
فَحَيَّ على جنات عدنٍ فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيمُ
وتذكر - رعاك الله - أن من يَخطِب الحسناء لا يُغلها المهرُ !
وأن من أراد جنات عدنٍ سعى إليها سعياً حثيثاً
ودُونَك شهر الخيرات ، وموسم الرّحمات
موسم عظيم ، وشهر كريم
تُضاعف فيه الحسنات
وتُفتح فيه أبواب الجنات
وتُغلّق فيه أبواب النار
وتُعتق فيه الرِّقاب
ويُنادى لمن أراد الخير : يا باغي الخير أقبل
فأقبل أُخيّ
أقبل ولا تتردد
لعلك لا تُدرِك رمضان آخر
فصُم صيام مودِّع
وصلِّ صلاة مودِّع
26-جاوزت حَدّ الأربعين ..
وقفت طويلا أتأمّل قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) .
ولماذا كانت الأربعين هي الحدّ الفاصل ؟
لماذا لم تكن الثلاثين ؟ باعتبار أنها منتصف العمر تقريباً
إذا كانت السِّتِّين هي مُعتَرك المنايا ، وكانت أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك . كما في الحديث .
فإن المنتصف تقريبا هو سِنّ الثلاثين .. فلماذا جاء في الآية (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ؟
يظهر - والله أعلم - لأن الأربعين هي سنّ الأشدّ ، ولذا قال في أول الآية : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) .
ولأن سِنّ الأربعين غالبا يَذْهَبُ معها السَّفَه ، فقال عن ذي الأربعين : (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) .
ولذا من شاب على السَّفَه لا يُرجئ برؤه غالباً !(1/108)
ولذا قيل :
وإن سفاه الشيخ لا حُلْمَ بعده *** وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
ولأن الإنسان في هذا العمر يكون غالباً قد رُزِق الذرية ، ويهمّه صلاح ذريته ، ولذا قال : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) .
كما أن الإنسان في صعود في سِنِيّ عُمره حتى يبلغ الأربعين ، فإذا بلغها كان كالذي يصعد جبلا ، فبَلَغ قمّتَه ، فما بعد الصُّعود إلا الهبوط ، وما بعد الوصول إلى القمة إلى الانحدار !
وعادة يكون الصعود أصعب من الهبوط
ويستغرق الصعود وقتا أطول من النُّزول
فالإنسان في صعود في سنوات عمره طيلة أربعين عاماً ..
فإذا بلغها بدأ بالهبوط والانحدار ، والهبوط أسرع ، فصاحب الأربعين بدأ بالهبوط سريعاً نحو مُعتَرك
المنايا .. نحو السِّتِّين ، أو السبعين ..
قال الإمام القرطبي : ففي الأربعين تناهى العقل ، وما قبل ذلك وما بعده مُنتقص عنه .
ولذلك يقول الذي بَلَغ الأربعين (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
وهذا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام حينما تحققت رؤياه ، ونال مُناه من هذه الدنيا بِجمْع الشَّمل ، والتِئام الأهل : (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ثم قال : (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ..
فلما بَلَغ التَّمام سأل ربَّه الوفاة على الإسلام ، واللحاق بالصالحين ..
لأنه ليس بعد التمام إلا النقص ..
قال أبو البقاء :(1/109)
لكل شيء إذا ما تمّ نقصان *** فلا يُغَرّ بِطِيبِ العَيش إنسان
وقيل :
إذا تم أمر دَنا نقصه *** توقع زوالاً إذا قيل تمّ
إذا فالأربعين نهاية الشباب ، وبداية المشِيب ..
قال سُحيم بن وثيل الرياحي :
وماذا يبتغي الشعراء مِنِّي *** وقد جاوزت حد الأربعين ؟!
تذكّرت هذه المعاني ، وتَدَاعتْ في الذِّهن حينما نظرت في المرآة ، فقلت الدعاء المأثور :
" اللهم كما حسنت خلقي فأحسن خلقي "
ورأيت الشيب غزا جَنَبات رأسي !
فعلمت أن هذا نذير !
وأني بدأت بالهبوط الاضطراري نحو مُعتَرك المنايا !
وأن النذير ينعب بمفارق رأسي !
قال تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال الإمام البخاري : يعني الشيب .
قال ابن جُزي في تفسير الآية : وقيل : يعني الشيب ، لأنه نذير بالموت .
وقال ابن كثير : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وعكرمة ، وأبي جعفر الباقر رضي الله عنه ، وقتادة ، وسفيان بن عيينة أنهم قالوا : يعني الشَّيْب !
قال القرطبي : والشيب نذير أيضا ، لأنه يأتي في سن الاكتهال ، وهو علامة لِمُفارَقة سِنّ الصِّبَا الذي هو سِنّ اللهو واللعب . قال :
رأيت الشيب من نذر المنايا *** لصاحبه وحسبك من نذير
وقال آخر :
فقلت لها : المشيب نذير عمري *** ولست مُسَوِّداً وجه النذير
انتهى كلام القرطبي ..
يُروى – في أخبار بني إسرائيل – أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان مؤاخياً ملك الموت ، وكان من عادة المَلَك زيارته بين الحين والحين .. وذات يومٍ قال نبي الله يعقوب عليه السلام : يا ملك الموت أزائراً جئت ، أم قابضاً روحي ؟
فقال المَلَك : جئت زائراً .
قال يعقوب عليه السلام : لي عندك رجاء .
فقال المَلَك : وما هو ؟
قال يعقوب عليه السلام : أن تُخبرني إذا دنا أجلي ، وأردت أن تقبض روحي .
فقال المَلَك : نعم .. سوف أُرسل لك نُذُراً من رسولين أو ثلاثة .(1/110)
ومرت الأيام والأعوام وانقطعت الزيارة بينهما .
فلما انقضى أجل يعقوب عليه السلام أتى إليه ملَك الموت .. فقال له نبي الله : أزائراً جئت أم قابضاً ؟
فأجابه المَلَك : جئت قابضاً ..
قال يعقوب عليه السلام : أوَ لستَ كنت أخبرتني أنك سترسل لي رسولين أو ثلاثة قبل زيارتك هذه ..
قال ملَك الموت : قد فعلت .. أرسلت لك ثلاثة رسل :
بياض شعرك بعد سواده .
وضعف بدنك بعد قوّته .
وانحناء ظهرك بعد استقامته .
هذه رسلي يا نبي الله لأولاد آدم قبل زيارتي لهم - أي قبل الموت .
قال ابن عبد البر :
كان هشيم يخضب بالسواد ، فأتاه رجل فسأله عن قول الله عز وجل : (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) فقال له : قد قيل له إنه الشيب . فقال له السائل : فما تقول في من جاءه نذير من ربه فَسَوَّدَ وجهه ؟! فَتَرَكَ هُشَيم الخضاب بالسواد .
27-حينما تكون الزوجة الثانية ( عصا ) !
حينما يُريد شخص تأديب زوجته .. فإنه ربما لوّح بِعصا ( الزوجة الثانية ) !
وربما صاح بها : والله لأضربنّك بِضرَّة !
أو قال مُهدّداً : أنا أعرف كيف أربِّيك !
فالزوجة الثانية عِنده بمثابة أداة تأديب ! ووسيلة تربية وتهذيب !
وهذا خطأ من وجوه :
الأول : أن وسائل تأديب المرأة الناشز جاء بها القرآن على الترتيب : وَعْظ فَهَجْر فَضَرْب غير مُبرِّح ..
( وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) .
الثاني : أن نساء المسلمين لسن ألعوبة أيضا .. ولَسْنَ أدوات تأديب !
الثالث : أنّ من لوازم الإيمان أن يُعامِل الإنسان الناس بمثل ما يُحبّ أن يُعامِلوه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من أحبّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنة فلتأته مَنِيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يُحِبّ أن يُؤتَى إليه . رواه مسلم .(1/111)
الرابع : أن التعدد ليس ألعوبة في أيدي من شاء من الرِّجال .. بل هو سُنة في حق النابغين من الرِّجال .. – كما سيأتي – .
فالذي يُلوِّح بِعَصَا الزوجة الثانية لا يَصلُح له التعدد !وفَرْقٌ كبير بين أن نقول : " فلان " لا يَصلُح له التعدد ، وبين مُناقشة قضية التعدد وهل تصلح أو لا ؟
فالأول وارد ، والثاني ممنوع !
فَمَن كان يُلوِّح بالعصا .. أو التأديب من خلال زَواج آخر لا يصلح له التعدد ..
وذلك لأسباب ، منها :
1 – أن من كانت هذه نيّته خُذِل ، وعادة لا يُوفّق للعدل والإصلاح .
2 – أنه بِمُجرّد اعتدال أو استقامة سلوك الزوجة الأولى ينتهي " مفعول " العصا !
3 – أن التعدد لا يَصلح إلا للنوابِغ من هذه الأمة .. الذين يُراد تكثير نَسْلهم .
قال علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي في تفسيره " محاسِن التأويل " ما مَفُادُه :
إباحة تعدد الزوجات للنابغين من الرِّجال ليَكثر نسلهم ... أما غير النابغين منهم فإن الدِّين يَمنعهم من نكاح أكثر من واحدة ، لئلا يَكثر نسلهم ... فالقدرة على العَدل بين أربع من النساء مُتوقِّف على عقل كبير ، وسياسة في الإدارة ، وحِكمة بالغة في المعاملة ، لا تَتَأتّى إلا لمن كان نابغة في الرِّجَال ، ذا مكانة في العقل تَرفَعه على أقرانه ، والرَّجل النابغة إذا تزوّج بأكثر من واحدة كثُر نَسْلُه فكثُر النوابغ ، والشَّعْب الذي يَكثُر نوابغه أقدر على الغَلَبَة في تنازع البقاء من سائر الشّعوب ... والعاقلة من النساء تُفضِّل أن تكون زوجة لِنابِغة من الرِّجال – وإن كان ذا زوجات اُخَر – على أن تكون زوجة لرجل أحمق ، وإن اقتَصَر عليها ؛ لأنها تَعْلَم أو أولادها من الأول يَنجبون أكثر منهم من الثاني ...
4 – أن المشاهَد أن الزوجة الأولى تُظهر الصَّلاح والاستقامة واعتدال السلوك ، بل والإقلاع عن كل خطأ وتقصير ؛ لتِحظى بِطلاق ضرّتها ! وما إن تُطلّق ضرّتها إلا وتعود "حليمة" لِعادتها القديمة !(1/112)
يقول مُحَدِّثِي : " فُلان " كانت زوجته لا تهتمّ بنفسها ، ولا تعتني بزوج ولا بِولَد ! فأكثر من نُصحها .. فلم تتغيّر .. فَضَرَبها ! بِزوجة ثانية .. فلما دَخَل عليها بعد ذلك ظنّ أنه رأى امرأة أخرى .. فرَجَع ! فنادته : تفضّل !
فبادرها قائلا : لو كنت هكذا لم أتزوّج ثانية !
فَرَدَّتْ عليه : لن تراني إلا هكذا وأحسن !
مرّت الأسابيع والأشهر وهي على درجة من الاهتمام !
لا تقَع عينه إلا جميل ..
ولا يشمّ إلا أطيب رِيح ..
لا يُزَعَج له مَنام !
ولا يَلتهب له جُوع !
بل أصبح بيتها كأنه دُكّان عطّار ! أو محل بائع الورد الريحان !
فكأنها لمِسَتْ منه يوماً رِقّة .. أو حانتْ منه لحظة ضعف لها
فسألته بِدهاء : ماذا رأيت مِنّي ؟
قال : لم أرَ إلا كل خير !
قالت : أمَا إنك لو عُدْت إلينا .. لما وجدت إلا خيراً !
قال : ماذا تقصدين ؟
قالت : طَلِّق فلانة !
وكلمة تتلوها أخرى .. مرّة تُرغّبه بما صَنَعتْ .. وأخرى تُرهّبه بما يُخبئه له المستقبل !
تُخوّفه الدُّيُون !
وقد .. وقد .. !
أسلحة إبليس ! (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) ..
فما زالتْ به حتى طلّق ضرّتها !
ومَضَتْ الزوجة الثانية بعد انتهاء صلاحية ( العصا ) !
لقد كانت ضرباتها مُوجِعة
إلا أنها كُسِرتْ في آخر المطاف !
وهكذا العصا .. إذا ضُرِب بها آلَمَتْ ثم انكَسَرتْ !
فإلى كل من أراد التعدد .. رويدك .. راجِع نيّتك .. وحاسِب نفسك ..
ولا تجعل نساء المسلمين ألعوبة في يَدك .. ولا وسيلة تربية .. ولا عصا تأديب ..
وإلى كل من رَضِيَتْ أن تكون زوجة ثانية .. رويدك .. فليس كل تَقِيّ يَصلُح للعَدل
وليس كل تَقيّ قويّ الإيمان .. يُحسِن سياسة الأمور ..
ألم يَقُل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بِحَقِّها ، وأدّى الذي عليه فيها . رواه مسلم .(1/113)
ومن هو أبو ذر في صِدقه وإيمانه ؟
أليس الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام : ما أظَلّتِ الخضراء ، ولا أقَلّتِ الغبراء من رَجُلٍ أصدق لهجة من أبي ذر . رواه الإمام أحمد وابن ماجه .
فليس كل تَقيّ نَقِيّ صالِح يَصلُح له التعدد ..
وليس كل عاقِل واجِد غِنيّ يَصْلُح له التعدد أيضا ..
فمن أراد التوفيق والصلاح والإصلاح فعليه بإصلاح نِيّتِه ..
* لفتة :
بعضهم إذا أراد التعدد لجأ إلى عَدّ عيوب زوجته !
وهذا في حدّ ذاتِه يُعَدّ عيباً في الخاطب لو عَقَلُوا !
لأنه لو كان عاقلا حصيفاً ما ذَكَر عيوب زوجته !
بل عيوب زوجته من عيوبه ! لأنه ما استطاع إصلاحها .. ولا كَتَم عيوب زوجته !
فمن كان بهذه المثابة فلا يَصلح زوجا ، لأنه لا يؤتَمن على سِرّ امرأة !
** لفتة كريمة :
أراد رَجل أن يُطلِّق زوجته .. فسُئل عن ذلك : فقال : لا أفشي لزوجتي سِراًّ !
فلما طلّقها سُئل عن سبب طلاقها .. قال : مالي ولامرأة أجنبية !
28-حتى الحجر أحبّه ..!!
هو محمد صلى الله عليه وسلم..
أحبه كل من رآه
تَفرّس في وجهه عالم اليهود - آنذاك - فقال مُباشرة :
فلما استثبتُّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أن وجهه ليس بِوَجْه كَذَّاب . رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: هذا حديث صحيح ، ورواه ابن ماجه والدارمي والحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرِّجاه .
ورواه عبد بن حميد في مسنده . وصححه الشيخ الألباني .
مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم لم يُعهَد عنه كذب لا قبل البعثة ولا بعدها
محمدٌ صلى الله عليه وسلم عُرِف بالأمانة قبل البعثة .. فقد كانوا يُسمّونه بـ ( الأمين )
أحبّه
صلى الله عليه وسلم القريب والبعيد ..(1/114)
حتى قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : إني قد كنت على أطباق ثلاث : لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مِنِّي ، ولا أحب إلي أن أكون قد اسْتَمْكَنْتُ مِنه فقتلته ، فلو مِتّ على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ؛ فبسط يمينه . قال : فَقَبَضْتُ يدي . قال : مالك يا عمرو ؟ قال : قلت : أردت أن أشترط . قال : تشترط بماذا ؟ قلت : أن يُغْفَر لي . قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تَهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجَلّ في عيني منه ، وما كنت أُطِيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سُئلتُ أن أَصِفَه ما أَطَقْتُ ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه ... رواه مسلم .
حَوّل العداوة الْمُتأصِّلة إلى مَحبّة صادِقة !
أحبّه كل شيء .. حتى أحبّته البِقاع !
أحبّه جبل صَلب ( جبل أُحُد ) فقال عليه الصلاة والسلام : هذا جبل يُحِبّنا ونُحِبّه . رواه البخاري ومسلم .
أظْلَمَتْ المدينة لما فقدت شخصه عليه الصلاة والسلام ..
قال أنس رضي الله عنه : لما كان اليوم الذي دَخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه المدينة أضاء منها كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء . وما نَفَضْنَا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي - وإنا لِفي دَفْنه - حتى أنكرنا قلوبنا . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
أحبه جِذع نَخلة ؛ فَحَنّ إليه كما تَحِنّ الإبل إلى صغارها !(1/115)
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صُنِع له المنبر ، وكان عليه ، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العِشار ! حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يده عليها ، فَسَكَنَتْ . رواه البخاري .
فلا يُبغِضه عليه الصلاة والسلام إلا مأفون حاقد ..
لا يُبغِضه صلى الله عليه وسلم إلا من امتلأ قلبه غيظا وغِلاًّ
ولا يُحبه إلا كل ذي نفس زكية ..
فهو عليه الصلاة والسلام طيب يُحب الطّيبين ويُحبّه الطّيبون ..
و صلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى كل من أقتفى أثره..
29-ضوابط لباس المرأة أمام محارمها وأمام النساء
حدود وضوابط لباس المرأة أمام محارمها وأمام النساء
لباس المرأة بين النساء وأمام المحارم مما تساهلت به بعض النساء ، ولا شكّ أن لهذا التساهل آثاره الخطيرة التي وقفت على بعضها بنفسي ، وسأذكرها لا حقاً بعد بيان الحُكم .
عورة المرأة :
الصحيح أن عورة المرأة مع المرأة كعورة المرأة مع محارمها .فيجوز أن تُبدي للنساء مواضع الزينة ومواضع الوضوء لمحارمها ولبنات جنسها .
أما التهتك في اللباس بحجة أن ذلك أمام النساء فليس من دين الله في شيء .وليس بصحيح أن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل ، أي من السرة إلى الركبة .
فهذا الأمر ليس عليه أثارة من علم ولا رائحة من دليل فلم يدل عليه دليل صحيح ولا ضعيف .بل دلّت نصوص الكتاب والسنة على ما ذكرته أعلاه .(1/116)
قال سبحانه وتعالى : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
ووجه الدلالة أن الله ذكر النساء بعد ذكر المحارم وقبل ذكر مُلك اليمين .فحُكم النساء مع النساء حُكم ما ذُكِرَ قبلهن وما ذُكِرَ بعدهنّ في الآية .
ولعلك تلحظ أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر الأعمام والأخوال في هذه الآية ، وليس معنى ذلك أنهم ليسوا من المحارم .
قال عكرمة والشعبي : لم يذكر العم ولا الخال ؛ لأنهما ينعتان لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره .
وهذه الآية حدَّدَتْ مَنْ تُظهر لهم الزينة ، فللأجانب ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )
قال ابن مسعود رضي الله عنه : الزينة زينتان : فالظاهرة منها الثياب ، وما خفي الخلخالان والقرطان والسواران . رواه ابن جرير في التفسير والحاكم وصححه على شرط مسلم ، والطبراني في المعجم الكبير ، والطحاوي في مشكل الآثار .
قال ابن جرير : ولا يُظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهن .أما الزينة المقصودة في قوله تعالى : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ ... ) الآية
فهذه يُوضِّحها علماء الإسلام .(1/117)
قال البيهقي : والزينة التي تبديها لهؤلاء الناس قرطاها وقلادتها وسواراها ، فأما خلخالها ومعضدتها ونحرها وشعرها ، فلا تبديه إلا لزوجها . وروينا عن مجاهد أنه قال : يعني به القرطين والسالفة والساعدين والقدمين ، وهذا هو الأفضل ألاّ تبدي من زينتها الباطنة شيئا لغير زوجها إلا ما يظهر منها في مهنتها . اهـ .
وقوله ( لهؤلاء الناس ) : أي المذكورين في الآية من المحارم ابتداءً بالبعل ( الزوج ) وانتهاءً بالطفل الذي لم يظهر على عورات النساء ، ثم استثنى الزوج . والمعضدة ما يُلبس في العضد .
ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : المرأة عورة . رواه الترمذي وغيره ، وهو حديث صحيح ، فلا يُستثنى من ذلك إلا ما استثناه الدليل .
وأما قول إن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل فليس عليه أثارة من علم ، ولا رائحة من دليل ، ولو كان ضعيفاً .
إذاً فالصحيح أن عورة المرأة مع المرأة ليست كعورة الرجل مع الرجل ، من السرة إلى الركبة ، وإن قال به من قال .بل عورة المرأة مع المرأة أكثر من ذلك .
ويؤيّد ذلك أيضا أن الأمَة على النصف من الحُرّة في الحدِّ ، لقوله تعالى : ( فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) .
والأمَة على النصف في العورة لما رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة . وحسّنه الألباني وزاد نسبته للإمام أحمد .
وإذا كان ذلك في الأمَة التي هي على النصف من الحرة في الحدِّ والعورة وغيرها ، فالحُرّة لا شك أنها ضِعف الأمَة في الحدِّ والعورة وغيرها مع المحارم والنساء .
قال البيهقي : والصحيح أنها لا تبدي لسيِّدها بعدما زوّجها ، ولا الحرة لذوي محارمها إلا ما يَظهر منها في حال المهنة . وبالله التوفيق .(1/118)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء ، كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه إن الحرة تحتجب ، والأمَة تبرُز ، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمَة مختمرة ضربها ، وقال : أتتشبهين بالحرائر ! أيْ لكاع . فَيَظْهَر من الأمَة رأسها ويداها ووجهها …
وكذلك الأمَة إذا كان يُخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب ، ووجب غض البصر عنها ومنها ، وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن ، ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر الحرائر … فإذا كان في ظهور الأمَة والنظر إليها فتنة وجب المنع من ذلك كما لو كانت في غير ذلك ، وهكذا الرجل مع الرجال ، والمرأة مع النساء : لو كان في المرأة فتنة للنساء ، وفى الرجل فتنة للرجال لَكَانَ الأمر بالغض للناظر من بَصَرِهِ متوجِّها كما يتوجَّه إليه الأمر بِحِفْظِ فَرْجِه . انتهى كلامه – رحمه الله – .
وقول عمر هذا . قال عنه الألباني : هذا ثابت من قول عمر رضي الله عنه .وهذا الفعل من عمر رضي الله عنه من أقوى الأدلة على اختصاص الحرائر بالحجاب – الخمار ، وهو غطاء الوجه – دون الإماء ، وأن من كشفت وجهها فقد تشبّهت بالإماء ! .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء .
وما أعظم ما تفتتن به النساء بعضهن ببعض ، خاصة الفتيات في هذا الزمن ، فيما يُسمّى بالإعجاب نتيجة التزيّن والتساهل في اللباس ولو كان أمام النساء ، والشرع قد جاء بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتقليل المفاسد وإعدامها .
ومما يَدلّ على أنه لا يجوز للمرأة أن تُبدي شيئاً مِن جسدها أمام النساء إلا ما تقدّم ذِكره من مواضع الزينة ومواضع الوضوء إنكار نساء الصحابة على من كُنّ يدخلن الحمامات العامة للاغتسال ، وكان ذلك في أوساط النساء .(1/119)
والحمام هو مكان الاغتسال الجماعي سواء للرجال مع بعضهم ، أو للنساء مع بعضهن .وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : الحمام حرام على نساء أمتي . رواه الحاكم ، وصححه الألباني .
وقد دخلت نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت : لعلكن من الكُورَة التي تدخل نساؤها الحمّام ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها ، فقد هتكت سترها فيما بينها وبين الله عز وجلّ . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
ولذا كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق : لا تدخلن امرأة مسلمة الحمام إلا من سقم ، وعلموا نساءكم سورة النور . رواه عبد الرزاق .
ومثل الحمامات : النوادي النسائية التي يُنادي بها أشباه الرجال فإن النساء تُمارس فيها " الرياضة " وتنزع المرأة ثيابها من أجل السباحة .ومثلها المشاغل النسائية وما يدخل في حُكمها .
فإذا كانت المرأة تُمنع من دخول الحمّام ، ولو كان خاصاً بالنساء ، وتُمنع من نزع ثيابها ولو بحضرة النساء ، كان من المتعيّن أن عورة المرأة مع المرأة كعورة المرأة مع محارمها ، لا كعورة الرجل مع الرجل فلا تُبدي لمحارمها ونساءها إلا مواضع الوضوء والزينة ، وهي : الوجه والرأس والعنق واليدين إلى المرفقين والقدمين .
ثم لو افترضنا – جدلاً – أن عورة المرأة كعورة الرجل مع الرجل . لو افترضنا ذلك افتراضاً . فأين ذهبت مكارم الأخلاق ؟أليس هذا من خوارم المروءة ؟
إن عورة الرجل مع الرجل من السرة إلى الركبة ، ومع ذلك لو خرج الرجل بهذا اللباس لم يكن آثما ، إلا أنه مما يُذمّ ويدعو إلى التنقص .
فإن الأطفال بل والمجانين لا يخرجون بمثل هذا اللباس !بل حتى الكفار الذين لا يُراعون دين ولا عادة لا يلبسون مثل هذا اللباس عند ذهابهم لأعمالهم أو اجتماعاتهم ونحو ذلك .فلو كان لباس المرأة كذلك . فأين مكارم الأخلاق ؟(1/120)
هذا بالإضافة إلى أنه تبيّن مما تقدّم من الأدلة أن عورة المرأة مع المرأة ليست كعورة الرجل مع الرجل .
إن نساء السلف حرصن على عدم لبس ما يشف أو يصف ، ولو كُنّ كباراً .ولذا لما قَدِمَ المنذر بن الزبير من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب رقاق عتاق بعدما كف بصرُها . قال : فلمستها بيدها ، ثم قالت : أف ! ردوا عليه كسوته . قال : فشق ذلك عليه ، وقال : يا أمه إنه لا يشف . قالت : إنها إن لم تشف ، فإنها تصف ، فاشترى لها ثيابا مروية فقَبِلَتْها . رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى .
وبناء عليه فيُمنع من لبس الضيق والشفاف حتى في أوساط النساء وعند المحارم .
والله أعلم .
30-الرافضة يقولون : ليس علينا في الأميين سبيل
هذه بعض أقوال المتقدمين من أئمة الرافضة :
قال داود بن فرقد : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما تقول في قتل الناصب ؟فقال: حلال الدم ، ولكني " أتّقي " عليك ، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد عليك فافعل . ( وسائل الشيعة 18/463) ، (بحار الأنوار 27/231) .
وعلق الإمام الخميني على هذا بقوله : فإن استطعت أن تأخذ ماله فخذه ، وابعث إلينا بالخمس .
وقال السيد نعمة الله الجزائري: إن علي بن يقطين وزير الرشيد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين ، فأمر غلمانه وهدموا أسقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل . (الأنوار النعمانية 3/308).
وحتى لا يُقال روايات ضعيفة ونحن لا نأخذ بها أقول اقرأ ما قاله " إمام العصر " عند الرافضة .
فقد أفتى الخميني بان المسلم السني مباح المال ، ويجوز أخذ ماله بأية طريقة إن أمِنَ الشيعي على نفسه ، نص على هذا الحكم عند حديثة عن فريضة الخمس والأصناف التي يجب فيها فقال :(1/121)
( يجب الخمس فيما غنم من أهل الحرب الذين تستحل دماؤهم ، وأموالهم وتُسبى نساؤهم وأطفالهم إذا كان الغزو بأذن الأمام عليه السلام ، وأما إذا كان في حال الغيبة وعدم التمكن من الاستئذان فالأقوى وجوب الخمس فيه ، وأما ما اغتنم منهم بالسرقة والغيلة وكذا بالربا والدعوى الباطلة ونحوها ، فالأحوط إخراج الخمس فيها من حيث كونه غنيمة لا فائدة ، ولا يعتبر في وجوب الخمس في الغنيمة بلوغها عشرين دينارا على الأصح ، نعم يعتبر فيها أن لا يكون غضبا من مسلم أو ذمي أو معاهد ونحوهم من محترمي المال ، والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به ، بل الظاهر جواز اخذ ماله أين ما وجد ، وبأي نحو كان ،ووجوب إخراج خمسه )
من كتاب تحرير الوسيلة ج1 ص 251 - للخميني
[ إذاً تجوز السرقة في مذهب الرافضة !!! .. ويجوز التعامل بالربا مع المخالِف من أهل السنة النواصب !!! ( ليس علينا في الأميين سبيل ) !!!]
كما أفتى الخميني بعدم جواز الصلاة على ميت أهل السنة ، كما أفتى بتحريم دفنه في مقابر الشيعة ، يقول الخميني: ( ولا تجوز الصلاة على الكافر بأقسامه، حتى المرتد ومن حكم بكفر ،ممن انتحل الإسلام كالنواصب والخوارج )
كما أفتى بنجاسة أهل السنة ، فقال : ( والنواصب والخوارج لعنهما الله تعالى نجسان من غير توقف )
ولعل هذا سبب تحريمه دفن أهل السنة ، في مقابر الشيعة .
من كتاب تحرير الوسيلة ج1 ص 80 ، زبدة الأحكام ص44. كلاهما الخميني .
قد يقول بعض الرافضة - تقيَّة - : إننا لا نعتقد أن السُّنِّي ناصبي !
فأقول :
بقي أن نعرف أن ما المقصود بـ " الناصبي " عند الرافضة
هذا هو تعريف الناصبي
قال السيد نعمة الله الجزائري في حكم النواصب (أهل السنة) : إنهم كفار أنجاس بإجماع علماء الشيعة الإمامية، وإنهم شر من اليهود والنصارى ، وإن من علامات الناصبي تقديم غير علي عليه في الإمامة. (الأنوار النعمانية 2/206-207).(1/122)
وفي الكافي للكليني (5/351) ( أصح كتب الرافضة ) :
عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ سَأَلَهُ أَبِي وَ أَنَا أَسْمَعُ عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ وَ النَّصْرَانِيَّةِ ، فَقَالَ : نِكَاحُهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نِكَاحِ النَّاصِبِيَّةِ وَمَا أُحِبُّ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْيَهُودِيَّةَ وَ لا النَّصْرَانِيَّةَ مَخَافَةَ أَنْ يَتَهَوَّدَ وَلَدُهُ أَوْ يَتَنَصَّرَ .
وعن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) أَنَّهُ قَالَ : تَزَوُّجُ الْيَهُودِيَّةِ وَ النَّصْرَانِيَّةِ أَفْضَلُ أَوْ قَالَ خَيْرٌ مِنْ تَزَوُّجِ النَّاصِبِ وَ النَّاصِبِيَّةِ .
بل إن مصافحة الناصبي ( السّنِّي ) كافية في الخروج عن دين الرافضة !!
ففي الكافي (5/352) :
عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) أَنَّهُ أَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ وَرَاءِ النَّهَرِ فَقَالَ لَهُمْ : تُصَافِحُونَ أَهْلَ بِلادِكُمْ وَتُنَاكِحُونَهُمْ ؟ أَمَا إِنَّكُمْ إِذَا صَافَحْتُمُوهُمْ انْقَطَعَتْ عُرْوَةٌ مِنْ عُرَى الإِسْلامِ ، وَإِذَا نَاكَحْتُمُوهُمْ انْهَتَكَ الْحِجَابُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ .
فأهل السنة أنجاس أرجاس في اعتقاد الرافضة !
بل يعتقدون فيهم أنهم أولاد زنا !
ففي الكافي للكليني :
إن الناس كلهم أولاد زنا أو قال بغايا ما خلا شيعتنا .
ورواه الكليني في الكافي ( 8/285) :(1/123)
عن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ : قُلْتُ لَهُ : إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَفْتَرُونَ وَ يَقْذِفُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ ، فَقَالَ لِي : الْكَفُّ عَنْهُمْ أَجْمَلُ ، ثُمَّ قَالَ : وَ اللَّهِ يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَوْلادُ بَغَايَا مَا خَلا شِيعَتَنَا .
ونحن لا نشك أن هذا من افتراء الرافضة على أئمة آل البيت ، وأكثر من كذبوا عليه الإمام جعفر الصادق رحمه الله ورضي الله عنه .
فنحن نُحبِّه ونعتقد براءته مما تنسبه إليه الرافضة زورا وبهتاناً .
هذه كُتُب القوم شاهدة ..
فهل من معتبر ؟؟!
31-خَلَل في التَّدَيُّن..
حينما يصاب مفهوم التَّدَيّن بالخلل ، أو يَحصل فيه نَقص فإن - مفهوم التَّدَيّن - قد يُقْصَر على المظاهِر ..
وإذا أُصِيب - مفهوم التَّدَيّن - بالضُّمُور فإنه قد يُدَّعَى أنه مَقْصُور على ما في الصُّدُور !
وهو في كِلا الحالين بين جَفاء وتقصير .
أما التَّدَيّن الصادق التام فهو ما يتمثل في المظهر والمخبر
في الظاهر والباطن ..
في القول والفعل .. يُصَدِّق أحدهما الآخر .
وإذا بَحَثْتَ عن التَّقِيّ وَجَدته *** رَجُلاً يُصدِّق قَولَه بِفِعَالِ
وسواء كان رجلا أو امرأة
فالتَّدَيّن يكون في فعل الطاعات واجتناب السيئات
وتَرْك ظاهر الإثم كما يُتْرَك باطنه
فيجتنب المتدََيِّن الفواحش والآثام الظاهرة ، ويَجْتَنِب الآثام الباطنة ، وربما كانت الآثام الباطنة أشد ضررا ، وأعظم خطرا ، وأكثر فَتْكًا بصاحبها وما يشعر بها ...
وما ذلك إلا لأن صاحب الفواحش يَخشى من أعين الناس ، أو مِن دَاء عُضال ، أو مِن مَرَض مُسْتَشْرِي .. وهو مع ذلك يشعر بتأنيب الضمير وزَجْر النَّفْس اللوامة ..(1/124)
أما صاحب الآثام الباطنة والفواحش القلبية .. فهو بمنأى عن ذلك .. وإن فَتَكتْ تلك الآثام بِمَلِك الأعضاء !
تأمل في فئام من المتديّنين تَجِد بينهم من خَطايا القُلوب ما يَقِف له شَعْر الرأس !
مِن تَحَاسُد وبَغْضَاء
أو أحْقَاد وشَحْناء
أو بَغْي بِقَولٍ أو بِفِعْلٍ ، أو بهما معا !
وهم - مع ذلك - يرَون أنفسهم من أهل الخير والصلاح ، أو يَعُدّون أنفسهم من أهل العِلم والفضل
ولو فَتَّشْتَ بعض زوايا قلوبهم لَوَجَدت أن بعض العُصَاة أسْلَم منهم قُلوبا - من تلك الجهة-
وأعني به أن بعض عُصَاة الظاهِر لا يَحْمِلُون ضَغينة في قلوبهم ، ولا يَحْقِدُون حِقْد جَمَل !
ولا يَبيت أحدهم إلا سَليم القلب على الْخَلْق ..
فانْحَصَرَتْ مَعْصِية بعضهم في الديوان المغفور ..
ولست أُهَوِّن مِن شأن المعصية ،ولكني أردت بَيان عِظَم وخَطر خطايا القلوب التي ربما غَفَلْنا عنها وعن إصلاحها .. بل وعن التوبة منها .
ولذلك كان تعاهد القلوب وإصلاحها أهَمّ وأولى مِن تَعاهد الظاهر ؛ لأن صلاح الظاهر لا يَلزم منه صلاح الباطن ، أما صلاح الباطن فهو مُسْتَلْزِم لِصَلاح الظاهر .
واعْتَبِر بِصَلاحِ الأشجار ؛ فإنها إذا صَلَحَتْ آتت أُكَلها ، وإذا أصابها الخلل ضَعُفَتْ ثِمارها ، وإن بَدَتْ زاهية المنظر ، إلا أن حقيقتها تتجلى عند اختبار الطعم !
ولذلك جاء مثل المؤمن والمنافق كمثل الأترجة والريحانة !
فكثير مِن خطايا الجوارح مُدوّنة في ديوان مَغفور ..
وكثير من خطايا القلوب مُدوّنة في ديوان مَزبُور ..(1/125)
وفي الحديث : " الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة : ديوان لا يَعْبأ الله به شيئا ، وديوان لا يَترك الله منه شيئا ، وديوان لا يَغفره الله ؛ فأما الديوان الذي لا يَغْفِره الله فالشرك بالله ، قال الله عز وجل : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ، وأما الديوان الذي لا يَعبأ الله به شيئا فَظُلْم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه ، فإن الله عز وجل يَغفر ذلك ويتجاوز إن شاء ، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فَظُلْم العباد بعضهم بعضا ، القصاص لا مَحَالة " رواه الإمام أحمد ، وصححه بعض أهل العلم . ومَعناه صحيح .
خلاصة القول :
التَّدَيّن يقتضي صلاح الظاهر والباطن
والْمُتَدَيِّن يترك ظاهر الإثم وباطنه
وليس من شرط التدين العِصْمَة ولا السلامة من الخطأ ..
والتَّدَيّن استعفاف عن خطايا الجوارح وآثام القلوب
فكما يَحْفَظ المتدين سَمْعَه وبَصَره ويَده ورِجْله وفَرْجه عن الحرام ، فإنه يَحْفَظ قلبه عن الغِلّ والحسد وعن البغضاء والشحناء ، وعن البغي والعدوان
وأفضل الناس " مخموم القلب " سَليم الطَّويّة ؛ وهو مِن أهل الجنة .
قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أفضل ؟ قال : كل مَخْمُوم القلب ، صدوق اللسان . قالوا : صدوق اللسان نَعْرِفُه ، فما مَخْمُوم القلب ؟ قال : هو التَّقِيّ النَّقِيّ ، لا إثم فيه ولا بَغْي ، ولا غِلّ ولا حَسَد . رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني .
قال علي رضي الله عنه : ليس من أخلاق المؤمن التملّق ولا الحسد إلاَّ في طَلَب العلم .
فاللهم ارزقنا قلوبا سَليمة .. لا إثْم فيها ولا بِغْي .. ولا غلّ ولا حسد ..
ربِّ (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)
32-إنْ لَمْ تُزِل الْحَجَر تَعَثَّرتَ به..
هل مررتَ يوماً بِحَجَر ؟(1/126)
ثم رأيته وَمَضَيتَ وخلّفته وراءك .؟
هل سِرتَ بِطريق ذي عِوج .. ورأيت فيه حُفَراً ؟ ثم مَضَيتَ وتركتها ، بعد أن تجنّبتَها .. ؟ هل احتجتَ يوماً لجهاز عام ، أو خِدمة مُعينة .. فلم تحصل عليها ؟ ثم تركت ذلك الجهاز إلى غيره .. أو ذلك المكان إلى سواه .. ؟
إنّك إن لم تُزِل الحَجَر تعثّرت به ..
وإن لم تُصلح الخطأ .. وَقَعتَ به ..
وإن لم يُصلَح الجهاز لم تستفِد منه
فلا تكن سلبيا .. بل كُن إيجابياً ..إن مَرَرت بِحَجَر فأبعده عن الطّريق ، ونحِّه عن الْمَارّة .فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا كان يمشي بِطَرِيقٍ فَوَجَدَ غُصْنَ شَوكٍ على الطريق فأخَّره ، فَشَكَرَ الله له ، فَغَفَرَ له . كما في الصحيحين .
هذا في المحسوسات ..
إذا لم تُزِل الحَجَر تعثَّرتَ به ..
فكيف به في المعنويّات ؟
إذا لم تُزِل أسباب العثرة تَعَثّرت
وإن لم تُبعد أسباب الهلاك هلَكتَ
وإن لم تبتعد عن موارد العَطَب .. أُخِذتَ
فكُن على حذر من :
أسباب العَثَرات
ومن موارد الهَلَكات
ومن مظانّ الْعَطَب
فالذَّنْب له عاقبته
والمعصية لها شؤمها
إن لم يَتُب منها صاحِبُها
ولا يَزال الشيطان جاهداً في إغواء بني آدم
قال تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) .
قال الرازي :
اعلم أن في هذه الآيات تحذيرا عظيما عن كل المعاصي من وجوه :(1/127)
أحدها : أنّ مَنْ تَصَوّر ما جرى على آدم عليه السلام بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي .
قال الشاعر :
يا ناظرا يرنو بعيني راقد = ومشاهدا للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى = درك الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدما = منها إلى الدنيا بذنب واحد
قال فتح الموصلي أنه : كنا قوما من أهل الجنة فَسَبَانَا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهمّ والحزن حتى نَرِدَ إلى الدار التي أُخْرِجْنَا منها .
قال ابن القيم في هذا المعنى :
فَحَيّ على جنات عدنٍ فإنها = منازلك الأولى وفيها المخيّمُ
ولكننا سَبْي العدو فهل تُرى = نَعود إلى أوطانِنا ونُسَلَّمُ
ولذلك كان عنوان السعادة من اجتَمعتْ فيه ثلاث خصال : إذا أُعْطِي شَكَر ، وإذا ابْتُلْي صَبَر ، وإذا أَذْنَبَ استغفر .لأنه إن لم يَشكر زالت النعمة .. فإن النِّعَم إذا شُكرِت قرّت ، وإذا كُفِرتْ فرّت
إذا كنت في نِعمة فارعها = فإن المعاصي تُزيل النِّعَم
وإذا لم يصبر فاتَه الأجر ، وربما حصل له الوزر ، مع وقوع الْمُصَاب .
وإذا لم يَستَغفِر إذا أذنب ، فإنه قد أتى أبواباً من الشرّ :
أحدها : أنه آمِن مِن مكر الله .
ثانيها : أنه مُقيم على معصية مولاه .
ثالثها : أنه مُصرّ على ذنبه .
رابعها : أنه مُعرِض عن عفوَ مولاه ..
وقد قال الله جل في عُلاه : " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفرونى أغْفِرْ لكم " رواه مسلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو لم تُذْنِبُوا لذهب الله بكم ، وَلَجَاء بِقَومٍ يُذنِبُون فَيَسْتَغْفِرُون الله ، فَيَغْفِر لهم . رواه مسلم .(1/128)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : العبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر ، وذَنْبٌ منه يحتاج فيه إلى الاستغفار ، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائما ، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه ، ولا يزال محتاجا إلى التوبة والاستغفار . اهـ .
ومضى بعض هذا في مقال بعنوان :
عجبا لأمر المؤمن
http://saaid.net/Doat/assuhaim/259.htm
33-رُبَّ امرئ حَتْفُه فيما تَمَنّاه!
ربّ مُستَعْجَل فيه العَطَب
ورب مُدَرَك فيه الهلاك
كم يستعجل الواحد مِنّا الأماني
وكم يتلهّف شوقا إلى تحقيق الْمُراد
وكم يسعى لِنيل المطلوب
وكم .. وكم ..
كم من فتاة استعجلت الزواج ، فوافقت على أول الْخُطّاب حينما غرّها بِلين الْخِطَاب ! فَسَارَ بِهَا في غياهب المجهول ، وما علِمت أنه جَهول
أما هو فـ
زلّ وأزلّ
وضلّ وأضلّ
أضلّ أهله ، وأهلَكَ أهلَه
قاد زوجه إلى ما فيه هلاك الدِّين ..
وهي تأمل صلاحه
فلم يَصلح ولكنه فَسَد وأفسَد
كم فتاة استعجلت نصيبها .. فلم ترضَ بما قَسَمَ الله لها ، بل لم ترض بِحكم ربّها، فكان الموت أحب إليها ممن رضيَتْه، كم تَسَخَّطَتْ وضعها وتأخّر زواجها ، فلما نالتْ ما تَمَنّت .. تَمنّت الْمَنُون، فكان الموت أهون عليها من الْهَوان
ورُبّ امرئ حَتْفُه فيما تمناه
فتاة تزوّجت شاباً فاكتشفت في أسبوعها الأول أنه مُدمِن مُخدِّرات .. فراودها عن نفسها أن تبيع عرضها مُقابل حصوله على الْمُخدِّر ، فلم تتمالك نفسها إلا أن ضربته بِمُثقّل .. فَمات !
وأخرى بعد زواجها بفترة فوجِئت بأن زوجها يَطلب منها السَّفَر معه ، وشَرْطُ السفر خلع جلباب الحياء ! فَفَضّلَتْ أن تكون مُطلّقة عن أن تكون مُتَبرِّجة ..(1/129)
وثالثة رضيتْ شخصا لا يُعرف دِينه ولا خُلُقه .. فذاقت الويل ممن تظنّه الطَّلّ ! وهكذا .. رُبّ ساعٍ إلى السَّرَاب يحسبه ماءاً .. فلم يَزده طَلَب السَّرَاب إلا زيادة الظمأ، ورُبّ مُتسلِّق يَبحث عن عُشّ فَوَجده كومة من القشّ !
إن الْمُستَعجِل حَلِيفه الزلل
والمتأني يَبْلُغ دون المستعجل
قد يدرك المتأني بعض حاجته = وقد يكون مع المستعجل الزلل
ورب طالِب للوَلَد ، وفي الولد طُغيان وكُفر .. (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) . وليس ثَمّ مثل الصّبر والرِّضا ..
وفي المستطرف :
فمن هَداه الله تعالى بنور توفيقه ألهمه الصبر في مواطن طلباته ، والتّثبّت في حركاته وسكناته ، وكثيرا ما أدرك الصابر مَرامه أوْ كَادَ ، وفَاتَ المستعجل غرضه أو كَادَ .
قال الأشعث بن قيس : دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فوجدته قد أثّر فيه صبره على العبادة الشديدة ليلا ونهارا . فقلت : يا أمير المؤمنين إلى كم تصبر على مكابدة هذه الشدة ؟
فما زادني إلا أن قال :
اصبر على مضض الإدلاج في السحر = وفي الرَّوح إلى الطاعات في البكر
إني رأيت وفي الأيام تجربة = للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلّ من جَدّ في أمرٍ يُؤمّله = واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
قال : فحفظتها منه ، وألزمت نفسي الصبر في الأمور ، فوجدت بَرَكَةَ ذلك . اهـ .
وفي وصايا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : ارضَ بما قَسَم الله لك تكُن أغنى الناس . رواه الإمام أحمد والترمذي .
قال بعض السلف : لو اطّلع ابن آدم على ما صُرِف عنه وما قُدِّر له ، ما اختار غير ما اختاره الله له .
وقال تعالى : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)(1/130)
قال الحسن في معنى الآية : لا تَكْرَهُوا الملمّات الواقعة ، فَلُرُبّ أمْرٍ تكرهه فيه نجاتك ، ولَرُبّ أمْرٍ تحبّه فيه عَطَبُك .
وأنشد أبو سعيد الضرير :
ربّ أمْرٍ تَتّقِيه = جرّ أمْراً ترتضيه
خَفِي المحبوب مِنْه = وبَدا المكروه فيه
وفي كلام العامة : كل تأخيره وفيها خِيرة !
فإلى كل مُستعجِل .. تأنّ فـ :
رُبّ امرئ حَتْفُه فيما تمناه
وفي مأثور القول :
إذا كنت مُستعجِلاً فَسِرْ على مَهَل = فربما صادَف المستعجِل الزلل !
34-وما يُدريك ؟ لعل هذا المُحتقَر يُساوي آلاف البشر..
عندما يُراد معرفة شخص ما .. فإنه يُسأل عن :
عمله !
أو عن مالِه !
أو عن وضعه الاجتماعي !
أو عن قبيلته وعشيرته !
وهذه الموازين لم يحفل بها الإسلام ، ولم يولِها عناية كما يوليها الناس اليوم .
فـ " كم من أشعث أغبر ذي طمرين . لا يؤبه له . لو أقسم على الله لأبرّه "
و " رب أشعث مدفوع بالأبواب . لو أقسم على الله لأبرّه "
ثيابه بالية ... غير ذي شأن ... لا يؤذن له . بل يحجب ويُطرد لحقارته عند الناس .
ولكنه عند الله ليس بمحتقر .
بل هو عند الله عظيم .
يُساوي الآلاف ممن أُوتي الدنيا !
مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ما تقولون في هذا ؟
قالوا : حريٌّ إن خَطَب أن يُنكح ، وإن شَفَع أن يُشفع ، وإن قال أن يُستمع .
قال : ثم سكت .
فمرّ رجل من فقراء المسلمين . فقال : ما تقولون في هذا ؟
قالوا : حَريٌّ إن خطب أن لا يُنكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يستمع .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا . رواه البخاري .
هذا في المقاييس الشرعية
أما في مقاييس الناس فبحسب ما يملك ... وبقدر ما يرفعه الدينار والدرهم !
أو بِمَا له من مكانةٍ ومنصب !
وما هذه - بموازين الشرع - إلا أقل من بعض جناح بعوضة !
وليست بِعلامة على رضا الله عن العبد ؛ لأن الله يُعطي الدنيا من يُحبّ ومن لا يُحب لهوانها عنده .(1/131)
وما هذه الأشياء بدليل كرامة العبد على ربِّه .
وإلا لما اختار نبي الله – صلى الله عليه وسلم – أن يكون عبداً رسولا .
ولقد مات مصعب بن عمير ولم يترك إلا ثوباً ، كانوا إذا غطوا به رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غُطي بها رجلاه خرج رأسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غطوا رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر .
لقد كان كريماً مُكرّماً عند الله ، ولكن المظاهر لا تُسمن ولا تُغني من جوع !
وهذا سيّد من سادات التابعين ... يُخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أوانه .
بل ويوصي فاروق الأمة بأن يطلب منه الدعاء !
فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمدادُ أهل اليمن سألهم : أفيكم أويسُ بن عامر ؟
حتى أتى على أويس . فقال : أنت أويسُ بن عامر ؟
قال : نعم .
قال : من مراد ، ثم من قَرَن ؟
قال : نعم .
قال : فكان بك برص ، فَبَرأت منه إلا موضع درهم ؟
قال : نعم .
قال : لك والدة .
قال : نعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن ، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم ، له والدةٌ هو بها برٌّ . لو أقسم على الله لأبرَّه ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل . فاستَغفِرْ لي . فاستغفر له .
فقال له عمر : أين تريد ؟
قال : الكوفة .
قال : ألا أكتب لك إلى عاملها ؟
قال : أكون في غبراء الناس أحبُّ إليّ !
قال : فلما كان من العام المقبل حجّ رجل من أشرافهم فوافق عمر ، فسأله عن أويس .
قال : تركته رثَّ البيت ، قليل المتاع .
قال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن ، كان به برص فبَرأ منه إلا موضعَ درهم ، له والدةٌ هو بها برٌّ ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل .
فأتى أويسا فقال : استغفر لي .
قال أنت أحدث عهدا بسفر صالح ، فاستغفر لي .
قال : استغفر لي .(1/132)
قال : أنت أحدث عهدا بسفر صالح ، فاستغفر لي .
قال : لقيتَ عمر ؟
قال : نعم .
فاستغفر له ، ففطن له الناس ، فانطلق على وجهه . رواه مسلم .
هذه صفته : رثَّ البيت ، قليل المتاع !
وما ضرّه ذلك .
أليس الإمام الفذ ، والعالم النحرير ، والرجل الشريف جبل العِلم محمد بن إدريس . الإمام الشافعي هو الذي يقول :
عليّ ثيابٌ لو تُباع جميعها *** بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وما ضرّ نصل السيف إخلاق غِمده *** إذا كان عضباً حيث وجّهته بَرَى
فإن تكن الأيام أزرت ببزّتي *** فكم من حسام في غلاف تكسّرا
وما ضرّه ذلك .
بل هو حيٌّ يعيش بيننا
وهو القائل :
كم مات قوم وما ماتت مكارمهم *** وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ !
وهو من الصنف الثاني :
الناسُ صنفان : موتى في حياتهمُ *** وآخرون ببطن الأرض أحياء
فليست قيمة الإنسان بما يلبس من ثياب ، ولا بما يركب من مراكب ، ولا بما يتبوأ من مناصب .
وقد دخل رجل على الرشيد فازدراه الرشيد ، فأنشده :
ترى الرجل الخفيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير
لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير
يصرفه الصبي بغير وجه ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي فلا عار عليه ولا نكير
فإن أكُ في شراركمو قليلا فإني في خياركمو كثير
أيها الكرام :
لقد أدركت من أدركت من علمائنا وليس لهم قصور فاخرة ... ولا سيارات فارهة ، بل – والله – إن بعضهم لو جُمعت ملابسه وبيعت في السوق لربما ما وجدت من يشتريها ! لزهادتها .
وما ضرّهم ذلك .
بقي ذِكرهم ... وعِلمهم ... وطلابهم بلغوا الآفاق .
وهذا الذي ينفع عند الله .
كم تأخذ عقولنا - قبل أبصارنا - المظاهر الجوفاء ، فنحتقر بسببها – أحياناً – بعض عباد الله .
إما لجنس أو لِلون أو لجنسية أو لانتماء إلى بلد ونحو ذلك .
وربما كان ذلك المحتقر في أعيننا يساوي ملء الأرض من مثلنا
ربما كان عاملاً فقيرا
أو خادمة ذليلة(1/133)
أو ...
ولكنه عند الله عظيم القَدْر ، رفيع الشأن .
فكم هي الموازين التي بحاجة إلى تعديل
وكم هي الأمور التي بحاجة إلى ضوابط شرعية لا ضوابط أرضية
جال هذا في خاطري وأنا أرى رجلاً قوي الساعد مفتول العضلات يُهدد عاملاً يفترش الأرض ويبيع السِّواك ، ويقول له : إن لم تقُم عن هذا المكان ركلتك وبضاعتك !!!
ماذا لو كان هذا البائع خليجياً ؟؟؟!!!
لا شك أن النظرة سوف تختلف !!!
أليس كذلك ؟؟؟
بلى !!!
وأستودعكم الله .
35-يا أُخيّه .. إن الله اصطفاكِ ..
أنتِ يا أُخيّه
نعم أنتِ
أنتِ من اصطفاكِ الله
أنتِ من اختارك مولاك
أنتِ من شرّفك خالِقك
أنتِ من رفع قدرك إلهك
أشعرت أن الله اصطفاك على نساء العالمين ؟
لقد منّ الله على مريم البتول فقال : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)
فهل تأملت في هذا الاصطفاء أُخيّه ؟
أشعرتِ أن لك جزءاً من هذا الاصطفاء ؟
وأنّ لك قدراً من هذا الاختيار ؟
أنتِ مختارة الكون
أنت درة الدنيا
كيف ؟
ألم يُشرّفك ربك ومولاك بالإسلام ؟
ألم يمنّ عليك أن جعلك أمَة له ؟
ويمنّ عليك أخرى أن جعلك من أتباع خاتم الأنبياء والمرسلين .
ومما زادني شرفا وفخراً *** وكِدتُ بأخمصي أطأ الثريّا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّرت أحمد لي نبيّا
أنتِ يا أُخيّه
لقد اختارك الله على ملايين البشر
واصطفاك على أمم الأرض
فَجَعَلك مسلمة موحِّدة لله عابِدة
في حين أن أكثر أهل الأرض على ضلال وفي ضلال ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ )
نعم .. هم في شك وحيرة
وأنتِ على يقين
هم في خوف وقلق
وأنت في أمن وأمان
هم لا يرجون الله والدار الآخرة
وأنتِ في رضا مولاك ساعية
هم يخافون مما يُخبئه المستقبل
وأنت في طُمأنينة الإيمان
في دَعَةٍ وسَكينة(1/134)
تعلمين أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك ، وأن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك
تعلمين أن رزقك لا يُنقِصه التّانِّي
تعلمين علم يقين أنك على الحق المبين
تنامين ملء جفونك
وتظلّ عيونهم ساهرة
تأوين إلى دوحة القرآن
فيأوون هم إلى هجير الأغنية الماجنة ، وإلى سَمُوم الموسيقى الصاخبة !
إذا ضاقت عليك الأرض رفعتِ طرفك للسماء
وإذا ضاقت بهم السُّبُل لجأوا إلى من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .
أنتِ مؤمنة .. وكفى
وأمم الأرض كافرة شقية
منهم من يغو إلى بيعة ، أو يذهب إلى كنيسة
منهم من يسجد لشجر أو لحجر
بل منهم من ينحني أمام حيوان بهيم
وأنت في شموخك كأنك النخلّة الشمّاء ، لا تنحني هامتك إلا لِخَالِقِك
وأنتِ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء
من أجل ذلك شبّه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة .
هم - يا أُخيّه - يضعون جباههم بين أقدام العبيد خضوعا لكل بليد !
وأنت تضعين جبهتك على الأرض خضوعا لسيِّدك ومولاك
أشعرتِ يا أُخيّه .. أنك لست رميّة .. ؟ أشعرت أنكِ مختارة الكون ؟
وأنك مصطفاة على العالمين ؟
ألا يحق لك الفخر بذلك ؟
عندما تُقدّم جنازتك تقف جموع المصلِّين ، كبيرهم وصغيرهم ، أميرهم ومأمورهم ، ووزيرهم وفقيرهم .. يقفون جميعاً لِيُصلُّون عليك ..
وأعجب حينما يكون ذلك في أطهر بقعة .. حينما يكون ذلك بجوار البيت الحرام .
أي تكريم ؟
وأي عِزّة ؟
وأي رِفعة ؟
وأي حياة تعيشها المرأة المسلمة في ظل الإسلام ؟
إن أعداءك حسدوك هذا الشّرف
وأرادوا سرقة هذا الجاه
وسعوا سعياً حثيثاً لهدم مَجْدِك
وأرادوا إنزالك من عليائك
فأنتِ في الحصنِ أُخيّه
قال ابن الجوزي :
" يا مختار الكون وما يعرف قدر نفسه "
فهلاّ عرفتِ قدر نفسك ؟
36-أيها الآباء .. لا تبغوا الفساد في الأرض !
لا يُتّهم والد بِولدِه ..
لا يُتّهم أنه قَصَد أذاه ..
كما لا يُتّهَم على حُبِّه ..
فالوالد مُحبّ لأولاده ، شَفيق عليهم ، ودود لهم ..(1/135)
وتلك فِطرة فَطَر الله عليها جميع المخلوقات
وذلك من أثر تلك الرحمة التي أنزلها الله
وفي الحديث : " جَعَلَ الله الرحمة في مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جُزءا ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا ؛ فمن ذلك الْجُزْء يَتَرَاحَم الْخَلْق ، حتى تَرفع الفَرَس حافرها عن ولدها ، خشية أن تصيبه " رواه البخاري ومسلم .
لذا فإن الوالد ليس بِمتّهم في وَلَدِه ..
وقد نّصَ الفقهاء على أن " شفقة الأبُوّة شُبهة مُنْتَصِبَة شاهِدة بِعَدم القصد إلى القَتْل ، تُسْقِط القَوَد " وهو القِصَاص .
فالأب غير ظَنِين في أولاده .. فليس بِمتّهم ..
ولذا فإن كل أبٍ يَسْعى لإيصال الخير لأولاده ..
إلا أن من الآباء من قد يُخطئ الطريق .. فيَضُرّ حين كان يَروم النفع !
رامَ نَفْعاً فَضَرَّ مِن غير قَصْد = ومِن البِرِّ ما يكون عقوقاً !
قد يَرى أن الخير لهم فيما رآه ..
أو يَرى أن الْخِيرة فيما اختاره لهم ..
فيَحمِله ذلك ويَدفَعُه على فَرْض رأيه ..
أو تنفيذ مَطْلَبِه ..
وإن كان ذلك مُتعلِّقاً بِحياة أولاده ..
وإن كان فيه اختيار أسلوب حياتهم ..
أو اختيار من يَعيشون معهم من أزواج وزوجات !
ونَسي أو تَناسَى أنه بشر يُخطئ ويُصيب ..
وأن اختياره لهم قد يَكون هو الأسوأ
وقد يُوصِل إلى الهلاك !
أو يُوقِع في الرَّدَى
وشواهِد العصر كثيرة !
رجل زوّج ابنته من غير سؤال ، ولا معرفة بِدِين أو خُلُق الخاطب .. ثم كَشَفَتِ الأيام عن لؤم ذلك الزوج .. الذي عَرَض على زوجته أن تَبيع دينها وإيمانها وعفافها .. مُقابِل حصوله على المخدِّرات !
فما كان منها إلا أن تناولت تُحفة من أحد زوايا البيت فضربته .. فأرْدَتْه قَتيلاً !
فكان مأواها السِّجْن .. وهذا اختيار الأب !
وهي لن تَلُوم نفسها .. بل سوف تُلقي باللائمة على أبيها !
وأخرى زوّجها أبوها قريب لها .. فكان سِكِّيراً خِمّيراً !(1/136)
فسافرا بعد الزوج إلى بلد من بلاد الكفّار ! فَدَخَل خمّارة فشرِب حتى ثَمِل ! ولم يَقْصُر الشَّرَاب على نفسه بل سَقَى زوجته !
ثم دَخَلا مَرْقَصاً .. فرقصا .. ثم افتَرقا .. فلما سَقَط حُمِل إلى غرفته .. ولما صَحَا مِن سُكره في صباح اليوم التالي .. بَحث عن زوجته فلم يَجِدها .. فأبلغ الشرطة ، فَبَحَثُوا عنها فوجدوها سَكْرى في حضن كافر !
وذلك كان نتيجة اختيار الأب !
والقَصَص كثيرة .. وسَردها يَطول .. وحَسْبُك مِن القِلادة ما أحاط بِالعُنُق !
ألا أيها ألآباء .. لا تَبْغُوا الفساد في الأرض ..
فإن النبي صلى الله عليه وسلم جَعَل مدار قبول الخاطب على أمرين :
أن يكون مَرْضِيّ الدِّين
وأن يكون مَرْضِيّ الْخُلُق
قال عليه الصلاة والسلام : إذا خَطَبَ إليكم من تَرضَون دِينه وخُلُقَه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض . رواه الترمذي .
وقال عليه الصلاة والسلام : إذا جاءكم من تَرضون دِينه وخُلُقَه فأنْكِحُوه ، إلاّ تفعلوا تَكُن فِتنة في الأرض وفَساد . قالوا : يا رسول الله ! وإن كان فيه ؟! قال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنْكِحُوه . ثلاث مرات . رواه الترمذي .
" أي إن لم تُزَوِّجُوا الخاطِب الذي تَرضون خُلُقه ودِينه (تكن) تَحْدُث (فتنة في الأرض) (وفساد) خروج عن حال الاستقامة النافعة الْمُعِينَة على العفاف " قاله المناوي .
وقال أيضا : " يعني أنكم إن لم تَرْغَبُوا في الْخُلُق الْحَسَن والدِّين الْمَرْضِيّ الْمُوجِبَين للصلاح والاستقامة ، ورغبتم في مُجَرّد المال الجالب للطغيان الجارّ للبغي والفساد " تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " .
أو المراد إن لم تُزَوِّجُوا من تَرْضَون ذلك منه ، ونَظَرْتُم إلى ذِي مَالٍ ، أو جَاهٍ ؛ يَبْقَى أكثر النساء بلا زوج ، والرجال بلا زوجة ؛ فيكثر الزنا ، ويلحق العار ، فيقع القتل .. فَتَهِيج الفِتَن ، وتَثُور الْمِحَن " ..(1/137)
وهذا يَعني أن من اختار من ألأولياء تَزويج مَن لا يُرضى دِينه وخُلُقه .. أنه طالب للفساد ! مُبْتغٍ للفتنة !
وفي الحديث من الفوائد :" أن المرأة إذا طَلَبَتْ من الولي تزويجها من مُسَاوٍ لها في الدِّين لَزِمَه " كذا قال المناوي .
ومن ذلك الفساد الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتأخّر زواج الفتاة .. وقد يَحمِلها ذلك – إن لَمْ تُراقِب الله – على مواقعة الفواحِش ..
فتاة .. وقعت في الفاحشة .. ثم دَخلتِ السِّجن .. فسألوها عما حَمَلها على ذلك ، وعن سبب وقوعها في الفاحشة ..
فقالت :
أبي – لا سامحه الله – !
قالوا : كيف ؟
قالت : كان يَردّ الخطّاب منذ أن كان عمري ثمانية عشر عاماً .. فلما أكثر مِن ردِّهم .. لم يَطرُق أبوابنا خاطِب .. حتى جاوزت الثلاثين .. فأردت أن أنتقِم من أبي بهذا الفِعل !
إننا لا نرى هذا عُذراً أمام الله .. ولا نُسوِّغ هذا .. ولا – والله – لا نتمنّاه لِبنات المسلمين ..
ولكن هذه عِظة وعِبرة
وهذا من الفساد العريض ..
ألا تَرون أن ذلك الأب يتحمّل وِزر تلك الجناية ؟!
ومن ذلك الفساد .. أن يُعاقَب الوليّ الذي ردّ الأكْفَاء – أو الفتاة التي ردّتِ الأكْفَاء – يُعاقَبون بتأخّر الزواج .. وقد يَفوت القِطار !
حدّثني من أثِق به .. أن شاباً خَطَب فتاة .. فرفضوه دون عُذر شرعي .. فخطب أخرى فتزوّج .. ثم رُزِق بِذُرِّيّة .. قال : وبلغ ابنه الثانية عشرة مِن عُمره .. وهي لم تتزوّج !
وآخر – أعرفه – خَطَب فتاة فَردّوه أهلها بِحجّة واهية .. فتأخّر زواجها قُرابة عشر سنوات ..
فاعتبروا يا أولي الأبصار ..
فإن هذا مما يَدخُل تحت : الفساد الكبير .. والفساد العريض ..
وكل هذا من الفِتن ..
وإن تَعْجَب فاعْجَب لآباء وأولياء .. يَتَقدَّم إليهم الخاطب الكفء .. الذي يُرضى دِينه وخُلُقه .. فَيَردّونه لأتْفَه الأسباب !(1/138)
ويُريدون من موليّاتهم قَبول مَنْ يَتقدَّم لِخطبتهنّ من أقاربهم .. وإن كانوا من أفجر الناس .. بل ولو كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر !
فلو كان القريب تارِكاً للصَّلاة .. أو كان مُعتقِداً للباطِل .. قَبِلُوه ..
وقد يَكون القريب أراد رَفع قريبه بِمُصاهَرتِه !
فعن عائشة رضي الله عنها أن فتاة دَخَلَتْ عليها ، فقالت : إن أبي زوّجني ابن أخيه ، ليرفع بي خسيسته ! وأنا كارهة . قالت : اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فأرسل إلى أبيها فدعاه ، فَجَعَلَ الأمر إليها ، فقالت : يا رسول الله قد أجَزْتُ ما صَنَع أبي ، ولكن أردت أن أُعْلِم أللنساء من الأمر شيء . رواه الإمام أحمد والنسائي .
وفي رواية لأحمد : ولكن أرَدْتُ أن تَعْلَم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء !
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية بِكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيّرها النبي صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
ولو كان البعيد تَقيّا نقيّا .. على خُلُق ودِين .. لرّدّوه أسوأ الرَّدّ !
بل وربما طَعنوا في دِينه وأمانته من غير بيّنة !
إن المقياس الشرعي لِقَبول الخاطِب : هو رضا الدِّين والْخُلُق .. ولا اعتبار بِغيرها
في حين أن من اعتبارات الناس اليوم :
كونه من نفس القبيلة !
كونه أعزبا لم يتزوّج !
بل ويشترط بعضهم كونه لم يَسْبِق له الزواج !
حتى قالت امرأة عن خاطِب ابنتها : " نُريده في قراطيسه " !!
فكان أن طُلِّقتْ ابنتها بعد سنة من زواجها ، ثم تزوّجتْ مرة ثانية ، فطُلِّقتْ ، وتزوّجت ثالثة !
لا أقول ذلك شامِتاً بل مُذكِّراً ومُعتَبِراً .
ومن اعتبارات الناس
كونه غنياً ذا وظيفة أو منصب !(1/139)
ناسِين أو متناسِين قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .
" قيل : الغِنَى - هاهنا - القناعة . وقيل : اجتماع الرِّزْقَين : رِزْق الزوج ورِزْق الزوجة . وقال عُمَر : عَجِبْتُ لمن ابتغى الغِنَى بغير النكاح " ذَكَرَه القرطبي .
غافِلين أو مُتغافِلين عن قوله عليه الصلاة والسلام : ثلاثة حَقّ على الله عز وجل عَونهم : المكاتب الذي يُريد الأداء ، والناكِح الذي يُريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله . رواه الترمذي والنسائي ، وهو حديث صحيح .
فأين نحن من هذا الضمان الرباني والضمان النبوي ؟!
وكم من الناس كانت لديه وظيفة أو كان غنياً ، ثم طُرد من وظيفته ، أو افتقر بعد غِنَى ؟!
فليست الوظيفة هي التي تَضْمَن الرزق ، ولكن الرزق في السماء : ( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ )
ولِيُعْلَم أن من مُقتَضى الإيمان الاستسلام والتسليم لله عز وجّل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ..
قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا)
وهذه الآية نَزَلَتْ في شأن الرضا بالخاطب أيّاً كان ، إذا كان مَرضيّ الدِّين والْخُلُق .
قال ابن كثير : قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه فامتنعت ثم أجابتْ . اهـ .
كما أن ردّ الخاطب الكفء ردّ لأمره صلى الله عليه وسلم ، وهذا سبب للفِتنة أيضا .
قال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1/140)
روى عبد الرزاق - ومِن طريقه أحمد - قال : أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم على " جليبيب " امرأة من الأنصار إلى أبيها ، فقال : حتى أستأمر أمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فَنَعَم إذاً . فانْطَلَقَ الرجل إلى امرأته فَذَكَرَ ذلك لها فقالت : لا ها الله إذاً ! ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيب ، وقد منعناها من فلان وفلان ؟! قال : والجارية في سِترها تَسْمَع ، قال : فانطلق الرجل وهو يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ إن كان قد رضيه لكم فأنْكِحُوه ، فكأنها جَلَتْ عن أبويها ، وقالا : صَدَقْتِ ، فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن كنت قد رضيته فإني قد رضيته . قال : فتزوجها ثم فزع أهل المدينة ، فَرَكِبَ " جُليبيب " فوجدوه قد قُتِلَ ، ووجدوا حوله ناساً من المشركين قد قَتَلَهم . قال أنس : فلقد رأيتها وإنها لأنْفَق بنتٍ بالمدينة !
وفي رواية للإمام أحمد من حديث أبي برزة رضي الله عنه . قال ثابت : فما كان في الأنصار أيِّمٌ أنْفَقَ منها . وحَدَّث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتا قال : هل تعلم ما دَعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : اللهم صُبّ عليها الخير صَبًّا ، ولا تجعل عيشها كَدًّا كَدًّا . قال : فما كان في الأنصار أيِّمٌ أنْفَقَ منها .
فاتّقوا الله أيها الآباء والأولياء ..
اتّقوا الله في موليّاتكم
اتقوا الله .. ولا تَبْغُوا الفساد في الأرض .
اتقوا الله .. ولا تَكونوا من المفسِدِين ..
فـ (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)
و " إذا خَطَبَ إليكم من تَرضَون دِينه وخُلُقَه فزوجوه ، إلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فتنة في الأرض وفساد عريض "
37-حقيقة سعادة الكفار .... كيف ؟ وهل هم سعداء ؟؟(1/141)
قال ابن القيم في قوله تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم ) .
قال : هذا في دورهم الثلاث ليس مختصا بالدار الآخرة وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك ، كما قال تعالى : ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) .
فالأبرار في نعيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة .
والفجار والكفار في جحيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة . انتهى .
وقد يرد إشكال من بعض الناس ، وقد قرأته في بعض المنتديات ، وهو :
نحن نرى الكفار في نعيم في دنياهم وسعادة !!
فأقول :
أولا : لا بد أن يعلم أن الدنيا جنة الكافر . كما في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم .
فما يمتّع به الكافر هو جزء من هذه الجنة ، أي جنة الدنيا وزهرتها ، وهذا بالنسبة للنار يُعتبر جنة بما فيه من مشكلات ومنغصات .
ثانيا : أن الكفار في جحيم في دورهم الثلاث ، وبيان ذلك أنهم في الدنيا ليسوا في راحة نفسية ولا في طمأنينة كما هو الحال عند المسلم الموقن ، الذي يعلم أين مصيره بعد الموت ، وأنه وإن فاتته هذه الدنيا فإنه موعود جنة عرضها السماوات والأرض .
والكافر يعيش الخوف والقلق على المستقبل ومن المستقبل .
ولذا لما قرب عام 2000 م انتحر من انتحر ظنا منهم أنها نهاية الدنيا ، وكذلك حدث عند اقتراب خبر الكسوف الكلي للشمس في نفس العام عندهم .
ثم إن الكافر في جحيم لأن وعد الله حق ، والله لا يخلف الميعاد ، ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) وكلما زاد البعد عن الله ازداد الضيق والضنك .
وقال تبارك وتعالى : ( ومن يُشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق )
وفي الآية الأخرى قال جل وعلا : ( ومن يُرد أن يُضلّه يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
وجاء في تفسير هذه الآية :
أن صدر الكافر ضيّق كضيق التنفس لدى من يصعد طبقات الجو .(1/142)
ويدل على شدة الضيق وزيادة الضنك كثرة حوادث الانتحار في بلاد الكفار .
وهي نسب متزايدة في كل عام .
لكن من يعيش خارج تلك المجتمعات يرى بريق الحضارة ويعمى أحيانا عن حقيقة حياة القوم ، فهي حياة شقاء في شقاء ، وتعاسة تتلوها تعاسة .
لقد بلغوا شأنا في الحضارة المادية بل لعلهم بلغوا قمة الحضارة المادية ، غير أن ذلك على حساب الروح والأخلاق .
فكلما ارتفعت صروح الحضارة كلما تهاوت القيم والأخلاق والمبادئ .
وصدق الله القائل في محكم التنزيل : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )
والمعنى أن الذين آمنوا ولم يُخالط إيمانهم شرك - كما فسّره بذلك النبي صلى الله عليه وسلم - أن لهم الأمن في الدنيا والآخرة ، الأمن بنوعيه : الأمن النفسي والأمن الحسي .
وهم مهتدون فلهم الهداية في الدنيا والآخرة .
والكافر وإن أمِن في الدنيا فإنه أمان حسي ، وهو ما يكون في الديار ، إلا أنه ليس في أمان نفسي .
وحدثني بعض المسلمين الذين يُقيمون في أوربا أنهم عاشوا سنين مسغبة وفقر عند قومهم لأوربا أول مرة ، وكان أحدهم يرى بعض الكفار ممن انقطعوا عن العمل أو طُردوا منه وعندهم من الأموال ما يكفيهم فكانوا يرون في وجوههم القلق والاضطراب ، بينما أولئك المسلمين يمزحون ويتضاحكون ، وإن أكلوا الخبز الجاف !! وإن طبخوا القهوة في قدر !!
فقلت لهم :
هذا هو الغنى الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس - كما في الصحيحين -
فلو كان لابن آدم أودية الدنيا ذهبا وهو خائف قلق عليها لما تحقق له الغنى النفسي ولما تحقق له الأمن النفسي ..
38-الغرب والغُراب !
قديما قيل :
إذا كان الغُراب دليل قوم *** دلّهمُ على جِيَف الكلاب
ولعل من الطريف التقارب بين لفظ الغَرب وبين اسم الغُراب ، والغَرب اليوم يُطلق على دول الحضارة المادّية .(1/143)
وهذا التقارب في اللفظ له تقارب في الحقيقة ، فالغراب لا يَقع إلا على الجِيَف ، والغرب يُصدّر كلّ فِكر مُنحرف !
كل فِكر مُنحرِف عن الصراط المستقيم
كل فكر مُنحرف عن العفاف والحياء
كل فكر منحرف عن جادة الصواب
كل فكر منحرف عن الدِّين والعَقْل
وكما يُقال : ليس بعد الكُفر ذنب !
فالنُّظُم المالية المنحرفة صدّرها الغرب إلينا
والعُريّ صدّره الغرب
والأمراض الفتّاكة ( كالإيدز وما يتبعه ) صدّره الغرب
ولذا كانت الأمراض الجنسية تُسمى عند العامة بـ ( الفرنج ) نسبة إلى الفرنجة !
وهذا ليس بِمستغرب إذا ما علمنا أن الكُفر مصدر كل شرّ ..
فالسِّحر والحروب الفتّاكة هي في الأصل بضاعة يهودية ، وبهذا صرّحت آيات الكتاب العزيز ..
قال تعالى عن اليهود : (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) .
وقال عنهم أيضا : (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) فالضمير يعود على اليهود ، إذ أن الآيات في الحديث عن اليهود ، ففي الآيات قبلها : (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) ويمضي سياق الآيات في شأن اليهود ، (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) وهذه في اليهود خاصة ..
فهذا يدلّ على أن اليهود مصدر شرّ ، بل هم من الْمُصدِّرين للشرّ ظاهراً وباطنا ، من سِحر وحروب وكيد وعداء وقتل للأنبياء .. إلى غير ذلك مما يَطول ذِكره ، ومما هو معروف في تاريخ القوم الْبُهْت – كما قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه – (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) .
كما لا يَعني أنه لا يكون عند المسلمين أفكار مُنحرفة ، ولا أخلاق سيئة ..(1/144)
إلا أن المتأمّل في شقّ صفوف الأمة ، وتفريق شملها يَجد أن يد اليهود وراء بعض ذلك ، وما خبر ابن السوداء [ ابن سبأ ] عَنّا ببعيد ..
والمتأمّل لما يَجري اليوم في بعض ساحات الصِّراع يَجد أيدي اليهود الخفيّة ، والتي عَبثتْ بالغرب وساسته ، والتي يَعترف اليهود أنهم يُديرون دفّة الغرب ، ويُمسكون بزمام قِيادِه !
ومن تلك الدسائس والْمَكْر الكبّار طعن الأمَّة في خاصرتها بأيدي بعض أبنائها وبعض بناتها الذين تنكّروا لها ، والذين ارتشفوا الزندقة ، وشرِقُوا بالإسلام ..
وما ذلك إلا لِعلمهم أن أبناء البلد أعرف به وأقرب إلى أهله ..
ومن هذا القَبِيل ما قامت به فرنسا إبّان احتلالها للجزائر ، حيث قامتْ فرنسا – ومن أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر – بتجربة عملية ، حيث تم انتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات ، أَدْخَلَتْهُنّ الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية ، وألبستهن الثياب الفرنسية ، ولقّنتهن الثقافة الفرنسية ، وعلمتهن اللغة الفرنسية ، فأصبحن كالفرنسيات تماماً !
وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هُيأت لهن حفلة تخرج رائعة ، دُعِيَ إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون ... ولما ابتدأت الحفلة فوجيء الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري ..
فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت : ماذا فَعَلَتْ فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً ؟؟!!
أجاب ( لاكوست ) وزير المستعمرات الفرنسي : وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا ؟!! [ قادة الغرب يقولون : دمّروا الإسلام أبيدوا أهله . تأليف الأستاذ : جلال العالم ] .
وهذا يَعني عناية الغرب بهذا الجانب منذ زمن مُبكّر !
فهم يَعلمون أثر أبناء الأمة وبناتها إذا مُسِختْ عقولهم ، ثم رَجعوا إلى بلادهم بألسنةٍ عربية ، وأردية عربية ، وأفكار غربية غُرابِيّة !(1/145)
ولِيُعلَم أن هذا الحرص ليس من أجل النهوض ببلاد الإسلام ، ولا من أجل الحريّات – زعموا – ولا أعاروا حقوق الإنسان اهتماماً ، ولا ألقَوا له بالاً !
وإنما هَمّ القَوم هَمّ !
همّهم أن يبتعد الناس عن الدِّين والتديّن !
ولا أدلّ على ما تفعله الحكومات الغربية مع رعاياها من أبناء المسلمين ..
فإنك لو زُرت جالية مسلمة في بلد غربي لرأيت ما لا ينقضي منه العَجَب في ظل تَعالِي النَّعِيب بحقوق الإنسان !
بل في المدينة التي يُوجَد بها مقرّ منظمة حقوق الإنسان ! توجد أماكن يُصلي فيها المسلمون لا تصلح للتخزين فضلا عن الصلاة !
وفي تلك الدول يُمنع رَفع الأذان بينما تُصمّ الآذان بأصوات النواقيس !
ويُمنع الذبح الإسلامي بينما تُقتل البهائم بِطُرُق وحشية !
بل يُقتَل الإنسان أمام نظر وسمع الغرب الذي لا يُحرّك ساكنا إذا كان المقتول مُسلِماً !
أخلص من ذلك إلى أن الغرب هو غراب العصر !
ومن سار خلفه من بني جلدتنا قادَ أمته إلى الهلاك في الدنيا ، وإلى النار يوم القيامة
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعاة الباطل فقال : دُعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها . قال حذيفة : قلت : يا رسول الله صِفْهُم لنا . قال : هم من جِلْدَتِنا ، ويتكلّمون بألسنتنا . رواه البخاري ومسلم .
ومن بني جِلدتنا من يُنادي اليوم بِخروج المرأة ، إلا أنه – بِحمد الله – لا يستطيع أن يُصرّح بذلك لِعلمه بأن بلاد الحرمين – منبع الرسالة ، ومأرز الإيمان – لا يُمكن إعلان ذلك فيها بكل صراحة !
فيتّزر بعضهم بإزار حقوق المرأة !
ويرتدي آخر رداء المساواة !
وهم يلبسُون مُسوح الضأن على قلوب الذئاب !
والمقصد – أولاً وأخيراً – خروج المرأة في كل مكان ، وعملها في كل ميدان .
ودعونا ننظر في تجارب الأمم المعاصِرة .. وما الذي أدى إليه خروج المرأة ، لا على المرأة فحسب بل على المجتمع أجمع ، بل على مستوى الدُّوَل !(1/146)
يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه الحافل : المرأة بين الفقه والقانون :
على إثر خروج المرأة الأمريكية ، وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على مشروع قانون يَسمح للمحاكم بمعاقبة الأمهات غير المتزوجات ! اللواتي يُنجبن طفلين أو أكثر بالسجن من سنة إلى سنتين !!
ثم يقول : " مسكينة المرأة الغربية ! أخرجوها من بيتها ، ودفعوها إلى العمل في المصانع وغيرها ، فلما أنْتَجَتْ هذه الفلسفة نتيجتها الطبيعية قاموا يُعاقبونها بالسجن من سنة إلى سنتين !"
ونشَرَتْ الدكتورة " أيدا أيلين " بحثاً بيّنَتْ فيه : أن سبب الأزمات العائلية في أمريكا ، وسِرّ كثرة الجرائم في المجتمع ، هو أن الزوجة تركت بيتها لِتُضاعِف دَخْل الأسرة ، فَزَادَ الدّخل ، وانخفض مستوى الأخلاق !
وقال الأستاذ شفيق جبري في كتابه " أرض السحر " :
" إن المرأة الأمريكية أخَذَتْ تَخْرُج عن طبيعتها في مشاركتها الرجل في أعماله ، إن هذه المشاركة لا تلبث أن تُضعضع قواعد الحياة الاجتماعية ، فكيف تستطيع أن تَعْمَل في النهار ، وأن تُعنى بدارها وبأولادها في وقت واحد ؟ "
ولما خَرَجتْ - أو بالأحرى أُخرِجَتْ - بدعوى المساواة تارة ، وبِدعوى إصلاح المجتمع تارة أخرى ، وبِدعوى تحرير المرأة تارات وتارات ! - لما فَعِل بها ذلك لم تتم مساواتها ، فلا هي التي تُرِكت كما كانت ، ولا هم بالذين ساووها - فِعلاً - مع الرّجل .
جاء في مفكرّة الإسلام [السبت 29 جمادى الأولى 1425هـ] ما نصّه :
في إحصائية المرتّبات الخاصة بموظفي وموظفات البيت الأبيض والتي نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" ونقلتها عنها جريدة أخبار اليوم المصرية في عددها الصادر السبت 17 يوليو 2004 جاء فيه :(1/147)
إن الرجال في البيت الأبيض يَحْصُلُون على دخل سنوي يصل معدله إلى 76,624 ألف دولار ، بينما تحصل النساء لنفس الوظيفة على 59,917 ألف دولار فقط ، وهو ما يعني أن النساء العاملات في البيت الأبيض تحصل على 78% فقط مما يحصل عليه الرجال .
وأضافت الصحيفة أن هذا هو المعدّل الموجود في أمريكا بشكل عام للفجوة بين الرجال والنساء . وبينما تتصاعد الأصوات في كثير من هذه البلاد أن المرأة في البلاد العربية والإسلامية تتعرض لظلم بين ولا تحصل على كثير من حقوقها لم نَجِد من يُعلّق على هذه الإحصائية في بلاد نُصرة المرأة وإعطائها حقوقها !! . اهـ .
وشهِد شاهد من أهل الدعاوى !
تقول إحدى زعيمات الحركة النسائية المعاصرة :
و" يُلاحِظ الأديب الرحّالة أن النساء أصبحن يُمارِسْنَ أعمال الرِّجال في مصانع السيارات ، وتنظيف الطرقات ، فيتألم لشقاء المرأة في صرف شبابها وعمرها في غير ما يتناسب مع الأنوثة والطبيعة والمزاج " !
هذا اعتراف منها ، واعتراف آخر لها تقول فيه :
" عُدْتُ من رحلتي للولايات المتحدة منذ خمسة أعوام ، وأنا أرثي لحال المرأة التي جَرَفَها تيّار المساواة الأعمى فأصْبَحَتْ شَقِيّة في كفاحها لكسب العيش ، وفَقَدَتْ حتى حُريّتها ! "
ونَشَرتْ إحدى المجلاّت الألمانية عام 1962م ما يلي :
" كانت المرأة الألمانية تُفتّش عن أناقتها .. وتَعتَنِي بإنجاب الأطفال وتربيتهم ، إلا أن تغييراً كبيراً طرأ على حياتها اليوم ، فأضحى همّها الأول أن تعمل من أجل كسب المال وجَمْعِه ، بِغَضّ النّظر عن حاجتها إليه أو عدمها ، فكثيرات أولئك اللاتي يعملن من أجل شراء سيّارة " !
ونَشَرَتْ مجلة " الأسبوع " الألمانية رسالة من امرأة ألمانية بتاريخ 29/8/1959م تقول فيها :
إنني أرغب البقاء في مَنْزِلي ولكن طالما أن " أعجوبة الاقتصاد الألماني الحديث " لم تشمل كل طبقات الشّعب فإن أمراً كهذا مستحيل وللأسف .(1/148)
هذه أمنية امرأة ألمانية قبل ما يُقارب الخمسين عاماً !
ترغب البقاء في مَنْزِلها !
وهؤلاء يَرغبون في إخراجها من منزلها !
وهؤلاء يتآمرون على بلاد الإسلام ..
قال"سامويل سمايلس " وهو أحد أركان النهضة الإنجليزية : إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل - مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد - فإن النتيجة كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية ، لأنه هاجم هيكل المنْزِل ، وقوّض أركان الأسرة ، ومزّق الروابط الاجتماعية .
ومن نتائج بعض الدراسات الأمريكية :
80% من الأمريكيات يعتقدن أن الحرية التي حصلت عليها المرأة خلال الثلاثين عاما هي سبب الانحلال والعنف في الوقت الراهن !
إن عاقلات النساء في أمريكا يَعْتَبِرْن دعاوى المساواة مؤامرة لا على المرأة فحسب بل على المجتمع الأمريكي بعامة !
ولذا لما أُجريت دراسة حول هذا المبدأ كان من نتائجها أن :
87% من عينة الدراسة قُلْنَ : لو عادت عجلة التاريخ للوراء لاعتبرنا المطالبة بالمساواة مؤامرة اجتماعية ضد الولايات المتحدة ! ولقاومْنَا اللواتي يرفعن شعاراتها .
تأمل في هذه العبارة :
" مؤامرة اجتماعية ضد الولايات المتحدة " ضِدّ الولايات المتحدة بأكملها وليس ضِدّ المرأة !
فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وتنبّهوا إلى مؤامرات هؤلاء الأوباش !
ولِيُعلَم أنهم لا يُريدون خيرا لا بالبلاد ولا بالعباد .
وأنهم هم الْمُفسِدون على الحقيقة ..
وصدق الله :
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) .
39-مَهَانَةُ نَفْس !
حينما تَسْمُو النَّفْس البشرية فإنها تَرتَقِي مَطالِع الجوزاء !ويَتْعب الجِسْم في تحقيق غاياتها ومطالِبها ..
وإذا كانت النفوس كبارا = تعبت في مرادها الأجسام
وتَسْتَلِذّ نَفْس الْحُرّ الْمُرَّ في سبيل التطلّع إلى العلياء
ومَن تَكُن العلياء هِمّة نَفْسِه = فَكُلّ الذي يَلقاه فيها مُحَبَّبُ(1/149)
وحِين تعلو هِمّة النَّفْس يَزداد قَدْرُها .. ويَرتفِع ثمنها !
يقول الإمام الشافعي :
علَيَّ ثياب لو يُباع جميعها = بِفَلْسٍ لكان الفَلْس منهن أكثرا
وفيهن نَفْسٌ لو يُقاس بمثلها = نفوس الوَرَى كانت أجَلّ وأخطرا
وما ضَرّ نَصْل السّيف إخلاق غِمده = إذا كان عَضْبا حيث أنفذته بَرى
فإن تكن الأيام أزْرَتْ بِبَزّتِي = فَكَم مِن حُسام في غِلافٍ مُكَسّرا
أما حين تَهُون النَّفْس على صاحِبها .. فإنه يَهون هو في أعْين الناس
مَن يَهُن يَسْهُل الهوان عليه = ما لِجُرْح بِمَيّتٍ إيلامُ
فإن الناس تَضَع الإنسان حيث يَضَع نَفْسَه
كما قال الجرجاني :
أرى الناس مَن دَاناهم هَان عندهم = ومَن أكْرَمَتْه عِزّة النَّفْسِ أُكْرِمَا
ومَتى هانَتِ النَّفْس عند صاحِبها دَسّاها وحقّرها بِكل خُلُق مرذول ! وصَغّرها بما يَشِينها وتَخَلّق بِكل خُلُق دنيء ولا يَرْضى بِالدُّون إلا دنيء !
قال ابن القيم :
فلو كانت النفس شَريفة كبيرة لم تَرْضَ بالدُّون ، فأصْلُ الخير كلّه بتوفيق الله ومشيئته ، وشَرَف النَّفْس ونُبْلها وكبرها . وأصْل الشّر خستها ودناءتها وصغرها . قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) ، أي : أفْلَح مَن كَبّرها وكَثّرها ونَمّاها بِطَاعَةِ الله ، وخَابَ مَن صَغّرها وحَقّرها بِمَعَاصِي الله ، فالنُّفُوس الشريفة لا تَرْضَى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحْمَدها عاقبة ، والنُّفُوس الدنيئة تَحُوم حَول الدَّنَاءات وتَقَع عليها ، كما يَقَع الذُّبَاب على الأقْذَار ، فالنَّفْس الشَّرِيفة الْعَلِيّة لا تَرْضَى بالظُّلْم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة ، لأنها أكبر من ذلك وأجَلّ ، والنّفْس الْمَهِينة الْحَقِيرة والْخَسِيسة بالضِّدّ مِن ذلك ؛ فَكُلّ نَفْسٍ تَمِيل إلى ما يُناسبها ويُشاكلها . اهـ .
وقال في ذِكْر عقوبات الذّنُوب :(1/150)
ومِن عُقُوبَاتها : أنها تُصَغّر النَّفْس وتَقْمَعَها وتُدَسّيها وتُحَقّرها حتى تصير أصْغَر كل شيء وأحْقَره ، كما أن الطاعة تُنَمِّها وتُزَكّيها وتُكَبّرها . قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) ، والمعنى : قد أفْلَح مَن كَبّرها وأعلاها بِطاعة الله وأظْهَرها ، وقَد خَسِرَ مَن أخْفَاها وحَقّرها وصَغّرَها بِمَعْصِية الله ... فالطاعة والْبِرّ تُكَبّر النَّفْس وتُعِزّها وتُعْلِيها حتى تصير أشرف شيء وأكْبَره وأزْكَاه وأعْلاه ، ومع ذلك فهي أذلّ شيء وأحْقَره وأصْغَره لله تعالى ، وبِهَذا الذّل حَصَلَ لها هذا العِزّ والشَّرَف والنّمُو ؛ فما صَغّر النفس مثل مَعْصِية الله ، ومَا كَبّرها وشَرّفها ورَفعها مثل طاعة الله . اهـ .
وإن مما تَهُون بِه النَّفْس أن يَعتَاد الإنسان خُلُقا مِن أخلاق المنافِقين .. بل قد يَسْتَسِيغ ما غَصّ به عُبّاد الأوثان ! أو يَسْتَحْسِن ما اسْتَقْبَحه أهل الجاهلية الأولى !
وكَفَى بِذَنْبٍ قُبْحًا أن يَتَبرّأ مِنه أهل الجاهلية ! فيَخْشَى أحدهم أن يُعيَّرَ بِه !وحَسْبُك مِن خُلُق رَذَالَة أن يَعِيبَه من كان يَعبد الأصنام والأوثان !
ذلكم هو " الْكَذِب " الذي عُيِّر بِه " مُسَيلِمة " فاقْتَرَن اسمه بِوصْفِ الْكَذِب ! فلا يُذكَر إلا ويُعَرّف بـ " الكَذّاب " !
والكَذِب خُلُق من أخلاق المنافِقين ، ففي خِصال النِّفاق : " إذا حَدّث كَذَب " كما في الصحيحين .
قال منصور الفقيه :
الصِّدق أوْلَى مَا بِهِ = دَانَ امرؤ فاجْعَلْه دِينا
وَدَعِ النّفاق فما رَأيْـ = ـتُ مُنافِقًا إلاَّ مَهينا
وإنما يَكذِب الكَذّاب مِن دناءة نَفْسِه ..قال محمد بن كعب القرظي : لا يَكْذِب الكَاذِب إلا مِن مَهَانَة نَفْسِه عليه .والكّذِب أبْغض خُلُق إلى صاحِب الْخُلُق العظيم صلى الله عليه وسلم .(1/151)
قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان خُلُق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الكذب ، فإن كان الرجل يَكذب عنده الكذبة فما يَزال في نفسه عليه حتى يَعلم أنه قد أحدث منها توبة . رواه عبد الرزاق ومِن طريقه الترمذي وابن حبان .
والمؤمن يُطْبَع على الخلال كلها إلاَّ الخيانة والكذب . كما قال أبو أمامة رضي الله عنه .
وأخرج البيهقي في الشُّعَب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لا تَجِد المؤمن كَذّابا، وقال عمر أيضا : لا تَنْظُروا إلى صلاة أحَدٍ ولا إلى صيامه ، ولكن انْظُرُوا إلى مَن إذا حَدّث صَدق ، وإذا ائتمن أدَى ، وإذا أشْفَى وَرِع .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في خطبته : ليس فيما دون الصدق من الحديث خير ، مَن يَكذب يَفْجُر ، ومَن يَفْجُر يَهلك .وقال أنس رضي الله عنه : إن الرجل ليُحْرَم قيام الليل وصيام النهار بالكِذبة يَكذبها .
وقال محمد بن سيرين : الكلام أوسع من أن يَكذب ظَريف .وقال عمر بن عبد العزيز : ما كَذَبْتُ منذ عَلِمْتُ أن الكَذِب يَضُرّ أهله .وقال الغازي بن قيس : ما كَذَبْتُ منذ احْتَلَمْتُ .وقال : والله ما كَذَبْتُ كِذبة قَطّ منذ اغتسلت ، ولولا أن عمر بن عبد العزيز قَالَه ما قُلْتُه
وإذا كان الكذب بِضاعة شيطانية .. فإن الصِّدْق مَنْجَاة ، وهو بِضاعة أهل الإيمان ..قال كعب بن مالك رضي الله عنه وهو يُحدِّث بِخبر توبة الله عليه : فو الله ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبْلاه الله في صِدق الحديث منذ ذَكَرْتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به ، والله ما تعمدت كِذبة منذ قلتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي . رواه البخاري ومسلم .(1/152)
وقال علي رضي الله عنه : زِين الحديث الصِّدق . وخُلِّد في ذِكْر ربعي بن حراش أنه ما كَذَب كذبة ! قال وكيع : لم يَكذب ربعي بن حراش في الإسلام كِذبة . رواه الترمذي .
وروى أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة قال : كان يُقال : إن ربعي بن حراش رضي الله عنه لم يكذب كذبا قط ، فأقبل ابناه من خراسان قد تأجّلا ، فجاء العَريف إلى الحجاج فقال : أيها الأمير إن الناس يَزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب قط ، وقد قدم ابناه من خراسان وهما عاصيان ! فقال الحجاج : عَليّ به ، فلما جاء قال : أيها الشيخ . قال : ما تشاء ؟ قال : ما فَعل ابناك ؟ قال : المستعان الله خَلّفتُهما في البيت . قال : لا جَرَم ! والله لا أسوؤك فيهما ، هما لك .
وأصى الخلفاء مُعلّمي أبنائهم بتعليمهم الصِّدْق .قال أسعد بن عبيد الله المخزومي : أمَرَني عبد الملك بن مروان أنْ أُعَلِّم بَنِيه الصِّدق كما أُعَلّمُهم القرآن .
وقال مطر الوراق : خَصلتان إذا كانتا في عبدٍ كان سائر عمله تَبَعًا لهما : حُسْن الصلاة ، وصِدْق الحديث .وقال الفضيل : لم يَتَزَيّن الناس بشيء أفضل مِن الصدق وطَلَب الحلال .
وقال عبد العزيز بن أبي روّاد : إبْرَار الدنيا : الكَذِب وقِلّة الحياء ؛ فَمَنْ طَلَب الدّنيا بِغيرهما فقد أخطأ الطريق والْمَطْلَب .وإبْرَار الآخرة : الحياء ، والصِّدق ؛ فمن طلب الآخرة بغيرهما فقد أخطأ الطريق والْمَطْلَب . اهـ .
وقال يوسف بن أسباط : يُرْزَق العبد بالصِّدْق ثلاث خِصال : الْحَلاوة والْمَلاحَة والْمَهَابة. قيل لِلُقْمان الحكيم : ما بَلَغَ بك ما نَرى ؟ قال : صِدْق الحديث ، وأداء الأمانة ، وتَرْك ما لا يَعْنِيني .(1/153)
وإن أعظَم الكذب ما بَلَغ الآفاق ..وفي رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم : الرجل الذي أتيت عليه يُشْرَشْر شِدْقه إلى قَفَاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه ؛ فإنه الرجل يَغدو من بيته فيكذب الكِذبة تَبلغ الآفاق . رواه البخاري . أوْ ما أدّى إلى الطعن في الأعراض ..وكل كَذِب تَعدّى ضَرَرُه ..
قال ابن حبان : كل شيء يُسْتَعَار لِيُتَجَمّل به سَهْل وُجُوده ، خَلا اللسان ، فإنه لا يُنْبِئ إلاّ عَمّا عُوِّد ، والصِّدق يُنْجِى ، والكَذب يُرْدِي ، ومَن غَلب لِسانه أمّرَه قومُه ، ومن أكثر الكذب لم يترك لنفسه شيئا يُصَدّق به ، ولا يكذب إلا مَن هَانت عليه نَفسه .
قال : وأنشدني الكريزي :
كَذَبْتَ ومَن يَكْذِب فإن جزاءه = إذا ما أتى بالصدق أن لا يُصَدّقا
إذا عُرف الكذاب بالكذب لم يزل = لدى الناس كذابا وإن كان صادقا
وقال ابن حبان :أنشدني الأبرش:
الكِذْبُ مُرديك ، وإن لم تخف = والصِّدْقُ منجيك على كل حال
فانطق بما شئت تجد غِبَّه = لم تُبْتَخَسْ وَزنة مثقال
وقال ابن حبان :لو لم يكن للكذب من الشَّين إلاَّ إنزاله صاحبه بحيث أن صَدَق لم يُصدّق ، لكان الواجب على الْخَلْق كافَّة لزوم التثبت بالصدق الدائم ، وإن من آفة الكذب أن يكون صاحبه نسيا ، فإذا كان كذلك كان كالمنادي على نفسه بالْخِزْي في كل لحظة وطرفة .
قال : وأنشدني محمد بن عبد الله البغدادي :
إذا ما المرء أخطأه ثلاث = فَبِعْه ولو بِكَفّ مِن رَماد
سلامة صدره والصدق منه = وكتمان السرائر في الفؤاد(1/154)
وأصدق من هذا وأبلغ قول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا . رواه البخاري ومسلم .
فاخْتَر لِنفسك مَنْزِلتها ومكانتها في الدنيا والآخرة ..(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) .
40-مِن سير الصالحات (صابرات ... محتسبات) [ 1 ]
هذه الصحابية
جبل الصبر
وقلعة التّصبّر
هي عمة النبي صلى الله عليه وسلم
هي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها
فما قصتها ؟
روى الإمام أحمد عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم ، فقال : المرأة المرأة .
قال الزبير رضي الله عنه : فتوسّمت أنها أمي صفية .
قال : فخرجت أسعى إليها فادركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى .
قال : فَلَدَمَتْ في صدري ! وكانت امرأة جلدة !
قالت : إليك لا أرض لك !
قال فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك
قال : فوقفت ، وأخرجت ثوبين معها ، فقالت : هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما
قال : فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة ، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة
قال : فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفِّن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له(1/155)
فقلنا : لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب . فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفّنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له .
انتهت الرواية .
من الدروس في هذه القصة :
أولاً : صبر هذه الصحابية رضي الله عنها مع علمها بمقتل أخيها حمزة رضي الله عنه وما وقع له من التمثيل بجثته بعد مقتله .
ثانياً : قوة شخصيتها حيث ضربت ابنها في صدرها وهي تعلم على أي شيء تُقبل .
ثالثاً : طاعتها لله ولرسوله وامتثالها لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم طاعة الرسول على هوى النفس وعلى العواطف الجيّاشة
فلما أراد ابنها منعها لم تكترث به بل ضربته على صدره، لكن لما أتاها أمر النبي صلى الله عليه وسلم توقفت، فبمجرد أن قال لها : ((( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَزَمَ عليك )))
توقفت حيث بلغها الأمر
ولم تبرح المكان
ولم تحاول أن تتقدم ولو خطوات
بل وقفت وأخرجت ما كان معها من أكفان
فيالها من صابرة محتسبة
ويالها من مُطيعة ممتثلة
مستجيبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
رابعاً : لم تقع المحاباة لحمزة رضي الله عنه مع أنه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يؤثروه بالثوبين بل أجروا القرعة بينه وبين الأنصاري أيهم يُكفّن في أي الثوبين . فلنا جميعا في هذه القصة الأسوة، ولك أخيّه فيها القدوة والدرس والعبرة على وجه الخصوص
-----------------------------------
مِن سير الصالحات (صابرات ... محتسبات )[2]
قلعة صبر أخرى
رغم أنه ابنها البار بها
وقد فقدته
وفقد الابن البار صعب على نفس الأم
هذه أم حارثة
وهي الرُّبيِّع بنت النضر أخت أنس بن مالك رضي الله عنها وعن أخيها
جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر
فقالت :
يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ؟ - وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب - فإن كان في الجنة صبرتُ ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء .(1/156)
قال : يا أم حارثة إنها جنان في الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى . رواه البخاري .
حارثة كان بارّاً بأمه
فما بلغ من برِّه بها ؟
قالوا : كان يُطعمها بيده
وأين أوصله برّه ؟
أوصله إلى الفردوس
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا أدور في الجنة سمعت صوت قارئ فقلت من هذا ؟
فقالوا : حارثة بن النعمان
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلكم البر . كذلكم البر .
قال : وكان أبرَّ الناس بأمِّه . رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، وهو كما قال .
هذه أم حارثة
فقدت فلذة كبدها
وابنها البارّ
ومع ذلك تسأل بكل هدوء :
فإن كان في الجنة صبرتُ ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء .
ياله من أدب مع مقام النبوة
ويالها من امرأة صابرة محتسبة
احتسبت مقتله في سبيل الله
أما القتل فقد قُتِل
غير أن ما أهمها هو مصير ابنها ومآله بعد مقتله
فإن كان في الجنة فسوف تصبر وتتصبّر
وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء لا جزعا على فقده
ولكن جزعا على مآله ومصيره .
اللهم ارض عنها وأرضها .
-----------------------------------
من سير الصالحات ( صابرات ... مُحتسبات )[3]
قلعة شامخة من قلاع الصبر
ومدرسة من مدارس تعليم الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومربية من الدرجة الأولى لتعليم الناس قدر مقام النبوة
روى ابن جرير الطبري في التاريخ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :
مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحد ، فلما نُعوا لها
قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا : خيرا يا أم فلان . هو بحمد الله كما تحبين .
قالت : أرنيه حتى أنظر إليه ، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت :
كل مصيبة بعدك جلل . تريد صغيرة .
المهم أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/157)
ولو قُتِل زوجها وأخوها وأبوها
ولسان حالها : نفسي لنفسك الفداء
أكلّ هذا الحب ؟
أكل هذا الحب كانت تُكنّه تلك الصدور لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
بل وأعظم
===========
مَنْ يقول : إن المرأة لا صبر لها ؟
أمّن يقول : إن الجزع فيهن هو الأصل ؟
أمّن يقول : إن المصائب تَذهب بالعقول ؟
والله إن الرجل ليستصغر نفسه أمام هذه المرأة التي ما ذُكِر اسمها
ويتقالّ الصابر صبره مع صبرها
ويتحطّم كل تصنّع مع تلك السجيّة
إن تلك المرأة لم تفقد عمّها
ولم تُفجع بوليدها
ولكن قُتِل زوجها وأخوها وأبوها
أما لو قٌتِل واحد منهم لكفى به مصيبة
فكيف بهم جميعا في موضع واحد
ومع ذلك لم يكن السؤال سوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذا فعل ؟
أين من جزعت ؟
أين من تسخطت ؟
أين من ولولت ؟
أين من بكت وشقّت جيبها ؟
أين الثكالى ؟
أين ... واين ؟؟؟
لا أين ولا من أين !
أين من فقدت وليدها ... ولديها ثلاثة أو أربعة ؟؟؟
فبكت حتى احمرت أحداقها
أين من ناحت على فقد أبيها ... ولديها زوج وأولاد وإخوان ؟؟؟ أين من تشق جيباً ( لا ذنب له ) لفقد عزيز ؟؟؟ أما لهن في هذه وغيرها من قلاع الصبر أسوة حسنة ؟؟؟
---------------------------------
من سير الصالحات (الفقيهة العالمة العابدة المليحة الجميلة) ! [4]
كنت كتبت في سير الصالحات ثلاث حلقات تحت عنوان : من سير الصالحات ( صابرات ... محتسبات ) ثم توقفت حتى جاءني طلب ممن لا يُردّ له طلب ، بمتابعة الكتابة في هذا الموضوع ، فأجبت نزولاً عند رغبته .
وإنما أبرزت العنوان بما بين القوسين لفائدة لطيفة
أولاً : لم آتِ به من عند نفسي ، بل سُبقت به ، كما سيأتي .
ثانياً : أنه لا تعارض بين الفقه والعلم والعبادة وبين الحُسن والجمال
والمُلاحظ أن أكثر الفتيات غروراً أكثرهن جمالاً !!!
وما علمن أنهن ربما سُلبن ذلك الجمال في غمضة عين بحريق ونحوه
ثم إن من شكر واهب ذلك الجمال أن لا يُترفّع على عباد الله بسببه(1/158)
فليس للإنسان يدٌ في صنع ذلك الجمال أو تصويره وإبداعه
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
ولنأخذ طرفاً من سيرة تلك العابدة
هي هجيمة الوصّابية الحميرية زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه .
قال عنها ابن القيسراني :
كانت فقيهة عالمة عابدة مليحة جميلة ، واسعة العلم ، وافرة العقل . روت الكثير عن أبي الدرداء .
وقال عنها الذهبي :
السيدة العالمة الفقيهة : هجيمة ، وقيل جهيمة الأوصابية الحميرية الدمشقية ، وهي أم الدرداء الصغرى .
روت علماً جمّاً عن زوجها أبي الدرداء ، وعن وكعب ابن عاصم الأشعري ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وطائفة ، وعرضت القرآن وهي صغيرة على أبي الدرداء ، وطال عمرها واشتهرت بالعلم والعمل والزهد .
قال أبو مسهر الغساني : أم الدرداء هي هجيمة بنت حيي الوصابية ، وأم الدرداء الكبرى هي خيرة بنت أبي حدرد لها صحبة .
وكان لها جَمال وحُسن .
وكانت أم الدرداء يتيمة في حجر أبي الدرداء تختلف معه في برنس تصلي في صفوف الرجال ، وتجلس في حلق القرّاء تَعَلَّم القرآن ، حتى قال لها أبو الدرداء يوما : الحقي بصفوف النساء .
وحَدّثتْ أنها قالت لأبي الدرداء عند الموت : إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحوك ، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة . قال : فلا تنكحين بعدي . فخطبها معاوية فأخبرته بالذي كان ، فقال : عليك بالصيام .
قالت أم الدرداء : قال لي أبو الدرداء : لا تسألي أحداً شيئا ، فقلت : إن احتجت ؟ قال : تتبعي الحصّادين فانظري ما يسقط منهم فخذيه فاخبطيه ثم اطحنيه وكُلِيه .
قال عون بن عبد الله : كُنا نأتي أم الدرداء فنذكر الله عندها .
وقال مكحول : كانت أم الدرداء فقيهة .
ومن فقهها :(1/159)
أنها كانت تقول : إن أحدهم يقول اللهم ارزقني ، وقد علم أن الله لا يمطر عليه ذهبا ولا دراهم ، وإنما يرزق بعضهم من بعض ، فمن أُعطي شيئا فليقبل ، فإن كان غنياً فليضعه في ذي الحاجة ، وإن كان فقيرا فليستعن به .
ومما يدلّ على فضلها وسعة علمها أن عبد الملك بن مروان كان كثيرا ما يجلس إليها في مؤخر المسجد بدمشق .
هكذا فلتكن النساء
فلو كان النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
رحم الله أم الدرداء برحمته الواسعة .
41-سيرة سيدة نساء العالمين
...
إذا افتخرت بنت بأبيها ، فيكفي سيدة نساء العالمين أنها بنت إمام المتقين صلى الله عليه وسلم .
وإذا افتخر مُفتخر بنسبه ، فإن سيدة نساء العالمين تفوق بذلك من افتخر . وإذا تعاظم شخص في نفسه ، فحسب سيدة نساء العالمين هذا اللقب ( سيدة نساء العالمين ) .
هي :
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الإمام الذهبي : سيدة نساء العالمين في زمانها البضعة النبوية والجهة المصطفوية .
أم أبيها ، بنت سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية ، وأم الحسنين .
كانت فاطمة أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه .
مولدها :
قبل المبعث بقليل .
من فضائلها :
روت عن أبيها .
وروى عنها ابنها الحسين وعائشة وأم سلمة وأنس بن مالك وغيرهم ، وروايتها في الكتب الستة .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحبها ويكرمها ويُسرّ إليها .
ومناقبها غزيرة ، وكانت صابرة ديّنة خيرة صيّنة قانعة شاكرة لله .
وقد غضب لها النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أبا الحسن همّ بما رآه سائغا من خطبة بنت أبي جهل فقال : والله لا تجتمع بنت نبي الله وبنت عدو الله ، وإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها . رواه البخاري ومسلم .(1/160)
فترك عليٌّ الخطبة رعاية لها ، فما تزوّج عليها ولا تسرّى ، فلما توفيت تزوج وتسرّى رضي الله عنهما ، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم حزنت عليه وبكته وقالت : يا أبتاه إلى جبريل ننعاه . يا أبتاه أجاب ربا دعاه . يا أبتاه جنة الفردوس مأواه .
وقالت بعد دفنه : يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
وقد قال لها في مرضه : إني مقبوض في مرضي هذا . فبكت وأخبرها أنها أول أهله لحوقاً به ، وأنها سيدة نساء هذه الأمة ، فضحكت ، وكتمت ذلك فلما توفي صلى الله عليه وسلم سألتها عائشة فحدثتها بما أسرّ إليها .
وقالت عائشة رضي الله عنها : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُغادر منهن امرأة ، فجاءت فاطمة تمشي كان مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : مرحبا بابنتي . فأجلسها عن يمينه أو عن شماله ، ثم أنه أسرّ إليها حديثاً ، فبكت فاطمة ، ثم إنه سارّها ، فضحكت أيضا . فقلت لها : ما يبكيك ؟ فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن . فقلت لها حين بَكَتْ : أخصّك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه دوننا ثم تبكين ، وسألتها عما قال ، فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قُبض سألتها ، فقالت : إنه كان حدثني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل عام مرة ، وأنه عارضه به في العام مرتين ، ولا أراني إلا قد حضر أجلي ، وإنك أول أهلي لحوقاً بي ، ونعم السلف أنا لك ، فبكيت لذلك ، ثم إنه سارّني ، فقال : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة ، فضحكت لذلك . رواه البخاري ومسلم .
وكان عليه الصلاة والسلام يقوم لها وتقوم له ، ويُقبّلها وتُقبّله رضي الله عنها .
زواجها :
تزوجها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذي القعدة أو قُبيله من سنة اثنتين بعد وقعة بدر ( قاله الذهبي ) .(1/161)
وقال ابن عبد البر : دخل بها بعد وقعة أُحد ، فولدت له الحسن والحسين ومحسنا وأم كلثوم وزينب .
صداقها :
أصدق عليّ رضي الله عنه فاطمة درعه الحُطمية .
فأي خير بعد ذلك في التفاخر بكثرة الصداق ؟
وأي خير في غلاء المهور ؟
وهل نساء الدنيا أجمع خير أم فاطمة ؟
خدمتها في بيت زوجها :
كانت فاطمة رضي الله عنها تعمل في بيت زوجها ، حتى أصابها من ذلك مشقّة .
قال عليّ رضي الله عنه : شَكَتْ فاطمة رضي الله عنها ما تلقى من أثر الرّحى ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم سبي ، فانطلقت فلم تجده ، فوجدت عائشة فأخبرتها ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا ، فذهبت لأقوم ، فقال : على مكانكما ، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري ، وقال : ألا أدلكما على خير مما سألتماني ؟ إذا أخذتما مضاجعكما تكبران أربعا وثلاثين ، وتسبحان ثلاثا وثلاثين ، وتحمدان ثلاثا وثلاثين ، فهو خير لكما من خادم . رواه البخاري ومسلم .
فإذا كان هذا هو حال سيدة نساء العالمين ، فما في حياة الترف خير .
حياؤها رضي الله عنها :
قالت فاطمة رضي الله عنها لأسماء بنت عميس رضي الله عنها : إني أستقبح ما يصنع بالنساء ، يُطرح على المرأة الثوب فيصفها. قالت : يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بالحبشة ؟ فَدَعَتْ بجرائد رطبة ، فَحَنَتْها ، ثم طرحت عليها ثوباً . فقالت فاطمة : ما أحسن هذا وأجمله ، إذا متّ فغسليني أنت وعلي ، ولا يدخلن أحد عليّ .
قال ابن عبد البر : هي أول من غُطي نعشها في الإسلام على تلك الصفة .
أولادها رضي الله عنها :
تقدّم ما لها من أبناء في ترجمة عليّ رضي الله عنه .
وكان لها من البنات :
أم كلثوم زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وزينب زوجة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما .
فيكيف يجتمع حب آل البيت وبغض أصهارهم ؟!(1/162)
فعمر رضي الله عنه زوج أم كلثوم بنت عليّ رضي الله عنه وعنها .
وإذا ضاقت عليهم المذاهب أنكروا زواج عمر رضي الله عنه من أم كلثوم !
فاطمة رضي الله عنها وميراث أبيها :
قال الإمام الذهبي رحمه الله :
ولما توفي أبوها تعلقت آمالها بميراثه ، وجاءت تطلب ذلك من أبي بكر الصديق ، فحدّثها أنه سمع من النبي يقول : لا نورث ما تركنا صدقة ، فَوَجَدَتْ عليه ، ثم تعللت . انتهى كلامه رحمه الله .
وحدّث الشعبي قال : لما مرضت فاطمة أتى أبو بكر فاستأذن ، فقال عليٌّ : يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك ، فقالت : أتحبّ أن آذن له ؟ قال : نعم . فأذِنَتْ له ، فدخل عليها يترضّاها ، وقال : والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله ومرضاتكم أهل البيت . قال : ثم ترضّاها حتى رضيت . رواه البيهقي في الكبرى وفي الاعتقاد .
شُبهات وجوابها :
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل فاطمة وزوجها وابنيهما بكساء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
وهذه منقبة لهم ، ولا يُفهم منه انحصار آل البيت في هؤلاء كما تفهمه الرافضة .
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني . رواه البخاري .
تقول الرافضة : إن أبا بكر أغضب فاطمة رضي الله عنها ، فهو داخل في هذا الحديث .
وليس الأمر كما زعموا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه عمِل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما سيأتي ، وعمِل بما اتفق عليه الخلفاء من بعده ووافقوه عليه بما في ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .
فهل يُقال : إن علياً رضي الله عنه أغضب فاطمة بهذا ؟
وتقدّم سبب ورود الحديث في سيرة أبي الحسن رضي الله عنه وأرضاه .(1/163)
روى الإمام البخاري في صحيحه أن فاطمة رضي الله عنها أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر . فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث . ما تركنا فهو صدقة . إنما يأكل آل محمد من هذا المال . يعني مال الله . ليس لهم أن يزيدوا على المأكل ، وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتشهد عليّ رضي الله عنه ، ثم قال : إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك ، وذَكَرَ قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم ، فتكلم أبو بكر فقال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي .
فأين هذا من زعم الظلم لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟؟؟
وروى الإمام مسلم في صحيحه أن عمر رضي الله عنه كان في مجلسه فاستأذن عليه عباس وعلي رضي الله عنهما ، فأذن لهما فقال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، فقال القوم : أجل يا أمير المؤمنين ، فاقض بينهم وأرِحهم .
فقال عمر : اتئدا . أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة ؟
قالوا : نعم .
ثم أقبل على العباس وعلي فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ؟
قالا : نعم .
فقال عمر : إن الله جل وعز كان خصّ رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره . قال : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول )
ثم إن الرافضة تزعم أن أبا بكر وعمر ظلما فاطمة ميراثها(1/164)
وها هو العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وها هو علي رضي الله عنه زوج ابنته يُقرّان بقول النبي صلى الله عليه وسلم ويتذكّرانه يوم ذكّرهما به عُمر رضي الله عنه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
((( لا نورث ما تركناه صدقة )))
ثم إن كان الظلم وقع كما زعموا
لِمَ لَمْ يردّه علي رضي الله عنه يوم تولّى الخلافة ؟؟؟
لِمَ لَمْ يَردّ الحق إلى ورثة فاطمة من زوج وأولاد ؟؟؟
أم أن علياً رضي الله عنه ظلم فاطمة بعد موتها ولم يفِ لها بحقّها الذي كان يُطالب به ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم .
ولكن الرافضة قوم لا يعقلون .
ومع أن أبا بكر رضي الله عنه لم يظلم فاطمة رضي الله عنه ، إلا أنه ترضّاها عند موتها رضي الله عنها حتى رضيت ، كما تقدّم .
وإنما ذكرت هذا لأن الرافضة يُشنّعون به ، ويُدندنون حوله ، ويهرفون بما لا يعرفون !
وفاتها :
توفيت رضي الله عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر أو نحوها ، وعاشت أربعا أو خمسا وعشرين سنة وأكثر ما قيل إنها عاشت تسعا وعشرين سنة .
فرضي الله عن فاطمة البتول وأرضاها .
وصلى الله وسلم على من رباها .
وإلى لقاء في سيرة علم من أعلام الأمة .
42-سيرة الإمام العالم حبر اليهود وسيّدهم
...
عندما يُريد الله هداية شخص فإن الله يشرح صدره ، ويُهيئ له أسباب ذلك .
وقد اشتهرت يهود بشدّة العداوة لأمة الإسلام ولنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام
( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ )
ولذا فإنه لم يُسلم منهم إلا أُناس يُعدّون على الأصابع
ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام : لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود . رواه البخاري ومسلم .
فاليهود أهل عناد ومُكابرة ، وهم المغضوب عليهم
وأريد أن أتناول سيرة رجل من يهود بني قينقاع
بل هو عالم من علمائهم
وسيّد من ساداتهم
ذلكم هو عبد الله بن سلاَم
اسمه :(1/165)
عبد الله بن سلام بن الحارث
كنيته :
أبو يوسف من ذرية يوسف عليه السلام
صحابي جليل ، وهو من بني إسرائيل ، بل هو من ذُريّة يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام .
كان عبد الله يهودياً من يهود بني قينقاع ، فأراد الله به خيراً فأسلم .
قال عنه الذهبي في السير : الإمام الحبر ، المشهود له بالجنة حليف الأنصار ، من خواص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
إسلامه
لِنَدَعه يُحدّثنا بقصته
قال رضي الله عنه
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه ، وقيل : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت في الناس لأنظر إليه ، فلما استثبتُّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، وكان أولُ شيء تكلم به أن قال : أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصَلُّوا والناسُ نيام تدخلوا الجنة بسلام . رواه احمد والترمذي وغيرهما ، وهو حديث صحيح .
ولا يعرف الفضل لأهله إلا أهل الفضل
أسئلته للنبي صلى الله عليه وسلم
لما عرف تيقّن أنه ليس بكذّاب أراد أن يسأله عن أشياء لا يعرفها إلا نبي
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : سَمِعَ عبدُ الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف ، فأتى النبيَ صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي :
فما أول أشراط الساعة
وما أول طعام أهل الجنة
وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟
قال : أخبرني بهن جبريل آنفا .
قال : جبريل ؟!
قال : نعم .
قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة !
فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ )
ثم قال :
أما أولُ أشراط الساعة فنار تحشرُ الناس من المشرق إلى المغرب
وأما أولُ طعامِ أهل الجنة فزيادة كبدِ حوت(1/166)
وإذا سبق ماءُ الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماءُ المرأة نزعت .
قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، يا رسول الله إن اليهود قومٌ بُهْت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني .
فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيُّ رجلٍ عبدُ الله فيكم ؟
قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا .
قال : أرأيتم إن أسلم عبدُ الله بن سلام ؟
فقالوا : أعاذه الله من ذلك !
فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
فقالوا : شرُّنا وابن شرِّنا وانتقصوه !
قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
وفي رواية للبخاري :
جاء عبد الله بن سلام فقال : أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم ، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ ، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلوا فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق فأسلموا . قالوا : ما نعلمه .
قال : فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟
قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا !
قال : أفرأيتم إن أسلم ؟
قالوا : حاشى لله ما كان ليسلم !
قال : أفرأيتم إن أسلم ؟
قالوا : حاشى لله ما كان ليسلم !
قال : أفرأيتم إن أسلم ؟
قالوا : حاشى لله ما كان ليسلم !
قال : يا ابن سلام اخرج عليهم ، فخرج ، فقال : يا معشر اليهود اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق .
فقالوا : كذبت فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/167)
وفيه نزل قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ )
ولهذه الآية قصة فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم يوما وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يومَ عيدٍ لهم ، فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا يشهدون أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يُحبط الله عن كلِّ يهوديٍ تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه .
قال : فأسكتوا ما جاء به منهم أحد .
ثم رد عليهم فلم يجبه أحد .
ثم ثلّث فلم يجبه أحد .
فقال : أبيتم ! فوالله إني لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا النبي المصطفى آمنتم أو كذبتم .
ثم انصرف وأنا معه حتى إذا كدنا أن نخرج فنادى رجل من خلفنا : كما أنت يامحمد .
قال : فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أي رجل تعلمون فيكم يا معشر اليهود ؟
قالوا : والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك ولا أفقه منك ولا من أبيك قبلك ولا من جدك قبل أبيك . قال : فإني أشهد له بالله إنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة . قالوا : كذبت . ثم ردوا عليه قوله وقالوا فيه شرا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كَذَبْتم لن يقبل الله قولكم . أمّا آنفا فتُثنون عليه من الخير ما أثنيتم ، ولما آمن كذّبتموه وقلتم فيه ما قلتم ، فلن يقبل الله قولكم . قال : فخرجنا ونحن ثلاثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وعبد الله بن سلام وأنزل الله عز وجل فيه الآية . أخرجه الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في التلخيص وأخرجه ابن حبان والطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين . وهو حديث صحيح .(1/168)
فيُحتمل أن تكون القصة وقعت لفريقين من اليهود دون علم كلِّ فريق بما حصل للآخر ، وذلك أن رواية البخاري جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم فجاءوا ، والرواية الأخرى أنه دخل عليهم كنيسة لهم في يوم عيد لهم .
ومن فضائله :
من فضائله رضي الله عنه أنه من المبشرين بالجنة
فعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بقصعةٍ فأكل منها ففضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجئ رجل من هذا الفج من أهل الجنة يأكل هذه الفضلة .
قال سعْدٌ : وكنت تركت أخي عميراً يتوضأ . قال فقلت : هو عمير .
قال : فجاء عبد الله بن سلام . رواه أحمد وغيره .
وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام . قال : وفيه نزلت هذه الآية ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) الآية .
وأنه ممن يؤتون أجورهم مرتين
فعبدالله بن سلام من الذين يؤتون أجرهم مرتين . لقوله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت عنده أمةٌ يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلّمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران . أخرجه البخاري ومسلم .
وفيه _ أي في عبدالله بن سلام _ نزل قوله تعالى : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ )
فعلى رأي بعض المفسرين أن الذي عنده علم من الكتاب هو عبد الله بن سلام .(1/169)
وأخرج البخاري ومسلم عن قيس بن عُبَاد قال : كنت جالسا في مسجد المدينة فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع فقالوا : هذا رجل من أهل الجنة ، فصلى ركعتين تجوّز فيهما ثم خرج وتبعته فقلت : إنك حين دخلت المسجد قالوا : هذا رجل من أهل الجنة . قال : والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم ، وسأحدثك لم ذاك رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه ورأيت كأني في روضة _ ذَكَرَ من سَعتها وخضرتها _ وسَطَها عمودٌ من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عُروة ، فقيل لي : ارقه . قلت : لا أستطيع . فأتاني منصف _ والمنصف الخادم _ فرفع ثيابي من خلفي فرَقَيْتُ حتى كنت في أعلاها ، فأخذت بالعروة فقيل لي استمسك فاستيقظت وإنها لفي يدي فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تلك الروضة الإسلام ، وذلك العمود عمود الإسلام ، وتلك العروة العروة الوثقى ، فأنت على الإسلام حتى تموت . قال الراوي : وذاك الرجل عبد الله بن سلام .
ومن مناقبه رضي الله عنه أنه نصر عثمان يوم الدار .
وفاته :
توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة ثلاث وأربعين .
فرضي الله عنه وأرضاه
----------------------------------
هذا شيء من خبره رضي الله عنه ، وهو من علماء أهل الكتاب
ولكنه عرف الحق واتّبعه
ثم قارن هذا الموقف منه رضي الله عنه بموقف آخر لعالم من علماء اليهود وقد عرف الحق أيضا(1/170)
ذلكم هو شيطان بني النضير حُيي بن أخطب ، فقد حدّثت عنه ابته صفية - رضي الله عنها - فقالت : كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حُيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغمّ . قالت : وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حُيي بن أخطب : أهو هو ؟ قال : نعم والله قال :أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم . قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ! رواه ابن إسحاق في السيرة فيما ذكره ابن هشام .
فكلهم صدّقوا وعرفوا أنه النبي الذي يجدونه عندهم في التوراة
ولكن من عرف وأقر وتابع نجا
ومن عرف ولم يُتابع ولم يُقرّ فما له من نجاة .
43-سيرة العالم الرباني ( ابن وهب )
اسمه :
عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري مولاهم المصري .
كنيته :
أبو محمد
مولده :
سنة 125 هـ
مناقبه :
طلب العلم وله سبع عشرة سنة
روى عن الإمام مالك كثيراً
وروى عن ابن لهيعة ، وروايته عنه مستقيمة
لقي بعض صغار التابعين
قال عنه الذهبي : وكان من أوعية العِلْم ، ومن كنوزِ العمل .
قال ابن القاسم : لو ماتَ ابنُ عُيينة لضُرِبَتْ إلى ابنِ وَهْبٍ أكْبَادُ الإِبل ، ما دوَّنَ العلمَ أحدٌ تدوينَه .
وقال أبو زُرعةَ : نظرتُ في نحوٍ من ثلاثين ألف حديث لابن وَهْب ، ولا أعلمُ أَنِّي رأيتُ له حديثاً لا أصلَ له ، وهو ثقةٌ ، وقد سمعتُ يَحيى بنَ بُكَير يقولُ : ابنُ وَهْبٍ أفقهُ من ابنِ القاسم .
وقال أحمدُ بنُ صالح الحافظ : حَدَّثَ ابنُ وَهْبٍ بمائة ألفِ حديث ، ما رأيتُ أحداً أكثرَ حديثاً منه ، وقع عندنا سبعون ألف حديث عنه .
عقب الإمام الذهبي على ذلك بقوله(1/171)
قلت ُ: كيف لا يكونُ من بُحورِ العلم ، وقد ضمَّ إلى علمِهِ علمَ مالكٍ ، واللَّيثِ ، ويحيى بنِ أيوب ، وعَمْرِو بنِ الحارث، وغيرِهم
قال خالدُ بنُ خِداش : قُرِىءَ على عبدِ الله بنِ وَهْبٍ كتابُ أهوالِ يومِ القيامة -تأليفه - فَخَرَّ مَغْشِيَّاً عليه ، قال: فلم يتكلَّم بكلمةٍ حتى ماتَ بعدَ أيامٍ رحمه اللَّهُ تعالى .
وعن سُحْنُون الفقيه قال : كان ابنُ وَهْبٍ قد قَسَمَ دهرَهُ أثلاثاً ، ثُلُثاً في الرِّبَاط ، وثُلُثاً يعَلِّمُ النَّاس بمصر، وثُلُثاً في الحجِّ ، وذكر أنه حجَّ ستاً وثلاثين حجَّة .
وفي سير أعلام النبلاء :
وبلغنا أَنَّ مالكاً الإِمامَ كان يكتُبُ إليه : إلى عبدِ الله بنِ وَهْبٍ مُفتي أهل مصر ، ولم يَفعلْ هذا مع غيره. وقد ذُكِرَ عنده ابنُ وهبٍ وابنُ القاسم، فقال مالك: ابنُ وَهْبٍ عالم، وابنُ القاسم فقيه .
قال أحمدُ بنُ سعيد الهَمَذَاني: دخل ابنُ وهبٍ الحمَّام، فسمع قارئاً يقرأُ: ( وإذْ يَتَحَاجُّونَ في النَّار ) فغُشِيَ عليه .
قال أبو زيد بنُ أبي الغَمْر : كنَّا نُسمِّي ابنَ وَهْبٍ ديوانَ العلم
قال ابنَ وَهْبٍ : نَذَرْتُ أَنِّي كُلَّما اغتبتُ إنساناً أَن أصومَ يوماً ، فأَجهَدَني ، فكُنتُ أغتابُ وأصوم ، فنويتُ أنِّي كُلَّما اغتبتُ إنساناً أن أَتَصَدَّق بدرهم ، فمن حُبِّ الدَّرَاهم تركتُ الغِيبة .
عقّب عليه الذهبي بقوله :
قلتُ : هكذا والله كان العُلَماءُ وهذا هو ثَمَرَةُ العلمِ النافع .
قال أبو الطَّاهر بنُ عَمْرو : جاءنا نَعْيُ ابنِ وهب، ونحن في مجلس سُفيان بنِ عُيينة ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أُصيب به المسلمون عامَّة ، وأُصِبْتُ به خاصَّة .
قال الذهبي :
قلتُ : قد كان ابنُ وهْبٍ له دنيا وثَروةٌ ، فكان يَصِلُ سُفيان ويَبَرُّه ، فلهذا يقول : أُصِبتُ به خاصَّة .
وأُريد على القضاء وطُلب فتغيّب(1/172)
قال حجَّاجُ بنُ رِشْدِين : سمعتُ عبدَ الله بنَ وَهْبٍ يتذمَّرُ ويَصيح ، فأشرفتُ عليه من غُرفَتي ، فقلتُ : ما شأنُكَ يا أبا مُحمد ؟ قال : يا أبا الحسن بينما أنا أرجو أَنْ أُحشرَ في زُمرةِ العُلماءِ أُحشَرُ في زُمرة القُضَاة . قال : فتغيَّبَ في يومه ، فطلبُوه .
قال يونُسُ الصَّدَفي : عُرِضَ على ابنِ وَهْبٍ القَضَاءُ ، فجنَّنَ نفسَه ، ولزِمَ بيتَه .
قال أبو حاتِم البُسْتي : ابنُ وَهْب هو الَّذي عُني بجمع ما روى أهلُ الحِجاز وأهلُ مصر ، وحفظَ عليهم حديثهم ، وجمعَ وصنَّف ، وكان من العُبَّاد .
ومما يدل على فضله أن الإمام مالك رحمه الله يأخذ بقوله وروايته
روى ابن أبي حاتِم قال : حدثنا أحمدُ ابنُ أخي ابنِ وَهْب ، حدثني عَمِّي ( ابن وهب ) قال : كنتُ عند مالكٍ ، فسُئِلَ عن تخليلِ الأصابع ، فلم يَرَ ذلك ، فتركتُ حتى خفَّ المجلسُ ، فقلتُ : إنَّ عندنا في ذلك سُنَّة : حدثنا اللَّيثُ وعَمْرو بنُ الحارث عن أبي عُشَّانة عن عُقْبَةَ بنِ عامر أنَّ النبيَّ قال: إذا تَوَضَّأْتَ ، خَلِّلْ أَصابِعَ رِجْلَيْكَ . فرأيتُه بعد ذلك يُسألُ عنه ، فيأمرُ بتخليل الأصابع ، وقال لي : ما سمعتُ بهذا الحديث قطُّ إلى الآن .
قال ابنُ وَهْب : سمعتُ من ثلاثمائة وسبعين شيخاً .
ما رؤي له بعد وفاته : روى ابنُ عبد البَر عن سُحنون بنُ سعيد أنه رأى عبدَ الرحمن بنَ القاسم في النَّوم ، فقال : ما فعل اللَّهُ بك ؟ فقال : وجدتُ عنده ما أُحِبُّ . قال له : فأيَّ أعمالك وجدتَ أفضل ؟ قال : تِلاوَةُ القرآن . قال : قلتُ له : فالمسائِل؟ فكان يُشير بأصبعه يُلَشِّيها . قال : فكنتُ أسألُهُ عن ابنِ وَهْبٍ ، فيقولُ لي : هو في علِّيين .
وفاته :
في آخر شَعبان سنة إحدى وثمانين ومائتين .
رحم الله عالم الأمة في زمانه : عبد الله بن وهب .
44-سيرة أمير المؤمنين في الحديث
ذلكم العالم العَلَم
وهل يخفى علم في رأسه نار ؟!(1/173)
هو أمير المؤمنين في الحديث
المقدّم عند جماهير علماء الإسلام
المعترف له بالفضل والإمامة
اسمه :
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه ، وقيل بَذْدُزْبه ، وهي لفظة بخارية معناها الزراع . قاله الإمام الذهبي في السير .
كنيته :
أبو عبد الله .
لقبه :
أمير المؤمنين في الحديث .
وقد لُقب بهذا اللقب غير واحد من أئمة السنة .
مولده :
كان مولده في شوال سنة أربع وتسعين ومائة .
تهيئتة :
سبحان من هيأه لنصرة دينه والذب عن سنة نبيه، فقد كان جدّه المغيرة مجوسياً فأسلم على يدي رجل يُقال له : اليمان الجُعفي والي بخارى .
ثم طلب إسماعيل بن إبراهيم العلم . ومن هنا يُقال في ترجمة الإمام البخاري : الجُعفي مولاهم . أي ولاء الإسلام .
قال أحمد بن الفضل البلخي : ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره ، فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام فقال لها : يا هذه قد ردّ الله على ابنك بصره لكثرة بكائك أو كثرة دعائك شك البلخي ، فأصبحنا وقد رد الله عليه بصره .
طلبه للعلم :
هو من بيت علم ، فأبوه طلب العلم من قبله
قال الإمام البخاري : سمع أبي من مالك بن أنس ، ورأى حماد بن زيد ، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه .
أما كيف طلب هو العلم فلندع الإمام نفسه يُحدّثنا بالعجب العجاب !
سأله محمد بن أبي حاتم : كيف كان بدء أمرك ؟
قال : أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب .
فقلت : كم كان سنك ؟
فقال : عشر سنين أو أقل ، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس : سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم فقلت له : إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم ! فانتهرني ، فقلت له : ارجع إلى الأصل ، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي : كيف هو يا غلام ؟ قلت : هو الزبير بن عدي عن إبراهيم ، فأخذ القلم مِني وأحكم كتابه ، وقال : صدقت ! فقيل للبخاري : ابن كم كنت حين رددت عليه ؟
قال : ابن إحدى عشرة سنة(1/174)
قال الإمام البخاري : فلما طعنت في ست عشرة سنة !!! كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع ، وعرفت كلام هؤلاء ، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة ، فلما حججت رجع أخي بها ، وتخلفت في طلب الحديث .
ابن إحدى عشرة سنة يردّ على شيخه ؟!
وابن ست عشرة سنة قد طعن في السن !!!
إنها العناية الربانية لصُنع ذلك الإمام ، ليُصبح إماماً للدنيا عربها وعجمها ، وإن كان أعجمي الأصل !
( ولِتُصنع على عيني )
ومما يدلّ على أنه طعن في السن – على حدّ قوله – وهو ابن ست عشرة سنة أنه قدِم العراق في آخر سنة عشر ومائتين من الهجرة .
فيكون قدم بغداد وهو ابن ست عشرة سنة !
وكَتَبَ الإمام البخاري عن ألف شيخ !
نعم
قال الإمام البخاري : دخلت بلخ فسألوني أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثا ، فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم .
بل زاد العدد عن ذلك
فقد قال قبل موته بشهر : كتبت عن ألف وثمانين رجلا ، ليس فيهم إلا صاحب حديث كانوا يقولون : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص .
ثم طعن الإمام في السن أكثر ! فبلغ الثامنة عشرة من عمره !
قال رحمه الله : حججت ورجع أخي بأمي ، وتخلفت في طلب الحديث ، فلما طعنت في ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم ، وذلك أيام عبيد الله بن موسى .
وقال :
صنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة ، وقَلّ اسم في التاريخ إلاّ ولَهُ قصة ، إلا أني كرهت تطويل الكتاب .
وفي ذلك السن كان يحكم بين شيوخه !
قال الإمام البخاري :
دخلت على الحميدي وأنا ابن ثمان عشرة سنة ، وبينه وبين آخر اختلاف في حديث فلما بَصُرَ بي الحميدي قال : قد جاء من يفصل بيننا ، فعرضا عليّ ، فقضيت للحميدي على من يخالفه .
وكُتِب عنه الحديث وهو ابن سبع عشرة سنة(1/175)
قال أبو بكر الأعيَن : كتبنا عن البخاري على باب محمد بن يوسف الفريابي ، وما في وجهه شعرة ، فقلنا : ابن كم أنت ؟ قال : ابن سبع عشرة سنة .
ومما يدلّ على أن الله هيأه لحفظ السنة أنه كان يُكتب عنه الحديث وهو شاب
وقد كان أهل المعرفة من البصريين يعدُون خلفه في طلب الحديث ، وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ، ويجلسوه في بعض الطريق ، فيجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه ، وكان شابأ لم يخرج وجهه .
حفظه وسعة علمه :
وهبه الله حافظة قوية ، بل حافظة خارقة ، وما ذلك إلا حفظاً للسنة ، فقد تكفّل الله بحفظ الذكر
( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) والسُّنة من الذِّكر .
شهد له علماء عصره
فقد قال رجاء الحافظ : فضل محمد بن إسماعيل على العلماء ، كفضل الرجال على النساء ، فقال له رجل : يا أبا محمد كل ذلك بمرّة ؟! فقال : هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض .
قال إبراهيم الخواص : رأيت أبا زرعة كالصبي جالساً بين يدي محمد بن إسماعيل يسأله عن علل الحديث .
وقال جعفر بن محمد القطان - إمام كرمينية - : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : كتبت عن ألف شيخ وأكثر ، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر ، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده .
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق : سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان : كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة ، وهو غلام فلا يكتب ، حتى أتى على ذلك أيام ، فكنّا نقول له : إنك تختلف معنا ولا تكتب ! فما تصنع ؟ فقال لنا يوماً - بعد ستة عشر يوما - : إنكما قد أكثرتما عليّ وألححتما فاعْرِضا عليّ ما كتبتما ، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر القلب ، حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه ، ثم قال : أترون أني أختلف هدراً ، وأضيع أيامي ؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد .
ومما يدلّ على سعة علمه وحافظته الخارقة هذه الحكاية(1/176)
قال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ : سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث ، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث ، فقلبوا متونها وأسانيدها ، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا ، وإسناد هذا المتن هذا ، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس ، فاجتمع الناس ، وانتدب أحدهم ، فسأل البخاري عن حديث من عشرته ، فقال : لا أعرفه ، وسأله عن آخر ، فقال : لا أعرفه ، وكذلك حتى فرغ من عشرته فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ، ويقولون : الرجل فهم ! ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز ، ثم انتدب آخر ، ففعل كما فعل الأول ، والبخاري يقول : لا أعرفه ، ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس ، وهو لا يزيدهم على : لا أعرفه . فلما علم أنهم قد فرغوا ، التفت إلى الأول منهم ، فقال : أما حديثك الأول فكذا ، والثاني كذا ، والثالث كذا إلى العشرة ، فَرَدّ كل متن إلى إسناده ، وفعل بالآخرين مثل ذلك ، فأقّرّ له الناس بالحفظ . فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول : الكبش النطاح !
وكَتَب عنه بعض شيوخه ، مما يدلّ على سعة علمه ، وشهادتهم له بالفضل
قال محمد بن أبي حاتم : رأيت عبد الله بن مُنير يكتب عن البخاري .
وعبد الله بن مُنير من شيوخ البخاري .
ومما يدل على سعة علمه واطّلاعه أنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح وضعفها من الضعيف
قال ابن عدي : حدثني محمد بن أحمد القومسي قال : سمعت محمد بن خميرويه يقول : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : أحفظ مئة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح .
ثناء العلماء والأئمة عليه :
قال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم : حدثني بعض أصحابي إن أبا عبد الله البخاري صار إلى أبي إسحاق السرماري عائدا ، فلما خرج من عنده قال أبو إسحاق : من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه فلينظر إلى محمد بن إسماعيل .(1/177)
وقال أبو جعفر : سمعت يحيى بن جعفر يقول : لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت ، فإن موتي يكون موت رجل واحد ، وموته ذهاب العلم .
وقال : سمعت يحيى بن جعفر وهو البيكندي يقول لمحمد بن إسماعيل : لولا أنت ما استطبت العيش ببخارى .
وقال عبدان : ما رأيت بعيني شابا أبصر من هذا ، وأشار بيده إلى محمد بن إسماعيل .
وقال نعيم بن حماد : محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة .
قال أحمد بن عبد السلام : ذكرنا قول البخاري لعلي بن المديني يعني : ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي بن المديني ، فقال علي بن المديني : دعوا هذا ! فإن محمد بن إسماعيل لم ير مثل نفسه .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير : ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل .
وعن عبد الله بن أحمد بن حنيل قال : سمعت أبي يقول : ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : لم يجئنا من خراسان مثل محمد بن إسماعيل .
وقال حاشد بن إسماعيل : كنت بالبصرة ، فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل ، فلما قدم قال بُندار : اليوم دخل سيد الفقهاء .
وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ( إمام الأئمة ) : ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ له من محمد بن إسماعيل .
وقال قتيبة : لو كان محمد في الصحابة لكان آية .
وقال الحاكم : سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول : سمعت أبي يقول : رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي .
وهذا الإمام مسلم بن الحجاج - وجاء إلى البخاري - فقبّل بين عينيه ، وقال : دعني أقبل رجليك
قال محمد بن حمدون بن رستم : سمعت مسلم بن الحجاج - وجاء إلى البخاري - فقال : دعني أقبل رجليك ! يا أستاذ الأستاذين ، وسيد المحدثين ، وطبيب الحديث في علله .
ومسلم بن الحجاج هو الإمام مسلم صاحب صحيح مسلم .(1/178)
وقال أبو عيسى الترمذي : لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل .
وأبو عيسى هو الترمذي صاحب جامع الترمذي ، وهو ينقل عن الإمام البخاري كثيراً ، ويسأله في علل الأحاديث وصحتها .
وقال أحمد بن نصر الخفاف : حدثنا محمد بن إسماعيل التقي النقي العالم الذي لم أرَ مثله ...
وقال محمد بن يعقوب بن الأخرم : سمعت أصحابنا يقولون : لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل ركباناً على الخيل ، سوى من ركب بغلا أو حماراً وسوى الرجالة .
وقال سليم بن مجاهد : ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه ، ولا أورع ، ولا أزهد في الدنيا من محمد بن إسماعيل .
ورعه : كان الإمام البخاري رحمه الله ورعاً شديد الورع
قال بكر بن منير : سمعت أبا عبد الله البخاري يقول : أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً .
قال الإمام الذهبي في السير : قلت صدق رحمه الله ، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه ، فإنه أكثر ما يقول : منكر الحديث ، سكتوا عنه ، فيه نظر ، ونحو هذا ، وقلّ أن يقول فلان كذاب ، أو كان يضع الحديث ، حتى إنه قال : إذا قلت فلان في حديثه نظر ، فهو متهم واه ، وهذا معنى قوله : لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً . وهذا هو والله غاية الورع .
قال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت البخاري يقول : لا يكون لي خصم في الآخرة ، فقلت : إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب التاريخ ، ويقولون : فيه اغتياب الناس ، فقال : إنما روينا ذلك رواية لم نقله من عند أنفسنا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : بئس مولى العشيرة . يعني حديث عائشة رضي الله عنها .
قال : وسمعته يقول : ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة تضرّ أهلها .(1/179)
مِن زهده : قال الحسين بن محمد السمرقندي : كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال ، مع ما كان فيه من الخصال المحمودة : كان قليل الكلام ، وكان لا يطمع فيما عند الناس ، وكان لا يشتغل بأمور الناس ، كل شغله كان في العلم .
مِن كرمه : قال محمد بن أبي حاتم : كان يتصدق بالكثير ، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد ، وكان لا يفارقه كيسه . قال : ورأيته ناول رجلا مرارا صُرة فيها ثلاث مئة درهم .
مما ذُكر في عبادته : قال محمد بن أبي حاتم الوراق : وكان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة ، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم ، فقلت : أراك تحمل على نفسك ولم توقظني ؟ قال : أنت شاب ولا أحب أن أفسد عليك نومك .
وقال بكر بن منير : كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات ليلة ، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة ، فلما قضى الصلاة قال : انظروا أيش آذاني ؟!
وقال محمد بن أبي حاتم : دُعي محمد بن إسماعيل إلى بستان بعض أصحابه ، فلما صلى بالقوم الظهر قام يتطوع ، فلما فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه فقال لبعض من معه : انظر هل ترى تحت قميصي شيئا ؟ فإذا زنبور قد أبَرَهُ في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا ، وقد تورم من ذلك جسده ، فقال له بعض القوم : كيف لم تخرج من الصلاة أول ما أبَرَك ؟ قال : كنت في سورة فأحببت أن أتمها .
جهاده :
كعادة العلماء الربانيين ، يُسطّرون العلم بمحابرهم ، ويُعطّرون التاريخ بدمائهم .
وكان الإمام البخاري رحمه الله مع سعة علمه وتعليم الناس ، واشتغاله بذلك ، كان يُقيم في الثغور أحيانا
ويدل على ذلك هذه القصة(1/180)
قال محمد بن أبي حاتم : رأيت محمد بن إسماعيل البخاري استلقى على قفاه يوما ونحن بـ " فَرَبْر " في تصنيفه كتاب " التفسير " وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث ، فقلت له إني أراك تقول : إني ما أثبت شيئا بغير علم قط منذ عقلت ، فما الفائدة في الاستلقاء ؟ قال : أتعبنا أنفسنا اليوم ، وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العد ، فأحببت أن استريح ، وآخذ أهبة ، فإن غافََصَنا العدو كان بنا حِراك . ( غافصنا أي فاجأنا ) .
قال : وكان يركب إلى الرمي كثيرا ، فما أعلمُني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين ، فكان يصيب الهدف في كل ذلك ، وكان لا يُسبق .
تأليفه للصحيح :
نفعه الله بمقترح سمعه عند شيخ من شيوخه ، ذلكم هو الإمام الجليل إسحاق بن راهويه
قال الإمام البخاري :
كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا : لو جمعتم كتابا مختصراً لسنن النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع هذا الكتاب .
وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه ، فسألت بعض المعبرين ، فقال لي : أنت تذبّ عنه الكذب ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح .
وقال الفربري : سمعت محمد بن أبي حاتم البخاري الوراق يقول : رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في المنام يمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي ، فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع .
وهذا الكتاب الذي جمعه هو المشهور بـ ( صحيح البخاري ) .
وقد سماه الإمام البخاري : الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه .
وهو أول كتاب صُنف في الحديث الصحيح المجرد ، وصنّفه في ست عشرة سنة .
قال فيه الإمام البخاري : وما أدخلت فيه حديثا إلا بعدما استخرت الله تعالى ، وصليت ركعتين ، وتيقنت صحته .(1/181)
ولما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم ، فاستحسنوه ، وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث . قال العقيلي : والقول فيها قول البخاري ، وهي صحيحة .
وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل ،وتلقّته الأمة بالقبول ، وأجمعت الأمة على وجوب العمل بأحاديثه .
والجمهور على ترجيح البخاري على مسلم ؛ لأنه أكثر فوائد منه .
قال النسائي : ما في هذه الكتب أجود منه .
عدد أحاديثه :
جملة ما فيه من الأحاديث المسندة سبعة آلاف وخمس مئة وثلاثة وسبعون حديثا ، بالأحاديث المكررة ، وبحذفها نحو أربعة آلاف حديث .
وقد قيل فيه :
صحيح البخاري لو أنصفوه = لما خط إلا بماء الذهب
هو الفرق بين الهدى والعمى = هو السد بين الفتى والعطب
أسانيد مثل نجوم السماء = أمام متون كمثل الشهب
به قام ميزان دين الرسول = ودان به العجم بعد العرب
فيا أخوتاه :
لا يحقرن أحد منكم مُقترحأً يقترحه على من يتوسّم فيه الخير ثريّاً كان أو عالماً أو طالب علم .
ابتلاؤه :
قال ابن عدي سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول : جاء محمد إلى أقربائه بـ " خَرْتَنْك " فسمعته يدعو ليلة إذ فرغ من ورده : اللهم إنه قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، فاقبضني إليك ، فما تم الشهر حتى مات .
وفاته :
توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء ، ودُفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومئتين ، وعاش اثنتين وستين .
فرحم الله الإمام البخاري برحمته الواسعة ، وأسكنه فسيح جناته .
وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء وأوفره وأجزله .
ووالله إني لأحبه حباً شديداً ، وأرجو الله أن يجمعنا به في دار كرامته ، وبحبوحة جنته .
ورحم الله الإمام البخاري فلقد كان أمة وحدة .
لم يكن صاحب بدعة بل كان صاحب سنة ، بل علما في السنة .
ولم يكن مُقلِّداً لغيره بل كان إماماً مُجتهداً .
فرحمه الله وأعلى منزلته .
زيادة في مصادر ترجمته :(1/182)
سير أعلام النبلاء
هدي الساري مقدمة فتح الباري
مقدمة عمدة القارئ
45-سيرة القائد التكريتي البطل المجاهد
هو قائد بطل ، الكل يعرفه
هو السلطان الكبير ، والملك الناصر .
يعرفه المسلم والكافر
دوّخ الصليبيين
وقاتَل الرافضة حتى هدم عروشهم ، ومحا مُلكهم ، وأقام السنة مكان البدعة . من أجل ذلك تبغضه الرافضة ولا تحبه ! ( وهل أحبّت الرافضة أحداً على الحقيقة ؟؟؟!! )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع أعداء الدين ، ولما كانوا ملوك القاهرة كان وزيرهم مرة يهوديا ، ومرة نصرانيا أرمينيا ، وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرميني ، وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة المنافقين ، وكانوا ينادون بين القصرين من لعن وسبّ فله دينار وإردبّ ، وفى أيامهم أَخَذَت النصارى ساحل الشام من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين ، وفى أيامهم جاءت الفرنج إلى " بلبيس " وغُلبوا من الفرنج فإنهم منافقون وأعانهم النصارى ، والله لا ينصر المنافقين الذين هم يوالون النصارى ، فبعثوا إلى نور الدين يطلبون النجدة ، فأمدهم بأسد الدين وابن أخيه صلاح الدين ، فلما جاءت الغزاة المجاهدون إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى فطلبوا قتال الغزاة المجاهدين المسلمين ، وجرت فصول يعرفها الناس حتى قَتَلَ صلاح الدين مقدمهم " شاور " ، ومن حينئذ ظهرت بهذه البلاد كلمة الإسلام والسنة والجماعة ، وصار يقرأ فيها أحاديث رسول الله عليه وسلم . انتهى كلامه .
( الإردب : مكيال )
وقولهم ( من لعن وسبّ ) يعني من لعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وسبّهم
اسمه :
يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدويني ثم التكريتي المولد .
كنيته :
أبو المظفر .
لقبه :
صلاح الدين .
مولده :(1/183)
ولد في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة ، إذ كان أبوه نجم الدين متولي تكريت نيابة . وكان أبوه ذا صلاح ، ولم يكن صلاح الدين بأكبر أولاده .
قال بن خلكان : بلغني أن صلاح الدين قدم به أبوه وهو رضيع ، فناب أبوه ببعلبك إلى آخذها أتابك زنكي ، وقيل : إنهم خرجوا من تكريت في ليلة مولد صلاح الدين ، فتطيّروا به ! فقال شيركوه - أو غيره - : لعل فيه الخير ، وأنتم لا تعلمون .
طلبه للعلم :
سمع من أبي طاهر السِّلفي ، والفقيه علي بن بنت أبي سعد ، وأبي الطاهر بن عوف .
وصف مجلس من مجالسه :
قال الموفق عبد اللطيف : أتيت وصلاح الدين بالقدس ، فرأيت ملكا يملأ العيون روعة ، والقلوب محبة ، قريباً بعيداً سهلاً محبباً ، وأصحابه يتشبهون به يتسابقون إلى المعروف ، كما قال تعالى : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) وأول ليلة حضرته وجدت مجلسه حَفْلاً بأهل العلم يتذاكرون ، وهو يحسن الاستماع والمشاركة ، ويأخذ في كيفية بناء الأسوار ، وحفر الخنادق ، ويأتي بكل معنى بديع ، وكان مهتماُ في بناء سور بيت المقدس وحفر خندقه ، ويتولى ذلك بنفسه ، وينقل الحجارة على عاتقه ويتأسى به الخلق حتى القاضي الفاضل ، والعماد إلى وقت الظهر ، فيمد السماط ويستريح ويركب العصر ، ثم يرجع في ضوء المشاعل .
أعماله وجهاده :
ولي صلاح الدين وزارة العاضد ، وكانت كالسلطنة ، فولي بعد عمّه سنة 564 هـ .
كان نور الدين قد أمّره وبعثه في عسكره مع عمه أسد الدين شيركوه ، فحكم شيركوه على مصر ، فما لبث أن توفي ، فقام بعده صلاح الدين ، ودانت له العساكر ، وقهر بني عبيد ( الرافضة في مصر ) ومحا دولتهم ، واستولى على قصر القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس ، منها الجبل الياقوت الذي وزنه سبعة عشر درهما .(1/184)
وخلا القصر من أهله وذخائره وأقام الدعوة العباسية .وكان خليقاً للإمارة ، مهيباً شجاعاً حازماً مجاهداً ، كثير الغزو عالي الهمة ، كانت دولته نيفا وعشرين سنة .
وتملّك بعد نور الدين واتسعت بلاده .ومنذ تسلطن طلّق الخمر واللذات ، وأنشأ سورا على القاهرة ومصر ، وبعث أخاه شمس الدين في سنة ثمان وستين فافتتح برقة ، ثم افتتح اليمن ، وسار صلاح الدين فأخذ دمشق من ابن نور الدين ،
وفي سنة إحدى وسبعين حاصر عَزاز ووثبت عليه الباطنية فجرحوه . وفي سنة ثلاث كسرته الفرنج على الرملة وفر في جماعة ونجا .وفي سنة خمس التقاهم وكسرهم . وفي سنة ست أمر ببناء قلعة الجبل .
وفي سنة ثمان عَدّى الفرات ، وأخذ حرّان وسَروج والرَّقَة والرُّها وسنجار والبيرة وآمد ونصيبين ، وحاصر الموصل ، ثم تملك حلب وعوض عنها صاحبها زنكي بسنجار ، ثم إنه حاصر الموصل ثانيا وثالثا ، ثم صالحه صاحبها عز الدين مسعود ، ثم أخذ شهرزور والبوازيج .
وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية ، ونازل عسقلان ، ثم كانت وقعة حطين بينه وبين الفرنج ، وكانوا أربعين ألفا ، فحال بينهم وبين الماء على تلّ ، وسلموا نفوسهم ، وأسرت ملوكهم ، وبادر فأخذ عكا وبيروت وكوكب ، وسار فحاصر القدس ، وجدّ في ذلك فأخذها بالأمان .
وسار عسكرٌ لابن أخيه تقي الدين عمر فأخذوا أوائل المغرب ، وخطبوا بها لبني العباس .
ثم إن الفرنج قامت قيامتهم على بيت المقدس ، وأقبلوا كقطيع الليل المظلم براً وبحراً وأحاطوا بعكا ليستردوها ، وطال حصارهم لها ، وبنوا على نفوسهم خندقا ، فأحاط بهم السلطان ودام الحصار لهم وعليهم نيفاً وعشرين شهراً ، وجرى في غضون ذلك ملاحم وحروب تُشيّب النواصي ، وما فكوا حتى أخذوها ، وجرت لهم وللسلطان حروب وسير ، وعندما ضرس الفريقان ، وكلّ الحزبان ، تهادن الملّتان .
وكانت له همة في إقامة الجهاد ، وإبادة الأضداد ما سمع بمثلها لأحد في دهر .(1/185)
وتعرّض صلاح الدين لمحاولة اغتيال مِن قِبل الباطنية ، ولكن الله نجاه وسلمه . وفي سنة تسع وسبعين نازل صلاح الدين حلب وأخذها .
وفي سنة ثلاث وثمانين افتتح صلاح الدين بلاد الفرنج ، وقهرهم وأباد خضراءهم وأسر ملوكهم على حطين ، وكان قد نذر أن يقتل " أرناط " صاحب الكرك ، فأسره يومئذ ، وكان قد مرّ به قوم من مصر في حال الهدنة ، فغدر بهم ، فناشدوه الصلح ، فقال ما فيه استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وقَتَلَهم ، فاستحضر صلاح الدين الملوك ، ثم ناول الملك جفري شربة جلاب ثلج ، فشرب ، فناول أرناط ، فشرب ، فقال السلطان للترجمان : قل لجفري : أنت الذي سقيته وإلا أنا فما سقيته ، ثم استحضر " البرنس أرناط " في مجلس آخر ، وقال : أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم منك ، ثم عرض عليه الإسلام ، فأبى ، فَحَلّ كتفه بالنيمجاه ، وافتتح عامه ما لم يفتحه ملك ، وطار صيته في الدنيا ، وهابته الملوك .
و " النيمجاه " خنجر مقوّس ، يُشبه السيف القصير .
قال ابن كثير في كلامه عن معركة حطين :
فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان وأسفر وجه الإيمان واغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان ، وذلك عشية يوم الجمعة ، فبات الناس على مصافّهم وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوما عسيراً على أهل الأحد ، وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر ، فطلعت الشمس على وجوه الفرنج ، واشتد الحر ، وقوى بهم العطش ، وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيما ، وكان ذلك عليهم مشئوما ، فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط ، فرموه فتأجج ناراً تحت سنابك خيولهم ، فاجتمع عليهم حرّ الشمس وحرّ العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال ، وتبارز الشجعان ، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة ، فحملوا ،(1/186)
وكان النصر من الله عز وجل ، فمنحهم الله أكتافهم ، فقُتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم ، وأسر ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم ، وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة ، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم ، وهو الذين يزعمون أنه صلب عليه المصلوب ، وقد غلفوه بالذهب واللآلىء والجواهر النفسية ، ولم يُسمع بمثل هذا اليوم في عزّ الإسلام وأهله ، ودمغ الباطل وأهله ، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج قد ربطهم بطنب خيمة ، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله ، وَجَرَتْ أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين ، فلله الحمد دائما كثيرا طيبا مباركا ، فلما تمت هذه الوقعة ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم ، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرّة ، وعن يساره مثلها وجيء بالأسارى تتهادى بقيودهم ، فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمي الداوية والأساري بين يديه صبراً ، ولم يترك أحدا منهم ممن كان يذكر الناس عنه شراً .
مِن محاسنه :
محاسن صلاح الدين جمة ، لا سيما الجهاد ، فله فيه اليد البيضاء ببذل الأموال والخيل المثمنة لجنده ، وله عقل جيد ، وفهم وحزم وعزم .
قال العماد : أطلق في مدة حصار عكا اثني عشر ألف فرس . قال : وما حضر اللقاء إلا استعار فرسا ، ولا يَلبس إلا ما يحل لبسه كالكتان والقطن ، نزّه المجالس من الهزل ، ومحافله آهلة بالفضلاء ، ويؤثر سماع الحديث بالأسانيد ، حليما مقيلا للعثرة ، تقيا نقيا وفيا صفيا ، يُغضي ولا يغضب ، ما رد سائلا ، ولا خَجّل قائلا ، كثير البر والصدقات ، أنكر علي تحلية دواتي بفضة ، فقلت : في جوازه وجه ذكره أبو محمد الجويني . قال : وما رأيته صلى إلا في جماعة .
وكان صلاح الدين شديد القوى عاقلا وقورا مهيبا كريما شجاعا .
زهده :(1/187)
لم يُخلّف صلاح الدين في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما وديناراً صوريا ، ولم يُخلف ملكا ولا عقارا رحمه الله ، ولم يختلف عليه في أيامه أحد من أصحابه ، وكان الناس يأمنون ظلمه ، ويرجون رِفده ، وأكثر ما كان يصل عطاؤه إلى الشجعان وإلى العلماء وأرباب البيوتات ، ولم يكن لمبطل ولا لمزاح عنده نصيب .
وفاته :
توفي رحمه الله بقلعة دمشق بعد الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمس مئة .
فرحم الله ذلك القائد البطل الشجاع صلاح الدين الأيوبي. ونسأل الله أن يُهيئ لأمة الإسلام مِن مثله مَن تُكسر على أيديهم الصّلبان ، وتُحطّم على أيديهم الأوثان .
يُنظر لسيرته :
سير أعلام النبلاء
والبداية والنهاية لابن كثير
46-سيرة الإمام الزاهد مُعتزِل الفتن
هو إمام من أئمة المسلمين .
آتاه الله العلم ، فأخذ منه بِحظٍّ وافر .
ولذا لما أطلّت الفتنة بقرونها ولاّها ظهره واعتزلها ، رغبة فيما عند الله ، وطمعاً في سلعة الله الغالية .هو مِن صغار الصحابة رضي الله عنهم ، ومع ذلك صار عالماً من علماء الصحابة يُشار إليه بالبنان .
إن تكلّم سُمِع كلامه ، وإن أفتى أُخِذ بقوله ، وإن قال صدق .
فلله درّه .
هو صحابي وابن صحابي رضي الله عنه وعن أبيه . وكفى بصحبة خير البشر وسيد ولد آدم فخراً ورفعة . مالت الدنيا بأقرانه ولم يمل مع مَن مال . فمَن هو هذا العَالِم العَلَم ؟
اسمه :
عبد الله
وكنيته :
أبو عبد الرحمن
هو :
عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل رضي الله عنهما .
قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله : الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المكي ثم المدني . أسلم وهو صغير ثم هاجر مع أبيه لم يحتلم واستُصغِر يوم أحد ، فأولّ غزواته الخندق ، وهو ممن بايع تحت الشجرة ، وأمه وأمّ أم المؤمنين حفصة زينب بنت مظعون ، أخت عثمان بن مظعون الجمحي .
وقال :(1/188)
روى علما كثيراً نافعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبيه وأبي بكر وعثمان وعلي وبلال وصهيب وعامر بن ربيعة وزيد بن ثابت وزيد عمه وسعد وابن مسعود وعثمان بن طلحة وأسلم وحفصة أخته وعائشة وغيرهم . انتهى .
روى عنه خلق كثير .
وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية ، وأحد العبادلة الأربعة ، وثانيهم ابن عباس ، وثالثهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورابعهم عبد الله بن الزبير .
جهاده :
كان مُجاهداً منذ نعومة أظفاره .
قال ابن عمر رضي الله عنهما : عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال ، وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فلم يُجزني ، وعرضني يوم الخندق وأنا بن خمس عشرة سنة ، فأجازني . رواه البخاري ومسلم .
وشهِد فتح مكة وله عشرون سنة .
وقدِم الشام والعراق والبصرة وفارِس غازياً . وشهِد فتح مصر .روى حجاج بن أرطاة عن نافع أن ابن عمر بارز رجلاً في قتال أهل العراق ، فقتله ، وأخذ سَلَبه .
عبادته :
كان رضي الله عنه عابداً كثير العبادة
قال ابن عمر رضي الله عنهما : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت غلاماً شاباً ، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطيّ البئر ، وإذا لها قرنان ، وإذا فيها أناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار . قال : فلقينا مَلَك آخر فقال لي : لم ترع ، فقصصتها على حفصة ، فقصّتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل . فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا . رواه البخاري ومسلم .(1/189)
قال حبيب بن الشهيد : قيل لنافع : ما كان يصنع ابن عمر في منزله ؟ قال : لا تطيقونه ؛ الوضوء لكل صلاة ، والمصحف فيما بينهما .
وقال نافع : كان ابن عمر لا يصوم في السفر ، ولا يكاد يفطر في الحضر .
زُهده :
كان رضي الله عنه زاهداً مُعرضاً عن الدنيا والافتتان بها . قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
وقال : لقد رأيتنا ونحن متوافرون ، وما فينا شاب هو أملك لنفسه من ابن عمر . وقال حذيفة رضي الله عنه : ما مِنّا أحد يُفتش إلا يُفتش عن جائفة أو منقلة إلا عمر وابنه .
( والجائفة هي الطعنة الواصلة للجوف ، والمُنَقِّلة وهي ما توضّح العظم وتهشمه ) قال ذلك كناية عن المعائب .وقال جابر رضي الله عنه : ما منا أحد أدرك الدنيا إلا وقد مالت به إلا ابن عمر . وقالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من ابن عمر . وقال ميمون بن مهران : دخلت على ابن عمر فقوّمت كل شيء في بيته من أثاث ما يسوى مئة درهم !
وقال مولاه نافع : إنْ كان ابن عمر ليفرّق في المجلس ثلاثين ألفا ، ثم يأتي عليه شهر ما يأكل مزعة لحم .
اتِّباعه للسنة :
كان ابن عمر رضي الله عنهما مِن أكثر الناس اتّباعاً للسنة رضي الله عنه . وكان شديد الاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم
ولذا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو تركنا هذا الباب للنساء . قال نافع : فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات . رواه أبو داود .
ومن ذلك
ما رواه مسلم عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها . قال فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن . قال : فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّاً سيئا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن ؟
رقّة ابن عمر رضي الله عنهما :(1/190)
قال نافع : كان ابن عمر إذا قرأ : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ) بكى حتى يغلبه البكاء .وروى عاصم بن محمد العمري عن أبيه قال : ما سمعت ابن عمر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بكى .
وقال يوسف بن ماهك : رأيت ابن عمر عند عبيد بن عمير ، وعبيد يقصّ ، فرأيت ابن عمر ودموعه تهراق . و عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه أنه تلا : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) فجعل ابن عمر يبكي حتى لثقت لحيته وجيبه من دموعه ، فأراد رجل أن يقول لأبي : أقصر فقد آذيت الشيخ .
اعتزاله الفتن :
كتب الحجاج إلى ابن عمر : بلغني أنك طلبت الخلافة ، وإنها لا تصلح لعيي ولا بخيل ولا غيور . فكتب إليه : أما ما ذكرت من الخلافة فما طلبتها وما هي من بالي ، وأما ما ذكرت من العي فمن جمع كتاب الله فليس بعيي ، ومن أدى زكاته فليس ببخيل ، وإن أحق ما غرت فيه ولدي أن يشركني فيه غيري !
لما أُريد ابن عمر على الفتنة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه أبى ، وهرب على مكة فرضي الله عنه . قال حبيب بن أبي ثابت أن ابن عمر قال يوم دومة جندل : جاء معاوية على بختي عظيم طويل فقال : ومن الذي يطمع في هذا الأمر ويمدّ إليه عنقه ، قال ابن عمر : فما حدّثت نفسي بالدنيا إلا يومئذ ، هممت أن أقول : يطمع فيه من ضربك وأباك عليه ، ثم ذكرت الجنة ونعيمها فأعرضت عنه .
قال ابن عمر رضي الله عنهما :
دخلت على حفصة ونوساتها تنطف فقلت : قد كان من الناس ما ترين ، ولم يُجعل لي من الأمر شيء . قالت : فالحق بهم ، فإنهم ينتظرونك وإني أخشى أن يكون في احتباسك عنهم فُرقة ، فلم يرعه حتى ذهب قال : فلما تفرق الحكمان خطب معاوية فقال : من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع إليّ قرنه ! فنحن أحق بذلك منه ومن أبيه . يُعرّض بابن عمر !(1/191)
فقال له حبيب بن مسلمة : فهلا أجبته فداك أبي وأمي ؟ فقال ابن عمر : حللت حبوتي فهممت أن أقول : أحق بذلك منك من قاتلك وأباك على الإسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرّق الجمع ، ويسفك فيها الدم ، فذكرت ما أعد الله في الجنان . رواه البخاري .
وقال سلام بن مسكين : سمعت الحسن يقول : لما كان من أمر الناس ما كان زمن الفتنة أتوا ابن عمر فقالوا : أنت سيد الناس وابن سيدهم ، والناس بك راضون ، اخرج نبايعك . فقال : لا والله لا يُهراق فيّ محجمة من دم ، ولا في سببي ما كان فيّ روح .
إمامته رضي الله عنه :
يدلّ على إمامته هذه القصة :
لما ابتنى معاوية بالأبطَح مجلسا جلس عليه ومعه ابنه قُرَظَة ، فإذا هو بجماعة على رحال لهم ، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى :
من يساجلني يساجل ما جداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكُرب
قال : من هذا ؟
قالوا : عبدالله بن جعفر .
قال : خلُّوا له الطريق .
ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى :
بينما يذكرنني أبصرنني *** عند قِيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى ؟ قلن : نعم *** قد عرفناه وهل يخفى القمر ؟
قال : من هذا ؟
قالوا : عمر بن أبي ربيعة .
قال : خلُّوا له الطريق فليذهب .
قال : ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسأل ، فيقال له : رميت قبل أن أحلق ؟ وحلقت قبل أن أرمي ؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج ، فقال : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بنُ عمر ، فالتَفَتَ إلى ابنه قُرَظَة وقال : هذا الشرف . هذا والله شرف الدنيا والآخرة .
قال الإمام مالك : كان إمام الناس عندنا بعد زيد بن ثابت عبد الله بن عمر ، مكث ستين سنة يُفتي الناس .
شِدّته في الحق :(1/192)
حدّث إسحاق بن سعيد بن عمرو الأموي عن أبيه عن ابن عمر أنه قام إلى الحجاج وهو يخطب فقال : يا عدو الله استُحلّ حرم الله ، وخرب بيت الله . فقال : يا شيخا قد خرّف ، فلما صدر الناس أمر الحجاج بعض مسوّدته فأخذ حربة مسمومة وضرب بها رجل ابن عمر ، فمرض ومات منها ، ودخل عليه الحجاج عائداً ، فسلم فلم يرد عليه ، وكلّمه ، فلم يُجبه .
وروى ابن سيرين أن الحجاج خطب فقال : إن ابن الزبير بدّل كلام الله ، فعلم ابن عمر فقال : كذب ! لم يكن ابن الزبير يستطيع أن يبدل كلام الله ولا أنت . قال الحجاج : إنك شيخ قد خرّفت الغد ! قال ابن عمر : أما إنك لو عدتَ عدتُ .
وفاته رضي الله عنه :
توفي رضي الله عنه سنة ثلاث وسبعين من الهجرة .
وهو ابن خمس وثمانين سنة .
فرضي الله عنه وأرضاه .
اللهم إنا ،ُشهدك على حب عبد الله بن عمر ، وعلى حب أبيه من قبله ، فاحشرنا في زمرتهم .
47-سيرة الإمام الشهيد أمير المؤمنين
هو الإمام إذا عُد الأئمة، هو البطل إذا عُدّ الأبطال، هو الشجاع المِقدام، هو البطل الهُمام، هو الشهيد الذي قُتِل غدراً ، ولو أراد قاتله قتله مواجهته ما استطاع .
ولكن عادة الجبناء الطعن في الظهر !
فليتها إذ فَدَتْ عمراً بخارجةٍ = فَدَتْ علياً بمن شاءت من البشر
فمن هو ؟
هو أمير المؤمنين الإمام الكريم : علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ، أبو الحسن . رضي الله عنه وأرضاه .
كُنيته : أبو الحسن .
وكنّاه النبي صلى الله عليه وسلم : أبا تراب ، وسيأتي الكلام على سبب ذلك .
مولده :
وُلِد قبل البعثة بعشر سنين .
وتربّى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُفارقه .
فضائله :
فضائله جمّة لا تُحصى
ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد : لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي .(1/193)
وقال غيره : وكان سبب ذلك بغض بني أمية له ، فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يُثبته ، وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حدّث بمناقبه لا يزداد إلا انتشارا .
ومن هنا قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية : باب ذِكر شيء من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
ثم أطال رحمه الله في ذكر فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : فمن ذلك أنه أقرب العشرة المشهود لهم بالجنة نسبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الحافظ ابن حجر : وقد ولّد له الرافضة مناقب موضوعة ، هو غنى عنها .
قال : وتتبع النسائي ما خُصّ به من دون الصحابة ، فجمع من ذلك شيئا كثيراً بأسانيد أكثرها جياد .
وكتاب الإمام النسائي هو " خصائص عليّ رضي الله عنه " .
وهذا يدلّ على محبة أهل السنة لعلي رضي الله عنه .
وأهل السنة يعتقدون محبة علي رضي الله عنه دين وإيمان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلُّهُمْ لي مَذْهَبٌ = وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّل
من فضائله رضي الله عنه :
أول الصبيان إسلاماً .
أسلم وهو صبي ، وقُتِل في الإسلام وهو كهل .
قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه يوم غدير خم : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى . قال : اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه . اللهم والِ من والاه ، وعاد من عاد . رواه الإمام أحمد وغيره .
وروى الإمام مسلم في فضائل علي رضي الله عنه قوله رضي الله عنه : والذي فلق الحبة ، وبرأ النَّسَمَة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق .(1/194)
وروى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال في حق عليّ رضي الله عنه : ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبّه ؛ لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ، خَلّفه في بعض مغازيه فقال له عليّ : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا انه لا نبوة بعدي ؟ وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله . قال : فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي علياً . فأُتي به أرمد ، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه . ولما نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي .
روى عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً .
شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة تبوك ، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ،إلا أنه لا نبي بعدي .
وهذا كان يوم تبوك خلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وموسى خلف هارون على قومه لما ذهب موسى لميعاد ربه .
وهو بَدري من أهل بدر ، وأهل بدر قد غفر الله لهم .
وشهد بيعة الرضوان .
وهو من العشرة المبشرين بالجنة .
وهو من الخلفاء الراشدين المهديين فرضي الله عنه وأرضاه .
وهو زوج فاطمة البتول رضي الله عنها ، سيدة نساء العالمين .
وهو أبو السبطين الحسن والحسين ، سيدا شباب أهل الجنة .
قال صلى الله عليه وسلم : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما . رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني .(1/195)
وكان علي رضي الله عنه أحد الشورى الذين نص عليهم عمر ، فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف وشرط عليه شروطا امتنع من بعضها ، فعدل عنه إلى عثمان ، فقبلها فولاه ، وسلم عليّ وبايع عثمان .
ولم يزل عليّ رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم متصديا لنصر العلم والفتيا .
من خصائص عليّ رضي الله عنه :
ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله علي يديه ، يحبّ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله . قال : فَباتَ الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها . قال : فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا : هو يا رسول الله يشتكى عينيه . قال : فأرسلوا إليه . فأُتيَ به ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية .
ولذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ . كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
لا لأجل الإمارة ، ولكن لأجل هذه المنزلة العالية الرفيعة " يحبّ الله ورسوله ويُحبُّه الله ورسوله "
اشتهر عليّ رضي الله عنه بالفروسية والشجاعة والإقدام .
وكان اللواء بيد علي رضي الله عنه في أكثر المشاهد .
بارز عليٌّ رضي الله عنه شيبة بن ربيعة فقتله عليّ رضي الله عنه ، وذلك يوم بدر .
وكان أبو ذر رضي الله عنه يُقسم قسما إن هذه الآية ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر ؛ حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة . رواه البخاري ومسلم .(1/196)
وفي اُحد قام طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين فقال : يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟! فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار ، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة ، فضربه عليّ فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال : أنشدك الله والرحم يا ابن عمّ . فكبر رسول الله
وقال أصحاب عليّ لعلي : ما منعك أن تُجهز عليه ؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته ، فاستحييت منه .
وبارز مَرْحَب اليهودي يوم خيبر
فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال :
قد علمت خيبر أني مرحب = شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة = كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندرة
ففلق رأس مرحب بالسيف ، وكان الفتح على يديه .
وعند الإمام أحمد من حديث بُريدة رضي الله عنه : فاختلف هو وعليٌّ ضربتين ، فضربه على هامته حتى عض السيف منه بيضة رأسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته . قال : وما تتامّ آخر الناس مع عليّ حتى فتح له ولهم .
ومما يدلّ على شجاعته رضي الله عنه أنه نام مكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة .
ومع شجاعته هذه فهو القائل : كُنا إذا احمرّ البأس ، ولقي القوم القوم ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه . رواه الإمام أحمد وغيره .
فما أحد أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن فضائله رضي الله عنه :
اجتمع له من الفضائل الجمّة ما لم يجتمع لغيره .
فمن ذلك ما أخرجه ابن عساكر أن علياً رضي الله عنه قال :
محمد النبي أخي وصهري = وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحى = يطير مع الملائكة ابن أمي(1/197)
وبنت محمد سكني وعرسي = مَسُوطٌ لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها = فأيكم له سهم كسهمي ؟
من كريم خُلقه :
أنه جاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فرفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك ، فإن أنت قضيتها حمدت الله وشكرتك ، وإن أنت لم تقضها حمدت الله وعذرتك ، فقال عليّ : اكتب حاجتك على الأرض ، فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك .
تواضعه رضي الله عنه :
قال عليّ رضي الله عنه : لا أوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر ، إلا جلدته حد المفتري .
وقال محمد بن الحنفية : قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر . وخشيت أن يقول عثمان . قلت : ثم أنت ؟ قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين . رواه البخاري .
ابتلاؤه رضي الله عنه :
ابتُلي رضي الله عنه من قبل أقوام ادّعوا محبّته ، فقد ادّعى أقوام من الزنادقة أن علياً رضي الله عنه هو الله ! فقالوا : أنت ربنا ! فاغتاظ عليهم ، وأمر بهم فحرّقوا بالنار ، فزادهم ذلك فتنة وقالوا : الآن تيقنا أنك ربنا ! إذ لا يعذب بالنار إلا الله .
وقال رضي الله عنه : يهلك فيّ اثنان ؛ محب يُقرّظني بما ليس فيّ ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني ، ألا إني لست بنبي ولا يوحى إليّ ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطعت ، فما أمرتكم من طاعة الله فحقّ عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم .(1/198)
وقد قيل لعلي رضي الله عنه : إن هنا قوماً على باب المسجد يدّعون أنك ربهم ، فدعاهم ، فقال لهم : ويلكم ما تقولون ؟ قالوا : أنت ربنا وخالقنا ورازقنا ! فقال : ويلكم إنما أنا عبدٌ مثلكم ؛ أكل الطعام كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وأرجعوا ، فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه ، فجاء قنبر فقال : قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام ، فقال : أدخلهم ، فقالوا : كذلك ، فلما كان الثالث قال : لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فقال : يا قنبر ائتني بفعلة معهم ، فخدّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر . وقال : احفروا فابعدوا في الأرض ، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال : إني طارحكم فيها أو ترجعوا ، فأبوا أن يرجعوا ، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال رضي الله عنه :
لما رأيت الأمر أمراً منكراً *** أوقدت ناري ودعوت قنبرا .
قال الحافظ في الفتح : وهذا سند حسن .
وأوذي ممن ادّعوا محبته ، بل ممن ادّعوا أنهم شيعته !
والذي قتل علياً رضي الله عنه ، وهو الشقي التعيس ( ابن ملجَم ) كان مِن شيعة عليّ !
ولذلك كان علي رضي الله عنه يقول في آخر حياته :
أشكو إلى الله عجري وبجري .
وقال رضي الله عنه في أهل الكوفة : اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وأبغضتهم وأبغضوني ، وحملوني على غير طبيعتي وخلقي ، وأخلاق لم تكن تعرف لي . اللهم فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شراً مني . اللهم أمِتْ قلوبهم موت الملح في الماء .
والكوفة هي موطن الشيعة الذين كانوا يدّعون محبته !
كلام جميل للحسن بن علي رضي الله عنهما :(1/199)
لما حضرت الحسن بن على الوفاة قال للحسين : يا أخي إن أبانا رحمه الله تعالى لما قُبض رسول الله استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه ، فصرفه الله عنه ، ووليها أبو بكر ، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوّف لها أيضا فصُرفت عنه إلى عمر ، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم ، فلم يشك أنها لا تعدوه فصُرفت عنه إلى عثمان ، فلما هلك عثمان بويع ثم نُوزع حتى جرّد السيف وطلبها فما صفا له شيء منها ، وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت النبوة والخلافة ، فلا أعرفن ما استخفك سفهاء أهل الكوفه فأخرجوك .
إنصافه رضي الله عنه :
وكان علي رضي الله عنه من أكثر الناس إنصافاً لخصومه .
فقد رأى عليٌّ رضي الله عنه طلحة رضي الله عنه في واد مُلقى ، فنزل فمسح التراب عن وجهه وقال : عزيز عليّ أبا محمد بأن أراك مجدلا في الأودية تحت نجوم السماء . إلى الله أشكو عجري وبجري . يعني : سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي .
وقال طلحة بن مصرف انتهى علي رضي الله عنه إلى طلحة رضي الله عنه وقد مات ، فنزل عن دابته وأجلسه ، ومسح الغبار عن وجهه ولحيته ، وهو يترحم عليه ، وقال : ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة .
وكان يقول : أني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي .
ولما سُئل عن أهل النهروان [ من الخوارج ] أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فرُّوا .
قيل: أفمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا . فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين ؟ قال : إخواننا بَغَوا علينا ، فقاتلناهم ببغيهم علينا . رواه ابن أبي شيبة والبيهقي .
علي رضي الله عنه والحِكمة :
كان علي رضي الله عنه واعظاً بليغاً مؤثراً ، وخطيباً مُصقعاً ، وكان ينطق بالحِكمة .
ولذلك عقد ابن كثير رحمه الله فصلا في البداية والنهاية فقال :(1/200)
فصل في ذكر شيء من سيرته العادلة ، وطريقته الفاضلة ، ومواعظه وقضاياه الفاصلة ، وخُطبه وحِكَمِهِ التي هي إلى القلوب واصلة .
ثم ساق تحت هذا الفصل طرفا من حِكم عليّ رضي الله عنه ومواعظه .
علي رضي الله عنه والشِّعر :
وكان علي رضي الله عنه شاعراً مُجيداً ، وقد اتّسم شعره بالحكمة .
ومن شِعره :
إذا اشتملت على اليأس القلوب = وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطَنِت المكاره واطمأنت = وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضرّ وجهاً = ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث = يمن به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت = فموصول بها الفرج القريب
ومِن شِعره :
فلا تصحب أخا الجهل = وإياك وإياهُ
فكم من جاهل أردى = حليما حين آخاهُ
يقاس المرء بالمرء = إذا ما المرء ما شاهُ
وللشيء على الشيء = مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب = دليل حين يلقاه
وقوله رضي الله عنه :
حقيق بالتواضع من يموت = ويكفى المرء من دنياه قوت
فما للمرء يصبح ذا هموم = وحرص ليس تدركه النعوت
صنيع ُمَلِيكِنا حَسَنٌ جميل = وما أرزاقه عنّا تفوت
فيا هذا سترحل عن قليل = إلى قوم كلامهم السكوت
زوجاته رضي الله عنه :
- سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها .
وولدت له الحسن والحسين ، ويُقال : ومُحسناً ، ويُقال : مات وهو صغير .
وولدت له من البنات : زينب الكبرى ، وأم كلثوم الكبرى ، وهي التي تزوجها عمر رضي الله عنه .
ولم يتزوّج علي رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها حتى ماتت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر .
ومن زوجاته :
- أم البنين بنت حزام .
وولدت له العباس وجعفراً وعبد الله وعثمان ، وقد قُتل هؤلاء مع أخيهم الحسين بكر بلاء ولا عقب لهم سوى العباس .
ومنهن :
- ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك من بني تميم ، فولدت له عبيد الله وأبا بكر . قال هشام بن الكلبي : وقد قتلا بكربلاء أيضا .
ومنهن :(1/201)
- أسماء بنت عميس الخثعمية فولدت له يحيى ومحمداً الاصغر ، قاله الكلبي ، وقال الواقدي : ولدت له يحيى وعوناً .
قال الواقدي : فأما محمد الأصغر فمن أم ولد .
ومنهن :
- أم حبيبة بنت زمعة بن بحر بن العبد بن علقمة ، وهي أم ولد من السبي الذين سباهم خالد من بني تغلب حين أغار على عين التمر ، فولدت له عمر وقد عُمِّر خمسا وثمانين سنة ، ورقية .
ومنهن :
- أم سعيد بنت عروة بن مسعود بن مغيث بن مالك الثقفي ، فولدت له أم الحسن ، ورملة الكبرى .
ومنهن :
- ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبية ، فولدت له جارية ، فكانت تخرج مع علي إلى المسجد وهي صغيرة ، فيُقال لها : من أخوالك ؟ فتقول : وه وه ! تعني بني كلب .
ومنهن :
أمامه بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها وهو في الصلاة إذا قام حملها ، وإذا سجد وضعها ، فولدت له محمداً الأوسط .
وأما ابنه محمد الأكبر فهو ابن الحنفية وهي :
- خولة بنت جعفر بن قيس ، من بني حنيفة ، سباها خالد أيام الصديق أيام الردة من بني حنيفة ، فصارت لعلي بن أبي طالب ، فولدت له محمداً هذا ، ومن الشيعة من يدّعي فيه الإمامة والعصمة ، وقد كان من سادات المسلمين ولكن ليس بمعصوم ، ولا أبوه معصوم ، بل ولا من هو أفضل من أبيه من الخلفاء الراشدين قبله ليسوا بواجبي العصمة ، كما هو مقرر في موضعه والله اعلم . قاله ابن كثير في البداية والنهاية .
وقال أيضا :
وقد كان لعلى أولاد كثيرة آخرون من أمهات أولاد شتى ، فإنه مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سُرِّية رضى الله عنه ، فمن أولاده رضي الله عنهم مما لا يعرف أسماء أمهاتهم أم هانئ وميمونة وزينب الصغرى ورملة الكبرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم جعفر وأم سلمة وجمانة . اهـ .
سبب تكنيته بأبي تراب :(1/202)
كنّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي تُراب .
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : استُعمل على المدينة رجل من آل مروان ، فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم علياً . فأبى سهل . فقال له : أما إذ أبيت فقل : لعن الله أبا التراب ! فقال سهل : ما كان لعليّ اسم أحب إليه من أبي التراب ، وإن كان ليفرح إذا دُعي بها . فقال له : أخبرنا عن قصته لم سُمي أبا تراب ؟ قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة ، فلم يجد علياً في البيت ، فقال : أين ابن عمك ؟ فقالت : كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ، فلم يَقِلْ عندي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان : أنظر أين هو ؟ فجاء فقال : يا رسول الله هو في المسجد راقد . فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع ، قد سقط رداؤه عن شقه ، فأصابه تراب ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول : قم أبا التراب . قم أبا التراب .
وفي هذا الحديث رد على الرافضة الذين يقولون : إن الله غضب على أبي بكر عندما أغضب فاطمة
ويستدلون بحديث : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني . رواه البخاري .
وسبب ورود هذا الحديث ما رواه البخاري ومسلم عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، إلا أن يُحب ابن أبي طالب أن يُطلق ابنتي وينكح ابنتهم ، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها .(1/203)
وفي رواية في الصحيحين أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة قال : فسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال : إن فاطمة مني وأني أتخوف أن تفتن في دينها . قال : ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن . قال : حدثني فصدقني ووعدني فأوفي لي ، وأني لست احرم حلالا ولا أحل حراما ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا .
فتبيّن أن المقصود بإغضاب فاطمة رضي الله عنها ما كان بحق ، أو ما كان عن طريق الزواج عليها
قال ابن حجر رحمه الله : والسبب فيه ما تقدم في المناقب أنها كانت أصيبت بأمها ثم بأخواتها واحدة بعد واحدة ، فلم يبق لها من تستأنس به ممن يخفف عليها الأمر ممن تفضي إليه بسرها إذا حصلت لها الغيرة .
وسيأتي – إن شاء الله - في ترجمة فاطمة رضي الله عنها زيادة بيان وتوضيح .
مما لم يصحّ فيما ذُكر في سيرته رضي الله عنه مما اشتهر :
حديث : أنا مدينة العلم ، وعليّ بابها . فإنه حديث موضوع .
ومثله حبس الشمس لعليّ رضي الله عنه . فإنه خبر موضوع مكذوب .
ومثل ذلك حديث : النظر إلى عليّ عبادة !
وقصة اقتلاع باب حصن خيبر ، ومقاتلته بالباب ، وأنه اجتمع عليه بعد ذلك سبعون رجلاً فما استطاعوا إعادته .
فهذا الخبر لا يصح ولا يثبت .
وحديث الطير ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بطير فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير . وهو حديث ضعيف .
وأنه رضي الله عنه تصدّق بخاتمه وهو راكع !
وتزعم الرافضة أن الله أحيا أبا طالب فأسلم ، ثم أماته !
وكل ذلك من الغلو في حق أمير المؤمنين الذي لا يرضاه رضي الله عنه .
ويكفي عليّ رضي الله عنه ما ثبت مِن سيرته ، وما صحّ من خصائصه .
وفاته رضي الله عنه :
قُتِل رضي الله عنه في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة .(1/204)
قَتَلَه عبد الرحمن بن مُلجَم المرادي
قال ابن حجر في ترجمة ابن ملجم : من كبار الخوارج ، وهو أشقى هذه الأمة بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقتل علي بن أبي طالب ، فقتله أولاد عليّ ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وأربعين .
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضى الله عنه : أشقى الناس الذي عقر الناقة ، والذي يضربك على هذا - ووضع يده على رأسه - حتى يخضب هذه يعنى لحيته . رواه الإمام أحمد وغيره ، وصححه الألباني .
وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر ونصف شهر . فرضي الله عن أمير المؤمنين الإمام الشهيد علي بن أبي طالب وأرضاه . وجمعنا به في دار كرامته .
اللهم ارض عن أبي الحسن وأرضه . اللهم إني أحببت عبدك ووليك هذا فاجمعنا به في دار كرامتك وبحبوحة جنتك .
48-سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
اسمه - على الصحيح - :
عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي .
كنيته :
أبو بكر
لقبه :
عتيق ، والصدِّيق .
قيل لُقّب بـ " عتيق " لأنه :
= كان جميلاً
= لعتاقة وجهه
= قديم في الخير
= وقيل : كانت أم أبي بكر لا يعيش لها ولد ، فلما ولدته استقبلت به البيت ، فقالت : اللهم إن هذا عتيقك من الموت ، فهبه لي .
وقيل غير ذلك
ولُقّب بـ " الصدّيق " لأنه صدّق النبي صلى الله عليه وسلم ، وبالغ في تصديقه كما في صبيحة الإسراء وقد قيل له : إن صاحبك يزعم أنه أُسري به ، فقال : إن كان قال فقد صدق !
وقد سماه الله صديقا فقال سبحانه : ( وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) جاء في تفسيرها : الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي صدّق به هو أبو بكر رضي الله عنه . ولُقّب بـ " الصدِّيق " لأنه أول من صدّق وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال .
وسماه النبي صلى الله عليه وسلم " الصدّيق "(1/205)
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحداً وأبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم فقال : اثبت أُحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان .
وكان أبو بكر رضي الله عنه يُسمى " الأوّاه " لرأفته
مولده :
ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر
صفته :
كان أبو بكر رضي الله عنه أبيض نحيفاً ، خفيف العارضين ، معروق الوجه ، ناتئ الجبهة ، وكان يخضب بالحناء والكَتَم .
وكان رجلاً اسيفاً أي رقيق القلب رحيماً .
فضائله :
ما حاز الفضائل رجل كما حازها أبو بكر رضي الله عنه
• فهو أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم
قال ابن عمر رضي الله عنهما : كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فنخيّر أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم . رواه البخاري .
وروى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما صاحبكم فقد غامر . وقال : إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ ، فأقبلت إليك فقال : يغفر الله لك يا أبا بكر - ثلاثا - ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل : أثَمّ أبو بكر ؟ فقالوا : لا ، فأتى إلى النبي فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعّر ، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال : يا رسول الله والله أنا كنت أظلم - مرتين - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صَدَق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي – مرتين - فما أوذي بعدها .
فقد سبق إلى الإيمان ، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وصدّقه ، واستمر معه في مكة طول إقامته رغم ما تعرّض له من الأذى ، ورافقه في الهجرة .
• وهو ثاني اثنين في الغار مع نبي الله صلى الله عليه وسلم(1/206)
قال سبحانه وتعالى : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا )
قال السهيلي : ألا ترى كيف قال : لا تحزن ولم يقل لا تخف ؟ لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شغله عن خوفه على نفسه .
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدّثه قال : نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه . فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما .
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل الغار دخل قبله لينظر في الغار لئلا يُصيب النبي صلى الله عليه وسلم شيء .
ولما سارا في طريق الهجرة كان يمشي حينا أمام النبي صلى الله عليه وسلم وحينا خلفه وحينا عن يمينه وحينا عن شماله .
ولذا لما ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضّلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر ، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر ، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي ؟ فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك . فقال :يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني ؟ قال : نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك ، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الجحرة ، فدخل واستبرأ ، قم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل . فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر . رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة .(1/207)
• ولما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ماله كله في سبيل الله .
• وهو أول الخلفاء الراشدين
وقد أُمِرنا أن نقتدي بهم ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ . رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما ، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه .
واستقر خليفة للمسلمين دون مُنازع ، ولقبه المسلمون بـ " خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم "
• وخلافته رضي الله عنه منصوص عليها
فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه أن يُصلي بالناس
في الصحيحين عن عائشةَ رضي اللّهُ عنها قالت : لما مَرِضَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرَضَهُ الذي ماتَ فيه أَتاهُ بلالٌ يُؤْذِنهُ بالصلاةِ فقال : مُروا أَبا بكرٍ فلْيُصَلّ . قلتُ : إنّ أبا بكرٍ رجلٌ أَسِيفٌ [ وفي رواية : رجل رقيق ] إن يَقُمْ مَقامَكَ يبكي فلا يقدِرُ عَلَى القِراءَةِ . قال : مُروا أَبا بكرٍ فلْيُصلّ . فقلتُ مثلَهُ : فقال في الثالثةِ - أَوِ الرابعةِ - : إِنّكنّ صَواحبُ يوسفَ ! مُروا أَبا بكرٍ فلْيُصلّ ، فصلّى .
ولذا قال عمر رضي الله عنه : أفلا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ؟!
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر .
وجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء فأمرها بأمر ، فقالت : أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك ؟ قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر . رواه البخاري ومسلم .
• وقد أُمرنا أن نقتدي به رضي الله عنه
قال عليه الصلاة والسلام : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه ، وهو حديث صحيح .(1/208)
• وكان أبو بكر ممن يُفتي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
ولذا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على الحج في الحجّة التي قبل حجة الوداع
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .
وأبو بكر رضي الله عنه حامل راية النبي صلى الله عليه وسلم يوم تبوك .
• وأنفق ماله كله لما حث النبي صلى الله عليه وسلم على النفقة
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالاً فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما . قال : فجئت بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ فقال : أبقيت لهم الله ورسوله ! قال عمر قلت : والله لا أسبقه إلى شيء أبدا . رواه الترمذي .
• ومن فضائله أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال عمرو بن العاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . قال : قلت : من الرجال ؟ قال : أبوها . رواه مسلم .
• ومن فضائله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه أخاً له .(1/209)
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال : إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله . قال : فبكى أبو بكر ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مِن أمَنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدّ إلا باب أبي بكر .
• ومن فضائله رضي الله عنه أن الله زكّاه
قال سبحانه وبحمده : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى )
وهذه الآيات نزلت في ابي بكر رضي الله عنه .
وهو من السابقين الأولين بل هو أول السابقين
قال سبحانه : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
• وقد زكّاه النبي صلى الله عليه وسلم
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة . قال أبو بكر : إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لست تصنع ذلك خيلاء . رواه البخاري في فضائل أبي بكر رضي الله عنه .
• ومن فضائله رضي الله عنه أنه يُدعى من أبواب الجنة كلها(1/210)
قال عليه الصلاة والسلام : من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دُعي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير ؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الصيام وباب الريان . فقال أبو بكر : ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ، فهل يُدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر . رواه البخاري ومسلم .
• ومن فضائله أنه جمع خصال الخير في يوم واحد
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أصبح منكم اليوم صائما ؟
قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا .
قال : فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟
قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا .
قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ؟
قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا .
قال : فمن عاد منكم اليوم مريضا ؟
قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة .
• ومن فضائله رضي الله عنه أن وصفه رجل المشركين بمثل ما وصفت خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/211)
لما ابتلي المسلمون في مكة واشتد البلاء خرج أبو بكر مهاجراً قِبل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارَة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . قال ابن الدغنة : إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكَلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك ، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج ، أتُخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة : مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به ، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له : إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْهُ أن يرد إليك ذمتك فإنا كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان . قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال : قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر : إني(1/212)
أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله . رواه البخاري .
• وكان عليّ رضي الله عنه يعرف لأبي بكر فضله
قال محمد بن الحنفية : قلت لأبي – علي بن أبي طالب رضي الله عنه - : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر ، وخشيت أن يقول عثمان قلت : ثم أنت ؟ قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين . رواه البخاري .
وقال عليّ رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله به بما شاء أن ينفعني منه ، وإذا حدثني غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله تعالى إلا غفر الله له ثم تلا : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) الآية . رواه أحمد وأبو داود .
• ولم يكن هذا الأمر خاص بعلي رضي الله عنه بل كان هذا هو شأن بنِيه
قال الإمام جعفر لصادق : أولدني أبو بكر مرتين .
وسبب قوله : أولدني أبو بكر مرتين ، أن أمَّه هي فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وجدته هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر .
فهو يفتخر في جّدِّه ثم يأتي من يدّعي اتِّباعه ويلعن جدَّ إمامه ؟
قال جعفر الصادق لسالم بن أبي حفصة وقد سأله عن أبي بكر وعمر ، فقال : يا سالم تولَّهُما ، وابرأ من عدوهما ، فإنهما كانا إمامي هدى ، ثم قال جعفر : يا سالم أيسُبُّ الرجل جده ؟ أبو بكر جدي ، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما .(1/213)
وروى جعفر بن محمد – وهو جعفر الصادق - عن أبيه – وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي – رضي الله عنهم أجمعين ، قال : جاء رجل إلى أبي – يعني علي بن الحسين ، المعروف والمشهور بزين العابدين - فقال : أخبرني عن أبي بكر ؟ قال : عن الصديق تسأل ؟ قال : وتسميه الصديق ؟! قال : ثكلتك أمك ، قد سماه صديقا من هو خير مني ؛ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار ، فمن لم يُسمه صدِّيقا ، فلا صدّق الله قوله ، اذهب فأحب أبا بكر وعمر وتولهما ، فما كان من أمر ففي عنقي .
ولما قدم قوم من العراق فجلسوا إلى زين العابدين ، فذكروا أبا بكر وعمر فسبوهما ، ثم ابتركوا في عثمان ابتراكا ، فشتمهم .
وابتركوا : يعني وقعوا فيه وقوعاً شديداً .
وما ذلك إلا لعلمهم بمكانة وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبمكانة صاحبه في الغار ، ولذا لما جاء رجل فسأل زين العابدين : كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشار بيده إلى القبر ثم قال : لمنزلتهما منه الساعة .
قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله :
ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بشيء وَقَرَ في قلبه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي = رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسأَلُ
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَولِه = لا يَنْثَني عَنهُ ولا يَتَبَدَّل
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلُّهُمْ لي مَذْهَبٌ = وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّل
وَلِكُلِّهِمْ قَدْرٌ وَفَضْلٌ ساطِعٌ = لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَل
• وجمع بيت أبي بكر وآل أبي بكر من الفضائل الجمة الشيء الكثير الذي لم يجمعه بيت في الإسلام
فقد كان بيت أبي بكر رضي الله عنه في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الاستعداد للهجرة ، وما فعله عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء في نقل الطعام والأخبار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار(1/214)
وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هي بنت أبي بكر رضي الله عنه وعنها
قال ابن الجوزي رحمه الله :
أربعة تناسلوا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أبو قحافة
وابنه أبو بكر
وابنه عبد الرحمن
وابنه محمد
أعماله :
من أعظم أعماله سبقه إلى الإسلام وهجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وثباته يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن أعماله قبل الهجرة أنه أعتق سبعة كلهم يُعذّب في الله ، وهم : بلال بن أبي رباح ، وعامر بن فهيرة ، وزنيرة ، والنهدية وابنتها ، وجارية بني المؤمل ، وأم عُبيس .
ومن أعظم أعماله التي قام بها بعد تولّيه الخلافة حرب المرتدين
فقد كان رجلا رحيما رقيقاً ولكنه في ذلك الموقف ، في موقف حرب المرتدين كان أصلب وأشدّ من عمر رضي الله عنه الذي عُرِف بالصلابة في الرأي والشدّة في ذات الله
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر : يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ؟ قال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فو الله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .
لقد سُجِّل هذا الموقف الصلب القوي لأبي بكر رضي الله عنه حتى قيل : نصر الله الإسلام بأبي بكر يوم الردّة ، وبأحمد يوم الفتنة .
فحارب رضي الله عنه المرتدين ومانعي الزكاة ، وقتل الله مسيلمة الكذاب في زمانه .
ومع ذلك الموقف إلا أنه أنفذ جيش أسامة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد إنفاذه نحو الشام .(1/215)
وفي عهده فُتِحت فتوحات الشام ، وفتوحات العراق، وفي عهده جُمع القرآن ، حيث أمر رضي الله عنه زيد بن ثابت أن يجمع القرآن، وكان عارفاً بالرجال ، ولذا لم يرضَ بعزل خالد بن الوليد ، وقال : والله لا أشيم سيفا سله الله على عدوه حتى يكون الله هو يشيمه . رواه الإمام أحمد وغيره .
وفي عهده وقعت وقعة ذي القَصّة ، وعزم على المسير بنفسه حتى أخذ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بزمام راحلته وقال له : إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك . وارجع إلى المدينة ، فو الله لئن فُجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا ، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وأمضى الجيش .
وكان أبو بكر رضي الله عنه أنسب العرب ، أي أعرف العرب بالأنساب .
زهده :
مات أبو بكر رضي الله عنه وما ترك درهما ولا دينارا
عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال : لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه قال : يا عائشة أنظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها والجفنة التي كنا نصطبح فيها والقطيفة التي كنا نلبسها فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين ، فإذا مت فاردديه إلى عمر ، فلما مات أبو بكر رضي الله عنه أرسلت به إلى عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه : رضي الله عنك يا أبا بكر لقد أتعبت من جاء بعدك .
ورعه :
كان أبو بكر رضي الله عنه ورعاً زاهداً في الدنيا حتى لما تولى الخلافة خرج في طلب الرزق فردّه عمر واتفقوا على أن يُجروا له رزقا من بيت المال نظير ما يقوم به من أعباء الخلافة(1/216)
قالت عائشة رضي الله عنها : كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر يأكل من خراجه ، فجاء يوماً بشيء ، فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر : وما هو ؟ قال : كنت تكهّنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته ، فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه . رواه البخاري .
وفاته :
توفي في يوم الاثنين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، وه ابن ثلاث وستين سنة .
فرضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في دار كرامته، أعلم بأنني لم أوفِّ أبا بكر حقّه، فقد أتعب من بعده حتى من ترجموا له ، فكيف بمن يقتطف مقتطفات من سيرته ؟
49-قطف الثمر بشيء من سيرة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
إذا ذُكِرت الشدّة في الحق ذُكِر ، وإن ذُكِر العَدْل ذُكِر ، وإن ذُكِر التواضع ذُكِر ، وإن ذُكرت الرّحمة بالمساكين ، فهو مَثَل ، وإذا ذُكِرت الفتوحات ذُكِر .. وإذا ذُكِر الخير ذُكِر عُمر الخير رضي الله عنه وأرضاه .
اسمه :
عُمر بن الخطّاب بن نُفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قُرط بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العَدويّ .
يَجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي بن غالب .
كنيته :
أبو حفص ، وهي كُنية ، وليس له ولد بهذا الاسم .
لقبه :
الفاروق . ولُقِّب به لأنه أظهر الإسلام بمكّة ، ففرّق الله بين الكفر والإيمان .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم أعزّ الإسلام بِعُمَر بن الخطاب . رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني .
مولده :
وُلِد عمر رضي الله عنه بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة .
وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عمرو بن مخزوم .
حياته في الجاهلية :
تعلّم القراءة والكتابة في الجاهلية .(1/217)
وتحمّل المسؤولية صغيراً . ونشأ نشأة غليظة شديدة ، لم يَعرف فيها ألوان التّرف ، ولا مظاهر الثروة ، حيث دَفَعه أبوه " الخطّاب " في غلظة وقسوة إلى المراعي يَرعى إبله .'
وكان عمر رضي الله عنه يَرعى إبلاً لخالات له من بني مخزوم .ثم اشتغل بالتجارة مما جَعَله من أغنياء مكة ، ورَحَل صيفا إلى الشام ، وشتاء إلى اليمن ، واحتلّ مكانة بارزة في المجتمع المكيّ الجاهليّ ، وأسهم بشكل فعّال في أحداثه ، وساعَدَه تاريخ أجداده المجيد .
قال ابن الجوزي : كانت إليه السفارة في الجاهلية ، وذلك إذا وقعت بين قريش وغيرهم حرب بعثوه سفيرا ، أو إن نَافَرَهم حيٌّ المفاخرة بعثوه مُفاخِراً ، ورَضُوا به .
صفاته الْخَلْقية والْخُلُقيّة :
قال ابن الجوزي : كان أبيض طوالا ، تعلوه حمرة ، أصلع أشب يخضب بالحناء والكتم .وكان عمر رضي الله عنه رجلا حَكيما ، بليغاً ، حصيفاً ، قوياً ، حَليماً ، شريفاً ، قويّ الحجّة ، واضح البيان .
زوجاته رضي الله عنه :
تزوّج في الجاهلية بـ زينب بنت مظعون ، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة
وتزوّج مليكة بنت جرول ، فَوَلَدَتْ له عبيد الله .
وتزوّج قُرَيبَة بنت أبي أمية المخزومي ، ففارقها في الهدنة .
وتزوّج أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فولدت له فاطمة .
وتزوّج جميلة بنت عاصم بن أبي الأقلح .
وتزوّج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل .
وتزوّج بعد ذلك أم كلثوم بنت عليّ رضي الله وأمها فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها ، وولدت له زيدا ورُقيّة .
وتزوّج لُهْيَة – امرأة من اليمن – فولدت له عبد الرحمن الأصغر ، وقيل الأوسط . وقيل : هي أم ولد .
وقالوا : كانت عنده فُكيهة – أم ولد – فولدت له زينب .
وكان عمر رضي الله عنه يَتزوّج من أجل الإنجاب ، وإكثار الذرية ، فقد قال رضي الله عنه: ما آتي النساء للشهوة ، ولولا الولد ما بالَيتُ ألاّ أرى امرأة بِعيني .(1/218)
وقال : إني لأُكْرِه نفسي على الجماع رجاء أن يُخرِج الله مِنِّي نسمة تُسبّحه وتذكره .
أولاده :
جُملة أولاده ثلاثة عشر ولداً ، وهم :
زيد الأكبر ، وزيد الأصغر ، وعاصم ، وعبد الله ، وعبد الرحمن الأكبر ، وعبد الرحمن الأوسط ، وعبد الرحمن الأصغر ، وعبيد الله ، وعياض ، وحفصة ، ورقية ، وزينب ، وفاطمة رضي الله عنهم .
إسلامه رضي الله عنه :
قال ابن الجوزي : قال علماء السِّيَر : أسلم عمر في السنة السادسة من النبوة ، وهو ابن ست وعشرين سنة .
وعند البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره ، وقالوا : صبأ عمر . وأنا غلام فوق ظهر بيتي ، فجاء رجل عليه قباء من ديباج ، فقال : قد صبأ عمر ، فما ذاك ؟ فأنا له جار . قال : فرأيت الناس تصدّعوا عنه . فقلت : من هذا ؟ قالوا : العاص بن وائل .
وروى البخاري عن سعيد بن زيد أنه قال : لو رأيتني موثقي عمر على الإسلام أنا وأخته وما أسلم .(1/219)
وروى ابن الجوزي – بإسناده – إلى أنس بن مالك قال : خرج عمر متقلدا بسيفه - أو قال بالسيف - فلقيه رجل من بني زهرة ، فقال : إلى أين تعمد يا عمر ؟ قال : أريد أن أقتل محمدا . قال : وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة ، وقد قتلت محمدا ؟ قال : فقال عمر : ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي أنت عليه . قال : أفلا أدلك على العجب يا عمر ؟ إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه . قال : فمشى عمر ذامرا حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين يُقال له : خبّاب . قال : فلما سمع خباب حسّ عمر توارى في البيت ، فدخل ، فقال : ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم ؟ وكانوا يقرأون (طه) ، فقالا : ما عدا حديا تحدثناه بيننا . قال : فلعلكما قد صبوتما ؟ قال : فقال له ختنه : أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك ؟ قال : فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا ، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده نفحة فدمى وجهها ، فقالت - وهي غضبى - : يا عمر إن كان الحق في غير دينك ؟ اشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله . فلما يئس عمر قال : أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه . قال : وكان عمر يقرأ الكُتُب ، فقالت أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون ، فَقُم فاغتسل وتوضأ . قال : فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ : ( طه ) حتى انتهى إلى قوله : (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) قال : فقال عمر : دلوني على محمد ، فلما سمع خباب قول عمر ، خرج من البيت فقال : أبشر يا عمر ! فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس : اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام . قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا ، فانطلق عمر حتى أتى الدار قال : وعلى باب الدار حمزة وطلحة وأُناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى(1/220)
حمزة وَجِل القوم من عمر قال حمزة : نعم فهذا عمر ، فإن يُرد الله بعمر خيرا يُسلِم ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن يُرد غير ذلك يَكن قتله علينا هينا . قال : والنبي صلى الله عليه وسلم داخل يُوحى إليه . قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عمر ، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف ، فقال : ما أنت منتهياً يا عمر حتى يُنْزِل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة . اللهم هذا عمر بن الخطاب ، اللهم أعزّ الإسلام بعمر بن الخطاب . قال : فقال عمر : أشهد أنك رسول الله . فأسْلَمَ .
وعند الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : للهم أعزّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك : بأبي جهل ، أو بعمر بن الخطاب . قال : وكان أحبّهما إليه عمر . وصححه الألباني .
فضائله :
فضائله رضي الله عنه كثيرة جداً .
قال ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني عن عمر رضي الله عنه : مُهاجري أوليّ بدريّ .
يعني أن عمر رضي الله عنه من أوائل المهاجِرين .
وهو بَدري أي أنه شهِد بَدر .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل بدر : لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وَجَبَتْ لكم الجنة . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غَفَرْتُ لكم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله جعل الحق على لسان عُمَرَ وقَلْبِه . رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وابن حبان وغيرهم .
ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه وافَقَ ربه في ثلاث .(1/221)
قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : فقلت : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ، وآية الحجاب قلت : يا رسول الله لو أمَرْتَ نساءك أن يحتجبن ، فإنه يُكلّمهن البر والفاجر ، فَنَزَلَتْ آية الحجاب ، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن : (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) ، فَنَزَلَتْ هذه الآية . رواه البخاري من حديث أنس ، ومسلم من حديث ابن عمر .
وهذا من الإلهام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :
قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون ، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن وهب : تفسير مُحَدَّثُون مُلْهَمُون .
وعمر رضي الله عنه هو الْمُحَدَّث الْمُلْهَم .
وهو المؤمن الذي شهِد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينما رجل راكب على بقرة الْتَفَتَتْ إليه فقالت : لم أُخْلَق لهذا ، خُلِقْتُ للحِراثة . قال : آمنت به أنا وأبو بكر وعمر . وأخذ الذئب شاة فتبعها الراعي فقال : الذئب من لها يوم السبع ، يوم لا راعي لها غيري ؟ قال : آمنت به أنا وأبو بكر وعمر . قال أبو سلمة : وما هما يومئذ في القوم . رواه البخاري ومسلم .
وشِهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقوّة الدِّين .
قال عليه الصلاة والسلام : بينا أنا نائم رأيت الناس يُعْرَضُون عليّ وعليهم قُمُص ، منها ما يبلغ الثُّدِيّ ، ومنها ما دون ذلك ، وعُرِضَ عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يَجُرّه . قالوا : فما أوّلت ذلك يا رسول الله ؟ قال : الدِّين . رواه البخاري ومسلم .
وشهِد له النبي صلى الله عليه وسلم بالعِلم .(1/222)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا نائم أُتِيتُ بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الريّ يَخْرُج في أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب . قالوا : فما أوّلته يا رسول الله ؟ قال : العِلم . رواه البخاري .
وشهِد له بصواب الرأي .
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ، فقام رجل يُصلي فرآه عمر ، فقال له : اجلس فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فَصْل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسن ابن الخطاب . رواه الإمام أحمد
وفي رواية عند الطبراني أنه عليه الصلاة والسلام قال : أصاب الله بك يا ابن الخطاب .
وصدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر رضي الله عنه .
روى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رجلا أتى عمر ، فقال : امرأة جاءت تبايعه فأدخلتها الدولج ، فأصبتُ منها ما دون الجماع ، فقال : ويحك لعلها مُغيّب في سبيل الله . قال : أجل . قال : فائتِ أبا بكر فسأله . قال : فأتاه فسأله ، فقال : لعلها مُغيب في سبيل الله . قال : فقال مثل قول عمر ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له مثل ذلك . قال : فلعلها مُغيب في سبيل الله ونزل القرآن : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) إلى آخر الآية ، فقال : يا رسول الله إليّ خاصة أم للناس عامة فضرب عمر صدره بيده فقال : لا ولا نعمة عين بل للناس عامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صَدَقَ عمر .
وشهِد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة .(1/223)
عن عبد الرحمن بن الأخنس أنه كان في المسجد ، فَذَكَرَ رجلٌ علياً عليه السلام ، فقام سعيد بن زيد فقال : أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته وهو يقول : عشرة في الجنة : النبي في الجنة ، وأبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير بن العوام في الجنة ، وسعد بن مالك في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ، ولو شئت لسمّيت العاشر . قال : فقالوا : من هو ؟ فَسَكَتْ . قال : فقالوا : من هو ؟ فقال : هو سعيد بن زيد . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حائطاً وأمَرَنِي بِحِفْظِ الباب ، فجاء رجل يستأذن ، فقال : ائذن له وبشّره بالجنة . فإذا أبو بكر ، ثم جاء عمر ، فقال : ائذن له وبشّره بالجنة ، ثم جاء عثمان ، فقال : ائذن له وبشّره بالجنة .
ورأى له النبي صلى الله عليه وسلم قصراً في الجنة .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : بينا أنا نائم إذ رأيتني في الجنة فإذا امرأة توضأ إلى جانب قصر ، فقلت : لمن هذا ؟ فقالوا : لِعُمَرَ بن الخطاب ، فذكرت غيرة عمر فولّيت مُدبِرا . قال أبو هريرة : فبكى عمر ونحن جميعا في ذلك المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال عمر : بأبي أنت يا رسول الله أعليك أغار ؟
وعُمر رضي الله عنه هو العبقري القويّ في حياته وفي خلافته :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أُرِيتُ في المنام أني أنزع بِدَلْوٍ بكرة على قليب ، فجاء أبو بكر فَنَزَعَ ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا ، والله يغفر له ، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا ، فلم أر عبقريا يَفْرِي فَرْيِهُ حتى رَوي الناس ، وضربوا بِعَطَن . رواه البخاري ومسلم .(1/224)
وعمر رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين الذين أُمِرنا أن نقدي بهم ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضُّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم والأمور المحدثات ، فإن كل بدعة ضلالة . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم .
وكما في قوله عليه الصلاة والسلام : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر . رواه أحمد والترمذي ، وهو حديث صحيح .
ومرتبته من أعلى مراتب الصحابة ، ولذلك لما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . قال عمر بن العاص : فقلت : مِن الرِّجَال ؟ فقال : أبوها . قلت : ثم من ؟ قال : عمر بن الخطاب ، فَعَدّ رجالا . رواه البخاري ومسلم .
روى البخاري من طريق محمد بن الحنفية قال : قلت لأبي [ يعني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ] : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر ، وخشيت أن يقول عثمان ، قلت : ثم أنت ؟ قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين .
قال عبد الله بن سلمة : سمعت علياً رضي الله عنه يقول : خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، وخير الناس بعد أبي بكر عمر . رواه ابن ماجه وصححه الألباني .
وروى البخاري من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نُخَيِّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنُخَيِّر أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم .(1/225)
وعن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب ، وقد وُضِعَ على سريره ، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول رحمك الله ، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك ، لأني كثيرا مما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كنت وأبو بكر وعمر ، وفعلت وأبو بكر وعمر ، وانطلقت وأبو بكر وعمر ، فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما . فَالْتَفَتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب . رواه البخاري .
وفي رواية للبخاري :
قال ابن عباس : وُضِعَ عُمر على سريره ، فتكنفه الناس يَدْعُون ويُصَلُّون قَبْلَ أن يُرْفَع ، وأنا فيهم ، فلم يَرعني إلا رجل آخذ منكبي ، فإذا علي بن أبي طالب ، فَتَرَحَّم على عُمر ، وقال : ما خَلّفْتُ أحداً أحبّ إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك ، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وحسبت إني كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر .
وفي رواية له قال ابن عباس رضي الله عنهما : يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبتَ أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبتهم فأحسنتَ صحبتهم ، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون .
وصَدق عليّ رضي الله عنه .. فكان عُمر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته .
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : صَعَدَ أُحُداً ، وأبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم ، فقال : اثْبُت أُحُد ، فإنما عليك نبيّ وصِدّيق وشهيدان . رواه البخاري .
فهذه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبيه ، فشهادته لأبي بكر رضي الله عنه بأنه الصِّدِّيق ، ولِعمر رضي الله عنه بأنه يموت شهيدا ، وهكذا كان ، وكذلك بالنسبة لعثمان رضي الله عنه .(1/226)
وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حائط المدينة ، وهو متكئ يركز بعود معه بين الماء والطين إذ استفتح رجل ، فقال : افتح وبشّره بالجنة . قال : فإذا أبو بكر ، ففتحت له وبشرته بالجنة . قال : ثم استفتح رجل آخر ، فقال : افتح وبشّره بالجنة . قال : فذهبت فإذا هو عمر ، ففتحت له وبشرته بالجنة ، ثم استفتح رجل آخر قال : فجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : افتح وبشّره بالجنة على بَلْوَى تكون . قال : فذهبت فإذا هو عثمان بن عفان . قال : ففتحت وبشّرته بالجنة . قال : وقلت الذي قال ، فقال : اللهم صبراً ، أو : الله المستعان . رواه البخاري ومسلم .
فهذا من صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته .
وأما بعد مماته :
فقد جاء رجل فسأل زين العابدين : كيف كانت مَنْزِلة أبي بكر وعمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشار بيده إلى القبر ، ثم قال : لمنْزِلتهما مِنه الساعة .
ولما سأل سالم بن أبي حفصة جعفرَ الصادق عن أبي بكر وعمر ، فقال : يا سالم تولَّهُما ، وابرأ من عدوهما ، فإنهما كانا إمامي هدى ، ثم قال جعفر : يا سالم أيسُبُّ الرجل جدّه ؟ أبو بكر جدي ، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما ، وأبْرَأ من عدوهما .
فالشاهد هنا شهادة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لِعمر رضي الله عنه ، واعتراف أهل الفضل بِفضل عُمر رضي الله عنه وعنهم .
وكما أن مرتبة أبي بكر وعمر أعلى مراتب الصحابة فكذلك منازلهما في الجنة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ، إلا النبيين والمرسلين .
وقال عليه الصلاة والسلام : إن أهل الدرجات العُلَى يَراهم من أسفل منهم كما يُرى الكوكب الطالع في الأفق من آفاق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم ، وأنْعَمَا . رواه الترمذي وابن ماجه ، وصححه الألباني .
قال مسلم البطين :(1/227)
أنَّى تُعاتِب لا أبا لك عصبة *** عَلِقوا الفِرى وبَرَوا من الصديق
سفها تَبَرَّوا من وَزيرِ نَبِيِّهم *** تَبّاً لمن يَبْرا من الفاروق
إني على رغم العِداة لقائل *** دانا بدين الصادق المصدوق
زاد سفيان عن مسلم البطين :
قول يصدقني به أهل التقى *** والعلم من ذي العرش والتوفيق
والاهما في الدِّين كل مهاجر *** صحب النبي وفاز بالتصديق
[رواه ابن جرير في تهذيب الآثار ]
وقال القحطاني في نونيته :
قُل إنّ خير الأنبياء محمد *** وأجلّ من يمشي على الكثبان
وأجل صحب الرسل صحب محمد *** وكذاك أفضل صحبه العُمَرَان
رجلان قد خُلقا لنصر محمد *** بِدَمِي ونفسي ذانك الرجلان
فهما اللذان تظاهرا لنبينا *** في نصره وهما له صهران
بنتاهما أسنى نساء نبينا *** وهما له بالوحي صاحبتان
أبواهما أسنى صحابة أحمد *** يا حبذا الأبوان والبنتان
وهما وزيراه اللذان هما هما *** لفضائل الأعمال مُستبِقَان
وهما لأحمد ناظراه وسمعه *** وبِقُرْبِه في القبر مُضطجعان
كانا على الإسلام أشفق أهله *** وهما لِدِينِ محمدٍ جبلان
عَدْله رضي الله عنه :
كان عمر رضي الله عنه الإمام العادل ، شهِد بذلك القاصي والدّاني ، حتى كان يُحسِب عمّاله لئلا يُظلَم أحد من رعيته .
فقد كان عمر رضي الله عنه يُحاسب عماله في الموسم .
وفي الصحيحين خبر محاسبته رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص – وكان على الكوفة –
وحاسَب سعيد بن زيد رضي الله عنه وغيره .
وبَلَغ من عَدْلِه أن أقام الحدّ على أقاربه ، فقد أقام الحدّ على قدامة بن مظعون وقد شرب الخمر مُتأوِّلاً ، وقدامة هذا هو خال حفصة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم .
وبَلغ عدله أن قضى بالحق لصاحبه وإن كان يهوديا .
روى الإمام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلم ويهودي ، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له ، فقال له اليهودي : والله لقد قضيت بالحق .
وفي أخبار حصار بيت المقدس :(1/228)
أنه " حين أعياهم صاحب إيليا وتحصّن منهم بالبلد وكثر جيشه فكتب الأرطبون إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري ، أنت في قومك مثلي في قومي ، والله لا تفتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين فارجع ولا تغرّ فتلقى مثل ما لقي الذي قبلك من الهزيمة ، فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية فبعثه إلى أرطبون ، وقال : اسمع ما يقول لك ، ثم ارجع فاخبرني ، وكتب إليه معه : جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك لو أخطاتك خصلة تجاهلت فضيلتي ، وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد ، واقرأ كتابي هذا بمحضر من أصحابك ووزرائك ، فلما وصله الكتاب جمع وزراءه وقرأ عليهم الكتاب ، فقالوا للأرطبون : من أين علمت أنه ليس بصاحب فتح هذه البلاد ؟ فقال : صاحبها رجل اسمه على ثلاثة أحرف ، فرجع الرسول إلى عمرو فاخبره بما قال ، فكتب عمرو إلى عُمر يستمده ويقول له إني أُعالج حربا كؤدا صدوما ، وبلادا ادُّخِرت لك ، فرأيك . فلما وصل الكتاب إلى عمر عَلِمَ أن عمراً لم يقل ذلك إلا لأمر عَلِمَه ، فَعَزَم عُمر على الدخول إلى الشام لفتح بيت المقدس " [ البداية والنهاية ] .(1/229)
لما فرغ أبو عبيدة من دمشق كتب إلى أهل إيليا يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام أو يَبْذُلون الجزية أو يُؤذنون بِحَرْب ، فأبَوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه ، فركب إليهم في جنوده واستخلف على دمشق سعيد بن زيد ، ثم حاصر بيت المقدس وضيّق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فكتب إليه أبو عبيدة بذلك ، فاستشار عمر الناس في ذلك فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم وأرغم لأنوفهم ، وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ليكون أخفّ وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم ، فهوى ما قال علي ، ولم يَهوَ ما قال عثمان ، وسار بالجيوش نحوهم ، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب وسار العباس بن عبد المطلب على مقدمته ، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤوس الأمراء كخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان ، فترجّل أبو عبيدة وترجّل عمر ، فأشار أبو عبيدة ليُقَبِّل يَدَ عُمر ، فهمّ عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة فكفّ أبو عبيدة فكفّ عمر ، ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس ، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث ، ثم دخلها .
فأنت ترى أن عمر رضي الله عنه استشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخذ برأيه ، ثم استخلفه على المدينة حينما خَرَج إلى بيت المقدس .
فلو كان عليّ رضي الله عنه يَرى أنه أحق بالخلافة أو أنه لم يُبايِع هل كان يُشير بمثل هذا ، أو يتولّى أمراً كهذا ؟!
كيف يرضى أن يَخلِف من ليس بخليفة ؟!
وهذا يُشير إلى المودّة التي كانت بين عمر وبين عليّ رضي الله عنهما .
أخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي السفر قال : رُئي على عليّ بُرد كان يكثر لبسه . قال فقيل له : إنك لتكثر لبس هذا البرد . فقال : إنه كسانيه خليلي وصفيي وصديقي وخاصّي عمر . إن عمر ناصح الله فنصحه الله ، ثم بكى .
وأقطَع عمرُ علياً ينبع .(1/230)
وروى جعفر بن محمد ( الصادق ) عن أبيه أن عُمر جَعَل للحسين مثل عطاء عليّ ، خمسة آلاف
وحينما دخل عمر رضي الله عنه بيت المقدس ، وسلّموا له مفاتيحه صلّى في بيت المقدس حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
روى الإمام أحمد من طريق أبي سلمة قال : حدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب : أين ترى أن أصلي ؟ فقال إن أخذت عني صَلّيتَ خلف الصخرة ، فكانت القدس كلها بين يديك . فقال عمر رضي الله عنه : ضاهيتَ اليهودية ، لا ، ولكن أُصَلِّي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه ، وكنس الناس .
وشَهِدَ رسولُ كِسرى بِعدل عمر حينما قال مقولته المشهورة : عدلت فأمنت فنِمت .
قال حافظ إبراهيم :
قد راع صاحب كسرى أن رأى عُمراً *** بين الرّعية عُطلاً وهو راعيها
وعهده بِملوك الفُرس أن لها *** سُوراً من الجند والأحراس يَحميها
رآه مُستغرقاً في نومه فرأى *** فيه الجلالة في أسْمى معانيها
فوق الثرى تحت ظلّ الدّوح مُشتمِلاً *** بِبُردة كاد طول العهد يُبليها
فَهان في عينه ما كان يُكبِره *** من الأكاسِر والدنيا بأيديها
وقال قولَة حقّ أصبحت مَثلاً *** وأصبح الجيل بعد الجيل يَرويها
أمِنتَ لِمّا أقمتَ العدل بينهم *** فَنمتَ نوم قرير العين هانيها
وشهِدت فارس والروم بِفضل عمر رضي الله عنه .
كيف ؟
هذه شهادة رسول كسرى .
وأما الروم النصارى فإنهم شهدوا بِفضل عُمر ، وأثبتوا خلافته بناء على صِفته في كُتبهم ، فإنهم يَجدون في كُتُبهم صفة الذي يفتح بيت المقدس .
ولذلك رفضوا تسليم مفاتيح بيت المقدس إلا للذي يَجدون صفته في كُتُبهم .
ذكر ابن جرير في التاريخ فتح بيت المقدس ، فقال :(1/231)
لما قدم عمر رحمه الله الجابية قال له رجل من يهود : يا أمير المؤمنين لا تَرجِع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء . فبينا عمر بن الخطاب بها إذ نظر إلى كردوس من خيل مقبل فلما دنوا منه سلّموا السيوف ، فقال عمر : هؤلاء قوم يستأمنون فأمّنُوهم ، فأقبلوا فإذا هم أهل إيلياء فصالحوه على الجزية وفتحوها له ، فلما فتحت عليه دعا ذلك اليهودي فقيل له إن عنده لَعِلْماً ، قال : فسأله عن الدجال ، وكان كثير المسألة عنه ، فقال له اليهودي : وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين ؟ فأنتم والله معشر العرب تقتلونه دون باب لُدّ ببضع عشرة ذراعا .
وعن سالم قال : لما دخل عمر الشأم تلقاه رجل من يهود دمشق فقال : السلام عليك يا فاروق ، أنت صاحب إيلياء ، لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء ، وكانوا قد أشجَوا عمرا وأشجاهم ، ولم يقدر عليها ولا على الرملة ، فبينا عمر معسكرا بالجابية فزع الناس إلى السلاح فقال : ما شأنكم ؟ فقالوا : ألا ترى الخيل والسيوف ؟ فنظر فإذا كردوس يلمعون بالسيوف ، فقال عمر : مستأمنة ، ولا تُراعوا وأمّنوهم ، فأمنوهم وإذا هم أهل إيلياء ، فأعطوه واكتتبوا منه على إيلياء وحيزها والرملة وحيزها ، فصارت فلسطين نصفين نصف مع أهل إيلياء ونصف مع أهل الرملة ، وهم عشر كور ، وفلسطين تعدل الشأم كله .
تواضعه رضي الله عنه :
نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس وكبروا صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم قال :(1/232)
أيها الناس لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبضن لي القبضة من التمر أو الزبيب فأظل يومي وأي يوم ! ثم نَزَل ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قميت نفسك - يعني عِبت - فقال : ويحك يا ابن عوف إني خلوت فحدثتني نفسي قالت : أنت أمير المؤمنين ! فمن ذا أفضل منك ؟ فأردت أن أعرّفها نفسها ! رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق .
وروى ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : يرحم الله ابن حنتمة ! لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكة زيت في يده ، وإنه ليعتقب هو وأسلم ، فلما رآني قال : من أين يا أبا هريرة ؟ قلت : قريبا . قال : فأخذت أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى صرار ، فإذا صرم نحو من عشرين بيتا من محارب ، فقال عمر : ما أقدمكم ؟ قالوا : الْجَهْد . قال : فأخرجوا لنا جلد الميتة مشويا كانوا يأكلونه ، ورمّة العظام مسحوقة كانوا يَسفّونها ، فرأيت عمر طرح رداءه ثم اتزر ، فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا ، وأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبانة ثم كساهم ، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك .
وروى من طريق حزام بن هشام عن أبيه قال : رأيت عمر بن الخطاب عام الرمادة مرّ على امرأة وهي تعصد عصيدة لها ، فقال : ليس هكذا تعصدين ! ثم أخذ المسوط فقال هكذا ، فأراها
وروى من طريق السائب بن يزيد قال : رأيت على عمر بن الخطاب إزارا في زمن الرمادة فيه ست عشرة رقعة ، ورداؤه خمس وشبر ، وهو يقول : اللهم لا تجعل هلكة أمة محمد على رجلي .
وروى من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال : قال أنس بن مالك رضي الله عنه : رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد رَقَع بين كتفيه برقاع ثلاث ، لَبّد بعضها فوق بعض .(1/233)
وروى من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال : رأيت عمر بن الخطاب خرج مخرجا لأهل المدينة رجل آدم طويل أعسر أيسر أصلع مُلبب بُرداً له قطريا ، يمشي حافيا ، مُشرفا على الناس كأنه راكب على دابة .
وروى من طريق عياض بن خليفة قال: رأيت عمر عام الرمادة وهو أسود اللون ، ولقد كان أبيض ، فيقال : مِمَّ ذا ؟ فيقول : كان رجلا عربيا ، وكان يأكل السمن واللبن ، فلما أمحل الناس حرمهما ، فأكل الزيت حتى غير لونه ، وجاع فأكثر .
وروى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد من طريق قسامة بن زهير قال : وقف أعرابي على عمر بن الخطاب فقال :
يا عمر الخير جزيت الجنة *** جهّز بنياتي وأمهنّه
اقسم بالله لتفعلنه
قال : فإن لم أفعل يكون ماذا يا أعرابي ؟
قال :
أُقْسِم أني سوف أمضينه
قال : فإن مضيت يكون ماذا يا أعرابي ؟
قال :
والله عن حالي لتسئلنه *** ثم تكون المسألات ثمة
والواقف المسئول بينهنّه *** إما إلى نار وإما إلى جنة
قال :
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه ، ثم قال : يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لِشِعْرِه ، والله ما أملك قميصاً غيره .
شدّته في الحقّ :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعُمَر رضي الله عنه : والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجّاً إلا سلك فجّاً غير فَجِّك . رواه البخاري ومسلم .
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : متى توتر ؟ قال : أول الليل بعد العتمة . قال : فأنت يا عمر ؟ قال : آخر الليل . قال : أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالثقة ، وأما أنت يا عمر فأخذت بالقوة . رواه الإمام أحمد وابن ماجه .
وفي أسارى بدر أشار عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يَقتلهم ، فقال : يا رسول الله أخرجوك وكذبوك ، قرّبهم فاضرب أعناقهم !(1/234)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مثلك يا عمر كمثل نوح قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال : (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) رواه الإمام أحمد .
وتكرر كثيرا من عمر رضي الله عنه قوله في شأن المنافقين قوله : دعني أضرب عُنُقه !
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كنا في غزاة فَكَسَعَ رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال دعوى جاهلية ؟ قالوا : يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال : دعوها فإنها منتنة . فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال : فعلوها ! أما والله ( لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ) فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعْه ! لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه .
وقد وافق عُمر ربّه تبارك وتعالى في ترك الصلاة على المنافقين .(1/235)
روى البخاري عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال : لما مات عبد الله بن أبيّ بن سلول دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتُ إليه فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي ، وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا ؟ أُعَدِّد عليه قوله ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أخّر عَنّي يا عمر ، فلما أكثرت عليه قال : إني خَيِّرتُ فاخترت ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يُغْفَر له لزدت عليها . قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : ( ولا تُصَلِّ على أحد منهم مات أبدا ) إلى : ( وهم فاسقون) قال : عجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، والله ورسوله أعلم .
ولما بعث حاطب رضي الله عنه كتاباً لأهل مكة يُخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فبعث النبي من أتى بالكتاب ، فقال عمر : يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ما صنعت ؟ قال حاطب : والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم . أردت أن يكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق ، ولا تقولوا له إلا خيرا ، فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه ! فقال : أليس من أهل بدر ؟ فقال : لعل الله اطّلع إلى أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ، أو فقد غفرت لكم ، فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم . رواه البخاري ومسلم .(1/236)
ولما قال رجل : اعدل يا محمد فإنك لم تعدل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويلك ومن يعدل بعدي إذا لم أعدل ،؟ قال عمر : دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق . رواه أبو داود ، وأصله في الصحيحين .
وفي يوم الحديبية لما جاء أبو جندل مُسلماً ، فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ! أُرَدّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله . قال عمر بن الخطاب : فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ألستَ نبي الله حقا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فَلِمَ نُعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : إني رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري .
قال الزهري : قال عمر : فعمِلتُ لذلك أعمالا . رواه البخاري .
وفي رواية للبخاري ومسلم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال : فَنَزَلَ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح ، فأرسل إلى عمر ، فأقرأه إياه ، فقال : يا رسول الله أو فتح هو ؟ قال : نعم . فطابت نفسه ورجع
وهذا يدلّ على مكانة عمر رضي الله عنه في الإسلام ، وعلى اهتمامه صلى الله عليه وسلم بعمر رضي الله عنه .
ومن اهتمامه صلى الله عليه وسلم بِعمر رضي الله عنه أنه كان يخصّه بالسؤال أحياناً .
ففي حديث جبريل ومجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر : ثم انْطَلَقَ ، فلبثت ملياً ، ثم قال لي : يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم . رواه مسلم .
أثره في الإسلام :
ظهر أثر عمر الفاروق في الإسلام من أول إسلامه .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما زلنا أعِزّة منذ أسلم عمر . رواه البخاري .
قال سعيد بن المسيب : أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة ، فما هو إلا أن أسلم عمر فظهر الإسلام بمكة .
ومن أثره بذله وتضحيته .
فقد تصدّق عمر رضي الله عنه بِنصف ماله .(1/237)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أَمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر ، إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله . قال : وأتى أبو بكر رضي الله عنه بِكُلّ ما عنده ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله . قلت : لا أسابقك إلى شيء أبدا . رواه أبو داود .
ومن أثره الواضح حسمه لأمر البيعة يوم السقيفة .
ففي حديث عائشة رضي الله عنها :
واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا : منا أمير ومنكم أمير ، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس ، فقال في كلامه : نحن الأمراء ، وأنتم الوزراء فقال حباب بن المنذر : لا والله لا نفعل ، منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر : لا ، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء ، هم أوسط العرب دارا ، وأعربهم أحسابا ، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر : بل نبايعك أنت ، فأنت سيدنا ، وخيرنا ، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس .
وقالت عائشة رضي الله عنها : شخص بصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : في الرفيق الأعلى ثلاثا ... قالت : فما كانت من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها ، لقد خوّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقا فردّهم الله بذلك ، ثم لقد بصّر أبو بكر الناس الهدى وعرّفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يَتْلُون : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) إلى ( الشاكرين ) . رواه البخاري .
مِن أعماله :
جاهَد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهد بدرا والمشاهد بعدها .(1/238)
وحسم النّزاع في سقيفة بني ساعدة ، فأُخمِدت الفتنة ، واجتمعت الكلمة .
وأشار على أبي بكر رضي الله عنه بِجمع القرآن .
روى البخاري عن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه - وكان ممن يكتب الوحي – قال : أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني ، فقال : إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بالناس ، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه ، وإني لأرى أن تَجْمَع القرآن . قال أبو بكر : قلت لِعُمَر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : هو والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ، ورأيت الذي رأى عمر .
فهذه أول مشورة لِجمع القرآن الكريم ، أشار بها عمر رضي الله عنه على الخليفة الصِّدِّيق الصَّادِق ، فحفظ الله كتابه بهؤلاء الأخيار .
اعتماد مبدأ الشورى ، وهذا ليس تشريعا من عُمر ، وإنما أبرزه عمر رضي الله عنه وأظهره وعمِل به .
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قَدِم عيينة بن حصن بن حذيفة فَنَزَل على بن أخيه الحرّ بن قيس ، وكان من النفر الذين يُدنِيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبانا .
فالشاهد أن القرّاء أصحاب القرآن كانوا هم أصحاب مشورة عمر .
وعمر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة جَعَل الأمور شورى في الستة .
ومن مأثور قوله : لا خير في أمرٍ أُبرِم من غير شُورى .
وعُمر رضي الله عنه هو أوّل من دوّن الدواوين
قال ابن الجوزي :
ومن الحوادث في سنة خمس عشرة فرض العطاء وعمل الدواوين . أن عمر فَرَض الفروض ودوّن الدواوين ، وأعطى العطاء على مقدار السابقة في الإسلام .
وقال أيضا :
وفرض لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف عشرة آلاف .
وفُتِحت الفتوحات في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، ومن أعظمها وأهمّ÷ا فتح بيت المقدس [ إيلياء ] .(1/239)
ومن الفتوحات التي تمّت في عهده رضي الله عنه فتح دمشق والقادسية وعامة فتوح الشام
وكثير من فتوح العراق وفتوحات المشرق كانت في زمن أمير المؤمنين عمر .
ففتوح أذربيجان وجُرجان وقندهار وكرمان وسجستان وخراسان كلها فُتحت في عهد عمر رضي الله عنه .
وكسَر الله الأكاسرة بِعمر بن الخطاب ، وأطفأ الله به نار المجوس .
فمن مثل عمر رضي الله عنه وأثره في الإسلام ؟
صِدقه ووضوحه رضي الله عنه :
روى البخاري من طريق عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : يا رسول الله لأنت أحبّ إلي من كل شيء إلا من نفسي ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك . فقال له عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر .
بهذا الوضوح وبهذه الشفافية كان عمر رضي الله عنه يتعامل .
ومن وضوحه رضي الله عنه سرعة رجوعه للحق .
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه ، وكفر من كفر من العرب ، فقال عمر رضي الله عنه : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ؟ فقال : والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر رضي الله عنه : فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق .
ومن ذلك : وقوفه عند حدود الله ، وعند كتاب الله .(1/240)
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قَدِم عيينة بن حصن بن حذيفة فَنَزَل على بن أخيه الحرّ بن قيس ، وكان من النفر الذين يُدنِيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبانا ، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه . قال : سأستأذِن لك عليه . قال ابن عباس : فاستأذن الحرّ لعيينة فأذن له عمر ، فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب ! فو الله ما تُعطينا الجزل ، ولا تَحكُم بيننا بالعدل ، فغضب عمر حتى همّ به ، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وإن هذا من الجاهلين ! والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقّافاً عند كتاب الله .
مدة خلافته :
قال ابن أبي عاصم :
وكانت خلافته عشر سنين وسبعة أشهر وأربع ليال .
وفاته رضي الله عنه :
قال ابن أبي عاصم :
توفي سنة ثلاث وعشرين من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
طعنه أبو لؤلؤة المجوسي – لعنه الله – وعُمر في صلاة الفجر يُصلي بالناس إماماً .
وهذا المجوسي الحاقد على الإسلام وأهله ، الغدّار الخائن يترضّى عنه الرافضة ويُسمونه ( بابا شجاع الدِّين ) !
وفي مقابلة الترضّي والتّرحّم على مجوسي قُتِل ومات على الكُفر يلعنون عُمر رضي الله عنه !
فأي تناقض كهذا التناقض ؟؟؟
هذه نُتف يسيرة من سيرة أمير المؤمنين حسن السِّيرة عمر بن الخطاب ، عمر الخير ، الْمُحَدَّث الْمُلْهَم .
" ورضي عن جميع الصحابة ، فترضَّ عنهم يا شيعي تُفْلِح ، ولا تدخل بينهم ، فالله حكم عدل يفعل فيهم سابق علمه ورحمته وسعت كل شيء " قاله الذهبي في سير أعلام النبلاء .
أبرز مراجع هذه الترجمة :
تاريخ ابن جرير ، تأليف : ابن جرير الطبري .
تهذيب الآثار ، تأليف : ابن جرير الطبري .
المنتظَم في تاريخ الملوك والأمم ، تأليف : ابن الجوزي .(1/241)
البداية والنهاية ، تأليف : ابن كثير .
السنة ، تأليف : ابن أبي عاصم .
تاريخ بغداد ، تأليف : الخطيب البغدادي .
تاريخ دمشق ، تأليف : ابن عساكر .
نونية القحطاني ، تأليف : محمد بن عبد الله القحطاني الأندلسي .
فصل الخطاب في سيرة عمر بن الخطاب ، تأليف : الدكتور علي الصلابي .
الفاروق في شعر حافظ إبراهيم ، تأليف : سليمان محمد سليمان .
بالإضافة إلى كُتب السنة .
50-موقف المُسلِم من الحرب القائمة..
يتذبذب بعض الناس في مواقفهم خاصة أيام الفتن
ويتأرجح آخرون بسبب أو بغير سبب
ربما كان ذلك بسبب خلفية فكرية !
أو نتيجة أثر في النفس
أو نتيجة بغض وكراهية لشخص أو أشخاص ، أو لجهة معينة
أو بسبب تأجج عاطفة
وهكذا تثور زوابع الهوى كلما اشتدّ أوار الفتن ، فتَسْفي التراب في أعين أقوام لا يتبيّنون موقف الشرعي للمسلم من حدث أو حرب أو كارثة .
وربما يحمل البعض على هذا الموقف أو ذاك شنئان قوم
وفي التنزيل العزيز : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .
وهذه الحرب الدائرة اليوم على العراق يجب أن يُنظر إليها نظرة شرعية من أكثر من جهة
الأولى : مَن الأقرب إلى الحق في هذه المعركة ؟
الثانية : مَن المتضرر مِن الحرب ؟
الثالثة : عقبى الحرب .
أما الأولى فالنظرة الشرعية يجب أن تكون إلى أقرب الفريقين إلى الحق
ولذا لما تقاتلت الفرس والنصارى كان النصارى أقرب إلى المسلمين ، فالنصارى أقرب لأنهم أهل كتاب .(1/242)
قال الله عز وجل : ( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .
فالمؤمنون فرِحوا بنصر الله .
ولكن لِمَن ؟
للروم ، وهم النصارى .
لأنهم أقرب إلى الحق – كما أسلفت –
وإذا نصبنا هذا الميزان في حرب اليوم وجدنا العراق كبلد وشعب أقرب إلينا ، فالدم الدم ، والهدم الهدم ، ويجمع بيننا وبينهم الدم والعِرق بل والدِّين قبل ذلك .
ولا يُفهم هذا القول مني أنني أُصحح مذهب صدّام أو أنني مُعجب به !
والذي أعتقده أنه ظالم سُلِّط عليه ظالم !
الثانية : مَن المتضرر من الحرب ؟
ليس صدّام هو المتضرر الوحيد بل قد لا يتضرر من هذه الحرب
ولكن المتضرر الأول هو الشعب العراقي ، وهو قد تضرر كثيراً ودفع ضريبة غطرسة النظام الحاكم – وليس الوحيد - !
إن الشعب العراقي تضرر ولا يزال
كما إن الشعب الأفغاني تضرر من الحرب القذرة التي شنّتها عليه أمريكا ! فأكلت الأخضر واليابس ، وقتلتْ الأطفال والشيوخ ، تحت شعار ( مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ )
وتحت شعار : ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) !
وقد مات بسبب ذلك الحصار أكثر من مائة ألف ، منهم 84 ألف طفل دون الخامسة .
هذا نتيجة من نتائج الحصار المفروض على الشعب العراقي المسلم .
أما اليهود ودولة إسرائيل فما تقوم به لا يجرّ المنطقة إلى ويلات !
بل هم حمام سلام بدلاً من حمامات دمّ !
وقد صرّح " باول " بـ : أن الولايات المتحدة ملتزمة بأمن إسرائيل .(1/243)
إذاً لِنعلم علم يقين أن ما تقوم به الولايات المتحدة في العراق ليس بهدف تخليص العراق من قيادته !
بل إن ما تتبجّح به دول الصليب من عدالة وحرية وديموقراطية باتت رهينة القيد ، مكشوفة الوجوه ، ساقطة القناع !
فهذه الولايات المتحدة تتخذ قرار الحرب بعيداً عن مجلس أمنهم وهيئة أممهم !
ولا يُشاركها في هذه الحرب القذرة على المدن سوى حامية الصليب ودافعة الحملات الصليبية سابقا ( بريطانيا )
الثالثة : عقبى الحرب .
سبق أن كتبت موضوعأً بعنوان : من ذا الذي لا يخاف منها ..؟
وهو هنا
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/122.htm
وعقبى الحرب :
كوارث ودمار
وقتلى وأسرى وجرحى
وقد أُعلِن اليوم السبت 19/1/1424 هـ عن سقوط خمسين مدنياً ضحية لهذه الحرب القذرة .
ومن عُقبى الحرب مئات من المشرّدين
والأضر هو انتشار التنصير في المخيمات تحت شعارات الإغاثة والعلاج !
وقد أحسن صاحب كتاب " التنصير – تعريفه – أهدافه – وسائله ... ) حينما قال :
ولقد تنبّه المؤتمرون في مؤتمر " كلورادو التنصيري " إلى ضرورة وجود ظروف خاصة تدعو إلى التحوّل الجماعي نحو النصرانية ، إذ يقول " ديفيد أ . فريزر : ولكي يكون تجوّل فلا بُدّ من وجود أزمات مُعينة ومشكلات وعوامل تدفع الناس أفراداً وجماعات خارج حالة التوازن التي اعتادوها ، وقد تأتي هذه الأمور على شكل عوامل طبيعية كالفقر والمرض والكوارث والحروب ، وقد تكون معنوية مثل التفرقة العنصرية أو الحساسية بسبب تسامح المجتمع تجاه النفاق أو الوضع الاجتماعي المتدني . انتهى .
إذاً فلنتذكّر قول الله عز وجل : ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ) وهذه صفة مكر الكافرين .
وأخسى ما يخشاه العقلاء أن نقول : أُكِلتُ يوم أُكل الثور الأبيض !
ولنحذر كل الحذر أن يحملنا بغض شخص أو فئة على تأييد كافر أو إعانته وتولِّيه .(1/244)
وقد قال الله عز وجل في الأقربين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
وقال في الأبعدِين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )
فلا يحملنا بغضنا لصدّام أن نوالي أمريكا
كما لا يحملنا بغضنا لأمريكا أن نُحب صدّام
إذاً نحتاج في مثل هذه الظروف الحَرِجة إلى العدل وإلى الاتزان في الأقوال والأفعال .
وأن نَزِن أفعالنا بل وأقوالنا في ميزان الشرع .
والله أسأل أن يرد كيد العدو في نحره
وأن يرمي الظالمين بالظالمين وأن يُخرج المسلمين من بين أيديهم سالمين
وأن يكفينا شر الأشرار ، وأن يصرف عنا كيد الفجار .
اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائنا ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
51-الذلّة ... على وجوه الأفغان ... فأين العزة ؟؟؟
وجوههم ترهقها قترة ...
...
وتعلوها غبرة ...
...
قد ارتدوا لباس الذل ...
...
يوم أن ارتدّوا عن دينهم ...
...
قد اصفرّت وجوههم ...
لا يدرون ما مصيرهم ...
تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت ...
ظنوا أنه قد أحيط بهم ...
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ...
وضاقت عليهم أنفسهم ...
تنكّرت لهم الأرض فما هي أرض بلادهم التي يعرفون ...
لا يستطيع أحدهم أن يبتلع ريقه ...
يرى أحدهم أن بينه وبين الموت لحظة ...
بل يرى الموت رأي عين ...
الدنيا تدور أمام ناظريه ... والأحداث تتسارع في مخيّلته ...
وذاكرته قد أدارت سنيّ عمره ...
يتمتم ... يلعن الشيوعية ويلعن روسيا ...(1/245)
كان هذا المشهد قبل أكثر من عشر سنوات حينما رأيت مجموعة من الأفغان الشيوعيين وقد وقعوا في أسر المجاهدين الأفغان الأشاوس ...
ثم رأيت أحد المجاهدين أحضر خبزا فأطعمهم ... برغم قلّة ذات اليد
والآخر أحضر ( الشاي ) فسقاهم
فتذكّرت قول الله ( ويُطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا )
اطمأن أحدهم قليلا فأدخل يده تحت قميصه ثم تحت شعاره ( ملابسه الداخلية ) [ الفانيلة ]
فلم يكترث له المجاهدون ...
إنه يحاول إخراج شيء ما ...
بعد محاولات جاهدة ...
أخرج جزءا من القرآن ...
وكان الجزء الثالث كُتِب عليه ( تلك الرسل ) [ بداية الجزء ] ...
قال محاولا تلمّس العفو :
كان أبي مسلما !!!
وكذا كانت أمي !!!
وكذا كان جدّي !!!
ثم سلّم المصحف لقائد المجاهدين ...
فتساءلت حينها :
هؤلاء أفغان وكذلك أولئك
ربما كانوا أبناء عشيرة واحدة
بل ربما كانوا أبناء عمّ
فما الذي فرّق بينهم ؟؟
ما الذي ألبس هذا ثوب عزة وافتخار
وألبس الآخر ثوب ذلّة وامتهان ؟؟؟
إنه الدِّين ... دين العزيز منه تُستمدّ العزة ( ولله العزة جميعا )
من تمسّك به فلن يضل ولن يشقى
ومن أراد العزة فليستمسك بالدين القويم
( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )
العزة لله
ولرسوله
والمستمسكين بدينه يستمدّون منه العزة .
أليس أميرنا
أمير المؤمنين
..
..
أبو حفص عمر - رضي الله عنه - هو القائل : إنّا كنا أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام ، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله .
فيا أيها الأفغان خاصة ويا أمة الإسلام عامة مهما ابتغيتم العزة بغير دين الله فلن تجدوها بل ستجدون الذلّة والحسرة والندامة والهزيمة .
كونوا عبيدا لله وحده لا للشرق ولا للغرب .
كونوا عبيداً لله لا عبيداً للشهوات .
كونوا عبيداً لله لا عبيداً للهوى .
..
..
( كونوا أنصار الله ) .
52-ماذا أستطيع فعله في الأزمات ؟
تمرّ الأزمات بنا متتابعة متتالية(1/246)
حتى يظلّ الحكيم حيراناً ، ويقف الهميم عاجزاً
ويَرِد السؤال ويتكرر : ماذا أستطيع فعله في الأزمات ؟
والبعض يُلقي بالعبء الأكبر على غيره ، ويُخلي غيره من المسؤولية ليقول : ما بيدي شيء !
أو يقول : ليس لي من الأمر شيء !
وما علِم أن بيده خيراً كثيراً .
وربما تنصّل من السؤولية محتجاً بمقارفة الذنوب
وما علِم أن هذا لا يُعفيه ، بل قد أضاف ذنباً على ذنوب !
إذاً ماذا بأيدينا ؟
وماذا بوسعنا أن نُقدّم ؟
وكيف ؟
ومتى ؟
فأقول :
بوسعنا الكثير ، سواء كان على ذلك مما يعم أو مما يخص ، ومن ذلك :
1- سهام الليل ، والسلاح المعطّل الذي انتصر به رُسل الله عليهم الصلاة والسلام .
وهو سِلاح فعّال لا يملكه سوى المسلم المؤمن الموقن بوعد الله ونصره .
ومع ذلك كثيراً ما نترك هذا السلاح أو نُفرّط فيه ونهمله .
نطالِب أئمة المساجد بالقنوت ، ولكننا نعجز عن الدعاء ونتكاسل أن نرفع أيدينا
وهذا غاية العجز ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : أعجز الناس من عجز عن الدعاء . رواه ابن حبان وغيره ، وحسنه الألباني .
أين نحن من أوقات الإجابة ؟
( بين الأذان والإقامة – في السجود – قبل السلام من الصلاة – في جوف الليل – آخر ساعة من يوم الجمعة ... ) إلى غير ذلك من الأوقات والأحوال التي هي مظانّ إجابة الدعاء .
2- مجاهدة الكفار
وليست المجاهدة مُقتصرة على السلاح ، بل هي باليد وباللسان وبالمال وبالقلب .
لقوله عليه الصلاة والسلام : جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وقال عليه الصلاة والسلام : ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون مالا يفعلون ، ويفعلون مالا يؤمرون ؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . رواه مسلم .(1/247)
فمن عجز عن جهاد الكافرين بيده جاهدهم بلسانه وماله وأضعف الإيمان أن يُجاهدهم بقلبه .
فالجهاد باللسان بالدعوة والمحاجة
والدعوة بالأموال بدعم إخواننا المضطهدين ، ولا يُتركون لقمة سائغة للصليب يُنصّرهم كيف شاء !
فالجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس في كتاب الله عز وجل .
ومن هذا الباب تحديث النفس بالغزو ، لقوله عليه الصلاة والسلام : من مات ولم يغز ، ولم يحدث به نفسه ، مات على شعبة من نفاق . رواه مسلم .
3- النكاية بالكافرين وإغاظتهم
كيف ذلك ؟
أشد ما تكون النكاية بأئمة الكفر أن تتزايد أعداد المسلمين على حساب تعداد الكافرين أياً كانوا !
قال عمر رضي الله عنه : ما عاقبت من عصى الله فيك ، مثل أن تطيع الله فيه . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
فمن وقف مواقف الدعوة إلى الله ولو بكلمة أو جهد أو كتاب أو شريط أو محاجة أو بيان حق فقد وطئ موطئاً يغيظ الكفار .
أما أغاظوك يوم تسلّطوا على ديار ورقاب المسلمين ؟
إذاً أغظهم أنت بالدعوة إلى دين الله عز وجل ، بل أغظهم بصلاح نفسك والرجوع إلى الله
أما سمعت قول الله عز وجل في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم : ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) ؟
ثم إن الإصلاح مما يدفع العقوبات .
تأمل قوله عليه الصلاة والسلام وقد سُئل : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثُر الخبث . رواه البخاري ومسلم .
والخبث إذا كثُر ، والمنكر إذا ظهر ، والمعاصي إذا فشت ، والفجور إذا انتشر ، كان ذلك سببا في الهلاك ، وهو أعظم من الحرب .
قال عليه الصلاة والسلام : إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله . رواه الحاكم ، وصححه .
وقال : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
فالصلاح في النفس ، والإصلاح في الغير مما يدفع الله عز وجل به العقوبة .(1/248)
4- توعية الناس بالقضية ، وتعرية مزاعم قوى الكفر
وتبصير الناس بحقائق دعاوى الكفار ، كتبجّحهم بالديموقراطية والعدل والمساواة إلى غيرها مما أُلغيت في التعامل مع قضايا المسلمين في سائر أقطار الأرض !
وهذه الحرب قد أسقطت الكثير من الأقنعة ، وتبين لكثير من الناس – حتى مَن خُدِعوا فيهم – الوجه الكالح لأمم الكفر ولأئمة الكفر !
ويتبع ذلك تبنّي قضايا الأمة ، وليست قضية الساعة ، فإحياء قضايا الأمة مما يقض مضاجع الأعداء ؛ لأنهم يُشغلون الأمة بقضية عن قضايا .
5- تحقيق التوكل وعدم الإرجاف ، وإخافة الناس بالوهم !
فإن الإرجاف والتخويف سمة من سمات المنافقين ، فاحذر أن تكون ممن قال الله فيهم : ( لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا )
وربّ إرجاف وتخويف أورث الضعف والهوان .
وإنما كان قول المؤمنين على مر الزمان ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )
6- الالتفاف حول العلماء والصدور عنهم تنفيذاً للتوجيه الرباني : ( وَإذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ )
وعدم التفرّق والتناحر والتنازع ؛ لأن الضعف مرهون بالتنازع ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )
وتفويت الفرصة على المنافقين المتربصين الذين يتحيّنون الفُرص لبث سمومهم ، والعدو إنما يدخل من خلال الثغرات التي يصنعها له الطابور الخامس .(1/249)
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : " ما من ثلاثة نفر في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية " رواه الإمام أحمد وغيره وحسنه الألباني .
ويجب ان نُفرّق بين التخاذل واعتزال الفتن ، فالأول غير سائغ ، والثاني له وجه .
ومن هنا يجب إحسان الظن بالعلماء ، بل والذبّ عن أعراضهم .
وعلى أقل الأحوال أن نكفّ ألسنتا عنهم
لا خيل عندك تُهديها ولا مالُ *** فليسعد النطق إن لم يُسعد الحال
7- ضبط الحماس ، وطرح التصرفات الفردية ؛ لأنها تضرّ أكثر مما تنفع .
وترك الاجتهاد لمن هم أهل للاجتهاد .
فالعاطفة إذا لم تُضبط بالشرع صارت عاصفة ! كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
وعدم التطلّع للفتن والاستشراف لها .
قال عليه الصلاة والسلام : ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، ومن يشرف لها تستشرفه ، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به . رواه البخاري ومسلم .
8- الإقبال على العبادة ، وإصلاح النفس ، وترك القيل والقال ، ونبذ الشائعات .
والإكثار من العبادة .
قال عليه الصلاة والسلام : العبادة في الهرج كهجرة إلي . رواه مسلم .
قال الإمام النووي : المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولايتفرغ لها إلا أفراد .
9- صدقة السر
لأن صدقة السر لها أثر عجيب ، وبها يدفع الله عن العباد والبلاد .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السر تطفيء غضب الرب . رواه الطبراني في الكبير ، وحسنه الألباني .
فإن لم يتصدّق فليكفّ يده ولسانه(1/250)
قال أبو ذر رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله . قال : قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال : أنفسها عند أهلها ، وأكثرها ثمناً . قال : قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تُعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق . قال : قلت : يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : تكفّ شرك عن الناس ، فإنها صدقة منك على نفسك . رواه البخاري ومسلم .
ألا ترى أن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم من بكى حينما لم يجد ما يُنفق ، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه ؟
حتى عُرفوا بـ " البكائين "
وسُطّرت أخبارهم في كتاب الله عز وجل ، فقال الله تبارك وتعالى فيمن رُفع عنهم الحرج ( وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ )
حتى جاء في سيرة علبة بن زيد أنه خرج من الليل فصلى وبكى ، وقال : اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ، ورغّبت فيه ، ولم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض .
فهذه إشارات لما نستطيع عمله .
وصاحب الهمة ليس بحاجة إلى أن يُشار له نحو القمّة !
والمعصية ليست عُذراً للتخلّف عن ركب السائرين ، ولا القعود عن مشاركة العاملين
بل الاحتجاج بالمعصية والتعذّر بها عن خدمة هذ االدين ذنب يُضاف إلى ذنوب صاحب العُذر .
والله أسأل أن يُهيئ لأمة الإسلام من أمرها رشدا .
53-أيّ جُرْحٍ في إبائي راعِفٌ ؟
أُمّتِي ! كم غُصّةٍ داميةٍ *** خَنَقَتْ نَجوى عُلاكِ في فَمِي ؟
أيّ جُرحٍ في إبائي راعِفٌ *** فاتَه الأسى ، فلم يَلتئمِ
كم أغضيتِ على الذّل ولم *** تَنفضي عنك غُبار التُّهَمِ
أمتي ! كم صَنَمٍ مَجّدتِه *** لم يَكن يَحمل طُهر الصّنمِ !(1/251)
اسمعي نوح الحزانى واطربي *** وانظري دمع اليتامى وابسمي !
هذه أمة المجد
هذه أمة الإباء
هذه أمة العزّ
إيهٍ أمتي ..
أوَ ما كنتِ إذا البغي اعتدى *** موجةً من لهيب أو مِن دمِ ؟
بلى وربّي
فما بالها هانَتْ ؟
وما لها ذلّتْ ؟
ويح أمتي تَسمع أنين الثكالى .. ونَوح الحزانى .. وضجيج البائسين ..
ثم تضجّ في لهوها
وتتقلّب بين الأنغام
وترقص على الجراح
اعتصر قلبي ألماً حينما رأيت تكريم أمتي وحفاوتها بِـ " مخنّث " !
أيُعقل أن يُستقبَل من مثّل بلادي في " عار " وأي عار ؟
كان حقّه أن يُقام عليه الحد ، أو يُعزّر ..
أو يُطرد من بين البيوت ! امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم .
روى البخاري عن ابن عباس قال : لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال ، والمترجلات من النساء ، وقال : أخرجوهم من بيوتكم . قال : فَأَخْرَج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا ، وأخرج عمر فلانا .
قال الإمام البخاري في تبويبه : باب نَفْي أهل المعاصي والمخنثين .
إنه لَعَار على بلادٍ عربية أن يُستَقْبَل فيها ذلك الذي لا يَمُتّ لها بِصِلة لا في مظهر ولا في مَخبَر ..
هذا لو كانت بلاداً عربية
فكيف بها وهي بلاد أبيّة ؟
فكيف بها وهي مهبِط الوحي ؟
وهالِني إذ رأيت صفحة كاملة خُصِّصَتْ لبث أخبار ذلك المخنّث !
في الوقت الذي تُهدد فيه جماعة من اليهود باقتحام المسجد الأقصى
وفي الوقت الذي يُسب فيه نبيّ هذه الأمة
وفي الوقت الذي يُداس فيه القرآن ويُهان
وتكتفي أمتي في زمان الذلّ باستنكار على استحياء !
وتُطالِب بمليون توقيع !
ثم ماذا ؟!
ثم تذهب أدراج الرياح
ويُترَك الكافر ( يهوديا كان أو نصرانيا ) يذهب ويَجيء ! يَغدو ويَروح
كم والله تعتصرنا الآلام حينما نتذكر ما كان يُسمى بـ ( الرَّجُل المريض )
كانت الدولة العثمانية – على ما فيها – في أواخرها تُسمى : الرَّجُل المريض(1/252)
وفي المقابِل كانت بريطانيا تُسمى : ( الدولة التي لا تَغيب الشمس عن ممتلكاتها )
وهذان الوَصْفَان كافِيان في تصوّر الحال قوّة وضعفا .
آنذاك .. رسم رسّام ( كاريكاتوري ) بريطاني ، رَسَم دِيكاً وتسع دجاجات خلْفَه ، [ يُشير لعنه الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه ] فانتفضَتِ الدولة العثمانية ( الضعيفة الهزيلة ) وطالَبَتْ بِمحاكمة الرسّام وتسليمه للدولة العثمانية ..
وحُوكِم الرّجل ، وقدّمت الصحيفة اعتذاراً ، بل قدّمته الدولة التي لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها !
وفي زمان مضى تجرأ رئيس نصراني فكَتَب إلى خليفة المسلمين ، كَتَب إلى هارون الرشيد ، فما كان من هارون الرشيد إلا أن قَلَب الكِتاب ، وكَتَب خلفه :
من هارون أمير المؤمنين إلى ( نقفور كلب الروم ) قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة ، والجواب ما تراه دون ما تسمعه . ثم شَخَصَ من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها ، وغنم من الأموال شيئا كثيرا ، وخَرّب وأحرق ، فَطَلَبَ نقفور منه الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة ، فأجابه الرشيد إلى ذلك . [ تاريخ الطبري ، المنتظَم ، والكامل ، البداية ] .
ولما كَتَب الأذفونش إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كتاباً رد عليه الأمير بأن مزّق كتابه ، وكَتَبَ على ظهر قطعة منه : ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) الجواب ما ترى لا ما تسمع .
ثم أمَرَ بِكُتُبِ الاستنفار ، واستدعى الجيوش من الأمصار ، وضرب السرادقات بظاهر البلد من يومه ، وجمع العساكر وسار إلى البحر المعروف بزقاق سَبتة ، فَعَبَرَ فيه إلى الأندلس وسار إلى أن دخل بلاد الفرنج ، وقد اعتدّوا واحتشدوا وتأهبوا ، فكسرهم كسرة شنيعة ، وذلك في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة [وفيات الأعيان ] .
فلله درّه :(1/253)
ولا كتب إلا المشرفية عنده *** ولا رسل إلا الخميس العرمرم
هكذا عَزّتْ أمة الإسلام في أوربا ، حينما كان الجواب في المهند والحسام
ثم ما لبثتْ أن كان الجواب : دفع جزية ! وتحالفات مع العدوّ ! ورقص وطَرب
فَخَرج آخر أمرائها يَبكي كالطفل ! توبّخه أمّه .. ويذرف دمعه !
فَكَم تحتاج الأمة إلى أن تستعيد تلك العزّة ، وتتسنّم تلك الكرامة ؟!
تَحتاج هَمّ وهِمم
كم بين همٍّ وهَمّ ؟
حينما كان الهمّ تعبئة الجيوش أفلحنا
وعندما أصبح الهمّ تعبئة الجيوب خسرنا !
وفَرْق أيما فرْق بين تعبئة الجيوش وبين تعبئة الجيوب !
همّ أناس في مصالح أمّتهم
وهمّ آخرين مصالحهم الشخصية !
أسلافُنا أعدّوا العُدّة
ونحن عَددنا العَدد ..
فأعجبتنا كثرتنا ، إلا أنها غثاء ..
فماذا صنعت أمة المليار أمام إهانة نبيِّها وكتاب ربِّها ؟
إن لم تنتفض الآن فمتى تنتفض ؟!
أما والله لن تُفلِح أمة الإسلام براقص ماجِن ، ولا بِمُغنٍّ مُخنّث ، ولا بِلاعِب ضائع !
ولا بِمنطق الرويبضة ونُطقِه !
ولا أن يَسود القبيلة مُنافِقوها !
ولن يُفلِح ولن يَصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صَلَح به أوّلها .
ولا استعزّت الأمّة إلا يوم أن أخذت بمعاقد العِزّ
ولا انتصرتْ إلا يوم أن أخذت بأسباب النصر
أوَ ما كنتِ إذا البغي اعتدى *** موجةً من لهيب أو مِن دمِ ؟
أوَ ما :
كنا جبالا في الجبال وربما *** سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا *** قبل الكتائب يفتح الأمصار
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها *** سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة *** خضراء تنبت حولنا الأزهار
ورؤوسنا يا رب فوق أكفنا *** نرجو ثوابك مغنما وجوارا
أم من رمى نار المجوس فأُطْفِئت *** وأبان وجه الحق أبلج نيرا
ومن الذي بذل الحياة رخيصة *** ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهم *** والحرب تسقي الأرض جاما أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا *** في مسمع الروح الأمين فكبرا(1/254)
وقول الله أصدق وأبلغ :
( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) ..
اللهم هيئ لأمة الإسلام من أمرها رشدا
وانصرها على عدّوها..
54-هذا بِذنْبِي ...
كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تُصدع ، فتضع يدها على رأسها وتقول : بذنبي ، وما يغفره الله أكثر .
أي أنها ما تُصاب إلا بسبب ذنبها .
وهي بذلك تُشير إلى قوله تعالى : ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ )
وحَدّث عبيد الله بن السرى قال : قال ابن سيرين : إني لأعرف الذنب الذي حُمل به عليّ الدَّين ما هو . قلت : لرجل منذ أربعين سنة : يامفلس !
قال عبيد الله : فحدثتُ به أبا سليمان الداراني فقال : قَلّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون ، وكثرت ذنوبي وذنوبك فليس ندرى من أين نؤتى !
قال الفضيل بن عياض : إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خُلق حماري وخادمي .
وهذا الإمام وكيع بن الجراح - رحمه الله - لما أغلظ له رجل في القول دخل بيتاً فعفّر وجهه ، ثم خرج إلى الرجل . فقال : زد وكيعاً بذنبه ، فلولاه ما سلطت عليه .
أي لولا ذنوبي لما سُلّطت عليّ تُغلظ لي القول .
ولما استطال رجل على أبي معاوية الأسود فقال له رجل كان عنده : مه ! فقال أبو معاوية : دعه يشتفي ، ثم قال : اللهم اغفر الذّنب الذي سلّطت عليّ به هذا .
هذا من فقه المصيبة ، وهو فِقه دقيق لا يتأمله كل أحد .
فمتى أُصيب العبد بمصيبة لم ينظر إلى أسبابها وما هو مُقيم عليه من ذنوب ، فقد نظر إلى ظاهر الأمر دون باطنه .
فينظر كثير من الناس إلى من أجرى الله على يديه تلك المصيبة التي ما هي إلا عقوبة لذلك الذّنب ، ولولا ذلك الذنب لما سُلِّط عليه .
كما تقدّم في الآثار السالفة .
ينظر كثير من الناس إلى من باشر المصيبة ، ومن أجرى الله على يديه العقوبة ، فينظرون إلى الظالم فحسب فيلعنونه ، ونحو ذلك .(1/255)
وينظرون إلى من تسبب في حادث سير على أنه سائق غشيم لا يُحسن التصرّف ، ولكن الناظر هذه النظرة يفتقد إلى تلك الشفافية التي نظر بها السلف أبعد مما هو ظاهر للعيان .
وينظر الزوج إلى زوجته على أنها تغيّرت طباعها أو ساءت أخلاقها ، دون التأمل في الذّّنب الذي تسبب في ذلك .
كما تنظر الزوجة إلى زوجها على أنه تغيّر طبعه أو ساء خُلُقه ، دون النظر في الذنوب التي هي السبب في ذلك .
فكم نحن بحاجة إلى تلك النظرة الفاحصة التي ننظر بها إلى ذنوبنا قبل كل شيء .
فإذا وقعت مصيبة أو نزلت نازلة أو ساءت أخلاق من يتعامل معنا من أهلٍ وأصحاب وجيران فلننظر في ذنوبنا الكثيرة : من أيها أُصبنا ؟
أمِنْ ارتكاب ما حرّم الله ؟
أم مِن تضييع فرائض الله ؟
أم مِن تخلّفنا عن صلاة الفجر ؟
أم مِن السهر المُحرّم ؟
أم مِن إدخال ما حرم الله إلى البيوت من صور ومعازف ، وغيرها من وسائل تجلب الشياطين ، وتتسبب في خروج الملائكة ؟
أم مِن الأسفار المُحرّمة . سعيا في الأرض فسادا ؟
أم مِن ضعف مراقبتنا لله عز وجل ؟
أم ... أم ...
وتعدّ وتغلط ... مِن كثرة الذنوب العامة والخاصة .
أحببت تذكير نفسي وإخواني وأخواتي .
( وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
فرُحماك ربنا رُحماك
وعاملنا ربنا بلطفك الخفيّ
وعاملنا بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين .
55-لم تُبْنَ لهذا.!!
.....
بدأت تنتشر في الآونة الأخيرة ظاهرة - إن صحّ تسميتها ظاهرة - ألا وهي كثرة الإعلانات على أبواب المساجد ، ومرافقها ، كالبرّادات ودورات المياه ، ونحوها ، مما هو محذور شرعأً ومنهي عنه ، إضافة إلى تشويه جدران المساجد وواجهاتها .
ومن الإعلانات التجارية على سبيل المثال :
1- نقل طالبات ومعلمات بسيارات فاخرة !
2- بدء التسجيل بمدارس ( … ) الخاصة !
3 - أثاث للبيع !
ومن الإعلانات الخاصة :
1- فقدان إقامة !(1/256)
2- ضياع محفظة !
3- فقدان عنز !!!
وليس هذا ضرباً من المبالغة ، بل هو واقع مشاهد ، وليس راءٍ كَمَنْ سَمِعا .
وأمر آخر ملحوظ ، آخذٌ في الظهور ، وهو من قِبَلِ بعض الصالحين أو الجهات الخيرية ، وهو توزيع إعلانات في المساجد عن وجود حافلات نقل طلاب ، علماً أن دخلها لصالح جمعية / دار ( … ) الخيرية . وآخر إعلان وقع في يدي - إعلان لسوق تجاري - يقول : اجعل من شرائك صدقة ، ووزِّع في المساجد بإعلان فاخر بحُجّة أنه تابع لجمعية ( … ) الخيرية .
4 - وآخر ما وقفت عليه قبيل شهر رمضان ورقة دعائية كبيرة ( بروشور ) أُلصِقت على أبواب كثير من المساجد ، عبارة عن إعلان عن إفطار صائم بـ (1) ريال واحد ، واشتمل الإعلان على اسم شركة ألبان كبيرة ، تدعم مشاريع جمعية برٍّ خيرية .
ولست أُقلل من شأن الجمعيات الخيرية ودور تحفيظ القرآن الكريم إلا إنه مهما حسُنت النوايا فإن ذلك لا يكون مُسوِّغاً لتوزيع الإعلانات في بيوت الله أو إلصاقها على جدرانها ، فإنها لم تُبْنَ لهذا .
وأذكر أنني قبل عامين رأيت أحد الباعة في أروقة أحد المساجد في مكة المكرمة ، فقلت له إن هذا محل عبادة ولم يُبنَ لهذا ، فهزّ رأسه مُشيراً إلى أنه سينتهي ، وأنه سيُغادر المكان .
ثم فوجئت به من الغد في نفس المكان ، فقلت له : هل تريد أن ندعوا عليك ألا يُربح الله بيعك ؟
فقال في سخرية : هذا مسجد ؟! - وكان في ساحة المسجد وداخل أسواره -.
قلت له : وهل هذا سوق ؟ فبُهت وسكت .
ثم أمسك به أحد المصلين وسحبه خارج المسجد .
إن احترام شعائر الله وتعظيمها من الإيمان والتقوى ، وإن تعظيم بيوت الله والعناية بها دليل محبّتها .
وإن بيوت الله لم تُبْنَ للبيع ولا للشراء ، ولا يصلح فيها شيء من ذلك ، إنما بُنيت لذكر الله وما والاه .(1/257)
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد فيه الضالة فقولوا : لا ردّ الله عليك » رواه الترمذي وغيره ، وهو حديث صحيح .
وفي صحيح مسلم عن شداد بن الهاد أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا ردها الله عليك ؛ فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا .
وفيه أيضا : عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قام رجل فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا وجدت ؛ إنما بُنِيَت المساجد لما بُنِيَت له . وفي رواية له قال : جاء أعرابي بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ، فأدخل رأسه من باب المسجد - فَذَكَرَه - .
ولما كانت المساجد كذلك فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحدود في المساجد . كما في المسند وغيره ، وهو حديث صحيح .
فليحذر المسلم انتهاك حُرمات بيوت الله أو الاستهانة بها ، أو تشويه مناظر مرافقها ، وليخش دعوات المسلمين عليه ألا يُربح الله بيعه ، ولا يردّ عليه ضالته فإن المساجد لم تُبْنَ للأغراض الدنيوية .
ويوجد في بعض المساجد لوحات إعلانات خُصِّصت لإعلانات المحاضرات والدروس ونحوها مما هو من إقامة ذكر الله ، فبدلاً من تشويه بوابات المساجد وجدرانها تُعطى للإمام أو المؤذن ليتم وضعها في مواضعها .
56-رد على أحد الكتّاب..
الحمد والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم
أما بعد : فقد قرأت ما نقله الأخ الذي رمز لاسمه بـ ( مجاهد في سبيل الله ) ونسأله سبحانه أن يجعله كذلك .
قرأت ما نقله الأخ الفاضل عن كاتب المقال أعلاه .
http://www.almeshkat.net/vb/showthre...&threadid=5691
فأقول - مستعيناً بالله - :
أولاً : أسأل الله أن يهدي كاتب ذلك المقال ، ويُنير بصيرته إن كان أهلاً لذلك .(1/258)
ثانياً : مقاله حوى مغالطات مكشوفة ، وسوف أرد عليه فيها وأبيّن الصواب – سائلا الله التوفيق والسداد – .
قال الكاتب : ((( وأنا أفكر في مدى الظلم و الإجحاف و التمييز العنصري الذي تئن من تبعاته المرأة ، وبالذات في المجتمع السعودي ، وكيف أنها تعيش في وسط يعتبرها كائناً من الدرجة الثانية ، وبلا حقوق ، مع أن عليها من الواجبات و المسؤليات و القيود ما لا يمكن أن يتحمله بشر )))
أقول :
المرأة في الإسلام شقيقة الرجل ، وبهذا نطق الصادق المصدوق صلى الله عليه على آله وسلم حيث قال : النساء شقائق الرجال .
والمرأة في المجتمع السعودي لا تُعتبر كائناً من الدرجة الثانية إلا عند المتكبرين ، أو الرعاع ، وهذا لا يُحسب على توجه بأكمله .
فالمرأة تُعامل سواء في التملّك أو في البيع والشراء أو في المحاكم وفق شرع الله .
وتعال ننظر بعين إنصاف من الذي ينظر هذه النظرة .
أهو المجتمع السعودي المتدين عموماً ، أم هو المجتمع الغربي ؟؟؟ الذي يعتبره البعض أسوة وقدوة يجب أن تكون المرأة في الصحراء كالمرأة في أوربا !
تلبس البنطال وترعى الغنم !!!
ولن أتحدث عن الغرب ( أمريكا وأوربا ) حديث مُتحامل ، بل بما نطق به عقلاؤهم أو خطّته أيديهم أو رقمته إحصائياتهم .
شرح الكاتب الدانمركي (Wieth Kordsten ) اتجاه الكنيسة الكاثوليكية نحو المرأة بقوله : ( خلال العصور الوسطى كانت العناية بالمرأة الأوربية محدودة جداً تبعاً لاتجاه المذهب الكاثوليكي الذي كان يعد المرأة مخلوقاً في المرتبة الثانية ) !!!
وفي فرنسا عقد اجتماع عام 586 م يبحث شأن المرأة وما إذا كانت تعد إنساناً أو لا تُعدّ إنساناً ؟ وبعد النقاش : قرر المجتمعون أن المرأة إنسان ، ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل .(1/259)
وقد نصت المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون الفرنسي على ما يلي : ( المرأة المتزوجة - حتى لو كان زواجها قائماً على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها- لا يجوز لها أن تهب ، ولا أن تنقل ملكيتها ولا أن ترهن ، ولا أن تملك بعوض أو بغير عوض بدون اشتراك زوجها في العقد أو موافقته عليه موافقة كتابية) .
وفي إنجلترا حرّم هنري الثامن على المرأة الإنجليزية قراءة الكتاب المقدس وظلت النساء حتى عام 1850م غير معدودات من المواطنين ، وظللن حتى عام 1882م ليس لهن حقوق شخصية .
[[[[[[ لم يكن هذا في بريدة !!! ولا في نجد بل في أكبر دول أوربا ]]]]]]
لم نرَ من هذا الكاتب أو من يُوافقه هجوماً صارخاً على مثل هذا .
لماذا ؟؟؟
لأنه MADE IN ENGLAND
أو MADE IN FRANCE
هذه الحقيقة المُرّة لا غير .
ثم تعال نقف مع شيء من شهادات عقلاء القوم .
هذا أحد علماء الإنجليز وهو هلمنتن يقول : إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في وفرة العناية بوقايتها من كل ما يؤذيها ويُشين سمعتها .
وهذه صحيفة ( المونيتور الفرنسية ) تقول :
قد أوجد الإسلام إصلاحاً عظيماً في حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية ، ومما يجب التنويه به أن الحقوق الشرعية التي منحها الإسلام للمرأة تفوق كثيراً الحقوق الممنوحة للمرأة الفرنسية
وهذه الدكتورة ايلين تقول : إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى ( الحريم ) هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التّدهور الذي يسير فيه .
وهذاما قاله اللورد بيرون : لو تفكّرت أيها المُطالع ، لَعَلِمْتَ أن الحالة الحاضرة للمرأة الغربية لم تكن غير بقية من همجيّة القرون الوسطى عند الغربيين ، حالة مُصطَنَعَة مخالفة للطبيعة ، ولرأيت معي وجوب إشغال المرأة بالأعمال المنزلية ، مع تحسين غذائها وملبسها فيه ، وضرورة حجبها عن الاختلاط بالغير وتعليمهات الدين .
هذا ما يشهد به عقلاء القوم قبل سفهائنا !!!(1/260)
وأما زعمه أن المرأة في المجتمع السعودي بلا حقوق ، فهذه محض فرية .
أليست المرأة في الإسلام لها من الحقوق أكثر من الرجل عندما تكون أُمّاً وزوجة في الوقت نفسه ؟؟؟
من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك . أمك . أمك . ثم أبوك .
أليست زوجة لها حقوقها المقررة شرعا ؛ من السكنى والنفقة والكسوة والعشرة بالمعروف ؟؟؟
أليست تتعلّم وتعمل في ضوء الشريعة الربانية ؟؟
إن كان الهجوم على الإسلام والتمسّك به فليُصرّح به كاتبه
وإن كان هجوماً على السلفية ، فهي أكثر الناس حرصاً على التمسّك بالكتاب والسنة
وليس معنى وجود حالات مخالفة لشرع الله أن ذلك نتيجة لاتباع منهج ومذهب سلف هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم .
أم القصد إخراج المرأة إلى أن تُصبح عاملة نظافة يُرثى لحالها إن كانت قبيحة !!
وراقصة وغانية وعاهرة إن كانت جميلة .
ووالله لقد رأيت بعيني ما تعيشه المرأة الغربية من بؤس وشقاء .
حتى رأيت امرأة كبيرة تركب ما يُسمى ( الاسكوتر ) كل صباح لتذهب إلى عملها ، فسألت
حينها كنت أتذكّر تلك الأمنيات الغاليات الغائبات لنساء غربيات عاقلات تمنّين لو عِشْنَ حياة امرأة شرقية ( عربية )
وهذه نماذج وأمثلة ، تجدها هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/94.htm
ثم إن نظرة المجتمع السعودي أو تعامله مع المرأة ليست كما صورت
فخذ – على سبيل المثال - هذه نظرة سلفية إلى المرأة
هنا
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/75.htm
وهذه أخرى
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/61.htm
وهذه ثالثة
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/12.htm
وهذه نظرة رابعة :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/28.htm
وأما قوله :(1/261)
((( ومجتمعاتنا هي مجتمعات ذكورية ، حيثُ يصبح الرجل فيها هو المسيطر ، فهو الذي يسنُ القوانين ، ويرسخ الأعراف ، ويجذر العادات والتقاليد . وهوالحاكم والقاضي و الجلاد في الوقت ذاته . والرجل ينطلقُ في ذلك كله ليس لتحقيق تفوقه وسيادته وتسلطه فحسب ، وإنما أيضاً من أجل أن يُحيلَ المرأة إلى كائن مستعبد لخدمته وتحقيق رغباته ومتعه الحيوانية ، تماماً كما كان " الرقيق " في عصور الرق و العبودية )))
فليس بصحيح .
لماذا ؟؟
وكيف ؟؟
أما لماذا ؟ فلأن للمرأة دور أكبر من أن يُقدّر بثمن ، حتى وهي في بيتها .
وأما كيف ؟ فالواقع يشهد أن المرأة تتواجد في كل مكان ساغ وجودها فيه أو لا .
نشرت مجلة البنات في مقال لها جاء فيه :
لقد كانت المرأة في الغرب تنادي بتحريرها من عقدة المجتمع الذكوري وسيطرة الرجل ، ثم بدأت تُطالب بـ المساواة بمفهومها الشمولي ، وبعد فترة من الزمن إذا بتلك المجتمعات تتحول إلى مجتمعات أنثوية ! تستقبلك فيها المرأة منذ صعودك على متن الطائرة وحتى استقبالك في الفندق ! وبدأ يتلاشى دور الرجل ، وقد يجد أولئك الذين يُنادون بتحرير المرأة أنفسهم يوماً ما يُنادون بـ تحرير الرجل ! انتهى .
ثم أنحى الكاتب باللائمة على الفكر السلفي المتمثل بالتمسك بالكتاب والسنة فقال :
((( أما المسؤولُ الأول و الأخير فهو الفكر السلفي المتخلف ، والذي هو العقبة الكأداء الحقيقية التي تقف أمامنا وأمام التحضر ، والهروب من قاع التخلف إلى مواكبة الركب الحضاري العالمي ..
السلفيون ليس لديهم لإهانة المرأة و إستعبادها إلا أحاديث أحادية ، إذا ما توليتها بالتفكير و التمحيص و المقارنة ، تجدها تختلف أول ما تختلف مع الإسلام في توجهاته و مراميه ومقاصده السامية .. )))
دندن الكاتب حول ( أحاديث أحادية ) وأجزم أنه لا يعرف كيف تنطق هذه الكلمة !
ولا ما هي أحاديث الآحاد ؟؟؟
ولا ما هو قول أهل السنة فيها ؟؟؟(1/262)
بدليل أنه استدل بحديث موضوع بعد ذلك !!!!
فالذي يرد أحاديث الآحاد يروي حديثاً موضوعاً ، مكذوب على رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم ؟؟؟؟
أليس هو من استدل فقال :
فكيف يستقيم هذا الحديث مع حديث آخر نصه : ( خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء . أي عائشة )
وهذا تناقض عجيب أن يرد آحاديث الآحاد ويستدل بالموضوعات المكذوبات !!!
لقد أبى الكاتب إلا أن يُعلن عن إفلاسه من العلم !
ولقد أبى إلا أن يحشر نفسه مع زمرة الكذابين الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم .
ولا أدري هل الكاتب يُريد انتقاد السعودية ووضع المرأة فيها ؟
أم أنه يُريد أن ينتقد دين الله عز وجل فيُجهز على أحاديث الصحيحين بحجة أنها أحاديث آحاد ؟؟
كما أجهز أسلافه من قبله على القرآن والسنة
فالمعتزلة حكموا عقولهم فأدّاهم ذلك إلى القول بأن القرآن مخلوق !
والسنة أحاديث آحاد
وهكذا يُهدم الإسلام ، فليس هناك شيء فوق النقد ، وإن كان كتاب الله وسنة نبيِّه صلى الله عليه على آله وسلم !
والرافضة ردّت الكتاب والسنة بهذه الطريقة ، فالقرآن عند أكثرهم مُحرّف !
والسنة أصلاً لا يعترفون بها !
والصوفية اعتمدوا على ( حدّثني قلبي عن ربي ) !
وهكذا يُريد الكاتب شاء أم أبى !
فهو بعد أن وجّه هجومه على وضع المرأة في السعودية كمدخل ، وجّه النقد بعذ ذلك على السنة !
ليكشف الكاتب عن حقيقة وجهه ولينزع القناع !
وقد أبى الكاتب إلا أن يكشف لنا عن بعض حقيقة مراميه ومقاصده ، حيث يُدندن في الأخير على مسألة قيادة المرأة للسيارة !!!
إذاً الهدف الأول : إخراج المرأة وتحريرها من كل فضيلة وأدب وخلق فاضل !
ولماذا لم يُوجّه النقد إلى الغرب الذي امتهن المرأة في كل مهنة ، فلم يعد لها حق فيما جبلها الله عليه ودعت إليه الفطرة ، ليس لها حق في التربية والأمومة ، إلا نادراً ؛ لأنها هي والآلة سواء !!!
ثم إني أتساءل :(1/263)
ما علاقة الأحاديث النبوية التي ينتقدها الكاتب بالسلفية أو بقيادة المرأة للسيارة ؟؟؟؟
ثم انتقد الكاتب حديث : يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل " المرأة والحمار والكلب الأسود . الحديث .
وعزاه لمسند أحمد ، وهو في صحيح مسلم .
وإنما أُتيَ ودخل عليه النقص من سوء فهمه ، ولو فهم المراد بل لو فهم لغة القرآن لما قال ما قال .
نعم . صحيح أن عائشة رضي الله عنها اعترضت على المساواة ، واستدلّت بفعلها بين يدي النبي صلى الله عليه على آله وسلم .
بدليل أنها سألت ابن أختها عروة بن الزبير فقالت : ما يقطع الصلاة ؟ قال فقلنا : المرأة والحمار . فقالت : إن المرأة لدابة سوء ! لقد رأيتني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي . رواه مسلم .
وعائشة رضي الله عنها حدّثت بما علمت ، وأبو ذر حدّث بما سمِع .
ونظائر هذا وأشباهه كثيرة يكفي منها أن حذيفة رضي الله عنه حدّث عن النبي صلى الله عليه على آله وسلم أنه بال قائما وحذيفة خلفه ، وعائشة نَفَتْ ذلك ، بل قالت : من حدثكم ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا جالسا . كما في المسند وغيره .
فيُقال : عائشة حدّثت بما علمت من حال النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، وحذيفة حدّث بما رأى .
والقاعدة أن المُثبِت مُقدّم على النافي .
كما أن من كان معه زيادة علم فإنه يُقدّم .
وليس في حديث أبي ذر رضي الله عنه ما يُشعر بالمساواة ، وليس فيه ما يدلّ على ذلك .
وليس في لغة العرب ما يُحتمّ ذلك .
فلو قلت : لا يجوز أكل لحم الإنسان ولحم الكلاب والحمير .
فهل ساويتُ بين الأشياء المذكورة ؟؟؟
الجواب : لا . لم أُساوِ بينها من كل وجه ، وإنما اشتركت هذه الأشياء في حُكم مُعيّن .
كقوله عليه الصلاة والسلام : إنكم سترون ربكم ، كما ترون هذا القمر . متفق عليه ( رواه البخاري ومسلم )(1/264)
فهل يقتضي ذلك مشابهة القمر لرب العزة جل جلاله من كل وجه بحُكم التشبيه أو جمع المذكورَيْن في نص واحد ؟؟؟؟؟
وإنما المقصود جامع الرؤية وصفائها .
فتنبّه .
ومع أن الكاتب ذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في أكثر من موطن إلا أنه لم يترضّ عليها مرة واحدة !
والكاتب – هداه الله – لم يقتصر في نقده على المرأة السعودية ولا على السلفية بل تهجّم على السنة النبوية الصحيحة في مقابل الاستدلال بالمكذوبات ! ، وهذه طريقة الرافضة .
بل تعدّى انتقاده ذلك إلى أن ينتقد صحابة رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم ويغمزهم ، فها هو يقول :
((( والغريب أن أباذر لم تهمه المرأة ، بقدر ماهمه لون الكلب ، وكأنه يقول ليس موضع التساؤل في الحديث أنه ساوى بين المرأة والحمار و الكلب الأسود ، وإنما لماذا الأسود تحديداً . فأجابه راوي الحديث : بأنه شيطان ! ، معنى ذلك أن المرأة ايضاَ شيطان !! )))
وهذا سوء فهم ولا شكّ ! وسوء أدب مع هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه .
فليس بالضرورة أن تتساوى الأشياء المذكورة في نص واحد أو في موضع واحد كما تقدّم .
ثم انتقد الكاتب حديث " المرأة خُلقت من ضلع " ليستدل بعد ذلك بحديث موضوع !!!
ومع أنه عزا الحديث أيضا للبخاري فقط ، إلا أن الحديث في الصحيحين ( البخاري ومسلم )
لقد قلت في موضع سابق :
يا بني قومي ألا تفقهون ؟؟
ما بالكم تبترون النصوص وتستدلّون ببعضها دون بعض ؟؟
إن نص الحديث – كما في رواية في الصحيحين – : استوصوا بالنساء ، فإن المرأة خُلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء .
أين أنتم من هذه الوصية بالنساء ؟؟
افتتح الحديث بقوله : استوصوا بالنساء
واختتم الحديث بقوله : فاستوصوا بالنساء
فأين أنتم من هذا ؟؟
أم هو النقد لأجل النقد ؟؟؟(1/265)
إن قوله عليه الصلاة والسلام : إن المرأة كالضلع إذا ذهبت تقيمها كسرتها ، وإن تركتها استمتعت بها وفيها عوج . متفق عليه .
هذا الحديث محمول على قوله عليه الصلاة والسلام : فإن المرأة خُلقت من ضلع . متفق عليه .
وأحاديث النبي صلى الله عليه على آله وسلم يجب أن يُحمل بعضها على بعض لا أن يُضرب بعضها ببعض ، فتُسقط ، ليأتينا من يأتينا فيستدلّ بالموضوعات بدلاً من أحاديث الصحيحين !!!!
ألست تعلم أن الله خلق حواء من ضلع آدم ؟؟؟
هل تُنكر هذا ؟؟؟؟
وإن انحناء الأضلاع هو أصل خلقتها وطبيعة تكوينها ، فلا عيب أن تنحني الأضلاع على القلب حماية له .
هذا هو المقصود فتنبّه !
ثم قال الكاتب :
((( ثم تتلفت يمينك و شمالك ، فتجد أن بني سلف ، قد غمموا المرأة من الرأس وحتى أخمص القدمين ، حتى أطرافها غلفوها بالقفازين !، واعتبروا أن الحجاب في الإسلام يقتضي إتباع عاداتهم وتقاليدهم البدوية القروية المتخلفة ، وكأن الإسلام قد نزلَ في "بريده" نصرة لأهلها ولعاداتهم وتقاليدهم ... )))
من انتقد سنة النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، وكذب عليه ليس بمستغرب عليه أن يكذب على آحاد الناس !!!
من الذي اعتبر الحجاب اتِّباعاً للعادات والتقاليد ؟؟؟
أم أن المسألة قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان ؟؟؟
يا هذا :
إنك استدللت أنت بنفسك بحديث آحاد
بل بكلام إمام من أئمة أهل السنة
أليس هذا تناقضاً ؟؟؟
أن ترفض أحاديث الآحاد ثم تستدلّ بها بل بالموضوع ؟؟؟
وأيهما أقوى في الدلالة حديث الآحاد أم كلام إمام وعالم ؟؟؟
وللعلم فأحاديث الآحاد حُجّة بنفسها في العقائد والأحكام عند أهل السنة .
أما عند البدع فلا !
ما العيب أن تلبس المرأة القفاز صيانة لها ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم : لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين . كما عند البخاري .
هل أتينا بجديد من عندنا كما تزعم ؟؟؟
أم تمسكنا بسنة نبينا صلى الله عليه على آله وسلم ؟؟؟(1/266)
إذا لبست غير المحرمة القفازين فهل ارتكبت محظوراً ؟؟؟
لبس القفاز محظور فقط في حق المحرمة ، أما غير المحرمة فلا ، بل هو ستر لجزء من بدنها الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام : المرأة عورة . رواه الترمذي وصححه الألباني .
ثم قال الكاتب :
((( فتتساءل : وما سبب إذن تلك المناظر المخزية ، والمتزمتة ، والبشعة ، التي كممت المرأة وألبستها حتى القفازين ، وأظهرتها وكأنما هي كيس من الفحم الأسود ، رغم أن الأدلة الدينية تقول بخلاف ذلك ... )))
المناظر المخزية والبشعة !!
وكأنه يتحدّث عن مناظر عري فاضح !
أين أنت من عاريات الشواطئ والمسابح والمراقص ؟؟؟
لم تغمزهن بكلمة ! أم أن الأمر ينال إعجابك واستحسانك ؟؟؟؟
مناظر العُري . تلك المناظر المخزية البشعة ليست من الإسلام ولا من الأخلاق في شيء ، ومع ذلك في مأمن من نقد الكاتب !!!
وأما قوله عن المرأة : ((( وأظهرتها وكأنما هي كيس من الفحم الأسود ، رغم أن الأدلة الدينية تقول بخلاف ذلك )))
أقول ليس هذا في بريدة فحسب ، بل هو بحمد الله وفضله حتى في أوربا ، ورأيته بأمّ عيني !
وهو في أفريقيا
وفي كل مكان ، فليمت كمداً وغيظاً من يغيظه ذلك !
ألم تصف أم سلمة رضي الله عنها النساء في زمانها بالسواد ؟؟
فما العيب أن تلبس المرأة السواد ؟؟
قالت أم سلمة رضي الله عنها : لما نزلت ( يُدنين عليهن من جلابيبهن ) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية . رواه أبو داود .
ولم يقل أحد كأنهن أكياس الفحم إلا من كان لديه [[ رغبات جنسية مريضة ، ضاربة في أعماقهم ، لا ترى المرأة إلا من خلال شهوة شبقة نهمة لاتقف عند حد ]] !!!
بمكيالك أكيل لك .
هذه بعض عباراتك !
وأما مسألة الحجاب وتقريره ومناقشة الأدلة بين موافق ومُخالف فتجدها هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/4.htm(1/267)
وكنت أتناقش مع بعض الكتاب في أحد المنتديات قال : الحجاب الذي عندكم عادة من عاداتكم ! وليس له أصل في دين الله !
فلما سُقت له الأدلة من الكتاب والسنة ، وبسطت القول لم يردّ عليّ جواباً !
وأما قول الكاتب : ((( وهذا ما يقوله أيضاً حتى علماؤهم مثل الشيخ الألباني ، الذي أفتى هو ايضاً بأن الحجاب لا يعني غطاء الوجه )))
وهذا سوء فهم عن الشيخ – رحمه الله – .
فإنه – رحمه الله – يرى أن تغطية الوجه سُنّة ، ولأجل ذلك كان – رحمه الله – يأمر بناته بالحجاب ! وليس هذا تناقضا عنده ، بل يقول : هذا من الأمر بالمعروف .
ويُخطئ بعض الناس فينسب إلى الشيخ ما لم يقُله ، فإن الشيخ لم يقل ببدعية غطاء الوجه ، وإنما نازع في الوجوب ، ولم يختلف مع القائلين به عند خشية الفتنة .
فتنبه .
كما أن الخلاف لا يرد في هذه المسألة إذا خُشيَ وقوع فتنة .
وأي فتن أعظم مما نراه في الأسواق والأماكن العامة ؟؟؟
فإن تغطية المرأة لوجهها واجب بالاتفاق إذا خُشيت الفتنة .
ثم قال الكاتب :
((( بل هاهم يقفون أمام حقها في العمل و التكسب فيحرمونه بدعوى منع الإختلاط . والأدهى و الأمر أنهم يسلبونَ حقها حتى في "الهوية " التي هي حقٌ طبيعي للإنسان في كل أصقاع الدنيا ، بحجة حرمة الصورة في بطاقات الهوية ! )))
الاختلاط شيء ، والعمل شيء آخر .
الاختلاط ممنوع
لقد كانت النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلطن بالرجال حتى في أشرف البقاع .
روى البخاري عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال . قال : كيف تَمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال ؟
قلت : أبعد الحجاب أو قبل ؟
قال : إي لعمري . لقد أدركته بعد الحجاب .
قلت : كيف يخالطن الرجال ؟
قال : لم يكن يخالطن ، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم ، فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت : عنكِ ، وأَبَتْ .(1/268)
ومعنى ( حَجْرَة ) أي ناحية . يعني أنها لا تُزاحم الرجال في الطواف .
ومعنى " أبت " : أي رفضت أن تُزاحم الرجال لِتستلم الحجر أو الركن .
وقالت أم سلمة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث هو في مقامه يسيرا قبل أن يقوم . قالت : نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال . رواه البخاري .
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في زمنه لما اختلط الرجال مع النساء في الطريق وهو خارج من المسجد فقال : استأخرن ، فأنه ليس لكن أن تحققن الطريق . عليكن بحافات الطريق ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به . رواه أبو داود .
ولما دخلت مولاة لعائشة عليها فقالت لها : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا ، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها : لا آجرك الله . لا آجرك الله . تدافعين الرجال ؟ ألا كبّرتِ ومررتِ . رواه الشافعي والبيهقي .
ألا تدلّ هذه الأدلة على تحريم الاختلاط ومنعه ؟؟؟؟؟
والمرأة في الإسلام تعمل وتتكسّب دون اختلاط بالرجال .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : خُلِق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض ، وخُلِقَتْ المرأة من الرجل ، فَجُعِلَتْ نهمتها في الرجل ، فاحبسوا نساءكم .
أي عن الرجال .
والمراد بالحبس هنا : الحجْب ، فإذا تحجّبت وغضّت بصرها ، عفّتْ نفسها ، وهذا هو المقصد الأسنى ، والمطلب الأعلى ، لحياة أفضل .
لا مانع أن تعمل المرأة ولكن بحيث لا تُخالط الرجال ، وهذا يتفق عليه العقلاء .(1/269)
ولعلك قرأت ما قالته الكاتبة الشهيرة النصرانية " آتي رود " حيث قالت : لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم ، خير وأخفّ بلاءً من اشتغالهن في المعامل حيث تُصبح البنت ملوثة بأدرانٍ تذهب برونق حياتها إلى الأبد . ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين ، فيها الحِشمة والعفاف والطهارة … نعم إنه لَعَارٌ على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتَها مثَلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يُوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ، وترك أعمال الرجال للرجال سلامةً لِشَرَفِها .
لم يقل هذا كاتب من بريدة !!! بل قالته امرأة نصرانية من أوربا !!!
( يعني متحضرة على حد فهم الكاتب )
وهذا مذكور في رابط وضعته لك سابقاً .
ثم إن الكاتب ومن كان على شاكلته لا يتحدّثون أبداً عن وضع المرأة في الغرب ومقدار الظلم الواقع عليها !
أليست المرأة في الغرب ليس لها حق في الهوية !!!
كيف ؟؟
ليس لها حق في أن تحتفظ باسم أبيها أو عائلتها بعد أن تتزوّج !!!
بل تُنسب لزوجها ! ( نقل ملكية ) !!!
وإذا ترمّلت احتاجت إلى تعديل أوراقها الثبوتية !
ثم إن بإمكان المرأة أن تُبت هويتها وأن تحمل هوية لا توجد فيها صورة ، وهي أدق من الصورة التي يُمكن أن تزوّر أو يُتلاعب بها ، وذلك عن طريق البصمة .
ولكني أجزم أن الشهوانيين لا يُريدون ذلك ، وإنما يُريدون انتشار صور النساء !
وصدق الله ( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا )
والله أسأل أن ينفع بهذا العمل قائله وقارئه
وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم
وأن يهدينا سبل السلام .
57-كـ مشكاة..
...
ضرب الله عز وجل مثالاً لنور الإيمان في قلب المؤمن فقال :(1/270)
( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء )
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( مَثَلُ نُورِهِ) مثل هُداه في قلب المؤمن ( كَمِشْكَاةٍ ) يقول : موضع الفتيلة . كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا أتاه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور .
وجاء في تفسير ( المشكاة ) : كوّة البيت .
وأنها : موضع الفتيلة من القنديل .
وقال مجاهد : الصُّفر الذي في جوف القنديل .
وقال : المشكاة القنديل .
وقال آخرون : المشكاة الحديد الذي يعلق به القنديل .
قال الإمام ابن جرير الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به ، فقال : مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد الذي أنزله إليهم فآمنوا به وصدقوا بما فيه في قلوب المؤمنين مثل مشكاة ، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة ، وذلك هو نظير الكوة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها .
وإنما جعل ذلك العمود مشكاة لأنه غير نافذ ، وهو أجوف مفتوح الأعلى فهو كالكوّة التي في الحائط التي لا تنفذ .
ثم قال : ( فيها مصباح ) وهو السراج ، وجعل السراج وهو المصباح مثلا لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات .
ثم قال : ( المصباح في زجاجة ) يعني أن السراج الذي في المشكاة في القنديل وهو الزجاجة ، وذلك مثل للقرآن . يقول : القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره .(1/271)
ثم مثّل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه واستنارته بنور القرآن واستضاءته بآيات ربه المبينات ومواعظه فيها بالكوكب الدري ، فقال : ( الزجاجة ) وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه ( كأنها كوكب دري ) . اهـ .
وقال الحافظ ابن كثير :
( مثل نوره ) في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى الله عز وجل ، أي مثل هداه في قلب المؤمن ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دلّ عليه سياق الكلام ، تقديره : مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة ، فشبّه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى : (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) فشبّه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري ، ومايستمد من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لاكدر فيه ولاانحراف . اهـ .
وقال ابن القيم :
فالإيمان كله نور ، ومآله إلى نور ، ومستقره في القلب المضيء المستنير والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة ، والكفر والشرك كله ظلمة ، ومآله إلى الظلمات ، ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة . اهـ .
مشكاة
في قصة الهجرة الأولى إلى الحبشة ومبعث الوفد القرشي إلى النجاشي لإعادة المهاجرين ، وفي القصة :(1/272)
فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، يأكل القوى منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قال : فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ فقال له جعفر : نعم . فقال له النجاشي : فاقرأه عليّ ، فقرأ عليه صدراً من ( كهيعص ) فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . ثم قال للوفد : انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد . رواه الإمام أحمد .
وفي رواية : قال النجاشي : إن هذا الكلام والكلام الذي جاء به عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة(1/273)
قال ابن الأثير : في حديث النجاشي إنما يخرج من مشكاة واحدة : المشكاة الكوة غير النافذة ، وقيل : هي الحديدة التي يُعلق عليها القنديل ، أراد أن القرآن والإنجيل كلام الله تعالى وأنهما من شيء واحد . اهـ .
وكذا قال ابن منظور في لسان العرب .
58-اللهم قِني شُحّ نفسي ..
...
كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف بالبيت يقول : اللهم قني شح نفسي .لأن مَنْ وُقي شُحّ نفسه فقد فاز وأفلح. قال تبارك وتعالى : ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
والشحّ هو شدّة البخل
ولذا سبق هذا البيان بيان حال أهل الإيمان والإيثار في أول ألاية : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )
قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) : أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح .
وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : الشح أشد من البخل ؛ لأن الشحيح يشحّ على ما في يديه فيحبسه ، ويشح على ما في أيدي الناس حتى يأخذه ، وإن البخيل إنما يبخل على ما في يديه .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له .
ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بوصايا منها :
وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس . رواه الإمام أحمد والترمذي .
لأن الراضي بما قسم الله له :
راضٍ عن مولاه وحُكمه وعدله .
راض عن قسمة مولاه موقن أن الرزق مُقدّر
راضٍ عن الناس فلا يحسدهم على ما آتاهم الله من فضله
ولا تطمح نفسه ولا تُجاوز عينه غير ما قُسم له .
والشحّ خطير ومن خطورته أنه أهلك الأمم
قال عليه الصلاة والسلام : اتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم . رواه مسلم .(1/274)
وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً :
إياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ؛ أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وقد ذمّ الله البخل وذمّه رسوله صلى الله عليه وسلم
والبخيل إنما يبخل على نفسه في الحقيقة :
( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )
والبخيل جنايته على نفسه ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
قال علي رضي الله عنه : من أدى زكاة ماله فقد وقي شح نفسه .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما وقد عيّره الحجاج بالبخل ! فقال : من أدى زكاته فليس ببخيل .
بل إن هناك أقواماً لم يكتفوا بأن بخلوا بل أمروا غيرهم به : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا )
وعلى النقيض من هؤلاء :
الذين ( يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ )
والبخل علامة على النفاق ، وخُلُق من أخلاق المنافقين
قال عليه الصلاة والسلام : وإن الشح والفحش والبذاء من النفاق . رواه البيهقي في شعب الإيمان
والبخل مُنافٍ للإيمان لقوله عليه الصلاة والسلام : لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا .(1/275)
ولما جاء وفد بني سلمة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : الجد بن قيس إلا أن فيه بخلا ! قال : وأي داء أدوى من البخل ؟ رواه عبد الرزاق والحاكم وصححه .
وقد جاءت هند بنت عتبة تشكو زوجها وتصف بذلك
فقالت : أن أبا سفيان رجل شحيح ، فهل علي جناح أن آخذ من ماله سراً ؟ قال عليه الصلاة والسلام : خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف . رواه البخاري ومسلم .
وليس من أحد يُحب أن يُمدح بالبخل بل هو مذموم على كل لسان شأنه شأن صنوه الجهل !
وليس من أحد إلا ويُحب أن يُمدح بالكرم
ولكن :
لولا المشقة ساد الناس كلهم = الجود يُفقر والإقدام قتالُ
ومع ذلك كلٌّ يُحب أن يُمدح بالكرم
وقفات :
1 - قوله تعالى : ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) نسبة الشحّ للنفس لأنها هي التي تبخل لا أنه يبخل بها ، كما نُسب إليها الأمر بالسوء ( إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) .
إذ لو كان المقود البخل بالنفس لقال : ومن يوق الشحّ بنفسه ، فيُعدّيه بالباء .
وإن كان هناك من يشحّ بنفسه في سبيل الله
وهناك من يجود بها
ولذا قال الشاعر :
يجود بالنفس إن ضنّ البخيل بها = والجود بالنفس أغلى غاية الجودِ
و ( ضنّ ) يعني : بخِل .
2 - قد يُطلق الشحّ على الحرص
فقد أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم ؟ فقال : أن تصّدّق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، ألا وقد كان لفلان . رواه البخاري ومسلم .
3 - الأولاد من أسباب البخل
فقد جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه ، وقال : إن الولد مبخلة مجبنة . رواه الإمام أحمد وابن ماجه .
أي لأجلهما يبخل ، وعليهما يحزن .
59-نُوَّابُ إبليس !
لا تخلو الأرض من قائم بأمْرِ الله ..
كما لا تخلو من وارِث لمهنة إبليس !(1/276)
فالنوع الأول ورّاث الأنبياء .. يَدْعُون مَن ضَلّ إلى الْهُدى ، ويصبرون منهم على الأذى ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، ومن ضال جاهل قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين .
قال ابن القيم رحمه الله : ولولا ضمان الله بحفظ دينه وتكفّله بأن يُقيمَ له من يجدد أعلامه ، ويُحيى منه ما أماته المبطلون ، ويُنعش ما أخْمَله الجاهلون ، لهُدِّمت أركانه وتداعى بنيانه ، ولكن الله ذو فضل على العالمين . اهـ .
والنوع الثاني نُوّاب إبليس .. يُخلِصون له العمل ! ويَخْلُصُون إلى ما لا تَخْلُص إليه الأباليس !
ذلك أن مردة الشياطين تُربّط وتُصفّد في شهر رمضان .. وأولئك لا يُربَطون ولا يُقيَّدُون !
فلا زاجِر لهم من دِين ، ولا ناهي لهم من عقل !
يَهتزّ إبليس لِِطَلْعَة وجه أحدهم !
وإذا رأى إبليسُ طلعةَ وجهه = حَيّا وقال : فَدَيتُ مَنْ لا يُفْلِحُ !
يَدْعُون الناس إلى كل فاحشة ورذيلة !
يُجاهِرون بالمعاصي ، ويَجهَرون بالفسُوق
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : إن المنافقين اليوم شرٌّ منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كانوا يومئذ يُسِرُّون واليوم يَجْهَرُون .
اتّخذوا القَينات سلاحا ، والمعازف وسيلة .. واللذة والنشوة غاية وهَدَفاً !
فالغاية عندهم تُسوِّغ الوسيلة !
غناء وغانية !
واختلاط وسُفور !
واحتفال ومَهرَجان !
وتِلك – لَعَمْر الله – أسلحة إبليس! لإفساد وإضلال بني آدم !(1/277)
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانتِ الجاهليةُ الأولى فيما بين نوحٍ وإدريسَ عليهما السلام ، وكانتْ ألفَ سنةٍ ، وإنّ بَطْنَيْنِ من ولدِ آدمَ كان أحدُهما يَسْكُنُ السَّهْلَ ، والآخرُ يَسْكُنُ الجبَلَ ، فكان رجالُ الجبلِ صِبَاحا ، وفي النساء دَمَامَةٌ ، وكان نساءُ السَّهْلِ صِبَاحا ، وفي الرِّجَال دَمَامَةٌ ، وإن إبليسَ أتى رَجُلاً مِن أهلِ السَّهْلِ في صُورةِ غُلامٍ فَأَجَّرَ نَفْسَه ، فكان يَخْدُمُهُ ، واتَّخَذَ إبليسُ شَبَّابَةً مثل الذي يَزْمُرُ فيهِ الرِّعَاءُ ، فجاءَ بَصَوتٍ لم يَسْمَعِ الناسُ بِمِثْلِهِ ، فَبَلَغَ ذلك مَن حَولَهُ ، فَانْتَابُوهُم يَسْمَعُون إليه ، واتَّخَذُوا عِيداً يَجْتَمِعُونَ إليه في السَّنَةِ ، فَتَبَرَّجَ النساءُ للرِّجَالِ ، وَتَبَرَّجَ الرِّجَالُ لهن ، وإن رَجُلاً مِن أهلِ الجبلِ هَجَمَ عَليهِم في عِيدِهم ذلك فَرَأى النساءَ وَصَبَاحَتِهِنَّ ، فأتى أصحابَهُ فأخْبَرَهم بِذَلِكَ ، فَتَحَوّلُوا إليهِنّ ، فَنَزَلُوا مَعَهُنَّ ، وَظَهَرَتِ الفاحشةُ فيهن ، فهو قول الله : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) .
شَبَّابَة : نوعٌ مِن المزامير !
فانظر – بِعين بصيرتك – بِمَ استعانَ إبليسُ على الفسادِ والإفساد ؟
بأيِّ وسيلةٍ ؟ أم بأيِّ طريقة ؟
استعان على إفساد الناس بغناءٍ وأعيادٍ وخروج نِساء ؟!
وهذه الثلاث : ( الغِناءَ والطَّرَب ، والأعيادَ الْمُحدَثةِ الْمُبتَدَعة ، وإخْراجَ النساء ) هي أسلحةُ إبليس ، وبها يُلوِّحُ وَرَثَتُه ! فيُنادُون بها ، ويُطالبُِون بِوجودها !
أولئك – كما يقول ابن القيم - : " نُوّابُ إبليسَ في الأرض ، وهم الذين يُثَبِّطُونَ الناسَ عن طلبِ العلمِ والتفقُّهِ في الدِّين ، فهؤلاء أضرُّ عليهم من شياطينِ الجن ، فإنهم يَحُولون بين القلوبِ وبين هُدى اللهِ وطَرِيقِهِ .(1/278)
وبين فترة وأخرى يَصْدَح أولئك الَوَرَثَة بمثل تلك الدعاوى ، وإليها يُنادون ..
تارة تحت اسم الفنّ والذوق !
وأخرى خَلْف ستار الترفيه
ولست أدري أتَرْفِيه أم تَعْرِيَة ؟
وربما أقحَموا لفظ البراءة في ذلك الترفيه !
إن كان القصد الترفيه فما الذي أقحَم التعرِيَة ؟!
وثالثة تحت شِعار : الدِّين يُسْر !
ورابعة تَحتمي الدعوى بالتشبّث بالأصل !
وأن الأصل في الأشياء الإباحة !
فتُفتَح المسارح ودور السينما بهذه الحجة !
وقديما احتَجّ إبليس بالقَدَر ! فقال : (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)
ولن يُعدَم مُبطِل حُجّة ! ولن يُعدَم مُحتال حِيلَة !
وقد عَرَف إبليس أن دعاواه لا تَرُوج .. وأن الباطل لا يُقبَل إلا بدليل عقلي ! وبتحسين القبيح .. ولذا لما أراد إغواء آدم عليه الصلاة والسلام زَيَّن له الأكل من الشَّجَرة تحت سِتار : شَجرَة الْخُلْد .. وبالدعوى إلى مُلْكٍ لا يَبلى !
(قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)
وكما كذب الخبيث في أول دعوى .. فكذلك ورثته ..
ولذا قال عليه الصلاة والسلام عن أحد أولاد إبليس : صدقك وهو كذوب . رواه البخاري .
وسار على هذا النهج كل مُنافِق معلوم النِّفاق .. فقال أوائلهم وقد أقْسَمُوا اليمين : (إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)
وقد حَلَفُوا : (إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى) .. (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)
فورّاث إبليس إن دَعَوا إلى العُريّ .. زعموا أنهم أرادوا الحسنى !
وإن شجّعوا على الاختلاط .. زعموا أنهم أرادوا الحسنى !
وإن طالَبُوا بتدريس الموسيقى والغِناء .. زعموا أنهم أرادوا الحسنى !
فالاختلاط والتعرّي صِنوان .. رضعا من ثدي الرذيلة !
ولا يتأتّى فساد مُجتَمع مُحافِظ إلا عن طريق الاختلاط والتعرّي(1/279)
ولذا كانت المرأة وسيلة ناجحة ، وورقة رابحة بأيدي دَعاة الرذيلة
حتى قال قائل أهل الصَّلِيب : كأس وغانية يَفعلان في الأمة المحمّدِيّة ما لا يَفعله ألف مِدفَع !
والمسْرَح وأمُّه الهاوية – السينما – من طُرُق ووسائل الأبالِسَة في إخراج المرأة
فتَخرُج المرأة بِحجّة الترفيه .. وبِدعوى الحرية الشخصية لتشاهِد عرضا سينمائياً .. ربما يُعرَض في آخر الليل ! أو على الأقل بعد منتصف الليل !
والإنسان ميّال بِطبعِه إلى ما يُشاهِد ..
والإنسان ابن بيئته .. يتأثّر بما يُشاهِد وبمن يُعاشِر
والمرء على دِين خليله
والغِلظة والفضاضة في أهل الإبل .. والسكينة في أهل الغنم !
فإذا شاهَدت المرأة امرأة مثلها على خشبة المسرَح – وإن شئت قُل : الْمَشْرَح – ! ثم تكرّر هذا المشهَد ..
ورأت مرة ثانية وعاشرة أخرى تُعرض على شاشات السينما .. دون نَكير .. بل تَلْقَى التشجيع والتصفيق ! والمدح والثناء ! والْوَصْف بالنجومية ! وإغداق المال عليها !
كيف لا تتمنّى – بعد ذلك – أن تكون كَمثلها ؟!
وكيف لا تُحدِّث نفسها بل تَهُمّ وتَعزِم على أن ترتاد تلك الطريق .. وإن كانت موحِلة .. وإن كانت مُظلِمة ؟؟!!
وإن كانتْ شاة عائرة بين غَنَمين .. وإن كانتْ حَمْلاً وديعاً انفرَد عن الرعية .. فَصَادَف قطيعا من الذئاب الجائعة !
فلا تَسَلْ بعدها عن الْحَمَل ودمِه !
ولا تبحث لِبراءته عن أثر !
وحسبك أن تَعلَم أن بضاعة التمثيل بِضاعة وثنية يونانية ! ثم انتقلت إلى النصارى
قال الشيخ بكر أبو زيد : وكان أول حُدوثه في ديار الإسلام على يَدِ نصراني ! هو " مارون النقاش " اللبناني ، إذ عَمِل أول تمثيلية عام 1840 م . اهـ .
ونحن اليوم أمام دعاوى فجَّة تُنادي بالمسارِح العامة ، بل وتَدْعوا إلى بناء دور السينما في أطهر البقاع !
ولعل هؤلاء بَلَغوا من الإسفاف الفِكري ما لم يَبلُغه أهل الجاهلية ألأولى !(1/280)
فإن أهل الجاهلية كان عندهم من تعظيم الْحَرَم ما يَجعلهم يَخرُجون بالأسير ليُقتَل خارج الْحَرَم !
ومن هؤلاء الأدعياء من يُنادي ، وقد يَرى - بِفقهه الأعوج - أنه لا دليل على منع بناء دور السينما في مكة أو في المدينة النبوية !
أهل الجاهلية الأولى يُعظِّمون الْحَرَم فلا يَرون جواز قَتْل الأسير داخل حدود الْحَرَم
وهؤلاء يَرون جواز ذبح العِفَّة ، ونَحْر الحياء .. وإن كان داخل المسجد الْحَرام !
فأفٍّ ثم أفّ لِقَومٍ يَبُزّهم أبو جهل بِخُلُقٍ بل بأخلاق !
ويَفُوقُهم أهل الجاهلية بالدِّين ومكارِم الأخلاق !
وإذا أردت أن تَعرف حقيقة هذا الأمر فتأمّل وتَمعّن قوله عليه الصلاة والسلام : إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِم الأخلاق .
تَجِد أن أهل الجاهلية كان لديهم بقايا من أخلاق .. مِن كَرَم وحياء .. ووفاء بالعهد .. وحفظ حق الجار .. وأداء الأمانة .. وتعظيم الْحَرَم .. إلى غير ذلك مما سبق بسطه في مقال بعنوان :
جوانب مشرقة وصفحات مضيئة من حياة الجاهلية !!
والله المستعان .
الرياض
الجمعة 5/8/1426 هـ
60-يا صاحب الهم..
حينما يُنِيخ الهَمّ بِكَلْكَلِه في ساحات أقوام
وعندما يضرِب الكَرْب أطنابه في صدور آخرين
حينها تُخيِّم سحائب الْحُزن
وقد تُمطِر العيون دَماً بعد دمع
وقد يَرى أُناس الليل فلا يَرون فيه إلاّ حِلْكَته وسَواده
قد يتنفّس أحدهم من ثُقب إبرة !
وقد يَنظر من خلال منظار مُغلَق !
فلا يَرى في الأُفُق أمَلاً يَلُوح
بل لعلّه إذا رام تفريجا رأى ضيقاً
وإن نَشَد الفَرَح صَفَعَه الْحُزن
وإن أراد أن يَضحَك عُبِس في وجهه
فهو ينتقل مِن هَمٍّ إلى همّ
ويَخْرُج من غمّ ويَدخل في آخر
إلا أنّ دوام الْحال من الْمُحال
وربّ العزّة سبحانه أخبر عن نفسه بأنه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)
قال عليه الصلاة والسلام : من شأنه أن يَغْفِر ذَنْباً ، ويُفَرِّج كَرْباً ، ويرفع قوما ويخفض آخرين . رواه ابن ماجه .(1/281)
قال عبيد بن عمير : مِن شَأنه أن يُجيب داعيا ، أو يُعْطِي سائلا ، أو يَفُكّ عَانيا ، أو يَشْفِي سقيما .
وقال مجاهد : كل يوم هو يُجِيب داعيا ، ويَكْشِف كَرْباً ، ويُجِيب مُضْطَراً ، ويَغْفِر ذنباً .
وقال قتادة : هو مُنْتَهَى حاجات الصالحين وصريخهم ، ومنتهى شكواهم .
ومن لُطْف الله وفضله وعظيم مِنَّتِه أنه لا شِدّة إلا ويَعقبها فَرَج
وما من كَرْب إلا ومعه التنفيس
وقد يبتلي الله عباده ليَظهر منهم صِدق العبودية
وليجأروا إلى الله بالدعاء
ومِن جُوده وكرمه سبحانه وتعالى أن هيأ لِعباده أسباب النجاة
وأنْ دلَّهُم على طُرُق الخيرات
وجَعَل له نَفَحَات ، وأمَرَهم أن يتعرّضوا لِتلك النفحات
ففي الحديث : افعلوا الخير دَهركم ، وتَعَرَّضُوا لنفحات رحمة الله ، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، وسلوا الله أن يَستر عوراتكم ، وأن يُؤمِّن روعاتكم . رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شُعب الإيمان . وقال الهيثمي : رواه الطبراني ، وإسناده رجاله رجال الصحيح ، غير عيسى بن موسى بن إياس بن البكير ، وهو ثقة .
وهو سبحانه وتعالى يُخاطِب عباده كل ليلة ، فيقول :
هل من سائل يُعطى ؟ هل من داعٍ يُستجاب له ؟ هل من مُسْتَغْفِر يُغْفَر له ؟ حتى ينفجر الصبح . كما في صحيح مسلم .
وروى محارب بن دثار عن عمّه أنه كان يأتي المسجد في السحر ، ويَمُرّ بِدَارِ ابن مسعود ، فسمعه يقول : اللهم إنك أمرتني فأطَعْتُ ، ودعوتني فأجَبْتُ ، وهذا سحر فاغفر لي . فسئل ابن مسعود عن ذلك ، فقال : إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخَّرَ الدعاء لِبَنِيه إلى السَّحَر ، فقال : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) .
فيا صاحب الهمّ ..
اعلم أن الفَرَج مع الكَرْب
وأن مع العُسر يُسْرا
يا صاحب الهم إن الهم منفرج = أبشر بخير فإن الفارِج الله
اليأس يَقْطَع أحيانا بصاحِبِه = لا تيأسَنّ فإن الكافي الله(1/282)
الله يحدث بعد العُسْر مَيسرة = لا تجزعنّ فإن الصَّانِع الله
وإذا بُلِيتَ فَثِقْ بالله وارضَ به = إن الذي يَكْشِف البلوى هو الله
والله ما لَك غير اللهِ مِن أحَدٍ = فَحَسْبُك الله .. في كلٍّ لكَ الله
وأصدق منه وأبلَغ قوله عليه الصلاة والسلام : واعلم أنّ في الصبر على ما تَكْرَه خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفَرَجَ مع الكَرْب ، وأن مع العسر يُسرا . رواه الإمام أحمد .
ويا صاحب الهمّ ..
لا تَغْفَل عن القرآن
ولا تُغفِل مصدر الفَرَج وأصل السعادة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أصاب أحداً قط هَمٌّ ولا حُزن ، فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمَتِك ، ناصيتي بِيَدِك ، ماضٍ فيّ حُكمك ، عَدْلٌ فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ؛ إلا أذهب الله هَمّه وحزنه ، وأبدله مكانه فرجا . فقيل : يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ فقال : بلى ، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها . رواه الإمام أحمد .
ويا صاحب الهمّ ..
لا تَجزعنّ لمكروه تُصَاب به = فقد يُؤدِّيك نحو الصِّحة الْمَرَضُ
ويا صاحب الهمّ ..
اعلم أن الهمّ أجرٌ وخير
ففي الحديث : ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب ولا سَقَم ولا حَزَن ، حتى الْهَمّ يُهَمَّه إلا كُفِّرَ به من سيئاته . رواه البخاري ومسلم .
ويا صاحب الهمّ ..
الهمّ رِفعة في درجاتك(1/283)
روى الإمام أحمد من طريق محمد بن خالد عن أبيه عن جده - وكان لِجَدِّه صُحْبَة - أنه خَرَج زائرا لِرَجُلٍ من إخوانه ، فبلغه شكاته . قال : فَدَخَل عليه ، فقال : أتيتك زائراً عائداً ومبشراً . قال : كيف جمعت هذا كله ؟ قال : خَرَجْتُ وأنا أريد زيارتك ، فبلغتني شَكَاتُك ، فكانت عِيادة ، وأبَشِّرُك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا سَبَقَتْ للعبدِ من الله مَنْزِلَة لم يَبْلُغْهَا بِعَمَلِه ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ، ثم صَبَّرَه حتى يُبَلِّغَه المنْزلة التي سَبَقَتْ له منه .
يا صاحب الهمّ ..
ألا ترى أن الهمّ والْحزن والكَرْب مِحَنٌ في طيِّها مِنَح ؟!
الرياض
صبيحة الجمعة 5/8/1426 هـ
61-رأيت فيما يرى النائم ... كلام خطير
في كثير من المنتديات
في الروايات
في القصص
في الأفلام والمسلسلات
في أحاديث المجالس
في الرسوم ( الكاريكاتورية )
تسمع هذه العبارة ( رأيت فيما يرى النائم )
أو يسرد لك قصة طويلة مشوّقة ثم يقول لك في النهاية : ثم استيقظت من النوم !
وهذا كلام خطير !
لماذا ؟
لأن من يكذب في حلمه ، يُري عينيه م لم يرى .
يزعم أنه رأى شيئا وما رأى .
وفي هذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :
ويقول : إن من أفرى الفِرى أن يُري الرجل عينه في المنام ما لم تَرَ . أحمد ، صحيح .
...............
62-تأملات في المَرض ...
هل أصبحت يوما طريح الفراش ؟
كلنا ذلك الرجل .
ونعوذ بالله من صفات المنافقين الذين وصف النبي صلى الله عليه وسلم حالهم مع المرض بقوله : ومثل المنافق مثل الأرزة المُجذِية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة . رواه مسلم .
يعني أن المنافق مثل تلك الشجرة الجامدة التي لا تؤثر فيها الرياح ، ومعنى المُجذية : أي الثابتة ، ومعنى حتى يكون انجعافها مرة واحدة : أي سقوطها دفعة واحدة ، والأرزة شجرة مثل شجرة الصنوبر ، وهي التي في عَلَمِ لبنان !.(1/284)
قال النووي – رحمه الله – : قال العلماء معنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام فى بدنه أو أهله أو ماله وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته ، وأما الكافر فقليلها وان وقع به شيء لم يكفر شيئا من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة .
وفي حديث أبي هريرة – وهو في الصحيحين – : ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد .
وأما حال المؤمن مع المرض ، فقد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تصرعها مرة وتعدلها حتى يأتيه أجله . رواه مسلم ( وهو أول الحديث السابق ) .
وهذا الحديث رواه مسلم أيضا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه .
فهل تأملت المرض وما يُصيبك وما يُصيب أولادك ؟
1 - ربما كان المرض رفعة للدرجات ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صَبّرَه على ذلك حتى يُبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى . رواه أبو داود وغيره ، وصححه الألباني .
2 – ربما كان كفارة للذنوب ، كما قال عليه الصلاة والسلام وقد دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال : مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين قالت : الحمى لا بارك الله فيها ! فقال : لا تسبى الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد . رواه مسلم .
وكما قال عليه الصلاة والسلام : لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله ونفسه حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة . رواه أحمد وغيره .
3 – ربما كان طريقا للسلامة !
كيف ذلك ؟
أ – عن طريق الابتلاء بالأخف دون الأكبر .
ب – عن طريق قتل الأمراض ومسبباتها من الفيروسات بأمراض أخرى ، كما هو الحال في أمراض العين وكما هو الحال في الزكام ونحوه .
وكنت أتأمل مرة في الأمراض ، فقلت في نفسي بالنسبة للكبار قد يكون رفعة مراتب وقد يكون تكفير ذنوب وسيئات ، فما بال الصغار ؟(1/285)
فتذكرت عندها قول الله : ( لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون ) .
ولكني ألتمس الحكمة من ذلك ، فإن الحكيم سبحانه منزه عن العبث ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) ؟ ، والحكيم لا يفعل فعلاً ولا يأمر بأمر إلا لحكمة بالغة .
وتذكرت عندها قول الشاعر :
لا تجزعنّ لمكروه تُصاب به ***** فقد يؤدّيك نحو الصحة المرضُ
واعلم بأنك عبدٌ لا فكاك له ***** والعبد ليس على مولاه يعترض
نعم . قد يؤديك المرض نحو الصحة ، وكما قيل :
فربما صحت الأبدان بالعلل .
فكم من مرض ذفع الله به أمراضا كُثُر .
وكم من علة كانت سبب شفاء أمراض أخرى .
فكم محنة في طيها منحة ، ورب علة كانت سبب الصحة ، كما قال ابن القيم - رحمه الله - .
إلى غير ذلك من الحكم البالغة التي لولا خشية الإطالة لذكرت كثيرا منها .
وسوف أذكر لا حقا قصة وقعت قبل سنوات يتبيّن من خلالها أنه ربما كانت العلة والمرض بل ربما كانت المصيبة سببا في الشفاء بلطف الله سبحانه وتعالى .
...............
63-خفافيش الظلام..
الخفافيش يبهرها النور وتأنس بالظُّلْمَة ،
فـ " نور الحق أضوأ من الشمس ، فَيَحِقّ لخفافيش البصائر أن تَعْشُو عنه " كما يقول ابن القيم .ولا عَجَب أن تَرى من الكُتّاب أو من يُحْسَبُون من " المفكِّرين " من أعْمَاه نُورُ الحق فلا يَرى إلا في الظُّلْمَة
لا عجب أن ترى من يُبصر في الظَّلام ، أو يُسمِّي بَلداً من بلاد الكُفر : بَلَد النور !
وهو بَلَد النور - فِعلاً - بالنسبة له !
لأن من حَمَل صِفَة " الخفّاشيّة " لن يَرى في النور ، بل في الظُّلْمَة ، والظَّلام نور بالنسبة له !
لا عَجَب أن ترى " مُثقّفاً " - زَعموا - يَرى القوّة الكامنة في الضعف البشري !
فَخَيط بيت العنكبوت أوهى من الواهي ! ومع ذلك تَراه هي دِرعاً حصيناً !
ولا عَجب إن تَسَاقَط الذُّبَاب فيه ! فأحاطته العنكبوت بخيوطها !
لا ريب أن الذُّباب سَيَرى القوة في تلك الخيوط الواهية !(1/286)
في حين أن ضعف تلك الخيوط يبدو لكل عاقل بصير !
يُزيله الطفل بِلُعْبَتِه !
أو يُتْلِفُه بِرَمْيَةِ كُرَة !
أو تتقاذفه الرِّياح !
الخفافيش يَبهرها نور الشمس ؛ فتختفي !
وتأنس بالظُّلمَة ؛ فتفرَح وتطير !
يُنصَح الأرمد بِعدم البروز إلى الشمس .. وما في الشمس مِن عيب ولا مَرض ! والمرض في عيني الأرمد !
فقل للعيون الرُّمْد للشمس أعينُ = تراها بِحَقٍّ في مَغِيبٍ ومَطلعِ
وسامِح عيونا أطفأ الله نورها = بأبصارها لا تَسْتَفِيقُ ولا تَعِي
وقد يُنصح المريض بِعَدم شمّ الطِّيب .. وما في الطِّيب من عَيب !
وما على العنبر الفوّاح من حَرَجٍ = أنْ مَاتَ مِن شَمِّه الزَّبَّال والجَعل !
يَرى أحد الكتّاب أن القوة والعَظمة في أمريكا .. فيُصرِّح ويَصرُخ أن أمريكا قادِرة على
" (ترويض) هذه الكوارث الطبيعية " !
وأنها تستطيع تحدِّي الكوارث – بِزعمه !
وهذه النَّظرة تُمثّل الكاتِب ومن على شاكلته – ممن أخلَصوا لأمريكا أكثر من الأمريكيين – !
وهي لا تُمثّل أسرة ينتمي لها
ولا اسْمَاً يَحمِله
وإنما تُمثّل الضبابية في فِكره !
والْخُفَّاشيّة في بَصَرِه !
يُغالِطون أنفسهم .. ويُغلِّطون غيرهم حينما يظنّون أن شمس الحقيقة تَخْفَى !
وَهَبْنِي قُلْتُ هذا الصبح ليل = أيعمى العالمون عن الضياء ؟!
إن مثل هذا الكاتب كمثل أقوام نَخَر النِّفاق قلوبهم فقالوا يوم الأحزاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يَعِدُنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرّز ؟!
أو كأسلافهم الذين قالوا : ( َإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا ) .
قال ابن كثير : أما المنافق فَنَجَمَ نِفَاقُه ، والذي في قلبه شُبْهَةٌ أو حَسِيكَةٌ لِضَعْفِ حَالِه فَتَنَفَّسَ بما يِجِدُه من الوسواس في نَفْسِه لِضَعْفِ إيمانه ، وشِدّة ما هو فيه من ضِيق الحال . اهـ .(1/287)
لقد حزِن الكاتب لِمُصاب أمريكا ! وضاق صدره بإعصارِها !
وحُقّ له ذلك فهي أمّه الرؤوم ! ولها ولاؤه !
في حين يقول الأستاذ عبد الله الناصر :
وليس عنف كاترينا في التدمير الرهيب المخيف الذي جعل كوكبنا كله يقف حائراً وضائعاً ومستصغراً أمامها.. فلا بنتاغون، ولا طائرات، ولا صواريخ، ولا قنابل ذرية ولا وسائل تجسس، وطابور خاص ، ولا ذيول طويلة أو أخرى قصيرة .. بل لاشيء اسمه قوة عظمى قادرة على ردعها أو دفعها أو كفّ وكَبْت جماحها وعنفوانها .. أقول ليست نتائجها في ذلك فقط .. ولكن كاترينا كشفت هشاشة القوة العظمى على المستوى الاقتصادي، والمستوى الاحترازي الاتقائي، والتدخل السريع لإنقاذ مئات الآلاف من البشر الذين حاصرهم الموت، والذعر، والعذاب، لفترة طويلة، والطوفان يغرق شوارعهم، وبيوتهم، وأطفالهم، وكلابهم، والعاصفة تقتلع أشجارهم وأرواحهم، فيستصرخون ولكن لا صريخ لهم، ويستغيثون فلا مغيث لهم، ويستنجدون فلا منجد لهم، وهذا ما جعل عمدة نيوأورلينز يصرخ بأعلى صوته! : عار على أمريكا ما يحدث ، عار على أمريكا ما يحدث..!! لأنه رأى مواطنيه يعبث بهم الهلاك بلا منقذ أو معين. فبعضهم نام تحت الطوفان نومة أبدية ، والبعض الآخر هام على وجهه ، والناجون صاروا ينامون تحت الجسور ، وفي الأنفاق ، والكنائس، وملاعب الكرة، هرباً من إرهاب كاترينا! بل لقد كشفت كاترينا ما هو أعظم من ذلك وأخطر كشفت عن هشاشة عظام المجتمع الأمريكي، وقابليته للتحطم ، والتهشم ، والتكسر السريع .. فلقد تحول كثير من أبناء هذا المجتمع المنكوب إلى لصوص ، وقطاع طرق ، وإرهابيين ، يغيرون مع غارة الإعصار، على البيوت، والمحال التجارية، والبنوك، والممتلكات العامة ، يفتكون ، وينهبون ، ويقتلون، بل ويغتصبون النساء، والفتيات القاصرات تحت تهديد السلاح.. كل هذا يَحْدُث ببركات كاترينا ، مما حدا بالحكومة الأمريكية إلى أن تستعين بالجيش ، والعتاد الحربي بل وتستدعي(1/288)
بعضاً من جنودها في العراق ، لمواجهة هذا الإرهاب !! وهذا دليل مادي قطعي على أن المجتمع الأمريكي ليس مجتمعاً متماسكاً، ولا متجانس الوطنية ، والانتماء. إذ أنه في الحوادث والكوارث والأزمات ، يكون الناس أكثر تلاحماً وتكاتفاً ، وتتحول المحن إلى وسيلة شد وتوثيق اجتماعي، وتصبح الوطنية أكثر جلاء ووضوحاً لأن المأساة واحدة، والهمّ مشترك والمكان واحد، وهذا وضع طبيعي وتلقائي ليس بين بني البشر بل نجده عند البهائم أيضاً فعندما يحدق بها الخطر تراها أكثر تماسكاً وتقارباً في مواجهة المصير الواحد.(1/289)
غير أن الحال في أمريكا كشفت عن التفكك الاجتماعي المرعب، كما كشفت عن حالة الفردية المسيطرة على هذا المجتمع . وعلى النفعية الأنانية والعزلة الفرداتية الذاتية ، وأنه لولا قوة النظام وسلطته وحزم القانون ، لأكل الناس بعضهم بعضاً .. بل لقد بلغ الأمر من السوء والتردي إلى ما هو أفظع من ذلك. فرأينا من رجال الأمن من ينهب أو يسطو، ويختلس بقوة السلاح!. ورأينا من يلجأ إلى الانتحار وقتل نفسه تعبيراً عن الغضب، والضياع ، واليأس، وعدم تحمل الصدمة ..! بل لقد كشفت «كاترينا» من أن تحت الرماد وميض نار عنصرية مقيتة فلقد شاهد الناس ، واستمعوا إلى الآلاف وهم يصرخون : لو كنا بيضاً لما أهملنا هذا الإهمال الذي لا يليق بالكلاب.. هكذا إذاً تعلن كاترينا عن سوأة المجتمع المثالي الذي إليه ينتهي التاريخ وعن الحضارة التي يجب أن تصرع جميع الحضارات لأنها في نظر مروجيها الحضارة الإنسانية الكاملة للدولة الأقوى والأعظم.. بل لقد قالت «كاترينا» انه لا قوة أبدية مطلقة.. بل انه لا قوة فوق قوة الله،.. لقد وقف وزير الداخلية الأمريكي وقد ملأه الذعر وهو يقول: إن ما حدث هو أشبه بتدمير نووي.. أما التدمير الاقتصادي فقد كنست كاترينا ما تبقى في الخزانة الأمريكية المنهكة بحرب العراق الطائشة، إلى درجة جعلت الدولة الأقوى في العالم، والأغنى في العالم تتلقى الحسنات من دول صغيرة لا ترى على الخارطة إلا بالمجهر، بل ولم تستنكف من أن تقبل العون والمساعدة من دول ذات هوية مطبوعة بالفقر مثل سريلانكا.. والفرد الأمريكي الذي كان يقول في الشدة بكل صلف وشموخ : أمريكا.. يا أمريكا. ها هو يهرع بكل جوارحه ويقول: يا الله.. لقد تعالى صوت أجراس الكنائس في سماء أمريكا كلها طلباً للنجدة الإلهية وطلباً للمغفرة..! إذ أن هذه الكارثة ما هي إلا عقاب إلهي كما يقول رجال الدين المسيحيون واليهود على حد سواء حيث يرون أن ما حل بـ " أورلينْز " كان نتيجة لمعصية(1/290)
وذنب عظيم .. إذ أنه في اليوم الذي ضربت العاصفة ، ونزلت المصيبة وزلزلت الأرض كان يوماً مضروباً لمؤتمر ضخم يضم مائة وخمسين ألف شاذ " لوطي" من جميع أنحاء أمريكا ، وأن هذا العقاب شبيه بما حلّ بقوم لوط حيث قلب الله بلدتهم عاليها بسافلها وأمطرها بحجارة من سجيل جزاء وفاقاً لتلك المعصية النكراء .
على كل حال أظن أن «كاترينا» سوف تغير مفاهيم كثيرة حول القوة والجبروت، والاستفراد بالعالم، وأن الذين يُسْرِفُون في تمجيد وتأليه العظمة ، والغلبة الأمريكية عليهم أن يراجعوا أنفسهم ، وأن يتأملوا جيداً بل يثقوا جيداً أنه في النهاية لا قوة إلا قوة الله ، وأنه لا غالب إلا الله .اهـ .
المصدر
http://www.alriyadh.com/2005/09/16/article94335.html
أقول يا أستاذ :
لا زال هناك من " يُسْرِفُون في تمجيد وتأليه العَظَمَة والغَلَبة الأمريكية " ! بل لم تَزِدهم هذه القوارع والكوارث والنُّذُر إلا غَياً مع غيِّهم ! وفسادَ ذوق مع فسادهم !
وصدق الله : (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا) .
بل لو جاءته الآيات الناطقات .. ولو تنَزّلَتِ الملائكة ، ولو كلّمه الموتى ، ولو حُشِرت أمامه جميع الآيات – لما زاده ذلك إلا عُتوّاً وغياً وضلالاً .. وما ذلك إلا لإيغالِهم في الجهل المركّب !
وصدق الله : (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) ..
فنَظرَة أحدِهم لا تَصِل إلى أرنبة أنْفِه فضلاً عن أن تتعدّاها !
والقوارِع والكوارث والنُّذُر إنما ينتفع بها العاقل دون غيره ..
قال تعالى : (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) .
فإن اعْتَزَى ذلك الكاتب بأمريكا ! فالله مولانا ولا مولى لهم !(1/291)
وإن اغْتَرّ بقوّتها وجبروتها ، فالله أقوى ، وهو جبار السماوات والأرض .
لهم العُّزّى ، ولنا العِزّة - بإذن الله - (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) .
لهم التغرّب ولنا أصولنا الثابتة في جزيرة العرب .. التي فيها مهبِط الوحي ، وإليها مأرِزه .
لهم عواصم الظلام ! ومأوى كلّ دجّال ! ولنا مكة وطيبة التي لا يَدخلها الدجّال !
لهم كأس وغانية ! ولنا الغِنى الحقيقي " غِنى النفس " !
الجمعة 12/8/1426 هـ
64-رعاية حتى النهاية..
لا تُوجَد حضارة ، ولا أمة من الأمم ، لا يُوجَد دِين من الأديان اعتنى بالإنسان كما اعتنى به الإسلام .. وهذا ما شهِد به أعدائه قبل أبنائه !
فعناية الإسلام بالإنسان ليست منذ ولادته بل هي قبل ذلك بكثير ..
عناية الإسلام بالإنسان قبل التقاء والديه
فجاء الحث على اختيار المحضَنِ والْمَنْبَت الذي يحتضن الإنسان ، وان يكون أساس الاختيار هو صلاح الزوجة ، لتكون أمّاً حانية ، وزوجة صالحة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تُنْكَحُ المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها . فاظْفَر بِذاتِ الدِّين تَرِبَتْ يداك . رواه البخاري ومسلم .
والظَّفَر هو الفوز ، فكأنه يُقال للباحث عن زوجة : فُز بِالسّلعة الغالية : صاحبة الدِّين ، فإن لم تفعل الْتَصَقَتْ يداك بالتُّراب ، كناية عن الفقر ، والفقر ليس محصوراً في قلّة المال ، بل يكون فقيراً حيث لم يَفُز بِذات الدِّين ، ويفتقر أولاده إلى التربية الصالحة الجادّة ، ويفتقر هو إلى الأمن النفسي .. إلى غير ذلك .
المرأة والفوز
http://al-ershaad.com/vb4/showthread.php?t=953
ثم عُني الإسلام بالجنين قبل وضعه نُطفة ، فاعتنى بِحفظه من الشيطان الرجيم .(1/292)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يُقدّر بينهما وَلَد في ذلك لم يضرّه شيطان أبداً . رواه البخاري ومسلم .
ثم عُني به وهو جنين في بطن أمِّه ، فلا يَجوز الاعتداء عليه بإسقاط ولا بِضربٍ ونحو ذلك .
" ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه - قتل الجنين في بطن أمه ، وهو أن يُضْرَب بطن أمه فَتُلْقِيه حَياً ثم يموت ؛ فقال كافة العلماء : فيه الدية كاملة في الخطأ " قاله القرطبي .
كما حُفِظ له حقّه في ميراث أبيه ، في حال وفاة أبيه وهو في بطن أمّه ، فيُحفَظ له حقّه من ميراث أبيه على الأحَظّ له ، فيُقدّر أنه مولود ذَكَر ، فيُحفظ له ميراث ذَكَر ، أو يُعتبر توأم ويُحفظ لهما الحق كاملاً .
ثم إذا وُلِد حُفِظ من الشيطان ، وكان أول ما يَقرع سمعه كلمات التوحيد ، ونداء الإيمان ، فيؤذّن في أذن المولود ، وعَمِلَ به جماعة من السَّلَف ، والحديث الوارد فيه ضعيف .
ثم عُني به في خِتانه ورعايته صحّيّاً ، وإرضاعِه من لبن أمِّه ، فإن لم يَكن كُلِّف وليّه بالاسترضاع له من ماله .
وحث الإسلام على العقيقة عن المولود ، وهي بِمنْزِلة الصدقة عنه .
ومن هذه المنظومة أن يُحسَن اسمه ، وتُحسن تربيته ، وهو لا يَعي من الدنيا شيئا .
ثم يُحسَن تعليمه ، وتأديبه ، وأخذه بالْجِدّ والْحَزْم .
ثم حرّم الإسلام الاعتداء على ماله إذا مَلَك المال .. فقد أُمِر ولي الصبي أن يُحسِن إليه ، فإن كان ذا مال رُعِي ماله ، فاليتيم يُرعى له ماله حتى يُؤنَس منه الرّشد ، فيُدفَع إليه .
وجاء التغليظ في الكتاب والسنة بتحريم الاعتداء على مال اليتيم .(1/293)
كما أُمِر وَليّ الصبي أن يحفظه من الشياطين وقت انتشارها ، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا كان جُنح الليل أو أمسيتم فكفُّوا صبيانكم ، فإن الشيطان ينتشر حينئذ ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلّوهم . رواه البخاري ومسلم .
وأُمِر أن يُزوّجه – ذَكَراً كان أو أنثى –
ومُنِع الرَّجُل من عَضْلِ موليته ، ومِن منعها من الزواج الذي هو حق لها ، إذ تقدّم إليها كفء ..
وكثيرة جدا هي جوانب العناية بالمسلم .. بِدمِه ، ونَفْسِه ، وماله ، وعِرضه ..
فلا يُظنّ به السوء ، ولا يُطعن في عِرضه ، ولا يُؤخذ ماله ، ولا يُعذّب في بدنه ..
وحرام أن يُسفَك دمّه بغير حقّ .. بل دمه كحرمة يوم الحج الأكبر في الشهر الحرام في البلد الأمين ..
بل حَرام عرضه ودمه وماله ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم . رواه البخاري ومسلم .
ومن العناية بالمسلم أن أُقيم صرح الأخوة بينه وبين إخوانه
فإن مرِض عادوه
وإن غاب سألوا عنه
وإن جاع أطعموه
وإن عَري كسوه
وإن عَطِش أسقوه
وإن افتقر رَفَدُوه
ثم خُتمتْ حياة هذا الإنسان المسلم بتلقينه الشهادة
وأُمِر من يُغسّله أن يُحسن كفنه ، وأن يَسْتُر عورته ، وأن لا يُكسر عظماً من عظامه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كسر عظم الميت ككسره حيا . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .
ثم صُلّي عليه دعاء له بالرحمة ، وطَلباً للشفاعة
وفي الحديث : " من شَهِدَ الجنازة حتى يُصَلِّي فله قيراط ، ومن شَهِدَ حتى تُدْفَن كان له قيراطان " رواه البخاري ومسلم .
وسواء كان صغيراً أم كبيراً ، ذَكَرا أو أنثى ..
وهل انتهت عناية الإسلام عند هذا الحَدّ ؟
كلا .. لم تنتهِ عناية الإسلام بالإنسان ..
فإن حُرمة الميت كَحُرْمة الحيّ
فَحَرامٌ أن يُوطأ قبره ، أو تُقضى عنده الحاجة ، أو تُوضع القاذورات بِقرب قبره !(1/294)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر . رواه مسلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن أمشي على جمرة أو سيف ، أو أخصف نعلي برجلي ، أحبّ إلي من أن أمشي على قبر مسلم ، وما أبالي أَوَسَط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق . رواه ابن ماجه .
ونُهي عن سبّ الميّت ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قَدّموا . رواه البخاري .
فأي عناية أبلغ من هذه العناية التي هذا طرف منها ؟!
بوَلغ من عناية الإسلام بالإنسان أن جاء الحث على النُّصح للرعايا ، سواء أكانوا من الأولاد أم من غيرهم ..
بل حُرّمت الجنة على من غشّ رعيته ، ومن لم يُحطها بِنُصحِه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يُحِطْها بِنُصْحِه إلا لم يَجِد رائحة الجنة . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة .
وبَلَغ من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله أن يتعاهدهم بالنُّصْح والتذكير
قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان خُلُق أبغض إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة فما يزال في نفسه عليه حتى يَعْلَم أن قد أحدث منها توبة . رواه الإمام أحمد والترمذي .
وبلغ من عناية السلف تعاهد أهلهم حتى في آخر لحظة من حياتهم !
قالت عائشة رضي الله عنها : لما حضر أبو بكر قلت كلمة من قول حاتم :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حَشْرَجَتْ يوما وضاق بها الصدر
فقال : لا تقولي هكذا يا بنية ، ولكن قولي : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) .(1/295)
هل رأيت مثل هذه العناية ، أن يُعتَنى بتصحيح اللفظ ، واستبداله بِلفظ أقوى وأجزل حتى عند مفارقة الدنيا ؟
هذه هي عناية الإسلام بالإنسان ..
ولم يَقف الحد عند العناية بالإنسان المسلم ، بل شملت العناية غير المسلم من ذمّي ومُستأمن ومُعاهَد ..
بل شملت حتى النمل في جحورها !!
فأين هي أمم الأرض الماضية والحاضرة عن هذه الحقوق التي كَفَلها الإسلام للإنسان ؟
65-المرأة والفوز..
المرأة نصف المجتمع
لا
بل هي المجتمع كلّه
على حدّ مقولة : المرأة نصف المجتمع ، وهي تلد النصف الآخر !
وهي نصف الدِّين لمن ظفِر بها
قال عليه الصلاة والسلام : من تزوّج فقد استكمل نصف الإيمان ، فليتق الله في النصف الباقي . رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان ، وحسّنه الألباني .
وكأن في هذا إشارة إلى العزاب بنقص دينهم
بل إشارة إلى الرجال جميعاً أن دينهم وإيمانهم لا يكمل إلا ( بامرأة )
فهم بحاجة إلى النصف الآخر شرعاً وعقلاً وطبعاً .
وليس مجرّد تحصيل حاصل
بل هو الفوز والظفر
أي فوز تعني ؟
أهو الفوز الرياضي ؟؟؟
أم هو الفوز الدراسي ؟؟؟
كلا . لا هذا ولا ذاك
بل هو الفوز والظّفر بـ " ذات الدين " بالمرأة المتدينة الصالحة
فإذا تعددت وتنوّعت واختلفت مقاصد الناس في الزواج فعليك بالظفر والفوز بصاحبة الدِّين
" تُنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين ترِبَتْ يداك " متفق عليه .
ومعنى تَرِبَتْ يداك : أي التصقتا بالتّراب . كناية عن الفقر .
وهذا من باب الدعاء على من نكح وتزوج لمقصد آخر غير الدّين .
لماذا ذات الدّين بالذات ؟؟؟
1 - لأنها خير متاع الدنيا .
" الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم .
2 - لأنها تُعين على الطاعة .
" ليتخذ أحدكم : قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة "(1/296)
قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سُئل : أي المال نتخذ ؟ رواه الإمام أحمد وغيره ، وصححه الألباني .
3 – لأنها من خصال السعادة
" ثلاث من السعادة ، وثلاث من الشقاوة ؛
فمن السعادة : المرأة تراها تعجبك ، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك .
والدابة تكون وطية فتلحقك بأصحابك .
والدار تكون واسعة كثيرة المرافق .
ومن الشقاوة : المرأة تراها فتسوءك ، وتحمل لسانها عليك ، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك .
والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك ، وإن تركبها لم تلحقك بأصحابك .
والدار تكون ضيقة قليلة المرافق " رواه الحاكم ، وهو في صحيح الجامع .
4 – لأنها أمان نفسي .
" خير النساء من تسرّ إذا نظر ، وتطيع إذا أمر ، ولا تخالفه في نفسها ومالها " رواه الإمام أحمد وغيره ، وحسنه الألباني .
فأي فوز – بعد تقوى الله – أعظم من الفوز بامرأة صالحة ؟؟؟
وها هنا وقفة نفسية مع قوله صلى الله عليه وسلم عن المرأة الصالحة : وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك .
يؤكد علماء النفس أن الرجل – أيّاً كان – بحاجة إلى المرأة المتدينة !
والمرأة بحاجة إلى الرجل المتديّن !
لماذا ؟؟؟
لأن الدِّين الذي يحمي صاحبه ضرورة من ضرورات الأمن النفسي
وذلك في حالة غياب أحدهما عن الآخر يبقى الودّ محفوظاً لا لأجل الطرف الآخر فحسب ، بل لأن المتديّن – حقيقة – يُراقب الله ، ويعلم أن الله مُطّلع عليه .
حدثني طبيب مسلم عربي يُقيم في فرنسا قال :
أول ما أتيت إلى هذه البلاد الأوربية تركت زوجتي وأطفالي في بلدي ريثما أجد السكن المناسب وأُنهي بعض الترتيبات .
قال : فعملت في إحدى المستشفيات ، وفي يوم من الأيام سألتني طبيبة فرنسية :
أين زوجتك ؟
قال : قلت : في بلدي .
قال : فعرضت عليّ أن أبيت معها على فراشها ولو ليلة واحدة !
( مع أنها ذات زوج ) !!
قال : فرفضت ذلك وبشدّة .
قالت : لماذا ؟ وأنت الآن أعزب ؟ وزوجتك بعيدة عنك ؟
قال : لِعدّة اعتبارات :(1/297)
الأول : أن ديني ينهاني عن هذا الفعل القبيح .
الثاني : أن عقيدتي تغرس في نفسي مراقبة الله وحده في الخلوة والجلوة .
الثالث : أنني أحفظ الودّ لزوجتي ، وكما أنني لا أرضى أن تخونني كذلك لا أخونها .
الرابع : أن هذه الأمر ، وهذا الفعل دَيْنٌ مردود على صاحبه .
قال : فرأيت الدهشة على وجهها .
قال صاحبنا الطبيب :
ثم سألتُ تلك الطبيبة :
هل تأمنين زوجك ؟
قالت :
لو كُنت أجلس معه على طاولة واحدة ، فأغمضت عيني لم آمن خيانته ! وهو كذلك لا يأمنني !
فتأملوا حال أولئك الذين وصفهم العليم بهم بأنهم ( كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا )
ثم تأملوا حال المرأةالمسلمة الصالحة التي تحفظ زوجها وإن غاب عنها السنوات الطوال
فهي :
" لا تخالفه في نفسها ومالها "
وهي :
إن نظر إليها أعجبته ، وإن غاب عنها أمِنها على نفسها وعلى ماله .
" المرأة تراها تعجبك ، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك "
إذاً :
الفوز والظفر بِذاتِ الدِّين مطلبٌ شرعي ، وضرورة نفسيّة .
" فاظفر بِذاتِ الدِّين "
أخيراً :
كالعادة ! سوف أعتذر عن الإطالة .
(هذه خاطرة مكيّة )
كُتبت في البد الحرام
وأستودعكم الله .
66-التلازم بين الكُفر والإفساد في الأرض وقطيعة الأرحام..
هناك تلازم بين الكفر بالله ، وبين الإفساد في الأرض وبين قطيعة الأرحام
إذ الحسنة تُنادي على أختها ، والسيئة كذلك ..
فالكُفْر يدعو إلى الإفساد في الأرض ..
ومما ينبغي أن يُعلَم أن الإفساد في الأرض نوعان :
الأول : إفساد حِسِّيّ ، بالتخريب والقَتْل والدمار .
والثاني : إفساد معنوي [ وهو أشدّ ]
ولذا قال جَلّ ذِكْرُه : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) وقال : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) .
وسبب ذلك أن أثار القتل والدمار تزول بينما آثار الكُفر والأفكار غالباً لا تَزول ..
وانظر إلى فرعون رغم طغيانه وجبروته .. ذَهَب فرعون وذَهَب أثره !(1/298)
وانظر إلى أفكار بعض فِرق الضلالة – وإن انتسبتْ إلى الإسلام – كيف ذَهَب رموزها وبَقِيَتْ أفكارها !
وهذا المعنى سبقت إليه الإشارة هنا
http://saaid.net/Doat/assuhaim/50.htm
وقطيعة الأرحام من آثار ذلك الإفساد المعنوي .
ولذلك اتَّصَف المؤمن بِصِلَة الرَّحم ، ووُصِف الكافر بِقطيعة الرَّحِم ..
وقد قال ربنا – وقوله الصِّدْق – و وَعَد – ووعده حق – أن يَصِل من وَصَل رحِمه ، وأن يَقطع من قَطَع رحِمه ..
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بِحَقْوِ الرحمن ، فقال له : مه ! قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال : ألا ترضين أن أصِل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب . قال : فذاك . قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) .
وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرحم شجنة من الرحمن ، فقال الله : من وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته . رواه البخاري .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرَّحِم شجنة ، فَمَنْ وَصَلَها وَصَلْتُه ، ومن قطعها قطعته . رواه البخاري .
وهذا يُبيِّنه ما في المسند وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل : أنا الرحمن خَلَقْتُ الرَّحم ، وشققت لها من اسمي اسماً ؛ فمن وَصَلَهَا وصَلْتُه ، ومن قَطَعها بَتَتُّه .
قال الإمام ابن جرير الطبري في التفسير :
القول في تأويل قوله تعالى : (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ )(1/299)
قال أبو جعفر [ هو ابن جرير ] والذي رَغَّب الله في وَصْلِه ، وَذَمّ على قطعه في هذه الآية : الرَّحم . وقد بَيَّن ذلك في كتابه فقال تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) ، وإنما عَنَى بالرَّحم أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رَحِم والدةٍ واحدة ، وقَطْعُ ذلك : ظُلْمه في ترك أداء ما ألْزَم الله من حقوقها ، وأوجب من بِرِّها ، وَوَصْلُها أداء الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجب لها ، والتعطّف عليها بما يَحِقّ التعطف به عليها . اهـ .
وقال البغوي في التفسير : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) فلعلكم (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن القرآن ، وفَارَقْتُم أحكامه ، (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) تَعُودُوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية ، فَتُفْسِدُوا في الأرض بالمعصية ، والبَغي ، وسفك الدماء . اهـ .
وقال القرطبي في التفسير :
اختُلِفَ في معنى (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) :
فقيل : هو من الولاية . قال أبو العالية : المعنى : فهل عسيتم إن توليتم الْحُكْم فجُعِلْتُم حُكاماً أن تُفْسِدوا في الأرض بأخذ الرّشا .
وقال الكلبي : أي فهل عسيتم إن توليتم أمْرَ الأمة أن تُفسِدوا في الأرض بالظُّلْم .
وقال ابن جريج : المعنى : فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تُفسِدوا في الأرض بالمعاصي وقَطْع الأرحام .
وقال كعب : المعنى : فهل عسيتم إن توليتم الأمر - أن يَقْتُل بعضكم بعضا .
وقيل : من الإعراض عن الشيء . قال قتادة : أي فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تُفسِدوا في الأرض بِسَفْكِ الدماء الحرام ، وتُقَطِّعوا أرحامكم .
وقيل : فهل عسيتم : أي فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن ، وفارقتم أحكَامِه أن تُفسِدوا في الأرض فَتَعُودُوا إلى جاهليتكم .
وقال بكر المزني : إنها نزلت في الحرورية والخوارج ، وفيه بُعْد ، والأظهر أنه إنما عُنِي بها المنافقون . اهـ .(1/300)
إذا فهناك تلازم بين الكُفر والرِّدَّة والنِّفاق وبين قطيعة الأرحام ، وبين الإفساد في الأرض .
قال الإمام البيهقي :
قال الله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) فَجَعَلَ قَطْعَ الأرحام من الإفساد في الأرض ، ثم أتبع ذلك الإخبار بأن ذلك مِنْ فِعْل مَن حَقَّتْ عليه لعنته ، فَسَلَبَه الانتفاع بسمعه وبصره ، فهو يَسمع دعوة الله ، ويُبصر آياته وبَيّنَاته ، فلا يُجيب الدعوة ، ولا ينقاد للحق ، كأنه لم يسمع النداء ، ولم يقع له من الله البيان ، وَجَعَلَه كالبهيمة أو أسوء حالا منها ، فقال : (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) ، وقال في الواصل والقاطع : (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) فَقَرَنَ وَصْلَ الرَّحم وهو الذي أمر الله به أن يُوصَل بخشيته ، والخوف من حسابه ، والصبر(1/301)
عن محارمه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة لوجهه ، وَجَعَلَ ذلك كله من فعل أولي الألباب ، ثم وَعَدَ به الجنة ، وزيارة الملائكة إياهم فيها ، وتسليمهم عليه ، ومدحهم له ، وَقَرَنَ قطيعة الرحم بِنَقْضِ عهد الله ، والإفساد في الأرض ، ثم أخبر أن لهم عند الله اللعنة ، وسوء المنقلب ، فَثَبَتَ بالآيتين ما في صلة الرحم من الفضل ، وفي قطعها من الوزر والإثم . وذَكَرَ سائر ما ورد في هذا المعنى أبو عبد الله الْحَلِيمِي رحمه الله . اهـ .
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة قاطع . رواه البخاري ومسلم .
وقال : ما من ذنب أجدر أن يُعَجِّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدَّخَر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وقطيعة الرَّحم من أبغض الأعمال إلى الله
فعن رجل من خثعم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نَفَرٍ من أصحابه ، فقلت : أنت الذي تزعم أنك رسول الله ؟ قال : نعم . قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : الإيمان بالله . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم صلة الرحم . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أبغض إلى الله ؟ قال : الإشراك بالله . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم قطيعة الرحم قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف . رواه أبو يعلى . وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح غير نافع بن خالد الطاحي وهو ثقة . والحديث في صحيح الترغيب .
وكلما ابتعد الإنسان عن الإيمان قلّ الوفاء ، وازداد الجفاء !
ولذا لما ابتعد الغَرب عن الإيمان بالله عظُمَتِ الهوّة ، واتَّسَع الْخرْق ، وزاد الجفاء ، وقلّ البِرّ ، ومِن ثَمّ اتّخذ القوم الكلاب لوفائها !!(1/302)
قال مُحدِّثي : رأيت في عاصمة الظلام ! [باريس] قبر كلب كَتَبَتْ عليه صاحبته : خانني كل الناس إلا أنت !
وإنك لا تجِد مؤمناً بالله واليوم الآخر ، إلا وجدته واصلاً لِرَحِمِه ، غير قاطِع لها .
وقد أمر الله بِتقواه وقَرَن ذلك بِصِلَة الرَّحِم ، فقال : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)
أي : واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تَقْطَعُوها .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الله في الأرحام فَصِلُوها .
وصِلة الأرحام سبب في تأييد الله للعبد
فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ ، فقال : لئن كنت كما قلتَ فكأنما تُسِفّهم الملّ ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دُمْتَ على ذلك . رواه مسلم .
والملّ هو الرماد الحار .
وليستْ صِلة الرَّحم لِمن وَصَله غيرُه فحسب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وَصَلها . رواه البخاري .
وقال صلى الله عليه وسلم عن قريش : ولكن لهم رحم أبُلّها بِبلالها . يعني أصِلها بِصِلَتها .
وفي المسند وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعقبة بن عامر : يا عقبة بن عامر صِلْ من قَطَعَك ، وأعْطِ مَن حَرَمَك ، واعْفُ عَمَّن ظلمك .
وقال عمر بن الخطاب : ليس الوَصْل أن تَصِل من وَصَلَك ، ذلك القصاص ، ولكن الوَصْل أن تَصِل من قَطَعَك . رواه عبد الرزاق .
وصِلة الأرحام سبب في زيادة العمر :
وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مَن سَرّه أن يُبسط له في رزقه ، وأن يُنسأ له في أثره ؛ فَلْيَصِل رَحِمَه .
وفي رواية : من أحب أن يُبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ؛ فَلْيَصِل رَحِمَه .(1/303)
وهذه الزيادة في العُمر حقيقية ، ولا إشكال فيها .
كما أنه لا تَعارض بينها وبين كون الأعمار مُقدّرة مكتوبة .
ولا تعارض بينها وبين قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .
فإن الله تبارك وتعالى أثبت زيادة الأعمار ونُقصها ، قال : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) .
وأخبر سبحانه وتعالى أنه يَمحو ما يشاء ويُثبت ما يشاء ، فقال : ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) .
والزيادة والنقص إنما تكون بما في أيدي الملائكة من الصُّحُف ، أي الذي كَتَبه الملك ، حينما كَتَب عُمر ابن آدم ورزقه وعمله وشقي أو سعيد ، كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين .
فهذا الذي يحصل فيه المحو والإثبات .
أما ما قُدِّر في اللوح المحفوظ فهو لا يُغيّر ولا يُبدّل ولا يُمحى منه شيء .
ففي عِلم الله أن فلاناً من الناس يَصِل رَحمه ، ويكون عمره – مثلا – ستين سنة ، فإذا وصل رَحِمه بلّغه الله السبعين .
والملك يَكتب عُمر هذا الإنسان ستين سنة ، وهو في عِلم الله وزيادة فضله سبعون .
فلا يكون هناك تعارض بين الآيات ولا بين الأحاديث بعضها مع بعض .
قال الإمام الترمذي بعد أن روى حديث : صِلة الرحم محبة في الأهل ، مَثراة في المال ، مَنسأة في الأثر . قال : ومعنى قوله منسأة في الأثر : يعني زيادة في العمر .
وقال الحليمي في معناه : أن من الناس من قضى الله عز وجل بأنه إذا وَصَل رحمه عاش عددا من السنين مُبيَّنا ، وإن قطع رحمه عاش عددا دون ذلك ، فحمل الزيادة في العمر على هذا ، وبسط الكلام فيه ، ولا يخفى عليه أي العددين يعيش . نقله البيهقي في شُعب الإيمان .
وقال الإمام النووي في شرح الحديث :
وأجاب العلماء بأجوبة ، الصحيح منها :(1/304)
أن هذه الزيادة بالبركة في عمره ، والتوفيق للطاعات ، وعِمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة ، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك .
والثاني : أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك ، فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه ، فإن وصلها زِيد له أربعون ، وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك ، وهو من معنى قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) ويُثْبِت فيه النسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قَدَرُه ولا زيادة بل هي مستحيلة ، وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة . اهـ .
أي أن الزيادة ليست على ما في اللوح المحفوظ ، وإنما هي على ما في أيدي الملائكة من صُحُف .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والأجل أجلان : أجل مطلق يعلمه الله ، وأجل مقيد . وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم : من سرّه أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه . فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلا ، وقال : إن وَصَل رحمه زِدْتُه كذا وكذا ، والملك لا يعلم أيَزداد أم لا ، لكن الله يعلم ما يستقرّ عليه الأمر ، فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر . اهـ .
وصِلة الأرحام سبب في عمران الديار وطول الأعمار
قال صلى الله عليه وسلم : صِلة الرحم ، وحُسن الْخُلُق ، وحُسن الجوار ؛ يُعَمِّرْنَ الدِّيار ، ويَزِدْنَ في الأعمار . رواه الإمام أحمد وغيره .
وصِلة الرَّحم سبب في محبة الأهل
قال ابن عمر : من اتَّقَى ربَّه ، ووصل رحمه ؛ نُسىء في أجله ، وثَرى ماله ، وأحَبَّه أهله . رواه البخاري في الأدب المفرد .
والصَّدَقَة على ذي الرَّحم أجرها مُضاعف
فالصدقة على ذي الرَّحِم صدقة وصِلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرَّحم اثنتان : صَدَقة وصِلَة . رواه الإمام أحمد وغيره .
وصِلة الأرحام سبب في دخول الجنة .(1/305)
ففي المسند وغيره عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم انْجَفَل الناس عليه ، فَكُنْتُ فيمن انْجَفَل ، فلما تَبَيَّنْتُ وجهه عَرَفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب ، فكان أول شيء سمعته يقول : أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصِلُوا الأرحام ، وصَلُّوا والناس نيام ؛ تدخلوا الجنة بسلام .
فهذه دعوة لِصِلَة الأرحام ، وإعادة المياه إلى مجاريها ، وترك القطيعة ونبذ التقاطَع .
7 - ربيع الثاني - 1426 هـ
...
67-اخلع ثوبك !
قال أبو إسرائيل :
لا زلت أذكر موقف أبي عبد الرحمن العراقي وهيئة جلسته وهو يشدّ خيط حذائه وقد الْتَفَتَ إلى بعض إخوانه مبتسماً ابتسامة الواثق وهو يقول :
أنا ألبس حذائي وأشدّه ، وأنتم سوف تخلعونه إن شاء الله
وكان ذلك في جلال أباد
وأحسب أنه صدق الله فصَدَقَه الله
ووفّى لله فوفّاه الله وآواه - أحسبه كذلك - انتهى .
فهل تذكرت كم مرة في اليوم خلعت ثيابك لتستبدلها بغيرها ؟
وهل تذكرتِ ذلك أنتِ أيضا ؟
كم مرة لبسنا أحذيتنا ثم خلعناها ؟
وكم مرة نلبسها ونخلعها في اليوم والليلة ؟
ولكن هل دار في خواطرنا أو خطر ببال أحد مِنّا أنه ربما لبس هذا الثوب فلم يخلعه بل خُلع عنه ؟
أو أنه لبس هذا الحذاء فكانت هذه هي اللبسة الأخيرة ؟
وهل تذكرنا جميعا فضل الله علينا ونعمته التي أنعم بها علينا قديما وحديثا صغاراً وكِباراً يوم مكّننا من لبس ثيابنا وأحذيتنا دون مُساعِد ؟
حدّثني رجل وقع له حادث سير شنيع بقي حبيس سرير المستشفى ستة أشهر بلا حِراك ، فقال : بعد ستة أشهر استطعت أن ألبس حذائي دون مساعدة من أحد
وبشّرت أول زائر بأنني تمكّنت من لبس حذائي بنفسي !
فقلت : يا رب عفوك
أليست هذه وحدها نعمة تستوجب الشكر ؟
يا رب عفوك لا تأخذ بزلّتنا = واغفر أيا رب ذنباً قد جنيناه
ونحن في اليوم والليلة نلبس أحذيتنا دون الحاجة إلى مُعين
ونحن نرتدي ثيابنا دون مُساعدة من أحد(1/306)
لمن المِنّة في ذلك كلّه ؟
للمنعم المتفضّل
ومع هذا يُبارز بالعصيان
ويُقابَل بالجحود
إن كثرة المساس تُذهب الإحساس ، كما يُقال
فالشمس تطلع في صبيحة كل يوم ، وتغرب مساء كل يوم
فما الجديد في ذلك ؟!
لا جديد !
ولكن هذا الفُلك الدائر ، وهذا الكون العامر يسير وفق نظام رباني بديع دقيق
ولكن مع تعاقب الليل والنهار لا تتحرّك مشاعر الإنسان ولا يتفكّر في قدرة الواحد الديّان
ولكن في يوم من الأيام سوف يختلف هذا النظام بما يبهر الأنام
قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر حين غربت الشمس : تدري أين تذهب ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، يُقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) رواه البخاري .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين ( لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) رواه البخاري ومسلم .
وقال : ثلاث إذا خرجن ( لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض . رواه مسلم .
هكذا عندما يتغيّر ما اعتاده الناس
وعندما يختلف هذا النظام الذي ألِفوه
وهكذا في كل ما ألِفته نفوسنا وتعوّدت عليه لا يُحرّك فيها ساكنا ، ولا يُغيّر فيها شيئا .
ولقد كان سلف هذه الأمة يتذكّرون الآخرة وهول المطلع في كثير من المواقف في حياتهم
فإن مرّوا بنار تذكروا نار الآخرة
وأن جلسوا في ظلمة تذكّروا ظلمة القبر
وهكذا تتحرّك قلوبهم مع المشاهد اليومية التي قد تكون لدينا مشاهد مألوفة .(1/307)
فهل نعتبر ونتذكّر ؟
68-أين الله ؟
عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال :
بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ! فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ! ما شأنكم تنظرون إليّ ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني ، لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني . قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن . أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاء الله بالإسلام ، وإن منّا رجالاً يأتون الكهان .
قال : فلا تأتهم .
قال : ومنّا رجال يتطيّرون .
قال : ذاك شيء يجدونه في صدورهم ، فلا يصدنّهم . أو قال : فلا يصدنكم .
قال قلت : ومنّا رجال يخطُّون .
قال : كان نبي من الأنبياء يخطّ ، فمن وافق خطه فذاك .
قال : وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَلَ أحد والجوانية ، فاطّلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها ، وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون ، لكني صككتها صكّة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظّم ذلك عليّ .
قلت : يا رسول الله أفلا أعتقها ؟
قال : ائتني بها .
فأتيته بها فقال لها : أين الله ؟
قالت : في السماء .
قال : من أنا ؟
قالت : أنت رسول الله .
قال : أعتقها ، فإنها مؤمنة . رواه مسلم .
فوائد الحديث :
1 - أن الصلاة لا تنقطع بكلام الجاهل والناسي ، بينما تنقطع بكلام العامد .
2 - أن الكلام الذي يكون في الصلاة إذا كان من لفظ القرآن لا تبطل به الصلاة .
3 - التلطّف في تعليم الجاهل ، فقوله : فو الله ما كهرني أي ما انتهرني .
4 - حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأفته بأمته ، وشفقته بهم .(1/308)
5 – تحريم إتيان الكهان . والكاهن هو من يدّعي معرفة الحوادث المستقبلية ، ويدّعي معرفة الأسرار .
6 – عدم الالتفات إلى ما يدور في الصدر من الطيرة والوساوس ونحو ذلك .
7 – معنى " كان نبي من الأنبياء يخطّ " قال النووي : الصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له ، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يُباح ، والمقصود أنه حرام ؛ لأنه لا يباح إلا بيقين الموافقة ، وليس لنا يقين بها ، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فمن وافق خطه فذاك " ، ولم يقل : هو حرام بغير تعليق على الموافقة ، لئلا يتوهم متوهّم أن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخطّ ، فحافظ النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة ذاك النبي مع بيان الحكم في حقنا ، فالمعنى أن ذلك النبي لا منع في حقه ، وكذا لو علمتم موافقته ، ولكن لا علم لكم بها . انتهى .
8 – قِبَلَ أُحد والجوانية : أي جهة جبل أحد وموضع يُسمّى " الجوّانيّة " شمال المدينة .
9 – جواز استخدام الجارية " الأمَة " في الرعي ونحوه .
10 – آسف : أي أغضب .
وهو – رضي الله عنه – قد اعتذر عن نفسه بهذا الأسلوب حيث قال : وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون . أي أغضب كما يغضبون .
11 – التشديد في حقوق الخلق ، والمُسامحة في حق الله .
فلما أخطأ معاوية رضي الله عنه وتكلّم في الصلاة لم يُعنّفه النبي صلى الله عليه وسلم بل لم ينتهره ، ولما ذكر ما فعل بالجارية من ضربها ولطمها شدّد النبي صلى الله عليه وسلم عليه ؛ لأن ذلك حقّ متعلّق بمخلوق ، وحقوق الخلق مبنيّة على المُشاحّة والمقاصّة .
12 – جواز السؤال بـ : أين الله ؟
والجواب : أنه في السماء .
13 – من شهد أن الله في السماء وشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة حُكم له بالإيمان ، والسرائر أمرها إلى الله .
أما من شهد أن الله في كل مكان أو أنه لا يعلم أين الله ، فلا يُشهد له بالإيمان .(1/309)
14 - تشوّف الإسلام إلى العتق ، والمبادرة إليه ، ففي كثير من الكفارات يدخل عتق الرقاب . والله أعلم .
69-تعريف بفرقة الإسماعيلية ..
ويُطلق عليها :
الباطنية ، وإن كان هذا إلى الوصف أقرب منه إلى الاسم ، ويشتركون مع الرافضة في هذا الوصف ، كما يشترك معهم غيرهم في هذا الوصف .
وإنما وُصفوا بذلك أعني بـ " الباطنية " لأنهم يقولون : إن لكل ظاهر باطناً .
ويقولون ذلك حتى في القرآن ، فله عندهم ظاهر وباطن ، فالباطن لا يفهمه سواهم !
وهذه وسيلة من وسائل أهل الضلال لهدم الإسلام .
ويُطلق عليهم " التعليمية " ، نظراً لإبطالهم النظر والاستدلال ، اعتماداً على سلطة الإمام المعصوم !
كما يُطلق عليهم " السبعية " نسبة إلى إمامهم السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق .
وكانوا يُعرفون :
بالعراق بـ " القرامطة " و " المزدكية "
وفي مصر بـ " العبيدية "
وفي خراسان بـ " الميمونية "
وفي الشام بـ " النصيرية " و " الدروز " و " التيامنة " و " النزارية " و " السنانية "
وفي فلسطين بـ " البهائية "
وفي الهند بـ " البهرة "
وفي بلاد الأعاجم بـ " البابية "
وتُسمى في بلاد الأعاجم أيضا " الأغاخانية " ، وهم " الحشاشين "
ويُطلق عليها " الخطابية "
وفي اليمن بـ " اليامية "
على أنه ليس كل " يامي " إسماعيلياً .
تاريخ نشأتها : بعد وفاة جعفر الصادق سنة 148 هـ حصل انشقاق بين الشيعة :
فريق ساق الإمامة إلى موسى بن جعفر الصادق ، وهو المعروف بالكاظم . وهؤلاء أُطلق عليهم الموسوية ، والإمامية ، والاثنا عشرية .
وفريق آخر ساق الإمامة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ، فسُمّوا " الإسماعيلية " .
وهؤلاء قد زعموا أن جعفر الصادق نصّ على إمامة إسماعيل .
وقد وقع الخلاف بينهم : هل مات إسماعيل في حياة أبيه أولا ؟
والأشهر أنه مات في حياة أبيه سنة 145 هـ .
والذين قالوا بوفاة إسماعيل في حياة أبيه ساقوا الإمامة إلى ابنه محمد بن إسماعيل .(1/310)
ومحمد هذا هو الذي يُسمونه : " الفاتح " و " صاحب الزمان " .
-----------------------------------
جذور الإسماعيلية :
تنتسب كالرافضة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي ، فهم يشتركون في كونهم " صنيعة يهودية " !
وذلك لأنهم كانوا يشتركون مع الرافضة حتى وفة جعفر الصادق – رحمه الله – .
-----------------------------
رؤوس هذه الفرقة وأعمدتها الذين نظروا وقعدوا لها.
تعد الإسماعيلية إسماعيل بن جعفر هو أساسها ، وإليه تنتسب .
وكان إسماعيل هذا أكبر إخوته ، وأحبهم إلى أبيه .
وكان جعفر الصادق – رحمه الله – ينقم على أبي الخطاب ، وعلى المفضل بن عمر ، والأخير هذا من أتباع أبي الخطاب .
ومن أشهر رؤوس هذه الفرقة : أبو الخطاب .
وهو محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي . يُكنى بـ " أبي الخطاب " و " أبي الضبيان " و " أبي سماعيل " .
وقد سار هذا الضال في أفكار الغلو حتى قُتل على يد عيسى بن موسى والي الكوفة سنة 143 هـ .
وكان أبو الخطاب أستاذاً للمفضل الجعفي الذي كان وراء محمد بن نصير مؤسس " النصيرية "
وكان وميلا مخلصاً لميمون القدّاح ولابنه عبد الله بن ميمون .
وهذان ممن عمل بشكل فعال على انطلاقة " الإسماعيلية " ، ثم انبثقت منها الحركات الأخرى كالقرامطة والدروز وغيرها .
ومن رؤوس هذه الفرقة :
الحسن بن حوشب
وعلي بن الفضل
وهما اللذان نشرا الدعوة الإسماعيلية في اليمن .
وقد ادعى علي بن الفضل هذا النبوة ، وأحلّ لأصحابه المحرمات ، فأحلّ شرب الخمر ونكاح البنات والأخوات ، وأظهر عقائده الإلحادية في اليمن ، وخرب الكثير من المساجد .
وهذا الخبيث لما احتل مدينة الجند باليمن سنة 292 هـ صعد المنبر وقال هذه الأبيات :
خذي الدفّ يا هذه واضربي *** وغنّي هزارك ثم اطربي
تولّى نبيّ بني هاشم *** وجاء نبي بني يعرب
احلّ البنات مع الأمهات *** ومن فضله زاد حلّ الصبيّ
لكل نبيّ مضى شرعه *** وهذي شريعة هذا النبيّ(1/311)
فقد حط عنا فروض الصلاة *** وحط الصيام ولم يتعب
....
وما الخمر إلا كماء السماء *** حلال فقدّست من مذهب
وبقي يعيث باليمن فسادا حتى مات مسموماً سنة 303 هـ .
وأبو عبد الله الشيعي الذي نشر الدعوة في المغرب .
وميمون القدّاح وابنه عبد الله بن ميمون ، وان ابنه أحمد بن عبد الله الذين نشروا الدعوة في مصر وغيرها .
والفرج بن عثمان القاشاني الذي أظهر الدعوة في البحرين ، وقد استمال شخصاً يُدعى : حمدان بن قرمط الأشعث .
وهذا الأخير " حمدان " هو مؤسس فرقة القرامطة الإسماعيلية .
ثم جاء من بعده داعية إسماعيلي هو الحسن بن بهرام المعروف بـ " أبي سعيد الجنّابي "
وقد هاجم هذا " هجر " سنة 287 هـ واحتلها ، وجعلها عاصمة له .
وهو الذي تعرض للحجاج في طريقهم وقتلهم على مدى سنوات ، حتى كان من شأنه أن قتل الحجاج في الحرم ، وردم بئر زمزم بالقتلى ، وقد أمر بعد ذلك بقلع الحجر الأسود .
ولتفاصيل هذه الحوادث تُراجع البداية والنهاية لابن كثير . حوادث سنة 317 هـ وما قبلها بسنوات قليلة .
ومن أشهر أئمتهم عبيد الله المهدي ، وهو سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح .
وقد انتسب إلى آل البيت وتستر بذلك ، وادعى أنه علويّ .
وإليه تُنسب الدولة العبيدية .
ومن هنا سُمّيت الدولة العبيدية بـ " الفاطمية " نسبة إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، وهم منها براء .
ومن هنا فإن من أراد رواج باطله فلا بد أن يُزيّنه ويُلبسه لبوس الحق .
وقد أرسلوا جيوشهم إلى مصر بقيادة " جوهر الصقلي " فاقتحمها واتخذ القاهرة عاصمة له .
بعد وفاة المستنصر بالله سنة 487 هـ انقسمت الإسماعيلية إلى :
مستعلية . نسبة إلى المستعلي بن المستنصر . وهي التي عُرفت بعد ذلك بـ " البهرة "
و نزارية . نسبة إلى نزار بن المستنصر .
والنزارية تُسمى في بلاد الأعاجم " الأغاخانية " ، ومن أشهر مؤسسيها الحسن بن الصباح .
وهو الذي استولى على قلعة آلموت .(1/312)
وقد عُرف أنصاره بـ " الحشاشين "
ومنهم " شيخ الجبل " وهو راشد بن سنان ، الذي كوّن فرعاً للحركة في بلاد الشام ، وعُرفوا بـ " السنانية " ، وهؤلاء قد حاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي أكثر من مرة .
ولا تزال جذورهم باقية في الشام في سلمية والخوابي والقدموس ومصياف وبانياس والكهف .
ثم كان تقويض دولة الإسماعيلية على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – سنة 567 هـ .
ومن هنا فإن الرافضة عموما ، والإسماعيلية خصوصاً يكرهون بل ويحقدون على صلاح الدين – رحمه الله – ويُحاولون تشويه سمعته .
-----------------------------------------------
المسائل التي خالفت فيها أهل السنة والجماعة والبدع التي ابتدعتها .
ولو كانت هذه النقطة اقتصرت على " المسائل التي وافقوا فيها أهل السنة والجماعة " لكان أولى ؛ لأنه أسهل في الحصر ، هذا إن وُجد ! لأن ما خالفوا فيه أكثر .
استمدت الإسماعيلية فكرها ومعتقدها من مذاهب فلسفية وديانات مُحرّفة ، فتأثرت باليهودية نظرا لجذورها السابق ذكرها .
كما تأثرت بالنصارى .
وتأثرت بالفرس المجوس ، كحال الرافضة تماماً !
كما تأثروا بالفلسفة اليونانية .
ولذا فقد استفاد فيلسوفهم الكبير حميد الدين الكرماني استفاد من التوراة والإنجيل في صياغة أفكاره .
من أشهر اعتقادات الإسماعيلية :
تعتقد الإسماعيلية اعتقادات باطلة منها :
تشبيه الله بخلقه ، والقول بالتجسيم .
وأشد منه التعطيل ، فقد عطلوا الله من كل وصف .
وهم نفاة للأسماء والصفات .
كما ينفون أن الله خلق العالَم خلقا مباشرا ، وإنما أبدع الكاف واخترع النون ( كُن ) .
كما يعتقدون أن الله لم يخلق الخلق ، وأنه لا يُدبر شؤونهم ولا يرزقهم ولا يُحييهم ولا يُميتهم ، وإنما الذي يقوم بذلك كله هو العقل الأول الذي أبدعه الله – بزعمهم – .(1/313)
ومن عقائدهم : القول بأن لهذا الكون إلهين ! ويُعبر عنه عندهم بـ " السابق والتالي " ، وهذا معتقد مجوسي ! وهو موجود حتى عند المعاصرين ، بل عند الكتّاب والمثقفين منهم !
وهم يقولون بالحلول .
وبِقِدَم العالَم .
والقول بتناسخ الأرواح .
والقول بالوصية والرجعة .
وقد ادعى بعض دعاتهم النبوة – كما تقدم – .
بل ادعى سلطانهم طاهر سيف الدين أنه إله حقيقة ، وكان ذلك سنة 1917 م .
وهذا الداعي المطلق للبهرة " محمد برهان الدين " لما زار أتباعه باليمن وُضع له عرش له ثمانية مقابض ! وكان الناس يسجدون له !
كما ادعى " محمد شاه الحسيني " الألوهية ، ورضي لأتباعه أن يعبدوه .
والأغاخانية يدّعون ألوهية إمامهم الحالي " كريم خان " .
والنبوّة عند الإسماعيلية مكتسبة ، فباستطاعة الإنسان أن يُصبح نبيّاً !
كما أنهم يعتقدون أن علياً بمنزلة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأنكروا أن يكون القرآن وحياً ، بل يعتقدون أنه من المعارف التي فاضت على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
يغلون في أئمتهم حتى يرفعونهم إلى مرتبة الألوهية ، كحال الرافضة تماماً .
تعتقد الإسماعيلية أن للإسلام سبع دعائم ، لا يكون الإنسان مسلما إلا بها ، وهي :
الولاية
الطهارة
الصلاة
الزكاة
الصوم
الحج
الجهاد
على أنهم يقولون بالمعاني الباطنية لهذه الدعائم ، لا كما يقوله أهل الإسلام .
تُنكر الإسماعيلية كثيراً من الغيبيات ، ويلوون نصوص الوحي لتوافق مذهبهم .
فقد جاءوا بمفاهيم مغايرة تماما لما جاء به الإسلام ، خاصة فيما يتعلق بالمبدأ والمعاد وعذاب القبر ونعيمه والجنة والنار ، وغيرها من الأمور الغيبية .
وهم مع ذلك لا يؤمنون ببعث ولا نشور ، ويُنكرون المعاد والحساب .
واعتقادهم في الصحابة كاعتقاد إخوانهم من الرافضة !
بل أشد فقد نعتوا الصحابة بالصفات القبيحة كإبليس ! وفرعون وهامان والطاغوت وهُبل وغير ذلك .(1/314)
وإن كانت الرافضة تشترك معهم في نعت الشيخين بـ " الجبت والطاغوت " !
يحرصون على مخالفة أهل الإسلام .
يدّعون نسخ الشريعة الإسلامية على أيدي أئمتهم .
يدعون إلى وحدة الأديان .
---------------------------
مراتب الدعاة عند الإسماعيلية :
الإمام
الحجة أو الباب
داعي الدعاة
داعي البلاغ
الداعي المطلق
الداعي المأذون
الداعي المحصور
الجناح اليمن
الجناح الأيسر
المكاسر
المكالب
المستجيب
------------------
بعض المراجع التي يمكن أن يستفاد منها أكثر عن هذه الفرقة .
الإسماعيلية تاريخ وعقائد للشيخ إحسان إلهي ظهير - رحمه الله - والذي قُتِل على أيدي الباطنية .
الإسماعيلية المعاصرة للدكتور محمد بن أحمد الجوير .
من أشهر كتاب الإسماعيلية المعاصرين :
مصطفى غالب ، صاحب كتاب : الحركات الباطنية في الإسلام .
وعارف تامر ، صاحب كتاب : القرامطة . أصلهم . نشأتهم . تاريخهم . حروبهم .
سائلا الله أن يجزي الأخ الفاضل التوحيد خير الجزاء ، فهو صاحب هذه الفكرة .
وأن يكفينا شر الأشرار ، وأن يصرف عنا كيد الفجار .
وأن يصرف عن الأمة شر أهل الباطل .
70-ما يُزعم أنه أصوات المعذّبين في نار جهنم..
هذا هو الخبر :
هذا ما قاله الدكتور اساكوف: انا لا آمن بأي ديانة لكن آمنت بالنار بعد هذه الحادثه, كنا نحفر في احد الأراضي للتنقيب عن شيء حتى وصلنا إلى عمق ووصلت درجة الحرارة إلى 2000 فهرنايت وسمعنا أصوات وصراخ وصوت زفير أشبه بصوت النار....
---------------
أما أنا فلا أصدّق ! لماذا ؟(1/315)
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم . قال : يأتيه ملكان فيُقعدانه ، فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال : فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، قال : فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : فيراهما جميعا . رواه البخاري ومسلم .
زاد البخاري قال: وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ! فيُقال : لا دريت ولا تليت ، ثم يُضرب بمطرقة من حديد بين أُذنيه ، فيصيحُ صيحةً يسمعها من يليه إلا الثقلين .
يعني تسمعه الدواب ويسمعه من كان قريبا من المكان إلا الإنس والجن .
وعذاب القبر مما تُدركه المخلوقات غير الإنس والجن ، لقوله صلى الله عليه وسلم - عن الكافر أو المنافق - : ثم يُضرب بمطرقة من حديد بين أُذنيه ، فيصيحُ صيحةً يسمعها من يليه إلا الثقلين . رواه البخاري وقد تقدم .
وقال صلى الله عليه وسلم : إنهم يُعذّبون عذاباً تسمعه البهائم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم اذا مُغِلَتْ الى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالاسماعيلية والنصيرية وسائر القرامطة من بنى عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام وغيرهما ، فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك كما يقصدون قبور اليهود والنصارى ، والجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة وأنهم من أولياء الله ، وإنما هو من هذا القبيل ، فقد قيل : إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغل . انتهى كلامه - رحمه الله - .
أي يُذهب الإمساك من بطونها .(1/316)
وقد حدّثني بعض المسلمين الذين يُقيمون في بلاد الكفار اليوم ، أن الكفار الذين يدفنون موتاهم بالتوابيت مدة معلومة ثم يجمعون عظامهم بعد ذلك في مكان واحد وتستخدم التوابيت في دفن آخرين ، وهم يجدون آثار أظفار وخدوش على جدران التوابيت ، ويظنّون أن سبب ذلك أن من الأموات من دُفِنَ حيّاً .
إذا عُلِمَ هذا فإن ما يتعلّق بالقبر من عرض وفتنة وسؤال وعذاب ونعيم ، هو من علم الغيب الذي لا نعلم كيفيّته ، ويجب علينا الإيمان به والتسليم فيه لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنؤمن به من غير سؤال عن كيفيّته ، وكيف يقع ؟ لأن عقولَنا قاصرة عن إدراك ذاتها فكيف تُدرك ما حُجِبَ عنها ؟
قال ابن القيم : أحاديث عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن أبي العز : وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا وسؤال الملكين ، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به ، ولا نتكلم في كيفيته إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في هذه الدار ، والشرع لا يأتي بما تحيلة العقول ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول . اهـ .
وقد أسمع الله نبيّه وأطلعه على شيء من ذلك
فعن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار على بغلة له ونحن معه إذ حَادَتْ به فكادت تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة ، فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال : رجل أنا . قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال : ماتوا في الإشراك فقال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : تعوذوا بالله من عذاب النار ، قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ، فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر . قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر . رواه مسلم .(1/317)
كما أسمعه أيضا في قصة القبرين اللذين قال فيهما : إنهما ليُعذّبان وما يُعذّبان في كبير .
فهذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا من ناحية
ومن ناحية أخرى فإن هذا الخبر الذي يُتناقل عبر بعض المنتديات رواية عن كافر ولا تُقبل رواية الكافر إلا إذا أسلم .
وفي هذه المسألة لا تُقبل روايته حتى لو أسلم لأنها تُخالف ما ثبت في السنة .
وهذه الأمور من الأمور الغيبية التي لم يُطلع الله عليها الإنس والجن
والله أعلم .
71-صار فرعون واعِظا..!
في قصص الأمم الماضية عِبرة لِمعتَبِر ، وذِكرى لِمُدَّكِر ، وسلوى لِمُضطهَد .
ففي قصص موسى عليه الصلاة والسلام مع فِرعون عِبْرة وعِظة وذِكرى وسَلوى .
لقد زَعم فرعون أنه إله من دون الله ! ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) وما أن أتمّ كلامه حتى بدأ تناقضه واضحا ، وظهر ضعفه جلياً ، فقال : ( فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) .
فَلَم يكن لديه يقين ، ولا كان على ثِقة من أمرِه ، وإنما يَظنّ ظنّاً ( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) .
ولقد أبان فِرعون عن عَجزه حينما قال عن الفئة المؤمنة : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) !
واعجباً ! أوَ يَخشى الإله أو يُحاذِر ؟
ومِن مَن ؟!
من فئة قليلة وَصَفها بالشّرذِمة القليلة !
ثم صرّح أنه أغاظته !
ثم أعلَن أنه يَخاف ويَحذَر !
ثم زَعم فرعون فيما بعد أنه وحده الحريص على مصالح الناس ، وأن غيره دَعِيّ !
وأنه حريص على دِين الناس من أن يُبدّل أو يُغيّر !
وأن موسى ومن معه جاءوا لتغيير دِين الناس ! والتلاعب بهم !
فأراد أن يَقتُل موسى ، واستهزأ بموسى بل وبِربِّه :(1/318)
( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) .
قال ابن كثير :
" يَخشى فرعون أن يُضِلّ موسى الناس ويُغيّر رسومهم ، وعاداتهم وهذا كما يُقال في المثل : صار فرعون مُذَكِّرا ، يعني واعظا يُشفِق على الناس من موسى عليه السلام " .
وها هو فِرعون يُظهر مكنون نفسه الضعيفة ، ويُعلن عجزه وضعفه ، فيقول عن موسى : (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) وليس هذا فَحسب بل ويَخشى من موسى ( أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ )
أليس يَزعم أنه إله ؟! أليس هو الْمُنادِي ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ؟
أليس هو القائل : ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ) ؟
بلى .. هو القائل ذلك كله ..
ولكن من يُحارب الله يُخذل ، ومَن يُغالِب الله يُغلَب ، ومن يُعادي أولياء الله يُقصَم .
أليس فرعون هو صاحب تلك الدعاوى العريضة ؟!
أليس الزاعم أنه إله ؟
وأن تلك الأنهار تجري من تحته ؟
وأنه خير من موسى ؟
وأنه الحريص على مصالح الناس ؟
وأنه يَخشى على دِين الناس من التغيير ؟
وأنه يَخشى أن يُظِهر موسى الفساد في الأرض ؟
فما باله لم يأخذ موسى أخذ عزيز مُقتَدر ؟!
وما شأنه يستشير الناس ؟!
وما لَهُ يَخشى من فئة قليلة ؟!
أين ذَهَبتْ عقول الناس عن هذا الضعف والعَجز ؟
لقد تلاعَب بعقولهم بدعاوى برّاقة ، وأقوال ساذجة
( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ )(1/319)
حينما يكون الفساد فساداً واضحا بيِّناً ظاهراً جلياً .. فإنه لا يَخفى عوراه إلا على القوم الفاسِقين ؛ لأنهم انغمسوا في الفِسق ! والواقع في أصل بئر لا يَرى فوّهة البئر ، والغارق في ظُلمات البحر لا يَرى سَطح البحر ، والجالس في أصل جَبَل لا يَرى أوكار النسور ، ولا مخابئ الوحوش !
أما الجالس على شَفير البئر ، فإنه يَرى أبعادَها .
والواقف على ساحل البحر يَرى سطح البحر الممتدّ أمامه .
والصّاعد على قمّة جَبل يَرى ما حوله ، بل يَرى ما يُحيط به .
فإن نادى الذي في أعلى البئر على من في أسفلها : اخرُج لترى النور .. فلا ريب إن أنكر ضوء الشمس مَن كان في القاع !
وإن رأى الواقف على ساحل البحر بحراً مُمتداً .. فلا عَجب أن لا يَراه من كان في أعماق البحر !
وإن صاح من في قمّة الجَبَل ، وأنذر الناس ما يَفجأهم مِن عَدوّ يَخافُون كَلَبَه وشرّه فلا غَرْو أن لا يرى من في سفح الجَبَل ما يَراه هو !
وهكذا هم دُعاة الحق ..
يَرون الشمس .. ويَنظرون في الأُفُق
يَنظرون بِنور الله ، ويُبصِّرون الناس من العَمَى
فإن أقَبل سيل عذاب أنذروا الناس
وإن ادلهمّ خَطْب حذّروا الناس
وإن أقَبَلتْ فتنة أرشدوا الناس
ومِن عَجَب أن أهل الفساد والرّيب ، وأهل الفِسق والفُجور .. لا يَتعرّضون لمثل ما يتعرّض له دُعاة الحق .. مع البون الشاسع ، والفرق الواضح بينهما ..
فـ " أهل العلم يَدْعُون من ضلّ إلى الهدى ، ويَصبرون منهم على الأذى ، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، ومن ضالّ جاهل قد هَدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم " كما قال عُمر رضي الله عنه .
وأهل الفِسق والفُجور يَدعُون الناس إلى النار .. وإلى كل خُلُق ردئ ، وإلى نَبْذ العفاف والحياء ، وتَرْك الطُّهر ..
وهم مع ذلك يَجِدون سَنَداً ممن قلّ دِينه ، وضعف إيمانه ..(1/320)
وإلى هذا يُشير عُمر رضي الله عنه بقوله : اللهم إني أعوذ بك مِن جَلَد الفاجر وعَجز الثِّقة .
ولم يَقِف الأمر عند هذا الحدّ .. من مُسانَدة أهل الفِسق ، ومعاونة أهل الفُجور ، ودَعم أهل الضلال .. بل تعدّى الأمر ذلك إلى اتِّهام أهل الحق ، ودُعاة العفاف والحياء ..
فرُبّما اتُّهِموا في أعراضهم ، أو في أديانهم ..
وربما طُعِن في نواياهم ..
وقديما اتّهم أهل الفُجور أهل الإيمان .. ورَمَوهم بالعيب .. وعابُوهم بما ليس بِعَيب
فقال أهل الفُجور عن أهل الطُّهر : ( أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) !
متى كان الترفّع عن الدنايا عَيباً ؟
ومتى كان تَرك الفاحشة نَقصاً ؟
إلا عندما تنتكس الفِطر .. وتَمرض النفوس
فترى تلك النفوس المريضة الفُجور حُريّة شخصية .. والفاحشة ممارسة طبيعية !
وحينها يُصادِرون حُريّة الطّرف الآخر .. فيُحرِّمون عليه أن يكون عفيفاً مُتعفِّفاً ! أو أن يكون طاهِراً صادِقاً ..
وحينما تختلّ الموازين تكون كلمة الحق الصادِقة مِشعل فِتنة !
وتُلبَس الدعوة إلى الله لبوس الإفساد في الأرض !
فيُسعى لِقَتْل موسى !
ويُتآمر على يوسف لِيُسجَن ! إن هو أصرّ على العفاف !
( وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) !
كل ذَنْبِه أنه تمسّك بمبادئ الشَّرَف !
وأخذ بمعاقِد العزّ .
ونأى عن السوء والفحشاء .
أمَا لو خَضع .. أو كان دنيء الهمّة .. ولو تخلّى عن الشَّرَف ، وتَرك العفاف .. لكان مآله العاجل حضن زوجة عزيز مصر ! ومآله الآجل الذل والهوان !(1/321)
إلا أنه لما ترفّع عن تلك الدنايا .. وتعالَى عن تلك الهَنَات .. وتطهّر فَلم يُلمّ بِتلك القاذورات .. وفضّل السّجن مع المبدأ على الشهوة مع الهَوان .. لما فَعَل ذلك أورثه الله الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) هذا كان في الدنيا .. وجزاء الأخرى ( وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) .
فطأطأت له رقاب العباد .. وتواضعتْ له الناس .. ومَلَك القلوب .
فليهنأ دُعاة الحق أنهم على الطريق الواضح وعلى الصراط المستقيم .. وأن العاقبة لهم
لقد كان ختام المطاف في قصة موسى عليه الصلاة والسلام أن قال الله : ( تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .
وأن قال : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) .
وأما دُعاة الباطِل فهم على شفير جهنم وَقفوا .. وعلى أبوابها دَعوا ..
ولذلك كان نهاية المطاف في قصة فرعون وجنوده وأعوانه أن قال الله عنهم : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) .
ولو عَقَلتْ البشريّة هذه الحقائق .. وأدرك الساسة هذه العِظات .. لعلِموا أن الحق مُنتصر ، وأن الباطل مُندحِر !
فـ
كُن مع الحق وعلى الحق ولا تُبالي بالْخَلْق ..
ولئن ظَهَر فرعون بثياب الوعّاظ والْمُذَكِّرين ، فقد بَرَز سَلَفه " إبليس " في ثياب الناصِحين ، فَحَلَف وأقسم بالله إنه لمن الناصحين !
ومِن عجائب هذا الزمان أن يَتظاهر الزنادقة بلباس النصح والشفقة ، ودعوى التوسّط والاعتدال !(1/322)
نسبوهم إلى العِلم ، ونِسبتهم إلى العلم كَنِسْبَةِ الثَّرى إلى الثُّريّا !
وسمّوهم زوراً وبهتانا بـ " العلمانيين " !
يَطعنون في الدِّين باسم التجديد والعصرنة - زعموا - وهُم كما قال أبو زرعة رحمه الله ، إذ كان يقول : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم انه زنديق ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حقّ ، والقرآن حق ، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يُريدون أن يَجْرَحُوا شهودنا لِيُبْطِلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة . [ الكفاية في عِلم الرواية ] .
والله المستعان ..
72-طبع الذئب محبة الدم !
" طبع الذئب محبة الدم حتى إنه يرى ذئبا داميا فيثِب عليه ليأكله ! "
هذه حقيقة يجب أن لا تغيب عن الأذهان ونحن نُعايش الذئاب والأفاعي في هذا العالم المترامي !
ذئاب البشر شرٌّ من ذئاب الوحش
وفحيح الأفاعي البشرية يفوق فحيح الأفاعي السامة !
أما اليهود فهم أهل البهت والغدر والخيانة
وأما النصارى فهم أهل الغِلّ والحقد
وصدق الله :
( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ )
وقد وصف الله تبارك وتعالى أهل الكتاب بذلك فقال :
( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
وهذا في اليهود فقد " تمنى وأراد كثير من أهل الكتاب من اليهود لو يردونكم يا معشر المؤمنين " عن دينكم الذي هو مصدر عزّتكم .
فـ
لا يُلام الذئب في عدوانه = إن يك الراعي عدو الغنم
والحقائق لا تحتاج إلى مزيد بيان ولا إلى إطالة تقرير ، فهي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار(1/323)
وليس يصح في الأفهام شيء = إذا احتاج النهار إلى دليل
أما يهود فهم ذئاب البشر ، طبع الذئب محبة الدم
ولكن :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له = ويتقين صولة المستأسد الضاري
فليس الكلب يُراد لذاته بل للحراسة ولينبح ذئاب الشرّ !
وطبع الذئب محبة الدم
ما تفعله " يهود الغدر " لا يُعدّ في الموازين الأممية إرهاباً !
وما تسفكه من دماء الأبرياء صغاراً وكباراً لا يُعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان !
ويُنظر إلى صواريخ " يهود الغدر " على أنها الصّيب النافع ! وإن كانت أنياب يهود تنضح بالسمّ الناقع !
أي غدر وأي خيانة يرتكبها يهود الغدر في حق إخواننا في فلسطين ؟
تجرأت يهود الغدر على دماء الأبرياء ، ابتداء من طفلة العام الواحد وانتهاء بشيخ الستين
ابتداء بـ " إيمان " ومروراً بالشيخ أحمد ياسين
ولا أقول انتهاءاً بالشيخ
لأن طبع الذئب محبة الدم
ولا لوم على الذئب إن عدى واعتدى في غفلة الراعي
ولنا في الأحداث مُعتبر
وفي المصائب متّعظ
ففي محاولات " يهود الغدر " اغتيال الشيخ درس
وفي اغتياله دروس
فمن ذلك :
1 - أن الجهاد وإرهاب العدو لا يقتصر على حمل السلاح فحسب ، وإن كان حمل السلاح وإعداد القوة من أكبر ما يُرعب العدو المتربِّص ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )
ولكن الشيخ أحمد ياسين لم يكن ليحمل السلاح ، فلم تكن له قدرة على ذلك ، ولكنه حمل همّ الأمة
فكّر وخطط وأعان بالرأي والمشورة .
وهذا مما أقض مضاجع " يهود الغدر " .
2 – أن قوة القلب ربما فاقت قوّة البدن
فـ " المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف " والقوّة أعمّ من أن تكون في البدن ، بل قوّة الإيمان هي المطلب الأسمى .
وإنما يعجز الإنسان لعجز همّتِه
وإنما تشيخ العزيمة ولو شبّ الجسد
فكم من شاب طرير ، موفور الصحة ، مفتول العضلات قعدت به همّته ، وشاخت عزيمته(1/324)
وكم من شيخ ضعيف متضعِّف ، لو شئت أن تكسر ضلعه لفعلت ! طارت به همّته ، وعَلَت به عزيمته
رحمك الله يا شيخ .. فلم تترك لنا عُذراً يُقعدنا عن العمل
إنك بجهدك وجهادك أقمت علينا الحجة
3 – أن " يهود الغدر " هم قتلة الأنبياء ، فالطالب منهم سِلماً مُتطلِّب في الماء جذوة نار !
وطبع الذئب محبة الدم
والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحيّات :
ما سالمناهن منذ حاربناهن
فالحيّة هي الحيّة
وهل تلِد الحية إلا حيّة ؟!
4 – أن مسيرة الجهاد ماضية .
قال الإمام البخاري : الجهاد ماض مع البر والفاجر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة .
وأن هذه الأمة معطاء
وأن طريق العِزّة حفوف بالمخاطر ، ملئ بالأشواك ، مفروش بدماء الشهداء .
وأن الدم الذي يُبذل في سبيل الله لا يضيع هدراً
بل هو نار ونور
نار على الكفار الذين سفكوه
ونور للسائرين في دياجير ظلمات الزمان ، وفي غابات التِّيه !
5 – كذب وزيف الدعاوى التي يرفعها الغرب الصليبي ، من دعاوى حقوق الإنسان ، وحقوق المرأة ، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها ، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية ! ودعاوى المساواة – زعموا – إلى غير ذلك من الدعاوى الفجّة التي تتكشّف يوما بعد يوم ، ويظهر زيفها ، ويتعرّى الغرب الكاذب الذي يُدندن حول هذه الدعاوى .
وأن الكفر ملة واحدة
وأنه متى ما اتفقت المصالح نُبِذ الإسلام وحُورِب
وأنه متى كان الإسلام هو العدو اتحدت قوى الشرّ ، ونبتت بذور الحقد !
وهذا يؤكِّد لنا أن الكفر والإيمان على طرفي نقيض لا يمكن أن يلتقيا
6 – وهو من أعظم الدروس
كم من الأصحاء الأسوياء الأقوياء الآمنين في ذلك اليوم صلّوا الفجر ؟
وشيخ مُقعد مريض مُهدد غير آمن يخرج لصلاة الفجر !
فيا بُعد ما بين المثالين ، كبُعد ما بين المشرقين !
والدروس والعِبر كثيرة
وحسبك من مقتل الشيخ أن يكون لنا فيه عظات وعِبر(1/325)
فالشيخ رحمه الله أحسب أنه ممن وَعَظ حيّاً وميّتا .
فرحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته وأنزله منازل الأبرار ، وبلغه منازل الشهداء .
وقريبا موضوع بعنوان : وَعَظْتَ حيا وميتا .
73-عجبا لأمر المؤمن !
قال من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم :
عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له . رواه مسلم .
وعند الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك ، فقال : ألا تسألوني مم أضحك ؟ قالوا : يا رسول الله ومم تضحك ؟ قال : عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير ؛ إن أصابه ما يحب حمد الله ، وكان له خير ، وإن أصابه ما يكره فَصَبَر كان له خير ، وليس كل أحد أمره كله له خير إلا المؤمن .
تأمّل :
أحد السلف كان أقرع الرأس ، أبرص البدن ، أعمى العينين ، مشلول القدمين واليدين ، وكان يقول : "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً ممن خلق وفضلني تفضيلاً " فَمَرّ بِهِ رجل فقال له : مِمَّ عافاك ؟ أعمى وأبرص وأقرع ومشلول . فَمِمَّ عافاك ؟
فقال : ويحك يا رجل ! جَعَلَ لي لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وبَدَناً على البلاء صابراً !
سبحان الله أما إنه أُعطي أوسع عطاء
قال عليه الصلاة والسلام : من يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر . رواه البخاري ومسلم .
وعنوان السعادة في ثلاث :
• مَن إذا أُعطي شكر
• وإذا ابتُلي صبر
• وإذا أذنب استغفر
وحق التقوى في ثلاث :
• أن يُطاع فلا يُعصى
• وأن يُذكر فلا يُنسى
• وأن يُشكر فلا يُكفر ..
كما قال ابن مسعود رضي الله عنه .
فالمؤمن يتقلّب بين مقام الشكر على النعماء ، وبين مقام الصبر على البلاء .(1/326)
فيعلم علم يقين أنه لا اختيار له مع اختيار مولاه وسيّده ومالكه سبحانه وتعالى .
فيتقلّب في البلاء كما يتقلّب في النعماء
وهو مع ذلك يعلم أنه ما مِن شدّة إلا وسوف تزول ، وما من حزن إلا ويعقبه فرح ، وأن مع العسر يسرا ، وأنه لن يغلب عسر يُسرين .
فلا حزن يدوم ولا سرور = ولا بؤس يدوم ولا شقاء
فالمؤمن يرى المنح في طيّات المحن
ويرى تباشير الفجر من خلال حُلكة الليل !
ويرى في الصفحة السوداء نُقطة بيضاء
وفي سُمّ الحية ترياق !
وفي لدغة العقرب طرداً للسموم !
ولسان حاله :
مسلمٌ يا صعاب لن تقهريني = صارمي قاطع وعزمي حديد !
ينظر في الأفق فلا يرى إلا تباشير النصر رغم تكالب الأعداء
وينظر في جثث القتلى فيرى الدمّ نوراً
ويشمّ رائحة الجنة دون مقتله
ويرى القتل فوزاً
قال حرام بن ملحان رضي الله عنه لما طُعن : فُزت وربّ الكعبة ! كما في الصحيحين
عندها تساءل الكافر الذي قتله غدرا : وأي فوز يفوزه وأنا أقتله ؟!
هو رأى ما لم ترَ
ونظر إلى ما لم تنظر
وأمّل ما لم تؤمِّل
المؤمن إن جاءه ما يسرّه سُرّ فحمد الله
وإن توالت عليه أسباب الفرح فرِح من غير بطر
يخشى من ترادف النِّعم أن يكون استدراجا
ومن تتابع الْمِنَن أن تكون طيباته عُجِّلت له
أُتِيَ الرحمن بن عوف رضي الله عنه بطعام وكان صائما ، فقال : قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني كُفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه ، وقتل حمزة وهو خير مني ، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط - أو قال - أعطينا من الدنيا ما أعطينا ، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا ، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام . رواه البخاري .
إن أُنعِم عليه بنعمة علِم أنها محض مِنّة
يعلم أنه ما رُزق بسبب خبرته ، ولا لقوة حيلته
فمن ظن أن الرزق يأتي بقوّة = ما أكل العصفور شيئا مع النّسر !
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
لو كان بالحِيَل الغنى لوجدتني = بأجلِّ أسباب اليسار تعلّقي(1/327)
لكن مَن رُزق الحِجا حُرم الغنى = ضدّان مفترقان أي تفرّق
والمؤمن إذا أصابه خيرٌ شكره ، ونسب النّعمة إلى مُسديها ، ولم يقل كما قال الجاحد : ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي )
أو كما يقول المغرور : ( إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) !
فالمؤمن في كل أحواله يتدرّج في مراتب العبودية
بين صبر على البلاء وشكر للنعماء
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : العبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها الى شكر ، وذنب منه يحتاج فيه الى الاستغفار ، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائما ، فإنه لايزال يتقلب فى نعم الله وآلائه ، ولا يزال محتاجا الى التوبة والاستغفار . اهـ .
فالعبد يعلم أنه عبدٌ على الحقيقة ، ويعلم بأنه عبدٌ لله ، والعبد لا يعترض على سيّده ومولاه .
واعلم بأنك عبدٌ لا فِكاك له = والعبد ليس على مولاه يعترضُ
74-غريب بين أهله..
كثيرون يشتكون الغُربة بين أهليهم !
وقبل أكثر من سنة وصلتني رسالة من فتاة تشكو غربتها في بيت أهلها ، ولم تكن تلك الرسالة هي الأولى وبالتأكيد ليست هي الأخيرة !
ولما تأملت الرسالة وجدت أننا ربما صنعنا الغربة بأيدينا !
كيف ؟
نُحيط أنفسنا بهالة من الوهم - ربما - ثم لا نخرج منها !
أو ينفرد الصالح بصلاحه
أو يتقوقع داخل دائرة ضيقة محدودة
فلا يرى في الصفحة البيضاء إلا الأسطر السوداء !
بل ربما رأى أسطر الصفحة البيضاء كأنها قضبان سجن !
إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ( يوسف الصّدّيق عليه الصلاة والسلام ) أُلقي في الجبّ وهو صغير فلم ييأس ، وبيع بيع العبيد بثمن بَخْس فلم ييأس ، وسُجن بعد أن استبانت براءته فلم ييأس ، ودخل معه السجن فَتَيَان فاغتنم الفرصة ليدعو إلى الله وتوحيده سبحانه وتعالى !
إنها دعوة إلى الله أولاً ، ودفع لغربته ثانياً ، وذلك بأن يُكثر حوله الأتباع على دينه .(1/328)
ثم سجن سنين عددا مع عِلم ويقين من سجنوه أنه برئ
وطُلِب منه تعبير رؤيا فلم يتأخر ، بل أمحض لهم النصح ، فأحسن إليهم رغم إساءتهم إليه .
وطُلب منه الخروج من السجن فتأخّر ! حتى تُعلن براءته للجميع .
ولما مثُل بين يدي عزيز مصر تطلّعت نفسه إلى الإصلاح فقال : ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )
فكان من شأنه ما كان حتى تحققت رؤياه بعد زمن طويل
( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )
هكذا عاش يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام غريبا لكنه حاول دفع الغربة بكل ما أمكنه من وسيلة
وأعجب من هذا أن تقف أمام قصة موسى عليه الصلاة والسلام الموصوف بالقوة في القلب والبدن ، المنعوت بالأمانة في الديانة .
يخرج خائفا وجِلاً بعد أن جاءه النذير فقال : ( إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ )
( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
خرج خائفا وحيدا شريدا طريدا يتلفّت يمنة ويسرة ينتظر الطّلب ويخشى أن يُدركه .
قال البغوي : وكان موسى قد خرج خائفا بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد ، وكانت مدين على مسيرة ثمانية أيام من مصر . اهـ .
وقال القرطبي : لا شيء معه من زاد ولا راحلة ولا حذاء .. ولما رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوّه من زاد وغيره أسند أمره إلى الله تعالى بقوله : ( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) .(1/329)
ولما ورد ماء مَدْيَن ورد على حين تعب ونصب وجوع وخوف ، لكنه لم ينس صنائع المعروف ، فسقى للفتاتين ( ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )
فهو لم ينسَ أنه بحاجة إلى العون الرباني
وإلى العناية الإلهية
فهو وحيد فريد ، شريد طريد
لا أهل ولا مأوى
لا صديق ولا حبيب
لا قريب ولا أنيس
وسبحان الله اللطيف الخبير
تنقلب الغُربة إلى أُنس والوحشة إلى سرور
فيُدرك الضيافة ، ويجد العون والعمل والزوجة !
فأي غُربة كان فيها ؟
وأي وحشة كان سوف يُعانيها لولا صنائع المعروف ؟
فيعود من رحلة الفاقة والمسغبة
وقد تأهّل وزالت غربته
وكان معه من يونس وحشته
ذهب حافيا وعاد مُنتعلاً حتى قيل له :
( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى )
فلم يصل إلى أرض مصر إلا وقد أُوحي إليه .
هكذا عاد رافع الرأس حتى وقف أمام فرعون مرّة قائلا
( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا )
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نَمْ فالحوادث كلّهن أمان
إن باستطاعتنا أن نُزيل عوامل الغربة التي نعيشها أو على الأقل أن نُضعفها
ولكن .. كيف ؟
عندما يهدي الله شابا أو فتاة في بيت يعجّ بالمنكرات ، بل ربما في بيت يفشو فيه الشرك والكفر ، فيجد نفسه ضعيفا غريبا في وسط يُعارِضه في كل قول وفعل !
فيبقى يشكو وَضْعه
ويندب حظَّه
ويعيش مع رؤوس أموال المفاليس ( الأماني ) !
لكنه لم يتحرّك خطوة واحدة ليزيل عنه الغربة ، وليكشف عنه الكُربة
لا يجتهد في دعوة أو في دعاء
ربما كان له حظّ من قيام
أوْ له نصيب من صيام
وله دعوات صالحات
وبينه وبين مولاه أسرار
ولكنه أغفل اسغلال هذه الفُرص
وعجز عن استعمال هذا السلاح(1/330)
أمَا إنه لو اجتهد على والد أو والدة ، أو أخ أو أخت ، ورأى أقربهم إليه ، وأكثرهم تعاطفا معه ، وأحبهم إلى قلبه ، فجعله غَرَضاً لدعوته ، وهدفاً لإصلاحه ، فبدأ به عبر رحلة الألف ميل ، يدعوه ويدعو له .
إن قام في ليل دعا له ، وإن صادف ساعة إجابة أشركه في دعائه
وإن صام وحضر إفطاره لجّ في الدعاء ، وألحّ على الله
فما هي إلا دعوات صادقة ، وجهود مُبارَكة ، فإذا بذلك المدعو يسير في رِكابه ، ويشدّ من أزْرِه ، فيتّخذه عونا له – بعد الله – على هداية بقية الأسرة .
وإذا به قد كسب الرِّهان ، وكسر حاجز الغُربة
ووجد من يُناصرِه ويعضد قوله
وما هي إلا سنوات وبتوفيق الله تكون الأُسرة قد سَلَكَت طريق الهداية ، وربما أصبح اللائم بالأمس على الهدى والاستقامة يلوم على التقصير وضعف الاستجابة !
ووالله لقد رأيت هذا رأي عين !
شاب حجّ البيت فسمع أن من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، فعزم على فتح صفحة بيضاء ، بدأها فور عودته من الحج بأوبة صادقة هدم معها بناء المعصية ، وأقام صروح الطاعة .
وكانت أسرته تلومه أن تشدّد – حسب زعمهم – وما هي إلا سنوات حتى كسر حواجز الغربة ، وأزال حب المعصية ، حتى أصبح – أحياناً – يُلام على بعض تقصيره – الذي كان يُعدّ بالأمس تشدّداً – !
ووجد من يأخذ بيده – إن لم يكن بتلابيبه – ليقول له : اتق الله .
ووجد من يُقوّمه إذا اعوجّ
ويشد من أزرِه إذا تذكّر
والمشكلة تكمن أحيانا في اليأس
وأنه لا سبيل لإصلاح من يعيش بينهم
وأنه لا يُمكن أن يهتدوا
وأن قلوبهم تشرّبت حُبّ المعصية كما تشرّبت قلوب بني إسرائيل حُبّ العجل !
ليس أحد أشد من عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قيل عنه : لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب !
قيل ذلك مُبالغة في اليأس منه ومن إسلامه !
ولكنه ما لبث أن أسلم فقيل عنه :
كان إسلامه فتحا على المسلمين ، وفرجا لهم من الضيق .(1/331)
وقال عبد الله بن مسعود : وما عبدنا الله جهرة حتى أسلم عمر !
ولقد حرص الصّدّيق رضي الله عنه منذ أول وهلة دخل فيها الإسلام على كسر حاجز الغُربة فاجتهد في دعوة الأقربين ، وحرص على صنائع المعروف حتى أعتق الأعبد ، فقد أعتق سبعة كلهم يُعذّب في الله ، وهم : بلال بن أبي رباح ، وعامر بن فهيرة ، وزنيرة ، والنهدية وابنتها ، وجارية بني المؤمل ، وأم عُبيس .
فمن أراد إزالة الغربة فليبدأ بأقرب أهله إليه
وليحرص على صنائع المعروف
وليُحسن إلى أهله حتى يُرى أن صلاحه ما زاده إلا بِرّاً وإحسانا .
والله الهادي إلى سواء السبيل
75-قيْح الأذهان !
عندما تَشْعُر الأذهان بالتُّخمة
وحينما تُصاب الأفكار بالجروح والقروح
فإن إفرازها سيكون مما تأباه النفوس ، وتمجُّه الأفهام
وحينما يُطلق الكاتِب لقلمه العنان
ويترك أفكاره بلا زمام ولا خطام
فإنه حتما سيخوض فيما لا يحسن الخوض فيه
ويتطرّق إلى ما لا يُحسنه
ويكتب ما يُسأل عنه .. وما يُحاسب عليه
إن الإنسان لا يؤاخذ بحديث النَّفس
ولا بما يجول في نفسه من خواطر
ولا بما يدور في ذهنه من هواجس
ولكنه يؤاخذ حينما تظهر على السطح
وتبدو في الخارج
ولم يمتلئ ذهن .. ولا خزّنت ذاكرة من معلومات .. ولا أسرّ عبدٌ سريرة .. إلا ظهرت على فلتات اللسان .. وظهرت في لحن القول !
ولذا قال من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم :
لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعرا . رواه البخاري ومسلم .
قال النووي : قال أهل اللغة والغريب : ( يَرِيه ) بفتح الياء وكسر الراء من الورى ، وهو داء يفسد الجوف ، ومعناه : قيحا يأكل جوفه ويفسده . اهـ .
وقال ابن حجر : قوله : " حتى يريه " أي يصيب رئته ... ويقرب ذلك أن الرئة إذا امتلأت قيحاً يحصل الهلاك . اهـ .
وحينما يخرج الشِّعر أو النثر عن الأُطُر الشرعية ، فإن صاحبه في عِداد الشياطين !(1/332)
روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر يُنشد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا الشيطان ! أو أمسكوا الشيطان ! لأن يمتلئ جوف رجل قَيحاً خير له من أن يمتلئ شعرا .
قال النووي : المراد أن يكون الشعر غالبا عليه ، مُستوليا عليه ، بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى ، وهذا مذموم من أي شعر . اهـ .
وإن من الشعر المذموم شعر الغزل ، إذا كثُر ، أو كان فيه وصف محاسن المرأة ، لما في ذلك من المفاسد ، كإثارة الشّهوات ، وتجرئة السفهاء ، وخدش الحياء .. خاصة إذا كان ذلك بحيث تطّلع عليه الفتيات .
فإن الفتاة يجب أن تكون الأكثر حياء
وقد وُصِف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشد حياء من العذراء في خِدرها . كما في الصحيحين .
ذلك أن الحياء زينة للرجال والنساء ، بل هو من أخلاق الأنبياء ..
وحسبك أن أول شِعر شُبِّب فيه بالنساء كان للشاعر الماجن امرئ القيس ، الشاعر الجاهلي ، شاعر الجنس والخمر !
وحسبك أن الولاة كانوا يؤدِّبون من يتغزّل بالنساء !
ذلك أنه خروج عن حدود الأدب
قال الزهري : كان الأحوص الشاعر يُشبب بنساء أهل المدينة فتأذّوا به ، وكان معبد وغيره من المغنين يُغنون في شعره ، فشكاه قومه ، فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك ، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يضربه مئة سوط ، ويقيمه على البلس للناس ، ويُسيِّره إلى دهلك ، ففعل به فثوى بها سلطان سليمان ، وعمر بن عبد العزيز ، فأتى رجال من الأنصار عمر بن عبد العزيز فسألوه أن يرده ، وقالوا : قد عرفت نسبه وموضعه من قومه ، وقد أخرج إلى أرض الشرك ، فنطلب إليك أن تردّه إلى حرم رسول الله صلى الله عليه ودار قومه
فَذَكَر عمر بن عبد العزيز من شعره وغزله وتشبيبه بنساء المسلمين ، ثم قال عمر :
والله لا أرده ما كان لي سلطان ، فمكث هناك بقية ولاية عمر .(1/333)
ودعا الحسنُ بن زيد بابنَ المولى ، فأغلظ له وقال : أتُشبِّب بِحُرَم المسلمين ، وتنشد ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الأسواق والمحافل ظاهرا ؟ فحلف له بالطلاق أنه ما تعرّض لمحرم قط ، ولا شبب بامرأة مسلم ولا معاهد قط .
فَكُنْ على حذر يا رعاك الله من أن تكون في عِداد شياطين الإنس !
76-لقد اقشعر جلدي بجوار بيت ربي!!
بينما كنت أطوف بالبيت العتيق والناس في هذا المشهد العجيب ، بين داعٍ وتالٍ ، ومُتضرِّع وخاشع ، قد تفاوتت أصواتهم ، بين مَن يُسمع صوته ، وبين مُخافِت، إذا بي أسمع صوتا نشازاً بين تلك الأصوات ، صوت هزّ كياني ، وألهب مشاعري ما سَمِعت .
فماذا سمِعت ؟
بعض الطائفين ، لم يُناجِ رب العالمين ، بل دعا من دون الله آلهة أخرى ! فقال في دعائه :
يا عليّ .. يا فاطمة
فانْتَفَضْتُ وارتعَدّتُ ، واقشعر جلدي لهول ما سمِعت .
ودَمَعتْ عيني ، وناجيت من لا تخفى عليه خافية
سبحانك ما أحلمك
سبحانك ما قدروك حقّ قَدْرِك
سبحانك ما عظّموك حقّ تعظيمك
سبحانك ما عَبَدْناك حق عبادتك
سبحان الله !
كيف يبلغ الجهل بصاحبه ؟
ما تَبْلُغ الأعداء من جاهل = ما يَبْلُغ الجاهل من نفسِه
كيف تجرأ جاهل أن يدعو غير الله في حَرم الله ؟
كيف بلغ به الجهل أن أشرك مع الله في دعائه غير الله وفي جوار بيت الله ؟
عجِبتُ مِن جُرأة العباد على الله وحِلم الله على العباد !
ما أحلم الله عنّي حيث أمهلني = وقد تماديت في ذنبي ويسترني
كيف بالَغ بعض الناس في إساءة الأدب مع الله وهم في ضيافته ؟
وفي الأثر الإلهي : إني والجن والإنس في نبإ عظيم ؛ أخلُق ويُعبد غيري ، وأرزُق ويُشكر غيري .
فسبحان الله ما أعظمه
وسُبحان الله ما أحلمه
خَلَق وعُبد غيره
رَزَق وشُكِر غيره
أنعَم ونُسبت النعمة إلى غيره
سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك
وما قدروك حق قدرك(1/334)
فيا (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)
اللهم إنك حَلِمْتَ على من تجاوز حدودك
فتجاوز عنا وعاملنا بلطفك الخفيّ .
البلد الأمين
الجمعة 6/6/1425هـ
77-لقد بكى أُبَيّ .. فما الذي أبكاه ؟
قال أنس رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُبيّ بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : وسماني لك ؟ قال : نعم . قال : فبكى ! رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأُبيّ : إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك . قال : آلله سمّاني لك ؟ قال : الله سمّاك لي . فَجَعَلَ أُبيّ يبكي .
إنا لنفرح حتى نكاد نطير فَرَحاً حينما ينمي إلى أسماعنا أن فلانا ذَكَرَنا بخير ، وربما بَكينا
طَفَحَ السرور عليّ حتى إنه = من عِظم ما قد سرّني أبكاني
ونبتهج إذا قيل لنا إن الناس تُثني علينا
وترتاح نفوسنا لعبارات الثناء والشكر
والشكر مطلوب بذلُه وقبوله ، ومن هذا الباب الثناء على الْمُحسِن ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : مَنْ صَنَعَ إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعُوا له حتى تُروا أنكم قد كافأتموه . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
ماذا لو أثنى عليك عالِم أو وزير أو حاكِم ؟!
ربما يطير بعض الناس فرحاً ، وربما لا تسعه الأرض !
ولعله يَلْهج بذلك طيلة حياته
أو يَجْعله وساماً على صدره ! بكثرة ذِكره
قف هنا .. وتأمل ما هو أعظم من ذلك
هل تخيّلت الثناء الرباني عليك ؟
هل تصوّرت أن يُثنَى عليك في الملأ الأعلى ؟
لقد بكى أُبيّ بن كعب لما علِم أن الله ذَكَره في الملأ الأعلى
فهل مرّ بخاطرك هذا الذِّكر ؟
تأمل هذا الحديث :
روى البخاري ومسلم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى :(1/335)
أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة .
ألا تغتبط :
أن يَذكُرَكَ ملك الملوك ؟
أن يَذكُرَكِ من بيده النفع والضرّ ؟
أن يَذكُرَكَ من بيده ملكوت كل شيء ؟
وهو يُجير ولا يُجار عليه
فلا إله إلا الله
وسبحان الله
ما أعظمه من ذِكر
وما أعطره من ثناء
وأكْثِر ذِكْرَه في الأرض دأبا = لِتُذكر في السماء إذا ذَكَرتا
وأصدق منه وأبلغ قول ربنا سبحانه وتعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)
وشتان بين ذِكر الناس وبين ذِكر الله لك
الناس يذكرونك بما يعلمون من ظاهرك
والله يذكرك بما يعلم سبحانه وتعالى من حقيقة أمرك
الناس لا يملكون لك شيئا (وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا)
والله بيده النفع والضر
وهو يُحيي ويُميت
ويعلم السرّ وأخفى
جمادى الأولى - 1425 هـ
78-لكن قلبك في القساوة جاز حدّ الصخر والحصباء..!
ذكر ابن القيم رحمه الله بعض القصص التي تدلّ على رحمة الحيوان بعضه ببعض ، وعطف بعضه على بعض ، بل وحنوّ بعضه - أحيانا - على بعض بني البشر !
فمن ذلك قوله عن الْحَمَام :(1/336)
ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ أن رجلا كان له زوج حمام مقصوص وزوج طيّار ، وللطيار فرخان قال : ففتحت لهما في أعلى الغرفة كوة للدخول والخروج وَزَقِّ فراخهما . قال : فحبسني السلطان فجأة فاهتممت بشأن المقصوص غاية الاهتمام ولم أشك في موتهما لأنهما لا يقدران على الخروج من الكوة وليس عندهما ما يأكلان ويشربان . قال : فلما خلّى سبيلي لم يكن لي همّ غيرهما ، ففتحت البيت فوجدت الفراخ قد كبرت ووجدت المقصوص على أحسن حال فعجبت ، فما لبث أن جاء الزوج الطيار فدنا الزوج المقصوص إلى أفواههما يستطعمانهما كما يستطعم الفرخ فزقّاهم . فانظر إلى هذه الهداية فإن المقصوصين لما شاهدا تلطف الفراخ للأبوين وكيف يستطعمانهما إذا اشتد بهما الجوع والعطش فعلا كفعل الفرخين فأدركتهما رحمة الطيارين فزقّاهما كما يَزقّان فرخيهما .
ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره . قال الجاحظ : وهو أمر مشهور عندنا بالبصرة أنه لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار فلم يشك أهل تلك المحلّة أنه لم يبق منهم أحد فعمدوا إلى باب الدار فسدّوه ، وكان قد بقي صبي صغير يرضع ولم يفطنوا له ، فلما كان بعد ذلك بمدة تحول إليها بعض ورثة القوم ففتح الباب ، فلما أفضى إلى عرصة الدار إذا هو بصبي يلعب مع جراء كلبة قد كانت لأهل الدار فراعه ذلك ، فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لأهل الدار فلما رآها الصبي حَبَا إليها فأمكنته من أطْبَائها ( أثدائها ) فمصّها ، وذلك أن الصبي لما اشتد جوعه ورأى جِراء الكلبة يرتضعون من أطْبَاء الكلبة حَبَا إليها فعطفت عليه ، فلما سقته مرة أدامت له ذلك ، وأدام هو الطلب ، ولا يُستبعد هذا وما هو أعجب منه ، فإن الذي هَدَى المولود إلى مص إبهامه ساعة يولد ثم هداه إلى الْتقام حلمة ثدي لم يتقدم له به عادة كأنه قد قيل له هذه خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفا . اهـ .
غير أن هناك من قلوب بعض البشر ما تتجاوز الصخر قساوة(1/337)
( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )
إنه ليعتصر قلبك حينما تسمع قصة رجل قتل زوجته وأولاده
أي رحمة نُزعت من قلبه ؟
ولا تُنزع الرحمة إلا من شقي
أو تقرأ قصص أطفال امتهنتهم زوجات آبائهم حتى لكأنك تقرأ قصص فرعون مع أطفال بني إسرائيل !
وربما شاب رأسك وأنت تتأمل في قصص أطفال لو نزلت على جبل لَنَاء بحملها !
فتقف متسائلا :
أي نوعية هؤلاء من البشر ؟
أيصح أن يُقال إن لهم قلوباً ؟
أيعقل أنهم عرفوا معنى الرحمة ؟
أشك !
ألم تسمع عن أخبار تعذيب العاملات من الخدم ؟!
ألم تسمع عن تعذيب النساء ؟
حيث يُعذّب الرجل زوجته ويسومها سوء العذاب
حينما تسمع تلك القصص تشكّ أن أولئك يحملون قلوبا تجري فيها الدماء
هل يُعقل أن توجد هذه الطِّباع في بني آدم ؟؟؟
أيبلغ الأمر إلى حد الشقاوة فتُنزع الرحمة من قلبه ؟؟؟
هب أن المودة ماتت بين الزوجين .. أين ذهبت الرحمة ؟؟
التي قال عنها رب العزة سبحانه : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً )
لنفترض أن الرحمة هي الأخرى نُزِعت .. فأين الخوف من الله ؟
أين الإنسانية في التصرف .. بل أين الرحمة البهيمية ؟؟ التي جعلها الله في قلوب الحيوانات حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه . كما في الحديث .
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : جعل الله الرحمة في مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه .(1/338)
أوَ ما سمعت عن أُناس تمتصّ عرق الآخرين لتعيش كـ مصاصة الدماء ؟!
أيصح أن قلوب بعض بني آدم تبلغ هذا الحد من القساوة ؟! حتى لكأنها تهزأ بالصخر ، أو تَسْخَر بالحَجَر !
ولذا فإن القلب القاسي متوعّد بالويل ليلين رغما عن صاحبه !
قال سبحانه وتعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ )
وقال عليه الصلاة والسلام : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي . رواه الترمذي .
ويكفي في ذمّ قسوة القلب أن جعلها الله عز وجل وصفاً لليهود ، فقال : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ )
إن القلوب التي لم تلِن للخطاب الرباني ، ولم ترحم عباد الله لا ريب أن النار أولى بها .
أما تأملت ما سمعت مِراراً ؟!
( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9))
فهذا بعض وصف النار – أجارك الله – وهي تبلغ القلوب القاسية
قال ثابت البناني : تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء ، ثم يقول : لقد بلغ منهم العذاب ، ثم يبكي .
قال غير واحد من المفسِّرين : وخَصّ الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه ، أي إنه في حال من يموت ، وهم لا يموتون . اهـ .
فنعوذ بالله من قسوة القلب
وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام :
اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر ، اللهم آتِ نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها . رواه مسلم .(1/339)
فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قلبٍ لا يخشّع ، ولا يتأثّر بموعظة ، ولا يرِقّ لضعيف أو يتيم أو مسكين .
فنعوذ بك اللهم من قلبٍ لا يخشع .
79-ما مِنه ملاذ ومهرب ..
هو المصير المحتوم
والقدر المُقدّر على الخلق
والحقيقة التي لا يُجادل فيها مؤمن ولا كافر
ولا يُماري فيها عاقل
إننا لا نشك طرفة عين بأن الموت حق
وأنه آتٍ لا محالة
من فرّ منه وقع فيه
( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ )
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب *** متى حُطّ ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجوا نتاجها *** وباب الرّدى مما نُرجّيه أقرب
وقول الله أصدق وأبلغ ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ) وإنما العبرة بما بعد الموت ( وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )
ولقد قيل لسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )
وقيل لعامتهم : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ )
هذه الحقيقة الحاضرة الغائبة
نحن على يقين من هذه الحقيقة
ولكن ماذا بعد هذه الحقيقة ؟
ما ذا قلنا ؟
ما ذا عملنا ؟
ما ذا قدّمنا ؟
كم تخطّفت يد المنون من صاحب ؟
وكم أخَذَتْ من حبيب ؟
وكم ذَهَبَتْ بعزيز ؟
بل كم أخَذَتْ - على حين غِرّة - من ظالم يتبختر ، فإذا هو خبر بعد عين ؟
وكم قَصَمَتْ من جبار عنيد ؟
وكم تخّطتنا المنون إلى غيرنا
وسيأتي اليوم الذي تتخطّى غيرنا إلينا
( إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )
الموت لا يُؤخِّره جُبن جبان ، ولا تُقدِّمه شجاعة شُجاع
فإنك لو سألتِ بقاء يوم *** على الأجل الذي لك لن تُطاعي
الموت .. يأتي فجأة ، وينزل بغتة(1/340)
والْخَطْبُ كالضيف لا تراه = ينزل إلاّ على الأجل
الموت لا يُفرّق بين صغير أو كبير
بين مُعظّم أو مُحتقر
بين ساكن القصر أو ساكن بيت الشَّعر
إذا حانت ساعة الأجل بادَر
يأتي على غير موعد سابق
إن في الموت لعِبرة
وإن في مروره لذكرى
يمرّ بنا فيأخذ قريبا أو صاحبا وكأنه يُذكّرنا بأيامنا وبقدومنا على ربنا
فنحزن ونتّعظ
ولكن سرعان ما نلهو وننسى
فما تلبث الأيام حتى تأتينا ذكرى ربما كانت أقوى
ولكن بعض الرؤوس تبقى غير آبهة بالذّكرى
بعض الرؤوس تظلّ خاضعة فما *** تصحو وما تهتزّ حتى تُطرَقا
حينها يُنادى – ولا ينفعه النداء – (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)
قد كنت تهرب من مواطن الموت
وقد كنت تخشى مفاجأة القضاء
وقد كنت تحيد عما يضرّ بك
ولكن اليوم لا مفرّ ولا مَحيد
أما إنه كان غافلا والموت يرقُبه
( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا )
خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال :
أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم ، ولا يُعجزه الهارب ، ليس عن الموت مَحِيد ولا مَحِيص ، من لم يُقتل مات ، إن أفضل الموت القتل ، والذي نفس على بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موته واحدة على الفراش .
إي والله !
مَنْ لم يُقتَل مات
مرّت أسماء رضي الله عنها على جسد ابنها عبد الله بن الزبير ، فقالت : أما آن لهذا الفارس أن يترجّل ؟
وأرسل الحجّاج إلى أسماء يستحضرها فلم تحضر ، فأرسل إليها لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك ، فلم تأته ، فقام إليها فلما حضر قال لها : كيف رأيتني صنعت بعبد الله ؟
قالت : رأيتك أفسدت على ابني دنياه ، وأفسد عليك آخرتك !
وكان مما قالته له : لو لم تقتله مات !
مَنْ لم يَمُت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد
قال ابن الجوزي رحمه الله:
أيها القائم على سوق الشهوات في سوق الشبهات ، ناسيا سَوق الملمّات إلى ساقي الممات .(1/341)
إلى كم مع الخطأ بالخطوات إلى الخطيئات ؟
كم عاينت حيا فارق حيا ؟ وكفّاً كُفّت بالكِفات ؟
ما أقل اعتبارنا بالزمان *** وأشد اغترارنا بالأماني
وقفات على غرور ، وأقدام *** على مزلق من الحدثان
في حروب من الردى *** وكأنا اليوم في هدنة مع الأزمان
وكَفَانَا مُذكِّرا بالمنايا *** علمنا أننا من الحيوان
فيا نفس .. كفاك ما كان
كفى يا نفس ما كان *** كفاك هوىً وعصيانا
محرم 1425 هـ
80-هجمة مرتدة..
يَعرِف أهل الرياضة خطورة الهجمات المرتدّة !
وذلك أن الفريق الذي رَجَعَتْ عليه الهجمة كان في غير مواقعه ، أو كان غافِلاً
فإذا ما رَجَعت الهجمة من الخصم - وكان هناك من ترك موقعه ، وأغْفَل مركزه ، وفتح خانة - كانت الهزيمة !
وهذا يعني أن اليقظة مطلوبة ، مع الحرص والحذر من ترك ثغرات يستغلها الخصم .
وقُل مثل ذلك في الحروب والقتال
فإذا تَرَك المقاتِل ثغرة استغلّها عدوّه
وإذا فُتِحت خانات ، أو لم تُغلق المنافذ هجم العدوّ منها فربما أصاب مقتل
ومثل ذلك في عالم الأجهزة والشبكات
فمن ترك المنافذ مفتوحة ربما هوجِم بالفيروسات
وقد ينتج عن هذه الغفلة تدمير الجهاز
وابن آدم لديه ثغرات
وعليه أن يسدّ جميع الخانات
وأن يُغلِق كل المنافذ
تلك المنافذ التي ينفذ منها العدو إلى الحصن الحصين
ويصِل فيها العدو إلى الْمَلِك ، فينال منه
أعني ملك الأعضاء ، وهو القلب
فمتى غَفَل ابن آدم هجم عليه عدوّه المتربِّص به في آناء الليل وآناء النهار
عدوّ يدخل مع ابن آدم كل مَدْخَل
بل يجري منه مجرى الدمّ
بل هو العدو المبين الذي قال عنه رب العالمين : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
وقد أخبر الله ، وأمَرَ وعَلَّلَ
فقال رب العزة سبحانه : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(1/342)
فهو يسعى سعياً حثيثا دؤوباً على تلمّس الثّغرات في قلب ابن آدم ، فحيثما وجَدَ ثغرة دَخَلَ منها ونَفَذَ ، وتسوّر حِصْن القلب .
فالغَضَب ثغرة ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خُلِق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
والغفلة ثغرة ، ولذا قال ابن عباس في قوله : ( الوسواس الخناس ) قال : الشيطان جَاثِمٌ على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خَنَس .
فهو مُتربِّص بك الدوائر ، مُبتغٍ لك الغوائل !
والذنوب ثغرات
قال الشيطان : وعِزّتك يا رب لا أبرح أُغْوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب تبارك وتعالى : وعِزَّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني . رواه الحاكم وغيره وهو حديث صحيح .
قال ابن القيم : الشيطان يَشُمّ قلب العبد ويَخْتَبِرَه . اهـ .
فإن الشيطان يشم القلوب وينظر في مداخلها ويتحسس ثغراتها ومناطق ضعفها .
فلكل قلب ثغرة ، ولكل شخص – غالباً – شهوة ، يَضعُف أمامها ، فتزيد الحاجة إلى قوّة المدافَعَة ، وإلى شدّة الحرص ، وإلى مزيد من اليَقَظَة .
فاحرص رعاك الله على إغلاق المنافذ حتى لا يدخل فيروس الشيطان !
وعلى اليقظة والحرص حتى لا يكون لهجماته المرتدّة أثَر
فاجعل الذِّكْر حارَس قلبِك ، حتى يَخنس إبليس ويَضْعف ، ولا يوسوس .
واجعل الاستغفار الضربة القاضية على إبليس ، حيث أخبَر أنه أهلكه الاستغفار ، كما في بعض الآثار .
واجعل السجود فَرَح قلبِك بالانتصار ، وبُكاء إبليس بالهزيمة والفِرار !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قرأ ابن آدم السجدة فَسَجَدَ ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله - وفي رواية : يا ويلي – أَمِرَ ابن آدم بالسجود فَسَجَدَ ، فَلَهُ الجنة ، وأمِرْت بالسجود فَأَبَيْتُ ، فَلِي النار . رواه مسلم .(1/343)
فتذكّر أن خُسران هذه الجَولَة وانتصار الشيطان يعني الخُسران المبِين
وأن انتصارك على الشيطان مآله رِفعة الدّرَجات
واعلم أن الشيطان لا ييأس ، بل لديه صبر وجَلَد ، فهو يُحاول الفوز والانتصار على بني آدم حتى تَخرج أرواحهم من أجسادهم .
وتذكّر أخيرا - حفظك الله - أن موسم الخيرات على الأبواب ، فلتكن الجولة فيه لك لا لعدوِّك .
وليكن الفوز من نصيبك لا من نصيب إبليس ..
عِدْ نفسك أن يكون هذا الشهر هو وداع المعاصي
وهو نهاية المطاف في السَّير في رَكْب إبليس !
والله يتولاّك .
81-هل تحب نفسك ؟
هذا سؤال إجابته معروفة سلفاً
فكل إنسان يُحب نفسه
ويُفرط بعض الناس فتبلغ هذه المحبة درجة الأنانية وحب الذّات !
كلٌّ يدّعي وصلا بـ" ليلى "وليلى لا تقرّ لهم بذاكَا
وفرق أيما فرق بين أن يُحب الإنسان نفسه حُبّاً حقيقياً ، أو أن يُحب نفسه حباً صورياً
وليس هذا في حب النفس فحسب ، بل في كل حب يُدّعى :
حب الله جل جلاله
حب النبي صلى الله عليه وسلم
حب الوالد
حب الزوج وحب الزوجة
حب الولد
وهكذا كل حبّ تكتنفه دعوى الحب وحقيقة الحب
غير أنه لا يصحّ إلا الصحيح ، ولا يخلص من النار إلا الذهب الخالص !
دعنا نرى من خلال إشارات ووقفات من هو الذي يُحب نفسه حباً حقيقياً دون أنانية
من ظلم نفسه بالمعاصي صغارها وكبارها .. هل أحب نفسه على الحقيقة ؟
" كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها " كما عند مسلم .
ومن صور ذلك الظلم :
إهلاك النفس بالمخدّرات
أو قتلها بالتدخين
أو تعريضها لعذاب الله يوم وَقَعَ صاحبها في الموبقات
أو تعريضها لإعراض الله عنها بسبب الخيلاء ، سواء كان بالمشية أو كان بجرّ الإزار والثوب والسروال والعباءة - بالنسبة للرجال - .
من يرمي بنفسه في نار الآخرة ، تا الله ما رحم نفسه .
من استمع إلى ما حرّم الله والله ما أحب نفسه على الحقيقة
من أطلق نظره في الحرام ، عذّب نفسه في الدنيا قبل الآخرة
هل أحب نفسه ؟(1/344)
من ترك فرائض الله التي أوجبها على عباده .. هل أحب نفسه ؟
من عق والديه .. هل أحب نفسه ؟
من أساء العشرة مع من أُمِرَ أن يُحسن عشرتهم .. هل أحب نفسه ؟
من استزاد من الخصوم الذين سيقتصّون من حسناته .. هل أحب نفسه ؟
من أطلق العنان لِلسانه يفري في أعراض عباد الله .. هل أحب نفسه ؟
من سرق
من زنا
من شرب الخمر
من نمّ
من تتبع عورات المؤمنين
من أحب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا
من انغمس في النفاق
من دعا مع الله غيره ، سواء كان بذبح أو بنذر أو بطواف حول قبر ، أو كان بدعاء غير الله ، مِن وليّ أو نبيّ ، أو كان بغير ذلك من صور الشرك القبيح
من ... من ...
هل أحبوا أنفسهم حق المحبة ؟
لا وربي .. ما زادوا على أن أهلكوا أنفسهم ، وعرّضوها لعذاب الله وسخطه وأليم عقابه ، إن لم يعفُ سبحانه وتعالى فيما يدخله العفو مما هو دون الشرك .
لا أُريد أن أُدخل اليأس إلى نفوس آبقة عن مولاها
ولكن ليكن المسلم على حذر من تعريض نفسه لعذاب الله
وليعلم أنه ما أحب نفسه حقيقة الحب من لم يتّقِ الله حق تقاته .
82-رحمك الله .. وَعظت حيا وميتا..
كنت كتبت مقالا بعنوان : واعظ على فراش الموت
واليوم سمعت آيات طالما سمعتها ، وكان الحديث فيها عن واعظ آخر
استوقفتني الآيات وما تحمله من نبأ عظيم
هزّتني وكأنني أسمعها لأول مرة
وما ذلك بمستغرب على كتاب لا كالكتب
( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )
وهو كتاب لا تنقضي عجائبه ، ولا يَخلَق على كثرة الترداد .
ذلكم الواعظ هو مؤمن آل يا سين
الذي وعظ قومه حيا وميتا
أما حال حياته فقد جاء ساعياً مُسرعاً ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ )
وأما بعد مماته فإنه لما قيل له : ( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ )
فلما أفضى إلى الجنة(1/345)
( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ )
تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل .
قال ابن الجوزي رحمه الله في قوله تعالى (بِمَا غَفَرَ لِي ) :
وفي " ما " قولان :
أحدهما : أنها مع غفر في موضع مصدر ، والمعنى : بغفران الله لي .
والثاني : أنها بمعنى الذي ، فالمعنى ليتهم يعلمون بالذي غفر لي به ربي فيؤمنون ، فنصحهم حيا وميتا . اهـ .
حَمَلَ همّ الدعوة حيّاً وميّتاً
وأراد لقومه الهداية مع ما كادوه به حتى قتلوه
قال الزمخشري :
وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترؤّف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه ، والتلطف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه ، ألا ترى كيف تمنى الخير لِقَتَلَتِه والباغين له الغوائل ؟ وهم كفرة عبدة أصنام ! ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره ، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة ، وأن عداوتهم لم تُكسِبه إلا فوزا ، ولم تُعقبه إلا سعادة ؛ لأن في ذلك زيادة غبطة له ، وتضاعف لذة وسرور ، والأول أوجه . اهـ .
وقال القرطبي رحمه الله :
وفي معنى تمنيه قولان :
أحدهما : أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته .
الثاني : تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس : نصح قومه حيا وميتا . اهـ .
هذا واعظ وعَظَ قومه حيا وميتا
وآخر وَعَظ أمّه حياً وميتا
وعزّاها في مصابها بعد موتها
ذلكم هو : ذو القرنين
فإنه كتب إلى أمه كتاباً قبل موته ، وكان في كتابه إليها :
يا أماه ! اصنعي طعاما واجمعي من قدرت عليه من نساء أهل المملكة ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة ، فصنعت طعاما وجمعت الناس ، وقالت : لا يأكل من أصيب بمصيبة قط ، فلم يأكل أحد ، فعلمت ما أراد .(1/346)
فلما حُمِل تابوته إليها تلقته بعظماء أهل المملكة ، فلما رأته قالت : يا ذا الذي بلغ السماء حلمه ، وجاز أقطار الأرض ملكه ، ودانت الملوك عنوة له . مَالَكَ اليوم نائما لا تستيقظ ؟ وساكتا لا تتكلم ؟
من بلّغك عَنِّي بأنك وعظتني فاتعظت ، وعزيتني فتعزيت ، فعليك السلام حيا وميتا ، ثم أمرت بدفنه .
وفي رواية لهذه القصة أنها قالت : فنِعْم الحيّ كنت ، ونِعْم الهالك أنت .
وعظوا أحياء وأمواتا
وعظوا وهم على فُرش الموت
ووعظوا وهم جثث هامدة
ووعظوا وهم تحت أطباق الثرى
فـ لله درّهم !
لقد خُلِّد ذِكرهم
وسُطِّر خبرهم
28/1/1425 هـ .
وكان من آخر مَنْ وَعَظَ حياً وميتاً الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله وأسكنه فسيح جناته..
83-وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار..
قبل عام تقريبا تلقيت رسالة من أخ عزيز - أعزّه الله بطاعته - أحسن الظن بي ، فاقترح أن أكتب في معنى قوله تعالى : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )
فلم أنشط وقتها لذلك
وقبل أيام قرع مسامعي - ونحن في صلاة العشاء - قوله سبحانه وتعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )
وكأني أسمعها لأول مرة ، ولا عجب فهذا الكتاب العزيز لا يَخلق من كثرة الترداد .
غير أني لما سمعت هذه الآية تداعت نظائرها وتواردت في ذهني .
فأخذت أتأمل قول ربي جل جلاله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ )
فقلت : سبحان الله !
هذا وعد من لا يُخلف الميعاد
وهذا قول من لا أصدق من قوله ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ) ، ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا )
أمَا والله ما نحن في شك منه ، ولكننا غفلنا عنه .(1/347)
أمَا والله
( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) .
أمَا والله إنه لصِدق .
أمَا والله ليكونن ما وعد به ربي ، وإن غرّ أناس صولة الكفر ، وإن بَهَرَت أقوام حضارته .
وإنّ انتفاش الباطل كانتفاخ الهِرّ يحكي صولة الأسد !
أو كَمَنْ رأى وَرَماً فظنّه سِمنا !
أو كانتفاخ جِلد البوِّ يُحشى ثُماما ويُخيّل به للناقة فتحسبه ولدها !
وقول الله أصدق وأبلغ ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )
إن دولة الكفر ساعة ، وإن دولة الحق إلى قيام الساعة
وإن جولة الكفر لم تظهر إلا في ضعف دولة الحق [ دولة الإسلام ]
ولم تضعف دولة الحق إلا ببعدها عن دينها
ويوم أن تمسّكت دولة الإسلام بدينها دانت لها أمم الأرض ، حتى قال عظيم الروم وقائدها عن نبي الرحمة :
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه . رواه البخاري ومسلم .
هكذا نطق هرقل ، بل هكذا أنطقه الله بكلمة الحق !
لقد أدرك هرقل أن دولة الإسلام إذا قامت لا يقف في وجهها أحد
وقال مقولته ودولة الإسلام في بداية قيامها ، لم تتعدّ جزيرة العرب ، بل لم تفئ ظلالها على كامل جزيرة العرب .
كيف لو قال اليوم قائلنا : إن أعظم دول الكفر سوف تزول ، وأن رئيسها سوف يولّي الأدبار هاربا من جحافل الإسلام ؟!
لو قيل ذلك : لقيل كلام في الأحلام !
ولكن هذا الأمر وقع عندما صدق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان ، فولّى هرقل هارباً ، ووقف على مشارف سوريا يودّعها ، وينظر إليها النظرة الأخيرة !
أمَا والله لو عُدنا إلى ديننا وتمسّكنا به لرأينا بأعيننا صدق موعود الله بالنصر والغلَبة والتّمكين لأوليائه
ولرأينا صدق موعود الله بالهزيمة والذلّ والخزي والهوان لأعدائه(1/348)
ألم يقل رب العزة سبحانه :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) ؟
لكن متى يتحقق هذا الموعود ؟
عندما يتحقق التوحيد ، ويرسخ الإيمان ، وشرط ذلك : ( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا )
فلا يتحقق المشروط إلا بتحقق الشرط
ولا ينفذ الموعود إلا بتحقيق شرطه
( َلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا )
قال ابن القيم رحمه الله :
فالآية على عمومها وظاهرها ، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضادّ الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة ، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم . اهـ .
كيف نريد النصر والعِزّة والتمكين وكثير من الجيوش حالها لا يسرّ !
قال والد علي بن المديني : خرجنا مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن فعسكرنا بِبَاخَمْرا ، فطفنا ليلة فسمع ابراهيم أصوات طنابير وغناء ، فقال : ما أطمع في نصر عسكر فيه هذا !(1/349)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول صلى الله عليه وسلم سُلِّطت عليهم الأعداء فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة ، وأخذوا الثغور الشامية شيئا بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة ، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق ، وكان أهل الشام بأسوأ حالٍ بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة إلى أن تولّى نور الدين الشهيد وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه ، ثم استنجد به ملوك مصر بنوا عبيد على النصارى فانجدهم ، وجرت فصول كثيرة إلى أن أُخذت مصر من بنى عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي وخطب بها لبنى العباس ، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة ، فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببا لخير الدنيا والآخرة ، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة .
فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سُلِّط عليهم الكفار ، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار تحقيقا لقوله :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .(1/350)
وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم ، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار .
ثم تكلّم رحمه الله عن تسلّط هولاكو على العراق فقال :
وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع حتى أنه صنف الرازي كتابا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر سماه " السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم " ويقال أنه صنفه لأمِّ السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه ، وكان من أعظم ملوك الأرض ، وكان للرازي به اتصال قوى حتى إنه وصى إليه على أولاده ، وصنف له كتابا سماه " الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية " وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علّمها النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين . اهـ .
والله المستعان .
84-ولكنكم تستعجلون..
لما سُقت خبراً عن حاملة لواء الصليب ، وأثار ذلك الخبر ما أثار من غَيظ القلب ، وكَمَد الصدر ، وحُرقة النفس ، فجاءت الكلمات تُعبِّر عن نفثات مصدور !
لما كان ذلك جاءتني رسالة عتاب رقيق مَفَادها :
لماذا شغلت نفسك بلعن الكفّار ؟
وهل كان ذلك من هَدي النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أو كان ذلك من ردود أفعال أصحابه رضي الله عنهم ؟
وكان مما تضمنته رسالة العتاب : ( إني لأحسب لو ناديت : " حيّ على الجهاد " لهبّ خَلْفك أُناس تتلهّف نفوسهم إلى الجهاد في سبيل الله وإلى ساحات الوغى )
فقلت وأقول :
أولاً :
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الكفار وسبّهم .
فقال يوم الخندق :
ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا ، كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس . رواه البخاري ومسلم .
وقال أيضا :
شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا ، أو قال : حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا . رواه البخاري ومسلم .(1/351)
وجاء عمر بن الخطاب يوم الخندق بعد ما غربت الشمس ، فجعل يسبّ كفار قريش . رواه البخاري ومسلم .
وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء في القنوت :
اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يُكذبون رسلك ، ويقاتلون أولياءك ،اللهم خالف بين كلمتهم ، وزلزل أقدامهم ، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين . رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي .
وقال عبد الرحمن بن هرمز الأعرج : ما أدركت الناس إلا وهم يَلعنون الكَفَرة في رمضان .
وسبّ الكفار قُربة وطاعة إلا إذا أفضى إلى مفسدة ، كما في قوله تعالى : ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )
وقد نقم المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يَعيب دينهم وآلهتهم !
فقد قالت قريش لأبي طالب : يا أبا طالب بن أخيك يشتم آلهتنا ، يقول ويقول ، ويفعل ويفعل ، فأرْسِل إليه فانهه . رواه الإمام أحمد وغيره .
قال الحافظ ابن حجر : الكفار مما يُتقرّب إلى الله بسبِّهم . اهـ .
وثانياً :
أما قول المعاتِب : لو ناديت " حي على الجهاد " فأقول : لست خيالياً ، ولا آيسا أو مؤيِّساً !
ولست من يقول : هلك الناس !
ولا ممن يقول :
اكسر مجدافك
ولكني أحب أن أكون واقعياً
فلو نظرنا نظرة سريعة لصفوف الناس في صلاة الفجر لعلِمنا قدر الدِّين في نفوس الناس .
وصلاة الفجر هي مقياس الإيمان
وإني لأخرج إلى صلاة الفجر فأتوهّم أن الحي مهجور !
والله يشهد أني أخرج إلى صلاة الفجر في بعض الأيام فلا أرى أحداً يمشي إلى صلاة الفجر ، وربما رأيت الرجل أو الرجلين !
فكيف نطمع في النصر على العدو وهذا حالنا مع صلاتنا ؟
لا يُصنع الأبطال إلا *** في مساجدنا الفِساح
في روضة القرآن في *** ظل الأحاديث الصحاح
شعب بغير عقيدة *** وَرَقٌ يُذّرِّيِه الرياح
من خان " حي على الصلاة" *** يَخون " حي على الكفاح "(1/352)
كيف نطمع في النصر ونحن لم نكسب الجولة الأولى مع العدو المبين ؟
كيف نُريد النصر وأكثر الناس يسهرون على ما حرّم الله ثم لا يُصلّون الفجر ؟!
كيف .. وكيف .. ؟
ونحن نرى أن اهتمام الناس بدنياهم أضعاف أضعاف اهتمامهم بدِينهم
بل لا يُكاد يُذكر الاهتمام بالدِّين إلى جانب الاهتمام بالدنيا
لننظر إلى حال الناس عند بداية يوم دراسي !
أو مساهمة مالية ولو كانت محرّمة
كيف يتهافت عليها الناس
وكيف يزدحمون عليها
وما مدى إقبالهم عليها غير آبهين بحلال أو حرام
وكيف نرى إقبال الناس على التخفضيات ! وعلى اغتنام الفُرص واستغلالها
وهم قد أعرضوا عن فرص الآخرة إلا من رحم الله
ولا ترى من يرفع بالدِّين رأساً إلا القليل
فالله المستعان
أكرر :
لست آيسا ولا قانطاً ، فالنصر قريب ولكننا نستعجل النصر قبل انتصارانا على شهواتنا وحظوظ أنفسنا
جاء خباب بن الأرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قال : قلنا له : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟
قال : كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض ، فيجعل فيه ، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشقّ باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يَصدّه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون . رواه البخاري .
هكذا نحن .. نستعجل
نُريد قطف الثمرة قبل نضجها
نريد النصر قبل أن ننتصر في أول خطوة
نريد التمكين ولم نُحقق الإيمان
نريد أن ينصرنا الله ولم ننصر دينه
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )
" ولكنكم تستعجلون "(1/353)
روي عن أبي جعفر محمد بن علي وعن الضحاك أنهما قالا في قوله تعالى : ( قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا) : كان بينهما أربعون سنة . وقال ابن جريج : يُقال إن فرعون ملك بعد هذه الآية أربعين سنة .
قال مرزوق العجلي : دعوت ربي في حاجة عشرين سنة فلم يقضِها لي ، ولم أيأس منها !
والنّصر آتٍ ، ولكنه يحتاج إلى انتصار على الأنفس والشهوات .
ربيع الآخر / 1425 هـ
85-وموت العابدِ القوّام ليلاً ..
إذا ما مات ذو علم وتقوى *** فقد ثُلِمت من الإسلام ثُلمة
وموتُ الحاكم العدلِ المولّى *** بحكم الشرع منقصةٌ ونقمة
وموت العابدِ القوّام ليلاً *** يُناجي ربّه في كل ظلمة
وموتُ فتىً كثير الجود محلٌ *** فإن بقاءه خصبٌ ونعمة
وموتُ الفارس الضرغام هدمٌ *** فكم شهِدتْ له بالنصر عزمة
فحسبُك خمسةٌ يُبكى عليهم *** وباقي الناس تخفيف ورحمة
وباقي الناس همجٌ رعاعٌ ** وفي إيجادِهم لله حكمة
قال ابن القيم رحمه الله :
والمقصود بهذا كما قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه : الناسُ ثلاثة : فعالمٌ ربانيّ ، ومتعلّمٌ على سبيل نجاة ، وهمجٌ رَعَاع أتباعَ كلِّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .
قبل أسبوعين ( وقت كتابة المقال ) ، وبالتحديد آخر جمعة من شهر الله المحرّم انتقل إلى الرفيق الأعلى عابد من عبّاد المدينة النبوية
وقد وُصِف بأنه عمود من عُمد المسجد النبوي
وحُق له ذلك الوصف
فقد أمضى قرابة ثلاثين سنة في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم
عرفته منذ أكثر من عشر سنوات
فعرفت فيه العابد الزاهد الصادق - فيما أحسب -
عرفت فيه الرجل الذاكر الصائم القائم
يخرج قبيل صلاة العصر من بيته إلى المسجد النبوي وغالبا لا يعود إلا بعد صلاة العشاء
إن وجد من يقوم بإيصاله إلى المسجد النبوي وإلا مشى على أقدامه رغم بعد المسافة
وقبل صلاة الفجر يخرج من بيته إلى المسجد النبوي(1/354)
فهو صاحب صلاة ، وهو أيضا - كما عرفته - صوّام .
تراه فلا ترى سوى الجلد يكسو العظام النُّحَّل !
تُحبه بمجرّد أن تسمع عنه ، وإذا رأيته لا يستأذن قلبك للدخول بل يدخل إلى شغاف قلبك
رآه ابن أخي قبل سنوات فأحبه من أول لقاء !
فكان ابن أخي في الأعياد يطلب مني مرافقته للمدينة لزيارة هذا العابد الصوّام القوّام .
عجيب هذا الرجل !
منذ أن كان قبل ثلاثين سنة تقريبا وهو في حفر الباطن كان يُكثر التحدّث عن سُكنى المدينة النبوية ، فأكثر ذِكرها حتى سكنها ، فلما سكنها كان قلّما يُغادرها ، وإن غادرها فسُرعان ما يعود إليها .
مرض في آخر حياته ، فكان لا يرضى أن يُصلي لوحده ، رغم شدة المرض
يطلب من أحد أبنائه أن يأتي للمستشفى ليُصلي معه جماعة ، فتكون له جماعة ولابنه نافلة ، ثم يأمر ابنه أن يُدرك الجماعة !
حدثني ابنه الذي صلى معه آخر صلاة ، وهي صلاة الفجر من يوم الجمعة 28 / 1 / 1425 هـ
قال : صليت معه صلاة الفجر ، فلما قضينا الصلاة قال لي : أدرك الجماعة !
يقول : فانصرفت ، وبقيت بحيث أراه ولا يراني فإذا هو يسجد ويُكرر السجود حتى قُبِض !
سبحان الله !
مَن عامَل الله نجا
ومَن عامَل الله فاز وأفلح
ومن عامَل الله فلن يخيب
قُبِض بعد أن أدى صلاة الفجر ، ولم يرضَ أن يُصلي لوحده رغم وجوده في المستشفى
وقُبِض صبيحة يوم الجمعة
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر . رواه الإمام أحمد والترمذي .
نحسبه صدق الله فصَدَقَه الله .
وعمود آخر من أعمدة المسجد النبوي – وُصِف بذلك أيضا –
هو رجل من أهل مدينة عنيزة
أمضى قريبا من ثلاثين عاما في المسجد النبوي
مكانه خلف الإمام ، يفتح على الإمام ( يردّ عليه )
وربما صلّى بالجماعة
وفي آخر أيامه
زار محافظة عنيزة
وكان ينوي أن يُقيم بها أسبوعا
وفجأة قال لأحد أولاده : أريد أن أعود إلى المدينة !
هكذا دون سابق إنذار !(1/355)
فعاد إلى الأرض التي أحب
وإلى البقعة التي طالما أحبها
فعاد إلى المدينة النبوية
وهناك أدى الصلاة في المسجد النبوي ثم مات وهو يُصلي .
فرحمه الله
عامَل الله بصدق - فيما نحسب - فعامله الله بصدق
لم يمت إلا حيث أحب أن يموت
ولم يُدفن إلا حيث كانت رغبته أن يُدفن
يخرج من المدينة في زيارة قصيرة
ولكنه قطع تلك الزيارة
وكأنه يُساق إلى أجله حيث كانت رغبته
فرحم الله هؤلاء العُبَّاد
--------------
قلتُ هذا وكتبته شحذاً للهمم
وتسلية للنفوس أن الأرض لم ولن تخلو من عباد لله فُطنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفِتنا .
فإلى من نظر إلى فساد أهل الزمان
وإلى من نظر إلى السوء في إبداء السوءات
ها هو الخبر اليقين
أنقله إليك عن العابِدِين
أما الأول فهو : عبد الرحمن بن أحمد التركي
وأما الثاني فهو : عبد العزيز بن علي الشبل
رحم الله الجميع برحمته الواسعة .
86-وهذه هدية أُهديت إليّ..
ثمة داء انتشر ، ومرض تفشّى في كثير من الجتمعات ، بل لا يكاد مُجتمع أن يسلم منه وهذا الداء كبيرة من كبائر الذنوب
فاعله ملعون على لسان نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي . كما عند الإمام أحمد والترمذي .
إن هذا الداء العضال إذا انتشر في مجتمع أُصيب أفراده بالاتكالية والخمول والتكاسل ، فيُصبح الموظف والعامل لا يؤدّي عملاً أُنيط به إلا بوجود مقابل ليس له فيه أدنى حق .
ويُصبح التنافس على أمور الدنيا على أشدِّه
وتعمّ الفوضى
وتؤكل أموال الناس بالباطل
وقد نهى الله عن ذلك فقال : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )
أمَا لو جلس ذلك الموظف أو المعلم أو المعلمة في بيته لما أُهدي إليه ولما أُعطي .
وإنما أُعطي وأُهدي إليه لأنه تبوأ ذلك المكان ، أو شغل تلك الوظيفة .(1/356)
روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : استعمَل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد على صدقات بني سليم يُدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه . قال : هذا مالكم ، وهذا هدية ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا ! ثم خطبنا ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاّني الله ، فيأتي فيقول : هذا مالكم ، وهذا هدية أهديت لي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته ؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة ، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ، ثم رفع يده حتى روي بياض إبطه يقول : اللهم هل بلغت .
من فوائد هذا الحديث :
1 – استعمال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل على غير قومه حتى لا تقع المحاباة .
2 – عدم اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم بثقته بالرجل ، بل لما رجع حاسبه على ما أُرسل إليه .
3 – وضوح الصحابة رضي الله عنهم ، فلم يُخف الرجل ما أُعطي وما أُهدي له .
4 – مِنْ مداخل الشيطان تسمية الأشياء بغير مسمياتها .
5 – تحريم ما يُهدى إلى من تولّى عملاً ممن لهم علاقة بالعمل ، فإنه لو جلس في بيته لما أُهدي إليه .
6 – استعمال النبي صلى الله عليه وسلم لأسلوب التلميح ، وعدم تسمية الرجل ، ويجوز أن يُسمّى الرجل إذا وُجدت المصلحة .
7 – مغبّة هذا الأمر ، وخطورة الرشوة ، ولو كان باسم " هدية " ، وأن من أخذ شيئا من أموال الناس فإنه سوف يأتي يوم القيامة يحمل ما أخذه ، ينوء بحمل ما تمتع به في الدنيا .
8 – حرص النبي صلى الله عليه وسلم على البلاغ المبين .
9 - عدم المجاملة في الأمور المحرمة .
إن الإسلام حرّم الأموال وحفظها وصانها .(1/357)
فالمال ضرورة من ضرورات الحياة ، والإسلام جاء بحفظ الضرورات والكليّات التي تقوم عليها حياة الناس .
وحرّم قبول ما في أيدي الناس إذا كان ثمنا لِدِين المسلم .
فـ " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه "
ولا يمكن أن يبذل المسلم العاقل ماله في سبيل مريض نفس – مرتشي – إلا تحت وطأة الحاجة لاستخلاص حقه ، أو نتيجة مرض قلبي لأخذ ما ليس له ، أو إعطائه ما ليس له .
إن الإسلام يُربي في أتباعه النزاهة ونظافة اليد .
ويُربي فيهم الحرص على اتقان العمل
" إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه "
ويحثهم على أداء العمل على الوجه المطلوب دون النظر إلى ما في أيدي الناس
ودون التّطلّع إلى كرائم أموال الناس
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس . رواه الإمام أحمد والترمذي .
وأما آثار ذلك المرض الخطير ، فمنها :
1 – أكل أموال الناس بالباطل .
2 – التكاسل والاتكالية .
3 – دناءة النفس في التطلّع إلى ما في أيدي الآخرين .
4 – مُحاباة بعض الناس على حساب الآخرين .
5 – إعطاء بعض الناس ما ليس لهم وجه حق فيه .
6 – تقديم مَن ليس أهلاً للتقديم .
7 – غشّ الأمة إذا كان قبول الرشوة في مجال التعليم .
والرشوة هي الرشوة ولو غُلّفت بغلاف " الهدية " !
وهي سُحت يأكلها صاحبها .
واستثنى العلماء من ذلك :
1 – أن يكون للمسلم حق ولا يستطيع استخلاصه وأخذه إلا بالفداء والتضحية ببعضه .
واستدلوا بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق من أن يُفادي المدينة ويحمي الأنصار ببعض ثمر نخلهم .
ومع ذلك إذا اضطر الشخص لمثل هذه الحالة فعليه أن يكره هذا الأمر ، وإذا كان يُمكنه قطع دابر ذلك العضو الفاسد فليفعل ، بإبلاغ من له أمر ونهي ومن له سلطة يردع بها مثله .(1/358)
2 - أن يكون الشخص الذي أهدى إليه كان له به صِلة قبل أن يصل إلى ذلك المنصب ، ويكون بينهما ودّ قديم فيُهدي إليه ، وإن تركه تورّعاً فهو أولى وأفضل .
وما انتشرت مثل هذه الظواهر إلا من قبل عجز الثقة ، فيرى المسلم بعض تلك المظاهر ويكتفي - أحياناً - بهزّ رأسه ، أو زمّ شفتيه ، أو التبرّم ، ونحو ذلك مما لا يحسر مدّ مُنكر ، ولا يقطع دابر فساد .
87-يومٌ في حياة المغفور له..
امتنّ الله تبارك وتعالى على نبيِّه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ، فقال في مَعرِض امتنانه عليه : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) .
ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد غَفَرَ الله لك ما تَقدّم من ذنبك وما تأخَّر ، قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ رواه البخاري ومسلم .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة في أوقات دون أوقات ، فيجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها .
وقد استوقفتني بعض أحواله صلى الله عليه وسلم مما لم تكن في أوقات اجتهاده ، بل هي من عامة أيامه صلى الله عليه وسلم .
أما الموقف الأول فيََرْوِيه حذيفة رضي الله عنه :
قال رضي الله عنه : صلَّيت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فافتتح البقرة ، فقلت : يَركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت : يُصلي بها في ركعة ، فمضى ، فقلت : يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مُترسِّلا ، إذا مَرّ بآية فيها تسبيح سبّح ، وإذا مَرّ بسؤال سأل ، وإذا مَرّ بتعوّذ تعوّذ ، ثم رَكَع ، فَجَعَلَ يقول : سبحان ربي العظيم ، فكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قام طويلا قريبا مما رَكَع ، ثم سجد ، فقال : سبحان ربي الأعلى ، فكان سجوده قريبا من قيامه . رواه مسلم .(1/359)
هذه ليلة ليست من ليالي الاجتهاد ، ولا من ليالي إحياء الليل ، وشدّ المئزر ، وإيقاظ الأهل ، بل هي ليلة من عامة الليالي ، قام فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ ما يزيد على خمسة أجزاء ، قراءة متأنِّيَة مترسّلة ، يقف عند آيات الرحمة فيسأل ، وعند آيات العذاب فيتعوّذ ، ثم يركع بمثل هذا القَدْر من القيام ، ثم يقوم طويلاً مثل ذلك ، ويسجد مثل ذلك !
ونحن إذا اجتهدنا في قيام رمضان وقرأ الإمام جُزءاً رأينا أنه قد أطال ، ولو كان ذلك في ليالي العَشْر !
ولعلنا نتساءل :
إذا كان هذا قيامه صلى الله عليه وسلم في ليلة من ليالي العام ، فكيف به إذا اجتهد ؟
وكيف به إذا شدّ المئزر ، وأيقظ أهله ، وأحْيَا لَيْلَه ؟
وأما الموقف الثاني :
فهو متعلق بأحاديث الاستغفار
تأملتُ في استغفاره صلى الله عليه وسلم ، وهو مَنْ غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر .
وكيف كان استغفار من غُفِر له ؟
روى الإمام مسلم من حديث الأغر المزني - وكانت له صُحبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه لَيُغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة .
قال النووي : والمراد هنا ما يتغشّى القلب . قال القاضي : قيل : المراد الفَتَرات والغَفَلات عن الذِّكْر الذي كان شأنه الدوام عليه ، فإذا فَتَرَ عنه أو غَفَلَ عَدّ ذلك ذنبا ، واستغفر منه . اهـ .
وفي حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس توبوا إلى الله ، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة . رواه مسلم .
وفي رواية : إنْ كُنّا لَنَعُدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة : رب اغفر لي وتُبْ عليّ إنك أنت التواب الرحيم . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .
وفي حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة . رواه البخاري .(1/360)
فهذا ما يُعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد ، وفي يوم واحد ، وهو الذي غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر .
فكيف بنا نحن الذين نُخطئ بالليل والنهار ؟!
فهل قُلنا في سَنةٍ واحدة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد ؟ أو في يوم واحد ؟
وهل فَعَلْنَا في سَنَةٍ واحدة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ؟
ونحن الذين غرقنا في أوحال الخطايا
ونحن الذين تمادينا في العَصيان
ونحن الذين قصّرنا في جنب الله
فنحن أولى بِالاستغفار
فيا رب :
يارب إن عظمت ذنوبي كثرة = فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ
أدعوك ربي كما أمرت تضرعا = فإذا رددت يدي فمن ذا يَرحمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسن = فمن الذي يرجو المسيء المجرِمُ
مالي إليك وسيلة إلا الرّجا = وجميل عفوك ثم أني مُسلمُ
ويا رب :
قد أسأنا كل الإساءة فاللهم = صَفْحاً عنّا وغفرا وعفوا
البلد الأمين
الأحد 8 / 6 / 1425هـ .
88-ماذا يُحب الحبيب ؟
أكمل خلق الله هو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام .
فماذا كان صلى الله عليه وسلم يُحب ؟
لنحاول التعرّف على بعض ما يُحب لنحبّ ما أحب صلى الله عليه وسلم .
قال أنس رضي الله عنه : إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه قال أنس : فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام ، فقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً ومرقا فيه دباء وقديد ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة . قال : فلم أزل أحب الدباء من يومئذ . رواه البخاري ومسلم .
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً أحب الطِّيب والجنس اللطيف
قال عليه الصلاة والسلام : حُبب إليّ من الدنيا النساء والطيب ، وجُعلت قرة عيني في الصلاة . رواه الإمام أحمد والنسائي .
وحُبه صلى الله عليه وسلم للطيب معروف حتى إنه لا يردّ الطيب .
وكان لا يرد الطيب ، كما قاله أنس ، والحديث في صحيح البخاري .(1/361)
وكان يتطيّب لإحرامه ، وإذا حلّ من إحرامه ، كما حكته عنه عائشة رضي الله عنها ، والحديث في الصحيحين .
قالت عائشة رضي الله عنها : كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما أجد . رواه البخاري .
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً أحب الطيّبات والطيبين .
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة فقيل : من الرجال ؟ فقال : أبوها . قيل : ثم من ؟ قال : عمر بن الخطاب ، فعدّ رجالا .
فما كره الطيب أو النساء إلا منكوس الفطرة !
وما على العنبر الفوّاح من حرج = أن مات من شمِّه الزبّال والجُعلُ !!
وأحب صلى الله عليه وسلم الصلاة ، حتى إنه ليجد فيها راحة نفسه ، وقرّة عينه .
فقد كان عليه الصلاة والسلام يقول لبلال : يا بلال أرحنا بالصلاة . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
بل إن الكفار علموا بهذا الشعور فقالوا يوم قابلوا جيش النبي صلى الله عليه وسلم : إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد . رواه مسلم .
وشُرعت يومها صلاة الخوف .
فهذا الشعور بمحبة الصلاة علِم به حتى الكفار !
ومن أحب شيئا أكثر من ذِكره ، وعُرِف به .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل . رواه البخاري ومسلم .
وكان صلى الله عليه وسلم يحب الزبد والتمر . رواه أبو داود .
وما هذه إلا أمثلة لا يُراد بها الحصر .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه :
هل نجد الشعور الذي وجده أنس بن مالك رضي الله عنه الذي أحب ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً لمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه .
89-مواقف بطولية لشباب الأمّة..
....
كثيرة هي المواقف البطولية المشرقة التي سطّرها شباب أمة الإسلام
فكم سطّروا بدمائهم أسطر التاريخ ، وتسنّموا ذُرى المجد .
يرسمون لوحات البطولات ، ويُشيدون بناء المعالي .(1/362)
ينظرون إلى دمائهم وهي تسيل على أقدامهم ولسان حالهم :
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا = ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
نفلق هاماً من رجال أعزة = علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
يتخطّون الذرى سيرا نحو المعالي ، لا يُبالون بالمصاعب ولا بالمتاعب
يصدق فيهم قول القائل :
وتخطّى الذرى ونادى رويداً = أقبلي يا صعاب أو لا تكوني
فإليك – رعاك الله – مواقف بطولية
لم تخطّها يد قاصّ ، ولم تأتي من بُنيّات أفكار أديب
وإنما خطّتها يد الواقع ، وسطّرتها كف الحقيقة
إليك أول النماذج :
الأنموذج الأول :
ابن عمر رضي الله عنهما
صغير لم يطرّ شاربه ، ولم يبلغ الحُلُم بعد
يخرج في جيش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وعمره أربعة عشر عاماً ، فيُستصغر ! ثم يُردّ .
أما هو فلم يَستصغر نفسه ، ولم يحتقر جهده .
وهو الذي هاجر ولم يحتلم .
ثم أمضى حياته بين جهاد وتعلّم وتعليم .
ولمزيد من أخباره تُنظر سيرته هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/153.htm
الموقف الثاني :
رافع وسمرة
شابان من شباب الأنصار ، أُجيز أحدهما وأُخِّر الآخر ، فلم تطب نفسه أن يُؤخّر ويُقدّم صاحبه .
أجاز النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد رافع بن خديج رضي الله عنه وكان راميا ، وعُرض عليه سمرة فردّه ، فقال : لقد أجزت هذا ورددتني ، ولو صارعته لصرعته ! قال النبي صلى الله عليه وسلم : فدونكه فصارعه ، فصرعه سمرة ، فأجازه .
أما إنه لم يفرح أن يؤخّر عن شهود القتال
ولم ينزوي يوم أن ردّه النبي صلى الله عليه وسلم مُغتنماً الفرصة
بل تطلّع وتطاول بهمّته
فلِمَ يؤذن لِقرنه ولا يؤذن له ؟
الموقف الثالث :
المُعَاذان ؟(1/363)
قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : بينا أنا واقف في الصف يوم بدر ، فنظرت عن يميني وشمالي ، فإذا أنا بغلامين من الأنصار ، حديثة أسنانهما ، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما فقال : يا عمّ هل تعرف أبا جهل . قلت : نعم . ما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال : أُخبرت أنه يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل مِنّا ، فتعجبت لذلك ، فغمزني الآخر فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس ، قلت : ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني ، فابتدراه بسيفيهما ، فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه ، فقال : أيكما قتله ؟ قال كل واحد منهما : أنا قتلته ، فقال : هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا ، فنظر في السيفين ، فقال : كلاكما قتله . رواه البخاري ومسلم .
بينما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يُحدّث نفسه بما يُحدّثها به ، ويتمنّى أن لو كان بين أضلع وأقوى وأجلد منهما ، إذ فاجآه بالسؤال !
والسؤال عمّن ؟
عن عدو الله
عن أبي جهل
حيث بلغهما أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم
إيه معاذ بن عمرو بن الجموح
إيه معاذ بن عفراء
أين أنتما ممن تطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
وأين أنتما ممن سب سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ؟
إن أمتنا بحاجة إلى ( معاويذ ) !
الموقف الرابع :
عمير بن سعد أخو سعد بن أبي وقاص
عمير وما عمير ؟
شاب قصير البُنية طويل الهمة
صغير العمر كبير الهمّ
فلما رُدّ بكى
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش بدر ، فَرَدّ عمير بن أبي وقاص ، فبكى عمير ، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعقد عليه حمائل سيفه . رواه الحاكم وصححه .
لقد تطاول على أطراف قدميه ليبلغ مبلغ الرجال
وليقف مواقف الرجال
الموقف الخامس :
موقف مُعاصر(1/364)
قد يقول قائل كان ذلك عند أولئك
عند شباب تربّوا على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
عند أُناس ما فُتحت عليهم زهرة الدنيا وما افتتنوا بها
عند أقوام سوق الجهاد عندهم قائمة على قدم وساق
فأقول دعني أقتطع لك من ذاكرة الأيام الخالية
ودعنا نقف على أنموذج جديد
لشاب فريد
عاش حياة الترف والنعيم
عاش مُدللاً
ربما كان من أعطر شباب المدينة !
إنه لم يجتاز العشرين
ولكنه بهمّه وهمّته جاوز الثريا
إنه شفيق ولكنه بالعدو غير رفيق !
( أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ )
هو شفيق المدني رحمه الله وتقبله الله في عداد الشهداء
هو الشاب الذي نشأ على حياة التّرف
ولكنه طلّقها ، كما طلّق عليٌّ رضي الله عنه الدنيا
حيث أمضى خمس سنوات متنقلاً بين الجبهات
يقول من يعرفه : تراه زاهداً في الدنيا مُعرضا عنها
ربما لا يملك من الدنيا إلا لباساً واحداً تراه عليه كلما رأيته
فماذا كانت أمنيته ؟
وكيف كانت دعوته ؟
لقد كان يُردد :
اللهم لا تجعل لي على الأرض قبرا .
ولقد استجاب الله دعاءه حيث ردّ تقدّما لجيش العدو الشيوعي في أفغانستان
فرمى الدبابات بقذائف متتالية ثم رمته ، فوافق أنه وضع القذيفة في المدفع ، فاجتمع عليه قذيفة العدو وقذيفته ، فانفجرتا لتتحقق له أمنيته
فكانت أكبر قطعة من جسده بحجم الأنملتين .
سبحان الله
كم تتعب الأجساد وتُنهك إذا كبرت النفوس !
فرحمك الله يا شفيق .
وموقف أخير :
يُحدّث به أبو إسرائيل
يقول : شهدت شاباً لم يبلغ العشرين ، وهو يُقاتِل أعداء الله في أحد جبال أفغانستان
قال : فبينما هو يُقاتل ويردّ جحافلهم في أول النهار ، إذ أُصيب برصاصة في عضده ، فربط مكان الإصابة ، ولا زال يُقاتِل حتى غربت الشمس !
فلله درّه
ولا درّ درّ أعدائه
شباب ذللوا سبل المعالي = وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهدهم فأنبتهم نباتا = كريما طاب في الدنيا غصونا
هم وردوا الحياض مباركات = فسالت عندهم ماء معينا(1/365)
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة = يدكّون المعاقل والحصونا
و إن جن المساء فلا تراهم = من الإشفاق إلا ساجدينا
شباب لم تحطمه الليالي = و لم يُسلم إلى الخصم العرينا
و لم تشهدهم الأقداح يوما =وقد ملئوا نواديهم مجونا
و ما عرفوا الأغاني مائعات = و لكن العلا صيغت لحونا
يا رب هيئ لنا من مثلهم نفراً = يُشيّدون لنا مجداً أضعناه
يارب
90-مقتطفات من كتاب الفوائد لابن القيم..
كتب الأخ الفاضل صائد الفوائد :
مقتطفات من كتاب الفوائد لابن القيم
يا مخنَّثَ العزم أين أنت ، والطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورُمي في النار الخليل ، وأُضجع للذبح إسماعيل ' وبيع يوسف بثمن بخس ، ولبث في السجن بضع سنين ، ونُشر بالمنشار زكريا ، وذبح السيد الحصور يحيى ، وقاسى الضرَّ أيوب ، وزاد على المقداد بكاءُ داود ، وسار مع الوحش عيسى ، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم = تزها أنت باللهو واللعب 0
فيا دارها بالحزن إن مزارها *** قريبٌ ، ولكن دون ذلك أهوالُ
====
التقوى ثلاث مراتب :
إحداها : حميّة القلب والجوارح عن الآثام والمحارم 0
الثانية : حميّتها عن المكروهات 0
الثالثة : الحميّة عن الفضول وما لا يعني 0
فالأولى تعطي العبد حياته '
والثانية تفيده صحته وقوته ،
والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته0
====
الاجتماع بالإخوان قسمان :
أحدهما : اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت ، فهذا مضرَّته أرجح من منفعه ، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت 0
الثاني : الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر ' فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها ، ولكن فيه ثلاث آفات :
إحداها : تزّين بعضهم لبعض 0
الثانية : الكلام والخلطة أكثر من الحاجة0
الثالثة : أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود0(1/366)
وبالجملة ، فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمّارة وإما للقلب والنفس المطمئنة ، والنتيجة مستفادة من اللقاح ، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته ، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من المَلَك ، والخبيثة لقاحها من الشيطان ، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيّبين والطيّبين للطيّبات ، وعكس ذلك0
====
* غاب الهدهد عن سليمان عليه الصلاة والسلام ساعة فتوعده ، فيا من أطال الغيبة عن ربه هل أمنت غضبه .
* تخلف الثلاثة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة واحدة فجرى لهم ما سمعت فكيف بمن عمره في التخلف عنه .
* خالف موسى الخضر في طريق الصحبة ثلاث مرات فحل عقدة الوصال بيد ( هذا فراق بيتي وبينك ) أفما تخاف يا من لم يف لربه قط أن يقول في بعض زلاتك هذا فراق بيني وبينك
-----------------------------------------
فسأل الأخ عبد القدوس :
في الحقيقة لقد استفدت كثيرا من هذا الموضوع، ولكن في النفس شيء من هذه العبارة التي قالها الإمام ابن القيم بحق نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام (وناح لأجله نوح)
فهل النياحة في غير البكاء على الميت مقبولة؟
وهل حدث فعلا أن قام نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام بالنياحة لأجل هذا الدين؟
أتمنى أن تفيدنا حول هذه القضية أو إن كان باستطاعتك سؤال بعض أهل العلم وبارك الله فيك .
ثم اعترض عليه الأخ المداني :
إلى الأخ صائد الفوائد
أرجوا أن تقيد صيدك وتوثقه بقول أهل اللغة وإلا طار صيدك.
لم أجد في لسان العرب استعمال العرب لكلمة نوح في رفع الصوت مطلقا بل قيدت بما يكون في المناحة للحزن
قال أبو ذؤيب:
فهن عكوف كنوح الكريـ .......م قد شف أكبادهن الهوى
انظر لسان العرب لابن منظور ج2 - ص 627
ومع ذلك فإنني أشكر لك جهدك المتميز في موقعك وصيدك الماتع
ثم وصلتني رسالة من أحد الأخوة طالبا رأيي ومشاركتي في الموضوع
فكتبتُ :
أحبتي الكرام / إخواني الأفاضل
مادة ( ن و ح )
أعم من أن تكون مقصورة على النياحة .(1/367)
فأصل اشتقاق الكلمة من التّقابل– كما قال ابن منظور – : التَّناوُحُ: التَّقابُلُ ؛ ومنه تَناوُحُ الجبلين ، و تناوُحُ الرياح، ومنه سميت النساء النوائحُ نَوائِحَ، لأَن بعضهن يقابل بعضاً إِذا نُحْنَ، وكذلك الرياح إِذا تقابلت في المَهَبِّ لأَن بعضها يُناوِحُ بعضاً ويُناسِج .
و النَّوْحُ: النساء يجتمعن للحُزْن ، ولو لم يكن هناك رفع صوت .
وهي تُطلق على عدّة معاني منها :
الاشتداد ، ومنه يُقال :
الصوت المرتفع ، ومنه يُقال للرياح إذا اشتدّت هبوبها : ( تناوحت )
ويقال للذئب إذا عوى ( استناح )
كما يقال ( نوح الحَمام ) لما تُبديه الحمام من سجعها الذي يُشبه النّوح .
و تَنَوَّحَ الشيءُ تَنَوُّحاً إِذا تحرّك وهو مُتَدَلَ .
ذكر ذلك ابن منظور – رحمه الله – في لسان العرب ، وذكره غيره .
وقال ابن الأثير : نَاحَ العَظم يَنِيح نَيْحاً إذا صلب واشْتد .
ونوح عليه الصلاة والسلام قد اشتدّ في دعوة قومه ، فدعاهم ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا .
فعدد الأساليب ونوّع الأوقات ، ومع ذلك لم يزدهم ذلك نفورا .
ولعل تلك الكلمة من ابن القيم وردت من باب ترادف العبارات .
ثم هي محمولة على بكاء الأنبياء على أممهم .
وبكاء الأنبياء على أممهم فهذا ليس بأمر مستغرب ، وهو يُصوّر حرصهم صلى الله عليهم وسلم على أممهم .
وفي خبر الإسراء الطويل ، قال عليه الصلاة والسلام : فأتيت على موسى عليه السلام فسلمت عليه فقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما جاوزته ( بكى ) فنودي : ما يبكيك ؟ قال : رب هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي . رواه البخاري ومسلم .(1/368)
وبكى نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم لما تلا قول الله عز وجل في إبراهيم : ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ) وقال عيسى عليه السلام : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فرفع يديه وقال : اللهم أمتي أمتي ( وبكى ) فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك ، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم ، فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك . رواه مسلم .
وفي سؤال الأخ الفاضل عبد القدوس ملحظ صغير ، لعله - حفظه الله - يأذن لي فيه
وهو قوله : فهل النياحة في غير البكاء على الميت مقبولة ؟
وعليه يرد السؤال : وهل النياحة على الميّت أصلا مقبولة ؟
الجواب :
قال عليه الصلاة والسلام : الميتُ يعذَّبُ في قبره بما نِيح عليه . متفق عليه .
وروى مسلم عن عبد الله بن عمر أن حفصة بكت على عمر ، فقال عمر : مهلا يا بنية ! ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه .
وقال عليه الصلاة والسلام : أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة .
وقال النائحة : إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب . رواه مسلم .
وقال عمر رضي الله عنه : دعهن يبكين على أبي سليمان ( خالد بن الوليد ) ما لم يكن نقع أو لقلقة .
والنقع التراب على الرأس ، واللقلقة الصوت . رواه البخاري تعليقا .
فهذه النياحة المحرمة .
والله أعلم .
91-الْمَكَارِمُ مَنَوطَةٌ بالْمَكَارِهِ..
يظن بعض الناس أن السعادة أن يعيش الإنسان حياة صافية من كلّ كَدَر .
أوْ لا يُصادِفه مُنغِّصَات
أوْ لا تُصيبه مُصيبة
أوْ لا يتعرّض لِفتنَة
وهذه لا بُدّ منها فهي كالملْح في الطّعام !(1/369)
ثم إن طبيعة هذه الحياة الدنيا أنها طُبِعت على كَدَرٍ
جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تَرُومُها *** صفواً من الأقذار والأكدارِ
ومكلِّف الأيام ضِدّ طِباعِها *** مَتَطَلِّبٌ في الماء جذوة نارِ
وإذا رَجَوتَ المستحيل فإنما *** تَبْنِي الرّجاء على شفيرٍ هارِ
فهي لا تصفو لأحد ، ولا تدوم لِمخلوق .
سمع الْحَسَن البصري رجلاً يقول لآخر : لا أراك الله مكروهاً أبداً . فقال له : دَعَوتَ الله له بالموت ! فإن الدنيا لا تخلو عن المكروه !
وقد وصف الله حياة ابن آدم فقال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) فهو في مَشَقّةٍ ومُكابَدةٍ في دنياه ، كما قال بعض المفسِّرين .
إذاً .. ما هي الحياة الطيبة ؟
وكيف تُوجد السَّعادة ؟
اختلفت عبارات السَّلَف حول معنى الحياة الطيبة .
قال ابن عباس : هي الرزق الحلال .
وقال الحسن : هي القناعة .
وقال مُقاتل بن حيان : يعني العيش في الطاعة .
وقال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة .
وقال القاضي البيضاوي : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) في الدنيا يعيش عيشا طيباً ، فإنه إن كان مُوسِراً فظاهر ، وإن كان مُعْسِراً يَطيب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقّع الأجر العظيم . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : مَنِ أراد السعادة الأبدية فليلزم عَتَبَة العبودية .
وعلى كلٍّ هي :
حياةُ قلبٍ مؤمن بالله ، راضٍ بقضائه ، مُسْتَسْلِم لِحُكْمِه ، واثق بِوَعْدِه .
والحياة الطيبة ربما يعيشها المؤمن وهو لا يشعر بها ، وربما لا يَجِد لذّتها .
كيف ؟
ربما عاش المؤمن راحة البال ، ووجَد الأمن النّفسي ، لا يُزعجه المستقبل ، ولا يُقلقه ما في غدٍ .
الأمن النفسي من أعظم ما يَمنّ الله به على عبده المؤمن .
ولذا قال سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(1/370)
ليس فقط الأمن الاجتماعي في الأوطان ، بل حتى الأمن النفسي في نفوس المؤمنين .
وهذا يُفسِّر لنا سِرّ سعادة الكافر إذا أسلم ، إذ وَجَد ما كان يفتقده ، وعاش لذّة الطاعة ، وخالطت قلبه بشاشة الإيمان .
ويُظهر لنا بِجلاء كيف عاش بعض السّلف هذه السعادة في لحظة مقْتلِه !
قال حرام بن مِلحان رضي الله عنه لما طَعَنَه الكافر الغادر : فُزْتُ وربِّ الكعبة فكان الكافر الغادر يتساءل : أي فوز فازه وأنا قتلته ؟!
فالسعادة ليست في كأس وغانية !
وليست في مالٍ وجارية !
ولا في المراكب الفارِهة !
ولا في القصور العامِرة !
وإنما هي بطاعة الله جل جلاله .
ويُبين لنا هذا أن من العلماء من وُضِع في السّجن والقيد ، فما يزيد على أن يبتسم !
لقد كان يتذوّق طعم السعادة !
ويعتبر السجن خلوة !
والقيد وسام فخر !
يَرى الدنيا بعين مؤمن راضٍ بقضاء الله
يجِد حلاوة الإيمان في قلبه .. ولا سبيل للوصل إلى قلبه !
يُدفع بإمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل إلى السّجن ، فما يَردّه ذلك عن مبادئه
ولا يُزحزحه عن مواقفه
يُضرب بالسِّياط فما يشكو ولا يئِنّ
يَغتسل السّوط في جُرحه فيصدع بما يَكرهون .
لقد مَزَج مرارة الألم بحلاوة الإيمان فطَغَتْ حلاوة الإيمان ..
إن بعض الناس يشكو أنه لا يعيش الحياة الطيبة في حين أنه يعمل الأعمال الصالحة ، وهو أهنأ ما يكون في عيش وصحّة ، وأمن ورخاء .
وهذا ربما تُوجَد عنده صُورة العَمَل ، ولا تُوجد حقيقة العمل .
والفَرْق بينهما كما بين الثرى والثريّا
إن الرجلين ربما صَلَّيَا إلى جوار بعض ، وبينهما في صلاتهما كما بين المشرق والمغرب !
فَرَجُل قلبه يحوم حول العَرش يُسبِّح بِحَمْدِ ربِّه
وآخر يحوم حول القاذورات !
قال بعض السلف : إن هذه القلوب جَوّالة ؛ فمنها ما يَجُول حول العَرْش ، ومنها ما يَجُول حَول الْحُشّ " بيت الخلاء " .
فيا بُعد ما بينهما !
والله لا يستويان لا في الصلاة والأجر ، ولا في أثَرِهَا .(1/371)
فَمَن صلّى بقلبه نَهَتْه صلاته ، ورَفَعتْ درجاته ، وكفّرت سيئاته .
ومن صلّى بِبَدَنِه أجزأته !
فَمن تعلّق قلبه بالله ، ملأه الله غنىً ورضاً وطُمأنينة .
ومن تعلّق بغيره وُكِل إليه " تَعِسَ عَبْدُ الدينار و عَبْدُ الدرهم و عَبْدُ الخميصة " .
قال ابن القيم رحمه الله :
نَزِّه سماعك إن أردت سماع ذيّاك الغنا عن هذه الألحانِ
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا يا ذلة الحرمان
إن اختيارك للسماع النازل الأدنى على الأعلى من النقصان
والله إن سماعهم في القلب والإيمان مثل السمّ في الأبدان
والله ما انفكّ الذي هو دأبه أبداً من الإشراك بالرحمن
فالقلب بيت الرب جل جلاله حُبا وإخلاصا مع الإحسان
فإذا تعلّق بالسَّماع أصاره عبداً لكل فُلانة وفلان
حُبّ الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
ثَقُل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بشرائع الايمان
واللهو خفّ عليهم لما رأوا ما فيه من طرب ومن ألحان
قوت النفوس وإنما القرآن قوت القلب أنى يستوي القوتان ؟
وألَذّهُم فيه أقلّهم من العقل الصحيح فَسَلْ أخَا العرفان
يا لذّة الفساق لستِ كَلَذَّةِ الأبرار في عَقْلٍ ولا قرآنِ
فإن أردت المكارم فتحمّل المكارِه .
وإن أردت السعادة الأبدية فالزم عَتَبة العبودية .
والله يتولاك .
92-الغضب بين الشرع والطب..
أثنى الله عز وجل على الكاظمين الغيظ فقال في وصف المؤمنين الذين على ربهم يتوكّلون : ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) .
وتأمل كيف قال (هُمْ يَغْفِرُونَ ) بعد ذِكر الغضب ؟
ذلك أن الغضب يدفع على الانتقام والتعدّي ، فإذا غضب المؤمن لِحَظِّ نفسه تذكّر ما أعدّ الله له من الجزاء إذا عفا فيعفو ويغفر ويصفح .(1/372)
وقال سبحانه وتعالى في وصف المتقين : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
رُوي عن ميمون بن مهران أن جاريتَه جاءت ذاتَ يومٍ بِصَحْفَةٍ فيها مَرَقَة حارة وعنده أضياف فعثرَتْ فصبّتِ المرقةَ عليه ، فأراد ميمون أن يضربها .
فقالت الجارية : يا مولاي استعمل قولَ الله تعالى : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) قال لها : قَدْ فعلتُ ، فقالت : اعمل بما بعده : ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) فقال : قد عفوت عنك ، فقالت الجارية : ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) قال ميمون : قد أحسنت إليك ، فأنت حرَّةٌ لوجه الله تعالى .
وروي عن الأحنف بن قيس مثله . ذكره القرطبي في التفسير .
وفي فضل كظم الغيظ ، وامتلاك التّصرّف ، وضبط النفس ، جاءت الأحاديث النبوية
فمن ذلك :
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من جرعة أعظم أجرا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله . رواه الإمام أحمد وابن ماجه .
ولما كان الغضب يضرّ بصاحبه مع ما يتسبب به من أذية للآخرين فقد جاء الثناء على من ملَك نفسه وقهرها عند غلبة الغضب .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس الشديد بالصُّرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب . رواه البخاري ومسلم .
وقال : ما تعدون الصُّرعة فيكم ؟
قالوا : الذي لا يَصرعه الرجال .
قال : ليس بذلك ، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب . رواه مسلم .
ولذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني . قال : لا تغضب . فردّد مرارا . قال : لا تغضب . رواه البخاري .
والغضب مدخل من مداخل الشيطان على النفس(1/373)
قال سليمان بن صرد : كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان ، فأحدهما احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ذهب عنه ما يجد . فقالوا له : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تعوّذ بالله من الشيطان ، فقال : وهل بي جنون ؟! رواه البخاري ومسلم .
ليتأمل الإنسان نفسه حال الغضب
قال ابن ابن القيم رحمه الله : إذا خَرَجَتْ من عدوك لفظةَ سَفَهٍ فلا تُلْحِقها بمثلها تُلَقِّحْها ، ونَسْل الخصام نسل مذموم ! اهـ .
وقد حذر علماء الطب الألمان من أن الغضب يشكل خطرا على القلب ، مشيرين إلى أن أكثر الذين أصيبوا بأمراض في القلب كان " الغضب " أحد أسبابه الرئيسية .
وأعلن الأطباء في مؤتمر عقدوه يوم الثلاثاء الموافق 16-4-2002م في العاصمة الألمانية برلين أن أكثر الذين توفُّوا بجلطة قلبية كان " الغضب " وخيبة الأمل أحد أسباب الوفاة الرئيسية، إذ أن الغضب يعمل إما على تقوية سرعة القلب بحيث تخرج عن السيطرة أو إبطاء نبضاته ليُصبح من الصعب إعادته إلى حالته الأولى .
وأشار عالم الطب من المستشفى الجامعي فى مدينة بون " بيتر فاجلر " في محاضرته إلى أن إجراء عملية تبريد القلب يمكن أن تساعد صاحبه على المضي في الحياة بإذن الله إذا ما توفرت العناية به ، مشيرا إلى أن المستشفى الجامعي قام بإجراء بحوث حول عملية التبريد شملت حوالي 275 مريضا وُضعوا في غرفة عناية فائقة لمدة 24 ساعة مجهزة بمكيف هواء بارد يناسب جسم المريض ، على أن تكون حرارة جسمه الداخلي ما بين 32 و 34 درجة مئوية .
وأكد على ضرورة أن يبعد عن المريض الثقلاء من الزوار ! موضِّحا أن نسبة التجارب الناجحة على مرضى القلب بعملية التبريد وصلت إلى 41% من الذين يعانون من أمراض قلبية مختلفة .(1/374)
ليُعلم أن دِين الله عز وجل هو الدِّين الكامل الشامل لجميع نواحي الحياة ، فما مِن خير إلا دلّ عليه ، وما مِن شرّ إلا حذّر منه .
والله يحفظكم .
93-العافية لا يَعْدِلُها شيء..
منذ فترة ليست بالقصيرة والخواطر تتواردني أن أكتب حول قول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : سلوا الله العافية .
وقوله عليه الصلاة والسلام : أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية . رواه البخاري ومسلم .
بل عدّ النبي عليه الصلاة والسلام العافية أفضل ما أُعطِيَ العبد ، فقال : سلوا الله العافية فإنه لم يعط عبد شيئا أفضل من العافية . رواه الإمام أحمد وغيره .
وكُنت أقف حيناً مُتأمِّلاً ، وأحياناً مُعتبِراً ، وحينا ثالثاً مُتسائلاً :
لماذا العافية وحدها ؟
وأين تكون العافية ؟
العافية .. عافية في الجسد .. وعافية في الولد .. وعافية في المال .. وفوق ذلك كلّه : العافية في الدِّين .
عافية الجسد .. وأنت تمشي على الأرض ولك وئيد ! وصوت شديد !
بَزَقَ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في كَفِّه فوضع عليها إصبعه ، ثم قال : قال الله : ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدق ! وأنّى أوَان الصَّدَقة . رواه الإمام أحمد .
عافية الجسد .. وأنت تنظر للبعيد
عافية الجسد .. وأنت تسمع للهمس
عافية الجسد .. وأنت تنام ملء عينيك
عافية الجسد .. وأنت تقوم وتقعد
عافية الجسد .. وأنت تتنفّس
عافية الجسد .. وأنت تنطق وتتكلّم وتُعبِّر عما تُريد
هنا .. تذكّرت موقفين :
أما الأول : فهو لشيخ كفيف .. دُعِي إلى تخريج حَفَظة لكتاب الله .. فألقى كلمته ، ثم قال كلِمة ..
قال : ما تمنّيت أني أُبصِر إلا مرتين :(1/375)
مرّة حينما سمعت قول الله تبارك وتعالى : ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) لنظُر إليها نَظَر اعتبار ..
وهذه مرّة ثانية لأرى هؤلاء الحَفَظَة ..
يقول مُحدِّثي وقد حضر المشهد : لقد أبكى الجميع ..
هل تأملت هذا المشهد لرجل أعمى يتمنّى نعمة البصر لينظر فيها في موقفين فقط ؟
وأما الموقف الثاني : فهو لشاب أصمّ أبكم .. خَرَج يوماً مع بعض أصحابه ، وكان منهم من يُتقِن لُغة الإشارة فيُترجم له ..
وفي الطريق مرُّوا بمجموعة من الشباب اجتمعوا على لهو وغناء وطرب .. وقف الشباب بِصُحبة الأصمّ .. ترجَّلُوا من سيارتهم .. استأذنوا ثم جَلَسوا ..
تكلّموا .. تحدّثوا .. ذكّروا .. وعَظُوا .. انتهى الكلام .. همُّوا بالانصراف .. أشار إليهم الأصمّ أن انتظروا قليلاً ..
أشار إلى صاحبه المترجم أن يُترجم ..
تحدّث الأصمّ بلغة الإشارة .. ثم تَرجَم صاحبه ..
لقد قال لهم : أتمنّى أن لي لساناً ينطق .. لأذْكُر الله به ..
لقد وَقَعتْ كلماته على قلوب الجالسين ..
وأثّرت فيهم حتى لامَسَتْ شِغاف قلوبهم ..
رغم أنه لم يتكلّم ..
ومع أنه لم ينطق ..
إلا أن كلماته كان لها وقعها على نفوس الحاضرين .
أما عافية الولد .. ففي صلاح قلبِه وقالبه
وفي استقامته وهدايته ..
وفي أن تُمتّع به ..
حتى إذا شبّ وترعرع تمنّيت أن تَدْفَع عنه بالراحتين وباليَدِ ..
كما قال أبو الحسن التهامي في ابنه :
لو كنتَ تُمنَع خاض دونك فتية = مِنّا بحار عوامل وشِفَارِ
فَدَحَوا فُويق الأرض أرضاً من دَم = ثم انثنوا فَبَنَوا سَمَاء غُبارِ
فإذا نَزَل القضاء ضاق الفضاء ..
وأما العافية في المال ففي بركته .. وفي نمائه .. وفي أن يكون مصدره حلالاً ، ومصرفه حلالاً ..
وأن يُحفَظ من كل آفة ..
وأما العافية التي هي فوق كل عافية .. فعافية الدِّين ..
العافية في الإيمان .
العافية في الثبات على دين الله عزّ وجلّ .
العافية في اليقين .(1/376)
العافية في السلامة من الوسواس .
العافية في القلب من كل شُبهة وشهوة ، فيكون كالمرآة الصقيلة لا يضرّها ما مرّ على ظاهرها .
العافية في العلم والخشية .
لذا كان يُقال : من عُوفِي فليحمد الله .
تواردت هذه المعاني في خاطري حينما دَخَلت قسم الإسعاف والطوارئ بأحد المستشفيات
فهذا يئنّ .. وذاك يصرخ من شِدّة الألم
وثالث في غيبوبة
ورابع قد شُجّ وجهه
وخامس ينزف جُرحه
فعلمت عِلم يقين .. أن العافية والسلامة لا يَعدِلهما شيء ..
وفي الأثر : إذا مرض العبد ثم عُوفي فلم يزدد خيرا ، قالت الملائكة عليهم السلام : هذا الذي داويناه فلم ينفعه الدواء !
فاللهم لك الحمد على العافية ..
ولك الحمد على كل نعمة أنعمتَ بها علينا في قديم أو حديث ، أو خاصة أو عامة ، أو سرٍّ أو علانية ..
اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرِّضا ..
لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ..
لك الحمد على العافية .. ونسألك العافية في الدنيا والآخرة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه حين يمسي وحين يصبح :
اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن روعاتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ومن يميني وعن شمالي ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي . رواه الإمام أحمد وابو داود وابن ماجه .
حفر الباطن - ليلة عيد الأضحى 1425 هـ
94-احْمِلْ عَنِّي ذنباً ..
أخي :
هل أثقل كاهلك يوما حمل متاع أو غيره ؟
هل أتعبك حمل بعض مشترياتك فرغبت أن يَحمِل عنك عامِل ؟
أختي :
هل حَمَلْتِ طفلكِ فأتعبك حَمْلُه ؟
أو أثقل كاهلك ، فتمنّيتِ أن يُحمَل عنكِ ؟
ربما نجِد من يحمِل عنّا أمتعتنا(1/377)
وربما نجد من يحمل عنّا أطفالنا
أو مَنْ يتبرع فيُعيننا
لكن هل فكّرت بذلك الْحِمل الثقيل ؟!
وأي حِمل هو ؟
حِمْل لا يُحمَل عنك
وعبء لا ينوء به غيرك
وثِقل لا يتحمّله أحد سواك
أرأيت دُعاة الضلالة ، وأئمة الفجور ؟
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)
وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء !
بل سيحملون خطاياهم وأوزارهم ، ومثل أوزار الذين أضلّوهم (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)
هكذا هي الأوزار خفيفة في الدنيا ، كَخِفّةِ عقول أصحابها !
ذلك أنه لا ينهمك في الخطايا إلا ضعيف عقل لا ينظر إلى العاقبة ببصيرة
قال الزجاج : العاقل مَنْ عَمِلَ بما أوجب الله عليه ، فمن لم يعمل فهو جاهل !
وقال الحسن البصري : والله لقد رأيناهم صورا ولا عقول ! أجساما ولا أحلام ! فراش نار ، وذبان طمع ! يغدون بدرهمين ، ويروحون بدرهمين ، يبيع أحدهم دينه بثمن العَنْز !
وقد وَصَف النبي صلى الله عليه وسلم الذين يأتون في آخر الزمان يَتَسَافَدُون في الطُّرُقات ، فقال عليه الصلاة والسلام : ويبقى شرار الناس يَتَهَارَجُون فيها تهارُج الْحُمُر ، فعليهم تقوم الساعة . رواه مسلم .
وفي أخبار آخر الزمان ، قال عليه الصلاة والسلام : فيبقَى شِرار الناس في خِفّة الطَّير ، وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ، ولا يُنكِرون منكرا . رواه مسلم .
ومع أن هذه الأوزار خفيفة في الدنيا فهي ثقيلة في الآخرة
ولذا قال عليه الصلاة والسلام حين سمِع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال :
يُعذّبان وما يعذبان في كبير ، ثم قال : بلى . رواه البخاري ومسلم .
بلى إنه لكبير ، وإن لم يكن كبيرا في أعين الناس .(1/378)
فالوِزْر كبير في الميزان يوم القيامة
ثقيل حمله حتى إنه ليُثقل كاهِل صاحبه
فمن له طاقة بِحَمْل ذنوب الناس ؟
ومن له قُدرة على تحمّل أوزار الآخَرين ؟
إن من يحمل همّ الدعوة إلى السفور سوف يحمل أوزار من أضلّ وآثام من أغوى
ومن تَدْعُو غيرها بأفعالها السيئة سوف تحمل وزر من جرّأتها على ذلك
ومن يُسمع غيره الأغاني والموسيقى سوف يحمل مع وِزْرِه أوزاراً
ومن يُضيِّف جليسه سيجارة فسوف يحمِل مثل إثمه
ومن يُهوّن المعصية في نظر غيره فسوف يحمِل مثل وزْرِه
وفي عالم الشبكات والمواقع :
من يسمح بنشر الأفكار السيئة أو الصور الفاضحة بل عموم صور ذوات الأرواح سوف يحمل أوزار من أعانهم ومن أضلّهم .
ومن يَجْعَل في موقعه قسما أو أقساماً للموسيقى والغناء والطّرب فسوف يحمل أوزار كل من استمع إلى ما حرّم الله في مشارق الأرض ومغاربها .
ومن يضع في توقيعه الصور الفاضحة فسوف يحمل وزر من نظر إليها .
ومن ينشر صور النساء فسوف يحمل وزر غيره إلى وِزره .
فهل له طاقة بذلك ؟
بل هل طاقة بِحَمْل ذنوبه هو فضلا عن ذنوب الآخرين ؟
فلنكن على حذر من كل دعوة إلى الباطل أو إعانة عليه
* وقفة
أعجبني صاحب دُكّان يبيع المواد الغذائية ، ومَنَع بيع السجائر ، فلاحظت أثر التدخين على شفتيه ، فاستأذنته ثم سألته : لماذا لا تبيع السجائر ؟
قال : لأني أُدخِّن !
قلت : هذا ما دعاني لسؤالك !
قال : لأني من أعرف الناس بضرره ، فلا أريد أن أضرّ غيري من جهة ، ومن جهة أخرى لا أريد أن أحمل ذنب غيري .. يكفي ما أنا فيه !
فأكبرت فيه عقله ، وأعجبتني نظرته الفاحِصة ..
لفتة :
دخلت عَزّة كثير على أم البنين أخت عمر بن عبدالعزيز ، فقالت لها : ما سبب قول كثير :
قضى كل ذي دين علمت غريمه = وعَزّة ممطول معنى غريمها
قالت : كنتُ وعَدْتُّه قُبلة فتحرّجت منها .
فقالت أم البنين : أنجزيها وعليّ إثمها .
فندِمَت أم البنين على قولها هذا فأعتقتْ لكلمتها هذه سبعين رقبة .(1/379)
فهل قلت بلسان الحال أو المقال لصاحبك : افعل وعليّ إثمها ؟!
95-إضاءات للدعاة والداعيات ..
• إذا بلغ بك الجهد مبلغه فتذكّر خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف ، وما قُوبِل به عليه الصلاة والسلام في الطائف من سَفَهٍ ثم رجوعه إلى مكة ومبيته بوادي نخلة ، وكلّ ذلك كان وحيداً راجلاً .
• وإذا طالك الأذى من الأقربين ، فاقرأ : (تَبَّتْ يَدَا) يهون عندك كل أذى .
• وإذا أُوذِيت في الله فتذكّر ( سلا الجزور ) حينما وُضِع على أشرف وأطهر كَتِف .
حتى على كتفيك الطاهرين رَمَوا *** سلا الجزور بكفِّ المشركِ القزمِ
• إذا آذاك السفهاء ، فتذكّر (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) .
• ولو أدموا عقبيك في طريق الدعوة فتذكّر رد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما أدموا عقبيه فقال :
• ولو سال الدم على وجهك فتذكّر قوله وهو يمسح الدم عن وجهه : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
• وإن طالك الأذى فاقرأ : (وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا)
• تذكّر أن موسى خرج خائفاً يترقّب ، وفي اللوح المحفوظ أنه نبيّ
قال ابن عباس : لقد قال موسى رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد كان افتقر إلى شِقِّ تَمْرة ولقد أصابه الجوع حتى لزق بطنه بظهره .
• إذا ادلهمّت الخطوب ، وضاقت بك السُّبُل ، ولم تَرَ لانبلاج الصبح وجهاً ، فتذكّر يونس بن متى عليه الصلاة والسلام إذ نادى في الظلمات (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)
• وإذا أوذِيت فتأمل قول سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام : لقد أوذِيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أُخِفْتُ في الله وما يَخَاف أحد ، ولقد أتت عليّ ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما وَارَاه إبط بلال .
• إذا أتاك الأذى ممن شاركوك الطريق فتذكّر قول أبي الحسن عليّ رضي الله عنه : إلى الله أشكو عُجَرِي وبُجَرِي .(1/380)
قال الشعبي : رأى عليٌّ طلحة في وادٍ مُلقى ، فنزل فمسح التراب عن وجهه ، وقال : عزيز عليَّ أبا محمد بأن أراك مُجدلا في الأودية تحت نجوم السماء ، إلى الله أشكو عجري وبجري . قال الأصمعي : معناه سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي .
• وإذا ضاقت بك الأرض بما رحُبت ، فتذكّر الثلاثة الذين خُلِّفوا ، وقد هُجِروا قرابة خمسين ليلة ، فلا أحد يُكلّمهم ، وقد اعتزلهم الناس حتى قال كعب بن مالك رضي الله عنه : فاجتنبنا الناس ، وتغيَّروا لنا حتى تَنَكّرَتْ لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة .
• إذا رأيت غَلَبَة الباطل ، فتذكّر : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)
فهذا مثل ضَرَبَه رب العزّة سبحانه وتعالى فقال في آخر الآية (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) والأمثال لا يفهمها ولا يَعِيَها كل أحد (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) .
وتذكّر قول الْمُحَدَّث الْمُلْهَم عمر رضي الله عنه : اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة .
• إذا رأيت صولة الباطل ، وانتفاشة النفاق ، فتذكّر أن ألدّ أعداء الدعوة وقفوا صاغرين بين يدي من عادَوه وآذوه ، فقال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء !
فصولة الباطل ساعة ، ودولة الحق إلى قيام الساعة .
فلا تحزن .
96-إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه..
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :رأى عيسى ابن مريم رجلا يسرق ، فقال له : أسرقت ؟
قال : كلا والله الذي لا إله إلا هو !
فقال عيسى : آمنت بالله ، وكذّبت عيني .
لقد حسُن فعل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فحسُن ظنّه بالناس ، مما حَدا به أن يُكذّب نفسه ، ويتأوّل ما رأته عينه طالما أن المقابِل حلف له بالله الذي لا إله إلا هو أنه لم يسرق !(1/381)
" كان الله سبحانه وتعالى في قلب المسيح عليه السلام أجلّ وأعظم من أن يَحلف به أحد كاذبا ، فلما حَلَفَ له السارق دار الأمر بين تُهمتِه وتُهمة بَصَرِه فَرَدّ التهمة إلى بصره لما اجْتَهَدَ له في اليمين ، كما ظنّ آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له بالله عز وجل وقال : ما ظننت أحدا يحلف بالله تعالى كاذبا " قاله ابن القيم رحمه الله .
فـ " المؤمن غِرّ كريم ، والفاجر خب لئيم " كما قال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
وكان بعض أهل العلم يقول : من خادعنا بالله خَدَعَنا .
فالمؤمن الصادق إذا حُلِف له بالله صدّق ؛ لأن الصدق له سجيّه .
فهو لا يَكذِب ولا يُكذِّب .
بينما المخادِع المخاتِل الذي اعتاد أن يحلف على الكذب مِراراً وتِكراراً لا يُصدِّق مَن حَلَفَ له لأنه اعتاد الحلف كاذباً ! فيظنّ أن الناس – مثله – كَذَبَة !
وهذا كان دأب المنافقين وديدنهم ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ )
ويُكرِّرون الحلف ( يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )
بل لم يزل بهم الأمر حتى توهّموا كذبهم صدقا ، وباطلهم حقّاً ، فلما وقفوا بين يدي الله حلفوا له !
( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) !
وقد يلجأ المؤمن إلى الحلف ليطمئن قلب صاحبه .
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك قال - وهو جالس في القوم - : ما فعل كعب ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه بُرداه ونظره في عِطفيه ! فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلتَ ! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/382)
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلّفه عن غزوة تبوك : والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بِعُذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسخطك عليّ ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله ، لا والله ما كان لي من عذر . رواه البخاري ومسلم .
ولما أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بِشَراب فشَرِب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ ، فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال الغلام : والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا ! قال : فَتَلّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده . رواه البخاري ومسلم .
وقد جاء التأكيد باليمين في الكتاب العزيز ، فقال سبحانه وتعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
وقال تبارك وتعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ )
وما ذلك إلا لأن اليمين قاطعة للشكّ ، مثبتة لليقين .
وأما المنافق فقد يحلف ليتخلّص من الموقف !
قال عز وجل عن المنافقين :
( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا )
[ كان هذا المقال إثر يمين سمعتها فارتحت لها وأزاحت ما نفسي من شكّ ]
97-أهذا سَمْتُ مُسْلِمة حَصَانٍ ؟!
في البلد الأمين يجب أن تُعظّم شعائر الله وحُرُماته أكثر من أي مكان آخر ، إذ تعظُم فيه السيئات ، وتُضاعف فيه الحسنات .
غير أن الناظر بِعَيْن بَصَرِه وبصيرته ليرى من أحوال فِئام من الناس عَجَبا !
إذ يرى التهاون في شعائر الله ، والتفريط في حُرُماته .(1/383)
فَتَعْجَب ويطول العَجَب حينما ترى مُسلمة جاءت إلى تلك البقاع الطاهرة المبارَكة ، وتَجْزِم أنها ما جاءت للسياحة ولا للفُرْجَة ، وإنما جاءت للطاعة والقُرْبَة .
ولكنك ترى من المظاهر ما يتناقض مع هذا المقصِد
بل يتناقض معه تناقضا صريحاً صارخا
فترى من الملابس النسائية ما يتنافى مع الحشمة
ويصطدم مع الأخلاق
ويُنافِي الذَّوق
فضلا عن مخالفته لصريح الكتاب الرّباني والسنة النبوية
فترى لباساً شفافاً يحتاج إلى لباس آخر يستره
فكم من عباءة تحتاج إلى عباءة أخرى تسترها !
وثياباً ضيّقة تحتاج إلى ثياب أخرى فضفاضة واسعة
وأصوات عالية
وضحكات بل وقهقهات
وكأن لسان الحال : يا غريب لا تكن أديباً !!
ربما هانَ اللباس على صاحبته
وربما رخُصت الحشمة على المحتشمة
أو قلّت قيمة الحياء
أو زهدت في العفاف
ولكن أن يكون هذا في البلد الأمين
وبِقُرْبِ بيت رب العالمين
وفي الْحَرَم فهذا الذي لا يُستساغ أبداً
أرى ألبسة غريبة أو غربية لا تمتّ إلى دِينٍ ولا إلى خُلُق
يُراد منها نزع الحياء ، ووأد العفاف ، ونَبْذ الفضيلة
حينما أشاهد تلك الملابس أتساءل :
أهذا سَمْتُ مُسلمة حَصَانٍ ؟ = وسَمْتُ المسلمات هُدىً ودِينُ
وأبْدَتْ زينة خُلِقت لِبَعلٍ = ولم تُخلَق لِتَقْحَمَها العيونُ
حينها تذكرت قصة طريفة ..
مَفادُها أن مسلما جاء من أوربا إلى مكة – شرّفها الله وحرسها – فرأى يوما سارقاً تقتاده الشّرطة في الحرم ، فتساءل عن ذنب هذا الذي قُبِض عليه ، فقيل له : سارق ! فتعجّب : سارق وفي الْحَرَم ! فما كان من هذا المسلم الذي جاء من أقصى الأرض إلا أن تبِع هذا السارق حتى أُدخِل مكتبا للأمن ، فاستأذن للدخول فأُذِن له ، ثم استأذن أن يُكلِّم هذا السارق ، فأُذِن له ، فقال للسَّارِق : الناس تُذنِب في بلادها ثم تأتي تتوب وتغسل الذنوب هنا .. وأنت تّذنب في الْحَرَم ، فأين سوف تتوب ؟!(1/384)
فيا مسلمة جاءت إلى البلد الأمين ، وطافت بالبيت العتيق ، وسارت في إثر مسير المسلمة الصابرة الصادقة ( أم أسماعيل ) بل وطافت حيث طاف الأنبياء ..
هلاّ استشعرتِ أنك في أعظم بلد ؟
وأنك في أطهر بقعة ؟
وفي أقْدس مكان ؟
فإن لم ثَمّة تعظيم لشعائر الله وحُرُماته في هذا البلد فأين يكون ؟؟؟
وإن لم يكن حياء من الله بجوار بيته فأين يكون الحياء منه سبحانه وتعالى ؟؟؟
رُحماك ربنا ..
98-أشعل الشمعة بقدر الظلام..
عندما يكون لديك عشر شمعات ، ومطلوب منك أن تقتصد ، لتكفيك هذه الشموع لمدة شهر ، فإنك لن تُشعل شمعة إلا عند الحاجة
كما أنك سوف تُطفئها فور انتهائك من عملك أو انقضاء حاجتك
فماذا لو لم يكن عندك إلا شمعة واحدة ، ومطلوب منك أن تكتفي بها شهراً ؟!
كيف يكون اقتصادك فيها ؟
إن مُشكلة الداعي إلى الله - أحياناً - أنه كالشمعة يعمل لِيُضيء الطريق للآخرين
فيحترق هو ويُحرِق نفسه لِيُسعد الناس
ويشق عليه أن يرى جموع الناس تائهة
أو يراهم شُغلوا عما من أجله وُجِدوا
فتذوب نفسه كَمَداً كما يذوب الشمع
ألم يقُل الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم :
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) ؟
قال ابن كثير : باخع : أي مُهلِك نفسك بِحُزْنِك عليهم .
وقال البغوي : (أَسَفًا) أي حُزنا ، وقيل : غضبا .
ألم يقُل الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)
ألم يقُل له : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) ؟
فهذه إشارة إلى من ضل سواء السبيل
أو رأى أن القبيح هو الْحَسَن
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
لا تتحسّر عليهم(1/385)
فـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
ويضيق صدر الداعية حينما يصطدم بإعراض المعرِضين
أو يَسْمَع كلام المخالِفين
أو يُواجَه بما يَكرَه
أو يُقابَل إحسانه بالإساءة
وقد قيل لإمام الْهُداة ، وقائد الدّعاة
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)
فهذه حلول عمليّة :
أولها : ذِكر الله ، لأنه يجلو القلب ، ويسبح في الذِّكْرِ والفِكر .
ثانيها : الفَزَع إلى الصلاة ، فقد كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يمثل ذلك ، فكان إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة .
بل كان يجِد راحة نفسه ، وقُرّة عينه فيها
وما ذلك إلا لأن الصلاة من أعظم ما يُعين على الثبات
وثالثها : أعظم وسائل الثبات : دوام الطاعة
ولذا كانت شِدّة الثبات على دِين الله في امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وفعل الطاعات
تأمّل :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)
فيا من اخترت طريق الأنبياء لك طريقا
وجَعَلْتَ سبيل المؤمنين لك سبيلا
صبراً في مجال الدعوة
صبراً في طريق الجنة
فإن الله وعد - ووعده الحق -
وقال - وقولُه الصّدق -
(تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )(1/386)
وقال الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بعد أن قصّ عليه خبر نوح مع قومه وما لاقاه منهم :
(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )
والصبر هو زاد الداعية إلى الله
ولذا ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
أيها الداعي
أتريد الجنة دون مشقّة ؟
أنسيت أن الجنة حُفّت بالمكارِه ؟
أيها الداعي قل لنفسك :
تُريدين لقيان المعالي رخيصة *** ولا بدّ دون الشهد من إبر النحل
سُئل بعض الرُّهبان : متى يجد العبد طعم الراحة ؟
قال : عند أول قدم يضعها في الجنة .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله .
إن أعجب فعجبي من صبرِ أُناس لا يرجون الله والدار الآخرة
يتحمّلون المشاقّ
ويَركبون الصِّعاب
ويُخاطِرون بأنفسهم
بل يتركون أهلهم وأولادهم
وهم على الباطل مُقيمون
وفي الغيّ سادِرُون
وفي الضلال مُنغمسون
رأيت مُنصِّراً أقام في بلد إسلامي أكثر من عشرين سنة !
ولم يَجْنِ ثمرة
وهو مع ذلك صابِر !
فلو كان يرجو لقاء الله لَقُلْتُ : صبر لأجل ذلك
ولو جنى ثمرة جهده لقلتُ : وَجَد حلاوة عملِه
غير أنه لا هذا ولا ذاك !
ورأيت عجوزاً نصرانية .. قَطَعت الفيافي والقفار
وواصَلَت الليل بالنهار
وتَرَكَت الأهل والديار
رأيتها في ظهر شاحنة لا يَصمد فيها الرِّجال !
وهي صابرة
فلو كان ذلك في بلادها لما عَجِبتُ
ولو كان في بلد آمن لما اندهشتُ
ولكنها في بلد فقير مَخُوف
تتحمّل المشاقّ
وتتعرّض للأخطار
ولم يكن ذلك في سبيل الواحد القهّار
فكيف بمن يرجو الله والدار الآخرة ؟
أليس بالصبر أولى ؟
وبالْمُصَابَرَة أحرى ؟
الرياض
فجر الثلاثاء - 28/8/1425هـ
99-أذاتُ زوج ... إذاً هلمّي إلى أبواب الجنة الثمانية !
الزوج والزوجة يمضيان في رحلة العُمر
يستظل أحدهما بصاحبه
يستمد ارتفاع معنوياته من صاحبه(1/387)
بل إن كلاًّ منهما لباس لصاحبه
(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن : يعني هُنّ سكن لكم ، وأنتم سكن لهنّ .
وقال الربيع بن أنس : هنّ لِحَاف لكم ، وأنتم لحاف لهن .
قال ابن كثير : وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسّه ويضاجعه .
أنتما في رحلة العُمرِ معاً تبنيان العشّ كالروض الأنيق
فرحلة العُمر عبر الحياة الزوجية هي رحلة تكامل وتعاون ومحبة ، وليست رحلة خِلاف وشِجار ونُفرة .
إن بعض الأزواج ربما نظر إلى الحياة الزوجية على أنها سُلطة وسيطرة ، وأنه الآمر الناهي فيها ، وأنه لا يجوز أن يُراجَع في أمر من أمور البيت !
قال عمر رضي الله عنه : والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل ، وقسم لهن ما قسم . قال : فبينا أنا في أمر أتأمَّرُه ، إذ قالت امرأتي : لو صنعتَ كذا وكذا .
قال : فقلت لها : ما لك ولما ها هنا ، فيما تكلُّفك في أمر أريده ؟!
فقالت لي : عجبا لك يا ابن الخطاب ! ما تُريد أن تُراجَع أنت ، وإن ابنتك لتُراجِع رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم حتى يَظلّ يومه غضبان .
فقام عمر ، فأخذ رداءه مكانه حتى دخل على حفصة ، فقال لها : يا بنية إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة : والله إنا لنراجعه .
قال عمر : فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله صلى الله عليه على آله وسلم . يا بُنية لا تغرنّك هذه التي أعجبها حسنها وحبّ رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم إياها - يُريد عائشة -
قال : ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها ، فكلمتها .(1/388)
فقالت أم سلمة : عجبا لك يا ابن الخطاب ! دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم وأزواجه ، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد ، فَخَرَجتُ من عندها ... الحديث . رواه البخاري ومسلم .
فهذا عمر رضي الله عنه مع شدّته في الحق تردّه امرأة ، وتثنيه عن بعض ما كان يُريد ، وعن بعض ما كان يجد .
ولو كانت مراجعة المرأة لزوجها في أمر من أموره لا تجوز لنهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم .
ولا أعني التمرّد على الزوج فإن بين الأمرين بوناً شاسعا
لا هذا ولا ذاك
لا مراجعة بجفاء فتُصبح مرادّة وليست مراجعة
ولا نفيٌ وانتفاء للرأي
بل وسط بين هذا وذاك
مُراجعة مع مراعاة حدود الأدب
فأنتما في رِحلة العُمر معاً
كما أن بعض الزوجات تأخذ الحياة الزوجية على أنها مُغالَبة !
فتتصوّر أن الحياة الزوجية إما غالِب وإما مغلوب !
وكلا طرفي قصد الأمور ذميم .
فإن الحياة الزوجية ليست حَلَبة مُصارَعة ، ولا ميدان مسابقة !
ليست مجال انتصار فريق على آخر
بل هي رحلة تكامل
فكما يُذكّر الرجل بأن للمرأة الحقّ في مراجعة زوجها في حدود الأدب
كذلك تُذكّر المرأة بعِظم حقّ الزوج ، وقد سبقت الإشارة إليه .
إلا أن المرأة تُذكّر أيضا بأن زوجها هو جنتها وهو نارها
فإن هي أطاعته في حدود طاعة الله ، وحفظته في نفسها وماله حفظها الله في الدنيا والآخرة
بل ووقفت إلى جوار أبي بكر الصِّدِّيق السابق إلى كل خير
تقف إلى جواره ، لتنال هذه الخاصِّيَّة التي نالها أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه .(1/389)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنفق زوجين في سبيل الله نُودي في الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دُعِي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دُعِي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دُعِي من باب الريان . قال أبو بكر الصِّدِّيق : يا رسول الله ما على أحدٍ يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة ، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، وأرجو أن تكون منهم . رواه البخاري ومسلم .
وقد عدّ العلماء هذا من خصائص أبي بكر رضي الله عنه
والمرأة الصالحة المطيعة لزوجها تنال هذه الخاصيّة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا صلت المرأة خَمْسَها ، وصَامَتْ شهرها ، وحَفِظَتْ فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها : أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت . رواه الإمام أحمد .
يا له من فضل !
ويا لها من خاصية
أن تُصلي المرأة خمس صلوات في اليوم والليلة ، وتصوم شهر رمضان ، وتُطيع زوجها فتُنادى بما يُنادى به الصِّدِّيق رضي الله عنه " أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت " .
فأين دُعاة التمرّد والرذيلة حينما يُنادون المرأة لتتمرّد على زوجها ؟!
بل قد دعوها للتمرّد على خالقها ، فلا غرابة من هذه الدعوة !
فأنت أيتها الفاضلة بين خيارين :
1 - أن تُطيعي زوجك فتُنادين : " أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت " .
2 - أو تُطيعي دُعاة الرذيلة ، وتتبعين هوى نفسك فتخسرين هذا الفضل العظيم .
بل إن الزوج هو بوابة الجنة لزوجته ، إذا اتقى الله فيها ، وأمرها بطاعة الله عز وجل .
وربما كان بوابة النار لزوجته ، إن أمرها بمعصية فأطاعته ، أو أمرها بطاعة فعصته(1/390)
فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فلما فرغت من حاجتها قال لها عليه الصلاة والسلام : أذاتُ زوجٍ أنتِ ؟ قالت : نعم . قال : كيف أنت له ؟ قالت : ما ألوه إلا ما عجزتُ عنه . قال : فانظري أين أنت منه ، فإنما هو جنتك ونارك . رواه الإمام أحمد وغيره .
فلتنظر المرأة إلى الحياة الزوجية هذه النظرة الثاقبة
ولتحسب عملها في بيتها ، فهي مأجورة عليه
وهو أثمن من كل عمل
وهو سبب لدخول الجنة
وعليها أن لا تتضجّر من عمل البيت
ولا مِن قوامة الرجل
فهذا حُكُم الله
واصرخي في وجه دُعاة التغريب ، وأوصياء الرذيلة (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) ؟
وقولي لهم : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ) .
اللهم احفظ على نساء المسلمين دينهنّ وحياءهنّ وعفافهنّ وحشمتهنّ .
اللهم اقمع دُعاة الرذيلة والسفور ، واهتك سِترهم
100-أثبت العرش ثم انقش..
رأيت ما كتبه أخي الفاضل أبو البراء بعنوان : أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وما كتبه أخي هنا :
http://www.almeshkat.net/vb/showthre...9195#post99195
فأحببت التعقيب بموضوع مستقل كان قد شغل حيزاً من الذاكرة ! بهذا العنوان المسطور أعلاه
( أثبت العرش ثم انقش )
وهذا مثل سائر يُقال عند كثرة الدعاوى التي لا تستند إلى دليل واضح ولا إلى حجة بينة
فيُقال للخصم : أثبت العرش ثم انقش
وكان الشيخ الألباني رحمه الله كثيراً ما يتمثل بهذا المثل في إثبات المسائل والأدلة .
ويقصد بذلك أحيانا إثبات صحة الحديث قبل الاستدلال به .
وما أقصده هنا هو ما يُزعم من وقوع بعض العلماء والدعاة في بعض البدع
فأقول : أثبتوا أولاً أنها بِدع ، ثم ناقشوا(1/391)
فقد تكون المسألة مما يسوغ فيها الخلاف ، ولكن لهوى في النفس - أحياناً - تُشن الغارات على فلان أو علاّن ، وفي حقيقة الأمر يكون ذلك الكلام مما يقول عنه السلف : يُطوى ولا يُروى . وهو كلام الأقران بعضهم ببعض .
وقد يكون الخطأ في المنهج ، ويكون مما وقع فيه الخلاف ، ولجهل القادح - أحياناً - لا يعلم أن هذه المسألة وقع فيها الخلاف بين السلف .
وقد يكون الخطأ المنهجي ليس خطأ بقدر ما هو اختلاف تنوّع
كيف ؟
أن يتصوّر القادح أن المسألة التي يتكلّم فيها منهجية ( ذات علاقة بالمنهج ) وليست كذلك .
فليس منهج السلف عمل شخص ولا ثلاثة بل هو المنهج المتّبع عند سلف الأمة
ولعلي أضرب على ذلك مثالاً واحداً :
مسألة الإنكار العلني على الوالي
يتنازع المسألة طرفان :
طرف يرى أن الإنكار العلني خطأ ، وأنه خلاف منهج السلف
وطرف يرى أن في الأمر سعة ، وأنه عمل به بعض السلف
والمسألة هنا مما يسوغ فيها الخلاف
فمن رأى الرأي الأول استدلّ بأحاديث وآثار
ومن رأى الرأي الثاني كذلك استدل بأحاديث وآثار
ومما يستدل به الطرف الأول :
قوله عليه الصلاة والسلام : من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبدِه علانية ، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به ، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدّى الذي عليه . رواه ابن أبي عاصم في السنة .
ومما يستدلّون به :
قول أسامة رضي الله عنه وقد قيل له : ألا تكلم عثمان ؟ فقال : إنكم ترون أن لا أكلمه إلا أسمعكم ؟ إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن افتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه . رواه الإمام أحمد .
وعموم الأدلة الدالة على الإسرار بالنصيحة .
ومما يستدل به الطرف الثاني :
قوله عليه الصلاة والسلام : إن من أعظم الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر . رواه الإمام أحمد وغيره .
فقوله ( عند سلطان ) أي في مجلسه وليس بينه وبينه سراً .
ومما استدلوا به :(1/392)
قول عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه وقد رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال : قبح الله هاتين اليدين ! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة . رواه مسلم .
وهذا إنكار علني بل أمام الملأ ، وعلى أمير من الأمراء .
وهكذا في كل مسألة يُتصوّر أنها خلاف المنهج أو خلاف عمل السلف .
فالخلاف قد وقع في مثل هذه المسألة بين خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فكيف بمن بعدهم ؟
وهذا على سبيل المثال .
وإلا فإن الأمثلة كثيرة .
ليُعلم أن من الخلاف ما يسوغ ومنه ما لا يسوغ
وأين أولئك القادحين المُجرّحين من فعل السلف ؟
لقد روى أئمة أهل السنة في أمهات كتب السنة عن أهل البدع !
فالبخاري روى عن عمران بن حطان الخارجي ، بل هو رأس القعدية من الصّفرية وخطيبهم وشاعرهم !
وروى عمر بن ذر الهمداني الكوفي ، وكان ثقة يرى الإرجاء ، بل قال أبو حاتم فيه : كان صدوقاً مُرجئاً ، وقال فيه أبو داود : كان رأساً في الإرجاء .
والإمام مسلم روى عن إمام من أئمة الشيعة ! هو عدي بن ثابت
وروى عنه حديثاً في فضائل علي رضي الله عنه !
فقد روى الإمام مسلم عن الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر قال : قال عليّ : والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق .
وعديّ هذا قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله : ثقة ، لكنه قاصّ الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة .
وفرق بين الشيعي وبين الرافضي ، فالرافضي لا يُروى عنه ولا كرامة ، كما قال الإمام الذهبي .
أقول :
وهؤلاء ثبت فيهم هذا الكلام أو بعضه ، ومع ذلك حمل عنهم أهل السنة ورووا عنهم .
ولا يعني هذا التهوين من شأن البدعة بل البدعة بدعة ، وهي أحب إلى الشيطان من الكبيرة
ولكني أقصد الإشارة إلى مُعاملة أهل البدع
وكل بحسب بدعته(1/393)
فلا يُعامل المرجئ كما يُعامل الرافضي
بل لا يُعامل مُرجئة الفقهاء كما تُعامل الغُلاة منهم
و ( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )
وقبل فتة تكلّم أحد الدعاة بكلمة حُملت على أبشع مَحمَل وعلى أسوأ مقصد
وذلك أنه قال في دعائه : أنت . يعني بذلك الله .
فشُنّع عليه وطُيّرت في الآفاق ، وبلغت المشارق والمغارب
ولو تأمل المنكر لما سارع في إنكاره
ألم يقل نبي من أنبياء الله : ( لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ؟
والقاعدة عند أهل العلم :
أن العالم لا يُتابع على زلّته
ولا يُتّبع في زلّته
وأفضل من رأيته فصّل في ذلك معالي الشيخ صالح آل الشيخ - وفقه الله - في محاضرة له بعنوان :
الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء .
وهي هنا :
http://www.almeshkat.net/vb/showthre...362&highlight=
فأنصح بسماعها وإسماعها
وأنا سأفترض أن ذلك الداعية أخطأ بنسبة 100 % في هذه المسألة .
فما هو الحق والصواب في هذه المسألة ؟
هل يُشنّع عليه ؟
هل يُشهّر به ؟
هل نكون عوناً للشيطان عليه أو عوناً له على الشيطان ؟
ولذا قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة محمد بن نصر المروزي - : ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطئاً مغفوراً له ، قُمنا عليه وبدَّعْنَاه وهجرناه ، لما سَلِمَ معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما ، والله هو هادي الخلق إلى الحق ، وهو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة .
وقد وضع ابن القيم رحمه الله قاعدة في التعامل فقال رحمه الله :(1/394)
معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم ، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول ، فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها ، لا يوجب اطّراح أقوالهم جملة ، وتنقصهم والوقيعة فيهم فهذان طرفان جائران عن القصد ، وقصد السبيل بينهما ، فلا نُؤثِّم ولا نُعصِّم ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في علي رضي الله عنه ، ولا مسلكهم في الشيخين بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة ، فإنهم لا يُؤثِّمونهم ولا يُعصِّمونهم ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها ، فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة ، ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للإسلام ، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين : جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم ، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله ، ومَنْ له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة ، وهو مِنْ الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلّة ، هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده ، فلا يجوز أن يُتبع فيها ، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين .
هكذا فليكن قدر أهل العلم .
ولكن لما استساغت نفوس بعض الناس الوقيعة في بعض الناس واستمرؤوه صبغوا تلك الوقيعة والغيبة بل والبهتان بصبغة شرعية تحت شعار " الجرح والتجريح " ليجدوا لهم مُسوّغاً للوقيعة وانتهاك أعراض عباد الله بغير حق !
فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة .
101-أتعس امرأة..
قالت " مارلين مونرو " - إحدى أشهر ممثلات هوليود - إني أتعس امرأة على هذه الأرض ... لم أستطع أن أكون أُمّاً ... إني امرأة أُفَضِّل البيت ! ... لقد ظَلَمَنِي كل الناس ، وإن العمل في السينما يجعل المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نَالَتْ من المجد والشهرة الزائفة .(1/395)
[وُجِدَ ذلك القول في رسالة لها بعدما انتحرت !! نقلاً عن كتاب المرأة بين الفقه والقانون للدكتور مصطفى السباعي ]
" سلعة رخيصة تافهة " فهل تربأ المسلمة أن تكون كذلك ؟
إن البيت والزوج والأولاد يكفلون – غالباً – للمرأة حياة كريمة ، فهي زوج مصون ، وأمّ حانية ، وربّة بيت غالية ، فأينما ذَهَبَتْ وَجَدَتْ تلك الحفاوة .
بينما هي على الجانب الآخر عاهرة ساقطة ، ومتمّمة لعدد البغايا ، ومُحْيية لسوق الليل في عنفوان شبابها ، وإذا ما ذهبت نَضارة وجهها ، وكبر سنّها ، ورقّ عظمها ، فهي غير مقبولة إلا لدى بعض دور العجزة ! فهي لم تَعُد صالحة للاستهلاك الآدمي !! ولم يكن بمقدورها أن تأكل بثدييها !!
وفي صحيفة الوطن السعودية – العدد 1380 مقال لإحداهن قالت فيه :
مَن قال إن الاختلاط يؤدِّي إلى سقوط الحشمة ؟
أقول : قاله عقلاء الغربيين بعد أن ذاقوا ويلات الاختلاط !
قالت صحيفة هيليان الأمريكية : أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم . امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة . بل ارجعوا لعصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاقِ ومُجُونِ أوربا وأمريكا . امنعوا الاختلاط فقد عانينا منه في أمريكا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة . إن ضحايا الاختلاط يملؤون السجون . إن الاختلاط في المجتمع الأمريكي والأوربي زلزل القيم والأخلاق .
فإلى كل مُعجب بأمريكا ... هذه نصيحة القوم !
وإلى كل مُرتمٍ في أحضان حانات نيويورك ، وصالات قمارها .. هذه وصايا القوم !(1/396)
وقالت الكاتبة الشهيرة " آتي رود " - في مقالة نُشِرت عام 1901م - : لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم ، خير وأخفّ بلاءً من اشتغالهن في المعامل حيث تُصبح البنت ملوثة بأدرانٍ تَذهَب برونق حياتها إلى الأبد ، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين ، فيها الحِشمة والعفاف والطهارة … نعم ! إنه لَعَارٌ على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثَلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يُوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ، وترك أعمال الرجال للرجال سلامةً لِشَرَفِها !
ونشَرَتْ الدكتورة " أيدا أيلين " بحثاً بيّنَتْ فيه : أن سبب الأزمات العائلية في أمريكا ، وسِرّ كثرة الجرائم في المجتمع ، هو أن الزوجة تركت بيتها لِتُضاعِف دَخْل الأسرة ، فزاد الدّخل وانخفض مستوى الأخلاق !
وقالت الدكتورة " ايلين " : إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى " الحريم " هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التّدهور الذي يسير فيه .
وقالت الكاتبة الإنجليزية " اللادي كوك " : إن الاختلاط يألفه الرجال ، ولهذا طَمِعت المرأة بما يُخالِف فطرتها ، وعلى قَدْرِ كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزّنا ، وههنا البلاء العظيم على المرأة .
وقال أحد أركان النهضة الإنجليزية ، وهو "سامويل سمايلس " : إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل – مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد – فإن النتيجة كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية ، لأنه هاجم هيكل المنزل ، وقوّض أركان الأسرة ، ومزّق الروابط الاجتماعية .
وقال " جول سيمون " : المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدّي عمل عامل بسيط ، ولكنها لا تؤدّي عمل امرأة .
وقال الفيلسوف " برتراند رسل " : إن الأُسْرَة انحلّت باستخدام المرأة في الأعمال العامة ، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرّد على تقاليد الأخلاق المألوفة ، وتأبى أن تظلّ أمينة لرجل واحد إذا تحرّرت اقتصادياً !(1/397)
قال الفيلسوف الألماني " شوبنهور " : اتركوا للمرأة حُريّتها المُطْلَقَة كاملة بدون رقيب ، ثم قابلوني بعد عام ! لِتَرَوا النّتيجة ، ولا تنسوا أنكم سَتَرْثُون معي للفضيلة والعِفّة والأدب ، وإذا ما مِتّ فقولوا : أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة .
لقد أصبت كبد الحقيقة بل وقَلْب الحقيقة
ولا أدل على ذلك مما قَالَهُ السيناتور الأمريكي " جرين " - عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي - حيث قال : إن الضمير الأمريكي يجب أن يتحرّك ، وإن معاهدةً لتصحيح الموقف يجب أن تُعقد .. أما الموقف فهو خاص بـ " سبعين ألف ابن حرام !! " وُلِدُوا بسبب الجنود الأمريكان !! فلما حاولَتْ إحداهن أن ترفع قضية نَفَقَة حَكَمَ القاضي ضدّها ، وقال : إن العبرة تقضي بضرورة أن تحرص هؤلاء الشّابات في علاقتهن مع الجنود الأمريكان حرصاً أكثر من ذلك ، وبذلك سَقَطَتْ نفقة سبعين ألف امرأة !!
ومن نتائج بعض الدراسات الأمريكية :
80% من الأمريكيات يعتقدن أن الحرية التي حصلت عليها المرأة خلال الثلاثين عاما هي سبب الانحلال والعنف في الوقت الراهن !
75% يشعرن بالقلق لانهيار القيم والتفسّخ العائلي .
80% يجدن صعوبة بالغة في التوفيق بين مسؤولياتهن تجاه العمل ومسؤولياتهن تجاه الزوج والأولاد .
ونشرت مجلة الأسرة في عددها الصادر في شهر رجب من عام 1420 هـ هذه الأرقام :
في أمريكا :
مليون طفل يولدون سنويا من السفاح .
12 مليون طفل مشرد في ظروف غير صحية .
مليون حالة إجهاض سنويا في أمريكا .
40 مليون طفل مشرد في أمريكا اللاتينية .
أكان هذا نتيجة الاحتشام ولزوم البيت ؟
وقد تضاعف عدد النساء المجرمات القابعات في السجون البريطانية خلال الأعوام الستة الماضية وأصبح خمس مجموع المجرمين في السجون نساء !(1/398)
وفي دراسة من (خدمات أدلمان المالية في فيرفاكس في فرجينيا) من رويترز ، جاء فيها : تُقدّر قيمة عمل الأم على الورق مبلغا ضخما إذا تم حساب أجور وظائفها المختلفة التربية والطبخ والإدارة المالية ، ودَورها في العلاج النفسي للأسرة وغيرها يجب إعطاؤها أجرا سنويا يصل إلى 508 ألف دولار ، وهي تعمل 24 ساعة في 17 وظيفة مهمة ! (نشرة إحصائيات نَشَرتها شبكة الفجر على الشبكة العالمية ) .
وقد تجددت الحملات في إنجلترا على المرأة ، فلقد تقدم بعض الأعضاء في مجلس العموم البريطاني باقتراح إلغاء العلاوات التي تُضاف إلى مرتّبات المرأة المتزوّجة .. واقْتَرَحُوا عدم قبول طلب المرأة المتزوجة للعمل إلا بعد الاكتفاء بالرجال ؛ لأن توظيف النساء أدّى إلى بطالة قسم كبير من الرجال !
ولا يُنكر أن للاختلاط فوائد !!!
وسبق أن كتبت موضوعاً بعنوان : فوائد الاختلاط !
وهو هنا :
http://saaid.net/Doat/assuhaim/23.htm
102-720...!!
720 ساعة مرت من عمرك
720 ساعة مضت من عامك
720 ساعة مرّت بحلوها ومُرّها
720 ساعة مرّت على السجين أطول من عام
720 ساعة قضاها المريض على فراش المرض أثقل من دهر
720 ساعة أمضاها الأسير في القيد ، وكأن القيد جبل
720 ساعة مرّت كلمحة بصر
720 ساعة مرّت عليك وأنت تنعم في صحة وعافية
720 ساعة هي شهرك هذا الذي انقضى
720 ساعة هو شهر الله المحرّم وقد انتهى
720 ساعة هي من عُمرك الذي سوف تُسأل عنه
720 ساعة فرّط فيها المفرِّط
720 ساعة أضاعها الضائع
720 ساعة ماذا أودعتها ؟
720 ساعة كم قرأت فيها من جزء ؟
720 ساعة كم أدّيت فيها مِن طاعة ؟
720 ساعة كم وصلت فيها من قَرابَة ؟
720 ساعة كم فاتك فيها من صلاة ؟
720 ساعة لها وزنها في موازين العقلاء
720 ساعة لها ثُقلها عند الحكماء
720 ساعة شاهدة عليك بما أودعتها
لا أقل من أن تكون قرأت القرآن في شهرك هذا
ولا أقل من أن تكون صِمت من شهرك أيضا(1/399)
ولا أقل من أن تكون تصدّقت فيه بصدقة
لا تقل : لا أجد مالاً فأتصدّق
كُن في همِّك وهمّتِك كرجل من عامة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فـ " عُلْبة بن زيد " لما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة خرج من الليل فصلى وبكى وقال : اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك صلى الله عليه وسلم ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض .
أعجزت أن تُشغل لسانك بذكر الله ؟
فـ نبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم قال : من ضنّ بالمال أن ينفقه ، وبالليل أن يكابده ، فعليه بـ " سبحان الله وبحمده " .
( ضن يعني بَخِل )
أعجزت أن تتصدّق على نفسك مِن نفسك ؟
قال أبو ذر : يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟
قال : تكفّ شَرك عن الناس ، فإنها صدقة منك على نفسك . رواه البخاري ومسلم .
فلا تدع شهور السنة تمرّ بك عجلى كما مر بك شهر الله المحرّم دون أن تودعه من الأعمال ما تدّخره عند الله تبارك وتعالى .
أيامك تمر ساعة في إثر ساعة ، فاعمرها بطاعة تلو طاعة
103-لقاء منتدى لك حول التبرج وفتن الأسواق
مقدِّمَة :
الحمد لله الذي خَلَق الزَّوْجَين الذَّكَر والأنْثى ، أحْمَدُه كَما يُحِبّ رَبُّنا ويَرْضَى .
والصلاة والسلام على نَبيّ الرَّحْمَة والْهُدَى ، وعلى آله وأصحابه أئمَّة الْهُدَى ونُجُوم الدُّجَى .
أما بعد :
فأشْكُر لأخواتي في منتديات ( لكِ ) هذا الجهد الْمُبَارَك ، وهذه الدَّعْوة الكَرِيمة .
وأخصّ بالشُّكْر الأخت الفاضلة .... القائمة على هذه الفِكْرَة ، ومُدِيرَة هذا الحوار ..
وأبدأ – بِحَمْدِ الله – مُبَيِّنًا بعض مَا جَاءَت به الشَّرِيعة مِن مَحَاسِن في هذا الْجَانِب :
وقد جَاءَت الشَّرِيعة بِتَحْقِيق الْمَصَالِح وتَكْميلها ، وتقليل الْمَفَاسِد وإعْدامها ، كَمَا يَقُول ابن القيم .(1/400)
ولَم يُؤمَر بشيء في الشريعة إلاَّ ومصلحته مُتحققة أو راجِحة ، ولم يُنْهَ عن شيء إلاَّ ومَفْسَدَته مُتحققة أو راجِحة .
فالأوامِر في شريعتنا الغَرَّاء ليست عَبثا ، ولا تَسَلُّطًا ، بل هي تَصُبّ في كِفَّة سَعَادة مُتَّبِعِيها ، ليَنْعَمُوا بالراحة والسعادة والطمأنينة في دُنياهم ، ويَصِلُوا – بِسَلامٍ – إلى دار السَّلام في أُخْرَاهم .
جاءت الشريعة بِحِفْظ الكُلِّيَّات الْخَمْس ( الضَّرُوريَّات الْخَمْس ) ، وهي : الدِّين والنَّفْس والنَّسْل والْمَال والعَقْل .
وأعْظَم هذه الضَّرُورِيَّات هي ( حِفْظ الدِّين ) ، فإن ضَيَاعَه لا يَعْدِله ضَيَاع ..
ولذا قِيل :
في كُلّ شَيء إذا ضَيَّعْتَه عِوَض *** وليس في الله إن ضَيَّعْتَه عِوَض
ومِن مَحَاسِن الشريعة الإسلامية أن رَفَعَتْ مِن شأن المرأة ، ولم تُهنْها – كما فَعَلَتْ الجاهلية القديمة والْحَديثة – !
فقد جاء الإسلام والمرأة تُورَث مع سقط الْمَتَاع ، فجَعَلها وارِثة لا مَوْرُوثة ..
وجاء الإسلام والمرأة تُدْفَن وهي حَيَّة ، فَجَعل رِعايتها وصِيانتها سَبَبًا في دُخول الجنة
وجاء الإسلام والمرأة لا اعْتِبَار لها ، فَجَعل لها اعتبارها ..
قال عمر رضي الله عنه : إن كُنَّا في الجاهلية مَا نَعُدُّ للنساء أمْرًا ، حتى أنْزَل الله فيهن مَا أنْزَل ، وقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَم . رواه البخاري ومسلم .
جَاءت الشريعة فَحَفِظَت المرأة كَمَا يُحفَظ الْغَالِي مِن الْمَال ، بينما ابْتُذِلَتْ – في الجاهليات – ونُبِذَتْ كنَبْذِ الْحِذاء الْمُرقَّع !
حَتى شَهِد بذلك أعداء الإسلام قبل أصدقائه !
يقول أحد علماء الإنجليز ، وهو ( هلمتن ) : إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في وفرة العناية بوقايتها من كل ما يؤذيها ويُشين سُمْعَتِها . اهـ .(1/401)
وتَقُول جريدة (المونيتور) الفرنسية : قد أوْجَد الإسلام إصلاحاً عظيماً في حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية ، ومما يَجِب التَّنْوِيه به أن الحقوق الشرعية التي مَنَحَهَا الإسلام للمرأة تفوق كثيراً الحقوق الممنوحة للمرأة الفرنسية . اهـ .
ويَكفي في هذا المقام أن نُورِد قوله عليه الصلاة والسلام : النِّساء شَقَائق الرِّجَال . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي . وهو حديث حسَن . وأصله في الصحيحين .
وإنَّ مِمَّا تَسْعَى إليه الجاهلية المعاصِرَة – الْمُتَدَثِّرَة بِثِيَاب الحضَارَة ! – إخْرَاج المرأة مِن بَيْتِها إلى مَعامِل ومَصَانِع ومَقَاهي .. لِتُسْلَب سَعَادتها ، وتَكون ألعُوبة في أيدي الرِّجَال ! ليَسْعَد بذلك الذُّكُور وتَشْقَى بِه الإناث !
وشَهِد شاهِد مِن أهلها !
تَقُول الكَاتبة الشهيرة " آتي رود " - في مقالة نُشِرت عام 1901م - : لأن يشتغل بَنَاتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم ، خَير وأخَفّ بَلاءً مِن اشتغالهن في الْمَعَامِل حيث تُصبح البنت ملوثة بأدرانٍ تذهب برونق حياتها إلى الأبد ، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين ، فيها الحِشمة والعفاف والطهارة ... نَعَم .. إنه لَعَارٌ على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتَها مثَلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يُوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ، وترك أعمال الرجال للرجال سلامةً لِشَرَفِها .
ونَشَرَتْ مجلة " الأسبوع " الألمانية رسالة من امرأة ألمانية بتاريخ 29/8/1959م تقول فيها : إنني أرغب البقاء في مَنْزِلي ولكن طالما أن " أعجوبة الاقتصاد الألماني الحديث " لم تشمل كل طبقات الشّعب فإن أمراً كهذا مستحيل وللأسف .(1/402)
وذَكَر د . مصطفى السباعي – رحمه الله – أنه كان في رِحْلة عِلْمِية مِن ميناء " دوفر " إلى ميناء " أوستن " فالْتَقَى فتاة إيطالية تَدْرس الحقوق في جامعة أكسفورد ، وتَحَدَّث مع تلك الفتاة عن المرأة المسلمة وحقوقها ، وكيف تعيش . قالت الفتاة : إنني أغبط المرأة المسلمة ، وأتمنّى أن لو كنت مَوْلُودَة في بِلادِكم . اهـ .
وإنَّ مِن وسائل إبليس في إضلال بَني آدم وفي سَبيل إغوائهم : التَّبَرُّج والاخْتِلاط في مَجَامِع النَّاس ، وفي الأماكِن العامَّة ..
تأمّلي – رعاك الله – ما حَكَاه ابن عباس رضي الله عنهما – حَبر الأمَّة وترجمان القرآن ..
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانتِ الجاهليةُ الأولى فيما بين نوحٍ وإدريسَ عليهما السلام ، وكانتْ ألفَ سنةٍ ، وإنّ بَطْنَيْنِ من ولدِ آدمَ كان أحدُهما يَسْكُنُ السَّهْلَ ، والآخرُ يَسْكُنُ الجبَلَ ، فكان رجالُ الجبلِ صِبَاحا ، وفي النساء دَمَامَةٌ ، وكان نساءُ السَّهْلِ صِبَاحا ، وفي الرِّجَال دَمَامَةٌ ، وإن إبليسَ أتى رَجُلاً مِن أهلِ السَّهْلِ في صُورةِ غُلامٍ فَأَجَّرَ نَفْسَه ، فكان يَخْدُمُهُ ، واتَّخَذَ إبليسُ شَبَّابَةً مثل الذي يَزْمُرُ فيهِ الرِّعَاءُ ، فجاءَ بَصَوتٍ لم يَسْمَعِ الناسُ بِمِثْلِهِ ، فَبَلَغَ ذلك مَن حَولَهُ ، فَانْتَابُوهُم يَسْمَعُون إليه ، واتَّخَذُوا عِيداً يَجْتَمِعُونَ إليه في السَّنَةِ ، فَتَبَرَّجَ النساءُ للرِّجَالِ ، وَتَبَرَّجَ الرِّجَالُ لهن ، وإن رَجُلاً مِن أهلِ الجبلِ هَجَمَ عَليهِم في عِيدِهم ذلك فَرَأى النساءَ وَصَبَاحَتِهِنَّ ، فأتى أصحابَهُ فأخْبَرَهم بِذَلِكَ ، فَتَحَوّلُوا إليهِنّ ، فَنَزَلُوا مَعَهُنَّ ، وَظَهَرَتِ الفاحشةُ فيهن ، فهو قول الله : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) .
فانظروا .. بِمَ اسْتَعانَ إبليسُ على الفَسَادِ والإفْسَاد ؟(1/403)
بأيِّ وسيلةٍ ؟ أم بأيِّ طريقة ؟
استعان على إفساد الناس بغناءٍ وأعيادٍ وخروج نِساء !
وهذه الثلاث : ( الغِناءَ والطَّرَب ، والأعيادَ الْمُحدَثةِ الْمُبتَدَعة ، وإخْراجَ النساء ) هي أسلحةُ إبليس ، وبها يُلوِّحُ وَرَثَتُه ! فيُنادُون بها ، ويُطالبُِون بِوجودها !
" شَبَّابَة " نوعٌ مِن الْمَزِامِير !
فالتَّبَرُّج خِلاف الفِطْرَة .. ثم هَو دَعْوَة إبليسية !
والحِجَاب سَتْر وعَفَاف .. وحِشْمَة وحياء .. وهو أمْر رَبّ العالمين ، ودَعوة إمام الْمُرْسَلِين ..
معنى التَّبَرُّج
تَعْرِيفِ التَّبَرُّج
التَّبَرُّج : هو إظهارُ الزِّينةِ للأجانِب ..
وسواءً كان ذلك بإظهار ألْوانِ الثيابِ ، أو كان بِزركشاتٍ وتَطْريزاتٍ ، أو كان بِلُبْسِ ما يَصِفُ حَجم الأعضاء ، أو مَا يَشِفّ عَن لَون البَشرة ..
أو كان بأصوات الْحُلِيّ ومَا شَابهها ، أو بِرَوائحِ العُطُورِ وما يُلْحَقُ بها .
كلُّ ذلك مِن صُوَرِ التَّبَرُّج ..
قال العلاّمةُ القاسمي : والتبرّجُ : فُسِّرَ بِالتَّبَختُرِ والتَّكَسُّرِ في المشي ، وبإظهارِ الزينةِ ، وما يُسْتَدْعَى به شَهوةُ الرَّجُل . وبِلُبْسِ رقيقِ الثِّيَابِ التي لا تُوارِي جَسَدَها ، وبِإبداَءِ مَحاسِنَ الْجِيدِ والقَلائدِ والقُرْط . وكلُّ ذلكَ مما يَشْمَلُهُ النَّهْي ، لِما فيهِ مِن المفسَدَةِ والتَّعَرُّضِ لِكَبِيرة .
وإليكِ – حَماكِ الله - طائفةً من أقوالِ المفسِّرين في معنى التبرّج
قال مجاهد في قوله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) قال : كانتِ المرأةُ تخرجُ تمشي بين يدي الرِّجَالِ فَذَلِكَ تبرجُ الجاهلية .
وقال قتادةُ (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) : يقول : إذا خَرَجْتُنّ من بُيوتِكُنَّ ، وكانت لهنَّ مِشْيَةٌ وتَكَسَّرٌ وتَغَنُّج ، فَنَهَاهُنَّ اللهُ عن ذلك .(1/404)
وقال مقاتلُ بنُ حَيَّان : التبرجُ أنها تُلْقِي الخمارَ على رأسِهَا ولا تَشُدُّه فَيُوارِي قَلائدَها وقُرْطَها وعُنُقَها ، ويبدو ذلك كلُّه منها ، وذلك التَّبَرُّج ، ثم عَمَّتْ نِساءِ المؤمنين في التَّبَرُّج.
وهذا يَدلُّ على عمومِ الآية .
وقال ابنُ أبي نُجيح : التَّبَرُّج : التَّبَخْتُر .
( وبَيْن التَّبَرُّج والتَّبَخْتُر عِلاقة وثِيقَة ) .. سأُشِير إليها فيما بعد ..
وقال ابن جُزيّ : (وَلا تَبَرَّجْنَ) التبرُّجُ إظهارُ الزينة . (تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) أي مثلَ ما كان نساءُ الجاهليةِ يَفْعَلْنَ من الانْكِشَافِ والتَّعَرُّضِ للنَّظَر . اهـ .
وقال ابنُ عاشور : التَّبَرُّج : إظهارُ المرأة مَحَاسِنَ ذاتِها ، وثِيابَها وحُلِيَّها بِمَرْأى الرِّجَال.
وقال في مَوضعٍ آخر : والتَّبَرُّج : التَّكَشُّف .
وقال أيضا : فالتَّبَرُّجُ بِالزِّينَةِ : التَّحَلِّي بِمَا لَيسَ مِنْ العَادَةِ التَّحَلِّي بِهِ في الظَّاهِرِ مِنْ تَحْمِيرٍ وتَبْيِيضٍ ، وكَذَلِكَ الألْوَانَ النَّادِرَة . اهـ .
ولما أذِنَ اللهُ تبارك وتعالى للكبيراتِ في السِّنِّ أن يَضَعَنَ ثِيابَهُنَّ قَيَّد ذلك بِعَدَمِ التبرُّجِ ، فقال جلّ جلاله : (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) ثم قال عز وجلّ : (يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) . هذا وهُنّ كَبِيرات في السِّنّ .. فكيف بِالشَّابَّات ؟!(1/405)
قال الإمام السمعاني : وقوله : (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أي لا يُرِدْنَ بإلقاءِ الرِّدَاءِ والجلبابِ إظهارَ زِينَتِهِنَّ ومَحَاسِنِهِنَّ ، وأصلُ التَّبَرُّج مِن الظُّهُور . قال الله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)، أي لا تَنْكَشِفْنَ تَكَشُّفَ الجاهليةِ الأولى . وفي التفسير : أنَّ المرأةَ إذا مَشَتْ بين يَدَي الرِّجَال فقد تَبَرَّجَتْ تَبَرُّجَ الجاهليةِ الأولى .
قال القرطبيُّ : من التَّبَرُّج أن تَلْبَسَ المرأةُ ثَوْبَين رَقِيقَين يَصِفَانِها .
وقال القرطبي في قوله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)
مَعْنَى هذه الآيَة الأمْر بِلُزُوم البَيْت ، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دَخَل غَيرهن فِيه بِاْلَمَعْنَى ، هذا لَو لَم يَرِد دَلِيل يَخُصّ جَمِيع النِّسَاء ، كَيف والشَّرِيعة طَافِحَة بِلُزُوم النِّسَاء بُيُوتِهن والانْكِفَاف عن الْخُرُوج مِنها إلاَّ لِضَرُورَة ... فأمَر الله تَعالى نِساء النبي صلى الله عليه وسلم بِمُلازَمَة بُيُوتِهن ، وخَاطَبَهن بِذلك تَشْرِيفًا لَهُن ، ونَهَاهُنّ عن التَّبَرُّج ، وأعْلَم أنه فِعْل الْجَاهِلِيَّة الأُولى ، فقال : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) .
ثم ذَكَر مَعْنَى التَّبَرُّج فقال : وحَقِيقته إظْهَار مَا سَتْرُه أحْسَن . اهـ .
مِن صُوَر التَّبَرُّج
ضَرْب الْخِلْخَال – ومثله : أصْوَات الأحذيَة والكُعُوب العَالِيَة –
التَّعَطُّر عند الْخُرُوج خَاصَّة إذا كانت المرأة سوف تَمُرّ بِرِجَال أجانب عنها
لبس الْملابِس الْمُزرْكَشَة وإبداؤها ..
لبس الضِّيِّق والشَّفَّاف
إظْهَار الْمحَاسِن للرِّجَال الأجانب
إظهار ما لا يَظْهَر للمَحَارِم أمام النِّسَاء .. كإظْهَار البَطن والصدر أمام النساء ..
وأمَّا أدلّتها فأسوقها إجمالا :(1/406)
قال صلى الله عليه وسلم : " ربَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة " رواه البخاري .
قال ابن حجر :
واخْتُلِفَ في المرادِ بِقَولِهِ : " كاسيةٍ " وَ " عاريةٍ " على أوْجُهٍ :
أحدها : كاسيةٌ في الدنيا بالثيابِ لوجودِ الغِنى ، عاريةٌ في الآخرةِ من الثوابِ لِعَدَمِ العملِ في الدنيا
ثانيها : كاسيةٌ بالثيابِ لكنها شفَّافةٌ لا تَسْتُرُ عورتَها ، فتُعاقبُ في الآخرةِ بالْعُرْي ، جزاءً على ذلك
ثالثها : كاسيةٌ من نِعَمِ اللهِ عاريةٌ مِن الشُّكْرِ الذي تَظْهَر ثمرتُه في الآخرةِ بالثواب .
رابعها : كاسيةٌ جسدها لكنها تَشُدُّ خِمَارَها مِنْ وَرَائها فَيَبْدُو صَدْرَها ، فتصيرُ عاريةً فتعاقبُ في الآخرة . اهـ .
وهذا القول الأخير يُشابه تماماً ما إذا وَضَعَتِ المرأة العباءة على كَتِفها ، ثم شدّتْ الخمارَ على رأسِها ، فيبدو حجمَ أعضائها .
وقد أهْدَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأسامةَ بنِ زيدٍ حُلّةً فلم يَرها عليه ، فَسَألَه عنها ، فقال أسامةُ : يا رسولَ الله كَسَوتُها امْرأتي . فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : مُرْها فلتجعلْ تحتها غِلالة ، إني أخافُ أن تَصِفَ حجمَ عظامِها . رواه الإمام أحمد .
وكان عمرُ رضي الله عنه يقول : لا تُلْبِسُوا نِسَاءَكم القَبَاطِيّ ، فإنه إن لا يَشِفّ يَصِفْ .
وقالَ رضي الله عنه : ما يمنعُ المرأةَ المسلمة إذا كانتْ لها حاجةٌ أنْ تَخْرُجَ في أطْمَارِها ، أو أطمارِ جَارَتِها مُسْتَخْفِية لا يَعْلَمُ بها أحَدٌ حتى تَرْجِعَ إلى بَيْتِها .
روى الإمامُ مالكٌ عن علقمةَ بنِ أبي علقمة عن أمِّهِ أنها قالت : دَخَلَتْ حفصةُ بنتُ عبدِ الرحمنِ على عائشةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعلى حَفْصَةَ خِمَارٌ رَقيقٌ فَشَقَّتْهُ عائشةُ ، وَكَسَتْها خِمَاراً كَثِيفاً .
أي شَقَّتْهُ لئلا تَخْتَمِر به فيما بعد .
ولَو كان يَجوزُ الاختمارُ بِه لما شَقَّتْهُ عائشةُ رضي الله عنها .(1/407)
ولما قَدِمَ المنذرُ بنُ الزبير من العراقِ فأرْسَلَ إلى أسماءَ بنتِ أبي بكر بِكُسْوَةٍ من ثيابٍ رِقاقٍ عِتاقٍ بَعْدَمَا كَفَّ بصرُها . قال : فَلَمَسَتْهَا بِيَدِها ، ثم قالت : أفّ ! رُدُّوا عليه كِسْوَتَه . فَشَقّ ذلك عليه ، وقال : يا أمَّه ! إنه لا يَشِفّ . قالت : إنها إن لم تَشِفّ ، فإنها تَصِف ، فاشترى لها ثيابا مروية فقَبِلَتْها . رواه ابن سعد في الطبقات .
تقولُ إحدى الأخواتِ عن بعضِ العباءات : فهي أضيقُ من قميصِها الذي تَلْبَسُهُ في مَنْزِلها ، فهي مخصّرةٌ جَذّابةٌ جِداً ؛ تَجْعَلَ النحيفةَ ممتلئة ، وتَجْعَلَ البدينةَ رَشيقة ، فتُخْفِي العيوب ، وتُظْهِرَ المحاسِنَ والمفاتِن .
تزيدُ على ذلك بعضَ العباراتِ التي كُتِبتْ على العباءة ، أو الزركشةَ المُلفتةَ للنظر . انتهى .
وقد نَهى اللهُ نساء المؤمنين عن إظهارِ صوتِ الْخِلخالِ ، فقال : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) .
هذا .. وهو مُجرَّدُ صَوت !
قال ابنُ عباسٍ : نَهى اللهُ عن ذلك لأنه من عَمِلِ الشيطان .
قال الزَّجاجُ : إسماعُ صوتِ الزينةِ أشدُّ تَحْرِيكاً للشهوةِ من إبْدَائها .
قال الإمام السمعاني : فإن قال قائل : أيش في ضَربِ الخلخالِ ما يُوجِبُ النهي ؟
والْجَوَاب عنه : أنَّ فيه اسْتِدْعَاءَ الْمَيْلِ وتَحْرِيكَ الشَّهْوَة .
ونُهيَتِ المرأةُ أن تَتَعَطَّرَ إذا كانتْ سوفَ تَمُرُّ بِرِجَالٍ أجانب ، فإن فَعَلتْ فَعليها مثلُ إثمِ الزانية .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : أيما امرأة اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِقَومٍ لِيَجِدُوا رِيحَها فهي زانية . رواه الإمام أحمد وغيره .
وقال صلى الله عليه وسلم : إذا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ المسجدَ فلا تَمَسَّ طيباً . رواه مسلم .(1/408)
وقال عليه الصلاة والسلام : طِيبُ الرِّجَالِ ما ظهرَ رِيحُه وخَفِي لونُه ، وطِيبُ النساءِ ما ظهرَ لونُه وخَفِيَ ريحُه . رواه الترمذي والنسائي ، وصححه الألباني .
وقد أمَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَن تعطّرتْ أن تَغْتَسِلَ إذا أرادتِ الخروج حتى لو كانت تريد المسجد .
فقد لقيَ أبو هريرةَ رضي الله عنه امرأةً فَوَجَدَ منها ريحَ الطيبِ يَنْفُح ، وَلِذَيْلِها إعصار ، فقال : يا أمةَ الجبار ! جئتِ من المسجد ؟
قالت : نعم .
قال : وله تَطَيَّبْتِ ؟
قالت : نعم .
قال : إني سمعت حِبِّي أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلم يقول : لا تُقبلُ صلاةٌ لامرأةٍ تطيَّبَتْ لهذا المسجدِ حتى ترجعَ فتغتسلَ غُسْلَها من الجنابة . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وحسنه الألباني .
" حتى ترجعَ فتغتسلَ غُسْلَها من الجنابة "
ليذهبَ أثرُ الطيبِ وتذهبَ رائحتُه .
وسببُ ذلك ما يكونُ فيهِ مِن تحريكِ الشهوات ، وإثارةِ الفِتَن .
قال العلماء : لئلا يحركن الرجال بطيبهن ، ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة ، كحسن الملبس والتحلي الذي يظهر أثره ، والزينة الفاخرة . كما قالَ العظيم آبادي في عون المعبود .
فتبيّنَ لكلِّ عاقلة أن صورَ التبرّجِ كثيرة ، وقد نهى اللهُ عن التبرّج
أسباب التَّبَرُّج ؟
أسباب التَّبَرُّج كثيرة ، ومنها :
ضَعْف التَّدَيُّن لدى المرأة ، فإنَّ هذه المشكلة هي أساس التَّبَرُّج ، فلو ضَعُف الرَّقِيب ، أو غاب ، أو فُقِد ؛ فلا تتأثَّر المرأة إذا كانت مُتديِّنَة .. أمَّا إذا لم تَكُن مُتدينة فهنا يبدأ الْخَلَل ، ويحصل النقص .
صحيح أنَّ الرَّقيب والوليّ له أثَر تربوي ، وأثَر نفسي .. فقد تترك المرأة التَّبَرُّج لأجْل صَرَامة الولي ، إلاَّ أن الولي يَغفل ويَغيب ويَموت ..
فإذا لم يَكن الْحِرص نِابِعًا من المرأة نفسها فإنها سوف تقع في التَّبَرُّج .. أو في بعض صُوَرِه .(1/409)
وضَعْف الرِّقابة لله يَصْنَع مثل هذا .. وقد نُربِّي هذا في أنفسنا وفي أولادنا ونحن لا نشعر ..
نفعل ذلك عندما نربط الرِّقابة بأشْخَاصِنَا وذَوَاتِنَا !
ونحن أحْوَج ما نَكون إلى تربية النفوس على الرِّقابة الذاتية لله تبارك وتعالى ، مع عدم إغْفال رِقابة الأهل ..
ومِمَّا يَدْفَع المرأة المسلمة إلى تقوية الجانب الدِّيني وإلى تَرْك ما يُسخِط الله مِن تبَرُّج وسُفور واخْتِلاط وغير ذلك .. أن تَعْلَم أنَّ نِعِيم الدُنيا لا يُساوي غَمْسَة وَاحِدة في العذاب .. كما في الحديث الذي رواه مسلم .
وأنَّ تَعْلَم أن العاقِل مَن يُؤثِر الباقي على الفاني ..
وأنَّ التَّبَرُّج ضَعْف وتَبَعِيَّة .. بل مَرَض وتَخَلُّف .. وهو الداء الذي جَمَع الأدواء !
والْمَرَض الذي جَمَع الأمراض ..
ومِن أسباب التَّبَرُّج
القُدَوات الفاسِدَة .. والناس كأسْرِاب القَطَا ! يَتَشبّه بعضهم بِبعض ..
فالإعلام الفاسِد يَصنَع قُدُوات فاسِدة ! بل يجْعل حُثالة المجتمعات وسَقَطِها هُم القُدُوات ! وهم الأبطال والنّجوم !
ويَتِمّ تلميع قُدُوات وأبطال ونجوم على حِساب كلّ ما هو أصيل !
ولا يُنْكَر تَأثير الصُّحْبَة على الإنسان ..
فالنبي صلى الله عليه وسلم أثْبَت تأثُّر الإنسان بِمُصاحَبَة البهائم العجماوات !
قال صلى الله عليه وسلم : الفخر والخيلاء في الفَدادين أهل الوَبَر ، والسَّكينة في أهل الغنم . رواه البخاري ومسلم .
فصاحِب الإبل يأخذ مِن طِباعها وغِلْظَتِها ! وصاحب الغنم يأخذ مِن سَكِينتها وطِباعها !
فكيف إذا صاحَب إنسانا مثله ، يُؤثِّر عليه .. ويتأثَّر به ؟؟!
ومِن أسباب التَّبَرُّج
ضَعْف الشخصية لدى المرأة !
فلو كانت قوية الشخصية لم تتأثَّر ..
كثيرات يتّبعن الموضة .. ويَتَبرَّجْن .. لا رغبة في التَّبَرُّج ! بل خوفا من وصْمَة ( قَرَويَّة ) !
أو هُروبا مِن أن تُوصَف بالتَّخلُّف !(1/410)
يَقول د . محمد قطب : حدث منظر على الشاطئ قبل سنوات ، فتاة كان بها بَقِيَّة ضئيلة من الحياء - حَياء الأنثى الطبيعي الفطري - هذه المرأة لَبِسَت "المايوه" وجلست على الرِّمال حول الشاطئ ليلتقط المصور لها صُورة ، فما الذي حدث ؟
جلست بهذه البقية الضئيلة من الحياء مَضْمُومَة الرِّجْلَين ، فقام الْمُصَوِّر يَفْسَح مَا بَيْن رِجْلَيها لِيَلْتَقِط لَها صُورَة تَقَدُّمِيَّة !! ولكنها رَاحت في حَياء َضئيل – تَتَأبَّى عليه- عندئذ قال لها بِلهْجَةٍ ذَاتِ مَعنى : "الله ! هوَّه أنتِ فَلاَّحَة وإلاَّ إيه ؟!! ".
وفي الحال دَبَّتْ هذه الكلمة في صَدْرِها ، فَنَحَرَتْ مَا بَقِي مِن الْحَيَاء ! وجَلَسَتْ مُنْفَرِجَة الرِّجْلَين في طلاقة همجية ، لِتُلْتَقَط لَها الصُّورة ! انتهى .
هكذا فَعَلَتْ مِن غير قَناعة ! ولكن خَوْفا مِن وْصَمة ( فلاّحة ) أو وَصْف ( قروية ) أو لَقَب ( مُتخلِّفَة ) !!
المرأة المسلمة الواثقة بِرَبِّها .. والْمُعْتَزَّة بِدِينها .. لا يهمها ما يُقال عنها ..
فهي تمشي بِخُطُوات واثقة ..
لا تعبأ بما يُقال .. ولا تُصْغِي إلى تُرَّهات ..
فهي مُلْتَزِمة بِحجَابِها .. مُسْتَمْسِكَة بِدِينها .. إن سَافرتْ أو أقامتْ ..
لا تَنْظُر إلى الْحِجَاب على أنه عادة .. بل على أنه عِبادة
هِتافها .. " إنه يا طَالِب النَّجْم حِجَابِي ... لا يُسَاوِمُنِي به غير الْمِنِيَّة "
وحِداؤها .. مُسْلِم يا صِعَاب لن تَقْهَرِينِي ... صَارِمِي قَاطِع وعَزْمِي حَدِيد "
فضعيفة الشخصية والْمَهْزوزة .. ليس لها ثَبَات
وقوية الشخصية ثابتة كَالنَّخْلَة الشَّمَّاء .. أصلها ثَابِت وفَرْعها في السَّماء ..
الْحَلْواء الْمِكْشُوفة ! لا أحَد يَشْتَهِيها .. قد أصابها الغُبار .. ووقع عليها الذُّبَاب ..
وهكذا الْمُتَبَرِّجة .. مُتبَذِّلَة .. قد وقَعَتْ عليها العُيُون ! وأصَابَتْها السِّهَام !
ومِن أسباب التَّبَرُّج(1/411)
ضَعْف الأمر بالمعروف ولنهي عن الْمنكَر في أوساط النساء .. وتقع مسؤولية تفشي هذا الأمر في أوساط النساء ومجتمعاتهن على عواتق النساء ..
فهناك اجتماعات لا يحضرها الرِّجَال .. ولا يطّلِعون عليها ..
مدارس البنات .. قُصور الأفراح .. الأسواق النسائية .. إلى غير ذلك .. وهذه مُجتمعات نسائية يبدأ تَفْريخ التَّبَرُّج مِنها ! ومِنها تنطلق شرارة التَّبَرُّج الأولى في الغالِب ..
وأنصح بِقراءة كِتاب : مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . تأليف الشيخ د . فضل إلهي .
ويُمكن أن يُضاف إلى تلك الأسباب :
ضعف التربية ، وقُصُور التَّنْشئة ..
حضرتُ مرة عند صديق .. وعنده طفلة في الرابعة من عمرها .. فَظَهَر بَعْض سَاق صاحبي فأخذت تُغطِّيه .. وتقول : عيب !
وقديما قيل :
ويَنْشَأ نَاشيء الفتيان مِنَّا *** على مَا كَان عَوَّدَه أبُوه
هذه مُجْمَل أسباب ظُهور التَّبَرُّج ..
وجه الشَّبَه بَيْن تَبَرُّج الجاهلية المعاصرة وتَبَرُّج الجاهلية الأولى ؟
سبق في تعريف التَّبَرُّج ذِكْر ما جاء عن ابن عباس في تَبَرُّج الجاهلية الأولى ، واجْتِمَاع الرِّجال والنساء على مهرجان وفي عِيد وفي غِناء ولَهْو وطَرَب ..
وهذا يُؤكِّد الصِّلَة بين هذه الآثام !
وهذا أيضا يربط بين مقاصد التَّبَرُّج قديما وحديثا !
ومنها :
إخراج المرأة
وإظهار محاسنها ومفاتنها للرِّجَال الأجانب
وأن تَكون سلعة رخيصة ، وألعوبة سهلة يَتَقَاذَفُها سَمَاسِرَة البِغَاء كَتَقَاذُف الكُرَة !
فإذا ما ذَهّبَتْ نَضَارَة وَجْهِها ، وحُسن قَدِّها .. رَمَوها في أقْرب دار عجزة .. أو باتَتْ على الرّصيف بلا مأوى .. وبلا أدنى حقّ
هل سمعتِ بِنِسَاء البَلاستيك ؟!!(1/412)
يقول الدكتور " روبرت بتلر " - مدير التطوير للكبار في جامعة سيزيا بنيويورك - : أكبر درجة من الخوف تُواجه الفرد في هذه الدولة هي مواجهة الكِبَر ، وفَقْد القدرة على التفكير الصحيح ، ويُصبح نزيلاً لأحد مراكز الرعاية !
وذَكَر الدكتور مختار المسلاّتي في كِتاب " أمريكا كَمَا رأيتها " – وقد عاش أكثر من عشر سنوات في أمريكا – يقول : وهناك نساء يُعرفن بنساء البلاستيك ، منزلها كِيس تحمله في يدها !!
وكان تبرّج الجاهلية الأولى أخَفّ وأهون من تبرّج الجاهلية المعاصرة !
كيف ؟!
الجاهلية المعاصرة امتهنتِ المرأة غاية الْمَهَانَة .. وابْتَذَلَتْها أيما ابتِذال
في بعض دُوَل الحضارة المادِّية .. تتم المتاجَرَة بِجَسَدِ المرأة .. كَمَا يُتاجَر باللحوم !
هناك أماكن خُصِّصت لعرض الأجساد العارية أمام المارة وتَستَعرِض المرأة جسدها - فيما يُشبه ما يُسمّى بـ " فاترينات عرض " - أمام الغادي والرائح بحركات مثيرة علّها تحظى بِذَكَرٍ تصطاده تحصل منه في النهاية على بضع دراهم تَقْتَاتُ منها !
وهذا ما يَسْعَى إليه المفسِدُون تحت شِعارات برَّاقة .. ونداءات تُدغدغ المشاعِر !
يسعون لإخراج المرأة من خِدْرِها بِألْفِ حُجّة وحُجّة .. وبِألْفِ وسيلة ووسيلة ..
فإذا ما تبرّجتِ المرأة فقد مَشَتِ الخطوة الأولى في طريق الفساد
ورِحلة الألْف ميل تبدأ بِخطوة واحدة ، كما يُقال .
وقد جاء التحذير المتكرر في القرآن الكريم مِن خُطُوات الشيطان
سَعى المفسِدُون في دول أوربا وفي بعض الدول العربية لإخراج المرأة وإلى تبرّجها وإلى تمرُّدِها على كل خُلُق فاضل وعلى كُل قِيَم سامية .. حتى تحقق لهم ما يُريدون ..
وصدق الله : (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) .
انظري إلى اثر مِن تلك الآثار .. وقد شَهِد به شاهِد من أهلها !(1/413)
نَشَرَتْ صحيفة الشرق الأوسط في العدد (7560 ) الصادر يوم الثلاثاء 28/4/1420هـ تحت عنوان : ( زبائن سوق الدعارة مليون يومياً في ألمانيا )
وجاء في الخَبَر : أعلنت مؤخراً " كريستين برغمان " وزيرة شؤون المرأة والأسرة التي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي عن مشروع قانون يُضفي الشرعية !! على نشاط العاهرات اللواتي ينتظرن على الأرصفة … وبمقتضى هذا النص لن يُصبح هذا النشاط مناقضاً للأخلاق الحميدة !! كما سيُتيح للمومسات الاستفادة من الضمان الاجتماعي ، بل سيُعطيهن الحق في اللجوء للقضاء للحصول على هذا الضمان … وأكّدت الوزيرة " برغمان " أنها تعتزم أيضا السماح بإبرام عقود عمل للعاهرات !!… وممارسة البغاء لا تستوجب العقاب من الناحية القانونية وبالرغم من أنه تحكمها العديد من اللوائح . انتهى .
لِتَعْلَم الْمُتَبَرِّجة أنها تَخْدم الرذيلة وتهْدِم الفضيلة شَعُرت أو لم تشعر !
ولِتعْلَم أنها تَضَع قدمها على بداية طريق الزلل ..
يُحدَثني بعض الشباب الذين مَنّ الله عليهم بالهداية .. عن تجارب في عالَم الغَزَل في الأسواق والتَّجمُّعَات ..
يقول بعضهم : كُنَّا والله لا نجرؤ على مُعاكسة المرأة التي تبدو محتشمة .. وإن كُنَّا لا نعلم ما تُخفي وراء ذلك الاحتشام ..
المهم أنها محتشمة .. غير مُتَبَرِّجة .. فلا يَجْرؤ سَفِيه على معاكستها ..
وبَيْن التَّبَرُّج والتَّبَخْتُر عِلاقة وثِيقَة ..
ولذا جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام : خيرُ نِسائكمُ الودودُ الولودُ ، المواتيةُ المواسيةُ إذا اتَّقَينَ الله ، وشَرُّ نِسَائِكُمُ المتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِّلاتُ ، وهُنَّ المنافِقَاتُ . لا يَدخلُ الجنةَ مِنْهُنّ إلا مثلُ الغُرَابِ الأعْصَم . رواه البيهقي ، وصححه الألباني .(1/414)
قال الْمُنَاويّ في فيضِ القدير : وشَرُّ نِسائكم الْمُتَبَرِّجَات ، أي الْمُظْهِرَات زِينَتِهِنَّ للأجانب ، وهو مَذْمومٌ لغيرِ الزَّوج . الْمُتَخَيِّلاتُ ، أي الْمُعْجَبَاتُ الْمُتَكَبِّرات ، والْخُيَلاءُ - بِالضَّم - العُجْب والتَّكَبُّر . وهُنّ الْمُنَافِقَات . اهـ .
فالمرأة المؤمنة لا تتبرّج .. لأنها تؤمن بالله واليوم الآخر ..
وأما الْمُنَافِقَة فهي التي تتبرَّج ..
وهذا بِنصّ هذا الحديث ..
إذا .. فالتَّبَرُّج علامة مِن علامات النِّفاق ..
ولعلي خرجت عن أصل المقارَنة ! بَيْن تَبَرّج الجاهلية الأولى والجاهلية المعاصِرة
وخلاصة القول .. أن تَبَرُّج الجاهلية الأولى أهون وأخَفّ من تبرّج الجاهلية المعاصرة
وكلما زاد البعد عن الدِّين .. زاد التَّبَرُّج
ومن أعْجَب ما قرأت أن عقلاء الغربيين يرفضون التَّبَرُّج !
ولما قام إمبراطور ألمانيا " غليوم " بزيارة تركيا أحبّ أعضاء جمعية الاتحاد والتّرقي التركية أن يُظهروا له تمدّنهم ! فأخْرَجُوا بعض بنات المدارس وهُنّ مُتَبَرِّجَات لاستقباله ، واستغرب الإمبراطور ، وقال للمسؤولين : إني كنت آمل أن أشاهد في تركيا الحشمة والحجاب بحكم دينكم الإسلامي ، وإذا بي أشاهد التَّبَرُّج الذي نشكو منه في أوربا ، ويقودنا إلى ضياع الأسرة ، وخراب الأوطان ، وتشريد الأطفال !!
فهذه أوربا تشكو مِنْ ويلات التّبرج ، وتجني ثمرات الاختلاط ، وتعاني من داء عضال ، اسمه " خروج المرأة من بيتها " الخروج الذي أخلّ بوظيفتها الأساس .
والتاريخ يُعيد نفسه !
فأولئك أخرجوا بعض بنات المدارس وهُنّ مُتَبَرِّجَات .. إنما أخْرَجُوهنّ لإظهار صورة التحضّر – بِزَعْمِهم – أمام الغربيين !
وهذا كَحَال دعاة تحرير المرأة – زَعَمُوا – اليوم عندما يريدون إظهار مجتمعاتنا بالصورة التي تُرضي الغرب !!(1/415)
ومِن طريف ما قرأت أن سفير الدولة العثمانية اجتمع في بلاد الإنجليز مع كبراء الدولة ، فقال أحد الكبراء للسفير : لماذا تُصرّون أن تبقى المرأة المسلمة في الشرق الإسلامي متخلِّفة معزولة عن الرجال محجوبة عن النور ؟! فردّ السفير العثماني – بذكاء وسرعة بديهة – : لأن نسائنا المسلمات في الشرق لا يرغبن أن يَلِدْنَ من غير أزواجهن ! فخجل الرجل وسكت ، وبُهِت الذي كفر .
أقول " دُعَاة تحرير المرأة " – زَعَمُوا – ، أي : هذا بِزَعْمِهم
وإلاَّ فإنّ الحقيقة أنهم " دُعَاة تَخريب المرأة " ؛ لأن الإسلام هو الذي حَرَّر المرأة ، وهُم إنما يُريدون تَخريب المرأة لا تَحريرها !
أو نَقول – مِن باب التَّنَزُّل مع الخصم – دُعاة تَحرير المرأة .. ولكن مِن كُلّ فضيلة !
يَعني : هم يُريدون تحرير المرأة مِن كُل فضيلة !
والله المستعان ..
....................................................................................
شيخنا الفاضل ..
بارك الله فيكِ .. على إفادتك لنا ..و سُؤالي لك يا شيخنا :
برأيك : ما هو السبب الرئيسي الذي يجعل الفتاة تتبرج وتفسخ حياءها كما نراهُ اليوم في حال
فتياتِنا هداهُن الله تعالى .. هل هم الأهل ..؟ أم الفتاة نفسها تكون مُنفتحه .؟ أم هو من الصديقة؟ أم من الزوج ..؟
وبرأيك : أيهم الأكثر تأثير من المذكور أعلاه ..؟!!
أسعدك المولى ..
الفاضلة أم قتيبة
بُورِكْتِ .. ووُفِّقْتِ وهُدِيتِ ..
ذَكَرْتُ أهَمّ أسباب التَّبَرُّج
ولعلي أُضيف إليها هنا :
وسائل الإعلام ، سواء كان مرئيا – وهو الأقوى في الأثير – أو كان مسموعا أو مقروءا .
فوسائل الإعلام تَطْرُق على هذه المنكَرات ، سواء كان الطرق مُباشِرًا أو غير مُباشِر
فتاة تَرى مسلسلات .. تخرج فيها المرأة مُتبذِّلَة .. مُتَهتِّكَة .. في كامل زِينَتِها .. كأنما تُزَفّ لِزوجها !
ثم تَعِيش حَيَاة الْحَبّ والصّفاء !
حياة لا يُكَدَّر صَفْوها !(1/416)
حياة لا تَكون إلا في الأفلام والمسلسلات !
فما الذي يُورثه مُشاهَدة مثل هذا ؟!
أقل ما تُورِثه أن تُسْتَسَاغ رؤية الْمُنْكَر .. ولا يَكون في القلب باعِث على إنْكَار المنكر .. وربما طُمِس القلب من جَرَّاء ذلك .
ولذلك لَمَّا قيل عند ابن مسعود رضي الله عنه : هَلَك مَن لَم يَأمُر بِالْمَعْرُوف ويَنْه عن الْمُنْكَر قال ابن مسعود : هَلَك مَن لَم يَعْرِف قَلْبه مَعْرُوفًا ولَم يُنْكِر قَلبه مُنْكَرا .
ولا شكّ أن الصُّحْبَة لها أثَرها ..
تقدّم الكلام في ذلك ..
قال عليّ رضي الله عنه :
فلا تصحب أخا الجهل = وإياك وإياهُ
فكم من جاهل أردى = حليما حين آخاهُ
يقاس المرء بالمرء = إذا ما المرء ما شاهُ
وللشيء على الشيء = مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب = دليل حين يلقاه
وأنشَد الأبرش :
يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ما شاه
وذو العرّ إذا احتكّ ذا الصحة أعداه
وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه
وللروح على الروح دليل حين يلقاه
وقال ابن حبان :
إن من أعظم الدلائل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه هو الاعتبار بِمَن يُحَادِثه ويَوَدّه ، لأنَّ الْمَرْء على دِين خَليله ، وطير السماء على أشكالها تَقَع ، ومَا رأيت شيئا أدلّ على شيء - ولا الدخان على النار - مثل الصَّاحِب على الصَّاحِب . اهـ .
ونسأل الله السلامة والعافية ..
....................................................................................
ولدي تساؤلات لو يتكرم الشيخ يبدي رأيه فيها . وهي:
* لاحظنا في مجتمعنا وقوع الطلاق بين الزوجين لأسباب غير معتبرة، فأنا أعرف فتاة طلبت الطلاق من زوجها ، وكان لها ما أرادت، لماذا ؟.. . لأن زوجها لا يسمح لها بالتبرج ، أو لبس العاري من الملابس بين النساء في المناسبات.(1/417)
* وبعض النساء يلبسن الملابس العارية بدون علم أزواجهن . وهنا أود لو أنك يا شيخ عبد الرحمن توجه كلمة لهؤلاء الأزواج بأن ينتبهوا لنسائهم ، فكيف يريد أن يربي بناته على الستر، وهذه حال والدتهن
وكيف يضمن الرجل صدق زوجته معه وطاعتها له في غيبته ؛ بحيث تتجنب هذا النوع من اللباس ؟
شكر الله لك ونفعك ونفع بك .
الفاضلة سارة آل كليب ..
بُورِكْتِ .. ووُفِّقْتِ وهُدِيتِ ..
هذه الْحَالَة التي ذَكَرْتِيها هي حَالة مَرَضِيّة ! وليست ظاهرة ..
وفي مثل هذه الْحَالةَ يَظْهَر ضعف الزوج ، وأحيانا فَقْد الْحِكْمَة .. وغياب الوعي .. بل وغياب الطُّرُق الشرعية في عِلاج المشكلات الزوجية . .
أحيانا أذكُر قصة رمزية .. لامرأة جاءت إلى شيخ – تَظُنّه ساحِرًا – وأرادت أن يَعْمل لها سِحْر ليتعلّق بها زوجها .. فأراد أن يُلقِّنها دَرسًا .. فطلب منها شعرة أسد !
ولأنه عالم ومُرَبّ قال لها : إنك تطلبين شيئا ليس بسهل ! لقد طلبت شيئا عظيما . فهل أنت مستعدة لتحمل التكاليف ؟
قالت : نعم
قال لها : إن الأمر لا يتم إلا إذا أحضرت شعرة من رقبة الأسد !
قالت: الأسد ؟
قال : نعم
قالت : كيف أستطيع ذلك والأسد حيوان مفترس ولا أضمن أن يقتلني أليس هناك طريقة أسهل وأكثر أمنا
قال لها : لا يمكن أن يتم لك ما تريدين من محبة الزوج إلا بهذا وإذا فكرت ستجدين الطريقة المناسبة لتحقيق الهدف .(1/418)
ذهبت المرأة وهي تضرب أخماس بأسداس تفكر في كيفية الحصول على الشعرة المطلوبة فاستشارت من تثق بحكمته فقيل لها أن الأسد لا يفترس إلا إذا جاع وعليها أن تشبعه حتى تأمن شَرّه . أخذت بالنصيحة وذهبت إلى الغابة القريبة منها ، وبدأت ترمي للأسد قطع اللحم وتبتعد ، واستمرت في إلقاء اللحم إلى أن ألِفَتِ الأسد وألِفَها مع الزمن . وفي كل مرة كانت تقترب منه قليلا إلى أن جاء اليوم الذي تمدد الأسد بجانبها وهو لا يشك في محبتها له ، فوضعت يدها على رأسه وأخذت تمسح بها على شعره ورقبته بكل حنان و، بينما الأسد في هذا الاستمتاع والاسترخاء لم يكن من الصعب أن تأخذ المرأة الشعرة بكل هدوء ! وما إن أحست بتملّكِها للشعرة حتى أسرعت للعالم الذي تظنه ساحرا لِتُعْطِيه إياها ، والفرحة تملأ نفسها بأنها ستتربع على قلب زوجها وإلى الأبد .
فلما رأى العالم الشعرة سألها : ماذا فعلت حتى استطعت أن تحصلي على هذه الشعرة ؟
فشرحت له خطة ترويض الأسد ، والتي تلخصت في معرفة المدخل لقلب الأسد أولاً - وهو البطن - ثم الاستمرار والصبر على ذلك إلى أن يحين وقت قطف الثمرة .
حينها قال لها العالم : يا أمة الله ... زوجك ليس أكثر شراسة من الأسد !! افعلي مع زوجك مثل ما فعلت مع الأسد تملكيه . تَعَرّفي على المدخل لِقَلْبِه وأشبعي جوعته تأسريه ، وضعي الخطة لذلك واصبري .. تنالي مُرادَك ..
إن الزوج مهما كان شرِساً لن يكون أشرس من الأسد !
وقد ذكرت هذه القصة الرمزية هنا :
http://saaid.net/Doat/assuhaim/285.htm
والشاهد من هذه القصة .. أنه مهما كان الزوج شَرِسًا.. ومهما كانت الزوجة سيئة .. فلن يَكونا أشرس من الأسد !(1/419)
وأيضا جانب الوعظ والنصح والتذكير .. ثم الهجر ثم الضرب غير المبرِّح – كآخِر علاج – وهو بِمنْزِلة الكَيّ قبل بَتْر العضو – الطلاق – .. ربما غابَتْ كل هذه الوسائل الإصلاحية في لحظة غضب .. فلجأ الزوج إلى بَتْر العضو وكَسْر الضِّلع ! لإنهاء مُشكلة قائمة .. أو مِن أجل الهروب مِن مُشكلة تُسبب له صُداعا !
أعرف نماذج مِن مُعاملات شَتَّى .. بعضها تبيَّن فيها الْحُمق ! والآخر تَجَلَّت فيها الْحِكْمَة
شاب دخل على زوجته في أول ليلة .. ثم صَبّ جام غضبه عليها .. وانتهت تلك الزيجة بالطَّلاق
وآخر تزوّج فتاة لم تُحبّه في البداية .. وكانت تحرص على أن تُسيء إليه .. فتُسمعه الأغاني وتُهمله كأنه غير موجود !
فما كان منه إلاّ أن صَبَر عليها حتى تَمَلّك قلبها ثم غَيَّر ( بَرْمَجَتها ) !
كما اعْرِف حالة عكس الحالة التي ذكرتِ ..
وهي قصة لِفَتاة .. تزوّجت حديثا .. ثم عَرَض عليها زوجها أن تُسافِر معه لإحدى دول الكُفر لإكمَال دراسته .. وشَرَط عليها أن تخلع حجابها .. وتتبرّج .. لأنها ستكون في بلد حضارة – بِزَعْمه – !
فَرَفَضَتْ الفِكْرَة مِن أصْلِها ..
فَخَيَّرَها بَيْن الطَّلاق وبين الذهاب على تلك الحالة .. فآثَرَت الطلاق على التَّبَرُّج
فلله دَرّها .. وأسأل الله أن يُعوِّضها خيرا مما تركَتْ ..
وبالنسبة للتعامل مع الزوجات فينبغي أن يَكون هناك مَجَالا مِن الثِّقَة بين الزوجين ، لا أقول : الثِّقَة المطلَقَة – كَمَا يَقول بعض الأولياء – فهذه تَضْييع .. وليستْ ثِقَة ..
ويَكون هناك إحساس بالمسؤولية ..
وأن مسألة اللباس والْحفْظ والصِّيَانة مسائل مُشترَكَة ومُتَبَادَلة
ومِمَّا يُوجِد الْحِفْظ في حال غَيَاب الزوج أو الزوجة .. حِفْظ الله في كُلّ حال .. في حال الغيب والشهادة
فإن مَن حَفِظ الله حَفِظه الله في نفسه وأهله وولده
قال عليه الصلاة والسلام : احْفَظِ الله يحفظك . رواه الإمام أحمد والترمذي .(1/420)
ولا شكّ أن على الأزواج مسؤولية ..
وعلى الوالدين مسؤولية ..
وبعض الأمهات تَزْعم أنها لا تُريد أن تُعقِّد البنت ..
أو تَزْعُم أن البنت صغيرة .. ونحو ذلك ..
وهي تضع تلك المسؤولية في رقبتها ..
ثم تأتي تلك الفتاة تَحْمِل العَداوة لأمها .. بل ولِوَلِيِّها ..
قال ابن مسعود رضي الله عنه : يُؤخَذ بِيَدِ العَبْد أوْ الأمَة يَوْم القِيَامَة فيُنْصَب على رُؤوس الأوَّلِين والآخِرِين ، ثم يُنادِي مُنَادٍ : هذا فُلان بن فُلان ، مَن كَان لَه حَقّ فَلْيَأتِ إلى حَقِّه ؛ فَتَفْرَح الْمَرْأة أن يَدُور لَهَا الْحَقّ عَلى أبِيهَا ، أوْ عَلى زَوْجِهَا ، أوْ عَلى أخِيهَا ، أوْ على ابْنِهَا ، ثُمّ قَرأ ابنُ مَسْعُود : (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) .
والله المستعان .
..................................................................................
جزاك الله خير شيخنا الفاضل نشكرك على طيب حديثك
بارك الله فيك وسؤالي هو كيف يمكننا أن نتعامل مع المتبرجات عندما نلتقي بهن في أي مكان وهل يجب علينا إسداء النصيحة لهن حتى وإن كُنّا نخشى من سوء ردة فعلهن ؟
الفاضلة صديقة الزهور ..
بُورِكْتِ .. ووُفِّقْتِ وهُدِيتِ ..
لو تَفَشَّى النُّصْح وانْتَشَر وعَمّ .. ما تَجرَّأت امرأة أن تَتَبَرّج ..
ألسْنَا كثيرا نسمع حُجج كثير من الناس يقولون : ماذا يقول الناس عَنّا ؟!
أحيانا يَتْرُك بعض الناس أشياء من غير قناعة في تركها ، وإنما مَخَافَة الملامَة !
فلو أنّ كُل مُتَبَرِّجة قُوبِلَتْ بِعَشْر يُنْكِرْن عليها .. لَمَا تَجَرَّأت على التَّبَرُّج ..
وهكذا في كل أمر .. ليس فقط في التَّبَرُّج .. بل في كُل مُنْكَر ..
وهذا يَجده أحدنا من نفسه .. لو أنْكَر الناس عليه لِبَاسًا لأجل نوعه أو لونه – ولو كان مُباحًا – فإنه سيتركه لأجل كثرة كلام الناس ..
وما يُنكَر شرعا وعقلا أوْلى وأوجَب بالإنكار ..(1/421)
ثمّ إن الذي يُريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يُريد أن يُقابِل شيئا ، ولا يُواجِه رَدَّة فِعْل .. إنما يُريد الجنة من غير بذل ثمن !
والصبر على ما يُصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكَر مِمَّا يَرْفع درجته
ولذلك قال لقمان لابنه : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) .
فلا بُد من صَبْر مع الأمر بالمعروف ومع النهي عن المنكَر ..
مع تذكّر أن خيرية هذه الأمّة إنما تتحقق بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر ..
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )
وتأمّلي – رعاك الله – كيف قُدِّم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكَر على الإيمان بالله ..
لأن تحقيق الإيمان بالله يَكون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكَر ؛ لأن الآمِر ما بَعَثه على الأمر إلا الإيمان بالله ، ولا بَعَثَه على النهي إلا رَجاء ما عند الله .. ولا صَبَر على ما أصابه إلاَّ وهو يَرجو الله والدار الآخرة ..
في بعض الأماكن يحسن أن يصدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المرأة ..
لأن كلام الرجل مع المرأة قد يُوقِع في الحرج .. وقد تكون المرأة لا تهتمّ بما تقول .. فتُنادي على الذي أنكر عليها بأنه يُعاكسها !
تصوري – حماك الله – أنَّ امرأة دخلت سوقا أو مجتمعا نسائيا وهي متبرِّجَة .. فأنكر عليها عشر نساء .. ثم في المرأة الثانية كذلك .. ألا يَحْمِلُها ذلك على ترك ما هي فيه .. ولو من أجل السلامة من الإنكار عليها ؟!
ينبغي أن نستحضر حين الأمر وحين النهي .. أننا لا ننتصر لأنفسنا .. وأن الهدف هو تغيير أو إزالة المنكر .. فإن لم يَكن لا هذا ولا ذاك .. فعلى الأقل ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ..(1/422)
وعلينا بالرِّفْق خاصة في ابتداء الأمر ..
فإن الله يُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطِي على غيره ..
وما كان الرِّفق في شيء إلاَّ زانه , وما نُزِع مِن شيء إلاَّ شانه . كما قال عليه الصلاة والسلام .
وكان الله في عونك ..
......................................................................................
الشيخ الفاضل عبدالرحمن السحيم
التبرج
حقيقة موضوع شائك
نرى الكل ينادي به وإن لم يكن بصورة مباشرة
المجلات .. التلفاز .. النشرات .. والكثير من مواقع الانترنت
الكل ينادي بالجمال .. ولا يهمهم سوى الربح
نسمع من هنا وهناك ..لجمالك
*
نداءات لجمالك فقط
هل شاهدتهم كريم تقشير البشرة ..... الذي عرض في قناة ...
*
وجهك فقط ينقصه إزالة تلك الشعيرات وتصبحين في غاية الجمال ..
نظفي فقط حاجبيك !!
*
شعرك جميل
دفعتي الكثير من المال للاعتناء به
لماذا تقومين بتغطيته ؟!!
الكثير والكثير من تلك النداءات
ولكن للأسف الكثير استجاب لتلك النداءات
فما نراه في الأسواق دليل كافي
الفتاة بكامل زينتها.. الملابس أو العباءة ضيقة
والحجاب يكاد يكون منعدم ..
وان تعرضت للمعاكسة تشتكي وتقول فلان يعاكسني
ما سبب تلك المعاكسات ؟؟
لا أعلم كيف يرضى الأهل بخروجها بهذا الشكل
شيخي الفاضل
نصيحة تقدمها لنساء المسلمين
ولأولياء الأمور
فالتبرج بات يزداد يوما بعد يوم
الفاضلة سجايا ..
بُورِكْتِ .. ووُفِّقْتِ وهُدِيتِ ..
صحيح .. هذه مِن أساليب ( نُوَّاب إبليس ) كما سَمَّاهم ابن القيم رحمه الله !
تَبَاكَوا على الفتاة بحجة التعليم ورفع الجهل عنها .. وأنها إن تكن أُمّا مُتعلِّمة خير من أن تكون جاهلة !
ثم تباكوا عليها بعد ذلك .. مسكينة .. أمضَتْ عمرها في الدراسة وتقعد حبيسة بيتها !
ما الحل إذا ؟!
الحل عندهم .. أن تعمل في كل مجال .. سواء نَاسَبها أو لم يُناسبها !
وأن لا يَقرّ لها قرار .. ولا تعرف الراحة ولا الاستقرار ..(1/423)
وهم كذلك .. نادوا بالجمال بِكلّ وسيلة .. ولو كانت مُحرّمة ..
ودَعَوا إلى التَّمَرُّد على الدِّين والْخُلُق .. بل ودَعَوا إلى نَبْذ الحياء ! بحجَّة أنه يُعيق الفتاة !
دَعوها لتتجمّل .. ثم قالوا : حرام يستر ذلك الوجه !
وهل تتجمّل المرأة مِن أجل الرِّجال الأجانب ؟!
المرأة المسلمة أثمن مِن أن تكون حلوى مكشوفة .. ولا ألعوبة .. ولا سلعة رخيصة .. ولا وسيلة دعاية !
بينما هي في الغَرْب مُبْتذَلة أشَد الابْتِذال .. مُهانَة أعْظَم مهانة ..
ومَن رأى حياة المرأة الغربية عَرَف كيف هي شَقِيَّة !
إحدى زعيمات الحركة النسائية المعاصرة .. ذهبَتْ إلى أمريكا لتقتبِس مِن نَارِها .. فرجَعَتْ وقد اكْتَوَتْ بِشُواظٍ من نَار !
عادتْ .. وهي تمضغ الأسى وتبلع الحسرة لِتقول :
عُدْتُ من رحلتي للولايات المتحدة منذ خمسة أعوام وأنا أرثي لحال المرأة التي جرفها تَيّار الْمُسَاوَاة الأعمى فأصْبَحَتْ شَقِيّة في كِفَاحِها لِكَسْب العَيش ، وفَقَدَتْ حتى حُرِّيَّتها . اهـ .
وتقع المسؤولية على أولياء الأمور مِمَّن شَرّفهم الله بالقوامة , وأمَرَهم بِرعاية مَن تحت أيديهم
وسوف يُسْأل كل راع عَمّا استرعاه الله ؛ حَفِظ أم ضَيَّع ..
وكثيرا ما يُهمل الأولياء .. ويُفرَّطُون في جانب القوامة .. بِحُجج واهية ..
وسوف يندمون حين لا ينفع النَّدم .. ويستحسِرون حين لا تنفع الْحَسْرَة ..
ويَكون هؤلاء الذين أهْمَلُوهم .. خُصُومهم يوم القيامة ..
والمسؤولية تقع على عاتق الأب وعلى عاتق الأم أيضا ..
لأن الأمّ قد تعلم بما لا يعلمه الأبّ .. ربما لِقربها من ابنتها أحيانا .. وربما لاطِّلاعها على ما لا يطلع عليه الأب ..
والوصية للجميع .. للآباء وللأمهات ..
بل ولِكُلّ من عَرَف المعروف وفَرَّق بينه وبين المنكَر ..
فالبنت مع أختها .. ومع أخيها .. ومع والديها .. تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .. وليَكن ذلك بِرِفْق ..
كما قيل :(1/424)
لِيَكُن أمْرُك بالمعروف بالعروف ، ونَهيُك عن المنكر بلا منكر ..
وكان الله في عونك .
..............................................................................
حياك شيخنا الفاضل .
سؤالي :
ما هي فضائل الحجاب كما ورد في الكتاب والسنة ؟
جزاك الجنة .
الفاضلة باسمة ..
بُورِكْتِ .. ووُفِّقْتِ وهُدِيتِ ..
لو لم يَكن في الحجاب إلاَّ أنه طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لَكَفَى ..
والحجاب عِبَادة
والإنسان إمّا أن يكون عَبدًا لله .. وهذه عبودية فَخْر وعِزّ وكَرامة
وإما أن يكون عبدا لِهواه وشهوته ورغباته .. وهذه عبودية ذُلّ ومهانة وضياع !
والله عزّ وَجَلّ وَصَف مُتَّبِع الهوى بأنه " عَبد " لِهَوَاه ، فقال تبارك وتعالى : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) ، وقال عزّ وَجَلّ : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .
والنبي صلى الله عليه وسلم سَمِّى مَن تَعلَّق بشيء مِن مَتاع الدُنيا " عبدًا " لِمَا تَعلّق به ، فقال عليه الصلاة والسلام : تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ؛ إن أُعْطِي رضي ، وإن لم يُعْط سَخِط ، تَعِس وانْتَكَس ، وإذا شِيك فلا انْتَقَش . رواه البخاري .
ومِن فضائل الحجاب ..
1 – حِمايَة وصِيَانه للمرأة المسلمة .. قال تعالى : ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ )
2 – تَزْكِيَة ورِفعة للنفس البشرية .. قال تعالى : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) ، وإذا كان ذلك في شأن أُمَّهَات المؤمنين – وهُنّ بِمنَزِلة الأمَّهات – فكيف بِغيرهنّ ؟!(1/425)
3 – التَّمسُّك بالحجاب سَلامة وبراءة مِن صِفَة المنافِقَات .. كما تقدم في الحديث :
وشَرُّ نِسَائِكُمُ المتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِّلاتُ ، وهُنَّ المنافِقَاتُ . لا يَدخلُ الجنةَ مِنْهُنّ إلا مثلُ الغُرَابِ الأعْصَم . رواه البيهقي ، وصححه الألباني .
4 – أنَّ نساء سلف هذه الأمة تَمَسَّكْن بِالْحِجَاب في كل حال .. في حال الصِّحَّة .. وفي حال الْمَرَض والصَّرَع .. وفي حَال الْمَوت !!
وهذا أشَرْت إليه في مقال بعنوان :
إني أُصْرَع ..
وهو هنا :
http://www.islamselect.com/index.php?ref=5686
5 – فيه دَلِيل على صِِدْق مَحبّة المرأة لله عزّ وَجَلّ ولِرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ الْمُحِبّ لِمَن يُحِبّ مُطِيع .
وعكس ذلك ؛ التَّبَرُّج .. فإنَّ الْمُتَبَرِّجة كاذبة في دَعْوى مَحبَّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : صنفانِ مِن أهلِ النارِ لم أرهما : قومٌ معهم سِياطٌ كأذنابِ البقرِ يَضْرِبُونَ بها الناسَ ، ونِساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مميلاتٌ مائلاتٌ ، رؤوسُهُنَّ كأسنِمَةِ البُخْتِ المائلةِ لا يَدْخُلْنَ الجنةَ ولا يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وإن رِيحَهَا لَيوجَدُ مِن مَسيرةِ كذا وكذا . رواه مسلم .
6 – السلامة مِن عذاب الله في الدنيا وفي الآخِرة .
لأنَّ الْمُتَبَرِّجِة تَلْبَس ما يُشْهِرها أمَام النَّاس .. فَثِيَاب التَّبَرُّج ثِيَاب شُهرَة ، وفي الحديث : مَنْ لَبِسَ ثَوبَ شُهْرَةٍ في الدنيا ألْبَسَهُ اللهُ ثوبَ مَذَلَّةٍ يومَ القيامة . رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجَه .
وِعِنْْدَ ابنِ ماجه مِن حَدِيثِ أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَن لَبِسَ ثَوبَ شُهْرَةٍ أعرضَ اللهُ عنه حتى يَضَعَه مَتى وَضَعَه . قال البوصيري : إسْنَادُه حَسَن .
قال ابنُ القيِّم : وهذا لأنه قَصَدَ بِهِ الاختيالَ والفخرَ فَعَاقَبَه اللهُ بنقيضِ ذلك ، فَأَذَلَّه . اهـ .(1/426)
7 – التَّبَرُّج .. سُقوطٌ من عَينِ الله ، ومِن أعيُنِ الناس
فإن التَّبَرُّجَ كبيرةٌ من كبائر الذنوب ، والعَاصِي قَد هَانَ على الله .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ما أهونَ الخلقِ على اللهِ إذا أضَاعُوا أمرَه .
وقال ابن المبارك : لا تقول : ما أجْرأ فُلاناً على الله ، فإن الله أكْرم من أن يُجْتَرأَ عليه ، ولكن قُل : ما أغَرَّ فُلانًا بالله .
قال أبو سليمان الداراني : صَدَقَ ابنُ المبارَك ! هو أكرم من أن يُجْتَرَأَ عليه ، ولكنهم هانُوا عليه فَتَرَكَهُم ومَعَاصِيه ، ولو كَرُمُوا عليه لمنعهم منها .
قالت أمُّ أحمد بنت عائشة : قالت لي أمي : لا تَفْرَحِي بِفَانٍ و لا تَجْزَعِي مِن ذاهِبٍ ، و افْرَحِي باللهِ عز وجل ، واجْزَعِي مِن سِقوطِكِ مِن عَينِ اللهِ عز وجل .
وإذا كان التَّبَرُّج سُقُوط مِن عيَن الله ومِ، أعْيُن النَّاس .. فإنَّ الْحِجَاب والاحْتِشَام سَبب في رِفْعَة المرأة في الدنيا وفي الآخِرة ، وعُلُوّ قَدْرِها عند الله وعند الناس .
8 – البراءة مِن وَصْمَة الْجَهْل والْجَاهِليَّة .
لأنّ التَّبَرُّج مِن عَمَل الْجَاهِليَّة ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) .
فالْمُتَبرِّجةُ جَاهلة ، وإن حَازتْ أعلى الشهادات ، أوْ تَبَوَّأتْ أعلى الْمناصِب !
وعلى كُلٍّ فإن التبرّجَ جَهلٌ ، وصاحِبَتُه جاهِلة ..
جاهِلةٌ بِربِّها ، وما يَجِبُ له عليها
جَاهِلَةٌ قَدْرَها
جَاهِلَةٌ أنَّ الله اصطفاها ، وشَرَّفَها وكرَّمَها
وتِلك نِعمةٌ يَجبُ أن تُرْعَى وتُشكَر
المتبرِّجةُ جَاهِلَةٌ فلا تعرِفْ ما يَنفعُها ولا ما يضرُّها
جَاهِلَةٌ بِحَالِ عَدوِّها ..
فإنَّ اللهَ قال في مُحكَمِ التَّنْزِيل عن العَدُوِّ المبِين : (وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ)
فالمتبرِّجَة سَلَّمَتْ قِيَادَها لِعدوِّها !(1/427)
وقد قال الله عزّ وجَلّ : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) .
فَهَلْ هناكَ أجهل ممن سَلَّم أمرَه لِعدوِّه يَقوده إلى الهلاك ؟!
بالإضافة إلى ذلك :
فقد ثبت علمياً ، وفق دراسات طبيّة نُشِرتْ مؤخّراً أنَّ المرأة الْمُحَجَّبة أقل من غيرها إصابة بأمراض العين خاصة القرنية .
ونُشِرَ في المجلةِ الطبيةِ البريطانية : أنَّ ( سرطانَ الميلانُومَا ) والذي كان من أندرِ أنواعِ السرطان أصبحَ الآن في تزايدٍ ، وأن عددَ الإصاباتِ في الفتياتِ في مقتبلِ العُمرِ يتضاعفُ حالياً حيثُ يُصَبْنَ به في أرجِلِهِنَّ ، وأن السببَ الرئيسَ لشيوعِ هذا السرطانِ الخبيث هو انتشارُ الأزياءِ القصيرةِ التي تُعَرِّضُ أجْسَادَ النساءِ لأشعةِ الشمسِ فتراتٍ طويلةٍ على مَرِّ السنة ، ولا تُفِيدُ الجواربُ الشفافةُ في الوقايةِ منه ..
وتحتَ عُنوان : في السعوديةِ : الْحِجابُ يَهزِمُ السَّرَطان
نَشَرَتْ مَجلةُ (حياة) في العددِ السابعِ والأربعين : إعلانَ البروفيسورَ الكَنَدِي الدكتور مِلْكَر حقيقةً عِلْمِيةً مُذْهِلة .. مَفادُها أن إصابةَ السعودياتِ بِمرضِ سرطانِ البلعومِ الأنْفِيّ أقلُّ بِكثير منها لدى الرِّجَالِ ، ولَدَى النساء في مُختَلَفِ أنْحَاء العالَم ..
وفي مَعرِضِ اكتشافِه قَدَّمَ الدكتور حقائقَ عِلميةٍ حولَ هذا الموضوع .. إذ أنّ الدراسةَ استمرَّتْ ثلاثَ سنوات عَمِلَ خلالَها على تَقَصٍّ دقيق لِجَمِيعِ الإحصائياتِ لأكثرَ من مائةٍ واثنا عشرة دولة في العالَم في كلٍّ مِن أمريكا وأوربا وأفريقيا وأستراليا وآسيا .(1/428)
وتَمَّ خِلالَها حَصْر نِسْبَةِ الإصابةِ بهذا المرضِ بينَ النساء والرِّجَال حيث وَجَدَ أن نِسبَةَ الإصابةِ بِهذا المرضِ بين الرِّجالِ والنساءِ مُتساوية في العَديدِ من دُولِ العالَمِ ، وتزيد بين النساء في دُولٍ أخرى .. إلا في المملَكةِ فإنَ النسبةَ لا تَكادُ تُذكَر ، ولا تتجاوزُ 2% من الإصابة .
ولم يَجِدِ الدكتور تفسيراً لهذه الظاهرةِ إلاّ ارتداءَ الحجابِ ، وهو سببٌ عِلأميّ كافٍ للوقايةِ من فَيروس ( إيستاين بار ) وهو لا يُصيبُ إلاّ منطقةَ البلعومِ الأنفي .
وقال الدكتور مِلْكَر :
لا يوجَدُ سببٌ آخر لِحمايةِ السعودياتِ من سرطانِ البلعومِ الأنْفِيّ سوى الحجاب ، لأن بلاداً تَقَعُ بالقُربِ من المملَكة ، وفيها نفسُ الظروفِ المناخيةِ والغذائيةِ تَصِلُ نِسبةُ الإصابةِ بين النساء فيها إلى 50% مُقارَنةً بالرِّجال .
والجدير بالذِّكرِ أن الدكتور كنديّ الجنسية وهو على غير مِلةِ الإسلام !
والله يحفظك .. ويحفظ سائر نساء المسلمين ..
......................................................................
كلنا يعلم ما آل إليه فتياتنا وأمهاتنا من تبرج نراه في الأسواق والمنتزهات وغيرها
ونأسف كثيراً لها ..
سؤالي .. ما هي العوامل التي ساعدت على انتشار التبرج ??
2\ ما هي المبادئ التي يجب على المرأة إتباعها للابتعاد عن التبرج ??
3\ هناك البعض يرى أن الكشف على السائق .. شيء مفروغ منه .. ويعتبرونه فرد من أفراد المنزل .. ما هو الرد من فضيلتكم عليهم ??
4\ نصيحه توجهها لتلك التي تتردد في ارتداء الحجاب فتقول " كيف ستكون نظرة الناس إلي وأنا أرتدي الحجاب في بلاد الكفر !!?? "
5\ ما هي الأدلة الموجبة للحجاب وتغطية الوجه ??
وجزاكم الله خيراً
الفاضلة دودي وبس ..
بُورِكْتِ .. ووُفِّقْتِ وهُدِيتِ ..
أمَّا العوامل التي ساعدت على انتشار التبرج ؛ فهي كثيرة ، وأشَرْتُ إلى ذلك في أسباب التبرج
ومن أسباب ظَهُور التبرج :(1/429)
- ضعف التَّدَيُّن . ويتبعه ضعف الغيرة على الْمَحَارِم
- الْجَهْل ، حتى تظنّ بعض النساء أن الحجاب لا علاقة له بالدِّين ! بل هو مُجرّد عادات !
- التَّنْشئة الخاطئة
- الأفكار الْهَدَّاَمة ، سواء ما خَلَّفها احتلال بلاد المسلمين من قِبَل أعدائهم ، أو ما صَنَعُوه مِن دُمَى يُحرِّكُونها في بلاد المسلمين !
وأعْنِي بِهم مَن دَرَسُوا في بلاد الغَرْب ، فَعَادُوا بِقُلُوب غَربيّة غَرِيبة !
يُنادُون بِنَبْذِ كُلّ ما هو أصِيل .. واسْتِبْدَاله بِكلّ دَخِيل !
ومُحَاربة كل فضيلة .. وإحْلال كُلّ رذيلة !
أليسوا هم الذين يُنادون بِنْزع الحجاب ؟!
أليسوا يَدْعُون إلى اسْتِبعاد المقرَّرات الشرعية مِن مناهجنا ؟!
أليسوا هم الذين يُنادُون بِضَرورة إدخال موادّ الرقص والموسيقى إلى مدارسنا ؟!
هؤلاء وأمثالهم ليس لهم ولاء لِبلادهم فضلا عن أن يَكون لهم أصلا ولاء لِدينهم !
إنّ العربي الأصيل – قبل الإسلام – كان له ولاء لأهله ووطنه .. كان له ولاء لِقَبِيلته
أما هؤلاء فما أشْبَهوا العرب .. وقد تشدقوا بالقومية العربية !
وإنما أشبهوا الغرب قلبا وقالبا !
بل كثير منهم أكثر إخلاصا للغَرْب من الغربيين أنفسهم !
وأمَّا " المبادئ التي يجب على المرأة إتباعها للابتعاد عن التبرج " فهو مبدأ واحد .. إن تَمَسَّكت به نَالتْ سعادة الدنيا والآخرة ، وعِزّ الدنيا والآخِرة – وهو الدِّين الْحَقّ ..
فَمَتى ما تمسّكت المرأة بِدينها وأحسَّتْ أنه لا سعادة لها ولا حياة ولا كرامة ولا عِزّة إلاَّ بِدينها حرصت عليه أكثر مِمَّا تحرص على جميع دُنياها بِما فِيها ومَن فِيها .
ومَتى عَلِمَتْ عِلْم يقين أنَّ هذا الدِّين هو الذي كَفَل لها وضَمِن لها الكرامة حَمَلها ذلك على التَّمَسُّك به ، وعدم التَّخَلّي عن جزء مِنه .. لأنه كُلّ لا يتجزأ ..(1/430)
وقد عَاب الله على أقوام أخَذُوا بِبَعْض الكِتاب وتَرَكُوا بَعْضَه ، فقال : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .
ولو تأمّلتِ – حفظك الله – في كُلّ الأمور التي تُساعِد على التَّبَرُّج لَوجدتِ أنها راجِعة في الأصل إلى القصور في فهم الدِّين ..
خذي مثلا : أثر الصَّدِيقة .. ولا شكّ أن الصديق له أثر على صديقه .. والمرء على دِين خليله . كما قال عليه الصلاة والسلام ..
فاخْتِيار الصَّدِيقة يَجب أن يكون وِفْق معايير شرعية .. ولذلك جاءت آيات وأحاديث عن الصَّداَقة وتأثير الصَّدِيق .. بل ودَلَّت الأحاديث على خُطورة الصَّدِيق ..
مات أبو طالب على الكُفْر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَدْعوه إلى الإسلام .. وكان أصدقاء أبي طالب ( أبو جهل وعبد الله بن أمية ) عنده يُثبِّتُونه على الكُفر !
أخلص مِن هذا .. إلى أنَّ اختيار الصديقة يجب أن يكون وفق معايير شرعية .. بينما نجد أنَّ اتِّخاذ الصديقة يَكون – غالبا – مَبْنِيًّا على تَوافُق الطِّبَاع .. ووجود تقارب وتفاهم ! ليس إلاَّ !
وأُنَبِّه إلى خُطورة مَن نُصاحِب .. ولذلك يجب أن تختار الفتاة الصديقة الصالحة .. التي تُعينها إن ذَكَرَتْ .. وتُذكِّرها إن غَفَلَتْ ...
وأمَّا السائق فهو بليَّة .. والأجِير عموما في البيت بليَّة ..
ليس في هذا الزمان فحسب .. بل حتى في القرون الفاضلة ..
ففي زَمن النبي صلى الله عليه وسلم استأجَر رَجل أجِيرا يعمل عنده .. فوقع المحذور من أثر الخلوة .. وزَنَى الأجير بامرأة صاحب العمل ..
ففي الصحيحين مِن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالا :(1/431)
جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ : صَدَقَ ! اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ : إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا ، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ ... الحديث .
والعَسِيف : هو الأجير ..
والأجير – أيا كان – سائقا أو غيره .. هو أجنبي .. وشرّه مستطير خاصة إذا كان يدخل البيوت أو يخلو بِالْمَحَارِم ..
ووالله مَا وُجِد هذا إلاَّ يوم أن ضعفت الغيرة .. بل لعلّها تَرَحَّلَتْ من قلوب أولئك ..
والغيرة قَرينة الإيمان ..
قال ابن القيم : وإذا تَرَحَّلَتْ هذه الغَيرة مِن القلب تَرَحَّلَتْ مِنه الْمَحَبَّة بل تَرَحَّل مِنه الدَّين ، وإن بَقِيَتْ فيه آثاره . وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي الْحَامِلَة على ذلك ، فإن خَلَتْ مِن القلب لَم يُجَاهِد ولَم يَأمر بالمعروف ولم يَنْه عن المنكر . اهـ .
والسائق أجنبي عن المرأة فلا يَجوز لها أن تخلو به ، ولا أن تكشف له وجهها ، ولا تُحَادِثه وتُمازِحه .. فهو أجنبي عنها .
والله المستعان .
وأمَّا مَن تَتَرَدَّد في " ارتداء الحجاب فتقول " كيف ستكون نظرة الناس إلي وأنا أرتدي الحجاب في بلاد الكفر "
فالتوجيه لمثل هذه يكون في أمُور :
الأوَّل : أن اليهود والنصارى لن يرضوا عن مُسْلِم ولا عن مُسلِمَة حتى يتَّبِعوا أهواءهم !
قال تعالى : ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .
الثاني : أنَّ المسلم إمَّا أن يَذوب في مجتمعاتهم ، وإمَّا أن يستمسك بِدِينه ..
فإن ذاب في مجتمعاتهم واندَمَج معهم .. فهو – في نَظَرِهم – الشرقي ! المنبوذ !(1/432)
بل لو شرِب الخمر .. وأكل الْخِنْزِير .. فلن يرتفع قدره عندهم !
في أسبانيا يُوجد طائفة لها مئات السنين .. لا تزال طائفة دُونيّة مُحْتَقَرة .. يُنادونهم بـ " ختيانوس " ، وهم الغجر !
علما بأنهم ذابوا في مجتمعاتهم .. فلا يُفرِّقهم سوى اللون . .أما اللغة والديانة .. فهي واحدة
والعربي في أسبانيا – وإن لبس السلاسل .. أو شرب الخمر ! فهو في اصطلاحهم " مورو " !
والتفرقة العنصرية في أمريكا وفي أوربا .. لا تخفى على ذي عقل وبَصَر !
إذاً .. لم يبق أمام المسلم إلاَّ أن يستمسك بِدينه .. ولو نُظِر إليه نظرة أخرى .. أو نَبَزَوه بالألقاب !
فهو مُحتَقَر لديهم !
وكون المسلمة تستمسك بِدينها أفضل من جميع النواحي
الأولى : أنَّ رِضا الله مُقدَّم على رِضا كل أحَد ..
الثانية : أن عقلاء القوم يَنظرون إلى المستمسك بِدينه على أنه صاحب مبدأ . فيحترمونه .
الثالثة : أن التمسّك بالدِّين دعوة صامتة .. فالمرأة التي تتمسّك بِدينها تدعو إليه وهي صامتة .. فتنال الأجر بذلك ..
و " الأدلة الموجبة للحجاب وتغطية الوجه " كثيرة ..
وسبق أن ذكرت بعضها هنا :
http://www.almeshkat.net/index.php?pg=art&cat=&ref=86
والله يحفظك ..
104-يوسف في السجن الأسباني..!
حكى الله عز و جل عجباً من أخبار نبيِّه يوسف عليه الصلاة والسلام
حكى عنه ربّه أنه دخل السجن فدخل معه فَتيَان وبدل أن يأنس بهما ويُحادثهما استغل تلك الفرصة للدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإلى التذكير بنِعمِ الله .
فقال جل شأنه :(1/433)
( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ )
فأخبرهما أنه عارف بالتعبير حتى يستمعا إليه ، إذ أن المحتاج إلى تأويل رؤيا أو إجابة سؤال سوف يقبل ما يأتيه من كلام وهو متشوق إلى سماع القول في ما يعنيه .
ثم قال :
( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ )
فأخبرهم بدينه وأنه على دين أسلافه من الأنبياء
ثم قال :
( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )
وليس هذا من باب المقارنة
بدليل قوله بعد ذلك :
( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )
وبعد أن فرغ من دعوته قال :
( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ )
ثم عبّر الرؤيا بعد هذا المشوار الدعوي
تذكّرت هذا الموقف لما وردني اتصال من بعض دول أوربا فسمعت عجبا من خبر أحد الشباب العرب في بلاد الكفر ، واسم ذلك الشاب محمد .
ذلك الشاب الذي عرفته شاباً حريصا على الخير(1/434)
حريصا على طلب العِلم وعلى مَجَالِسِه ، حريصا على اقتناء الكتاب .
رأى معي ذات مرة كتاباً فأكبّ عليه يُطالع فيه ويقرأ ويسال .
رأيته أول مرة قبل ما يزيد على سنتين في أحد المُصلَّيَات في أسبانيا وكان مُعتَكِفاً
فقلت : سبحان الله ! أفي هذا البلد الذي يعجّ بالفتن ؟ هناك من رفض الدنيا وتفرّغ للعبادة في هذه الأيام المباركة والمواسم العظيمة .
ثم حمِدت الله أن الخير لا يزال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قطع اعتكافه وخرج إلى مدينة أخرى ليحضر دروسا تُقام في مسجد أو مصلّى آخر .
وقبل فترة بلغني أنه اقتيد إلى السجن !
في بلاد يُقال إنها ترعى حقوق الإنسان !
نعم . اقتادوه إلى السجن بمجرّد التُّهمه !
لم يكن هذا مثار العجب عندي لعلمي بحال القوم ، وأن حقوق الإنسان مجرّد دعاوى
ومن أراد مصداق ذلك فلينظر إلى البوسنة وما وقع فيها وكوسوفا وما جرى فيها
والشيشان وما يحصل فيها
بل ينظر اليوم إلى فلسطين وقتل الأطفال وهدم المنازل
وكلّ ذلك بمرأى ومسمع من العالم أجمع !
ولكن مثار العجب يوم هاتفني صاحبي يُخبرني بخبر ذلك الشاب السجين
فتعجّبت ولم ينقضي عجبي
قال صاحبي إن الجالية وكّلت ( مُحامية ) مُسلِمة ! لتُدافع وتُرافع عن أخينا
ثم دخلت عليه في سجنه مراراً وقابلته غير مرّة
ثم اكتشف أنها – كأكثر من يُسلم من الأسبان – أنها ( صوفيّة المذهب ) غالية في التّصوّف
فما كان من أخينا إلا أن نسي قضيّته
ونسي ما وُجِّه إليه من تُهم
ونسي أنه خلف القضبان
واستغل فرصة وجودها وفرصة إجادته لِلغة القوم .
فاتّجه إلى تلك المرأة وأخذ يُجادلها ويدعوها إلى التوحيد الخالص
تقول المرأة بعد أن خرجت من عنده : أنا أناقشه في قضيّته وهو يُناقشني في التوحيد !
ثم تقول : وقف شعر رأسي وهو يُحدّثني بحقائق أسمعها لأول مرة .
إلى أن قالت : بدأت أشعر أنني كنت في غفلة !
ربما كان الخير في طيّات الشر
قال سبحانه وتعالى :(1/435)
( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )
قال الإمام العارف الرباني ابن القيم – رحمه الله – :
ما آثر عبد مرضاة الله عز وجل على مرضاة الخلق وتحمّل ثقل ذلك ومؤنته وصبر على محنته إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمة ومسرة ومعونة بقدر ما تحمل من مرضاته فانقلبت مخاوفه أماناً ، ومظانّ عطبه نجاة ، وتعبه راحة ، ومؤنته معونة ، وبليته نعمة ، ومحنته منحة ، وسخطه رضى . فيا خيبة المتخلفين ، ويا ذلة المتهيبين .
فـ لك الله يا محمد
وعجّل بِفَرَجِك
وربط على قلبك
ويسّر أمرك
وجعل لك من كل همٍّ فرجا
ومن كل ضيق مخرجا
ومن كل بلاء عافية..
105-يهود يشهدون بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم..
شهِدت اليهود بصدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الله عز وجل : ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ )
عن أنس رضي الله عنه قال : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له : أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسْلَمَ ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . رواه البخاري .
فهذا اليهودي أمر ابنه أن يُطيع أبا القاسم ، مما يدلّ على أنه يعلم في قرارة نفسه بصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .(1/436)
وحدّث سلمة بن سلامة بن وقش - وكان من أصحاب بدر - قال : كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال : فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير فوقف على مجلس عبد الأشهل . قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سِناً على بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت ، فقالوا له : ويحك يا فلان ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، يُجزون فيها بأعمالهم ؟ قال : نعم ، والذي يحلف به لودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه ، وأن ينجو من تلك النار غدا . قالوا له : ويحك وما آية ذلك ؟ قال : نبي يُبعث من نحو هذه البلاد ن وأشار بيده نحو مكة واليمن . قالوا : ومتى تراه ؟ قال : فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سناً ، فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة : فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً ، فقلنا : ويلك يا فلان ! ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ، وليس به !(1/437)
وحدّثت صفية – رضي الله عنها – فقالت : كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حُيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا . قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغمّ . قالت : وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حُيي بن أخطب : أهو هو ؟ قال : نعم والله ! قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم . قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ! رواه ابن إسحاق في السيرة فيما ذكره ابن هشام .
ها هم اليهود يشهدون بنبوة سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك جحدوا بها .
( فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لو آمن بي عشرة من اليهود ، لآمن بي اليهود . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : لو تابعني عشرة من اليهود ، لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم .
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
106-يا ودود..
قال ابن الأثير – رحمه الله – :
في أسماء الله تعالى (( الوَدُود )) وهو فْعُول بِمَعْنى مَفْعُول من الوُّدِّ ؛ المحبَّة . يُقال : وَدَدْتُ الرَّجل أوَدُّهُ وُداَ إذا أحْبَبْتَه . فالله تعالى مودود أي مَحْبُوب في قُلُوب أوْلِيَائه ، أوهو فَعُول بِمَعنى فَاعِل ، أي أنه يُحِب عِبَاده الصَّالِحين ، بمعنى أنه يَرْضَى عنهم . انتهى
وفي لسان العرب : الوَدُودُ في أَسماء الله عز وجل المحبُّ لعباده ، من قولك : وَدِدْت الرجل أَوَدّه ودّاً و وِداداً و وَداداً .(1/438)
قال ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى : ( الودود ) : الحبيب المجيد الكريم . علّقه البخاري .
فالله يُحِبّ ويُحَبّ
يُحِبّ المؤمنين به من عباده
ويُحِبّ الذين يُقاتِلون في سبيله
ويُحِبّ المتقين
ويُحِبّ فعل الخيرات
ويُحِبّ أن تؤتى رُخصه
ويُحِبّ أن تؤتى عزائمه
ويُحَبّ ولا غرابة في ذلك
فهو المُحسن بل هو الإله الذي تألهه القلوب وتُحبّه
ولا عجب أن يُحَبّ من أوصل إلينا الإحسان
ولا عجب أن يُحَبّ من يتودّد إلى عباده
قال ابن القيم :
ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبّد له ، ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه ، إنما العجب من مالك يتحبّب إلى مملوكه بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه ، مع غناه عنه !
كفى بك عِزّاً أنك له عبد *** وكفى بك فخراً أنه لك رب
وقال – رحمه الله – :
ليس العجيب من قوله : ( يُحِبُّونَه ) إنما العجب من قوله : ( يُحِبُّهُم ) ليس العجب من فقير مسكين يحب محسنا إليه ! إنما العجب من محسن يحب فقيرا مسكينا . انتهى .
قال بعض العارفين :
ليس الشأن أن تُحِبّ ، ولكن الشأن أن تُحَبّ
ليس المهم أن تُحِبّ الله لأنه يُحَب لعميم إحسانه وعظيم كرمه وجوده
ولكن المهم والأهمّ أن يُحِبّك الله
المهم أن يُحِبّك ملِك الملوك سبحانه
المهم أن يُحِبّك من بيده ملكوت السماوات والأرض
المهم أن يُحِبّك من بيده الملك كلّه
المهم أن يُحِبّك من يوصل إليك النفع ويدفع عنك الضّرّ
توددوا إلى الودود يودّكم ويُحبّكم
الودود تودّه القلوب وتُحبّه
الودود أنزل رحمة واحدة من عنده يتوادّ بها الخلق فيما بينهم
وهذا الاسم له سرّ عجيب لما فيه من التودد إلى الودود سبحانه
جاء في كرامات أبي معلق – رضي الله عنه – أنه عرض له لص فقال : ذرني أصلي أربع ركعات !
قال اللص : صلّ ما بدا لك .
فتوضأ ثم صلى أربع ركعات وكان من دعائه في آخر سجدة أنه قال :(1/439)
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعال لما تريد ، أسألك بعزك الذي لا يرام ، والملك الذي لا يضام ، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص . يا مغيث أغثني - ثلاث مرات - دعا بها ثلاث مرات فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة واضعها بين أذني فرسه ، فلما أبصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله ، ثم أقبل إليه فقال : قُم . قال : من أنت بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله تعالى بك اليوم ؟ قال : أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت الله بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة ، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجيجا ، ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل : دعاء مكروب ، فسألت الله عز وجل أن يوليني قتله . قال أنس : فاعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب . رواها الإمام الالكائي في كرامات الأولياء وأوردها ابن حجر في الإصابة .
والمودة أحد كان رُكني الحياة الزوجية قال سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )
وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتزوّج الودود ، وهي المواتية المواسية
المُحِبّة لبعلها المتودِّدَة له .
فـ
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعال لما تريد
نسألك بعزك الذي لا يرام ، والملك الذي لا يضام ، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك
أن ترحمنا رحمتك
وأن تنصر دينك وكتابك وسنة نبيّك
وأن تُفرّج همّ المهمومين من المسلمين
وأن تفك أسر المأسورين من المؤمنين
آمين يا رب العالمين
كتبتها نزولا عند طلب إحدى الأخوات..
...
107-يا زلّة القَدمِ ..
ما أن تزلّ بنا القدم حتى يُسارع " إبليس " ليُرابي بالخطأ والزلل !
ويوحي - بمكر وكيد - إلى صاحب الزلّة أن لا مكان لك فارجع وراءك !(1/440)
ويُشعره أن عليه أن يتخلّص من زلّته قبل أن يصطف في صفوف المصلّين أو يؤاخي الصالحين
ثم يُلقي في روعه أن العمل للدّين من مسؤولية الصالحين
أما أنت – الخطّاء – فليس لك في هذا ناقة ولا جمل !
ويظفر " إبليس " بقعود هذا عن نُصرة دينه
ويفوز بتخلِّيه عن الثغر الذي كان يُرابط عليه
قيل للحسن البصري : ألا يستحيي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ، ثم يعود ، ثم يستغفر ، ثم يعود ؟ فقال : ودّ الشيطان لو ظفر منكم بهذا ، فلا تملوا من الاستغفار .
هذا رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقع في زلّة فما يترك الشيطان يُرابي في زلّته
لم تُقعده معصيته عن الجهاد في سبيل الله !
بل تحسّر لما مُنِع من خدمة دينه بسبب معصيته فأحسّ بذلّ المعصية فحلف أن لا يرتكبها !
هذا هو أبو محجن الثقفي رضي الله عنه كان يشرب الخمر ولم يبحث عن عذر ليقعد عن خدمة دينه ، كما أنه لم يُجيّر ذنبه ليكون عُذراً له
روى سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه قال :
أُتيَ سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر ، فأمر به إلى القيد ، وكانت بسعد جراحه فلم يخرج يومئذ إلى الناس . قال : وصعدوا به فوق العذيب لينظر إلى الناس ، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة ، فلما التقى الناس قال أبو محجن :
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا = وأترك مشدوداً على وثاقبا(1/441)
فقال لامرأة سعد : أطلقيني ولك الله عليّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد ، وإن قتلت استرحتم مِنِّي . قال : فحلّته حين التقى الناس ، فوثب على فرس لسعد يُقال لها : البلقاء ، ثم أخذ رمحا ، ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم ، وجعل الناس يقولون : هذا مَلَك ! لما يرونه يصنع ، وجعل سعد يقول : الضبر ضبر البلقاء ، والطعن طعن أبى محجن ! وأبو محجن فى القيد ، فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد ، وأخبرت امرأة سعد سعداً بما كان من أمْرِه ، فقال سعد : لا والله لا أضرب بعد اليوم رجلا أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم ، فخلى سبيله ، فقال أبو محجن : قد كنت أشربها إذ يُقام على الحد وأُطهّر منها ، فأما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبدا .
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة : وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن بن سيرين قال : كان أبو محجن الثقفي لا يزال يجلد في الخمر ، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه ، فلما كان يوم القادسية رآهم يقتتلون - فذكر القصة - وفيه : أن سعدا قال : لولا أني تركت أبا محجن في القيد لظننتها بعض شمائله ، وقال في آخر القصة : فقال : لا أجلدك في الخمر أبدا ، فقال أبو محجن : وأنا والله لا أشربها أبدا ، قد كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم ! فلم يشربها بعد .
( والضبر هو عدْو الفرس ، ومعنى " بهرجتني " : أي أهدرتني بإسقاط الحد عني ) كما في كُتب اللغة والغريب .
أرأيتم كيف كان يستحسر أن يُحرم من خدمة دينه ، ومن الوقوف في مواقف يُحبها الله ورسوله ؟؟
وكان ذلك أشد ما كان عليه رضي الله عنه أن يُحرم من شهود تلك المشاهد !
وهذا رجل آخر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تغلبه نفسه فيقع في الزلل ، فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عما وقع منه .(1/442)
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة ، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها ، فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت ، فقال له عمر : لقد سترك الله لو سترت نفسك . قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، فقام الرجل فانطلق ، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا دعاه وتلا عليه هذه الآية : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) فقال رجل من القوم : يا نبي الله ! هذا له خاصة ؟ قال : بل للناس كافة .
وفي رواية : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذلك له . قال : فنزلت : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) قال : فقال الرجل : ألي هذه يا رسول الله ؟ قال : لمن عمل بها من أمتي .
إن القعود عن العمل ، وترك نُصرة دين الله ، والتعذّر بالمعصية ، هذه خطايا تُضاف للمعصية الأولى ، وزلاّت تُضاف للزلّة الأولى !
فحذار من التعامل مع بنك الشيطان في تعظيم خطيئة الإنسان ! حتى يرى أن له مندوحة في التّواري خلف معصيته ، والاستتار وراء خطيئته !
فيحمله ذلك على التّنصّل من المسؤولية
وتوزيع المهام على غيره
والانزواء في ركن " العُصاة الخاملين "
لو لم يَعِظ في الناس من هو مُذنب = فمن يَعِظ العاصين بعد محمد ؟!
108-وما إبليس ؟!
وما إبليس ؟ لقد عُصي فما ضرّ ، ولقد أُطيع فما نفع .
( هذا من أقوال العالم الزاهد سلمة بن دينار رحمه الله )
إن إبليس ليُقِرّ بذلك قبل غيره ، ويعترف به بنفسه .
وإنه ليقف يوم القيامة خطيبا في أتباعه فيُعلن هذه الحقيقة(1/443)
( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
تأمل في قوله : ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) !
لم يكن لي عليكم من أمر ولا نهي
ولم يكن لي عليكم من قُدرة
بل كان كيدي ضعيفاً ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا )
لم يكن بيدي سلاح أُقاتلكم به
لم يكن بوسعي سوى الإغواء والتزيين !
ولم يكن منِّي إلا أن دعوتكم فسارعتم إلى الاستجابة لي !
فمن الملوم الآن في يوم الدّين ؟
( فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم )
فتزداد عندها حسرتهم
ويزداد ألمهم وتالّمهم عندما يُعلن لهم هذه الحقيقة ( مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ )
فلستُ بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه !
فليس أمامكم سوى الحسرة الطويلة ، والنّدامة المديدة !
هذه براءة الشيطان من أوليائه في الآخرة ، وهو قد تبرأ من أوليائه في الدنيا بعد أن ورّطهم !
فهذه صورة فردية عامة
( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )
وهذه صورة جماعية خاصة(1/444)
( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ )
فقد تمثّل يوم بدر بصورة سراقة بن مالك
قال ابن جرير : قال للمشركين ببدر وقد زين لهم أعمالهم : لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم ، فلما تراءت الفئتان وحصحص الحق ، وعاين حدّ الأمر ونزول عذاب الله بِحِزْبِه ( نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، فصارت عداته عدو الله إياهم عند حاجتهم إليه غروراً كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه . اهـ .
قد أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن عداوة الشيطان ، بل أخبر بعداوته المبينة ، وأمرنا أن نتّخذه عدوا فقال تبارك وتعالى : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا )
أما لماذا ؟
فلأنه ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ )
شقي الشيطان فما هان عليه أن يتفرّد بالشقاوة !
وطُرد من رحمة أرحم الراحمين فأراد تكثير سواد المطرودين !
حتى لا يكون في صفِِّه وحيدا
ولا في مجاله فريدا !
فيا لشقاء من أطاع الشيطان
ويا لحسرته
ويا لطول ندامته
عبد الله
إن الشيطان ليس له سبيل على المؤمنين
وقال رب العالمين : ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ )
قال ابن القيم رحمه الله :
فتضمن ذلك أمرين :
أحدهما : نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص .(1/445)
والثاني : إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه .
وفي قوله تبارك وتعالى : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً )
قال رحمه الله :
ليس له طريق يتسلط به عليهم ، لا من جهة الحجّة ، ولا من جهة القدرة ، والقدرة داخلة في مسمى السلطان ، وإنما سميت الحجّة سلطانا لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده ، وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين . اهـ .
وقال رب العزّة سبحانه : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )
فالغاوي هو من عرف الحق ولم يعمل به !
فما جزاء الغاوين ؟
( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )
هذا جزاء من عصى مولاه وأطاع عدوّه !
يُكب على وجهه في نار جهنم .
فكُن على حذرٍ قد يفع الحذرُ
كُن على حذر من عدوّك المبين الذي يتربّص بك في كل حركة وسكنة ، ومع كل نفس !
وكُن على حذر من خطواته ( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )
109-ولا يُولِج الكفّ ليَعلَم البثّ..
حدّثت الصّدّيقة بنت الصّدّيق رضي الله عنها أن إحدى عشرة امرأة جلسن فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا ..
فقالت السادسة : زوجي إن أكل لفّ ، وإن شرب اشتفّ ، وإن اضطجع التفّ ، ولا يولج الكفّ ليعلم البث . والحديث بطوله رواه البخاري ومسلم ، وهو مشهور بحديث أم زرع .
والحديث مليء بالفوائد ، وقد ألفّ فيه بعض العلماء تأليفا خاصاً .
والذي يهمنا في هذا المقام هو حديث المرأة السادسة في ترتيب المتكلِّمات من تلك النسوة
قالت في معرض الذمّ لزوجها :
إن أكل لفّ
وإن شرب اشتفّ(1/446)
وإن اضطجع التفّ
ولا يولج الكفّ
ليعلم البثّ
فهي تذمّه بأنه إذا أكلّ الطعام لفّه لفّاً ، بحيث يأكل بِنَهم ، أو أنه لا يُبقي لها شيئا !
وهي تذمّه بأنه إذا شرب اشتفّ فأصدر صوتا لشُربِه !
كما تذمّه بأنه يلتف بملحفته إذا أوى إلى فراشه ، فكأنه لا يُعاشر أحداً ، ولا اعتبار لأحد عنده !
فهي إذاً .. تذمّه في أكله وشُربِه ونومِه
كما تذمّه بأنه لا يتفقّد أحوالها ، فالبثّ هو الشكوى أو هو شدّة الحزن .
تذمّه بأنه لا يُراعي حال شكواها ومرضها فيسأل عنها ، أو يضع يده على مكان الألم تخفيفاً لمعاناتها ..
وهذا الجانب أو هذا الفعل تظهر فيه الناحية النفسية أكثر من الناحية الفعلية .
فربما كان تلمّس الرجل لحال أهله ، أو تلمّس الزوجة لحال زوجها ، مما يُشعر أحد الطرفين بأهميته ومكانته لدى الطرف الآخر !
ولربما لم يكن لذلك تقديم ولا تأخير في الظاهر !
فالذي يشكو من ألم في ظهره أو في رأسه لا يُخفف عنه مُجرّد وضع اليد على مكان الألم ليَعْلّم ما يبثّه صاحبه من شكوى ، بقدر ما يُشعره ذلك بمكانته وقدرِه ..
وكم مِن لمسة حانية كانت أغلى من ألف كلمة ، وأكبر في النَّفس من سائر الأدوية
فهي لمسة حنان وعطف وشفقة تؤذن بأن ما بالمريض من ألم وداء هو محلّ عناية الطرف الآخر
وقُل مثل ذلك في الطفل ..
فإنه عندما يمرض ينظر إلى الشفقة والعطف في عيون والديه
وربما أنّ واشتكى لينظر مكانته ، ويرقب منزلته ، وليرى مدى الاهتمام به !
والأثر النفسي ، والناحية النفسية مُعتبرة في التعامل الأُسري ، سواء كان مع الزوجة أو مع الأولاد أو حتى مع الخدم .
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين أو لقمة أو لقمتين ، فإنه ولي حرّه وعلاجه . رواه البخاري ومسلم .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما قط ؛ إن اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه . رواه البخاري ومسلم .(1/447)
وكل هذا من باب مراعاة النّفسيّات ..
فمن وَلي حرّ الطعام يُعطى منه ما يُشعره بالاعتراف بما قدّم
والزوجة إذا وَلِيَت الطّعام فلم يكن على ما يُرام يوما من الأيام فلا أقل من السّكوت
فـ نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا كره طعاماً تركه
والزوج العاقل الحصيف قادر على أن يوصل ما يُريد بتعبيرات وجهه
فقد وُصِف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشد حياء من العذراء في خدرها ، وبأنه إذا كرِه شيئا عُرِف في وجهه . رواه البخاري ومسلم .
ولا شك أن هذا الفعل له أثره في النّفس ، وإن لم يتكلّم صاحبه أو ينطق بما في نفسه .
بل انظر إلى مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم للجانب النفسي ، وتودّدِه إلى حبيبته وأحب الناس إليه :
" عائشة "
فإنه عليه الصلاة والسلام كان يضع فمه على موضع فمِ عائشة رضي الله عنها في الطّعام والشَّراب .
ولا شك أن هذا الفعل له أثره النفسي في التعبير عن الحب والرضا .
تقول عائشة رضي الله عنها : كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِيّ فيشرب ، وأتعرّق العَرْق وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِيّ . رواه مسلم .
والعَرْق : العظم عليه بقية لحم .
وأبعد من ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من منزله ، وكان خارجا للصلاة فقبّل حِبَّه
" عائشة " ثم خرج .
تقول عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبََّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ، ولم يتوضأ . قال عروة : قلت لها : من هي ألا أنت ؟! قال : فضحكت . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بحاجة إلى تلك القُبلة عند خروجه للصلاة ، ولكن تلك القُبلة لها أثرها البالغ في نفس زوجه .
وكلمة الشُّكر وعبارة الثناء لها ألف أثر في نفس من يسمعها .
ورب كلمة فعلت في النفوس فِعل السّحر ، ولكنه السحر الحلال !(1/448)
وابتسامة الرضا ترسم السعادة الزوجية ولا تُكلّف صاحبها شيئا !
بل هو مأجور على ابتسامته ، مع ما يجني من ثمارها العاجلة والآجلة !
قال جرير رضي الله عنه : ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسّم في وجهي . رواه البخاري ومسلم .
وإن باستطاعة كلٍّ من الزوجين كَسْب قلب صاحبه بابتسامة تُشعر الطرف الآخر بالرضا عنه .
وليس بالضرورة أن تكون الحياة الزوجية مثالية خالية من المشكلات أو المنغِّصات ، وإنما العِبرة بالأعمّ الأغلب .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لا يَفْرَك مؤمن مؤمنه إن كَرِه منها خلقا رضيَ منها آخر . رواه مسلم .
أي لا يُبغض المؤمن زوجته لأجل خُلُق قد يبدو منها ، فإن ظهر له من أخلاقها ما يذمّه ويمقته ، فلينظر في محاسنها .
وإن كرِه منها تقصيرها في جانب فلينظر إلى قيامها ووفائها بجوانب أخرى .
والمسلم مأمور بالعدل والإنصاف في كل شيء ، ومع كل أحد .
والزوجة مُطالبة بهذه النّظرة أيضا ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إياكن وكفران المنعمين ، إياكن وكفران المُنْعَمِين . قالت امرأة : يا رسول الله ، أعوذ بالله يا نبي الله من كفران نِعَم الله . قال : بلى ، إن إحداكن تطول أيْمتها ، ويطول تعنيسها ، ثم يُزوِّجها الله البعل ، ويُفيدها الولد ، وقرّة العين ، ثم تغضب الغضبة فتقسم بالله ما رأت منه ساعة خير قط ، فذلك من كفران نِعَم الله عز وجل ، وذلك من كفران المنعمين . رواه الإمام أحمد ، وأصله في الصحيحين .
هذه إشارة إلى الجانب النفسي في التعامل الأُسري ، وفي الحياة الزوجية خاصة .
110-سبحان مَنْ وسِع سمعه الأصوات..
سبحان ربي
سبحانه هو السميع الذي وسِع سمعه الأصوات
وسِع سمعه الأصوات
فلا تختلط عليه الأصوات ، ولا تختلف عليه اللغات
لا يسبق لديه صوت صوتا
ولا تتداخل عنده الأصوات
بل يسمعها جميعا
فيسمع داعياً ، ويُجيب سائلاً ، ويُغيث ملهوفاً ، ويُفرّج عن مكروب(1/449)
بل يسمع دبيب النمل على الصفا
يسمع الجهر كما يسمع الهمس
يسمع السر وأخفى
قالت عائشة رضي الله عنها :
الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله عز وجل ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) إلى آخر الآية . رواه البخاري .
فربنا سميع بصير
وأهل السنة يُثبتون السمع والبصر لله ، ولكنه ليس كسمع المخلوقات ولا كبصرها
قال سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )
ولا يقولون ما يقوله المُبطِلون : سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر .
بل يُثبتون له السمع اسماً وصفة
فسبحان ربي السميع العليم
فيا سامع الصوت
ويا سابق الفوت
يا سامعاً لكل شكوى
يا سامع الدعاء
استجب دعواتنا
واغفر زلاّتنا
وتجاوز عنا بمنِّك وكرمك
يا رب .
111-وجهاً لوجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّ على أنه رسول الله وكفى
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنبئ عن وجه صادق
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه ، وقيل : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت في الناس لأنظر إليه ، فلما استثبتُّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب .. الحديث . رواه الإمام أحمد والترمذي .
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : سَمِعَ عبدُ الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف ، فأتى النبيَ صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي :
فما أول أشراط الساعة
وما أول طعام أهل الجنة
وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟
قال : أخبرني بهن جبريل آنفا .
قال : جبريل ؟!
قال : نعم .
قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة !(1/450)
فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ )
ثم قال :
أما أولُ أشراط الساعة ، فنار تحشرُ الناس من المشرق إلى المغرب .
وأما أولُ طعامِ أهل الجنة ، فزيادة كبدِ حوت .
وإذا سبق ماءُ الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماءُ المرأة نزعت .
قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، يا رسول الله إن اليهود قومٌ بُهْت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني .
فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيُّ رجلٍ عبدُ الله فيكم ؟
قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا .
قال : أرأيتم إن أسلم عبدُ الله بن سلام ؟
فقالوا : أعاذه الله من ذلك !
فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
فقالوا : شرُّنا وابن شرِّنا وانتقصوه !
قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
وهذا جابر بن سليم رضي الله عنه يُحدّث فيقول : رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه ، لا يقول شيئا إلا صدروا عنه .
قلت : من هذا ؟
قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : عليك السلام يا رسول الله - مرتين - !
قال : لا تقل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الميت ، قل : السلام عليك .
قال : قلت : أنت رسول الله ؟
قال : أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلّت راحلتك ، فدعوته ردها عليك .
قال : قلت : اعهد إليّ .
قال : لا تسبنّ أحداً .
قال : فما سببت بعده حُراً ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة .(1/451)
قال : ولا تحقرن شيئا من المعروف ، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف ، وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار ، فإنها من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة ، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك ، فلا تعيره بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه . رواه أبو داود .
أرأيت كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتميّز عن أصحابه حتى يُسأل عنه ؟
وكيف تبسطه مع الناس ووصيّته بهم خيراً ؟
وكيف يُوصي رجل أسلم لتوّه – كما في بعض الروايات – في هذه الوصايا الجامعة ؟
[ وفيه ردّ على من يقول : أهم شيء الإيمان ! ولا تتكلّم أو لا تنظر في المظاهر والشكليّات ! ]
عن عبد الله بن عباس قال : بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عليه ، وأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه ، وكان ضمام رجلا جلداً أشعر ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه
فقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا ابن عبد المطلب .
قال : محمد ؟
قال : نعم .
فقال بن عبد المطلب إنى سائلك ومغلظ في المسألة ، فلا تجدنّ في نفسك .
قال : لا أجد في نفسي ، فَسَلْ عما بدا لك .
قال : أنشدك الله إلهك ، وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله بعثك إلينا رسولا ؟
فقال : اللهم نعم .
قال : فأنشدك الله إلهك ، وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التي كانت آباؤنا يعبدون معه ؟
قال : اللهم نعم .
قال : فأنشدك الله إلهك ، وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله أمرك أن نصلى هذه الصلوات الخمس ؟
قال : اللهم نعم .(1/452)
قال : ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة : الزكاة ، والصيام ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها ، حتى إذا فرغ قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص . قال : ثم انصرف راجعا إلى بعيره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولّى : إنْ يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة .
قال : فأتى إلى بعيره ، فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى .
قالوا : مه يا ضمام ، اتق البرص والجذام ! اتق الجنون !
قال : ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان ، إن الله عز وجل قد بعث رسولا ، وأنزل عليه كتابا استَنْقَذَكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ، ونهاكم عنه . قال : فو الله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضِرِه رجل ولا امرأة إلا مسلما .
قال ابن عباس : فما سمعنا بوافدِ قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة . رواه الإمام أحمد ، وأصله في صحيح البخاري .
حدّث أبو أيوب رضي الله عنه أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر ، فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ، ثم قال : يا رسول الله ، أو يا محمد ، أخبرني بما يقربني من الجنة ، وما يباعدني من النار . قال : فكفّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نظر في أصحابه ، ثم قال : لقد وُفّق ، أو لقد هُدي . قال : كيف قلت ؟ قال : فأعاد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم . دع الناقة . رواه البخاري ومسلم .(1/453)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : دلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة . قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان . قال : والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا . فلما ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة ، فلينظر إلى هذا . رواه البخاري ومسلم .
112-وأين مكوكبها ؟
مراقبةُ الله حال الخلوة أعظم ، ولذا قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )
ولهم المغفرة ( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ )
ولهؤلاء أُزلِفت الجنات : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ )
وعلى النقيض من ذلك من انتهكوا محارم الله وهتكوها
قال عليه الصلاة والسلام : لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً ، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا . قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا ، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم . قال : أما إنهم إخوانكم ، ومن جلدتكم ، ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها . رواه ابن ماجه .
فالتعبير بـ " إذا " يدلّ على الكثرة والاستمرار ، وأن هذا هو شأنهم وديدنهم مع محارم الله فجعلوا الله أهون الناظرين إليهم .
ولفظ " إذا " يدلّ على الكثرة كما في صفة المنافق : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان .(1/454)
وهذا كحال المنافقين الذين قال الله عز وجل عنهم : ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا )
قال رجل لوهب بن الورد : عظني فقال له : اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك .
وكان بعض السلف يقول : أتراك ترحم من لم يقرّ عينيه بمعصيتك حتى علم أن لا عين تراه غيرُك .
وقال بعضهم : ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تَصْفُ لك من عينٍ ناظرةٍ إليك ، فلما خلوت بالله وحده صفت لك معصيته ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ، ما أنت إلا أحدُ رجلين :
إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت .
وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه لقد اجترأت عليه .
وكان بعض السلف يقول لأصحابه : زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة ، فَعَلِمَ أن الله يراه فتركه من خشيته .
وقال الشافعي : أعز الأشياء ثلاثة : الجود من قلة ، والورع في خلوة ، وكلمة الحق عند من يُرجى أو يخاف .
وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ له : أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيّك في سريرتك ورقيبك ، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك ، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك ، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ، ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك ، والسلام .
وكان ابن السماك ينشد :
يا مدمن الذنب أما تستحي = والله في الخلوة ثانيكا
غرّك من ربك إمهالُه = وستره طولَ مساويكا
ومراقبة الله عز وجل حال الخلوة أعظم
وفي قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار ... فقال أحدهم :(1/455)
اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إليّ ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها قالت : لا أُحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه ، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها . اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها ... الحديث . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : فلما وقعت بين رجليها قالت : يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه ، فقمت عنها ، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ، ففُرِج لهم .
فلما ذكرته بالله تذكّر وانتفض وتذكّر أن الله مطّلع عليه ناظر إليه .
ودخل رجل غيضة فقال : لو خلوت ها هنا بمعصية من كان يراني ؟ فسمع صوتا ملأ ما بين لابتي الغيضة ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ؟
ولقي رجل أعرابية فأرادها على نفسها فأبت ، وقالت : أي ثكلتك أمك أمالك زاجر من كرم ؟ أمالك ناه من دين ؟
قال : والله لا يرانا إلا الكواكب !
قالت : ها بأبي أنت ! وأين مكوكبها ؟ . رواه البيهقي في الشعب .
قال محمد بن إسحاق : نزل السَّرِيُّ بن دينار في درب بمصر وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها ، فعلمت به المرأة ، فقالت : لأفتننه ؛ فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها ، فقال : مَالَكِ ؟! فقالت : هل لك في فراش وطي ، وعيش رخي ، فأقبل عليها وهو يقول :
وكم ذي معاص نال منهن لذة = ومات فخلاّها وذاق الدواهيا
تصرمُ لذّات المعاصي وتنقضي = وتبقى تِباعاتُ المعاصي كما هيا
فيا سوءتا والله راءٍ وسامع = لعبدٍ بعين الله يغشى المعاصيا(1/456)
كان لسليمان بن عبد الملك مؤذّن يؤذنه في قصره بأوقات الصلاة ، فجاءته جارية له مولّدة فقالت : يا أمير المؤمنين إن فلاناً المؤذن إذا مررت به لم يُقلع ببصره عني ، وكان سليمان أشد الناس غيرة ، فهمّ أن يأمر بالمؤذّن ، ثم قال : تزيني وتطيبي وامضي إليه فقولي له : إنه لم يخفَ عني نظرك إليّ ، وبقلبي منك أكثر مما بقلبك مني ، فإن تكن لك حاجة فقد أمكنك مني ما تُريد ، وهذا أمير المؤمنين غافل ، فإن لم تُبادر لم أرجع إليك أبدا .
فمضت إلى المؤذن وقالت له ما قال لها
فرفع طرفه إلى السماء وقال : يا جليل أين سترك الجميل ؟
ثم قال : اذهبي ولا ترجعي ، فعسى أن يكون الملتقى بين يدي مَن لا يخيّب الظنّ .
فرجعت إلى سليمان وأخبرته الخبر فأرسل إليه ، فلما دخل على سليمان قال له الحاجب : إن أمير المؤمنين رأى أن يهب لك فلانة ، ويحمل إليك معها خمسين ألف درهم تنفقها عليها .
قال : هيهات يا أمير المؤمنين ! إني والله ذبحت طمعي منها من أول لحظة رأيتها ، وجعلتها ذخيرة لي عند الله ، وأنا أستحيي أن أسترجع شيئا ادّخرته عنده .
فجهد به سليمان أن يأخذ المال والجارية فلم يفعل ، فكان يعجب منه ، ولا يزال يُحدّث أصحابه بحديثه .
يقول أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني في نونيته :
وإذا خلوت بريبة في ظلمة = والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها : = إن الذي خلق الظلام يراني
قال ثعلب النحوي : كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل ، فدخلت عليه ، فقال لي : فيم تنظر ؟ فقلت : في النحو والعربية والشعر ، فأنشدني أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى عليه :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل = خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة = ولا أن ما يخفى عليه يغيب(1/457)
عن قيس بن عباد قال : صلى عمار بن ياسر بالقوم صلاة أخفها ، فكأنهم أنكروها ، فقال : ألم أتم الركوع والسجود ؟ قالوا : بلى . قال : أمَا إني دعوت فيها بدعاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به :
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي ، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الرضا والغضب ، وأسألك نعيما لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضاء بالقضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، وأعوذ بك من ضراء مضرة ، وفتنة مضلة . اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين . رواه الإمام أحمد وغيره .
فاللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة .
113-واعظ على فراش الموت...!
عندما يمرض الإنسان فإنه لا يهتم إلا بنفسه ، بل هو محتاج إلى من يهتم به .
فكيف إذا كان على فراش الموت ، وهو يُعاين الهلاك ؟
لكن هذا الواعظ ما انشغل عن رسالته بمرض الموت
بل ولا بالموت الذي وقف على مشارفه
فما ترك الأمر والنهي ، ولا ترك الوعظ وهو على فراش موته
ذلكم هو المُحدَّث المُلهم
ذلكم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الذي طعنته يد الغدر المجوسية ففار الدم فوراناً ، وكأنه عين تفجّرت .
حتى إنه لما سُقي اللبن خرج من جُرحه
فقال : ما أراني إلا ميت .
أخبر المسور بن مخرمة أنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن صلى الصبح من الليلة التي طعن فيها ، فأُوقظ عمر ، فقيل له : الصلاة يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : نعم ، ولا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، فصلى عمر وجرحه يثعب دما . رواه الإمام مالك .
فما ترك رسالته وعمله وصلاته ، وهو يقف على عتبة الهلاك(1/458)
ودخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما وقد وُضع عمر على سريره ، فتكنفه الناس يدعون ويُصلون قبل أن يُرفع ، وأنا فيهم ، فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي فإذا علي بن أبي طالب فترحّم على عمر وقال : ما خلّفت أحداً أحب إلي أن ألقي الله بمثل عمله منك ، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وحسبت إني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر . رواه البخاري .
وفي تلك الحال دخل عليه شاب فجعل الشاب يُثني عليه ، فرآه عمر يجر إزاره ، فقال له : يا ابن أخي ! ارفع إزارك ، فإنه أتقى لربك ، وأنقى لثوبك . فكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : يا عجبا لعمر ! إن رأى حق الله عليه ، فلم يمنعه ما هو فيه أن تكلم به . رواه ابن أبي شيبة .
وولج عليه شاب من الأنصار فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله ؛ كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت ، ثم استخلفت فعدلت ، ثم الشهادة بعد هذا كله ، فقال : ليتني يا ابن أخي وذلك كفافا لا عليّ ولا لي . أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيرا أن يعرف لهم حقهم ، وأن يحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ) أن يقبل من محسنهم ، ويعفي عن مسيئهم ، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يُقاتل من ورائهم ، وأن لا يُكلفوا فوق طاقتهم . رواه البخاري .
ولما أثنوا عليه لم يُعجبه ذلك ، فردّ عليهم .
فقد أثنوا عليه ، فقال : راغب وراهب ، وددت أني نجوت منها كفافا لا لي ولا عليّ . رواه البخاري .
وفي رواية للبخاري :(1/459)
عن عمرو بن ميمون قال : فاحتُمل إلى بيته ، فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فقائل يقول : لا بأس ، وقائل يقول : أخاف عليه ، فأُتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ، ثم أُتي بلبن فشربه فخرج من جرحه ، فعلموا أنه ميت ، فدخلنا عليه ، وجاء الناس فجعلوا يُثنون عليه ، وجاء رجل شاب ، فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقدم في الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة . قال : وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي ، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض . قال : ردّوا عليّ الغلام . قال : ابن أخي ! ارفع ثوبك ، فإنه أنقى لثوبك ، وأتقى لربك . يا عبد الله بن عمر انظر ما عليّ من الدين .
فرضي الله عن عمر وأرضاه لقد كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر وهو على فراش الموت .
أليس لنا فيه قدوة ، ونحن في أتم صحة وعافية ؟!
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صمام الأمان لهذه الأمة .
وهو سبب خيريّتها بين الأمم .
114-لو سترته بثوبك..
يتشوّف الإسلام إلى الستر ، ويتطلّع إلى إخفاء الزلات ، وكتمان العيوب .
إذ أن إفشاء ذلك يعيب صاحبه بالدّرجة الأولى
وهو سبب لفشوّ الفاحشة ، وانتشار الفساد .
ولذلك لما جاء هَزَّال بن يزيد الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورفع له شأن ماعز
والله يا هزال لو كنت سترته بثوبك كان خيرا مما صنعت به . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى .
ومِن هُنا جاء الحث على ستر المسلمين والمسلمات .
فقال عليه الصلاة والسلام : من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة . رواه البخاري ومسلم .
وفي الحديث الآخر : من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة .
وهذا الستر مُتعلّق بالمعاصي والآثام لا أن يستره بالكسوة ونحوها .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :(1/460)
قوله " ومن ستر مسلما " أي رآه على قبيح فلم يظهره ، أي للناس ، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه .
وقال الإمام النووي رحمه الله :
في هذا فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه ، وستر زلاته .
وقال حافظ المغرب ابن عبد البر رحمه الله :
فإذا كان المرء يؤجر في الستر على غيره ، فستره على نفسه كذلك أو أفضل ، والذي يلزمه في ذلك التوبة والإنابة والندم على ما صنع ، فإن ذلك محو للذنب إن شاء الله .
وروى في التمهيد بإسناده أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أخذ سارقا ، فقال : ألا أستره لعل الله يسترني .
ولكن مَنْ هو الذي يُستر عليه ؟
قال الإمام النووي رحمه الله : المراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ، ممن ليس معروفا بالأذى والفساد .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
واعلم أن الناس على ضربين :
أحدهما :
من كان مستوراً لا يُعرف بشيء من المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة ، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها ؛ لأن ذلك غيبة محرمة ، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص ، وفي ذلك قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه واتُّهم به مما بريء منه ، كما في قضية الإفك .
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف : اجتهد أن تستر العصاة ، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب .(1/461)
ومثل هذا لو جاء تائبا نادماً وأقرّ بحده لم يفسره ولم يستفسر ، بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية ، وكما لم يستفسر الذي قال : أصبت حداً فأقمه عليّ ، ومثل هذا لو أخذ بجريمته ولم يَبلغ الإمام ، فإنه يُشفع له حتى لا يبلغ الإمام ، وفي مثله جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم . خرجه أبو داود والنسائى من حديث عائشة .
والثاني :
من كان مشتهراً بالمعاصي ، مُعلناً بها ولا يبالي بما ارتكب منها ، ولا بما قيل له هذا هو الفاجر المعلن ، وليس له غيبة كما نصّ على ذلك الحسن البصري وغيره ، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره ، لتُقام عليه الحدود ، وصرح بذلك بعض أصحابنا ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها . ومثل هذا لا يُشفع له إذا أُخِذَ ولو لم يبلغ السلطان ، بل يُترك حتى يُقام عليه الحدّ لينكّف شرّه ، ويرتدع به أمثاله . قال مالك : من لم يُعرف منه أذى للناس ، وإنما كانت منه زلة ، فلا بأس أن يُشفع له ما لم يبلغ الإمام ، وأما من عُرف بشرّ أو فساد ، فلا أحب أن يَشفع له أحد، ولكن يُترك حتى يُقام عليه الحدّ . انتهى .
وقد صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : إن الله ستّير يُحب الستر .
والعجب من أُناس يسترهم الله فيأبون إلا هتك الأستار !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ، ثم يصبح وقد ستره الله ، فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه . رواه البخاري ومسلم .
ومن هذا الباب أن يقع المسلم الفاحشة ، أو يُسافر في لهوه الفتّان ، ثم يرجع يُحدّث أصحابه بما فعل ، فهذا يحمل الوزر مُضاعَفاً ، فيجمع على خطيئته خطايا :(1/462)
فيحمل الوزر من حيث أنه ارتكب ما حرّم الله عز وجل ، ومن حيث جُرأته على محارم الله جل جلاله .
ويحمل الوزر من حيث أنه هتك ستر الله عليه ، وجاهر بمعصيته .
ويحمل الوزر من حيث أنه زيّن الفاحشة لغيره ، وجرّاه عليها ، وربما تكفّل له بالدلالة على الشرّ !
وأسوأ من هذا أن يُفاخر بالجريمة ، ويفتخر بالفاحشة .
وأسوأ منه أن يُفاخر في جرائم آثام لم يفعلها ! ليظهر بين أقرانه بصورة البطل المغوار ، صاحب المغامرات ، والليالي الملاح !
ومن هتك الأستار أن تضع المرأة ثيابها في غير بيت زوجها .
ولذا لما دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت : أنتن اللاتي تدخلن الحمامات ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت الستر فيما بينها وبين الله عز وجل . رواه الإمام أحمد وغيره .
ونحن لم نؤمر أن نتتبع عورات عباد الله ، ونهتك ما ستر الله عنا منهم
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم . رواه البخاري ومسلم .
وهذا على جميع المستويات
فعلى مستوى الجماعة
قال معاوية رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك إن اتّبعت عورات الناس أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم . فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
وعلى مستوى الأفراد
قال عليه الصلاة والسلام : يا معشر من أعطى الإسلام بلسانه ، ولم يدخل الإيمان قلبه ، لاتؤذوا المؤمنين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته .(1/463)
وفي رواية : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم [ – وفي رواية – : لاتؤذوا المسلمين ولا تُعيّروهم ، ولا تتّبعوا عوراتهم - ] فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وهو حديث صحيح .
فليحذر الذين يخوضون في أعراض عباد الله ويتتبّعون عوراتهم ، ولو زيّن لهم الشيطان أعمالهم أنهم لا يقصدون من وراء ذلك إلا النُّصح لعباد الله ، وتحذير الأمة !
فاجتهدوا – عباد الله - في ستر الآثام .
" من أصاب من هذه القاذورات شيئا ، فليستتر بستر الله " رواه الإمام مالك .
فمن ابتُلي بشيء من هذه القاذورات – وهي ما يوجب الحدّ – فليستتر بستر الله .
نسأل الله أن يسترنا فوق الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض .
115-هل يمكن أن يمل الإنسان من الأمان ؟
ابن آدم ما أكثر مَلَلَك !
الطالب عجول ، والمطلوب منه ملول ، والطّلب مملول !
إن جاء الصيف طلبت الشتاء !
وإن جاء الشتاء طلبت الصيف !
ولو دام الظلام لتضجّروا ، ولو دامت الشمس لملّوها
والشمسُ لو وقفتْ في الفُلكِ دائمة = لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ
إذا قحط الناس طلبوا سُقيا المطر ، وإن دام نزول المطر طلبوا الاستصحاء !(1/464)
قال أنس بن مالك دخلَ رجُل المسجد يومَ جُمعةٍ من بابٍ كان نحوَ بابِ دارِ القضاءِ - ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائمٌ يخطبُ - فاستقبلَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائماً ، ثم قال : يا رسولَ اللهِ ! هلَكَتِ الأموالُ ، وانقطَعَتِ السبلُ ، فادعُ اللهُ يُغيثُنا فرفعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدَيهِ ، ثم قال : اللّهمّ أغثْنا . اللّهمّ أغثْنا اللّهمّ أغثنا . قال أَنسٌ : ولا واللهِ ما نرَى في السماءِ من سحابٍ ولا قَزَعةً ، وما بَينَنا وبينَ سَلعٍ من بيتِ ولا دارٍ . قال : فطلَعَتْ من ورائهِ سحابةٌ مثلُ التّرسِ ، فلمّا توسّطَتِ السماءِ انتَشَرتْ ثم أمطرَتْ ، فلا واللهِ ما رأينا الشمسَ سبتاً ، ثمّ دَخلَ رجلٌ من ذلكَ البابِ في الجُمعةِ المُقبلة – ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائمٌ يَخطب – فاستقبلَهُ قائماً فقال : يا رسولَ اللهِ هَلكَتِ الأموالُ ، وانقطَعتِ السبُلُ ، فادعُ اللهَ يُمسِكها عنا ! قال فرفعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديهِ ثم قال : اللّهمّ حَوالَينا ولا علينا . اللّهمّ عَلَى الآكامِ والظرابِ وبُطونِ الأوديةِ ومَنابتِ الشجر . قال : فأَقْلَعَتْ ، وَخرجْنا نمشي في الشمسِ . رواه البخاري ومسلم .
فما أسرع ملل الناس !
ولذا قيل :
عليك بإغباب الزيارة إنها تكون = إذا دامت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت الغيث يُسأم دائما = ويُسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
حتى في دنيا المحبين يملّون الوصل دائما !
لو يكون الحب وصلاً كلّه = لم تكن غايته إلا الملل
أو يكون الحب هجراً كلّه = لم تكن غايته إلا الأجل
إنما الوصل كمثل الماء لا = يستطاب الماء إلا بالعلل
هكذا هو ابن آدم ملول
إن أقام ملّ الإقامة
وإن سافر سئم السّفر
حتى قال القائل :
مللت حمص وملتني فلو نطقت = كما نطقت تلاحينا على صدر
وسولت لي نفسي أن أفارقها = والماء في المزن أصفى منه في الغدر(1/465)
هيهات بل ربما جنى الرحيل غنى = بالمال أجني به رغدا من العمر
كم ساهر يستطيل الليل من دنف = لم يدر أن الردى آت مع السحر
وقال الآخر :
يا أخلاّءِ قد مَلِلْتُ مكاني = وتذكّرتُ ما مضى من زماني
ومن الطريف أن يملّ الإنسان من نفسه أو من بعض جسده !
قالت أم حكيم الخارجية - وكانت تحمل على الناس وترتجز - :
أحمِلُ رأساً قد سئمتُ حَمْلَهْ = وقد مَلِلْت دَهْنَه وغسلَهْ !
وأعجب ما رأيت أن يملّ الناس من نِعمة الأمن !
أوَ تُملّ تلك النّعمة ؟
( لقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ {15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ {16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ {17} وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ {18}فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )
كانوا في نعيم كريم وخضرة دائمة
وأمن ورخاء وقرى متواصلة
فملّوا ما هم فيه !
فسألوا ربهم تبديل هذه النّعمة !
قال قتادة في قوله : ( قُرًى ظَاهِرَةً ) قال : متواصلة .(1/466)
( آمِنِينَ ) لا يخافون جوعا ولا ظمأ إنما يغدون فيَقِيلُون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية ، حتى لقد ذُكر لنا أن المرأة كانت تضع مكتلها على رأسها فيمتلئ قبل أن ترجع إلى أهلها من غير أن تحترف بيدها شيئا ، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زادا ولا سقاء من ماء مما بُسط للقوم . قال فبطر القوم نعمة الله ( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) فمزقوا كل ممزق وجُعلوا أحاديث .
وتذكرتُ حين قراءة الآيات في خبر قوم سبأ ملل بني إسرائيل وقد ملّوا المقام بمصر وما أزل الله عليهم من المنّ والسلوى !
وعُدت بالذاكرة إلى حوار مع سائق سيارة أجرة ، حيث ركبت معه من المطار إلى الدّار !
فأردت قطع الصمت بشيء من الحوار الذي يكون مدخلا للحديث معه
سألته من أي بلاد الله أنت ؟
قال – ومع القول زفرة - : من الصومال
فسألته عن وضع الصومال الآن
فأجاب بزفرة أخرى : لا يسرّ الصديق
سألته : كيف ؟
قال : كان الناس يتضجّرون من الرئيس السابق زياد بري ، والآن الناس هناك يتمنّون قميص زياد بري !
قلت : ولماذا ؟ وهو الذي كان بلغ السوء في الدّين والدنيا !
قال : كنا نأمن على أنفسنا أيام الرئيس السابق ، وكنا .. وكنا ..
والآن توجد مستفيات في الصومال دون أبوب وشبابيك !
فمن يجرؤ على هذا السّلب والنّهب أيام الرئيس السابق ؟
فقلت : سبحان الله ! لم يكن من المتوقّع أن يكون هناك سوء أسوأ من الرئيس السابق !
ولكن انفلات الأمن أثبت عكس ذلك
ما ثاروا على الرئيس السابق إلا لما ملّوا ما هم فيه من سوء
والآن يترحّمون على أيام الرئيس السابق ! ويتغنّون بها !
كم شرّدت الحرب من أهل ذلك البلد المسلم ؟
كم ضاق الناس ذرعا بالخوف وانعدام الأمن ؟
وكم ... وكم .. ؟؟؟
وما هذه إلا نتيجة للعاطفة التي هبّت فأصبحت عاصفة – كما كان شيخنا رحمه الله يقول - !
وما يلبث ابن آدم حتى يملّ ما هو فيه من الخوف والحذر !(1/467)
أنا فتي حجرة تجلّ عن الوصف = ويعمى البصير فيها نهارا
هي في الصبح كالظلام وفي الليل= يولي الأنام عنها فرارا
أنا منها كأنني جوف بئر = أتقي عقربا وأحذر فارا
وإذا ما الرياح هبت رخاء = خلت حيطانها تميد انهيارا
رب عجل خرابها وأرحني = من حذاري فقد مللت الحذارا
وتذكرت – الآن – بعض الشباب سافروا إلى بعض دول أفريقيا فملُّوا الخضرة !
وكانوا بالأمس قد ملّوا الصحراء التي يزول سرابها ولا يَرد الطّرف فيها مَعْلَم
هكذا هو ابن آدم يملّ حتى من رغد العيش
ويملّ من الأمن حتى يفقده فيعرف قدره !
ويملّ من الخوف بعد أن يخفق قلبه خوفا في اللحظة مرّات ومرّات
إننا بحاجة إلى شُكر نعمة الأمن
ولذا فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر خبر القوم وما حلّ بهم ختم الآية بقوله : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )
والشّكور كثير الشُّكر ..
فما أحوجنا إلى شُكر نعمة الأمن والرخاء والإيمان ..
116-هل تستطيع المرأة أن تعيش بلا رجل ؟؟؟؟؟
هل تستطيع المرأة أن تعيش بلا رجل أم أنها يوما ما ستحتاجه ؟
مَنْ تأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويفشو الزنا ، ويُشرب الخمر ، ويذهب الرجال ، وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيّم واحد . رواه البخاري ومسلم
وفي الحديث الآخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يَلُذْنَ به من قِلّةِ الرجال وكثرة النساء . رواه البخاري ومسلم أيضا . فهل من تلوذ به تستغني عنه ؟؟!!
فلا غنى للمرأة عن الرجل ، كما لا غنى للرجل عن المرأة ، فكل واحد منهما يكمل الآخر .
وصدق الله : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين )
وليس هذا في حق بني آدم فحسب ، بل في جميع المخلوقات ، ففي الجن كذلك ذكران وإناث ، وفي الطير والحشرات ، وفي الوحش ، وفي المخلوقات البحرية ، بل حتى في الأشجار ، فوجود زوجين اثنين للتكامل لا للتناحر !!(1/468)
فالمرأة أما ، وأختا ، وزوجة ، وبنتا ، وجارة ، و...
والرجل أبا ، وأخا ، وزوجا ، وابنا ، وجارا ، و....
وصدق الحق سبحانه ( هن لباس لكم ) ، ( وأنتم لباس لهن ) .
فهل يستغني الإنسان عن لباسه ؟؟
حتى المجنون لا يستغني عن اللباس !! وكذا الصغير .
قال البغوي في معالم التنزيل في قوله تعالى : ( هن لباس لكم ) أي سكن لكم .
( وأنتم لباس لهن ) أي سكن لهن ، دليله قوله تعالى : ( وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) ، وقيل : لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر . اهـ .
وقد قال الله تبارك وتعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .
أما ما يستدل به المخالف ، من أن بعض العلماء ترك الزواج وكذلك المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم وقد سألته عن حق الزوج فقالت له : لا أتزوج أبدا .
فهو يذكرني بما قيل لإمام أهل السنة الإمام أحمد – رحمه الله – حيث سئل عن الزواج ، فحثّ عليه ورغّب فيه ، فقال السائل : فإن إبراهيم بن أدهم لم يتزوج ؟
قال : أوّه ! وقعتَ في بنيّات الطريق .
قال بقيّة : جلست إلى إبراهيم بن أدهم فقلت : ألا تتزوج ؟ قال : ما تقول في رجل غر امرأة مسلمة وخدعها ؟ قلت : ما ينبغي هذا ، قال : فجعلت أثني عليه ، فقال : ألك عيال ؟ قلت : بلى ، قال : روعة تروعك عيالك أفضل مما أنا فيه .
وقال مرة : روعة من روعة عيالك أفضل مما أنا فيه .
لقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوّج الأنبياء من قبله .
قال الله عز وجل : ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ) .
فهذه سنة الأنبياء ولكل قاعدة شواذ – كما قيل – فليس الأصل عدم الزواج ، بل الأصل هو الزواج وطلب سكن النفس وزينة الحياة الدنيا ( البنين ) .(1/469)
فالمرأة التي قالت : لا أتزوج أبدا . لم تكن هي النمط السائد في أي مجتمع ، بل هي حالة فردية وواقعة عين ليس لها عموم ، ومثل ذلك ما وقع لبعض العلماء العزاب .
غير أن الحكم للأعم الأغلب ، والأغلب – كما ذكرت – هو الزواج .
وأنا ذكرت أن المرأة تكون أما وزوجة وأختا وبنتا .
وكذلك الرجل بالنسبة للمرأة ، فلم أقصر الحديث على الزوجين فحسب .
وإن استغنى الرجل عن المرأة كزوجة فلن يستغني عنها أمّاً وأختا وبنتا .
وإن استغنت المرأة عن الرجل كزوج فلن تستغني عنه أباً وأخاً وابنا .
وإن استغنت عنه زوجا فهي تشعر بالنقص ، كما هو الحال بالنسبة للرجل .
فلا غنى للرجل عن المرأة ، كما لا غنى للمرأة عن الرجل .
----------------
سؤال : متى تنال المرأة من الحقوق أكثر من الرجل ؟
سبب هذا السؤال :
أن هناك من أعداء الإسلام ممن شَرِقُوا بدين الله ، ومن أعداء المرأة من يتبجّحون بأن الإسلام هضم المرأة حقها ، وبأن المرأة في الإسلام ليس لها حقوق ...
إلى غير ذلك من الدعاوى والكلمات المتهافتة ( كبُرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا )
وأنتظر الإجابات ثم آتي بما عندي .
أما جواب السؤال المتقدم :
فإن المرأة قد تنال من الحقوق أكثر من الرجل في حالة كونها زوجة وأمّاً .
فمن ناحية تكون أمّاً ولها على أولادها حقوق ، وهي المقدمة على الأب في هذا المقام ، لأنها كما وصفها الله – وهو أصدق القائلين – : ( حملته كرها ووضعته كرها ) ولذا أوصى الله الإنسان بوالديه إحسانا ثم خص الأم بالوصية لهذا المعنى ، وهو أنها حملته كرها ووضعته كرها وأرضعته وأزالت عنه الأذى بيدها ... إلى غير ذلك مما هو معلوم .
وقد كانوا يعرفون حق الأمهات لما لهن من فضل عظيم على الأولاد .
فبينما رجل يطوف بأمه قد حملها على عنقه رفع رأسه إليها ، فقال : يا أمه تريني جزيتك ؟ وابن عمر قريب منه ، فقال : أي لكع ! لا والله ولا طلقة واحدة . أي من آلام الطلق والولادة .(1/470)
وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك قال : ثم من ؟ قال : ثم أبوك . رواه البخاري ومسلم .
ثم إن المرأة التي كانت أما ، تكون غالبا زوجة من جهة أخرى فلها على زوجها حقوق ، فمن ذلك :
لما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذ طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت ولا تضرب الوجه ، ولا تقبِّح ، ولا تهجر إلا في البيت . قال أبو داود : ولا تقبح أن تقول : قبحك الله . رواه أحمد وأبو داود ، وهو حديث صحيح .
وأعلن صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة ، فقال : ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف . رواه مسلم .
فللمرأة على زوجها حق :
1 – النفقة ، ولو كانت ذات مال .
2 – السكنى ، فيوفر لها المسكن المناسب لمثلها حسب استطاعته .
3 – الكسوة ، فيكسوها إذا اكتسى ، مما يناسب مثلها في حدود استطاعته .
4 – العشرة بالمعروف ، ومن ذلك :
5 – عدم ضرب الوجه .
6 – عدم التلفظ بألفاظ سيئة على زوجته .
7 – عدم الضرب عموما ، إلا في حالة عدم نفع العلاج بالموعظة والهجر ، ثم إذا ضرب فلا يكون مبرِّحا ، بل يكون كما قال ابن عباس : بالسواك ونحوه .
فهذه سبعة حقوق – تُذكر على عجالة – من حقوق الزوجة على زوجها ، بالإضافة إلى حقوقها على أولادها – ذكورا وإناثا – فتحظى بأكثر من حقوق الرجل ، إذا كانت زوجة وأما .
ألا قاتل الله أعداء المرأة الذين يهرفون بما لا يعرفون .
-------------------------
وقد قيل :
فلو كان النساء كمن ذكرن *** لفضلت الرجال على النساء
وقيل :
فما التأنيث لاسم الشمس عيب *** ولا التذكير فخر للهلال .
فكم امرأة فاقت آحاد بل عشرات الرجال ؟
117-هل تأملت طعامك من خلال هذه الآيات ..؟؟
قال الله عز وجل : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) كيف كان مبتدؤه ؟(1/471)
( أنا صببنا الماء صبا ) من المزن ، وهي السحاب ، ثم اختزنته الأرض في بطنها على هيئة مستودعات يُستخرج منه بقدر الحاجة ، أو جرى على ظهرها على هيئة أنهار وعيون .
ثم تأمل ( أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المُزن أم نحن المُنزلون )
ثم تأمل منّة الله على البشرية عموما ( لو نشاء جعلناه ) الآن ( أجاجا ) مالحا غير صالح للشرب ( فلولا تشكرون ) .
( ثم شققنا الأرض شقا ) فلو كانت صلبة لم تُنبت ، فهل استشعرت المِنّة في ذلك ( أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه ) بعد استواءه ( حطاما فظلتم تفكهون ) ووقوعه بعد استواءه أشد حسرة ، وأعظم ندامة .
( فأنبتنا فيها حبا ) فهو سبحانه وحده الذي يُنبت الأشياء ، فهل تأملت ( أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ) .
( وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا )
وهذا من فضل الله عليك أن جعل البقعة الواحدة من الأرض تُنبت الأنواع المتعددة ، كما في قوله تعالى ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )
فهي تنبت الأنواع المتعددة متاعا للناس وللأنعام .
فسبحان من جعل النباتات ترد موردا واحدا من الماء ، وتصدر مصادر شتّى في الثمار وما يجنى منها .
فذلك حلو، وآخر حامض ، وثالث مر ، ورابع نافع ، وخامس ضار ، وهكذا ...
فسبحان من هذا صُنعه .
( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه )
والسؤال :
هل جلست يوما على مائدة طعامك ثم تأملت تلك الآيات من سورة ( عبس ) فرأيت كيف كان طعامك ؟ ثم ماذا أصبح ؟
وكم يد سخّرها الله لك حتى وصلك الطعام بهذا الشكل وبتلك الحلّة القشيبة .
انظر إلى دورة الحياة في طعامك .
تأمل – على سبيل المثال – هذا الخبز الذي لا يستغني عنه الناس .(1/472)
كان حبَّاً في الدكان ثم اشتراه الفلاّح فرماه في الأرض بعد أن شقها ووضع فيها ما يحتاجه من أسمدة ثم تعاهده بالسقي فلما استوى على ساقه جلب من يحصده ، ثم دُرِس فخرج الحب من السنابل ، ثم جمعه فباعه ، فاشتراه الخباز ثم طحنه الطحان ، ثم تولى الخباز مرة أخرى معالجة النار وتولّي حرّها ، ثم أخرجه بهذه الأشكال ، فأتيت به إلى بيتك سهلا ميسّرا ، ووضعته على سفرة طعامك ، ثم أكلته هنيئا مريئا .
وخذ مثالا آخر على اللحم الذي تأكله بشكل يومي ، تأمل تلك الدابة الصغيرة شربت من لبن أمها ثم أكلت من نبات الأرض ثم ذُبحت فقطعت فجيء بها إليك .
فهل تأملت ماذا أكلت ؟
وعلى أي شيء عاشت ؟
وماذا خلّفت ؟
إن ما تخلفه البهائم أو الدواجن يُعاد إلى الأرض فيستخدم كأسمدة وأغذية للنباتات التي تعود مرة أخرى لتكون طعاما سائغا لبني آدم .
وهكذا اللَّبَن فإنه يخرج من بين فرث ودمٍ لبنا خالصا سائغا للشاربين .
ثم تأمل ما ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا للدنيا .
قال عليه الصلاة والسلام : إن مطعم بن آدم ضُرب للدنيا مثلا بما خرج من بن آدم ، وإن قزحه وملحه ، فانظر ما يصير إليه . رواه أحمد وغيره .
ومعنى قَزَحه : يعني أكثر فيه التوابل والإبزار .
وملحه : أي جعل فيه الملح .
هكذا هي الحياة الدنيا .
118-هل المرأة ناقصة عقل ودين أو الرجل ؟؟!!
ينعق بعض بني قومي ممن طمس الله بصائرهم
ينعقون بما لا يفقهون
ويهرِفون بما لا يعرفون
ويُردّدون كترديد الببغاوات
فيتبجّحون بملء أفواههم – فض الله أفواههم –
بما ردّده أسيادهم من الغرب أو الشرق
بأن الإسلام ظلم المرأة وأهانها وانتقصها
قلنا : ومتى ؟؟
قالوا : عندما قال عنها : ناقصة عقل ودين !
قلنا : كيف ؟؟
قالوا : بقوله : خُلِقت من ضِلَع !
قلنا : فض الله أفواهاً تنطق بما لا تفقه
قالوا : كعادتكم أيها المتزمّتون ... لا تجيدون سوى الدعاء على خصومكم !
قلنا : إذاً اسمعوا وعُوا .(1/473)
اسمعوا شهادة أسيادكم ، ومأوى أفئدتكم !
أيها المتعالمون :
لقد عَلِمَ الغربيون أنفسهم أن الإسلام كرّم المرأة .
حتى قال أحد علماء الإنجليز ، وهو ( هلمتن ) قال : إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في وفرة العناية بوقايتها من كل ما يؤذيها ويُشين سمعتها .
وقالت جريدة ( المونيتور ) الفرنسية :
قد أوجد الإسلام إصلاحاً عظيماً في حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية ، ومما يجب التنويه به أن الحقوق الشرعية التي منحها الإسلام للمرأة تفوق كثيراً الحقوق الممنوحة للمرأة الفرنسية . انتهى .
======
غير أن الطاعنين في دين الإسلام يعتمدون في دعاواهم والحطّ من قيمة المرأة ومكانتها في الإسلام يعتمدون على فهم قاصر لبعض الآيات أو الأحاديث التي يظنون – ظنّاً كاذباً – أن فيها انتقاصاً للمرأة ، وليس الأمر كما ظنُّوا أو توهّموا
والطعن يكون إما نتيجة جهل أو تجاهل ، وكلاهما مُرّ .
ومن الأمور التي يَعُدّها بعضهم انتقاصاً للمرأة ، وآخرون يَظُنُّون أن فيه احتقاراً وازدراء لها ، وليس الأمر كما يظنون ، ولا هو كما يزعمون .
هو قوله عليه الصلاة والسلام عن النساء - : ناقصات عقل ودين . كما في صحيح البخاري ومسلم .
هكذا يبترون النصوص ليستدلوا استدلالاً سقيماً !
أو استدلال بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة : خُلِقت من ضِلَع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه . متفق عليه .
فهذه طبيعة خِلْقَتِها ، وأصل تركيبتها ، خُلِقت لطيفة لتتودد إلى زوجها ، وتحنو على أولادها ، وهي خُلِقت من ضلع ، وطبيعة الضلع التقوّس لحماية التجويف الصدري بل لحماية ملك الأعضاء ، أعني القلب ، ثم هي ضعيفة لا تحتمل الشدائد :
( أَوَمَن يُنَشَّؤا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ )(1/474)
وتلك حكمة بالغة أن جَعَلَ الله الشدّة في الرجال والرقّة في النساء ، رقّة تُزين المرأة لا تعيبها ، فقد شبهها المعصوم صلى الله عليه وسلم بشفافية الزجاج الذي يؤثّر فيه أدنى خدش ، ويكسره السقوط ولو كان يسيراً .
أَلَمْ يقل النبي صلى الله عليه وسلم لِحَادِيهِ – الذي يحدو ويُنشد بصوت حسَن- : ويحك يا أنجشة ! رويدك سوقك بالقوارير . قال أبو قلابة : فتكلّم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلّم بها بعضكم لَعِبْتُمُوها عليه ، قوله : سوقك بالقوارير . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم قال أنس : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حَادٍ حسن الصوت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : رويداً يا أنجشة لا تكسر القوارير . يعني ضعفة النساء
فهذا من باب الوصية بالنساء لا من باب عيبهن أو تنقّصهن
قال النووي : قال العلماء : سمّى النساء قوارير لضعف عزائمهن ، تشبيهاً بقارورة الزجاج لضعفها وإسراع الانكسار إليها .
وقال الرامهرمزي : كنّىعن النساء بالقوارير لِرِقّتهن وضعفهن عن الحركة ، والنساء يُشَبَّهْنَ بالقوارير في الرِّقّة واللطافة وضعف البنية .( نقله عنه ابن حجر في فتح الباري )
يا بني قومي ألا تفقهون ؟؟
ما بالكم تبترون النصوص وتستدلّون ببعضها دون بعض ؟؟
إن نص الحديث – كما في الصحيحين – : استوصوا بالنساء ، فإن المرأة خُلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء .
أين أنتم من هذه الوصية بالنساء ؟؟
افتتح الحديث بقوله : استوصوا بالنساء
واختتم الحديث بقوله : فاستوصوا بالنساء
فأين أنتم من هذا ؟؟
=============(1/475)
ومن الكُتّاب من يَصِم النساء – إما نتيجة جهل أو تجاهل – بأنهن ناقصات عقل ودين على سبيل الإزراء والاحتقار ، وسمعت أحدهم يقول ذلك في مجمع فيه رجال ونساء ثم وصف النساء بضعف العقل ، وزاد الأمر سوءاً أن اعتذر عن قوله بأن هذا هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم ! ثم أورد الحديث : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن . رواه البخاري ومسلم .
وقد بوّب عليه الإمام النووي : باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات .
وهذا القول له جوابان أجاب بهما من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم :
أما الأول :
فهو إجابته صلى الله عليه وسلم على سؤال النساء حين سألنه : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟
فقال : أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟
قلن : بلى ، قال : فذلك نقصان مِنْ عقلها .
أليس إذا حاضت لم تُصل ولم تَصُم ؟
قلن : بلى .
قال : فذلك من نقصان دينها .
والحديث في الصحيحين .
فهذه العلّة التي عللّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نقصان الدين والعقل ، فلا يجوز العُدول عنها إلى غيرها ، كما لا يجوز تحميل كلامه صلى الله عليه وسلم ما لا يحتمل أو تقويله ما لم يَقُل .
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية :
فيجب أن يفهم عن الرسول مراده من غير غلو ولا تقصير فلا يحمّل كلامه ما لا يحتمله ، ولا يُقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان ، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله ، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول ، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد ، والله المستعان .
[ وأصل الكلام لابن القيم في كتاب الروح ]
أما نقصان الدِّين ؛ فلأنها تمكث أياماً لا تصوم فيها ولا تصلّي ، وهذا بالنسبة للمرأة يُعدّ كمالاً !
كيف ذلك ؟(1/476)
من المعلوم أن التي لا تحيض تكون – غالباً – عقيماً لا تحمل ولا تلد ؛ وقد جعل الله الدم غذاءً للجنين .
قال ابن القيم : خروج دم الحيض من المرأة هو عين مصلحتها وكمالها ، ولهذا يكون احتباسه لفساد في الطبيعة ونقص فيها . اهـ .
ثم إن نقص الدين ليس مختصا بالمرأة وحدها .
فالإيمان ينقص بالمعصية وبترك الطاعة – كما بوّب عليه الإمام النووي في ترجمة هذا الحديث –
ثم إننا لا نرى الناس يعيبون أصحاب المعاصي الذين يَعملون على إنقاص إيمانهم – بِطَوْعِهم وإرادتهم – عن طريق زيادة معاصيهم وعن طريق التفريط في الطاعات ، ولسنا نراهم يعيبون من تعمّد إذهاب عقله بما يُخامره من خمرةٍ وعشق ونحو ذلك فشارب الخمر – مثلا – إيمانه ناقص ، والمُسبل إزاره في إيمانه نقص ، وكذا المُدخّن ، وغيرهم من أصحاب المعاصي ؛ ومع ذلك لم نسمعهم يوماً من الأيام يقولون عن شارب الخمر : إنه ناقص دين !
بل ربما وُصِف الزاني – الذي يُسافر إلى دول الكفر والعهر لأجل الزنا – بأنه بطل صاحب مغامرات ومقامرات !!
وهذا شيءٌ يُلامون عليه ، بينما لا تُلام المرأة على شيءٍ كَتَبَهُ الله عليها ، ولا يَدَ لها فيه .
قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
فتأمل هذه الكلمة الجامعة وهي قوله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة " فمن لم ينصح لله وللأئمة وللعامّة كان ناقص الدين ، وأنت لو دُعِيْتَ : يا ناقص الدين ؛ لَغَضِبْتَ . اهـ .
وأما نقصان عقل المرأة ؛ فلأن المرأة تغلب عليها العاطفة ورقّة الطبع - الذي هو زينة لها - فشهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل ، وذلك حُكم الله وعذرٌ لها .
ثم إن في هذا الحديث بيان أن المرأة ربما سَبَتْ وسَلَبَتْ عقل الرجل ، وليس أي رجل ، بل الرجل الحازم الذي يستشيره قومه في الملمات ، ويستأنسون برأيه إذا ادلهمّت الخطوب .
وكما قيل :
يَصْرَعْنَ ذا اللبّ حتى لا حراك به *** وهنّ أضعف خلق الله إنسانا(1/477)
وكما أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل
فإن الرجل أحياناً يكون على أقل من النصف من شهادة
المرأة ، فقد تُردّ شهادته إذا كان فاسقاً أو كان مُتّهماً في دينه .
وأما الثاني
من أجوبته عليه الصلاة والسلام
فهو قوله لعائشة - لما حاضت في طريقها للحجّ فعزّاها قائلاً - : هذا شيء كَتَبَه الله على بنات آدم .
وفي رواية : هذا أمرٌ كَتَبَه الله على بنات آدم . رواه البخاري ومسلم .
فما حيلة المرأة في أمرٍ مكتوب عليها لا حول لها فيه ولا طول ، فلا يُعاب الرجل بأنه يأكل ويشرب ويحتاج إلى قضاء الحاجة ، وقد عاب المشركون رسل الله بأنهم بَشَرٌ يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق . تأمّل ما حكاه الله عنهم بقوله :
( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ )
فَردّ عليهم رب العزة بقوله : ( وَما?أَرْسَلْنَا?قَبْلَكَ?مِنَ?الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ?إِنَّهُمْ?لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ?فِي?الأَسْوَاقِ ) [الفرقان:20] .
وقال سبحانه وتعالى عن رسله:
( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ )
وكان أبلغ ردّ على من زعموا ألوهية عيسى أن أثبت الله أنه يأكل الطعام ، وبالتالي يحتاج إلى ما يحتاجه سائر البشر ، قال تبارك وتعالى : ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) [المائدة:75] .
أخلُص من هذا كلِّه إلى أن المرأة لا تُعاب بشيء لا يَدَ لها فيه ، بل هو أمرٌ مكتوب عليها وعلى بنات جنسها ، أمرٌ قد فُرِغ منه ، وكما لا يُعاب الطويل بطوله ، ولا القصير بِقِصَرِه ، إذ أن الكل من خلق الله ومسبّة الخِلقة من مَسَبَّة الخالق ، فلا يستطيع أحد أن يكون كما يريد إلا في الأشياء المكتسبة ، وذلك بتوفيق الله وحده .(1/478)
إذا تأملت هذا ، وتأملت ما سبق من أقوال أهل العلم حول هذه المسألة ، فإني أدعوك لتقف مرة أخرى على شيء من أقوال أهل هذا العصر من الغربيين وغيرهم .
وأذكّرك – أخيراً – بأن رقّة المرأة وأنوثتها ولُطفها وشفافية معدنها يُكسبها جمالاً وأنوثة تزينها ولا تعيبها
قال جول سيمون : يجب أن تبقى المرأة امرأة فإنها بهذه الصفة تستطيع أن تجد سعادتها ، وأن تهبها لسواها .اهـ .
ومعنى أن تبقى المرأة امرأة ، أن تبقى كما خلقها الله ، ولأجل المهمة التي وُجِدت من أجلها .
ويعني أيضا أن لا تتدرج المرأة في أعمال الرجل ، فإنها بذلك تفقد أنوثتها ورقّتها التي هي زينة لها .
ولذا لما أُجريَ استفتاء في إنجلترا عن المرأة العاملة كان من نتائجه :
أن الفتاة الهادئة هي الأكثر أنوثة ، لأنها تُوحي بالضعف ، والضعف هو الأنوثة !
أن الأنوثة لا يتمتّع بها إلا المرأة التي تقعد في بيتها .
فقولهم : الضعف هو الأنوثة .
هذا لا يُعدّ انتقاصاً لأنه ... made in England !!!
لأنه نتاج بريطاني !!
أمَا لو قال هذا الكلمة رجل مسلم أو داعية مصلح ، لعُدّ هذا تجنّياً على المرأة وانتقاصاً لها ، فإلى الله المشتكى .
وختاماً :
لا بد أن يُعلم أنه لا يجوز أن يُطلق هذا اللفظ على إطلاقه
أعني قول بعضهم : المرأة ناقصة عقل ودين .
هكذا على إطلاقه .
إذ أن هذا القول مرتبط بخلفية المتكلّم الذي ينتقص المرأة بهذا القول ، ويتعالى عليها بمقالته تلك .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما النساء شقائق الرجال . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث حسن .
كما أنه لا يجوز لإنسان أن يقرأ ( ولا تقربوا الصلاة ) ويسكت
أو يقرأ ( ويل للمصلين ) ويسكت !
فلا يجوز أن يُطلق هذا القول على عواهنه
إذ قد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم سبب قوله ، فلا يُعدل عن بيانه صلى الله عليه وسلم إلى فهم غيره .
وأعتذر أخيراً عن الإطالة..
119-هل المجتمع يُحرّم أو يُحلّل ؟؟
سمعت هذه الكلمة(1/479)
( حَرّمَه المجتمع وما هو بحرام )
فاستوقفتني هذه العبارة
هل هناك شيء محرم غير ما حُرّم في الشريعة ؟؟
أو بعبارة أخرى : هل هناك ما يجب اجتنابه ، وإن لم يكن مُحرّماً ؟؟
أولاً : لا بُدّ أن يُعلم أن الأعراف معتبرة شرعاً .
ولذا نص علماء الأصول على أن :
المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً
كما نصُّوا على أن :
العادة مُحَكّمة
ولذا فإنه يُرجع إلى العُرف في كثير من الأحيان ، وفي بعض المسائل الشرعية يُرجع في تقديرها إلى العُرف ، وإلى ما هو مُتعارَف عليه .
قال تعالى : ( وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ )
وقال سبحانه : ( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ )
وقال عليه الصلاة والسلام لهند بنت عتبة لما شكت إليه زوجها وأنه شحيح : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف . رواه البخاري ومسلم .
فالنفقة والكسوة ليس لها قدر مُحدد شرعا ، وإنما يُرجع فيها إلى المعروف ، وهو ما تعارف الناس عليه .
ولكل زمان أعرافه بل لكل زمان ومكان أعرافه المتعارف عليها .
ولذا قال الإمام الذهبي في ترجمة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعد أن ذَكَرَ أنه كان يخضب بالصفرة .
فقال الذهبي : كان ذلك لائقا في ذلك الزمان ، واليوم لو فعل لاستُهجِن . انتهى كلامه - رحمه الله - .
وهذا يؤكد أن ما تعارف الناس عليه كان مُلزِماً لهم في زمانهم ذلك دون غيره ، ما لم يُخالف شرع الله عز وجل .
هذا من ناحية العُرف ومراعاته وتحكيمه في الشريعة .
ثانياً : مراعاة مكارم الأخلاق
فمن أتى بما يُخالف ذلك فقد تُردّ شهادته ، وقديماً كانت تُردّ روايته
ويُطلق عليه عند العلماء : خوارم المروءة .
وعلى سبيل المثال :
فإن عورة الرجل من السُّرة إلى الركبة(1/480)
غير أنه من المتفق عليه عند العقلاء بل حتى عند غير المسلمين بل حتى عند المجانين أن مَن خَرَجَ بلباس لا يستر سوى هذا الموضع ( ما بين السرة إلى الركبة ) أنه قد أتى بما يُلفت الأنظار ، ويجعله محطّاً للنقد ، ومثاراً للسخرية .
بل خالف ما عليه العقلاء .
وتأمل هذا الأمر وتخيّل أنك رأيت إنسانا يمشي في الشارع بهذا اللباس ، فماذا يقوم في نفسك ، وماذا ينقدح في ذهنك تجاهه ؟؟
مع أنه لم يأت بأمر محرّم ، لكنه أتى بما يُخالف العادات ، وأتى بما يخرم مروءته .
ولذا ألحق بعض العلماء - بأهل المعاصي - من يتعاطى خوارم المروءة ، ككثرة المزاح ، واللهو ، وفُحش القول ، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ، ونحو ذلك .
وهذه الأمور التي يُسمّيها الناس في زماننا ( العيب )
فيستعيبون الأمر مما يُخالف العادات والأعراف ، خاصة إذا حُدّ بحدود الشريعة .
ومن هنا يُعلم خطأ بعض الناس إذا خرج عن المألوف وخالف المتعارف عليه عند الناس فإذا أُنكِر عليه قال : هو حرام ؟؟
وكأنه ليس إلا الحرام الذي يجب أن يبتعد عنه .
إذاً فلا بُدّ من مراعاة العادات والأعراف ما لم تُخالف شرع الله عز وجل ، ولا بُدّ من مراعاة مكارم الأخلاق .
والله تعالى أعلم .
120-أمرٌ تم التأكيد عليه منذ فجر الدعوة..
لا يؤمر بأمر
ولا يُنهى عنه
ولا تتكرر فيه الآيات
إلا لأهميته
فمنذ فجر الدعوة
بل منذ أول وهلة
جاء التأكيد عليه
في أول نزول الوحي
إلى آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم
والأمر يُعاد فيه ويُكرر
ويؤكّد عليه
ويُؤمر به ويُنهى عن ضدّه
إنه أمر عقيدة
تنطوي عليه القلوب
وتُعقد عليه الخناصر
إنه :
مباينة
مفاصلة
منافرة
هجر
وقطيعة
ونبذ ومنابذة
لمن ؟؟
لأعداء الدين
تأمل قول رب العزة جل جلاله :
( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ )
ثم تأمل معناها
وتأمل متى جاء الأمر بها(1/481)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم فتر عني الوحي فترة ، فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قِبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت منه [ أي خفت ] حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني فدثّروني ، فأنزل الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إلى قوله : ( فَاهْجُرْ ) . متفق عليه .
قال أبو سلمة – أحد رواة الحديث – : والرجز الأوثان .
فالأمر بهجر الأصنام والأوثان أمر بمنابذة أهلها .
ولذا قال الله عز وجل : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )
وأمر سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يُعلن أنه على ملة إبراهيم فقال جل شأنه : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
كما أمر سبحانه باقتفاء أثر نبي الله إبراهيم والاقتداء به في ذلك
فقال سبحانه وبحمده : ( اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
وأمر المؤمنين بما أمر به خاتم المرسلين ، فقال : ( فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
كما أخبر سبحانه بأنه لا يرغب عن ملة إبراهيم ويبتغي غيرها في هذا الشأن إلا من جهل وبالغ في الجهل .
قال تبارك وتعالى : ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ )
ولا يستقيم الدين إلا بذلك(1/482)
( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً )
قال ابن كثير - رحمه الله – في قول الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام : ( قال يا قوم إني برئ مما تشركون ) أي أنا برئ من عبادتهن وموالاتهن .
لقد كانت قضية الولاء من أسس الدعوة إلى الإسلام
فجاء التأكيد عليها مع أول تتابع الوحي
كما تم التأكيد على هذه القضية الخطيرة
في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم
وبعد ظهور نور الإسلام وسطوع شمسه
وأفول الشرك
وخبوت ناره
أُكِّد عليها في يوم مشهود
في يوم الحج الأكبر
قال عز وجل : ( وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )
فيجب أن نتبرأ ممن تبرأ منه الله ورسوله
ولو كان أقرب الأقربين
قال تبارك وتعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
بل نفى الإيمان عمّن تولى مَنْ كفر فأحبّه لدرجة المودة
قال سبحانه : ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ )
بل نادى الله المؤمنين آمراً إياهم ألاّ يتخذوا عدوهم ولياً ، لأنه عدو كافر !
قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ )(1/483)
ومن تولّى الكفّار كفر ، وبريء من الله ، وبرئ الله منه .
قال تبارك وتعالى :
( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ )
قال ابن جرير الطبري رحمه الله :
وهذا نهي من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وظهورا ... ومعنى ذلك لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصارا توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم ، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء ، يعني بذلك فقد بريء من الله ، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ، إلا أن تتقوا منهم تقاة إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم ، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ، ولا تعينوهم على مسلم بفعل . انتهى .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقاة التكلم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان .
.
والكافر هو الكافر
والذئب هو الذئب ! وإن لبس جلود الضأن !
وإن غيّر اسمه
فالأسماء لا تغير المسميات
وفرق بين المحبة القلبية وحسن المعاملة ، فالأول ممنوع ، والثاني مشروع .
قال جل جلاله : ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
قال ابن كثير رحمه الله :(1/484)
أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ولم يظاهروا أي يعاونوا على إخراجكم كالنساء والضعفة منهم ( أن تبروهم ) أي تحسنوا إليهم ( وتقسطوا إليهم ) أي تعدلوا . انتهى .
وأمة الإسلام اليوم ومنذ حُقبة ليست باليسيرة تمرّ بمرحلة الغثائية ، وتكالب الأعداء على قصعتها .
وشباب الأمة اليوم يتيهون عُجباً بأعدائهم ، ويُقلّدونهم ويتشبّهون بهم ، وهذا مظهر من مظاهر الموالاة .
بل إن الأمة على جميع مستوياتها – إلا من رحم الله – تعيش مرحلة خنوع وخضوع للعدو الكافر ، بل تكاد تُقبّل أقدامه حيناً ، وحيناً تُطأطئ رأسها له !
فهي اليوم أحوج ما تكون لهذا المبدأ ليعلم أعداء الله أن الأمة عزيزة ، وأنها ما عقمت بل هي أمة ولود .
وليعلم أعداء الإسلام أن مبدأ العدواة والبغضاء قائم منذ أن نادى به الخليل عليه الصلاة والسلام .
( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) .
والله أسأل أن يُهيئ لأمة الإسلام من أمرها رشدا .
121-مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؟
( قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ )
تأملت وأنا أقرأ هذه الآية في هذا السؤال الذي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأله المعاندين الكافرين
( مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ) ؟
مَن يحرسكم ؟
مَن يحفظكم ؟
من يرعاكم ؟
مَن يفعل بكم ذلك من دون الرحمن ؟
وتُرك الجواب للعِلم به(1/485)
كما في قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى )
الجواب : لكان هذا القرآن .
لا أحد يملك الأمن ويهبه سوى الله عز وجل
ولا يهب الله عز وجل الأمن بمفهومه العام والشامل إلا للمؤمنين به
ولذا قال جل جلاله :
( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )
ولما نزلت : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ) شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لا يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه : ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) . رواه البخاري ومسلم .
وقد وعد المؤمنين بالأمان فقال : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )
فهذا أمن المؤمنين
الأمن النفسي
والأمن الاجتماعي
ولا يتم الأمن إلا بهذين النوعين
ومتى ما كانت أجهزة الأمن هي مصدر خوف فاعلم أن الأمن قد اختل أو اضطرب أو ضعف في أقل الأحوال
فالأمن الاجتماعي مطلب للجميع ، وقد يتحقق للمسلم والكافر
إلا أن الأمن النفسي لا يتحقق إلا للمؤمنين برب العالمين
فليس الأمن أن تأكل أو تنام وأنت قرير العين
بل أن تنام وأنت لا تخاف إلا الله عز وجل
وأن تكون مطمئن النفس هاديء البال مرتاح الضمير على يومك وغدِك
مطمئن على مستقبلك
واثق أن رزقك لك
وأنه قُسم وأنت في بطن أمك(1/486)
وأن المَلَك أُمِر بكتابة أربع كلمات ( عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ) وذلك قبل أن تُنفخ فيك الروح
وأن تعلم علم يقين أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك
وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك
وأن هذه الدنيا برمّتها لو ذهبت منك فإنك على يقين من عدالة الجزاء ، وموافاة الحساب
وأن رب العزة سبحانه سوف يضع موازين العدل والحق فيوزن فيها مثاقيل الذرّ
( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )
كل هذا مما يتحقق به الأمن الشامل
الأمن الدنيوي بنوعيه ( النفسي والاجتماعي )
والأمن الأخروي
ولذا قال رب العزة سبحانه وتعالى : ( أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ؟
وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جل وعلا قال : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين ؛ إذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة . رواه ابن حبان .
وأما المؤمنون بالله جل جلاله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ )
فلا يحزنون على هذه الدنيا ، ولا يحزنون عند مفارقتها
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )
قال مجاهد : ( أَلا تَخَافُوا ) مما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة ( وَلا تَحْزَنُوا ) على ما خلفتم من أمر دنياكم من ولد وأهل ودَين مما استخلفكم في ذلك كله . اهـ .
ولا هم يحزنون في الآخرة بل لا يسمعون ما يُزعجهم(1/487)
( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )
لا يسمعون من التّحايا إلا ما يسرّهم
( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا )
ذلك أنهم استقاموا على الطريق المستقيم في الحياة الدنيا
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )
تحقق لهم الأمن الأخروي الذي لا يعدله شيء
مع ما تحقق لهم من الأمن الدنيوي بقدر ما حققوا من إيمان .
فبقدر ما يُحقق الأيمان يكون الأمن في الأوطان
ولا ريب أن بلاد الكفّار اليوم تشكو من ضعف الأمن
فليس مظهر الأمن فيها أن لا تُقطع يدك لأجل ما تلبس فيها من ساعة !
ولكن الأمن بمفهومه الشامل العام لجميع مناحي الحياة
ولا زلت أذكر أحد المسلمين المغتربين في بلد أوربي وهو يقول : السير ليلة الأحد مُجازفة !
سألته : لماذا ؟
قال : كثيرون هم الذين يقودون سياراتهم وهم في حال سُكر !
ومسلم تزوّج بامرأة أوربية تستدعيه سُلطات الأمن بين حين وآخر ليُكرر له السؤال :
لماذا أسلمت زوجتك ؟!
وهل قمت بممارسة أي نوع من الضغوط عليها ؟
ويُختم السؤال في كل مرّة : لماذا لا تريد اندماج المسلمين بالنصارى ؟!!
هذا في ظل ما يعتبرونه حُريات شخصية
وحرية اختيار الدّين
تلك المبادئ التي يتشدّقون بها من غير رصيد حقيقي !!
أحدهم سأل مجموعة من الجنود الأمريكان : ما أكثر شيء لفت أنظاركم في بلادنا ؟
قالوا : الأمن !
قال : هل يوجد مثله في بلدكم ؟!
قالوا : لا !
ومِن الحق ما شهدت به الأعداء !!
إن معدلات الجريمة في بلادهم بازدياد مستمر(1/488)
بل من الخطورة بمكان أن يترجّل سائق السيارة من سيارته عندما يوقفه رجال الأمن !
وسألت غير واحد ممن كان وقع فترة في شِراك المخدِّرات عما كان يجده سابقا ، فكانوا جميعا يقولون : نشعر ب الخوف !
سألت : من أي شيء ؟
قالوا : لا نعلم !
إذا لم يكن لديهم أمن نفسي ، وإن أمِنوا في أوطانهم !
فيا رب آمِنّا في أوطاننا
ويا رب نسألك الأمن والإيمان والعفو عما سلف وكان .
122-من هو الكريم إذا عُدّ الكُرماء ؟؟؟
إذا أراد بعض الناس أن يضرب مثلا للكرم فإنه يذكر حاتم الطائي .
فيقول بعضهم : كرم حاتمي !!
أو أكرم من حاتم !!
وفي الشجاعة يُضرب المثل بعنتر أو بغيره من شُجعان العرب .
وفي الحِلم يُضرب المثل بالأحنف أو بخاله قيس بن عاصم .
وهكذا ...
ولكن دعونا نرى :
من هو الكريم ؟
ومن هو الشجاع ؟
ومن هو الحليم ؟
إن هذه الصفات وغيرها من كريم الخصال وحميد السجايا قد جمعها الله – عز وجل – لصفوة خلقه
جمعها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فلقد وُصِف – عليه الصلاة والسلام – بأنه يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر
قال أنس – رضي الله عنه – :
ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه . قال : وجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمدا يُعطي عطاء لا يخشى الفاقة . رواه مسلم .
وأعطى صفوان بن أمية يوم حُنين مائة من النعم ، ثم مائة ، ثم مائة . رواه مسلم .
فمن أعطى مثل هذا العطاء ؟؟
ومن يستطيع مثل ذلك العطاء والسخاء والجود والكرم ؟؟؟
بل مَن يُدانيه ؟؟؟
إن من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لا يُمكن أن يُعطي مثل ذلك العطاء .
ولو أعطى مثل ذلك العطاء ، فلديه الكثير
أما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيُعطي العطاء الجزيل ، وربما بات طاوياً جائعاً .
فهذا الذي أخذ بمعاقد الكرم فانفرد به ، وحاز قصب السبق فيه بل في كل خلق فاضل كريم(1/489)
فلا أحد يقترب منه أو يُدانيه في ذلك كله .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الرِّيحِ المرسَلَة ، وكان أجود ما يكون في رمضان . كما في الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – .
وقَدِمَ عليه سبعون ألف درهم ، فقام يَقْسمُها فما ردَّ سائلاً حتى فرغ منها صلى الله عليه وسلم . رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخبر جبير بن مطعم أنه كان يسير هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مَقْفَلَهُ من حنين ، فَعَلِقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمُرة ، فخطفت رداءه ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعطوني ردائي . لو كان لي عدد هذه العِضَاه نَعَماً لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ، ولا كذوبا ، ولا جبانا . رواه البخاري .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم الشُّجاع الذي يتقدّم الشجعان إذا احمرّت الحَدَق ، وادلهمّت الخطوب
أنت الشّجاع إذا الأبطال ذاهلة **** والهُنْدُوانيُّ في الأعناق والُّلمَمِ
قال البراء رضي الله عنه : كنا والله إذا احمر البأس نتقي به ، وإن الشجاع منّا للذي يحاذي به ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم
وقال عليّ رضي الله عنه : كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه . رواه أحمد وغيره .
أما البراء رضي الله عنه فهو الملقّب بالمَهْلَكَة ، وأما عليٌّ رضي الله عنه فشجاعتُه أشهرُ من أن تُذْكَر .
ومع ذلك يتّقون برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ومع ذلك كان الشجاع منهم الذي يُحاذي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
قال رجل للبراء بن عازب – رضي الله عنهما – : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ قال : لكن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يَفِر . متفق عليه .(1/490)
وقال – رضي الله عنه – : كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس ، وأشجع الناس ، وأجود الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا ، وقد سبقهم إلى الصوت ، وهو على فرس لأبي طلحة ، وهو يقول : لم تراعوا . لم تراعوا . قال : وجدناه بحراً ، أو إنه لبحر . ( يعني الفرس ) متفق عليه .
كان صلى الله عليه وسلم حليم على مَنْ سَفِه عليه ، أتته قريش بعد طول عناء وأذى ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
شَدّ أعربيٌّ بُردَه حتى أثّر في عاتقه ، ثم أغلظ له القول بأن قال له : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك ! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء . متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه .
هو مَنْ جمع خصال الخير وكريم الشمائل ، وَصَفَه ربّه بأنه ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) .
قال الحسن البصري في قوله عز وجل ( فبما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم ) قال : هذا خُلُقُ محمد صلى الله عليه وسلم نَعَتَه الله عز وجل .
كان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان أجودَ الناس كفّاً ، وأشرَحهم صدرا ، وأصدق الناس لهجة ، وألْيَنهم عريكة ، وأكرمهم عِشرة ، من رآه بديهةً هابَه ، ومن خالطه معرفةً أحبَّه ، يقول ناعِتُه : لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم . رواه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي في شُعب الإيمان .
تلك قَطْرِةٌ من بحرِ صفاتِه ، وإشارةٌ لمن ألقى السَّمْعَ ، وتذكِرةٌ للمُحِبّ .
فهذه أخلاقه فأين المحبُّون ؟
هذه من أخلاقه عليه الصلاة والسلام فأين المقتدون ؟
فهل أبقى لحاتم طي مِن كرم ؟
وهل أبقى لعنتر من شجاعة ؟
وهل أبقى لقيس مِن حِلم ؟
صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
123- من هو الحاكم ... ؟؟ أأبو جهل ؟؟!!!!
عندما تنتكس فِطر أقوام .
وعندما تتعفن عقول آخرين !!
فَيَرَون أنهم أَتوا بما لم تأت به الأوائل !(1/491)
ويرون أنهم حازوا قصب السبق في كل ميدان !
وأنهم قد أُوتوا العلم بحذافيره ، وأنه انقاد لهم كالجمل الأنف !!
فيبغون في الأرض الفساد !
ويُريدون أن يُغِيروا على تراث الأمة ؛ تراث تلقته الأمة بالقبول ، وأخذه السابق عن اللاحق ، وأجمعت عليه الأمّة .
فيدّعون زوراً وبهتاناً أن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يُخالف المعقول .
وربما ادعوا غداً أن في كتاب الله تناقضا ( أستغفر الله ) لكن هكذا داء الكَلَب يتجارى بصاحبه حتى يورده الموارد ، ويُصاب في مقاتله من حيث لا يشعر .
فهؤلاء ما أُعينوا بل تُرِكوا لأنفسهم
و
إذا لم يكن من الله للفتى عونٌ *** فأول ما يجني عليه اجتهاده
يرون القبيح حسناً ، والحسن قبيحاً ، وصدق القائل :
يُقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسنا ما ليس بالحَسَنِ
لست أدري أي عقل سيكون حاكما على عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟؟
وأي عقل سيكون حاكما على عقول علماء الأمة ؟؟؟
وقد أدعى أدعياء العلم أن حديث الذباب يُخالف العقل والطب ، ثم أراد الله أن يظهر كذبهم كما أظهر كذب مسيلمة الكذاب ، فأثبت الطب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولسنا بحاجة إلى أقوال الأطباء ، وهرطقة الفلاسفة لإثبات ديننا ، ولكن من الحق ما شهدت به الأعداء .
وحديث الذباب " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم ، فليغمسه ثم لينزعه ، فإن في أحد جناحيه داء ، والآخر شفاء " رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
فعقول أهل السنة والإيمان تقبل ما جاء به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم .
بينما عقول أهل الهوى ترد ما خالف عقولها !!
فأي عقل سيكون الحاكم على السنة ؟؟
-----------------------(1/492)
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح ، وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقلية كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقلية فاسدة ... ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع ، ومن قدم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع بل سلم له الشرع . اهـ .
---------------------
وقال ابن رجب :(1/493)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث وابصة وأبي ثعلبة : وإن أفتاك المفتون . يعني أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم ، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم ، فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشيء مستنكراً عند فاعله دون غيره ، وقد جعله أيضا إثما وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى دون دليل شرعي ، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي فالواجب على المفتى الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره ، وهذا كالرخصة الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال فهذا لا عبرة به وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم فيمتنعون من قوله فيغضب من ذلك كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكرهه من كرهه منهم وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه وكرهوا مفاوضته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له كما قال تعالى : ( فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما ) .
-------------
قال الذهبي بعد أن ساق قول أبي قلابة : إذا حدثت الرجل بالسنة فقال : دعنا من هذا ، وهات كتاب الله ، فاعلم أنه ضال .
ثم علّق عليه بقوله :
قلت أنا : وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد وهات العقل ، فاعلم أنه أبو جهل !!!!!(1/494)
وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول دعنا من النقل ومن العقل وهات الذوق والوجد فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر أو قد حل فيه ، فإن جبنت منه فاهرب وإلا فاصرعه وابرك على صدره واقرأ عليه آية الكرسي واخنقه !!!! انتهى كلامه .
------------
فما أحوجنا إلى هذا العلاج مع كل متطاول على سنة النبي صلى الله عليه وسلم !!
-----------
وما أحوجنا إلى علاج ( عمر ) رضي الله عنه يوم عالج صبيغ بن عسل بعراجين النخل .
وقصة صَبيغ بن عِسْل : رواها معمر بن راشد في الجامع ورواها الدارمي وغيرهم وحاصلها أن صَبِيغاً كان يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر ، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه قال :أين الرجل ؟ فقال : في الرَّحل قال عمر : أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة ، فأتاه به ، وقد أعد له عراجين النخيل ، فلما دخل عليه جلس قال من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . قال عمر : وأنا عبد الله عمر ، وأومأ عليه ، فجعل يضربه بتلك العراجين ، فما زال يضربه حتى شجّه ، وجعل الدم يسيل عن وجهه ، فَعَلَ به ذلك ثلاثة أيام حتى ذَهَبَ عنه ما يجد ، قال عندها صَبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله بَرِئتُ ! ثم نَفَاه عمر رضي الله عنه إلى البصرة ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين ، حتى كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحِلَق ، فكلما جلس إلى حلقه قاموا وتركوه ، فإن جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى عزمة أمير المؤمنين ، فاشتد ذلك على الرجل ، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته فكتب عمر : أن يأذن للناس بمجالسته .
فياله من أدب عُمَرِيّ !!
إيه أبا حفص . عالجت فأحسنت العلاج .
وداويت فنفع الله بالدواء ، ولكن :
أين الدِّرة ؟؟ دِرّة عمر ؟؟
وأين العراجين ؟؟ عراجين النخل ؟؟(1/495)
وما أحوجنا إلى سيف الرشيد ونطعه !
حدّث أبو معاوية الضرير هارون الرشيد بحديث " احتج آدم وموسى " فقال رجل شريف : فأين لقيه ؟ فغضب الرشيد وقال : النطع والسيف ! زنديق يطعن في الحديث . فما زال أبو معاوية يسكِّنه ويقول : بادرة منه يا أمير المؤمنين . حتى سكن .
لا يُجدي مع المتطاولين على سُنّة سيد المرسلين سوى هذه الأدوية الناجعة المُجرّبة
ولكن أين درّة عمر ؟؟؟
وأين سيف الرشيد ونطعه ؟؟؟
أبو جهل يحكم عقله في القرآن والسنة !!
وأبو بكر رضي الله عنه يحكم الكتاب والسنة على عقله .
ويجعل عقله خاضعا للكتاب والسنة ، وليس العكس .
أبو جهل يقدم العقل !!
وأبو بكر يقدم النقل .
لماذا ؟؟
لأنه علم أنه ليس هناك عقل صحيح يخالف النقل الصحيح .
وأن الشريعة لا تأتي بما يخالف العقول ، بل تأتي بما تحار له العقول .
أبو جهل يفتخر بنفسه !!
وأبو بكر يفتخر بدينه .
أبو جهل يتعاظم ويكذّب الله ورسوله !!
وأبو بكر يستعيذ بالله أن يكون عظيما في نفسه .
ويقول بعد أن هرع إليه المشركون يخبرونه بخبر الإسراء ، وهم قد تعاظموه ، وقالوا : اليوم يرجع أبو بكر عن دينه !!
فخيّب آمالهم وقال قولته المشهورة :
إن كان قال ، فقد صدق .
رضي الله عن أبي بكر وأرضاه .
124-من هم الظلاميّون ...؟؟
صليت العشاء ليلة من الليالي خلف إمام نديّ? الصوت ، حسن الترتيل ، يأخذ بالألباب ، ويحرك الأفئدة .
وقرأ من سورة النور آيات استوقفتني منها آية ، ثم قفز إلى ذهني آيات من نظائر تلك الآية ، مما جعلني أتساءل – بعد ذلك – وأطرح هذا السؤال :
من هم الظلاميّون ...؟؟
ومن هم الذين يعيشون في الظُّلُمات ؟؟
فدعونا نستنطق كتاب ربنا – الذي هجرناه إلا من رحم الله – :
قال الله عز وجل : ( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يُخرجونهم من النور إلى الظُّلُمات )(1/496)
وقال تبارك وتعالى : ( أوَ من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كَمَن مثله في الظُّلُمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون )
ومن الأقوال في تفسير هذه الآية :
قال ابن الجوزي في قوله : ( كان ميتاً فأحييناه ) قولان :
أحدهما : كان ضالاً فهديناه .
والثاني : كان جاهلاً فعلّمناه .
وقال ابن كثير : أي أحيا الله قلبه بالإيمان .
وقال الشوكاني : والمراد بالميتِ هنا : الكافر أحياه الله بالإسلام .
والذي في الظُّلُمات هو الكافر .
ومنه قوله سبحانه ( وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظُّلُمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات * إن الله يسمع من يشاء وما أنت بسمع من في القبور )
وجاء في تفسير الآيات المتقدمة :
لا يستوي المؤمن والكافر .
ولا المهتدي والضال .
ولا العالم والجاهل .
ولا أصحاب الجنة والنار .
ولا أحياء القلوب وأمواتها .
وقال سبحانه في مثل أعمال الكفار : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه )
إلى قوله تعالى :
( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور )
فهذا مثل أعمال الكفار .
وكذلك قوله تعالى ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظُّلُمات إلى النور بإذنه )
ثم تذكرت قوله عليه الصلاة والسلام : مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت . رواه البخاري .
وعند مسلم من قوله عليه الصلاة والسلام : مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت .
ثم تذكرت من يسمون عاصمة أوربية - فيها أشهر برج يُعد أشهر برج في أوربا - يسمونها ( عاصمة النور ) !!!(1/497)
فتساءلت في نفسي : من أين أتاها النور ، وهي لم تعرف نور الهداية الربانية ؟؟!!
وأنا على يقين أن مثل هذا القول يُغضب أقواما يوجهون وجوههم شطرها !!
وربما أغضب أقواما قد تخرجوا منها !!
ويريدون لأمة الإسلام أن تحذو حذوهم ، وتقتفي آثارهم !
اقرأ ما يقوله عميد الأدب !------
( وأظن هذه اللفظة ( قلّة ) ساقطة بين ( عميد ) و ( الأدب ) !!!!! )
قال طه حسين في كتابه « مستقبل الثقافة في مصر » : لكن السبيل إلى ذلك – أي إلى الرُّقيّ – ليس في الكلام يُرسل إرسالاً ، ولا في المظاهر الكاذبة ، والأوضاع الملفّقة ، وإنما هي واضحة بيّنة ومستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء !! ، وهي واحدة فذّة ليس لها تعدد ، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ، ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرّها ، حلوها ومُرّها وما يُحبّ منها وما يُكره ، وما يُحمد منها وما يُعاب .
---------
وصدق الله جل جلاله ( فأعرض عمن تولّى عن ذكرنا ولم يُرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم )
فهذا مبلغهم من العلم ، وغاية أمانيهم في الحياة .
أن يسيروا بسيرة الأوربيين !!
وأن يأخذوا بحضارتهم حلوها ومرّها !!
وأن يدينوا بدينهم !!
وأن يدخلوا جحر الضب الخرب !!
فهنيئا لهم !! إن كان الغراب دليلهم !!
وهنيئا لهم ما يدلهم عليه !!
إذا كان الغراب دليل قوم .......................
--------
وهم يصفون من يتمسّكون بدينهم بهذا الوصف ( ظلاميون ) !!
وهم أحق بها وأهلها .
وما مثلنا ومثلهم إلا كالمثل السائر :
رمتني بدائها وانْسلَّتْ !!
125-مَنْ هذا الطفل الذي وقفت لأجله الجموع ؟؟
في المدينة النبوية – على ساكنها أفضل الصلاة والسلام – وبعد أن فرغنا من فريضة من فرائض الله .
ومرة أخرى في الحرم المكي ، حيث البيت العتيق ، والمسجد الحرام
ودعني أقف معك قليلا قبل أن الدخول إلى صُلب الموضوع لكي تتخيّل معي حقيقة الموقف
إن أي عظيم من عظماء الدنيا(1/498)
وأي رئيس من الرؤساء
مهما أُوتوا من قوة وتأثير وشعبية
وعلى أي درجة من الجبروت كانوا
لا يُمكن أن تقف لهم تلك الجموع كما وقَفَتْ لذلك الطفل
ربما وقف لهم وقام لأجلهم من يخافهم أو يرجوهم
لكن ذلك الطفل وقف له الجميع
وقف له الصغير والكبير والذكر والأنثى
فأي سرّ كان فيه ؟؟
وأي تأثير كان له ؟؟
لم يكن له تأثير ... بل لم يكن به حَراك
ولكن بمجرّد أن أعلن المنادي قدومه وقف الجميع
أعلن المؤذن قدومه قائلاً :
الصلاة على الطفل يرحمكم الله
فوقفت مع مَنْ وَقَف
لقد وقَف للصلاة عليه كل من كان في الحرم
كبّروا عليه أربعاً ثم سلموا عن إيمانهم ثم انصرفوا
فوقفت متأملاً قيام تلك الجموع
فهل أدركتم سرّ القيام؟
إنه سرّ التكريم
إنه دين الإسلام
الذي كرّم الإنسان حيّاً وميّتاً ، فلولاه لما كان ذلك التكريم
ولكانت جيفة الميت كجيفة سائر البهائم ! إنما تُدفن لكي لا تُنتن بالمكان ، ولا تؤذي الناس
فلْتأتِ البشرية اليوم جمعاء بتكريم كتكريم الإسلام للإنسان
ما أكرمك أيها المسلم على الله
عندها تذكّرت كلاما نفيساً لابن القيم - رحمه الله –
قال - رحمه الله - :
فالدنيا قرية ، والمؤمن رئيسها ، والكل مشغول به ساع في مصالحه ، والكُلّ قد أُقيم في خدمته وحوائجه فالملائكة الذين هم حملة عرش الرحمن ومن حوله يستغفرون له ، والملائكة الموكّلون به يحفظونه ، والموكّلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه ، والأفلاك مُسَخّرَة مُنقادة دائرة بما فيه مصالحه ، والشمس والقمر والنجوم مُسَخّرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته وإصلاح رواتب أقواته ، والعالم الجويّ مسَخّر له برياحه وهوائه وسحابه وطيره وما أُودع فيه ، والعالم السُّفلي كله مُسخّر له مخلوق لمصالحه : أرضه وجباله وبحاره وأنهاره وأشجاره وثماره ونباته وحيوانه وكل ما فيه .
انتهى كلامه - رحمه الله - .
فما أكرمك على الله إذا حققت الإيمان
وما أرخص الإنسان إذا خالف شرع الملك الديّان(1/499)
رخُصت يده يوم سرقت
ورخُص دمه يوم قتل وسفك
ورخُص ظهره يوم قذف بلا بيّنة
ولذا لما اعترض الشاعر العاري أبو العلاء المعري على قطع اليد فقال :
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَت **** ما بالها قطعت في ربع دينار ؟
أجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله :
عزّ الأمانة أغلاها ، وأرخصها ذل الخيانة *** فافهم حكمة الباري
ولما سُئل ابن الجوزي عن ذلك قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خَانَتْ هَانَتْ .
فعلاً :
بالدِّين يسمو المرء للعلياء
وبغيره ينحط إلى أسفل سافلين
فهذه دعوة للتأمل في مكانة المسلم في الإسلام
ولو كان طفلا لا يعقل ، أو كان سِقطاً ميّتا قد نُفخت فيه الروح .
وإنما ذكرت الطفل لأنه أبلغ في تصوير المقصود ، وإن كانت كل جنازة مسلم يُوقف لها من أجل الصلاة عليها .
126-من معالم المدينة النبوية ... جبل أحد .. والقراريط..
جبل أُحد
يقع جبل أحد شمالي المدينة
ويبعد عن المسجد النبوي 4 كم
محيطه يقرب من 16 كم
من الناحية الجنوبية : يمتد من الشرق إلى الغرب 3 كم
ومن الناحية الشمالية : يمتد من الشرق إلى الغرب 7 كم
وعرضه شرقا 2 كم
وغربا 4 كم
وقعت غزوة أحد في سفوحه الجنوبية ، ولذلك سُمّيت غزوة أحد
وكان جبل أحد عن يمين جيش النبي صلى الله عليه وسلم وجبل الرماة عن يساره
وسمُي الجبل بهذا الاسم ( جبل أحد ) لتوحده وتفرده ، فهو غير مرتبط بسلاسل جبال من حوله .
====
( هذا المقطع أعلاه بتصرف من شريط معالم المدينة النبوية [ أُحد ] لفضيلة الشيخ د . عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ )
-----------------------
هذا الجبل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : هذا جبل يُحبنا ونحبّه . متفق عليه .
إذا تصورت مساحة هذا الجبل العظيم(1/500)
فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام : من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يصلي عليها ، ويفرغ من دفنها ، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين ؛ كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط . متفق عليه .
وفي رواية : من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط ، فإن تبعها فله قيراطان . قيل : وما القيراطان ؟ قال : أصغرهما مثل أحد .
فتصوّر عظيم هذا الأجر .
من أجل ذلك لما قيل لابن عمر : إن أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تبع جنازة فله قيراط من الأجر . فقال ابن عمر : أكثر علينا أبو هريرة ، فبعث إلى عائشة فسألها فصدّقت أبا هريرة ، فقال ابن عمر : لقد فرطنا في قراريط كثيرة . متفق عليه .
فكم هي القراريط التي فرطنا فيها ؟؟
وكم هي الحسنات التي كأمثال الجبال التي ضيّعناها ؟؟
127-الاستغفار ... فوائد عظيمة ومعاني جليلة..
الاستغفار هو طلب المغفرة من العزيز الغفار
وطلب الإقالة من العثرات من غافر الذنب وقابل التوب
قال ابن الأثير : في أسماء الله تعالى الغَفّار والغَفور ، وهما من أبنية المبالغة ، ومعناهما الساتر لذنوب عباده وعُيوبهم المُتجاوِز عن خطاياهم وذنوبهم . وأصل الغَفْر التغطية . يقال : غفر الله لك غفراً وغفراناً ومغفرة . والمغفرة إلباس الله تعالى العفو للمُذنبين . انتهى .
قال ذو النون المصري : الاستغفار جامع لِمَعانٍ :
أولهما : الندم على ما مضى
الثاني : العزم على الترك
والثالث : أداء ما ضيعت من فرض الله
الرابع : رد المظالم في الأموال والأعراض والمصالحة عليها
الخامس : إذابة كل لحم ودم نبت على الحرام
السادس : إذاقة ألم الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية .
وبالاستغفار تُختتم العبادات ليُقر العبد بتقصيره فيُغفر له ذنبه
قال سبحانه في الحج : ( ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(2/1)
وفي الأسحار عند الفراغ من قيام الليل : ( كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )
وأثنى الله على المستغفرين بأوقات السحر فقال: ( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ )
ويكون الاستغفار عند جموح النفس لمواقعة الذّنب ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
وقال سبحانه وتعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا )
والاستغفار جاء على ألسنة أنبياء الله ورسله
فعلى لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه ُ)
وقال على لسان نبيّه هود عليه الصلاة والسلام : ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ )
وجاء على لسان صالح عليه الصلاة والسلام : ( يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ )
وعلى لسان شعيب عليه الصلاة والسلام ( وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ )
وبه تُفتّح مغاليق الأمور
قال سبحانه وتعالى على لسان نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ )(2/2)
وبالاستغفار تُستمد الأرزاق ، ويُستكثر من المال والولد ، وتُستمطر الرّحمات .
قال جل جلاله على لسان نوح عليه الصلاة والسلام : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا
* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا )
وبالاستغفار يُودّع الميت .
ولذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت ؛ فإنه الآن يسأل . رواه أبو داود .
وبالاستغفار تتحاتّ الخطايا والذنوب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثا غُفرت ذنوبه وإن كان فارّاً من الزحف . رواه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يُخرجاه .
قال ابن عيينة : غضب الله داء لا دواء له .
وعقّب عليه الإمام الذهبي بقوله : دواؤه كثرة الاستغفار بالأسحار والتوبة النصوح .
وقد كان الذي غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر عليه الصلاة والسلام يقول : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة . رواه البخاري .
وقال عليه الصلاة والسلام : إنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة . رواه مسلم .
قال الإمام النووي : والمراد هنا ما يتغشى القلب . قال القاضى : قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه فإذا فَتَرَ عنه أو غفل عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه .
وروى مكحول عن أبي هريرة قال : ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال مكحول : ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة . وكان مكحول كثير الاستغفار .
فَحَريٌّ بنا ونحن نودّع عاماً ونستقبل آخر جديد أن نودّع هذا بالاستغفار ونستقبل ذاك بالاستغفار .
نستقبله باستغفار الصادقين(2/3)
قال القرطبي : قال علماؤنا : الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان ، فأما من قال بلسانه : استغفر الله ، وقلبه مُصِرٌّ على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار ، وصغيرته لاحقةٌ بالكبائر . وروي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار .
قال بكر عبد الله المزني : أنتم تكثرون من الذنوب فاستكثروا من الاستغفار ، فإن الرجل إذا وجد في صحيفته بين كل سطرين استغفار سرّه مكان ذلك .
قال سفيان الثوري لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين : لا أقوم حتى تحدثني .
قال له جعفر : أنا أحدثك ، وما كثرة الحديث لك بخير .
يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها ، فإن الله عز وجل قال في كتابه : ( لئن شكرتم لأزيدنكم )
وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار ، فإن الله تعالى قال في كتابه : ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا )
يا سفيان إذا حَزَبَك أمرٌ من سلطان أو غيره فأكثر من : لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ فإنها مفتاح الفرج ، وكنز من كنوز الجنة .
فعقد سفيان بيده وقال ثلاث ونصف ثلاث . قال جعفر : عقلها والله أبو عبد الله ، ولينفعنه الله بها .
وفي وصية علي بن الحسن المسلمي : وأكثر ذكر الموت ، وأكثر الاستغفار مما قد سلف من ذنوبك ، وسل الله السلامة لما بقي من عمرك .
إخواني :
أخواتي :
طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه .
أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه .
أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه .
128-من نتائج الاختلاط..
1 – ذهاب الحياء الذي يجعل الفتاة لا تنطلق في الحياة !!(2/4)
2 – تصبح الفتاة أكثر خشونة وأشد عضلات !!
3 – تستطيع الفتاة أن تذهب مع من شاءت !!
4 – كثرة الزنا والفاحشة وبالتالي كثرة أولاد الزنا .
5 – كثرة الجرائم ، وقلة التزاوج في مجتمعات الاختلاط ، مما يؤدي إلى فناء الأجيال وخراب البلاد .
6 – ذهاب الأخلاق التي تسمى ( أخلاق فاضلة ) كالحياء والحشمة والعفاف , ...
------------------------
أما الحياء :
فـ ( الحياء لا يأتي إلا بخير ) كما في صحيح البخاري ومسلم عنه عليه الصلاة والسلام .
الحياء كله خير ، كما في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام .
الحياء من أخلاق الأنبياء .
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصف بأنه أشد حياء من العذراء في خدرها ، كما في الصحيحين .
وكما في الصحيحين في قصة اغتسال موسى صلى الله عليه وسلم .
بل الحياء من أخلاق العرب ، كما في قصة أبي سفيان مع هرقل فإنه قال : فوالله لولا ( الحياء ) من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه . رواه البخاري ومسلم .
----------------------
حتى الغربيين يرون أن الحياء خير للفتاة !!!!
قالت الكاتبة الشهيرة « آتي رود » - في مقالة نُشِرت عام 1901م - :
لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم ، خير وأخفّ بلاءً من اشتغالهن في المعامل حيث تُصبح البنت ملوثة بأدرانٍ تذهب برونق حياتها إلى الأبد ، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين ، فيها الحِشمة والعفاف والطهارة …
نعم إنه لَعَارٌ على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتَها مثَلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يُوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ، وترك أعمال الرجال للرجال سلامةً لِشَرَفِها .
----------------(2/5)
وقال أحد أركان النهضة الإنجليزية ، وهو « سامويل سمايلس »: إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل – مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد – فإن النتيجة كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية ، لأنه هاجم هيكل المنزل ، وقوّض أركان الأسرة ، ومزّق الروابط الاجتماعية .
----------------
حتى الأدعياء الذين يدعون إلى ( تخريب المرأة ) تحت شعار ( تحرير المرأة ) نعم هو تحرير ، ولكنه من كل فضيلة وأدب !!
قالت سلمى الحفار الكزبري – إحدى زعيمات الحركة النسائية المعاصرة – : عُدْتُ من رحلتي للولايات المتحدة منذ خمسة أعوام وأنا أرثي لحال المرأة التي جرفها تيّار المساواة الأعمى فأصْبَحَتْ شَقِيّة في كفاحها لكسب العيش ، وفَقَدَتْ حتى حُريّتها .
--------------
قال الفيلسوف الألماني شوبنهور : اتركوا للمرأة حُريّتها المُطْلَقَة كاملة بدون رقيب ، ثم قابلوني بعد عام ! لِتَرَوا النّتيجة ، ولا تنسوا أنكم سَتَرْثُون معي للفضيلة والعِفّة والأدب ، وإذا ما مِتّ فقولوا : أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة .
بل أصبت كبد ورئة الحقيقة يا شوبنهور !!!
------------------
ومن طريف ما قرأت أن سفير الدولة العثمانية اجتمع في بلاد الإنجليز مع كبراء الدولة ، فقال أحد الكبراء للسفير : لماذا تُصرّون أن تبقى المرأة المسلمة في الشرق الإسلامي متخلِّفة معزولة عن الرجال محجوبة عن النور ؟!
فردّ السفير العثماني – بذكاء وسرعة بديهة - : لأن نسائنا المسلمات في الشرق لا يرغبن أن يَلِدْنَ من غير أزواجهن !
فخجل الرجل وسكت ، وبُهِت الذي كفر .
---------------------
حتى يكون الكلام موثقا ، فإليك هذه الإشارات :
أكثر من 14 مليون طفل بين سن السادسة والثالثة عشر لديهم أمّهات تشتغل ! قالت ذلك « مارلين فينرا » مديرة الاستشارات والرعاية الثانوية في ولاية هيوستن
أرْجَعَ البوليس سبب زيادة عدد الجرائم – التي راح ضحيتها أطفال – إلى زيادة عدد أطفال المفاتيح .(2/6)
وسماهم الدكتور مصطفى السباعي : يتامى الصناعة !!
--------------
قال الفيلسوف « برتراند رسل » : إن الأُسْرَة انحلّت باستخدام المرأة في الأعمال العامة ، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرّد على تقاليد الأخلاق المألوفة ، وتأبى أن تظلّ أمينة لرجل واحد (1) إذا تحرّرت اقتصادياً.
------------------
أوربا في خطر ( أرقام وإحصائيات ) !
نشرت جريدة الوطن الأسبانية ( EL PAIS ) الصادرة يوم السبت
2/10/1420هـ إحصائية أسوق شيئاً من تلك الإحصائية .
بعد أن ترجمت لي :
اسم الدولة ---- نسبة المواليد - نسبة الوفيات ---الزيادة ---- واقع المغتربين
بلجيكا --------- 11.1 ------- 10.1--------- 1.0 --------- 1.9
الدانمارك--------- 12.5------- 11.1--------- 1.5 --------- 1.9
ألمانيا---------- 9.3-------- 10.3--------- 0.9 --------- 2.3
اليونان--------- 9.9-------- 9.5---------- 0.4 --------- 1.4
أسبانيا---------- 9.4-------- 9.4---------- 0.0 --------- 0.9
إيطاليا---------- 9.1-------- 9.9---------- 0.8 --------- 2.3
النمسا---------- 9.5-------- 9.4---------- 0.1 --------- 1.1
سويسرا--------- 9.9-------- 10.6--------- 0.7 --------- 1.4
( علما بأن النسبة في الألف ، ونسبة المواليد داخلة فيها مواليد المغتربين ، وهم الأكثر )
ثم ذَكَرت الصحيفة أنه تمّ الاتفاق بين دول المجموعة الأوربية على زيادة نسبة المغتربين لتغطية العجز الحاصل في التركيبة السكانية ، مما يكون له الأثر السلبي على مخصصات المتقاعدين وما يُصرف لهم ، والخوف الشديد من ازدياد نسبة العجزة ، ونقصان نسبة الشباب ، وهذا راجع إلى العزوف الجماعي عن الزواج سواء مِنْ قِبَلِ النساء ، لعدم تحمّل المسؤولية والانشغال بالعمل ، أو من قبل الرجال نظراً لوجود المتعة الرخيصة المبذولة في كل مكان وآن وبأقل التكاليف !(2/7)
الجدير بالذكر أن تلك الدول اتّفقتْ على ضرورة قيام كل دولة باستقبال ( 1.4 ) مليون مغترب بحلول عام 2025م لحل المشكلة
ونشرت صحيفة الرياض في العدد (11941) الصادرة يوم الأحد 9/12/1421هـ تحت عنوان ( أسبانيا بلد العجائز ! ) ما يلي : أفادت دراسة قامت بها الأمم المتحدة ! أن أسبانيا ستكون بلد العجائز ! في العام 2050 عندما يتضاعف من هم فوق السّتّين ثلاث مرات في العالَم .
وليس هذا في أوربا وحدها بل حتى في أمريكا ، فتُشير الإحصاءات إلى أن عدد الذين يعيشون بدون زواج تضاعف ثلاث مرّات بين عامي 1970م ، و 1980م ( هكذا كُتب التاريخ ، وإلا فإني لا أحبه !! )
ونسبة كبيرة من المتزوجات يُفضلن عدم الإنجاب .
ومن الإحصاءات :
أن نسبة 90% من الموظفات العاملات في مجال السكرتارية ارتكبن فاحشة الزنا مع من يعملن معهم !!
[ لأجل هذا يطالبون بسكرتيرات !!!!!!! ]
حتى في الجامعات التي تعد دور التعليم !!! والتربية !!!
تمارس ( الأستاذة ) الفاحشة مع طلابها !!!
والطالبة مع زميلها أو زميلتها !!!
والأستاذ مع طالباته أو مع طلابه !!!
فلا حرج أن يستمتع كل جنس بمثيله !!!
وهذا ما عقد له مؤامرة سموها ( مؤتمر ) لتقنين الفاحشة !!!
وكان ذلك من ابرز الإنجازات في عام 2000 م !!!
ومن أبرز إنجازات وزير تربية وتعليم ( أوربي ) !!!
أنه لما استلم مهام عمله أمر بتوزيع ....
بماذا ترونه أمر ؟؟
هل توزع الإعانات على الفقراء ؟؟؟
أو توزع الكتب النافعة ؟؟؟
لا لا ...
بل أمر بتوزيع كتيبات جنسية تشرح بالعبارة والصورة كيف يمارس الطلاب الفاحشة مع زميلاتهم !!!
ووزع حبوب منع الحمل على الطالبات ( مجانا ) و.... على الطلاب !!!
ياله من إنجاز عظيم تفخر به بلاد ( الظلمة ) التي يسمونها زورا وبهتانا ( بلاد النور !!!!
إنجاز يناطح برج إيفل !!!
[ ذكر لي ذلك بعض المسلمين الذين يقيمون في أوربا وفي ذلك البلد منذ أكثر من ثلاثين سنة !! ]
قدوات يجب أن تحتذى !!!(2/8)
وأناس يجب أن يكونوا القدوة لمجتمعاتنا حتى ( نتطور ) يعني ( نتخلف ) وندخل جحر الضب !!!
-------------------
يعني أن تُصبح المرأة ( مُعَدِّدَة !! ) إذا استغنت بمالها ، وهذا الأمر غير مُنْكَر عند الغربيين ، ولا تعدد العشيقات بالنسبة للرجل هو الآخر لا يُعدّ منكراً !!!
129-من فظائع الصوفية .. وأقوال علماء الإسلام فيهم ..
جرى نقاش في أحد المنتديات ، فانبرى من يُدافع عن دراويش الصوفية ، وبعض رموزها ، فطُلب مني آنذاك أن أكتب بشيء من البسط حول هذا الموضوع .
فقلت :
سأبدأ برأس الهرم ! وأُس التصوّف ورأسه !
شيخ الطريقة الصوفية رجل مُلحد . بل قال بما لم يقله إبليس .
(( ولا تعجلوا عليّ )) حتى تنتهوا من قراءة ما كتبت .
شيخ الطريقة يَصِفُهُ غير واحد من علماء الإسلام بالإلحاد والزندقة .
حتى من مُحبّيه ومؤيديه ، كما سيأتي .
حتى قالوا عن بعض كلامه : لا يحتمل سوى الإلحاد !!!!!
هذا الشيخ هو ابن عربي الطائي الصوفي ، وهو الذي يُسمّونه [ الكبريت الأحمر ] يعني نادر الوجود !!
كما يُسمونه الشيخ الأكبر محيي الدين !
وكان أحد الفضلاء يُسمّيه الشيخ الأكفر محيي الشرك !!
وفرق بينه وبين عالم أهل السنة القاضي ابن العربي المالكي .
فالأول ( ابن عربي ) صوفي ، والثاني ( ابن العربي ) سني .
ومن مشايخ الصوفية ابن الفارض والحلاج الذي قُتِل على الزندقة .
وسيأتي شيء من أخبارهم وأقوالهم .
قال الإمام الذهبي رحمه الله عن سيد الصوفية (( الحلولي ))
أعني ابن عربي الطائي
قال عنه :
وكان ذكيا كثير العلم كتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب ثم تزهد وتفرد وتعبد وتوحد وسافر وتجرد وأتهم وأنجد وعمل الخلوات ، وعلِق شيئا كثيرا في تصوف أهل الوحدة ، ومن أردإ تواليفه كتاب (( الفصوص ))فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر!!! نسأل الله العفو والنجاة . فواغوثاه بالله ، وقد عظمه جماعة وتكلفوا لما صدر منه ببعيد الاحتمالات . انتهى .(2/9)
وتُنظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ( جـ 23 ص 48 )
ثم إن ابن عربي الصوفي لم يكتفِ بتأليف كتابا ينضح بالكفر والإلحاد الصريح
بل لم يستحِ أن ينسب ذلك الكفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
فقد قال في مقدمة كتابه ( فصوص الحِكم ) : أما بعد فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده كتاب فقال لي : هذا فصوص الحكم ! خُذه ! واخرج به إلى الناس ينتفعون به ... !!
وقديما قيل : ((( كذبٌ له قرون ))) !!!!
هاهو ابن عربي ينفض جُبّته ويقول : ما في الجُبّة إلا الله .
هل يحتمل سوى معتقد الحلول الذي كان يدين به ابن عربي والحلاج وغيرهم من مشايخ وأساطين الصوفية ؟؟
وهو الذي يقول : لولا سريان الحق في المخلوقات ما كان للعالم وجود !
وهو القائل في فص حكمة !! ، وهو يُخاطب الله :
فأنت عبد وأنت رب *** لمن له فيه أنت عبد
وأنت رب وأنت عبد *** لمن له في الخطاب عهد
وهو القائل في فصوصه بأن قوم نوح ما عبدوا سوى الله في صورة الأصنام !!!
وأن بني إسرائيل لما عبدوا العجل ما عبدوا إلا الله الذي حلّ في العجل !!!
وعلى هذا فدعوات الأنبياء وبعثتهم عبث في عبث !
وفصوصه تنضح بأن الله سبحانه عين كل شئ مادي أو روحي !!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال : ما أبصر غيره أبول عليه ّ ، فقال له شيخه : فالذي يخرج من بطنك من أين هو ؟ قال : فرّجت عنّي .
ومرّ شيخان منهم التلمسانى والشيرازى على كلب أجرب ميت ، فقال الشيرازى للتلمسانى : هذا أيضا من ذاته ؟ ( أي من ذات الله ) فقال التلمسانى : هل ثمّ شئ خارج عنها . انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - .
وقال في بيان تلبيس الجهمية :(2/10)
فطوائف من الجهمية يقولون : إنه ( سبحانه ) بذاته في كل مكان ، وقد ذكر الأئمة والعلماء ذلك عن الجهمية وردوا ذلك عليهم ، وطوائف أخر يقولون : إنه موجود الذات في كل مكان وأنه على العرش كما نقله الأشعري عن زهير وأبي معاذ ، وأيضا هؤلاء الاتحادية يصرحون بذلك تصريحا لا مزيد عليه حتى يجعلونه ( سبحانه ) عين الكلب والخنزير والنجاسات لا يقولون إنه مخالط لها بل وجودها عين وجوده . وهذا من أعظم الكفر . انتهى كلامه - رحمه الله - .
--------
وابن عربي هو القائل في فصوصه : فالأدنى من تخيّل فيه ( أي في كل معبود ) الألوهية ، فلولا هذا التخيل ما عُبد الحجر ولا غيره ... ) إلى آخر كلامه الذي ينضح بالكفر الصريح .
قال ابن العربي المالكي - رحمه الله - : وعلى هذا المعنى يحوم ابن الفارض .
وابن الفارض هو صاحب القصيدة التائية الشركية
وهو القائل في قصيدة له :
ولا غرو إن صلى الأنام إليّ أن **** ثَوت بفؤادي وهي قبلة قبلتي !!!
قال القاضي ابن العربي المالكي ( القاضي العَلَم المعرفة عالم من علماء السنة ) رحمه الله :
وكذلك نقطع بتكفير كل من كَذّب ، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع ... ثم قال :
وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من الماليكة وقاضي قضاتها أبو عمرو المالكي على قتل الحلاّج وصلبه لدعواه الإلهية ، والقول بالحلول ، وقوله : أنا مع الحق . مع تمسّكه في الظاهر بالشريعة ، ولم يقبلوا توبته . انتهى .
والحلاج شيخ الصوفية هو الذي يقول : أنا الحق ! وصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون .
أقول : صدق في آخر كلامه ، وهو كذوب !!
وأول من قال بالفرق بين الشريعة والحقيقة هم غلاة الصوفية
وهم من فرق الباطنية الذين جعلوا للدين ظاهرا وباطنا
وممن كفّر ابن عربي بعينه شيخ الإسلام زين الدين العراقي صاحب كتاب طرح التثريب وكتاب ألفية العراقي وشرحها .
فقال لما سُئل عن قول ابن عربي الصوفي في نوح وقومه(2/11)
قال العراقي - رحمه الله - : وأما قوله فهو عين ما ظهر ، وعين ما بطن ، فهو كلام مسموم ، ظاهره القول بوحدة الوجود المطلقة ، وأن جميع مخلوقاته هي عينه !
ثم قال - رحمه الله - : وقائل ذلك والمعتقد له كافرٌ بإجماع العلماء . انتهى .
ولولا خشية الإصابة بالغثيان لأوردت أمثلة يشيب لها الولدان .
ووالله لولا أن علماء الإسلام نقلوا ذلك لما تحدثت به .
ولولا أنه مما استفاض واشتهر نقله في كتب السلف لما نقلته .
ولولا أن هناك من يُنافح ويدافع عن أمثال هؤلاء لما أوردت ما أوردته .
وما تركت من الأقوال والفظائع أكثر مما أوردت .
ونسأل الله السلامة والعافية .
وهؤلاء المخرّفين قد رد عليهم علماء الإسلام
ومن أكثر من جرّدهم وكشف عوارهم وفضحهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – في مجموع الفتاوى ، فلذلك يَشنّ عليه الصوفية وعشاق الخرافة هجمات شرسة .
-------------------------
دفاعٌ عن ابن عربي
أبعد كل هذه الفظائع التي هي قطرة مِن بحر الصوفية وغُلاتها يأتي من يُدافع عن أمثال ابن عربي ، ويلتمس له الأعذار ، وهو لا يلتمس الأعذار لعلماء الإسلام الكبار !!!
الدكتور البوطي وابن عربي الصوفي
وممن التمس العذر لابن عربي الصوفي الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ، ووالده من قبله .
فقد قال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي منافحاً عن ابن عربي :
لا يجوز تكفيره بموجب كلامه الذي فيه ((( الإلحاد الصريح ))) !!! حتى يُعلم ما في قلبه هل يعتقد ما يقول أو لا ؟ انتهى كلام الدكتور .
وقد رد على هذا الهراء الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة
فقال :(2/12)
ولو صحّ قول الدكتور هذا ما كَفَرَ أحد بأي قول أو فعل مهما بلغ من القبح والشناعة والكفر والإلحاد حتى يُشقّ عن قلبه ، ويُعلم ما فيه من اعتقاد ، وعلى هذا فَعَمل المسلمين على قتال أهل الكفرة وقتل المرتدين خطأ على لازم قول الدكتور ! لأنهم لم يعلموا ما في قلوبهم ، وهل هم يعتقدون ما يقولون وما يفعلون من الكفر أو لا ؟ انتهى كلامه حفظه الله .
قال القاضي ابن العربي المالكي - رحمه الله - :
ولا يُقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول : أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره ، ولا نؤول له كلامه ، ولا كرامة . انتهى .
أقول ليت الدكتور البوطي عامَل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب بنفس الأسلوب والطريقة !
ولكنه الدفاع المستميت عن مشايخ الضلالة ودراويش الطرقية وملحدي الصوفية .
والدكتور البوطي يُدافع عن محمد علوي المالكي الذي صدر تكفيره من قبل جماعة من علماء المملكة ، والذي يُعدّ من غُلاة الصوفية في الوقت الحاضر .
بل قال البوطي : محمد علوي المالكي من أهل السنة والجماعة !!! ولم يقرأ الناس في تأليفه وكتاباته ولم يروا من واقع حاله إلا ما يزيدهم ثقة باستقامته وصلاح حاله وسلامة عقيدته . انتهى كلام الدكتور .
مرة ثانية أقول :
ليت البوطي يكيل بنفس المكيال لشيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب رحمهم الله
والدكتور البوطي حاول جاهدا الدفاع عن ذلك الزنديق الملحد ابن عربي الصوفي
( وليس قول الملحد الزنديق هو من مخترعاتي بل قول عامة علماء الإسلام )
[[ ويُنظر لذلك على سبيل المثال تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للعلامة برهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885 هـ رحمه الله . ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ]]
وقد حاول الدكتور البوطي الدفاع عن كلمة ابن عربي ( ما في الجبة إلا الله )
وعن قول الصوفية : ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك(2/13)
وقد رد عليه العلامة الشيخ صالح الفوزان فقال :
فإن قول القائل : ( ما في الجبة إلا الله ) صريح في الحلول والاتحاد ، وقوله : ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك . مخالف لهدي الأنبياء جميعا حيث وصفهم الله بأنهم يدعونه رغبا ورهبا ، ومخالف لصفة المؤمنين الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا ...
كما حاول الدكتور البوطي التماس العذر للصوفية وتبرير اصطلاحات الصوفية التي منها تفريقهم بين الشريعة والحقيقة .
وقد رد عليه الشيخ الفوزان حفظه الله فقال :
هل هناك حقيقة تخالف الشريعة ؟؟ حتى يُقال الحقيقة والشريعة ؟؟ إلا في اصطلاح الصوفية أن الشريعة للعوام والحقيقة للخواص ! وهذا إلحاد واضح ، وليت الدكتور لم يدخل هذه المجاهل المخيفة . انتهى كلام الشيخ الفوزان .
ومما نقله الشيخ الفوزان عن الدكتور البوطي – وهو من شطحاته – أن قال البوطي :
يجب التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا كانت أو سنة ؟؟؟
فرد عليه الشيخ الفوزان بقوله : هل القرآن يحتاج إلى تأكد من صحته ؟؟ أليس هو متواتر تواترا قطعيا ؟؟ انتهى المقصود من كلام الشيخ .
ولمعرفة حقيقة دوافع الدكتور البوطي يُقرأ ما قاله هو
قال : إن التمذهب بالسلفية بدعة !!!
عجيب يا دكتور اتباع السلف بدعة
والتصوّف والدروشة طاعة وقُربة وسُنة ؟؟؟؟؟
وقد قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله عن الدكتور البوطي :
هل الذي حمله على ذلك ( القول ) كراهيته للبدع فظن أن التمذهب بالسلفية بدعة فكرهه لذلك ؟
كلا ليس الحامل له كراهية البدع ؛ لأننا رأيناه يؤيد في هذا الكتاب كثيرا من البدع : يؤيد الأذكار الصوفية المبتدعة ، ويؤيد الدعاء الجماعي بعد صلاة الفريضة وهو بدعة ويؤيد السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بدعة .(2/14)
فاتضح لنا – والله أعلم – أن الحامل له على شن هذه الحملة هو التضايق من الآراء السلفية التي تناهض البدع والأفكار التي يعيشها كثير من العالم الإسلامي اليوم وهي لا تتلاءم مع منهج السلف . انتهى كلام الشيخ الفوزان .
[[ كل كلام الشيخ الفوزان المتقدم نقلا عن كتاب بعنوان : نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية لمحمد سعيد رمضان .. من الهفوات ]]
وقد نقل الدكتور البوطي عن أبيه أنه كان يُجلّ الشيخ ابن عربي !! ولا يذكره إلا بنعته الأكبر !! ولم يكن يسمح لأحد أن ينتقص من مكانته في مجلسه قط !!
وكذلك بقية الذين فاهوا أو نُقل عنهم بعض الشطحات ، كأبي يزيد البسطامي الذي نُقل عنه قوله : ما في الجُبّة إلا الله ، وقوله : سبحاني ما أجل شأني ! ، وكابن الفارض في بعض ما جاء على لسانه في تائيته الكبرى ... كان رحمه الله يجلّهم إجلالاً كبيراً .
كما ذكر عن أبيه أنه ربما جنح إلى حسن الظن بالحلاّج !!
يقول الدكتور البوطي عن أبيه :
وبالجملة فقد كان رحمه الله يُجلّ هؤلاء العلماء !! ويعدهم أئمة في الإرشاد وإصلاح النفوس !! وكان يُحذرني بين الحين والآخر من الخوض في شأنهم وإساءة الظن بهم !!
هذا بعض دفاع البوطي ( الأب والابن ) عن أمثال ابن عربي وابن الفارض والحلاّج !!
------------------------
وختاما أعلم أني أطلت ، ولكن بقيت نقطة أشارت إليها إحدى الأخوات التي جرى معها النقاش حول مسألة تعقيد التوحيد .
حيث تقول : عقدتم التوحيد !!
فأقول :
ليست المسألة كما يُزعم ويُدّعى أننا عقدنا التوحيد
بل المسألة أن حال هؤلاء المتكلمين كما قال ابن القيم رحمه الله حينما قال :
ثقُل الكتاب عليهم لما رأوا **** تقييده بشرائع الإيمان
واللهو خف عليهم لما رأوا **** ما فيه من طرب ومن ألحان
ومن المقصود بهذا وأمثاله إلا الصوفية وأضرابهم ؟؟؟؟
أصحاب قرع الطبول والموالد والبدع المتتالية !
وأصحاب (( هو .. هو .. هو .. )) !!(2/15)
وأهل (( الله .. الله .. الله )) !!
[[ هذا يعتبرونه ذِكر ]] !!!
بل إن الدكتور البوطي نفسه يذكر هذا عن أبيه وعن نفسه ، أنهم يقولون في صباح كل يوم مائة مرة ( الله ) !! مستدلا بقوله تعالى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) !
[ كما في كتاب ( هذا والدي ) للدكتور البوطي ]
أقول :
هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ؟
فأين هذا الذِّكر من سنة وسيرة من أُنزلت عليه هذه الآية ؟
وهل هم أولى بفهم هذه الآية ممن نزلت عليه ، وهو أفصح من نطق بالضاد عليه الصلاة والسلام ؟
لقد نزلت هذه الآية على نبي الله صلى الله عليه وسلم وأُِمر بذلك ، فهل ذكر الله بالاسم المفرد ( الله ) ؟؟؟
كما يذكر الدكتور البوطي عن أبيه أنه كان يدخل المكتبة التي يُزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولِد فيها ليتبرّك بتلك المكتبة !!
كما يذكر عن ابنه أنه يتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله لشفاء والده المريض !!
ويذكر عن والده أنه كان يحضر مجالس ( الحضرة ) ، وهي مجالس يُقال فيها الذِّكر على هيئة أناشيد ويتمايل الناس فيها !!!
أي ذِكر هذا ؟
وأقول :
إن كثيراً من المتكلمين وإن كان حاز الشهادات العالية إلا أنه لا يفهم معنى لا إله إلا الله
فأذكر أني سمعت دكتوراً يُشار إليه بالبنان يُفسّر معنى لا إله إلا الله بأنه لا معبود إلا الله !
ثم أخذ يشرح فهمه لها ، فقال :
يعني لا خالق ولا رازق ولا نافع ولا ضار إلا الله !
هذا كان يُقرّ به أهل الجاهلية الأولى بنصّ القرآن
قال سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )
والآيات في هذا المعنى كثيرة .(2/16)
بل كان أهل الجاهلية يُقرّون بما يُخالفه الصوفية أو بعضهم من اعتقاد تدبير الأمر ، فيعتقد أهل الجاهلية أن الله هو الذي يُدبّر الأمر ، بينما يعتقد بعض الصوفية أن الأقطاب هم الذين يُدبّرون الأمر !!
قال جل جلاله : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ )
ولمعرفة حقيقة هذا يُراجع كتاب ( كيف نفهم التوحيد ) للشيخ محمد أحمد با شميل .
-------------------------------
ومن الكتب التي فضحت الصوفية وبيّنت عوارها :
كتاب برهان الدين البقاعي المتوفَّى سنة 885 هـ ، وعنوانه :
مصرع التصوّف
أو ( تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي )
بتحقيق تلميذ الصوفية (سابقاً ) الشيخ عبد الرحمن الوكيل
ومن الكتاب المعاصرين الشيخ عبد الرحمن الوكيل
له أكثر من رسالة حول الصوفية
له كتيّب بعنوان ( صوفيات )
وآخر بعنوان ( هذه هي الصوفية )
والكاتب عاش ردحاً من الزمن في خرافات ودروشة الصوفية !!
وكتاب للشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق بعنوان :
الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة .
وقد ضمّنه قصة توبة الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي من الطريقة التيجانية ورجوعه إلى مذهب أهل السنة والجماعة .
كما ضمّنه قصة توبة الشيخ عبد الرحمن الوكيل ورجوعه كذلك إلى مذهب أهل السنة والجماعة .
وأعلم أن هذا القول ربما لا يروق لكثير من المنتسبين للتصوّف أو من مُحبيه
كما أنه لن يروق للمتنفّعين ، والمنتفعين بالتزهّد والدروشة !
ولكني أرجو أن أنال به رضا مولاي سبحانه وجل جلاله وتقدّست أسماؤه .
والله يتولانا بولايته ، ويرحمنا برحمته .
130-اللهم يسر لي جليسا صالحا ..(2/17)
قال إبراهيم النخعي : ذهب علقمة إلى الشام فلما دخل المسجد قال : اللهم يسّر لي جليسا صالحا ، فجلس إلى أبي الدرداء .
فقال أبو الدرداء : ممن أنت ؟
قال : من أهل الكوفة .
قال : أليس فيكم أو منكم صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة - ؟
قال : بلى .
قال : أليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الشيطان - يعني عمارا - ؟
قلت : بلى .
قال : أليس فيكم أو منكم صاحب السواك أو السِّرار ؟ قال : بلى . رواه البخاري .
وفي رواية له . قال : فأتيت قوما فجلست إليهم فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي . قلت : من هذا ؟ قالوا : أبو الدرداء ، فقلت : إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا ، فيسّرك لي . قال : ممن أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة . قال : أو ليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوساد والمطهرة ؟ وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان يعني على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ أو ليس فيكم صاحب سرّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره ؟قال مغيرة : والذي أجاره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم يعني عمّاراً .(2/18)
وروى مسلم عن يحيى بن يعمَر قال : كان أول من قال في القَدَرِ بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سَيَكِل الكلام إليّ ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفّرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قَدَر ، وأن الأمر أُنُف . قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحُدٍ ذهبا فأنفقه ما قَبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر ، ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب – فذكر الحديث بطوله - .
وروى الترمذي والنسائي عن حريث بن قبيصة قال : قدمت المدينة فقلت : اللهم يَسِّر لي جليساً صالحا .
قال : فجلست إلى أبي هريرة ، فقلت : إني سألت الله أن يرزقني جليسا صالحا ، فحدِّثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به .
فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فيُكمل بها ما انتقص من الفريضة ، ثم يكون سائر عمله على ذلك .
اللهم يسر لي جليسا صالحا
هذه هي مسألة أولئك الأخيار ، وهذا كان من دعائهم
إن البحث عن جليس صالح في تلك الأزمنة الفاضلة والقرون الخيِّرة ليس بالأمر العسير بل هو أمر ميسور ، لكثرة الأخيار وقلّة الأشرار .
أما في زماننا هذا فلو قلّبت ناظريك فيمن جلس إليك – في مكان عام – لرأيت أنك أحرى بهذا السؤال ، وبهذه المسألة : " اللهم يسر لي جليسا صالحا "(2/19)
إن الجليس الصالح ربما كان أندر من الغُراب الأعصم
كما أن جلساء السوء " أكْثَرُ مِنْ تفَارِيقِ العَصَا " !
وليت رأس جليس السوء عليه ريشة حتى يُعرَف ويُحذر !
وقديما قيل : الوِحدة خيرٌ من جليس السّوء .
وذلك أن صاحب الوِحدة يُحدّث نفسه ، وحديث النفس معفوٌّ عنه ، وجليس السوء يأمر بالسوء ، فله نصيب مِن وَصْف ( يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء ) .
قال أبو الدرداء : لَصَاحِبٌ صالح خير من الوِحدة ، والوحدة خير من صاحب السوء ، ومُمْلِي الخير خير من الساكت ، والساكت خير من مُمْلِي الشر .
قال ابن حبان : العاقل لا يُصاحب الأشرار ، لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار ، تُعْقِب الضغائن ، لا يَستقيم وِدُّه ، ولا يَفِي بعهده .
وقال أيضا :
وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيرا تكون مجالسة الكلب خيرا من عشرته ! ومن يَصحب صاحب السوء لا يَسْلَم ، كما أن من يدخل مداخل السوء يُتَّهَم .
كان فتى يعجب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فرآه يوما وهو يماشي رجلا مُتّهماً فقال له :
لا تصحب الجاهـ = ـل إياك وإياه
فكم من جاهل أرْدَى = حليما حين آخاه
يُقاس المرء بالمرء = إذا ما هو ماشَاه
وللشيء من الشيء = مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب = دليلٌ حين يَلْقَاه
ومِن علامات جليس السّوء :
أنه لا يُذكِّرك إذا غَفَلْت
ولا يُعينك إذا ذَكَرْت
ولا يأمرك إذا قصّرت
ولا ينهاك إذ أخطأت
ولا يُقوّمك إذا اعوججت
فلا يأمرك ولا ينهاك
بل هو موافق لك فيما فعلت
ساكت عما قصّرت فيه أو تَرَكْت
تاركك وهواك
فهو ساع في هلاكك
مسرع بك إلى رَداك
فهو يَتركك وهَواك ! زاعما أنه اختار لك الراحة ، وقد اختار لك العَطَب !
تَرْكُ نفسك يوما وهواها = سعي لها في رداها
وهذا النوع من الناس يصدق فيهم قول ابن القيم رحمه الله :
إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر .
وكم سَلَبَت المخالطة والمعاشرة من نِعمة ؟
وكم زرعت من عداوة ؟(2/20)
وكم غرست في القلب من حزازات تَزُول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ؟!
ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة ، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام ، متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر :
أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الْخِلْطَة ، ثم إذا احتاج إليه خالَطَه ، هكذا على الدوام ، وهذا الضرب أعزّ من الكبريت الأحمر ! وهم العلماء بالله تعالى وأمره ، ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها ، الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولِخَلْقِه ، فهذا الضرب في مخالطتهم الرِّبح كله .
القسم الثاني : مَن مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض ، فما دُمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته ، وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها ، فإذا قَضَيْتَ حاجتك من مخالطة هذا الضرب بَقِيَتْ مخالطتهم مِنْ :
القسم الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوّته وضعفه ؛ فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن ، وهو من لا تربح عليه في دِين ولا دنيا ! فهذا إذا تمكّنَتْ مخالطته واتّصَلَتْ فهي مرض الموت الْمَخُوف !
ومنهم مَن مخالطته كوجع الضرس يشتد ضرباً عليك فإذا فارقك سكن الألم .
ومنهم مَن مخالطته حمى الروح ، وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيُفيدك ، ولا يحسن أن يُنصت فيَستفِيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في مَنْزِلتها ، بل إن تكلَّم فكلامه كالعِصِيّ تَنْزِل على قلوب السامعين ! مع إعجابه بكلامه وفَرَحِه به ، فهو يُحْدِثُ مِن فِيهِ كلما تَحَدَّث ! ويظن أنه مِسْكٌ يُطيِّب به المجلس ! وإن سكت فأثقل من نصف الرَّحا العظيمة التي لا يُطاق حملها ولا جرّها على الأرض !(2/21)
ويُذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر !
ورأيت يوما عند شيخنا - قدس الله روحه - رجلا من هذا الضرب ، والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله ، فالتفت إليّ وقال : مجالسة الثقيل حمى الربع ! ثم قال : لكن قد أدْمَنَتْ أرواحنا على الحمّى فصارت لها عادة - أو كما قال - .
وبالجملة فمخالطة كل مخالِف حمى للروح فَعَرَضِيَّة ولازِمَة .
ومِنْ نكد الدنيا على العبد أن يُبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بُدٌّ من معاشرته ومخالطته ، فليُعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا !
القسم الرابع : مَن مخالطته الْهُلْك كلّه ، ومخالطته بمنْزِلة أكل السّمّ ، فإن اتَّفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء ! وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثَّرهم الله ، وهم أهل البدع والضلالة الصادّون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الدّاعون إلى خلافها ، الذين يَصُدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ؛ فيجعلون البدعة سنة ، والسنة بدعة ، والمعروف منكرا ، والمنكر معروفا .
إن جرّدت التوحيد بينهم قالوا : تنقَّصْتَ جناب الأولياء والصالحين !!
وإن جرّدت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أهْدَرْتَ الأئمة المتبوعين !
وإن وَصَفْتَ الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا : أنت من المشبِّهين !
وإن أمَرْتَ بما أمر الله به ورسوله من المعروف ، ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا : أنت من المفتّنِين !
وإن اتّبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا : أنت من أهل البدع المضلِّين !
وإن انقطعت إلى الله تعالى وخلّيت بينهم وبين جِيفة الدنيا قالوا : أنت من المبْلِسِين .
وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم ، فأنت عند الله تعالى من الخاسرين ، وعندهم من المنافقين !(2/22)
فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم ! وأن لا تَشْتَغِل بأعتابهم ولا باستعتابهم ، ولا تبالي بِذَمِّهم ولا بغضبهم ، فإنه عين كَمَالِكَ ، كما قيل :
وقد زادني حباّ لنفسي أنني = بغيض إلى كل أمريء غير طائل
انتهى كلامه رحمه الله بِطُولِه .
وأما مُجالسة الناس ومُخالطتهم فهي غالباً على أمور الدّنيا
" وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " كما قاله غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم .
ومُجالسة الصالحين برّ وخير وفلاح
ألا ترى أن الكلب ذُكر في القرآن حين جالَسَ الصالحين ؟
( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ )
قال ابن القيم رحمه الله :
مجالسة العارِف تدعوك من سِتٍّ إلى سِت :
من الشك إلى اليقين
ومن الرياء إلى الإخلاص
ومن الغفلة إلى الذِّكر
ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة
ومن الكِبر إلى التواضع
ومن سوء الطوية إلى النصيحة . اهـ .
والصّاحب دليل على صاحبه ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : المرء على دِين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
قال هبيرة : اِعْتَبِر الناس بأخدانهم .
وقال الإمام مالك : الناس أشكال كأجناس الطير : الحمام مع الحمام ، والغراب مع الغراب ، والبط مع البط ، والصعو مع الصعو ، وكل إنسان مع شكله !
وقال أبو حاتم بن حبان : وما رأيت شيئا أدل على شيء - ولا الدخان على النار - مثل الصاحب على الصاحب !
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فكم من الناس لم يُرَد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره ، لا سيما إن كان نظيره يفعله فَفَعَلَه ، فإن الناس كأسراب القطا مَجْبُولون على تَشَبّه بعضهم ببعض ... وذلك لاشتراكهم في الحقيقة ، وأن حُكْم الشيء حُكم نَظِيره ، وشَبِيه الشيء منجذب إليه . اهـ .(2/23)
فاحرص على مُصاحَبة حامِل الْمِسْك !
وإياك إياك من الجلوس إلى نافِخ الكِير !
131-من عجائب المخلوقات..
أما أحدهما فسمعته
وأما الآخر فرأيته
أما الذي سمعته فهو ما رواه أبو الزبير عن جابِرٍ بن عبد الله – رضي الله عنهما - قال : بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَتَلَقّىَ عِيراً لِقُرَيْشٍ ، وَزَوّدَنَا جِرَاباً مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ . فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً .
قال أبو الزبير : فَقُلْتُ : كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بهَا ؟
قال : نَمَصّهَا كَمَا يَمَصّ الصّبي ، ثُمّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إلَى اللّيْلِ ، وَكُنّا نَضْرِبُ بعِصِيّنَا الْخَبَطَ ، ثُمّ نَبُلّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ .
قال : وَانْطَلَقْنَا عَلَىَ سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَرُفِعَ لَنَا علَىَ سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضّخْمِ ، فَأَتَيْنَاهُ فَإذَا هِيَ دَابّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ . قَالَ : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَيْتَةٌ ، ثُمّ قَالَ : لاَ بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَفِي سَبيلِ اللّهِ ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا .
قال : فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْراً ، وَنَحْنُ ثَلاَثُمِائَةٍ حَتّىَ سَمِنّا .
قال : وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بالْقِلاَل الدّهْنَ ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثّوْرِ ( أَوْ كَقَدْرِ الثّوْرِ ) ، فَلَقَدْ أَخَذَ مِنّا أَبُوعُبَيْدَةَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِه ِ، وَأَخَذَ ضِلْعاً مِنْ أَضْلاَعِهِ فَأَقَامَهَا ، ثُمّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا ، فَمَرّ مِنْ تَحْتِهَا .(2/24)
وَتَزَوّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ ، فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ . فَقَالَ : " هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللّهُ لَكُمْ . فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا ؟ "
قال : فَأَرْسَلْنَا إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَأَكَلَهُ . رواه البخاري ومسلم .
معاني الكلمات :
الخَبَط : ورق شجر السَّلم .
الكثيب : الرمل المستطيل المحدودب .
الوقب : حفرة العين في عظم الوجه .
الفِدَر : هي القِطَع .
الو شائق : هو اللحم يؤخذ فيغلى إغلاء ولا ينضج . وقيل : هو القديد .
----------------
وأما الآخر فرأيته في مدينة ( سانسيباستيان ) [ قُلها خمس مرات ] !! وتلك المدينة في أسبانيا على الحدود مع فرنسا .
يوجد تحت ساحل البحر جزء مقتطع من البحر بحيث يرى الداخل أعاجيب المخلوقات البحرية .
ويدخل مع أنفاق زجاجية يرى من خلالها الأسماك المختلفة .
وقد وُضِع في مدخل تلك الأنفاق هيكلا عظمياً لحيوان بحري يُشبه ما يُسمّى ( أم الربيان ) !
له مسّاكتان أماميتان يُشبهان نصف القوس
( تُشبه أيدي السرطان البحري )
وقد وُضعت تحته صورته إبان اصطياده وكُتب العام الذي تم اصطياده فيه ، وهو بعد سنة 1800 م
ولكي يتبيّن كِبر حجم ذلك المخلوق عُلِّق فوقه قارب صغير ، والقارب أصغر منه بكثير
وأظن أن طوله يتجاوز العشرة أمتار !
وقد أُخرج النخاع الشوكي لذلك المخلوق البحري الضخم ووُضِع بدلا منه أنبوباً حديدياً ( ماصورة ) مقاس ( 2 إنش )
الضلع من أضلاعه يملأ قبضة الرجل !
ولما رأيته ذكرت أصحابي آنذاك بما حدّث به جابر رضي الله عنه ، في قصة العنبر .
تمنّيت يومها أن معي آلة تصوير لتصوير ذلك الهيكل العملاق الضخم .
وصدق الله :
( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .(2/25)
( وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )
132-مِن صفات المنافقات..
النساء شقائق الرجال
فكما تكون التقوى في النساء والرجال
والإيمان يكون في الرجال والنساء
والمعاصي والفسوق يكون في الرجال والنساء
فكذلك النفاق يكون في الرجال والنساء
وأكثر ما يُتحدّث عن صفات المنافقين
وتُذكر أكثر ما تُذكر الخصال المتعلقة بالرجال
ويندر أن يُكتب أو يُتحدّث عن النفاق لدى النساء
والنفاق يكون في النساء كما يكون في الرجال
قال الله تبارك وتعالى : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ )
وقال جل جلاله : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )
وكل خصلة من خصال النفاق التي تنطبق على الرجال تنطبق على النساء
ومن خصال النفاق العملي :
الكذب
إخلاف الوعد
خيانة الأمانة
الغدر في العهود
الفجور في المخاصمة
فهذه أمور مشتركة ، وإن كان بعضها في الرجال أظهر .
وهناك خصال من خصال النفاق تنفرد بها النساء دون الرجال .(2/26)
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات ، وهن المنافقات . لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم . رواه البيهقي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .
فالتّبرّج هو إظهار الزينة للرجال الأجانب .
وقد نهى الله عز وجل عنه ، فقال : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى )
هكذا عُبِّر عن التّبرّج ، وهكذا وُصف ، وهكذا نُسب !
فقد نسب الله عز وجل التبرّج إلى الجاهلية الأولى
وهذا يعني أن التبرّج من أفعال الجاهلية ، فالمتبرّجة جاهلة ، وإن نالت أعلى الشهادات !
وفي الحديث المتقدّم : وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات .
فقرن التّبرّج بالخيلاء .
لماذا ؟
لأن التّبرّج يقود إلى الخيلاء ويؤدّي إليه .
فالمرأة إذا مَشَتْ متبرّجة حملها ذلك على التّبختر ، بخلاف ما إذا كانت متستّرة متحجّبة ، فإنها سوف تمشي برفق وسكينة ووقار .
قال المناوي في فيض القدير : وشر نسائكم المتبرجات ، أي المظهرات زينتهن للأجانب ، وهو مذموم لغير الزوج ؛ المتخيلات ، أي المعجبات المتكبرات ، والخيلاء بالضم العجب والتكبر ، وهن المنافقات
والمرأة إذا تبرّجت تحمّلت الإثم مُضاعفاً :
فتتحمّل إثم تبرّجها وإظهارها مالا يحلّ لها إظهاره للرجال الأجانب
وتتحمّل إثم فتنة الرجال
وتتحمّل إثم من تقتدي بها من النساء ، ولذلك قال الله عز وجل : ( لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ )
وقال عليه الصلاة والسلام : مَن سنّ في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومَن سنّ في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء . رواه مسلم .(2/27)
فهذه النوعية من النساء المنافقات " لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم "
والغراب الأعصم هو الذي إحدى رجليه بيضاء .
وقيل : الذي في جناحه ريشة بيضاء .
وهي فصائل ونوعيات نادرة
وسواء أُريد هذا أو ذاك فالمقصود أنه لا يدخل الجنة من تلك النوعيات من النساء إلا كما توجد تلك النوعية في الغربان .
وإذا لم يدخلن الجنة ، فما مصيرهن ؟
ليس ثمّ إلا جنة أو نار .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات ، رؤوسهن كأسنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا . رواه مسلم .
فهذا كله من علامات النفاق لدى النساء .
فاحذري أُخيّه أن تكوني كَمَن ذُكِرن .
133-مَن سَقَى كأس الظُّلم سُقي بها..!
هي سنة ربانية ووعد نبوي أن البغي عقوبته مُعجّلة
لذا من سقى كأس الظُّلم سُقي بها .
ومن أعان ظالما سلّطه الله عليه .
هذه سنن لا تتبدّل ولا تتحوّل
حينما رأيت صور الرئيس العراقي صدّام حسين ، ورأيت الذّلّ يعلو محيّاه ، فهو الآن ذليلا مهانا .
فتفكّرت :
كم بين كونه الرئيس المهيب الركن ، وبين كونه الأسير الذليل المهان ؟
وكم بين الصورتين من بون شاسع ، وفرق واضح
بين صورته تعلوه الرُّتب ، وبين صورته تعلوه وهو يجثو على الرُّكب ؟
تلك نهاية الظُّلم ، ونتيجة تنكّب الصراط المستقيم ..
( وتلك الأيام نداولها بين الناس )
وتلكم آثار نزع الملك ، وسرّ التعبير بالنّزع في أخذ الملك .
(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)
والنّزع إنما يكون بقوّة ويجد صاحبه معه الألم
ولذا قال الله عز وجل : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ)(2/28)
لما في النّزع من الألم كما أن نزع الروح يُصاحبه أعظم ألم ..
لما رأيت تلك الصور تذكرت صورا مُشابهة في نفس البلد
تلكم هي صورة يحيى البرمكي مكبلا بالقيود في بغداد ، مطروحا في السجن
فيُسأله ابنه :
يا أبتِ بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال ؟!
فردّ الأب وقال بنظرة ثاقبة تخطّت حدود القيد والسجن :
يا بنى دعوة مظلوم سَرَتْ بليل ونحن عنها غافلون ، ولم يغفل الله عنها .
ثم أنشأ يقول :
رب قوم قد غَدَوا في نعمةٍ *** زمناً والدهرُ ريانُ غَدَق
سَكَتَ الدهرُ زمانا عنهمُ *** ثم أبكاهم دما حين نَطَق
وروي أن بعض الملوك رَقَمَ على بساطه :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا *** فالظلم عقباه تُفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه *** يدعوا عليك وعين الله لم تَنمِ
فالظُّلم عُقباه تُفضي إلى الندم
إن الأمة لن تأسى على ظالم إذا ما ذهب ، بل ربما سُرّ الناس بذهابه كما يُسرّون بذهاب حجر عثرة كان في الطريق !
فليكن فيه عِبرة وعِظة .
وليعلم كل من قدر على الظُّلم أن عاقبة الظلم ندم وخسارة وبوار في الدنيا والآخرة .
قال الإمام الشافعي :
إذا ظالمٌ أبدى من الظلم مذهبا *** وَلَجّ عتوا في قبيح اكتسابه
فَكِِلْه إلى ريب الزمان فإنها *** ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالما متجبرا *** يرى النجم تِيهاً تحت ظل ركابه
فلما تمادى واستطال بظلمه *** أناخَتْ صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مالٌ ولا جاه يُرتجى *** ولا حسناتٌ تُلتقى في كتابه
وعوقب بالظلم الذي كان يقتفي *** وصَبّ عليهِ الله سوط عذابه
فنعوذ بالله من تحوّل عافيته ، ومن فجأة نقمته ، ومن جميع سخطِه .
إن الظّلم هو الظّلم ولو كُسي أجمل الثياب ، وأبهى الحُلل ، وأزهى الألوان !
كم أُخفيت مظالم بشعة ارتكبها الرئيس العراقي السابق ؟
وكم تُخفى جرائم ومظالم لا تقل عنها بشاعة يرتكبها الرئيس العراقي الحالي ؟!
لم يذهب الظّلم وإنما ذهب وجه صدّام(2/29)
لم يزل شعب العراق تحت نَيْرِ الظّلم
ولم يزل تحت وطأة العذاب
ولم يزل تحت مطرقة النار والحديد
ولم تزل دماؤه تجري في سكك بغداد وطُرقاتها
ولم تفتأ وسائل الإعلام تنقل لنا صورة بعد أخرى ، لطفل أو لأم أو لمسلمة يسومها العلج سوء العذاب
ولم تزل أمتي تغطّ في سبات عميق ممتثلة قول القائل :
ما فاز إلا النّوّمُ !
لم يتغير في العراق سوى الوجوه ، ولم تتغير الفِعال !
وفي التاريخ عبرة
وفي أمتي جذوة ..
134-من ذا الذي لا يخاف منها ... ؟؟
عندما تكشف عن ساق ، أو تقوم على ساق
عندما تُسفر عن وجه ، وتكشر عن ناب
وعندما تُقبل فإنها تُقبل بصوت وجَلَبة
وعندما تدور رحاها ، فهي رحىً طَحون
هي بضاعة يهودية ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ )
من أشعل أوارها اكتوى قبل غيره بنارها !
يُقلّبونها فتنقلب عليهم ( وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ )
يُنفقون في سبيلها الأموال ( ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ )
إنها الحرب التي ما خاضها أحد إلا خاف من عاقبتها
ولا أشعلها أحد إلا اكتوى بنارها
ولا أوقدها أحد إلا أصابه من شرارها
فها هي أمريكا – رغم كبرها وغطرستها – خاضت حربا خاطفة وسريعة ولم تكن عادلة بكل المقاييس ضد أحدث وأصغر دويلة ، ضد أفغانستان ، ولا تزال تُعالج جراح تلك الحرب ، وتحاول جاهدة ستر سوءتها التي انشكفت من خلال تلك الحرب !
فكم خسرت فيها من مليارات الدولارات
وكم تكبدت فيها من خسائر مادية وبشرية
وكم ... وكم ...
وها هي تحاول أن تُغطي ما انكشف من سوءتها بحرب أخرى
وسوف تكتوي بنارها إن أشعلت فتيلها
ولذا تتقدّم أمريكا نحو ضرب العراق خطوة ثم تتراجع أخرى
وتُقدّم رجلاً وتؤخر الأخرى
كل ذلك خوفا من عُقبى الحرب !
وهنا يتّضح تفرّد رب العزة - جل جلاله - بالجلال والكمال والعظمة
فهو سبحانه الذي لا يخاف عاقبة الحرب(2/30)
قال جل جلاله : ( فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا )
وأما من عداه فهو يخاف عقباها
فلا إله إلا الله الواحد الأحد
المتفرد بصفات الكمال والجلال والعظمة..
135-مقياس اختبار الوسوسة..
قال العلامة صدّيق حسن خان في كلام له عن تطهير النّعل بالمسح بالأرض :
قال :
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما علِم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان ، وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس : أوضح هذا المعنى إيضاحاً ينهدم عنده كل ما بَنوه على قنطرة الشك والخيال ، فقال :
" إذا جاء أحدكم المسجد ؛ فلينظر نعليه ، فإن كان فيها خبث فليمسحه بالأرض ، ثم ليُصلّ فيهما .
ولفظ أحمد وأبي داود : إذا جاء أحدكم المسجد ؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما ، فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض ، ثم ليُصلّ فيهما " .
فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شكّ ، فإنه – أولاً – بيّن لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجوداً مُحققاً ؛ فعلوا المسح بالأرض ، ثم أمَرَهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها .
ثم قال :(2/31)
ومَن أنكر هذا فليُجرّب نفسه ، ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض ، ثم يُصلي فيه ، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه ؟! مع أن ذلك هو المَهيَع الذي لا يُرجّح المجتهد سواه إن أنصف من نفسه فليُصدّق فعلُه قولَه ، وإذا كان مُقلّداً فله بالأئمة الأسلاف قدوة ، وهم الأقل من القائلين بذلك ، وهيهات ذاك ؛ فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يَقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العُصاة المستهترين بمحبتها ؛ لأنه وجد قوماً لا تطمح أنفسهم إلى شُرب الخمور وارتكاب الفجور ، فحفر لهم حُفيرة جمع لهم بين خزي الدنيا وعذاب الآخرة . انتهى كلامه رحمه الله .
ومقياس آخر ، وهو تطهّر ذيل ثوب المرأة بمروره على الأرض الطاهرة بعد مروره على الأرض النجسة
سألت أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أم سلمة رضي الله عنها فقالت : إني امرأة أطيل ذيلي ، وأمشي في المكان القذر ، فقالت أم سلمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يُطهره ما بعده . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه .
وعن امرأة من بني عبد الأشهل قالت : قلت : يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة ، فكيف نفعل إذا مُطرنا ؟ قال : أليس بعدها طريق هي أطيب منها ؟ قالت : قلت : بلى . قال : فهذه بهذه . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .
وإليكم أمثلة لاختبار درجة الوسوسة لدى الرجل والمرأة
الصلاة على فُرش الفنادق والشقق المفروشة !
الصلاة على الأرض التي لا يُعلم حكمها !
الصلاة مع حمْل الصبي !
صلاة المسلم قاعداً مع وجود العذر
الإفطار في رمضان مع وجود العذر والإطعام
الإفطار في السفر دون وجود مشقة
ترك السنن الرواتب حال السفر حتى في الحرم
فمن أراد اختبار درجة الوسوسة في نفسه فليُجرّب نفسه في مثل هذه المواطن !(2/32)
ليُصلّ على فُرش الفنادق أو الشقق المفروشة اعتماداً على الأصل ، وهو الطهارة
إذ الأصل في الأشياء الطهارة ، إلا ما ثبتت نجاسته
والأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ثبت تحريمه
ويوم أمس أردنا أن نُصلي على أرض معشبة فقال أحدهم : تدرون بأي ماء سُقي هذا العشب ؟!
مع أننا في مزرعة !!
لتُجرّب نفسها من إذا بكى صبيها حملته دون أن تشعر بحرج !
لتُجرّب نفسها الحامل أو المُرضع أن تُفطر في نهار رمضان دون وجود حرج !
لتُجرّب نفسها المرأة أن تُصلّي دون وجود سجادة صلاة !
وعليها يُقاس
وأذكر مرة أننا كنا في المسجد الحرام فقام صاحبي يُصلي ، فسألته : ماذا تُصلي ؟ قال : نافلة المغرب .
فقلت : هل أنت مسافر أو مُقيم ؟
قال : أنا مسافر
قلت : نحن إذاً في سفر ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان لا يُصلي من السنن الرواتب إلا راتبة الفجر .
قال : ما تطيب نفسي أن أترك السنة في هذا المكان !
فقلت : أنت إذا تركت السنة الراتبة إقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كُتب لك من الأجر أكثر مما لو صليتها .
وإصابة السنة مقصودة ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين الذين حضرتهما الصلاة وليس معهما ماء ، فتيمما صعيدا طيبا فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ، ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرا ذلك له فقال للذي لم يُعد : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ، وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين . رواه أبو داود والنسائي .
فإصابة السنة أفضل وأعظم في الأجر من الذي كُتب له أجران .
وصلى ابن عمر رضي الله عنهما قصراً ، ثم جلس فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى ، فرأى ناسا قياما ، فقال : ما يصنع هؤلاء ؟ قيل : يُسبحون ( يعني يتنفّلون ) قال : لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي . رواه مسلم .
فجرّب نفسك في غير موطن
وانظر كيف تجد طُمأنينة نفسك ؟!
136-مصري طول شاربه ( 84 ) سم ، ويُكلِّفه ( 150 ) جنيها شهريا..!!(2/33)
هذا عنوان صحفي تناقلته بعض الصحف عن رجل مصري اعتنى بشاربه فأطاله حتى بلغ هذا الطول ، وحتى أصبح مفخرة يفتخر بها ، وتتسابق بعض الصحف في تسجيل السبق الصحفي لهذا الخبر الهام !
وتضمن هذا الخبر وإظهاره محاذير منها :
1 – الاهتمام بتوافه الأمور كما هي عادة بعض – إن لم يكن كثير من وسائل الاعلام – ومتابعة غير المفيد بل والضار للأمة ، ويترتب على ذلك إهمال ماهو هام ومفيد .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم : إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها . رواه الحاكم وغيره وصححه الألباني .
2 – إظهار هذا الأمر على أنه أمر عادي لا يحتاج إلى نكير .
حتى أصبح من الناس من يفتخر بشِاربه ! بل يُوصف الرجال بـ " طوال الشوارب " !!
ولو تأملوا وعلموا من هو طويل الشوارب لما افتخروا به !!!
إن هذا الأمر – أيها الكرام - بحاجة إلى نكير لا إشهار وإقرار .
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس – رضي الله عنه – قال : وُقّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة .
وقال عليه الصلاة والسلام : من لم يأخذ من شاربه فليس منا . رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني .
والناس فيما يتعلق بالشارب طرفان ووسط .
فطرف رباه ونماه واعتنى به !
وطرف حلقه وأزاله !
والوسط من حف شاربه فوافق السنة ، ولذا كان الإمام مالك – رحمه الله – يقول : يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ، وذكر ابن عبد الحكم عنه قال : وتحفى الشوارب ، وتعفى اللحى ، وليس إحفاء الشارب حلقه ، وأرى أن يؤدب من حلق شاربه .
وقال الإمام مالك في حلق الشارب : هذه بدع ! وأرى أن يوجع ضربا من فعله .
وقال ابن خويز منداد قال مالك : أرى أن يوجع من حلقه ضربا ، كأنه يراه ممثِّلا بنفسه .
وقال أشهب : سألت مالكا عمن يحفي شاربه ؟ فقال : أرى أن يوجع ضربا ، وقال لمن يحلق شاربه : هذه بدعة ظهرت في الناس .(2/34)
وهدي النبي صلى الله عليه على آله وسلم هو خير الهدي ، وقد كان صلى الله عليه على آله وسلم يحف شاربه ، وربما أمر الحجام أن يأخذ من شاربه .
قال المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – : ضفت رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم . قال : وكان شاربي قد وفّى ، فقصّه لي على سواك ، أو قال أقصه لك على سواك . رواه أحمد وأبو داود وغيره ، وصححه الألباني .
وفي رواية قال : فوضع السواك تحت الشارب فقصّ عليه .
والنبي صلى الله عليه على آله وسلم عبّر – فيما يتعلق بالشارب - بألفاظ منها :
( قص الشارب – حفّ الشارب – إحفاء الشارب – إنهاك الشوارب )
ولم أرَ في حديث واحد التعبير بلفظ ( حلق الشوارب ) مع أنه صلى الله عليه على آله وسلم عبّر بهذا اللفظ فيما يتعلق بالنسك ، وفيما يتعلق بالعانة .
وعبّر فيما يتعلق بالإبط بالـ ( النتف ) .
فلما تباينت الألفاظ اقتضى الأمر التغاير في الأفعال .
وألفاظ الشارع مقصودة لذاتها .
وكان ابن عمر يحفي شاربه حتى يُنظر إلى بياض الجلد ، ويأخذ هذين يعني بين الشارب واللحية .
رواه البخاري عنه تعليقا .
وقصّ الشوارب لِحِكم منها :
1 - مخالفة المشركين ، لقوله صلى الله عليه على آله وسلم : خالفوا المشركين ، أحفوا الشوارب ، وأوفوا اللحى . رواه مسلم .
وقال أيضا : جزوا الشوارب ، وأرخوا اللحى . خالفوا المجوس . رواه مسلم .
فالمسلم مُستقل الشخصية ، صاف المعتقد .
2 - ذكر ابن حجر من فوائد وحكم قص الشارب : الأمن من التشويش على الآكل ، وبقاء زهومه المأكول فيه . وما ذكره ابن حجر ذكره الطبري قبله ، فإنه قال : وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة ، بحيث لا يؤذي الآكل ، ولا يجتمع فيه الوسخ . انتهى .
3 – وأضيف على ما ذُكر : تقذّر الناس له ، بحيث إذا شرب ( طويل الشوارب ) من الإناء وانغمس شاربه في الإناء كره الناس الشرب بعده ، واستقذروه .(2/35)
ولذا جاء النهي عن النفخ في الشراب والتنفس في الإناء ، لئلا يتأذى الذي يشرب بعده ، ولأمن انتقال الأمراض .
ولو لم يكن في قص الشارب إلا امتثال أمر النبي صلى الله عليه على آله وسلم والاقتداء به لكفى .
كيف ومن لم يأخذ بشاربه فليس على سنة النبي صلى الله عليه على آله وسلم وليس على هديه ؟
فهذا مما ورد في الشارب في قصّه وحفّه وهدي النبي صلى الله عليه على آله وسلم فيه ، أحببت إيضاح هذا الأمر ، لأن الناس أُمِروا بإكرام اللحى فما فعلوا ، وأمِروا بإهانة الشوارب فما امتثلوا .
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم .
وسبحانك اللهم وبحمدك . أشهد أن لا إله إلا أنت . أستغفرك وأتوب إليك .
137-مائة ألفٍ أو يزيدون ... ماذا يصنعون ؟؟
هذا أكبر عدد ورد في القرآن ، مما يدلّ على أن له شأناً .
..
..
..
..
مائة ألف شاب طرير
من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
يُمضون الأوقات الثمينة
يُضيعون الصلوات
ويتّبعون الشهوات
..
..
ما يزيد على مائة ألف ما ذا تراهم يصنعون ؟
يتفرّجون ..
يهتفون .. يصرخون ..
منهم من يسقط من الإغماء
ومنهم مَنْ يُصاب .. ومنهم مَنْ يُجرح .. ومنهم مَنْ يُكسر
بل منهم مَنْ يموت في سبيل ...
تُنفق الأموال الطائلة في سبيلها
وتُشيّد لأجلها الدور والقصور
وترتفع منائرها في كل ساح
يُوالُون على الألوان
وعليها يُعادُون
يختصم الأخوة عليها
وتُطلّق المرأة من أجلها
وتضيع الأوقات الثمينة
من بعد صلاة الظهر أحيانا وأحيانا من قبل صلاة الظهر إلى ما بعد مغيب الشمس ، بل إلى ساعات متأخرة من الليل !
وأحياناً الليالي ذوات العدد
تضيع الأعمار هَدَرا
والأيام سبهللا
( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) ؟؟
..
..
ما يزيد على مائة ألف يقفون .. يجلسون .. تُبحّ أصواتهم
على ماذا ؟
على فريقين يختصمان !!
ما يزيد على عشرين لاعباً
يَجرون خلف منفوخة مدوّرة !!
..
لأجلها تُعقد الرايات !!
أتُراها رايات الجهاد ؟؟
لا .. لا .. بل هي رايات لهو وعبث
..(2/36)
ثم تَخْرج الجموع
أتُراها تودّع الجيوش ؟؟
لا .. بل تروّع الآمنين
وربما دُهس الصغار ، وروّعت النساء
وربما سُفكت لأجلها الدماء البريئة الزاكية
وربما انتُهِكت أعراض
وربما انساق وراء ذلك العواتق وربات الخدور !!
تلك الجموع التي خرجت تموج
موج البحر
صوّرها الشاعر بقوله :
عربات تدفّقت تُشبه الهائج الخضم
وعليها تكوّمت زمرٌ طيشها احتدم
وعلى كل قبضة راية زاحمت علم
حُشر الناس تحتها أممٌ إثرها أمم
مَاجَتِ الأرض بالورود وداء الفحيط حُمّ
فتساءلت والأسى يمضغ القلب والألم
هل فلسطين حُررت وقطاف العناء تم ؟
أم بكابول دمِّرت قوة الملحد الأذم ؟
أم قضت محنة الجياع وغيث الرخاء عم ؟
قيل : لا . بل فريقنا فاز في لعبة القدم !!
أي سخفٍ مدمّر عن فساد الشعوب نَم
وإلى أي خيبة هبطت هذه الأمم
أنا أقسمت بالذي ذرأ الكون من عدم
وكسى ثوب عزة كل من بالهدى اعتصم
ورمى مدمن الضلال بسوط مِن النقم
إن قنعنا بسخفنا وركنّا إلى النِّعم
فخطى الخصم ماضيات من القدس للحرم
عندها يندم الجميع ولا ينفع الندم
وتساءل شاعر آخر فقال :
أين الشباب ؟ فهم أساس المجد هم أقوى الرجال
قلت الشباب في لهو وضعفٍ وانحلال
لكنّ فيهم نُخبةً تسعى لإحراز النِّضال
وإن تعجب فاعجب لحال أولئك المُخدَّرين
خصوصاً في هذه الأيام التي يأتمر فيها المتآمرون
على أمة الإسلام
وهم في سُبات عميق
في لهوهم سادرون
وخلف كرة يَجرون
ولها يفرحون
ومن أجلها يحزنون
بينما يُقتل المئات ولا يشعرون
والأعجب أنك ترى ألقابا في غير مواضعها
فهذا الزعيم ، وذاك العميد !!
وذاك نجم ، وآخر سهم !!
يُذكّرني بقول ابن رشيق الأندلسي :
مما يزهدني في أرض أندلس ***** أسماء معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها***** كالهرِّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
أفيقي أمتي
أهؤلاء قدوات ؟؟
أم هؤلاء أبطال تُرفع أسماؤهم ... وتعلو راياتهم ؟
هزلت حتى بدا من الهُزال كُلاها
وهزُلت حتى استامها المفلسون(2/37)
وبيعت أمجاد أمتنا بسوق الغبن
فإنا لله وإنا إليه راجعون
عذرا ..
فهذه نفثة مصدور
وأهات مكلوم..
138-مصرع طاغية..
الحمد لله الذي وعد أولياءه بالنصر والتمكين ، وتوعّد أعداءه بالذُّلِّ والخُذلان المبين
في مثل هذا الشهر تواعد حزب الشيطان ، وتوعّدوا أولياء الرحمن
فجُمِعت الجموع ، وحُشِدت الحشود ، وجُيّشت الجيوش
فاستعدّ رأس الكُفر ورئيسه لاستئصال الفئة المؤمنة
قال ربنا تبارك وتعالى : ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ )
لماذا يحشد جُنوده ؟
( إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ )
عجيب أمرُه !
أوَ يخشى الإله ويُحاذر ؟ أين ما كان يدّعيه من الربوبية ؟
ولكنهم على أنفسهم يجنون ، وللنعمة هم يُزيلون
قال سبحانه : ( فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ )
أي عند طلوع الشمس .
ثم ماذا ؟
( فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ ) ورأى كل فريق خصمَه .
( قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) أي لا محالة ، ولا مفرّ ، فالبحرُ من أمامنا ، والعدوُ مِن خلفنا بقضّه وقضيضه ، بخيله ورجِلِه ، بعُدّته وعتاده .
فماذا كان موقف نبيُّ الله موسى عليه الصلاة والسلام ؟
هو موقفُ الواثق بالله ونصرِه .
( قَالَ كَلاّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فيأتيه الفَرَجُ والجواب :
( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ ) ماذا يضربُ بها ؟
عصا صغيرة كان يتوكأ عليها ، ويهشّ بها على غنمه .
يضرب بها البحرَ العظيم المتلاطم .(2/38)
( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ )
لتبقى هذه القصة عِظة وعِبرة ، ولذلك قال الله بعد سياق هذه القصة : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )
قال رب العِزّة سبحانه في أخبار آل فرعون : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )
فكانت العاقبة للمتقين ، كما كان موسى يقول لقومه من قبل : ( اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
قال الله عز وجل : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ )
فهل شكر بنو إسرائيل هذه النّعمة يوم أنْ أنجاهم ربهم سبحانه وتعالى من عدوّهم ؟(2/39)
استمع إلى قول الله جل جلاله : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ َلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ )
أما نبيّ الله موسى عليه الصلاة والسلام فقد شكر الله عز وجل على ما أولاه مِن نِعْمَة ، فصام ذلك اليوم شُكراً لله عز وجل .
وفي هذا دليل على أن الشكر العمليّ أبلغُ من الشكر بالقول فحسب .
أيها الكرام :
تلك كانت عاقبة قومِ فرعون .
وهي نهاية من طغى وبغى وتجبّر وعتى عتواً كبيراً وأفسد في الأرض فساداً عظيما .
ولذا قال الله عز وجل : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ )
ولما ذكر الله عاقبة الظالمين : ( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ )
فقوة الله لا تقف أمامها قوةّ مهما بلغت في العتو والجبروت والعظمة .
ولكننا نحتاج إلى أن نستمد النصر والعز والتمكين من العزيز الحميد .
وإننا نستفتح عامنا هذا بشهرنا هذا ، وهو من الأشهر الحُرُم
وقد قال الله تبارك وتعالى فيهن : ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ )
قال قتادة : الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها .(2/40)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن شهرِ محرم : أفضلُ الصيام بعد رمضانَ شهرُ الله المحرم ، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليل . رواه مسلم
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهودُ تصوم عاشوراء . فقال : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا : هذا يومٌ عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه ، وغرّق فرعونَ وقومَه ، فصامه موسى شكراً ، فنحن نصومه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحقُّ وأولى بموسى منكم . فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه . رواه البخاري ومسلم .
ولكنّ نفس نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لم تَطِب بمُشابهة اليهود ، فأمر بمخالفتهم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع .. يعني مع العاشر . رواه مسلم .
ولما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه . قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع . فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم .
وهذا من حرصه عليه الصلاة والسلام على مُخالفة أهل الكتاب .
وقد أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من مُخالفة أهل الكتاب حتى قالت اليهود :
ما يريد هذا الرجل أن يدعَ من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه . رواه مسلم .
إذاً القضية تمايز وتباين بين أمة الإسلام وأمم الأرض .
وفي مسألة التّشبّه لا يُشترط القصد في المشابهة .
إخواني :
ونحن نستفتح هذا العام حريٌّ بنا أن نستغلَّ مواسم الخيرات ، ومن ذلك صيام يوم عاشوراء ، فإن صيامَه يُكفّر ذنوب سنة ماضية .
قال صلى الله عليه وسلم : صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله . رواه مسلم .(2/41)
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن صيام يوم عاشوراء . فقال : ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ، ولا شهراً إلا هذا الشهر . يعني رمضان . رواه مسلم .
ولا يُشرع في مثل هذا اليوم إقامة احتفالات أو جعله عيداً .
روى مسلمٌ عن أبي موسى رضي الله عنه قال :كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداُ ويُلبسون نساءهم فيه حُلِيّهم وشارتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فصوموه أنتم .
فلنستفتح عامنا هذا بتوبة صادقة ، وأوبةٍ وعودة وإنابة لعلّ الله أن يُغيّر ما بنا وما بأمتنا .
فإن الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم .
وهذه سُنة ربانية ماضية .
وإن أعداء الأمة لا يتسلّطون على أمة الإسلام إلا نتيجة للذنوب .
قال الله جل جلاله : ( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )
قال ابن القيم رحمه الله :
فالآية على عمومها وظاهرها ، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضادّ الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة ، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم .
وقال رحمه الله :
اقتضت حكمة الله العزيز الحكيم أن يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة ذنوب المظلوم المبغي عليه ، فذنوبه من أعظم أسباب الرحمة في حق ظالمه . انتهى .
فالأمة اليوم بحاجة ماسة إلى العودة إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم
وهي بحاجة إلى التوبة من الموبقات سواء ما كان منها على مستوى الدول أو على مستوى الشعوب أو على مستوى الأشخاص .
إن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما بنى البيت هو وابنه إسماعيل قال : ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .(2/42)
وإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان مِن دُعائه : رب اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري كله ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي ، وجهلي وهزلي وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير . رواه البخاري ومسلم .
إذا كان مِن غُفِر له ما تقدّم مِن ذنبه وما تأخر يقول ذلك ... فماذا نقول نحن ؟
أصل الموضوع كان خُطبة جمعة في 4/1/1424 هـ
139-مدحنا زين وذمنا شين..!!
كذب الشاعر عندما قال في مخلوق :
وإن مديح الناس حق وباطل = ومدحك حق ليس فيه كِذاب
فما من مخلوق إلا وفي مدحه حق وباطل
حتى في حق سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام عندما يتجاوز المادح فيه حقه يدخل في مسالك الغلوّ
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله . رواه البخاري .
ومعنى هذا النهي عن المبالغة في مدحه عليه الصلاة والسلام حتى تُضاف له وتُضفى عليه بعض صفات الله كما فعلت النصارى بنبيِّها
وقد وقع هذا الذي نهى عنه عليه الصلاة والسلام كما في قول المادح :
يا أكرَمَ الرُّسْلِ مالي مَنْ أَلُوذُ به = سِوَاكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العَمِمِ
وَلَنْ يَضِيقَ رَسولَ الله جاهُكَ بي = إذا الكريمُ تَحَلَّى باسْمِ مُنْتَقِمِ
فإنَّ من جُودِكَ الدنيا وَضَرَّتها = ومن علومكَ علمَ اللوحِ والقلمِ
وهذا غلوّ وإطراء لا يرضاه صاحب الشريعة الغرّاء .
فإن الذي يُلاذ ويُعاذ به هو الله تبارك وتعالى
والدنيا والآخرة وعلم اللوح والقلم ليست من جوده عليه الصلاة والسلام
وهو عليه الصلاة والسلام لما قيل له : أنت سيدنا . قال : السيد الله تبارك وتعالى . قيل : وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طولا . فقال : قولوا بقولكم ، أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان . رواه الإمام أحمد وأبو داود .(2/43)
ولما قالت جارية : وفينا نبيٌّ يعلم ما في غد . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقولي هكذا ، وقولي ما كنت تقولين . رواه البخاري .
فكل هذا نهي عن إضفاء شيء من صفات الله عز وجل على البشر .
وأما الذي مدحه ليس فيه كِذاب فهو الله تبارك وتعالى
هو الذي مدحه زين وذمّه شين
أولئك الذين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقالوا : يا محمد أخرج إلينا فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إن مدحنا زين ، وإن شتمنا شين ، نحن أكرم العرب ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبتم بل مدحة الله الزين ، وشتمه الشين .
وفي رواية أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فناداه من وراء الحجرة ، فقال : يا محمد إن مدحي زين ، وإن شتمي شين . فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ويلك ذاك الله ، ويلك ذلك الله . كما في تاريخ دمشق .
ذاك هو الله الذي مدحه زين ليس فيه كِذاب
وذاك هو الله الذي ذمّه شين وعيب
وذاك هو الله الذي إن مدح سرّ مدحه
وإن ذمّ شان المخلوق ذمّه
فإذا أردت المدحة في الملأ الأعلى فعليك بأمور :
الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
حضور مجالس الذِّكر وحلق العلم
ذكر الله عز وجل في نفسك أو في ملأ من الناس
( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ )
140-مداهنة أم مُداراة ؟
هناك بعض المصطلحات لا يُفرّق بينها في بعض الأحيان .
كما أن هناك بعض المفاهيم التي قد تختلط على بعض الناس ، أو تلتبس بغيرها عند آخرين .
وربما كان السبب في ذلك عدم وجود فرق كبير بينها
ومن هنا اعتنى بعض العلماء بالفروق
فألف الكرابيسي كتاب الفروق
وألّف القرافي كتاباً في الفروق
وعقد ابن القيم رحمه فصولاً في الفروق بين بعض المتشابهات
عقدها في آخر كتاب الروح
فأقتطِف لك من عناوينها :
قال رحمه الله :
الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق
الفرق بين الحمية والجفاء
الفرق بين التواضع والمهانة(2/44)
الفرق بين الجود والسّرف
الفرق بين المهابة والكبر
الفرق بين الصيانة والتكبر
الفرق بين الشجاعة والجرأة
الفرق بين الحزم والجبن
الفرق بين الاقتصاد والشحّ
الفرق بين الاحتراز وسوء الظن
الفرق بين الفراسة والظن
الفرق بين النصيحة والغِيبة
الفرق بين الهدية والرشوة
الفرق بين الصبر والقسوة
الفرق بين العفو والذلّ
الفرق بين سلامة القلب والبَلَه والتّغفّل
الفرق بين الثقة والغَرّة
الفرق بين الرجاء والتمني
الفرق بين التحدّث بنعم الله والفخر
الفرق بين فرح القلب وفرح النفس
الفرق بين رقة القلب والجزع
الفرق بين المَوجِدة والحقد
الفرق بين المنافسة والحسد
الفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله
الفرق بين الحب في الله والحب مع الله
الفرق بين التوكل والعجز
الفرق بين الاحتياط والوسوسة
الفرق بين الاقتصاد والتقصير
الفرق بين النصيحة والتأنيب
الفرق بين المبادرة والعَجَلة
الفرق بين الإخبار بالحال والشكوى
وأشرت إلى هذه الفروق لأن الفروق بينها يسيرة ، ومن هنا فإنها قد تلتبس بغيرها ، ومن أراد معرفة ما بينها من فروق فليُراجع كتاب " الروح " لابن القيم رحمه الله .
أعود لما بدأت به
فالفرق بين المداهنة والمدارة
أن المُداهنة والإدْهان : المصانعة واللين ، وقيل : المداهنة إظهار خلاف ما يضمر ، والإدهان الغش ، ودهن الرجل إذا نافق . كما يقول ابن منظور في لسان العرب .
وفي التوقيف على مهمات التعاريف : المداهنة أن ترى منكراً تقدر على دفعه فلم تدفعه ، حفظا لجانب مرتكبه ، أو لقلة مبالاة بالدين .
وأما المداراة : فهي المداجاة والملاينة ، كما في مختار الصحاح .
وقال ابن الأثير في غريب الحديث : المداراة ملاينة الناس وحسن صحبتهم ، واحتمالهم لئلا ينفروا عنك .
وفي المصباح المنير للفيومي : داريته مداراة : لاطفته ولايَنْتُه .
فالأول – وهو المداهنة - تكون مع عدم طيب النفس ، ويكون مع عدم المحبة(2/45)
وقد تكون المداهنة في أمر مُحرّم ، بل قد يكون في الكفر – عياذاً بالله -
ولذا قال عز وجل : ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )
قال ابن عباس فيها : ودوا لو تكفر فيكفرون .
قال ابن العربي في أحكام القرآن : وحقيقة الإدهان ؛ إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة ، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة ، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة ، أي مدافعة .
قال ابن زيد في قوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) قال : الركون الإدهان .
وقال عليه الصلاة والسلام : مثل الْمُدهِنِ في حدود الله والواقع فيها ، مثل قوم استهموا سفينة ، فصار بعضهم في أسفلها ، وصار بعضهم في أعلاها ، فكان الذي في أسفلها يمرّون بالماء على الذين في أعلاها ، فتأذّوا به ، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا ما لك قال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم . رواه البخاري .
والرواية الأخرى عند البخاري : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها .
فالمحب يُجامل ويُداري محبوبه
والمُبغِض يُنافق مبغوضه !
وقد يمرّ الشخص الواحد بموقفين مُتماثِلين ، فيُداهن ويُنافق في أحدهما ، ويُداري ويُجامل في الآخر
فعلى سبيل المثال :
يقول لك أبوك شيئا ، أو يقترح أمراً ، وتكون لا توافقه فيه ، فتسكت مُجاملة له ، ومُداراة لنفسه
ويقول لك رئيسك في العمل نفس المقترح ، أو نفس الكلام ، فتُوافقه مُداهنة ، ورغبة أو رهبة !
وقد يطلب منك أخوك سُلفة فتعطيه مجاملة ، وقد يطلبها رئيسك في العمل فتُعطيه نفاقاً !
والكريم يُجامل ويُداري ويُصانِع
واللئيم يُداهن ويُنافق !(2/46)
ومِن هنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه رجل قال : ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام . قالت عائة رضي الله عنها : قلت : يا رسول الله قلتَ الذي قلت ، ثم ألنت له الكلام . قال : أي عائشة إن شرّ الناس من تركه الناس - أو ودعه الناس - اتقاء فحشه . رواه البخاري ومسلم .
وكان مِن مُداراة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يواجه الناس بما يكرهون .
وإذا غضب عُرِف ذلك في وجهه .
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً قط ؛ إن اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه . رواه البخاري ومسلم .
والرجل قد تأتيه زوجتك بطعام ، ولا يُعجبه فيُجاملها ، ويُداري خاطرها ، فهذه مجاملة ومُداراة ، وهي مطلوبة .
وهكذا ...
فالمجاملة والمدارة والمصانعة مطلوبة
ومن لا يصانع في أمور كثيرة = يُضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم !
والمداهنة والنفاق ممنوعة .
والله ولي التوفيق .
141-محاولة اغتيال مُصلِح..!
في كل مجتمع ، بل في كل زمان ومكان يوجد أُناس يَغيظهم انتشار الخير ، وفشو المعروف ، وسمو الفضيلة ، وانحسار مدّ الرذيلة .
وتضيق صدورهم بالمُصلِحين
وتتقطّع قلوبهم كمداً أن يُعبد الله وحده
ويموتون بغيظِهم مرارا وتِكرارا
يُحاذِرون انخناس الباطل
ويَشْرَقُون بالعذب الزُّلال
لا يهدأ لهم بال ، ولا يقرّ لهم قرار ، حينما تتعالى امرأة على حضيض الشهوات ! أو يتسامى رجل بِخُلُقِه عن سفاسف الأمور .
يُريدون من كلّ الناس أن يعيشوا في أوحال الرذيلة ، وأن لا يخرجوا من مستنقعات الشهوات الآسنة .
( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا )
تأمل في حال ذلك الملك الملعون " صاحب الأخدود "
ما الذي أفقده صوابه أن قال غلامٌ : ربي الله
حتى ذبحه على اسم الله : " باسم الله رب الغلام "(2/47)
ففضح نفسه وآمن الناس عندها خدّ الأخاديد وأضرم فيها النيران وقذف من آمن بـ " رب الغلام "
ماذا يضيره أن آمن الناس بربّهم العزيز الحميد ؟؟
( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )
وتأمل حال شيخ الطُّغاة وزعيم المفسدين
وهو يتآمر على نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام
ماذا يضرّ فرعون أن يُعبّد الناس لرب الناس ؟؟
لكنه نطق بما يدور في خلده واعترف بما يُخيفه
( وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ )
عجيب !
أين دعوى ( مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) ؟؟
أوَ يُحاذِر الإله أو يخاف ؟؟ ( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ )
من أي شيء ؟؟
من شِرذمة قليلة على حدّ زعمه !
إذا تأملت هذا فتأمل حال أولئك القوم الذين يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون
الذين تآمروا تحت جُنح الظلام ليفتكوا بنبي الله صالح وبأهله
وأي ذنب ارتكبه ؟؟ وأي جناية جناها أهله ؟؟
( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ )
( قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ )
أيضرّهم أن وعظهم وذكّرهم بالله بأسلوب لطيف ( لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )
ولكنه الحِسّ الإفسادي
ثم تأمل حال هرقل وقد أيقن أن دولة الإسلام ستبلغ ما تحت قدميه
حتى قال لأبي سفيان : فإن كان ما تقول حقّاً فَسَيَمْلِك موضع قدمي هاتين .
بل ويقول له : وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه !
ما يضيره أن يُعبد الله وحده وقد أيقن بهذه الحقيقة ؟؟
وتأمل مرة بعد أخرى حال كفار قريش(2/48)
ماذا يضرّهم أن تُترك عبادة الأوثان والأشجار والأحجار ؟؟
ماذا يضرّهم أن لا تؤكل الميتة ؟؟
ماذا يضرّهم أن لا تُوئد البنات ؟؟
ماذا يضرّهم أن تستتر النساء ولا يطُفن بالبيت عرايا ؟؟
ماذا يضرّهم أن تُزال الأصنام من بيت الله الحرام ؟؟
أو أن يُجعل الإله إلهاً واحداً ؟؟
حتى تمالئوا على نبي الله
فحاربوه وحاصروه وضيّقوا عليه
حتى أخرجوه من أحب البلاد إليه
وتآمروا على قتلِه
واستعانوا بخبراء الاغتيال ، وأساطين سفك دماء الأنبياء !
فاستعانوا باليهود في غير ما مؤامرة .
وتفتّقت أذهانهم أحياناً أخرى عن ألوان من المؤامرات(2/49)
جَلسَ عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحِجْر ، وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش ، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويَلْقَون منه عناء وهم بمكة ، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر ، فَذَكَرَ أصحابَ القليب ومصابهم فقال صفوان : والله ما في العيش بعدهم خير قال له عمير : صدقت والله ، أما والله لولا دَين عليّ ليس له عندي قضاء ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله فإن لي قبلهم عِلّة أعتلّ بها ، أقول : قدمت من أجل ابني هذا الأسير . فاغتنمها صفوان وقال : عليّ دَينك أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا لا يسعني شيء ويعجز عنهم ، فقال له عمير : فاكتم شأني وشأنك . قال : افْعَل . ثم أمر عمير بسيفه فشُحذ له وسُمّ ، ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدّثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم من عدوهم ، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف فقال عمر : هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ! والله ما جاء إلا لِشَرّ ، وهو الذي حرش بيننا ، وحزرنا للقوم يوم بدر ، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشِّحاً سيفه قال : فأدخله عليّ . فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبّبَه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث فإنه غير مأمون ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال : أرسله يا عمر . ادن يا عمير ، فدنا ثم قال : فما جاء بك يا عمير ؟ قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه . قال : فما بال السيف في عنقك ؟ قال : قبحها الله(2/50)
من سيوف وهل أغنت عنّا شيئا ! قال : اصدقني ما الذي جئت له ؟ قال : ما جئت إلا لذلك . قال : بل قعدت وصفوان بن أمية في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت : لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له ، والله حائل بينك وبين ذلك . قال عمير : أشهد أنك رسول الله . قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فو الله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق ثم شهد شهادة الحق .
ولم تكتف اليهود بالمؤامرات والدسائس بل حاولوا تنفيذ المؤامرة بأنفسهم
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية الكلابيين قالوا : اجلس أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك ونقوم فنتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا له فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من أصحابه في ظل جدار ينتظر أن يُصلحوا أمرهم ، فلما جلسوا والشيطان معهم لا يفارقهم ائتمروا بِقَتْل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن تجدوه أقرب منه الآن ، فاستريحوا منه تأمنوا في دياركم ويرفع عنكم البلاء فقال رجل : إن شئتم ظهرت فوق البيت ودلّيت عليه حجراً فقتلته ، فأوحى الله إليه فأخبره بما ائتمروا من شأنه فعصمه الله فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يريد يقضي حاجة ، فلما أظهر الله رسوله على ما أرادوا به وعلى خيانتهم لله ولرسوله أمر بإجلائهم وإخراجهم من ديارهم وأمرهم أن يسيروا حيث شاؤوا .
فكان خبر السماء أسرع من حجر الرّحى !
وليست تلك المؤامرات والدسائس في القديم فحسب بل هي كالوصية يُصي بها السابق اللاحق ( أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )
أجِل النظر اليوم في هذه المعمورة لترى عجباً لا ينقضي(2/51)
ترى حرباً شعواء على دين الله وعلى سنّة نبيّه ، وتآمر يتلوه تآمر ، وكيد يعقبه كيد .
ماذا يضير " الأبواش " الأوباش !! أن تُحكم الجزائر بكتاب ربها وسنة نبيّها ؟؟
وماذا يضرّهم أن تُحكم أفغانستان بشرع ربها ؟؟
وما هي جريرة أهل الإسلام في جُزر الملوك بأندونيسيا حتى تُحرق جُثثهم في مساجدهم ؟؟
وماذا جنى أهل تركستان الشرقية " الإيغور " حتى يُصبّ عليهم العذاب صبّاً ؟؟
أيضيرهم أن يُقال : لا إله إلا الله في مشارق الأرض ومغاربها ؟؟
ما الذي أغضب آباء الجهل وآباء اللهب ؟؟
ولكنهم جميعا " حاذرون "
فهؤلاء جميعا قد شرقوا بنور الرسالات الربانية
وهم خفافيش الظلام التي يبهرها النور وتأنس بالظلمة
يغيظهم أن تشع أنوار الحق على الأرض ؛ لأنهم لا يُطيقون رؤية الأنوار الباهرة .
وسوف يُتمّ الله نوره ولو كره الكافرون ..
142-متناقضات في الحياة..
كثيرة هي المتناقضات في حياة كثير من الناس
ولعلي أشير إلى بعض الصور التي ربما نشاهدها يومياً من خلال الشارع أو السوق أو المدرسة أو العمل .
تناقض !
رجل يمشي على جوار زوجته :
الزوج ثوبه يغطي كعبيه !
والزوجة تُشمّر عن ثوبها حتى تبدو أطراف السيقان !
تناقض !
يُنكر على الشاب الذي قصّر ثوبه ، ربما إلى أقل من أنصاف ساقيه ، فربما قيل : يلبس ( شانيل ) أو يلبس ( تنورة ) !!
وفي المقابل يجلس الناس أمام شاشة التلفاز ، فينظرون إلى ممثلة أبدت ركبتيها ! ولا يُنكرون هذا بل ينظرون إليه دون أدنى اشمئزاز !
تناقض !
يُنكر على قصير الثياب
ولا يُنكر على لاعب الكرة الذي أبدى فخذه !!
تناقض !
الزوج يبلس نظارة شمسية قاتمة السواد
والزوجة تُبدي عن عينيها بل عن أكثر وجهها بحجة النظر إلى الطريق !!
تناقض !
الرجل يلبس الفضفاض والواسع من اللباس
والمرأة تلبس المُخصّر والضيق من اللباس !!
تناقض !
يُستنكر أن يدوام شخص على السواك ، حتى في الأماكن العامة
ولا يُستنكر دخان السجائر مع ما به من أذى وضرر !!(2/52)
( مع أن الأول سنة ، والثاني محرّم ) !!!
تناقض !
أن تكون الفضيلة غريبة مستغربة
والرذيلة أو دواعيها غير مستغربة ! بل ربما حريات شخصية !
فرجل يستمسك بدينه ، أو امرأة تتمسك بدينها ، هذا تعقيد ! وتزمّت ! وربما تخلف ورجعية !
وامرأة تحررية ، أو رجل يتزندق ، هذه حريات شخصية !!
تناقض !
رجل يلزم بلده ، فهذا معقد
ورجل كثير الأسفار ، كثير الإفساد في الأرض ، هذا مثقف ، أو واسع الأفق ، متعدد الثقافات !!
تناقض !
أن يُحارب شخص ( رجلا كان أو امرأة ) يحمل همّ الدين ، ويُحارب باسم الدّين !
ولا يُحارب الرافضي الخبيث أو اليهودي والنصراني !!
سلِم من بعضنا اليهود والنصارى ، ولم يسلم منهم إخوانهم !!
تناقض !
أن نستثقل خمس دقائق في المسجد عندما يتأخر الإمام ، أو حتى عندما يُطيل في الصلاة
ولا يستثقل البعض ( 90 ) دقيقة في متابعة مباراة رياضية ! أو مثلها في مشاهدة مسلسل ساقط !
بل ربما خرج من يستثقل تلك الخمس دقائق ووقف مع صاحبه وقوفاً عند باب المسجد لمدة نصف ساعة رغم الظروف الجوية المختلفة !
عجيب هذا التناقض في حياتنا !
المرأة تُبدي عن ساقيها ، والشاب يسحب ثوبه !!
المرأة تُبدي عن عينيها ، والشاب يُغطي عينيه بنظارة سواداء !!
يُنكر قصر ثوب الرجل ، ولا يُنكر قصر لباس المرأة ! وإن كان غاية في القصر !!
يُنكر على قصير الثياب ، ولا يُنكر على لاعب أبدى فخذه !!
يُنكر على المُستاك ، ولا يُنكر على المُدخّن !!
وووو
وكم هي الصور المتناقضة في مجتمعاتنا اليوم !
وكم نحن بحاجة إلى تصحيح المفاهيم ، وإلى تعديل بعض الفِطر !
وكم نحن بحاجة إلى تعديل بعض الرؤوس !! حتى تنظر النظرة المعتدلة !
143-ماذا أصاب هذا الرجل لما نسيَ الذِّكر ؟؟
حَفِظَ الله عبادَه بالأذكار والأوراد اليومية ، فلا يؤتى العبد إلا من قِبَل تفريطه
فمن أُصيب من جراء تفريطه فلا يلومن إلا نفسه .(2/53)
حدّث أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قال :
بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .
ثلاث مرات .
حين يُمسي لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح .
ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات ، لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي .
فأصاب أبان بن عثمان الفالج ، فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه ، فقال له : مالك تنظر إليّ ؟ فو الله ما كذبت على عثمان ، ولا كذب عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت فنسيت أن أقولها .
وفي رواية : ولكني لم أقله يومئذ ليمضيَ اللهُ عليَّ قدرَه . رواه أبو داود والترمذي ، وهو حديث صحيح .
ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة . قال : أما لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك . رواه مسلم .
وثبت عند أبي داود من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولاقوة إلا بالله . يُقال حينئذ : هُديت وكُفيت ووُقيت ، قال : فتتنحى له الشياطين ، فيقول له شيطان آخر : كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي ؟
إذاً المسلم محفوظ بحفظ الله ورعايته ، ولكنه هو الذي يُضيّع نفسه .
وهناك بطاقات الأذكار التي انتشرت وهي صغيرة الحجم عظيمة النفع كبيرة الفائدة..
144-ما لقيت أرض ..؟؟!! ( مشاهد واقعية )
المشهد الأول
الأول : هلا أبو محمد
الثاني : هلا أبو علي
هاه يا بو محمد
ما لقيت أرض ؟؟
لا والله إلى ها الحين
اندوّر !!!
المشهد الثاني
ألو
نعم
وين أنت فيه ؟؟
في دار القرار !!
بقي أن تعلموا
أين دارت هذه المشاهد ؟؟
أما الأول :
فقد سمعته عقب صلاة جمعة
وقد سمعنا خطبة مؤثِّرة
عن الموت وسكراته
وليس هذا فحسب
بل تلا ذلك الصلاة على عشر جنائز(2/54)
وكفى بالموت واعظاً
ثم تقابلا ..
ودار ذلك الحوار
أعني الحوار الأول ..
والمشهد الثاني :
في المقبرة
عبر اتصال بالجوال
على ما في تلك الكلمة ( في دار القرار ) من ملحظ ..
إلا أن تلك المشاهد
تُصوّر مدى الفغلة التي نعيشها
حتى بالموت لا نتّعظ
فبأي شيء سوف نتّعظ ؟؟
لقد كان سلف هذه إذا أرادوا وصف موقف مؤثِّر
قالوا : كأن بين أيديهم جنازة
وقد وُجِدَ مكتوبا على حجر :
لو رأيت يسير ما بقي من عمرك لزهدت في ما ترجو من أملك ، ولرغبت في الزيادة من عملك ، وأقصرت من حرصك وحِيَلك ، وإنما يلقاك غدا ندمك لو قد زلّت بك قدمك ، وأسلَمَك أهلك وحشمك ، وتبرأ منك القريب وانصرف عنك الحبيب .
وقال التميمي : شيئان قطعا عني لذة النوم : ذكر الموت ، والوقوف بين يدي الله عز وجل .
وكان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقراء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة ، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .
وكان الثوري إذا ذُكر الموت لا يُنْتَفَعُ به أياما ، فإن سئل عن شيء قال : لا أدري لا أدري .
( ذكر ذلك المناوي في فيض القدير )
وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فيقال له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا ؟ فيقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن : القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه .
هكذا كانوا يتذكّرون الآخرة
وهكذا كان يَصنع بهم ذِكر الموت
لا أن ذِكر الموت كَذِكْرِ الولائم !
فَحذارِ عباد الله من الغفلة المُهلكة
قال سبحانه وتعالى : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ) .(2/55)
وقال جلّ ذِكره : ( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) .
وقد ذم الله الكافرين بغفلاتهم ، فقال سبحانه وبحمده : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) .
وقال جل جلاله : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) .
فلتحذري يا نفس أولا من مهالك الغفلات قبل أن تُحذّري غيرك .
145-هل كل ما يُعلم يُقال ؟
وهل كُلّ ما يُقال يصلح أن يُقال في كل زمان أو في كل مكان ؟
في أحد المجالس تحدثت عن مسألة رأيتها مهمة
وهي أن من الناس من يفتح فمه ، فما جرى على لسانه نطق به !!!
دون سابق علم أو قراءة في المسألة
فهم كما تقول العامة : " افتح فمك يرزقك الله "
فالواحد منهم في أي مجال يتكلّم !!
وفي كل مجال يخوض !!
يُصدر الأحكام ربما جزافاً
يُحدّث بكلّ ما سمع !!
وكفى بالمرء كذبا أن يُحدّث بكل ما سمع . كما قال صلى الله عليه وسلم .
فكان مما قلته آنذاك : أنه ما كلّ ما يُعلم يُقال .
فردّ أحد الأصدقاء بدعابته المعهودة
فقال : البيّنة أو حَدّ في ظهرك !
فقلت : حُبّاً وكرامة
هي بيّنات وليست بيّنة واحدة .
هذا راوية الإسلام ، وحافظ الأمة
هذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ؛ فأما أحدهما فبثثتُه ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم . رواه البخاري .
قال ابن حجر - رحمه الله - : حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثُّه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم .
هذه واحدة .(2/56)
وبيّنة أخرى عن فاروق الأمة ، وباب الإسلام
عن عمر رضي الله عنه .
قال ابن عباس : كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجّها ، إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال : لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا ! فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فَلْتَة ، فتمّت ، فغضب عمر ثم قال : إني إن شاء الله لقائم العشيّة في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم .
قال عبد الرحمن : فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مُطيّر ، وأن لا يَعوها وأن لا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكّنا ، فيَعِي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها ، فقال عمر : والله إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة .
قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجّلت الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب ، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولن العشيّة مقالة لم يقلها منذ استخلف ، فأنكر عليّ وقال : ما عسيت أن يقول ما لم يَتقُلْ قبله ؟
فجلس عمر على المنبر ، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال :
أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قُدّر لي أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليُحدّث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب عليّ .(2/57)
إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرّجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها . رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيَضِلّوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف . إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم - أو إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم - ألا ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تطروني كما أُطريَ عيسى ابن مريم ، وقولوا عبد الله ورسوله . ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول : والله لو قد مات عمر بايعت فلانا ، فلا يَغترنّ امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرّها ، وليس فيكم مّنْ تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلا مِن غير مشورة من المسلمين فلا يُبابع هو ولا الذي تابعه تغرّة أن يقتلا .
الحديث بأطول مما هنا أخرجه البخاري .
فقوله : تغرّة أن يُقتلا : أي حذرا من أن يُغرِّر بنفسه ، فيتعرّض للقتل .
ولمزيد من شرحه يُراجع فتح الباري لابن حجر جـ 12 ص 148 – 162
فهذا عمر رضي الله عنه على مكانته وقِدم قَدّمِه وعلو كَعبه في الإسلام يأخذ بمشورة ابن عوف فلم يتكلّم في الموسم الذي يجمع رعاع الناس وغوغاءهم .
بل أمهل فما تكلّم إلا في دار الهجرة والسنة .
فما كل ما يُعلم يُقال ، وما كُلّ ما يُقال يصلح أن يُقال في كل زمان وكل مكان .
ولقد خاض أُناس فيما يخوضون فيه ، أمام العامة والرعاع والغوغاء
حتى إنك ترى جُفاة الأعراب يتكلّمون فيما لم يتكلّم فيه السلف ولا الخلف !
بل قال بعضهم لأحد العلماء : الحديث متناقض !
وهو يقصد بذلك القرآن !(2/58)
إنهم ليتكلّمون في مسائل لو عُرِضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر يستشيرهم ويستنير بآرائهم
رحمك الله أبا حصين . ألست القائل : إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر ؟
أين أنت من أُناس يهرفون بما لا يعرفون ؟
وأين أنت من أُناس يُحكّمون عقولهم في نصوص الوحيين على مسامع عامة الناس ؟؟
فإلى الله المشتكى .
ورحم الله ابن القيّم إذ يقول عن أمثال هؤلاء :
ثقُل الكتاب عليهم لما رأوا **** تقييده بشرائع الإيمان
واللهو خف عليهم لما رأوا **** ما فيه من طرب ومن ألحان
فيا أخوتاه
ويا أُخيّاتي
ما كل ما يُعلم يُقال
إنك تدخل بعض المنتديات فتخرج وأنت تكاد تتقيأ من غثائية وسخف بعض الموضوعات المطروحة على مرأى ومسمع من الصغير والكبير والرجل والمرأة والعالم والجاهل
في كل شيء يتكلّمون !
وفي كل مسألة عظيمة أو حقيرة يتناقشون !
وفي كل نازلة يُفتون !
" ولعل بعضكم ألحن بحجّته من بعض "
فتؤخذ الأقوال المتهافتة أحياناً على أنها مسلّمات وثوابت قاطعة لا تحتمل النقاش
بل ربما طُيّرت كل مُطيّر فبلغت كذبة أحدهم الآفاق
فيكون أكذب الناس !
وحينئذٍ لا يستطيع أن يتداركها
ولا أن يقول : رجعت عنها
ويندم ولات ساعة مندم
فاحبسوا ألسنتكم عباد الله أن تتكلّم في كل نازلة ، وفي كل موضوع ، وفي كل مصيبة .
وتفقّهوا قبل أن تُسوّدوا
كما قال عمر رضي الله عنه .
وإتماما للفائدة :قال الإمام البخاري – رحمه الله – :
باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه .
ثم ساق بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين ، باب يدخل الناس ، وباب يخرجون .
ثم قال – رحمه الله – :
باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا
وقال علي : حدثوا الناس بما يعرفون . أتحبون أن يكذب الله ورسوله .(2/59)
حدثنا عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن عليّ بذلك .
أي أن أثر عليّ رضي الله عنه موصول بهذا الإسناد .
ثم ساق بإسناده عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال : يا معاذ بن جبل . قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : يا معاذ . قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا . قال : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار . قال : يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال : إذا يتّكلوا . وأخبر بها معاذ ثم موته تأثما .
وروى مسلم في المقدمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة .
والله يحفظكم ويرعاكم .
146-فو الله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ..
قوة اليقين ، وصدق التصديق بموعود الله ورسوله ، كان ذلك يجعل سلف هذه الأمة يحلفون بالله على صدق موعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتصديقاً بموعود الله ورسوله .
لما خرجت الحرورية ( الخوارج ) على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا : لا حكم إلا لله ! قال عليّ : كلمة حق أريد بها باطل ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء ، يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - مِنْ أبغض خلق الله إليه ، منهم أسود إحدى يديه طُبْيُ شاة أو حلمة ثدي ، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : انظروا ، فنظروا فلم يجدوا شيئا ، فقال : ارجعوا فو الله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثا - ثم وجدوه في خربة ، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه . رواه مسلم .
(طُبْيُ شاة ) ضرع شاة .
هذا يمين أبي الحسن رضي الله عنه وأرضاه يحلف بالله أنه ما كَذَب ولا كُذِب .(2/60)
وروى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام ، وكلنا فارس . قال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : الكتاب . فقالت : كتاب ، فأنخناها فالتمسنا فلم نرَ كتابا فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنَّكِ ، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته .
ولما كان يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فقام عمرو بن الجموح وهو أعرج ، فقال : والله لأقحزن عليها في الجنة ، فقاتل حتى قُتل .
وفي رواية : أرأيت إن قتلت اليوم أطأ بعرجتي هذه الجنة ؟ قال : نعم . قال : فو الذي بعثك بالحق لأطأن بها الجنة اليوم - إن شاء الله - فقال لغلام له كان معه يُقال له سليم : ارجع إلى أهلك . قال : وما عليك أن أصيب اليوم خيراً معك ؟ قال : فتقدم إذاً . قال : فتقدم العبد ، فقاتل حتى قُتل ، ثم تقدم وقاتل هو حتى قُتل .
هل عندنا مثل هذا اليقين والتصديق بخبر الله ورسوله ؟
تأمل حال هذا الأعرابي الذي سمع آيات بيّنات فتأثر بها ... فماذا صنع ؟
قال الأصمعي : أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلداً سيفه ، وبيده قوسه ، فَدَنا وسلّم ، وقال : ممن الرجل ؟
قلت : من بني أصمع .
قال : أنت الأصمعي ؟
قلت : نعم .
قال : ومن أين أقبلت ؟
قلت : من موضع يُتلى فيه كلام الرحمن .
قال : والرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟!
قلت : نعم .
قال : فَاتْلُ عليّ منه شيئا ، فقرأت ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) إلى قوله (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) .
فقال الأعرابي : يا أصمعي هذا كلام الرحمن ؟(2/61)
قلت : إي والذي بعث محمداً بالحق إنه لكلامه ، أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فقال لي : يا أصمعي حسبك .
ثم قام إلى ناقته فنحرها ، وقطعها بجلدها ، وقال : أعنِّي على توزيعها ، ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ، ووضعهما تحت الرحل ، وولّى نحو البادية ، وهو يقول : ( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) .
قال الأصمعيّ : فَمَقَتُّ نفسي ولمتها ، ثم حججت مع الرشيد ، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق ، فالتفتُّ ، فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل ، فسلّم عليّ ، وأخذ بيدي ، وقال : اتلُ عليّ كلام الرحمن ، وأجلسني من وراء المقام ، فقرأت ( وَالذَّارِيَاتِ ) حتى وصلت إلى قوله تعالى : ( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) فقال الأعرابي : لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا . وقال غير هذا ؟ قلت : نعم ؛ يقول الله تبارك وتعالى : ( فوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) فصاح الأعرابي ، وقال : يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟ ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟؟ فقالها ثلاثا ، وخرجت بها نفسه . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
إننا أحوج ما نكون إلى هذا التصديق
وأحوج ما نكون إلى هذا اليقين
وأحوج ما نكون إلى هذا التأثّر بعد التدبّر
147-ما عندك رسيفر ؟!
وهذا العنوان له قصة
وذلك أني في رمضان الماضي لعام 1422 هـ دخلت محل أجهزة كهربائية ودخل شاب تجاوز عمره عُمُر ابن عمر عندما خاض المعركة !
وتعدّى عمره عُمُر محمد بن القاسم عندما قاد الجيوش لسبع عشرة سنة
وكان ذلك الشاب يسأل صاحب المحل : ما عندك رسيفر ؟
أجابه صاحب المحل : لا .
فلما خرج ذلك الشاب سألت صاحب المحل – وأنا أعلم – : ما هو الرسيفر ؟
فتبسّم وقال : جهاز للدش مهمته الاستقبال !
فقلت : عجباً ! من لم يتُب في رمضان فمتى سيتوب ؟(2/62)
وتذكرت حينها موقفاً طريفا حدث في الحرم المكي – زاده الله تشريفا –
أحد السُّرّاق سَرَقَ في الحرم ، فتم القبض عليه ، فعندما اقتيد إلى مكتب من مكاتب شرطة الحرم تبعهم رجل غريب جاء من بِلاد بعيدة ، فسأل عن حال هذا ووضعِه ، فقيل له : سارق ! فاستغرب ، ثم استأذن في الدخول لمكتب الشرطة ، فأُذن له ، فقال : اسمحوا لي بكلمة أوجهها لهذا السارق .
فكان أن قال له : الناس تُخطئ وتُذنب خارج الحرم ثم تأتي تغسل الذنوب وتستغفر في الحرم .
وأنت تُذنب في الحرم !
فأين ستتوب ؟
وأين سوف تستغفر ؟
تذكرت هذا الموقف عندما رأيت ذلك الشاب في ثالث أيام رمضان يسأل عن جهاز استقبال الفضائيات
يُريد أن لا يفوته شيئا من سَقَط الفضائيات وفضائحها ومومساتها !
هذا الذي ما كفاه الذنب في رجب وشعبان حتى أراد أن يعصي الله في شهر رمضان المبارك !
هذا الذي أدركه رمضان فما تاب ، متى سيتوب ؟
هذا الذي أدركه رمضان فلم يستغل أيامه ولياليه ، متى سوف يستغل وقته ؟
هذا الذي ما قرأ كتاب ربِّه في رمضان ، متى سوف يقرأ ؟
أما إني أحسب أنه لا يفوته صحيفة ولا مجلة ، كما أنه قلّ أن تفوته مُذيعة فاتنة ، أو ممثلة أو راقصة !!(2/63)
في الزمن السابق أرادت امرأة أن تدعوا على ولدها بدعوة شديدة تُعرّضه للبلاء ، فَدَعَتْ عليه أن لا يُميته الله حتى يرى ( وجوه ) المومسات [ البغايا ] – أجارك الله – وذلك بسبب إقباله على صلاته وعدم إجابة نداء أمه ، فلما تكرر ذلك منه قالت : اللهم لا تُمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات ، ذلكم هو العابد جريج الذي تذاكر بنو إسرائيل حاله وعبادته ، وكان في بني إسرائيل امرأة بغى يُتمثّل بحسنها ، فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم ، فتعرضت له ، فلم يلتفت إليها ، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت ، فلما ولدت قالت : هو من جريج ، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : زنيت بهذه البغي ، فولدت منك ، فقال أين الصبي ؟ فجاؤوا به ، فقال : دعوني حتى أصلى ، فصلى ، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال : يا غلام من أبوك ؟ قال : فلان الراعي ، فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به ، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب قال : لا أعيدوها من طين كما كانت ، ففعلوا .
( والقصة في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم )
هل تأملتم دعوة تلك الأم الشديدة على ولدها ؟
بأي شيء دَعَتْ عليه ؟
أن لا يُميته الله حتى ينظر إلى وجوه المومسات .
ثم هل تأملتم حال الفضائيات ؟
إن المسألة لم تعُد قاصرة في الفضائيات على إظهار ( وجوه ) المومسات فحسب بل تعدّى الأمر ذلك إلى أن صارت بعض ( الفضائحيات ) لا تستر سوى السوءة المغلّظة .
وبعض من خادع نفسه بأنه إنما جَلَب الدشّ لأجل الأخبار ! يعترف أنه إنما سار في خطوات الشيطان ودربِه ، حتى أصبح يُتابع تلك ( الفضائحيات )
فأوجِّه نداء من هذا المنبر الإعلامي لإخواني وأخواتي أن يجعلوا رمضان فرصة للتغيير
( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ )
هل نُريد أن يتغيّر حال الأمة ونحن لم نُغيّر من واقعنا شيئا ؟؟(2/64)
كم مرّ علينا من موسم كريم من مواسم الطاعة ؟
سواء كان رمضان أم كان موسم حجّ أو غيرها من المواسم
حالنا قبل رمضان كحالنا بعده .. ما الذي تغيّر من أحوالنا ليُغيّر الله أحوال أمتنا وتتبدّل مآسينا وأحزاننا – في فلسطين والشيشان وغيرها – إلى أفراح وانتصارات
مَنْ صَدًق الله ووعده أن يجعل رمضان فرصة للتغيير ؟
أم أننا نتواعد رمضان ونوعده أن لا تمرّ ليلة من لياليه دون معصية أو تقصير أو تفريط ؟!!
كثير من الأندية الرياضية لا تحلو لها إقامة المباريات والمسابقات الرياضية إلا في ليالي رمضان
فليل رمضان سهر وتفريط وإضاعة ونهاره نوم !
فأي تغيير غيّرناه ؟
وأي صِدْقٍ من أنفسنا لِربِّنا أريناه ؟
أيها الكِرام :
إن الصدق مع الله بضاعة قلّ من يتعامل بها ( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ )
إن شهر رمضان عند أسلافنا هو موسم الخيرات
وهو شهر الانتصارات
أما كانوا يستبشرون بقدوم رمضان ويُبشّر بعضهم بعضا أن أدرك موسم الغفران ؟
أما كان العلماء – رغم أن العِلم الشرعي وتعلّمه وتعليمه عباده – إلا أنهم إذا قدِم رمضان طووا كُتبهم ، وأقبلوا على كتاب ربّهم يتلونه حق تلاوته ، فيقفون عند عجائبه ، ويُحرّكون به القلوب ؟
أما كان الفرسان يتسابقون إلى ميدان الوغى في شهر رمضان قدوتهم وأسوتهم في ذلك – عليه الصلاة والسلام – ؟
الذي غزا في شهر رمضان فأفطر ليتقوّى بذلك على العدو ، وذلك في فتح مكة – كما في صحيح مسلم - .
فليس ثمّ تعارض بين الصيام والعمل لهذا الدِّين ونُصرته بل والجهاد في سبيل الله .
أما عندنا فشهر رمضان موسم السهر
وهو شهر النوم
وإن شئت قل : شهر اللُّطمة وتقطيب الجبين !! عند أُناس آخرين .
فهيا لننفض عنا غبار الذل والوهم ، ونُغيّر ما بأنفسنا ليُغيّر الله ما بِنا وما بأمتنا .
إن لم يكن ذلك في أول شهرنا فليكن في آخره..
148-من سير الصالحات (أعجب قصة صبر معاصرة)(2/65)
يرويها الدكتور خالد بن عبد الله الجبير استشاري وجراح أمراض القلب
قال الدكتور حفظه الله :
أجريت عملية لطفل يبلغ من العمر سنتين ونصف ، وبعد يومين وبينما هو جالس بجوار أمه بحالة جيدة ، إذا به يُصاب بنزيف في القصبة الهوائية ويتوقف قلبه لمدة 45 دقيقة وتتردى حالته ، ثم أتيت إلى أمه فقلت لها : إن ابنك هذا أعتقد أنه مات دماغياً .
أتدرون بماذا ردّت عليّ ؟
قالت : الحمد لله . اللهم اشفه إن كان في شفاءه خيراً له .
وتركتني .
كنت أنتظر منها أن تبكي ! أن تفعل شيئا ! أن تسألني !
لم يكن شيء من ذلك .
وبعد عشرة أيام بدأ ابنها يتحرك
وبعد 12 يوما يُصاب بنزيف آخر كما أصيب من قبل ، ويتوقف قلبه كما توقّف في المرة الأولى .
وقلت لها ما قلت لها
وردّت عليّ بكلمتين : الحمد لله .
ثم ذهبت بمصحفها تقرأ عليه ، ولا تزيد عليه .
وتكرر هذا المنظر ستّ مرّات
وبعد شهرين ونصف ، وبعد أن تمّت السيطرة على نزيف القصبة الهوائية
فإذا به يُصاب بخرّاج في رأسه تحت دماغه لم أرَ مثله .
وحرارته تكون في الأربعين وواحد وأربعين درجة
قلت لها : ابنك الظاهر إنه خلاص سوف يموت
قالت : الحمد لله . اللهم إن كان في شفاءه خيراً فاشفه يا رب العالمين .
وذهبت وانصرفت عنّي بمصحفها
وبعد أسبوعين أو ثلاثة شفا الله ابنها
ثم بعد ذلك أصيب بفشل كلوي كاد أن يقتله
فقلت لها ما قلت
فقالت : الحمد لله . اللهم إن كان في شفاءه خيراً له فاشفه .
وبعد ثلاثة أسابيع شفاه الله من مرض الكلى
وبعد أسبوع إذا به يُصاب بالتهاب شديد في الغشاء البلوري حول القلب ، وصديد لم أرَ مثله
فتحت صدره حتى بان وظهر قلبه ليخرج الصديد
فقلت لها : ابنك الظاهر ها المرة ما فيه أمل !
قالت : الحمد لله .
وبعد ستة أشهر ونصف يخرج ابنها من العناية المركزة
لا يرى .
لا يتكلّم .
لا يسمع
لا يتحرّك
كأنه جثة هامدة
وصدره مفتوح ، وقلبه يُرى إذا نُزِع الغيار .
وهذه المرة لا تعرف إلا ( الحمد لله )(2/66)
وإذا كان واحد منكم سألني عن ابنها فهي قد سألتني !
أبداً ! ستة أشهر ونصف لم تسألني سؤال واحد عن طفلها
وبعد شهرين ونصف ... ماذا حدث ؟؟
خرج ابنها من المستشفى يسبقها مشيا سليما معافى ، كأنه لم يُصب .
لم تنته القصة ... لم تنته القصة ... لم تنته القصة
فكان العجب بعد سنة ونصف
أن أخبرني ( السكرتير ) فقال : هناك امرأة ورجل وطفلان يُريدون أن يُسلموا عليك
جئت ، وإذا به زوج تلك المرأة الذي كلما أراد أن يتكلّم ويسألني قالت : اتركه .. توكّل على الله .
لم تسيطر على نفسها فقط ولكنها سيطرت على زوجها ؛ لأنها رمت حبالها وتوكلها وتذللها وانطراحها بين يدي الحي الذي لا يموت الذي يُحيي العظام وهي رميم .
رأيت ذلك ( مريضي هذا ) وقد أصبح ذو الأربع سنوات ، وعلى كتفها طفل عمره ثلاثة أشهر تقريبا
قلت لزوجها مازحا : ما شاء الله هذا رقم 10 وإلا 12 ! ( من بين الأولاد )
فضحك وقال
اسمعوا ما قال
قال : يا دكتور هذا الثاني !
لأننا بقينا ( 17 سنة ) في عقم نبحث عن علاج فرزقنا الله هذا الولد ثم ابتلانا به
فرزقنا ربي الشفاء فهو المنان الكريم ..
امرأة تنتظر 17 عاما وتذهب إلى بلاد العالم للعلاج ثم يأتيها طفل كهذا ثم يُصاب بما يُصاب ثم تصبر .
أتدرون من احترمها ؟؟؟
أتدرون من يأتي لها بالأكل والشرب ؟؟؟
إنهنّ الممرضات الكافرات !
لأنهن يحترمنها ويهبنها
لأنها – كما قالت إحدى الممرضات – :
هذه امرأة عندها مبادئ !
عندها قوة شخصية
ولكن الممرضة لم تعرف أن عندها قوة إيمان
انتهت القصة .
======
بقي أن نتأمل في هذه القصة التي ذكرها الدكتور
العجب الذي لا ينقضي أن هذه المرأة تعيش بين أظهرنا في زمان الماديات
والأعجب من ذلك هذا الصبر العجيب
والعجب الذي لا ينقضي أن هذا الطفل لم يأت إلا بعد معاناة سبعة عشر عاماً
ثم تُبتلى هذا الابتلاء ، وتصبر هذا الصبر
فـ لله درّها ما أعظم إيمانها بالله
و لله درّها ما أصبرها(2/67)
ولله درّها ما أبلغ قصتها من قصة
وما أكبرها من موعظة
==========
المرجع شريط بعنوان : الوقاية من أمراض القلوب للدكتور خالد الجبير .
==========
[[ كتبت القصة بأسلوب ولفظ الدكتور مع تصرّف يسير في بعض المواطن والكلمات ]]
149-ما سالمناهن منذ حاربناهن..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما سالمناهن منذ حاربناهن ، ومن ترك شيئا منهن خيفة فليس منا . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وفي رواية : ما سالمناهن منذ حاربناهن ، يعني الحيات .
وقال عليه الصلاة والسلام : خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم : الفأرة والعقرب والحديا والغراب والكلب العقور . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : خمس فواسق يُقتلن في الحل والحرم : الحية والغراب الأبقع والفارة والكلب العقور والحديا . رواه البخاري ومسلم .
أما إني لا أُريد الحديث عن الحيّات ولا عن العقارب
ولكني أريد الحديث عن أشباههن من بني البشر ، بل ربما كانوا أشدّ سُمّية منهن !!
أولئك الذين إن لَدَغُوا أماتوا !
وإن لَسَعُوا قتلوا !
ليس لهم أمان
ولا يعرفون العهود والمواثيق إلا إذا كانت تصب في بحر مصالحهم !
( لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ )
ربما تُسالِم الحيّات والعقارب ولا يُسالِمون !
وربما تحوّل الوحش المفترس إلى حيوان أليف ولا يتحوّلون
وربما تخلّى الطائر الكاسر عن طبعه ولا يتخلّون
وليس هذا مثار العجب فهذا طبع تأصّل فيهم ، وأمر توارثوه كابراً عن كابر !
ولكن العجب من أقوام يُريدون مُسالَمة هذه الأفاعي !
150-ما بال أم الدرداء مُتبذّلة ؟
دعونا ندخل بعض بيوت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم لنرى طرفاً من العشرة الزوجية فيها !
لندخل أولاً بيت ذلك العابد الزاهد ، أعني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .(2/68)
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : أنكحني أبي امرأة ذات حسب ، فكان يتعاهد كَنَّتَهُ فيسألها عن بعلها ، فتقول : نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا ، ولم يَفْتش لنا كَنَفاً مذ أتيناه ! فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : القني به .
قال عبد الله : فلقيته بعد .
فقال :كيف تصوم ؟
قلت : كل يوم .
قال : وكيف تختم ؟
قلت :كل ليلة .
قال : صم في كل شهر ثلاثة ، واقرأ القرآن في كل شهر .
قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك .
قال : صم ثلاثة أيام في الجمعة .
قلت : أطيق أكثر من ذلك .
قال : أفطر يومين ، وصم يوما .
قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك .
قال : صم أفضل الصوم صوم داود ، صيام يوم وإفطار يوم ، واقرأ في كل سبع ليال مرّة .
قال عبد الله : فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري ومسلم .
و( كنّته ) أي زوجة ابنه .
وقوله صلى الله عليه وسلم : صُم ثلاثة أيام في الجمعة : أي في الأسبوع .
وقولها : لم يفتش لنا كنفاً : أي لم يكشف لنا ستراً ، وهو كناية عن عدم إعطائها حقها من المعاشرة .
وفي رواية للشيخين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألم أُخبر أنك تصوم النهار ، وتقوم الليل ؟
قال : فقلت : بلى يا رسول الله .
قال : فلا تفعل . صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقّأً ، وإن لعينك عليك حقّاً ، وإن لزوجك عليك حقّاً ، وإن لزورك عليك حقّاً .
ومعنى ( لزورك ) : أي زائرك .(2/69)
وفي رواية قال رضي الله عنه : زوّجني أبي امرأة من قريش ، فلما دخلت على جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة ، فجاء عمرو بن العاص إلى كنّته حتى دخل عليها ، فقال لها : كيف وجدت بعلك ؟ قالت : خير الرجال - أو كخير البعولة - مِنْ رجل لم يَفتش لنا كَنَفَاً ، ولم يعرف لنا فراشا ، فأقبل عليّ فعذلني وعضّني بلسانه ، فقال : أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فَعَضَلْتَها وفعلتَ وفعلتَ ، ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني ، فأرسل إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته ... الحديث . رواه الإمام أحمد .
ومعنى ( عضّني ) أي شدّد علي القول .
فهذا عبد الله لم يُعذر في عدم إعطاء أهله حقّهم وإن كان يشتغل بالعبادة والطاعة والقُربة
ولم يُغفل عمرو بن العاص رضي الله عنه زوجة ابنه بل تعاهدها وسألها عن ابنه وتعامله وخُلُقه
وهذه سُنة مفقودة ، بل هي من هدي أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يجيء إلى بيت إسماعيل فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بِشرّ ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه .
قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له يُغيّر عتبة بابه .
فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟
قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة .
قال : فهل أوصاك بشيء ؟
قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غيّر عتبة بابك .
قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ! الحقي بأهلك ، فطلقها وتزوج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا .
قال : كيف أنتم ؟
وسألها عن عيشهم وهيئتهم .
فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله .(2/70)
فقال : ما طعامكم ؟
قالت : اللحم .
قال : فما شرابكم ؟
قالت : الماء .
قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذ حب ، ولو كان لهم دعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه .
قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريه يُثبت عتبة بابه .
فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟
قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير .
قال : فأوصاك بشيء ؟
قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك .
قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ! أمرني أن أمسكك . رواه البخاري .
وفرق بين تعاهد زوجة الابن وسؤالها عن زوجها وعن معاملته وأخلاقه ، وبين تحريض الابن على امتهان كرامة زوجته ! وأن لا تُعطى شيئا من حقوقها !
ما بال أم الدرداء مُتبذّلة ؟
زار سلمان الفارسي رضي الله عنه أخاه أبا الدرداء رضي الله عنه فما وجده لكنه وجد أم الدرداء وهي متبذِّلة ، فسألها عن شأنها .
فقالت : أخوك أبو الدرداء ليس له بنا حاجة في الدنيا !
فجاء أبو الدرداء ، فصنع له طعاما .
فقال له : كُل .
قال : فإني صائم .
قال : ما أنا بآكل حتى تأكل . قال : فأكل .
فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال : نَم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَم فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَم .
فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قُم الآن ، فَصَلَّيَا .
فقال له سلمان : إن لربك عليك حقّا ، ولنفسك عليك حقّا ، ولأهلك عليك حقّا ، فأعطِ كل ذي حق حقّه ، فأتى أبو الدرداء النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان . رواه البخاري .
ومعنى ( متبذّلة ) أي لابسة ثياب البذلة وهي المهنة ، أي أنها تاركة الزينة . وعرّضت عن إعراض زوجها عنها بقولها : أخوك أبو الدرداء ليس له بنا حاجة !(2/71)
قال ابن حجر : وفيه جواز النهى عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يُفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور . انتهى .
فانظر إلى فقه هذا الصحابي الجليل - أعني سلمان رضي الله عنه - كيف قدّم الحقوق والواجبات على النوافل من صيام النهار وقيام الليل ، وما ذلك إلا لأن حق الأهل أولى ، وهو ما أقرّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكيف بمن يضيع الأوقات في السهر على المحرمات ، ويترك الحقوق والواجبات ؟!
إذا المسألة مُوازنة بين الحقوق والواجبات
وإذا تعارضت حقوق الخلق مع نوافل الطاعات قُدّمت حقوق العباد على نوافل الطاعات .
والأمر يحتاج إلى موازنة
وكثير من الناس بحكم رفع الحرج والكلفة بينه وبين زوجته وأولاده يُعطيهم فضلة وقته – هذا إن فضُل لهم فضلة ! –
فتُنهك قواه في عمله
وتنتهي طاقته في وظيفته
وربما انتهى وقته مع رفقته
ثم يأتي ليُلقي جسداً مُتعباً مُنهكاً - كأنه خشبة – يُلقيه على فراشه
وربما لا يرى أولاده إلا في المناسبات
أحدهم اشتغل في الدعوة إلى الله في السجون حتى ذهب عامة وقته فيها ، فلا يأتي إلى بيته إلا وقد نام الجميع !
فقال له أحد أبنائه يوماً : يا أبي ! هل تُريدنا ندخل السجون حتى ترانا ؟!
فانتبه الأب ، والْتفتْ إلى زوجته وأولاده وأعطاهم بعض حقوقهم
والبعض الآخر يقول : أولادي يعذرونني !
ثم إذا أهملهم فوقعوا في مصيبة أو زلّت بهم القدم لم يعذرهم بل يُلقي باللوم واللائمة عليهم !
وهو الأولى بأن يُلام
وهو حقيق بأن يوبّخ
وأن يُقال له :
إن لربك عليك حقّا ، ولنفسك عليك حقّا ، ولأهلك عليك حقّا ، فأعطِ كل ذي حق حقّه .
وأن يُقال له : إن لجسدك عليك حقّأً ، وإن لعينك عليك حقّاً ، وإن لزوجك عليك حقّاً ، وإن لزورك عليك حقّاً .
151-ما الذي بالله غرّك ؟
لا بُد أنك نمت !
فإن لم تكن البارحة فليلة قبلها(2/72)
هل غلبك النّوم يوما من الأيام أو ليلة من الليالي ؟
هل رأيت كيف سلطانه عليك ؟
فالنوم أقوى منك ، ومع ذلك هناك ما هو أقوى منه !
سُئل عليٌّ رضي الله عنه : أي الخلائق أشدّ ؟
فقال : أشد خلق ربك عشرة :
الجبال الرواسي ، والحديد تنحت به الجبال ، والنار تأكل الحديد ، والماء يطفئ النار ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يعني يحمل الماء ، والريح تقل السحاب ، والإنسان يغلب الريح يعصمها بيده ويذهب لحاجته ، والسُّكر يغلب الإنسان ، والنوم يغلب السكر ، والهم يغلب النوم فأشد خلق ربكم الهمّ . اهـ .
فـ ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ؟
أغرّك حلمه عليك ؟
فاتق إمهاله ثم أخذه
أم غرّك سمعك ؟
فهناك من هو أقوى منك سمعاً !
أما علمت أن البهائم التي سُخّرت لك تسمع ما لا تسمعه أنت ؛ من عذاب القبر ؟
أم غرّك بصرك ؟
فهناك من الطيور من هو أحدّ بصراً منك .
أما علمت أن الديك يرى ما لا ترى من الملائكة ؟
وأن الحمار والكلب يرى ما لا ترى من الشياطين ؟
قال عليه الصلاة والسلام : إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، فإنها رأت ملكا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنه رأى شيطانا . رواه البخاري ومسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : إذا سمعتم نباح الكلاب ونهاق الحمير من الليل فتعوذوا بالله ، فأنها ترى ما لا ترون . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فما الذي غرّك ؟
أغرّتك قوتك ؟
فهناك من الدوابّ ما هو أقوى منك وأسرع !
قال ابن حزم : فالعاقل لا يغتبط بصفه يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد ، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات ، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة .(2/73)
فمن سُرّ بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن النّمر أجرأ منه ، وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه ، ومن سُرّ بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً ، ومن سُرّ بحمله الأثقال فليعلم أن الحمار أحمل منه ، ومن سُرّ بسرعة عَدْوِه فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه ، ومن سُرّ بحسن صوته فليعلم أن كثيراً من الطير أحسن صوتاً منه ، وأن أصوات المزامير ألذّ وأطرب من صوته . فأي فخرٍ وأي سرور في ما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه ؟ اهـ .
أغرّك أنك ذو حسب أو مال ؟
فأنت هكذا وُلدت من غير منك ولا قوة
والمال مال الله ، فليس لك حذق في جمعه ، ولا قوة في كسبه .
فمن ظن أن الرزق يأتي بقوة *** ما أكل العصفور شيئا مع النسر !
أم غرّك أن الله أملى لك وأمهل ، فظننت أن هذا لصلاح فيك ؟
قال ابن القيم في قول الله تعالى : ( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ )
قال رحمه الله : فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك ولكن ظن أنه لكرامته عليه فالآية على التقدير الأول : تتضمن ذم من أضاف النعم إلى نفسه وعِلْمِه وقوَّتِه ، ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه ، وذلك محض الكفر بها ، فإن رأس الشكر الاعتراف بالنعمة وأنها من المنعم وحدَه ، فإذا أضيفت إلى غيره كان جَحْداً لها ، فإذا قال : أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك ، فقد أضافها إلى نفسه وأعجب بها ، كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا : من أشد منا قوة ؟! فهؤلاء اغتروا بقوّتهم ، وهذا اغتر بعلمه فما أغنى عن هؤلاء قوتهم ، ولا عن هذا علمه .(2/74)
وعلى التقدير الثاني : تتضمن ذم من اعتقد أن أنعام الله عليه لكونه أهلا ومستحقا لها ، فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها على الله أن ينعم عليه .
وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره ، فقد جعل سببها ما اتصف به هو لا ما قام بربه من الجود والإحسان والفضل والمنة ، ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له أيشكر أم يكفر ، ليس ذلك جزاء على ما هو منه ، ولو كان ذلك جزاء على عمله أو خير قام به فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك السبب فهو المنعم بالمسبب والجزاء والكلُّ محضُ منَّتِه وفضلِه وجودِه ، وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير . وعلى التقديرين فهو لم يُضِفْ النعمةَ إلى الرب من كل وجه ، وإن أضافها إليه من وجه دون وجه ، وهو سبحانه وحده هو المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم وأسبابِها . فأسبابُها من نِعمِه على العبد ، وإن حصلت بكسبه فكسبُه من نعمِه . فكل نعمة فمن الله وحده حتى الشكر ، فإنه نعمة ، وهي منه سبحانه ، فلا يطيق أحد أن يشكره إلا بنعمته ، وشكرُه نعمةٌ منه عليه ، كما قال داود صلى الله عليه وسلم : يا رب كيف أشكرك ، وشكري لك نعمه من نعمك عليّ تستوجب شكراً آخر ؟. فقال : الآن شكرتني يا داود . ذكره الإمام أحمد . والمقصود أن حال الشاكر ضد حال القائل : (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ) .انتهى كلامه رحمه الله .
يا أيها الإنسان ما الذي بالله غرّك ؟
أغرّك أنك فعلتَ وفعلت ، وأنفقت وتصدّقت ؟
قال جل جلاله : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ )
سمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل : فعلت إليك ، وفعلت ، فقال له : اسكت ! فلا خير في المعروف إذا أُحصِي .
أغرّك أن الله يراك على المعصية ، بل وتُقيم عليها الدهور ، وهو يحلم عليك ، ويمهلك ، بل ويَقْبلك إن رجعت ؟(2/75)
أغرّك أن ربك واسع المغفرة فطمعت في رحمته وبحبوحة جنته دون عمل ؟
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت ، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة ، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف ، إن قصّروا قالوا : سنبلغ ، وإن أساؤوا قالوا : سيُغفر لنا ! إنا لا نشرك بالله شيئا . رواه الدارمي .
ما الذي بالله غرّك وهل نسيت أصلك ؟
بزق النبي صلى الله عليه وسلم في كفِّه ثم وضع أصبعه السبابة . وقال : قال الله : ابن آدم أنّى تعجزني ، وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي ، قلت : أتصدق ، وأنّى أوانُ الصدقة ؟ رواه الإمام أحمد ، وهو حديث صحيح .
ويوم القيامة يوبّخ أقوام على طول آمالهم فيُقال لهم : ( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ )
وغرّتكم الأمانيّ :
مَنّتْهم أنفسُهم اللحوق بسيد الشهداء وهم قعود بلا عمل !
قال القرطبي في تفسيرها :
وغرتكم الأماني : أي الأباطيل ، وقيل طول الأمل .
وقال ابن كثير :
قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذّات والمعاصي والشهوات .
وتربصتم : أي أخّرتم التوبة من وقت إلى وقت .
وقال قتادة : وتربصتم بالحق وأهله ، وارتبتم أي بالبعث بعد الموت .
وغرتكم الأماني : أي قلتم سيُغفر لنا .
وقيل : غرتكم الدنيا حتى جاء أمر الله ، أي مازلتم في هذا حتى جاءكم الموت .
وغركم بالله الغرور : أي الشيطان .
وقال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان ، والله مازالوا عليها حتى قذفهم الله في النار . انتهى
فاحذري يا نفس من خدعة الشيطان ، ومن التسويف .
احذري مِن " سوف " و " لعل " فهي لا تُثمر سوى الحسرات .
قال ابن الجوزي رحمه الله :(2/76)
أحكم القوم العِلم فَحَكَم عليهم بالعمل ، فقاطعوا التّسويف الذي يقطع أعمار الأغمار . اهـ .
كان يحيى بن معاذ يقول : إن قال لي يوم القيامة : عبدي ما غرك بي ؟ قلت : إلهي برّك بي .
فيا رب أنت تعلم ما غرّنا غير سعة حلمك وجودك وكرمك .
فيا من ستر القبيح ، ويا من أظهر الجميل ، استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، ولا تجعلنا من المغرورين الذين غرّتهم الحياة الدنيا وغرّهم بالله الغرور .
152-ما الذي أغضبك أبا بحر ؟!
أبا بحر عهدتك حليما غاية في الحِلم
بل عهدتك يُضرب بحلمك المثل
ألست إذا غضبت غَضِب لغضبك مائة ألف من قومك لا يدرون فيمَ غضبتَ ؟
لأنهم يعلمون أنك لا تغضب إلا إذا بلغ السيل الزُّبى
بل إنك لُطمت فما غضبت
فما بالك اليوم غضبت فأغلظت القول لجلسائك ؟
أبو بحر هو الأحنف بن قيس رحمه الله
أتدرون لِمَ غضِب ؟
لأن مجلسه أصبح كمجالسنا اليوم !
لأن مجلسه أصبح وصفاً لشهوات النفس المباحة
فكيف لو كان وصفا للشهوات لمحرّمة ؟؟
جلس الأحنف بن قيس مجلساً فكثر فيه ذكر شهوات البطن والفرج ، فقال لجلسائه : جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام ، إني أبغض الرجل يكون وصّافاً لفرجه وبطنه .
والمقصود بذلك الإسفاف في الحديث الذي ينبغي أن تُصان عنه المجالس .
وأسوأ ما يكون الإسفاف إذا كان بحضرة صغار السنّ الذين ربما نقلوا بعض الكلام للنساء أو لمعلميهم !
والطفل وإن لم يتكلّم في حينه إلا أنه يُخزّن تلك المعلومات ! وربما سأل عنها أو عن بعضها في موقف لا يُحسد عليه الأب ، حتى يتصبب عرقاً !
إيهٍ أبا بحر غضبتَ وحُق لك أن تغضب
غضبت وكنت بطئ الغضب ولا تُغضب إلا في موضع يستحق الغضب
نَهَرْتَ وكُنت لا تَنْهَر
أين أنت أبا بحر عن بعض مجالسنا ؟
أين أنت عنها يوم أن طغى حديث عقار " الفياجرا " عليها ؟!
أين أنت منها يوم لا يكون الذِّكر للنساء أو للطعام ، بل ربما للسوءات ؟
وإني لأحسب أن مجالس بعض النساء لا تخلو من بعض ذلك(2/77)
حتى قيل لي : إن في بعض الأُسر المترفة يكون حديث النساء في المباهاة بالسائقين وجمالهم !
ولو شهدهن الأحنف لقطع ألسنتهن !
ولكن الله صانه عن مثل هذه الرذائل .
وأسوأ ما يكون ذلك الحديث الذي تُقضى به المجالس وتُقطع به الأوقات – أسوأ ما يكون – إذا كان لنشر أسرار الحياة الزوجية ، خاصة منها ما يقع بين الزوج وزجه .
خطب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على الرجال فقال : هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه ، وألقى عليه ستره واستتر بستر الله . قالوا : نعم . قال : ثم يجلس بعد ذلك فيقول : فعلت كذا ، فعلت كذا ؟ فسكتوا . فأقبل على النساء فقال : هل منكن من تُحدِّث ؟ فسكتن ، فَجَثَتْ فتاة كعاب على إحدى ركبتيها ، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها ، فقالت : يا رسول الله إنهم ليتحدثون ، وإنهن ليتحدثنه . فقال : هل تدرون ما مثل ذلك ؟ فقال : إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطانا في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون إليه . رواه أبو داود .
فللبيوت أسرار
وبين الزوج وزوجه أسرار
ثم إن هذا التحدّث ربما أغرى بعض السفهاء وضعاف الإيمان بالمرأة الموصوفة
ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تصف المرأة الأجنبية لزوجها
فقال عليه الصلاة والسلام : لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها . رواه البخاري .
أي لا تصفها لزوجها فتقع من قلبه موقعاً فيُفتن بها .
أخيراً :
لا أعني مُجرّد ذِكر النساء في المجالس ، فالمرأة هي الأم والأخت والزوجة
وهن رياحين الدنيا
إن النساء رياحين خُلقن لكم = وكُلكم يشتهي شم الرياحين
153-لو جاز مجازاً عدّه انتصاراً !
لو جاز مجازاً أن يُعدّ انتصارا ً ما قامت به وما تقوم به دولة الصليب سواء في أفغانستان أو في العراق ، لو جاز عدّه انتصاراً لعُدّت الهزائم انتصارات !
لقد خرجت أمريكا تجرّ أذيال الهزيمة من لبنان بعد أن واجهت أمريكا فتاة انتحارية !(2/78)
وانسحبت تسحب ذيول الخيبة من فيتنام !
وعادت أدراجها لم تُحقق شيئا يُذكر في دولة فقيرة جياع أهلها ، عادت من الصومال دون أن تُقيم دولة أو توجد أمناً .
وتركت شرذمة من جنودها في أفغانستان ولملمت أوراقها ، وحاولت إخفاء هذه السوأة بإحداث معارك بأسباب مفتعلة !
وهكذا تثبت أمريكا - في كل مرة تخوض فيها غمار معركة – تُثبت أنها ضعيفة !
كيف تقول : إنها ضعيفة ، وهي أقوى دولة ؟
أقول : إنها ضعيفة ؛ لأنها لم تُحقق نصراً يُذكر ، بل لم تُحقق شيئا إلا عن طريق الخيانات !
ولو لم توجد طوابير ابن أُبيّ في أفغانستان أو في العراق لم تُحقق أمريكا شيئا من ذلك .
والمتأمل في أفعالها يجدها تخبط خبط عشواء !
تضرب يميناً وشمالاً
تقصف بيوت الآمنين
وتهدم المستشفيات على المرضى
وتقتل الأطفال
وهذا بحدّ ذاته يُعدّ ضعفاً وعجزا
بل إن قوتها قامت على عجز كهذا العجز
فكيف فعلت بـ " هيروشيما " ؟
لما كلّت وملّت وعجزت وسُقط في يدها عمدت إلى القنبلة النووية فألقتها على اليابان !
فاستعملت ما تنقمه على غيرها ! حيث استخدمت أسلحة الدمار الشامل !
لو كانت في موقف القوي المنتصر لما احتاجت لكل هذا التّخبّط
ولما استخدمت آخر ما تستطيع استخدامه من قوة
ولما لجأت إلى الخونة يُمهدون لها الطريق
ولما قتلت بعض أفرادها بسلاحها !
ولما سقطت صواريخ " باتريوت " على مساكن ضباطها !
من حيث تُريد أن تُدافع عنهم !
إننا بحاجة إلى كشف هذه الحقائق لنزع الرعب الذي زرعته أمريكا في قلوب الناس
لقد زرعوا في قلوب أُناس أنها قادرة على قتل الفأر في جحره !
لقد زرعوا ذلك حتى صارت قلوب أُناس تنفر من صفير الصافر !
وحتى لكأن قلوبهم في جناحي طائر !
حتى قيل : إن كل ولاية من ولايات أمريكا عبارة عن دولة !
لقد أوشك القائل أن يقول : لا طاقة لنا بـ " بوش " وجنوده !
وهؤلاء لهم سلف ، فقد قيل : ( لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ )(2/79)
فكان رد الفئة المؤمنة : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )
وقد قال المرجفون لما رأوا الأحزاب وقوّة المشركين : ( مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُورًا )
ويُخبر سبحانه وتعالى عن فرقة منهم : ( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ )
ثم يكشف الله عز وجل عن دخائل نفوسهم : ( وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَارًا )
وأما المؤمنون فإنهم لما رأوا الجمع وكثرته ازدادوا إيماناً
( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا )
ولما هُددوا بجمع الجموع ، وحشد الجيوش كان الردّ ( حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )
نعم
الله مولانا ولا مولى لهم
الله ناصرنا ولا ناصر لهم
ويجب أن لا نُغفل حقيقة شرعية ، وسنة كونية
وهي أننا لا نُقاتِل عدوّنا بعدد ولا بعدّة
بل نُقاتلهم بدين الله عز وجل ، بالإيمان بالله عز وجل ، باجتناب أسباب سخطه وغضبه .
قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يوم مؤتة : يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون ؛ الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، إنما نقاتلهم بهذا الدّين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور ، وإما شهادة .(2/80)
وحدّث عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال : حدَّثني حرسي معاوية أنه قدم على معاوية بطريق من الروم يعرض عليه جزية الروم عن كل من بأرض الروم من كبير أو صغير جزية دينارين إلا عن رجلين : الملك وابنه ، فإنه لا ينبغي للملك وابنه أن يجزيا ، فقال معاوية وهو في كنيسة من كنائس دمشق : لو صببتم لي دنانير جزية حتى تملؤوا هذه الكنيسة ، ولا يجزي الملك وابنه ما قبلتها منكم . قال الرومي : لا تماكرني ، فإنه لا يماكر أحد مكراً إلا ومعه كذب . فقال معاوية : أراك تمازحنى ! قال الرومي : إنك اضطررتني إلى ذلك ، وغزوتني في البر والبحر ، والصيف والشتاء . أما والله يا معاوية ما تغلبوننا بعدد ولا عدة ، ولوددت أن الله جمع بيننا وبينكم في مرج ، ثم خلّى بيننا وبينكم ، ورفع عنا وعنكم النصر حتى ترى ! قال معاوية : ما له قاتله الله ! إنه ليعرف أن النصر من عند الله .
فهذا النصراني – وهو عدو للمسلمين – يعلم أن المسلمين لا يُقاتِلون بعدد ولا بِعدّة !
فهل يكون النصراني أفقه من بعض المسلمين .
ولم نُقاتل عدونا بكثرة عدد إلا في موطن واحد ، ومع ذلك كانت الكثرة هي سبب النكوص
وإنما أُتي الجيش من كثرة عدده
( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) الآيات .
فنحن بحاجة إلى مراجعة حساباتنا
وإلى النظر إلى القوة الحقيقية لا إلى القوة المادية وما أُحيط بها من هالة إعلامية !
154-لماذا هذا الفرنسي يتمسّح بغترتي ؟!!
في رمضان من عام 1421 هـ
كنت أسير في أحد شوارع مدينة " استراسبورغ " الفرنسية بثيابي البيضاء ! وغترتي البيضاء !!
وكنت إذا سافرت مُشرِّقاً أو مُغرِّباً سافرت بثيابي المعتادة ، وذلك لعدة اعتبارات :
1 – تميّز المسلم عن الكافر
2 – اعتزاز المسلم بِدِينه(2/81)
3 – مخالفة الكفار
4 – أن الكفار إذا جاءوا إلى بلادنا لم يُغيّروا ملابسهم ؛ فَلِمَ نُغيّر ملابسنا إذا سافرنا إليهم ؟
فكنت أمشي في أحد شوارع تلك المدينة وإذا بي اسمع صوتا التفت أبحث عن مصدر الصوت ، وإذا هو شاب من الناحية الأخرى من الشارع يُشير إليّ بيده ، ويُصوّت : شيخ .. شيخ
أردت أن أعبر الشارع إليه ، فأومأ إليّ بيده أن قف ، فوقفت ثم عبر الشارع إليّ
سلّم عليّ بحرارة كأنه إلف يعرفني منذ زمن !
أخذني بحضنه !
قال : من بلاد الحرمين ؟
قلت : نعم
أخذ طرف غترتي وضعه على وجهه ! .. أخذ يشمّها !
مسح بها وجهه !!
قلت له : ماذا تصنع ؟
قال : بركة !
ولم أٌقِرّه على فعله ذلك .
سألته عن اسمه ، فأخبرني
سألته عن جنسيته
فقال : وُلِدت في فرنسا وأحمل الجنسية الفرنسية
سألته عن أصله
قال : من بلاد المغرب العربي " من الجزائر "
سألته : مسلم أنت ؟
قال : نعم
قلت : لم أرَك في المسجد رغم قُرب المسجد
قال : أستغفر الله يا ربي ! ما نِيّاش صايم !
قلت : هذا عذر أقبح من ذنب !
سألته : لماذا ؟
قال : وقع لي حادث فما صمت أول الشهر !
أخذ يحاول إقناعي بأنه مسلم !
قال : جدي مسلم ومجاهد
ثم أردف قائلا : قاوم الاحتلال الفرنسي .. قاتل الفرنسيين ! ثم وقع في الأسر ، فأرادوه على معلومات عن المجاهدين ، فما أعطاهم فلما أيسوا منه ألقوه من طائرة على قمة جبل !
قلت : وأنت مسلم وجدك مجاهد ولا تُصلّي ولا تصوم .. ماذا بقي لك من الإسلام ؟؟
قال : إذا جئت للمسجد تُعطيني مثل هذه ! وأشار إلى الغترة !
قلت : نعم . بشرط أن أراك في المسجد
انصرف الشاب وهو يعدني أن يأتي إلى المسجد وأن يُصلّي .
إن تميّز المسلم بلباسه – لاسيما الداعية – في مثل تلك المجتمعات يُعدّ دعوة صامتة
وذكرني هذا الموقف بموقف آخر يحمل في طياته قوّة الدعوة الصامتة
امرأة عربية سافرت إلى أوربا ، وكعادة بعض نسائنا عندما يُسافرن إلى أوربا يخلعن جلباب الحياء ويتقشّرن ! من ملابسهن(2/82)
سافرت تلك المرأة إلى بلد أوربي ، لبست القصير لتظهر بمظهر ( حضاري ) !
وبينما كانت في أحد الأسواق إذا بها ترى منظراً غريبا في تلك البلاد
ترى امرأة قد غطّت من رأسها إلى أخمص قدميها
لا يُرى منها شعر ولا ظفر
توجّهت المرأة العربية ( المُقشّرة ) ! إلى الأخرى المحجبة
خاطبتها بِحدّة وزجرتها : مثل هذا اللباس تلبسينه هنا ؟
فضحتينا بلباسك !
فشّلتينا !
المرأة المحجبة لم تفهم كلمة واحدة ، لكنها فهمت أنها هي المقصودة بتلك النبرة !
قالت لها بلغة أجنبية : تتكلمين الإنجليزية ؟
قالت : نعم
( تغيّرت لغة الحوار إلى الإنجليزية )
قالت : ماذا كنت تقولين ؟
قالت : ما هذا اللباس ؟ هذا اللباس يُلبس في بلادنا ! أنت هنا في أوربا ! هذا اللباس تخلّف !
ردّت المحجبة بكل هدوء : لكنني لست عربية !
وجاء الجواب الآخر : أنا ألمانية
ونزل الجواب الثالث نزول الصاعقة : وأنا أسلمت منذ ستة أشهر فقط !
صُعقت المرأة العربية ( المُقشّرة )
أصابها ما يُشبه الدوار وهي تسمع تلك الكلمات
كيف ؟
وتوارد سيل من الأسئلة على ذهنها
كيف تمسكت بلباسها وهي لم تُسلم إلا منذ ستة أشهر ؟
كيف تخلّيت عن لباسي الإسلامي ، وأنا التي وُلدت من أبوين مسلمين ؟
كيف .. وأنا التي نشأت في بلد عربي مسلم ؟
كانت تلك الكلمات أقوى من كل موعظة
وتلك الكلمات إنما جرّها تمسّك تلك المسلمة بلباسها
واليوم بعض الرجال وبعض النساء إذا سافروا حرصوا على أن لا يتميّزوا بلباسهم
وأن يلبسوا لباس القوم
ويقول بعضهم : أخشى من المضايقة !
ويقول آخرون : نخشى من الاستهزاء والسخرية !
الجواب في كتاب رب الأرباب : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )
أعرف أحد الدعاة دار أقطار الدنيا !(2/83)
وأظن أنه يندر أن يُسأل عن بلد إلا وقد زاره ، ومع ذلك لم يلبس يوما من الأيام اللباس الإفرنجي !
155-لماذا جلس هذا الرجل في الشمس ؟
هو رجل فريدٌ من نوعِه ... وهو من جيل فريد في جنسه ... جيل تميّز بالامتياز في كل شيء
وهو رجل سبّاق إلى كل خير ... كعادة أبناء ذلك الجيل
رجلٌ يعرف معنى السمع والطاعة ... السمع والطاعة في المنشط والمَكْرَه
طاعةٌ بالمعروف ... لا طاعة عمياء
فما الذي أجلسه في الشمس ؟؟
وما كان الجو شاتياً حتى يطلب الدفء
بل كان حاراً في منطقة حاره
هذا الرجل سَمِعَ المُعلِّم الأول وهو يخطب
سَمِعَهُ يقول : أيها الناس اجلسوا .
فما أن سمِع النداء حتى جلس مكانه فلم يبرح
يا لَهَا مِن طواعية وشدّة امتثال
ويا لَهُ مِن تلميذ نجيب
ويا لَهُ مِن سامع مطيع يمتثل الأمر بالحرف الواحد
بقي أن تعرفوا من هو هذا الرجل
هو لم يكن رجلا واحداً لم يعرف التاريخ له نظير ، بل هو غير واحد
وتأمل ما صحّتْ به الأخبار :
لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على المنبر قال : اجلسوا .
فسمعه ابنُ مسعودٍ فجلسَ على بابِ المسجد .
فرآه النبيُ صلى الله عليه وسلم ، فقال : تعال يا عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ .
أخرجه أبو داود وابن خزيمة والحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
وأخرج البيهقي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فدخل عبدُ الله بنُ رواحةَ فسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : اجلسوا . فجلس خارج المسجد ، فلما علِم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : زادك الله حرصاً على طواعيةِ الله ورسوله .
إذا تأملت هذا فتأمل حالنا وحال كثير من الناس اليوم
كيف هُم يُدعون إلى سُنّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ثم يتردّدون ويتلكئون
يعتذرون بآلاف الأعذار ... لعله كذا .. لعله ليس بواجب .. لعله ...
حضرت يوما من الأيام مجلس أحد كبار العلماء فجاءه رجل يسأله عن مسألة
فقال الشيخ : حرام ، والدليل كذا وكذا .(2/84)
قال السائل : يعني حرام ( قوّة ) يا شيخ ! وإلا شوي !!
تأملت تلك القصة وأنا في صالون حلاقة
فهذا يأتي يعصي ربه ويحلق لحيته وهو يعلم علم يقين ما ورد فيها وفي الحث على إعفاءها .
وذاك قد أتى بأبنائه ليلعب الحلاق بشرهم وشعورهم !
فهذا يُعمل له قصة فرنسية
وذاك قصة غربية غريبة ... وهكذا
مع أنه لا يخفى عليه النهي عن القزع ، وهو حلق بعض شعر الرأس وترك بعضه .
بل لو تأملت أوضاع وأحوال الناس اليوم لرأيت العجب العُجاب
فهذا يزعم أنه لا يستطيع أن يتخلّى عن سيجارته ، فهو أسيرٌ لها .
وآخر يدّعي أنه لا يتعامل بالربا ، مع أنه في قرارة نفسه موقنٌ بأنه " مُرابي "
وثالث مُوغل في الخمر يُصبح ويُمسي عليها ... وهكذا .
أين هؤلاء جميعاً من حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
156-لماذا أدخل أصبعه في جحر العقرب ؟!
هذا أحد العلماء ، وهو كَهْمَس بن الحسن الحنفي البصري .
قال عنه الذهبي : من كبار الثقات
وكان رحمه الله برّاً بأمه ، فلما ماتت حج ، وأقام بمكة حتى مات .
فماذا بلغ من بِرِّه ؟
قيل : إنه أراد قتل عقرب فدخلت في جحر ، فأدخل أصابعه خلفها فضربته ، فقيل له . قال : خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي تلدغها !
تلقّى لسعة العقرب بدلاً من أمه !
إن بر الوالدين من الأعمال الصالحة التي يُتقرّب بها إلى الله كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار ، والقصة في الصحيحين ، وفيها :
فقال واحد منهم : اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبنِ غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع ، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكنَّا لشربتهما - أي يضعفا - فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء .
وإن بر الوالدين مما يبلغ معه العبد المنزلة العالية عند الله(2/85)
بل يبلغ منزلة عند الله بحيث لو أقسم على الله لأبرّ الله قسمه
كما في قصة أويس القرني ، حيث قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم :
يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن ، كان به برص فبَرَأ منه إلا موضعَ درهم له والدةٌ هو بها برٌّ ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل . رواه مسلم .
وكان قال ذلك لعمر رضي الله عنه .
وفي رواية لمسلم : إن خير التابعين رجل يقال له أويس ، وله والدة ، وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم .
وإن برّ الأمهات يبلغ بصاحبه الدرجات العُلى
روى البخاري من حديث أنس بن مالك أن الرُّبيِّع بنت النضر - عمة أنس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ؟ - وكان قتل يوم بدر أصابه سهم - فإن كان في الجنة صبرتُ ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال : يا أم حارثة إنها جنان في الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى .
هو حارثة بن النعمان – رضي الله عنه – ويُقال حارثة بن سراقة ، وترجم الحافظ ابن حجر في الإصابة لاثنين ، بينما رجّح في الفتح أنه واحد .
هذا الرجل أوصلَه برُّه إلى الجنة .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا أدور في الجنة سمعت صوت قارئ فقلت من هذا ؟ فقالوا : حارثة بن النعمان . قال : كذلكم البر . كذلكم البر . قال : وكان أبرَّ الناس بأمِّه . رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين . وهو كما قال .
فما هو البر ؟
سُئل الحسن ما برّ الوالدين ؟
قال : أن تبذل لهما ما ملكت ، وأن تطيعهما في ما أمراك به إلا أن تكون معصية . رواه عبد الرزاق في المصنف .
من أجل هذه الفضائل المجتمعة في بر الوالدين حرص السلف على البر بآبائهم
فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يبرّ ابن صاحب أبيه بعد موت أبيه .(2/86)
فعن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروّح عليه إذا ملّ ركوب الراحلة وعمامةٌ يشد بها رأسه ، فبينا هو يوما على ذلك الحمار إذ مرّ به أعرابي ، فقال : ألست ابن فلان بن فلان قال : بلى فأعطاه الحمار وقال : اركب هذا ،والعمامة أُشدد بها رأسك ، فقال له بعض أصحابه : غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تروّح عليه ، وعمامةً كنت تشدُّ بها رأسك ، فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولِّي ، وإن أباه كان صديقا لعمر رضي الله عنه . رواه مسلم .
وكان أبو هريرة رضي الله عنه من أبرّ الناس بأمه
ومن أجل ذلك بكى الشعراء أمهاتهم
بكى الشعراء آبائهم لِمَا كانوا يرجون من بِرِّهم والإحسانِ إليهم ، ومن أجمل من رثى وبكى والديه الشاعر عمر بهاء الدين الأميري ، وما قالَه في والدَيْه :
أبتي وأمي موئلي ومَناري= بكما اعتزازي في الورى وفَخَاري
يا شعلتين منيرتين أضاءتا = قلبي الفَتِيَّ بأبهجِ الأنوارِ
يا مقلتينِ من الكرى قد فَرّتا = سهراً عليّ مخافةَ الأكدار
ما كنت أحسَبُ قبل تركِ = حِماكُما أني أحبُّكما بذا المقدار
وقال في شأن أمِّه :
أنتِ التي داريتِني فَنَمَوتُ في = أحضان عطفِكِ خاليَ الأكدار
أنتِ التي أنشدتِني لحنَ الوفا = وسهرتِ من أجلي إلى الأسحار
أنتِ التي قبّلتِني وبَسَمتِ لي = وضممتِني وأنا الصغير العاري
أنت التي لقَّنتِني آي الهدى = والحبَّ والإحسانِ واسمَ الباري
أرشدتِنِي ونصحتِني ومنعتِني = وعدلتِ بي عن منهج الأشرار
ولما ماتتْ أمُّه بكاها ورثاها ، فلامُه بعضُ أصحابه ، فقال :
يا صحبُ لا تعذلوني في البكاء وقدْ = فقدتُ أمي ، فقلبي ليس من حجرِ
قلبي قد انتزعت منه حشاشتُه = في فجأةٍ ، والردى لونٌ من القدرِ
ودّعتُها قبل شهرٍ في ارتقابِ غدِ = اللقيا وعِشنا معاً بالروحِ في سفري(2/87)
وعدتُ في لهفةٍ حرّى لأصحبَها = فما لها لا تُناديني : هلا عُمري
ولا تمدُّ يداً نحوي تُعانِقني = ولا تُساءل عما جدَّ من خَبري
وقد حرّم الله أقل ما يكون من العقوق ، وهو كلمة " أف " الموحية بالتّضجّر ، المشعرة بالتذمّر
قال سبحانه وتعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا )
ثم أمر ببرهما والإحسان إليهما فقال : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )
قال مجاهد في قوله تعالى : ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ) قال : إذا بلغا من الكبر ما كان يليان منك في الصغر فلا تقل لهما أف . رواه ابن أبي شيبة .
وقال : حين ترى الأذى وتميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا ولا تؤذهما .
وقال ابن كثير - رحمه الله - : يقول تعالى آمرا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده ، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق . انتهى .
وأمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين ولو كانا مشركين
قال تبارك وتعالى : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا )
قال القرطبي في التفسير : نزلت في سعد بن أبي وقاص فيما روى الترمذي قال : أنزلت فيّ أربعُ آيات فذكر قصة ، فقالت أم سعد : أليس قد أمر الله بالبر ؟ والله لا أطعم طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر . قال فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها .(2/88)
وروي عن سعد أنه قال : كنت بارّاً بأمي فأسْلَمْتُ ، فقالت : لتدعنّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي ، ويقال يا قاتل أمه ! وبَقِيَتْ يوما ويوما ، فقلت : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفساً ما تركت ديني هذا فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي ، فلما رأت ذلك أكلت .
فلا طاعة للوالدين في المعصية .
قال الحسن إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها . علّقه البخاري .
وقال سبحانه وبحمده : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا )
فتأمل الأمر بالإحسان إلى الوالدين ، وإن كانا على الشرك بل وإن كانا يدعوان ابنهما إلى الشّرك
فالإحسان مطلوب وإن كانا على الشرك
قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصِل أمي ؟ قال : نعم ، صِلي أمك . رواه البخاري ومسلم .
ومن هنا ينبغي التنبّه إلى أمر يقع فيه بعض الصالحين أو الصالحات
وهو الغلظة والجفاء في حق الوالدين أو أحدهما إذا كان لديه منكرات أو مُخالفات
وحُجّتهم في ذلك أنه يُنكر المنكر ، وأنه يُغلظ عليه لأجل ما وقع في من مُنكر
فأقول :
إيهما أعظم المنكرات والمخالفات والمعاصي أو الشرك بالله عز وجل ؟
ونحن أُمِرنا أن نُحسن إلى والدينا وإن كان منهما ما كان
ماذا لو تالفت قلب والدك ببرِّه والإحسان إليه ؟
ماذا لو تالّفت قلبه بهدية ؟
ماذا لو تألفت قلب والدتك بعمرة ؟
أو بهدية
أو بزيارة
أليس أولى ؟
أليس أسرع الطرق إلى القلوب هو الإحسان ؟
هل أنت تُريد أن تنتصر لنفسك ؟(2/89)
أم أنك تُريد الهداية لهما وزوال المنكر ؟
إن أولى الناس بحسن الصحبة وطيب المعاشرة هي الأم لما لها من حق عظيم ، ثم الأب
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟
قال : أمك .
قال : ثم من ؟
قال : ثم أمك .
قال : ثم من ؟
قال : ثم أمك ؟
قال : ثم من ؟
قال : ثم أبوك .
كما في الصحيحين .
157-لم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة..
قال كعب بن مالك رضي الله عنه وهو يُحدّث بقصته حين تخلّف عن غزوة تبوك وكان من شأنه ما كان قال :
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه .
قال : فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ، ولا يكلمنى أحد ، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُسلِّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرّك شفتيه بِرَدِّ السلام أم لا ؟ ثم أُصلى قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ - فسلّمت عليه ، فو الله ما ردّ عليّ السلام .
فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله ؟
قال : فسكت .
فعدت فناشدته .
فسكت .
فعدت فناشدته .
فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار ، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيّ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلّ على كعب بن مالك ؟(2/90)
قال : فطفق الناس يشيرون له إليّ ، حتى جاءني فدفع إليّ كتابا من ملك غسان ، وكنت كاتبا فقرأته ، فإذا فيه : أما بعد ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالْحَقْ بنا نواسك .
قال : فقلت حين قرأتها : وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور ، فسجرته بها . رواه البخاري ومسلم .
وهذه أيضا من البلاء !
أي نظر ثاقب نظره ذلك الصحابي لتلك الدعوة ولذلك الإغراء ؟
لقد نظر إليه على أنه فتنة يُراد له أن يترك دينه
وعلى أنه عرض مُقابل دينه
وعلى أنه فتنة برّاقة يذهب معها الدِّين
فعاجلها بالحل العاجل حتى لا يكون له طريق رجعة إليها
عاجلها بالتنّور
توجّه تلقاء التنور فأشعله بها
بأي شيء ؟
برسالة ملك نصراني !
بِعَرْضٍ مغرٍ
بعيش رغيد
ومجالسة ملك من ملوك العرب
ولكن دينه أغلى عليه من الدنيا بأسرها
لم يقبل المساومة على دينه
لم يقبل إقبال الدنيا عليه وقد أعرض عنه الناس ، وتنكّرت له ألأرض .
هكذا ينظر المؤمن إلى البلاء والفتن على أنها امتحان ربّانيّ ، واختبار إلهي
فهل يجتاز الامتحان أو لا ؟
كثيرون هم الذين يجتازون امتحان الضرّاء
وقلّ من يجتاز امتحان السرّاء
ولذا قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : ابتلينا بالضراء فصبرنا ، وابتلينا بالسراء فلم نصبر . رواه عبد الرزاق .
ولربما صبر المسلم في مقابل الشدائد ، واحتسب الأجر
ولكنه قد لا يصبر مقابل الشهوات
قال عطاء : لو ائتمنت على بيت مال لكنت أمينا ، ولا آمن نفسي على أمة شوهاء .
وعندما تُقبل الدنيا رافلة بثياب الرخاء يتساقط أمام النعماء أقوام ، وتظهر حقائق نفوس قوم آخرين !(2/91)
ولذا لما جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم إلى نبيِّهم صلى الله عليه وسلم فوافوا صلاة الفجر معه ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف ، فتعرضوا له ، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال : أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين ؟ فقالوا : أجل يا رسول الله ! قال : فأبشروا وأمّلوا ما يسركم ، فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم . رواه البخاري ومسلم .
الفقر غالبا لا يُغيّر النفوس
بينما الطغيان مرتبط بالغنى
( كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ( 6 ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى )
الشاهد من هذا كلّه أن العبد قد يُبتلى بالسرّاء ، وقد يُبتلى بالضرّاء
( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )
والموفّق من شكر في السّراء
وصبر في الضرّاء
وهذا سوف أبسط القول فيه – بمشيئة الله – في موضوع آخر بعنوان : عجبا لأمر المؤمن .
كما أن هذه القصة مليئة بالعِظات والعِبر لمن وقف أمامها مُستلهما فوائد هذه القصة ..
158-لِمَ لا يَفْرح ؟؟
مَنْ :
أتمّ صيام يوم
وأكمل أداء طاعة
وانتهى مِن عملٍ صالح
وفَرغ من فعل حسنة
وترقّى في مراتب العبودية
وأظمأ نهاره
وصُعد له بعمل طيّب
وذُكِر في الملأ الأعلى
وَوُعِد بدعوة مستجابة بل وُعِد بالجزاء الأوفى
وكان خاتمة عمله فرح وسرور
فنهاية الصيام العتق من النار
وخاتمته يوم الجوائز – يوم عيد من أعياد المسلمين –
من حاز كل هذه الفضائل فـ
( لِمَ لا يَفْرَح ؟؟؟ )
من كان هذا فَرَحه بهذا الإنجاز فـ
لِمَ لا يُضيف إلى رصيده أرصدة ؟
ولِمَ لا يُضيف إلى عمله أعمال ؟
تنفعه حتماً يوم لا ينفع المال .
لِمَ لا يُفطِّر صائما أو صوّاماً يكسب مثل أجورهم .
ومن كان هذا فَرَحه في الدنيا فكيف يكون فرحه في الآخرة ؟(2/92)
كيف يكون فَرَحه عندما يرى الجزاء الأوفى ؟؟
وعندما يرى من الجزاء ما لم يكن في حسبانه ؟؟
وعندما يرى الصيام سياجاً ومَنَعَة وجُنّة من النار ؟؟
ألا يحق له أن يفرح أشد الفرح ؟
ألا يحق له أن يفرح في الدنيا والآخرة ؟
وصدق من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : للصائم فرحتان يفرحهما ؛ إذا أفطر فَرِح بِفِطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه . متفق عليه .
القصيم
الخميس 2/9/1423 هـ
الساعة 2.19 ظهراً
------------------
والطريف في الأمر كتابة هذه الخاطرة .
فقد وجدت ورقة قد رُمِيت على الأرض فأخذتها لأكتب بها رقم هاتف !
فكتبته ثم تواردت عليّ الخواطر فكتبت فيها ثلاث خواطر !
هذه إحداها !
والله يحفظكم ويرعاكم
159-لله درّك مِنْ جَزّار بشري !!!
هل رأيتم جزّاراً يجزر بني آدم ؟؟
هل رأيتم قصّاباً يقطع رؤوس الرجال ؟؟
وهل سمعتم بمن ضحّى بأناس من بني جِلدته ؟؟
ومع ذلك يُمدح ويُثنى عليه !
فيُقال في ترجمته :
" الأمير الكبير "
" وكان جوادا ممدَّحا معظّما عالي الرتبة من نبلاء الرجال "
" وكان كريماً "
حتى قيل فيه :
تَعَرّضْتَ لي بالجُود حتى نَعشْتَني === وأعطيتني حتى ظننتك تلعبُ
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى === حليف الندى ما للندى عنك مَذهبُ
وله أقوال مأثورة
منها :
إن أكرم الناس مَن أعطى من لا يرجوه ، وأعظم الناس عفواً من عَفَا عن قُدرة ، وأوصل الناس من وَصَلَ عن قطيعة .
ومنها :
لا يحتجب الأمير عن الناس إلا لثلاث : لِعَيٍّ ، أو لِبخلٍ ، أو اشتمال على سوءة .
( وله هَنات إلا أنه كان يرجع إلى إسلام ) كما قال الإمام الذهبي .
=========
كريم جواد
جزار بشري
كيف يكون ذلك ؟
أهو اجتماع لمتناقضات أم ماذا ؟
فمن هو هذا لقد شوّقتنا لمعرفته
إن الذي تقرّب إلى الله بذبح الزنادقة على الطريقة الإسلامية
ومن هم الزنادقة ؟؟
هم مَنْ أنكروا معلوماً من الدِّين بالضرورة ؟
فهم شرٌّ من المنافقين(2/93)
فهل لك أن تذكر لنا شيئاً من مآثره في ذلك ؟
نعم
لما كان يوم الأضحى خرج بأحد الزنادقة مقيّداً بالسلاسل فَرَبَطَه في أصل منبره ، فلما فرغ من خُطبته قال : ضَحُّوا تقبّل الله منا ومنكم ، فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم ! زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما . تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم عُلواً كبيرا ، ثم نزل فذبحه !
فـ لِلّه درّك أيها الأمير
إنه أبو الهيثم خالد بن عبد الله القسري
وحدّث أبو بكر بن عياش فقال : رأيت خالداً القسري حين أُتيَ بالمغيرة بن سعيد وأصحابه وكان المغيرة بن سعيد يريهم أنه يحيى الموتى ، فَقَتَلَ خالدٌ واحداً منهم ، ثم قال للمغيرة : أحْيِهِ ، فقال : والله ما أحيي الموتى . قال : لتُحيينّه أو لأضربن عنقك ، ثم أمر بِطَنٍّ من قصب فأضرموه ، وقال : اعتنقه ، فأبى ، فَعَدَا رجلٌ من أتباعه فاعتنقه . قال أبو بكر : فرأيت النار تأكله ، وهو يشير بالسبابة ، فقال خالد : هذا والله أحق بالرئاسة منك ، ثم قتله وقتل أصحابه .
قال الإمام الذهبي بعد أن ساق الخبر المغيرة بن سعيد :
كان رافضيا خبيثا كذابا ساحراً ادّعى النبوة وفضّل علياً على الأنبياء ، وكان مُجسِّما .
ويقصد بذلك المغيرة بن سعيد .
فأين أنت أبا الهيثم ؟؟
لقد ضحّى بمن أنكر خُلّة الرحمن لإبراهيم عليه السلام ، وبمن أنكر تكليم الله لنبيّه موسى عليه السلام
وضحّى بمن زعم أنه يُحيي الموتى
فكيف لو سمع من يسبّ الله جهراً في كتاباته ؟؟؟؟
وكيف لو رأى من يتطاول على دين الله علانية ؟؟؟؟
وكيف به لو رأى من يسُب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُساكنه في مدينته ؟؟؟؟
وكيف به لو سمع من يرمون دين الله بالتخلّف والرجعية ؟؟؟؟
فكم نحن بحاجة إلى أمثالك أبا الهيثم ليقطف رؤوساً قد أينعت وحان قِطافها .
رؤوس أقوام طاب لهم ارتشاف الزندقة !
إننا أحوج ما نكون إلى جزّار زنادقة
لقد بُلينا بزنادقة العصر(2/94)
الذين يُسمّون تارة بـ ( العَلمانيين )
وتارة بـ ( الحداثيين )
يتستّرون تحت شعار الثقافة تارة
وتحت دِثار الصحافة تارات وتارات
يضيقون ذرعاً بالدِّين وأهله
ويتبرّمون من الفرائض والواجبات
وبعض الناس يرمي أمثال هؤلاء بـ ( النِّفاق )
والنِّفاق – على سوءه – منهم براء
فأولى وصفٍ وأصح وصفٍ ينطبق عليهم هو ( الزندقة )
ورضي الله عن حذيفة بن اليمان حينما قال :
إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان . رواه البخاري .
قال ابن التين : كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، وأما من جاء بعدهم فإنه وُلِدَ في الإسلام وعلى فطرته ، فمن كَفَرَ منهم فهو مرتد ، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والمرتدين . انتهى .
قال ابن حجر : والذي يظهر أن حذيفة لم يُرِد نفي الوقوع وإنما أراد نفي اتفاق الحكم ؛ لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر ، ووجود ذلك ممكن في كل عصر ، وإنما اختلف الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتِمَال خلافه ، وأما بعده فمن أظهر شيئا فإنه يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التآلف لعدم الاحتياج إلى ذلك ... انتهى .
ورحم الله ابن أبي حاتم
الإمام أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي حيث قال : علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر ، وعلامة الجهمية أن يُسمّوا أهل السنة مشبهة ونابتة ، وعلامة القدرية أن يُسمّوا أهل السنة مجبّرة ، وعلامة الزنادقة أن يُسمّوا أهل الأثر حشوية يُريدون إبطال الأثر .
يعني يُريدون إبطال السنة النبوية .
فكيف بمن يُسمّون أهل الأثر والتمسّك بالسُّنة : رجعيين ... متخلّفين ... متزمّتين ؟؟؟
اللهم عليك بالزنادقة
اللهم اكفنا شر الأشرار
وجنّبْنَا كيد الفجار
اللهم إنا ندرأ بك في نحور أعداءنا ونعوذ بك من شرورهم .
160-لكي تستفيد من وصية الملأ الأعلى..(2/95)
لكي تستفيد الحجامة من اتبع الخطوات الآتية ...
إليك هذه الوصايا النبوية : ( من صحيح السنة مما صححه محدث العصر الشيخ الألباني – رحمه الله – )
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
- من احتجم لسبع عشرة من الشهر ، وتسع عشرة ، وإحدى وعشرين ، كان له شفاء من كل داء .
- من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر أو تسعة عشر أو إحدى وعشرين ، ولا يتبيّغ بأحدكم الدم فيقتله . ومعنى يتبيّغ : يتردد .
- قال ابن عمر : يا نافع قد تبيغ بي الدم فالتمس لي حجاما ، واجعله رفيقاً إن استطعت ، ولا تجعله شيخا كبيراً ، ولا صبيا صغيراً ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحجامة على الريق أمثل ، وفيه شفاء وبركة ، وتزيد في العقل وفي الحفظ ، فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس ، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت ويوم الأحد تحريا ، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء ، فإنه اليوم الذي عافى الله فيه أيوب من البلاء ، وضربه بالبلاء يوم الأربعاء ، فإنه لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء أو ليلة الأربعاء .
- إن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة .
- ما مررت ليلة أسرى بي بملأ من الملائكة إلا كلهم يقول لي : عليك يا محمد بالحجامة .
- ما مررت ليلة أسرى بي بملأ إلا قالوا : يا محمد مر أمتك بالحجامة .
[ هذه الأحاديث من صحيح الجامع وصحيح سنن ابن ماجه للشيخ الألباني – رحمه الله – ] .
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أمثل ما تداويتم به الحجامة .
وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن كان في شيء من أدويتكم خير ، ففي شربة عسل ، أو شرطة محجم ، أو لذعة من نار ، وما أحب أن أكتوي .(2/96)
وفي صحيح مسلم عن عاصم بن عمر بن قتادة قال : جاءنا جابر بن عبد الله في أهلنا ورجل يشتكي خُرّاجا به أو جراحاً ، فقال : ما تشتكي ؟ قال : خُرّاج بي قد شق عليّ . فقال : يا غلام ائتني بحجام . فقال له : ما تصنع بالحجام يا أبا عبد الله ؟ قال : أريد أن أعلّق فيه محجماً . قال : والله إن الذباب ليصيبني أو يصيبني الثوب فيؤذيني ، ويشقّ عليّ . فلما رأى تبرّمه من ذلك قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن كان في شيء من أدويتكم خير ، ففي شرطة محجم ، أو شربة من عسل ، أو لذعة بنار . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما أحب أن أكتوي . قال : فجاء بحجام فشرطه ، فذهب عنه ما يجد .
فإذا أراد أن يحتجم فليتّبع هذه الوصايا النبوية الكريمة .
ومما يوصى به أن تكون في فصل الصيف كما ذكر ابن القيم لأنه وقت هيجان الدم ، وكذلك الأيام [ 17 – 19 – 21 ] يهيج فيها الدم على ما ذكره ابن القيم – رحمه الله – .
وأذكر أن أحد الشباب أراد أن يحتجم فعبأ معدته ( فُولاً ) ثم احتجَم في وقت الضحى ، فنام يوما كاملا !!
الخلاصة إذا أردت أن تحتجم فانظر في التقويم في الأيام [ 17 – 19 – 21 ] ثم انظر أي يوم يوافق [ الاثنين أو الثلاثاء أو الخميس ] فإذا عيّنت اليوم ، فاحتجم على الريق بعد طلوع الشمس قبل أن تأكل أو تشرب شيئا . فهو أنفع لك .
مواضع الحجامة :
- احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به . رواه البخاري .
- واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخدعين وعلى الكاهل . رواه الإمام أحمد .
- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم على هامته وبين كتفيه ، ويقول : من أهراق منه هذه الدماء فلا يضره أن لا يتداوى بشيء لشيء . رواه أبو داود وابن ماجه ، وصححه الألباني .
- واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم من وثء كان به . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، وصححه الألباني .(2/97)
وعند ابن ماجه ذِكر سبب الوجع ، فقد روى عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه على جذع ، فانفكّت قدمه .
- ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا في رأسه إلاّ قال : احتجم . ولا وجعاً في رجليه إلا قال : أخضبهما . رواه أبو داود ، وحسنه الألباني .
والكاهل : مجتمع الكتفين .
والأخدعان : عرقان في جانبي العنق . [ أفاده ابن الأثير رحمه الله ] .
والهامة : وسط الرأس وأعلاه .
والوثء : الوجع ، وهو وجع يصيب اللحم لا يبلغ العظم ، أو هو وجع في العظم بلا كسر .
وإذا استفدت منها فلا تنس أن تدعو لأخيك بظهر الغيب .
161-لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن..
عندما تُعلن الأمم مبادئها
وتُعلن الدّول دساتيرها
وتُشهر الشعوب عاداتها وتقاليدها
فإننا نُبرز ديننا على أنه دين الكمال
وعلى أنه الدّين الذي كفل للجميع حقوقهم
وأعطى كل ذي حق حقه
إذا تطاول بالأهرام مُنهزمٌ *** فنحن أهرامنا سلمان أو عمر
لقد أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد في التعامل بجميع صوره
تعامل العبد مع ربِّه
تعامل الناس مع بعضهم
تعامل الرجل مع أهله
تعال الرجل مع جيرانه
تعامل الشخص مع أُجرائه
تعامل السيد مع مولاه
تعامل القوي مع الضعيف
ومن هنا أعلن النبي صلى الله عليه وسلم وشدّد على حقوق الضعفاء
فقال :
اللهم إني أحرج حق الضعيفين : اليتيم والمرأة . رواه الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي في الكبرى .
بهذه القوّة
وبهذه الجزالة
يُعلنها عليه الصلاة والسلام
بل ويؤكّدها بمؤكِّدات :
أولها : اللهم الدّالة على القسم
وثانيها : " إن " الدّالة على التوكيد
وثالثها : التحريج وهو التضييق ووضع الحرج على من فعل ذلك
أما لماذا ؟
فلأن هؤلاء ( الأيتام والنساء ) غالبا يكتفهم الضعف(2/98)
فما بالكم بمخلوق خُلق من ضعف ، وهو الرجل ؟ ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ )
ثم خُلق من هذا الضعف مخلوق آخر ؟ ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا )
ولأن الرجل مُحتاج إلى المرأة ، وهي محتاجة إليه ، فلا غِنى لأحدهما عن الآخر .
وما دام كذلك فلا يصلح ولا يليق أن يقع الظّلم من الرجل على المرأة .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لا يجلد أحدكم امرأته جَلْد العبد ، ثم يجامعها في آخر اليوم . رواه البخاري ومسلم .
وبّوب عليه الإمام البخاري رحمه الله :
باب ما يُكره من ضرب النساء وقول الله : ( وَاضْرِبُوهُنَّ ) : أي ضربا غير مبرح .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري :
والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع ميل النفس والرغبة في العشرة ، والمجلود غالبا ينفر ممن جَلَدَه ، فوقعت الإشارة إلى ذمّ ذلك ، وأنه أن كان ولا بُدّ فليكن التأديب بالضرب اليسير، بحيث لا يحصل منه النفور التام ، فلا يفرط في الضرب ، ولا يفرط في التأديب . اهـ .
وفيه إشارة إلى حُسن المعاشرة
وأن يتذكّر الزوج ما كان بينه وبين زوجته
ولذا قال سبحانه وتعالى فيما يتعلّق بالعشرة الزوجية : ( وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ )
وإن تعجب فاعجب لحال أُناس يُعاشر أحدهم زوجته السنوات الطّوال ثم إذا وقع الفراق فكأنه لم يُعاشرها لحظة واحدة !
إن الكلب - وهو الحيوان البهيم – يُساكن القوم فترة من الزمن فيحفظ لهم الودّ !
والضّرب إنما يكون آخر العلاج
فإذا لم تُجْد النصيحة والموعظة فيلجأ إلى الهجر في المضجع ، فإذا لم يُجد ذلك شيئا في الزوجة الناشز فإنه يلجأ حينئذ للضرب(2/99)
ولذا قال العليم الخبير سبحانه وتعالى : ( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا )
وختم سبحانه وتعالى الآية بقوله : ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا )
فإن كان بكم قوّة فالله أقوى منكم
وإن كنتم أكبر من النساء فالله هو العليّ الكبير القادر عليكم ، فتذكّروا ذلك .
ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الموقف العظيم في حجة الوداع أعلن للناس حقوق النساء فقال :
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح . رواه مسلم .
قال عطاء : قلت لابن عباس : ما الضرب غير المُبَرِّح ؟
قال : بالسواك ونحوه .
قال القرطبي في التفسير : أي لا يُدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب . اهـ .
ثم إذا قُدِّر أن الزوج ضرب زوجته فإنه يتجنّب الوجه ولا يُعنِّف ولا يُقبِّح ، ولذا لما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تُطعمها إذ طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبِّح ، ولا تهجر إلا في البيت . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
قال أبو داود : ولا تقبح أن تقول : قبحك الله .
ثم إن ضرب النساء ليس فيه مندوحة ، ولا يُعدّ شجاعة أو قوّة .
وبعض الأزواج أسدٌ في بيته ، نعامة خارجه !
ينطبق عليه قول القائل :
أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة *** فتخاء تنفر من صفير الصافر !(2/100)
ولذا لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء جاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ذئرن النساء على أزواجهن ، فرخّص في ضربهن ، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ، ليس أولئك بخياركم . رواه أبو داود وغيره .
ومعنى ( ذئرن ) : أي اجترأن .
ولما استشارت فاطمة بنت قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خطبها ، فقال : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد . قالت : فكرهته ، ثم قال : انكحي أسامة . فنكحته ، فجعل الله فيه خيراً ، واغتبطت . رواه مسلم . قال النووي : قوله صلى الله عليه وسلم : " أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه " فيه تأويلان مشهوران أحدهما : أنه كثير الأسفار ، والثاني : أنه كثير الضرب للنساء ، وهذا أصح بدليل الرواية التي ذكرها مسلم بعد هذه أنه ضرّاب للنساء .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينصح فاطمة بنت قيس رضي الله عنها بالزواج من أبي الجهم لما عُرف عنه من ضربه للنساء ، والمستشار مؤتَمَن .
أيعجز الزوج العاقل الحصيف أن يُعبّر عما في نفسه بتعابير وجهه ؟!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كَرِهَ شيئاً عُرِفَ ذلك في وجهه .
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها ، وكان إذا كَرِهَ شيئاً عرفناه في وجهه .
قال الإمام النووي : ومعنى عرفنا الكراهة في وجهه ، أي : لا يتكلم به لحيائه بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته . اهـ
ومِن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مما أنكره حتى عُرف ذلك في وجهه .(2/101)
قالت عائشة رضي الله عنها : اشتريت نمرقة فيها تصاوير ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله ، فعرفت في وجهه الكراهية ، فقلت : يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ماذا أذنبت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذه النمرقة ؟ قلت : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسّدها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون ، فيّقال لهم : أحيوا ما خلقتم ، وقال : إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة . رواه البخاري ومسلم .
ولما كان الزوج العاقل يستطيع أن يعيش حياة هنيئة دون اللجوء لضرب حليلته
وكان الضّارب ليس من خيار المسلمين
وكان الضارب لا يُشار بِهِ في النّكاح
ولما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم القدح المعلّى في مكارم الأخلاق
وكان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم
لم يُنقل عنه أو يُذكر أنه ضرب امرأة من نسائه على كثرتهن وكثرة غيرتهن .
قالت عائشة رضي الله عنها : ما ضَرَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نِيلَ منه شيء قطّ فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل . رواه مسلم .
وحق اليتيم يحتاج إلى وقفة أخرى غير هذه الوقفة .
والله تعالى أعلى وأعلم .
162-لقد جئتك بهديّة..
إن خير ما أهدى الصاحب لصاحبه أن يهديه طريق الجنة
وأن يدلّه على عمل صالح يَعظُم به أجره ، وتُكفّر به زلّته
وربما أهدى الأخ إلى أخيه والصاحب إلى صاحبه هدية معنوية فصارت أشهر من عَلَم !
مات ابنٌ لعبد الرحمن بن مهدي ، فجزع عليه جزعاً شديداً حتى امتنع عن الطعام والشراب ، فبلغ ذلك الإمام الشافعي فكتب إليه أما بعد :(2/102)
فَعَزِّ نفسك بما تُعَزِّ به غيرك ، ولتستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك ، واعلم أن أمضى المصائبِ فقْدُ سرورٍ مع حرمان أجر ، فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزر ، وأقول :
إني مُعَزِّيكَ لا إني على طمع = من الخلود ولكن سُنّة الدِّينِ
فما المُعزِّي بباقٍ بعد صاحبه = ولا المُعزَّى ولو عاشا إلى حين
قال : فكانوا يتهادونه بينهم بالبصرة .
وربما سافر الرجل الصالح فبلغه من الخير والأجر ما لم يبلغ صاحبه فقدِم عليه به كخير هدية
قال محمد بن واسع : قدمت مكة فلقيت بها سالم بن عبد الله بن عمر ، فحدثني عن أبيه عن جده عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير . كَتَبَ الله له ألف ألف حسنة ، ورفع له ألف ألف درجة ، وبَنى له بيتا في الجنة .
قال محمد بن واسع : فقدمت خراسان فأتيت قتيبة بن مسلم ، فقلت : أتيتك بهدية ، فحدثته الحديث .
قال : فكان قتيبة يركب في موكبه حتى يأتيَ السوق ، فيقولها ، ثم ينصرف .
قال الذهبي : إسناده صالح غريب . والحديث حسنه الألباني .
هكذا فرح محمد بن واسع بهذا الأجر العظيم فأهداه لذلك القائد العظيم فَعَمِلَ به
وما حمله مكانه من قيادة الجيش والإمارة أن يزهد في ذلك ألجر العظيم
كم نزهد في هذا المليون ( ألف ألف ) ؟
وليس مليوناً واحداً فقط بل أكثر !
" كَتَبَ الله له ألف ألف حسنة ، ورفع له ألف ألف درجة ، وبَنى له بيتا في الجنة "
مليون حسنة
ومليون درجة
وبيتا في جنة عدن بجوار الرحمن
فهل أتيتك صاحبك يوماً بمثل هذه الهدية ؟!
وهاك – الآن – هدية بل هدايا من مثل هدية محمد بن واسع
قال عليه الصلاة والسلام : من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة . قيل : يا رسول الله وما خرفة الجنة ؟ قال : جناها . رواه مسلم .(2/103)
وقال : ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي ، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح ، وكان له خريف في الجنة . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وصححه الألباني .
وهل رأيت أفضل من أن يُصلّي عليك ويدعو لك من لم يعصِ الله طرفة عين ؟
وليس مَلَك ولا عشرة بل من عاد مريضا مُسلماً صلى عليه سبعون ألف ملك !
أرأيت كرامة هذا العمل على الله عز وجل حتى سخر هذا العدد من ملائكته تدعو لك ؟!
ألا يستحق أن يتهاداه الناس بينهم ؟
وكم نزهد في عيادة المرضى وإن كان لهم حق علينا ؟ بل ربما نستثقل هذه الزيارة أو نزور مجاملة !
وخذ هدية أخرى
قال النبي صلى الله عليه وسلم : من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا ، وكان معه حتى يُصلي عليها ويُفرغ من دفنها ، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين ، كل قيراط مثل أحد . رواه البخاري ومسلم .
ماذا لو قيل لك : لك مثل جبل أُحد ذهباً ؟
أكنت تزهد فيه ؟!
ومنازل الجنة تُنال بالأعمال الصالحة
ومُجاوزة الصراط تحتاج إلى مثل هذا القيراط
وخذ ثالثة الهدايا من قول خير البرايا صلى الله عليه وسلم
" أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة ؟
فسأله سائل من جلسائه : كيف يكسب أحدنا ألف حسنة ؟
قال : يُسبح مائة تسبيحة ، فيكتب له ألف حسنة ، أو يحط عنه ألف خطيئة . رواه مسلم .
قال النووي رحمه الله : " أو يحط عنه ألف خطيئة " هكذا هو في عامة نسخ صحيح مسلم " أو يحط " بـ "( أو ) وفي بعضها : ( ويحط ) بالواو ، وقال الحميدي : في الجمع بين الصحيحين : كذا هو في كتاب مسلم " أو يحط " بـ ( أو ) وقال البرقاني : ورواه شعبه وأبو عوانة ويحيى القطان عن يحيى - الذي رواه مسلم من جهته - فقالوا : ( ويحط ) بالواو ، والله أعلم .
وسبق ما يُشبه هذا
وهو هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/56.htm
ومن تأمل السنة وجدها زاخرة بمثل ذلك
فهل تُقبل مثل هذه الهدايا لو أُهديت ، أو يُزهد بها ؟(2/104)
163-لقد أُهديت إليّ وما تحتنا إلا جلد كبش !
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشّا . قالت : أتدري ما النشّ ؟ قال : قلت : لا . قالت : نصف أوقية ، فتلك خمسمائة درهم ، فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه . رواه مسلم .
وخطب عمر رضي الله عنه فقال : ألا لا تغالوا بصداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا ، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه .
قال الإمام النووي رحمه الله : واستدل أصحابنا بهذا الحديث على أنه يستحب كون الصداق خمسمائة درهم ، والمراد في حق من يحتمل ذلك . اهـ .
أمَا لو كانت المغالاة بالمهور مكرمة في الدنيا
ولو كانت المغالاة في المهور تتحقق بها التقوى
لكان أولانا بها سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام
ولكان الأولى بها خيار نساء هذه الأمة .
ولكان الأولى بها خيار الأمة الذين كانوا أحرص الناس على الخير
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة ، فقال : ما هذا ؟ قال : يا رسول الله إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب . قال : فبارك الله لك . أولم ولو بشاة . رواه البخاري ومسلم .
وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بما معه من القرآن
وسبق ذكره هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/123.htm
وهذه سيدة نساء العالمين ، فماذا كان مهرها ؟
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أُهديت فاطمة ليلة أهديت إليّ وما تحتنا إلا جلد كبش .(2/105)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن علياً رضي الله عنه قال : تزوجت فاطمة رضي الله عنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطها شيئا . قال عليّ : قلت : ما عندي من شيء ! قال : فأين درعك الحطمية ؟ قلت : هي عندي . قال : فأعطها إياه . رواه أبو داود والنسائي .
هذا وهي سيدة نساء العالمين ، فكيف بمن دونها ؟!
إن عقلاء القوم اليوم يمهرون النساء العاقلات خمسين ألف تزيد أو تنقص !
لكم أن تتصوّروا أن امرأة عاقلة لا يكفي لتجهيزها أقل من هذا المبلغ !
هذا ونحن نتحدّث عن العقلاء ، أما المجانين ، أصحاب المئين أو الملايين فليس الحديث عنهم !
إن غلاء المهور أمر واقع ، وواقع ملموس ، وظاهرة مُشاهدة
ولسنا نتحدّث عن واقعة عين ، أو عن حالات شاذّة
بل إننا نتحدّث عن ظاهرة منتشرة متفشية
وعلى الأقل في بعض دول الخليج
توجد المغالاة بالصّداق
والمباهاة بالمهور
ولا أدلّ على ذلك من قول بعضهم : لن تكون ابنة فلان أحسن من ابنتنا !
ولن يكون فلان - زوج فلانة – أحسن حالاً مِنّا
هذا إذا لم تُقم الأعراس في الفنادق والصالات الفارهة
مع ما يُصاحب ذلك من بذخ وسرف ، ورياء وسمعة
لقد كانت الصّديقة بنت الصّديق تلعب مع البُنيّات ، ثم نوديت فأُصلِح شأنها !
تقول عائشة رضي الله عنها : أتتني أمي أم رومان ، وإني لفي أرجوحة ! ومعي صواحب لي ، فصرخت بي ، فأتيتها ، لا أدري ما تريد بي ، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار ، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ، ثم أخذت شيئا من ماء ، فمسحت به وجهي ورأسي ، ثم أدخلتني الدار ، فإذا نسوة من الأنصار في البيت ، فقلن : على الخير والبركة ، وعلى خير طائر ، فأسلمتني إليهن ، فأصلحن من شأني ، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى ، فأسلمتني إليه ، وأنا يومئذ بنت تسع سنين . رواه البخاري ومسلم .
أرأيتم كيف كان تجهيز الصّدّيقة بنت الصّديق ؟(2/106)
كيف كان تجهيزها وهي تُزفّ لسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ؟
مُسح وجهها ورأسها بماء !
ثم أُصلِح شأنها
لقد أُصلح شأنها في لحظات !
ولو نظرنا نظرة سريعة لبعض تجهيز العرائس اليوم لرأينا ما يندى له الجبين
تكاليف في التجهيز
وتكاليف في الملابس
وتكاليف باهضة في الذّهب
وتكاليف في قصور الأفراح والفنادق
وتكاليف فيما تُعطاه الأم وفيما يُخصص للأب
هذا إن لم تصل الضريبة إلى الإخوة والأخوات !
وتكاليف في إعداد أطعمة لو وُزّعت – أحياناً – على بعض مخيمات اللاجئين لأصيبوا بالتخمة !
حتى قيل في حق مِن بالغ في المهر :
بضع الفتاة بألف ألف كاملٍ *** وتبيت سادات الجيوش جياعا
أين هذا من إصلاح شأن عائشة رضي الله عنها ، وهي تُزفّ لسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ؟
أين تلك الأطعمة والولائم مما كان يُصنع في زواج النبي صلى الله عليه وسلم ؟
حدّث أنس رضي الله عنه فقال : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثا يبني بصفية بنت حيي . قال : فدعوت المسلمين إلى وليمته ، فما كان فيها من خبز ولا لحم ، أمَرَ بالأنطاع فأُلقي عليها من التمر والأقط والسمن ، فكانت وليمته . رواه النسائي في الكبرى
وفي رواية في الصحيحين قال :
ثم دفعها – يعني صفية - إلى أمي فقال : أصلحيها . قال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر حتى إذا جعلها في ظهره نزل ثم ضرب عليها القبة ، فلما أصبح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان عنده فضل زاد فليأتنا به . قال : فجعل الرجل يجيء بفضل التمر وفضل السويق حتى جعلوا من ذلك سواداً حيسا ، فجعلوا يأكلون من ذلك الحيس ، ويشربون من حياض إلى جنبهم من ماء السماء . قال أنس : فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها .
وعلى هذه البساطة في المهور والولائم جرى أصحابه(2/107)
قال ربيعة الأسلمي رضي الله عنه : كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ربيعة ألا تزوّج ؟ قال : قلت : والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج ، ما عندي ما يُقيم المرأة ، وما أحب أن يشغلني عنك شيء ، فأعرض عنى ، فخدمته ما خدمته ، ثم قال لي الثانية : يا ربيعة ألا تزوج ؟ فقلت : ما أريد أن أتزوج ، ما عندي ما يُقيم المرأة ، وما أحب أن يشغلني عنك شيء ، فأعرض عني ثم رجعت إلى نفسي فقلت : والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم منِّي ، والله لئن قال تزوج لأقولن : نعم يا رسول الله مُرني بما شئت . قال : فقال : يا ربيعة ألا تزوج ؟ فقلت : بلى ، مُرني بما شئت . قال : انطلق إلى آل فلان - حي من الأنصار - وكان فيهم تراخ عن النبي صلى الله عليه وسلم فقل لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة - لامرأة منهم - فذهبت فقلت لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة ، فقالوا : مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا يرجع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته ، فزوجوني وألطفوني ، وما سألوني البينة ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا ، فقال لي : مالك يا ربيعة ؟ فقلت : يا رسول الله أتيت قوما كراما فزوجوني وأكرموني وألطفوني ، وما سألوني بينة ، وليس عندي صداق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بريدة الأسلمي ! اجمعوا له وزن نواة من ذهب . قال : فجمعوا لي وزن نواة من ذهب ، فأخذت ما جمعوا لي فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اذهب بهذا إليهم ، فقل : هذا صداقها ، فأتيتهم فقلت : هذا صداقها ، فَرَضُوه وقبلوه ، وقالوا : كثير طيب . قال : ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حزينا ، فقال : يا ربيعة مالك حزين ؟ فقلت : يا رسول الله ما رأيت قوما أكرم منهم ،(2/108)
رضوا بما أتيتهم وأحسنوا ، وقالوا : كثيرا طيبا ، وليس عندي ما أُولِم . قال : يا بريدة ! اجمعوا له شاة . قال : فجمعوا لي كبشا عظيما سمينا ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب إلى عائشة فقل لها فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام ، قال : فأتيتها ، فقلت لها ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : هذا المكتل فيه تسع آصع شعير ، لا والله إن أصبح لنا طعام غيره ، خذه ، فآخذته ، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما قالت عائشة فقال : اذهب بهذا إليهم فقل : ليصبح هذا عندكم خبزا ، فذهبت إليهم وذهبت بالكبش ومعي أناس من أسلم فقال : ليصبح هذا عندكم خبزا ، وهذا طبيخا ، فقالوا : أما الخبز فسنكفيكموه ، وأما الكبش فاكفونا أنتم ! فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبخناه ، فأصبح عندنا خبز ولحم ، فأولمت ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد .
وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على مَن بالغ في الصداق وهو لا يجد شيئا
فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني تزوجت امرأة من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل نظرت إليها ، فإن في عيون الأنصار شيئا ؟ قال : قد نظرت إليها . قال : على كم تزوجتها ؟ قال : على أربع أواق . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : على أربع أواق ! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ! ما عندنا ما نعطيك ، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه . فبعث بعثاً إلى بني عبس بعث ذلك الرجل فيهم . رواه مسلم .
وهذا محمول على الزجر عن المبالغة في المهر ، بخلاف الحديث الأول وما قاله عليه الصلاة والسلام لبريدة السلمي : " اجمعوا له وزن نواة من ذهب " ؛ لأن هذا فَرَض المهر ثم جاء يسأل بخلاف من شكا حاله دون أن يكون فَرَض مهراً معيّناً .
واليوم كم هي الدّيون التي يتحملها بعض شبابنا لتغطية نفقات الزواج ؟(2/109)
فهو بين نارين وبين خيارين أحلاهما مُرّ
إما أن يبقى دون زواج
وإما أن يستدين
وربما بقي في سداد ديون زواجه السنوات الطوال
حتى يقول بعضهم : بلغ ابني من العمر ثلاثة عشر عاماً وأنا أُسدد الديون !
فأي حياة تلك التي يعيشها ، وهو يرى زوجته هي مصدر شقاوته ؟!
أما إنها لو رضيت باليسير لكان ذلك أولى لها
ولكان خيراً وأفضل لها
فـ " خير الصداق أيسره " كما عند الحاكم عنه عليه الصلاة والسلام .
وفي رواية : خير النكاح أيسره . رواه أبو داود .
ومِن هنا فإن كثيراً من الناس يشكون من سوء العلاقات الزوجية ، ويشكون من كثرة الخلافات الزوجية .
وتُذهل العقلاء نسب وأرقام وإحصائيات الطلاق .
وغلاء المهور سبب من عدّة أسباب .
ويحلل الدكتور إبراهيم الجوير أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض الظاهرة بقوله أن ذلك عائد لجملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت بذلك، مشيرا إلى أنه قد أجرى دراسة بحثية حول ذلك وتبين أن 54% من الشباب الجامعي يرى أن مواصلة تعليمه الجامعي تقف عائقا أمام الزواج أثناء الدراسة الجامعية ، وأن النسبة العظمى من الشباب يفضلون مواصلة تعليمهم الجامعي على الزواج .
وأضاف الدكتور الجوير أن ما يقارب من 60 % من الجامعيين يرون أن المغالاة في تكاليف الزواج هي العائق الرئيس أمام زواجهم، مشيرا أنه وبحسب الدراسة التي قام بها فان 85% من الذين شملهم الاستطلاع اعتبروا أن المسؤوليات المترتبة على الزواج تعد العائق الرئيس أمام زواجهم، وأن غلاء المهور يعد أيضا من بين العوائق الأخرى لتأخير الزواج بحسب 75% من هؤلاء.
وأفاد 44% من الجامعيين بأن قلة دخل أسرهم تؤثر على عزوفهم عن الزواج المبكر، فيحين اعتبر 18% من الجامعيين أن عدم توفر السكن الملائم هو أحد الأسباب الرئيسة لتأخر الزواج نظرا لرغبتهم في الاستقلال بالسكن عن أسرهم .
[ هذه الدراسة منقولة عن منتدى عالم بلا مشكلات ](2/110)
164-لعل أمير المؤمنين ....
العُمَران
أعني هنا :
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وعمر بن عبد العزيز رحمه الله
كلاهما أنكر أمراً
فما هو ؟
تعال نتأمل هذين الموقفين :
الأول مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بلغ عمر رضي الله عنه أن عَامِلَه النعمان بن عدي تغنّى قائلاً :
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها **** بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية**** وصناجة تجذو على كل منسم
إذا كنت ندمانى فبالأكبر اسقني**** ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه **** تنادمنا في الجوسق المتهدم
فكتب إليه عمر :
قد بلغني شعرك ، وقد والله ساءني ، وعزله ، فلما قدِم قال : والله ما كان من ذلك شيء ، وإنما هو فضل شعر قلته ، فقال عمر : إني لأظنك صادقا ولكن والله لا تعمل لي عملا .
وأما الموقف الثاني فَمَعَ عمر بن عبد العزيز رحمه الله
يوم تولّى الخلافة وناء بأعبائها
فوقف الشعراء ببابه كعادة المدّاحين الذين لا يجدون من يحثو التراب في وجوههم !
فلما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد على الخلفاء من قبله ، فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم في الدخول حتى قدم عدي بن أرطأة عليه وكان مِنه بمكانة فتعرض له جرير وقال :
يا أيها الرجل المزجى مطيته ****هذا زمانك أني قد خلا زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ****أني لدي الباب كالمشدود في قرن
لاتنس حاجتنا لاقيت مغفرة ****قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
فقال : نعم يا أبا عبد الله .
فلما دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وألسنتهم مسمومة وسهامهم صائبة
فقال عمر رضي الله عنه : مالي وللشعراء ؟!
فقال : يا أمير المؤمنين إن رسول الله مُدح فأعطى ، وفيه أسوة لكل مسلم
قال : صدقت ، فمن بالباب منهم ؟
قال : ابن عمك عمر بن أبي ربيعة القرشي .
قال : لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه !
أليس هو القائل :(2/111)
ألا ليتني في يوم تدنو منيتي ***شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله ***وليت حنوطي من مشاشك والدم
وياليت سَلمى في القبور ضجيعتي ***هنالك أو في جنة أو جهنم !!
فليته عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ثم يعمل عملا صالحا ! والله لا يدخل علي أبدا .
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال : جميل بن معمر العذري
قال : أليس هو القائل :
ألا ليتنا نحيا جميعا فإن نمت ****يوافى لدى الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ****إذا قيل قد سُوي عليها صفيحها
أظل نهاري لا أراها وتلتقي *****مع الليل روحي في المنام وروحها
والله لا يدخل علي أبدا .
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال كثير عزة
قال أليس هو القائل :
رهبان مدين والذين عهدتهم ***يبكون من حذر الفراق قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ***خروا لعزة ركعا وسجودا
أبعده الله !
فوالله لا يدخل علي أبدا .
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال : الأحوص الأنصاري
قال : أبعده الله ، والله لا يدخل علي أبدا .
أليس هو القائل وقد افسد على رجل من أهل المدينة جاريته حتى هرب بها منه :
الله بيني وبين سيدها يفر مني بها وأتبعه
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال : همام بن غالب الفرزدق .
قال أليس هو القائل :
يفتخر بالزنا ..........
والله لا دخل علي أبدا .
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال الأخطل الثعلبي
قال أليس هو القائل :
ولست بصائم رمضان عمري ****ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عِيسا بكورا **** إلى أطلال مكة بالنجاح
ولست بقائم كالعبد يدعو **** قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا **** وأسجد عند منبلج الصباح
أبعده الله عني فوالله لا دخل علي أبدا ، ولا وطىء لي بساطا ، وهو كافر
فمن بالباب غيره من الشعراء ممن ذكرت ؟
قال : جرير.
قال أليس هو القائل :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهذا فأذن له .(2/112)
قال عدي بن أرطأة : فخرجت فقلت : أدخل يا جرير
فدخل وهو يقول :
إن الذي بعث النبي محمدا جعل الخلافة في الإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووقاره حتى ارعووا وأقام ميل المائل
إني لأرجو منه نفعا عاجلا والنفس مولعة بحب العاجل
والله أنزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل
فلما مثل بين يديه قال : يا جرير ! اتق الله ولا تقل إلا حقا
فأنشأ يقول :
كم باليمامة من شعثاء أرملة ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن بعدلك يكفي فقد والده كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت أم قد كفاني ما بلغت من خبري
إنا نرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجوا من المطر
إن الخلافة جاءته على قدر كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما زلت حيا لا يفارقنا بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فقال : والله يا جرير لقد وافيت الأمر ، ولا أملك إلا ثلاثين دينارا ، فعشرة أخذها عبد الله ابني ، وعشرة أخذتها أم عبد الله ، ثم قال لخادمه :
ادفع إليه العشرة الثالثة
فقال : والله يا أمير المؤمنين أنها لأحب مال اكتسبته
ثم خرج فقال له الشعراء : ما وراءك يا جرير ؟؟
فقال : ورائي ما يسوءكم !
خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء ، وإنني عنه لراض ثم أنشأ يقول :
رأيت رقى الجن لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن واقيا
أخلص من هذا إلى أن كلا منهما أنكر على من تغنّى باقتراف الحرام ، وإن لم يكن اقترفه .
لأنه لا يجوز التباهي بالمعاصي
ولو كان على سبيل المزاح أو قول الشعر
والله تعالى أعلم .
165-صفة لباس الرجل والمرأة أمام أولادهم..
كنت كتبت حول مسألة لباس المرأة بين النساء وأمام المحارم ، ثم كتبت إحدى الأخوات تسأل عن صفة لباس الرجل والمرأة أمام أولادهم .
فأقول :
لا عجب أن يهتم الإسلام بالأولاد صغاراً كانوا أم كباراً ، فالإسلام دين الكمال .(2/113)
دينٌ كامل كمّله الله ، وامتنّ على هذه الأمة بكمال الدِّين ، وبتمام النّعمة ، فقال الله جل جلاله :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ )
قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : أي آية ؟ قال :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ )
قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة . رواه البخاري ومسلم .
فَدِين الله عز وجل تضمّن ما يهم المسلم في جميع مناحي الحياة ، دقّها وجلّها ، جليلها وحقيرها
بل نظّم الإسلام علاقة الإنسان بالحيوان !
وحول هذا الموضوع جاء التوجيه الرباني في قوله عز وجل :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )(2/114)
روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن . فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر ، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولاحجال في بيوتهم ،فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ، ثم جاء الله بعد بالستور ، فبسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به .
قال ابن كثير رحمه الله : وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما .
ثم جاء التوجيه الرباني :
( وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال ، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته ، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث . قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : إذا كان الغلام رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه ، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال ، وهكذا قال سعيد بن جبير ، وقال في قوله
( كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه . انتهى .
وقال ابن الجوزي رحمه الله : فالبالغ يستاذن في كل وقت ، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث .
فالخطاب بالنسبة للأطفال توجّه للأبوين .
قال القرطبي رحمه الله :
( لِيَسْتَأْذِنكُمُ ) لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين . اهـ .(2/115)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه خادم ولا صبيّ إلا بإذنه حتى يُصلي الغداة ، واذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك .
ولأن الطفل لو رأى شيئاً مما يقع بين الزوج وزوجته لرسخ ذلك في مُخيّلته ، ولكان له الأثر السلبي على حياته ، إذ أنّ أمه وأباه هم القدوة في حياته ، ثم يراهم على ذلك الوضع !
فيجب أن يُعوّد الأطفال على ذلك ، وأن يؤمروا أن لا يدخلو غرفة نوم والديهم إلا بعد الاستئذان ، وقرع الباب ، فإن أُذِن له وإلا فليرجع ولا يدخل .
يقول الأستاذ عدنان با حارث في كتاب مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة :
ويحذر الأب كل الحذر من نوم الولد بعد السنة الأولى من عمره في غرفة نومه الخاصة به مع أهله ؛ خشية أن يرى الولد ما يكره من العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة . اهـ .
وأما اللباس المعتاد للرجل في بيته ، فهو ما يستر عورته ، وإذا كان مِن عادته أن يُخصص للبيت لباساً فليحرص أشدّ الحرص على أن يكون اللباس ساتراً للعورة ، أو أن يلبس تحته ما يستر العورة ؛ لأن الطفل إذا شاهد تساهل والده في ستر العورة حذا حَذوه ، وسار بسيره ، وربما يُفاجأ الأب في يوم من الأيام إذا انتهر طفله ( ذكراً أو أنثى ) آمراً إياه أن يستر عورته ، ربما يُفاجأ بما لم يكن في حسبانه من ردّ الطفل : وأنت تفعل هذا !
يعني أنك محلّ قدوة ، وتفعل هذا !
وكيف تنهى عن أمر أنت تفعله ؟!
وربما ظن بعض الآباء أن الطفل لا يُدرك ، ولكن لو ألقى سمعه لبعض همسات طفله لمن هم في مثل سِنِّه لسمع ما لم يكن يتوقعه !
فالطفل شديد العناية بتصرفات والديه ، دقيق الملاحظة لكل ما يصدر منهما .
وأما لباس المرأة فإنه يجب أن يكون أشدّ عند الصغار ؛ لأنهم ربما نقلوا ما اطّلعوا عليه من عورات النساء !(2/116)
قالت أم سلمة رضي الله عنها : دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث ، فسمعه يقول لعبد الله بن أمية : يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان ، فإنها تُقبل بأربع وتُدبر بثمان ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يدخل هؤلاء عليكم . رواه البخاري ومسلم .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، فكانوا يَعدّونه من غير أولي الإربة . فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة . قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا ! لا يدخلن عليكن . قالت : فحجبوه .
قال الإمام البخاري : تقبل بأربع وتدبر : يعني أربع عِكن بطنها ، فهي تُقبل بهن ، وقوله : وتدبر بثمان : يعني أطراف هذه العكن الأربع ؛ لأنها محيطة بالجنبين حتى لَحِقَتْ .
فهذا من غير أولي الإربة من الرجال ، ومع ذلك تفطّن لما يتفطّن له الرجال ، وانتبه لما ينتبه له الرجال عادة !
وفي هذا إشارة وتنبيه إلى بعض النساء اللواتي يتساهلن في اللباس أمام الأطفال !
فقد تتساهل المرأة في لباسها في بيتها بحجة أنها في بيتها ، وأمام زوجها تُريد أن تتزيّن له ، وهي لا تشعر بلحظ الأطفال لكل حركة وسكنة !
أو في حال رضاع الصغير ، ونحو ذلك .
وربما تحدّث الطفل عند الكبار مما رأى !
إن بإمكان المرأة أن تتجمّل لزوجها وأن تتزيّن له في غرفة نومه ، حفاظاً على مشاعر الأطفال الذين ربما أثّر فيهم ما يرون من تساهل أمهم باللباس ، وربما ورِثته البنت عن أمها.
ومما تتساهل به بعض الأمهات أن تخرج من غرفتها إلى دورة المياه أحياناً شبه عارية ، غير مُبالية بنظرات الصغار ، وربما نظرات احتقار وازدراء !(2/117)
ورأى طفل سوءة امرأة لم تهتم به بحجة أنه طفل ، فجاء يُحدّث أهله بما رأى وقد اجتمعوا على العشاء ! ثم شبّه سوءة تلك المرأة بسوءة أخته التي كانت هي الأخرى لا تهتم بنظر الطفل الصغير !
فأخذت تحثو التراب في وجهه ، وكانت أحق به وأولى !
وشاب دخل البيت نهاراً فرأى ما لا يسرّ من علاقة أبيه بأمه ! فلما اجتمعوا في الليل : سأل أباه عما كان يفعل بأمه ؟! فأخذت أمه تحثو عليه التراب !
لقد كانوا في غنى عن ذلك السؤال !
وربما يظن بعض الناس أن الطفل لا ينتبه ، بينما هو شديد الملاحظة ، حادّ النّظرة ، ربما يَخزن المعلومات فتكون الفضيحة وقت إبراز ذلك المخزون !
وربما تمنّت المرأة أو تمنّى الرجل وقتها أن الأرض انشقّت وابتلعته ولم يسمع عَرْضَ تلك الفضيحة ، ولم يسمع ذلك القول على الملأ !
الطفل فطرته سليمة ، فيجب أن تبقى على هذا النقاء ، وأن يُحافظ على ذلك الصفاء ، لا كما يدعو إليه من لا خلاق له بوجوب تعليم الأطفال الجنس ، ويزعمون أنه من باب تثقيف الأطفال !
ولذلك في المدارس الأوربية – غالباً - لا توجد أبواب للمراحيض في المدارس !
فيذهب الحياء ويذهب معه كل خُلُق فاضل ، وينشأ الذكور والإناث على حياة بهيمية لا تُتستر فيها عورة ، ولا يُستحيا فيها من إبداء سوءة !
إن لباس نساء سلف هذه الأمة في البيوت يُغطي الساقين والذراعين ، ولا يظهر منها إلا ما يظهر حال المهنة والخدمة ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
ثم ليتذكّر المسلم والمسلمة أن الله ستّير يُحب الستر
ففي المسند والسنن من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو مما ملكت يمينك . فقال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال : إن استطعت أن لا يراها أحد فأفعل . قلت : والرجل يكون خاليا ؟ قال : فالله أحق أن يستحيا منه .
-----------------(2/118)
مواقف طريفة لأطفال صغار الأجسام كبار العقول
طفل لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات - وهو من الأقارب – كان ينظر إلى أمه وهي تُلبس أخته الصغيرة ذات الأشهر ملابسها بما في ذلك لبس ( الحفاظة ) !
وفي يوم من الأيام ذهب عند أخواله ، فجاءتهم امرأة تزورهم ، وقد أبْدَتْ أعلى صدرها وأعلى ثدييها من غير حياء !
فكان هذا الطفل ينظر إلى صدر تلك المرأة ويقول : حفّافة !
المرأة لم تنتبه لما يقول !
غير أن إحدى خالاته انتبهت فأرادت تدارك الموقف ، أخذت الصبي ونهضت به ، وأخرجته من المكان خشية الفضيحة ! كما يقولون !
166-لا يُساومني به غير المنيّة..
طلبوا تحريرك فاعتقلوكِ = جثّة بين البرايا هامشيّة
إنما الحرّة من تُغضي حياءً = ليست الحرّة من كانت بغيّة
ساوموكِ عبر إعلامٍ أثيم = همسوك بالنداءات الخفيّة
فاحذري يا أُختُ أن تُصغي لقولٍ = يهدم الإيمان فيك يا أُخيّه
واهتفي يا أُختُ فيهم : لست أرضى = لي سوى الإسلام دينا وحميّة
إنه يا طالب النجم حجابي = لا يُساومني به غير المنيّة
أنت يا أختاه للأخلاق مهدٌ = أنت للأعداء أصبحت القضية
رسم الأعداء كي ما يقتلوكِ = بدهاء وخفاء ورَويّة
قتلك يا أختُ في سلب حياكِ = ليس بالسيف ولا بالندقية
أنت للإسلام في الأعداء سهمٌ = وعلى الإسلام إن رمتِ الدنيّة
فاختاري لنفسك أي الطريقين شئت يا أُخيّه
أنت للإسلام في الأعداء سهمٌ = وعلى الإسلام إن رمتِ الدنيّة
فأنت – يا أُخيّه - حفيدة خديجة إذا شئت
التي نصرت دين الله
وآزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأُعيذك بالله أن تكوني حفيدة أم جميل
تبت يداها وخسرت دنياها وأخراها
الخبيثة الفؤاد
البذيئة اللسان
السبابّة الشتّامة
المتبرجة الآثمة
فأنت في الحصن أُخيّه
وثِقي بنفسك أنتِ سرّ حضارة = عظُمت وأعطت للورى أبطالا
وأنت - يا أختاه - مَهْد الأخلاق
غذي صغارك بالعقيدة، إنها = زاد به يتزود الأبرار
وأنت فتاة اليوم وأمّ المستقبل(2/119)
في كفك النشء الذين بمثلهم = تصفو الحياة وتُحفظ الآثار
وأنت بنت أكرم دين
أختاه حولك روضة مخضرّة = تختال فوق ربوعها الأشجار
وإن أعجب فعجبي ممن تتمنّى حياة أقوام يتمنّون حياتها !
كم تتمنى اليوم عاقلات نساء الغرب حياة شرقية !
إنهن يتمنّين حياتك أنتِ يا ذات الحجاب
ومن ذوات الحجاب ممن تتمنّى حياة امرأة غربية !
وهذه نماذج
http://saaid.net/Doat/assuhaim/94.htm
وليكن لسان الحال منك :
إنه يا طالب النجم حجابي = لا يُساومني به غير المنيّة
أُخيّه :
هل علمت أن امرأة من ذلك الجيل الرباني - الذي تربّى في المجتمع النبوي المدني – ساومها اليهود وراودوها على خلع حجابها وعلى كشف وجهها ، فأبَتْ وانتفضت ، فكادُوها – كعادتهم – فربطوا بغض ثيابها ببعض فلما قامت تكشّفت ، فاهتزت واضطربت وصاحت : وا إسلاماه
فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديا ، فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع ، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة فنزلوا على حكمه ، فكُتّفوا وهو يريد قتلهم ، إلا أن عبد الله بن أُبيّ شفع فيهم وكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حتى أُجلُوا من المدينة النبوية .
فأقيمت الدنيا ولم تُقعد
وسُفكت دماء
وحوصرت اليهود
وأُجليَت بنو قينقاع
كل ذلك من أجل حجاب
فهو يا أُخيّه حجابك الذي يجب أن لا يُساومك به غير المنية .
فهل هو عندك بهذه المنزلة ، وبهذه المكانة والمثابة ؟؟
أرجو ذلك ..
167-لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ..
النفع لازم ومتعدٍّ
فاللازم ما كان نفعه يخص صاحبه فحسب ، وقد يُعبر عنه بـ " النفع القاصر "
والمتعدي ما يتعدى نفعه للآخرين .
فالأول مثاله الصلاة ، والثاني مثاله الزكاة .
والنوع الثاني أحب إلى الله ، وأنفع لعباد الله .
ولذا يُقدّم ما له نفع متعدي(2/120)
تأمل قوله تبارك وتعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ )
تأمل كيف قدّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله عز وجل رغم أهمية الإيمان ، فالإيمان نفعه لازم لصاحبه ، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فنعه متعدٍّ ، إذ هو بمثابة صمام الأمان لهذه الأمة ، وبه ينحسر مدّ الفساد الذي يكون سببا لهلاك العباد وخراب البلاد .
ثم تأمل قوله تعالى : ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )
لتعلم أن قضاء حاجات عباد الله - مما يقدر عليه المسلم - أحب إلى الله من اعتكاف المسلم في بيت من بيوت الله ، مع ما في الاعتكاف من إحياء الليل وقراءة القرآن والبعد عن الفتن ، ولكن مع ذلك فقضاء حاجات ذوي الحاجات أحب إلى الله من ذلك .
ولذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ؟ وأي الأعمال أحب إلى الله ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دَيناً ، أو تطرد عنه جوعا ، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحبّ إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً - في مسجد المدينة - ومن كفّ غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبّت الله قدمه يوم تزول الأقدام . رواه الطبراني في الكبير ، والحديث في صحيح الجامع .
والمتأمل في هذا الحديث العظيم يرى أن هذه الأعمال مما يتعدى نفعها إلى الآخرين .
فأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس(2/121)
وأما أحب الأعمال إلى الله فـ :
سرور تدخله على قلب مسلم .
أو تكشف عنه كربة
أو تقضي عنه دَيناً
أو تطرد عنه جوعا
وقيامك مع أخيك في حاجته أفضل من الاعتكاف في مسجده عليه الصلاة والسلام شهراً .
وهذا إذا قمت معه ووقفت إلى جانبه سواء قُضيت أو لم تُقض
أما إذا قُضيت فـ :
من مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبّت الله قدمه يوم تزول الأقدام
والسعي على المحاويج من الضعفاء والمساكين كالمجاهد في سبيل الله .
قال عليه الصلاة والسلام : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، أو القائم الليل الصائم النهار . رواه البخاري ومسلم .
" ومعنى الساعي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين " قاله ابن حجر .
وما ذلك إلا لتعدي نفعه إلى غيره ، خاصة من أصحاب الحاجات من الأرامل والمساكين .
هل رأيتم أفضل من هذا ؟
وإنما بلغت هذه الأعمال هذه الرتبة لتعدي نفعها .
وهكذا يحرص الإسلام على روح التآخي والتكاتف ، وعلى نبذ الأنانية وحب الذات .
فالموفّق من وُفِّق للمبادرة لمثل هذه الأعمال .
ومع ذلك يجب أن لا ينسى المسلم نفسه في خضم ذلك فيكون كالشمعة التي تحترق ليستضيء الآخرون .
فلربما نسي الشخص نفسه في ظل البذل والتضحية في سبيل مثل هذه الأعمال .
ولكنه يوفِّق بين الأمرين ، فلا ينسى نصيبه من العمل الصالح اللازم
ولا ينسى أن يبذل من نفسه ووقته للآخرين .
والموفَّق من عرف خير الخيرين ، فعمِل به .
وعرف شرّ الشرّين فاجتنبه .
جعلني الله وإياكم ممن وُفِّق لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين .
168-لا آجركِ الله..
في أعظم وأطهر بقعة
في البلد الحرام ، وفي المسجد الحرام ، وقبيل صلاة الجمعة رفعت رأسي لأنظر أمامي فإذا بي أُفاجأ بامرأة تتخطّى رقاب المُصلّين ! في مكان مُزدحم بالرجال ، لِتصِل إلى مُصلّى النساء .
دُهشت ، ولكني أمام أمرين أحلاهما مُرّ :
إما السكوت عن هذا المنكر(2/122)
أو الإنكار ، ووقوع اللغط – ربما – ورجوعها من حيث أتت لتتخطى الرقاب مرّة أخرى
إذ هي قد قطعت شوطا باتجاه مُصلّى النساء .
وحينها تذكرت إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من تخطّى الرقاب
فقَطَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته وهو يخطب ثم قال لمن تخطّى الرقاب :
اجلس فقد آذيت وآنيت . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
هذا وهو رجل يتخطى رقاب الرجال .
وتذكّرت إنكار عائشة رضي الله عنها على النساء .
فقد روى البخاري عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال . قال : كيف تَمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال ؟
قلت : أبعد الحجاب أو قبل ؟
قال : إي لعمري . لقد أدركته بعد الحجاب .
قلت : كيف يخالطن الرجال ؟
قال : لم يكن يخالطن ، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم ، فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت : عنكِ ، وأَبَتْ .
ومعنى ( حَجْرَة ) أي ناحية . يعني أنها لا تُزاحم الرجال في الطواف .
ومعنى " أبَتْ " : أي رفضت وامتنعت أن تُزاحم الرجال لِتستلم الحجر أو الركن .
ولما دخلت مولاة لعائشة عليها فقالت لها : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها : لا آجرك الله . لا آجرك الله . تدافعين الرجال ؟ ألا كبّرتِ ومررتِ . رواه الشافعي والبيهقي .
إن مسؤولية المرأة في الاحتساب والإنكار لا تقل عن مسؤولية الرجل
وعلى المرأة أن تُنكر – على الأقل – في مجالها ، وبين بنات جنسها .
ولذا لما رأت عائشة رضي الله عنها على امرأة بُرْداً فيه تصليب ، فقالت : اطرحيه اطرحيه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى نحو هذا قضبه . رواه الإمام أحمد . ومعنى قَضَبَه : أي قطعه .(2/123)
وكانت نساء الصحابة يَقُمْنَ بالاحتساب والإنكار حتى على الأمراء ، فلم يقف إنكار نساء الصحابة على بنات جنسهنّ ، فقد أنكرت أم الدرداء على عبد الملك بن مروان .
روى الإمام مسلم عن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده ، فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل ، فدعا خادمه ، فكأنه أبطأ عليه ، فَلَعَنَهُ ، فلما أصبح قالت له أم الدرداء : سمعتك الليلة لَعَنْتَ خادمك حين دعوته ، سمعت أبا الدرداء يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة .
والأنجاد : هو متاعُ البيت الذي يزيّنُه .
وقد تتعذّر بعض النساء في ترك الإنكار بأن لديها تقصير
قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ، ولا نَهى عن منكر .
وقال الحسن البصري لمُطرِّف بن عبد الله : عِظ أصحابك ، فقال : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل ، قال : يرحمك الله ! وأيُّنا يفعل ما يقول ؟ ودّ الشيطان أنه قد ظفِرَ بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ، ولم يَنْهَ عن منكر .
ولو لم يعظِ الناس مَنْ هو مذنبُ *** فَمَنْ يعظ العاصين بعد محمدِ
( صلى الله عليه وسلم )
أو تقول إنه لا يُقبل منها
وقد سُئل سفيان الثوري – رحمه الله – : أيأمر الرجل مَنْ يَعلم أنه لا يَقبل منه ؟
فقال : نعم ، ليكون ذلك معذرة له عند الله تعالى .
وثمّة مواطن ومواضع وأحوال يحسن أن تُكر فيها المرأة المُنكر قبل أن يُنكره الرجال
وثمة مواضع لا يطّلع الرجال فيها على المنكرات ، وإنما تطّلع فيها النساء على المنكرات فيتعيّن فيها الإنكار على النساء .
أخيراً :
أنا لا أشك أن تلك المرأة التي زاحمت الرجال وتخطّت رقابهم أنها إنما أتت تُريد الأجر
وأن تلك الأخرى التي أتت بأطفالها فبالُوا في المسجد الحرام إنما جاءت رغبة في الأجر(2/124)
وأن تلك التي أتت بصبيانها فصاحوا وضجوا بالصُّراخ وأشغلوا المصلين والمُصلِّيَات أنها كانت تريد الأجر
وتلك التي حضرت إلى صلاة التراويح بصحبة السائق
أو جاءت وهي مُتعطّرة إلى بيت من بيوت الله
أنهن أتين طلباً للأجر
فكلهن حضرن يُرِدن الأجر ، ولكن الأمر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : كم من مريد للخير لن يصيبه .
ومثل تلك النّسوة لو قيل لهن : لا آجركن الله . لغضبن وانتصرن لأنفسهن .
وهن بحاجة إلى سماع تلك الكلمة من بنات جنسهن .
والله يتولّى السرائر ويتولاكم ويرعاكم .
169-كيف نفهم الأحاديث ؟
كنت جالساً بحضرة أحد الأفاضل ، فدار النقاش حول مسألة صلاة الجماعة ،
فقال هو : ليست واجبة ، واستدلّ بقصة الرجلين الذين حضرا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يُصليا ، بل جلسا في مؤخرة المسجد ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته دعاهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما ، ثم سألهما لِمَ لَمْ يُصليا ، فقالا : صلينا في رحالنا . فما أنكر عليهما .
لا أعترض على ما استدلّ به فالحديث صحيح ، ولا إشكال ، غير أن الإشكال يرد في وضع الشيء في غير موضعه .
ولي على كلامه ملحوظات ، وهي تكثر في حال الاستدلال لدى غيره :
أولاً : للاستدلال على مسألة لا بدّ من جمع أحاديث الباب ، حتى يكون الفهم سليماً ، والعمل بالسُّنّة كاملاً .
ثانياً : يجب حمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه على بعض لا أن تُضرب السُّنّة بعضها ببعض .
ثالثاً : يحتاج المُستَدِلّ وطالب العلم لكلمة إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – حيث قال : إياك أن تكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .
أي لم يَقُل بها أحد قبلك ، فلن تأتي بفهم جديد ، ولن تكون أكثر فهماً ، ولا أعمق علماً ، ولا أدقّ استدلالاً من السلف .
رابعاً : معرفة سبب ورود الحديث – في أحيان كثيرة – يُجلّي صورة المسألة ، ويوضّح مغزى الاستدلال .(2/125)
ولست هنا بصدد تقرير وجوب صلاة الجماعة من عدمها ، ولكني بصدد مسألة فهم الأحاديث فهماً صحيحاً .
أما من حيث استدلاله فالحديث رواه الإمام أحمد وأهل السنن عدا ابن ماجه ، ورواه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم ، من حديث يزيد بن الأسود العامري.
في رواية أحمد والترمذي والنسائي زيادة فائدة تُعين على فهم الحديث ، وهي أن تلك الصلاة كانت صلاة الفجر ، وكانت في مسجد الخيف .
وفي رواية ابن خزيمة : يعني مسجد منى .
وفي رواية ابن حبان : قال يزيد بن الأسود العامري : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته فصلّيتُ معه صلاة الصبح في مسجد الخيف من منى – فَذَكَرَ الحديث - .
وتقييد تلك الصلاة في مسجد الخيف في منى لا يخفى على اللبيب فائدة هذا القيد ، وهو أن منى ليست دار إقامة ، ولا محلّ سكن ، بالإضافة إلى أن مَنْ كان في منى فقد أُعفيَ من حضور الجماعة في المساجد ، فالمسافر يقصر الصلاة ، ولم يُعهد إلزام الحجاج حضور الجمعة أو الجماعة .
وآخر مغمور - لكنه يُحبُّ الظهور - ظهر في قناة فضائية ، ثم تكلّم عن كثرة الأحاديث ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الرجل ، فيسأله عن الدِّين فيُلخِّصه له في كلمات معدودة ، تشتمل على أركان الإسلام ، دون الدخول في التفاصيل ، وأنه يجب على دعاة الإسلام اتّباع هذا المنهج .
فأقول هذا كلام حقٍّ أُريد به باطل ، مما يُعلم من قرائن الحال لدى المتكلّم .
وقد أجاب العلماء منذ زمن بعيد عن هذا الإشكال الذي وُجِدَ لدى المتحدِّث .
ولذا قال الإمام البخاري – رحمه الله – في كتاب الإيمان : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان .(2/126)
وقد أورد الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه قول وهب بن منبه – وقد سُئل - : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح لك .
ولو أردنا أن نأخذ بقول هذا المتكلِّم ، والاقتصار على ما ورد في حديث عن أبي هريرة – المتفق عليه - أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان . قال الأعرابي : والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ، ولا أنقص منه ، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا .
لو اقتصرنا على ما في هذا الحديث لعطّلنا شريعة الله ، فأين تحريم الزنا ؟ وأين تحريم الخمر ؟ وأين إقامة الحدود … إلى غيرها من شرائع الإسلام ومبانيه العظام ، بل أين ذروة سنامه ؟ وأين الركن الخامس من أركانه ؟ وأين صمام أمان المجتمع الإسلامي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؟.
إن المتأمل لوصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن – وهي في الصحيحين – يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على ثلاثة أركان من أركان الإسلام ، ومعلوم جواب العلماء عن هذا الحديث وأما شابهه من الأحاديث .
ومثله وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فقد تعددت واختلفت ، وعلى سبيل المثال :
أوصى رجلاً فقال : لا تغضب ، فرد مراراً لا تغضب . كما عند البخاري .
وقال لآخر : عليك بالجهاد ، فإنه رهبانية الإسلام . كما في مسند الإمام أحمد وغيره .
وقال لثالث : عليك بالصوم ، فإنه لا مثل له . وفي رواية قال : لا عِدْلَ له .
يستأذنه في الجهاد ، فقال : أحيٌّ والداك ؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد .كما في الصحيحين .(2/127)
فهذا بحسب الأحوال والأشخاص ، و (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)
ولما روى الإمام مسلم حديث عتبان بن مالك ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : فإن الله قد حرم على النار من قال : لا اله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله . أعقبه - رحمه الله - بقول الزهري : ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى أن الأمر انتهى إليها ، فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر .
وللعلماء كلام يطول حول هذا المبحث .
وفهم الأحاديث يجب أن يكون وفق فهم سلف الأمة ، لا وفق أفهام خلفية فلسفية المَورِد والمَصدَر ، وتَعُبُّ من ماء السفسطة الآسن .
ولذا قال الإمام الشافعي – رحمه الله – : آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية : فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير ، فلا يحمّل كلامه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان ، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله ، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول ، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد . والله المستعان .
وقال – رحمه الله – : وطريق أهل السنة أن لا يعدلوا عن النص الصحيح ، ولا يعارضوه بمعقول ، ولا قول فلان .
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدّمٌ على قول كل أحد ، وعلى كلّ فهم ، ولو كان قول مَنْ أُمِرنا أن نقتدي بهم ، أعني أبا بكر وعمر ، وهما هما ، ومِنْ خلفائه الراشدين .
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ . رواه الإمام أحمد وغيره .
وقوله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر . رواه أحمد والترمذي ، وهو حديث صحيح .(2/128)
ولذا لما قال ابن عباس - رضي الله عنهما – تمتع النبي صلى الله عليه وسلم - أي في الحج - فقال عروة بن الزبير : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : ما يقول عُريّة ؟! قال : يقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون . أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : نهى أبو بكر وعمر . رواه الإمام أحمد وغيره .
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس أنه لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
170-كيف تصنع من التُّراب تِبْراً ؟؟؟
التراب هو التراب ! لا قيمة له
والتِّبْر هو الذهب قبل استخراجه وتخليصه ، وقيل : قبل تصنيعه .
يُروى للإمام الشافعي :
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ === إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست === والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يُصب
والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمة === لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ
والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَى ً في أَمَاكِنِهِ === والعودُ في أرضه نوعً من الحطب
فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ === وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ
أما إني لا أقصد التّغرّب
ولكني أقصد أن تصنع من التراب ذهباً
كيف ذلك ؟
الأمر سهل جِداً
تعمد إلى أعمالك اليومية المعتادة التي هي بمثابة التراب فتجعلها أغلى من الذهب لتتحوّل إلى كِفّة الحسنات .
قال بعض السلف : الأعمال البهيمية ما عُملت بلا نيّة .
وقد قيل :
بصلاح النية تُصبح العادات عبادات .
بل إن المسلم يؤجر أو يؤزر على نيّته
فربما بلغ العبد الدرجات العُلى وكُتِب له من العمل ما لا يبلغه بعمله بِحُسن نيّته
وربما كُتبت عليه الآثام والأوزار التي لم يعملها بسبب سوء نيّته وفساد سريرته
قال صلى الله عليه وسلم :
إنما الدنيا لأربعة نفر :(2/129)
عبد رزقه الله عز وجل مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله عز وجل فيه حقّه . قال : فهذا بأفضل المنازل .
قال : وعبد رزقه الله عز وجل علما ولم يرزقه مالا قال فهو يقول : لو كان لي مال عملت بعمل فلان قال فاجرهما سواء .
قال : وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه عز وجل ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقه فهذا بأخبث المنازل .
قال : وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو كان لي مال لعملت بعمل فلان . قال : هي نيته فوزرهما فيه سواء .
رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح .
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال لأصحابه : إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم . قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة ؟! قال : وهم بالمدينة حبسهم العذر . رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه ، ورواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه .
وإذا تعاهد المسلم نيّته كُتب له الأجر فيما يأتي وفيما يذر .
وأصبحت أعماله اليومية في كفّة الحسنات .
انظر رعاك الله إلى حال الصحابة كيف كانوا يحتسبون الأجر ويطلبونه حتى في أعمالهم اليومية المعتادة .(2/130)
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن ، وبعث كل واحد منهما على مخلاف ( يعني على إقليم ) ثم قال : يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا فانطلق كل واحد منهما إلى عمله ، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه أحدث به عليه ، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه وإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه فقال له معاذ : يا عبد الله بن قيس أيم هذا ؟ قال : هذا رجل كفر بعد إسلامه . قال : لا أنزل حتى يقتل . قال : إنما جيء به لذلك ، فانزِل . قال : ما أنزل حتى يُقتل ، فأمر به فقتل ، ثم نزل . فقال معاذ : يا عبد الله كيف تقرأ القرآن ؟ قال : أتفوقه تفوّقاً . قال أبو موسى : فكيف تقرأ أنت يا معاذ ؟ قال : أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي ، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي . رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري .
فما عليك سوى أن تتعاهد نيتك ، وأن تُعالجها حتى يكون القصد هو وجه الله والدار الآخرة
في أكلك ... في شربك ... في نومك ... في يقظتك ... .... إلخ .
------------
قال زيد الشامي : إني لأحب أن تكون لي نيّة في كل شيء حتى في الطعام والشراب .
وقال : انْوِ في كل شيء تريد الخير حتى خروجك إلى الكناسة . يعني في قضاء الحاجة .
وعن داود الطائي قال : رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية ، وكفاك بها خيراً وإن لم تنصب . يعني وإن لم تتعب .
قال داود : والبِرّ همّة التقي ولو تعلّقت جميع جوارحه بِحُبِّ الدنيا لَرَدّتْه يوماً نيّته إلى أصله
وقال سفيان الثوري : ما عالجت شيئا أشد على من نيتي ؛ لأنها تنقلب عليّ .
وعن يوسف بن أسباط قال : تخليص النية من فسادها أشدّ على العاملين من طول الاجتهاد(2/131)
وقيل لنافع بن جبير : ألا تشهد الجنازة ؟ قال : كما أنت حتى أنوي . قال : ففكر هنيهة ثم قال : امْضِ .
وعن مطرف بن عبد الله قال : صلاح القلب بصلاح العمل ، وصلاح العمل بصلاح النية .
وقال بعض السلف : من سَرّه أن يكمل له عمله فليحسن نيته فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حسن نيته حتى باللقمة .
وقال ابن المبارك : رُبّ عمل صغير تعظِّمه النية ، ورُبّ عمل كبير تصغره النية .
وقال ابن عجلان : لا يصلح العمل إلا بثلاث : التقوى لله ، والنية الحسنة ، والإصابة .
وقال الفضيل بن عياض : إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك .
بهذه الطريقة تُحوّل التراب إلى تِبْر
ولو أردت أن أسرد كل ما يمر بالذاكرة من أمثلة لطال بنا المقام .
[ الآثار المتقدمة عن بعض السلف نقلا عن جامع العلوم والحِكم للإمام الحافظ ابن رجب – رحمه الله – ]
171-كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت ؟
هذا مقياس لمعرفة الإحسان من الإساءة
وهذا معيار لمعرفة ما إذا أحسنت أو ما إذا أسأت
وهذا المقياس وذلك المعيار جعله من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم
فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم فقال : كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت ؟
قال : إذا سمعتَ جيرانك يقولون أن قد أحسنت ، فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت ، فقد أسأت . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
قال عمر : إذا كان في المرء ثلاث خصال فلا يُشك في صلاحه : إذا حمده ذو قرابته ، وجاره ، ورفيقه .
ولذا لما شهد رجل عند عمر رضي الله عنه بشهادة قال له عمر : لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك ، ائت بمن يعرفك .
فقال رجل من القوم : أنا أعرفه .
قال : بأي شيء تعرفه ؟
قال : بالعدالة والفضل .
فقال : فهو جارك الأدنى الذي تعرفه ليله ونهاره ، ومدخله ومخرجه ؟
قال : لا .
قال : فمعاملك بالدينار والدرهم ، اللذين بهما يستدل على الورع ؟
قال : لا .(2/132)
قال : فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق ؟
قال : لا .
قال : لست تعرفه ، ثم قال للرجل : ائت بمن يعرفك . رواه البيهقي في الكبرى .
والإحسان إلى الجيران وصية رب العالمين
قال سبحانه وتعالى : ( وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا )
تأمل هذه الآية
فبالرغم من قصرها فلا تتعدّى ثلاثة أسطر إلا أنها اشتملت على الوصية بعشرة حقوق .
ولذا يُسمّيها العلماء : آية الحقوق العشرة .
فالجيران ثلاثة :
جار مسلم قريب ، وله ثلاثة حقوق : حق الإسلام ، وحق الجوار ، وحق القرابة .
وجار مسلم ، فله حقّان : حق الإسلام ، وحق الجوار .
وجار كافر ، فله حق واحد ، وهو حق الجوار .
فيجب أن تُحسن جوار من جاورك أياً كان .
قال ابن جرير رحمه الله :
فأوصى ربنا جل جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم ، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم ، فحقٌّ على عباده حفظ وصية الله فيهم ، ثم حفظ وصية رسوله . انتهى .
وقال صلى الله عليه وسلم : ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه . رواه البخاري ومسلم .
بل إن كفّ الأذى عن الجيران علامة على صحة الإيمان وصدقه .
قال صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره . رواه البخاري ومسلم .
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على أن من لا يأمن جاره غدراته وفجراته أنه لا يؤمن .
فقال عليه الصلاة والسلام : والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن . قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه . رواه البخاري .(2/133)
وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه .
ولا يكفي أن يُكفّ الأذى عن الجار بل يُبدأ بالإحسان ويُحسن إليه .
هذه أسماءُ بنت أبي بكر تقول : تَزَوّجَني الزّبَير وما له في الأرضِ مِنْ مالٍ ولا مَمْلوكٍ ولا شيءٍ غيرَ ناضحٍ وغير فَرَسِهِ ، فكنتُ أعلِفُ فرسَهُ وأستقي الماءَ وأخرِزُ غَربَهُ وأعجِن ، ولم أكن أُحسِنُ أخبزُ ، وكان يَخبزُ جاراتٌ لي من الأنصار ، وكن نِسوَةَ صِدق . رواه البخاري ومسلم .
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر فقال : يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك . رواه مسلم .
وفي رواية له عن أبي ذر رضي الله عنه قال : إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ، ثم أنظر أهل بيت من جيرانك ، فأصبهم منها بمعروف .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة . رواه البخاري ومسلم .
والفِرْسَن : ما فوق الحافر .
وقالت عائشة رضي الله عنها : قلت : يا رسول الله إن لي جارين ، فإلى أيهما أُهدي ؟ قال : إلى أقربهما منك بابا . رواه البخاري .
وقد عظّم النبي صلى الله عليه وسلم حق الجار حتى قَرَنَه بالشرك بالله .
ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله نداً ، وهو خلقك . قلت : إن ذلك لعظيم . قلت : ثم أي ؟ قال : وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تُزاني حليلة جارك . قال : ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ )(2/134)
ومما يدلّ على تعظيم حق الجار قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوماً : ما تقولون في الزنا ؟ قالوا : حرمه الله ورسوله ، فهو حرام إلى يوم القيامة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره . فقال : ما تقولون في السرقة ؟ قالوا : حرمها الله ورسوله ، فهي حرام . قال : لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره . رواه الإمام أحمد .
وما ذلك إلا لأن الجار أدرى بمدخل جاره ومخرجه ، وألصق به ، بل ربما اطلع على عوراته ، وهو مأمور مع ذلك أن يُحسن إليه ، ويتعاهده لا أنه يتلمّس عثراته .
وإذا بلغت إساءة المسلم جاره دلّ على إساءته ، واستحق لعنة الخلق .
ولذا لما جاء رجل لرسول الله صلى الله عليه على آله وسلم : يا رسول الله إن لي جارا يؤذيني ، فقال : انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق ، فانطلق فأخرج متاعه ، فاجتمع الناس عليه فقالوا : ما شأنك ؟ قال : لي جار يؤذيني ، فذكرت للنبي صلى الله عليه على آله وسلم فقال : انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق ، فجعلوا يقولون : اللهم العنه ، اللهم أخزه ، فبلغه فأتاه فقال : ارجع إلى منزلك فو الله لا أؤذيك . رواه الحاكم في المستدرك والبخاري في الأدب المفرد . وهو حديث صحيح .
وربما حبِط عمل المسلم أو المسلمة بسبب أذيته لجيرانه .
فقد قيل للنبي صلى الله عليه على آله وسلم : يا رسول الله إن فلانة تقوم الليل ، وتصوم النهار ، وتفعل ، وتصّدّق ، وتؤذي جيرانها بلسانها ، فقال رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم : لا خير فيها هي من أهل النار . قيل : وفلانة تصلى المكتوبة وتصّدق بأثوار ولا تؤذي أحداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم : هي من أهل الجنة . رواه الحاكم في المستدرك والبخاري في الأدب المفرد . وهو حديث صحيح .
وجار السوء مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتّعوذ بالله منه(2/135)
قال عليه الصلاة والسلام : تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام ، فإن جار البادي يتحول عنك . رواه النسائي .
وتعاهد حُرمات الجيران ومعرفة حقوقهم كان من الأخلاق التي لم تندرس عند أهل الجاهلية الأولى .
قال أبو حازم : بيننا وبينكم أخلاق الجاهلية . أوَ لم يقل شاعرهم :
ناري ونار الجار واحدة = واليد قبلي تنزل القدر
ما ضر لي جارا أجاوره = أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت = حتى يواري جارتي الخدر
والقائل هو حاتم الطائي ، وهو القائل أيضا :
ولا تشتكيني جارتي غير أنها = إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع بعلها = إليها ولم تقصر عليها ستورها
ويقول حاتم الطائي :
إذا ما بت أختل عرس جاري = ليخفيني الظلام فلا خفيت
أأفضح جارتي وأخون جاري = فلا والله أفعل ما حييت
بل إن عنترة – الشاعر الجاهلي – يقول :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي = حتى يواري جارتي مأواها
فهذه نماذج لحسن تعامل أهل الجاهلية مع جيرانهم
فهل يكون أهل الجاهلية خير مِنّا في هذا الجانب ؟؟؟
172-كم مضى من عُمُرِك ؟؟؟
العُمُر يمضي سريعاً
والعُمُر ما مضى منه لا يعود
قيل لمحمد بن واسع : كيف أصبحت ؟
قال : ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة ؟
وقال الحسن : إنما أنت أيام مجموعة ، كلما مضي يوم مضي بعضك .
وقال : ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك ؛ يوضعك الليل إلى النهار والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى الآخرة ، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطراً ؟
وقال : الموت معقود بنواصيكم ، والدنيا تطوي من ورائكم .
وقال داود الطائي : إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فإن استطعت أن تُقدِّم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل ، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزوّد لسفرك ، واقض ما أنت قاض من أمرك ، فكأنك بالأمر قد بَغَتَك .(2/136)
وكتب بعض السلف إلى أخ له : يا أخي يَخيّل لك أنك مقيم ، بل أنت دائب السير ، تُساق مع ذلك سوقا حثيثا ، الموت متوجِّه إليك ، والدنيا تطوى من ورائك ، وما مضى من عمرك فليس بِكَارٍّ عليك حتى يَكُرَّ عليك يوم التغابن .
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر == ولا بد من زاد لكل مسافر
ولا بد للإنسان من حمل عدة == ولا سيما إن خاف صولة قاهر
وأنشد بعض السلف :
إنا لنفرح بالأيام نقطعها == وكل يوم مضي يدني من الأجلِ
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا == فإنما الربح والخسران في العملِ
[ أفاده ابن رجب في جامع العلوم والحِكم ]
والعُمُر فيه سؤالان
سؤال عن مرحلة القوة والكسب والإنتاج
وسؤال عن العُمُر جملة
ولذا لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس ؛ منها :
عن عمره فيم أفناه ؟
وعن شبابه فيم أبلاه ؟
فأعِدّ للسؤال جواباً على أن يكون الجواب صواباً
تأمل في عُمُرِك
كم مضى منه ؟
وهل انتفعت بما مضى من عُمُرِك ؟؟ أو مضى سبهللاً وضاع سُدى ؟؟
سأل رجل الإمام الشافعي عن سنه قال : ليس من المروءة أن يخبر الرجل بسنه ، سأل رجل الإمام مالك عن سنه فقال : أقبل على شأنك . ليس من المروءة أن يخبر الرجل بسنه ؛ لأنه إن كان صغيرا استحقروه ، وإن كان كبيرا استهرموه .
تأمل في عُمُرِك
فإن كنت صغيراً فقبيح أن يزول عمرك سريعا في لهو طيش
وإن كنت كبيراً فتدارك ما فات ، فما أقبح التصابي من شيخ كبير
أيا نفس ويحك جاء المشيب == فما ذا التصابي ؟ وما ذا الغزل ؟
تأمل قول القائل :
الناس صنفان ك موتى في حياتهمُ == وآخرون ببطن الأرض أحياءُ
فمن أي الصنفين تريد أن تكون ؟
لقد وقفت وطال وقوفي
وتأمّلتُ فما انقضى التأمّل
وكم تعجّبت وأنا أقرأ سيرة ذلك العالم الذي سارت بأخباره الرّكبان
وطوّف بكُتُبه في الآفاق
وقرأها الصغير والكبير
ودَرَّسها العلماء لطلاّب العلم
إنه الشيخ حافظ حكمي - رحمه الله –
صاحب المصنّفات النافعة في العقيدة وغيرها
أتعجّب من سيرته(2/137)
ومثار العجب أنه وُلِد عام 1342 هـ وتوفي عام 1377هـ
كم كان عمره عندما مات ؟؟
لقد كان عمره 35 سنة فقط
ما أعظم أثره على الناس وقد مات في ريعان شبابه
فكيف لو عاش ردحاً من الزمن ؟؟
قف مع هذه السيرة ، ثم قارنها بسير بعض العلماء الذين لم يطلبوا العلم إلا بعد الأربعين
ليس ثمّ صغير على العلم ، كما أنه ليس هناك كبير على العلم والتّعلّم
حتى ذكروا في ترجمة شبل بن عباد المكي أنه طلب العلم بعد الخمسين .
وجاء في سيرة أبي نصر التمار أنه ارتحل في طلب العلم بعد الستّين .
فتأمل في سيرة الشيخ حافظ وكيف بقي أثره في الناس ؟ وعمّ نفعه ؟
وتأمل في سير أولئك الأخيار الذين طلبوا العلم وتعلموا بعدما كبروا وبقي أثرهم في الناس
فلم يعُد لك عذر في إضاعة عمرك
وينبغي أن تنظر في عمرك مقارنة بأعمار الآخرين .
قال بكر بن عبد الله : إذا رأيت من هو أكبر منك فقل : هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني ، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل : سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني .
فإن كنت صغيرا فلا تقل : إذا كبرت عملت وعملت
وإن كنت كبيراً فماذا تنتظر ؟
فليس بعد الكِبَرِ إلا الموت !
فهنيئاً لمن بادر فترك له أثراً يُنتفع به
فاعمل لنفسك قبل موتك ذكرها == فالذِّكر للإنسان عمر ثاني
173-كلمات وألفاظ في الميزان ...
أولاً :
قول : عدالة السماء / هبة السماء / قدرة السماء / إرادة السماء / هذا ما أرادته السماء/ مشيئة السماء...
هذه الكلمات مما تتوارد على ألسنة بعض الكتاب والإعلاميين ، وتتردد بين حين وآخر في أجهزة ووسائل الإعلام .
وآخر مرة قرأت فيه مثل هذه الكلمة مطلع هذا الأسبوع ، فقد أشار صحفي إلى جمال الطبيعة في مكان ما ، فقال : هبة السماء !
والسماء مخلوق من مخلوقات الله العِظام ، فلا يُنسب إليها فعل ولا ترك .
فلا تفعل شيئا بنفسها ، ولا تُحدث أمرا .(2/138)