الجمعية التاريخية
بحمص
مجلة البحث التاريخي
HISTORICAL SEARCHING MAGAZINE
PublishedBy Homs History Society
صدر عن الجمعية التاريخية
* العدد الأول من مجلة البحث التاريخي
*العدد الثاني من مجلة البحث التاريخي
*العدد الثالث من مجلة البحث التاريخي
*ندوة حمص الأثرية التاريخية الأولى
*العدد الرابع من مجلة البحث التاريخي
العدد الخامس من مجلة البحث التاريخي
*الأسبوع التاريخي الأول الحروب الصليبية
*العدد السادس من مجلة البحث التاريخي
*العدد السابع من مجلة البحث التاريخي
* العدد الثامن من مجلة البحث التاريخي.
*العدد الثامن – أيلول 2006
*رئيس التحرير: الأستاذ: عبد الحفيظ شما
*هيئة التحرير:
الأستاذ: حبيب طراف ... ... الأستاذ: أحمد سليم طه
الأستاذ: نبيه التلاوي ... ... الأستاذ: سعد الدين أيوب
الآنسة: منيرفا أبو جنب
الغلاف: تصميم الباحث: نعيم الزهراوي
عنوان الجمعية
حمص- الجمعية التاريخية- شارع عبد الحميد الدروبي
ص.ب 848 –هاتف 487277
افتتاحية العدد ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ محمد الشاطر
سقوط طليطلة والمواجهة في عصر المرابطين ... ... ... ... 9 ...
د. نجدة خماش
استلاب التاريخ العربي الفلسطيني ... ... ... ... 39 ...
م رياض زيد
آثار أهملتها ذاكرة التاريخ
الأستاذ محمد الصوفي
الفنون الخزفية الإسلامية في مطلع العصر الحديث
د. عباس صباغ
أماكن الحاكمية في حمص
الباحث نعيم الزهراوي
تلبيسة
الأستاذ أحمد سليم طه
نحو نظرة جديدة لتاريخنا العربي القديم
المرحوم الأستاذ محمود عمر السباعي
شخصية البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي
الأستاذ نجيب المعاذ
آثار حمص العربية بين الواقع والطموح
د.عبد الرحمن البيطار
من نشاطات الجمعية
أمين السّر(1/1)
افتتاحية العدد
بكل تواضع نضع بين يدي القراء والمهتمين بدراسة التاريخ، العدد الثامن من مجلة/ البحث التاريخي/ وهو نتاج جهد ومثابرة نأمل أن تصمد في وجه المعوقات وتقلبات الأهواء.
فالتارخ شاهد الأزمنة وحياة الذاكرة، يحتاجه الناس على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، تارة تراه يثير الآلام القديمة، وأخرى تراه مدرسة للتسامح والمحبة، فأي تاريخ نكتب؟ وإلى أي تاريخ نعمل ونريد؟ هل نشذّب التاريخ من هناته، ونعطيه مسحة التسامح البيضاء، ونغمط هنات وسقطات الماضي؟ فالبشر كلهم في العيش سواء، لهم أهواؤهم ورغباتهم وميولهم، وكل يعمل في اتجاهه، فأي الطريق نسلك؟ سنحاول بكل موضوعية ووضوح أن نأخذ على عاتقنا طريق الصواب والحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة إن كانت لنا أو علينا، وفي تاريخنا الموروث أهواء ومشارب ونوايا سليمة وأخرى مغرضة،مبرمجة تدس السم في الدسم بحيث يصعب الكشف عن الغرض منها لغير المختصين الواعين والدارسين المتعمقين.
تراهم يستهدفون رموز الأمة ومقدساتها بالغمز واللمز تارة، ويضربون على وتر الإثارة والنقاط الحساسة تارة أخرى، معتمدين على أسس وروايات تاريخية جانبية موجودة في أمهات كتب التاريخ العربي دون سند أو مقارنة، فأخذوا ما يتفق مع تطلعاتهم وأهوائهم وجعلوه الحقيقة، مشيرين إلى المصدر الثقة مع وجود روايات أخرى أكثر توثيقاً ومعقولية تركوها وأخذوا الأدنى المجرّح.
كبير المؤرخين العرب محمد بن جرير الطبري في كتابه /الأمم والملوك/ ذائع الصيت؛ يورد للحادثة الواحدة العديد من الروايات المختلفة دون أن يكون له أي موقف من أي منها، هو راوٍ للأحداث فقط، ويترك لذوي الأهواء ليأخذوا ما يتفق مع مصالحهم، وعلى خطاه سار صاحب الكامل في التاريخ.
في سبيل الإنارة وكشف الحقيقة نسير ونستمر في إصدار هذه النشرة غير الدورية، وليس لنا أغراض أخرى نبتغي تحقيقها، فكل ما يخالف المعقول والمنقول لا نلزم أنفسنا به.(1/1)
والله من وراء القصد، وبقدرته تتم الصالحات.
المدير المسؤول
محمد عبد الصمد الشاطر
سقوط طليطلة
والمواجهة في عصر المرابطين
د.نجدة خماش
في سنة 478 هـ، وبعد ما يقارب القرون الأربعة من فتح طارق بن زياد لطليطلة عاصمة القوط حكام شبه الجزيرة الأيبرية، سقطت طليطلة في يد الفونسو السادس ملك ليون وقشتالة.(1/2)
ولم يكن سقوطها عملاً بسيطاً تم إثر معركة، وإنما كان عملاً مخططاً على مدى طويل نسبياً، ولقد تضافرت أسباب وعوامل مباشرة وغير مباشرة ساعدت على سقوطها، منها تعاظم القوى الإسبانية وانتعاشها مستغلة اشتعال نار الحرب الأهلية في الأندلس خلال أواخر عصر الإمارة( ثورة ابن حفصون، ثورة المولدين في الثغور) فحصنت مواقعها في الشمال ثم تجاوزتها باتجاه الجنوب حتى وصلت إلى ضفة نهر دويرة الشمالية، حيث عمدت إلى بناء الحصون، وأضحت القوى الإسبانية مؤلفة من أربع دويلات، دولة ليون في الزاوية الشمالية الغربية، وقشتالة في الوسط الشمالي، وبرزت إمارة البشكنس(دولة نافارة) في السفوح الغربية لجبال البيرنيه، وفي شرقي هذه الجبال، وعلى شاطئ المتوسط حيث مدينة برشلونة، ظلت دويلة الثغر الإسباني التي ارتبطت منذ نشأتها بالكارولنجيين سادة غاليا، وعلى الرغم من انقسام القوى الإسبانية إلى دويلات وتناحرها فيما بينها فقد بقيت تلك القوى عاملاً خطيراً مهدداً لدولة الخلافة الأموية، مما اضطرها لتجريد الحملات ضدها، وكان من نتائج هذه الحملات التي وُجهت إلى الشمال أن هُدّمت تلك المراكز الحصينة التي أقامتها القوى الإسبانية في ضفة نهر دويرة اليمنى، كما نزل العرب المسلمون بعضها الآخر، وأدت هذه الحملات إلى بسط سيادة الخلفاء على هذه الدويلات التي أعلن ملوكها الولاء للخلفاء، وعبّروا عنه بدفع المال، أو تقديم الحصون، أو بكليهما معاً، ولكن على الرغم من ذلك لم يُخضع الخلفاء المنطقة لحكمهم المباشر، وأبقوا للدويلات شخصيتها وحكامها الموالين لهم الذين لم يصل ولاؤهم بالطبع إلى حد التبعية والخضوع التام المباشر للخلفاء، كما هي حال جماعات المستعربين المقيمين على أرض الأندلس.(1/3)
ويرى توينبي أن القوة العربية وصلت الذروة في عمل الخلفاء ضد الإسبان الشماليين، ومع ذلك لم تنهِ السيادة الإسبانية نهائياً من الشمال مما جعل هذه الأعمال-خاصة في عهد الحاجب المنصور- بما أثارته من تحدٍ ورد فعل عليه نقطة الانعطاف في الصدام بين الإسلام والمسيحية خلال العصور الوسطى، وبالتالي البداية نحو المد الصليبي الذي سيمتد من نهر دويرة إلى نهر الأردن وما وراءه :toynbe( aj.astudy of history voi. V111 p. 349/351) كما أن أحداث عصر الخلافة التي أدّت إلى قوة الأندلس وعظمتها وازدهارها حملت في ثناياها عوامل انهيار الخلافة وتمزق المجتمع الأندلسي ووحدته السياسية، فإذا أنهى العصر الصراع الاجتماعي بين عرب ومولّدين ومستعربين، إلا أن الثمن الذي دفعه الخلفاء من أجل تحقيق ذلك كان زوال امتيازات الجند، وهي الطبقة التي كانت إحدى دعائم الحكم الأموي منذ قيامه، وعوّض عنهم الخلفاء بعبيد صقالبة ومرتزقة من قبائل مغربية كوّنوا بمجموعهم طبقة غريبة تراكم الحقد عليها بقدر ما كان عددها يتزايد، وامتيازاتها تكثر وتكبر حتى وصل إلى ذروته في العصر العامري، فقد استكثر الحاجب محمد بن أبي عامر المنصور من العبيد الصقالبة كي يضمن سيطرته، واستدعى جماعات من قبائل مغربية شتى متعادية في أرضها، مما يضمن له عدم إمكانية اتفاقها ضده, وعمد ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر, والذي حكم من سنة 392-399هـ, إلى تقريب المحاربين المغاربة أكثر من والده حتى كاد أن يَقصُر مجالسته على رجالهم, ولم يقتصر الاعتماد على هؤلاء الأغراب على المجال العسكري فقط بل تعدّاه إلى المجال المدني, فعين الخلفاء رجالاً من العبيد أو من الأحرار ذوي الأصول المتواضعة, وأبعدوا أسر موالي الأمويين التي كانت ركيزة ثانية للدولة منذ نشأتها في أيام عبد الرحمن الداخل.(1/4)
وأدى النشاط الاقتصادي, في عصر الخلافة, إلى انقسام طبقي بين عِلية القوم الذين تراكمت ثرواتهم وتعاظمت مواردهم, وبين العامة، وبرزت التناقضات جليةَ في قرطبة, فلما قرر عبد الرحمن شنجول ابن الحاجب المنصور الثاني من زوجته ابنة ملك نفاره (سانشو) أن يجبر الخليفة هشام بن الحكم على التنازل عن العرش انطلقت الشرارة التي أشعلت نار الثورة تحالف فيها عوام قرطبة وأحدُ الأمويين من أحفاد الناصر وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وأفلحت في تحطيم الاستبداد العامري, لكنها أدخلت الأندلس في دوامة الفتنة التي انجلت بعد أكثر من عشرين عاماً 399-422هـ عن زوال الحكم الأموي ووحدة الأندلس وظهور ما يسمى بدول الطوائف, وكان أهمها دولة بني جهور في قرطبة –وبنو عباد في اشبيلية- أما في منطقة الثغور مع الإسبان فقد قامت ثلاث دول أسستها أسر أندلسية عريقة تعود أصولها سواء أكانت عربية أم بربرية إلى زمن الفتح، منها دولة بني النون في الثغر الأوسط طليطلة، والتّجيبون، وبنو هود في الثغر الأعلى سرقسطة، ودولة بني الأفطس في الثغر الأدنى بطليوس.(1/5)
ولعلّ القاسم المشترك بين دول الطوائف التي مرّ ذكرها, أن مؤسسيها سواء كانوا أفراداً أم جماعات كانوا أندلسيين. أما الجماعات العسكرية التي دخلت الأندلس في عصر الخلافة وكانت مغربية أو صقلبية فقد أنشأت كل قوةٍ منها دولةً أو دولاً في منطقة تجمعها أو المنطقة الأقرب من الأندلس لبلادها الأصلية, وهكذا قامت للمغاربة دولة في غرناطة (الدولة الزيرية أو الصنهاجية), ودولة العامريين في شرق الأندلس.ونقصد بها تلك الدويلات التي شادها الفتيان الصقالبة العامريين في شرق الأندلس على طول المنطقة المطلة على المتوسط من طرطوشة حتى المريّة. وكان الصراعَ في الغالب, الجوهر والقاعدة في علاقات ملوك الطوائف بعضِهم ببعض, وربما كان منبعُه طبيعة سلطة كل منهم، إذ كانت سلطة غَلَبة ووضع يد على منطقة معينة ولم تكن منحة أو تعييناً من سلطة عليا تحدد مداها وحدودها, وأضحى كل ملك يهاجم من حوله طمعاً في الاستزادة من الأملاك أو درءاً لخطر ملك آخر يملك قاعدة قريبة من المراكز الحساسة في دولته, ولم يلبث هؤلاء الملوك أن اعتبروا الصراع صراعاً على البقاء, ولم يتورعوا عن استخدام أي وسيلة للخروج منه بنتيجة ملائمة –ولعلّ أهم هذه الوسائل خطراً الاستعانة بملوك أو نبلاء الدويلات الإسبانية الذي مكّن هؤلاء من ابتزاز الجميع أموالاً أول الأمر, وقواعدَ وحواضر في نهاية المطاف.(1/6)
وقد اعتمد ملوك الطوائف لدعم سلطانهم على دعامة من الجند المرتزقة والعبيد, وكان هؤلاء الجنود من عناصر متعددة يأتي في مقدمتها بنو برزال من زِناته, وكان الاعتمادُ عليهم يكادُ يكون عاماً لدى كل الدويلات وخاصة في الجنوب, وقد وصف ابنُ حيان دورهم بقوله: ...وقد حلّوا محل الملح في الطعام ببأسهم الشديد، وقاموا مقام الفولاذ في الحديد فلا يقاتل الأعداء إلا بهم، ولا تعمر الأرض إلا في جوارِهم، فطائفةٌ عند ابن الأفطس تقاوم أصحابها قبل ابن عباد، وطائفة عندنا بقرطبة تحيّز أهلها عن الأضداد، فسبحان الذي أظهرهم ومكّن لهم إلى وقت وميعاد(1)، ووصلت شهرتهم في الحرب إلى حد أن بني زيري الصنهاجيين ملوكَ غرناطة وأصحاب الثأر مع زِناتة عموماً وبني برزال بوجه خاص في المغرب قبل الوصول إلى الأندلس استعانوا بهم أيضاً، كما يقول الأمير عبد الله(2).
كما استُخدِم السودان من قبل الفتيان العامريين على رغم أنهم جنود، ومن قبل الزبيريين أيضاً، وكانوا أوفياء لهؤلاء الزبيريين، فعندما هاجم العبّاديون مالِقَة انفرد السودان بالدفاع عن قضية سيدهم الزيري، ولاذوا بالقصبة عند سقوط المدينة حيث استمروا في المقاومة ريثما وصلت الإمدادات من سيدهم(3).
وكان بين هؤلاء الجند مرتزقة من الإسبان أو غيرِهم من الأوربيين، وقد وصف ابن حيان جيش ابن ذي النون الموجه لاحتلال قرطبة بأنه كان يضم الألوفَ المختلفة الألسن(4).وفي مكان آخر يضيف" ما بين أجنادِه وإمدادِه ذوي ألسنةٍ شتى، وبطارقَ أعزة يُعرِب عنهم التراجمة.
__________
(1) -الذخيرة -ق2 م1 ص 12-13.
(2) -التبيان ص 62-63.
(3) -ابن عذارى ج3 ص 147.
(4) الذخيرة ق2 م1 ص 22-23،28.(1/7)
أما الأندلسيون فقد بعُد عهدهم بالجندية والجيش منذ إبعادهم التدريجي الذي بلغ ذُروته في عهد العامريين، ومع ذلك فقد كانوا يُحشدون في وقت الخطر الشديد، وقد برز عجزهم واضحاً جلياً، وقُتِل الألوف منهم في الحروب التي جَرَت بين ملوك الطوائف، أو بينهم وبين الإسبان، ومن أمثلة هذه الحالات ما قام به ابن الأفطس بعد هزيمة ساحقة له أمام ابن عبّاد في صراعهما على مدينة يَابُرَة، إذ جمع خصمه فلول جيشه المهزوم، واخرج معهم كل من قَدِر على ركوب دابّة، وحشَرَ من رجال البوادي بعمله خلقاً كثيراً، ولكن الهزيمة حلّت بابن الأفطس مرة ثانية، وكانت الضحايا منهم كثيرة، حتى أن راوية ثقة لابن حيان أفاده أن" بَطَلْيوس بقيت مدة خالية الدكاكين والأسواق من استئصال القتل لأهلها(1).
أما أعداد هؤلاء الجند المعتمد عليهم فلا يمكن التعرفُ عليها بدقة في غياب الإحصاءات لعددها في كل دولة، وللتطورات التي كانت تطرأ عليها، وإنما يمكن التوصل لاستنتاجات عامة من خلال الأرقام التي يوردها مؤرخون ثقات، أو رجال دولة لعدد جنود دولة ما، وذلك في معرض الحديث عن معركة ما.
__________
(1) -الذخيرة ق1 م1 ص 362-363.(1/8)
يذكر الأميرُ عبدُ الله الزيري في معرض حديثه عن هجوم تحالف من الصقالبة الأندلسيين ضد بني قومه الزيريين بعدما جمعوا كل قواتهم، فبلغت عدتها أربعةَ آلاف وجابههم بنو زيرى بأقل من ألف(1), ورغم ما قد يكون في الأرقام من مبالغة نحو الإكثار من عدد الأعداء والتقليل من عدد أبناء القوم لتضخيم حجم الانتصار، فإن النتيجة التي نتوصل إليها هي أن أكبر جيش جُمع في الأندلس أول فترة قيام دول الطوائف لا يزيد عدده عن خمسة آلاف, ويظهر أن أعداد الجند كانت تقل بمرور الزمن، خاصة لدى الدول الممزقة كدولة بني زيرى, فالأخوان عبد الله صاحب غرناطة وافى الحشدَ الإسلامي قُبيل الزلاقة في 300فارس، وأخوه تميم من مالقة بحوالي مائتين(2)، وفي بعض الدول ذات الموارد الضعيفة كدولة بني جهور في قرطبة أضيف إلى قِلّة العدد وهي 200 جندي لدفع الخطر انهيار الهيكل التنظيمي، لدرجة أن رواتبَهم لم تكن مدفوعة ومؤنَهم لم تكن محفوظة، كما يستفاد من روابة ابن حيان وهو الشاهد العيان لذلك من داخل الدولة.
__________
(1) -التبيان ص22
(2) -ابن الأبار-الحلة السيراء ج2 ص100(1/9)
لذا يمكن القول أن كثيراً مما يسمى بجيوش ملوك الطوائف هي أقرب إلى العصابات منها إلى جيوش منظمة, وربما كان الاستثناء الوحيد لذلك جند العباسيين, الذين يرتقون إلى مرتبة الجيش، إذ ظهر فيهم الاختصاص فكان منهم مختصون بأعمال الحصار وقد ظهر عملهم عند الاستيلاء على شِلْب 455هـ(1)، فقد دخلوها عنوة بعد هدم سورها بالمجانيق من جهة ونقبه من جهة, كما كان للعبّاد بين أسطولُهم الحربي الذي شارك في الأعمال الحربية مثل دخول الجزيرة الخضراء وتهديد مالقة, وفي أواخر أيام دولتهم لَبّوا دعوة يوسف بن تاشفين لمساعدته في الاستيلاء على سبتة بقواتهم البحرية, وقد وصف ابن بسام هذه السفينة بأسلوبه الأدبي قائلاً: أنشأ المعتمد سفينة ضاهى بها مصانع الملوك القاهرين بَعُد العهد بمثلها شِدّة وسعة بطن وظهر, كأنما بناها على الماء صرحاً مُمّرداً وأخذ بها على الريح ميثاقاً مؤكداً(2). تجاه هذه التجزئة للسلطة في الواقع الفعلي وانعدام أي رابط بين السلطات في عصر الطوائف نجد أن دول الشمال الإسباني كانت تسير نحو التوحيد على مستويين, في المجال النظري, كان ملوك ليون يعتبرون أنفسهم امتداداً للأسرة المالكة القوطية قبل الفتح العربي الإسلامي، وفي مضمون هذا الاعتبار ما يشير إلى حقهم في حكم شبه الجزيرة الإيبرية كلها كما كان ملوك القوط يحكمون, وإزاء تعدد الدويلات الإسبانية اتخذ مليك ليون لقب إمبراطور وحتى باسيليوس سواء في وثائقه الرسمية أو لدى رعاياه أو لدى ملوك الدويلات الإسباينة.
أما على المستوى الفعلي والعملي, فقد كانت الوراثة في هذه الفترة تؤدي في غالب الأحيان إلى ضم تاج أكثر من دولة, وهكذا حكم كل من فرناندو الأول وابنه الفونسو السادس دولتي ليون وقشتالة من 430هـ/1038 إلى 503هـ/1109(3)
__________
(1) -ابن عذاري ج3 ص 235-236*296-298
(2) -الذخيرة ق2 م2 ص 127.
(3) -diccionario historico espanol.art.fernando 1 vol 2(1/10)
وإذا كانت القوى الإسبانية قد استطاعت خلال فترة الثورة الأهلية في عصر الإمارة أن تصل إلى حوض نهر الدويره, فإن حدودهم توسعت باتجاه التاجُه بعد سقوط الخلافة الأموية خلال فترة الفتنة، ونشأت في الأرض الجديدة وبحذاء أراضي دول الطوائف تجمعات بشرية وبينها مجموعات عمرانية دفاعية على قمم المرتفعات, وقد استطاع فرناندو الأول بالإصلاح الجديد الذي طبقه تقوية السلطة الملكية وزيادة عدد المحاربين بأعداد كبيرة, إذ أنه ألغى التوريث في ملكية الإقطاعات وإدارتها وأصبحت منحة ملكية يكون للممنوح له حق الانتفاع بها وممارسة السلطات الإدارية والقضائية بها نيابة عن الملك, وقد اعتمد في هذا الإصلاح على النبلاء من طبقة أدنى أو الفرسان بينما كان الكونتات ينتمون إلى النبالة العليا، ولم يقتصر هذا العمل على المنح في الأراضي الجديدة المكتسبة, وإنما أصابت القديمة أيضاً وأزيح بعض النبلاء عن إقطاعاتهم ومنح النبلاء الصغار مناطق شاسعة(1).
وقد حصل في قشتالة أكبر تطوير في هذا النظام إذ زيد في عدد النبلاء الجدد أو الفرسان, ورفع عددهم فيها من 300إلى 600 إن هذا الإصلاح أدى إلى زيادة المحاربين بأعداد كبيرة, لأن الفارس أو النبيل الصغير ليس جندياً فرداً وإنما يهرَعُ للحرب مع أتباعه، فهو بمثابة قائدٍ لمجموعة من الجند، ومما لا ريب فيه أن هذا يخلق في وجه مجتمع الطوائف مجتمعاً محارباً متماسكاً مؤلفاً من محاربين يرتبطون بسيدهم الملك ارتباطاً وثيقاً بفعل الإصلاح الجديد في إطار واجبات متبادلة.
__________
(1) -ibid,art. Fernando 1(1/11)
بالإضافة إلى القوى الإسبانية كان على العرب المسلمين في عصر الطوائف أن يجابهوا هجومياً أوربياً, فالبابوية كانت تنظر للصراع ضمن ميدانه الواسع الذي تدخل فيه إسبانية, وهكذا قام البابا الكسندر الثاني عام 456هـ /1063م أي قبل ثلاثين عاماً من توجه أول حملةٍ صليبية إلى بلاد الشام؛ بتقديم وعد بالخلاص من الخطايا والبراءة من الذنوب لكل من يشارك في حرب صليبية ضد العرب المسلمين في الأندلس, وتجمع جيش أغلبه من الفرنسيين والنورمانديين وانضم إليه فرسان إيطاليون وبعض المحاربين الإسبان من مناطق الشمال(1).
وهاجم معقل بَرْبشْتَر الحصين في منطقة الثغر الأعلى (سرقطة) ورغم المقاومة العتينة فقد دخل المهاجمون البلد عنوة, وقتلوا الآلاف من أهلها.
لم يكن هذا أول احتلال لبلد أندلسي لكن كل ما حدث سابقاً كان من قِبَل إسبان ينالون ما ينالون باتفاق مع صاحبه كثمن مساعدة، أو أنهم يتفقون مع طرف من أهله، لذلك كان هذا أولَ احتلال بهجوم من أغراب، كما أن ما حصل فيه من أعمال شنيعة أحدث ردّة فعل في الأندلس، وهذا ما يفسر تقاطر النجدات على المُقتدر بن هود، فاجتمع لديه جيش لم يعرف عصر الطوائف له مثيلاً من قبل في العُدّة والعدد حتى قيل إن فيه ستة آلاف من الرماة، وتمثلت خطة الهجوم عليه بقيام الرماة بالرمي على السور تغطية لعمل النقابين تحته، الذين توصلوا لفتح ثغرة فيه دخلوا منها وأبادوا الحامية كلها تقريباً، والمكونة بحسب قول ابن خلدون من ألف فارس وأربعة آلاف راجل بعد أن بقي في أيدي الروم قرابة سنة كاملة(2).
__________
(1) -read the moono in spain and partogalp.10.
(2) - ابن عذاري ج3 ص 282.(1/12)
اختلف التوسع الإسباني على حساب العرب المسلمين فيما يسمى بالريكونكويستا ( حرب الاسترداد أو حرب الاستغلاب) عن التوسع الأوربي، إذ لم يكونوا على وعي ظاهر بالبعد العالمي لصراعهم مع العرب المسلمين، وإنما كان البارز لديهم البعدُ المحلي المتمثل بإيمانهم بأن إسبانيا واحدة تشمل شبه الجزيرة الأيبرية وأنها كانت مسيحية كاثوليكية يحكمها القوط، ويجب أن تعود الآن لحكم ملوك ليون الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم خلفاء ملوك القوط، وقد ظلوا يرددون الفكرةَ ذاتها سواء زمن فرناندو الأول أو ابنه الفونسو السادس، فقد قال الأول لوفد أهل طليطلة:" إنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديماً في أول أمركم، فقد سكنتموها ما قُضي لكم، ولقد نُصرنا الآن عليكم برداءتكم، فارحلوا إلى عدوتكم واتركوا لنا بلادنا، فلا خير لكم في سكنكم معنا بعد اليوم"(1). وقال مبعوث ألفونسو كلاماً في نفس المعنى للأمير عبد الله الزيري:" إنما كانت الأندلس للروم في أول الأمر حتى غلبهم العرب"(2). ثم إن الاستيلاء على الأراضي التي كانت بيد المسلمين كان يحقق لهم هدفاً مادياً لأن ما بيدهم من الجزيرة بحسب قول سفير ألفونسو السادس هو أن العرب ألحقوهم بأنجس البقاع" جليقية"، كما أن نفوسهم شرهت للذهب والمعدن الثمين والنفائس، وحينما شكا أهل طليطلة لفرناندو عجزهم عن تقديم ما يطلبه من مال كان جوابه" لو كُشِفَت سقوفُ بيوتِكم لبرقت ذهباً".
__________
(1) -ابن عذاري ج3 ص 282.
(2) -التبيان ص 73.(1/13)
من ناحية ثانية رأى الإسبان أن الساعة قد أزفت لتحقيق مطمحهم، إذ زالت هالة المجد والقوة والتقدم التي كانت تحيط بالعرب المسلمين في أذهانهم، فقد قال أحد رؤساء الجند عن أهل قرطبة:" كنا نظن أن الدينَ والشجاعةَ والحقَ عند أهل قرطبة، فإذا القومُ لا دينَ لهم ولا شجاعةَ فيهم ولا عقولَ معهم، وإنما اتفق ما اتفق من الظهور والنصر كان بفضل ملوكهم، فلما ذهبوا انكشفَ أمرهم(1).
وعلى رغم ذلك لم ير الملك الإسباني المواجهة والإجهاز على حكم ملوك الطوائف- كما كانت تستهدف الغزوة الصليبية- وذلك لمعرفة الملك الإسباني بأوضاع شبه الجزيرة أكثر، ولمعرفته بأحوال العرب المسلمين من الداخل عِبر مداخلات قومه معهم، وعبر الأشخاص الذين انتقلوا لخدمته من بلاطات ملوك الطوائف مثل شيشند أو شيشلاند(2).
ولذلك كانت خطته العامة أن يخضعهم للجزية ويضرب بعضَهم ببعض، فيفتقرون هم ويضعفون، ويغنى هو ويقوى، وما بين الحين والآخر يستولي على جزء من بلادهم دون قتال أو تعب.
وليس هذا الاستنتاجُ استنتاجَ مؤرخ حديث بعد استقراء الحوادث وسلوك ألفونسو السادس، وإنما ذكرها الأمير عبد الله الزيري المشارك في الأحداث، كما يؤكد بدوره أن هذا ليس استنتاجاً منه وإنما كان سياسة مقررة في بلاط الملك الإسباني بعد مداولات مع رجاله، وقد عبر عن ذلك شيشند بقوله:"
... هم الآن عند التمكن طامعين بأخذ ظلاماتهم، فلا يصح ذلك إلا بضعف
الحال والمطاولة حتى إذا لم يبق مال ولا رجال أخذناها بلا تكلف"(3).
__________
(1) -ابن عذاري ج3 /290.
(2) -ظهر أيام المعتضد بن عباد وسفر بينه وبين فرناندو ملك قشتالة، ثم نزح إلى جليقية وخدم فرناندو ثم من بعده ابنه ألفونسو.
(3) -التبيان ص 76.(1/14)
تجاه ذلك لم يستطع ملوكُ الطوائف تصوّرَ أو وضعَ خطة مقابلة يلتزمونها، بل كانوا يصرفون سياسة يومية دون آفاق بعيدة، ويجدون ملجأ بالتوكل على فرجٍ يأتي من الله عزّ وجلّ بحسب قول عبد الله الزيري:" فكان الجميع يساير الأمور ويدافع الأيام ويقول: من هنا إلى أن ينفد المال وتهلك الرعايا..يأتي الله بالفرج وينصر المسلمين(1)".
وكانت طوائف الثغور قد خضعت لتقديم الجزية منذ أيام فرناندو الأول، وعمم ابنه هذا النظام على كل دول الطوائف، وكان دفع الجزية مرفقاً بحماية ألفونسو لمن يدفع" ووعدَنا أن يحامي عنا كما يحامي عن بلده" وكذلك الاعتراف به كحكَم، فعند عقد اتفاق بين غرناطة وإشبيلية تم العقد بوساطة منه وبضمانته، ثم إنه عُقد العقد بين يديه على ذلك وأنه لا يتعدى منا أحد على صاحبه(2).
__________
(1) -التبيان ص76.
(2) -التبيان ص 76-77.(1/15)
ونتيجة لهذه المكانة التي أصبحت لملك إسبانيا تسابق الجميع لنيل الحُظوة لديه عن طريق تقديم الهدايا له، وتقديم ما يحتاجه في وقت الأزمة، فعندما حاصر طليطلة لإعادة يحيى بن ذي النون الملقب بالقادر إليها هاجمه الشتاء وانعدمت الأقوات في معسكره، فهب ملوك الطوائف الآخرين لتزويده بالمؤن(1). ويبدو أن هذا التقديم كان يتم سراً بينما يُظهر الجميع علناً تعاطفهم مع إخوانهم في الدين أهل طليطلة مما جعل هؤلاء يطمعون في عونهم، لكن ألفونسو اضطر لفضح هذا الأمر كي لا يطول الحصار، فاستسلمت المدينة وخرج منها ابن الأفطس الذي كان قد دخلها إثر فرار القادر يوم النحر سنة 474هـ ما يس 1082م، وعندما استقر المقام بالقادر في طليطلة صرف همه إلى جمع المال وتقديمه إلى ألفونسو لأنه كان قد اتفق معه مقابل مساعدته في استعادة طليطلة على تقديم كل ما في بيت مالها من أموال وأن يسلم إلى ألفونسو حصني سرية( zariat الآن) وقورية( حالياً cantaria ) الأول في شرق المملكة، والثاني في غربها، لكن كل ما جمعه من الناس بالضغط والإكراه وما أضافه من الحلي والنفائس لم يرضِ الملك الإسباني، ثم تمَّ الاتفاق على أن يأخذ الملك الإسباني المال المتوفر ويؤجل استيفاء الباقي إلى أن يتوفر، ويحتفظ بحصن قنالِش الواقع على الحدود مع مملكة سرقسطة ضمانة لذلك.
__________
(1) -الذخيرة ق4 م1 ص128.(1/16)
انسحب الملك الإسباني إلى بلاده إثر ذلك، بعد ما شحن الحصون الجديدة التي حصل عليها بالرجال والأغذية، وترك القادر ليتلقى وحده الهجمات عليه من قبل ابن عباد من الجنوب والجنوب الغربي وملوك سرقسطة من الشمال والشمال الشرقي، إضافة إلى المعارضة الداخلية التي لم تهدأ، ويظهر أن ألفونسو لم يحاول أن يقدم له أية مساعدة كي يصل القادر إلى حالة من الضعف يجعل سقوطَ المدينة بيده أمراً سهلاً، مع أن وزيره شيشند أو شيشلاند حاول إقناعه بعدم الإسراع في الاستيلاء على طليطلة لأنه لن يجد عمّالاً أطوع من ملوك الجزيرة، وانه إذا أبى إلا الإلحاح عليهم والتسرع بالمكروه إليهم، أحوجهم إلى مداخلة سواه، ولكن ألفونسو لم يأخذ بنصيحة وزيره لأنه كان واثقاً على ما يبدو من أن المدينة أصبحت في يده بعد أن أخذ بمَخْنَقِها من هذه الحصون المحيطة بها، بدليل أنه تفاوض مع البابا على أساس إعادة مرتبة أسقفية طليطلة التي زالت منذ تحطمت دولة القوط. وقد سارت الأمور كما يشتهي ألفونسو السادس إذ اقتنع القادر بعجزه عن دفع خطر الأعداء في الداخل وهجماتهم من الخارج، فاتفق مع ألفونسو سراً على المجيء لأخذ المدينة وتعويضه عنها ببلنسية، وتقدم ألفونسو ليحاصر المدينة ويقطع عنها الإمدادات والاتصالات من كل جهة، وليغير على نواحيها ليُفسد مزروعاتها، وقاوم أهل المدينة الحصار قرابة عام، وحل الشتاء قاسياً، وفُقدت الأقوات لدى القوى المُحاصَرة فأسقط في يدهم وسلمت المدينة في 27 محرم 478هـ.(1/17)
/20 مايس 1085م، ونُقل القادر إلى مقر القيادة العسكرية الإسبانية، بينما نال المحاصَرون شروطاً للاستسلام تنص على الأمان في الأنفس والأموال والعيال على أن يدفع كل منهم مالاً مقدّراً على رؤوس ما عندهم من الأشخاص، كما مُنحوا حرية البقاء لمن يشاء، والرحيل لمن أراد على أن يكون للراحل الحق باستعادة أملاكه إذا رغب في العودة بعد ذلك(1).
وهكذا ارتدت طليطلة إلى النصرانية بعد أن حكمها المسلمون 385 سنة هجرية، ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة مملكة قشتالة، ويغدو قصرها منزلاً للبلاط القشتالي.
كان من نتائج سقوط طليطلة أن زادت قوة الإسبان، وزاد اختلال ميزان القوى في شبه الجزيرة، ويمكن تحديد أبعادِ القوة التي أُضيفت للإسبان من ملاحظة سِعة المنطقة التي ضموها، والتي يشير إليها ابن الكردبوس بقوله:" ولما حصل الطاغيةُ ألفونس بطليطلة شمخ بأنفه ورأى أن زمام الأندلس قد حصل في كفه، فشن غاراته على جميع أعمالها، حتى فاز بجميع أقطار ابن ذي النون، وذلك ثمانون منبراً سوى البنيان والقرى المعمورات(2). على أن الأهمية لم تكن تكمن في سعة المنطقة فحسب وإنما في الموقع الجغرافي الذي تحتله، وأثره على متابعة عملية الاسترداد( الريكونكويستا). فقد أصبحت حدود ملك إسبانيا تضم حوض التاجُه كلّه من الشمال والجنوب كما تضم أعالي وادي آنة الذي يقود إلى عاصمة بني الأفطس, أما من جهة الجنوب فقد أصبح على السفوح الشمالية لجبال سبير مورينا (جبال قرطبة حسب التسمية العربية) التي بقيت الحاجز الوحيد بين الإسبان وحوض الوادي الكبير حيث تقع قرطبة وإشبيلية حاضرتا دولة بني عبّاد أكبرُ دولة من دول الطوائف.
__________
(1) -ابن الكردبوس-الاكتفاء في أخبار الخلفاء، القسم الخاص بالأندلس- تحقيق أحمد مختار الصادي ص 81-82.
ابن بسام: الذخيرة ق4 م1 ص 125-132.
(2) -ابن الكردبوس ص87.(1/18)
ولما كان الملك الإسباني يدرك أن الفقر في العنصر البشري هو نقطة الضعف الأساسية عنده فقد حاول جاهداً أن يُبقي في طليطلة أكبر عدد من سكانها وخاصة في الريف فوزع عليهم مائة ألف دينار(1)، كما حاول اكتساب قلوب رعية الملوك الطوائف, إذ اعتبر نفسه ملكاً للجميع وكان اسمه يقدم للأندلسيين "الأمبراطور ذي الملتين, ويعلن رسلهُ باسمه أنه المنقذ والمُخلص يريد أن يحرر الناس من هؤلاء الملوك، لأن أي واحد منهم لا يرفع عن رعيته ضيماً ولا حيفاً, وقد أظهروا الفسوق والعصيان, واعتكفوا على المغاني والعيدان(2)
وإذا كانت سياسة الفونسو قد وجدت نجاحاً لدى بعض أشرار المسلمين وأرذالهم الذين انضموا إليه وارتدوا عن الإسلام(3)فإن الدور الجديد والتظاهر بتخليص الناس من ظلمهم لم يلق لدى الفقهاء حتى من غير أتباع الملوك أذناً صاغية فقد بدؤوا يشعرون بأن التقدم الإسباني ليس احتلالاً للأرض والبلاد، وإنما قتلاً للعقيدة الإسلامية وقد كان الشعور عاماً بخطورة الحدث ونتيجته على مصير الوجود العربي الإسلامي في الأندلس, كما كان الإدراك عميقاً لأهمية موقع مملكة طليطلة المتوسط في شبه الجزيرة الذي يجعل لسقوطها أثر أكبر من سقوط مدن أخرى، وقد عبّر الأمير عبد الله عن ذلك بقوله: فوقع من ذلك في الأندلس رجَةٌ عظيمة، وأُشرب أهلها خوفاً وقطع رجاء من استيطانها(4)، ولخص الشاعر مخاوف أهل الجزيرة بشكل أدق وذلك بقوله:
حُثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط
السلك يُنْثَرُ من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسطِ
من جاورَ الشرَّ لا يأمن عواقِبهُ ... كيف الحياة مع الحيّات في سَفَط
ج ... ج
أما بالنسبة لملوك الطوائف فلم يبعد لأحد شك في أن الفونسو قد غير
__________
(1) -ابن الكردبوس ص91
(2) - ابن الكردبوس ص89.
(3) - ابن الكردبوس ص103-104
(4) -التبيان ص 101.(1/19)
سياسته؛ وأنه لم يعد يكتفي بالمال السنوي وإنما يريد البلاد أيضاً, وأدى هذا الأمر بالملوك وخاصة الذين توجه نحوهم الفونسو السادس بعد سقوط طليطلة إلى الحذر والتشدد, وكان الصدام الأهم مع ابن عباد كبير ملوك الطوائف إذ طلب الفونسو من ابن عباد أن يتخلص عن معاقل كان الموت عنده أولى من إعطائها, وتحدد الرواية التي يوردها ابن الأثير موقع المعاقل هذه وتقول إنه أرسل إليه الضريبة على عادته فردّها عليه ولم يقبلها منه، وأرسل إليه يتهدده ويتوعده أن يسير إلى مدينة قُرطبة ويتملكها؛ إلا أن يسلم إليه جميع الحصون التي في الجبل ويبقى السهلُ للمسلمين(1), وهذا الطلبُ يذكّر بما أخذ من ابن ذي النون قبلاً من المعاقل وكان تمهيداً لأخذ طليطلة, فكان رد المعتمد صارماً إذ قتل رئيس البعثة اليهودي الذي كان قد أغلظ له في القول وشافهه بما لم يحتمله, واستفتى الفقهاء فيما فعل فبدَرَه الفقيه محمد بن الطلاّع الذي يصفه ابن بشكوال بأنه بقية الشيوخ الأكابر في وقته وزعيمُ المفتين بحضرته, بالرُخصة في ذلك لتعديه في حدود الرسالة على ما يستوجب به القتل، إذ ليس له أن يفعل ما فعل, وقال للفقهاء زملائه (إنما بدرت بالفتوى خوفاً أن يكسل الرجلُ عما عزم عليه من منابذة العدو عسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجاً)(2).
__________
(1) -ابن الأثير ج8 ص 138.
(2) -الحميري: الروض المعطار ص 288.(1/20)
ويبدو أن الفقهاء كانوا يعيشون ربما أكثر من غيرهم حالة الغليان التي عَمّت الأندلس إثر سقوط طليطلة؛ بدليل أن أولئك الصامتين منهم في السابق قد انطلقوا للقيام بمبادرة مستقلة عن الملوك حينما اجتمعوا إلى قاضي الجماعة بقرطبة عبيد الله بن أدهم, وتداولوا في شأن وسيلة الإنقاذ التي وجدوها غير متوفرة في الأندلس وحدها, ولا تتهيأ إلا بمعونة إخوانهم من خارجها, وقد رأى فريق منهم الاستعانة بالقبائل العربية من سُليم وهلال التي عبرت المغرب الأدنى من الشرق وأثبتت شِدة مراس في الحرب وقدرةً في القتال, واقترحوا دعوتهم للدخول إلى الأندلس, والبذلَ لهم ومقاسمتَهم الأموال والمجاهدةَ معهم, ولكن قاضي الجماعة في قرطبة عارض الرأي لأن دخول هؤلاء سيؤدي لإيقاع الخراب ربما لأنهم عشائرُ لا ضابط لهم ولا قيادة, وفضّل على هذا الاقتراح رأياً آخر يقول بدعوة المرابطين(1)
منذ اقتراب المرابطين من المضيق وسيطرتهم على طنجة, كانت وفود الأندلسيين ترد على المرابطين من جهات ثلاث أولُها من المتوكل بن الأفطس الذي ضغظ الإسبان على جهات بلاده الشمالية, فأخذوا شنترين وقلُمريّة، لكن الأدهى بالنسبة له ما أخذه من مملكة طليطلة عند مداخلة الفونسو السادس للقادر بن ذي النون واستلابه منه حصني سريةzanita وقورية، وقد أرسل رسالة عند أخذ الحصن الأول ورسالة ثانية عند أخذ الحصن الثاني الشديد الخطر عليه؛ لأنه رأسُ طريقٍ يؤدي رأساً إلى عاصمته بَطَليوس، كما ظهر ذلك جلياً في معركة الزّلاّقة، لذلك كانت دعوته ليوسف بن تاشفين للقيام بالجهاد.
__________
(1) -ابن الأثير ج8 ص 141.(1/21)
أما الجهة الثانية فكانت من مالقة في جنوب الأندلس، حيث اتصل الأمير تميم بن بلقين بيوسف بن تاشفين كي يستعينَ به على أخيه ملكِ الدولة الزيرية، والذي هضم حقهُ في أمر وراثة جَدّه، أي أن تميماً هذا رأى في قوة يوسف بن تاشفين المجاورة ما رأته دول الطوائف في الشمال في قوة الملوك الإسبان(1).
وكانت الجهة الثالثة زعماء الرعية من الفقهاء، يمثلهم عبد الرحمن بن أسباط الذي التحق بيوسف بن تاشفين منذ سنة 472هـ وأوضح له أمور الأندلس وأصبح منذ ذلك الوقت بمثابة المستشار لشؤونها(2). ومما لا ريب فيه أنه يمثل الرأيَ السيء في ملوك الطوائف.
أدرك ابن عباد أن المرابطين سيدخلون بدعوة منه أو بدونها لتوفر
تيار قوى لدعوتهم، لذلك قام باستلام زمام المبادرة، ورأت ملوك الطوائف بالأندلس ما عزم عليه من ذلك فمنهم من كتب له ومنهم من شافهه، وكلهُم يُحذّر سوء العاقبة وقالوا له: الملك عقيم والسيفان لا يجتمعان في غِمد، فأجابهم ابن عباد بكلمته السائره ومؤداها أنه يفضل رعي الإبل في الصحراء على رعي الخنازير في قشتالة، وقال لعذّاله ولوّامه، يا قوم أنا من أمري على حالين، حالة يقين وحالةُ شك ولا بُدّ لي من إحداهما، أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى ابن فردناند، فمن الممكن أن يفي لي ويُبقي علي ويمكن أن لا يفعل فهذه حالة شك، وأما حالة اليقين فهي أني إذا استندت إلى ابن تاشفين فأنا أُرضي الله، وإن استندت إلى ابن فردناند أَسخطتُ الله، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يُرضي الله وآتي ما يُسخِطه، حينئذ أقصر أصحابه عن لومه.
__________
(1) -التبيان ص 102.
(2) -ابن الخطيب ج4 ص 350.(1/22)
فلما قرر المعتمد الاستنجاد بيوسف خاطب المتوكل عمر بن محمد صاحب بطَليوس, وعبد الله بن حبوش الصهناجي صاحب غرناطة وأمرهما أن يبعث إليه كل واحد منهما قاضي حضرته، ثم استحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم, وأضاف إليه وزيره أبا بكر بن زيدون، وعرّفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى ابن زيدون ما لابد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية, ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبلَ عليهم وأكرم مثواهم وجددوا الفتوى في حق صاحب سبتة, وكان يوسف قد قتل أمير دولة برغواطة سَقّوت وقد استولى على طنجة ولكنه وقف عاجزاً أمام قاعدتهم سبتة, ولم يستطيع القضاء على مقاومتهم واستخلاص مدينتهم من يد أميرها المعز بن سقوت إلا بالتعاون بين أسطوله والأسطول العبّادي(1).
واتُفِق في المفاوضات التي جَرَت مع يوسف بن تاشفين على مبدأ دخوله للأندلس، ومشاركته في الجهاد لصد الأعداء دون أن يحاول التدخل في شؤونهم الداخلية, وهو أمر أوضحه الأمير عبد الله في مذكراته بقوله: وعاقدنا أميرَ المسلمين على أن تتصل الأيدي على غزو الروم بمعونته وألا يعترض لأحد منا في بلده، ولكن مستشاره عبد الرحمن بن أسباط أشار عليه بأن يأخذ ضمانات لسلامة عمليات جيشه, وذلك بأخذ الجزيرة الخضراء لتكون قاعدة لحشده ومرسى لتأمين اتصاله معه في الأندلس(2).
__________
(1) -ابن أبي الزرع: روض القرطاس ص 143.
(2) -التبيان ص 117.(1/23)
نزل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ثغر الجزيرة الخضراء في منتصف ربيع الأول 479هـ حزيران 1086م وجيوشه تحيط به من كل صوب، وما كاد يطأ بقدميه أرضَ الأندلس حتى سجد لله شكراً، ثم أخذ في تحصين الجزيرة وإصلاح أسوارها وأبراجِها، ورتبَ لها حامية من جنده، ثم سار في قواته صوب إشبيلية حتى تلقاه المعتمد بن عباد؛ وقدّم له الضيافات وأقام في أشبيلية ثلاثة أيام, وكان يوسف قد كتب في أثناء ذلك إلى سائر ملوك الطوائف يدعوهم إلى اللحاق به والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، فكان إن لبّى دعوته عبد الله بن بلقين صاحبُ غرناطة وأخوه تميم صاحبُ مالقه, واعتذر المعتصم بن صمادح صاحب المرية بضعفه وكبر سنه وتوجسه من عدوان النصارى في حصن لبيط (اليدو) وبعث ابنه معز الدولة في فرقة من جنده, ثم سار أمير المسلمين في جيوشه ومعه ابن عباد في قوات إشبيلية وقرطبة؛ وقصدوا بطليموس فلقيهم أميرها عمر المتوكل على مقرُبة منها وقدّم لهم المؤن والضيافات الواسعة, وانتظمت القوات الأندلسية إلى وحدة قائمة بذاتها يتولى قيادتها ابنُ عباد واحتلت المقدمة, واحتلت الجيوش المرابطيه المؤخرة، وانقسمت إلى قسمين, الأول يضم فرسان البربر من سائر القبائل بقيادة داود بن عائشة أبرع قواد البربر؛ ويتولى يوسف قيادة الجيش الاحتياطي المؤلف من نخبة أنجاده المرابطين من لمتونه, ومسوفه وجدّاله وغيرهما من القبائل البربرية. وانتهت الجيوش الإسلامية في سيرها إلى سهل يقع 12كم شمالي بطَليوس على مقربة من حدود البرتغال الحالية وتسميه الرواية العربية بالزلاقة sagrajas.(1/24)
وكانت أنباء عبور المرابطين إلى شبه الجزيرة قد وصلت إلى الفونسو السادس وهو محاصرٌ لسرقطة, فترك الحصار على عجل، وبعث إلى سانشو راميرز ملك أراغون يستدعيه لإنجاده، وكان يومئذ قائماً بحصار طرطوشة, وبعث كذلك إلى أمراء ما وراء البرينية وحشد كل ما استطاع حشده من قوات حليقيه واشتوريش ونفارا, واستدعى قائده البار هانيس بقواته من بلنسية وتقاطرَ إليه سيلٌ من الفرسان المتطوعة من جنوبي فرنسا وإيطالية(1), واعتزم الفونسو أن يلقى الأعداء بأرضهم وقال لأهل وده ووزرائه: (أني رأيت إن أمكنْتُهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني بين جدرها ربما كانت الدائرةَ علي فيكتسحون البلاد ويحصدون من فيها في غداة واحدة, ولكن اجعلُ يومهم معي في جَوز بلادهم؛ فإن كانت علي اكتفوا بما نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءَهم إلا بعد أهبة أخرى, فيكون في ذلك صونٌ لبلادي وجبرٌ لمكاسري, وإن كانت الدائره عليهم, كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون
منهم في وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها).
__________
(1) -r.m.pidal. la espana del cid pp. 331-332.(1/25)
ووافت الجيوش كلها الزلاّقة, وأذكى المعتَمدُ عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد الفونسو، إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه, وقبل المواجهة طلب المرابطون على عادتهم في اتباع الشرع في هذه المناسبات الجزية أو الإسلام أو القتال, وكان رد الفونسو بالطبع الخيار الأخير, واتفق الجميع على يوم محدد للقتال, إذ كتب ألفونسو إلى المعتمد يوم الخميس يقول له: إن غداً يوم الجمعة وهو عيدُكم وبعده السبت يومُ اليهود وهم كثير في محلتنا وبعده الأحد وهو عيدنا, فيكون اللقاء يوم الإثنين, وقد أدرك ابن عباد ويوسف خديعته, وجاءت طلائع المعتمد في الليل تنبئ أن معسكر النصارى في حركة وضوضاء وجلبةِ أسلحة مما يدل على استعداد القوم لبدء القتال, ومن ثم فقد لبث المسلمون على أهبتهم حذرين متحفزين(1), وأفقدوا ألفونسو عامل المفاجأة, واستهدف الفونسو في هجومه القوة الأكثر خبرةً بالأرض ولكنها الأضعفُ قوةً والتي اعتاد جندهُ التغلبَ عليها وهي قوة الأندلسيين, واستطاع تمزيق صفوفها بالهجوم فلم يثبت له سوى القلب بقيادة المعتمد, رد يوسف بن تاشفين بإرسال المدد للقوة الأندلسية الباقية في المواجهة ليجعلها مستمرةً في الصمود بينما قام هو بمهاجمة قاعدة أو محلة الفونسو من الخلف وأضرم فيها النيران واحتجن ما استطاع من عدة, وسبى من وجد فيها من نساء, واضطر بذلك الفونسو أن يحارب على جبهتين من الأمام والخلف واستمرت المعركة نهاراً كاملاً من بزوغ الفجر إلى حلول الظلام من يوم الجمعة 12رجب 479هـ 23تشرين الأول 1086م, وانتهت بتسلل الفونسو السادس مع بضع مئات من جنده.
__________
(1) - الحلل الموشية ص 39. الروض المعطار ص 92.(1/26)
لم يحاول يوسف بن تاشفين وحلفاءه الأندلسيون استغلال نصرهم بمطاردة العدو داخل بلاده؛ والزحفِ إلى أراضي قشتالة, بل لم يحاولوا السير إلى طليطلة لاستردادها، ولو بذل المرابطون هذه المحاولة في الوقت الذي تحطم فيه جيش الفونسو لكُللت بالنجاح بلا ريب.
وقد قيل في ذلك أن ابنَ عباد نصح أميرَ المسلمين بمطاردة ملك قشتالة والقضاء على فلوله، فأبى ابنُ تاشفين واعتذر بأن قال: إن اتبعناه اليوم لقي في طريقه أصحابنا المنهزمين راجعين إلينا منصرفين فيهلكهم, بل نصبرُ بقية يومنا حتى يرجع إلينا أصحابنا ويجتمعون بنا ثم نرجعُ إليه ونحسم داءَه, وتكلم الناس في اختلاف ابن عباد وابن تاشفين, فقالت شيع ابن عباد, لم يخفَ على يوسف أن ابن عباد أصاب وجهَ الرأي في معالجته لكن خاف إن يهلكَ العدوُ الذي من أجله استدعاه فيقع استغناء عنه, وقالت شيع يوسف, وإنما أراد ابن عباد قطع حبال يوسف من العودة إلى جزيرة الأندلس، وقال آخرون: كلا الرجلين أسرّ حسواً في ارتغاء (يضرب مثلاً لمن يظهر أمراً ويريد غيره) وإن كان رأي ابن عباد أحرى بالصواب.
إذا تركنا جانباً نتائج المعركة من ناحية القتلى والغنائم التي لا يمكن تصورَ اتفاق في المصادر حولها إلا في طابع المبالغة الذي يسودها, نرى أن المعركةَ ذاتَ أهمية كبرى من نواحٍ متعددة, فقد كانت أولَ انتصارٍ، أو على الأقل أولَ نجاح من هذا النوع منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن, ثم إنها أوقفت مد الإسبان الشماليين نحو الجنوب في مجالي ضم الأراضي أو فرص السيادة المعبر عنها بدفع الجزية, كذلك رفعت هذه المعركة من معنويات المسلمين ومكانة المعتمَد بن عباد الذي تحمل وصمد للهجمة المعادية دون سائر الأندلسين, لكن أعظم تألقٍ كان من نصيب يوسف بن تاشفين والمرابطين إذ بهم انتهت الهزائم وبدأت الانتصارات.(1/27)
عاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب عقب موقعة الزلاقة في شعبان 479هـ, بعد أن أوصى ملوك الطوائف بضرورة توحيد الكلمة لصد الأعداء, كما أنه حرص على الظهور بمظهر الزاهد في ملك الأندلس وغنائمها والمتمسك بالاتفاق مع ملوك الطوائف من ناحية عدم التدخل في شؤونهم الداخلي،ة وذلك بسرعة خروجه من الأندلس, ولكن شؤون الأندلس بقيت تلاحقه, فقد عادت كتب أهل الأندلس ووفودُهم عليه, تستجير به, وكان الصريخُ هذه المرة آتياً بالأخص من أهل بلنسية ومَرسية ولورقة, كانت شؤون شرقي الأندلس يومئذ قد سادها الاضطرابُ من جرّاء تدخل القشتاليين في شؤون بلنسية وسيطرتهم عليها عن طريق صنيعتهم القادر بن ذي النون, كما أن الفونسو السادس إثر استيلائه على طليطلة قد بعث قواته إلى الأندلس الشرقية لتغير عليها وتُعيث في أراضيها، فاجتاحت المنطقة الواقعة بين مرسيه ولورقة، وعمد القشتاليون لكي يبسطوا قبضتَهم على تلك المنطقة إلى إنشاء حصن ضخم وافر المناعة في مكان يسمى aledo وتسميه الرواية العربية حصن لييط، وشحنوه بالسلاح والمقاتلة، واتخذوه قاعدةً للإغارة على أراضي مرسيه والمرية، وبثوا فيها الرعب والروع، وعجزت القوات الأندلسية المحلية عن رد عدوانهم، فتوالت كتبهم ورسلهم على أمير المسلمين في طلب الإنجاد والغوت, عبر يوسف إلى الأندلس في قواته في ربيع الأول سنة 481هـ حزيران 1088م بدعوة من المعتمد صاحبُ السيادة الشرعية على مرسية ولورقه؛ الذي تلقاه في الجزيرة الخضراء بالمؤن الوفيرة, وبعث يوسف بكتبه إلى ملوك الطوائف ورؤسائهم يستدعيهم للجهاد وأن يوافوه بقواتهم عند حصن لييط, دام الحصار أربعة أشهر دون طائل وانتهى بما يشبه الفشل،وشعر أميرُ المسلمين من جراء ذلك بخيبة الأمل، كما شعر باستياء بالغ لما شاهده من أحوالِ أمراء الأندلس المشاركين في الحصار، فقد كان الخلاف والوقيعةُ على أشدهما بين أولئك الأمراء الطامعين المتنابذين، وحينما بلغه أن الفونسو(1/28)
يتقدم نحو الحصن رفع الحصار وقرر العودة، وحينما وصل الفونسو إلى الحصن وجد قلة من الحامية فحملهم معه، وتقدم ابن عباد فاحتله بعد إخلائه.
مما لا شك فيه أن فشل يوسف بن تاشفين في اقتحام الحصن كان صدمة له, وقد ردّ سببها لقصور ملوك الطوائف وتناحُرِهم, وبدأ تغيره عليهم منذ عودته, وخلال ما يزيد على سنة من إقامته في المغرب؛ نضجت فكرة القضاء على دول الطوائف في ذهن يوسف, وكان الهدف المثالي والمُعلَن والواضح أن فُرقةَ ملوك الأندلس وانشغالَهم بمنازعاتهم وبترفهم سيضيع الأندلس, وربما كان لقواده وللفقهاء دور في إيصال يوسف إلى هذا القرار, فالقواد كصحراويين بُهروا بحضارة الأندلس وبما احتوته أيدي ملوكها من كنوز وذخائر وتحف، ورأوا أنهم أحقُ بها منهم لأنهم يجاهدون ويدافعون عنها, كما أن يوسف ذاته لم يخلُ من تأثر بروعة هذه الحضارة؛ حتى إن إحدى الروايات تنسب إليه قولَه: "كنت أظن أني قد ملكت شيئاً, فلما رأيت تلك البلاد صَغُرَت في عيني مملكتي، فكيف الحيلةُ في تحصيلها"(1)أما الفقهاء من أعداء ملوك الطوائف فقد كانوا أشد الناس تحريضاً ليوسف على الملوك لخلعهم وإقامة حكومة شرعيةٍ مكانهم, وقد أصدروا له الفتاوى بجواز محاربة ملوك الطوائف.
كانت دولة الزيريين أول هدف ملائم من الناحية الجغرافية لصلاحها كقاعدة واسعة لانطلاق قوى المرابطين شرقاً وغرباً وشمالاً ولجأ يوسف بن تاشفين لملاقاة ملوك الطوائف فُرادى مستغلاً أطماعهم بأملاك بعضهم, لذا وعد المعتمد بغرناطة 483هـ بعد احتلالها، وبعد حصار دام شهرين استسلمت غرناطة سنة 483هـ، ولكنه لم يسلمها للمعتمد الذي أدرك أنه سيكون التالي، وبالفعل دخل المرابطون إشبيلية بعد سنة من سقوط غرناطة 484هـ, وفي سنة 487هـ استولى المرابطون على بطَليوس وقتلوا ابن الأفطس مع ولديه نظراً لعلاقاته مع الإسبان وتفريطه بالأراضي لمصلحتهم.
__________
(1) - المراكشي: المعجب ص 138.(1/29)
بعد تحطيم دول الطوائف في الجنوب والغرب من الأندلس, توقف المرابطون أمداً عن التعرض لدول الطوائف الأخرى، وأكبرها دولة بني هود في سرقسطة حيث حكمها في هذه الفترة المستعين أحمد بن المؤتمن الذي اتبع سياسة المسالمة مع المرابطين ومع القوى الأسبانية المحيطة به, أرغوان, قشتالة، برشلونة, وقد راسل يوسفَ بن تاشفين قائلاً: "نحن بينكم وبين العدو سدٌّ لا يصل إليكم منه ضرر... وقد قنعنا بمسالمتكم فاقنعوا منا بها إلى ما نُعينُكم به من نفيس الذخائر"(1)
تظاهر المرابطون بقبول عرض ابن هود لأن البلاد الإسبانية تحجزهم عنه, وليس لهم سبيل للوصول إلى بلاده إلا عن طريق شرق الأندلس التي لم تكن قد خضعت لهم بعد, يضاف إلى ذلك أن بلاده متداخلة وسط أعدائهم وتفتح عليهم جبهات عدة، لكل ذلك تأخّر القضاء على دولة سرقسطة حتى عام 503هـ بعد أن سيطر المرابطون على بلنسية سنة 494هـ وشرق الأندلس.
استمر حكم المرابطين في الأندلس قرابةَ نصف قرن, كان النصف الأول منه فترة استقرار في المجال الداخلي، وقوةً على الصعيد الخارجي. وبدأ الانحدار بين سنتي 510و 520هـ باهتزاز قواعد الاستقرار في الداخل, وفقدان التفوق المرابطي على الإسبان في المجال الخارجي وبعد سنة 520هـ صار التدهور يتعاظم داخلياً بتكاثر الثورات في داخل المغرب والأندلس على السواء، واتساع نطاقها حتى أتت على الدولة.
__________
(1) -الحلل الموشية: ص 60-61.(1/30)
قام المرابطون خلال السنوات العشر الأولى من حكم علي بن تاشفين 500-537هـ بأعمال هجومية عدة في وسط شبه الجزيرة، كانت موجهة كلها على ما يبدو لتحقيق هدف استعادة مملكة طليطلة وتحرير حوض التاجُه، وقد أحرزت نجاحات عدة؛ وإن أخفقت في تحقيق الهدف النهائي, وكان من أهم هذه النجاحات التي حققها المرابطون المعارك التي دارت حول المدينة (قليش الحصينة سنة 501-502هـ) والتي حشد لها المرابطون الجند من جميع المدن الأندلسية، منهم جند نظاميون وآخرون متطوعون, وتلقت المدينة بدورها أمداداً بجيش ضخم يضم سبعة آلاف فارس على رأسهم ابن الفونسو السادس وسبعةًُ من كبار نبلاء المملكة, حتى إن المصادر الإسبانية تدعو المعركة بمعركة القوامس السبعة, وقد قتل غالبيه هؤلاء القوامس نتيجة للكمائن التي أقامها المرابطون، كما قتل الابن الوحيد لألفونسو السادس الذي كان قد احتمى بحصن بلشون belinchon ولكن المرابطين عثروا عليه وقتلوه.
توفي الفونسو السادس بعد حوالي عام من هذه المعركة503هـ، وغرقت دولته في مشاكل وراثة العرش, وربما أسهم هذا في تحقيق المرابطين لانتصار آخر أكبر من الانتصار الأول بعد أقل من عامين, حيث جاز أمير المسلمين علي بن يوسف ذاته إلى الأندلس, وجمع قوةً لم يعهد في ذلك الوقت مِثلُها على حد تعبير ابن عذاري, وتوجهت الحملة إلى منطقة طليطلة فوصلت إلى وادي التاجه وسددت ضربتها الأولى إلى مدينة طلييرة التي استولوا عليها في 15محرم سنة503هـ, واستمر المرابطون بعد ذلك في التقدم في المنطقة باتجاه مدينة طليطلة، واقتحموا حصن قنالش ثم أناخوا على مدينة طليطلة ذاتها لأمد، ولكنهم لم ينجحوا في الاستيلاء عليها.(1/31)
وقد برز أمام المرابطين فجأة خطر خارجي بحري استهدف الجزر في شرق الأندلس, إذ قام أسطول لأهل بيزا وجَنَوَة بالهجوم على جزر البالئار, وقدّرت رواية ابن الكردبوس عدد قطعه بثلاثمائة,حيث دخل الأسطول جزيرة يابسة أولاً فنهبها وسبى أهلها وقام صاحب الجزر مبشر ناصر الدولة بالدفاع عن كبرى الجزر ميورقة حتى توفي، واستطاعت سفينة يقودها أبو عبد الله بن ميمون اختراق طوق الحصار والتسلل خارج مياه الجزيرة لطلب النجدة من المرابطين، لكن الجزيرة سقطت وحل بها ما حلّ بأختها قبلاً, وحينما وصل الأسطول المرابطي ذي العدد المماثل حسب الرواية ذاتها، وجد عمران الجزيرة قد دُمّر فعمل على إعمارها من جديد, وارتد إليها من سكانها من كان قد لاذ بالفرار إلى الجبال, وردّ المرابطون اِثر ذلك على العملية سنة 515هـ بإرسال حملة بحرية على قِلَّوْرِية شرقي صقلية التابعة لملك صقلية وقادها ابن ميمون الذي أصبح قائد الأسطول لدى المرابطين.
وفي خلال العقد الثاني من حكم علي بن يوسف برز الفونسو الأول ملك أراغون المقلب لدى الأسبان بالمحارب AL Fonso Barallador والذي تدعوه الروايات العربية بابن رذمير, وقد دأب على مهاجمة مملكة سرقسطة بمساعدة ابن هود (عبد الملك ابن المستعين) المخلوع عن عرش سرقسطة حتى أن العديد من أمراء سرقسطة المرابطين استشهدوا أثناء عمليات الدفاع عنها, وأخيراً ركز الفونسو عمله الحربي على مدينة لاردَة، فتجمعت قوات مرابطيه من مناطق الأندلس تحت راية الأمير تميم حاكم بلنسية، وواجهت الملك الأرغوني فاضطرته لفك الحصار عن لارده بعدما أوقعت به خسائر جسيمة؛ تبلغ حسب رواية صاحب روض القرطاس عشرة آلاف فارس، وربما كان في ذلك شيء من مبالغة.(1/32)
طلب الفونسو إثر ذلك العون من وراء الحدود, فعُقِد في طولوز بغاليا مجمع ديني اعتبر الحملة على سرقسطة مشروعاً صليبياً، أي أن المشارك بها يُمنح ما ينال المحارب في الحروب الصليبية من غفران للذنوب والآثام, إضافة لمكاسبه الدنيوية من الغنائم.
اتجه إلى سرقسطة حشد غالي (فرنسي) كبير من ناحية العدد، حسن التجهيز لحروب الحصار وصنعوا- كما يقول صاحب روض القرطاس- أبراجاً من خشب تجري على بكرات وقربوها منها ونصبوا فيها العرّادات ونصبوا عليها 20منجنيقاً, واستمر حصار المدينة تسعة شهور؛ استطاع الغزاة خلالها تأمين التموين لقواتهم بمعونة أسقف وشقة، والذي بذل كل كنوز كنيسته لتحقيق ذلك(1).أما المحاصرون ففنيت أقواتُهم فسلموا المدينة في 4رمضان سنة 512هـ, واتخذ الفونسو إثر ذلك سرقسطة قاعدة لتوسعه في حوض الإبرو على حساب ما تبقى من الأراضي الإسلامية في منطقة الثغر الأعلى.
وقام بعد عام بغزو مدينة تُطْليه واحتل قلعة أيوب، وهي قلعة حصينة وقد حاول المسلمون نجدتها أثناء حصارها, فخرج الجيش المرابطي مع أعداد كبيرة من المتطوعين، إلا أن الفونسو استطاع هزيمتهم في معركة قتنده سنة 514هـ وكانت الهزيمة ضربة موجعة للمسلمين قتل منهم فيها كثير من المطوعة.
__________
(1) -روض القرطاس ص 123(1/33)
بلغ من استهانة الفونسو الأول بقوة المسلمين وقوة يقينه بعجز المرابطين أن قام 519هـ/ 1125م باختراق الأراضي الإسلامية؛ بدءاً من منطقة بلنسية مروراً بالجنوب في جهة غرناطة وانتهاء بالوصول إلى الشاطئ في أقصى الجنوب, وقد استغرقت جولته سنة وثلاثة أشهر, ولم يفعل المرابطون شيئاً سوى تجميع قواتهم والتنقل بحذائه دون الدخول في معركة حاسمة, ويرجح أنه قام بهذه الغارة بالتنسيق مع زعماء المستعربين في الجنوب؛ لكي يحمل معه من المستعربين الكثيرين الذين يسكنون الجنوب كي يعمر بهم ما احتله من بلاد، وقد أقفرت من هجرة المسلمين منها, وقد تحقق له هذا الغرض إذا صحت الأرقام الواردة في الرواية العربية التي تقول بأنه هبط في أربعة آلاف فارس، وبلغ عدد من معه عند غرناطة خمسين ألفاً, وأنه أخلى ديار بادية الأندلس مع أنه لم يفتح مكاناً مسوراً صغيراً ولا كبيراً(1)وفي 523هـ/1129م انحدر الفونسو الأول مللك أراغون باتجاه بلنسية معلناً عزمه على احتلالها والإبحار منها إلى القدس للمشاركة في الحروب الصليبية في المشرق, ويظهر أنه وقعت بينه وبين جموع المرابطين التي حشدت في جهات مرسية موقعة (القليعة) في الجنوب من بلنسية انتصر فيها الفونسو ولكنه لم يحقق هدفه باحتلال بلنسية, وبعد الفشل في احتلال بلنسية وجه الفونسو همه لاحتلال المناطق المحيطة بها, ولكنه توفي سنة 529هـ, وتوقف نشاط أراغون التوسعي إثر ذلك, أما في الوسط والغرب حيث كان المسلمون يواجهون دولة قشتالة وليون, فإن مشاكل الوراثة منعت من وقوع أحداث جسام في هذه الفترة التي دخل فيها المرابطون مرحلة الجمود والتدهور وجل ما حدث هناك كان غارات متبادلة للنسف والتدمير والتخريب والأسر, يقوم بها الإسبان على جهات قرطبة
وإشبيلية والمرابطون على جهات طليطلة.
__________
(1) -الحلل الموشية ص75-79.(1/34)
لقد دخل المرابطون الأندلس لإنقاذها من المد الإسباني أولاً ثم أتبعوا ذلك بتحرير الأندلسيين من حكم ملوك الطوائف الذي اعتبره الناس حكماً خارجاً عن الشرع الإسلامي، والذي كان يتمثل في سياسة ملوك الطوائف الضريبية ودفع الجزية لأعداء الدين من الإسبان, وبما أن المرابطين أزالوا هذا الجور المتمثل بهذين المظهرين وأعلوا كلمة الشرع الإسلامي؛ لذلك استقبلوا كمحررين, ولكن هذه العوامل الجامعة بين الطرفين لم تلبث أن ضعفت منذ بداية النصف الثاني من حكم المرابطين, فقد بدأت قوتهم الحربية تضمحل بالتدريج, فعجزوا عن حماية الثغر الأعلى سرقسطة بعد أمد قصير من انتزاعه من حكم بني هود 503هـ وبدأت غارات المسيحيين الإسبان تأسر وتخرب المزروعات وتنهب الثروات والممتلكات, لقد كان المرابطون في أول الأمر صحراويين متقشفين محاربين ويكونون القسم الأعظم من الجيش وعندما أصبحوا حكاماً لإمبراطورية واسعة وتحضروا ابتعد قسم كبير عن الحرب, وصار الاعتماد على المرتزقة يتزايد تدريجياً بتزايد الأخطار الخارجية, خاصة بعد استرداد القوى الإسبانية لعافيتها وتعاظم قوة الموحدين الثائرين في المغرب, ومن الطبيعي أن يتطلب ذلك مالاً وقد قلّ لديهم بعد توقف الفتوحات مما جعلهم يفرضون المغارم ويتجاوزون الضرائب الشرعية أكثر من غيرهم بكثير, وهكذا تزول دعامة أساسية من الدعائم التي أقاموا عليها شعبيتهم واستتبع ذلك حدة الانتفاضات الداخلية التي جعلت من سنوات علي الباقية بعد مضي عشرين سنة من حكمه(500- 537), وسنوات حكم من يليه فترة نزع طويلة نسبياً لحياة الدولة المرابطية التي تم القضاء عليها من قبل الموحدين 541هـ، ليتابع الموحدون عملية المجابهة والجهاد ضد الغرب الأوربي، وقد نجح أبو يوسف يعقوب المنصور الذي استمر حكمه خمسة عشر عاماً 580-595 أن يحقق نصراً ساحقاً على الفونسو الثامن ملك قشتالة في موقعة الأرك 591هـ، وقد بهر مؤرخونا القدماء بهذه الواقعة(1/35)
نتيجة لخسائر القشتاليين الكبيرة جداً، بدليل ما يرد فيها, ولقد اعتبر بعضهم نصر الأرك أروع من معركة الزلاقة لأن نتائجها كانت أعمق.. فبينما عاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب بعد الزلاقة دون أن يقطف أي ثمرة أو أن يحتل بلداً, تقدم يعقوب المنصور إثر المعركة في أرض العدو؛ واحتل عدداً من المواقع كالأرك وقلعة رباح، وفي العام التالي توغل بغاراته التأديبية في أراضي عدوه إلى مسافات بعيدة، وصل فيها إلى مقربة من طليطلة ولم يتجرأ الفونسو الثامن أو ملك أراغون من اعتراضه.
مصادر البحث:
ابن الأبار- الحلة السيراء- حزءان مدريد 1963
ابن الأثير- الكامل في التاريخ- 10 أجزاء دار الكتاب العربي –بيروت.
ابن بسام- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة- القسم الأول والثاني للجزء الأول- القسم الأول للجزء الرابع. القاهرة 1365هـ
ابن بشكول– الصلة في تاريخ أئمة الأندلس, مدريد1883
الحميري, الروض المعطار في خبر الأقطار- بيروت1975
الزيري (الأمير عبد الله بن بلقين) مذكرات الأمير عبد الله المسماة بكتاب التبيان تحقيق ليفي بروفنسل مصر 1955.
ابن الخطيب (لسان الدين محمد بن عبد الله):الإحاطة في أخبار غرناطة.
ابن أبي زرع –الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب-الرباط 1973.
ابن عذارى-البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 4 أجزاء.
ابن الكردبوس-كتاب الاكتفاء في أخبار الخلفاء(القسم الخاص بالأندلس) مدريد 1965.
المراكشي (عبد الواحد، المُعجب في تلخيص أخبار المغرب)_ القاهرة 1949).
مؤلف مجهول –الحلل الموشية في ذكر الأخبار المغربية –الرباط 1936. 125(1/36)
استلاب التاريخ العربي الفلسطيني
المهندس:رياض زيد
مقدمة:
تُشكلُ جبالُ وسهول مؤاب، الحافة الشرقية للانهدام الأردني، الذي يمتد من أقدام جبل الشيخ عبر نهر الأردن حتى خليج العقبة في الجنوب، بينما تشكل جبال القدس وبيت لحم والخليل ومنحدراتها الشرقية، الحافة الغربية لهذا الانهدام.
تشكلَ هذا الانهدام من كسور طولانية عنيفة، يرتفع طرفاه شرقاً وغرباً أكثر من ألف متر فوق سطح البحر، فيما ينخفض قاعه في البحر الميت أكثر من ثمانمئة متر تحت سطح الأرض.
إذاً يشكل هذا الانهدام مع منحدراته باتجاه البحر المتوسط غرباً ومنحدراته في اتجاه الصحراء شرقاً، أحد أبرز المعابر الرئيسة للتواصل البشري في حقب التاريخ القديم، ما بين حضارات دول ما بين النهرين ومصر وجنوبي الجزيرة العربية (الشكل رقم 1) عبرته القبائل في سعيها إلى الاستقرار، كما كان طريق الجيوش في الصراعات وساحة المعارك الكبرى، بين الإمبراطوريات العظمى, ولصعوبة التواصل العرضاني, حيث الانحدارات السحيقة, تمركزت الطرق طولياً, عبر ثلاث طرق رئيسية (الشكل رقم 2).
الطريق الأول: معبر الصحراء: سيناء-صحارى النقب الشمالي-ينابيع قادس يرتفع نحو حافة الانهدام الأردني الغربي -أريحا-بيسان-ثم يتجه إلى الشمال.
الطريق الثاني: طريق حورس-دلتا النيل-غزة-السهل الساحلي الفلسطيني-عسقلان -أسدود-يافا-مجدو-سهل يزرعيل-عكا-صعوداً إلى الشمال (الطريق البحري).
الطريق الثالث: طريق الملوك: وادي النيل-سيناء-وادي عربة-شريط البادية وأراضي الرعي إدوم-سؤا-0عمون-جلياد-الجولان ثم يتجه إلى الشمال(1).
وانحصرت المعابرُ العرضانيةُ في الانهدامات ومجاري الأنهار والوديان.
__________
(1) -توماس وطسن: الماضي الخرافي-التوراة والتاريخ، انظر ص 216-232.(1/1)
أعطت التقنيات والحفريات الأثرية, الدلالات على استقرار المجموعات البشرية الأولى بطول هذا الانهدام وأوديته, فمنذ فجر التاريخ تبنى المساكن والمصاطب إذ انتقلت من مرحلة الصيد والرعي, وجمع الطعام إلى مرحلة الزراعة وتدجين الحيوان.
(كما أعطت دلالات الأسماء الأولى والأدوات المكتشفة والمدن والمعابد والنواتج الزراعية والبقايا الحيوانية, هوية مبكرة لكامل المنطقة بوصفها وحدة حضارية, وتجلى ذلك في تقارب لهجاتها وأنماط استقرارها(1).
الشكل رقم 1
الانهدام الأردني
المصدر:Atlas of the biblical Wrld
المؤلف: Joseph Rhymer
... فالكنعانيون استقروا على الجرف الغربي للانهدام باتجاه الشمال-ومعهم الآدوميون في الجنوب, والمؤابيون والعمونيون الحرف الشرقي للانهدام, مثلهم مثل الآراميين والسبئيين في أرجاء الفناء الجغرافي العربي الجامع.
وقد شكل الانهدام نتيجة ذلك, الحضورَ العربي المبكر وسلةَ
محاصيل اقتصادية كبرى للمنطقة بكاملها, زُرعت المصاطب بأشجار
الزيتون والكرمة, والمنبسطات بالحبوب, بينما انتشرت المواشي في المناطق الرعوية.
المصدر:Atlas of the biblical Wrld
المؤلف: Joseph Rhymer
الشكل رقم 2
الطرق الرئيسية
إذاً, شكلت المنطقة بثرواتها ومواردها إضافة إلى ميزتها بوصفها عقدة مواصلات رئيسية, حقل صراع بين الممالك والقبائل داخلياً من جهة, وهدفاً لأطماع القوى والإمبراطوريات المحيطة من جهة أخرى, بدءاً من الحثيين والفرس وانتهاء باليونانيين والرومان, واستمر ذلك عبر حقب التاريخ المختلفة حتى عصرنا الحالي بصور وأشكال شتى.
في أتون هذا الصراع (وخلال اجتياح قورش الفارسي لبلاد الشام ومصر (الحكم الأخميني) عام 538ق.م أسكن الأخمينيون في كل من مصر وفلسطين حاميات عسكرية أحضروها من المشرق.
__________
(1) -د.سهيل زكار: القدس بين حقائق التاريخ وزيف الإسرائيليات ص9.(1/2)
سكنت الحامية العسكرية الأخمينية في مصر في جزيرة الفيلة, وشهرت بعبادة الإله يهوه وهو إله الزوابع, ويرجح هنا أن الحامية التي جلبت إلى فلسطين سكنت في القدس وما حولها، وكانت على اتصال بحامية مصر.
وقد ورد اسم المنطقة الإدارية التي سكنت فيها في البادية باسم( yh) أو yhwd) ) أو(Yhd ) أو( yod-he) أو ( yhwd-phw ) أو( yhd-tet).
ووردت هذه الصيغ على بقايا قطع من الفخار, لأن الفخار كان يختم باسم المنطقة الإدارية التي كان يصنع بها لأسباب إدارية وضرائبية ومع الأيام عرفت منطقة هذه الفئة باسم يهود.
وما تزال هذه القضية قيد البحث, وبحاجة إلى المزيد من التعميق.
إلا إنه من المؤكد, أن التنقيبات لم تشر إلى وجود يهودي يسبق هذه الفترة الأخمينية, كما أن اليهود حافظوا على دورهم بوصفهم عميلاً للمحتل الفارسي, عهوداًً طويلة بعد ذلك, امتدت خلال الاحتلالين التاليين للأرض العربية, اليوناني ثم الروماني.
تعرف كهنة اليهود على ديانات القبائل والشعوب العربية, وعباداتها وقصصها وأساطيرها، ومن خلال الدور الشاذ الغريب المختار من قبلهم والمسند إليهم, وهو دور الغدر والعدوان والتوجس من الغير, إضافة إلى الاستعلاء بوصفهم وكلاء سلطة, جرى ابتلاع ذلك التراث وبلورته بشكل عبر عن وجودهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كشعب وديانة متفردة.
فالله أضحى "يهوه إله إسرائيل" دون شعوب الأرض، يقودهم في حروب العدوان وحرق المدن وإبادة الشعوب واجتثاث الشجر, وقتل الحيوان وإزهاق روح كل كائن يتنسم نسمة الحياة.
فالعهد القديم الذي هو نتاج يهوه وشعبه, كما دُوّنت أسفاره, لا يروي لنا قصة الخلق وتاريخ العالم, بل قصة بني إسرائيل في سرديات متعددة لصالح صفقة أبرمت بين يهوه وشعبه، تتناول أرض فلسطين على كامل الانهدام الأردني، وتمتد شرقاً وغرباً لتستولي على كل موارد المنطقة من النيل إلى الفرات. .
((1/3)
إن الصرخات التي تعالت شاجبة هذه العدوانية والوحشية، بدءاً من أرميا وعاموس مروراً بالتجليات الروحية للسيد المسيح(1), وانتهاء برسالة الإسلام, لم تفلح في كسر الدائرة المغلقة التي هيمنت على العلاقة المثلثة بين يهوه وشعبه وكهنته, واستمرت الترسانة الظلامية اليهودية تنثر حقدها وعداءها للشعوب كافة.
بل لقد اخترقت الظلامية والعدوانية التي شكلتها السردية التوراتية المسيحية بمحاور مؤثرة, كما أغرقت الأديبات الإسلامية السمحة, بالتفاسير والأخبار والقصص تحت مسميات أبرزها الإسرائيليات.
فغدا التسلسل الزمني والمكاني للأحداث المزعومة حسب مرويات العصر القديم, مسلمة وتاريخاً لفلسطين, والمنطقة العربية بكاملها والعالم القديم برمته, بل لقد بُشر بالوجود اليهودي على فلسطين في زمن ما، سيأتي لاحقاً في الأديبات الإسلامية والمسيحية على السواء.
ولم تسلم من ذلك المناهج الدراسية التي تعرض التاريخ القديم من الاختراق بدءاً من المراحل الابتدائية وحتى أقسام التاريخ في معظم الجامعات العربية، إذ بالرغم من التأكيد على الحق العربي في فلسطين, ظلت هذه المناهج أسيرة الدراسات التوراتية خلال حقب حاسمة في التاريخ.
وعلى النقيض من ذلك, فمع الطرد والمذابح، أو لنقل حملات العقاب والقصاص التي تعرّض لها اليهود في الغرب, فإن وجهة نظر المذهب الرسمي للمسيحية اكتفت بقراءة العهد القديم قراءة رمزية, (وبحسب القديس أوغسطين فإن ما ورد فيه بشأن مملكة الله -إسرائيل- قائم في السماء وليس على الأرض وبالتالي فإن القدس وصهيون ليسا مكانين محددين على الأرض للسكان اليهود، أو السكن لليهود ولكنهما مكانان سماويان مفتوحان أمام كل المؤمنين بالله(2).
(
__________
(1) -روجيه غارودي: فلسطين ارض الرسالات السماوية ص88-93.
(2) -المرجع السابق.(1/4)
وقد ظلت وجهة النظر هذه, سيدة الموقف حتى أوائل القرن السابع عشر حيث ناصبت المسيحية اليهودية العداء, إلا أنه حين ترجم لوثر التوراة إلى الألمانية, أصبحت- كما يقول غارودي- لغة كل الشعوب, ومن ثم أراد لوثر وتلامذته, أن يضع حدّاً للتفرقة العنصرية ضد اليهود بإعادة طرح المسألة طرحاً لاهوتياً من خلال السؤال: ما هو موقع اليهود في المشروع الإلهي؟
وقد أجاب السير هنري فنسن الحقوقي وعضو البرلمان الإنكليزي- عن السؤال المطروح من قبل لوثر- بقوله:
حين تذكر إسرائيل ويهوذا, وصهيون وأورشليم في التوراة, فالله لا يعني بذلك إسرائيل روحية, ولا يعني كنيسة لله, تجمع في صفوفها الأمم واليهود المتنصرين ولكنه يعني بإسرائيل, تلك التي تحدرت من نسل يعقوب(1).
البحث عن إسرائيل القديمة
ومن هذه النقطة بدأت المركزيةُ الأوربية وأدواتها المعرفية-الاستشراق- إنشاءَ معرفةٍ عدّت فيها الديانة اليهودية منبع الحضارة الغربية وسرَّ الروحي والأخلاقي, ومن ثم نشأت فكرة البحث عن إسرائيل القديمة بوصفها مشروعاً معرفياً, ينظر إلى إسرائيل على أنها منشأ الحضارة الغربية.
وكانت نتيجة القراءة الحرفية للتوراة, دون نقد تاريخي, له دلالته خاصة, أعاد ربط اليهود على أنهم ورثة الوعد ومن ثم, فالمسألة التي برزت هي الصهيونية بمعنى العودة إلى فلسطين بمفهوم للعقيدة متعصبٍ, يحلُ دولة إسرائيل محل إله إسرائيل.
كل ذلك من أجل تسويغ إقامة قاعدة متقدمة للغرب على أرض فلسطين؛
حيث لمسنا من عرض جغرافيتها السياسية في مقدمة البحث, ماذا تعني
السيطرة على هذا الانهدام؟
__________
(1) -كيث وإيتلام: اختلاق إسرائيل القديمة-انظر ص 20.(1/5)
إنه شرط مانع لتحقيق أية وحدة بين شرق المنطقة العربية وغربها، وإنه شرط الأساس في تحقيق الهيمنة على الوطن العربي بأكمله, ومن أجل ذلك يجب العمل على استلاب التاريخ العربي بفتح ملف الماضي الخرافي للوصول إلى اختلاق إسرائيل القديمة لإعطاء الشرعية القانونية التاريخية لدولة إسرائيل الحديثة.
ومنذ عام 1799م، وعلى وقع مدافع نابليون وصل 175 عالماً فرنسياً عهد إليهم استكشاف تاريخ مصر ودراسته؛ بهدف البحث عن مفردات السردية التوراتية بوصفها عناصر أساسية يمكن أن تساهم في إنشاء إسرائيل القديمة؛ بدءاً من" إعادة بناء مكانة الكتاب ضمن تاريخ الشرق الأدنى القديم(1)".
كما تشكلت هيئة بريطانية باسم صندوق التنقيب في فلسطين برعاية الملكة فكتوريا، بهدف التحديد الدقيق المنهجي لآثار الأرض المقدسة. وطوبغرافيتها وعاداتها وتقاليدها، ومن أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس لصالح المشروع الصهيوني، وقد عبر الدكتور نقولا زيادة عن ذلك المسعى بقوله:
"لقد أتى الآثاريون إلى المنطقة حاملين توراتهم بيد والمعول باليد الأخرى(2)"
وقد توجهت بعثة بريطانية إلى العراق بهدف استكشاف تاريخ دول ما
بين النهرين ودراسته؛ لتأكيد قصص الطوفان وصراعات الإمبراطوريات مع
إسرائيل المختلقة، ومفردات السبي والعودة.
وكانت حصيلة ذلك، ما يزيد على نصف مليون قطعة أثرية، كشفت النقاب عن جوانب متعددة من التراث الثقافي والروحي الضخم الذي خلفته الشعوب العربية القديمة-كنعان وآشور وآكاد وبابل ومصر -وقد وضع هذا التراث الضخم بيد الباحثين والمؤرخين العاملين في حقل الاستشراق؛ من أجل ما سمي باللحظة الحاسمة في التاريخ.
__________
(1) -توماس وطسن: المرجع السابق ص44.
(2) -د. نقولا زيادة :محاضرة نادي الآخرة(1/6)
فاللحظة الحاسمة الأولى، بالمفهوم الغربي الاستشراقي، كما يقول إدوار سعيد هي نشوء إسرائيل، وذلك في الفترة الزمنية التي تعتبر فترة انتقال بين العصر البرونزي المتأخر وأوائل العصر الحديدي الذي يطلق عليه عصر الآباء، ويشمل إبراهيم ويعقوب حتى موسى.
وأما اللحظة الحاسمة الثانية فهي تطور إسرائيل متمثلة في مملكة
داود وسليمان؛ ثم انقسامها إلى دولتين: إسرائيل ويهوذا، انتهاء بالسبي،
أي عصر إمبراطوريات العصر الحديدي(1).
وقد انقسم الباحثون إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: أمثل عليهم بأولبرايت، برايت ولوت، مندنهول ولفسنتون وغوتفالد، وهؤلاء اعتبروا التوراة كتاباً تاريخياً ومقدساً، ومن ثم فإن التاريخ المستخلص منها لا بدّ أن يكون منحازاً لليهود، بل وتوراتياً.
الفئة الثانية: أمثل عليهم بألستروم، ليمكة، فنكلشتاين، حيث نجحوا في تفكيك النظريات السائدة حول إسرائيل القديمة،وقدموا نقداً باطنياً لما قدمته الفئة الأولى مشيرين إلى أن هؤلاء لم يعملوا حساباً للمعلومات الأثرية المتزايدة عن تاريخ فلسطين القديم، فالتوراة ليست الإطار الكامل للتاريخ.
ثمة فئة ثالثة أمثل عليهم بوطسن وكيث ويتلام، لقد وضعوا أيديهم على الأنموذج الاستشراقي الغربي المزيف،فاللحظة الحاسمة التي ارتكزت على أنموذج الانتقال بين العصر البرونزي المتأخر وأوائل العصر الحديدي، إذا كانت موجودة ففي لحظة عابرة في مسيرة التاريخ الحضاري لفلسطين القديمة،وإن على الباحثين الاهتمام بتاريخ فلسطين القديم بوصفه موضوعاً قائماً بذاته لا خلفيةً لتاريخ إسرائيل.
إذاً، ما يترتب عليه لحظة، أننا أمام تراجع غربي صهيوني ملحوظ على صعيد التأريخ لفلسطين، يتجلى ذلك في توجيه نقد باطني مباشر للدراسات التاريخية السابقة على ضوء التنقيبات والحفريات الأثرية، ودراسات الطبقات،
والنماذج، واستخدام تقنيات جديدة كالكربون المشع 14، والتحليل بالطيف.
__________
(1) -كيث وإيتلام:المرجع السابق ص14.(1/7)
تصدع المفردات التوراتية
لقد كشفت الوثائق والنصوص والنقوش في أريحا والقدس ومجدو ومُؤاب وغيرها من المدن الفلسطينية،عن نماذج وأنماط تكمل ما اكتشف في أوغاريت وماري وتل العمارنة وبابل حتى سواحل الخليج العربي،مما يعطي التاريخ الحضاري لفلسطين القديمة انتماءً وهوية لحضارة المنطقة العربية بكاملها.
ومن هنا بدأت تتصدع المفردات التوراتية التي تشكل الركائز الأساسية لادعاء امتلاك التاريخ القديم الذي هو ادعاء ليس له أساس في التاريخ الفعلي، وفي هذا رد اعتبار لجزء مهم من التاريخ العربي القديم.
نصوص اللعنات(أورشليم)
لقد تعرضت القدس لأول عملية تزييف في تاريخها من خلال قراءة نصوص اللعنات، وهي نصوص مصرية تعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد،وجدت منقوشة على جرار فخارية تذكر أسماء البلاد والحكام من أعداء الفراعنة، وكانت هذه الجرار تحطم في طقس سحري خاص لجلب الأذى على المذكورة أسماؤهم عليها.
أورد فراس السواح نقلاً عن جون ولسون في قراءة السطر الرابع:
"4- -يقرب- آمو، حاكم أورشليم،وجميع بطانته"(1)
وقد دحض الدكتور سهيل زكار هذه القراءة بأن كلمة أورشليم لم
تكن سوى" أشام م".
"فأقدم الباحثون الغربيون فوراً على القول بأن "أشام م" هي مدينة أورشليم ، وفي هذا تدليس مكشوف، لأن المعطيات الأثرية بينت أن مدينة القدس لم تكن قد تأسست بعد، لأنها تأسست في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وقد حملت اسم" أورشليم" بعد ليس أقل من ألف وخمسمئة سنة من تاريخ نصوص اللعنة، وطبعاً من الواضح أن الذي قصد ب"أُشام م" هو بلاد الشام التي غُزيت مصر دوماً من خلالها،متذكرين أن تاريخ نصوص اللعنة يتزايد مع بدايات ظهور الهكسوس في مصر"(2).
__________
(1) -فراس السواح: الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ص 141.
(2) -د.سهيل زكار: المرجع السابق ص6.(1/8)
وقد أوضح الدكتور محمد بهجت قبيسي أستاذ اللغات الشرقية في جامعة القاهرة أمام مؤتمر الآثاريين العرب عام 2001 زيف ما جاء به المستشرقون المتصهينون لهذه القراءات بالقول:
* اسم أورشليم الذي ادّعوا وروده في نصوص اللعن: فبعد قراءة الاسم بهدوء وجدنا أن الاسم ليس" أورشليم" كما بينا بل هو "أُشاميم" وتعني الشاميين من الشام، أو تعني الشام نفسها مموّمة( مثل التنوين) وإليكم النقش:
أ- شام يم =الشاميين.
هي قراءة غير مقبولة حيث المخصص( ) يشير إلى مكان وليس إلى شعب.
ب- أُ شام] وم[ مثل التنوين =شام.
حيث ]أُ [ سابقة تفيد التنبيه، حيث أقول ] أمهيبة[ بمعنى] مهيبة [ (اسم علم من نقوش أجاريت) وأقول] أُجاريت[لتعني] جريت = جرية=قرية=مدينة[ (نقوش أجاريت).
فإذا كانت أورشليم فأين الراء وأين اللام.(1)
2-نقش مرنبتاح(إسرائيل).
عند اكتشاف نقش مرنبتاح سارع الباحثون التوراتيون إلى قراءته بطريقتهم المعهودة، فقالوا: إن اسم إسرائيل ورد في النقش، ولدى قراءة النص من قبل الدكتور محمد بهجت قبيسي وجد ما يلي:
" يقول النقش أن "مرنبتاح" سيطر على التسعة أقواس التالية] ويعني بالأقواس (مناطق أو شعوب) وهذا التعبير مستعمل في أكثر النقوش المصرية[ وقد قمنا بعدّ هذه الأقواس فوجدنا:
........... 7- يازير يار ] أي إسرائيل حسب ادعائهم[
............ 8-خال ] أي جرار [.
(1)ثم يأتي بعد ذلك كلمة]فكت [ لتعني فتك بهم" مرنبتاح".
فإذا بدأنا النقش بتسعة أقواس، فإننا باسم إسرائيل المزعوم نجدها
ثمانية فقط وليس تسعة.
(2) إن الاسم ليس بإسرائيل، فقراءته هي يازير يار، أو ياسِسل يال، وليس إسرائيل.
(3) لو فسرنا الكلمة بكلمتين فيصبح لدينا] يازير + يار[ فيصبح العدد 9 تماماً".
إذن ما هي "يازير" وما هي "يار" نجد في الخريطة المرفقة موقعين شهيرين:
__________
(1) -د.محمد بهجت قبيس: القدس في المصادر العربيات القديمات ص3(1/9)
1-]يازور[ فهي قطعاً]يازير[ ، وقد وردت في بعض الكتابات باسم ]هازور[
2-]يار[ هي ]يارين[ في جنوب لبنان الآن، وهي من المدن التي حررتها المقاومة اللبنانية سنة 2000م من الاحتلال الصهيوني.
اكتشف نقش مرنبتاح ضمن المعبد الجنائزي الذي أقامه الملك مرنبتاح إلى الجنوب من معبد رمسيس الثاني، بالبر الغربي لمدينة الأقصر بمصر.
3- ألواح تل العمارنة ( عابيرو، أورسالم)
كشفت ألواح تل العمارنة، في هيكل الكرنك بصعيد مصر وعددها أكثر من 370 لوحاً، عن رسائل استنجد فيها مرسلوها من أخطار يتعرضون لها.
وقد قرأ ولفنستون أحد الألواح على انه رسالة من " عبدوهيبا" أحد رجال السلطة المحلية في أورسالم، يطلب فيها من تحوتمس الأول ملك مصر من القرن الرابع عشر الحماية من شرِّ قوم اسمهم الخبيرو، فقرأها ولفنستون العفيرو أو العبيرو.
تصدى الدكتور محمد بهجت قبيسي للرد على هذا الادعاء بالقول:
إن أورسالم أو أورشليم، القدس، لم تكن موجودة في القرن الثامن أو القرن السابع قبل الميلاد.
" وإن عبارة خابيرو لا تعني عابيرو أو عافيرو فليس هناك من إبدال(1)لغوي
بين الخاء والغين في اللهجات العربية كافة، ويُرجح أن يكون الخابيرو جماعة من المقاتلين المرتزقة.
وقد رأى الدكتور سهيل زكار "أن كلمة خبيرو أتت في النصوص المصرية بمعنى العبيد أو الرقيق، كما أن الخبيرو ورد ذكرهم في رسائل من ماري على الفرات نسبة إلى الخابور 1730- 1700،(2)إضافة إلى ذلك فإن
قراءة ولفنستون تتعارض مع الرواية التوراتية التي يقيم ادعاءه على أساسها.
فقد ورد في سفر التكوين" جاؤوا إلى مصر في العجلات التي أرسل فرعون لحمله-يعقوب وكل نسله معه- سبعون نفساً، 46: 5-7، 46:27.
4- نقش دير علا(بلعام بن بعور)
__________
(1) -د. محمد بهجت قبيس –المرجع السابق ص4.
(2) -د. سهيل زكار-المرجع السابق ص7.(1/10)
يتحدث العهد القديم عن نزول بني إسرائيل بقيادة موسى عربات مؤاب بوصفه شعباً قد خرج من مصر غشّى وجه الأرض. (عدد 22-5).
ففزع بالاق بن صفور ملك مؤاب، فأرسل يطلب بلعام بن بعور نبياً من فتور، وهي قرية فيما بين النهرين ليلعن له شعب إسرائيل.
فيقول الله لبلعام: لا تذهب ولا تلعن الشعب لأنه مبارك.
يعيد بالاق الطلب: هنا يأتي الله إلى بلعام ليلاً، ليطلب منه الذهاب وليعمل بما يكلمه فقط، فينطلق بلعام على أتانه مع رؤساء مؤاب...
ثم تمضي القصة التوراتية في سياق يشترك فيه الله والملاك والأتان، إضافة لبلعام, ليصف الله شعب إسرائيل:
هذا شعبٌ يقوم كلبوة, ويرتفع كأسد, لا ينام حتى يأكل فريسة، ويشرب دم قتلى, يأكل أمماً, مضايقيه, ويقضم عظامهم) عدد4:8
((وأما النقش المكتشف المقابل له, فيعود بحسب سياقه المكتوب, إلى أواخر القرن الثامن قبل الميلاد, أي أن هناك تعارضاً زمنياً قدره أربعة قرون على الأقل بين النص الكتابي والنقش.
قصة النقش تدور حول عراف مؤاب القديمة بلعام من بعور (نفس
الشخصية الواردة في النص التوراتي).
الإله شَجْر في النقش يقابله...........يهوه في النص التوراتي، النص التوراتي يكشف ظلامية وحشية متناهية.
إضافة إلى أن بلعام النقش: مؤابي، بينما بلعام التوراة: من فتور ما بين النهرين, فالحكايتان كما يبدو بوضوح قصتان حول شخصية أدبية واحدة.
وهذا يدل على أن قصص العهد القديم تنتمي إلى التراث الأدبي العريق لفلسطين القديمة، كتبت بعد قرون عديدة, بالروح الوحشية للسردية الظلامية(1)).
5-سدوم وعمورة(2)
__________
(1) -توماس وطسن: المرجع السابق ص55
(2) -قاموس الكتاب المقدس: رابطة الكنائس الإنجيلية في الشرق الوسط- بيروت ص 58،460، 1068، 641(1/11)
سدوم وعموره مدينتان تقعان بحسب الرواية التوراتية, في غور الأردن, أحرقتهما النار التي نزلت من السماء بسبب خطيئة أهلها العظيمة، وهما الآن تحت الماء في جنوب البحر الميت. تكوين 14: 9-11, 19: 24
لم تكشف عمليات المسح الكامل للبحر الميت، من بحث وغوص واستشعار عن بعد، عن أي أثر للمدينتين، أو حتى عنصر من عناصر البناء.
((وحين ذهب باحثان أمريكيان إلى أن موقع باب الذرا، هي سدوم، والنميرية هي عموره, تبين أن هذين الموقعين على مقربة من البحر الميت وليس فيه, وان الحياة توقفت فيهما عام 2350ق.م لأسباب تعود إلى ظاهرة الجفاف التي عمت المنطقة في تلك الحقبة، بدليل فحص المقابر وبقايا الهياكل العظمية(1)).
6-أريحا عاني(2)
أريحا مدينة تقع على الحافة الغربية لغور الانهدام الأردني, ورد ذكرها في الرواية التوراتية, هاجمها يشوع على رأس المحاربين من إسرائيل صحبة سبعة من الكهنة حاملين أبواقاً وتابوت العهد, وفي اليوم السابع من طوافهم حولها, وضرب الأبواق سقطت أسوار المدينة (يشوع:6) وهناك قصص حول عاني ومدن أخرى.
بدأت أعمال التنقيب بأريحا عام 1876 من قبل بعثتين بريطانية, نمساوية, ألمانية بالتعاون مع أمريكيين وكنديين حتى عام 1958.
تقول كاتلين كينون: (لقد عجزت التنقيبات عن تقديم الدليل على
أسوار لمدينة أريحا قد تهدمت، أو للمدن الأخرى تعود إلى الفترة المعاصرة
ليوشع)(3).
7-اللغة العبرية(4)
__________
(1) -د. سهيل زكار: المرجع السابق ص3.
(2) --قاموس الكتاب المقدس: رابطة الكنائس الإنجيلية في الشرق الوسط- بيروت ص 58،460، 1068، 641
-كاثلين م.كينون: الكتاب المقدس والمكتشفات الأثارية الحديثة ص 47.
(4) -د. محمد بهجت قبيس: ملامح في فقه اللهجات العربية-ص 102،291،296 –عبرية اليوم خليط من التوراتية + اليدش ص 350.(1/12)
كانت كارثة اللاهوتي الفرنسي بوستيل سنة 1538م كبيرة, في تضليل فقهاء اللغة العالميين, حيث اعتبر أن العبرية أقدم اللغات وأن الشعب العبري أقدم الشعوب, مما جعل جامعات العالم تذهب إلى لفظ النصوص والنقوش حسب اللفظ العبري.
وتحقيقاً لهذا الهدف, قام جيرنيوس سنة 1832, بطباعة القاموس (العبري- الكلداني) اللاتيني للعهد القديم, وفقاً لصياغة أصحاب المدرسة الماسورية في القرن العاشر الميلادي.
إلا أن الصهيوني رايفز, أجرى تعديلاً آخر على القاموس المذكور بجعله (القاموس العبري- الإنكليزي) للعهد القديم من جهة, ومحدثاً تعديلات أساسية تناولت, إضافة وحذف كلمات, إضافة الأحرف الصوتية وحركاتها, معدلاً لفظ ستة حروف أخرى, حيث أصبح بمقدور الاستشراقيين التوراتيين؛ قراءة النصوص والنقوش المكتشفة في المنطقة العربية, بما يوافق الرواية التوراتية.
لكن تقدم علم اللسانيات, وبروز علم اللغات وجه النقد للتحيز الأعمى, وللتزييف الذي أنجزه كلّ من بوستيل وجرنيوس ورايفز.
وباكتشاف الأبجديات في أوغاريت وجبيل؛ إضافة إلى الأبجدية الطور سينائية حسم الجدل في ذلك, واتضح زيف الادعاء بأن اللغة العبرية -لغة إسرائيل القديمة-هي أقدم اللغات في منطقة الشرق الأدنى.
إلا أن البرهان الأسطع هو ما قدمه الدكتور محمد بهجت قبيسي في الوصول إلى الحقيقة الدامغة, بأن ما سمي باللغة العبرية, إن هو إلا خليط من العربية الكنعانية والعربية الآرامية.
انهيار نظريات الاستشراق في احتكار المعرفة وصناعة التاريخ
كتب إدوار سعيد في استعراضه لدور الاستشراق في احتكار المعرفة وصناعة التاريخ:
" التاريخ يحتاج إلى غربلة وتنقية، وإعطائه صوتاً معبراً بعد ذلك حجبته عن الأنظار ثقافة صاغت رواية مؤثرة تحتفظ بالماضي لإسرائيل وحدها(1)"
__________
(1) -كيث وإيتلام- المرجع السابق ص23(1/13)
" وبالفعل دللت نتائج الحفريات الأثرية على عدم دخول هجرة بشرية مدمرة أو غير مدمرة إلى أرض كنعان منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد(1)"ولم يلحق المدن الكنعانية أريحا،عاي، حازور، أي تدمير.
وهذا نقض للادعاء الأسطوري الذي تدعيه الترسانة الظلامية باقتحام عسكري لفلسطين، أسقط الأسوار وأحرق المدن وأباد الشعوب، وذلك للتأسيس لنظرية الاستيطان الصهيوني المتمثلة بالاقتلاع للسكان والتوطين والإحلال.
"أوضحت كاثلين كينون عجز علم الآثار عن الحصول على أي أثر لموقع جلجال؛ الذي أقيم فيه تابوت العهد باحتفالية كبيرة لتخليد ذكرى عبور النهر(2)".
كما قادها صمت الوثائق التاريخية عن تقديم أية بينة تعود إلى عهدي
داود وسليمان إلى القول:
"لقد أقام اليبوسيون على المنحدر الشرقي لمدينة القدس مصاطب مدعمة بأسس حجرية ضخمة، أقيمت خلفها الأبنية لأغراض الزراعة النشطة(3)".
وأما الدكتور سهيل زكار فقد أوضح بجلاء:
" أن الحفريات الأثرية في القدس لم تظهر أدنى إشارة إلى بناء هيكل
سليمان، وأهم من هذا أن هذه المدينة، كبلدة أو مدينة، لم تكن موجودة قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وارتبط قيام هذه البلدة مع تهديم حاضرة بيت عمري العربية(السامرة)(4)".
أما كيف تم تزوير تاريخ هذه المرحلة؟ فهناك عشرات النماذج أشير إلى بعضها:
__________
(1) -د.سهيل زكار-المرجع السابق ص 4.
(2) -كاثلين م.كينون- المرجع السابق ص47.
(3) -كاثلين مكينون-المرجع السابق ص 65.
(4) -د.سهيل ز كار-المرجع السابق ص5.(1/14)
أولاً:" عثر عالم الآثار التوراتي، نلسون غلويك على ختم نقشت عليه كلمة(ليتم في موقع قديم للتنقيب عن النحاس بالقرب من ميناء العقبة الأردني، فسارع إلى الإعلان عن اكتشافه الموقع الصحيح لمناجم نحاس الملك سليمان، وأن الخاتم يعود إلى(يوثام) الذي تحدد له التوراة تاريخاً 751-736 ق.م(1)".
ثانياً:" في صيف 1993م اكتشف في الموقع الأثري، تل دان، بجانب جبل الشيخ على بعد ثلاثة أميال غربي مدينة بانياس المحتلة، جزء من لوح حجري منقوش على الشكل التالي:( ك بت دود) (k byt dwd) وفور الاكتشاف سارع علماء الآثار التوراتيون إلى الإعلان بأن ذلك أول ذكر لملك إسرائيل داود ، وأن هذا النقش أقيم لتخليد المعركة التي ذكرت في سفر الملوك سنة 883 ق.م، بالرغم من أن نص النقش المذكور لم يقرأ كاملاً؛ ولم يؤرخ بالنظر إلى مشكلات كبيرة اعترضت الباحثين(2)".
ثالثاً: لدى اكتشاف تابوت أحيرام" ملك صور" الكنعاني، سارع الآثاريون التوراتيون إلى القول: بأن نقوشه تشير إلى الأخشاب التي كان يرسلها إلى سليمان لبناء الهيكل في أورشليم سنة 960 ق.م.
علق الدكتور محمد بهجت قبيسي على ذلك بالقول:" إن هذه القراءة توراتية"(3).
رابعاً:" لدى العثور على القطع الفخارية في تل الدوير جنوب فلسطين،
تبين أن القطعة السادسة مكسورة وناقصة، وظهرت عليها بقايا جملة
ورد فيها:
" مولاي ---ألا نكتب--- فعلت هكذا--- سلم"
فعمد أولبرايت إلى استكمال العبارة على الشكل الآتي:
" والآن مولاي: هل لك أن تكتب لهم قائلا: لماذا فعلتم هكذا حتى بأورشليم(4)"
__________
(1) -د. كمال صليبي-التوراة جاءت من جزيرة العرب-يوثام: ملك يهوذا، وهناك وادي مقابل مدينة العقبة الحالية، يدعى وادي اليتم حتى يومنا هذا-ص 106.ص 106.
(2) - توماس واطسن: المرجع السابق –تعليق المترجمة د. سحر الهندي ص 259-260.
(3) -د. محمد بهجت قبيس: القدس في المصادر العربيات القديمات –ص3.
(4) -د.كمال صليبي-المرجع السابق ص 108.(1/15)
من هنا ندرك حجم التزوير الفاضح الذي لا يمت إلى الأمانة العلمية
بصلة بهدف استلاب تاريخنا في فلسطين.
خامساً: يتحدث العهد القديم عن انقسام المملكة الواحدة إلى مملكتي إسرائيل ويهوذا سنة 931 ق.م، فإسرائيل هي المملكة الشمالية التي تشكلت من عشرة قبائل، وعاصمتها شكيم ثم ترصة ثم السامرة، وقد استمرت حتى أخذ ملك آشور السامرة وسبي أهلها سنة 721ق.م.
وأما مملكة يهوذا فقد تشكلت من قبيلتي يهوذا وبنيامين، واستمرت حتى تخريب نبوخذ نصر للقدس، وتدميره الهيكل سنة 586 ق.م وسبي أهلها إلى بابل.
كشفت الحفريات التي جرت في مواقع المملكة الشمالية المفترضة، عن حاضرة مملكة عربية كنعانية عايشت صعود آشور خلال مئتي عام، ومن ثم لعبت دوراً في الصراعات المحلية والإقليمية، وقد أشارت إليها النقوش الآشورية باسم أرض عمري وبلادها؛ نسبة إلى الملك عمري باني عاصمتها السامرة عام 880 ق.م قرب مدينة نابلس الحالية.
لم تكشف النقوش في آشور، ولا الحفريات في أرض السامرة طولاً وعرضاً ما يشير إلى أن هذه المملكة هي السلف المباشر لمملكة إسرائيل التوراتية.
وأما القدس فلم تدب فيها الحياة بوصفها مدينة مستقرة إلا بعد تدمير السامرة سنة 721ق.م، ولم تكشف الحفريات عن تدمير للقدس في الفترة المعنونة توراتياً باسم السبي.
وبالرجوع إلى النصوص البابلية، فقد تحدث نبوخذ نصر عن حملاته
وأهمها الحملة التي قام بها في السنة السابعة من حكمه.
" وفي السنة السابعة من شهر كسيلمير(كانون الأول) حرك أكاد
جيشه في أرض حتي، وحاصر مدينة ياحودو، فاستولى على المدينة في اليوم الثاني من شهر آذارو وعين فيها ملكاً حسبما ارتضت، واستولى على غنائم ثقيلة وجلبها إلى بابل.
(يقول الدكتور سهيل زكار في التعليق على ذلك):(1/16)
لم يكن اسم القدس في يوم من الأيام، ياحودو، ونبوخذ نصر لم يستول على القدس؛ ولم يدخل فلسطين إلا مرة واحدة، جرى صدّه من قبل الجيوش المصرية، ويقيناً لم يكن هناك سبي يهود من القدس إلى بابل، لأن اليهود لم يكونوا قد ظهروا على مسرح التاريخ، كما أن الحفريات الأثرية أظهرت أن القدس مدينة مزدهرة عامرة في التاريخ الذي قيل إنها تعرضت فيه للخراب على أيدي جيوش نبوخذ نصر(1)".
سادساً: زُعم طويلاً أن عمري الذي أسس وفقاً للسردية التوراتية السلالة الحاكمة لمملكة إسرائيل وبنى مدينة السامرة، قد تأيد حكمه عن طريق النقش المؤابي المكتشف سنة 1868م في خرائب مدينة ديبان في منطقة مؤاب:
" تتلخص الحكاية التوراتية بأن داود ضرب مؤاب ضربة شديدة وصار المؤابيون عبيداً له، وعند انقسام المملكة صارت مؤاب جزءاً من مملكة إسرائيل، وكان عليها أن تدفع جزية في عهد ملكها عمُري، وبعد موته خلفه ابنه آخاب، ثم يهورام، وهنا آل الأمر في مؤاب إلى ميشع، فأبى دفع الجزية، فما كان من يهورام إلا أن هاجم مؤاب، هُزمت جيوش ميشع، فاضطر إلى التحصن وراء أسوار مدينته، واشتد عليه الأمر فما كان منه إلا أن قدم ابنه الذي كان قد ملَك عوضاً عنه ذبيحة على سور المدينة للصنم كوش، فاقشعر شعب بني إسرائيل من هذا المنظر الفظيع فرفعوا الحصار ورجعوا إلى أرضهم".
–الملوك 2:آ-27.
وأما النص المنقوش على النصب فطويل، يتألف من 34 سطراً.- الشكل رقم 5، ويمكن تلخيص الهدف من إنشائه بما يلي:
" ميشع بن كوش ملك مؤاب يكرم أباه، ويشيد بانتصاراته على الإسرائيليين ببناء النصب بقرحة- وبعد خضوع مؤاب لإسرائيل زمن الملك عمري وابنه، قام ميشع بطرد الإسرائيليين، وحرر مؤاب ومدن مادبا، عطرت، قريوت، وغيرها.(2).."
التعارض بين النصين، الحكاية التوراتية والنصب واضح.
__________
(1) - د. سهيل زكار-المرجع السابق ص 9.
(2) -فراس السواح-المرجع السابق ص308-ص 301.(1/17)
1-كموش الأب في النصب يستبدل بالإله كوش في الحكاية التوراتية.
2- عمري يستبدل بـ يهورام
3- الهزيمة على أرض المعركة تستحيل إلى موقف إنساني نبيل، إضافة إلى التعارض والتشويش داخل النص نفسه، ومع الحكاية التوراتية ومع اختلاف الزاوية التي نُظر إليها في قراءة النص، وضعنا أمام قراءات عديدة للنص:
جورج بوست- محمد بهجت قيسي- ولفنستون- وطسن_-أولبرايت-كمال صليبا- جورج سابا.
وقد عرض فراس السواح نقش ميشع في فصل مستقل في كتابه الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، معتبراً أن النقش "يقدم بيّنة آثارية وتاريخية واضحة عن مسرح الحدث التوراتي(1)".
1- يقرأ ولفنستون وأولبرايت النقش على أنه يقدم بينة آثارية تاريخية واضحة عن مسرح الحدث التوراتي، وفي هذا الإطار يقرر جورج بوست وجورج سابا، على أن لغة النص، مؤابية تقترب من الكتابة العبرية القديمة.
2-قراءة كمال صليبا للنص، تتعارض مع النص التوراتي، وبرأيه أن النصين لا يتطابقان مع جغرافية فلسطين والمنطقة.
3-قراءة الدكتور محمد بهجت قيسي لنص النقش:
" أ-في لغة النص: عربية تماثل اللغة الثمودية بمفردات أكثرها عدنانية
بخط كنعاني - آرامي.
ب-في الموضوع: ميشع أصبح ملكاً من ملوك كموش، ملك الملوك، يظهر النقش فخر ميشع واعتزازه بانتصارات والده كوش، وينفرد الدكتور قبيسي بالقول في ترجمة السطر 25:
إن كوش هو الذي بنى مدن إسرائيل، والإسرائيليون دخلوا فلسطين برضائه حيث استعملهم للسخرة في تل قرحة"(2).
4-يذهب كل من وطسن وكيث ويتلام إلى أن النصب أقيم في زمن يلي الحدث التوراتي المقابل، وبالتالي:
" فإن النقش ينتمي إلى تراث أدبي أصيل من قصص الملوك في الماضي(3)"
__________
(1) -فراس السواح_- المرجع السابق- ص308، ص301.
(2) -د. محمد بهجت قبيس: نقش ملك مؤاب ميشع-ص1-ص14.
(3) -توماس وطسن-المرجع السابق ص57.(1/18)
نخلص من الأمثلة المعروضة كنماذج وغيرها كثير؛ إلى أنه كانت إحدى النتائج الأساسية للبحث التاريخي بمنظومته النقدية كما أشارت إليه الأمثلة، تصدع المفردات التوراتية، وانهيار مصداقية الرواية الإسرائيلية التي
احتكرت الماضي لإسرائيل قروناً طويلة.
فتعالت الأصوات، معلنة موت التاريخ التوراتي، الذي يتم استبداله
بشكل تدريجي بالاعتراف بالتاريخ الفلسطيني ضمن الإطار العربي.
الشكل رقم 5
نقش ميشع ملك مؤاب
الوحدة الحضارية للمنطقة
وإعادة الاعتبار لتاريخ فلسطين
بالرغم من توظيف الطاقات الهائلة للبحث عن إسرائيل القديمة، ونجاح المركزية الأوربية والحركة الصهيونية في الوصول لمرحلة" غياب أي تاريخ رئيس لفلسطين(1)"إلا أن الاتجاهات النقدية وشفافية عدد لا يحصى من الأكاديميين، بدأت تشير بوضوح إلى تقدم في بلورة مفردات وعناصر جديدة، خارج حدود الإطار التوراتي يمكن التمثيل على بعضها:
وسائل تطوير الزراعة وتدجين الحيوان- تماثل المدافن-معاصر الزيت-الفخار- المرتفعات الفلسطينية-الساحل الفلسطيني- الاقتصاد والشعوب المحلية- تماثل اللغات والثقافات وارتباط المصالح وغيرها..
هذه العناصر والمفردات مكنت الباحثين من رسم صورة جديدة لفلسطين والمنطقة، منذ بداية الاستقرار البشري. وفقاً للأبعاد التالية:
" بدأ التاريخ يسجل بعض الأدلة على قيام تطور متشابه للحضارة النطوقية في كل من فلسطين ومنطقة الفرات، وكذلك تأكدت الآن النظرية التي طرحها كل من أورو كوبلاند وأورانث القائلة بأن بوتقة حضارية وحيدة امتدت خلال هذه الحقبة من النيل إلى الفرات، بصرف النظر عن الخصائص الفردية التي جعلت للحضارة النطوقية سمات إقليمية متميزة"(2).
__________
(1) -كيث وإيتلام-المرجع السابق-ص57.
(2) -د.جاك كوفان: الوحدة الحضارية في بلاد الشام ص21.(1/19)
" كما إن الاتصالات الثقافية والتجارية التي عقدتها دول ما بين النهرين المتتابعة؛ انتشرت عبر سفوح تلال الأناضول حتى وصلت إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان ثمة تواصل في قيام دول متمدنة غنية ضمن هذا القوس العظيم حافظت إلى درجة كبيرة على فرديتها، ولكن على رغم ذلك كانت تجمعها وحدة ثقافية ضخمة(1)".
ولم تكشف التنقيبات الأثرية وسط ذلك كله، عن دور لإسرائيل
القديمة، مما جرى إيضاحه.
لقد بدت المعابد الكنعانية للعيان، داخل الكهوف الصخرية، بمكوناتها البسيطة من مذابح ومخازن لأوعية القرابين، وأظهرت بقايا البيوت المنهارة والمصاطب المتداعية ومخلفات الأسوار، براهين على استقرار بشري مدني عربي، بتلويناته الكنعانية والبيوسية خلال أكثر من خمسة آلاف عام.
" وفي التقارير الصادرة عن مئير بن دوف 1969-1970، وبن دوف 1970، لم تصادق نتائج الحفريات والتنقيبات على الوصف لأبعاد وغنى ووجود هياكل وقصور مملكة إسرائيل القديمة، بل على العكس من ذلك،أُعلن عن اكتشاف ستة قصور تعود إلى العصر الأموي-أسفل الزاوية الغربية الجنوبية للحرم القدسي مع ملحقاتها من طرقات وأقواس وقناطر وأبواب -بنيت كلها على الصخر الأساسي، بجانب منشآت الحرم القدسي مما يقطع الطريق أمام كل ادعاء مزيف"(2).
وعلى الضفة الشرقية من الانهدام الأردني، حيث طالتها معاول التنقيب، حيث تعتبر منصة الدخول إلى فلسطين، لقد كشفت الدراسات زيف الادعاءات حول نقوش مؤاب ودير علا مما جرى إيضاحه.
__________
(1) -كاثلين م .كينون –المرجع السابق-ص9.
(2) -كاثلين م.كينون –المرجع السابق ص9.(1/20)
لكن أروع ما حفلت به منطقة مؤاب، من خلال التنقيبات فن الفيسفساء والنقوش الملازمة، في مدن مادبا ، ونبو، والمخيط، وماعين، والقويسمة، فرشت بها جدران وأرضيات الكنائس، ما بين القرنين الخامس والثامن الميلاديين، كما وشيت بها جدران وأرضيات القصور الأموية، المشتى والطوية والخرّانة وعمرة وقلاع الحلابات والشوبك والكرك. وهذا موضوع واسع يحتاج إلى أبحاث معمقة غير أنني أكتفي بوصف القس تريسترام لقصر المشتى عندما زاره لأول مرة سنة 1874م.
" قصر منفرد وقد أدهشتني نقوشه وزخارفه، وهي في نظري تفوق كل ما خلفه العرب في هذا الفن – ولا أستثني قصر الحمراء في الأندلس –وقد سمح لبعثة ألمانية كانت تنقب هناك بأن تأخذ طائفة من هذه النقوش سنة 1932 م، وهي الآن تمثل الواجهة الأمامية للمتحف الإسلامي في عاصمة ألمانيا.
غير أنه من المؤسف حقاً أن يطال الاختراق التوراتي أحد هذه الأعمال الكبيرة الرائعة في فنها، وهي خريطة للأرض المقدسة فرشت بها أرضية أحد الأوابد السياحية في مادبا. يتحدث في شأنها البروفيسور جورج سابا:
قدر أن طول الخريطة الأصلي كان 24 متراً وعرضها ستة أمتار، وما بقي منها من أشلاء، مع الترميمات المحدثة عليها يمثل مخططاً كاملاً لمدينة القدس، وضعت على نور التوراة فقسمت بحسب الأسباط، فقد خط باللون الأحمر الكتابات المهمة وتلك التي تصف تخوم الأسباط:" زوبولون في سواحل البحر يسكن.. وطرف تخمه إلى صيدون". و يعكس هذا العمل الأطماع التوسعية المتأصلة لدى الصهيونية.
خاتمة
" في الغرب يؤرخ لبدء وجود الاستشراق الرسمي بصدور قرار مجمع فيينا الكنسي عام 1312م بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في اللغات العربية واليونانية والعبرية والسريانية في جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا وأفينون وسلامانكا".(1/21)
ورأينا كيف استطاعت المركزية الأوربية وأدواتها المعرفية فرض نظرية" إسرائيل القديمة" على أنها منشأ الحضارة الغربية، وتحقق ذلك بإحلال اليهود المتحدرين من نسل يعقوب في المشروع الإلهي،وبإعادة صياغة اللغة العبرية لتلائم التحول الجديد،وتبعاً لذلك كان الهدف من التنقيبات الأثرية إعادة بناء مكانة التوراة ضمن تاريخ الشرق الأدنى القديم.
وبرعاية الرأسمالية والاستعمار لهذا المشروع كانت النتيجة إنشاء جغرافية سياسية للوطن العربي، شكلت إسرائيل حلقتها المركزية، واستحال محيطها العربي إلى دول قطرية ممزقة تنازعها المصالح والأهواء، إلا أننا رأينا، بالرغم من كل ما ذكرنا، أنه كانت إحدى النتائج للبحث التاريخي، إيذانه بموت التاريخ التوراتي؛ الذي يستبدل به حالياً بشكل تدريجي؛ الاعتراف بالتاريخ الفلسطيني كموضوع قائم بذاته ضمن الوحدة الحضارية في بلاد الشام وفي الإطار العربي.
إن الأفق ليس مقفلاً تماماً، هناك نقاط إيجابية يجب استثمارها، وقد تشكلت لجنة في دمشق لإعادة كتابة التاريخ العربي، الأمل معقود على اللجنة أن تتحول إلى عمل مؤسسي يتعامل مع هذا الموضوع الكبير بمحورين:" الأول قومي، وهو انتزاع ركيزة أساسية من ركائز الصهيونية التي تقوم على ادعاء امتلاك التاريخ القديم للمنطقة برمتها، والثاني عملي ويتمثل في رد الاعتبار لجزء مهم من التاريخ العربي القديم، وهو التاريخ العربي الفلسطيني(1)".
__________
(1) -سحر سليم الهندي –مقدمة اختلاق إسرائيل القديمة –ص 24.(1/22)
آثار أهملتها ذاكرة التاريخ
الأستاذ محمد الصوفي
مقدمة: جامع وضريح عمرو بن معدي كرب الزبيدي في مدينة حمص، وهي ثالث المدن السورية من حيث الأهمية الاقتصادية والإدارية وعدد السكان، تقع وسط غربي البلاد على امتداد المدن السورية في السهول الوسطى الممتدة من الشمال إلى الجنوب، التي تضم المدن التالية:( حلب –حماة- حمص –دمشق –درعا).
يخترق نهر العاصي سهول سورية الوسطى، ويعتبر الشريان الرئيس للحياة الاقتصادية لهذه المناطق، ويمر النهر غربي مدينة حمص على بعد حوالي كيلو مترين تقريباً، محاذياً السهل الغربي للمدينة الذي يبدأ من منطقة القصير جنوباً حتى سهل الغاب شمالاً، وإلى جبال لبنان الشرقية غرباً، ويتفرع من نهر العاصي عند بحيرة قطينة ساقية للري تسمى" المجاهدية" تسير بمحاذاة الضفة الشرقية للعاصي حتى مدينة حماة، فنروي الحقول والبساتين التي تمر فيها، وتخترق مدينة حمص من طرفها الغربي فتزودها بالمياه اللازمة، والساقية المجاهدية شقها الملك المجاهد شيركوه الثاني في عام 581هـ لتزويد المدينة وحماماتها وجوامعها بالمياه، وسميت باسمه. وقد أجريت عدة تحسينات عليها حتى أصبحت في وضعها الحالي.
وكان للسهل الغربي لمدينة حمص أهمية استراتيجية وعسكرية هامة، حيث شهد منذ القديم صراعاً خطيراً على النفوذ بين الحيثيين والمصريين، ثم الرومان وفارس، وتدمر، وقد استخدمته الجيوش لتحمي ظهرها، وللحصول على المياه اللازمة.(1/1)
بابا عمرو: إحدى قرى مدينة حمص، تقع في جنوب غربي المدينة على بعد خمسة كيلو مترات، وقد شملها التنظيم والتوسع العمراني فأصبحت حياً من أحياء المدينة، يقع بقربها تل مشهور يسمى ( تل بابا عمرو) على طريق بحيرة قطينة فمنطقة القصير إلى الجنوب، وتدل أبنية بابا عمرو وحجارتها المنحوتة وآثارها المدفونة على أنها تعود إلى العهد الروماني على أقل تقدير، فقد كشفت عمليات حفر أساسات الأبنية عن أبنية قديمة، وأقنية وسراديب ودياميس(1)، كما وجد الناس في الحي القديم بعض الألواح الحجرية المنقوشة مكتوبة بلغة يونانية قديمة أو غيرها؛ لم يعتنِ بحفظها أحد ولم يتعرض لفك رموزها خبير فضاعت مع الزمن مع بعض الأجران الحجرية وغيرها. وفيها أثر تاريخي كبير هو جامع بابا عمرو- موضوع البحث- حيث يضم ضريح الفارس الشاعر العظيم عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كما يؤكد عامة الناس في باب عمرو. من أين جاءتهم هذه الفكرة وعششت في أذهانهم؟ لا أحد يعرف تماماً, لكن من المؤكد أنها وليدة مطلع القرن العشرين على أبعد تقدير، أما الجامع فلا تملك ذاكرة المسنين عنه أية فكرة؛ سوى أنه موجود.
__________
(1) -انظر (ربوع محافظة حمص) للدكتور عماد الدين موصلي باب الآثار الرومانية في حمص، حيث يقول:" دل التنقيب على أن هذه المغائر أغلبها أقبية بيوت قديمة، أو مدافن مسيحية بيزنطية محفورة في الصخر عرفت في روما منذ القرن الميلادي الأول وفي حمص، وفي القرن الثالث إلى السابع حفرها المسيحيون لدفن موتاهم، وليمارسوا فيها طقوسهم الدينية بعيداً عن رقابة الدولة واضطهادها تسمى الدياميس-ص 134-135.(1/2)
ويحكي لنا بعض المسنين -شاهدي العصر -أن حقيقة الضريح أثارت جدلاً وأخذاً وردّاً بين الناس،فقاموا على إثر ذلك بنبش القبر، وقبل الوصول إلى اللحد وجدوا لوحة صخرية مكتوبة بخط عربي، خط الثلث الحديث يعود إلى أواخر العهد العثماني، وبدت بعض كلماته مطموسة، والواضح منها كلمتا عمرو الزبيدي، وهي جزء من لوحة أكبر مفقودة، أو لم يتم البحث عنها جيداً في القبر، فاعتبروا اللوحة دليلاً قاطعاً على فكرتهم عن صاحب الضريح، وتردّ قول بعضهم بأن الضريح هو لأحد مشايخ التركمان، والمعروف بأن بعض سكان بابا عمرو من التركمان، كسكان مدينة حمص(1)الذين هاجروا من وسط آسيا واستوطنوا منطقة حمص خلال الحروب الصليبية والغزو المغولي، وقد كانت مدينة حمص مركزاً لتجمع وتعبئة العساكر الإسلامية خلال تلك الفترة.
لم تتم عملية النبش للضريح بشكل كامل، ولم تدرس اللوحات وجدران القبر، حيث يؤكد شاهد عيان ما زال حيّاً: أنه رأى كتابات عليها، فبقيت ذاكرة الناس لا تستند إلى أي دليل علمي واضح ومؤكد يؤيد فكرتهم عن صاحب الضريح.
صورة للحجر الأثري الذي اكتشف في القبر، وهو جزء من لوحة كبيرة
تبدو فيها الحروف المشوهة والمطموسة.
__________
(1) -يوميات محمد المكي1135هـ قال ص49وكان في حمص بعض السكان من التركمان ودمشقية وحلبية وحموية..).(1/3)
نلاحظ اضطراباً في ذاكرة العامة والمصادر المكتوبة حديثاً عن بابا عمرو خلال ثلاثمائة عام مضت, فالشيخ عبد الغني النابلسي في كتابة (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام والحجاز)(1)يقول إنه مرَّ على قرية بابا عمرو: وفيها جامع بابا عمرو وضريح الصحابي عمرو بن عبسة))... وفي العام 1130هـ ومحمد المكي الخانقاه في مذكراته(2)عن الفترة نفسها 1100هـ-1135م يذكر فيها جامع بابا عمرو في عدة مناسبات يقول: ((الذي فيه ضريح الصحابي عمرو بن أمية ))...؟ ومحقق الكتاب عمر نجيب عمر يذكر على هامش الكتاب أنه ضريح عمرو بن أمية الضمري, أما الباحث الفرنسي جان ايف جيلون في كتابه (أعياد الربيع القديمة في حمص)(3)يقول: ((تعود أهمية مسجد بابا عمرو إلى وجود ضريح عمرو بن معد يكرب الزبيدي, ويعلق: إن تاريخ وفاته مجهول ونجهل أيضاً الأسباب التي دعت الناس إلى الاعتقاد بأن ضريحه هنا فالتراث المحلي لا يخبرنا بشيء حول هذا...). وتضطرب المعتقدات وتختلف الروايات حول حقيقة صاحب الضريح... فالفارق شاسع بين أحد مشايخ التركمان؛ وبين الصحابة كعمرو بن عبسة وعمرو بن أمية وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، وغيرهم من الأسماء التي طرحها بعض المثقفين التاريخيين والتراثيين، كل ما توفر لدينا من حقائق وأدلة تاريخية ومراجع التاريخ والأعلام تنفي بشكل قاطع هذه المعتقدات دون أن تؤكد حقيقة بديلة.
__________
(1) -انظر كتاب حمص درة الشام ص35 عن بابا عمرو وضريحها.
(2) -لمزيد من التفصيل انظر كتاب تاريخ حمص يوميات محمد المكي طبع المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق صفحة (91, 151, 185, 244).
(3) -راجع كتاب أعياد الربيع القديمة في حمص تأليف جان أيف جبلون صفحة (52, 53, 54, 60.67).(1/4)
أولاً: الصحابي الفارس الشاعر المشهور عمرو بن معد يكرب الزبيدي(1)من قبيلة زبيد من مذحج اليمنية، أسلم عام 11هـ وارتد ثم عاد فأسلم، وشارك في الفتوحات الإسلامية ببطولة منقطعة النظير، واشتهر بوقائعه وشجاعته وبطولاته الخارقة، وتؤكد المصادر أنه استشهد في معركة نهاوند في فارس،
ودفن في قرية روذة عام 21هـ، ورثته زوجته الجعفية بأبيات مؤثرة:
لقد غادر الركب الذين تحملوا ... بروذة شخصاً لا ضعيفاً ولا غمرا
فقل لزبيد بل لمذحج كلها ... فقدتم أبا ثور سنانكم عمرا
فإن تجزعوا لا يغني ذلك عنكم ... ولكن سلوا الرحمن يعقبكم صبرا
وتذكر المصادر روايات أخرى لموته أيضاً، فقيل في معركة القادسية،وقيل في براري العراق من لسعة حية، وقيل عطشاً في الصحراء، وقيل مات بمرض الفالج وهو في طريقه إلى الري في العراق, وقيل شهد صفين ومات في خلافه معاوية.
وتعتبر رواية استشهاده في معركة فتح نهاوند هي أقرب إلى الصحة والأقوى, ولم يرد ذكر سكنه حمص وموته فيها، رغم أنه شارك في فتح حمص كما ذكر الواقدي.
أما عما ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي؛ فقد ظهر مؤخراً ضريح للصحابي الجليل عمرو بن عنبسة في سوق الحسسة وسط المدينة.
إذن نحن نملك مرجعين عن قرية بابا عمرو القديمة؛ وعن الضريح الموجود فيها والجامع القديم. المصدر الأول أقوال وروايات عامة الناس في بابا عمرو؛ وذاكرة المسنين.
__________
(1) - لمزيد من التفاصيل عن حياة الصحابي والفارس الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي راجع ديوان عمرو بن معد يكرب الزبيدي إصدار مجمع اللغة العربية بدمشق, والمراجع المذكورة في سيرة ابن هشام مجلد4 صفحة175-الأغاني مجلد15 صفحة208 وما بعدها-الاستيعاب.(1/5)
والمصدر الثاني المراجع التاريخية قديمة وحديثة، والوثائق والمخططات الواردة آنفاً, وتضيف الروايات الشعبية الأولى وتقول إن بابا عمرو كانت قديماً تسمى كفردوس وقد سميت بهذا الاسم من حدث تاريخي هام بطله عمرو الزبيدي وهي معركة طاحنة حصلت في المنطقة السهلية غرب المدينة، فأبلى فيها عمرو بلاءً حسناً وقتل الأعداء؛ وجندل الفرسان وشتت شملهم، وهزمهم هزيمة نكراء، وداسهم بحوافر حصانه، فكان أبو عبيدة الجرّاح يهلِّل ويكبّر ويحمسه ويصرخ: (دوس الكفار يا عمرو دوس), بارك الله فيك، فسميت القرية في ذلك الوقت (كفردوس).
أما تحول الاسم من كفر دوس إلى بابا عمرو، فله رواية أخرى تقول: إن عمراً سكن (كفردوس) وأصبح شيخاً مسناً مهيب الطلعة، عابداً زاهداً، يعلّم الناس أمور دينهم، فكان يقصده الناس من جميع الأنحاء للسلام والتبرك والتعلم والدعوات, وكانوا يسألون عنه فيقولون: أين بابا عمرو؟ وذهبنا إلى بابا عمرو، وجئنا من بابا عمرو، فذهب عليه الاسم بابا عمرو، وسميت القرية باسمه (بابا عمرو).
*جامع بابا عمرو القديم:
هذا الجامع من أهم الأوراق التاريخية التي أهملتها ذاكرة الزمن, فذهبت في مهب الريح, امتدت أيادي الغفلة والجهل فطمست معالمه ودفنتها, حينما وصلت إلى الصرح معاول الهدم والتخريب فسوته بالأرض, وجعلته أثراً بعد عين وشيّدت مكانه عام 1956 مسجداً حديثاً من الإسمنت، سمته جامع عمرو بن معد يكرب الزبيدي...
لم نعد نملك توثيقاً له سوى القليل، أهمها ما تحمله ذاكرة الشيوخ والمسنين الذي عاصروه ومازالوا أحياءً حتى الآن، فأعطوني وصفاً دقيقاً يقارب الحقيقة رسمت بموجبه مخططاً للجامع انظر الشكل (1).
كما وجدت صورة فريدة للجامع التقطها أحد أقاربي قبل عامين من
الهدم، أي عام 1954م، انظر الصورة التي تبين الواجهة الشمالية لغرف
الضريح مع المدخل الرئيسي والمئذنة، وتبرز فيه البساطة الشديدة للجامع....(1/6)
بالإضافة إلى ذكر الجامع في مذكرات محمد المكي؛ والشيخ عبد الغني النابلسي البسيطة التي تعود إلى حوالي أربعمائة عام.
الشكل رقم 1
مخطط رأسي لجامع بابا عمرو القديم بحسب الوصف
اكتشفت مخططاً تنظيمياً لقرية بابا عمرو من إصدار قاضي المحكمة العقارية في حمص لعام 1920م، يبين فيه تماماً مخطط الجامع كما ذكره المسنون، مع بعض التعديلات البسيطة.
نستخلص منها المعطيات التالية: بناء الجامع بالحجر الأسود والطين، والجدران السميكة، والنوافذ المنقطرة، والأبواب الحجرية، والقبة الطينية القائمة على الجدران المعقودة من الأرض إلى السقف، وبساطة البناء، وأقسامه تدل على قدمه، وأنه يعود إلى مطلع العهد العثماني في الشام, أو إلى مرحلة سابقة تعود إلى عهد الأسرة الأيوبية، أو أن كل قسم بني في قترة مختلفة، مثل قسم الضريح، وقسم الحرم (المصلى)، فبناء الضريح يعتقد أنه أقدم من بناء الحرم، وبينهما المئذنة شيّدت في بداية الأربعينيات من هذا القرن كما يذكر المسنون.
وربما يعود بناء الحرم إلى فترة حكم السلطان نور الدين والأسرة الأيوبية خلال الأعوام 540-680هـ ، أو حكم أسرة شيركوه الأيوبية.
فقد شهدت حمص في تلك الفترة نهضة عمرانية هامة، وبناء الأبنية الدينية والمساجد والحمّامات.
وقد استمر حكم أسرة شيركوه لحمص ستة وخمسين عاماً شهدت فيه نهضة عمرانية كبيرة، وبناء الأبنية والمساجد والحمّامات، والساقية المجاهدية (شريان حمص الاقتصادي), التي تمر على بعد أمتار قليلة من جامع بابا عمرو القديم...!!
*وصف الجامع: يتألف الجامع من ثلاثة أقسام هي: الضريح والحرم والباحة. انظر الشكل رقم (1).(1/7)
-الضريح: هو كتلة بنائية واحدة، مؤلف من غرفتين متجاورتين من الحجر الأسود والطين، وجدران سميكة حوالي المتر، تبدأ من غرب المدخل الرئيسي للجامع قياسها 13-7,5م يفصل بين الغرفتين جدار سميك؛ له باب عرضه 75سم وارتفاعه110سم وسمكه 25سم، للغرفة الأولى شباك في الجدار الشمالي ضمن قنطرة، ولها مدخل حجري في الجدار الشرقي يطل على الباحة يشبه الباب الأول, وباب خشبي صغير في الجدار الجنوبي على الفسحة السماوية فوق سطح الغرفة، وعلى الزاوية الشمالية الشرقية مئذنة بارتفاع مترين ونصف؛ ذات أعمدة ومظلة وهلال.(انظر الصورة المرافقة)، لها درج حجري خارجي على الجدار الشرقي يبدأ من الأرض حتى السطح، وكانت الغرفة الأولى تستخدم قديماً مصلى قبل بناء حرم الجامع(المصلى).
وغربي الغرفة الأولى تقع غرفة الضريح وقياسها 7,5 x6,5 كالغرفة الأولى، تضم ثلاثة قبور يعتقد أنها لعمرو الزبيدي وابنه وخادمه، والقول فيهما غير مقطوع، وعلى سطح الغرفة قبة من الطين واللبن على مساحة السطح، وللغرفة باب صغير في الجدار الجنوبي يطل على الفسحة الشمالية وفي الجدار الشمالي طاقة تهوية صغيرة.
القسم الثاني: باحة الجامع وتتألف من قسمين: الأول في جهة الغرب تفصل بين بناء الضريح وبين حرم الجامع، قياسها 13x5 على شكل شبه منحرف، في زاويتها الجنوبية الغربية نخلة معمرة، والثاني باحة كبيرة في الجهة الشرقية طولها 28 متراً، وعرضها 12 متراً، تبدأ من المدخل الرئيس للجامع حتى الجدار الجنوبي،في وسطها مصطبة، عبارة عن مصلى صيفي مرصوفة بالحجارة السوداء، وفي جهتها الجنوبية نصب حجري يشير إلى القبلة، وفي الزاوية الجنوبية الغربية جبّ عربي عليه زاوية خشبية؛ تدلى منها رافعة وبكرة وحبل ودلو من المطاط لسحب المياه، وفي الجهة الشرقية أشجار معمرة اقتلعتها حديثاً أيدي بعض الجهلة.(1/8)
أما القسم الثالث فهو( المصلى) ويقع في الجهة الجنوبية الغربية طوله 11 متراً وعرضه 9 أمتار، جدرانه سميكة من الحجر والطين، مقنطرة من الأرض حتى السقف، وعليه قبة كبيرة من الطين واللبن، وبابه على الفسحة الشمالية، وهو باب خشبي عرضه متران، له شباك صغير في الجدار الغربي، ومحراب طيني بسيط في الجدار الجنوبي، ومنبر خشبي متحرك مؤلف من أربع درجات.
في العام 1956 م كانت بابا عمرو قد تغيرت وزاد سكانها، وبنيت فيها أحياء جديدة, ولم يعد حرم الجامع البالغ حوالي مئة متر مربع يتسع للسكان، خاصة في صلاة الجمعة والعيدين, لذلك كان أول ما تبادر إلى ذهن وجهاء القرية بناء جامع أكبر منه، وحالت المشكلات العائلية وقتها دون بناء جامع قرب الجامع القديم، وترك على حاله؛ وتعرقل المشروع فترة من الزمن؛ حتى وجد الجميع أن الحلّ الأفضل هو هدم الجامع القديم؛ وبناء آخر مكانه وتوسيعه على حساب التربة القديمة المجاورة للجامع، والمشهور بين ترب مدينة حمص القديمة, والذين اختلفوا في الحلول اتفقوا على هدم الجامع, ومع الأسف لم يجد هذا الأثر التاريخي من يدافع عنه ويحفظه، فحمل الجميع معاولهم وراحوا يهدمون بنشاط لمدة أسابيع، وقد شارك في العمل معظم أهالي بابا عمرو، وأصبح هذا الصرح أثراً بعد عين, وكنت في ذلك الحين صغيراً لا أذكر منه سوى ملامح وخيالات ضبابية غير واضحة المعالم، وعندما رأيت الصورة الفوتوغرافية للجامع؛ فجرت في نفسي مشاعر الحزن والأسف والهمة والعزم فأنشأت بعون الله تعالى هذا البحث, لأوثق هذا الصرح القديم حتى لا تذهب آثاره أدراج الرياح بعد أن يموت الكبار، وتموت ذاكرتهم معهم، وأضعه بين أيدي الباحثين والمنقبين عن آثار الحضارة العربية الإسلامية، والله الموفق والمعين لعل أحد يضيف أية معلومة جديدة عن هذا الصرح القديم وعن الصحابي الجليل صاحب المقام. والحمد لله رب العالمين.
*مراجع البحث:(1/9)
1- صورة فوتوغرافية للجامع القديم أخذت عام 1954(الشكل رقم 4).
2-لوحة أثرية تم كشفها في بداية الأربعينيات، أثناء حفر الضريح، وهي محفوظة في الجامع.(الشكل رقم 2).
3-مخطط تنظيمي لقرية بابا عمرو، من إصدار قاضي المحكمة العقارية في حمص عام 1920م (الشكل رقم 3).
4-شهود عيان وذاكرة كبار السن في بابا عمرو. (الشكل رقم 1).
5- مذكرات محمد المكي الخانقاه عن تاريخ حمص من العام
1100هـ -1135هـ. إصدار المعهد العلمي الفرنسي في دمشق. حققه الأستاذ
نجيب العمر.
6- الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز- مذكرات الشيخ عبد الغني النابلسي.
7- أعياد الربيع القديمة في حمص, تأليف جان ايف جليون, ترجمة الأستاذ زياد خاشوق.
8- كتاب شعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي, إصدار مجمع اللغة العربية بدمشق 1405هـ-1985م.
9- حمص درّة مدن الشام, تأليف منذر الحايك وفيصل شيخاني.
10- الموجز في تاريخ حمص وآثارها للأستاذ محمد ماجد الموصلي1984م.
11- ربوع محافظة حمص بين الماضي والحاضر. د.عماد الدين الموصلي.
12- فتوح الشام. الواقدي طبعة أولى 1374هـ-1955م. مصر.
13- السير النبوية لابن هشام. دار الخير-طبعة اولى1400هـ-1990م.
14- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني-طبعة أولى 1328هـ.
15- الاستيعاب في أسماء الأصحاب ليوسف القرطبي طبعة أولى 1328هـ.
16- أسد الغابة في معرفة الصحابة لعلي بن محمد الجزري.
(كتاب الشعب).(1/10)
الفنون الحرفية الإسلامية
في مطلع العصر الحديث
د. عباس صباغ
مقدمة عامة:
للفنون الحرفية الإسلامية عموماً ميزات وخصوصيات, تجعلها بحق مداراً لدراسات معمقة ليس بهدف التعرف عليها فحسب, بل لوضع خطة للعودة إلى إنتاجها بغية الاستفادة منها مجدداً, في ظل نظام العولمة الجديد, الذي يهدف إلى طمس الهوية الإسلامية, ورسم أخرى تجعلنا نقبل على المنتجات الأوروبية والأمريكية, مما يفسح المجال إلى حصارنا اقتصادياً وسياسياً وحتى عقلياً, ضمن مشروع ذكي يسلبنا فيما بعد حريتنا المستند الأساسي لأخذ القرار بشكل مستقل.
وليست ورقتي هذه سوى ومضات تلقي الضوء على ما كان للمسلمين من باع طويل في الحرف والصناعات التي وجدت أصلاً لإنتاج احتياجات المسلم على كافة الصعد, بما يتناسب مع شرعة وذوقه وإحساسه بالجمال, في صيغة فنون زادت من حسه الجمالي ووسمته بسماتها وميزته عن الآخرين.(1/1)
ولكن قبل الولوج في عالم الفنون الحرفية, لابد من تأطير الزمان والمكان ولو بخطوطه العريضة, فالزمان هو القرن السادس عشر الميلادي الذي أصطلح أن يكون بداية للعصر الحديث, والمكان هو ما كانت تحكمه ثلاث دول إسلامية كبرى جاء ضمن متوالية حدودية واحدة على شكل هلال؛ اشتمل شبه جزيرة البلقان شمال غرب وامتد إلى الهند باتجاه جنوب شرق, وأولى هذه الدول ,الدولة العثمانية, التي قامت في بداية الأمر على شكل إمارة في الزاوية الشمالية الغربية من الهضبة الأناضولية (آسية الصغرى) على حدود ما تبقى من الدولة البيزنطية وذلك في العقد الأول من القرن الرابع عشر الميلادي, بعد أن انفرط عقد الدولة السلجوقية, التي كانت تحكم المنطقة من قبل, ثم ما لبث هذه الإمارة التي توسعت شرقاً وغرباً لتشمل على الأناضول والبلقان وبلاد الشام ومصر وشبه الجزيرة العربية والعراق وشمالي أفريقية, وقد بلغت أقصى اتساع لها في عهد عاهلها السلطان القانوني، واستمرت عدة قرون إلى أن سقطت في بداية العقد الثالث من القرن العشرين وثانيها, وثانيها الدولة الصفوية التي قامت التي قامت أيضاً في الزاوية الشمالية الغربية من الهضبة الإيرانية في بداية القرن السادس عشر الميلادي, ثم توسعت لتشمل معظم أراضي هذه الهضبة زمن مؤسسها إسماعيل الأول, وقد استمرت قرابة قرنين ونصف لتسقط سنة 1736م وثالثها الدولة المنغولية في الهند, التي أسسها ظهير الدين بابر سنة 1526, ثم توسعت, لتشتمل على معظم أراضي شبه القارة الهندية, وبلغت أقصى اتساع لها زمن عاهلها أكبر, واستمرت على الحكم إلى سنة 1858 حيث آل حكمها للملكة البريطانية.
الفنون الحرفية الإسلامية في العصر الحديث
لقد تنوعت الحرف عند المسلمين وتعددت, وذلك تبعاً لاحتياجاتهم, وبرعوا فيها إلى أن غدت فنوناً ذات قيمة مادية ومعنوية, ولكثرة هذه الحرف التي بلغت الحد الذي أضحت فيها فناً, ارتأيت أن يقتصر بحثي على ثلاث منها هي:(1/2)
أولاً-فنون الكتاب.
ثانياً-الفنون النسيجية.
ثالثاً-الفنون الخزفية.
أولاً-فنون الكتاب:
لما كان معجزة الإسلام كتاباً قرآناً أنزله رب العزة على نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أولى آياته بل أول كلمة فيه هي اقرأ "اقرأ باسم ربك الذي خلق" فقد اعتنى المسلمون بالكتاب عموماً، فحسنوا خطه، وجملوا جلده، وزينوا بعضه برسوم ليس لها نظير في الحضارة الإنسانية, ولما كانت عناية المسلمين بالخط والجلد والزينة فحري بنا أن نتعرف على:
أ-الخط:
نال الخط الأوفر من جهود المسلمين وذلك لعنايتهم منذ بداية تاريخهم بفن الخط, إذا أنه بعد جهود جبارة لتطويره, استقر في خاتمة المطاف على أسلوبين رئيسين: الأسلوب الأول جاف, حروفه مستقيمة ذات زوايا حادة، عرف بالخط الكوفي, والأسلوب الثاني, لين, حروفه مقوسة, تتميز بانحناءات رشيقة وعرف بالخط النسخي(1)، وقد كانت الكتابة ترتقي باستمرار عبر التاريخ الإسلامي,وفي كل مكان كان يعيش فيه المسلمون, إلى أن بلغت في القرن الخامس عشر الميلادي أوج عظمتها لتنقل الخط هذا القرن إلى مرتبة الفن الرفيع, حيث أخذت مدرسة الخط العثمانية عن المصريين خط الثلث المعروف زمن السلاطين المماليك, وأضافت عليه حتى بلغ الذروة في الجمال, كما أخذت عن السلاجقة الخط النسخي وطورته وولدت منه فيما بعد الخط الهمايوني,وهو الصورة الجديدة للخط الديواني الذي عرف من قبل(2).
__________
(1) -نجدت خماش: دراسات في الآثار الإسلامية, دمشق 1981ص 199-251.
(2) -محمد شكر الحيدري: الخط العربي, بغداد 1974ص69.(1/3)
وقد برع في هذا الفن سبعة خطاطين؛ اعتبروا أساتذة الخط العثماني في القرن السادس عشر هم "حمد الله البخاري" وعبد الله الأماسي, وجلال الدين الأماسي, وإبراهيم بروسوي شربتجي, ومصطفى بن حمد الله البخاري, وأحمد قره حصاري, ومحي الدين بن جلال الدين الأماسي(1).
ولم تقتصر جهود الفنانين العثمانيين على تجويد الخطوط المعروفة
كالخط النسخي والخط الريحاني, والخط المحقق وخط الثلث, بل مزجوا بين خطي الثلث والنسخي واستنبطوا خط الرقعة, الذي سرعان ما انتشر في بلدان السلطنة كافة، وذلك لجماله من جهة وسهولة كتابته وقراءته من جهة ثانية(2).
ثم ما لبث الخطاط العثماني أن استعار من جاره الصفوي خط النستعليق، وبرع فيه أيضاً حتى غدا له فيه مذهب أطلق عليه خط التعليق العثماني(3).
وكان لشدة ولع العثمانيين بالخط وفنونه؛ أن جنح خطاطوه إلى تقديم لوحات تشكيلية من الحروف، ثم أتى ابتكاره الفذ للخط الغباري، ليمثل قمة الإبداع الخطي الذي مكّن فنانيه من كتابة نصوص طويلة على رقع صغيرة، إلى الحد الذي جعل أحدهم يكتب القرآن بأسره على بيضة واحدة(4).
__________
(1) - معمر والكر: فن الخط بين الماضي والحاضر, أنقرة 1987, ص357, حبيب الله فضائلي: أطلس خط, اصفهان 1319هـ, ص336.
(2) -محمد شكر الحيدري: المرجع السابق.
(3) -محمد عبد العزيز مرزوق: الفنون الزخرفية الإسلامية في العصر العثماني، القاهرة 1974 ص 176.
(4) -حبيب الله فضائلي: المرجع السابق ص279.(1/4)
وعلى الطرف المقابل، ورثت مدرسة الخط الصفوية الكثير من مزاياها من مدرسة الخط التيمورية، التي كانت قد تطورت على يد الخطاط مير علي التيموري، إذ يرجع إليه الفضل في ابتكار خط النستعليق الذي يجمع بين صفتي الخط النسخي وخط التعليق،ثم تبعه سلطان علي مشهدي خطاط بلاط السلطان بايقرا 1468-1506م الذي تميز كثيراً في هذه الفترة حتى إنه وضع رسالة في فن تحسين الخطوط، وحين آل حكم إيران للدولة الصفوية، استمر الخط على تقدمه وارتقائه، وذلك بسبب رعاية معظم الشاهات لفن الخط وخطاطيه، حتى أن عدداً كبيراً من أبناء الشاهات كانوا من الخطاطين المهرة، وأشهر من تعلم الخط وأتقنه منهم الشاه طهماسب(1)الأول 1524/1576م
ومما أضافته المدرسة الصفوية في هذا العهد خط الشكستة-أي المكسور- ويطلق عليه أيضاً شكستة نستعليق- أي النسخي المعلق المكسور- ولهذا الخط قواعد خاصة جمعت بين قواعد مختلفة، ويمتاز بخفة ولطف ورشاقة(2).
ولما كان الخط يواكب مجمل الفنون الجميلة، فقد انصب جهد الخطاطين على خط النستعليق لنسخ الكتب، وعلى خط الثلث وفروعه لتزيين وتجميل العمائر الملكية والدينية(3).
أما أشهر الخطاطين الإيرانيين الذين عاشوا في هذا العهد " محمد مؤمن كرماني" وتحتفظ مكتبة لينينغراد العامة بقطعة نفيسة من كتاباته، وقاسم تبريزي(4)" الذي أمضى أواخر حياته في استانبول، وكان له الفضل بنقل أساليب الإيرانيين في الخط إلى الخطاطين العثمانيين(5).
__________
(1) -حبيب الله فضائلي: المرجع السابق ص346.
(2) -محمود شكر حيدري-المرجع السابق 123.
(3) -مريم مير أحمدي: تاريخ سياسي واجتماعي إيران در عصر صفوي-تهران 1371هـ، ش.ص 239-240.
(4) -حبيب الله فضائلي: المرجع السابق، ص 346-347.
(5) زكي محمد حسن: الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي ص66.(1/5)
أما مدرسة الخط في شبه القارة الهندية زمن السلاطين المغول،فقد استمرت وفق ما كانت قد رسمته مدرسة الخط التيمورية، دون أن تقدم جديداً أو أن يكون لها امتياز على غرار المدرستين العثمانية والصفوية(1).
وأخيراً اهتم العثمانيون والصفويون ومغول الهند بالطغراء –التوقيع السلطاني- وقدمت منه نماذج رائعة تكاد تكون أجمل ما خلفته دواوين هذه الدول.
ب- التجليد والتذهيب:
يعتبر فن التجليد من فنون الكتاب المتممة لعملي الخطاط والرسام، حيث تقع على عاتق المجلد مسؤولية حفظ أوراق الكتاب من التلف، والعناية بمظهره الخارجي بأسلوب يلائم قيمة الكتاب ومحتوياته، وكانت جلود المخطوطات النفيسة تزخرف وتذهب، ولم تقتصر الزخارف عموماً على الغلاف الخارجي بل تعدته إلى باطن الغلاف، وظلت جلود الحيوانات لفترة طويلة تعتبر المادة المثالية لتجليد الكتب في بلدان معظم العالم الإسلامي، كما استخدمت طرق جديدة في التجليد، وهي أن يضغط على الجلد أو يختم بالذهب أو الفضة. وفي العصر التيموري تطور فن التجليد تطوراً ملحوظاً في مدرسة هراة بالذات(2)، ثم إنه حين آل حكمها للصفويين 1510م انتقلت جميع فنونها إلى تبريز بما فيها فن تجليد الكتب، ولم يكن الصفويون مجرد حمَلة لهذا الفن، بل جهدوا على تطويره إلى حد ابتكروا فيه أساليب جديدة في الضغط والتذهيب، وشاع في مدارسهم أسلوب جديد زينت الجلود من خلاله بالرسوم المطلية باللاكيه(3).
__________
(1) صلاح أحمد بهنسي: مناظر الطرب في التصوير الإيراني في العصرين التيموري والصفوي، القاهرة 1990 ص52.
(2) -نجدت خماش: المرجع السابق ص 203.
(3) -نعمت إسماعيل علام: فنون الشرق الوسط في العصور الإسلامية، القاهرة 1974 ص 224.(1/6)
ولما كان هذا الفن على درجة عالية في بداية القرن السادس عشر الميلادي فقد انتقل إلى العثمانيين بعد أن تتلمذوا على يد الإيرانيين، حيث كان يقوم في البدء على عاتق الإيرانيين والمصريين معاً، ممن استقدمهم السلطان سليم الأول إلى استانبول(1)، ومنذ ذلك الحين اخذ العثمانيون يرتقون به إلى أن ابتكروا أساليب جديدة جعلوا من خلالها جلود الكتب على ألوان متعددة، بعد أن بقيت لفترة طويلة تقتصر على اللون الأسود، أما القفزة النوعية التي حققها العثمانيون في هذا المضمار؛ فهي ابتكارهم طريقة جديدة استبدلوا فيها جلود الحيوانات بالنسيج المطرز، ونوعوا خيوط التطريز مستخدمين الألوان الزاهية لها، بالإضافة إلى خيوط مذهبة أو مفضضة، حيث أطلق على
هذه الطريقة اسم سردوز أي المخيط(2).
أما في الهند المغولية فقد بلغت صناعة التجليد المطلية باللاكيه حداً اقتربت فيه كثيراً مما كان يتم في إيران، وقد أضاف الفنان الهندي إلى هذه الجلود أشكالاً كثيرة من الأزاهير بطريقة الضغط(3).
ج-المنمنمات والتصوير:
لم يقم فن المنمنمات أساساً إلا لتزيين الكتاب، حيث أتت هذه المنمنمات على شكل رسوم توضح محتواه بكثير من الحساسية والشفافية والدقة؛ بأسلوب مميز خال من المشابهة للكائن الحي؛ بغية عدم الوقوع في مغبة التحريم الديني لتصوير الكائن الحي، كما أن الفنان أمسك عن رسم الظلال- البعد الثالث- كي لا يقع في مغبة التجسيم المنهي عنه أيضاً، وهنا يمكن القول إن ما ألجأ الفنان إلى رسم مصغرات بلا ظلال ولا مشابهة كان عن قصد منه لا عن سطحية كما اتهمه بعض نقاد الفن(4).
__________
(1) -ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور ج5 ص 182 -207.
(2) -محمد عبد العزيز مرزوق: الفنون الزخرفية الإسلامية في العصر العثماني- القاهرة 1974 ص 215.
(3) -أحمد موسى: الفن الإسلامي-بيروت 1966 ص 160.
(4) -عنايات المهدي: روائع الفن في الزخرفة الإسلامية – القاهرة 1993 ص 25-26.(1/7)
وهنا يقتضي منا الواجب الاعتراف بأن فن المنمنمات العثماني تأثر تأثراً بالغاً بفن المنمنمات الإيراني,وذلك لظهور الروح الإيرانية على الصور والرسوم العثمانية في الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي, وإن كان لابد من التساؤل عن السبب في هذا المجال, فإنه يعود للصفويين بالذات لأنهم ورثوا- مع قيام دولتهم -اثنين من أهم مدارس الرسم العامرة آنذاك وهاتان المدرستان هما مدرستا هراة وشيراز اللتان كانتا تحت رعاية الدولة التيمورية حيث يعتبر ألغ بك بن شاه رخ التيموري 1394-1449م أكثر من رعى الفنون
الجميلة في إيران منذ العهد الساساني(1).
وقد بلغت الفنون في عصره مبلغاً وعظيماً وضعته في أعلى قمم المجد في تاريخ الفن, ثم مثّل عهد السلطان بابقرا-آخر الحكام التيموريين- قمة تطور الفنون الجميلة لهذه الدولة، حين ترسخت مدرسة هراة في فن النمنمات، وعلى الخصوص بعد أن ظهر فيها أحد أعظم فناني الشرق في مطلع العصر الحديث بهزاد 1450-1536م المصور المبدع الذي أكسب التقاليد القديمة لمدرسة هراة حياة وروحاً جديدة, وظل تحت رعاية بايقرا إلى أن سقطت هراة بيد الشاه إسماعيل الأول الصفوي 1510, فكان أول ما فعله الشاه أن نقل بهزاد مع غيره من مهرة المصورين إلى عاصمته تبريز(2), وبذلك انتقلت مدرسة هراة إلى تبريز، واعتبر بهزاد مؤسس مدرسة التصوير الصفوية, هذا الفنان الذي انتقل إلى قزوين حين جعل الشاه طهماسب-خليفة إسماعيل- قزوين عاصمة له, فكان أن كثر تلامذته في عموم أنحاء إيران(3).
__________
(1) -أرمينوس فامبري: تاريخ بخارى منذ أقدم العصور حتى وقتنا الحاضر, ترجمة أحمد الساداتي, القاهرة ل.ت,ص241
(2) -مريم مير أحمدى: المرجع السابق, ص236-237.
(3) - نعمت اسماعيل علام: المرجع السابق, ص215.(1/8)
وترجع أهمية بهزاد في تاريخ المنمنمات الإسلامية إلى أنه أخرج التصوير التقليدي المألوف في تصوير الجانب الأرستقراطي للملوك والحكام مما كان عليه، وانصرف إلى تصوير مظاهر الحياة عند العامة, وخاصة حين أظهر في صوره رسوم متعددة للدراويش، حيث كان التصوف شائعاً آنذاك, ومن أهم ما أضافه إلى مدرسة هراة النظر إلى اللوحة على أنها ساحة كاملة, حشد فيها عدداً كبيراً من الأشخاص والعناصر لإظهار الفعاليات الحياتية بكل تفاصيلها للناس(1), ويتجلى عمله في مخطوطة الخماسية لنظامي كنجوي حيث يصور لنا خبر مجنون ليلى في مكة، والأشخاص الذين معه يمثلون هيكل اللوحة, والهيكل فيها عبارة عن شكل بيضاوي وضعه أصلاً لتبيان العمق(2).
وهذه اللوحة المثال هي واحدة من ثلاثمئة وثمان وخمسين لوحة تعتبر بجملتها من أكثر آثار التصوير الإيراني تكاملاً(3).
ثم كان لمكوث بهزاد قرابة ربع قرن في تبريز أن تتلمذ على يديه عدد كبير من المصورين، ساروا على نهجه خطوة خطوة وشاركوه في بعض أعماله، وقد اشتهر منهم" سلطان محمد" و" شاه محمد نور" و" مظفر علي" و" مير سيد علي" و" محمود المذهب" و" سيد مير نقاش" وغيرهم(4).
ومن الأعمال النادرة المحفوظة في متحف المتروبوليتان في نيويورك مخطوط الخماسية لنظامي كنجوي، خطها شاه محمد نور، وتعتبر صورها آية في الجمال, ومن بين اللوحات المحفوظة أيضاً لوحة رائعة أيضاً رسمها محمود المذهب تقدم مشهداً اجتماعياً، وجوه أناسه واقعية مع شيء من الغموض يزيد من جماليتها(5).
__________
(1) -صلاح أحمد بهنسي: المرجع السابق, ص53.
(2) -الكسندر بابا دوبولو: جمالية الرسم الإسلامي, تونس 1979,ص58.
(3) -نعمت اسماعيل علام: المرجع السابق, ص215.
(4) -مريم مير أحمدي: المرجع السابق 237.
(5) - الكسندر بابا دبولوا: المرجع السابق, ص59.(1/9)
أما فن الرسم والتصوير عند العثمانيين فمما لا شك فيه أن الفنانين العثمانيين تأثروا بفن أسلافهم الأوغوز, الذي استمر إلى عهد السلاجقة, وعلى خطا الفنان السلوجقي استمر الفنان العثماني, إلى أن اتسعت رقعة الدولة واشتملت على عاصمة البيزنطيين, فدخل الفن العثماني مرحلة جديدة, وعلى الخصوص حين استقدم السلطان العثماني محمد الثاني 1451-1481م للفنان الإيطالي جنتيلي بلليني إلى استانبول وكلفه برسم صورة له, ما تزال محفوظة في المتحف الوطني بلندن(1).
وفي الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي بدأت تظهر على فن التصوير العثماني التأثيرات الإيرانية، وذلك منذ أن اعتمدت مدرسة التصوير العثماني على المصورين الإيرانيين، الذين اصطحبهم معه السلطان سليم الأول 1512-1520م من تبريز إثر معركة جالديران 1514م(2).
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء بل قدم إلى البلاط العثماني " شاه قولي"
أحد ابرز الفنانين المبدعين الإيرانيين، واحتل مكان الصدارة في عهد السلطان سليمان القانوني 1520-1566م، وكذلك ولي جان تيريزي الذي حظي بالمكانة ذاتها في عهد السلطان مراد الثالث 1574-1595م(3).
فكان أن ظهرت الشخصية الإيرانية كسمة خاصة أضيفت إلى سمات الفن العثماني المشبع بالروح الأوغوزية والسلجوقية والبيزنطية، وأبلغ مثال على ذلك العهد ما رافق مخطوطة" سليم نامة" التي زينت بأربع وعشرين منمنمة صورت السلطان سليم في معظم فتوحاته، وأظهرت تفصيلات مهمة عن ألبسة الجند وحركاتهم(4).
__________
(1) -نعمت إسماعي علام: المرجع السابق-ص 225.
(2) -عبد الحسين نوائي: تاريخ روابط فرهنكي إيران، تهران 2539 شاهنشاهي ص 96.
(3) -م.س ديماند: الفنون الإسلامية، ترجمة أحمد محمد عيسى –القاهرة 1958 ص 67.
(4) -محمد عبد العزيز مرزوق: المرجع السابق ص 198.(1/10)
وفي عهد السلطان سليمان القانوني قطع هذا الفن شوطاً كبيراً في التقدم والرقي، خاصة على يد الفنان " مطرقي نصوح" أشهر الفنانين العثمانيين على الإطلاق، فدفع بالرسم العثماني إلى الأمام ليتسنم منذ ذلك الحين مكانته المرموقة في عالم الفن، وذلك عبر مجموعة من الأعمال، أهمها الصور المرافقة لمخطوطة " منازل السفر إلى العراقين" حيث يبدو على كل ما صوره هذا الفنان تأثره الواضح بالتصوير الإيراني, لكنه من جانب آخر كان حريصاً على إظهار الخصائص الشخصية للفن العثماني(1).
وقد استمر فن التصوير العثماني على الخط الذي رسمه "مطرقي نصوح" إلى نهاية القرن السادس عشر, لما قدمه السلطان مراد الثالث من دعم ورعاية لهذا الفن وأهله, فظهر رعيل من الفنانين وشّى بالمنمنمات الرائعة مخطوطات عديدة أهمها "هنرنامه" و"خبرنامه" و"سرنامه" وقد صور كتاب الأفراح مباهج الاحتفالات الكبرى التي رافقت ختان محمد بن مراد الثالث، فقد عمد محمد مصورها "عثمان" إلى إظهار التفاصيل الصغيرة لموضوعاته, فكان أن قدمت هذه الصور معلومات وفيرة عن المواكب السلطانية والمباريات والألعاب وضيوف السلطنة والشعب وهو شاهد, وما كان في استانبول(2)آنذاك, وذلك بأسلوب تبدو فيه الشخصية العثمانية واضحة كل الوضوح(3).
ومن النماذج التي تظهر هذا الأسلوب, الصور المرافقة لمخطوطة "سليمان نامه" المحفوظة في شستربتي, والتي يعود تاريخها إلى 1579, كما يوجد في المكتبة الوطنية بباريس موقعة فيها صورة للسلطان سليمان القانوني, وهو يمتطي جوداه, إذ تعتبر مثالاً رائعاً وفذاً للتصوير العثماني المستقل(4).
__________
(1) - محمد عبد العزيز مرزوق: المرجع السابق, ص202.
(2) - أندري كلو سليمان القانوني, تعريب: محمد الرزقي, تونس1991, ص220.
(3) -نعمت إسماعيل علام: المرجع السابق, ص237.
(4) - م.س ديمان: المرجع السابق, ص68.(1/11)
وعلى الطرف المقابل يبدو أن الرسامين الإيرانيين الذين استقدمهم بابر مؤسس الدولة المغولية في الهند, قد حملوا معهم إلى الهند طريقة بهزاد, لكنهم في البداية كانوا يخالفونه في اختيار الألوان، ولهم أسلوب خاص في التلوين, ثم تجدد التأثر بالطابع الإيراني في عهد همايون, ولم يظهر أساس الطراز الهندي إلا في عهد أكبر, الذي استخدم رسامين من الهندوس المتأثرين بالتقاليد القديمة لبلادهم(1), علاوة على تأثرهم بالتصوير الإيراني, ولعل أحسن الأمثلة لذلك الصور التي رافقت مخطوطة "هفت بيكر" للشاعر نظامي
كنجوي المحفوظة بمتحف المتربوليتان بنيويورك(2).
ثانياً-الفنون النسيجية:
من الغذاء الروحي الذي تناول الكتاب, وما كان يحتوي عليه من فنون, أنتقل وإياكم إلى الكساء؛ الذي سأستله من عبقرية المسلمين في عنايتهم بالمنسوجات على تعدد أنواعها وأصنافها، والغرض الذي حيكت لأجله وعليه, فقد خطت الصناعات النسيجية في عهد السلاجقة خطوة كبيرة, حتى اعتبر مؤرخو الفن أن العصر السلجوقي من العصور الهامة في تطور وازدهار هذه الصناعة, وعلى الرغم من أن التأثير الساساني كان واضح المعالم في رسوم المنسوجات السلجوقية, إلا أنه تضاءل تدريجياً, وحل محله أسلوب امتزجت فيه التعبيرات النباتية الإسلامية مع غيرها من الأشكال المأخوذة عن الأساليب الصينية المتميزة بدقتها البالغة في رسم النباتات والطيور وسائر الحيوانات(3), وهنا لابد من التفريق بين نوعين من المنسوجات:
أ-منسوجات الملابس ب-السجاد.
أ. منسوجات الملابس:
لما كان العثمانيون الأوائل ورثة سلاجقة الروم؛ فقد عكفوا على نسج الأنواع
__________
(1) -محمد موسى: المرجع السابق, ص159.
(2) - سعاد ماهر محمد: الفنون الإسلامية, القاهرة 1986, ص248.
(3) -زكي محمد حسن: المرجع السابق, ص216-217.(1/12)
التي تعود إلى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي المصنوعة من الوشي والمخمل(1), ثم ما لبث أن تطورت تطوراً ملحوظاً, وغدت مدينة بورصة العثمانية المركز الرئيسي لهذه الصناعة بالإضافة إلى المراكز الأخرى, وقد أنتجت المصانع العثمانية منسوجات مشابهة للمنسوجات الإيرانية مثل الحرير المقصّب (الديباج) والمخمل المقصّب(2), إذا لا يختلف النسيج العثماني المخملي والموشّى عن مثيله الإيراني سوى في الاقتصار بالزخرفة على الأشكال النباتية, لما عرف عن النسّاج العثماني بتجنبه لرسم الكائنات الحية المنهي عنها شرعاً, لكن دون أن يخفي تأثره بالأسلوبين الإيراني والإيطالي في آن معاً.
فقد استعار من النساج الإيراني التفريعات المزهرة والمراوح النخيلية, كما استعار من النسّاج الإيطالي ثمرة الزمان والتعبيرات الزخرفية الأخرى التي تميزت بها الأنسجة الإيطالية(3).
ويعد ما أنتجته السلطنة في القرن السادس عشر الميلادي,من أحسن ما أخرجته مناسج الشرق من هذا النوع, فهي لا تقل قيمة عن الأقمشة الإيرانية الموشاة, من حيث الجودة وجمال الزخرفة, إلا أن ألوانها أقل بهجة(4), ولم يقتصر تأثر النساج العثماني على ما ذكر, فقد تأثر أيضاً بالنسّاج الدمشقي وراح ينسج على غراره قماش "الدامسكو" العريق في
القدم-وهو نسيج حريري تكون زخارفه من لون القماش ومنسوجة فيه(5).
__________
(1) - س.م ديماند: المرجع السابق, ص268.
(2) -ارنست كونل: الفن الإسلامي, ترجمة أحمد موسى,القاهرة1961, ص105.
(3) - س.م ديماند: المرجع السابق, ص269.
(4) - نعمت إسماعيل علام: المرجع السابق, ص233.
(5) -محمد عبد العزيز مرزوق: المرجع السابق, ص106.
سعاد ماهر محمد: النسيج الإسلامي, القاهرة 1977, ص105.(1/13)
ثم ما لبث النسّاج العثماني أن ابتكر نوعاً جديداً من المنسوجات أطلق عليه اسم "ألاجا" مع مضيه قدماً في تطوير المنسوجات الموشاة بخيوط الذهب والفضة. ولقد مثّل عهد السلطان سليمان قانوني, قمة عهود النسيج المفنن,حيث يحتفظ قصر توب قايوسراى بمجموعة من ألبسة السلاطين؛ أجملها على الإطلاق ألبسة السلطان القانوني، وهي عبارة عن كساء من الحرير خلفيته بلون سكري, مزركشة بأزهار التوليب والقرنفل الوردي والأصفر تخرج من سيقان طويلة دكناء، وسروال موشى بالحرير المذهّب
والمعضّض(1).
وكذلك يحتفظ متحف المتروبوليتان بمجموعة من الأقمشة العثمانية العائدة إلى القرن السادس عشر, مصنوعة من المخمل؛ بأرضية حمراء تتخللها زخارف بخيوط من الذهب والفضة(2).
وقد استمرت المناسج العثمانية طيلة هذا القرن ونسجت أجمل الأقمشة بمحارف كل من بورصة واستانبول وحلب وبغداد ودمشق, هذا عدا عن المحارف السلطانية التي كانت تنتج الأقمشة الخاصة بالسلاطين(3).
أما في الدولة الصفوية, فقد بلغت الصناعات النسيجية قمة مجدها واحتلت المرتبة الأولى في الحرف والصناعات, وأكثر ما قدمه النسّاج الصفوي تلك التي نسجت من الحرير السّادة والحرير المذهّب أو المخمل الحريري.
وكانت المنسوجات الحريرية عموماً مزيّنة بالرسوم النباتية والحيوانية والآدمية، وملونة بألوان فاقعة كالأحمر والأخضر والسماوي والبرتقالي والأسود والفضي(4), ولكثرة ما أنتج في هذه الفترة من بدائع المنسوجات, لا يزال بعضها محفوظاً في متاحف عدة في العالم.
__________
(1) -اندريه كلو: المرجع السابق, ص322.
(2) - س.م ديماند: المرجع السابق, ص269.
(3) - اندريه كلو: المرجع السابق, ص323.
(4) -مريم مير أحمدي: المرجع السابق, ص241-242.(1/14)
ولم يقتصر إنتاج النسّاج الصفوي على المنسوجات الحريرية بل تعدادها إلى المنسوجات القطنية والصوفية, حيث طرّز المنسوجات القطنية تطريزاً كثيفاً, حتى أن هذه المنسوجات تبدو للناظر شبيهة بزخارف السّجاد في حين تميزت الأنسجة الصوفية بوجود بروز وبري على سطحها نتيجة لإضافة خيوط خاصة من خيوط اللّحمة والسّدى(1).
هذا وكانت صناعة النسيج في عصر الأسرة المغولية في الهند تحت إشراف البلاط التام, وقد تطورت تطوراً ملحوظاً فاقت ما كان ينسج في إيران على الرغم من أن الإيرانيين كانوا أساتذة للهنود في هذا المضمار, فقد بلغ الرقي ذروته في صناعتهم هذه حتى أن نقاد الفن يعتبرون الوشي الهندي من أرقى المنسوجات في العالم, وتحتفظ المتاحف الكبرى في العالم بكميات كبيرة من هذه الأنسجة أجملها ذلك الموجود في متحف المتروبوليتان، وهو عبارة عن عباءة مطرزة بفروع من الأزهار بألوان هادئة هي: الأخضر والأصفر والأحمر(2).
وهذا ما امتاز به النسيج الهندي الذي كان يظهر أشكالاً من الأزهار المتراخية المصفوفة في زوجين متقابلين أو الأزهار المفردة أحياناً(3).
ب-السجاد:
تعتبر صناعة السجاد إحدى أرقى الفنون النسيجية, التي تعتمد على الحرير والوبر والصوف, لفرشه على الأرض أو على الأرائك أو لتعليقه على الجدران, وقد نشأت صناعته في آسيا الوسطى الموطن الأساسي للتركمان, الذين نقلوا بدورهم صناعته إلى إيران والأناضول والشام ومصر(4).
__________
(1) - أبو الحمد فرغلي: الفنون الزخرفية الإسلامية عند الصفويين بإيران , القاهرة 1990, ص141-142.
(2) - س.م ديماند: المرجع السابق, ص274-275.
(3) -أحمد موسى: المرجع السابق, ص160.
(4) -أبو الحمد فرغلي: المرجع السابق, ص163-164.(1/15)
ولما كان العثمانيون ورثة السلاجقة التركمان فقد امتازت سجاجيدهم بزخارف الأرابيسك الجامدة الصفراء؛ والموزعة على شكل هندسي ضمن أرضية حمراء, أو تلك التي جاءت استمراراً للأسلوب السلجوقي المميزة بزخارفها الهندسية على هيئة أشكال مثلثة أو مربعة, وبطغيان اللونين الأزرق والأحمر على سائر الألوان(1).
هذا دون إغفال التأثير العثماني بسجاجيد العصر المملوكي في مصر
وبلاد الشام, الذي امتاز بزخارفه التي أتت على شكل مربعات لتبدو وكأنها لوحة من الشطرنج, ومع أن صناعة السجاد في الأناضول واستانبول كانت على درجة عالية من الإتقان إلا أن السلاطين العثمانيين كانوا يرفدون محارف حاضرتهم بحرفيين مصريين كالذي حصل في عهد السلطان مراد الثالث سنة 1581 م حين أمر باستحضار مجموعة من معلمي السجاد من القاهرة إلى استانبول(2).
وفي نوع ثالث من السجاد العثماني الذي ينسب إلى الأناضول، تظهر عليه زخارف عبارة عن وحدات من الأرابيسك شبيه بسجاد هراة، كما يلحق بهذا النوع نوع آخر تكون زخارفه عبارة عن أشكال نجمية عليها تفريعات نباتية صغيرة على أرضية قريبة الشبه بسجاد الدولة الصفوية(3).
أما في إيران فقد تطورت صناعة السجاد تطوراً مذهلاً، منذ العهد التيموري، وفي مدرسة هراة بالذات، التي أحلت الزخارف النباتية محل الزخارف الهندسية ليتأصل هذا الأسلوب فيما بعد، وليصبح سمة تميز السجاد الإيراني عن غيره(4).
__________
(1) -نعمت إسماعيل علام: المرجع السابق, ص234.
(2) -كلوس كريزر وآخرون: معجم العالم الإسلامي-ترجمة ج.كتورة ،بيروت 1991 ص 335-336.
(3) -نعمت إسماعيل علام: المرجع السابق ص 234-235.
(4) -صلاح أحمد بهنسي: المرجع السابق-ص 142-143.(1/16)
وقد اشتهرت بصناعته العديد من المدن الإيرانية كهراة وتبريز ومشهد وأصفهان وشيراز وكاشان. إلا أن أشهرها تلك التي تنسج في محارف تبريز إبان حكم الشاهين إسماعيل الأول وطهماسب الأول، وفي المحارف الشاهانية بالذات كالسجادة المحفوظة في متحف ميلانو، التي يعود تاريخها إلى سنة 1522 م؛ إذ يبلغ طولها اثنان وعشرون متراً، وعرضها أحد عشر متراً.
والسجادة المحفوظة في متحف فيكتوريا وألبرت بلندن بطول ستة
وعشرين متراً وعرض ثلاثة عشر متراً، عليها كتابات عربية تعود بتاريخها إلى
الثلث الأول من القرن السادس عشر الميلادي(1).
وقد تنوعت أنماط الموضوعات فيها بحيث جعلت مؤرخي الفن يعمدون إلى تقسيمها إلى أقسام عديدة تبعاً لذلك منها:
-السجاجيد ذات الصرة: أي التي يكون في وسطها صرة تتممها
زخارف نباتية بشكل متواز ومتناظر.
-السجاجيد ذات الزهور: أي التي تكون رسومها عبارة عن مراوح نخيلية وزهور مركبة ووريقات مقوسة ومشرشرة.
-السجاجيد ذات الزهريات والسجاجيد ذات التوريق، والسجاجيد ذات الرسوم الحيوانية(2).
وأما صناعة السجاد الهندي في عصر المغول، فقد كانت صناعته في البداية على أيدي الإيرانيين التي اقتصرت على رسوم الزهور والنباتات القريبة من الطبيعة، لكن الصناع الهنود سرعان ما تحرروا من التأثيرات الإيرانية، وأقبلوا على رسم الطيور وسائر الحيوانات والصور الآدمية دون أن يفقدوا الصلة كلية بالأساليب الإيرانية، ولعل أهم ما يميز السجاد الهندي في هذا العصر قرب الرسوم من الطبيعة، وهذا ما ميزه عن السجاد الإيراني الذي أتت رسومه قريبة من الطبيعة أو محوّرة عنها، بالإضافة إلى أن رسوم الآدميين في السجاد الهندي تبدو عليه السحنة واللباس الذي يميز الهنود(3).
__________
(1) -زكي محمد حسن: المرجع السابق ص 142-143.
(2) -أبو الحمد فرغلي: المرجع السابق ص 174-178.
(3) -سعاد ماهر محمد : المرجع السابق 195.(1/17)
أما فيما يتعلق بالفروق بين زخارف السجاد في الدولتين العثمانية والصفوية فإننا نجد أن السجاد الإيراني يمتاز بطابعه المفرط في التزهير والتوريق بأشكال قريبة الشبه بالطبيعة، حيث قدمت زخارفه لوحات رائعة أتت استمراراً لمدرسة هراة بكل عطاءاتها الرائدة، في حين نجد السجاد العثماني يمتاز طابعه العام بالأشكال الهندسية ليمثل استمراراً لأسلوب السجاد السلجوقي الذي كان سائداً في الأناضول على شكل لوحات تجريبية
في غاية الروعة والجمال(1).
ثالثاً: الفنون الخزفية:
تعتبر الخزفيات من أهم الفنون التطبيقية الإسلامية التي احتلت مكانة عظيمة بين الصناعات منذ القدم، وعليه يمكن تقسيم الخزفيات الإسلامية إلى قسمين رئيسيين:
أ- الأواني الخزفية. ... ... ب- البلاطات الخزفية( القاشاني).
أ- الأواني الخزفية:
فضّل المسلمون الأواني الخزفية لجمال منظرها وسهولة تنظيفها، حيث يمكننا أن نعرّف الأواني الخزفية بأنها تلك الأواني المصنوعة من الفخار المزجج- أي المطلي بمادة الزجاج الشفاف(2)-.
وقد تطورت صناعة الخزف في إيران إبان الحكم التيموري، حيث استطاع الخزاف آنذاك أن يستنبط عدة أنواع منه، كالمينائي الذي تشتمل زخارفه على رسوم آدمية وحيوانية ونباتية تتشكل من سبعة ألوان تأثراً بالأساليب الصينية، أو كالخزف ذي البريق المعدني الذي كان شائعاً مع المينائي(3).
وفي عصر الدولة الصّفوية استمرت صناعة الأواني الخزفية في ارتقائها على المسارين المحلي والمتأثر، وامتازت بزخارفها المتقنة وبلونها الأصفر التي كانت تصنع في أصفهان وكاشان وتبريز(4).
ويمكن تقسيم الخزف الصفوي إلى مجموعتين:
-المجموعة الأولى: وهي ذات زخارف صفوية الأسلوب وتشبه ما زينت به
__________
(1) =-عباس صباغ: العلاقات العثمانية الإيرانية-بيروت 1999 ص 303.
(2) -محمد عبد العزيز مرزوق: المرجع السابق ص71.
(3) -زكي محمد حسن: المرجع السابق، ص 206.
(4) -أبو الحمد فرغلي: المرجع السابق- ص90.(1/18)
المخطوطات والأنسجة والسجاجيد.
-المجموعة الثانية: التي جاءت متأثرة بالبورسلين الصيني، وقد برع الخزاف الصفوي في تقليد هذا النوع من الخزف حتى تعذّر على نقاد الفن التفريق بين المصنوع في إيران والمصنوع في الصين(1).
وفي المقابل تدل الخزفيات العثمانية العائدة إلى فترة ما قبل القرن السادس عشر الميلادي على ضعف واضح من حيث الجودة والفن، لكنه في هذا القرن -وبعد أن اتسعت رقعة الدولة-تعددت الورش الخزفية في أزنيك واستانبول ودمشق ورودس، لتوفر التربة السليكية التي تسمح بتزجيج الفخار تزجيجاً عالياً، ويجعل زخارفها مقبولة إلى حد ما(2).
أما العامل الأساسي لازدهار الخزفيات العثمانية فيمكن القول إنه تأثر بأسلوبين:
-الأول: صيني يمتاز بزخارف ملونة باللون الأزرق على أرضية بيضاء؛ تمتاز زخارفها برسوم هي عبارة عن تفريعات مزهرة أو مراوح نخيلية، أو بزخارف صينية تميزها زهرة اللوتس(3).
__________
(1) -دافيد تاليوت رايس: الفن الإسلامي، ترجمة منير صلاحي الأصبحي-دمشق 1977 ج2 ص 361.
(2) -روبير مانتران وآخرون: تاريخ الدولة العثمانية- ترجمة بشير السباعي-القاهرة 1993م ج2 ص 361.
(3) -نعمت إسماعيل علام: المرجع السابق, ص231.(1/19)
-الثاني: شامي تميز بزخارف هي عبارة عن رسوم محفورة فيه، على درجة عالية من الرشاقة والرقة، يغلب عليها رسم الطواويس بين الزهور والورود(1)، ثم ما لبث الخزف العثماني الذي كان يُصنع في أزنيك أن تميز بسمة خاصة سادت على زخارفه، وهي الأشكال المزهرة كزهرة القرنفل وقرن الغزال والسوسن والخرشوف والعنب، بلون أزرق وهو السائد، بالإضافة إلى اللون الفيروزي والأخضر والأحمر الداكن مع خطوط سوداء لتحديد الزخارف، كما ابتكر الخزاف العثماني نوعاً جديداً امتاز بلونه الزبرجدي والأحمر، صنع من الطفل الأرمني، اقتصرت أسراره على الخزاف العثماني، وقد حاول الخزاف الصفوي تقليده إلا أنه فشل في ذلك(2). أما الخزف الهندي زمن المغول؛ فقد بدا متأثراً بالمدرستين الإيرانية والصينية دون أن يضيف شيئاً جديداً عليه.
ب- البلاطات الخزفية (القاشاني):
ينسب هذا الفن إلى مدينة قاشان الإيرانية، وكان الغرض منه تغطية جدران المباني وأرضياتها بهذا النوع الرائع والمتميز، وقد استعملت هذه البلاطات بكثرة في العصر الصفوي، وعلى الخصوص حين ابتكر الخزاف الصفوي نوعاً جديداً منه أطلق عليه اسم" هفت رنكي" حيث تحتوي البلاطة فيه على سبعة ألوان على رأسها اللون الأصفر الذي يعتبر من خصائص القاشاني الصفوي، يرافقه على الأغلب اللون الأزرق السماوي والأزرق الفيروزي، والأخضر البني والأرجواني الفاتح مع تحديدات سوداء على أرضية بيضاء(3).
وقد اشتهرت مدن عديدة بصناعته كأصفهان وشيراز وأردبيل فضلاً عن قاشان، أما النماذج منها فهي كثيرة أبرزها ما زين به مسجد صفي الدين بأردبيل(4).
أما صناعة البلاطات الخزفية في الدولة العثمانية, فقد بدأت في القرن
__________
(1) -كلوس كريزر: المرجع السابق، ص 352.
(2) -نعمت إسماعيل علام: المرجع السابق ص 232.
(3) - زكي محمد حسن: المرجع السابق، ص 213.
(4) -م.س ديماند: المرجع السابق ص 214.(1/20)
الرابع عشر الميلادي في مدينة بورصة وتطورت في القرن الخامس عشر, حيث زينت بعض المباني العائدة لهذا القرن ببلاطات سداسية الشكل امتازت بلونها الأزرق والأبيض المتأثرة بزخارف الدولة التيمورية(1).
وفي القرن السادس عشر الميلادي, طغت على البلاطات الخزفية العثمانية الروح الإيرانية المشبعة بالسمات التي سادت في بداية العصر الصفوي, وذلك بعد أن غزا السلطان سليم الأول تبريز ورحّل قسماً من صناع القاشاني إلى أزنيك(2), الأمر الذي جعل هذه الصناعة تبلغ الذورة في مدة قصيرة نسبياً, وفي النص الثاني من هذا القرن ظهرت بلاطات في أزنبك ونيقية من طراز جديد مزينة بزخارف نباتية لم تكن معروفة لدى الإيرانيين, أظهرت الخزاف العثماني على أنه أستاذ في هذه الصنعة, وذلك عندما جعل الزخارف تحت طلاء شفاف مستخدماً اللون الأزرق الزهري والأزرق الفيروزي والأخضر والأصفر والأحمر الزاهي الشبيه بلون البندورة، واللون الأخير هو الذي ميز بشدة القاشاني العثماني, الذي استمر إلى نهاية القرن السابع عشر الميلادي ثم أفل نجمه(3).
أما في الهند إبان حكم الأباطرة المغول, فلم يكن للزخرفة بالخزف دور جوهري, وما وجد فيها من بقايا فسيفساء الخزف أو التغشية بالبلاطات لا يمكن أن يقارن كمّاً وكيفاً بالآثار الخالدة التي خلفها الخزاف الإيراني في العصر الصفوي(4).
وفي الختام نستنتج ما يلي:
1. كان المسلمون من أمهر أصحاب الحرف والصناعات إلى بدايات العصر الحديث, وأن منتجاتهم تفخر بها معظم متاحف العالم في الوقت الراهن.
2. كان إذا ما سادت صناعة وارتقت ولاقت استحساناً لدى الناس تنافس المسلمون على تقليدها وإضافة شيء جديد عليها.
__________
(1) -نعمت إسماعيل علام: المرجع السابق, ص232.
(2) -عبد الحسين نوائي وآخرون: المرجع السابق, ص96.
(3) - م.س ديماند: المرجع السابق ص223.
(4) -أحمد موسى: المرجع السابق, ص158.(1/21)
3. إن هذه الفنون تظهر بوضوح وحدة الحس الجمالي لدى المسلمين, ومرد هذا كله يرجع إلى جملة أوامر دينهم الحنيف ونواهيه.
وأخيراً آمل أن أكون قد وقفت في إيضاح هذه القضية, والله من وراء القصد.(1/22)
أماكن الحاكمية في حمص
الباحث نعيم الزهراوي
المقدمة:
لما كان العقل والفكر العلمي هما المسيطران في غالب الأحيان؛ لأننا نعيش ظروفاً حضارية متنوعة, فالباحث عن المعرفة والوصول إليها بحاجة إلى جهد كبير ومتواصل، والأبحاث مستمرة لا تتوقف.
وإننا نرغب -في هذا البحث –في معرفة الأماكن الحضارية الشاهقة الدارسة أو الباقية منها، والتي تنوعت أشكالها هندسياً ومعماريّاً.
وعلى هذا الفهم والتصوير لا يجوز التوصل إليه اعتباطاً بلا قوانين ولا قواعد, بل ينبغي له إتباع مناهج علمية, وبما أن المواريث التاريخية أنواع متباينة من المذاهب والعقائد والديانات, ومن مبدأ الحصول على الوثائق ودراستها بشكل معمق، والعيش في مضمونها ومحتواها، وفي الحدث الناتج عن أصلها، ويطابقها مع محتواها والوصول إلى معرفة بنائها والسبب المباشر لها.
وها نحن أولاء لا بد لنا من معرفة ماهية الأماكن التي كانت مرتكزاً للحكم، ومعرفة المباني لهذه الأوابد، والوصول إلى العمارة الهندسية ونوعيتها –والفراغ المحيط بها- وما تم تقسيمه من عوامل متنوعة وصولاً إلى سلم الحضارة –وبهذا الفهم والمسح العلمي الواقعي- والذي بموجبه تم تصنيف كل بلد إلى مناطق، وهذه التسميات هي الدالة على النوعية المثلى للإنسان.(1/1)
لقد تم تقسيم مدينة حمص إلى ست مناطق تتخللها الشوارع والأبنية أو بالأحرى الأحياء والحارات-ولها مخاتير للعودة إليهم فكان التقسيم الجغرافي في ضوء الواقع- كما كانت الأرقام لكل منطقة مع مساحتها- والوصف العقاري لها: وبما أن حمص نموذج حي لحضارات، وانطلاقاً من الوثائق والوقفيات والحجج وسجلات المحاكم الشرعية والقضائية والصكوك المدينة والسجلات العقارية- ومدى علاقات الناس مع بعضهم بعضاً, وإذا ما بحثنا عن الموجات والمؤثرات القديمة وجدنا منها الحقب المتباينة، كما وجدنا الشرائح المتبقية من الأبنية-وأخذ الإنسان المتقدم بترقيمها ومعرفة حقيقتها ومدى الاستفادة منها –نموذجاً سياحياً- أو ارتباطاً فكرياً، ونحن بدورنا نذكر هذه الأماكن:
أولاً بأول –لمعرفة الهيكلية الخاصة والعامة، والأطر الفنية والعلمية والباسط إليها في ضوء الواقع الميداني المعرفي- فكانت حِمص بكسر الحاء مركز الاستيطان بها، وكانت مملكة، وكانت مهداً للحضارات-للعبادة كالشمس مثلاً –المسيحية- الإسلام-المسح الكلي للشعوب بإذابتها في بوتقة التراث المحلي، فكان الإنسان قد بنى للحماية من العدو القلاع والأسوار والأبراج، وأصبحت القلعة الملاذ لصد العداء، والحكم بها، والاعتماد عليها وحماية الإنسان فيها من الغدر.
فكيف تكونت هذه القلعة –وما رقمها- في ضوء البيانات
العقارين وآراء الرحالين-والواقع الحضاري.
قلعة حمص هي أقدم أبنيتها، وتشبه قلعتي حماة وحلب القائمتين, والغالب على الظن أن بني آرام ابتدؤوا بتشييدها فوق تل صغير,ثم أنجزت بناءها الدول التابعة، وجعلوها على شكل هرم جوانبه مفروشة بصفائح الحجارة، وحصنوا أعلاه بالأبراج، ويبلغ محيط دائرة هذه القلعة تسعمائة متر، في أسفلها ومع سطحها إلى اليوم أعمدة الهيكل تحيط بها.(1/2)
وما لبث أن احتمى في ظل هذه القلعة بعض من القبائل، وبها أصبحت مدينة، وجدها بنو آرام نعم المركز لتجارتهم- وبلداً وسطاً بين أمم آسيا الوسطى وسواحل البحر المتوسط، ثم تقدمت في غضون ذلك أمة جديدة منحدرة من شمالي البلاد من جبال القفقار، تعرف (بالأمة الحثية) فاتجهت في جهات الأناضول وفي شمالي سورية وغربي جنوبي الفرات، فلم تزل تقوى وتشتد أركانها إلى أن غلبت العنصر الآرامي، واستولت على مدنه الممصرة ككرميش وحماة، واتخذت مدينة قدس على شاطئ بحيرة حمص حاضرتها الدينية، وهي المدينة التي قامت فوقها بعد مرور الزمان أطلال تل النبي مندو، فمصرها الحثيون وحصنوها وسكنوها بأمان نحو مئتي سنة، بيد أن الفتوحات البابلية والآشورية وجدت الحثيين في طريقها إلى سورية الساحلية وإلى مصر، فدارت بينهم الحروب الطويلة فكانت سجالاً لهم؛ وحيفاً عليهم.
وأفادت هذه المعلومات أن الحثيين في بنائهم وهندستهم؛ وفنونهم الصناعية كالنحت والرسم والتصوير، مما يشهد لهم بالتقدم وابتكار الأعمال على طراز خاص بهم، ولا ريب أن المدن الخاضعة لحكم الحثيين كانت قد ألّهت قوى الطبيعة كالأنواء والرعد والسحاب، فأضافوا إليها شيئاً من الديانات التي وجدوها عند الأمم القريبة منهم؛ كعبادة الشمس والقمر –والبعل عشتروت ولآلهة مصر. وقد وجدت من كل هذه المعبودات آثار شتى في حمص ونواحيها.(1/3)
وقد دلت التحريات الأثرية في عام 1974م على وجود حجرة مذبح المعبد في قلعة حمص- حالياً في متحف حمص للآثار، وهذا مما أكد أن معبد الشمس فوق القلعة لا تحت الجامع النوري الكبير بعد حاكمية الشمس والمعبد –ودخول النصرانية إلى حمص لم تكن بهذه السهولة- إذ دخل اليونان والرومان خاصة بعد فتوحات الإسكندر لأنحاء بلاد الشام، وتملك السلوقيين عليها؛ فتتالت تجارتها وحكمها في أواخر القرن الثامن قبل المسيح، والحروب منتشبة بينهم وبين ملوك البطالمة, ولا تزال بعض الكتابات اليونانية منقوشة على حجر من البازلت الأسود يعلو مدخل جامع أبو لبادة (جامع البهادري
الكردي) في حي بني السباعي.
وقد وصف الرحالة قلعة حمص ومنها:
العارف بالله-عبد الغني النابلسي(1)لدى زيارته إلى حمص 9/1/1105هـ 1693م في يوم الجمعة التاسع من المحرم في هذا الحضر المبارك ذهبت إلى القلعة لأجل الزيارة لأجل زيارة مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه-وصعدنا إليه في طريق مرتفع متهدم الجوانب، وكان في الزمان الأول مبنياً بالأحجار حتى وصلنا إلى عند باب القلعة, فرأينا في رأس الحائط الشرقي مكتوباً هذا التاريخ منقوراَ في الحجر-وصورته:
عمل سليمان بن سام: ورأينا أيضاً مكتوباً فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم-أمر بعمارة هذا البرج الملك المجاهد أسد الله بن أبي الحارث شيركوه بن محمد شيركوه-ناصر أمير المؤمنين أعز الله أنصاره-تولى عبده موفق في سنة تسع وخمس مئة).
__________
(1) -عبد الغني النابلسي: الحقيقة والمجاز ص111-114.(1/4)
ثم دخلنا من باب القلعة إلى باب آخر في داخله وجلنا فيها, وتفرجنا على أماكنها المتهدمة وبنائها القديم-وهي مبنية على سبع طبقات، وفيها جامع مبني وله منارة وفيه منبر للخطابة, يخطبون فيه, ويصلون الجمعة في شهر رجب وشعبان ورمضان لأجل التبرك بذلك الجامع القديم, وفي بقية السنة لا يصلون فيه الجمعة فدخلنا إليه نحن وجماعتنا, وصلينا فيه ودعونا الله تعالى بما تيسر لنا من الدعاء, ومن ثم طلبنا زيارة المصحف العثماني, وهو مصحف الإمام عثمان بن عفان وهذا مصحفه الذي كتبه لنفسه وقتل وهو في حجره، بدليل أثر الدم الذي فيه، وورد ذكره في يوميات محمد مكي السيد(1)"وفيه صار الطلب السقيا من الله وخروج الناس إلى القلعة وتنزيل المصحف العثماني من محله إلى المحراب –نسأل من الله الرحمة-بجاه شفيع الأمة وسراج الظلمة أمين 1129هـ/1716م.
وفي الحرب العالمية الأولى الممتدة 1914/1918م استلم جمال السفاح قيادة الجيش العثماني التركي, وإثر هزيمة الأتراك تناول المصحف العثماني من القلعة ونقله إلى استنبول".
__________
(1) -تاريخ حمص-يوميات محمد مكي السيد /ص220/.(1/5)
-وصف القلعة: يقول فتح الله الصايغ في رحلته(1): ((وقال لنا نوفل في بعض الأيام هل ترغبون في زيارة القلعة ورؤيتها, قلنا نعم ولكننا نخاف أن يحصل لنا ما حصل بحماة, فقال أنا المسؤول عن كل ما يحدث فتوجهنا إلى القلعة, وصعدنا إلى أعلاه, وزرنا كامل المخادع, لأن بها من العمار القديم القائم أكثر من حماة، وبينما نحن ندور فيها وصلنا مكان مثل المغارة فنزلنا ووجدنا في صدر المغارة ماء جارية آتية من الغرب، ورائحة نحو الشرق, وهي تخرج من كافة الأنحاء طولها ذراعان وعرضها ذراع, وتجري الماء نحو أربعة أذرع, ثم تدخل في شباك من حديد متجه نحو المشرق، إلا أن هذه المياه غزيرة وقوية, يمكن أن تدير حجر طاحون, وهي تنحدر من المغرب وتجري نحو المشرق، ولا يعرف أحد من أين تأتي ولا إلى أين مجراها، فشربنا منها وهي ماء طيبة عظمية, ونزلنا إلى مكان منخفض نوعاً ما, ولا يتجرأ إلا القليل من الناس على النزول إلى المغارة لرؤية هذه المياه وأخبرنا نوفل أنه سمع من بعض الرجال الطاعنين في السن أن هذا الشباك سد في الزمن القديم فجرى الماء في خندق القلعة، ولكن بعد تسعة أشهر حضر درويش من العجم وصعد إلى القلعة وفتح الشباك؛ وسمع به الحاكم فأمر بإحضاره وأراد قتله لأنه عمل شيئاً ولم يأخذ إذن الحاكم، فافتدى الدرويش نفسه بمبلغ من المال× قدمه إلى الحاكم حتى صفح عنه.
وكتب الحاكم لعنة على كل من يسد هذا الشباك مرة أخرى، ويكاد يكون هذا مجهولاً لأنه أولاً لا يعرفه إلا القليل من الناس، ولأنه في موضع مخفي جداً؛ وقد سد ثلثا باب المغارة بالحجارة كي لا يدخلها أحد.
__________
(1) -رحلة فتح الله الصايغ من تاريخ 1810-1814/ص24/.(1/6)
وعندما دخل الفاتح إبراهيم باشا المصري 1831م، وقاومته الدولة العثمانية المتمركزة آنذاك على القلعة-أمر العساكر بدك القلعة وحجارتها-واقتلاع الأحجار البازلتية التي كانت تستر سفوح القلعة كلها- وتعمير (الدبويا) بها وكان مكانها في موقع دار الحكومة ذات الأحجار البيضاء حالياً والتي سنتحدث عنها، وعندما هدمت الدولة العثمانية الصومعة- مكان الحاكمية الثانية-وأخذوا حجارتها- ومن هنا نشأت التقليعة الشعبية في ذلك الوقت ركبت القلعة على الصومعة، ولدى الفتح الإسلامي تم تعيين الولاة على حمص، فكانت الحاكمية فيها مركز الإشعاع القضائي؛ والتخاصم بين الناس حتى أيام الأيوبيين، وقد خصها الملك المجاهد الحمصي(1)أسد الدين شيركوه الذي حكم 56 سنة هجرية وعمرها وأحسن ترميمها.
الوصف العقاري للقلعة في عام 1937 –الرقم 1170-
المنطقة العقارية الثانية-باب السباع
عبارة عن حصن حربي يحتوي على غرفتين للسكن،وغرفة كبيرة للذخيرة والأسلحة، وغرفة من حجر قديم يرجع عهدها إلى بناء القلعة، والقلعة محاطة بأسلاك شائكة من أطرافها الأربعة، تخترقها خنادق من جميع جهاتها، ومنها بعرض استحكامات مبنية من حجر أيضاً آثار قديمة لم يبق منها إلا بقية جدران مرتفعة في وسطها، ويوجد يئر ماء –بقربه آثار خراب يغلب على الظن أنها آثار جامع- المدعو بجامع التركمان(2)-وفي أحد أطرافها يوجد عدة غرف صغيرة تستعمل مربطاً للخنازير، وباتجاه باب القلعة يوجد بعض شجيرات غير مثمرة، وأفرز هذا العقار إلى مقسمين: الأول: بقي يهذا الرقم، والثاني: أعطي رقم محضر /4232/، وقد أصبحت أوصاف العقار على النحو التالي:
__________
(1) -انظر نعيم الزهراوي-أسر حمص وأماكن العبادة ص 70.
(2) -الجامع هو جامع مصحف عثمان بن عفان-وتسميته بالوصف العقاري بالتركمان خطأ فادح.(1/7)
قلعة قديمة بها جدران أثرية مهدمة محاطة باستحكامات حربية، تحتوي على اثني عشر بناء محاطين بساحات سماوية وطرقات معبدة, فالأبنية موصوفة كما يلي:
البناء الأول والثاني معدان لإسكان الجنود –والثالث سكان صف ضباط- والرابع مطبخ تحته قبو أرضي –والخامس بئر ماء- وخزان مع موتور- والسادس إسطبل ومستودع السروج- والسابع مستودع الجبخانة (العتاد) والثامن محل للخنازير –والتاسع مستودع للمطبخ السيار- والعاشر مستودع أشياء عسكرية متفرقة- والحادي عشر بيت الضباط- والثاني عشر بيت الخلاء، وتم ذلك في 19/9/1939م وكانت مساحتها 73,446م تحديد وتحرير.
أما العقار 2432-فكانت المساحة في عام 1939-41.144م.
وكانت في العام 1950-39,126م. وفي عام 1954-3828م.
الحاكمية الثانية:
الوصف العقاري: الرقم 1281 أولى تحديد وتحرير لعام 1931م المساحة 938م, ثم أصبحت عام 1983-996م، ثم أصبحت 1000م عام 1938 وذلك نظراً للإضافات إليها من الأراضي المجاورة والطريق.
عقار بناؤه من حجر ولبن-مؤلف من طابق أرضي يحتوي على أربعة مخازن لوضع البانزين-وزيت الكاز- وفسحة سماوية, وصححت أوصافه فيما بعد فأصبحت: 1-دار أولى موصوفة, 2- دار ثانية موصوفة ثم أصبحت مقاسم.
أما خلف العقار؛ والذي هو حالياً مشغول لدى أمانة شعبة المدينة الأولى منذ 2002م.
فالرقم العقاري /1282/ المساحة 2507م/ ثم أصبح /2503م/ 1928.
أرض بعل سليخ صالحة لزراعة أنواع الحبوب الصيفية والشتوية, وتقرر تسجيل العقار المحرر أعلاه باسم وقف الشيخ رمضان عفان بموجب كتاب الوقف المؤرخ في 3/1930 تحت إدارة المتولى محمد أديب بن محمد المسدي، بموجب وثيقة التولية قرار اللجنة السادسة 1932م, ثم أصبح عام 1953 دائرة أوقاف حمص ثم أصبح لإعداد المعلمين وتم شراؤه من قبل.(1/8)
الصومعة: ذكر الأستاذ (فاتسجبر) الذي شاهد الصومعة 1907م ما يلي بوصف معماري: وهو عبارة عن بناء مربع عند قاعدته, ويتألف من طابقين ويعلو الطابق الثاني هرم من النموذج المعماري المفرد (أوبسيكس)، والبناء بمجمله يشبه القبور الهرمية التدمرية؛ التي ما زالت ماثلة للعيان حتى يومنا هذا, وقد تم تشييد بناء الصومعة فوق مصطبته, ويتمركز الطابق الأرضي من قاعدة مربعة ذات سقف عقدي متمكن الركائز، حيث ارتكزت القاعة عبر ثلاث فتحات ماثلة نحو الداخل, أما الطابق العلوي فهو عبارة عن عقد يتمركز فوق قاعدته محاريب نصف دائرية، ومخارج محراب ثلاثة أقواس متتالية, أما واجهة الطابقين المؤلفة من خمسة أعمدة لكل واجهة طابق ويعلو كل عمود تاج فوقه أفريز نافر، وكذلك فإن الجدران الخارجة متفاوتة ما بين اللون الأسود والأبيض (الأبلق).
وتزدان الجدران الداخلية بالزخارف الهندسية الملونة والمتناوبة، وتعتبر هذه الزخارف الفريدة من نوعها من أجمل الفن المعماري، ومن أكثرها تزيناً.
ويؤكد الرحالة الفرنسي (ل. ف. كاساس) على هذا الوصف المعماري استناداً إلى الرسوم التصويرية والمعمارية، التي ترد في كتاب (كاساس) والمستشرق السويدي- (فون كارل فاتسجر).
القصر الحاكمي التجاري في قصر الزهراوي –الثالثة-
وهنا نتوقف عن الكلام لنتحدث عن أول غرفة تجارية (حاكمية) أنشئت في حمص- في قصر الزهراوي، ولا غرو في ذلك فإن هذا الصرح العامر؛ والهيكلية الهندسية والحجرية تتكلم والوثائق أيضاً, بحيث تعطينا الدليل الأكبر والطراز العمراني المعماري والاقتصادي معاً, فما قصتها...؟
ففي الوصف العقاري: الرقم/296/ من المنطقة العقارية الرابعة- باب تدمر- المساحة 811 متر مربع
عقار بناؤه من حجر مؤلف من طابق أرضي فيه قبوان للحطب- ودهليز وخمسة محلات للسكن- وثلاثة محلات للمؤونة- ومخدعان- ومطبخان وممشى ومحلات خراب- وبئر ماء- وشجرة
عليها ساكفة تدل على اسم الباني(1/9)
عناب وفسحتان سماويتان- ومحل للعبادة- وبئر ماء آخر- وثلاثة أدراج حجرية- أحدهما يوصل إلى المئذنة- والآخران يوصلان للطابق
العلوي فيه ثمانية غرف خراب.
في 12 شباط 1934م قرار القاضي العقاري السابع المذكور وقف علاء الدين الزهراوي, والعقار 265 ومقاسمه الأربعة الملاصق للقصر من الجهة الغربية.
المراحل التاريخية للقصر: ينقسم قصر الزهراوي إلى خمسة أقسام، حيث دلّت التحريات الأثرية في عام 1990 إلى وجود مدفن بيزنطي تحت الأقبية في الجناح الجنوبي الشرقي من القصر المذكور, وإنه من المعروف بأن الكهنة المسيحيين يدفنون الموتى من القسس تحت أرض الدير أو الكنيسة؛ عملاً بالطقوس الكنسية- كما دلت على وجود جماجم عظمية وهذا المدفن واقع في الجهة الجنوبية الشرقية من القصر المذكور.
وقد حدثني أحد اللصوص أنه في الأربعينات من القرن العشرين- عندما كان أهل البيت خارج القصر للاصطياف في قرية سكرة- فقد تم لهم فتح مدخل للمدفن حيث وجدوا قوارير زجاجية بيزنطية، وأقراص ذهبية وفضية، وبعض التماثيل الذهبية والرخامية- وعملة ذهبية ترقى إلى العهد البيزنطي والفينيقي- وتم لهم بيعها إلى تجار الآثار والمجوهرات في حمص وحلب, وبذلك طمست معالم كثيرة كنا بحاجة إليها, وقدمت أسرة آل الزهراوي جرن المعمدان الرخامي الأبيض هدية إلى غبطة البطريرك أفرام برصوم, وذلك في عام 1954م، وهو مصقول وموجود حالياً في كنيسة أم الزنار.
ويوجد قبوان تحت الأرض؛ فوقهما قبوان آخران كائنان في الجهة الجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية من القصر بناؤهما بيزنطي, وحدثت زلازل كبيرة هدمت حمص، ولذلك فإن نوعية بناء العقود في الأقبية تختلف كل الاختلاف عن العقود الأخرى الحجرية ضمن القصر متميزة عن الأخرى ببنائها البيزنطي وكذلك نوعية الحجارة والجدران.(1/10)
ثانياً- بناء أيوبي: نسبة إلى العهد المملوكي كما تدل اللوحة الحجرية الكائنة على ساكف الباب الشمالي للقصر المؤرخة في (661هـ-1262م).
ثالثاً- البناء المملوكي الأول: وهو الجناح الجنوبي من القصر المذكور كما تشير الوثائق التي سنتحدث عنها.
رابعاً- زاوية ومسجد الشيخ موسى الزهراوي. ... ... ... ... ... ... مسجد الشيخ موسى الزهراوي
خامساً- القصر الغربي الملاصق للقصر، ويحمل الرقم (265) منطقة عقارية رابعة ومقاسمه الأربع.
أما البناء الأيوبي فهو في نهاية الدولة الأيوبية 661هـ / 1262م,حيث قام التاجر الواقف علي بن أبي الفضل الأزهري- ببناء الأجنحة الثلاثة المطلة على الفناء الداخلي للقصر الشمالي والغربي والشرقي- وكان المدخل الرئيسي على الطريق العام المسمى حالياً شارع عمر المختار (حالياً سبيل ماء). وتشير اللوحة الموجودة فوق المدخل الرئيسي للقصر (اللوحة الحجرية), "عمَّر هذا الطريق الحق الأبر علي الأزهري فوفق أناس تيه بنجد ما لأجر بتيمار 660هـ/1261م", ثم تحول هذا المدخل الرئيسي إلى مدخل آخر مجاور له؛وأصبح سبيل ماء قبل 1100هـ/1688م, وذلك نظراً لتصدع الواجهة الخارجية الغربية, وكان يوجد غرفة قائمة للحراسة والاستعلامات للداخل والخارج إلى الدار- ويماثلها غرفة قريبة من المسجد من الجهة الشرقية بقيت صامدة حتى الستينات من القرن العشرين.
وتعتبر هذه الدار (دار الغرفة التجارية- الأولى في حمص) بحيث تشير
اللوحة الحجرية الموجودة فوق ساكف الغرفة الكبيرة المتجهة نحو الجنوب
الغرفة التجارية:
1- بسم الله الرحمن الرحيم.
2-عمّر هذا الطريق على أبي الفضل الأزهري ووقفها من بعده لأولاده.(1/11)
وكلمة طريق- هو صرح البناء التجاري الصوفي معاً, والمنصوص عليها في العصر المملوكي اصطلاحاً حكومياً وتجارياً، ولمرافقتها بكلمة الحق الأبر علي الأزهري, وبالتحقيق في الوثائق المحفوظة لدي المتعلقة بأسرة آل الأزهري وبازرباشي وفقير الحي- وبناء جامع بازرباشي في /1156هـ/ والخانقاه المتحولة فيما بعد إلى الخانكان، والتي حضرت من بلاد العجم- وقام الواقف علي الأزهري بإنشاء الدار وكان من التجار الكبار.
ويقول النص الآخر (فوفق أناس تيه بنجد لما لأجر بتيمار 661هـ/ 1262م) إنه من التجار الكبار الذين ذهبوا إلى الخليج العربي، وتم له التوفيق بالجولات التجارية في بلاد نجد وغيرها, وإن كلمة (بتيمار) هي الأراضي الواسعة الشاسعة (الإقطاع) وأنه بفضل الله قد تم له ذلك- وأما كلمة (الحق الأبر) فقد استلهم ذلك من الله سبحانه وتعالى.
لقد استفاد أناس كثيرون من التجار الذين
كانوا يرافقونه- والذين آثروا البقاء في الجزيرة العربية والإمارات الأخرى بما فيها- شعار الملك الظاهر السبعين(1/12)
نجد- (السعودية حالياً) ومناطق الخليج العربي - حيث كانت الحركة التجارية قائمة هناك بالبيع والشراء بواسطة السفن الشراعية والحركة البرية- وقد ضاعوا هناك- وتملكوا هذه الأراضي الكبيرة مع الأمراء المماليك الذين يجوبون الأصقاع. ولما كانت حمص مركزاً تجارياً تتوسط بين البحر الأبيض من الغرب وحتى طرابلس، وإلى الشرق تدمر فالبادية حتى العراق- وإلى الشمال حتى حلب وكيليكيا, فقد أدى هذا العمل التجاري إلى نشاط كبير، خاصة في فترة الملك المجاهد- كما نشطت التجارة في عهد الملك الظاهر بيبرس, ورافق هذا الإشعاع التجاري بناء حضاري على طراز (عجمي- فارسي) حيث نجد الغرف المطلة إلى الغرب والشرق متناظرة من حيث الشكل والبناء معاً, وأن هذه الغرف لا تستوعب أكثر من شخص واحد, مع وجود شعارات تمثل (السبعين) وهو شعار الملك الظاهر بيبرس، وأن المدخل الرئيس فوق سبيل الماء، وفوقه اللوحة الحجرية المسجل عليها تاريخ البناء.
وإن مدخل البناء الخارجي الأصلي من الحجارة المصقولة بالأبيض والأسود (أبلقية) تعلوها قنطرة ذات قوس من النموذج المفصص؛ مرتكزة على زوايا مدببة ومزخرفة بفصوص هندسية-وكان يتم الدخول إلى دهليز بطول سبعة أمتار تقريباً بحيث يصل الفناء الدار، ونجد أيضاً لوحة حجرية منقوش عليها] نشهد أن الله لا إله إلا هو الحي القيوم[ مع وجود أقواس(حدوة فرس)-(1/13)
البناء الثالث: مملوكي، وتنص وقفية الزهراوي المؤرخة في عام 1024هـ-1615م والتي تتحدث عما قبلها من وقفيات تعود إلى آل زهراالمتحولة إلى الزهراوي- بدءاً من عام 365هـ/386هـ/878 فترة الخليفة الحاكم العزيز في العهد الفاطمي بمصر، وله حفيد على نفس الاسم في أول العهد العثماني، وذلك تطبيقاً لنسب آل زهرا-أو زهرة- الزهراوي(1)، حيث تشير وقفية آل طليمات الحسيني المؤرخة في 612هـ/1215م بأن الشاهد-الحسن علي بن أحمد زهرا-فخر العلماء والأشراف، وتم بناؤه في عام 665هـ/1266م أحمد بن علي زهرا وتسلم القضاء –وهو أول بناء حاكمي تجاري في آن واحد في حمص -بعد القلعة التي كانت مركزاً للحكم في العهد الأيوبي وما قبله.
وتنص وقفية الزهراوي المؤرخة 1024هـ\1615م،( تم استبدال الدار من آل
__________
(1) -أسرة الأزهري: هي أسرة آل الخانقاه وبازرباشي وفقير الحي والأشقر، انظر كتاب حمص دراسة وثائقية تأليف محمود السباعي ونعيم الزهراوي ج1 ص 248.(1/14)
بازرباشي محاكرة جميع الدار العامرة الكائنة بمحلة باب تدمر – بشارع القاضي علاء الدين بن زهرا- المعروفة (بدار المسحل) التي عمرها الواقف محاكرة على قطع الأراضي السليخة –وخمس قطع فضية - ولجهة مسجد الشيخ موسى جد الواقف بيد (بني بازرباشي) (أي تم شراؤها لقاء قطع من الأراضي ونقود فضية، وانتقلت الملكية إلى الواقف من آل زهراوي)، واستلم الحكم بعد بنائه في عام 1666هـ الجناح الجنوبي للحكم والغرفة التجارية معاً, وتسلم القضاء في حمص- وبنى الإيوان الكبير وبقية الغرف الجنوبية الأخرى فوق الأقبية التي ظلت قائمة آنذاك, والإيوان العالي والمقرنصات المدببة فيه- والزوايا الركنية- والأشكال الهندسية على شكل نصف صدفة- وإن بقية الغرف تنطبق انطباقاً كلياً ومتلازماً للحكم والموظفين معاً وللعساكر، فقد أطلق عليها الواقف اسم /دار المسحل(1)أسوة بدار السعادة- دار الأبلق- العدل في دمشق/والقاهرة. وإن دار المسحل تسحق وتقتل كل من يعاديها أو يخالف الشريعة الغراء, تطبيقاً للأحكام العادلة, ويعطي هذا الصرح الإنشائي بكامل جناحه الجنوبي صفة مميزة لإدارة الحكم التجاري.
أما محتوى الجناح الجنوبي الحاكمي والتجاري فهو: الإيوان الوسطي- إلى جانبه من الغرب غرفة وتحتها غرفة قبو- ويماثلها فوقها- غرفة قبو شرقي-وتحت القبو هو بناء بيزنطي ظل قائماً,
ويماثله تحته القبو البيزنطي- وفوقه غرفة ثم يليه غرفة علوية مع ساحة- وعدة غرف متنوعة للحجاب والنقباء والقضاة والحكام والتجار, ولا بد للحكم والعمل التجاري من جامع للصلاة.
__________
(1) -انظر مجلة غرفة التجارة والصناعة-مقالة نعيم الزهرواي /13-14/ عدد 1996 لعام 1997م.(1/15)
-رابعاً: المسجد المملوكي: ورد في وقفية الزهراوي /1024هـ1615م عمر الشيخ موسى بن زهرا زاوية له، وقد ابتاع الأرض من عمته زاهدة وعمرها مسجداً له، وقد ورد ذكر الشيخ موسى بن زهرا في عام 855هـ، فيكون بناء الجامع قبل عام 855هـ/1451م، وإن مساحة المسجد الحالي 115م2 من أصل
مسقط شاقولي
القصر المستملك حالياً لصالح المديرية العامة للآثار والمتاحف، بالمرسوم التشريعي رقم( 2827 تاريخ 3/12/1976م). والمستعمل حالياً متحفاً للتقاليد الشعبية، ولكنه مع الأسف لم يتخذ أي تقليد شعبي.
- خامساً: القصر الغربي العثماني:
هو العقار 265 ومقاسمه منطقة رابعة باب تدمر، وقد ذكره محمد مكي السيد في يومياته:" وعمر السيد عبد القادر النافعي المربع الذي في حوش البقر، كان مركزاً لتدريب العساكر والطبلخانة والاستعمال العام, ثم تحول إلى حوش مغلق يتم الدخول إليه من الباب الشمالي بمثابة صابات)). ويشرح المحقق كلمة المربع، غرفة في الطابق الثاني تأخذ شكل مربع /1116هـ/1704م/ أما الطابق الأرضي فكان بناؤه قبل هذا التاريخ, وقد استعملت أسرة آل الزهراوي هذا القصر بمثابة مضافة- كما استعمله الشهيد عبد الحميد الزهراوي كمركز للتوعية والحضارة العلمية والسياسية ضد العثمانيين الأتراك. وفي الخمسينات وحتى الستينات من القرن العشرين استعمله كمضافة المرحوم زهري بن حسن زهراوي- كما استعمل الطابق الأرضي نعيم الزهراوي كمضافة مع الغرفة الجنوبية ما بين الخمسينيات والستينات من القرن العشرين- أما الغرفة الجنوبية فقد استملكت في السبعينات من القرن العشرين؛ لصالح مجلس بلدية حمص وأصبحت فسحة سماوية. ...
الوصف المعماري الهندسي للقصر:(1/16)
يتميز هذا القصر أو بالأحرى القلعة الحصينة أو الغرفة التجارية الأولى الحاكمية معاً, بطابع فريد من نوعه في القطر العربي السوري, من حيث الملكية الخاصة, باستثناء البناء الديني وخاصة البناء في العهد المملوكي الأول- وترك المعمار العربي أثراً ضخماً لبناء معماري؛ يمتاز بزخرفة فنية عالية, فمن الناحية الداخلية التخطيطية- تميزت المباني بصغر حجمها- مع وجود فناء أرض الدار- وبوجود بركة ماء, وفي عام /1990م/ كشفت دائرة آثار حمص صهريجاً مائياً طوله 4 متر وعرضه 4 متر وعمقه 4 متر, بناء عقدي لحفظ المياه. وفوقه البركة (البحيرة) وبنت دائرة الآثار البركة الحالية المثمنة الشكل من الحجر البازلتي المصقول مع خطوط بيضاء لامعة.
أما الغرف الحالية فقد امتازت بصغر حجمها، مع وجود مقرنصات سقفية مرتبطة بعقود حجرية وأقواس مستعملة في قناطر مبني من نوع مدبب مغموس بقوسين متلاقين في الأعلى، مع اتساع الفتحة من الأرض إلى السطح.
وضيق الفرجة تحت السقف، ويليها أقواس عاتقة ودائرة متصالبة في السقف. أما القباب فهي مبنية من الآجر- نصف كرة- ومقطعها له شكل القوس العربي المدبب المغموس المحمول على جسم مضلع مزود بنوافذ.(1/17)
وقد غيرت دائرة الآثار نوعية القباب –وأصبحت بصلية-بينما كان لها فوهة دائرية، وظلت هذه الطريقة في عملية البناء بشكل دائري؛ بحيث تملأ الزوايا بالمقرنصات والحنايا الركنية أو بالمثلثات الحدودية, وبالتالي تكون الأجزاء العامة في البناء بواسطة سقف الغمس المعقودة بالحجارة الغشيمة، وتغطى بالكلس والتراب, هذا إضافة إلى الزخرفة التلوينية مع تناوب المداميك في الأشرطة المزخرفة؛ والمنقوشة بحفر غائرة مرصعة بلون يتغاير مع الآخر-وبحجر أو رخام أو معجونة ملونة بالحصى وبعض الأتربة المغموسة بالرتب؛ مع استخدام الزخارف بالفسيفساء أشكال هندسية رائعة ولامعة, ونجدها في الإيوان العالي الجنوبي المرتفع بحدود 12م. ونجد ضفائر وأشرطة بما فيها استخدام كتابات حجرية مزخرفة ومنقوشة على الحجر الأبيض أو الأسود الأبلقي. أما استعمال الخشب وتزيينه بطريقة الحفر أو النقوش وتنزيل الخوابي بينهما مع استعمال الرسوم الهندسية مدهونة بالأصبغة في داخل السقوف أو الجسور أو العوارض. ويبدو أن كثيراً من الخشب المملوكي قد زال وحل محله صناعة في العهد العثماني في بناء الأبواب والنوافذ- وقامت دائرة الآثار في عام 1990م في تجديد الأبواب والنوافذ الخشبية تطبيقاً لما كانت عليه في العهد المملوكي, فهل وُفقت إلى ما كان عليه...؟وكان محفوراً ومزخرفاً من الخشب نفسه وعليه آيات قرآنية.(1/18)
وتعتبر هذه الغرفة الحاكمية التجارية مدرسة بحد ذاتها وتمثل المهندس الحمصي العربي الأبلقي في العصر المملوكي... واستطراداً بالمعرفة والسبر الأثري فإنني أقول إنه في عام /1937/ حضرت أنا نعيم الزهراوي مع الآباء اليسوعيين إلى قصر الزهراوي، حيث وجدنا تحت القصر الجنوبي فتحة تحت الأرض، ضمنها سرداب طويل يتجه نحو الغرب, وما إن قطعنا مسافة ستة أمتار حتى انطفأت الشموع التي كانت بحوزتنا- وعندها رجعنا إلى المنزل دون أن نعلم عن كنهه, ومن المؤسف أن دائرة آثار حمص قد أغلقته دون أن تقوم بسبره ومعرفة إلى أي مكان يصل إليه, وذلك بالتنقيب الأثري وما حوله من مدافن بيزنطية وأيوبية، كما أغلقت المدفن البيزنطي والمغارة بحجة أن السير سيؤدي إلى انهيار المبنى، وهذا كلام غير أثري، وللأسف بحيث لا ترغب السلطات الأثرية بالعمل- ولا تتعاون مع السلطات السياحية والقيادية في القطر، كما يوجد ضمن الجدران حجارة متنوعة الأشكال وعليها كتابات مما يدل على استعمال هذه الحجارة وتوضعها على الجدران بعد هدم حمص 1157م، ويعتبر بأن هذه الحجارة لها مدلول في عمق البناء لهذه الحاكمية-الحصن الصامد.
الحاكمية الرابعة: هي دار أحمد شهاب الدين الكوجكي(1)-الملك إبان الحكم المملوكي مع إخوته الثمانية- وتم تشييدها داراً للحكم خصيصاً، ويلاصقها من الجنوب جامع السراج، وإلى الشرق منها حمام السراج ، وبالعودة إلى السجل التجاري لهذه الحاكمية وجدنا العقارين (337-338) من المنطقة العقارية الرابعة باب تدمر- مساحة الأول /816م2/ وهو عقار بناؤه من حجر، مؤلف من طابق أرضي؛ فيه دهليز وأربعة محلات للسكن، ومحلات للمؤونة، ومطبخ، وليوان، وثلاثة محلات أخرى، وممشى مسقوف، وبئر ماء وفسحة دار سماوية، ودرج حجر يؤدي إلى الطابق العلوي، وفيه محلات خراب، تحديد وتحرير( 1934).
__________
(1) -انظر مجلة البحث التاريخي –نعيم الزهراوي من ص 133-138 العدد 7 –الجمعية التاريخية لعام 2003.(1/19)
وقف الشيخ حسين أمين الملاك أصبحت للآثار والمتحف عام( 1984م) وقد بنيت هذه الدار خصيصاً لإدارة الحكم القضائي في المملكة البحرية المملوكية، وتشير الوثائق إلى أن الكواجكة وأولادهم الأمراء كانوا يهتمون بالعمارة الأبلقية-الأبيض والأسود مع زخرفة العمارة- فإذا نظرنا إلى زخرفة واجهة هذه الحاكمية الماثلة أمامنا وجدنا أن المماليك استخدموا الصنجات نتيجة لشكل /الوتد/ الذي نحتت عليه كل صنجة، أي عمل طرفها العلوي عريضاً،وطرفها السفلي ضيقاً-فإن الشكل المزرر يزيد من ترابطها، إذ يرتكز الجزء البارز من كل صنجة منها على الجزء الداخل من التالية لها، وهكذا نجد أن أقدم مثل للصنجات المزررة هو في قصر الحير الشرقي –بادية الشام- وإن هذا الأسلوب المعماري اتبعه الرومان- ومن بعدهم المعماريون السوريون في العصر البيزنطي، وانتقل هذا التأثير إلى القاهرة.(1/20)
ونحن بدورنا نجده ولو على نطاق ضيق في برج الأربعين، وإن حدث فيه بعض التغيير الجزئي، إنما الشكل الداخلي اللولبي، والحجر الكبير، والشكل المعماري الخارجي يعطينا الدليل الكبير على مثل هذا النموذج الحي، ثم تطورت الأشكال الزخرفية في العصرين الأيوبي والمملوكي، وصارت حلية زخرفية تزين واجهات المباني، فاستخدموا المداميك المتناوبة بالألوان الأسود والأصفر والأبيض، وسمى المؤرخون العرب تلك /بالأبلق/ كما وجدناه-ولقد انتشر هذا الأسلوب في المباني الإسلامية في سورية بسبب توفر هذه المادة من الحجر البازلتي المتوفر لدينا في الوعر/حمص الجديدة حالياً/ كما زخرفوا الواجهات بتقسيمها إلى حشوات غائرة بينها أكتاف وأعمدة ملتصقة الجدران، ويتكون منها صف أفقي أو أكثر، وتتعرج الحشوات في أغلب الأحيان /عقود متتالية/ مثل زخرفة باب بغداد بالرقة، وإننا نجد هذه الزخرفة في الباب الرئيسي العلوي المدخل، كما نلاحظه، وإن هذا الأسلوب الزخرفي متأثر بزخرفة واجهات القصور الساسانية، لكنه لم يدم طويلاً واختفى من العمارة الإسلامية ليظهر أسلوب جديد ابتكره العرب المسلمون في العصر الفاطمي، وازدهر في العصر المملوكي، فقد استطاع المعماريون إحداث توازن بين الخط الأفقي الذي تشكله المداميك المتناوبة باللونين، بعمل تجاويف، أو حنايا عمودية طويلة تشمل حائط البناء كله تقريباً، كما أحدثوا نوافذ تنتهي في الأعلى بكورنيش من المقرنصات تعلوه شرفات مسننة، وهذه الحنيات بما تحدث من ظل ونور تساعد على تنويع السطح، وإعطاء الإحساس بارتفاع البناء، كما أنهم أضافوا نغمة ملمسية وضوئية للواجهة بواسطة أشرطة من الكتابات والآيات القرآنية- وبذلك خلقوا وحدة شديدة الاتساق مع ارتفاع البناء، وهذا ينطبق على هذه الواجهة المعمارية والبناء/لهذه الدار/(1/21)
ونجد فيها عمارة المساقط الأفقية وما يحيط بها هي بداية من الطرز الباروكية إذ أن الهيكلية العامة للجانب الداخلي والقوس المنمنم المزخرف- وكأنه المتناوب في الطرز الباروكية.
الحاكمية الخامسة: الكائنة في حي بني السباعي- إلى الجنوب من حمام الباشا وإلى الشرق الجنوبي من جامع البازرباشي، ويحدثنا مخطوط محمد مكي السيد(1)عام /1100ه،-1688م/ ما يلي:" نهار الإثنين في ثلاث عشر يوماً خلت من شهر محرم الحرام 1100هـ عمر فيه إبراهيم آغا في السراي-قاعة" وفي سنة 1104هـ" وفيه نصب الشيخ المعني الجنينة الذي عملها- وفيه عمر حيطان السرايا" وفي عام 1126هـ" وفيه عمر حسين آغا ابن دندش حاكم حمص كشك في السرايا" وفي عام 1127هـ" وفيه جاء كأخيه يوسف باشا الشام المحروسة، ونزل في السراية" وفي عام 1130هـ(2)" وفيه صار عمل الجنينات الواحدة شمال الملك المجاهد والواحدة شرقي العدوية"وبالدلالة على المكان، واطلاعي على سجلات المحاكم الشرعية وجدت ما يلي: قاعة المحكمة جنوب حمام الباشا
" في 26 صفر 1277هـ تم بيع طواحين الميري وقوناق الدار المعروفة في السراي- في حي بني السباعي بزقاق بني الشاويش" وتعني" أملاك الدولة-التي هي السراي".
وفي عام 1988م( تم هدم هذه الدار وتشييد دور جديدة مكانها، وبقي منها غرفة تعرف باسم( غرفة المحكمة الشرعية) العقار(49) بني السباعي- وعقارات 47و48 المنشور مع الصورة.
ووجدت أيضاً في سجل المحكمة الشرعية بتاريخ 17 جمادى الثاني عام 1316هـ الحاكم الشرعي سليمان أفندي رشدي ما يلي ... ... ... ... ... ... العقار 49
" التمس العلماء ونقيب الأشراف ووجهاء البلدة نقل السراي القديمة الواقعة في سوق الحب والتي أصبحت بيد البلدية مستودعاً يودع فيه طنابر البلدية ومدفع رمضان وتم توقيع على ذلك".
__________
(1) - محمد مكي السيد-تاريخ حمص-طباعة المعهد العلمي 1988-ص17
(2) -نفس المصدر ص 35-89-142.(1/22)
الحاكمية السادسة: سرايا الحكومة لسوق الحب: عملاً بالمواد 11و12و13 من القرار رقم 186 المؤرخ في 19آذار 1926م، الصادر من المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في سوريا ولبنان، وشرع بتاريخ 16تشرين الثاني 1930م وبحضور الملاكين وبغيابهم وفقاً للمادة 12 من القرار المشار إليه بالتحرير والتحديد الموقت، وبتقسيم هذا المحضر للعقار المبينة أوصافه فيما يلي، بحضور الملاكين أصحاب العقارات المجاورة بواسطة المختار الموقع إمضاءه أدناه، ضمن الشروط المنصوص عنها في المادتين 10و20 من القرار 186 ومن القرار رقم 187 أوصافه: ملك عقار بناؤه من الحجر مؤلف من طابق أرضي يحتوي على غرفتين للسكن، وغرفة لوضع الحبوب وإسطبلين وأوراق وبئر ماء وفسحة سماوية.
بلدية حمص: إن كامل هذا العقار المبين الحدود والأوصاف في هذا المحضر، هو جاري بملكيتي دائرة بلدية حمص من مدة 60سنة، وأن كيفية انتقال الملكية إلى الدائرة المذكورة (الأرض) من فضلات الطريق-والبناء منذ مدة 60سنة وذلك بحسب إفادة مندوب الدائرة والرقم العقاري 2557 أولى المساحة 330م.
ورد في شعر أمير الشعراء أمين الجندي في بناء السرايا بتاريخ 1224هـ 1809م وقال في تاريخ البناء (قولاً ناصحاً ادخلوها بسلام آمين)
(فلبيت الله أرخ مخلصاً والعون شاده)
وأفاد مطانس عبد الله خزام والمختار الموقع ختمه وإمضاءه أدناه-وقد استعملته بلدية حمص كمستودع للطنابر والمعدات التابعة لها؛ كمدفع رمضان وغيره ولا زال البناء قائماً.
الحاكمية السابعة: الوصف العقاري-الرقم293 منطقة عقارية أولى باب هود شارع القوتلي المساحة /2348م/, الكامل بيت مال الدولة السورية-تم بناؤه من حجر مؤلف من طابقين: الطابق الأرضي يحتوي على ثلاثة مداخل وأربعة وعشرين غرفة، وغرفة فحم، وغرفة للانتفاع، ودرج حجر، وفسحتين: الأولى مسقوفة، والثانية سماوية، وبحيرة ماء وبئر ماء.
الطابق الأول يحتوي على تسعة عشر غرفة وممشى بين الغرف.(1/23)
قرار القاضي العقاري 1932
وأرّخ السيد نجم الدين الأتاسي بناء (السرايا) الجديدة بقوله:
صبح السعادة قد توقد وانجلا ... أم برج عزّ للعدالة أصّلا
أم ذاك بيت الحكم يشرف من سنا ... عبد الحميد إمامنا ملك الملا
قد شاده الشهم البرازي ذو العلا ... محمود باشا من حوى شرفاً علا
أيّ أيا غوثاه في تاريخه ... ملك الملا عبد الحميد الأفضلا
وقد بنيت السرايا خارج السور في عهد محمود باشا البرازي قائمقام في حمص 1887-1888م, فاختار الموقع الموصوف أعلاه وبنى فيه السرايا من حجر البازلت الأزرق، ويحيط بها جدار قليل الارتفاع يعلوه حاجز من قضبان حديدية متقاربة ومتشابكة –وبقيت (السرايا) القصر العدلي هذه حتى عام 1951م-إذا هدمت وبنى عوضاً عنها دار الحكومة الحالية من الحجر الأبيض-في الموقع الذي كانت به وبعد هدمها: أصبحت الحاكمية الآن أبنية للميتم الإسلامي والأرثوذكسي والهلال الأحمر-مقابل دائر الآثار الحالية (البلدية سابقاً) وتقع على أربعة شوارع وأربع قطع-ضمنها ممرات سوق تجاري ومكاتب –محاماة وأطباء وغيرها وكل قطعة مؤلفة من خمسة طوابق-بناؤها من الحجر الأبيض المنحوت.(1/24)
الحاكمية الثامنة: أولاً الوصف العقاري المدون في السجل: وهي بالأصل-مركز عسكري تم بناؤها في عهد دخول إبراهيم باشا المصري إلى حمص 1831-1840م وسنتحدث عن موقعها أصلاً العقار 982 من النقطة العقارية الأولى باب هود-المساحة /13737م2/ بالكامل من مال الدولة السورية الأصل: (دبويا) أي مستودع، عقار بناؤه من ثكنة عسكرية مؤلف من طابقين: الأرضي يحتوي على دبويا ثلاثة عشر قاعة كبيرة لمنامة الجيش، وأربعة أماكن بنيت لأشغال الجيش، ومكتبين للمطالعة، وثلاثة أماكن لوضع الأدوات-ومحلين يوجد بهما مشروبات خمور-وأربعة مخازن للأمتعة، ومخزنين لوضع العتاد الحربي، وإسطبلات كبيرة لوضع الخيل والأحصنة للجيش العسكري، وخمس غرف وممرات لأشغال اللوازم للجيش-وثلاث غرف صغيرة للنوم، وغرفة للخبز ومطبخين وحمام عمومي للجيش، وغرفة للموتور (محرك لجلب المياه) وحاصل ماء لشرب خيل الجيش، وغرفة لأكل الضباط لها باب منفصل على الشارع، وغرفة مستعملة مأوى (للأتومبيلات) سيارات وعربات لخاصة للجيش.(1/25)
الطابق الأول: مؤلف من أربع شقق-الأولى يصعد إليها من الشارع بدرج حجر ممتد من الشارع الممتد على ضفة ساقية حمص العمومية من الشمال (ورد بالجزء1 دراسة وثائقية عن الساقية ما يلي ص74 ثم تجتاز شارع هاشم أتاسي تحت جسر مارة بشمال الدبوية (دار الحكومة حالياً) قرب جدار حديقتها الشمالية, ثم تتابع سيرها محاذية حديقة مجول المصرب حالياً-(ومقهى توليدو، وعمارة الطوق والطويل، وسينما حمص، وبناء غرفة التجارة والصناعة) ثم تتجه نحو الجنوب مسافة 4م وتنحرف نحو الشرق؛ شمال التكية الميلوية (حالياً الجامع العالي-أبو بكر الصديق) وقد أغلقت هذه الساقية في عام 1946م, أما الدبوية فتحتوي على مركز لوضع أدوات الجيش، وممشى مسقوف –ومكتب قيادة التعليمات ومكتب اليوزباشي، وممر ضيق صغير للنوم، وبيت خلاء، وبلكون يطل على الشارع. أما الشقة الثانية فهي قرب الثكنة، ومن الشمال يصعد إليها بدرج حجر، مستعملة محلاً لمداواة الجيش، وتحتوي على غرفة للطبيب البيطري, أما الشقة الثالثة فيصعد إليها بدرج حجر، ومستعملة محلاً لمداواة الجيش، وتحتوي على غرفة للطبيب لأجل المنامة والمعاينة- وخمس غرف لمرضى الجيش، وغرفة مكتبة، وغرفة للأشغال اليدوية مكشوفة. والشقة الرابعة وهي بجانب الثكنة العمومية القبلى ويصعد إليها بدرج خشي تحتوي على غرفة لتصليح الأسلحة قرار القاضي العقاري 1932م.(1/26)
ولنعد إلى الواقع الحالي-القصر العدلي-ومكتب المحافظة وعملاً بالسجل العقاري المدون في الصحيفة ما يلي: العقار 982 منطقة عقارية أولى، عبارة عن بناء من حجر وإسمنت، ملك مساحته 13737م2 بيت مال الدولة السورية، تمام العقار عبارة عن دار الحكومة مؤلف من ثلاث طوابق، الطابق تحت الأرض مؤلف من قبوين؛ مستعملة مستودعات، الطابق الأرضي يحتوي على غرفة مسجد، وستين غرفة، وثلاث بيوت خلاء، وبهوين، والطابق الأول يحتوي على ثلاث وستين غرفة لمختلف الدوائر الحكومية. تجاوز هذا العقار عن الأملاك العامة 1069م2.
وعلمت كما علم أكثر المهتمين بالدراسات التاريخية، ماذا سيطرأ على هذا البلد من إحداثات وأبنية إسمنتية-وبرجية، وتخطيط من المراجع ذات الشأن، وحصراً في ما بين 1960-1975م فإن التخطيط المستقبلي-إزالة القصر العدلي واعتباره بارك-حديقة فهل يتم ذلك...........!
الجواب لدى الأجيال المقبلة....
وأختم مقالتي هذه، وبعد الحصول على درع التكريم من مجلس مدينة حمص:
بمناسبة مهرجان حمص الثقافي الفني الثالث والعشرين من تاريخ 3-13تشرين الأول 2004م-الإهداء إلى الأستاذ نعيم سليم الزهراوي، فقد قرأت بجريدة العروبة العدد 11865تاريخ 14تشرين الأول 2004م.
المحافظ يستعرض العمل في مشاريع القصر العدلي ومشفى حمص الجديد ومجلس المدينة.
عقد اجتماع برئاسة السيد صبحي حميدة محافظ حمص، حضره السادة أعضاء اللجنة الفنية المشكلة من الدكتور علي محمود، والمهندس خليل الأعرج، لمتابعة تنفيذ المشاريع التي زارها السيد الرئيس بشار الأسد بتاريخ 25/6/2003م والسادة: المحامي العام بحمص، ورئيس مجلس المدينة، وأعضاء المكتب التنفيذي لقطاع الصحة والإنشاء والتعمير، ومدراء الدراسات والاستشارات الفنية-شركة البناء والتعمير-والجهة الدراسة لمشروع مشفى حمص الجديد، وأجهزة الإشراف والمتابعة لمشروعي مشفى حمص الجديد، والقصر العدلي الجديد، ومشاريع مدينة حمص.(1/27)
مشروع القصر العدلي: تبين أن العمل في المشروع يسير بشكل جيد؛ وفق البرامج الزمنية والمادية المخططة، حيث بلغت نسبة الإنجاز المالي منذ بداية العام ولغاية 30/9/2004م قيمة 29,5 مليون ليرة سورية نسبة 71% وعدم وجود إشكالات وعوائق.(1/28)
تلبيسة ... ... ... ... ... ... أحمد سليم طه
أمين سر الجمعية التاريخية
هل هي مدينة أبزو التي ذكرت في مراسلات تل العمارنة؟
حكومة قلعة تلبيسة تولاها ثلاثة من أعيان آل الجندي:
الشاعر المبدع الشيخ أمين الجندي قبض عليه وسجن فيها
تقع مدينة تلبيسة إلى الشمال من مدينة حمص على الطريق الدولي الذي يخترق سورية من الشمال إلى الجنوب، وهو طريق القوافل القديم، يقول عنه أحد الرحالة:
" إن الطريق بين حمص وحماة خط أبيض شق الحقول الخضراء، وهو واحد من أقدم الطرق في العالم، تسلكه القوافل منذ خمسة آلاف عام على الأقل، وكان قد رأى حبلاً طويلاً من الجمال تتحرك ببطء محملة بأكياس ملونة تتلامع، ويخيل إلى المرء أن فرعون يستجلب الحبوب من حماة ليملأ عنابره، تحسباً للسنوات السبع العجاف(1)".
تبعد تلبيسة عن حمص 13 كيلو متراً، وعن الرستن أقل من ذلك، وكانت المستنقعات تحيط بها من جهاتها الثلاث: الجنوب والغرب والشمال، وقد ابتعد عنها طريق القوافل إلى جهة الغرب بحدود مئتي متر متجنباً المستنقعات الواسعة، وفي بعض السنوات المطيرة كانت تشكل برك مياه غربي الطريق على شكل بحيرة ضحلة، وهذا يعني أن القوافل كانت تجتاز طريقاً ضيقاً شبيهاً بالمضيق، مما كان يغري اللصوص وقطاع الطرق بالإغارة على القوافل تسلب وتنهب، وتفر هاربة، وهذا ما دعا بعضهم إلى إطلاق تسمية "تل الحرامية" على التل الذي كان خالياً من السكان تماماً.
أما من أين جاءت تسمية " تلبيسة"؟ فهناك العديد من الآراء يمكن استعراض بعضها، على أن الوثائق لا تحدد بشكل قاطع فيما إذا كانت "تلبيسة" كلمة اشتقاقية من فعل" لبس" فتكون هي مصدر المرة الواحدة" تلبيسة العرس" وقد دفع ذلك أحد الشعراء للقول:
تلبيسة في تمام العرس رائعةٌ ... أهدت لزينب فيها كل ما فيها
في حفلةٍ هاهنا صيغت مباهجها ... أعطت لقلعة تلبيسة معانيها
__________
(1) -رحلة الدكتور لويس ليري عام 1913م. طبع نيويورك ( بين التراب والتراث –د. عدنان البني).(1/1)
ويعني هذا القول أن ملكة تدمر العظيمة تم زفافها وتلبيستها في القلعة، فدعيت هذه القلعة " تلبيسة" ولم أعثر على سندٍ يؤيد هذا القول، وربما تكون " تلبيسة" اسماً مركباً من كلمتين" تل وبيسة".
1- تلبيسة: تعني مدينة الرهبان، فكلمة تل تعني المدينة، والباء هي البيت و"سة" تعني الراهب، فيكون معناها: بيت الراهب، أو مدينة الرهبان.
2-تلبيسة: مدينة تلبيس الرهبان ثياب الكهنوت لترسيمهم رهباناً في أديرتهم. ولم يقم أي دليل يدعم هذين الرأيين لعدم العثور على ما يشير إلى استقرار المسيحية بأي شكل في هذه المنطقة.
3- كتب أحد المهتمين بالتسميات السريانية مقالاً في إحدى
الصحف(1)، عن أسماء القرى في محافظة حمص مدّعياً بأنها تعود إلى جذور سريانية، وقد أشار إلى أن تلبيسة تعني" تلبيشو" أي: مدينة الأشرار، وقد رددت عليه رداً مناسباً نشر في نفس الصحيفة بينت فيه بوضوح خطأ ما ذهب إليه(2).
وفي عام 2001 أصدر هذا المهتم كتاباً عن أسماء القرى في سورية، وقد فسر فيه سبب تسمية تلبيسة بهذا الاسم تفسيراً مغايراً لما ادعاه سابقاً حيث يقول:" إن تلبيسة تعني البؤساء" وأظن أن المذكور وقع في الخطأ مرتين، فإذا كان أصل تسميتها تلبيشو، فهذا يعني :تل المغائر، فنحن لا ننسى لعبة تسمى " أم البياش" التي تقوم على صنع حفر صغيرة في الأرض كالمغاور.
__________
(1) -هو السيد جوزيف أسمر، نشر مقالة في صحيفة العروبة العدد /8083/ تاريخ 23/10/1991.
(2) -نشر الرد في صحيفة العروبة العدد/8100/ تاريخ 12/11/1991.(1/2)
4- تلبيسة: تعني وادياً يقع إلى الشرق منها يدعى" بيصة" وقد نسب الوادي إلى التل القريب منه، وأطلق عليهما اسماً واحداً مشتركاً" تل بيصة" ومع كثرة الاستعمال صحف إلى " تلبيسة(1)". و قد يكون الرأي السابق هو الأقرب إلى الصواب، فكثيراً ما ورد اسم تلبيسة في وثائق خطية يتم تداولها بين الأهالي تحمل اسم" تل بيصة" وقد عاصرت بعض المعمرين الذين كانوا يلفظون الاسم" تل بيصة".
ومن المؤكد أن هذه التسميات أطلقت على هذا المكان في زمنٍ متأخرٍ نسبياً، وأن هذا المكان ربما كان يحمل اسماً آخر هو الأقدم، كما هي الحال في المدن والقرى المجاورة، حيث تبدلت أسماؤها " فالمشرفة" كانت تدعى" قطنة"، و" الرستن" هي أرسوزا، و" تل النبي مند" هي "قادش" و" الزعفرانة" هي "زفرون".
فما هو الاسم الأقدم لتلبيسة؟
1- يقول الباحث الفرنسي "رينيه دوسوت" في كتابه " الطبوغرافيا التاريخية السورية، وهو غير مترجم:" يكاد يكون من المؤكد تقريباً أن "أبزو" هي نفسها " تلبيسة" حيث اكتشفت فيها الكثير من الآثار الهامة.
2- في التنقيبات الأثرية في مدينة " إيبلا" تم العثور على الأرشيف الملكي لهذه المدينة، وقد تضمن الرقيم الموصوف بالرقم/1586 /75 /75/ت م الذي أشار إليه ألفونصو أركي في رده عن إيبلا والمدن التاريخية بما يلي: " 35 مثقال فضة ومنسوجات، توريد مدينة إيشو، أو إيزو، ويمكن مطابقة هذا الاسم مع اسم مدينة أبزو القريبة من مدينة قادش التي ورد ذكرها في نص المعاهدة المعقودة بين شوي-لي- لوما وشاتوتاترا. حيث ورد فيها اسم مدينة أبزو(2).
__________
(1) -الدكتور عماد الدين الموصلي –ربوع محافظة حمص.
(2) -إيبلا الصخرة البيضاء –قاسم طوير.(1/3)
3-تحدث الدكتور البحاثة قتيبة الشهابي عن تلبيسة بقوله:" تلبيسة تل أثري أقيمت عليه بلدة تلبيسة الحالية في منطقة الرستن في محافظة حمص، يرقى إلى الألف الثالث قبل الميلاد، تعلوه قلعة لم يبق منها سوى بابها الغربي وجزء من السور،ويُظن بأن مدينة أبزو التاريخية كانت في موضعه(1)".
4-مدينة تلبيسة هي نفسها مدينة أبزو افتراضاً، ولم تثبت هذا التوقع قرائن كتابية أو أثرية أخرى، وقد وقعت هذه المدينة على المعاهدة مع شوي –لي- لوما(2).
5- (تقع قرية تلبيسة) على بعد 10 كم شمالي مدينة حمص في
مركز سورية على تل يُعتقد بأنه يعود إلى الألف التاسع قبل الميلاد، ويظن بعض الأثريين أن تلبيسة هي مدينة أبزو.
أسفرت التنقيبات الأثرية العشوائية عن وجود آثار هامة فيها، بينها قطع نقدية وفخارية وزجاجية وتماثيل رخامية تعود إلى أزمنة متعددة، استقر العموريون والحيثيون فيها، وبعدهم جاء الآراميون فاحتلوا مكانهم، كما قدم إليها الفرس في القرن الثالث قبل الميلاد، وبعدهم احتلها الإغريق ثم الرومان، فالبيزنطيون، ويعتقد بأن الكثير من الأقنية الرومانية ما زال مطموراً في أراضيها، ويوجد في قلعتها بعض الكهوف، أما تلها الأثري فيبلغ طوله نحو ثلاثمئة متر، وعرضه بحدود مئتي متر تقريباً، أما ارتفاعه فيبلغ 30 متراً. وكانت هذه القلعة مركزاً لعائلة آل الجندي التي حكمت المنطقة منذ عام 1735م، وقد بني الجامع الموجود في القلعة عام 1760م، وما تزال أجزاء
من السور موجودة، إضافة إلى البوابة الغربية(3).
يقول أحمد وصفي زكريا في رحلته الأثرية عن تلبيسة:
:
__________
(1) -معجم المواقع الأثرية –مخطوط لم يطبع –الدكتور قتيبة الشهابي.
(2) =-الدكتور ماجد الموصلي –ندوة حمص التاريخية الأولى.
(3) -مجلة الطليعة 1948.(1/4)
إن السائح قبل وصوله إلى تلبيسة يرى عن يمينه إلى جانب الطريق آثار خربة تدعى خربة السبيل(1)، في وسطها حجر رحى كبير هو أحد أمثاله الكثر المنتشرة في رسوم وخرائب هذه الرباع، ولعلها كانت لعصر الزيتون، أو لطحن البرغل. أما تلبيسة فهي قرية كبيرة بينها وبين حمص 12 كم، بيوتها قبب بيضاء، يخالها الغريب لا سيما الأوربيون القادمون إلى الشام حديثاً، معسكر جند، في غربي هذه القرية مستنقع بحاجة إلى تجفيف، وبعض بيوت هذه القرية بني في ظاهر وسفح التل المعروف باسمها، وعلى ما قيل إنها نسبت إلى خربة قديمة تقع شرقي بيادر القرية تدعى" بيصة" صارت بالتحريف " بيسة"، وقد ظن الأثري روسوت هذه القرية هي" abzu" التي وردت في مراسلات تل العمارنة لأن تلبيسة ظهر فيها الكثير من العاديات، وكان فوق هذا التل بناء عسكري ذكره المرادي وسماه قلعة تلبيسة(2).
باب القلعة الذي بقي صامداً مع جزء من السور
__________
(1) -هذه الخربة منسوبة إلى السبيل وهو مكان مهيأ لخدمة المسافر المسلم، حيث يجد فيه مكاناً للوضوء، عبارة عن بئر يهبط إليه بدرج، بقربه مصطبة مرتفعة عن الأرض بمقدار متر تقريباً مرصوفة بالحجارة تقام عليها الصلوات، وكانت هذه السبل تقام على جانب الطريق الأيمن، وبين كل سبيلين مسافة ساعة مشياً على الأقدام.
(2) -محمد المرادي في كتابه سلك الدرر في أعيان القرن الثامن عشر، مؤرخاً لعبد الرزاق الجندي حاكم قلعة تلبيسة.(1/5)
نرى بعد هذا الاستعراض السريع لبعض أقوال المؤرخين والأثريين أنه من الممكن أن تكون تلبيسة هي مدينة أبزو، وأن ذلك يقع في خانة الاحتمالات، وعلينا لكشف هذا الغموض الانتظار لمعرفة ما ستكشف عنه عمليات التنقيب في التل المصنف منطقة أثرية منذ فترة غير قريبة، ويبدو أن عمليات التنقيب لن تتم في القريب المنظور. وسواء ثبت صحة هذا الافتراض أم لم تثبت فمن المؤكد أن في باطن هذا التل مدينة ما، مدينة قديمة جداً تظهر دلائلها كلما اقتطع جزء من التل، فقد تعرض هذا التل إلى اقتطاع أجزاء كبيرة من جهاته الثلاث، فمن الشمال اقتطع جزء كبير منه في عهد الانتداب الفرنسي لردم المستنقعات التي كانت تحيط بالتل، كما اقتطع من جهتيه الشرقية والجنوبية أجزاء كبيرة لصناعة اللَّبِن المجفف بأشعة الشمس لعمارة القباب، السكن المفضل لدى سكان القرية (التلاويين) وقد كشف هذا الاقتطاع من الجهتين الشمالية والشرقية عن جدران مبنية باللبن المجفف ، كما يبدو في
الصورة التالية:
صورة تظهر جداراً من اللبن في باطن التل من جهته الشرقية بعد اقتطاع جزء كبير منه
وهذا دليل قاطع على أن باطن هذا التل يحتوي على بناء سكنه الإنسان في غابر الزمان، وهناك ما يمكن أن يكون دليلاً على أن تلبيسة هي مدينة أبزو،وهو ما أشارت إليه وثائق إيبلا بأن مدينة أبزو تورد المنسوجات،وقد عثرنا أثناء الحفريات التي قمنا بها لتنفيذ مشروع مياه على عدد من الأشكال الهندسية مصنوعة من الفخار المشوي تشبه هرماً مقطوع الرأس محفوراً من الأعلى، وهي أشكال ثقيلة نسبياً، عرفها أحد المهتمين بالآثار بأنها ثقالات لشدّ خيطان النسيج إلى الأسفل خلال عملية حياكته.
تلبيسة التاريخ(1/6)
إن تاريخ تلبيسة القديم يكتنفه الكثير من الغموض، وإذا أمكن إزالة شيء من هذا الغموض في مرحلة من المراحل فإنه يبقى مشوشاً غير واضح، ولم تجر في تلها الضخم أية تنقيبات أثرية منهجية حتى تاريخه، وما تم منها كان عبثاً من المتطفلين على الآثار، وما وجد في تلبيسة من آثار مهمة فإنه اكتشف عن طريق الصدفة، والآثار التي تم اكتشافها حتى الآن في تلبيسة كانت كثيرة ومتنوعة، منها تمثال لفينوس ترفع بيدها صندلاً، وهو محفوظ في المتحف الوطني بدمشق(1)، إضافة إلى مجموعة من الآثار الهامة جداً عثر عليها في قاعدة مئذنة جامع المشجر الجنوبي، تحتوي على أكاليل ورقائق وأشرطة من الذهب الخالص، وأختام وقوارير وجرار تعود جميعها إلى العصر الهلنستي، احتفظ بها متحف حمص. وقد عثر على الكثير من الآثار في عهد الانتداب الفرنسي، أهمها ما عرف( بالطاسة الحلومية) وهي مصنوعة من الذهب، عليها رسوم وكتابات، وقد عثر عليها في خربة ( حير جَملة)، كما عثر على كنز من العملات الفضية اليونانية تحت طبقة رقيقة من التراب على السفح الغربي للتل، وغيرها الكثير.
إن تلك الآثار تدلل على أن تلبيسة كانت تحتل مكانةً مرموقةً في ماضيها البعيد، يؤكد ذلك أيضاً وقوعها ضمن دائرة لا يزيد نصف قطرها عن عشرة كيلو مترات تضم أمهات المدن الهامة، فبعدها عن قطنة، وأرتوزا، وزفرون،حوالي 10 كم وعن أميسا وقادش وتونيب أقل من 20 كيلو متر.
__________
(1) -ربوع محافظة حمص د. عماد الموصلي.(1/7)
إن مجاورتها للمدن الهامة التي لعبت دوراً متميزاً في تاريخ سورية القديم يدفع إلى الاعتقاد بأنها لا بد أن تكون قد ساهمت في مثل هذا الدور بشكل أو بآخر، وبالافتراض بأن تلبيسة هي أبزو فإن أرشيف إيبلا- كما أسلفنا-أفاد بأن هذه المدينة كانت شاهدة على المعاهدة بين المصريين ومدينة قادش، وما عدا ذلك فإن الفترة الطويلة بين انتهاء المد الحثي وظهور المسيحية، فترة فقيرة جداً بالمعلومات، إلا أن ذلك لا يعني أن تلبيسة كانت غير موجودة على المسرح التاريخي، وإن الآثار التي عثر عليها في القلعة وما حولها تؤكد عدم انقطاع التسلسل التاريخي للمدينة، فقد تم العثور على آثار آشورية وآرامية وكتابات مبعثرة هنا وهناك، أما الآثار اليونانية فإنها موجودة بكثرة، وتبدو واضحة في شواهد القبور، وكذلك الأمر في الآثار الرومانية فهي ترى في كل مكان تقريباً خاصة الأقنية التي كانت تنقل المياه العذبة إلى العديد من الجهات، كقلعة الرستن، مما يدل على غنى تلبيسة بالمياه في ذلك العصر.
وكانت أراضيها الفسيحة ساحة قتال في المعارك الطاحنة بين الجيوش الزاحفة من الشمال للاستيلاء على حمص، وبين الجيوش المدافعة عنها، فقد انكسرت جيوش زنوبيا في المعركة التي دارت على السهل الممتد بين حمص وتلبيسة عام 272م(1)، وكأن سهول تلبيسة الفسيحة قد تحولت إلى ساحات حرب كلما تعرضت حمص لخطر قادم من الشمال، فقد تصدى لهجوم التتار كلٌ من الأشرف موسى صاحب حمص، والمنصور صاحب حماة في عام 656هـ الموافق 1260م على سهول تلبيسة، وألحقوا بالتتار هزيمة شنيعة فانكسروا وردوا على أعقابهم(2)كما أن هذه السهول كانت مكاناً مفضلاً لدى قادة الجيوش الفتح الإسلامي لإعادة تنظيمها وتأهيلها لإتمام واستكمال عمليات الفتح.
__________
(1) -جولة أثرية-أحمد وصفي زكريا.
(2) -نفس المصدر السابق.(1/8)
ويمكننا اعتبار غياب أي ذكر لتلبيسة في مطلع العصر الإسلامي إلى خلوها من السكان، ولم تكن هي الوحيدة التي هجرها سكانها، ويقال أن مرد ذلك يعود لتاريخ فتوح الشام، وهذا غير مؤكد، فمنذ نهاية القرن الثالث الهجري فترة ضعف الدولة العباسية، والمنطقة تقع تحت كابوس الكوارث المتلاحقة، بدءاً من غارات القرامطة 290هـ 902م, وهجمات البيزنطيين، وحرق حمص 358هـ-968م ونهبها من قبل نقفور النقاش، ثم حرقها مرة ثانية في نفس العام.
وبعدهم جاء الصليبيون ثم التتار، كوارث تتلوها كوارث، مما أدى إلى خراب عمّ أرباض حمص فهجرها أهلها، وقد ذكر ياقوت الحموي وأبو الغداء أن كثيراً من قرى حمص كانت خراباً بدون تبيان السبب لهذا الخراب ودوامه، وذكر ياقوت الحموي في معجمه العديد من القرى التي ضاع اسمها ورسمها كالعرناس التي ذكرها ابن أبي حصينة حيث قال:
من لي برد شبيبةٍ قضيتها فيها وفي حمصٍ وفي عرناسها
ومنها كفر تكيس-كفر نفد، ويقال أن فيها قبر أبي أمامة
الباهلي الصحابة الشهر(1)بقطاس-كرماس-جدر-دومين-سماك-غانية، وغيرها..
وكان الخراب شاملاً يقول عنه ياقوت الحموي: آثار الرستن باقية إلى الآن تدل على جلالها؛ وهي الآن خراب ليس فيها ذو مري، وقد أرجع بعضهم سبب الخراب إلى غارات الأعراب على تلك القرى؛ في غياب الحماية من قبل الدولة وعدم توفر الأمان لحياة الناس. وتلبيسة قد أصاب أخواتها من أرباض حمص فقد كانت خالية من السكان تماماً، ومما يؤكد ذلك ما قاله الرحالة الفرنسي جان دوتيفينو،في كتابه "أسفار الشرق " حيث زار سورية عام 1658م، ومما قاله عن الخانات في حمص: إن الخان الذي يبيت به المسافرون في حمص على بعد 15خطوة من البلد ثم يذكر خان آخر في الطريق إلى حماة قرب قرية خربة على تل وهو يعني تلبيسة(2).
__________
(1) -هي قرية أبو همامة التي أعاد بناءها الشركس وسكنوها بعد أن جاء بهم السلطان عبد الحميد.
(2) -بين التراب والتراث- الدكتور عدنان البني-.(1/9)
إن الخراب قد شمل تلبيسة كما شمل غيرها، وإن وجود نوع من السكن في خان يقع بالقرب منها لخدمة القوافل لا يعني وجود سكن فيها، وإن الخان الذي أشار إليه الرحالة الفرنسي بقي قائماً حتى نهاية القرن العشرين، حينما تم توسيع أوتستراد دمشق-حلب وكان يقع ضمن أملاك مختار تلبيسة الحاج سليمان الضاهر وتوارثه بعده أبناؤه وأحفاده.
كيف عادت الحياة إلى تلبيسة
في عام 1720م عُين إسماعيل باشا العظيم حاكماً على المعرة وحماة، وهو فلاح عربي من إحدى قرى معرة النعمان وأصبح ذا نفوذ
واسع، وقد أعطي طوخان بعد تعيينه حاكماً(1).
وقد ازداد نفوذ عائلة العظيم ازديادً واسعاً بعد تعيين سليمان باشا العظم والياً على دمشق، فأعطى لهم حماة وحمص ومعرة العمان ملكخانة، وكان ذلك في عام 1734م, فاصطحب هؤلاء أي: آل العظم معهم أصدقاءهم من آل الجندي الذين استوطنوا معرة النعمان قادمين من إنطاكية، سبق ذلك عندما تسلم ولاية الشام الوزير إسماعيل باشا العظيم عام 1147هـ 1725م, وكان هذا يرتبط بصداقة مع محمد آغا الجندي، فاستدعاه إلى دمشق وعينه محافظاً للحج لفترة زادت على تسع سنوات(2).
وعندما آلت ولاية الشام إلى سليمان باشا العظيم في عام 1734م، وكان محمد أغا الجندي لا يزال محافظاً للحج، وقد تقدم به العمر فعينه والي الشام متسلماً لمدينة حمص، ورئيساً لحكومة قلعة تلبيسة، وقد قام بحمص بأعمال جليلة أهمها جر مياه الساقية إلى حمص 1738م، كما جر الماء في السنة نفسها إلى الجامع النوري الكبير.
__________
(1) الطوخان: ذيلا حصان يعلقان على الراية التي ترفع أمامه في مواكبه الرسمية.
(2) -في رواية ميخائيل بطرس معماري (الشاعر الرقيق الشيخ أمين الجندي) أن الاستدعاء تم في عام 1145هـ والأصح أن الاستدعاء تم في عام 1147هـ.(1/10)
وفي تلبيسة بنى سوراً حول التل، مما دعي لاحقاً بقلعة تلبيسة، وعين الدولة التركية فيها ينكرجية(1)بعلايف وتعايين سلطانية، لأجل تأمين طريق الحج. ونسبه محمد آغا الجندي هو محمد بن أحمد بن ياسين بن إبراهيم الشهير بالجندي، القصيري الأصل المعراوي، ونسبته إلى القصير، قرية من نواحي أنطاكية وجدهم الشيخ أحمد القصيري الولي الشهير(2).
وآل الجندي بنتسبون إلى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ), وقد ثبت نسبهم بموجب الوثيقة المقدمة إلى المحكمة الشرعية بحمص عام 1327هـ-1909م وكما أسلفنا فقد بنيت قلعة تلبيسة في عام 1734م،عام تولي الوزير سليمان باشا العظيم ولاية الشام وفي فترة ولايته الأولى.(3)وقدأعفى محمد آغا الجندي من مهمة الحج الشريف وتم تعيينه متسلماً لمدينة حمص، ورئيساً لحكومة قلعة تلبيسة، وبقي في منصبه رئيساً لحكومة قلعة تلبيسة حتى تاريخ وفاته.
هناك من يرجع بناء قلعة تلبيسة لأسباب تتعلق بحفظ الأمن، فغارات الأعراب على المدن واستفحال أمرهم، مستدلين بمقتل الوزير عبد الرحيم العظيم وقائده في معركةٍ مع البدو, فغارات البدو آنذاك كانت تقض مضاجع الحكومة ناشرةً الفوضى وقاطعةً الطرقات، تسلب وتنهب ثم تفر عائدةً إلى مضاربها في الصحراء، حاملةً معها مغانمها، ومن أجل هذا بنيت قلعة تلبيسة(4).
__________
(1) ينكرجية الانكشارية المشاة.
(2) -سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر محمد خليل المرادي.
(3) تولى الوزير باشا العظيم الوزارة مرتين الأولى عام 1734 وحتى عام 1783م والثانية في عام 1742 وحتى عام 1743-المشرق العربي في العهد العثماني-الدكتور عبد الكريم رافق-.
(4) عبد الفتاح القلعجي مجلة المعرفة العددان 298-299.(1/11)
ولعلّ الكثيرين لا يشاطرونه هذا الرأي, بأن القلعة بنيت لصد هجمات البدو كسببٍ وحيد، وإن كانوا لا ينكرون أن القلعة قد حققت هذا الهدف، ويعللون بأن بناء القلعة قد تم بناءً على طلب آل الجندي حيث استقر قسم منهم في تلبيسة وتملكوا الأراضي الواسعة المحيطة بالقلعة، وتقدر بآلاف الدونمات، وهي من أخصب الأراضي التي تجود فيها جميع المزروعات، وكانت لا تزال بكراً, وإن استثمار تلك الأراضي الواسعة من قبل مزارعين استقدموا من قبل آل الجندي من القرى المحيطة بالمعرة؛ يتطلب إزالة عامل الخوف، والكثير من الأمن والأمان في زمن كانت غارات البدو من أهم أسباب زعزعة الأمن وتعكير صفوه، وإن المزارعين يجب أن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم
حتى يتمكنوا من حراثة الأراضي وزراعتها لتعطي الغلال الوفيرة، وهو الإنتاج
الأكثر أهمية في الاقتصاد ومن أجل ذلك بنيت قلعة تلبيسة(1).
وبعد وفاة محمد آغا الجندي رئيس حكومة قلعة تلبيسة عينت الدولة نجله الأكبر عبد الرزاق الجندي مكانه في رئاسة حكومة قلعة تلبيسةـ وهو شاعر وأديب وهو أيضاً شقيق خالد آغا الجندي؛ والد الشاعر المبدع الشيخ أمين الجندي.
وقد تولى عبد الرزاق الجندي بالإضافة لحكومة قلعة تلبيسة؛ حكومة حمص وحماة لعدة فترات، وذلك لما أبداه من حسن إدارة، وحفظ الأمن في الطرقات وفي سلامة الحج.
وقد امتد نفوذ حكام قلعة تلبيسة ليشمل حمص وحماه شمالاً، وحتى أعماق البادية شرقاً مروراً بالسلمية، يقول محمد غازي حسين آغا:
__________
(1) لا يزال لآل الجندي أملاك زراعية تعتبر من أخصب الأرضي وأفضلها كما أن الكثير من الدور السكنية لا تزال مجلة بأسماء بعض أفراد آل الجندي وأن باب قلعة تلبيسة يقع ضمن العقار-1144- ومسجل باسم محمد سليمان الجندي وهو أحد أحفاد الشاعر المبدع الشيخ أمين الجندي.(1/12)
" وكذلك هو الأمر بالنسبة لطريق حمص حماه حلب، فقد عهدت الدولة العثمانية في حمايته إلى أسرة آل الجندي العباسي، وكان مركزهم في قرية تلبيسة، فشيدوا فيها أسواراً مرتفعة ، وحصنوا قلعتها وجهزوها بما يلزم لذلك، وامتد نفوذهم إلى أبواب حماه، وقد يمتد في حين آخر إلى معرة النعمان، وكذلك في الجانب الشرقي من طريق حمص حماه حتى يصل إلى عمق البادية الشرقية الشمالية مروراً بالسلمية(1)".
__________
(1) -مدينة حمص وأوائل المهندسين في ظل الخلافة العثمانية.(1/13)
ولد عبد الرزاق الجندي حاكم قلعة تلبيسة الثاني في عام 1150هـ/1737م، وهو رجل سياسة وأدب، في عهده كانت غارات البدو على المدن والقرى تكاد لا تتوقف، فتترك وراءها الكثير من الفواجع؛ حيث تهاجم السكان في عقر دارهم، وفي كل الأوقات تنهب وتسلب وتقتل وتأسر، ثم تفر راجعة إلى الصحراء غير آبهة بهيبة الدولة وسلطتها، (ففي عام 1189هـ/1775م كان يتولى حكومة حمص الوزير عبد الرحيم العظم، فجاءه الأمر بالتوجه إلى جهة عرب الحيارى، وهم عرب الموالي المقيمون شرقي تلبيسة، وفي أطرافها، فتوجه الوزير العظم يرافقه حاكم قلعة تلبيسة عبد الرزاق الجندي، وذهب معهم شرذمة من العساكر، فلما بلغوا الأعراب، وكانوا قد علموا بمجيئهم واستعدوا لهم، وقع بينهم الحرب ولم يصدر من طرفهم نصر بالتقدير الإلهي، فاستمر الأمر مقدار نصف ساعة، إلا وأخذتهم العرب وشلحوهم جميعاً(1)، وبقي عبد الرزاق الجندي وحاكم حمص عبد الرحيم العظم غير مستورة أجسادهم، ثم جاء رجل من العرب وضرب عبد الرزاق الجندي برمح في رقبته فقتله، ومسكوا حاكم حمص ثم أخذوا عبد الرزاق الجندي محمولاً إلى حمص؛ ودفن في تربة مقام سيدنا خالد بن الوليد، وبعد ذلك ضبطت الدولة وبأمرٍ منها أمواله وكتبه وبيعت حوائجه، ثم بعد ذلك وجهت الدولة التهمة لأولاده، ثم جاؤوا إلى دمشق وفرغوا الحاكمية لأخي عبد الرزاق الجندي، وهو الآن حاكم تلك القلعة)(2)،
__________
(1) -شلحوهم: لا تعني سلبهم أموالهم وأسلحتهم فقط، وإنما أخذ ألبستهم وتركهم عراة تماماً-رحلة فتح الله الصايغ الحلبي.
(2) -سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر –محمد خليل المرادي..(1/14)
وهكذا عين خالد آغا الجندي حاكماً لقلعة تلبيسة بعد أبيه وأخيه وهو والد الشاعر الشيخ أمين الجندي الذي عاش ردحاً من طفولته في قلعة تلبيسة، وكان لا ينقطع عن زيارته لها والإقامة فيها في أثناء حياة والده وبعد وفاته، ويحفظ أهالي تلبيسة المعمرون بعض أقواله وأشعاره، ومن ذلك:" كل الناس حسابهم على الله ما عدا أهل تلبيسة فإن حسابهم على بعضهم بعضاً" لقد عاش بين ظهرانيهم وخبر عاداتهم وأحوالهم، وعقد صداقات مع بعضهم، فهو مواطن في تلبيسة، كما أن أجداده مواطنين في معرة النعمان، وعندما هجا السلطان محمود الثاني عرض حمايته على أهل تلبيسة فتلكؤوا في الاستجابة له، فاتجه إلى المعرة موطن أجداده فتلقى نفس الجواب، ولكن حماة منحته الحماية وأجارته، لذلك نراه يمدح آل الغوث الكبير والقطب الخطير عبد القادر الجيلاني –قدس الله سره –ويهجو تلبيسة ومعرة النعمان حيث يقول:
يا آل عبد القادر الجيلاني ... يا أبحر الأفضال والعرفان
أسفاً على ذات العواصم لا على ... تلبيسة ومعرة النعمان
يمم حماة الشام إن رياضه ... خفاقة الأفياء والأفنان
ج
فالمديح الصريح لحماة ولآل الجيلاني، والهجاء المر لتلبيسة ومعرة النعمان.
وعندما هجا الأتراك في عام 1831م بعد الانتصارات الساحقة للجيش المصري على الجيش العثماني ووصوله إلى الأناضول، وتقهقر الجيش العثماني بقيادة حسين باشا، قال الشاعر الجندي:
هذا ولما فاض جور الترك في ... ظلم العباد وصار أمراً مشكلا
وتظاهرت أعمالهم بمقاصد ... ومظالم وحوادث لم تقبلا
سلبوا البلاد من العباد فلا ترى ... في حكمهم ذا نعمة متمولا
والملك ملك الله يؤتيه لمن ... قد شاء لا بالوراثة والولا
من يخبر الأتراك أن جيوشهم ... هزمت وأن حسينهم ولّى إلى
ج
فألقي القبض عليه في تلبيسة، وما زالت الغرفة التي أوقف فيها قائمة إلى الآن.(1/15)
وهكذا نقلت إلينا المصادر أسماء ثلاثة فقط من آل الجندي- كما أسلفنا سابقاً- عينوا حكاماً لقلعة تلبيسة، وهم محمد آغا الجندي، وولداه عبد الرزاق وخالد، وبعد ذلك يلف الغموض هذا المنصب، بحيث لم نعد نسمع عن حكومة قلعة تلبيسة شيئاً، ولا نملك ما يثبت أو ينفي استمرار هذه الحكومة أو إلغاءها.
مدخل القلعة ويرى إلى الشمال مدخل مخفر الحرس زمن العثمانيين حيث أوقف فيه الشيخ أمين الجندي
وهكذا نرى أن الحياة عادت إلى تلبيسة من جديد بعد انتقال آل الجندي إليها مصطحبين معهم بعض المزارعين من قرى المعرة، وهم أجداد التلاويين الحاليين وفدوا إلى تلبيسة مشكلين الهجرة الأولى وهي نواة السكان الحاليين في تلبيسة.
ومن استعراض دور السكن ضمن سور القلعة وخارجه، وفي سفحه وما احتفظ به المعمرون من أخبار؛ نستطيع أن نتبين ملامح المهاجرين الأوائل وهم بدون استثناء من منطقة المعرة الذين سكنوا داخل السور لأول مرة, ونبيّن أسماء الأسر الأوائل التي سكنت داخل السور حسب التسلسل الأبجدي:(1/16)
بحْوَرتي (الرفاعي), بدير, بجقة, تعومي, جندي, جمعة لطوف, دقة, رابعة, صباغ, طه, عويجان, عرعور, الشيخ عيسى الهندي, قيسون, المجول, مروان, نعمة,وخارج سور القلعة: بركات, جراد, مدور, كريّم ، النجار، كريم البستاني, ثم امتد السكن إلى السفوح من الغرب والجنوب، وأول من سكنها الشيخ حمود, ضاهر, كوزو, ضحيك, مصري, زبط, الشيخ فنجان, ناصر, رضوان، وكانت كل أسرة تتمثل بعدد قليل من الأفراد ولها دار سكن واحدة، وأما أول من سكن خارج القلعة تماماً، فهو الضرير الشيخ محمد الجنيدي، وذلك عام 1253هـ-1819م، وكان قد وفد إلى تلبيسة من قرى حلب، فأحبّه السكان وبنوا له خارج في السور قبة كالقباب التي يسكنونها، وكان المكان أحد بيادر تلبيسة، وكان هذا الشيخ يتبع الطريقة الجنيدية، وهي طريقة ليس لها أتباع في محافظة حمص، فكان أهل تلبيسة يحضرون معه حلقات الذكر، وفي العيدين كان هذا الشيخ يحمل السنجق، وهي الراية الكبيرة رمز الجنيدية؛ يطوف بها حول القلعة ويطوف معه الأهالي.
وكان أحد سكان حمص ويدعى خضر عكاش، وكان يعمل نعالاً، وكان في كل عام يقيم في تلبيسة ويقدم خدماته للفلاحين مقابل كسب معيشته، فأخذ الطريقة الجنيدية عن الشيخ محمد الجنيدي الضرير، وقد أقنع خضر هذا الشيخ بالنزول إلى حمص بالسيارة (السنجق) لحضور يوم خميس المشايخ، فما زال يلح عليه حتى قبل النزول يوم الأربعاء
وسار يوم الخميس في سنجقه خلف بني جندل، هذا الشيخ عاش ومات ودفن في قبته التي القبة التي دفن فيها الشيخ محمد جنيدي ومازال ضريحه يزار للتبرك
بناها له أهالي تلبيسة.
أعقب هذا الشيخ بابنه سليمان الذي أعقب محمداً وأحمد, توفي سليمان بالتل ودفن فيه ومحمد توفي بحمص، وأما أحمد فقد سافر أثناء التجمع ولم يعد, ولا يزال أولادهم موجودين في تلبيسة(1).
وهكذا أخذت تلبيسة تتوسع عمرانياً إلى خارج السور، ثم على السفوح
__________
(1) مسامرة الجليس أخبار يوم الخميس, مخطوط الشيخ.(1/17)
ثم خارج القلعة من جهتيها الشرق والجنوب،
وكان الجميع يؤدون صلواتهم في جامع القلعة؛ الذي بني بالقرب من دار حكومة قلعة تلبيسة عام 1760م، ولا يزال قائماً تقام فيه الصلوات الخمس.
ثم توسع السكن حول دار الشيخ الضرير محمد الجنيدي فبني
جامع الساحة، وفي وقت لاحق بني الجامع الشمالي شرقي القلعة في حي آل طه، ثم بني جامع الضواهرة جنوبي القلعة، وعندما تكاثرت الأسر كانت
دار حكومة قلعة تلبيسة البناء الأقدم في تلبيسة
تختار لها مكاناً تتجمع فيه، ولم يكن هذا المكان خالصاً لها أبداً، ولا تجد حرجاً في تسرب غيرها للسكن في حيها، ولا تجد في تلبيسة حياً يقتصر على أسرة واحدة، وكانت صلاة العيدين والجمعة تقام في جامع القلعة حتى منتصف القرن العشرين، بينما تقام بقية الصلوات في بقية الجوامع. وإذا كانت تلبيسة تنفرد باتباع الطريقة الجنيدية حيث لا تجد هذه الطريقة إقبالاً في مكان آخر في المحافظة، فقد انتشرت الطريقة النقشبندية في تلبيسة انتشاراً واسعاً بين العلماء وعامة الناس، وكان الشيخ سليم خلف –رحمه الله تعالى- يزور تلبيسة بانتظام ليجتمع بأتباعه وتلامذته ومريديه فيها، وهم كثيرون منهم الشيخ عبد الرزاق طه المعروف بالشيخ عبود، والشيخ محمد الزين السراقبي.
وكان الشيخ سليم خلف يقول:" عندي تلميذان ونصف" يقصد بذلك الخليفة الشيخ عبد اللطيف قيسون الشهير بالتلاوي، والشيخ سليم صافي، والمتصوفة الشهيرة التي كانت شمس عصرها، المعروفة بأم محمد التلاوية، واسمها( فاطمة النعسان) ، فمن هي هذه المتصوفة الشهيرة؟
أم محمد التلاوية من أشهر المتصوفات على مستوى القطر كله في عصرها، وقد انتشرت قدودها وأناشيدها وقصائدها ومواويلها من دمشق حتى حلب(1).
وقد جمعت بعض هذه الأناشيد جامع القلعة الجامع الأقدم في تلبيسة
__________
(1) -حمص دراسة وثائقية –محمود عمر السباعي –نعيم الزهراوي.(1/18)
الدينية من قبل أحد المهتمين منذ عام 1347هـ/1928م، وطبع هذا المخطوط في عام 1973م وأصبح المرجع الوحيد للمهتمين بالأناشيد الصوفية.
ومن أشهر قدود هذه المتصوفة القد الذي نظمته من مقام الصّبا ومطلعه:
يا عزولي كف اللوم ... لم تدري بحالي اليوم
ومنه:
وتشهد بهجة لمعت ... ومن ذاك الحمى طلعت
وليت الروح لا رجعت ... وتبقى في حماهم دوم
ج
وكان هذا القد ينشد في حلقات الذكر النقشبندية من شمالي سورية إلى جنوبها، كما كان يغنى في سهرات السمر، ومما يدل على اعتناقها الطريقة النقشبندية قولها من قد أوف:
آه حبك في البرايا محاني ... ونار عشقك أشعلت جواني
ومنه:
من بحر أحمد تشرب الندامى ... هاموا وصفوا في الدجى أقداما
بالله يا أهل العشق والغرام ... هل زار طيف النوم لأجفاني
كذا سليم القلب لا تنساه ... حقاً وصدقاً كلنا نهواه
إن كنت تسلك يا أخي مسراه ... حارب لنفسك تحظَ بالرضوان
يا داخلين الحان يا ساداتي ... يا شاربين الخمر في الكاسات
فنيت عن رسمي وأيضاً ذاتي ... لمّا تجلّى الواحد الدّيّان
ج
وقد بلغ عدد القدود التي جمعها المرحوم رشيد التادفي من نظم أم محمد التلاوية ثمانية قدود(1).
__________
(1) -مجموعة قصائد ونشائد نبوية صوفية جامعها رشيد راشد التادفي –مطبوع عام 1973م.(1/19)
وكانت تلبيسة تشهد الكثير من حلقات الذكر الخاصة بالنساء، وكانت هذه الجلسات تنعقد يوم الخميس ليلة الجمعة، وكانت تدير هذه الحلقات ثلاث نسوة شهيرات، كن إضافة إلى ذلك يقمن بتعليم القرآن وأصول الكتابة والحساب في بيوتهن في أوائل القرن العشرين في وقت تفشت فيه الأمية بين الرجال والنساء، هؤلاء النسوة هن: الشيخة حمدة اليحيى، والشيخة آمنة الشيخ حمود، والشيخة خديجة العبد اللطيف، إضافة إلى الكتّاب التي يقوم على إدارتها الشيوخ لتعليم الصبيان بينهم عبد اللطيف محمد العبد اللطيف، والشيخ سليم عبد الرزاق طه، والشيخ محمد محمد السعيد، والشيخ خالد الشيخ حمود، والشيخ أحمد العبد اللطيف وغيرهم، وكان الصّبي يقدم لشيخه إكرامية( تنينية وخميسية) ، وهي عبارة عن رغيف من الخبز يجيء به
الصبي به يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع.
تلبيسة العصر
ليس لدينا أية وثيقة تبين العدد الحقيقي لسكان تلبيسة قبل عام 1922 م، تاريخ إجراء الإحصاء الأول للسكان في نيسان، وتمت مقارنته مع السجل العثماني بحضور المخاتير والأئمة، وتم تثبيت نتيجة الإحصاء على النحو التالي:
عدد الذكور: 906
عدد الإناث: 897
المجموع العام: 1803
وقد وقع على نتيجة الإحصاء مختار تلبيسة الأول الحاج شحود طه، والمختار الثاني الحاج سليمان الضاهر، وإمام تلبيسة الأول: مصطفى الناصر، والإمام الثاني محمد سالم، والأعضاء نعسان مرعي، وجنيد بكور.
ولو أجرينا مقارنة بين عدد سكان تلبيسة وغيرها من قرى محافظة حمص، لتبين لنا أن عدد سكان تلبيسة هو الأكبر بين جميع التجمعات السكانية الريفية في المحافظة، فعدد سكان الرستن 1352، والغنطو 505، والزعفرانة 250، والقريتين 1570، والقصير 1708، مع الإشارة إلى أن تلبيسة قرية، بينما الرستن ناحية، وأن القريتين قائم مقام (منطقة)، كما أن مساحة الأراضي الزراعية التي تعود ملكيتها لمزارعي تلبيسة هي الأكبر أيضاً حيث تبلغ مئة فدان.(1/20)
وقد تعرض سكان تلبيسة خلال النصف الأول من القرن الماضي لأوبئة وجوائح سببت خسائر كبيرة في الأرواح، أهمها الملاريا التي كانت تحصد أرواح الناس بلا رحمة مما أدى إلى وفيات مرتفعة جداً، وظلت تلبيسة على رغم ذلك قرية كبيرة، بل هي الأكبر في المحافظة، ولم تصبح مركز ناحية إلاّ بعد زيارة الرئيس الخالد حافظ الأسد لها في عام 1971م، حيث وعد مستقبليه بإحداث مركز ناحية فيها، وقد وفى بما وعد وصدر القرار رقم 5/ن تاريخ
19/1/1972م عن وزارة الداخلية بإحداث مركز الناحية فيها.
وقد دخل التعليم الرسمي إلى تلبيسة منذ عام 1928 عندما تم إحداث مدرسة ابتدائية تستوعب ثلاثة صفوف، ولم تستكمل صفوفها الخمسة إلا في عام 1951م، وعندما قامت ثورة آذار المجيدة كان فيها مدرستان ابتدائيتان وإعدادية خاصة، أما الآن فيبلغ عدد المدارس في مرحلة التعليم الأساسي في الحلقتين الأولى والثانية بحدود اثنتي عشرة مدرسة، وثلاث مدارس ثانوية عامة اثنتان للإناث، وواحدة للذكور، وثانوية للتعليم المهني. وبينما كان عدد طلاب الصف الخامس الابتدائي في عام 1954م سبعة طلاب، نجح منهم أربعة في الامتحان النهائي، بينما ينوف عدد الطلاب الآن عن عشرة آلاف طالب في تلبيسة وحدها، وأول طالب حصل على الشهادة الابتدائية هو عبد الرحمن سليم طه عام 1947م، بينما يبلغ عدد من يحمل شهادة الدكتوراة في جميع الفروع فيها الآن العشرات، منهم عدد من أساتذة الجامعات السورية.
وفي تلبيسة الآن مركز ثقافي أحدث في عام 1995م،ويقوم بممارسة نشاطه في نشر الثقافة عن طريق المحاضرات، وتنظيم الندوات،واستقبال الدارسين والمهتمين بالمراجع والكتب العلمية،وتقوم وزارة الثقافة ببناء مركز ثقافي ضخم فيها تبلغ كلفته أكثر من 40 مليون ليرة سورية، وسيتم تسلم البناء في نهاية هذا العام.(1/21)
ويوجد في تلبيسة ما يزيد على خمسة عشر مسجداً تزينها مآذن رشيقة، كما أُحدث فيها مركز صحي في عام 1959م يقدم خدماته الصحية لجميع المواطنين، وتم إحداث مركز للتوليد الطبيعي فيها مؤخراً يقدم خدماته على مدار اليوم، ويوجد فيها أيضاً فرع لجمعية البر والخدمات الاجتماعية يقدم خدماته الصحية والاجتماعية للمواطنين، وقد حاز على رضا جميع المواطنين.
وقد تم إحداث بلدية في تلبيسة منذ عام 1939م، وتعتبر من أقدم البلديات المحدثة في ريف المحافظة، وقامت في بداية تأسيسها بتقديم الخدمات للمواطنين من رصف الشوارع بالحجارة، وإنارة شوارعها بمصابيح الكاز، وقد شملها قانون الإدارة المحلية، وجرت فيها أول انتخابات في عام 1983م، وفي عام 1987م تم إطلاق اسم مدينة عليها بموجب المرسوم رقم 9 تاريخ 19/2/1987م.
تحتل مدينة تلبيسة المرتبة الرابعة في قائمة مدن محافظة حمص يعد تدمر والقصير والرستن، ويزيد عدد سكانها عن 40 ألف نسمة، وتبلغ موازنتها لعام 2006 حوالي 20 مليون ليرة سورية تنفق على مشاريع الطرق والصرف الصحي، ويتألف مجلس المدينة من عشرين عضواً، يرأسهم أحد الأعضاء المشهود له بالكفاءة، ويسهرون جميعاً على راحة المواطنين، وتأمين الخدمات الضرورية يساعدهم في ذلك خمسة مخاتير موزعين على أحيائها الخمسة.
مصادر ومراجع البحث
1- سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر –محمد خليل المرادي.
2- مسامرة الجليس في أخبار الخميس-سعد الدين الجيباوي.
3- تاريخ الشرق العربي في العهد العثماني-د عبد الكريم رافق.
4- جولة أثرية في البلاد الشامية-أحمد وصفي زكريا.
5- حمص العصر والتاريخ-أيوب سعدية.
6- دراسة وثائقية-محمود السباعي ونعيم الزهراوي
7- ربوع محافظة حمص-د.عماد الموصلي
8- أسر حمص وأماكن العبادة ج3-نعيم الزهراوي
9- بين التراب والتراث-د. عدنان البني
10- إيبلا الصخرة البيضاء-تعريب قاسم طوير(1/22)
11- معجم المواقع الأثرية السورية-مخطوط-د. قتيبة الشهابي.
12- ندوة حمص التاريخية الأولى-د. ماجد الموصلي.
13- مدينة حمص وأوائل المهندسين في ظل الخلافة العثمانية-محمد غازي حسن آغا.
14- مجموعة قصائد ونشائد نبوية صوفية-رشيد راشد التادفي.
15- النكهة السريانية في أسماء القرى السورية-جوزيف أسمر.
16- مجلة المعرفة العددان 298-299 –مقال عبد الفتاح قلعجي.
17- مجموعة أعداد من صحيفة العروبة.
18- رحلة فتح الله الصايغ الحلبي في القرن التاسع عشر.
19- مجلة الطليعة 1948.(1/23)
نحو نظرة جديدة
لتاريخنا العربي القديم
المرحوم الأستاذ
محمود عمر السباعي
إذا ألقينا نظرة على مصور طبيعي لشمال إفريقية وجنوب غرب آسية, نرى شريطاً صحراويّاً يمتد من شواطئ موريتانيا, على المحيط الأطلسي, ويخترق شمال إفريقية من الغرب إلى الشرق مشكلاً الصحراء الإفريقية الكبرى, التي تشكل مصر جزءاً منها لولا النيل الذي وهبها الحياة, فمصر هبة النيل, كما قال هيرودوت, ثم يستمر الشريط الصحراوي في شبه الجزيرة العربية وبادية الشام حتى تحتضنه جبال زاغروس ومياه الخليج العربي في شرقه.
على هذا الامتداد من شواطئ إفريقية الشمالية المطلة على المحيط الأطلسي غرباً وحتى جبال /زاغروس/ والخليج العربي شرقاً, تكوّن الوطن العربي طبيعياً وبشرياً يحيط به من الشمال البحر المتوسط في إفريقية, وجبال /طوروس/ في غربي آسية ويحدّه من الجنوب بحر العرب في آسية, والنهايات الجنوبية للصحراء الإفريقية الكبرى.
يقسم العلماء الجيولوجيّون عمر الأرض إلى الأحقاب التالية:
الحقب الأول والحقب الثاني والحقب الثالث والحقب الرابع الذي نعيش فيه ويقسمون الحقب الرابع إلى عصرين: البليوستوسين والعصر الحديث، والعصر الحديث هو الاسم الجيولوجي للآلاف القليلة من السنين التي انقضت منذ نهاية اليليوستوسين.
وهذا الأخير شاهد, بسبب التقلبات المناخية أربعة أدوار للزحف الجليدي غطى فيها الجليد النصف الشمالي من الكرة الأرضية على مساحات واسعة, وبعد انحسار كلّ من تلك الأدوار الجليدية؛ كان يتلوه مرحلة جفاف تدعى /مرحلة ما بين الدورين/ وقد مرت بالكرة الأرضية أربعة مراحل كان متوسط الحرارة في بعضها أعلى مما هو عليه الآن، ونحن نعيش الآن المرحلة الرابعة منها، لذا يعتقد بعض العلماء أنه إذا استمرت الشروط والعوامل المؤثرة على ما هي عليه الآن فإن نهاية المرحلة الرابعة التي نعيشها ستنتهي في غضون خمسين ألف سنة، ويبدأ دور خامس للجليد.(1/1)
ففي أثناء أدوار الجليد كانت المناطق المحصورة بين درجتي عرض /50/شمالاً وجنوباً من خط الاستواء بعيدة عن متناول الجليد، وكان مناخها مطيراً، ولذلك كان الشريط الصحراوي الذي وصفناه آنفاً يمرُّ بفترات متعاقبة من الرطوبة والجفاف بين الخصوبة والقحط، قبل أن يستقر على وضعه الحالي الصحراوي.
نخلص من ذلك كله إلى النتيجة التالية: إن هذا الشريط الصحراوي المذكور لم يكن صحراء في الدور الجليدي الرابع, بل كان مناخه معتدلاً رطباً يتلقى أمطاراً كافية لجعل أراضيه خصبة ممرعة، تُنبت المروج والنباتات البريَّة والأشجار وتعيش فيها الحيوانات المختلفة والإنسان بسبب الجليد الذي غطَّى أوروبا الوسطى وما بدر منها شماليَّ درجة العرض /50/ شمالاً، وعندما أخذ الجليد بالانحسار والتراجع رويداً رويداً؛ بدأ المناخ في هذا الشريط الصحراوي شمال إفريقية وغرب آسية، يميل الجفاف شيئاً فشيئاً، حتى أصبح على ما هو عليه الآن، وأخذ الناس ضمن هذا الشريط يلتجئون إلى مجاري الأنهار، وضفاف الواحات، ليؤمّنوا حياتهم ونشأ نتيجة لذلك نمطان للحياة: حياة الزراعة على ضفاف الواحات والأنهار، وحياة البداوة في البراري والقفار. ولا يزال هذان النظامان قائمين حتى الآن.
أطلق الأوربيون على سكان القسم الغربي من الوطن العربي في إفريقية اسم /بربر/ وهذه كلمة يونانية الأصل أطلقها اليونان على كل الشعوب التي كانت خارج نطاق الحضارة اليونانيّة، بمعنى شعوب غير متحضرة، وانتقلت من اليونان إلى الرومان، وعن طريق لغتهم اللاتينيَّة تسرَّبت إلى اللغات الأوروبيَّة الأخرى.
والأصح من ذلك أن ندعوهم بالاسم الذي يدعون به أنفسهم وهو /أمازيغ/ وهي كلمة في لغتهم تعني /الرجل الحرَّ/(1).
__________
(1) -دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربيّة، المجلّد الرابع مادة /أمزيغ/ ص(411).(1/2)
استقر /الأمازيغ/ في موطنهم شماليّ إفريقية منذ عهد سحيق، وقد ذكرهم المؤرخون والجغرافيون الأوروبيّون بأسماء متعدّدة، فقالوا بأن /النسامون Nassamous والبسبل psylle/ يقطنون برقة وطرابلس الغرب، وأنَّ /الكرمانتس garamantis/ يعيشون عيشة بدويّة في الصحراء، و/الماكبل Malcyles/ و/الماكسي maxis/ على الساحل التونسي، والموسولان والنبوميدييّن في المغرب الشرقي و/الكبتول getules/ على حدود الصحراء والهضاب المرتفعة، ويعيش /المور maures/ في المغرب الأوسط والمغرب الأقصى، وأقدم الأخبار عنهم تلك التي نذكر أن قبيلة /مشوشة/ أغارت على مصر في حكم الأسرة التاسعة عشرة، وأن /المتريك/ أغاروا على مصر قبل مجيء العرب المسلمين(1).
إنَّ تاريخ الأمازيغ، في العصور القديمة، غير واضح وغير مكتمل، والسبب في ذلك أنَّ لهم لغة وليس لهم كتابة خاصة بهم، وبقوا كذلك حتى مجيء العرب المسلمين في أواخر القرن السابع الميلادي فاقتبسوا خطهم وكتبوا به، وقبل ذلك "بقيت لهجاتهم لهجات محليَّة يُتكلم بها ولكن لا تكتب"(2).
وعلى كلٍّ فيمكن أن نلاحظ أنّ هناك حادثين هامين في العصور القديمة: الأول منهما مجيء الفينيقيين من الشرق عن طريق البحر المتوسط، وكانوا يتكلمون لغة هي من المجموعة التي تنتمي إليها لغة الأمازيغ، ويبدو أنَّ هذا العامل جعل الأمازيغ يرحبون بهم ويتعاملون معهم بكل أمانة وصدق مما ساعد قرطاجة، التي بناها الفينيقيون قرب تونس الحاليّة"، على الازدهار ازدهاراً رائعاً في القرن السادس ق.م، "وامتدت حدودها من حدود"
"ليبية إلى أعمدة /هيركوبوليس: أي مضيق جبل طارق حالياً وضمت جزر الباليار"
"ومالطة وسردينية وبعض المواقع على إسبانيا والغال، وأدى ذلك التوسع إلى نزاعها"
"مع رومة الآخذة بالظهور، حتى قيل للرومان بأنَّه لا يمكنهم غسل أيديهم في مياه"
__________
(1) - المصدر نفسه.
(2) - روم لاندو: تاريخ المغرب، ترجمة الدكتور نقولا زبادة ص/105/.(1/3)
"البحر المتوسط بدون إذن قرطاجة "(1).
إنَّ الذين قضوا على قرطاجة واستأصلوا شأفتها وأحرقوا أرضها،
ليسوا الأمازيغ بل الرومان القابعين على الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط، والذين دامت حروبهم مع قرطاجة من /218-146/ق.م تلك الحروب المعروفة بالحروب البونيَّة والتي انتهت بانتصار الرومان وحرق قرطاجة التي تُركت طعمة للنيران لمدة سبعة عشر يوماً حتى أخفت موقعها كومة من الرماد، ثم أعملوا المحراث فيها ولعنوا أرضها إلى الأبد.
إنَّ مثل تلك القسوة وذاك الكره لا يصدر إلا من الأجانب، لقد كان الرومان أجانب عن إفريقية، أمَّا القرطاجيون فلم يكونوا أجانب عن /الأمازيغ/ الذين كانوا يحيطون بهم، والذين كانوا يعاملونهم بكل أمانة وصدق منذ القرن الثامن ق.م، وكانت هذه المعاملة مع الأمازيغ مظهراً من مظاهر ازدهار قرطاجة حتى نهايتها على يد الرومان.
لقد احتل الرومان شمالي إفريقية، ولكن ذهبوا وحل مكانهم العرب
المسلمون؛ الذين جاؤوا بعدهم فلا يزال وجودهم الحضاري قائماً منذ أربعة
عشر قرناً حتى الآن!!!
أليس في ذلك ملاحظة يجدر التأمل فيها واستخلاص النتائج منها؟؟؟
__________
(1) - فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين: جـ(1) ص 116.(1/4)
أمَّا القسم الشرقيّ من الوطن العربي فقد مرَّ بالظروف المناخيَّة التي مرَّ بها القسم الغربيّ؛ من حيث الخصوبة والجفاف، ففي أواخر الدور الجليدي الرابع الذي كانت فيه معظم النواحي الأوروبية وشمالي آسية، تغطي أراضيها الثلوج؛ كانت جزيرة العرب ذات جو معتدل وأمطار غزيرة وأشجار وزروع، وكانت هضبة إيران تكسوها الثلوج التي تحول دون تكوين مواطن صالحة للأحياء، وكانت الوديان الكبرى في الجزيرة العربية، وهي وادي العيون ووادي الرُّمة ووادي الدواسر ووادي السرحان، أنهاراً تطفح بالماء المنحدر من المرتفعات والجبال التي تغذيها. ثم أخذ الجو يتغير في شبه الجزيرة العربية، بانحسار الجليد، ففقد رطوبته وسارت الجزيرة العربيّة بصورة مستمرة وبطيئة نحو الجفاف؛ منذ أكثر من /14/ ألف سنة، وغاضت تلك الأنهار الفياضة؛ وتحولت إلى وديان جافة واستحالت مروجها الفيحاء إلى صحارى قاحلة.
كان أول من قال بتغير مناخ الجزيرة العربية المستشرق الإيطالي كابتاني caetani "1869-1926" الذي لفت أنظار العلماء إلى هذه الظاهرة المهمة، ظاهرة التغير الذي طرأ على مُناخ جزيرة العرب، والجفاف الذي حل َّ بها انحسار الدور الجليدي الرابع(1).
__________
(1) - جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام جـ(1) ص159.(1/5)
لقد لاقت نظرية كابتاني تلك رواجاً بين عدد كبير من المستشرقين، وعدَّها السير /توماس آرنولد/ من أهم النظريات التي اكتشفها المؤرخون الحديثون، بالنسبة للتاريخ العربي، وكان على رأس معارضيها /لويس موزيل alois musil/ إلاَّ أن المكتشفات الحديثة والدراسات التي أجرتها البعثات الأثريَّة في شبه الجزيرة العربيَّة بعد الحرب العالمية الثانية؛ أضفت المزيد من الثقة على نظرية كابتاني. وكان آخرها البعثة البلجيكية التي قامت برحلة علمية إلى السعودية عام 1951م، ولقيت من الحكومة السعودية كل مساعدة وترحيب، وقد انضم إليها مستشار الملك عبد العزيز بن سعود، الحاج عبد الله فيلبي، وهو أحسن من عرف الجزيرة من الأوربيين:" عثرت البعثة على آلاف النقوش في المنطقة الواقعة بين جدّة ونجران بخط الكتابات اليمنية، البدائية والسبئية، واستطاعت دراسة مخطط مدينة نجران حيث قام قديماً الملك اليمني ذو نواس باضطهاد سكانها النصارى والتنكيل بهم، وكشف اسمه الحقيقي بوساطة إحدى المخطوطات التي عثرت عليها وهو/يوسف أسر/ ثم تحركت البعثة من نجران إلى الربع الخالي، فاكتشفت آثار مدن متهدّمة وبعض الكتابات على الصخور وهي في الطريق إلى الرياض(1)".
-استناداً إلى نظرية /كايتاني/ فإن الجفاف الذي أعقب انسحاب الجليد في الدور الرابع، أثر في حياة سكان الجزيرة العربيّة وحيواناتها ونبتاتها، فانقرض ما لم يتمكن من تكييف نفسه مع البيئة، أما الناس الذين كانوا يعيشون في شبه الجزيرة العربية فمنهم من هاجر نحو الهلال الخصيب، ومنهم من تآلف مع تغيرات المناخ الطارئة، فنشأت الحياة البدوية وما فيها من ارتحال طلباً للماء وانتجاعاً للكلأ والمرعى.
أولئك الناس هم الذين أطلق عليهم العلماء الغربيون اسم الساميين، فمن أين أتت تلك التسمية وما مقدار صحتها؟
__________
(1) -أحمد إبراهيم هبّو، تاريخ العرب قبل الإسلام ص 33.(1/6)
في العام/1781م/ كان العالم الألماني شلوتسر /schlozer /يبحث في اللغات العربية والعبرية والسريانية والحبشيّة, فوجدوا وجه الشبه فيما بينها: من حيث الابتداء بالفعل, وطرق الاشتقاق، وتعدد الحروف الحلقية مثل: العين والحاء والهاء والألف, ومن حيث اهتمامها بالأصوات الساكنة ومن حيث الزمن, فالعربية على سبيل المثال ليس فيها إلا صيغتان للزمن هما: الماضي والحاضر أما الأمر فهو في الحاضر, وأما المستقبل فلا صيغة خاصة به، وإنما الحصول على المستقبل فسبق المضارع بالسّين أو سوف, أما في اللغات الأوربية كالفرنسية والانكليزية فهناك صيغ لعشرة أزمنة أو أكثر.
وقد أراد شلوتسر أن يطلق اسماً على مجموعة هذه اللغات فرجع إلى التوراة وانتزع اسم" سام" من الإصحاح العاشر من سفر التكوين، وأطلق على مجموعة اللغات التي كان يدرسها وهي العربية والعبرية والسريالية والحبشية التي كانت معروفة آنذاك، ثم أُضيف إليها لغات الهلال الخصيب القديمة بعد أن حلت رموزها, في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وهي: الأكادية والأشورية, والآمورية والكنعانية أضيف إليها منذ بضع اللغة الإبلائية التي دلت دراسات المختصين على أنها "أصل اللغة الفينيقية التي تسبقها بألف عام"(1).
وعرفت هذه اللغات حسب تسمية /شلوتسر/ باللغات السامية, وأطلق الاسم فيما بعد على الشعوب التي تتكملّها فعرفت بالشعوب السامية, ونحن لا نرضى بهذه التسمية ونجدها غير علميّة للأسباب التالية:
1-لا يمكن أن نعد العهد القديم من الكتاب المقدس, أي التوراة مصدراً موثوقاً لتاريخ العرب القديم لوجود أخطاء علمية بدأت تكشف عنها الدراسات التاريخية الحديثة، مما دفع كبار المؤرخين المختصين إلى الإشارة إليها.
__________
(1) -س مازونب: مجلة أكلس باللغة الفرنسية عدد تشرين الثاني 1977ص49.(1/7)
فالدكتور فيليب حتي يقول في كتابه "تاريخ سورية ولبنان وفلسطين": "إنه ليتضح أنّ" "الذي كتبه العبرانيون عما سبق الدور القبلي؛ ليس بتاريخ وليس من السهل استخلاص لب الحقائق التاريخية من المرويات التي تتعلق بالدور القبلي نفسه(1)" ويقول أيضاً: "إن التفسير التقليدي المألوف الذي يذهب إلى أن الساميين قد تحدّروا من كبير أبناء نوح" "لا تؤيده الأبحاث العلمية
الحديثة"(2).
ويقول الدكتور أنيس فريحة:"لم يستطع العبرانيون تثبيت أقدامهم شمالي جبل الشيخ فإن /دان/ منطقة الحولة؛ كانت أقصى حدودهم الشماليّة،وقد حاولوا في زمن النبي داود إخضاع آرام دمشق فلم يفلحوا(3)".
في أخبار "الأيام الثاني" يرد في الإصحاح الثامن الآية الرابعة التي تقول عن سليمان "بنى تدمر في البرية". والواقع أن سليمان لم ير "تدمر" ولم تطأ قدماه أرضها, وكانت حدود مملكته في أقصى اتساعها منطقة /دان/ أي الحولة, كما رأينا آنفاً, نال الدكتور عدنان البني شهادة الدكتوراة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة القديس يوسف في بيروت على رسالته /تدمر والتدمريّون/ بإشراف الدكتور نقولا زيادة، بتاريخ 17آذار 1978 ناقشتها لجنة برئاسة الدكتور قسطنطين زريق, وعضوية الأستاذ الدكتور ديمتري برامكي، والأب الدكتور بوتريه, و نال عليها المؤلف مرتبة الشرف الأولى, يرد في الصفحة /68/ من الكتاب "ويرى جونز أن خطأ المؤلف /أخبار الأيام/ بنسبة تأسيسها إلى سليمان يدل على أنها كانت مركزاً هاماً في أيامه في القرن الرابع ق.م على الأرجح(4)".
ولو كان هذا الكلام خطأً لاعترضت عليه لجنة المناقشة!!
__________
(1) -حتيّ: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين ج(1) ص:/192/.
(2) -حتيّ ورقاق: تاريخ العرب مطوّل ج(1) ص:/9/.
(3) -د.أنيس قريحة: أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير, حاشية /49/ من المقدمة.
(4) -د.عدنان البني: تدمر والتدمريون ص/68/.(1/8)
كذلك ترد في بعض الأخطاء الناجمة عن فقدان الحس الزمني لدى كتاب الأسفار.
فقد ورد في الإصحاح العشرين من سفر التكوين الآية "فأرسل بمالك ملك جرار" وأخذ سارة، وإيمالك ليس اسم علم وإنما هو لقب كان يطلق على كل واحد من الملوك الفلسطينيين كفرعون مصر مثلاً: والفلسطينيون كما هو معلوم أتوا فلسطين في القرن الثالث عشر ق.م، بينما إبراهيم يجعل قاموس الكتاب المقدس ظهوره عام /1996/ ق.م "وفقاً للتاريخ الذي حسبه الأسقف آرثر(1)" أي في القرن العشرين ق.م، وبين التاريخين أكثر من سبعمائة سنة!! كذلك يرد اسم /أور الكلدانيين/ في سفر التكوين في الإصحاحات /28,31,51/ ومدينة أور مدينة سومرية تعود إلى الألف الرابع ق.م، والكلدانييون هم الذين قضوا على الإمبراطورية الآشورية؛ وأقاموا دولة بابل الثانية، ومنهم /بختنصّر/ الذي استولى على أورشاليم عاصمة يهوذا، وسبى اليهود إلى بابل عام 597 ق.م، أي بين السومريين وبين الكلدانيين أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
وأحدث الأمثلة جاء من مدينة أريحا:
سفر يشوع سادس أسفار التوراة، وأوّل سفر بعد الأسفار الخمسة المعروفة بأسفار موسى أو البنتاتوك" pentateuque" ، وتهتم الآن إسرائيل بتدريسه من الصف الرابع الابتدائي إلى الصف الثامن في المدارس الثانوية العامة(2)لاحتوائه على وصف دخول بني إسرائيل إلى أرض فلسطين وتوزيع الأرض على الأسباط.
__________
(1) -قاموس الكتاب المقدس ص:/12/.
(2) -روجيه غارودي: إسرائيل الصهيونية السياسية-ترجمة اللواء جبرائيل بيطار ص 77.(1/9)
إن أول مدينة بعد اجتياز الأردن هي (أريحا) ويصف كاتب السفر في الإصحاح السادس حصار المدينة ثم سقوطها بيد يشوع، وكيف كانوا يدورون حولها دورة كاملة في كل يوم، ويتكرر ذلك ستّ مرات في ستة أيام، وفي اليوم السابع سقطت المدينة في أيديهم بعد أن داروا حولها سبع مرات متتالية"" وكان حين سمع الشعب صوت البوق بأن هتف الشعب هتافاً عظيماً، فسقط السور في مكانه وصعد الشعب إلى المدينة، وكل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة، وحَزموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة ومن طفل وشيخ، حتى البقر
والغنم بحدّ السيف(1)".
في العام 1949 م أرسل معهد الآثار البريطاني في القدس بعثة تنقيب برئاسة كاتلين كينون katheleen Kenyon إلى مدينة أريحا لدراسة آثارها وتحديد عمر تلك الآثار؛ باستعمال طريقة جديدة كانت هي أول من أدخلها إلى الشرق الأوسط(2)، هي طريقة الكربون المشع(14) وتعد هذه الطريقة من أدق الطرق التي استعملت حتى الآن، وانتهت البعثة إلى النتيجة التالية:" إن أريحا قد دمّرت في القرن الرابع عشر ق.م" ، أي كانت مقفرة في الوقت الذي قال فيه يشوع إنه احتلها(3)على الصورة الواردة في سفره.
__________
(1) -يشوع: 6، 20-21.
(2) -الحوليات الأثرية-المجلد الثالث والثلاثون، ج2 تقرير السيد بيتر بار peter parفي اللغة الانكليزية عن مشروع تل النبي مند ص804 the tell nabi mand projection p104 )).
(3) -روجيه غارودي: المصدر المذكور سابقاً ص 77.(1/10)
4- وجود تناقض في الرواية الواحدة بين سفرين، فمثلاً إن سفر القضاة يناقض ما ذكره سفر يشوع من الدخول إلى أرض كنعان قبله، بعكس الصورة التي رأيناها في سفر يشوع، بأن القبائل الموحدة، في دولة واحدة، تحت إمرة قائد واحد، دخلت أرض كنعان وقضت على السكان كافة المتواجدين على طريق تقدمها، ويورد سفر القضاة سيرة عمليات تسلل بطيئة يغلب عليها طابع المسالمة في معظم الأحيان، فقد ورد في سفر القضاة" وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وخربوها بحد السيف، وأشعلوا المدينة بالنار(1)" وفي الآية 21 من السفر نفسه" وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم، فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم".
إن النص التوراتي الموجود بين أيدي الناس، ليس نص موسى من حيث زمن الكتابة ، فالتوراة بدئ بتدوينها بعد السبي البابلي،ويروي لنا صاحب قصة الحضارة كيفية البدء بتدوينها على النحو التالي:
" لم يكن في وسع اليهود بعد عودتهم أن يقيموا لهم دولة حربيّة، ذلك أنهم لم يكن لهم من العدد ومن الثروة ما يمكنهم من إقامة هذه الدولة، ولما كانوا في حاجة إلى نوع من الإدارة يعترفون فيه بسيادة الفرس عليهم؛ ويهيئ لهم في الوقت نفسه سبيل الوحدة القومية والنظام، فقد تسرع الكهنة في وضع قواعد حكم ديني يقوم كما كان يقوم ملكهم /لاشيا/ على المأثور من أقوال الكهنة وتقاليدهم وعلى أوامر الله, وفي عام /444/ق.م دعا عزرا، وهو كاهن عالم, اليهود إلى اجتماع خطير, وشرع يقرأ عليهم من مطلع النهار إلى منتصفه "سفر شريعة موسى، وظل هو وزملاؤه اللاويون سبعة أيام كاملة يقرؤون عليهم ما تختزنه لغات هذا السفر(2)".
__________
(1) -قضاة: 1/8.
(2) -ويل الورانت: قصة الحضارة الترجمة العربية ج/4/ ص:366(1/11)
هكذا كانت بداية تدوين التوراة بعد السبي, وبين هذه البداية وبين موسى ثمانية قرون, لقد بدأ الكهان بتدوينها دون وجود حق سابق يعتمد عليه، بل تركوا العنان لأفكارهم ومخيلاتهم، تصف الحوادث وتؤلفها حسب أهوائهم، وهذا هو سبب الأخطاء والتناقضات التي أشرنا إليها.
لهذا كله لا يمكن أن نعد العهد مصدراً موثوقاً لتاريخ العرب القديم، وبالتالي التسمية التي اعتمدها شلوتسر وأطلقها المستشرقون على الشعوب القديمة التي سكنت الهلال الخصيب، وهي الشعوب الساميّة، فماذا ندعو تلك الشعوب إذاً؟؟؟.
اعتمد شلوتسر في تسميته /الساميين/ على القرابة، ولدينا من المسوغات أكثر مما كان لدى /شلوتسر/ بأن ندعوهم /العرب القدماء/ لوحدة لأصل أولاً والقرابة اللغوية ثانياً، وقدم العرب ثالثاً،فأما وحدة الأصل والمنشأ: فنعني بها أن أجداد هؤلاء العرب القدماء كانوا يقيمون أولاً في شبه الجزيرة العربية؛ وفي المناطق الداخلية منها عندما ما كان مناخها لطيفاً وسماؤها مطيرة، تُنبت الأعشاب والأشجار على الصورة التي ذكرها في مطلع هذا البحث، ثم تغير المناخ وأخذ يميل نحو الجفاف شيئاً فشيئاً حتى غاضت الأنهار وتحولت إلى وديان جافة تحمل ضفافها آثار تلك الحياة.
أن /كايتاني caitani/ أول من لفت أنظار العلماء إلى هذه الظاهرة المهمة, ظاهرة التغير الذي طرأ على جو البلاد في الجزيرة العربية والجفاف الذي بدأ يحل بها في أواخر الدور الجليدي الأخير، ففقد الجو فيها رطوبته؛ وسارت بصورة مستمرة وبطيئة نحو الجفاف منذ أكثر من أربعة عشر ألف سنة, فأثر ذلك بالطبع, في حياة سكانها وحيواناتها ونباتاتها فانقرض ما لم يتمكن من تكييف نفسه مع المحيط, وظهر نمط الحياة اليدوية الذي أدى بعد ذلك إلى حدوث هجرات من داخل الجزيرة العربية نحو أطراف الهلال الخصيب، كلما ضاقت الجزيرة بسكانها(1).
__________
(1) -جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام ج(1) ص:/163/.(1/12)
وقد قسم كيتاني شبه جزيرة العرب إلى قسمين, قسماً غربياً، وهو الممتد من فلسطين إلى اليمن وينتهي ببحر العرب، وتكون حدوده الشرقية السراة والغربية البحر الأحمر وباب المندب, وقسماً شرقياً وهو ما وقع شرقي السراة إلى الخليج العربي, وقد ظهر الجفاف على رأيه في القسم الشرقي قبل الغربي، ولهذا صار سكانه يهاجرون منه بالتدريج إلى مواطن جديدة وتكون صالحة للاستيطان مثل العراق والشام، كما صار سبباً لظهور الصحارى الشاسعة في هذا القسم بصورة لا نعهدها في القسم الغربي(1)".
إذن من قلب الجزيرة العربية كانت تخرج تلك الهجرات العربية القديمة نحو أطراف الهلال الخصيب في العراق والشام وهي على النحو التالي:
1-هجرة الأكاديين والآشوريين نحو الجزء الشرقي من الهلال الخصيب بدأت منذ /3500/ ق.م، فسكن الآشوريون في القسم الشمالي من العراق، وسكن الأكاديون في القسم الجنوبي، حيث اختلطوا بالسومريين الذين كانوا سبقوهم إلى سكن المنطقة, فأخذوا مهم منهم كتاباتهم المسمارية، وبعض مظاهر حضارتهم ثم أسسوا دولة آكاد في عهد صارغون الأول (2584-2529) التي كانت أول إمبراطورية عربية في التاريخ امتدت من جبال زاغروس حتى البحر المتوسط.
2- هجرة الآموريين إلى القسم الغربي من العراق وبلاد الشام الداخلية /2500/ق.م.
3- هجرة الآراميين إلى القسم الداخلي من بلاد الشام 1500ق.م.
4- هجرة الأنباط إلى جنوب بلاد الشام 500ق.م.
5- هجرة المناذرة والغساسنة إلى جنوبي العراق وجنوبي الشام 150م.
6- هجرة العرب المسلمين في منتصف القرن السابع للميلاد الذين
قضوا على الإمبراطورية الفارسية في الشرق، وقوضوا أركان الإمبراطورية البيزنطية في الغرب.
__________
(1) -جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام ج(1) ص:/163/.(1/13)
فمن الأمثلة على الهجرات في العصور الحديثة هجرة قبيلة كلاب في القرن العاشر الميلادي؛ من نجد نحو شمالي الشام؛ التي دفعت بقبائل عقيل وعنيز وقشير إلى الجزيرة، وهؤلاء دفعوا بقايا تغلب نحو الشمال وأكرهوهم على الدخول ضمن الحدود البيزنطية، حيث تنصروا واستقروا(1).
أما من حيث القراية اللغوية: فكل تلك الأقوام التي ذكرتاها من الأكاديين في القرن الرابع ق.م إلى العرب المسلمين في منتصف القرن السابع بعد الميلاد, كانوا يتكلمون لغات متقاربة من بعضها بعضاً, وتشترك جميعها بالابتداء بالفعل, وبطرق الاشتقاق، وبوجود زمنين فقط لصيغة الفعل, ماض أو حاضر, والاهتمام بالأصوات الساكنة دون أحرف اللين, كما تتشابه في الضمائر؛ وهي طريقة اتصالها بالأسماء والأفعال والحروف، كما يشترك معظمها في المفردات الأساسية المتعلقة بأعضاء الجسم، مثل: رأس, عين, أنف, فم, إذن, سِنْ, يد, وفي أسماء الحيوانات والنباتات (كلب, جمل, حمار, ذئب, قمح, زيتون).
وفي المفردات الدالة على صلات القرابة (أب, أم, أخ, ابن، بعل), وكلها تشير إلى بيئة واحدة عرفتها كل الشعوب العربية القديمة التي ذكرناها(2).
كلُّ ذلك دفع المستشرقين إلى افتراض وجود /لغة أم/ اشتقت منها اللغات الأكاديَّة والآشوريَّة والكنعانيَّة والآراميَّة والنبطيَّة والعربيَّة، ويرى معظم المستشرقين أنَّ اللغة العربية التي نتكلمها الآن هي أقرب اللغات إلى /اللغة الأم/، ويقول فيليب حتيّ: "يجب أن ننظر إلى اللغات الآشوريَّة والأكادية"، "والكنعانيَّة والآراميَّة والعربيَّة الجنوييَّة والحبشيَّة والعربيَّة على أنها لهجات"، "تفرَّعت من لغة
واحدة هي اللغة الأم"(3).
__________
(1) -صبح الأعشى ج(1) 340-343.
(2) -د.أحمد ارحيم هيثم: المدخل إلى اللغة السريانية وآدابها: حلب بدون تاريخ ص/22-25/.
(3) -حتيّ: تاريخ العرب مطول الترجمة العربيّة، جـ(1)، ص:/14/.(1/14)
ويذكر إسرائيل ولفنستون: "أنَّ اللغة العربيَّة تشتمل على عناصر لغوية"
"قديمة جداً بسبب وجودها في مناطق منعزلة عن العالم، بعيدة عما يتوارد"
"عليه من تقلبات وتغيرات يكثر حدوثها وتختلف نتائجها اختلافاً مستمراً"
"في البلدان العمرانيَّة"(1)
ومن هذه العناصر، على سبيل المثال، أداة الاستفهام /مَنْ/ فهي في لغة /إيبلا/ مي IM، وكذلك في الكنعانيَّة والأوغاريتيَّة ولغة ماري ما قبل الصارغونية، أمَّا في الأكاديَّة القديمة فهي /مَنْ/ وكذلك في الآموريَّة، ونجد عنصراً آخر في لغة /إيبلا/ لا يزال في اللغة العربيَّة وهو /كَ ka/، "ويعني في لغة /إيبلا/ /مِثل/ كما في الاسم /مي كا إل/ ka_il_IM/ ومعناه /مَنْ_ مثل_إيل/"(2)وفي اللغة العربية تكون /ك/ حرف جر، وهي أحياناً اسم بمعنى /مثل/ ويعرب الاسم بعدها مجروراً بالإضافة إليها، كما قال المتنبي:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم= ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا
فالكاف هنا بمعنى /مثل/ وتعرب فاعلاً لـ/قَتَلَ/ و/العفوِ/ مجرور بالإضافة إلى الكاف، وهذا الاسم تحوَّل في اليونانيَّة إلى /ميخائيل/، وفي الفرنسية إلى ميشيل echelM، ويلفظ في الإنكليزيَّة ميكائيل /Mechael/، وكلّ صوره في اللغات الأوروبيَّة تعود إلى أصله العربي القديم!!!
"هذه القرابة اللغويَّة بين الشعوب التي تتكلَّم اللغات الأكاديَّة والآشوريَّة" والآموريَّة والكنعانيَّة والآراميَّة والعربيَّة تسوّغ ضمّهم تحت اسم واحد
"ولكنَّها ليست "الرابطة الوحيدة، فإذا ما قارنا مؤسساتهم الاجتماعيَّة وقصائدهم الدينيَّة وصفاتهم"
"النفسية وأوصافهم الطبيعية، انفتحت لنا نواح هامة للتشابه، وعندئذلابدَّ من"
"الاستنتاج أنْ بعض أسلافهم كانوا غالباً يشكلون جماعة واحدة قبل أن تحصل بينهم"
__________
(1) -تاريخ اللغات الساميَّة، ص/7/.
(2) -د. عبد مرعي: بعض الملاحظات حول اللغة الإملائية وقواعدها(دراسات تاريخية)العددان /23،24/، ص:/160/.(1/15)
"هذه الاختلافات، وأنَّ هذه الجماعة كانت تتكلم اللغة نفسها، وتعيش في المكان"
"نفسه"(1). كما يقول فيليب حتيّ.
أمَّا قدم العرب أنفسهم "فإنَّ أول إشارة مدوَّنة في التاريخ إلى موضع معيّن في"
"جزيرة العرب وإلى قوم من العرب ما ذكره /جوديا/ السومري حاكم
مدينة"
"لا غاش نحو /2400/ ق.م، وأنَّه دبَّر حملة على /مغان/ و/ملوخا/ طلباً"
"للتجارة والخشب لبناء هيكله" وهما منطقتان في شرقي الجزيرة العربيَّة.
والإشارة التالية جاءت في كتابة على تمثال من حجر الديوريت لـ/نارام يس/ نحو /2300/ ق.م حفيد صارغون الأول الأكادي وهي تنص على أنَّه "أخضع مغان وغلب سيدها "مالتيوم".
"وأوَّل إشارة ثابتة إلى العرب، هي تلك التي وردت في نقش الملك الآشوري شملنصر"
"الثالث الذي قاد في السنة السادسة لملكه حملة على ملك دمشق الآرامي وحليفيه"
"آخاب ملك إسرائيل، وجندب أحد مشايخ العرب، فاصطدم الجيشان في قرقر شمالي"
"حماة عام /854/ ق.م" وهذا هو نصه:
"قرقر عاصمته الملكيّة، أنا خرَّبتها، أنا دمرّتها، أنا أحرقتها بالنار، 1200 مركبة"
"1200 فارس، /000’20/ جندي لحدد عازر صاحب آرام /دمشق؟/.."
"/1000/ جمل لـ/جندب العربي... هؤلاء الملوك الإثنا عشر الذين استقدمهم لمعونته"
"برزوا إلى المعركة والقتال، تألبوا علي".
ويعلّق فيليب حتي على ذلك بقوله "ومن بديع الاتفاق أن اسم أوّل عربي يسجّله التاريخ جاء مقروناً باسم الجمل"(2)
بعد هذا كلِّه أليس لدينا من المسوغات بإطلاق اسم /اللغات العربيّة
القديمة/ على تلك اللغات التي اشتقت من /اللغة الأم/ أكثر مما كان لدى /شلوتسر/ عندما أطلق عليها اسم /اللغات الساميَّة/ نسبة إلى إنسان يُشكْ بوجوده ؟؟؟
__________
(1) -تاريخ سورية ولبنان وفلسطين،جـ(1)، ص:/67/.
(2) -تاريخ العرب /مطول/ الترجمة العربية، جـ(1)، ص:/43،45/.(1/16)
فنحن في تسميتنا /اللغات العربيَّة القديمة/ نكون أقرب من /شلوتسر/ إلى العقل، وأدنى إلى المنطق، وألصق بالعلم من تسميته تلك، وعندما نطلق على الأقوام التي تكلمت تلك اللغات اسم /الشعوب العربيّة القديمة فإننا نتبع تقليداً عربياً هو تسمية الكل باسم الجزء، وهذا وارد في اللغة العربيّة كما تعلمون: والقبائل الشماليَّة أو العدنانيَّة يطلق عليها أيضاً اسم /القبائل القيسيَّة/ نسبة إلى /قيس/ وهي قبيلة عدنانية.
ولا تنفرد اللغة العربيَّة وحدها بهذا التقليد؛ بل نجده لدى الألمان "فالألمان "ليسوا إلاَّ إحدى القبائل الجرمانية التي تسكن ألمانية حالياً"(1)، ومع ذلك أطلق اسمهم على الدولة كلَّها، بل على الإمبراطوريَّة الألمانيَّة بعد إنشائها /1871/، وبقيت محتفظة بهذا الاسم حتى الآن.
جرت عادة المؤرخين الأوروبييّن على تقسيم العصور التاريخيَّة إلى العصور التالية:
1-العصور القديمة: تمتد من اكتشاف الكتابة /3500/ ق.م إلى 476 سقوط الإمبراطورية الرومانية.
2-العصور الوسطى: من 476إلى 1492 سقوط غرناطة واكتشاف أمريكا.
3- العصور الحديثة: من 1492م حتى الوقت الحاضر.
هذا التقسيم لا ينطبق إلاَّ على تاريخ أوروبة الحالية فقط؛ و لا ينطبق على
تاريخ الصين مثلاً، ولا على تاريخ العالم الجديد في أستراليا والأمريكيتيّن،
ونقترح عوضاً عنه تقسيماً آخر خاصاً بالتاريخ العربي على النحو التالي:
أ-تاريخ العرب القديم 3500ق.م_622م الهجرة النبويَّة إلى يثرب.
ب-تاريخ العرب الوسيط من 622_1516م، بداية الاحتلال العثماني للوطن العربي.
جـ-تاريخ العرب الحديث 1516_1916م قيام الثورة العربيَّة الكبرى.
د-تاريخ العرب المعاصر 1916_حتى الوقت الحاضر.
بهذا التقسيم نكون قد ضممنا تاريخ العرب كلَّه في نظرة وحدوية أصيلة، وبدأنا بانتزاعه من هيمنة الآخرين عليه وتحكمهم به.
__________
(1) - أحمد أرحيم هيثم: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص/14/ الحاشية رقم/1/.(1/17)
والخطوة الأخرى هي تخليصه من الإسرائيليات التي تسربت إليه: فمن المعروف أنَّ الإسرائيليات تغلغلت في الفكر العربي مع ظهور الإسلام ودخول بعض اليهود فيه، فاستغلوا معرفتهم بالتوراة وما سردته من أحداث وقصص تبدأ منذ الخليقة حتى تاريخ كتابتها، لتفسير ما جاء موجزاً في القرآن الكريم من الإشارة إلى بعض القصص القديمة، عن كيفية خلق السماوات والأرض ثم عن كيفية خلق الإنسان، ثم عن تكاثره وتشعبه إلى أمم وقبائل...الخ
وأبرز الأشخاص الذين يعود إليهم أمر توفير المادة الإخبارية من الإسرائيليات ومن عرب ما قبل الإسلام هم كعب الأحبار، وعبيد بن شريَّة، ووهب بن منبه.
فكعب الأحبار هو كعب بن مانع كان قبل الإسلام من كبار علماء اليهود في اليمن، أدرك النبيّ ولم يسلم إلا في زمن أبي بكر، وقدم المدينة في عهد عمر بن الخطاب؛ فأخذ عنه الصحابة وغيرهم من المسلمين كثيراً من أخبار الأمم الماضية، وأخذ هو عنهم علم القرآن والسُّنة، وبعد اغتيال عمر أشارت إليه أصابع الاتهام بالتحريض على قتله، فخرج إلى الشام وسكن
حمص وتوفي فيها، عام /652/ م. عن مائة وأربع سنوات.
ويعدُ كعب الأحياء أوَّل من روّج بشكل كبير للإسرائيليات؛ ما دخل
فكرها وتراثها، ونشره بين المسلمين "وقد أخذ عنه اثنان، هما أكبر من نشر علمه: ابن عباس، وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات، وأبو هريرة ولم يؤثر عنه أنه ألف كما أثر عن وهب بن منبه"(1)، ووهب بن منبّه يجيء من أصل فارسي، وكان من أهل الكتاب الذين أسلموا، وله أخبار كثيرة وقصص تتعلق بأخبار الأول، ومبدأ العالم، وقصص الأنبياء، وكان يقول "قرأت من كتب الله اثنين وسبعين كتاباً"(2)، وتوفي سنة /732/ م بصنعاء.
__________
(1) -أحمد أمين: فجر الإسلام، ص(160، 161).
(2) - أحمد أمين: فجر الإسلام، ص(160، 161).(1/18)
أما عبيد بن شرية الجرهمي فشخص شبه أسطوري تروي المصادر أنه عمّر بضعَ مئات من السنين، وكان في زمن معاوية، وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئاً، وكان في عهد معاوية بن أبي سفيان يسكن الرقة فأرسل إليه معاوية، بمشورة عمرو بن العاص ليحدثه عن أخبار الأمم القديمة، وقد عاش عبيد إلى أيام عبد الملك ابن مروان وينسب إليه كتاب الأمثال(1)".
وقد دخل على العرب المسلمين من هؤلاء وأمثالهم في عقيدتهم وعلمهم كثير كان لهم فيهم أثر غير صالح.
وعند كتابة تاريخ العرب القديم؛ يجب الإصرار على توضيح الأمور التالية:
1-إن مفهوم لفظ العرب يشمل جميع الشعوب التي خرجت من الجزيرة العربية وانساحت على شكل هجرات منذ الأكاديين والآشوريين في القرن الرابع قبل الميلاد، وحتى هجرتهم السادسة في منتصف القرن السابع الميلادي.
2- إبراز المآتي التي قدمها العرب، بهذا المفهوم، إلى الحضارة الإنسانية ، ففي جنوب غربي آسية ومصر قامت ديانات التوحيد، وعلى الشواطئ الشرقية للمتوسط أوجد الفينيقيون اللون الأحمر؛ الذي دفع اليونان إلى تسميتهم /فونيكس/ أي: الأرجوان، أما اسمهم الأصيل فهو كنعانيو الساحل، وهم الذين قدّموا للبشرية النعم الحضارية الثلاث، الكتابة، والأبجدية، والزجاج، والوصول إلى غرب المحيط الأطلسي وغرباً وأوربة، وقد وصف جاك بيرين وصولهم إلى غربي أوربا بقوله:" إن اكتشاف الغرب من قبل الفينيقيين في القرن الحادي عشر ق. م؛ كان بداية عصر جديد في التاريخ القديم، كما كان اكتشاف أمريكا في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي بداية العصور الحديثة في تاريخ أوربة(2)، كما أن الفينيقيين قاموا برحلة حول إفريقية في عهد نجاد الثاني (609-594) ق.م فكانوا أول من دار حول
إفريقية من البشر، وسبقوا فاسكو دوغاما ب/2000/سنة.
__________
(1) -أحمد أمين –فجر الإسلام ص 167.
(2) -gacquis piernne "les grands orients k flistene revivesselle ton 1p. 83(1/19)
وإذا كان الفينيقيون سادة البحر المتوسط في القرن السادس قبل الميلاد؛ فإن الآراميين نشروا لغتهم باعتبارها لغة رسمية في أرجاء إمبراطورية /داريوس الكبير/ 528-486ق.م، وأصبحت الآرامية حتى فتوحات الإسكندر اللغة المتداولة في إمبراطورية تمتد من الهند إلى الحبشة ، وإن مثل هذا الفوز الذي حققته لغة لا تدعمها سلطة إمبراطورية من أهلها ليس له مثيل في التاريخ، وقد تم ذلك بسبب نفوذهم التجاري في المنطقة.
3- أن نرفض تسمية /الساميين/ لأنها دلالة على هيمنة الفكر اليهودي ، ومظهر من مظاهر تسلطه، وقد عمدت وزارة التربية إلى تعديل كتب التاريخ في هذا الاتجاه وذلك في التعديل الأخير للمناهج، وبقي أن تنتقل هذه المبادرة إلى المرحلة الجامعية؛ حتى لا يكون هناك تناقض بين ما يدرسه الطالب من التاريخ القديم في المرحلة الثانوية؛ وبين ما يدرسه بعد ذلك من التاريخ القديم في المرحلة الجامعية، وحتى لا تهدم وزارة التعليم العالي ما أسسته وزارة التربية.
إن تاريخ العرب القديم بهذه النظرة التي عرضناها؛ سلاح فكري هام في مقاومة إدعاءات الصهاينة الذين يبنونها على نظرات /قَبْليْة/ لم تؤيدها البحوث العليّة أو المكتشفات الأثرية, من نص موثوق أو أثر ملموس, والبعض يعمد إلى تزوير قراءاته للنصوص القديمة، وعندما ينشرها لا يشير إلى الرقم المتحفي للأثر أو الرقيم؛ حتى لا يأتي من يفضح كذبه ويصحّح خطأه، ويردّهُ إلى جادة الصواب، كما حدث لنصوص ورقم /ماري/ مع أندره ياروا الذي نصّب من نفسه وصيّاً عليها فراح يفسرها وفق فكره التوراتي, وقد شعر بسوء عمله الكثير من العلماء الأوروبيين فامتنعوا عن دعوته لحضور المؤتمرات الدولية لعدم الثقة به(1).
__________
(1) -تشرين: العدد/4170/ تاريخ 9/5/1988م, ص/3/.(1/20)
من كل ما مر بنا ندرك الأهمية الفائقة بإيجاد جهاز مختص /بتاريخ العرب القديم/ يتقن أعضاؤه اللغات العربية القديمة, وتوضع على عواتقهم قراءة النصوص المكتشفة في بلادنا، ثم كتابة ذلك التاريخ استنادا إليها, وبذلك نخلّص تاريخنا من سيطرة الآخرين عليه وتحكمهم به, وهذه من أجلّ الخدمات التي يمكن أن تقدم لهذا الوطن العربي الحبيب ولهذه الأمة العربية الغالية.
مصادر البحث
آ-العربية:
1- دائرة المعارف الإسلامية: الترجمة العربية المجلد الرابع القاهرة بدون تاريخ.
2- روم لاترو: تاريخ المغرب, ترجمة الدكتور نقولا زيادة, دار الثقافة بيروت1963م.
3-فيليب حتي تاريخ سورية ولبنان وفلسطين جـ(1) ترجمة د.جورج حداد ورفاقه دار الثقافة: بيروت 1958م.
4-جواد علي: بتاريخ العرب فبل الإسلام جـ(1) بغداد 1950.
5-د.أحمد أرحيم هيدا: تاريخ العرب قبل الإسلام ص/33/ منشورات جامعة حلب 1980.
6-حتي ورقاق: تاريخ العرب مطوّل جـ(1) بيروت 1949 دار الكشاف.
7-د.أنيس قريحة: أسماء المدن والقرى اللبنانية, وتعتبر معانيها بيروت 1956.
8-د.عدنان اليتي: تدمر والتدمريون: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد ال: دمشق 1978.
9-قاموس الكتاب المقدس: منشورات مكتبة المشعل بيروت 1981 الطبعة السادسة.
10-روجيه قارودى: إسرائيل الصهيونية السياسية: ترجمة اللواء جبرائيل بيطار دمشق 1984.
11-الكتاب المقدس: المطبعة الإ: بيروت جـ(11) 1904.
12-ويل ديورانت: قصة الحضارة الترجمة العربية جـ(2) القاهرة 1920 الجنة التأليف والترجمة والنشر.
13-صبح الأعشى: أبو العباس احمد بن علي ال: القاهرة1963.
14-د.أحمد رحيم هبو: المدخل إلى اللغة السريانية وآدابها قلعة حلب بدون تاريخ.
15-إسرائيل ولفنستون: تاريخ اللغات السامية: دار القلم-بيروت1980.
16- دراسات تاريخية: العددان (23-24) 1986.
17-أحمد أمين فجر الإسلام: القاهرة /1945/ مكتبة النهضة المصرية.(1/21)
18-صحيفة تشرين العدد /4170/ تاريخ 9/5/1988 تحقيق حول الآثار في حلب ص/3/.
ب-الأجنبية
1-lauroosse encyclopedia of the earth:first edition 1961 paul hamlyn
2-stefonia mazzami :ebla:emprire disfarar defuis 5000 aus aujand for
mbouri :atlas November 1977.(1/22)
شخصية البطل الإسلامي
صلاح الدين الأيوبي في ذكراها الثمانمئة
بقلم الأستاذ: نجيب المعاذ
كانت تحكم المجتمع الإسلامي قبيل ظهور صلاح الدين الأيوبي في القرنين الخامس والسادس الهجريين، الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، قوى مختلفة متناقضة، بل ومتصارعة من أجل البقاء،أو السيطرة على البلاد المجاورة.
ففي مصر كانت الخلافة الفاطمية، وفي بغداد كانت الخلافة العباسية، إضافة إلى المنازعات السياسية والمذهبية بين القوتين، وكانت كل منهما تحمل عوامل ضعفها في نفسها، لما يدور بينها وبين القوى المحلية الأخرى من منازعات.
ففي بغداد مثلاً، كانت الخلافة العباسية تناضل من أجل الإبقاء على كيانها ضد السلاجقة الأتراك، وتخوض حتى عام 555هـ/1160م (يوم فرض أرطغرل سلطته على الخلافة العباسية)، صراعاً عنيفاً حفاظاً على ما بقي من سلطانها، وإحياء لمصالحها المفقودة.
وفي القاهرة عاصمة الخلافة الفاطمية، كان الفاطميون يرون في بلاد الشام امتداداً طبيعياً لمصر، ولهم أن يسيطروا عليها ويضموها لها، في الوقت الذي كانت فيه قوى الصليبيين الفرنجة تنتهز الفرص الملائمة لتوقع بهما ولتؤسس لها ملكاً على أنقاضهما.
في هذه الظروف الصعبة والمعقدة التي سادت البلاد من اختلاف وفرقة وتمزق، توجهت أنظار الصليبيين الفرنجة نحو بلاد الشام لكسب مغانم مختلفة، منها أنهم وجدوا في فلسطين مركزاً هاماً لتحقيق المكاسب: منها دينية، ففلسطين تمثل منبت النصرانية، ومنها اقتصادية، فبلاد الشام كانت تمثل الطريق التجاري الذي يربط أوربا بالعالم الشرقي، إضافة إلى أن بلاد الشام تمثل لهم بلد الغنى والجمال الذي يحقق لكثير من الفقراء والإقطاعيين على السواء في أوربة المغانم الكثيرة(كما قال المؤرخ الفرنسي شاميدور) بينما تقدم آخرون فراراً من رتابة حياتهم اليومية، أو حباً في المغامرة.(1/1)
ورفع كلا الطرفين المتنازعين الفرنجة الغزاة، والمسلمون شعار (الجهاد في سبيل الله) ما دام ذلك الشعار يحقق لهم الأهداف التي يصبون إليها، لا سيما أن الدين كان الإطار العام للحياة بجميع مظاهرها في العصور الوسطى.
تقدم الصليبيون إلى بلاد الشام فوصلوا إليها عام 489هـ/1096م، وكانت آنئذ أوصالاً مفككة بين الفاطميين والأتابكة الزنكيين، وغيرهما من القوى المحلية الأخرى، وتمكنوا من الاستيلاء على طرسوس (مدينة صغيرة غربي خليج اسكندرون) والرها (أورفة)، ثم احتلوا أنطاكية عام 492هـ/1099م، وفي نفس العام استولوا على القدس، وأعملوا في أهلها الذبح والقتل بالجملة (طبقاً لما ورد في المصادر العربية والأجنبية على السواء مثل الدويهي في تاريخ الأزمنة وشاميدور).
وقد أدى ذلك إلى إثارة روح التحدي لدى العالم الإسلامي، وقد أوضح هذا المفهوم(المؤرخ برنارد لويس في كتابه الغرب والشرق الأوسط) بقوله: جاء الصليبيون يحملون معهم تراثاً ضخماً من الشك والتعصب أثروا فيه على العرب المسيحيين، وعلاقتهم بجيرانهم المسلمين، وأضعفوا الوثيق من الصلات التي كانت قائمة بينهم قبل قيام الحروب الصليبية) انتهى قول لويس.
إلا أن ضعف المسلمين وتفوقهم لم يدم طويلاً بفضل ما تمخضت عنه يقظتهم في هذه المنطقة، وظهور قادة مخلصين أكفاء، تمكنوا من استغلال الظروف السياسية التي كانت تسود المنطقة في مدة لا تتجاوز نصف قرن، وكان من أولئك الرجال عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود، وأخيراً صلاح الدين يوسف، الذي تمكن من توحيد الشام وبلاد الجزيرة ومصر، وامتدت سلطته من دجلة إلى النيل.
في هذه الظروف التي اكتنفها التعقيد السياسي، الذي كان أن يصل إلى شفير الفوضى برز صلاح الدين الأيوبي؛ الذي يشكل عهده أكثر من حادثة عابرة في تاريخ العصور الوسطى، فهو كما وصفه المؤرخ هاملتون جب( يمثل إحدى تلك اللحظات النادرة والمثيرة في التاريخ البشري).(1/2)
والسؤال الآن: هل الظروف السائدة هي التي خلقت صلاح الدين؟ أم طموحه الشخصي وحبه للجهاد والفتح هو الذي دفعه إلى الجهاد؟ وهل كانت سياسته هذه نابعة من عقيدته؟ أم أملتها عليه الظروف المواتية؟ وهل كان صلاح الدين في سياسته مقلداً لنور الدين أم مبتكراً؟ وإذا كان مبتكراً فما الابتكارات التي جاء بها؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة نستعرض حياة صلاح الدين منذ مولده حتى إسقاطه الدولة الفاطمية في مصر، وتوجهه نحو الشام سنة 570هـ/1174م، ثم نوضح معالم شخصيته من خلال بعض أعماله.
ينتسب صلاح الدين يوسف للأسرة الأيوبية،وتعود هذه الأسرة –كما هو ظاهر من تسميتها- إلى أيوب بن شاذى، وأصل هذه الأسرة من الأكراد الروادية.
دخلت الأسرة الأيوبية كنف الحياة العربية الإسلامية في بغداد وتكريت وبعلبك ودمشق، وترعرعت بينها وتثقفت بالثقافة العربية الإسلامية في وقت كان شعار الحياة العامة الدين" كما سبق وقلنا" والدين الإسلامي يجمع بين القوميات المختلفة برباط الأخوة، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" "ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" .
أما نقطة البداية في مساهمة هذه الأسرة في حوادث التاريخ العربي الإسلامي، فكانت بعد مفارقتهم بلدتهم( دوين) حيث منح بهروز حاكم بغداد قلعة تكريت لجد الأسرة شاذي إكراماً لصداقتهما، ثم ولى بهروز نجم الدين أيوب بن شاذي –والد صلاح الدين- حاكماً لقلعة تكريت عام 525هـ/1130م، ولكن حدث أن قتل أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين أحد مماليك بهروز، فخرجت أسرة الأخوين مولية شطر الموصل, حيث يقيم زنكي (أتابك، الرجل الذي أكرم مثواهما عرفاناً بمساعدة كانا قدماها له إبان خلافه مع بهروز).(1/3)
وفي الليلة التي غادر فيها نجم الدين تكريت، ولد له يوسف صلاح الدين، فحمله معه إلى الموصل عام 531هـ/1137م، وقضى يوسف صلاح الدين طفولته الأولى مع أبيه والي بعلبك، وكان يسمع عن اعتداءات الصليبيين على البلاد فتؤثر في نفسه، ولما صار له من العمر أربع عشرة سنة أقطعه نور الدين إقطاعاً حسناً، ومنذ ذلك الوقت أصبحت له مكانة خاصة، وظهرت حظوته لدى السلطان نور الدين.
وبعد أن تولى أبوه ولاية بعلبك،بدأ صلاح الدين يتلقى العلوم الإسلامية، وفنون القتال ولقي من الرعاية والاهتمام –باعتباره ابن والي المدينة – ما لا يلقاه أبناء أواسط الناس، فدرس القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم على يد كبار العلماء كالشيخ قطب الدين النيسابوري مثلاً، إضافة إلى تردده على دور العلم وتلقي الدروس العلمية على يد والده نجم الدين أيوب، وعمه أسد الدين شيركوه، والسلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، الذين كانوا ممن تحدث عنهم التاريخ باعتزاز.
ولم يكن صلاح الدين مقلداً لهم تقليداً كاملاً، كما أنه لم يكن مبدعاً كل الإبداع بل جمع بين الأصالة والتقليد بأسلوب جديد يتلاءم مع عصره الجديد، ولو لم يكن تعبيره صادقاً مع نفسه ومتماشياً مع روح عصره لما تمكن من الوصول إلى القيادة ولما حقق النصر على الأعداء، مما جعل الشعراء يمتدحونه، خاصة عندما حافظ على النظام وأظهر حسن السياسة يوم تولى رئاسة شرطة دمشق عام 560هـ/1165م ولم يكن له من العمر إلا اثنين
وعشرين عاماً.
وكان صلاح الدين يتردد على الفقيه العالم ابن عساكر الدمشقي، وصادق ابن سبط الجوزي القابقي، وبذلك جمع بين أساتذة الفقه والتاريخ والحديث والسياسة وقيادة العسكر، فتخرج على أيدي أولئك الأساتذة والقادة سلطاناً للمسلمين, بعد أن ساعدته الظروف السيئة للبلاد, وعرف كيف يستغل تلك الظروف, فلم ينازعه أحد مدة عشرين عاماً تقريباً.(1/4)
وفي عام 558هت/1163م اتخذ أمورى الأول حاكم بيت المقدس الفرنجي مسألة امتناع الفاطميين عن دفع الجزية له, ذريعة لغزو مصر مستغلاً ظروفها القلقة, والصراع بين الوزراء، وضعف الخليفة الفاطمي, فقد سيطر ضرغام على الوزارة, وأبعد شاور عنها: مما دفع الأخير لطلب العون من نور الدين لإعادته للوزارة, وقد رحّب نور الدين بالعرض الذي يتفق وطموحاته وأهدافه في توحيد الجبهة الإسلامية ضد الخطر الفرنجي, لاسيما وأن مصر مصدر مهم للطاقة البشرية والموارد الاقتصادية، فأرسل جيشاً بقيادة صديقه شيركوه, وبرفقته ابن أخيه صلاح الدين, ولما سمع ضرغام بحملة نور الدين أرسل يطلب العون من أمورى حاكم القدس, إلا أن شيركوه وجيشه سبق قدوم الصليبيين, والتقى بقوات ضرغام عند أسوار القاهرة, وانتهت بهزيمة ضرغام وإعادة شاور للوزارة الفاطمية, وبهذا لم يستطع الصليبيون إنقاذ ضرغام.
بعد فترة طلب شاور من شيركوه الخروج من مصر؛ دون أن يفي بإعطاء ما وعد لنور الدين (وهو ثلث المحصول), إضافة إلى أنه لمس على ما يبدو طمع الزنكيين, فامتنع شيركوه من الخروج, فما كان من شاور إلا أن طلب النجدة من الصليبيين, لكنهم أخفقوا في القضاء على قوات شيركوه وصلاح الدين، وما أن عاد صلاح الدين وعمه إلى الشام حتى أخذا يحرضان نور الدين السيطرة على مصر.
وجاءت الفرصة المناسبة, إذ استنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين لاستفحال ظلم شاور وتحالفه مع الفرنجة, فخرجت الحملة الثانية على مصر عام 563هـ/1166م وانتصر شيركوه على القوات المتحالفة, وكان لمهارة صلاح الدين قائد قلب الجيش أثر في ذلك النصر الذي نجا فيه أمورى بأعجوبة من المعركة, كما تحدث ابن الوردى وابن الأثير, حتى أن المؤرخ أبا شامة صرّح تعظيماً لذاك الانتصار بقوله: (وكان هذا من أعجب ما يؤرخ له, أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل).(1/5)
ورغم اتفاقية الهدنة التي تنص على أن الفرنج لا يقيمون بمصر, إلا أنهم لم ينسحبوا من مصر كلياً, وذلك بالاتفاق مع شاور, مما دعا الخليفة الفاطمي العاضد أن يستنجد فيما بعد بنور الدين مرة ثالثة..... وأرسل نور الدين حملته إلى مصر وكان له الآن أهداف ثلاثة:
1- القضاء على الخلافة الفاطمية. 2-توحيد سورية ومصر. 3-ومتابعة الحرب ضد الصليبيين الفرنجة حتى نهاية...
دخل شيركوه القاهرة عام 564هـ/1166م, وقتل صلاح الدين شاور، وبمقتل شاور بدأ فصل جديد في العلاقات الأيوبية الفاطمية، لأن العاضد اتخذ شيركوه وزيراً له, لكن ما لبث شيركوه أن توفي, فحل محله في منصب الوزارة ابن أخيه صلاح الدين.
وفي عام 567هـ/1171م, وبأمر من نور الدين قطع صلاح الدين الخطبة للخليفة الفاطمي العاضد, وأقامها للخليفة العباسي المستضيء, وبذلك انتهت الدولة الفاطمية, وصارت مصر والشام دولة واحدة, ونشأ من هذه الوحدة طاقة مادية وبشرية, كان لها شأن كبير في دحر الغزاة.
ولقد غالى بعض الكتاب المحدثين في تعليلاتهم للوحشة التي حدثت بين
نور الدين وصلاح الدين, ومن هذه المبالغات ما ذكره المؤرخ الفرنسي شاميدور، من أن صلاح الدين كان عازماً على القضاء على نور الدين, ومنها ما أورده رينتز من أن صلاح الدين لو كان مخلصاً لسيده نور الدين؛ لكانت الإمارات الصليبية قد أسقطت بيد نور الدين في حياته.
ولكن يمكن القول أن نور الدين كان يلح على صلاح الدين باستخدام قوى مصر لمساندة الشام في الحرب ضد الصليبيين الفرنجة, والواقع أن صلاح الدين كان أعرف بأحوال مصر, وكان يرى أن تثبيت كيان الدولة الجديدة في مصر أولى من الانشغال بمسائل الشام بهذه السرعة, ثم إنه كان يخاف ضياع مصر بثورة مضادة والخطر الصليبي على الأبواب.(1/6)
ولما استقر صلاح الدين بمنصب الوزارة في مصر, قام بتنفيذ أعمال عديدة, يمكن من خلالها أن نقول: إنه كان يعد نفسه للقيام بانقلاب شامل في مصر، وكان أول تلك الأعمال تثبيت مركزه فيها, كما أرسل لأبيه وأخوته يستدعيهم إلى مصر, فسرهم نور الدين وأمر بطاعته.
وعكف بعدها على التخلص من الأمراء المصريين والعربان والسودان, وشكل فرقة من الحرس تدعى الصلاحية, وبذلك سيطر على أهم جزء من القطاع العسكري, وتوجه لحل مشاكل القطاع المدني.. ووجد في حل مشاكلهم الاقتصادية خير وسيلة لكسبهم, فأبطل المكوس الجائرة التي كانت مفروضة عليهم, ورد عن دمياط هجمة صليبية بدا صلاح الدين على إثرها للمصريين منقذاً, فالتفوا حوله.
توفي نور الدين عام 569هـ/1174م, وأصبح صلاح الدين سلطاناً على مصر والشام وأعالي العراق حتى الموصل, وبعد أن خاض مع ورثة نور الدين وقادته حرباً شديدة مدة عشر سنوات, وفتح بعدها كلاً من برقة وبلاد النوبة واليمن, وزحف إلى الشام ليتم توحيد مصر والشام والجزيرة، ويتخذ من الشام منطقة عسكرية لقربها من تحصينات الصليبيين.
وكان صلاح الدين يرى نفسه في هذه المرحلة قائداً للأمة، يؤيده الناس
ويناصرونه على أعدائه المخالفين له, ونظراً لضيق المجال عن ذكر دخول
بلاد الشام, اسمحوا لي فقط أن أذكر دخوله حمص, ما دمنا نتحدث في محرابها..(1/7)
دخل صلاح الدين حمص يوم الثلاثاء 13جمادى الأولى عام 570هـ/ 8كانون أول عام 1174م وامتنعت قلعتها عليه, وكانت كما وصفها ابن جبير وقتذاك في غاية العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود, وأبوابها حديد، تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة, لذلك لم يشأ صلاح الدين الاستمرار في حصارها؛ بل ترك عليها حامية تحاصرها وتمنع الوصول إليها, ثم عاد إليها بعد أن فتح مدينة حماة وحاصر حلب, فراسل أميرها (كمشتكين) الصليبين وطلب مساعدتهم، فزحفوا على حمص وحاصروها؛ مما اضطر صلاح الدين للتوجه إليها، فدخلها وحاصر قلعتها تسعة أيام، حتى تمكن من فتحها في 17آذار 1175م، وأقطعها لابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، وهو أبو الملك المجاهد الذي حكم حمص 55 خمساً وخمسين عاماً.
وفي عام 571هـ/1175م طلب الصليبيون منه الصلح، لاسيما أنه أصبح الآن سلطاناً على الشام ومصر باعتراف الخليفة.
وبقي صلاح الدين اثنتي عشرة سنة من 570_582هـ/ 1174_1186م يعمل لتحقيق الوحدة، وإعداد العدة، قبل أن يبدأ بمرحلة التحرير. وقد كسب خلال هذه المدة محبة جمهور المسلمين وثقتهم، وبذلك بنى صلاح الدين وحدة قوية متينة ارتكزت على جمهور المسلمين لا على القيادات السياسية بين الأمراء فقط، وتمكن أن ينتصر على مناوئيه من الأمراء المسلمين لحسن تدبيره السياسي والعسكري، وتمكنه من استغلال الظروف التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي آنذاك، والمناداة بما كان يطمح إليه جمهور المسلمين؛ من توحيد الجهود ورص القوى لتحرير القدس وسائر البلاد
الإسلامية من الغزاة الفرنجة.
ولقد تميزت سياسة صلاح الدين تجاه الفرنجة الصليبيين في الفترة ما
بين وفاة نور الدين 569هـ_582هـ/1173_1186م، وهي الفترة التي تمت فيها الوحدة بين مصر والشام والجزيرة بطابع اللين والموادعة والمهادنة.(1/8)
وتعليل ذلك أن صلاح الدين كان يهدف إلى القضاء على الصليبيين قضاء تاماً، وهذا لا يتيسر قبل إقامة دولة إسلامية موحدة قوية. ومن هنا فقد هادنهم مؤقتاً لتصفية الحساب مع الأمراء المسلمين الذين يقاومون إنشاء دولة موحدة، وعلى الرغم من أنه لم يقم بحروب حاسمة في هذه الفترة ضد الصليبيين؛ إلا أنه كان بين وقت وآخر يكيل لهم الضربات القوية، ليبرهن على أنه قادر على مجابهة التحدي، وربما ليشعر مناوئيه من الأمراء المسلمين أنه قادر على القتال في جبهتين في آن واحد، أو ليبرهن لهم أن العدو المشترك قريب منهم والأجدى أن يتحدوا ضده.
ولم يبق أمامه طبقاً لمقتضيات الواقع السياسي والعسكري؛ إلا إعلان الجهاد ضد الصليبيين، بعد أن كسب على المستوى الإيديولوجي والإعلامي ثقة جمهور المسلمين فراح يعد العدة لمعركة فاصلة. فكانت معركة حطين.
جاءت الفرصة المواتية لصلاح الدين عندما نقض أرناط أمير الكرك، العهد المعقود بينه وبين مملكة بيت المقدس، فخرج من دمشق ليمنع اعتداء أرناط على قوافل الحجاج العائدين من مكة والتي قيل أن أخته كانت فيها، ولا نريد هنا أن نتحدث عن سير هذه المعركة الفاصلة، بل نكتفي بالقول إن الهزيمة التي أصابت الصليبيين عام 583هـ/1173م لم تكن نتيجة ضعف فيهم، إنما قابلهم جيش موحد له قائد محنك (كما يقول هارلد لامب) أحكم الخطة العسكرية، فأحسن اختيار الأرض، أرض المعركة، وزمنها، واستغل الحرفي شهر تموز، فمنع عن عدوه الماء، وقاد جيشه بنفسه بكل نجاح، وكان لانتصار صلاح الدين في حطين صدى بالغ الأثر في نفوس المسلمين عامة، وأهالي دمشق خاصة لأنها في تلك الفترة كانت مقره ومركز أعماله.(1/9)
وكان من نتائج معركة حطين أسر أرناط وقتله مع بعض أمراء جيشه، وأسر الملك جاي لوزجنان ملك بيت المقدس، فأكرمه وعامله بالإحسان كما يقول ابن شداد، وكانت حطين مفتاح الفتوح الإسلامية في المنطقة، فقد أخذت القلاع والحصون بعدها تسقط بيد صلاح الدين الواحدة تلو الأخرى.
وفي كل مدينة وحصن كان صلاح الدين يؤمن أهله عندما يطلبون منه
الأمان، ويتسامح معهم بل ويحميهم، فها هو يؤمن أهل عكا حين استسلمت، وها هي زوجة القائد الصليبي ريموند المحاصرة في قلعة طبريا تطلب اللحاق بزوجها في طرابلس، فيؤمنها صلاح الدين مع مالها وفرسانها.
وكان لهذه السياسة السمحة النبيلة التي اتبعها صلاح الدين مع أهالي البلاد المفتوحة فوائد كثيرة، فقد حافظت على استمرار الحياة الاقتصادية لأن التجار الأوربيين من بنادقة وجنوبين وغيرهم، استمروا في أعمالهم التجارية بعد أن لمسوا من صلاح الدين العدل والصلاح،إضافة إلى أن تلك السياسة المعتدلة ساعدت على تسهيل مهمة فتح المدن التي كانت تحت السيطرة الصليبية.
وبقدر ما كان صلاح الدين متسامحاً، بقدر ما كان عسكرياً ناجحاً، وتتضح سياسته الحكيمة وبعد نظره العسكري بتوجهه نحو الساحل بعد معركة حطين لفتح المدن والحصون الصليبية، وعدم توجهه مباشرة لتحرير القدس حتى يحرمهم من قواعدهم البحرية التي تربطهم بأوربا من جهة، وليسهل الاتصال البحري مع موانئه المصرية.(1/10)
وفي 15 رجب عام 583 هـ 2 تشرين أول 1187م وصل صلاح الدين بقواته إلى ظاهر القدس، وبدأ بضربها بالمجانيق وحدث قتال شديد بين المهاجمين والمدافعين استمات فيه الطرفان، وبعد أن تمكنت قوات صلاح الدين من إحداث ثغرة في السور, وعرف المحاصرون أنهم هالكون لا محالة, فطلبوا الأمان, فأمنهم صلاح الدين كعادته, وتوجهت إليه آلاف النسوة من الزوجات وبنات الفرسان الذين أسروا وقتلوا يسألنه الرحمة, فأمر بإطلاق سراح أزواجهن وآبائهن ومنح بعضهن هبات مناسبة (كما ورد في كتاب صلاح الدين هارولد لامب), بل وسمح للبطريرك الكبير أن يخرج من القدس ومعه كل أموال الكنائس التي اجتذبت أنظار الناس لكثرتها, فطلبوا من صلاح الدين أخذها، غير أنه رفض قائلاً: لا أغدر به، وأخذ منه عشرة دنانير فقط كغيره من الأسرى المفتدين, ولم يكن صلاح الدين عظيماً كعظمته يوم أمر بانتشار الأمراء والجنود المسلمين ليمنعوا أي اعتداء (إهانة تقع لأي صليبي خرج منها مستسلماً.... وهكذا منح العسكر الإسلامي المنتصر الرحمة للمدينة المقدسة بينما كان الفرنج الصليبيون منذ أكثر من ثمان وثمانين عاماً، أي منذ عام (491هـ/1069م) في دماء ضحاياهم..
ونتيجة لهذه المعاملة الحسنة طلب النصارى العرب سكان القدس البقاء فيها مع إخوانهم المسلمين العرب، كما أن الدولة البيزنطية وقفت من صلاح الدين موقفاً إيجابياً نظراً لمعاملته الحسنة للمسيحيين الشرقيين ومنهم الأرثوذكس, وكان إمبراطور بيزنطة إسحق الثاني يثق بصلاح الدين أكثر من الصليبيين, حتى إنه تحالف معه, مما أثار جوّاً من القلق في أوساط الصليبيين (كما قال الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه الحركة الصليبية).(1/11)
كان لهزيمة الصليبيين في حطين وما أعقبها من سقوط القدس بيد صلاح الدين وفتح الساحل الشمالي, أثر كبير في أحداث رد فعل عنيف في أوربة, مما دعاهم لتأليف حملتهم الصليبية الثالثة؛ واشترك فيها فيليب الثاني ملك فرنسا, وريتشارد قلب الأسد ملك انكلترا, وفريدريك برباروسا إمبراطور ألمانية، فوصلت قوات فيليب وريتشارد عن طريق البحر وحاصروها, أما قوات برباروسا فقد توجهت برّاً إلى فلسطين, وقد تعرضت لهجمات السلاجقة وأهالي حلب, بل والدولة البيزنطية نظراً للأضرار التي ألحقها الألمان بأراضيه مما وثّق التقارب البيزنطي الأيوبي (كما جاء في النوادر السلطانية لابن شداد), وغرق برباروسا وهو يعبر نهراً في كيليكيا, وعاد أتباعه أدراجهم.
قاومت عكا الحصار مدة سنتين كاملتين شهدت فيهما أضخم العمليات الحربية, اشتركت فيها كل قوات أوربا الغربية تقريباً، وأخيراً سقطت عكا عام 587هـ/1191م, وقبض ريتشارد على أسراها وأمر بذبحهم, ولم ينج منهم إلا بعض الأمراء ليفتدى بهم أسرى الصليبيين, فكانت المذبحة رهيبة لدرجة أن جميع المؤرخين شرقيين وغربيين استنكروها.
وعلى الرغم من المعاملة اللاإنسانية التي عومل بها أسرى المسلمين في عكا؛ فإن صلاح الدين لم يعاملهم بالمثل حين أسر جماعة من الصليبيين بعد أيام من مذبحة عكا, وكان من الطبيعي أن يأمر بقتلهم, إلا أنه أطعمهم وكساهم, وأرسلهم بعدها إلى دمشق ليودعوا سجنها, فضرب أروع أمثلة التسامح وضبط النفس، وشتان بين السلوك الهمجي الذي اتبعه ريتشارد وبين السلوك الإنساني الذي اتبعه صلاح الدين (كما أورده المؤرخ هرولد لامب), وقد وصف الراهب أودو الدويلي معاملة المسلمين للأسرى الصليبيين).(1/12)
ونظراً لنشاط صلاح الدين بالعمليات العسكرية، وفتحه بعض المدن والحصون التابعة لريتشارد، والتي كان آخرها استيلاؤه على يافا، ونظراً للضغوط الشديدة التي كان يلاقيها ريتشارد نتيجة خلافه مع قواته في الشام، ومن طلب الإنكليز المتكرر الذين يحثونه على العودة إلى وطنه- حتى لا يضيع ملكه-لذلك كله فضل ريتشارد عقد هدنة مع صلاح الدين بأي وسيلة، وقبل الصلح بالشروط التي فرضها صلاح الدين. وهكذا أخفقت الحملة الثالثة.
وعلى إثر هذا الصلح الذي تم في 20شعبان 588هـ/31 آب 1162م، وصل عدد كبير من الصليبيين إلى القدس لأداء الحج، فعاملهم صلاح الدين معاملة حسنة، ومد لهم موائد الطعام، وكان هدفه أن يقضي الصليبيون وطرهم من الزيارة ثم يعودوا إلى بلادهم، وليس في نفوسهم شيء على المسلمين فيأمنهم، وعاد ريتشارد إلى بلاده، وعاد صلاح الدين إلى القدس ليرمم أسوارها ويقوم
بإصلاحات فيها.
أما سياسته الداخلية، فلا شك أنها كانت وثيقة الصلة بسياسته الخارجية، سواء كان ذلك في تعامله مع الإمارات الإسلامية، أو مع الصليبيين. إذ أن هذه التنظيمات الإدارية والاقتصادية والثقافية كانت إلى حد ما القاعدة التي استند إليها صلاح الدين في توجيه نشاطه نحو التوسع في الشام، والتمكن من إتمام الوحدة بين مصر والشام وبلاد الجزيرة، فعن طريق هذه السياسة استطاع صلاح الدين السيطرة على الوضع الداخلي للإمارات الإسلامية التي انضمت إليها، والسير وفق نظام معين تمكن عن طريقه من استغلال الوسائل الاقتصادية والبشرية والعسكرية لمحاربة الصليبيين وتحرير القدس.(1/13)
لذلك فإن معرفة السياسة الداخلية، والاطلاع على كيفية تعامل صلاح الدين مع أمرائه-على قلة المعلومات-أمر ضروري لتوضيح الأساس الداخلي الذي استندت إليه علاقاته الخارجية السياسية منها والعسكرية، وقد تبين أن صلاح الدين اعتمد جهاز الدولة النورية والفاطمية وتنظيماتهما، ولم يغير منها إلا القليل. وهذا واضح في نظم إدارة البلدان والجيش والتعبئة.
والسؤال الذي يمكن أن يطرح هو: هل أقام صلاح الدين تنظيماته الإدارية والاقتصادية على أنقاض جهاز الدولة التي سبقت حكمه دون تبديل أوتحوير؟ أم أنه أنشأ بالكلية نظماً جديدة؟ أم أنه أخذ النظم السابقة وكيّفها لحاجاته؟
لقد اقتبس صلاح الدين الكثير من نظم الدولة النورية والفاطمية، ولم يتبع سياسة خاصة به إلا فيما يخص مصروفات الدولة ووارداتها، وأن سكوت المصادر التاريخية عن بعض التنظيمات الإدارية والاقتصادية وغيرها في فترات معينة من التاريخ، لا يعني عدم وجودها، بل من المحتمل أن المصادر باهتمامها بالقضايا العسكرية والسياسية، انشغلت عن ذكر النظم الحضارية، لذلك فإن حدوث تحول سياسي أو حربي، والانتقال من عهد إلى عهد آخر لا يعني -كما هو واضح من استقراء التاريخ-سقوط التنظيمات القديمة، وقيام أخرى جديدة لا علاقة لها بسابقتها، لأن ذلك يناقض استمرارية التماسك الاجتماعي والنظام البيروقراطي الوظيفي بعد حدوث تلك التغيرات.
وهكذا يمكن القول إن صلاح الدين لم ينشئ مؤسسات ونظماً جديدة، بل أخذ ما كان موجوداً منها واكتفى بإجراء التعديلات الملائمة عليها.(1/14)
ولقد أولى القضاء عناية كبيرة، فخصص يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، يجلس للعدل بين الناس حتى يصل إليه من يشاء، وقد اشتكى إليه يوماً رجل في دمشق ابن أخيه، فأنفذ إليه صلاح الدين في الحال، وأجلسه في مجلس الحكم، ولم يحابه رغم محبته له، حتى ساواه في المحاكمة، وحلفّه اليمين بعد إدلاء الخصم بدعواه (النوادر السلطانية)، وكانت سياسته أن يختار للقضاء قاضياً واحداً لا اثنين ليديم استقامة الحكم، وكان يوصي ولاته ألا يختاروا للقضاء من سأله.
ونتيجة لعدل صلاح الدين هذا فقد أمن الناس الشرور، وأخذوا يعملون إلى ساعات متأخرة من الليل دون خوف على حياتهم أو ممتلكاتهم (كما ورد في رحلة ابن جبير).
ولما تمكن صلاح الدين من توحيد مصر والشام وبلاد الجزيرة ارتفعت واردات الدولة، ولو لم يكن لديه الواردات الكافية التي ينفق منها على الجيش وبناء التحصينات العسكرية لما استطاع فتح القدس. فما أنواع وارداته؟ وما الطرق التي صرفها بها؟
صحيح أن صلاح الدين ألغى الضرائب الجائرة الكثيرة التي كان يعمل بها قبل مجيئه لكنه استعاض عنها بعائدات شرعية وهي: الزكاة، والخراج، والجزية. وكان صلاح الدين ينفقها جميعاً، مما دفع نواب خزانته أن يخفوا عنه شيئاً مما كان يرد إليهم من أموال.. "حذراً من يفاجئهم منهم، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه" (ابن واصل). ولم تكن لصلاح الدين سياسة مالية منظمة، وكل همه كان منصرفاً إلى الجهاد والتخفيف عن الناس، وكسب مودتهم، إلا أنه مع ذلك كانت له دواوين خاصة تهتم بشؤون الصرف والإنفاق على مرافق الدولة، وقد خصصت أغلب تلك المصروفات على التحصينات العسكرية وبناء السفن والمدارس والمساجد والبيمارستانات إضافة إلى رواتب الجند.(1/15)
وقد أنشأ صلاح الدين ضمن اهتماماته الحضارية العديد من المدارس في أنحاء البلاد المختلفة وخصص لها مبالغ طائلة، للمدرسين والمعيدين والخدم بل والحمامات المجاورة لها، وحذا ولاته حذوه فتسابقوا في بناء المدارس وحبس الأوقاف عليها، وكان الطلبة الغرباء يفدون على المدن الرئيسية كدمشق والقاهرة والإسكندرية فيخصص لكل منهم مسكناً ومدرّساً وراتباً شهرياً.
أما التنظيم المالي في عهده فقد انتقل من نظام منح الرواتب إلى الأمراء والمشرفين على القلاع والحصون، إلى نظام منح المدن والقلاع للأمراء عن طريق منحهم الاستقلال الذاتي بعد أن يتعهدوا بالولاء والإخلاص للسلطان، وتقديم الإمدادات العسكرية من رجال وعتاد عند الطلب.
ولم يخرج صلاح الدين في تعيين الأمراء على العادة الجارية في عصره، وهي أن يسند الوظائف المهمة إلى أولاده وأقربائه، وخاصة الولايات وإمارة قطعات الجيش.
فولى مثلاً أخاه توران شاه على اليمن، واستخلف أخاه طغتكين على دمشق بعد استخلاصها من أيدي الزنكيين، كما أقطع حمص لمحمد بن شيركوه. وفي أواخر أيامه، أعد أولاده ليتولوا الحكم من بعده، فولى الأفضل وهو أكبرهم حكم دمشق، وقد ملك بعد وفاة والده إلى جانب دمشق، الساحل والقدس وبعلبك وبصرى وبانياس. بينما ملك العزيز عثمان مصر، أما حلب فكانت من نصيب الظاهر غازي، وكان من الطبيعي عند وفاة صلاح الدين، أن يعمل كل حاكم من ورثته على توسيع أملاكه، لذلك قام الصراع بينهم، فلم تمض سنة واحدة على وفاة صلاح الدين حتى دبَّ الخلاف بينهم كما يقول بركلمان.(1/16)
أما الجيش فقد أولاه صلاح الدين عناية كبيرة، لأنه الأداة الفعالة التي يستطيع بها تحقيق أهدافه وأهمها تحرير القدس، فأنشأ له ديواناً خاصاً، خصص له ميزانية كبيرة، وأعطاه الحرية التامة للصرف على الأجناد وتوزيع الإقطاعات لهم. وكان كل أمير يتصرف بحرية بالإنفاق على جيشه، إلا أنه كان عليه أن يدفع به إلى حيث تقدمت قوات صلاح الدين لحرب الصليبيين، وكان هذا، أساس كل اتفاق بين هؤلاء الأمراء وبين صلاح الدين وهو أن تنضم قواتهم إلى قواته عند إعلان الجهاد ضد الصليبيين، وكان عدد هذه القوات يصل أحياناً إلى أربعة ألاف جندي.
كما اجتمع لصلاح الدين أسطول بحري قوي لا ينقصه شيء من أسلحة القتال، ولا ينقص قواده المعرفة بأحوال البحر، وقيادة المعارك، فاعتمد عليه صلاح الدين في حصار المدن والقلاع الساحلية.
لقد خاض صلاح الدين، وعلى مختلف الجبهات حروباً مستمرة، دامت ما يقرب من ثلاثين سنة ولم يعرف عنه أنه خاض معركة أو حاصر مدينة إلا وحسب لها حسابها من النصر أو الهزيمة، وخطط لها التخطيط الكافي.
وقد برهن استنتاجاً مما سبق على مقدرة عسكرية، وقسوة على النفس
في الإخلاص (فقد صان شرفه- كما قال هارولد لامب-وحافظ عليه أكثر من حفاظ الصليبيين على قانون الفروسية) كتابه شعلة الإسلام.
وكان رجلاً مستقيماً كما يقول المؤرخ القاضي ابن شداد يعرف بظاهره(1/17)
وحسن نواياه، لم يستخدم المكر والخديعة حتى مع أعدائه، بينما استغل أعداؤه تلك الصفات فيه، فشاغلوه بالمواعيد والمراسلات الكاذبة ليسوفّوا بها الأوقات، كما فعل ريتشارد أثناء حصار عكا، غير أن صلاح الدين تمكن من الانتصار عليهم بالرغم من كل ذلك، ولم يبق بيدهم سوى مدينة صور وطرابلس مع بعض القلاع عند وفاته، ولم تكن لتحدث تلك الانتصارات لولا الصفات المعنوية والمادية التي تحلى بها صلاح الدين وجنده، فإضافة إلى بناء صلاح الدين لتلك الوحدة القوية التي امتدت من النيل إلى الفرات والتي اعتمدت على جمهور المسلمين، كان الجميع يحاربون أعداءهم بعقيدة الدفاع عن النفس، وتحرير القدس، تلك البقعة التي شفتها عقيدتهم، أضف إلى ذلك الخطط العسكرية الجيدة التي اتبعها صلاح الدين، ومشاركته الفعلية في الحرب إلى جانب قواته العسكرية، وقد برزت له هذه الميزة حتى في أشد الأيام الدامية حيث كان يتنقل وسط ميدان المعركة، يوقظ الهمم، ويحيي في الجند الروح القتالية، وكان يتبع خطة الحرب الخاطفة ومباغتة العدو، وقد تبين هذا واضحاً بعد معركة حطين عام 583هـ/1187م في هجماته المتلاحقة على عكا وصفد وغزة وغيرها من المناطق، وكان صلاح الدين وباعتراف أعدائه يقاتل ليل نهار بحيث لا يدع للصليبيين وقتاً للكلأ والراحة (كما ذكر الشاعر أمبروز المعاصر لصلاح الدين).
وقد أوضح المستشرق هاملتون جب بعض تلك الميزات الأخرى التي ساعدت صلاح الدين على تحقيق انتصاراته على أعدائه فقال: (جاءت بفضل امتلاكه لصفات معنوية، لا تشترك مع المواهب الإستراتيجية إلا القليل، كان رجلاً يستمد وحيه من مثل أعلى ذي قوة وثبات وإيمان راسخ الأركان، ولقد استسلمت له المدن والقلاع الصليبية بسهولة لسبب رئيسي يعود إلى شهرة صلاح الدين في المراعاة الدقيقة للعهود التي يأخذها على نفسه، وفي سماحة النفس التي لا تعرف المكر والحذر). انتهى قوله.(1/18)
ومما سبق يتبين أن موقف صلاح الدين من الصليبيين كان موقفاً حازماً، فقد عاملهم معاملة الأعداء الحقيقيين الذين جاؤوا إلى أرض لم تكن لهم فاغتصبوها، وكان يجد نفسه المسؤول عن إخراجهم منها، ولذلك تميزت سياسته نحوهم بأنها كانت منحصرة في إعداد العدة وجمع الكلمة، ومحاربتهم من أجل إخراجهم من بلاد الشام، وفي هذا خاض صلاح الدين العديد من المعارك ضدهم وانتصر في أغلبها، وانتهت علاقته بهم، بالتوصل إلى عقد هدنة مؤقتة اضطر إلى الموافقة على قبولها كما اضطر الصليبيون نظراً للظروف القاسية، واستمرارية الحرب التي أنهكت القوى وأنفدت العَدد والعُدد والتي دامت زهاء مئتي عام وكانت أطول حرب في التاريخ.
وفي شخص صلاح الدين الأيوبي يقول القاضي بهاء الدين بن شداد معاصره في كتابه النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية: صلاح الدين يوسف بن أيوب بطل حكيم، ولد في بيت قيادة، واجتمعت عناصر عدة في تربيته، لعل أبرزها الجانب العسكري الذي كان ضرورياً أكثر من سواه في تلك المرحلة التي كانت منطقتنا تعاني أثناءها من غزو الفرنجة، وتظهر روحه العسكرية طيلة حياته، فكان يمضي السنوات تلو السنوات متنقلاً من معركة إلى معركة، لا يعرف البيت المستقر المشيد الأركان، يريح سواه من القتال ولا يستريح، ويتابع ابن شداد قوله: وليس التمرس العسكري هو كل ما تلقاه صلاح الدين أثناء نشأته، بل درس العلوم الدينية حتى انتظمت عقيدته انتظاماً واضح الرؤية، قائماً على الدليل مع قرن للنظر بالعمل أي اقتران النظرية بالتطبيق، واطلع على أنساب العرب وآدابهم وأيامهم، وكان يتمثل أحياناً بأبيات من شعرهم، وعرف قيمهم واعتز بما كانوا يعتزون.(1/19)
ومن أبرز مزاياه: الشجاعة، إذ لم يجرؤ أحد غيره على اعتقال شاور الوزير الفاطمي، وهو في الحروب القدوة الرابط الجأش، الراسخ القدم، كما اتصف بالكرم، ويكفي دليلاً على كرمه (أنه ملك ما ملك ومات ولم يخلف إلا سبعة وأربعين درهماً فضة وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلّف داراً ولا بستاناً ولا قرية ولا شيئاً من أنواع الأملاك، ثم يقول: فإنه مات رحمه الله ولم يحفظ ما وجبت عليه الزكاة بل كان يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والعلماء ليضمن حسن سير الأمور. وكان عادلاً بل قمة في العدالة، فقد اشتكى إليه يوماً رجل في دمشق ابن أخيه فأنفذ إليه صلاح الدين في الحال وأجلسه مجلس الحكم رغم محبته له، ولم يحابه، حتى ساواه في المحاكمة، وحلّفه اليمين بعد إدلاء الخصم بدعواه. وكان متصفاً بسعة الصدر وما يتبع ذلك من حلم وأناة وتفضيل للحسنى، وإيثار للسلم إذا حقق الأهداف بدل الحرب مع قدرته على الحرب عند اللزوم، وكان يستشير أصحابه، فكثيراً ما جمع قادته وطرح عليهم المشكلات التي تواجهه، وكان صاحب مروءة يهتم مثلاً بالطفلة الفرنجية الأسيرة التي استنجدت به أمها لإنقاذها، فلم يهدأ حتى عثر عليها وأعادها إليها. ومن أهم صفاته: الصبر، فكثير من شؤون عصره لا يعايشها إلا الصبور، فاحتماله خلافات قادته وانشقاقات أمته: صبر، وهدوؤه وكياسته تجاه الخلافة العباسية المقصرة معه: صبر، فضلاً عن استمراره في بذل الجهد بشكل متواصل منذ توليه الأمر في مصر منذ عام 1169م وحتى وفاته 1193م، فهو ليس من الجبابرة الجسمانيين بل من جبابرة الإرادة.(1/20)
آثار حمص العربية بين الواقع والطموح
د. عبد الرحمن البيطار
أولاً: مقدمة- تكوين حمص القديمة والجديدة:
من كان ينظر إلى حمص العربية القديمة التاريخية؛ فإنه يرى لها نمطاً معمارياً خاصاً في كل معالمها العمرانية، وعلى رغم التطور العمراني المتسارع؛ فإن حمص القديمة مازالت تحافظ على نمطها العمراني المتمثل في أزقتها وحجارتها السوداء، وكذلك في التوزيع السكني، حيث تتجمع الأحياء السكنية في مناطق خاصة، بينما الأسواق لها أماكن حول المسجد الجامع، وكذلك ما يلحق بها من خانات وحمامات ومساجد. وهكذا فإن المدينة القديمة هي في تكوينها العام آثار حقيقية وتراث تاريخي، وكذلك فيما بقي منها من آثار عمرانية من حقب التاريخ المختلفة، والتي تمثل التراث الحضاري للمدينة القديمة، الذي اكتسبته كمدينة عربية إسلامية منذ الفتح وفي مختلف عهود الخلافة حتى نهاية العهد العثماني.
أما المناطق التوسعية الجديدة في حمص والأحياء المستحدثة فلا يرى إلاّ كتلاً من الإسمنت ليس لها طابع عمراني ولا أية ميزة في نظام البناء، ويعاني سكانها من زحمة الشوارع وقلة الحدائق وسوء التنظيم والتوزيع في كثير من الأحيان.
ثانياً- تاريخ حمص العربية:
تدل البحوث الأثرية على وجود سكن في حمص قبل عام 2500 ق.م وجدت لقىً فخارية(1)منذ فترة ظهور المماليك الآرامية (الألف الأولى قبل الميلاد).
وقد ورد ذكر حمص بلفظ( إميسا) في العهد اليوناني (لدى المؤرخ استرابون) في عامي 59، 43 ق.م حيث كان يحكمها منذ عام 96 ق.م أسرة عربية على رأسها شمسي غرام كاهن معبد الشمس(2).
__________
(1) -ماجد الموصلي: الموجز في تاريخ مدينة حمص وآثارها، ص 9. وانظر: عماد الدين الموصلي: ربوع محافظة حمص، ص 108.
(2) -كما ورد ذكرها في ألواح إيبلا قبل ألفي سنة ق.م.(1/1)
وازدهرت حمص ازدهاراً ملموساً بعد الغزو الروماني لسورية سنة 64 ق.م، وأصبحت نقطة تقاطع لطرق القوافل والجيوش(1). وتم اكتشاف عدد كبير من الأحجار وشواهد القبور وغيرها من الفترة 99- 133 ق.م، وكان أوج ازدهار حمص القديم خلال العصر الروماني بعد زواج القائد الروماني سبتيموس سفيروس من ابنة كاهن معبد الشمس (جوليا دمنة) وقد أصبح هذا القائد إمبراطوراً (193-211م)، وظهر م ن سلالته أباطرة آخرون هم كراكلا (211-216م)، وهليو غابال (216-222م)، والإسكندر سيفيروس (222-235م) وبعدهم كان الإمبراطور فيليب العربي في حوران( 244-249م)(2)، وقد أظهر هؤلاء الأباطرة اهتماماً كبيراً بحمص.
وفي عهد الإمبراطور أورليان( 270-276م) وقع الصراع مع زنوبيا ملكة تدمر، وكانت النتيجة تدمير تدمر، وتأثرت حمص كثيراً بذلك.
ودخلت النصرانية إلى حمص على نطاق ضيق بعد عام 306م، وبدأ تشييد بعض الكنائس في عهد الإمبراطور قسطنطين (306- 337م) الذي أعطى الحرية للنصارى، ثم تبنى النصرانية ديناً للدولة وعممها.
وكانت القبائل العربية ترشح سلمياً إلى جميع أطراف الشام في أواخر الألف الأول قبل الميلاد(3)،وبالطبع نفذت إلى أراضي حمص وألفت معظم سكان المدينة، وفي القرنين السادس والسابع الميلاديين سكنت في حمص قبائل عربية جنوبية مثل
( تنوخ وكلب).
__________
(1) -ماجد الموصلي: المرجع السابق ص63.
(2) -سليم عادل عبد الحق: بحث موجز في تاريخ مدينة حمص وآثارها، مجلة الحوليات الأثرية السورية، العدد 10-1960م، ص11.
(3) -سليم عبد الحق: روما والشرق الروماني-دمشق 1959، ص 236و466.(1/2)
وقبل فتح المسلمين للشام، كانت حمص من أهم قواعد سورية الداخلية مع ما كانت تملك من جمال الطبيعة واعتدال المناخ، ومتنزّهات، فجعلها ملوك الروم منتجعاً لهم(1)، وكانت المكان المفضل للإمبراطور هرقل ليستحم فيها ويرتاح بعد حروبه الدامية مع الفرس والتي كان من نتيجتها تدمير كثير من الآثار المسيحية في الشام (بين الغزو الفارسي والاضطهاد الروماني).
وقبيل الفتح الإسلامي كانت حمص متعددة الأجناس والديانات واللغات، ولعل الكثير من سكانها من أصول عربية أو سامية حسب الاصطلاح الشائع.
فلما فتحت حمص عام 15 هـ أصبحت منذ ذلك الحين مدينة عربية خالصة، ولكن تعرضت فيما بعد إلى غزوات عديدة من الروم فأصابها التدمير والخراب، وإلى كثير من الصراعات الداخلية، إضافة إلى عوادي الزمن كالزلازل ومرور السنين وتأثيراتها.
ثالثاً- تحديد حمص القديمة:
ويقصد بها المدينة التي كانت تقع داخل السور، وهي المدينة التي أصبحت إسلامية، ومخططها عربي إسلامي حتى نهاية العهد العثماني، ويمكن لأن يضاف إليها عدة مناطق خارج السور، ثم التوسع فيها في أواخر العهد العثماني، حيث أن لها الطابع العمراني التراثي نفسه مع لمسات تحديثية متأثرة بأنماط أوربية.
ويمكن القول إن المدينة العربية القديمة كانت كياناً متكاملاً يتألف من جزئيات معمارية خضعت عبر الزمن إلى عوامل عديدة أثرت في تشكلها، وطبعت تجانس الجزئيات أو عدم تجانسها بطابع خاص اختلف طرازياً عبر العصور التاريخية العربية التي عاشت فيها المدينة.
لكن معالم المدينة العربية الإسلامية في حمص بقيت محافظة على طابعها العام منذ فتحها، وفي مختلف العهود الإسلامية حتى نهاية العهد العثماني. ومن أهم العوامل التي أثرت في التطور العمراني لمدينة حمص العربية في الواقع المعاصر:
__________
(1) -انظر على سبيل المثال: ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، طبع بيروت 1908م ص 29.(1/3)
1- العامل التاريخي: الذي يتمثل بسيطرة نظام معماري واحد لفترة زمنية محددة ثم تمازجه مع نظام جديد وافد.
2-العامل الجغرافي: أي تأثير الموقع على المدينة من مناخ وبيئة ومواد بناء أولية وغيرها.
3-العامل الاجتماعي: أي ارتباط المباني والأحياء بفئة اجتماعية تربطها
روابط القرابة السرية أو الدينية أو المهنية، مما يعني وجود البيت العربي المبني على
عائلة واحدة.
4-العامل الوظيفي: ويظهر في السيباطات والأزقة لخدمة الأحياء، وفي الاعتناء بداخل البيوت وباحاتها وحدائقها مقابل بساطة الواجهات الخارجية.
5-عامل التمدن والتطور: في أواخر العهد العثماني وتوسع المدينة خارج السور الذي يقرب شكل المدينة القديمة من المستطيل.
وكان للمدينة سور روماني قديم وجدت بعض آثاره مدفونة تحت المدينة القديمة، ولكن السور الباقي هو سور عربي إسلامي تمّ بناؤه وترميمه على مراحل، وكان السور هو الذي يحدد حدود المدينة القديمة داخله، وكذلك التوسعات التي تمت بجواره بدءاً من عام 1287هـ/1870م.
وعندما ألغى السلطان عبد العزيز عام 1287هـ/1870م ضريبة المكوس على البضائع أُلغيت الحراسة على الأبواب، فتُركت مفتوحة ليلاً ونهاراً، ثم أهمل ترميمها وبدأ الخراب يدب إلى السور، ثم قام بعض الناس من المسؤولين وغيرهم باستعمال أحجار السور لأغراض البناء، وللسور والخندق الذي يحيط به تاريخ من البناء والتهدم ليس المجال لذكره هنا(1).
رابعاً- واقع الآثار العربية الباقية في حمص القديمة:
المخطط الحالي للمدينة القديمة في حمص أصبح مخططاً إسلامياً من حيث توزع المناطق السكنية والتجارية والحرفية، وتوزع المساجد والحمامات والخانات، ومن حيث نظام البناء والطرق..الخ.
__________
(1) -محمد ماجد الموصلي: المرجع السابق ص 63. وانظر ساطع محلي: حمص أم الحجارة السود ص 115، ومحمود عمر السباعي: دراسة وثائقية ص 15.(1/4)
وتضم المدينة القديمة مجموعة من الآثار العربية التي قاومت عوادي الزمن، أو تم ترميمها وصيانتها فاستمر وجودها، وضاع الكثير من الآثار، وتستمر الأيدي الجاهلة أو المغرضة المتعمدة بإزالة ما يدل على التاريخ العربي والإنسان العربي؛ كالمباني الدينية المختلفة والمقابر وغيرها، وقد تم تسجيل مجموعة من هذه الآثار لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف خلال مراحل تأسيس هذه الدائرة، ولم تشمل عملية التسجيل كل المباني التي يتوجب الحفاظ عليها، وتجري عملية التسجيل بصورة دورية ولكن ليس بالسرعة المطلوبة، ويتم التسجيل بحسب قانون الآثار للمباني التي عمرها أكثر من 200 سنة، أو للآثار التي عمرها أقل من ذلك، ولكن تتمتع بخصائص تاريخية تراثية.
ويمكن تقسيم المباني التاريخية والتراثية التي تعتبر آثاراً باقية إلى مجموعتين رئيسيتين، منها ما هو مسجل ومنها ما هو غير مسجل لدى دائرة الآثار.
النمط العمراني العام: ويشمل شكل المباني ونمط بنائها، والمواد المستخدمة فيها والحارات والأزقة، وهذا ما يجب المحافظة عليه، وضرورة أن يراعي المخطط العمراني للمدينة القديمة ذلك، ويضع شروطاً للبناء محافظاً على النمط القديم حتى تبقى للمدينة هويتها العربية التاريخية.
وعليه يمكن أن نعرّف قليلاً بنماذج مختلفة لأهم آثار حمص العربية الباقية:
أ- الأبنية العسكرية:
1) سور المدينة:( بحسب الروايات التاريخية والواقع الجغرافي)
كان سور حمص من الحجارة البازلتية السوداء اللون، وله أربعة أبواب، وأُضيفت إليها ثلاثة أبواب أيام الأيوبيين، وطول ضلعه الجنوبي 900م، والشمالي 1575م،و الشرقي 900م، والغربي 825م، وله أبراج في مختلف الجوانب.
وعبر الزمن وفعل الأيدي تهدم القسم الأكبر من السور، ولم يبق منه ظاهر إلا أجزاء بسيطة، وكشف عن أجزاء أخرى تحت الأبنية السكنية، ولم يبق من الأبواب إلا باب واحد اسمه( الباب المسدود)، كما بقيت بعض الأبراج.(1/5)
المهم أن السور لا يلقى أية عناية أو ترميم، مع أنه معلم تاريخي هام يربط الحاضر بالماضي، بل يتعرض للتهدم والخراب، ويلزم تحديد مساره وإظهاره بشكل كامل.
2) الخندق: الذي كان يحيط بالسور إذ كان صناعياً محفوراً في الجهات المرتفعة المحيطة بالمدينة، وطبيعياً في المناطق المنخفضة أو الوديان التي تحيط بالمدينة من بعض الجهات، إذ أن حمص مبنية على تلة مرتفعة عما جاورها، ومرتفعة عن نهر العاصي الذي يمر بجوارها.
وللأسف تم ردم الخندق المحفور وزالت معالمه وإن بقيت بعض المناطق الطبيعية
منه.
3) القلعة: وتأتي أهمية القلعة من كونها أقدم موقع للسكن في المدينة حسب البحوث الأثرية، وقد أنشئت في المنطقة الأكثر ارتفاعاً في المدينة حتى تقوم بدور الحماية والدفاع والبعد عن السيول، وهي في طرف المدينة الجنوبي ومرتبطة بالسور. ومنذ الفتح العربي الإسلامي استمر الاهتمام بالقلعة، واعتُني ببنائها كمركز قيادي وعسكري، وزادت أهمية القلعة أثناء الغزو الصليبي الفرنجي إذ أصبحت حمص مركزاً عسكرياً في عهد الأتابكة الزنكيين ثم الأيوبيين ثم السلاطين المماليك، إذ اهتموا جميعاً بترميمها وإصلاح ما يتهدم منها جراء الزلازل وعوامل الزمن، والمنشآت المتبقية الحالية هي من العهد الأيوبي.
وكانت القلعة تضم مساكن الحاكم والجيش ومسجداً وحماماً وغير ذلك من المستودعات، وتهدمت بفعل الزلازل وامتدت إليها الأيدي لتأخذ حجارتها، ولذلك لم يبق منها إلاّ بعض الأبراج والجوانب المكسية بالحجارة، كما يجري التنقيب فيها.
ب: من المنشآت الدينية:
4) جامع النوري الكبير:(1/6)
هو أقدم جامع في حمص إذ أقامه أبو عبيدة بن الجراح قائد جيوش الفتح الإسلامي، وذلك في نصف الكنيسة حسب الاتفاق الذي تم ليظهر للناس إيمان المسلمين بالله وبالأنبياء وطريقة عبادتهم، ولذلك فإن نموذج بنائه بحسب النموذج الذي ساد في عهد الخلافة الأموية مثل الجامع الأموي بدمشق، والعمري في البصرة، والعمري في درعا، وجامع عمر في القدس، وجامع بعلبك، وهو على شكل مستطيل مع حرم وصحن، وتم توسيعه وإعادة بنائه وترميمه على مراحل مختلفة، وكان أهمها على يد نور الدين الشهيد عام 552هـ/1157م عقب تصدعه بفعل الزلازل(1)، وعرف منذ ذلك الحين باسمه. وتم ترميمه عدة مرات بعد ذلك.
ويقع المسجد الآن في وسط المدينة وحوله مركز المدينة التجاري، ولذلك فإن الاهتمام به ضرورة تاريخية أثرية إضافة إلى الأهمية الدينية.
5) جامع خالد بن الوليد:
الذي بني مسجداً لأول مرة فوق قبر الفاتح العربي الصحابي الجليل خالد بن الوليد بأمر من السلطان الظاهر بيبرس عام 663هـ/1265م، ولكن البناء الحالي بناه السلطان عبد الحميد الثاني إذ تم عام 1328هـ/1909م، ويعتبر من أهم المعالم العمرانية التاريخية في حمص إذ يشبه مسجد السلطان أحمد في استانبول (الجامع الأزرق) ومسجد محمد علي باشا في قلعة صلاح الدين بالقاهرة، وهو شعار المدينة الرسمي.
ويوجد في حمص عدد كبير من المساجد التاريخية الأثرية تحتاج إلى الاهتمام بها، وكذلك الكثير من المقامات والأضرحة والترب والمقابر والزوايا والتكايا. وخاصة أنه توفي ودفن في حمص عدد كبير من الصحابة؛ ثم التابعين ثم العلماء والمجاهدين في مختلف العصور الإسلامية.
ج: ومن المنشآت الإدارية والسكنية:
6) قصر الزهراوي:
__________
(1) -كامل شحادة : إعادة بناء مدخل الجامع النوري الكبير بحمص، مجلة الحوليات الأثرية ص 267، وانظر: محمد أبو الفرج العش:أخشاب من تربة خالد بن الوليد القديمة بحمص، مجلة الحوليات الأثرية السورية م 19، 1969م ص 15.(1/7)
وهو من عهد السلطنة المملوكية إذ بني حوالي عام 661هـ/1262م. وتمت توسعته في عهد السلطنة العثمانية، وكان مقراً لغرفة تجارة حمص ومقراً للحاكم، وتقرر تحويله إلى متحف للتقاليد الشعبية، ولكن العمل بذلك ما زال متعثراً، وهذا القصر هو أحد قصور كثيرة وبيوت أثرية مثل (قصر مفيد الأمين 747هـ/1343م وقصر عبد الله فركوح وقصر عبد الحميد باشا الدروبي وقصر آل الحسيني).
ج- ومن المنشآت الاقتصادية والاجتماعية:
7) حمام العثماني:
وقد بني في عهد السلطنة العثمانية عام 1215هـ، وهو أحد الحمامات المتبقية بعد أن هدم العديد منها مؤخراً بلا رحمة، كما يوجد حمام الصغير من العهد الأيوبي، وحمام العصياتي من العهد المملوكي، وحمام الباشا من العهد العثماني أيضاً.
8) الأسواق التجارية:
وهي أسواق تاريخية أثرية مسقوفة بالعقد تتوزع فيه أنواع التجارة، ويضاف إليها مناطق الدكاكين والحرف والورشات المختلفة الموزعة في المنطقة التجارية.
ومن أهم الأسواق (سوق النوري) المجاور لجامع النوري الكبير، وسوق الحسبة الذي كان يوجد فيه المحتسب، وسوق البازار باشي الذي كان يوجد فيه كثير من التجار، وأسواق المنسوجات والصاغة والحرير والعطارين والفرواتية، كما توجد القيصاريات المخصصة لبعض المواد التجارية ويتبعها مساكن للتجار، ويضاف إلى الأسواق الخانات التي لم يبق منها إلا القليل إذ أزيلت حديثاً بلا رحمة أيضاً.
9) الأحياء التراثية:
بأبنيتها وأزقتها وسيباطاتها وهي ذات طراز عمراني خاص.
خامساً: آثار حمص العربية الإسلامية في متحف حمص:(1/8)
يضم متحف حمص الذي أنشئ حديثاً مجموعة من الآثار الفنية العربية الإسلامية، ومن أهمها قطع حصل عليها المتحف مؤخراً، لكن الآثار الإسلامية الهامة التي اكتشفت قبل إنشاء متحف حمص نقلت إلى العديد من المتاحف الأجنبية قبل الجلاء، ونقل بعضها إلى المتحف الوطني بدمشق، وتوجد بعض الآثار في (متحف الآثار الإسلامية) التابع للأوقاف في حرم جامع خالد بن الوليد.
سادساً: مشاهد من إهمال المعالم التراثية والأثرية العربية في حمص القديمة:
لقد أزالت بلدية حمص منذ مطلع القرن العشرين الميلادي معالم أثرية
وتاريخية كثيرة ومواقع لم تحافظ عليها وتساهلت في ضياع كثير من الآثار في مراحل مختلفة، بل وتسببت في ذلك بسبب مخطط المدينة الذي وضعته شركة أجنبية والذي اكتسح وما زال بلا وعي الآثار والمعالم التاريخية والتراثية، ولكن أُركز على بعض أعمالها الأخيرة منذ الستينات (ق 20م) كأمثلة.
1-تجاه المقابر الإسلامية(1):
تحيط المقابر الإسلامية بالمدينة المسوّرة من جميع الجهات، وغالباً ما تكون
قريبة من أبواب سور المدينة(2)ولكن المدينة منذ القرن التاسع عشر الميلادي توسعت وتجاوزت السور وأصبحت المقابر ضمن المدينة، ووجود هذه المقابر يعتبر معلماً تاريخياً وأثرياً عمره مئات السنين وبعضها منذ الفتح العربي، ودفن فيها الصحابة وكل المتوفين في حمص عبر تاريخها العربي الإسلامي من أبنائها، وهم مرتبطون فيها لأن بها أصولهم وتاريخهم.
__________
(1) -انظر آلام الحمصيين تجاه المقابر وضياع الآثار في :عبد المعين الملوحي: في بلدي الحبيب والصغير حمص، ص 41-55.
(2) -محمود عمر السباعي :حمص دراسة وثائقية ص44.(1/9)
ولا أريد أن أناقش حرمة المقابر في الشريعة الإسلامية، ولا الإشارة إلى ذلك لدى الشعوب الأخرى وأديانهم لنتعلم منها كاليهود والنصارى وغيرهم، وإنما أركز على الناحية التاريخية والأثرية والتراثية، وهذا فعلاً ما تمثله هذه المقابر، ولكن البلدية التي أرادت تعويض التوسع الفوضوي للمدينة وضيق الشوارع وقلة الحدائق وقصور المخططات التنظيمية، فهداها تفكيرها إلى حل سريع وهو الاعتداء على هذه المقابر ونبش قبورها وتحويلها إلى حدائق مفتوحة، مع أنها كانت تقوم بهذا الدور، وإلى ساحات وشوارع وأماكن لهو ومقاهي، ليتمشى فيها الناس الذين استغلوا الأراضي فبنوا عشوائياً ليتمتعوا بهذه المقابر، فكأن الأمر مكافأة لهم، لقد كان اعتداء الأحياء بعضهم على بعض، وهم الآن يعتدون على الأموات وقبورهم، وأرض المقبرة وقف منذ مئات السنين ولا يجوز المساس بها حسب مفهوم الملكية الشرعية.
كما حولت البلدية بعض المقابر أو أجزاء منها إلى طرق لتعويض الازدحام
الذي سببه سلوك الأحياء في البناء غير المنظم وغير المدروس للمستقبل من قبل البلدية.
إن إزالة المقابر هو إزالة لتاريخ المدينة ومعالمها التاريخية، وهو إزالة لآثار حقيقية ومرتبطة بحياة كل مواطن في المدينة ففيها جذوره، وإن كانت بسيطة فهي تدل على وجود إنساني منذ مئات السنين، لأن المسلمين لا يبنون قبوراً ضخمة كما فعل الأقدمون، ولا يعظمون القبور لكبارهم ولا لعامتهم، وهو إزالة لمواقع تاريخية عربية، وإزالة تراث عمراني عربي إسلامي يدل على حدود سور المدينة ومراحل تطورها العمراني وطريقة الدفن وغيرها، وإزالة ذكريات كل السكان وماضيهم.(1/10)
وبالمقابل تقوم إدارة الآثار حين اكتشاف حجارة قبر قديم قبل العهد العربي الإسلامي فتأخذه وتضعه في المتاحف وتنفق عليه لتثبت أن الرومان واليونان ومن كان قلبهم كانوا هنا، أما هذه المقابر وكل حجارتها، وما هي إلا آثار بكل معنى الكلمة، فتتركها تضيع لكي لا يبقى ما يثبت أن العرب كانوا هنا منذ أربعة عشر قرناً وحرروا البلاد من الرومان والفرس وغيرهم.
2-البلدية (مجلس المدينة) والموقف من إزالة مقام النبي هود:
ومن أحدث أعمال الاعتداء على الآثار التاريخية التراثية الدينية إزالة مقام النبي هود، وهو في الأصل مسجد قديم منذ مطلع العهد الإسلامي، وقد تحول إلى مسجد صغير وزاوية صوفية بجانب القبر القديم المتوارث أنه للنبي هود، وهو يقع بالقرب من أحد أبواب سور المدينة المسمى باسمه( باب هود).
وتمت الإزالة بسبب مخطط المدينة الذي لم يراعِ ذلك، وكان يجب الانتباه إلى ذلك أثناء التنفيذ، فتتم التعديلات الضرورية، ولكن مالك العقار الواقع خلف العقار الأثري هدم المبنى ليلاً ليصبح مبناه على الشارع الجديد مباشرة، وضاع الأمر بين أيدي مديرية الأوقاف ودائرة الآثار ومجلس المدينة، ولم تنجح جهود الجمعية التاريخية والمخلصين لآثارنا وتاريخنا العربي في إعادة المبنى الأثري ومعاقبة المعتدي، بل تحول إلى جدار يمثل واجهة المبنى وضعت في مكان بعيد عن الموقع الأصلي، وفي أرض مقبرة تراثية أُزيلت حديثاً؛ وحولت إلى حديقة ومقهى وطرق، ولا أظن أن ذلك يحصل في غير مدينة حمص فيضاف إلى ما يقال من نوادر عنها، والأمر ما زال يراوح في هيئة التفتيش.
3-سلوك البلدية( مجلس المدينة) تجاه التراث العمراني للمدينة القديمة داخل السور وخارجه:(1/11)
تتميز مدينة حمص القديمة داخل السور بتراث عمراني خاص إضافة إلى التراث المعروف للمدن العربية الإسلامية، فبيوتها مبنية بالحجارة السوداء البركانية المتوفرة في منطقتها، وطراز بنائها عربي إسلامي يتألف من باحة وغرف حولها ونباتات منزلية مختلفة فيها.
كما تتميز بضيق شوارعها وأزقتها لتتناسب مع الظروف الخاصة بعدم وجود
سيارات لسهولة الانتقال، ومع الأوضاع الأمنية حيث يسهل إغلاقها، ومع الظروف الطبيعية لتفادي حرارة الشمس والبرد الرياح.
وللأسواق والأماكن العامة مواقع خاصة كالمقاهي والمهن، فلا تختلط بمواقع الأحياء السكنية بل تخدمها، ولكن مما يؤسف له أنه تم السماح بهدم البيوت القديمة وإقامة مباني تتراوح بين طابقين وسبعة طوابق على نفس الأزقة السابقة تقريباً مع تعريض بسيط مما أدى إلى اختناق في الحركة والمرور والخدمات، وبنيت هذه العمارات بطرق جدبدة من بناء البلوك الإسمنتي وبدون أي نمط عمراني, لا في الشكل ولا في المواد, فأصبح التناقض ظاهراً بين القديم المتميز والجديد الذي بني على عجل وبدون أي دراسة فنية أو عمرانية أو حديثة, مما أحدث تغيراً أيضاً في بنية المجتمع داخل السور وضاعت كثير من الأبنية التاريخية أو الأثرية أو التراثية الجملية بين إهمال البلدية وسوء تخطيطها وطمع الناس وجهلهم, وما زالت الأيدي الجاهلة والطامعة تحاول الانقضاض على ما تبقى من المباني التاريخية والأثرية والتراثية.
كما تمت إزالة كثير من المباني التراثية السكنية والتجارية كالأسواق والخانات والحمامات وعمرها أكثر من مائة سنة خارج السور, مع أنها مبنية بطريقة العقد ويمكن لها أن تعيش مئات السنين وبمزايا مستمدة من التاريخ العمراني للمدينة القديمة ذاتها وللنمط العمراني العربي المتطور.(1/12)
ولم يوضع للمباني الجديدة سواء في المدينة القديمة أو خارجها أي شروط تجعلها ترتبط بتاريخ الأمة عمرانياً وحضارياً, فأصبح التناقض واضحاً ولدى مديرية الآثار بحمص سجلت بالبيوت الأثرية المتبقية التي تم التعرف عليها, وعددها حوالي (56) بيتاً وسبيلي ماء فقط؟
ومن المواقع التراثية التاريخية داخل السور حي الأربعين) الذي يمثل تجمعاً سكنياً شعبياً في كل معالمه، ببيوته وأزقته وتم إزالته بالكامل في الثمانينات لتقام مكانه أبنية ضخمة إسمنتية لا طعم لها ولا لون ولا رائحة, وتحتاج إلى القضاء على المناطق القديمة المجاورة حتى يمكن الاستفادة منها, وطرد سكان هذا الحي من بيوتهم ومن موقعهم التاريخي ليتشردوا في أطراف المدينة الجديدة وبدون أن يحصلوا
على تعويض مناسب.
4- سلوك البلدية (مجلس المدينة) تجاه المواقع التاريخية والمباني الأثرية:
وأقصد بذلك على سبيل المثال موقعاً يسمى الميدان) يقع خارج السور, وهذا الموقع كان عبر التاريخ ساحة للاحتفالات العامة للمدينة وخاصة المبارزات الحربية, فقامت البلدية بالسماح بالبناء به وتحويله إلى حي مكتظ, فلم يبق إلا اسمه, وكان يمكن تركه وتحويله إلى ساحة عامة تخدم المدينة في توسعها كما خدمها حينما كانت محصورة داخل السور, ويبقى الاسم التاريخي شاهداً على الماضي.
وفي المدينة القديمة وخارجها مواقع تاريخية, أي حدثت فيها أحداث يلزم الإشارة إليها ووضع لوحات تشير إلى ذلك, ولم يحصل ذلك لأي موقع.
ومثال آخر (خندق القلعة) الذي يحيط بها, وخندق المدينة ويرمز إلى دوره القتالي المتمم لدور القلعة والذي يساعد على حمايتها بملئه الماء, ولكن البلدية قامت بردمه في السبعينات فزال من الوجود ولم يبق له مدلول تاريخي متمم للقلعة وللمدينة.(1/13)
ومثال آخر (مواقع أبواب السور السبعة) كان من الأفضل المحافظة عليها بما لها من دلالات تاريخية سياسية واقتصادية، مثل باب تدمر، وباب الدريب، وباب السباع وباب التركمان، وباب هود، وباب السوق، والباب المسدود؛ وهو الوحيد الذي بقي من الأبواب، وأصبحت أسماؤها تطلق على بعض أحياء المدينة، وقد شاهدت مدينة جدة تصلح الخطأ الذي ارتكب بهدم أسوارها بإعادة بناء الأبواب القديمة ثم إقامة أبواب جديدة بعد توسع المدينة.
ومثال آخر هدم (حمام الصفا) رغم أنه في حالة سليمة وجميلة ويمثل رمزاً حضارياً مع غيره من الحمامات التي أزيلت، ولكن بهدف إعادة تخطيط المنطقة. وقد هدمت من قبل (الناعورة والتكية والدبويا والقشلة (الثكنة العسكرية) والسرايا والخانات). وغيرها كثير، ففي مطلع القرن أزيلت (الصومعة) وهي مقبرة قديمة.
ومن المواقع التاريخية المهمة (ساحة باب السوق) التي هي مركز الحياة في
المدينة عبر تاريخها والتي حدثت فيها أحداث تاريخية، كان حري أن يشار إليها؛
إليها والمحافظة على شكلها وتطويره.
ومن المواقع التاريخية بساتين حمص وطواحين نهر العاصي الواقعة غربي المدينة منذ مئات السنين، والتي لها تاريخ خاص ودور اقتصادي متميز والجسور التاريخية وإزالة القنوات والسواقي القديمة بلا مبرر، تعرضت إلى الهجوم عليها مما أحدث تغييراً في التكوين التاريخي والاقتصادي، حيث تمت إزالة هذه الطواحين الأثرية والدالة على التاريخ الاقتصادي العريق، مع العلم أنه كان لهذه الطواحين مهام طحن الحبوب، وجسر على النهر وسد يرفع المياه ويوزعها، وكذلك (الساقية) التي كانت تخترق المدينة وتشغل ناعورتها(1). والآبار والسبل.
واستملك مجلس المدينة مباني تاريخية تراثية لإقامة مباني جديدة (كتل من الإسمنت) مثل (مقهى الفرح) ولكن تم تسجيله أثرياً.
سابعاً: بعض الجهود للحفاظ على حمص القديمة العربية:
__________
(1) -محمود عمر السباعي: حمص دراسة وثائقية، ص49،9.(1/14)
بعد أن تعرضت آثارنا إلى عوامل الزمن ثم إلى العبث كاقتلاع أحجار القلعة من قبل إبراهيم بن محمد علي باشا والي مصر لبناء قشلة عسكرية عام 1832م وإلى النهب الذي قام به الفرنسيون المحتلون في كل موقع تاريخي وأثري، والسرقة من ضعاف النفوس وأصحاب المصالح.
فقد صدر القرار رقم 485 في 13/11/1945م عن وزير المعارف وحدد قائمة بالمباني الأثرية في سورية، ثم أنشئت المديرية العامة للآثار والمتاحف للحفاظ على الآثار القائمة والتنقيب عن الآثار المدفونة للبحث عن التاريخ القديم البائد المدفون قبل التاريخ العربي، وبدأ الوعي الشعبي تجاه الآثار يظهر، وبدأ بعض المواطنين يعلنون عما لديهم من أثار؛ أو ما يظهر عند الحفر لإقامة مبنى أو الحراثة، ومنهم من يعلن عن ذلك عن وعي، وبعضهم خوفاً من العقاب، أو اقتناعاً بالترغيب والتشجيع.
وبعد أن تعرضت حمص إلى الكثير من الإساءة إلى معالمها التراثية، وإزالة الكثير من آثارها وتضييع تاريخها، فقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم 1851 بتاريخ 25/6/1990م بتشكيل (لجنة حماية المدينة القديمة) وتضم أربعة عشر هيئة ثقافية تخصصية ومنها الجمعية التاريخية، وتضم (رئيس مجلس المدينة وعضو المكتب التنفيذي لشؤون الثقافة، وممثل شعبة المدينة وممثل عن الآثار وعن الأوقاف ورئيس نقابة المهندسين، والسياحة، والدائرة الفنية في مجلس المدينة، ورئيس قسم الهندسة في مديرية الآثار، ونقابة الفنون، واتحاد الكتاب، وكلية الهندسة، ورئيس المكتب الفني)، للحوار مع مجلس المدينة والمسؤولين لدراسة نظام ضابطة البناء الجديد بحمص لمراعاة ما تبقى من الآثار والنظام العمراني الأثري والتراثي.
وصدر قرار مجلس مدينة حمص رقم 32 بتاريخ 14/7/1991م القاضي بوضع الجزء الخاص بالمدينة القديمة من المخطط العام تحت إعادة الدراسة.(1/15)
وبدأت اجتماعات مطولة وزيارات ميدانية للمواقع الأثرية في المدينة القديمة، ودارت مناقشات ساخنة خلال ست سنوات، فصدر نظام ضابطة البناء عن مجلس مدينة حمص بتاريخ 21/12/1996م. وكانت المناقشات ساخنة حتى أمكن أن تكون الخسائر التراثية أقل ما يمكن اعتماداً على قرار المديرية العامة للآثار والمتاحف عام 1990م.
ونظراً لصحوة المواطنين وطلبهم التوقف عن هدم تاريخ حمص وآثارها وتراثها العمراني، وتدمير بيئتها الطبيعية كالبساتين والقنوات عبر الصحافة المحلية والعامة، وآخرها دعوة عبد المعين الملوحي عام 1996م(1)، فقد صرح محافظ حمص حول لجنة حماية المدينة القديمة بعدم التعدي على بيوتها وأحيائها الشعبية، وأنه شكلت لجنة أخرى للنظر في تطوير قلعة حمص المهملة وتحسينها وتحويلها إلى منشأة سياحية.
ولعل قيام المعهد العربي لإنماء المدن بالتعاون مع بلدية حمص بإقامة (ندوة التراث العمراني في المدن العربية بين المحافظة والمعاصرة) في حمص، في الفترة من 7-10 رجب 1422هـ (24-2 أيلول 2001م)(2)، دليل على ظهور بعض الاهتمام المتأخر بمدينة حمص القديمة لإنقاذ ما تبقى منها. ونتمنى لذلك الجهد النجاح على اعتبار أنها مدينة عربية تاريخية.
__________
(1) -عبد المعين الملوحي: في بلدي الحبيب والصغير حمص، ص53.
(2) -انظر برنامج الندوة ونص البحوث، مجلس مدينة حمص (2001م).(1/16)
ولكننا نجد أن ما أعطي لحمص من المساهمة في الندوة وهي المدينة المضيفة، قليل جداً إذ تمثل ببحث لرئيس مجلس المدينة د.بهجت الجندلي بعنوان (التراث العمراني ما بين المتطلبات الملحة والإمكانيات المتاحة). وببحث للدكتور زهير جبور بعنوان (استراتيجيات للحفاظ على المدينة العربية القديمة حمص، إحياء مدينة قديمة). والاثنان مدرسان في كلية الهندسة المعمارية بجامعة البعث، ولم يسمح لأي باحث يهتم بحمص القديمة بالمشاركة، أو بالتاريخ، ليدافع عن المدينة القديمة ويعرض حالتها، وفي بحثيهما عرض لمشكلة المدينة القديمة كما اعتبراها.
ثامناً- مخططات تنظيم حمص وأثرها على المدينة القديمة:
حمص القديمة هي المحصورة داخل السور، والتي امتدت خارجه في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي بشكل بسيط، ولكن المدينة الحديثة أحاطت بالمدينة القديمة وتوسعها من جميع الجهات.
ولقد بدأ التوسع في المدينة الحديثة في عهد الاحتلال الفرنسي الذي اهتم بشؤون الأراضي والسيطرة عليها لأسباب عديدة بحجة التنظيم، ونظم في حمص منطقة جديدة تقع في غربي المدينة ووزعت على فئات معينة تتعامل معه، وكانت البداية للتوسع غرباً والقضاء على بساتين حمص، مع أن جهات المدينة الثلاث ليس فيها ما يعيق التوسع نهائياً، وانتهى عهد الانتداب الفرنسي بمخطط عام للمدينة لأول مرة، وهو أقرب إلى توثيق الوضع الراهن(1).
ثم كانت حركة التوسع بعد جلاء الفرنسيين بشكل غير مدروس جيداً، وغلبت عليه المصالح الشخصية وفقدان النظرة الشمولية، حتى شعرت البلدية بالحاجة إلى مخطط حديث للمدينة، فطلبت من شركة دوكسيادس، وهي شركة يونانية وضع هذا المخطط لتستطيع مسايرة التطور السريع، وتذليل الصعوبات الحالية والمستقبلية، ووافقت عليه وزارة الشؤون البلدية بتاريخ 29/12/1961م، ولكنه لم ينجح لأسباب كثيرة، من المفترض أن يخدمها حتى عام 1990م.
__________
(1) -عماد الدين الموصلي: ربوع محافظة حمص ص 414.(1/17)
وعلى هذا المخطط ملاحظات كثيرة أهمها:
1- أساء إلى المدينة القديمة إساءة بالغة، وراعى تنظيمات غير عادلة بين السكان، وكانت منطقة الأسواق القديمة والعديد من الأبنية التاريخية والتقليدية ضحية هذا المخطط(1).
2-سمح بإدخال منطقة وعر حمص الغربية في المدينة مما أدى إلى انقسام المدينة إلى قسمين: غربي النهر ، وشرقيه، وأدى بالتالي إلى الإطباق على بساتين حمص التاريخية، وإزالة ميزتها كحديقة مجاورة للعاصي، وأحدث مشكلات حياتية للسكان، وأخر التطور فيها بسبب تباعد المنطقتين(2).
وفي عام 1964م تم تكليف أجنبي آخر وهو المعمار البولوني جوزيف كوجنسكي ليعمل على تعديل المخطط المعد من قبل دوكسيادس، وتم اعتماد المخطط المعدل عام 1967م، ومن المفترض أن يكون العمل به حتى عام 2000م(3)، ولكن التطور الفوضوي للمدينة في كل المجالات أفشل هذا التعديل أيضاً.
ويؤكد الدكتور جبور على أن المخطط العام الموضوع للمدينة لم يراعِ خصوصية المدينة القديمة، ولم يلحظ بخطوطه العامة السمات القائمة للمدينة القديمة، فقد أدى بسبب المحور الشرقي الغربي المفترض إنشاؤه بعرض( 40 م) تقريباً إلى التخريب السريع للسمة التقليدية للمدينة القديمة في وسطها.
ثم حدد مجلس المدينة عشرة أهداف لدراسة مخطط المدينة أهمها:
1- الحفاظ على كيان المدينة كلها.
2- الحفاظ على كافة المفردات التاريخية والتقليدية الهامة وإحياؤها.
3-عدم المساس بالبيوت العربية التقليدية.
4- توضيح هيكلية شوارع المدينة القديمة.
يمكننا القول بأن تجربة الحفاظ على مدينة حمص القديمة تجربة متأخرة جداً، وليتها تستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثار والتراث والهوية العربية.
__________
(1) -زهير جبور: استراتيجيات الحفاظ على المدينة العربية لقديمة، حمص، إحياء مدينة قديمة ص 65.
(2) -ساطع محلي: حمص أم الحجار السود ص 125.
(3) -زهير جبور: المرجع السابق ص 65.(1/18)
تاسعا-مقترحات للاهتمام بآثار حمص التاريخية والتراثية:
* الحاجة إلى خريطة سياحية للآثار التاريخية والتراثية المختلفة في حمص، مع نشرة تعريفية وترغيبية بالزيارة.
* وضع لوحات إرشادية في طرق المدينة للدلالة على مواقعها للراغبين بزيارتها.
* وضع لوحات تعريفية لكل موقع تاريخي أثري وتراثي.
* توعية المواطنين بأهمية هذه الآثار العربية للاهتمام بها والحفاظ عليها، والتصدي للعابثين بها، أو المغرضين ومنعهم من التعدي عليها بأية طريقة، وتعريفهم بقانون الآثار وعقوباته.
خاتمة:
أخيراً يمكن القول: إنه على الرغم من أن آثار حمص العربية الباقية قليلة نسبياً بسبب ما تعرضت له من زلازل وإهمال، فإن ما بقي كان كافياً لأن يربط الحاضر بالماضي، ولكن مع ذلك فإن الاهتمام بهذه الآثار لم يكن متناسباً مع أهميتها، وما زالت يد العبث تفعل فعلها، وهذا هو واقع الآثار، ولذلك فإن جهود دائرة الآثار لا تحقق طموحنا في الحماية والترميم والصيانة، وتسجيل المباني المختلفة، والتوعية اللازمة.(1/19)
من نشاطات الجمعية
في النصف الأول من عام 2006
* بتاريخ 27/1/2006 عقدت الهيئة العامة للجمعية التاريخية اجتماعها السنوي بحضور السيد غزوان قبق مدير الشؤون الاجتماعية والعمل بحمص، وقد تمخض عن هذا الاجتماع انتخاب مجلس إدارة جديد،تم توزيع المهام بينهم على النحو التالي:
1- الأستاذ عبد الحفيظ شمّا ... ... رئيساً لمجلس الإدارة
2-الأستاذ حبيب طرّاف ... ... نائباً للرئيس
3-الأستاذ أحمد سليم طه ... ... أميناً للسرّ
4-الأستاذ نبيه التلاّوي ... ... ... أميناً للصندوق.
5-الأستاذ محمد الشّاطر ... ... مديراً مسؤولاً لمجلة البحث التاريخي
6-الآنسة منيرفا أبو جنب ... ... أميناً للمكتبة
7-الأستاذ سعد الدّين أيوب ... ... مسؤولاً للرحلات
* في سلسلة كتب وأقلام من حمص التي تهدف للتعريف بأبناء حمص من المفكرين والباحثين والأعلام ورجال الفكر والقلم، وبالاشتراك مع رابطة الخريجين الجامعيين، وجهت الدعوة لحضور الندوة الثالثة عشرة مع كتب المفكر الباحث الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الدايم في مقر رابطة الخريجين الجامعيين، في الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء الواقع في 15/2/2006.
وبالرغم من أن الجو كان عاصفاً فقد غصت الدار بالحضور، وقد عرّف بالمحتفى به وبكتبه ومؤلفاته وأبحاثه كل من الدكتور عبد الرحمن البيطار، والدكتور عبد الإله النبهان، والدكتور طيّب تيزيني، والدكتور سعد الدين الخرفان، والأستاذ محمد راتب الحلاّق، وفي نهاية الحفل قدمت
الجمعية بالاشتراك مع الرابطة درعاً تذكارياً للدكتور المكرّم المُحتفى به.
* بدعوة من الجمعية التاريخية ألقى المهندس الباحث رياض زيد محاضرة في مقر الجمعية بعنوان:
مشاهد وشواهد من القدس
في الساعة السابعة من مساء 27/3/2006، وكان الحضور كثيفاً، وقد تحدث المحاضر عن المدينة العربية المقدسة، وما يحاك لها من مؤامرات.
* افتتح في مقر الجمعية التاريخية معرض الفنان التشكيلي محمد حسن داغستاني بعنوان:
الحروف العربية في اللوحة التشكيلية(1/1)
وهي تجربة رائدة في الفن التشكيلي أثبت فيها الفنان أن الحرف
العربي له قدرة متميزة في صناعة اللوحة التشكيلية كعنصر جمالي جديد.
وقد زار المعرض كثير من المهتمين بهذا الفن مبدين إعجابهم بمعروضاته وألوانها الساحرة، وقد دام المعرض مدة عشرة أيام من 10/4/ -20/4/2006.
* وبدعوة من الجمعية التاريخية ألقى المهندس الباحث في اللغات القديمة الأستاذ ملاتيوس جغنون محاضرة في الجمعية التاريخية بتاريخ 19/4/2006 الساعة السابعة مساء بعنوان:
تجربتي في قراءة الخطوط القديمة-عربيات الجنوب
وهي تجربة شخصية في قراءة الكثير من الخطوط العربية الجنوبية القديمة وترجمتها، وقد أعقب المحاضرة مداخلات وتساؤلات أجاب عنها المحاضر.
* وبناء على دعوة مجلس الإدارة اجتمعت الهيئة العامة للجمعية اجتماعاً استثنائياً بتاريخ 15/7/2006 ووافقت على تعديل بعض مواد النظام الداخلي للجمعية التي لم تعد تفي بمتطلبات العصر الحاضر، لمضي أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على صدوره.
... ... ... ... ... ... ... أمين السّر(1/2)