إجابات الشيخ عبد الرحمن البراك على أسئلة أعضاء ملتقى أهل الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على النبي الكريم محمد وآله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فقد تكرم فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ـ حفظه الله ـ بالموافقة على إجراء لقاء معه يجيب فيه أسئلة أعضاء موقع « ملتقى أهل الحديث » ، وقد عَرضتُ هذه الأسئلة على الشيخ ، وتكرم بإملاء هذه الإجابات ـ بارك الله في الشيخ ، ونفع المسلمين بعلمه .
عبد الرحمن بن صالح السديس
sds55@gawab.com
1- السؤال :
الذي يطوف على القبور كقبر الحسين والبدوي وغيره هل عملهم مكفر-مع غض النظر عن أعيانهم- لكن السؤال : هل هناك من قال إذا كان الطواف للتحية ليس كفر ومن كان للعبادة كفر؟ هل لهذا القول قائل من السلف ؟
الجواب:
الحمد لله حمداً كثيراً طيبا مباركا فيه وصلى الله وسلم ، وبارك على عبده ، ورسله ، وعلى آله وصحبه أما بعد :
فمعلوم لجميع المسلمين أن الطواف بالبيت العتيق عبادة شرعها الله في الحج والعمرة ، وفي غير هما، ولم يشرع الله الطواف بغير بيته فمن طاف على بَنِيَّةٍ أو قبر، أو غيرهما عبادة لله ؛ فهو مبتدع ضال متقرب إلى الله بما لم يشرعه ، ومع ذلك فهو وسيلة إلى الشرك الأكبر ؛ فيجب الإنكار عليه ، وبيان أن عمله باطل مردود عليه كما قال صلى الله عليه وسلم :" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
أما من قصد بذلك الطواف التقرب إلى صاحب القبر فهو حينئِذ = عابد له بهذا الطواف ؛ فيكون مشركاً شركاً أكبر كما لو ذبح له ، أو صلى له .
وهذا التفصيل هو الذي تقتضيه الأصول ، كما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى". فلا بد من اعتبار المقاصد .
والغالب على أهل القبور القصد الثاني ـ وهو أنهم يتقربون إلى الميت بذلك ـ ، فهم بذلك العمل كفار مشركون ؛ لأنهم عبدوا مع الله غيره .(1/1)
والسلف المتقدمون من أهل القرون المفضلة لم يتكلموا في ذلك ؛ لأنه لم يقع ، ولم يعرف في عصرهم ، لأن القبورية إنما نشأت في القرن الرابع .
وأكثر من أفاض في الكلام على شرك القبور، وبدع القبور، شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ، ثم من جاء بعدهم من أهل العلم ، وعامة كلامهم يقتضي هذا التفصيل المتقدم فإنهم تارة يصفون هذه الأعمال بالبدعة ، وتارة بالشرك . والله أعلم.
2- السؤال:
هل الشرك الأصغر أعظم من الكبائر ، وهل هذا القول على إطلاقة ؟
الجواب:
الحمد لله ، دلت النصوص على أن الشرك فيه أكبر وأصغر ، فالأكبر مناف لأصل الإيمان والتوحيد ، وموجب للردة عن الإسلام ، والخلود في النار ، ومحبط لجميع الأعمال ، والصحيح أنه هو الذي لا يغفر كما قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } ، وأما الشرك الأصغر فهو بخلاف ذلك ، فهو ذنب من الذنوب التي دون الشرك الأكبر فيدخل في عموم قوله تعالى : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }
وهو أنواع :
شرك يكون بالقلب كيسير الرياء ، وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم :" أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " فسئل عنه فقال: "الرياء ".
ومنه ما هو من قبيل الألفاظ كالحلف بغير الله كما قال صلى الله عليه وسلم :" من حلف بغير الله فقد أشرك ".
ومنه قول الرجل: لولا الله وأنت ، وهذا من الله ومنك ، ولولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص كما جاء في الأثر المروي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى : {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
ومنه قول الرجل : ما شاء الله وشئت .
وقد ذكر بعض أهل العلم أن الشرك الأصغر عند السلف أكبر من الكبائر ، ويشهد له قول ابن مسعود رضي الله عنه :" لأنْ أحلف بالله كاذبا أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقا".(1/2)
ومعلوم أن الحلف بالله كذبا هي اليمين الغموس ، ومع ذلك رأى أنها أهون من الحلف بغير الله.
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الشرك الأصغر ليس على مرتبة واحدة بل بعضه أعظم إثما ، وتحريما من بعض .
فالحلف بغير الله أعظم من قول الرجل: ما شاء الله وشئت ، لأنه جاء في حديث الطفيل الذي رواه أحمد وغيره أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون: ما شاء الله وشاء محمد ، ولم ينههم صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أول الأمر حتى رأى الطفيل الرؤيا وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم :" فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ونهاهم عن ذلك ، وقال: إنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أنْ أنهاكم عنها لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ".
وفي رواية "قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد".
والظاهر أيضا : أن قول السلف الشرك الأصغر أكبر من الكبائر يعني مما هو من جنسه كالحلفِ ، فالحلفُ بغير الله أكبر من الحلف بالله كذبا كما في أثر ابن مسعود ، وجنس الشرك أكبر من جنس الكبائر ، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلما قيل : إنه شرك أصغر يكون أكبر من كل الكبائر ، ففي الكبائر ما جاء فيه من التغليظ ، والوعيد الشديد ما لم يأت مثلُه في بعض أنواع الشرك الأصغر ، كما تقدم في قول الرجل: ما شاء الله وشئت. والله اعلم.
3- السؤال:
بعضُ الأخوة من طلبة العلم الذين مَنّ الله عليهم بصحة العقيدة ، يعيشون في بلاد تكثر فيها البدع ، والشركيات ، والمنكرات العظيمة .. ونجد معظم نشاطهم ، و دروسهم في علوم الآلة كالمصطلح ..ونحوه ، أو تحقيق ، وتخريج الكتب ، أو حتى الدروس الفقهية .. ونحوها ولا نجد لهم دروسا ، أو جهودا في تصحيح العقائد الفاسدة ، والبدع المنتشرة في بلادهم ! فهل من كلمة توجهونها لهم ؟ وهل يأثمون بترك الدعوة إلى التوحيد ، ونبذ البدع والشرك مع شدة حاجة الناس لذلك ؟
الجواب:(1/3)
الحمد لله لا ريب أن العناية بعلوم الحديث ودراسة الأسانيد ، وتحقيق الكتب المشتملة على ذلك عمل جليل والحاجة داعية إليه ، وهو سبيل أهل العلم قديما وحديثا ، ولكن لا يخفى أن ذلك كله وسيلة إلى معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتمييز الصحيح من غيره والغاية من معرفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم العمل بهما ، والدعوة إلى ذلك . واستغراق الوقت بالوسيلة عن الغاية خطأ ظاهر لا يليق بطلاب العلم ، ولا يصدر من ذوي البصائر والفقه في الدين .
ولقد أرسل الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، ولقد تحقق ذلك على يده صلى الله عليه وسلم ، ويد أصحابه ، وأتباعه ؛ فالواجب سلوك سبيلهم بالعناية بتدبر القرآن ، وتدبر السنة ،والتفقه فيهما ، والعمل بهما ، والدعوة إليهما ، ومن أوجب الواجبات الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومن المعلوم أن أعظم المنكرات ؛ الشرك ، والبدع كبيرها ، وصغيرها ، فيجب على أهل العلم القيام بذلك عملا بقوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وذلك مما يدخل من قام به في عموم قوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ، ولا يخفى أن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ، ومعنى ذلك أنه إذا لم يتحقق القيام بهذا الواجب تعين على من كان قادرا أن يقوم به نصحا لله ، ولكتابه ولرسوله ، ولعامة المسلمين .(1/4)
فيا أيها الأخوة انهضوا بهذا الواجب العظيم ، واجب الدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ؛ فهذا سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأتباعه كما قال تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، ولا يخفى عليكم فضل الدعوة إلى الله ، وما لها من الأثر العظيم في هداية الخلق ، وأي ثناء ، وترغيب فوق ثنائه سبحانه وتعالى بقوله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، نسأل الله أن يسلك بنا ، وبكم سبيل المؤمنين ، وأن يجعلنا هداة مهتدين إنه تعالى على كل شيء قدير ، والله أعلم.
4- السؤال: سماحة الشيخ استنكر عَليّ أحد الأخوة تكفير الرافضة- المقصود من يقومون بأعمال شركية كالاستعانة و الاستغاثة بالحسين و زيارة و حِج الأضرحة- فقال الأخ (علماً أنه أقدم منى في طلب العلم) أن تكفير عقيدتهم لا يعني تكفير عامة جُهّالهم الذين يُضَلّلون مِن قِبل أئمتهم، ولكن إن نُصِحوا وبُيِّنَ لهم وأقيمت عليهم الحُجة ولم يرجعوا عن تلك العقيدة الفاسدة وجب تكفيرهم ، فما رأي سماحة الشيخ، هل الجاهل منهم معذور بشركه ؟(1/5)
الجواب : الحمد لله : الرافضة الذين يسمون أنفسهم الشيعة ، ويدعون حب آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، هم شر طوائف الأمة ،وقد كان المؤسس لهذا المذهب يهودي اسمه عبد الله بن سبأ ، وأصحابه السبئية الغلاة الذين ادعوا الإلهية في علي رضي الله عنه ،وورثتهم يألهون أئمتهم من ذرية علي رضي الله عنه ، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين ، وإذا أظهروا الإسلام وكتموا اعتقادهم كانوا منافقين ، وهؤلاء من غلاة طوائف الرافضة الذين قال فيهم بعض العلماء : إنهم يظهرون الرفض ، ويبطنون الكفر المحض ، ومن الرافضة السبابة الذين يسبون أبا بكر وعمر ويبغضونهما ،ويبغضون سائر الصحابة ،ويكفرونهم ، ويفسقونهم إلا قليلا منهم . وفي مقابل ذلك يغلون في علي رضي عنه وأهل البيت ، ويدعون لهم العصمة ، ويدعون ان عليا رضي الله عنه هو الأحق بالأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك ، وأن الصحابة كتموا الوصية ، واغتصبوا حق علي في الخلافة ، فجمعوا بين الغلو ،والجفاء ، ثم اعتنقوا بعض أصول المعتزلة كنفي الصفات ، والقدر ، ثم أحدثوا بعد القرون المفضلة بناء المشاهد على قبور أئمتهم ؛ فأحدثوا في الأمة شرك القبور ، وبدع القبور ، وسرى منهم ذلك لكثير من طوائف الصوفية ، والمقصود أن الرافضة في جملتهم هم شر طوائف الأمة ،واجتمع فيهم من موجبات الكفر ، تكفير الصحابة ، وتعطيل الصفات ، والشرك في العبادة بدعاء الأموات ، والاستغاثة بهم , هذا واقع الرافضة الإمامية الذين أشهرهم الإثنا عشرية فهم في الحقيقة كفار مشركون لكنهم يكتمون ذلك ، إذا كانوا بين المسلمين عملا بالتقية التي يدينون بها ، وهي كتمان باطلهم ، ومصانعة من يخالفهم ، وهم يربون ناشئتهم على مذهبهم من بغض الصحابة خصوصا أبا بكر وعمر ، وعلى الغلو في أهل البيت خصوصا علي ، وفاطمة ، وأولادهما ، وبهذا يعلم أنهم كفار مشركون منافقون وهذا هو الحكم العام لطائفتهم ،(1/6)
وأما أعيانهم فكما قرر أهل العلم أن الحكم على المعين يتوقف على وجود شروط ، وانتفاء موانع ، وعلى هذا فإنهم يعاملون معاملة المنافقين الذين يظهرون الإسلام . ولكن يجب الحذر منهم ، وعدم الاغترار بما يدعونه من الانتصار للإسلام فإنهم ينطبق عليهم قوله سبحانه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ،وقوله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } ، ولا يلزم مما تقدم أن كل واحد منهم قد اجتمعت فيه أصولهم الكفرية ، والبدعية . ومن المعلوم أن أئمتهم ، وعلماءهم هم المضلون لهم ،ولا يكون ذلك عذرا لعامتهم لأنهم متعصبون لا يستجيبون لداعي الحق ، ومن أجل ذلك الغالب عليهم عدواة أهل السنة ، والكيد لهم بكل ما يستطيعون ، ولكنهم يخفون ذلك شأن المنافقين ، ولهذا كان خطرهم على المسلمين أعظم من خطر اليهود ، والنصارى لخفاء أمرهم على كثير من أهل السنة ، وبسبب ذلك راجت على كثير من جهلة أهل السنة دعوة التقريب بين السنة والشيعة ، وهي دعوة باطلة . فمذهب أهل السنة ،ومذهب الشيعة ضدان لا يجتمعان ، , فلا يمكن التقريب إلا على أساس التنازل عن أصول مذهب السنة ، أو بعضها ، أو السكوت عن باطل الرافضة ، وهذا مطلب لكل منحرف عن الصراط المستقيم ـ أعني السكوت عن باطله ـ كما أراد المشركون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم على بعض دينهم ، أو يسكت عنهم فيعاملونه كذلك ، كما قال تعالى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} ، والله أعلم .
5- السؤال: فضيلة الشيخ الوالد حفظك الله السلام عليكم ورحمة الله لدي سؤال واحد و هو:
ما حكم الجزم بأن القيامة لن تقوم غدا ؟ هل هو كالجزم بأنها سوف تقوم في سنة معينة كما يزعم بعض الضلال و العرافين ؟(1/7)
و الذي جرَّ هذا السؤال أن أحد الناس ذكر في كلام له أننا..."نجزم بأن القيامة لن تقوم غدا, و نعلم ذلك من النصوص الكثيرة التي أخبرت عن أشراط الساعة , و نحن نعلم أن هذه الأشراط لم تكن بعد, و لا تكون إلا بعد وقت, فإن كثيرا من النصوص تخبر بمدد لا يحصل قبل غد" .. هذا معنى كلامه لا لفظه , فهل هذا اعتقاد أهل السنة في المسألة ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله ، إن موعد قيام الساعة وهي القيامة ، هو مما استأثر الله بعلمه قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ، ولما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤل عنها بأعلم من السائل . فالله تعالى قد أخفى وقتها عن العباد فلا يعلم متى الساعة لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل. فمن زعم أن الساعة تقوم في سنة كذا ، أو بعد كذا وكذا من السنين ؛ فهو مفتر كذاب ، ومدع لعلم الغيب ، ومكذب بما أخبر الله به في كتابه ؛ فيكون بهذا كافرا يستتاب فإن تاب ، و إلا قتل ، أما من قال أن الساعة لن تقوم حتى تظهر أشراطها التي أخبر الله بها ورسوله فهو محق ، لأن قيامها قبل ظهور أشراطها خلاف ما أخبر الله به ورسوله ، فيلزم منه أن تكون هذه الأخبار كذبا ، وهذا اللازم باطل ، فكذلك ما يستلزمه ، فأخبار الله ورسوله أصدق الأخبار ، ولا بد من وقوع مُخْبرِها فمن قال: نجزم بأن الساعة لا تقوم غدا بناء على ذلك فقد صدق ، وهذا لا ينافي قدرة الله على أن يقيم الساعة غدا ، وامتناع قيامها قبل موعدها راجع إلى أن الله قدّر ذلك ،وقضاه ، فلا يكون خلاف ما سبق به علمه ، وقضاؤه(1/8)
، بل يجري كل شيء على وفق علمه ، وتقديره ، ومشيئته ، وهو سبحانه الفعال لما يريد ، وهو كل شيء قدير ، وصلى الله على نبينا محمد ، والله أعلم .
6- السؤال : كيف نجمع بين حديث الجساسة التي رآها أحد الصحابة وأخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وأن معها المسيح الدجال ، وحديث إن المسيح الدجال يخرج ويولد في آخر الزمان ؟ وجزاك الله خيرا عن أمة الإسلام ونفع بكم وأعز بكم الأمة .
الجواب:
الحمد لله لقد استفاضت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإخبار عن المسيح الدجال ، فتظمنت الإخبار عن خروجه في آخر الزمان ، وأنه يأتي بخوارق باهرة ، يكون بها فتنة لأكثر الناس ممن لا بصيرة له ، وأنه يقتله المسيح ابن مريم كما تظمنت صفة عينيه ، وأنه أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية ، وأن فتنته أعظم فتنة منذ آدم إلى قيام الساعة ، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه ما من نبي إلا أنذر أمته المسيح الدجال ". وقد أنذر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمته فتنة المسيح الدجال أعظم إنذار ، وذكر علاماته تبصيراً للأمة ، وأمر صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من شر فتنة بعد التشهد في كل صلاة ، وليس فيما أخبر به صلى الله عليه وسلم من صفته ، وأحواله ، وعلاماته ما يشكل ؛ إلا ما جاء في حديث الجساسة مما يدل على أنه موجود ، وموثق ، وأنه ينتظر الإطلاق لخروجه ، وحديث الجساسة لم يكن خبراً مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم ،وإنما اخبر بقصتها تميم الداري ، وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فأقره عليها ، بل وقصها النبي صلى الله عليه وسلم حتى عرفت هذه القصة بحديث الجساسة ، وما دل عليه حديث الجساسة من وجود الدجال لا يتعارض مع الأخبار التي فيها أنه يخرج في آخر الزمان ، وخروجه في آخر الزمان لا يمنع من وجوده قبل ذلك بمدة طويلة ، أو قصيرة قبل ذلك ، ولا أعلم أن في أحاديث خروج الدجال تعرض لولادته ، ، وعلى هذا فلا تعارض بين(1/9)
حديث الجساسة المتظمن لوجوده في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحاديث خروجه لكن حديث الجساسة مع حديث خروج الدجال يدل على بقائه ، فيشكل ذلك مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حدث أصحابه ذات ليلة بعد صلاة العشاء وقال:" لا يأتي على رأس مائة سنة ، وعلى ظهر الأرض ممن عليها اليوم أحد ". فيقتضي هذا بعمومه أنه كل من كان على الأرض لا يبقى بعد رأس المائة سنة فيدخل في ذلك المسيح الدجال ، فيقال: ـ والله أعلم ـ لا يمتنع أن يكون ما دل عليه حديث الجساسة من وجود الدجال مخصصا لعمومِ حديثِ لا يأتي على رأس مائة سنة وعلى وجه الأرض ممن كان عليها وقت حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا والله أعلم بالصواب.
7- السؤال: فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك:
أشكل عليّ تفريق بعض أهل العلم بين أهل الكتاب و المشركين.
فهل وصف المشركين لا ينطبق على أهل الكتاب ؟ و ما الفرق بين الكفار و المشركين ؟
مع العلم أن كفر أهل الكتاب معلوم لدي ، و معلوم لدي أيضا أن عدم تكفيرهم ناقض من نواقض الإسلام، و لكن أشكل علي التفريق في استخدام لفظة الكفار لأهل الكتاب و اقتصار لفظة المشركين على الكفار ما دون أهل الكتاب فأتمنى من فضيلتكم توضيح الأمر بارك الله فيكم.
الجواب:(1/10)
الحمد لله ، يجب أن يعلم أن الألفاظ يختلف معناها بالإفراد والاقتران من حيث العموم والخصوص ، وهذا المعنى كثير في القرآن ومن ذلك لفظ الكفار ، والمنافقين ، والمشركين ، وأهل الكتاب ، وأعم هذه الألفاظ لفظ الكفار فإنه يشمل المنافقين النفاق الأكبر ، ويشمل عموم المشركين ، والكفار من أهل الكتاب ، واسم المنافقين يختص بمن يظهر الإسلام ، ويبطن الكفر فإذا ذكر المنافقون والكفار كقوله تعالى { إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} اختص اسم المنافقين بمن يبطن الكفر واسم الكافرين بالمعلنين له ، , وأكثر ما يطلق اسم المشركين في القرآن على الكفار من غير أهل الكتاب كقوله تعالى {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ، وقد يطلق لفظ المشركين على ما يعم الكفار في مقابل المنافقين كما قال تعالى {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } ، فيدخل في ذلك كفرة أهل الكتاب والمجوس ، وقد يخص الله بعض طوائف المشركين باسم يعرفون به كالمجوس كما قال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فَعَطْفُ الذين أشركوا على المجوس من عَطْفِ العام على الخاص ، وأما الطوائف الأربع الأولى في هذه الآية فإن منهم المؤمن ، ومنهم الكافر كفرا ظاهرا ، أو باطنا كما قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ، أي من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، وهكذا(1/11)
أهل الكتاب منهم المؤمن ، والكافر ، كما قال تعالى { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} إلى قوله تعالى {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} إلى قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وهذا الانقسام في اليهود ، والنصارى ، والصابئين إنما هو باعتبار حالهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، أما بعدما بعث الله خاتم النبيين ، فكل من لم يؤمن به من اليهود ، والنصارى ، وغيرهم فإنه كافر فإن مات على ذلك فهو من أهل النار ، ولا ينفعه انتسابه لشريعة التوراة ، أو الإنجيل ، وقد انضاف كفرهم بتكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما ارتكبوه من أنواع الشرك ، والكفر قبل ذلك كقول اليهود { عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ} وقول النصارى {الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ } ، والشرك في النصارى أظهر منه في اليهود ، وأكثر كما قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إلى قوله تعالى {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ(1/12)
الْعَلِيمُ} وقوله سبحانه وتعالى {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فتبين مما تقد أن اليهود ، والنصارى ، وسائر المشركين من عبدة الأوثان والمجوس كلهم كفار من مات منهم على كفره ، فهو في النار ، وأنهم جميعا مدعوون إلى الإيمان بالقرآن ، وبالرسول الذي جاء بالقرآن ومأمورون باتّباعه عليه الصلاة والسلام فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الناس من الكتابيين ، والأميين كما قال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } ، وقوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال صلى الله عليه وسلم :"والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ، ولا نصراني ثم يموت ، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". رواه مسلم.(1/13)
ولكن دلت النصوص من الكتاب ، والسنة على الفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من الكفار في بعض الأحكام من ذلك : حل ذبائح أهل الكتاب ، وحل نسائهم الحرائر العفائف كما قال تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } بخلاف سائر طوائف الكفار من المجوس وعبدة الأوثان وغيرهم ، فلا تحل ذبائحهم ، ولا نسائهم للمسلمين ، وهذا متفق عليه بين العلماء ، ومن ذلك أن الجزية لا تؤخذ إلا من اليهود ، والنصارى ، والمجوس على قول أكثر أهل العلم لقوله تعالى {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ، وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم :"أنه أخذ الجزية من مجوس هجر". فلذلك اتفق العلماء على أخذ الجزية من هذه الطوائف ، واختلفوا في أخذها من غيرهم ، والراجح أنها تأخذ من جميع طوائف الكفر لحديث بريدة في صحيح مسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ـ الحديث وفيه ـ وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ، أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي(1/14)
يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .. الحديث. هذا والله أعلم ، وصلى الله ، وسلم على نبينا محمد .
8- السؤال: ما هو منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته .. وما هي الكتيبات والأشرطة التي تنصحوني باستماعها .. وجزاكم الله خيراً ..
الجواب:
الحمد لله ، إن العلم بالله بمعرفة أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وما يليق به ، وما يجب تنزيه تعالى عنه ؛ هو أشرف العلوم ، والإنسان أحوج ما يكون إلى معرفة ربه ، بل ضرورته إلى ذلك فوق كل ضرورة ، وهذه المعرفة تثمر محبته ، وخوفه ، ورجاءه ، والتوكل عليه ، وطاعته ، وتعظيمه ، ومن رحمة الله بعباده أن أخبرهم في كتابه ، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أسمائه وصفاته ، والنصوص من الكتاب ، والسنة مستفيضة في هذا العلم بل نصوص الأسماء والصفات في الكتاب والسنة فيها من بيان ما يجب على العباد اعتقاده ، مما يجب له ، ويجوز عليه ، ويمتنع عليه سبحانه مما ينير بصائرهم ، ويزكي نفوسهم، وقد كان السلف الصالح من الصحابة ، والتابعين يؤمنون بهذه الأخبار ويمرونها على ظاهرها مثبتين لله ما أثبته لنفسه ، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مؤمنين بأن صفاته لا تماثل صفات المخلوقين ، ولا تدرك العقول كنهها ، ولما حدثت بدعة التعطيل بنفي أسماء الله وصفاته ، وما تفرع عنها افترقت الأمة في هذا الأصل العظيم ، وهو توحيد الأسماء والصفات فتباينت مذاهب فرق المبتدعة فهم بين مشبه ، ومعطل ، ومضطرب ، وأما أهل السنة والجماعة فهم على الصراط المستقيم ، فهم وسط في فرق الأمة في باب الأسماء والصفات ، وغيره فلا إفراط ، ولا تفريط ، فمذهبهم أنهم يصفون الله بما ووصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا إلحاد في أسماء الله ، وآياته(1/15)
، بل يثبتون له صفات الكمال ، وينزهونه عن النقائص ، والعيوب إثباتا بلا تشبيه ، وتنزيها بلا تعطيل كما قال سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} هذا ، والله أعلم.
وأما ما سألت عنه من الكتب المتظمنة لبيان مذهب أهل السنة والجماعة ، فأرى أن أحسن ما كتب في هذا العقيدة الواسطية فإنها تظمنت بيان معتقد الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة ، وهي معروفة ، ومشهورة ، والمؤلفات في العقيدة كثيرة ، ومختلفة المناهج من حيث البسط ، والاختصار ، وذكر مذاهب المخالفين ، وشبهاتهم ، والرد عليهم ، ولهذا أنصح بالعناية بهذه العقيدة للإمام ابن تيمية رحمه الله ، وهو المعروف بالتحقيق في مذهب السلف في سائر أبواب الاعتقاد . والله أعلم.
9- السؤال: ما الفرق بين الشرك والكفر وأيهما أعم ؟
الجواب : الحمد لله ، من المعروف أن الشرك منه أكبر ، ومنه أصغر ، وكذلك الكفر ، والذي يظهر أن السؤال في الفرق بين الكفر الكبر ، والشرك الأكبر ، فإن كلا من الشرك الأصغر ، و الكفر الأصغر من أنواع المعاصي بل من الكبائر فأما الشرك الأكبر وهو اتخاذ ند لله في العبادة كما قال لله تعالى{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ ـ إلى قوله ـ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك ".(1/16)
وأما الكفر الأكبر فكل ما يناقض الشهادتين شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ومعلوم أن الشرك الأكبر يناقض شهادة ألا إله إلا الله كل المناقضة ؛ فهو كفر أكبر ، ومن الكفر تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا ، وهو: الجحود ، أو باطنا ، وهو: النفاق ، ومن الكفر الاستهزاء بالله عز وجل أو بالقرآن أو بالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ، وبهذا يتبين أن بين الشرك الأكبر ، والكفر الكبر عموم وخصوص ، فكل شرك أكبر فهو :كفر ، وليس كل كفر أكبر شركا ، والله أعلم .
10- السؤال: هل يجوز فك السحر بالسحر عند الحاجة ؟
الجواب :
الحمد لله ، حل السحر أو فك السحر يقال له : النشرة ، وقد روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة ؟ فقال:" هي من عمل الشيطان ". رواه أحمد بسند جيد وأبو داود .
وحل السحر بسحر لا بد فيه من الذهاب للساحر ، وسؤاله عمّن عمل السحر ، وأين يكون موضع السحر ، وذلك لإبطال عمل الساحر الأول ، ومعلوم أن الساحر من نوع الكاهن ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم" من أتى عرافا أو كاهنا فسأله ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد". وعلى هذا لا يجوز حل السحر بالسحر لأن ذلك من عمل الشيطان ، ويستلزم سؤال الساحر ، وتصديقه .
قال الإمام ابن القيم : النشرة حل السحر عن المسحور وهي نوعان: حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان وعليه يحمل قول الحسن :[لا يحل السحر إلا ساحر] ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب ، فيبطل عمله عن المسحور
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة فهذا جائز . والله أعلم .(1/17)
11- السؤال : ما حكم الدار التي يكثر فيها سب رب العالمين ـ نعوذ بالله من ذلك ـ من دون نكير من السلطة هل هي دار كفر ؟ وما حكم الهجرة منها ؟
الحمد لله ، البلاد التي تكون فيها الدولة مسلمة ، والحكم فيها للإسلام فهي دار إسلام ، ولو كثرت فيها المعاصي ، وكثر فيها ارتكاب ببعض نواقض الإسلام نتيجة لتصير الدولة ، وضعف نفوذها ، وعلى هذا فلا تكون بمجرد كثرة هذه الأمور دار كفر بل دار بدع ومعاصي ، ودار الإسلام قد يكثر فيها العصاة ، والمنافقون ، والمرتدون الذين لا يقام عليهم ما يجب من العقوبات الرادعة ، وعلى هذا فلا تجب الهجرة من تلك البلد ، لكن يجب على من أقام فيها أن يقوم بما يستطيع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملا بقوله صلى الله عليه وسلم :" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه". ومن إنكار المنكر مفارقة أهل المعاصي بترك مجالستهم ، وهجرهم ، ليتركوا ما هم عليه ، أو لاتقاء شرهم ، وأولى بذلك منهم من يتكلم بالكفر كسب الله ، ,الاستهزاء بآياته ، فإنه يجب على من يقدر أن ينكر عليه ، وأن يطالب ذوي السلطة بإقامة حكم الله فيه ،كما يجب مفارقة المجلس الذي يتكلم بالكفر كما قال سبحانه وتعالى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } وقال تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، والله أعلم.
12- السؤال: ما الفرق بين المرجئة ومرجئة الفقهاء ؟(1/18)
الجواب : الحمد لله ، اسم المرجئة مأخوذ من الإرجاء ، وهو التأخير وسمي المرجئة بذلك لتأخيرهم الأعمال عن مسمى الإيمان ، وهم طوائف كثيرة ، وأشهرهم الغلاة ، وهم الذين يقولون: إن الإيمان هو المعرفة ـ أي معرفة الخالق ـ .
وهذا هو المشهور عن جهم بن صفوان إمام المعطلة نفاة الأسماء والصفات ، وإمام الجبرية ، وغلاة المرجئة .
والثانية :هم من يعرفون بمرجئة الفقهاء ، وهم الذين يقولون: إن الإيمان هو تصديق بالقلب ، أو هو التصديق بالقلب واللسان يعني مع الإقرار ، وأما الأعمال الظاهرة والباطنة ؛ فليست من الإيمان ، ولكنهم يقولون: بوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، وأن ترك الواجبات أو فعل المحرمات مقتضي للعقاب الذي توعد الله به من عصاه ، وبهذا يظهر الفرق بين مرجئة الفقهاء ، وغيرهم خصوصا الغلاة ، فإن مرجئة الفقهاء يقولون : إن الذنوب تضر صاحبها ، وأما الغلاة فيقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة . والله أعلم.
13- ما هي الأمور التي اتفقت عليها فرق الخوارج ؟ و ما هي الأمور التي وقع فيها خلافٌ بينهم ؟ و ما هو القول الراجح في كفر الخوارج ؟ و ما ضابط أن يُطلق على شخصٍ ما ، أو على فكرٍ ما أنه شخصٌ خارجي ، أو فكرٌ خارجي ؟ و جزاكم الله خير ما جزى عالماً عن طلابه .
الجواب:(1/19)
الحمد لله ، الخوارج اسم لطائفة من المبتدعة ظهرت في خلافة علي رضي الله عنه ، ومعظمهم كان في جيش علي ففارقه عندما اتفق علي ومعاوية على تحكيم أبي موسى ، وعمرو بن العاص ـ رضي الله عنهم ـ ، فأنكرت الخوارج ذلك وقالوا : حكمتم الرجال لا حكم إلا لله ، فبعث إليهم علي ـ رضي الله عنه ـ ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فناظرهم ، فرجع كثير منهم ، وانحاز الذين أصروا على مذهبهم إلى موضع يقال له : النهروان ، فكفروا الحكمين ، وعلي ومعاوية ، ومن معهما ، وأغاروا على سرح المسلمين ، وقتلوا عبد الله بن خباب من أصحاب علي ـ رضي الله عنه ـ ، فرأى فيهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه صفات المارقين الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم ، ورغب فيه ، كقوله صلى الله عليه وسلم :" يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وعملكم مع عملهم ، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ". متفق عليه.
وفي حديث آخر في الصحيحين :" فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ". ، فقاتلهم علي رضي الله عنه بمن معه من الصحابة ، وأظهره الله عليهم ، وسُرّ بذلك ـ رضي الله عنه ـ ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" تمرق ما رقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ". رواه مسلم .
وأصل مذهبهم التكفير بالكبائر من الذنوب ، وقد يعدون ما ليس بذنب ذنبا ؛ فيكفرون به ، كما قالوا : في التحكيم بين علي ، ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ ، فلذلك كفروا الحكمين ، وكفروا عليا ، ومعاوية ، ومن معهما ، ثم صاروا بعد ذلك فرقا حسْبَ زعاماتهم ، ومن الأصول المشهورة عنهم إنكار السنة ، ومن فروع ذلك:
إنكارهم المسح على الخفين ، ورجم الزاني المحصن .
والذي يظهر: أنه لا يعد من الخوارج إلا من قال بهذين الأصلين ، وهما :
التكفير بالذنوب ، وإنكار الاحتجاج ، والعمل بالسنة .(1/20)
وأما تفاصيل الفرق بين فرقهم ، فيرجع فيه إلى كتب الفرق ككتاب الملل والنحل للشهرستاني ، والفصل لابن حزم ، والله أعلم .
14- فضيلة الشيخ
نقل عنكم - حفظكم الله في هذا المنتدى - أنكم تفرقون بين الذي يطلب من الميت قُرْبَ قبره الدعاء له ، وبين الذي يطلب منه الشفاعة ؟ فما الفرق الجوهري المؤثر بينهما , علما أن طلب الشفاعة نوع من طلب الدعاء ؟
الجواب:
الحمد لله ، من أنواع الشرك الأكبر شرك الدعاء ، وهو: دعاء الأموات ، والغائبين في قضاء الحوائج ، والاستغاثة بهم في الشدائد ، وطلب النصر والرزق منهم ، سواء طلب ذلك من الميت من قرب ، أو بعد ؛ إذا كان الداعي ، والطالب يعتقد أنه يفعل ذلك بقدرته ، وحينئذ يكون قد جمع بين الشرك في الربوبية ، والشرك في العبادة .
وأما إذا كان الداعي للميت يطلب منه أن يدعو الله له ، وهو قريب من قبره لاعتقاده أنه يسمع ؛ فذلك بدعة ، ووسيلة إلى الشرك كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كلامه ، ومعلوم أن الدعاء للغير شفاعة له فطالب الدعاء هو طالب للشفاعة ، فلهذا يقال له : استشفاع ، وتوسل كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ، فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ". ، وما ذاك إلا طلب الدعاء من النبي صلى اله عليه وسلم ، ثم من العباس ، وذلك في حياتهما ، ولم يذهب عمر ولا غيره إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لطلب الدعاء منه مما يدل على أنه غير مشروع ، ولا هو سبب لحصول مطلوب ، وإذا كان هذا في حق النبي صلى الله عليه فغيره من باب أولى .(1/21)
وأما إذا اقترن بطلب الدعاء من الميت ، والاستشفاع به تقرب إليه بنوع من أنواع العبادة ، فذلك عين ما كان يفعله المشركون يعبدون ما يعبدون زاعمين أنهم يشفعون لهم ، وأنهم يقربونهم إلى الله كما قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وقال تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ؛ فكانوا كفارا ، ومشركين حيث جعلوا بينهم ، وبين الله وسائط في العبادة .
وأما من يطلب من الغائب عنه ، أو من الميت ، وهو بعيد من قبره ، فيدعوه في كل مكان ، ويستغيث به لذلك فهو مشرك ، لأنه قد شبهه بالله الذي يسمع دعاء الداعين ، ويغيث الملهوفين .
وبهذا يتبين أنه لا فرق في الحقيقة بين طلب الدعاء ، وطلب الشفاعة من حي أو ميت ، ولا أذكر أني فرقت بينهما ، فلعل الذي نقل ذلك عني قد وهم ، أو أني تطرقت لمعنى آخر ، ولم يفهم مرادي ، والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
شيخنا الفاضل عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله تعالى
15- بعض الإخوة عندهم قطع قماش صغيرة من أستار الكعبة ، يحملونها تبركا بها ، ما قولكم في هذا جزاكم الله تعالى خيرا ؟ وإن تتكرمون بذكر آثار عن السلف يستدل بها على ما تذهبون إليه ؟
الجواب :(1/22)
الحمد لله ، فضائل الأعمال ، والأعيان لا يثبت شيء منها إلا بدليل من الشرع : من كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد دل الكتاب ، والسنة على فضل الكعبة ، والمسجد الحرام ، وأن لهما حرمة عند الله ، ولذلك شرع سبحانه الطواف بالبيت ، واستلام الركنين منه ، وأمر بتطهيره للطائفين ، والعاكفين ، والركع السجود ، وجعل الصلاة في المسجد الحرام تفضل على الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة إلا مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى ؛ فلهما فضل على سائر المساجد ،
قال الله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} وقال تعالى {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في مسجدي ".(1/23)
فالفضل ، والأجر ، والبركة فيما شرع الله ، ولم يدل دليل على فضل التراب ، والأحجار الذي بنيت به الكعبة ، ولا الماء الذي يسيل من سطحها ، أو باطنها من المطر ، أو مما تغسل به ، ولا القماش الذي كسيت به ، فلا يجوز اعتقاد فضيلة ، وبركة بشيء من ذلك ، ولا يجوز أخذ شيء من كسوة الكعبة لاعتقاد البركة ، والنفع به ، لكن إذا أخذ الإنسان شيئا منها ، واقتناه من أجل التفرج فقط ؛ فلا بأس به ، والأولى ترك ذلك لأنه لا يأمن أن يكون وسيلة إلى تعظيم القطع من قماش الكعبة ، فالأولى عدم الاهتمام به ، وعدم اقتنائه سدا لذريعة الابتداع ، ووقوفا مع ما جاءت به الشريعة ، وما دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسنة أصحابه رضوان الله عليهم ، والله أعلم .
فضيلة الشيخ:
16- لماذا لم يكفر الإمام أحمد أئمة الجهمية مع ظهور كفرهم ؟
الحمد لله ، لقد استفاض عن الأئمة تكفير الجهمية بالعموم قال ابن القيم نقل تكفير الجهمية عن خمسمائة من العلماء ، ونظم هذا في الكافية الشافية فقال:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في *** عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنـ *** هم بل حكاه قبله الطبراني
كما استفاض عن الإمام أحمد ، وغيره قولهم : من قال القرآن مخلوق فهو كافر ، وهذا قول الجهمية ، والمعتزلة .
ولا ريب أن من أقيمت عليه الحجة ، وبين له بطلان بدعته ، وظهر عناده ؛ فإنه كافر ؛ فيكفر بعينه ، هذا وقد نقل الخلال في السنة ، 5/117، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 4/153 عن أحمد ـ رحمه الله ـ تكفير ابن أبي دؤاد ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى 12/489 : وقد نقل عن الإمام أحمد أنه كفر قوما معينين [من الجهمية] .
17- هل يجوز تكفير أعيان الإسماعيلية في عصرنا ؟ وجزاكم الله خيرا .(1/24)
الإسماعيلية هم الذين يعرفون بالباطنية ، أو هم طائفة منهم ، والباطنية ملاحدة زنادقهم قال فيهم بعض الأئمة : إنهم يظهرون الرفض ، ويبطنون الكفر المحض .
وقال فيهم شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ : أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى ، هذا حكم طائفتهم على صفة العموم .
وأما الحكم على أعيانهم فيفرق بين عامتهم ، وبين خاصتهم ؛ فأئمتهم كفار بأعيانهم ، وكذا كل من عُلم منه أنه عارف بأسرار المذهب الباطني ، ويَدين به فإنه كافر ، ولكن المذهب الباطني يقوم على النفاق ؛ فأئمة الباطنية زنادقة ـ أي: ملاحدة منافقون ـ أذلهم الله بعز الإسلام ، والمسلمين ، وفضحهم الله ، وكشف أسرارهم ، وكفانا الله شرهم ، وطهر مجتمعات المسلمين منهم ، والله أعلم .
فضيلة الشيخ :
18- هل من يقول إني حين أطوف في القبور لا أقصد دعاء الميت ولكني أقصد بركه المكان لأنه أحتوى على ذلك الجسد الطاهر مثل قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، هل هذا له صارف عن وصفه بالشرك ؟
الحمد لله ، الشرك ضد ، والتوحيد هو عبادة الله وحده لا شريك له ، والشرك هو عبادة غير الله مع الله فمن ذبح لغير الله تقربا إليه ، أو طاف بقبره يتقرب إليه ، أو أي عبادة من العبادات يتوجه بها إلى حي ، أو ميت ؛ كان مشركا لأن عمله ذلك هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر ، ويوجب خلود صاحبه في النار إذا مات على ذلك .
وهذا الذي يطوف بقبر الولي ، أو من يظن أنه ولي ، ويدعي أنه لا يريد التقرب إليه لكن يعتقد أن الطواف به سبب لحصول ما جعله الله في ذلك العبد الصالح من البركة ؛ مَن يفعل ذلك بهذا الاعتقاد ؛ فهو مبتدع ضال ، وليس بمشرك ، لأنه بزعمه يقصد بهذا الطواف التقرب إلى الله لتحصل له البركة التي يظنها في قبر هذا الميت .(1/25)
وهذه البدعة بدعة الطواف بالقبور من أشنع البدع ، وأقبحها ؛ لأن الطواف عبادة لم يشرعها الله إلا حول بيته العتيق ، فالطائف بالقبر قد شبه بيت الميت ببيت الحي الذي لا يموت قال تعالى : {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (125) سورة البقرة ، وقال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (29) سورة الحج .
وهذا الذي يزعم أنه لا يريد بهذا الطواف التقرب إلى صاحب القبر لا يبعد أن يكون كاذبا ، ومخادعا لمن ينكر عليه .
وعلى هذا فإن كان صادقا فيما زعمه ؛ ففعله ذلك بدعة ، وضلالة ، ووسيلة من أقرب الوسائل المفضية إلى الشرك ، وقد تُعرف حقيقة الأمر بالقرائن الدالة على صدق ، أو كذب هذا القبوري الضال ، فأمره دائر بين الشرك الأكبر ، أو البدعة الكبرى ، نعوذ بالله من الخذلان ، واستحواذ الشيطان ، ونسأل الله العافية من شرك المشركين ، وبدع المبتدعين ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
19- لو مسحت على موضع قدم إبراهيم للبركة هل هذا جائز ؟
الحمد لله ، قال الله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [(96)و(97) سورة آل عمران] ، ولا شك أن ذلك البيت الذي هو المسجد الحرام ، والكعبة ، ومقام إبراهيم سواء أريد به الحجر الذي كان يقوم عليه ، أو أريد به عموم المسجد كما قال تعالى { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] ، كلها مباركة لأن الله اختارها ، وفضلها على سائر البقاع ، والبيوت .(1/26)
والبركة التي في هذه المواضع إنما تحصل آثارها للعباد بفعل ما شرع الله فيها : من الطواف بالبيت ، والاعتكاف في المسجد ، والصلاة فيه كما قال تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [(125) سورة البقرة] ، ولم يشرع الله مسح شيء من الكعبة إلا الركنين اليمانيين فالحجر الأسود يشرع تقبيله ، واستلامه ، والركن اليماني يشرع استلامه باليد عملا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين ، وقد قال عمر رضي الله عنه ـ عندما أراد أن يستلم الحجر الأسود ـ : والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ، ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك .
ولم يسن النبي صلى الله عليه وسلم مسح المقام ، ولا موضع قدمي إبراهيم ، وإنما صلى عند المقام لما فرغ من الطواف أتى المقام ثم قرأ قوله تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة] فصلى ركعتي الطواف ، وقرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص : قل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد . فتبين أنه لا يستحب مسح موضع قدمي إبراهيم من المقام ، فلا أجر ، ولا بركة في مسح ما لم يشرع الله مسحه ؛ وإن كان مباركا .
فالكعبة كلها مباركة ، ولا يشرع استلام شيء منها إلا الركنين اليمانيين كما تقدم فعليك أيها المسلم بتحري هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء به ، وقد جعله الله لك إمام ، وقدوة ، فلا تتعدى سنته : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [(21) سورة الأحزاب] ، والله أعلم .
20- هل لما أطلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم الآن لا يكون شركا ؟
أحال الشيخ السائل إلى جواب السؤال رقم (14) .(1/27)
21- أهل السنة يبطلون المجاز في الصفات ثم يعملونها في مواضع مثل: "كنت سمعه الذي يسمع به" الحديثَ كيف الجمع ، أو ما هي القاعدة في ذلك ؟ و تقبلوا تحياتي محبكم .
الحمد لله ، منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله ، وصفاته ، وفي نصوصهما هو المنهج القويم البريء من التناقض ، ومن الغو ، والتقصير ، فهم يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه ، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم اثباتا ونفيا ، فيثبتون ما أثبته لنفسه ، وما أثبته له رسوله ، وينزهونه عن جميع النقائص ، والعيوب اثباتا بلا تشبيه ، وتنزيها بلا تعطيل على حد قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [(11) سورة الشورى] ، ومن منهجهم إمرار النصوص على ظاهرها ، وذلك بالإيمان بما دلت عليه من الصفات من غير تعرض لكيفياتها كما قال غير واحد من الأئمة: ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) ، وقال الإمام مالك ، وغيره: ( الاستواء معلوم ، و الكيف مجهول والإيمان به واجب .. ) .
وأما دعوى السائل أن أهل السنة ينكرون المجاز في نصوص الصفات ، ويثبتونه في مواضع فدعوى باطلة ، فإن أهل السنة منهم من ينفي المجاز في اللغة العربية مطلقا ، وفي القرآن من باب أولى ، وهؤلاء عندهم كل لفظ هو حقيقة في موضعه يدل على المعنى الذي يقتضيه السياق ، والمقام .
ومَن يثبت منهم المجاز في اللغة ، وفي والقرآن ؛ لا يقول به إلا إذا قام الدليل المانع من إرادة المعنى الحقيقي ، مثل الحديث الذي ورد في السؤال ، وهو قوله سبحانه وتعالى ـ في الحديث القدسي ـ :" ولا يزال عبد ي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به .." الحديث.
ومن المعلوم بالضرورة أن الله لا يصير عين العبد: سمعه ، وبصره ، ويده ، ورجله ، فإن حقيقة ذلك الحلول ، أو الإتحاد .(1/28)
فكل من يؤمن بالله ، يؤمن بأنه بائن من خلقه ، ومباين لهم لا يخطر بباله من هذا الحديث المعنى الباطل ، بل يدرك أن المراد من الحديث أن من أحبه الله ، وفقه في جميع تصرفاته ، فلا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يبطش ، ولا يمشي إلا على وفق أمر الله ، فجميع جوارحه منقادة لشرع الله فهو بالله ، ولله .
وأما المخالفون لأهل السنة والجماعة من طوائف المتكلمين فهم المتناقضون ، وأظهر تناقض في باب الصفات هو في مذهب الأشاعرة ، فإنهم يفرقون بين الصفات ، والنصوص ؛ فيثبتون سبعا من الصفات ، وينفون سائرها فيقولون في نصوص الصفات السبع إنها حقيقة ، وأما نصوص الصفات التي ينفونها فإنها عندهم مجاز ، وليس لهم في هذا التفريق حجة ناهضة ، ولا قاعدة مضطردة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة التدمرية ـ بعدما بين تناقض المتكلمين من الأشاعرة ، والمعتزلة ، والجهمية ـ : فكل من نفى شيئا مما جاء به الرسول لا بد أن يثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه . اهـ
فالتناقض لازم للمذاهب المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة .
ومذهب أهل السنة بريء من التناقض ، وكل المعاني الباطلة : من التحريف ، والتعطيل ، والتكييف ، والتمثيل ، والله الهادي إلى سواء السبيل ، والله أعلم.
22- ما حكم التقليد في العقيدة ؟
23- وهل يجب على الإنسان أن يستدل على مسائل العقيدة الضرورية حتى يصح إسلامه ؟
24- وما مراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في قوله ( معرفة دين الإسلام بالأدلة ) ؟ وجزاكم الله خيرا.(1/29)
الحمد لله ، الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والعلم به إجمالا فرض عين على كل مكلف ، ومعرفة ذلك تفصيلا هو فرض كفاية على عموم الملة إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين ، ومن علم من ذلك شيئاً وجب عليه الإيمان به تفصيلا ، وقد يصير فرض الكفاية فرض عين على بعض الناس بأسباب تقتضي ذلك فالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر واجب كفائي لكن إذا لم يعلم بهذا المنكر ، ويقدر على تغييره مثلا إلا واحد أو جماعة معينة تعين عليهم لاختصاصهم بالعلم به ، والقدرة على تغييره ، وكل واجب في الدين فإنه مشروط بالاستطاعة لقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [(16) سورة التغابن] وقوله تعالى {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [(286) سورة البقرة] ، فمعرفة مسائل الدين العلمية الاعتقادية ، والعملية وأدلتها واجب الاستطاعة ، ولا فرق في ذلك بين المسائل الاعتقادية ، والمسائل العملية فعلى المسلم أن يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويجتهد في ذلك ، ولا يتخذ له إماما يتبعه في كل شيء إلا الرسول صلى الله عليه ، ومن المعلوم أنه ليس كل أحد يقدر على معرفة كل ما دل عليه القرآن ، والسنة من مسائل دين الإسلام ، بل يمكن أن يقال :ليس في الأمة واحد معين يكون محيطا بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبما دل عليه القرآن فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، فلا أحد من العلماء يدعي ذلك لنفسه ، ولا يجوز أن يُدعّى ذلك لأحد منهم ، فهم في العلم بما جاء به الرسول في منازلهم حسب ما آتاهم الله من فضله ، لكن العلماء يختصون بالاجتهاد في معرفة الأدلة ، وفي الاستنباط ؛ فمنهم المصيب ، والمخطئ ، والكل مأجور كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". وإذا كان هذا شأن العلماء فكيف بغيرهم ممن قل علمه ، أو كان من(1/30)
عوام المسلمين الذين لا يعرفون الأدلة ، ولا يفهمونها ، فهم عاجزون عن الاجتهاد ، فلا يسعهم إلا التقليد ، ولا فلاق في ذلك بين المسائل الاعتقادية ، والمسائل العملية فهذا مقدورهم لكن عليهم أن يقلدوا من العلماء من يثقون بعلمه ، ودينه متجردين عن إتباع الهوى ، والتعصب هذا هو الصواب في هذه المسألة ، وأما القول بتحريم التقليد في مسائل الاعتقاد فهو قول طوائف من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم ، وهو يقتضي أن عوام المسلمين آثمون أو غير مسلمين ، وهذا ظاهر الفساد .
وأما قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب : ومعرفة دين الإسلام بالأدلة فهو كما قال ، فإن الواجب أن يعرف المسلم أمور دينه بأدلتها من الكتاب ، والسنة إذا كان مستطيعا لذلك ، وهذا هو الواجب ، إما أن يكون فرض عين في مسائل ، وإما أن يكون فرض كفاية في مسائل أخرى .
وأصل دين الإسلام هو معرفة الله والإيمان به ، وهو يحصل بالنظر ، والاستدلال ويحصل بمقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها إذا سلمت من التغيير ، واختلف الناس في اشتراط النظر والاستدلال في معرفة الله ، وهل يصح إسلام العبد بدونه أو لا ؟
على مذاهب ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : تنازع النظار في مسألة وجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى على ثلاثة أقوال: فقالت طائفة من الناس: إنه يجب على كل أحد .
وقالت طائفة: لا يجب على أحد .
وقال الجمهور: إنه يجب على بعض الناس دون بعض فمن حصلت له المعرفة لم يجب عليه ، ومن لم تحصل له المعرفة ولا الإيمان إلا به وجب عليه ، وذكر غير واحد أن هذا قول جمهور المسلمين ، كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المعروف " بالفصل في الملل والنحل" فقال: في مسألة: هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مؤمنا مسلما إلا من استدل ؟(1/31)
وفيه ، قال: سائر أهل الإسلام كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه ، وقال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن كل ما جاء به حق ، وبريء من كل دين سوى دين محمد ؛ فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك .
انتهى مختصرا من درء تعارض العقل والنقل 7/405-407.
25- ما هو الفعل الذي وقع فيه الصحابي حاطب ؟ ومن أي نوع هو ؟ وهل من فعل مثل ما فعل حاطب الآن لا يكفر؟
الحمد لله ، الفعل الذي وقع من حاطب أنه كتب لأهل مكة يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، ليكون ذلك يدا له عندهم يحمون بها أهله ، وماله ، وهذا فعل الجاسوس ، وقد دفع حاطب الكتاب إلى امرأة لتبلغه إلى قريش فنزل الوحي على النبي صلى لله عليه وسلم ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا والزبير ـ رضي الله عنهما ـ في أثر تلك المرأة فأدركاها فأخذا منها الكتاب ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حاطبا ، فقال : ما هذا ؟ فقال : لا تعجل عليّ ـ وذكر سبب فعله ـ وقال: ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبر بمغفرة الله له لشهوده بدرا حين قال لعمر: " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "، فلم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من حاطب موجبا لردته ، ولهذا أجمع العلماء أن المسلم إذا جَسّ على المسلمين لا يكفر ، وإنما اختلفوا في قتله ، وهو موضع اجتهاد .(1/32)
ومما يدل على أن حاطبا لم يكفر بما وقع منه أن الله تعالى خاطبه باسم الإيمان بقوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } الآيات ، فمن فعل مثلما فعل حطب ـ أي من غير ارتداد ، ورغبة عن الإسلام ـ فإنه لا يكفر ، بل هو مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب يستوجب عليها القتل ، أو التعزير ، وإنما اندفعت العقوبة عن حاطب ـ رضي الله عنه ـ بكونه من أهل بدر ، كما نوه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، والله اعلم .
26- إن معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته هو إثبات ما ورد في الكتاب السنة :
السؤال : هل ( التردد - الملل - الظل ..) تدخل في ذلك ؟
الحمد لله ، هذه الألفاظ لا شك أنها وردت مضافة إلى الله في أحاديث صحيحة ، ولكن دلالة الأحاديث على اعتبارها صفة لله ، أو غير صفة مختلفة ، فأما التردد فإنه بالمعنى الذي ورد في الحديث القدسي " وما ترددتي في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه ". هو صفة فعلية ، ومعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : تعارض إرادتين : إرادة قبض نفس المؤمن وكراهة الله لما يسوء المؤمن ، وهو الموت .
وليس هذا التردد من الله ناشئا عن الجهل بمقتضى الحكمة ، والجهل بما ينتهي إليه الأمر فهذا تردد المخلوق بل هو سبحانه العليم الحكيم ، فهذا التعارض بين إرادتيه سبحانه تردد مع كمال العلم بالحكمة ، ومنتهى الأمر ، ولهذا قال في الحديث : " ولا بد له منه ". فتردد المخلوق الناشئ عن جهله نقص بخلاف التردد من الله فلا نقص فيه بل هو متضمن للكمال : كمال العلم ، وكمال الحكمة .
وأما الملل المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم :" اكلفوا من العلم ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا".(1/33)
فالعلماء مختلفون في دلالة الحديث على إثبات الملل صفة لله تعالى ، فقال بعضهم: إنه لا يدل على إثبات الملل ، وأنه من جنس قول القائل : فلان لا تنقطع حجته حتى ينقطع خصمه . لا يدل على إثبات الانقطاع .
ومنهم من قال : إنه يدل على إثبات الملل ، وتأوله بقطع الثواب ، فمعناه أن الله لا يقطع الثواب حتى تقطعوا العمل ففسروا اللفظ بلازمه .
ويمكن أن يقال: إنه يدل على إثبات الملل صفة لله تعالى في مقابل ملل العبد من العمل بسبب تكلفه ، وإشقاقه على نفسه ، والملل من الشيء يتضمن كراهته ، ومعلوم أن الله تعالى يحب من عباده العمل بطاعته ما لم يشقوا على أنفسهم ، ويكلفوها ما لا تطيق فإنه الله يكره منهم العمل في هذه الحال ، والله أعلم بالصواب .
وأما الظل المضاف إلى الله بقوله صلى الله عليه وسلم :" سبعة يظلهم الله في ظله ".
فالصواب عندي أنه ليس صفة لله تعالى ، بل هو ظل العرش كما جاء في رواية ، أو أي ظل يقي الله به من شاء من حر الشمس في ذلك اليوم ؛ كظل الصدقة كما في الحديث " المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة ".
فعلى هذا تكون إضافة الظل إليه من إضافة المخلوق إلى خالقه ، ولم أقف على كلام في هذا لأحد من أئمة السنة المقتدى بهم . والله أعلم .
السؤال الآخر:إن معتقد أهل السنة والجماعة في الأعمال أنها ركن من أركان الإيمان:
27- فما هو الفرق بين معتقد أهل السنة والخوارج في باب الأعمال ؟ فأرجو منكم توضيح ذلك ، وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله ، أهل السنة والجماعة يقولون : الإيمان قول وعمل ، ويعنون بالقول اعتقاد القلب ، وإقرار اللسان ، وبالعمل عمل القلب ، وعمل الجوارح ، وهذا معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في العقيدة الواسطية : إن الإيمان قول وعمل : قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح .(1/34)
والمعتزلة ، والخوارج يوافقون على أن الإيمان قول ، وعمل ، ولكنه لا يزيد ، ولا ينقص ، فإذا ذهب بعضه ذهب كله ، فلهذا قالت الخوارج بكفر مرتكب الكبيرة ، وتخليده بالنار إذا مات ، ولم يتب ، وقالت المعتزلة بخروجه من الإيمان ، وأنه يكون في منزلة بين المنزلتين ، فليس بمؤمن ، ولا كافر ، وهو مخلد في النار إذا مات من غير توبة .
وأما أهل السنة فيقولون : الإيمان يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، ولا يكفرون بالذنوب ؛ بل يقولون أخوة الإيمان باقية مع ارتكاب الذنب ، وإن كان كبيرة ؛ فالفاسق عندهم مؤمن ناقص الإيمان ، وإن مات ، ولم يتب فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه بالنار ما شاء ، ثم يخرجه منها بشفاعة الشافعين من الأنبياء ، والصالحين ، أو برحمته سبحانه وتعالى ، وهو أرحم الراحمين ، كما دل على ذلك قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [(48) سورة النساء] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وأما إطلاق القول بأن العمل ركن أو شرط صحة ، أو شرط كمال ، فهي عبارات لبعض المتأخرين ، وأما الأئمة فلم يطلقوا على العمل أنه ركن أو شرط ، وإنما قالوا : إن العمل من الإيمان خلافا للمرجئة الذين أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان ، وقالوا : إن الإيمان هو تصديق القلب ، وإقرار اللسان .
ومعلوم أن مباني الإسلام الخمسة هي أصول الإسلام ، وهي من أصول الإيمان ، وهي على مراتب من حيث الوجوب ، وحكم الترك ، فأعظمها الشهادتان ، ثم الصلاة ، ثم الزكاة . فكل ما ناقض الشهادتين فهو كفر كالشرك الأكبر ، والتكذيب بمعلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ كجحد وجوب الصلاة ، وتحريم الزنا .(1/35)
وأما ترك شيء من أركان الإسلام الأربعة فقد قيل إنه كفر ، وجمهور العلماء على أنه ليس بكفر ، وأعظم ذلك ترك الصلاة ، والقول بكفر تاركها قوي ؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله :" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ". وقوله : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ". إلى غير ذلك من الأدلة ، وأما ما سوى الأركان الأربعة من واجبات الدين فلم يقل أحد من أهل السنة بكفر من ترك شيئا منه .
وأما الإعراض عن الدين بالكلية علما ، وعملا ، فهذا لا يتصور فيمن معه أصل الإيمان في الباطن ، ولهذا عد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ الإعراض ناقضا من نواقض الإسلام قال في الناقض العاشر : الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ، ولا يعمل به .اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في رده على المرجئة : والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر. اهـ . والله أعلم .
28-كيف نوفق بين رواية ( كلتا يديه يمين ) ، وبين ( يطوي الأرضين بشماله) في صحيح مسلم ؟
الحمد لله ، قد دل القرآن ، والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجمع أهل السنة أن لله تعالى يدين يفعل بهما ما شاء ، كما خلق آدم بيديه ، وكما يأخذ سبحانه السماوات والأرض يوم القيامة بيديه ، وأن إحدى يديه يمين كما قال سبحانه تعالى { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [(67) سورة الزمر] ، وكما في الحديث الصحيح :" أن الله يطوي السماوات بيمينه ، والأرضين بيده الأخرى " ، وفي رواية عند مسلم "بشماله " .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم :" وكلتا يديه يمين " ، فليس معنى اليمين ما يقابل الشمال ؛ بل معناه أن كلتا يديه ذات يمن ، وخير ، وبركة ، وجيء بهذا بعد قوله " عن يمين الرحمن " ؛ لدفع توهم النقص في اليد الأخرى .(1/36)
وأول هذا الحديث "المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن " ، ولو لم يكن هناك فضل ليمين الرحمن على اليد الأخرى لما دل ذلك على خصوصية للمقسطين ، فلفظ اليمين جاء في الحديث مرتين ، وليس معناه في الموضعين واحدا كما تقدم ، والله أعلم .
فضيلة الشيخ عبد الرحمن - حفظه الله - :
29- ما حكم السخرية بالصالحين بلفظ الجمع ؟ وهل هذا التقسيم صحيح :
مسألة : حكم السخرية بالعلماء وطلبة العلم ، هل هو ناقض ؟ فيه تفصيل :
1- إن سخر بهم لدينهم ؛ فهذا ناقضٌ ، لأنه قصد الدين .
2- إن سخر بهم لعداوةٍ معهم ، مثل من يسخر برجال الهيئات ؛ فهذا كفر دون كفر
3- أن يكون ديدنه السخرية بكل متدين ، ويكثر من السخرية بالمتدينين ؛ فهذا ناقضٌ ، ويدل عليه : حديث غزوة تبوك ، فإنهم قالوا : ( ما رأينا مثل قرائنا ... ) بلفظ الجمع ؛ وأيضاً : السخرية بلفظ الجمع كالسخرية بالأشخاص من حيث الكمية .(1/37)
الحمد لله ، الاستهزاء ، أو السخرية بالعلماء ، أو الصالحين بأفراد ، أو جماعات منهم ينظر فيه إلى القرائن ، والبواعث على السخرية ، والاستهزاء فإن كان لتدينهم بالإسلام ، وعنايتهم بالكتاب ، والسنة فلا ريب أن ذلك كفر وردة عن الإسلام ؛ لأنه استهزاء بآيات الله ، وبدينه الذي بعث به رسوله ، وهذا لا يكاد يصدر عن مؤمن يؤمن بالله ورسوله ، وإنما يصدر عن من هو منافق كما قال سبحانه وتعالى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} [(65) سورة التوبة] ، وإن كان الباعث على السخرية بالعلماء والصالحين أمور أخرى ، مثل : اتهامهم في نياتهم ، وأنهم غير صادقين في تدينهم ، بل يتظاهرون بالصلاح ، وأنهم طلاب دنيا ، فهذا الاتهام حرام ، وهو من الظن الذي أمر الله باجتنابه ، وكذلك السخرية بالمؤمنين حرام ، فكيف بالعلماء والصالحين ، وقد نهى الله عن ذلك فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ـ إلى قوله تعالى ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } ، وقال صلى الله عليه وسلم :" الظن أكذب الحديث ". ، وقد يكون الباعث على سوء الظن ، والسخرية أمور شخصية مثل: النزاعات التي تكون بين الناس على بعض أمور الدنيا ، وينبغي أن يعلم أن الذين قال الله فيهم {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [(66) سورة التوبة] كان استهزاؤهم بالله ، وآياته ، ورسوله ، فمن استهزاء بالرسول صلى(1/38)
الله عليه وسلم على أي وجه من الوجوه فإنه كافر مرتد عن الإسلام إن كان مسلما ، فشرط الإيمان بالرسول احترامه صلى الله عليه وسلم ، نسأل الله أن يجعلنا من الذين قال فيهم : {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [(157) سورة الأعراف] ، والله أعلم .
30- هل يصح الاستدلال على جواز محبة الكفار بقول الله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} حيث قالوا: إنه يجوز للمسلم أن يتزوج بالكتابية ,وهي كافرة , والمودة لازمة الحصول بينهم ؟ هل المودة تعني الحب ؟
الحمد لله ، قد فرض الله موالاة المؤمنين ، وحرم مولاة الكافرين قال الله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [(71) سورة التوبة]
وقال تعالى {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [(73) سورة الأنفال]
وقال تعالى {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} [(28) سورة آل عمران](1/39)
وقال تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .. الآية } [(22) سورة المجادلة]
والود ، والمودة بمعنى المحبة ، والمحبة نوعان : محبة طبيعية كمحبة الإنسان لزوجته ، وولده ، وماله .
وهي المذكورة في قوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [(21) سورة الروم]
ومحبة دينية ؛ كمحبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ، ورسوله من الأعمال ، والأقوال ، والأشخاص .
قال تعالى { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [(54) سورة المائدة]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد .. الحديث ".
ولا تلازم بين المحبتين بمعنى : أن المحبة الطبيعية قد تكون مع بغض ديني ؛ كمحبة الوالدين المشركين فإنه يجب بغضهما في الله ، ولا ينافي ذلك محبتهما بمقتضى الطبيعة ، فإن الإنسان مجبول على حب والديه ، وقريبة ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب عمه لقرابته مع كفره قال الله تعالى : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } [(56) سورة القصص](1/40)
ومن هذا الجنس محبة الزوجة الكتابية فإنه يجب بغضها لكفرها بغضا دينيا ، ولا يمنع ذلك من محبتها المحبة التي تكون بين الرجل وزوجه ، فتكون محبوبة من وجه ، ومبغوضة من وجه ، وهذا كثير ، فقد تجتمع الكراهة الطبيعية مع المحبة الدينية كما في الجهاد فإنه مكروه بمقتضى الطبع ، ومحبوب لأمر الله به ، ولما يفضي إليه من العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [(216) سورة البقرة] .
ومن هذا النوع محبة المسلم لأخيه المسلم الذي ظلمه فإنه يحبه في الله ، ويبغضه لظلمه له ؛ بل قد تجتمع المحبة الطبيعية ، والكراهة الطبيعية كما في الدواء المر : يكرهه المريض لمرارته ، ويتناوله لما يرجو فيه من منفعة .
وكذلك تجتمع المحبة الدينية مع البغض الديني كما في المسلم الفاسق فإنه يحب لما معه من الإيمان ، ويبغض لما فيه من المعصية .
والعاقل من حكّم في حبه ، وبغضه الشرع ، والعقل المتجرد عن الهوى ، والله أعلم .
31- هل يجوز التبرك بماء زمزم بغير الشرب كأن يغتسل به طالبا البركة أم أن بركته خاصة بالشرب فقط ؟
الحمد لله ثبت في صحيح مسلم [رقم2473] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم : " إنها مباركة إنها طعام طعم " زاد الطيالسي [1/364] والبيهقي[5/147] :"وشفاء سقم ".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :" ماء زمزم لما شرب له ".
فظاهر الحديث الصحيح ـ وهو الحديث الأول ـ أن ما فيه من الشفاء لا يختص بالشرب ؛ لأن قوله " وشفاء سقم " مطلق ، وإن كان سبب الحديث قصة أبي ذر عندما مكث أياما لا طعام له ولا شراب إلا ماء زمزم .
فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ويشبه هذا قوله تعالى في العسل : {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ } [(69) سورة النحل] ،(1/41)
وقد علم بالتجربة أن ما في العسل من شفاء لا يختص بشربه ، ويشهد لعدم اختصاص ما في زمزم من البركة ، والشفاء بشربه ما ثبت في صحيح البخاري عن أبي جمرة الضبعي قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة ، فأخذتني الحمى ، فقال: أبردها عنك بماء زمزم ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء " أو قال:" بماء زمزم" شك همام.
فتبين أنه يشرع الاستشفاء بماء زمزم شربا ، واغتسالا ، ولا سيما للحمى .
وقد جاء عن الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله [ص447]قال: ورأيته غير مرة يشرب من ماء زمزم يستشفي به ، ويمسح به يديه ووجهه.
وأما ما يفعله بعض الناس من غسل ما يقصد بتكفين الموتى بماء زمزم فلا أصل له .
والواجب الاقتصار على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن السلف الصالح في هذه المسألة وغيرها . والله أعلم .
32: ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى أن اليد بمعنى القدرة لا تأتي مثناة في لغة العرب ، ألا يتعارض هذا مع حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم رقم (2937) في خروج يأجوج ، ومأجوج (فيوحي إلى عيسى أني قد بعثت عبادا لا يَدَان لأحد بقتالهم) وقد ذكر ابن الأثير والنووي وغيرهما أن المعنى: لا طاقة لأحد بقتالهم. فجاءت اليد بمعنى القدرة مع كونها مثناة ؟
الحمد لله ، نعم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم في ردهما على من يأول صفة اليدين في قوله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [(75) سورة ص] بالقدرة ذكرا أن اليدين لا تأتي في اللغة العربية بمعنى القدرة ، وقد ورد في كلامهما في مواضع التعبير بالـ(يدان) عن القدرة كما في مطلع القصيدة النونية :
حكم المحبة ثابت الأركان * ما للصدود بفسخ ذاك يدان
أي: قدرة ،(1/42)
ومن ذلك ما جاء في الحديث الذي أورده شيخ الإسلام في الفتاوى 28/128 : ".. إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه ورأيت أمرا لا يدان لك به ، فعليك بنفسك ، ودع عنك أمر العوام .. الحديث ".
وكذلك الحديث الذي أورد السائل ذكره في الفتاوى 1/44.
وهذا قد يشكل مع إنكارهما على من فسر اليدين بالقدرة ؛ لأن ذلك لا أصل له في اللغة العربية .
والجواب: أن لفظ اليد مثناة لها في اللغة العربية استعمالات :
فتارة تستعمل غير مضافة ، وتلزم الألف ، وهذه هي التي بمعنى القدرة ، تقول: لا يدان لي بهذا الأمر ، أي لا قدرة لي عليه .
وتارة تستعمل مضافة إلى ضمير من قامت به ، أو اسمه الظاهر كقولك: بيديّ ، أو بيديه ، أو بيدي محمد ، ويجري فيها إعراب المثنى .
وهي في هذا الاستعمال لا تكون بمعنى القدرة ، بل يتعين أن يراد بهما : اليدان اللتان يكون بهما الفعل ، والأخذ ، ومن شأنهما القبض ، والبسط .
وبهذا يظهر ألا تعارض بين أنكراهما على النفاة تأويل اليدين بمعنى القدرة ، لأن ذلك لم يرد في اللغة العربية ، وبين استعمالهما (اليدان) بمعنى القدرة .
وهناك استعمالان آخران لليدين في اللغة العربية :
أحدهما: أن يعبر بهما عن الفاعل للفعل ، وإن لم يكن باشره بيديه كقولك هذا ما فعلت يداك ، ومنه قوله تعالى : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [(10) سورة الحج] ، ويأتي لفظ اليدين مجموعا إذا أضيف إلى ضمير الجمع كقوله تعالى : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [(182) سورة آل عمران] ، ومنه قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [(71) سورة يس] .(1/43)
الثاني : استعماله مضافا إليه بعد (بين) ، فيكون بمعنى أمام ، كقولك: جلس بين يديه ، و مشى بين يديه ، ويجري هذا الاستعمال في العاقل ، وغير العاقل كقوله تعالى : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } [(64) سورة مريم] وقوله { وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } [(12) سورة سبأ] وقوله { بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [(57) سورة الأعراف] ونظائر ذلك كثيرة .
فهذه أربعة وجوه من الاستعمالات:
ثلاثة منها مجاز وهي : الأول ، والثالث ، والرابع .
والثاني: حقيقة .
ويمتنع المجاز في اليدين إذا أسند الفعل لفاعل ، وعدي إلى اليدين بالباء كقولك : عملت بيدي ، ومنه قوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [(75) سورة ص ] .
وأما إذا أسند الفعل إلى اليدين كقولك: هذا ما فعلت يداك ، فهو من قبيل المجاز العقلي ؛ لأنه عبر باليدين عن الفعل مطلقا ، وإن لم يكن فعل بيديه .
وبهذا يظهر الفرق بين قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [(71) سورة يس] ، وقوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [(75) سورة ص ] ، فلا تدل الآية الأولى على خلق الأنعام باليدين ،
وتدل الآية الثانية على خلقِ اللهِ آدم َ بيديه ؛ فتثبت له هذه الخصوصية على سائر الناس .
فمن جعل آية "ص" نظيرا لآية "يس" ؛ فقد أخطأ فبين الآيتين فروق :
ففي آية "ص" أضاف الله الفعل إلى نفسه ، وعداه إلى اليدين بالباء ، وذكر اليدين بلفظ التثنية ، وأضافهما إلى ضمير المفرد .
وفي آية "يس" أضاف سبحانه الفعل إلى اليدين بلفظ الجمع ، وذكر نفسه بلفظ الجمع الدال على التعظيم .
فيجب التفريق بين المختلفات من الألفاظ ، والمعاني ، والتسوية بين المتماثلات ، والله أعلم .
33: التبرك بآثار الصالحين والتمسح بذواتهم .
هل نقول: إنه شرك أصغر ؟ أم نقول: إنه بدعة ؟(1/44)
وكذلك التمسح بالكعبة ، والتعلق بأستارها ؟ طبعا لا يدخل في السؤال استلام الركنين ؟
الحمد لله ، كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بآثار النبي صلى اله عليه وسلم كالماء الذي يتوضأ به ، ويقطر من بدنه ، ويتبركون بشعره ، كما قسم صلى الله عليه وسلم شعره يوم حلق رأسه في حجته بين بعض الصحابة ، وبثيابه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذاته مباركة ، وهو أطيب إنسان نفسا ، وقلبا ، وخلقا ، وأكملهم إيمانا ، وتقوى ، ولا يبلغ أحد منزلته في شيء من ذلك ، ولهذا لم يكن الصحابة يفعلون مع ساداتهم كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والحسن ، والحسين ـ رضي الله عنهم ـ مثلما يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم من التبرك ، فلا يقاس به صلى الله عليه وسلم غيره من الصالحين .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ، أو استحباب التبرك بآثار الصالحين ، ولكنه قول مرجوح ، فإن ذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم لما تقدم من بيان منزلته ، واقتصار الصحابة في ذلك على شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم .
وفي التبرك بآثار الرجل الصالح مفسدتان :
الأولى : أن ذلك مدعاة لاغتراره ، وإعجابه بنفسه ؛ ففيه فتنة له .
الثانية : أنه يجر إلى الغلو فيه مما يكون وسيلة إلى الشرك الأصغر ، أو الأكبر .
وبهذا يعلم أن التبرك بأثر الرجل الصالح ليس بمجرده شرك ، لكن قد يكون وسيلة إلى الشرك ، كما أن القول بجواز التبرك بالصالحين يؤدي إلى تبرك الجهال بمن يظنون به الصلاح ، وليس بصالح كما هو الواقع في طوائف الصوفية .
وينبغي أن يعلم أن البركة التي يرجى حصولها بسبب الرجل الصالح هي :
الاقتداء به في خلقه ، ودينه ، والاستفادة من علمه ، وذلك يحصل بمجالسته ، والأخذ عنه .(1/45)
وأما التمسح بجدران الكعبة ، والتعلق بأستارها ، أو الالتزام في غير الملتزم الذي بين الركن والباب ، فكل ذلك لا أصل له ، وهو خلاف السنة ، وإنْ أثر شيء من ذلك عن بعض السلف ، كما أثر إنكار ذلك عن بعضهم ، والصواب مع من أنكره إذ لم يثبت شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والمعول في العبادات ، والفضائل على ما صح عنه صلى الله عليه وسلم ، فكل يؤخذ من قوله ، ويرد إلا من ثبتت له العصمة ، وهو صلى الله عليه وسلم ، فمن فعله معتقدا حصول البركة ؛ لأن الكعبة مباركة ؛ فهو مخطئ في هذا الفهم ، والاعتقاد ، فالمسجد كله مبارك ، بل الحرم كله مبارك ، أفيجوز التمسح بجدران المسجد ، وعُمُده ، أو التبرك بما يعلق فيها من تراب ، أو غبار ؛ رجاء حصول البركة ، والشفاء ! وهذا ظاهر الفساد .
والبركة التي جعلها في بيته ، وحرمه هي ما شرعه الله من الطاعات ، وما خصه من مضاعفة الحسنات .
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [(96) سورة آل عمران ] ، والله اعلم .
34: هل يصح تفسير الاستواء بالجلوس ؟ وهل يوصف الله بالجلوس ؟
الحمد لله ، لقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن ، وجاء في السنة وصفه بأنه فوق العرش ، قال سبحانه وتعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [(5) سورة طه] وقال صلى الله عليه وسلم :" والعرش فوق الماء والله فوق العرش ، ويعلم ما أنتم عليه ".
وجاء عن السلف تفسير الاستواء بأربع عبارات:
علا ، وارتفع ، واستقر ، وصعد ، أشار إليها ابن القيم في الكافية الشافية [1/440 مع شرح ابن عيسى] بقوله :
فلهم عبارات عليها أربع ** قد حصلت للفارس الطعان
وهي "استقر" ، وقد "علا" ، وكذلك "ار ** تفع" الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد "صعد" الذي هو رابع ** وأبو عبيدة صاحب الشيباني(1/46)
يختار هذا القول في تفسيره ** أدرى من الجهمي بالقرآن .
ولم يذكر لفظ الجلوس ، ولكن أهل السنة لا ينكرون ذلك بل المبتدعة هم الذين ينكرونه ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة التدمرية [ص238 مع شرح البراك]:
فيظن هذا المتوهم أنه تعالى إذا كان مستويا على العرش كان استواؤه مثل استواء المخلوق ، فيريد أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقول: إن استواءه ليس بقعود ، ولا استقرار . اهـ بتصرف واختصار .
وقد جاءت آثار فيها ذكر القعود ، والجلوس ، وذكرها الأئمة في كتب السنة بمعرض الرد على نفاة العلو ، والاستواء كالأثر الذي جاء عن مجاهد في تفسير المقام المحمود : بإقعاد النبي صلى الله عليه وسلم على العرش .
وإن كانت هذه الآثار لا تخلوا عن مقال ، فذكر الأئمة لها للاستشهاد ، والاعتضاد ، لا للاعتماد ، وقد حكى غير واحد إجماع أهل السنة على صحة تفسير المقام المحمود بإقعاده صلى الله عليه وسلم على العرش ، وأنه لا ينكر ذلك إلا جهمي ؛ فظهر أن لفظ القعود ، والجلوس لا يجوز نفيه عن الله سبحانه ، وأما إثباته ، ووصف الله به ، فينبني على صحة ما ورد من الآثار في ذلك ، والله أعلم .(1/47)