قراءة في تداعيات الملف النووي الإيراني
مازن أبو بكر عبد الله باحميد
تعيش إيران مع حلفائها الغربيين أزمة حقيقية بسبب برنامجها النووي؛ حيث يرى الغرب أن امتلاك إيران للأسلحة النووية يعتبر تجاوزاً للدور الممنوح لها لتلعبه في المنطقة، وأن امتلاكها للأسلحة النووية يعد خطاً أحمر لا يمكن لها أن تتجاوزه. فامتلاك إيران للأسلحة النووية، وهي الدولة التي تطل على الخليج العربي، يجعلها قادرة على التحكم بإمدادات النفط العالمية التي تأتي من الخليج العربي، الذي يحتوي بدوره على أكبر احتياطي نفطي في العالم، وفي هذا تهديد بالغ الخطورة على الاقتصاد العالمي والغربي بشكل خاص، ولهذا فإن الغرب لن يسمح لإيران بتطوير برنامجها النووي مهما كلفه ذلك؛ فهو يدرك أن المواجهة مع إيران التقليدية اليوم أفضل من المواجهة مع إيران النووية في الغد، في حين ترى إيران أن امتلاكها لمثل هذا السلاح، سيضاعف من وجودها كقوة عسكرية إقليمية كبرى بطريقة تجعلها قادرة على تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية وثقافية في منطقة الشرق الاوسط العربية، وسيفتح الباب على مصراعيه أمام الحلم الإيراني بتصدير الثورة؛ بحيث تكون إيران قادرة على التدخل في شؤون دول المنطقة دون ان يتجرأ أحد على التدخل في شؤونها الداخلية، كما سيمكنها ذلك أيضاً من التأثير على القرار العالمي بسبب تمكنها من التحكم بورقة نفط الخليج.
ويبدو أن إيران على قناعة تامة بأن المكاسب التي ستحققها من جراء امتلاكها للتكنولوجيا النووية تفوق كل العروض التي يستطيع أن يقدمها الحليف الغربي لها، إذا هي تخلت عن برنامجها النووي، وأن الفرصة التي تمنحها الظروف الدولية الراهنة المواتية لإيران لتحقيق هذا الحلم قد لا تعود في المستقبل أبداً إذا هي أضاعت هذه الفرصة، ولهذا فإنها تبدو مصممة إلى أبعد حد على المضي قُدُماً في تطوير برنامجها النووي بما يمكنها من تخصيب اليورانيوم، وهي الخطوة الأهم في طريق الوصول إلى تصنيع الأسلحة النووية.
ومع ان إيران تدرك جيداً أن المواجهة العسكرية مع الغرب ليس في مصلحتها، وهي على استعداد كامل للتخلي عن كل برامجها النووية إذا أدركت ان الغرب قد اتخذ قراراً بالمواجهة العسكرية معها، غير أنها تدرك ان الغرب عاجز في هذه المرحلة عن الإقدام على فعل أي شي قد يجبرها على التخلي عن برنامجها النووي. فالغرب يدرك أن إيران اليوم باتت ممسكة بكثير من أوراق اللعبة السياسية في منطقة الشرق الأوسط: في العراق، وفي لبنان وسورية، وربما في أفغانستان، كما أنها تمتلك ترسانة عسكرية قوية، وقد بات بإمكانها خلق الكثير من المشاكل للغرب في المنطقة إذا هو أقدم على ضرب منشآتها النووية. ويأتي خوف الغرب من أن تذهب إيران وهي بقيادة أحمد نجاد المعروف بتشدده في حالة تعرضها لهجوم إلى ردات فعل انتقامية تهورية محاولةً منها لِلَّعب بالأوراق التي تمسك بها في المنطقة وهو ما قد يجعل الغرب يجد نفسه متورطاً في مواجهات عسكرية وسياسية قد تمتد على مستوى الهلال الشيعي الذي يمتد من لبنان إلى إيران مروراً بالعراق وسورية وربما بلاد الأفغان وبعض دول الخليج، وهو ما سيكلف الغرب والمنطقة الكثير. وفي هذا المقال نحاول قراءة الواقع والأوراق السياسية المؤثرة في هذا الملف وموقع كل طرف في هذه الأوراق.
\ الموقف الدولي من الملف النووي الإيراني:
لقد بنت إيران لنفسها وهي الدولة النفطية شبكة واسعة من العلاقات الدولية، استطاعت من خلال ذلك أن تجعل الموقف الدولي من ملفها النووي منقسماً حتى على مستوى الأعضاء الخمسة الكبار في مجلس الأمن؛ فالصين التي تربطها بإيران مصالح اقتصادية لا تستطيع أن تقف موقفاً متشدداً من إيران، ولعلها لا ترى في امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية أي تهديد مباشر لأمنها القومي، ولا ترى أن امتلاك إيران للأسلحة النووية من شأنه أن يخل بموازين القوى في وسط آسيا، الذي اختل أصلاً إلى غير مصلحة الصين في أعقاب التفجيرات النووية الهندية في نهايات القرن العشرين. أما موسكو التي تعج دبلوماسيتها بتناقضات كثيرة، وتتميز بضعف شديد في تقدير الأمور وفهم الواقع، والتي يرى رئيسها أنها وارثة مكانة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة؛ فلعلها ترى أنها تستطيع من خلال تعاونها مع إيران الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، وهو الحلم الذي دفع بالاتحاد السوفييتي السابق إلى احتلال أفغانستان في سبعينيات القرن العشرين، وخاصة أن العلاقات الروسية الأمريكية ليست على ما يرام بسبب السياسات الأمريكية والغربية التي قضت على ما بقي من النفوذ الروسي الموروث من الإمبراطورية السوفييتية في دول كثيرة مثل جورجيا وغيرها. ونتيجة لهذه المواقف المتباينة بين الخمسة الكبار في مجلس الأمن، تدرك إيران جيداً أن مجلس الأمن غير قادر على إصدار قرار يتيح استخدام القوة العسكرية ضد إيران، وهو القرار الدولي الوحيد الذي ـ في حالة صدوره ـ سيدفع إيران إلى التفكير الجدي في التخلي عن برنامجها النووي؛ لانه في حالة توجيه ضربة عسكرية لإيران تحت غطاء دولي وتحظى بإجماع المجتمع الدولي، فإن ذلك سيضيق من هامش المناورة السياسية والعسكرية التي ستقوم بها من ردة فعل في حالة تعرضها للهجوم. أما قرارات مجلس الأمن التي هي دون هذا القرار فإنها لا تحفز إيران على التخلي عن برنامجها النووي، إذا ما قارنت بين حجم الأرباح والخسائر؛ فالضرر الحاصل عليها من جراء تطبيق مثل هذه القرارات والتي ستكون في أسوأ الأحوال عقوبات اقتصادية محدودة، لا يرقى هذا الضرر لأن يدفع بها أو يجبرها على التخلي عن برنامجها النووي على الأقل في هذه المرحلة.
ويبقى الخيار الأوحد أمام الغرب والولايات المتحدة لإيقاف أنشطة إيران النووية، هو توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية من دون الرجوع إلى مجلس الأمن. ولكن هذا الخيار يصطدم بالظروف السياسية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والتي هي اليوم قد باتت في صالح إيران وهو ما يُظهر الغرب عاجزاً عن القيام بأي عمل عسكري ضدها.
العراق:
يعتبر العراق أهم الأوراق السياسية التي يمسك بها الإيرانيون بقوة؛ فمنذ سقوط بغداد في يد الأمريكيين ظهر التحالف الإيراني الأمريكي جلياً داخل العراق، من خلال تحالف واشنطن مع الأحزاب الشيعية الرافضية التي تدين بالولاء لإيران، والتي تمسك بزمام الحكم في العراق اليوم، وقد استغلت إيران هذا التحالف في تعزيز حضورها وتقوية نفوذها في العراق عن طريق الميليشيات الشيعية أو ما يسمى بـ (فرق الموت) التي دأبت على قتل وتعذيب السنة وتهجيرهم للانفراد بالسلطة والنفوذ داخل العراق؛ وتنبئ الأحداث الجارية في العراق عن مدى نفوذ هذه الميليشيات ومدى تغلغلها داخل أجهزة ومفاصل الدولة في عراق اليوم.
وعلى الرغم من انزعاج الأمريكيين الشديد من تزايد النفوذ الإيراني من خلال هذه الميليشيات، غير أن الأمريكيين ليس لديهم الكثير مما يمكنهم فعله إزاء هذه الميليشيات؛ فشراسة المقاومة العراقية السنية التي قلبت كل الحسابات والتوقعات، والحضور القوي لتنظيم القاعدة فيها والذي يرفض بدوره أي حوار أو مهادنة مع الأمريكيين، ومن ثَم عدم قدرة الأمريكيين على إقامة نظام سياسي قائم على التوازن الطائفي في داخل العراق، يعمل هذا النظام على الحد من النفوذ الإيراني ويكون ذا رغبة جامحة في التصدي للمقاومة العراقية السنية أو ما يسميه الأمريكيون بالإرهاب، كل هذا سيُبقي الأمريكيين في حاجة ماسة لخدمات الأحزاب الرافضية وميليشياتها، للتصدي للمقاومة العراقية السنية التي تدك معاقل الأمريكيين؛ حيث تتألف المؤسسة العسكرية والأمنية في العراق اليوم من عناصر هذه الميليشيات، كما أن ضربة عسكرية أمريكية لإيران قد تخلق تشققات كبيرة في التحالف الشيعي الأمريكي في العراق وقد تنهيه، وهو ما قد يخلق للأمريكيين الكثير من المشاكل في العراق، وما سيزيد من تعقيدات الوضع العراقي المعقد أصلاً.
ويبدو أن الأمريكيين كانوا على اقتناع بأن إقامة توازن سياسي طائفي في داخل العراق هو السبيل الأوحد لاحتواء النفوذ الإيراني في ظل الأوضاع الداخلية التي يمر بها العراق والأوضاع الإقليمية، ولكن هذا التوازن يصطدم بمعارضة القيادات السنية الحقيقية والمؤثرة في الشارع السني على أي مشاركة في العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والجارية في ظل الاحتلال، كما تتزايد الصعوبات أمام إمكانية إقامة هذا التوازن، وتتضاءل فيه الآمال مع مرور كل يوم في ظل العنف الطائفي الذي تشنه ميليشيات الموت الرافضية والذي ما فتئ يُلحِق بالغ الضرر بالتركيبة الطائفية في العراق لصالح النفوذ الإيراني وعملائه من الروافض.
وتأتي الرغبة الأمريكية في التقارب مع البعثيين والتي يعبر عنها قرار الحكومة العراقية بدعوة أفراد وضباط الجيش السابق للانضمام إلى الجيش الجديد في إطار مساعي واشنطن اليائسة من إقامة هذا التوازن، ولكن هذه الرغبة جاءت متأخرة جداً؛ فقد بات من الصعب على الأمريكيين استئصال هذه الميليشيات التي باتت موجودة وبقوة في كل مفاصل الدولة في العراق، وهذا ما قد يدفع واشنطن إلى الخضوع للأصوات التي تدعو لفتح حوار مباشر مع طهران في إطار حل شامل للملف العراقي.
وهنا تدرك واشنطن أن حلاً شاملاً للملف العراقي يقوم على فتح حوار مع إيران سيفضي حتماً إلى عقد صفقة معها، وحتماً لن يكون ملفها النووي بمنأى عن هذه الصفقة، وهذا ما يعني أن مثل هذا الحوار سيحقق الكثير من المكاسب للإيرانيين، وسيكون في مصلحة ملفهم النووي، وهذا ما ترفضه واشنطن في هذه المرحلة.
أما المؤتمر الذي عقد في بغداد والذي جمع بين الامريكيين والإيرانيين والسوريين فلا يعدو أن يكون محاولة أمريكية للالتفاف على السياسات الإيرانية بتوريطها في التزامات أمنية مشتركة داخل العراق، كما يعد المؤتمر فرصة للأمريكيين لمعرفة الطرح الإيراني في الحوار فيما لو أرغمت واشنطن على التحاور مع إيران في المستقبل بشكل جاد.
وإذا استطاعت واشنطن في هذه المرحلة احتواء النفوذ الإيراني في العراق بإقامة توازن سياسي طائفي هناك، أو استطاعت الخروج من العراق دون اللجوء إلى الحوار مع إيران، فإن إيران ستفقد بذلك ورقة سياسية مهمة لطالما استخدمتها ببراعة في مواجهة الضغوط الغربية بشأن ملفها النووي، وهو ما يخيف الإيرانيين كثيراً؛ ولهذا فإن إيران ستعمل على إثارة الطائفية وافتعال الأزمات وتازيم الوضع الأمني لإجهاض أي حلول من شأنها أن تنهي التورط الأمريكي في العراق سواء كانت هذه الحلول لصالح الشعب العراقي أو لصالح الأمريكيين، وستعمل على توسيع نفوذها في العراق عن طريق الميليشيات وفرق الموت الشيعية، وستعمل على إجهاض أي تحركات أمريكية من شأنها إقامة توازن طائفي يحد من النفوذ الإيراني في العراق؛ وذلك بالاستمرار في تصفية القيادات السنية القادرة على تحقيق مثل هذا التوازن، ولعل مذكرة الاعتقال والجلب التي أصدرتها الداخلية العراقية في حق الشيخ حارث الضاري تكشف عن مدى خوف الإيرانيين من سقوط الورقة العراقية من أيديهم، وتكشف أيضاً عن مدى رغبتهم الجامحة في تصفية الخصوم حتى خارج العراق.
\ لبنان:
تعد إسرائيل أكثر الدول ترشيحاً لتنفيذ الضربة العسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، ولهذا بادرت إيران بإيصال رسالة إلى الإسرائيليين عن طريق حزب الله في ما يعرف بـ (حرب لبنان) ومفاد هذه الرسالة أن الكثير من المنشآت الحيوية والاستراتيجية الإسرائيلية باتت في مرمى الصواريخ الإيرانية، التي ستسقط عليها بالمئات من جنوب لبنان، وأن إيران إن تجنبت قصف هذه المنشآت خلال ما عرف بحرب لبنان فإن هذه المنشآت قد لا تسلم في المرة القادمة إذا أقدمت إسرائيل على أي عمل عسكري ضد إيران، وأن حزب الله قادر على قصف العمق الإسرائيلي في حالة صدور قرار سياسي من إيران يأمره بذلك، وعلى إسرائيل أن تعيد النظر جيداً في حال تفكيرها بتنفيذ عمل عدائي ضد إيران.
إلا أنه، ومع ذلك كله، تبقى إسرائيل أبرز المرشحين لتنفيذ الضربة العسكرية في ظل التورط الأمريكي الكبير في العراق؛ لأن ذلك سيؤدي إلى محدودية الرد الإيراني، وسيضعف المبررات الإيرانية في الرد على هذه الضربة بقصف القواعد الأمريكية في الخليج أو إغلاق مضيق هرمز؛ حيث سينحصر الرد الإيراني في ضرب بعض مواقع التجمعات السكانية والقليل من المنشآت الحيوية والاستراتيجية داخل إسرائيل بصواريخ شهاب، وهو ما سيراه الغرب رداً طبيعياً، ولكن لا أظن أن إيران ستُقْدِم على الإضرار الكبير بالمنشآت الحيوية والاستراتيجية الإسرائيلية كما رأينا ذلك في ما يعرف بحرب لبنان؛ لأن ذلك سيدفع إسرائيل لأن ترد مستهدفة مواقع حيوية متنوعة داخل إيران وهو ما قد يفضي إلى دمار كبير في الجانبين.
وقد تبدأ إسرائيل عملها ضد إيران أولاً بحملة عسكرية على لبنان، تستهدف من خلالها حزب الله؛ لأن الصواريخ الإيرانية التي ستنطلق من جنوب لبنان ستكون أكثر ضرراً على إسرائيل بسبب كثافة القصف الذي عادةً ما تستخدم فيه الصواريخ التكتيكية (الكاتيوشا) المتاحة بكميات كبيرة لدى حزب الله، بعكس الصواريخ الاستراتيجية التي ستنطلق من إيران والتي عادة ما تكلف الكثير من الأموال، ويكون من غير المجدي استخدامها لحمل رؤوس تقليدية، وهو ما يجعل الرد الإيراني من هناك أكثر محدودية. وفي حالة قيام إسرائيل بحملة عسكرية ضد حزب الله فإنها ستكون هذه المرة حملة شاملة، قد تمتد لضرب خطوط إمداد حزب الله داخل الأراضي السورية لحسم المعركة وإجبار الحزب على الاستسلام، ولا أظن أن إسرائيل ستكترث برد الجيش السوري؛ حيث سينحصر الرد السوري في استمرار سورية بإمداد حزب الله بالسلاح الإيراني.
وتتمحور السياسة الإيرانية في لبنان في مرحلة ما بعد ما يسمى بحرب لبنان الأخيرة حول هدف واحد، وهو الإبقاء على سلاح حزب الله كذراع عسكرية وورقة سياسية قوية في يد إيران، وسنشهد في لبنان الكثير من العواصف والمناورات السياسية الحادة جراء ذلك بين الفرقاء اللبنانيين، وفي إطار ذلك يأتي انسحاب حزب الله وحركة أمل اللذين يمثلان السياسة الإيرانية والسورية في لبنان من الحكومة اللبنانية الحالية، ودعوتهما إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية؛ حيث ستكون مثل هذه الحكومة عاجزة عن اتخاذ أي إجراء في اتجاه نزع سلاح الحزب.
\ نهاية الأزمة:
وهكذا فإن قضية الملف النووي الإيراني تحكمها الكثير من القضايا والملفات الإقليمية المعقدة تعقيداً بالغاً، والتي ما زالت مفتوحة في كل من العراق ولبنان وغيرهما، وهو ما يعني أن حل الأزمة مرهون بما ستؤول إليه هذه الملفات والقضايا، وأن أزمة الملف النووي الإيراني على المستوى المنظور تبقى مرشحة للاستمرار دون حل، وهذا في حد ذاته ما يثير قلق الغرب؛ فاستمرار المحادثات مع إيران بشأن برنامجها النووي إلى ما لا نهاية سيُكسب إيران الكثير من الوقت الذي سوف تستغله دون شك في تسريع أنشطتها النووية، علها تحقق بذلك إنجازاً نووياً يمكِّنها من دخول النادي النووي قبل أن تتغير الظروف السياسية في المنطقة لغير صالحها، وفي حالة تحقيق إيران لهذا الإنجاز فإنه سيجبر الغرب على التعامل معها كقوة نووية لا يمكن أن تٌبتز بالتهديدات العسكرية. وهكذا فإن حل أزمة الملف النووي الإيراني يبدأ من حل هذه القضايا والملفات المعلقة في الشرق الأوسط؛ فإذا أَمِنت إسرائيل من صواريخ حزب الله فإنها ستكون مطالَبَةً أمريكياً بضرب المنشآت النووية الإيرانية، وعند استطاعة الأمريكيين التخلص من تورطهم في العراق فإن الباب سيكون مفتوحاً أمامهم للقيام بهذه الضربة، إلا أن إيران التي تستغل الظروف السياسية للمنطقة إذا ما أدركت أن هذه الظروف قد تغيرت وباتت في غير صالحها، وأدركت ان الغرب قد اتخذ قراره باستخدام القوة العسكرية ضدها فإنها ستكون على استعداد تام للتخلي عن كل أنشطتها النووية؛ لأنها لن تسمح أبداً بحدوث دمار شامل لإيران بسبب حلمها بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وستفضل العودة للتعاون مع الغرب، في إطار مشروعه (الشرق الأوسط الجديد) الذي سيكون لإيران دور بارز فيه في محاربة ما تسميه واشنطن (الإرهاب) في المنطقة والذي يعد من أهم الشروط الأمريكية للشرق الأوسط الجديد، وهو التعاون الذي رأيناه سائداً بينهم في حرب أمريكا على أفغانستان والعراق والذي لا يزال التحالف الإيراني الأمريكي فيه واضح المعالم، لا ينكره إلا أعمى البصر والبصيرة.
والذي يؤلم في كل هذا هو الصمت المطبق والغياب الكبير للمسلمين السنة عن كل ما يدبر من مؤامرات وكل ما يجري من سياسات من حولهم، والتي تستهدف أراضيهم وثرواتهم وتاريخهم ودينهم؛ فأين أنتم يا أهل السُّنَّة؟! فلقد تداعت عليكم الأمم، وإلى الله المشتكى.(236/19)
الصومال المقاومة والمستقبل
حسن محمد إبراهيم
انهار نظام المحاكم الإسلامية في الصومال باجتياح القوات الأثيوبية المدعومة أمريكياً للمناطق الجنوبية والوسطى التي كانت تخضع لنفوذها بما في ذلك العاصمة مقديشو، وشمل هذا الانهيار أجهزة المحاكم الإدارية، وميليشياتها العسكرية.
وأياً كانت أسباب الانهيار الداخلية والخارجية فإن الاجتياح الأثيوبي الذي يسنده الغطاء الجوي الأمريكي هو الذي أزال بالفعل نظام المحاكم عن الحكم، وهذا الغزو الأثيوبي الكاسح مفهوم الأسباب والأبعاد كما أشار إلى ذلك أحد رؤساء الدول العربية؛ فأثيوبيا وهي العدو التقليدي للصومال كانت ترى أن عودة الصومال إلى الوجود ككيان موحد وعودة الاستقرار إلى ربوعه سيكون على حسابها، وسيؤدي إلى ظهور العرقيات والأغلبية المسلمة المهمشة في أثيوبيا إلى السطح، وهو مما يؤدي إلى تمزق كيانها المهزوز أصلاً، وما كان لها أن تنتظر حتى يستوي الصومال ـ بقيادة المحاكم ـ على سوقه، فكانت هذه الهجمة منها حرباً استباقية على غرار الحروب الأمريكية الاستباقية المعاصرة، وقبل ذلك وبعده تحمل أثيوبيا نوايا توسعية بالاستيلاء على الصومال أو جزء منه ليكون منفذاً بحرياً لأثيوبيا، وهو الهاجس الذي لم يفارق حكام أديس أبابا منذ أمد بعيد، وبذلك نطق حكام أثيوبيا السابقون (منليك) و (هيلاسي لاسي) و (منجيستو هيلا مريم) . ثم لما اشتد الخناق على أديس أبابا بعد انفصال أرتيريا وأصبحت دولة داخلية معزولة اشتد طمعها في السواحل الصومالية التي يزيد طولها عن 3000 كم، لا سيما في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها الصومال الذي مزقته الحروب الأهلية. وسبق لأثيوبيا أن عقدت اتفاقية مع نظام (أرض الصومال) في استخدام ميناء بربرة، كما أجرت مثل هذا العقد مع إدارة (بونت لاند) إلا أن ذلك كله لم يهدِّئ من روع أثيوبيا، بل أسال لعابها وزاد من حرصها على وضع يدها على مرافئ صومالية تكون بديلة عن أرتيريا المستعصية. ومع أن هذه الحرب الأثيوبية كانت تخدم المصالح الأثيوبية بالدرجة الأولى، غير أنها كانت في الحقيقة خدمة مدفوعة الأجر تنفذ لحساب أمريكا التي أزعجها نظام المحاكم الإسلامي.
أما الحكومة الانتقالية العميلة فما كان لها في الأمر ناقة ولا جمل، بل كانت (حصان طروادة) الذي امتطته أثيوبيا لاجتياح الصومال وحسب.
- السيناريوهات المحتملة في المستقبل:
ونوجز فيما يلي بعض (السيناريوهات) المحتملة بعد سيطرة أثيوبيا على المناطق التي كانت تحكمها المحاكم الشرعية ومنها:
أولاً: بقاء أثيوبيا قوةً محتلةً تكرس لبسط سيطرتها على الصومال كله بغية ضمه إلى أثيوبيا لتحقيق الحلم الذي طالما راود حكامها، وإلى مثل هذا أشار نائب رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية (حسين عيديد) المقرب من أثيوبيا؛ حيث ذكر في حديث أدلى به إلى إذاعة الـ (بي بي سي) أنه ـ الحكومة الصومالية الانتقالية ـ ستسعى إلى إزالة الحدود بين البلدين وتوحيد العملة ونظام الجوازات والاقتصاد، وبناء جيش موحد للبلدين.
بيد أن تحقيق هذا الأمر صعب للغاية إن لم نقل باستحالته؛ وذلك لأسباب منها:
| يستحيل أن يرضى الشعب الصومالي بمختلف فئاته بهذا الاحتلال وهو الذي ناضل من قبلُ لنيل حريته من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وتمكَّن بعد جهد من هزيمة الاستعمار ونيل الاستقلال، وبقاء أثيوبيا لفترة أطول مدعاة لقيام منظمات تحريرية مختلفة المشارب والاتجاهات.
| تعاني أثيوبيا من وضع داخلي صعب لا تحسد عليه؛ وتورطُها في حرب طويلة الأمد في الصومال يفاقم من أزمتها الداخلية التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى انهيارها دولةً، أو نشوب ثورات داخلية تنتهي بانهيار النظام الحاكم في أحسن الأحوال.
| تعاني أثيوبيا من وضع اقتصادي حرج؛ حيث ذكرت منظمة اليونيسيف قبل عامين تقريباً أن الاقتصاد الأثيوبي تراجع إلى ما كان عليه قبل عشرين عاماً، ويقوم النظام الأثيوبي على الإعانات والصدقات التي يتلقاها من الشرق أو من الغرب، وهو ما يجعل تمويل حرب طويلة الأجل أمراً مستحيلاً لا تطيقه دولة فقيرة كأثيوبيا.
ثانياً: انسحاب أثيوبيا بعد قضائها على ما كانت تعتبره عدوها الاستراتيجي وهو التيار الإسلامي وإعادة الفوضى إلى ما كانت عليه الصومال قبل المحاكم، وهذا الخيار مستبعد أثيوبياً؛ لأنه يفسح المجال لعودة الإسلاميين إلى الساحة أقوى من ذي قبل.
ثالثاً: الإبقاء على جزء غير يسير من القوات الأثيوبية لضمان مصالحها الاستراتيجية واستخدام القوة إذا لزم الأمر، مع نشر قوات إفريقية إلى جانب القوات الأثيوبية المحتلة لتشريع الاحتلال وذر الرماد في العيون؛ مع تحويل تكاليف الحرب المالية والبشرية إلى الاتحاد الإفريقي بدل انفراد أثيوبيا بكل هذه التبعات، ويبدو أن هذا الخيار هو المفضل لدى أثيوبيا إلا أنه صعب التحقيق، حيث إن اجتماع أديس أبابا الذي عقده الاتحاد الأفريقي في يناير/ كانون الثاني المنصرم في هذا الخصوص، قد باء بالفشل، وهو الأمر الذي يشير إلى أن أثيوبيا ستظل في كل الحالات هي التي تتولى كبر مشروع الاحتلال وتحمل تبعاته.
رابعاً: تشكيل حكومة وحدة وطنية؛ وذلك بضم بعض الشخصيات المؤثرة في المجتمع إلى الحكومة الانتقالية، بالإضافة إلى من يسمون أمريكياً بالمعتدلين من عناصر المحاكم، لامتصاص الغضب الشعبي والتستر على الخلل الجوهري الذي تنطوى عليه هذه الحكومة العميلة، وإن كان هذا المنحى هو ما يبدو أن الخطاب الأمريكي يميل إليه، إلا أنه لا يضفي على الحكومة العميلة أي مصداقية، وانسحاب القوات الأثيوبية بعد هذه التشكيلة المرقعة يجعلها عرضة لسهام المقاومة المدعومة شعبياً، وستضطر أثيوبيا إلى البقاء ولو بشكل غير رسمي حتى بعد إعادة تشكيل الحكومة الانتقالية ما لم تجبرها ضربات المقاومة على الانسحاب.
- إمكانية عودة المحاكم لهذه الأسباب:
ولا يعني انهيار المحاكم بوصفها نظاماً سياسياً وانفراط عقدها التنظيمي أن الجو بات مهيأً للاحتلال، ولا يعكر صفوه أي منغص، بل إن هناك عقبات كثيرة ومقاومة شعبية صلدة تنتظر الاحتلال الأثيوبي، ويشير إلى ذلك ما يلي:
1 ـ البنية التحتية التي قامت عليها المحاكم من حيث القوة البشرية لم يصبها كبير أذى، وكان معظمها ينتمي قبل المحاكم إلى تنظيمات إسلامية معروفة، وتعبئتها وإعادة تنظيمها لا يستغرق وقت كبير، إذا عزمت تلك التنظيمات على مقاومة المحتل، وهذا ما تطابقت عليه جميع قناعات الفعاليات الإسلامية في الصومال، وإن لم يكن هناك إلى الآن آلية مشتركة للمقاومة بين هذه المنظمات. بَيْدَ أن بعض فصائل المقاومة قد بدأ فعلاً إعلان برنامجه، وقام بعمليات منظمة ضد القوات الأثيوبية مثل (الجبهة الإسلامية لمقاومة الاحتلال) المحسوبة على الوسط السلفي، و (حركة المقاومة الشعبية في بلاد الهجرتين) المحسوبة على التيار الإخواني المحلي، والأجواء مرشحة لظهور فصائل أخرى إسلامية ووطنية.
2 ـ العداء بين الصومال وأثيوبيا مستحكم وفصوله التاريخية مليئة بأحداث يصعب على الذاكرة الجماعية نسيانها أو تناسيها، والصومالي مهما كان اتجاهه أو مستواه الثقافي مَحْقُونٌ بكراهية أثيوبيا، بالإضافة إلى أن أثيوبيا تحتل أرضاً صومالية إلى الآن وهي منطقة الصومال الغربي (أوجادين) ، وتحمل في الوقت ذاته نوايا توسعية يدركها كل صومالي، وهو الأمر الذي يجعل الاطمئنان إلى الاحتلال الأثيوبي مستحيلاً.
3 ـ يدرك جميع الصوماليين أن الحكومة الانتقالية التي مهدت الطريق للاحتلال الأثيوبي لا تملك من الأمر شيئاً، وأن رئيسها ووزراءها ما هم إلا دمى تحركها أثيوبيا، بالإضافة إلى أنها لا تحظى في الأصل بشعبية تذكر، ووجودها وعدمه في المعادلة سيان، ولن يثني المقاومة عن مواصلة مسيرتها حتى دحر الاحتلال وإزالة توابعه.
4 ـ الوضع في الصومال عاد إلى ما كان عليه قبل المحاكم من فوضى وتناحر، وزال الأمن والاستقرار الذي جاءت به المحاكم الشرعية؛ حيث قتل في مقديشو وحدها خلال اليوم الأول للاحتلال 21 مدنياً، يضاف إلى ذلك أن زعماء الحرب الذين طردتهم المحاكم عادوا إلى مقديشو على ظهر الدبابات الأثيوبية، وهم مرفوضون شعبياً، وليس في حوزة أثيوبيا من يسمع لها أو يطيع غير هذه العينة البغيضة البائسة، وليس بإمكانها فرض نظام أمني يأمن فيه الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم؛ لأن جنودها غير آمنين على أنفسهم؛ بحيث تنهال عليهم صباح مساء مدافع المقاومة ورشاشاتها، وقد فشلت بالفعل في نزع الأسلحة من سكان مقديشو بعد أن أصدرت في ذلك قرارات صارمة قوبلت بالاستهجان والسخرية من قِبَلِ سكان العاصمة، ولم يسلَّم لها قطعة سلاح أو طلقة رصاص، اللهم إلا ما كان من المسرحية الهزيلة التي سلم فيها بعض زعماء الحرب أسلحة نسبت إليهم وهم في الأصل محسوبون على الاحتلال، وقد بدأ سكان مقديشو الحنين إلى فترة المحاكم التي نعموا فيها بالأمن والاستقرار، وبدأ التململ من الاحتلال في زمن قياسي لم يكن متوقعاً وهو ما يدل على أن الجو مهيأ لاحتضان كل من يرفع راية المقاومة ولا سيما إذا كان من الإسلاميين الذين أثبتوا جدارتهم القيادية في فترة المحاكم.
5 ـ الصومال جزء لا يتجزأ من العالم الإسلامي والعربي، ويشكل عمقاً استراتيجياً لا يجوز التفريط فيه؛ فهو يطل على باب المندب والمحيط الهندي الذي تمر عبره تجارة النفط، كما هو حزام أمني متقدم للجزيرة العربية؛ إضافة إلى أنه بوابة الإسلام والعروبة إلى شرق أفريقيا، وسلخه من محيطه الطبيعي ـ العربي والإسلامي ـ يفت في عضد الدول الإسلامية والعربية، وتعد مصر من أكبر المتضررين بالاستيلاء الأثيوبي على الصومال؛ بحيث ستواجه بذلك تهديداً حقيقياً في مياه النيل التي تسعى أثيوبيا إلى إحكام السيطرة عليها منذ أمد غير يسير، علاوة على أن أثيوبيا عضو في المعسكر اليهودي الذي يناقض المصالح الإسلامية والعربية؛ وعليه فإن كثيراً من الدول الإسلامية والعربية ستضطر إلى الانحياز إلى مصالحها الحيوية والاستراتيجية؛ وذلك بدعم المقاومة الصومالية ضد المحتل سياسياً ولوجستياً، وإن لم يحدث هذا التأييد في النطاق الرسمي فسيحدث في النطاق الشعبي كما يجري الآن في العراق وأفغانستان وحتى فلسطين وغيرها من القضايا الإسلامية، وسيزيد ذلك من قدرة المقاومة وأدائها.
- هل ستدفع أثيوبية من فاتورة الاحتلال؟
ونخلص من كل ما سبق إلى أن الصومال مُقْدِمٌ على مرحلة يكون القدح المعلَّى فيها للمقاومة، وأن الاحتلال الأثيوبي سيدفع فاتورة باهظة ستجبره في النهاية على الرحيل النهائي غير مأسوف عليه هو وما نتج عنه؛ لأن التابع تابع في كل الأحوال.
وهذا ما برهنت عليه الأحداث الدامية الأخيرة في مقديشو التي قلبت موازين القوى لصالح المقاومة الإسلامية في زمن قياسي لم يكن متصوراً لدى كثيرين؛ حيث استطاعت إجبار القوات الأثيوبية على التحول من مهاجمة تحاول السيطرة على كافة أحياء العاصمة إلى مدافعة تحاول تخليص جيشها المحاصر في ملعب كرة القدم.
ويرى المراقبون أن المقاومة الإسلامية اتخذت استراتيجية جديدة تقوم على أمرين مهمين:
1 ـ التنازل عن السيطرة على المدن والدفاع عنها ـ والذي ثبت بالتجربة أن النجاح فيها لمن يملك الآلة العسكرية الأكثر تطوراً ـ واللجوء إلى حرب المستضعفين وهو ما يعني الانتشار السريع في طول البلاد وعرضها، وتكثيف العمليات داخل العاصمة التي يملك الصوماليون خبرة كبيرة بالقتال فيها، ولا سيما في ظل التأييد الواسع الذي يلقاه الإسلاميون من أهالي مقديشو الذين لم يعطوا خياراً آخر سوى المقاومة. وقد نجحت المقاومة في الاختبار الأول بجدارة ـ رغم إجماع المحللين بصعوبته البالغة ـ وكبدوا الأثيوبيين خسائر فادحة، وسحلت جثث جنودهم في شوارع مقديشو، وهو الأمر الذي أعاد إلى الأذهان صور سحل جثث أسيادهم الأمريكان قبل 14 عاماً.
2 ـ عدم الانفصال عن باقي الشعب لتفويت الفرصة عن العدو لاصطياد الإسلاميين والنيل من عناصرهم بعد تمييزهم عن الشعب؛ وذلك عن طريق تعبئة كافة الشعب بمن فيهم القوميون ورؤساء العشائر وحضهم على المقاومة ضد المحتل الأثيوبي الأمريكي، وقد نجحوا فيها أيما نجاح؛ حيث اتخذت المقاومة منحىً شعبياً تشارك فيه كافة شرائح المجتمع، وهو الأمر الذي خفف عن كاهل الإسلاميين أعباءً كثيرة، حيث اقتصر دورهم الآن على قيادة المقاومة وتوجيه مساراتها.
وقد أنتجت تلك الجهود ثمارها حيث فجَّرت طاقات المجتمع الصومالي في المهجر، ونُظِّمت حملات إعلامية ومؤتمرات كبيرة في أوروبا وأمريكا أُعلن في بعضها عن حركات تحررية ضد المحتل الحبشي.
هذا التصعيد الإعلامي والعسكري هو الذي أجبر ـ في نظر المراقبين ـ قادة أديس أبابا على إعلان هدنة مع المقاومة والتفاوض معها ـ على الأقل لالتقاط الأنفاس والإعداد لمواجهة أصعب ـ وقد وافقت المقاومة على تلك الهدنة بدءاً من يوم الأحد الموافق 13/3/1428هـ بشروط أهمها: انسحاب القوات الأثيوبية من كافة الأماكن التي احتلتها من العاصمة، لإعادة السكان المدنيين الذين هُجِّروا منها عنوة، ومن ثم الترتيب لانسحابها من الصومال كله.
فهل ستُصغي أثيوبيا آذانها لهذه المطالب وتنسحب من الصومال بسرعة؛ مكتفيةً بأقل الخسائر، أم أنها مستعدة للبقاء في مستنقعه لإدارة وتمويل حرب طويلة الأمد قد تكون فصولها المقبلة أشد وأصعب؟ هذا ما ستجيب عنه أيام المستقبل القريب.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المحجّة التي تصدر في مقديشو.(236/20)
طليعة الاستعمار
د. يوسف بن صالح الصغير (*)
هل انتهت فترة الاستعمار الغربي؟ وهل تغيرت العقلية التي تتحكم في تصرفات القادة؟ لقد كان مجرد رسوّ سفينة أوروبية على ساحل أي منطقة ورفع العلم كافياً لتملُّكها أرضاً وشعباً وثروات، بل إن بداية تاريخ هذه البقعة يحددها تقرير قبطان السفينة.
ويقوم مشروع السيطرة والاستغلال الغربي على ثلاث ركائز أساسية، هي: القوة العسكرية؛ سواء كانت نظامية أو غير نظامية (قراصنة ومغامرين) ، والقوة الاقتصادية؛ مثل: شركة الهند الشرقية، والركيزة الثالثة والأخيرة هي القوة الفكرية، وكان يمثلها الكنيسة التي تولت صبغ المستعمرات بالصبغة النصرانية. ويلاحظ أن هذه القوى الثلاث يمهد بعضها لبعض، وكان وجود أحدها يعني بالضرورة قدوم البقية، فمثلاً: وصول بعثة للتنصير لأي منطقة يعقبه غالباً الغزو والاحتلال بدعوى حماية الأقلية النصرانية المضطهدة، وبالمثل فإن وجود مصالح اقتصادية غربية في أي مكان يقدِّم المبرر للتواجد العسكري من أجل حماية تلك المصالح من أي تهديد داخلي أو خارجي. ولا شك أنه مثلما تتغير الوسائل العسكرية مع الزمن فإن القوة الفكرية تتغير صورها وهيئاتها، فمثلاً: تراجع دور الكنيسة؛ فعلى الرغم من استمرار نشاطها وتوسعه فإنها لم تعد تحتكر هذا الدور خاصة مع انتشار المد الليبرالي في الغرب، ولم يعد التغيير الاجتماعي المطلوب لتقبُّل الاستعمار يعني: فرض النصرانية، بل تحول إلى صور كثيرة تؤدي كلها إلى تحقيق الهدف نفسه وهو رفع مستوى القابلية للاستعمار. وإذا حاولنا استقراء ما أهم ركائز التغيير الاجتماعي التي جنّد لها ويجنّد الغرب كل أدواته ووسائله المادية والمعنوية؛ نجد أنه المرأة، فهي العامل المشترك في كل الشعارات المرفوعة؛ من حرية (المرأة) وعمل (المرأة) وقيادة (المرأة) . وحتى نعرف المراد من وراء رفع قضية المرأة يكفي أن نستعرض القضايا المطروحة في مؤتمرات المرأة التي تقيمها الأمم المتحدة، إنها قضايا تدور حول حرية العلاقات الجنسية والإجهاض والمساواة في الأجور، وكلها تتفق على هدف واحد هو تحطيم الأسرة. ولنتخيل مجتمعاً تعمل فيه كل النساء ويصبح معنى العمل هو ممارسة أي عمل عند الغير بأجر قد لا يغطي قيمة المواصلات، فالمهم مغادرة السجن؛ أقصد: البيت، وأصبحت الأمومة من الكماليات، أما تربية الأولاد إن كان هناك أسرة وأولاد فللخادمات. ولا يمكن للفرد أن يحس بالخطر إلا إذا اطلَّع على حرص القوم على مشروع المرأة، فهم كما استخدموا اسم (محمد البرادعي) من أجل منع البرامج النووية في بلاد المسلمين وعرقلتها، فهم يستخدمون اسم (ثريا) في تسويق مشاريعهم حول المرأة، وهي قضية استراتيجية، فحسب بيان حقائق صادر عن وزارة الخارجية الأميركية في 23 آب/أغسطس 2004م، فقد أطلق الرئيس بوش في كانون الأول/ديسمبر 2002م مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط، وذلك كجزء من التزام أميركي قوي تجاه الإصلاح في العالم العربي، وتعترف المبادرة بقضايا المرأة كونها إحدى الدعائم الأربع المتكاملة للإصلاح في المنطقة، إلى جانب ما يحرز من تقدُّم في الدعائم الثلاث الأخرى؛ التعليمية والسياسية والاقتصادية، وتقوم الولايات المتحدة بالمساعدة في إنشاء مدارس توفر التدريب القيادي والتنظيمي للنساء اللاتي يسعين إلى شغل مناصب يتم الاختيار لها بالانتخاب.
وقد نظم كل من المعهد الجمهوري الدولي والمعهد الديمقراطي القومي بدعم من المبادرة أُولى دورات التدريب على تلك المهارات السياسية، وضمَّ هذا التدريب أكثر من 50 امرأة من البحرين والكويت وعمان وقطر والإمارات العربية المتحدة واليمن، وذلك في الدوحة في شباط/فبراير 2004م، ومن المقرر أن تتعاون منظمتان غير حكوميتين في الولايات المتحدة، هما: (أنيرا) الأميركية والاتحاد العام للجمعيات الطوعية الأردنية؛ لتحسين قدرات المنظمات النسائية الصغيرة والمتوسطة التي تتخذ من المجتمع قاعدة لها على المشاركة بفاعلية في الحوار السياسي والإصلاح الديمقراطي.
وسيطبِّق مركز التنمية والنشاط السكاني برنامجاً مشابهاً لتنظيمات نسائية على مستوى القاعدة في أربع محافظات مصرية، وسيعمل بالاشتراك مع المجلس القومي للمرأة ا. هـ. إنها وسائل جديدة لتهيئة المجتمعات واختراقها، ولم تعد مؤسسات الأمم المتحدة أو المؤسسات غير الحكومية الغربية ـ التي هي غالباً واجهات لجهات حكومية حساسة ـ كافية، بل تعدَّى الأمر إلى تدخُّل بعض الدوبلوماسيين بصورة مباشرة وعلنية ويركز عليها إعلامياً، مثل: الخبر التالي المنشور الذي أرفقه باختصار: (وقّعت الحكومة البريطانية على عقد التعاون المشترك الأول باسم مركز خبراء المستقبل للتدريب والتطوير بجدة بمبلغ 700 ألف ريال سعودي. وقد قام القنصل البريطاني العام في جدة (جيرارد راسل) بتوقيع العقد مع المالكة والمدير العام للمركز السيدة (ريم بخيت) في احتفال أقيم بهذه المناسبة في مقر القنصلية.
وتتسع الخدمات التي يقدمها المركز، وتهدف خدماته إلى تنمية المجتمع، وتقدم هذه الخدمات حالياً إلى النساء والأطفال، وتمتد خدمات المركز إلى المجتمع كافة، وبلا حدود) .
إنها محاولات محمومة لجعل مجتمعاتنا تعيش مرحلة الانسلاخ، وهي مثل أي مرحلة انتقالية تعني الضعف المؤقت وعدم القدرة على المقاومة. وأنا أستغرب جداً مظاهر الاحتفال السائدة بهذه المرحلة وكأنها دعوة لكل طامع ومنتهب، ولنا في خلقه عبرة، فالثعابين تمر بمرحلة انسلاخ طبيعية إيجابية، ومع ذلك فإنها تحرص على التخفِّي خلال هذه المرحلة؛ حفظاً لنفسها من الأعداء، واللبيب بالإشارة يفهم.
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(236/21)
مرصد الإحداث
من هنا وهناك
- أعرب فلينت ليفرت الصحفي في نيو أميريكان فاونديشن؛ المتخصص في الشرق الأوسط والذي عمل من قبل في وكالة الاستخبارات المركزية وفي مجلس الأمن الوطني ـ عن اعتقاده بأن التهديدات الموجهة للقوات الأمريكية من المقاومة السنية أكبر من تلك التي يمثلها الشيعة. وعلل تركيز إدارة بوش على المتفجرات المخترقة للدروع، التي تقدمها إيران للميلشيات الشيعية، بأنها جزء من استراتيجية للإدارة تهدف إلى تحميل إيران (فشل المشروع الأمريكي في العراق) .
[الشرق الأوسط، 28/3/2007م]
- قدمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هدية للرئيس الفرنسي جاك شيراك أثارت غضب الأتراك نظراً لدلالتها على انتصار فرنسا على العثمانيين في القرن الثامن عشر. وذكرت مجلة دير شبيجل الألمانية أن الهدية عبارة عن إناء لتناول الجعة - من أنواع الخمور - محفور عليه تاريخ الصنع عام 1799م، وهي السنة التي شهدت تدمير نابليون للأسطول العثماني في وقعة (أبي قير البحرية) أمام سواحل مصر على البحر المتوسط.
[صحيفة الوطن السعودية، 11/3/1428هـ]
- في لقاء تم عبر دائرة تلفزيونية مغلقة اشتكى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي للرئيس الأمريكي جورج بوش من وجود مسؤولين عراقيين في الحكومة يدعمون الإرهاب ـ حسب قوله ـ ويريدون إفشال الخطة الأمنية التي تنفذها الحكومة حالياً في بغداد.
[فضائية الجزيرة، نشرة الأخبار، 5/4/2007م]
- بمجرد أن أعلن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إطلاق سراح البحارة البريطانيين المحتجزين لدى طهران، هبط سعر النفط بمقدار 1.5 دولار في 30 دقيقة، وبلغ خام برنت أكثر من 67 دولار للبرميل. وكان سعر النفط قد ارتفع إلى أعلى معدل في ستة أشهر نتيجة أزمة البحارة بنحو خمسة دولارات مرة واحدة، وهو ما دفع بعض المراقبين للقول: إن إيران كانت تسعى بإشعال الأزمة إلى إبقاء المعدلات المرتفعة لأسعار النفط؛ لتحقيق زيادة في الإيرادات.
- أعلنت هيئة (النزاهة العامة) في العراق أن القيمة التقديرية لأموال (الهدر) و (الفساد الإداري والمالي) تبلغ ثمانية مليارات دولار. جاء ذلك في بيان رسمي عن رئيس الهيئة العامة القاضي راضي الراضي، ولم يحدد البيان هذه الحالات أو ما هي الوزارات أو الدوائر المتورطة.
[موقع ميدل إيست أون لاين، 3/4/2007م] .
- بعد أن تسلمت حركة فتح حقائب وزارية، حسب اتفاق حكومة الوحدة الوطنية مع حماس، قام وزراء الحركة باتخاذ قرارات فورية بإقصاء ونقل كل من عينهم وزراء حماس من قبل، وخاصة في وزارتي الصحة، والنقل والمواصلات. [صحيفة السبيل 3/4/2007م] .
__________
علامة تعجب
حصرياً في نيويورك:
أمضى فنان أمريكي يدعى ماك ماكجوان 72 ساعة وهو يجول في حي مانهاتن بمدينة نيويورك مرتدياً قناعاً مطاطياً لجورج بوش ولافتة على أسفل ظهره كتبت عليها عبارة (اركلوني) ! وقال شاب من نيويورك بعد أن قام بركله: «لقد شعرت ببهجة حقيقية وأنا أركل بوش! إنه يستحق حقاً أكثر من ركلة» !
[مجلة نيوزويك، 6/3/2007م]
لندن تحارب القاعدة بالأبراج:
قال الرئيس السابق لبرنامج أبحاث الأطباق الطائرة في وزارة الدفاع البريطانية نيك بوب، متحدثاً عن نشر وثائق كشفت أن الحكومة البريطانية جنّدت عرّافين في محاولة للعثور على زعيم تنظيم القاعدة عام 2002م: «لا أعتقد أن ذلك كان هدراً للأموال العامة. أعتقد أنه أمر مبهج أن تكون الحكومة مستعدة للتفكير خارج الإطار التقليدي؛ وهذا كان خارج الإطار بأوضح صوره» ! [نيوزويك، 6/3/2007م]
الدين النصيحة
انتقد طارق الهاشمي، نائب الرئيس العراقي عن جبهة التوافق، إصرارَ الديمقراطيين الأمريكيين على إنهاء الانسحاب الأمريكي سريعاً من العراق وقال: «إن عدداً كبيراً من الديمقراطيين يمارسون ضغوطاً على البيت الأبيض لإتمام انسحاب سريع من العراق، وهذا الأمر لن يخدم المصالح الأمريكية ولا الغربية ولا حتى المصالح العراقية» ! [الشرق الأوسط، 25/3/2007م]
(الشُنة) و (السيعة) في مصر:
في سياق زيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي إلى القاهرة، التقى ببعض المسؤولين والسياسيين؛ من بينهم الدكتور مصطفى الفقي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان المصري، الذي صرح بأن شعب مصر (سني المذهب شيعي الهوى) وقال: «إن إيران تعتبر إضافة للعالم العربي وليست خصماً له» !
[وكالات، 12/3/1428هـ]
(الكيف) أهم من الكم:
توصل بحث علمي حديث أن حوالي نصف طلبة الجامعات الأمريكية يتعاطون المخدرات ويشربون الخمور بكثافة، وأن ربع الطلبة الجامعيين أصبح ينطبق عليهم الوصف العلمي للإدمان. وكانت نسبة من يشربون الكحول من الطلبة ما بين عام 1993م وحتى عام 2005م في حدود 68 إلى 70 % أما نسبة من يداومون على الشرب فهي 40 %. أما بالنسبة للمخدرات فقد ارتفعت نسبة من يتعاطون الكوكايين والهيروين وغيرها بنسبة 52 % إلى 636 ألف طالب!
[صحيفة السبيل، 4/4/2007م]
__________
آخبار
هل يعيد بو تفليقة (أمجاد) العسكر في الجزائر؟
أعلن زعيم الذراع المسلحة لـ (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) الجزائرية المحظورة، عن التحضير لحزب جديد يجمع شتات (الإنقاذ) ويتيح لهم دخول الانتخابات البلدية المرتقبة في خريف السنة الجارية. وقال مدني مرزاق رئيس (الجيش الإسلامي للإنقاذ) المنحل: إن مناضلي الجبهة الإسلامية المنحلة سيشاركون في مؤتمر تأسيسي للحزب الجديد المرتقب.
وجاء في البيان: إن عناصر (الإنقاذ) تراجعوا عن الترشح لانتخابات البرلمان المرتقبة في 17 مايو المقبل بسبب (عراقيل وعقبات وضعت في طريقنا) .
وأوضح أن أفراد التنظيم المسلح سابقاً (يصرون بقوة على تجسيد حقنا المشروع في المشاركة السياسية داخل مؤسسات الدولة وخارجها) . ويشير البيان ضمناً إلى خطوط حمراء وضعها الرجل القوي في الحكم ـ وزير الداخلية يزيد زرهوني ـ في طريق عودة أفراد (الإنقاذ) إلى ممارسة السياسة من جديد. وقال زرهوني للصحافة العامَ الماضي رداً على تصريحات مرزاق بشأن الترشح: «ما دمت أنا وزيراً للداخلية فلن يترشحوا للانتخابات» . وذكر بيان مرزاق «أن من أسماهم (تجار السياسة) يرفضون، كلٌّ بطريقته الخاصة، رجوعَ التيار الفائز في الانتخابات التعددية الحرة والنزيهة [جرت في 1991م] إلى الساحة السياسية خوفاً على مستقبلهم» .
ويرى مرزاق أن التيار الذي يتحدث باسمه ساهم في نجاح مشروع المصالحة، وأنه دعم عبد العزيز بو تفليقة للفوز بولاية ثانية في 2004م، ولذلك كان ينتظر أن تتعامل السلطات معه بليونة أكبر فيما يتعلق بالعودة إلى السياسة.
وقد استفاد مرزاق وحوالي 6000 من عناصر (جيش الإنقاذ) من عفو رئاسي مطلع 2000م بموجب قانون الوئام المدني الذي أصدره بو تفليقة بعد هدنة دخل فيها التنظيم المسلح في 1997م، ويقول مرزاق: إن الهدنة تمت باتفاق مع قيادة الجيش وتكفل لعناصره الحقوق السياسية المدنية، على حد قوله، غير أن بو تفليقة قال في وقت سابق: إنه لم يعثر على أي أثر لاتفاق مكتوب بين الطرفين لمّا وصل إلى الحكم في ربيع 1999م. [الشرق الأوسط، 1/4/2007م]
إدارة بوش وجهود (إعاقة) الإعمار
تعهدت واشنطن بتقديم أكثر من 18 بليون دولار لتمويل (إعادة الإعمار) في العراق، ولكنها في المقابل لن تنفق مليماً واحداً لإعادة تشغيل الشركات التجارية التي كانت تسيطر عليها الدولة.
ولدى الحكومة العراقية بلايين الدولارات من عوائد النفط، ولكنها تعاني من قدر كبير من الاختلال الوظيفي بحيث أنها لا تستطيع إنجاز مشروع واحد عبر جهازها الحكومي، وهكذا تبقى غالبية المصانع معطلة.
وكانت شركة استشارات عالمية رئيسية قد أجرت مراجعة للمشاريع التجارية التي كانت تسيطر عليها الدولة في العراق وقدرت أن هناك حاجة لـ 100 مليون دولار لإعادة تشغيلها جميعاً وتوظيف أكثر من 150000 عامل عراقي فيها، 100مليون دولار فقط! وهو المبلغ الذي تنفقه القوات الأمريكية في العراق خلال 12 ساعة. [مجلة نيوزويك، 6/3/2007م]
اليهود يعادون السامية
كشفت مقالة مهمة كتبها رئيس الوزراء البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية أن اليهود يتحملون مسؤولية تزايد موجات العداء الشعبية لهم في بعض دول أوروبا، وخاصة ألمانيا، في ذلك الوقت.
وكتب تشرشل المقالة تحت عنوان (كيف يستطيع اليهود محاربة الاضطهاد؟) وذلك في عام 1937م، لكن سكرتيره نصحه بعدم نشرها بسبب حساسيتها. وتحدث تشرشل في مقاله عن موجة من معاداة السامية كانت تجتاح أوروبا والولايات المتحدة في تلك الفترة. وأضاف أن من السهل تحميل مسؤولية ذلك للجهات التي تضطهد اليهود والادعاء بأنها شريرة، لكن ذلك لا يتفق مع الوقائع. وقد اكتشف المؤرخ ريتشارد توي من جامعة كامبريدج هذه المقالة، وحسب هذه المقالة فإن اليهود يمكن أن يصنفوا باعتبارهم معادين للسامية لتسببهم في موجات الكراهية العالمية. [جريدة الوطن، 22/صفر/1428هـ]
الجيش الصهيوني يدعم المقاومة الفلسطينية
كُشف في تل أبيب عن شبكة من العسكريين الإسرائيليين عددهم 11 جندياً يقودهم ضابط عربي في الجيش الإسرائيلي (من فلسطينيي 48) ومعه 10 جنود آخرون من اليهود والعرب. وقالت النيابة العسكرية: إن هذه الشبكة هي أكبر شبكة تجار أسلحة تكتشف في الجيش الإسرائيلي منذ العام 1948م، وأن كمية الأسلحة والذخيرة التي تاجرت بها تعتبر غير مسبوقة في تاريخ تجارة الأسلحة بين إسرائيل والفلسطينيين. وحسب لوائح الاتهام الأولية فإن قائد الشبكة، ويدعى (كيان بشير) وهو في التاسعة والعشرين من عمره من سكان قرية عيلوط قرب الناصرة، اعتاد على سرقة الأسلحة من كل قاعدة عسكرية يخدم فيها من أقصى الشمال الإسرائيلي وحتى أقصى الجنوب. وقد تمكن وشركاؤه من سرقة كميات ضخمة عرف منها: 12 ألف رصاصة، وألفا قنبلة يدوية، وعشرات بنادق (إم-16) ، ورشاشات كلاشنكوف وغيرها.
وقد عمل بشير حسب لائحة الاتهام بطرق ملتوية جداً ومن خلال عدة شبكات خارجية حتى يغطي على نشاطه، مما أتاح له أن يعمل لسنوات طويلة قبل أن يكتشف أمره؛ فقد سلّم المسروقات إلى عدد من المدنيين الذين عملوا تحت قيادته من خارج الجيش وهؤلاء سلموا (البضاعة) إلى تجار مدنيين، وهؤلاء التجار قاموا بدورهم ببيع الأسلحة إلى منظمات العالم السفلي الفلسطينية. [موقع وكالة معا الإخبارية الفلسطينية، 1/4/2007م]
فتح والثبات على المنحدَر
ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن حركة فتح الفلسطينية أنشأت وحدة عسكرية جديدة في قطاع غزة تضم آلاف المقاتلين؛ تحضيراً لمواجهة مسلحة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) . وقال (إفي سخروف) مراسل الصحيفة: إن (فتحاً) جندت نحو 1400 شخص للوحدة الجديدة وأطلقت عليها اسم (القوة الخاصة) ، ونقلت مصادر مطلعة: إن شرط الانضمام لتلك الوحدة هو عدم وجود أقرباء للعنصر في إحدى التنظيمات الإسلامية.
وقال مراسل الصحيفة: إن المئات من عناصر فتح من الحرس الرئيس الخاص برئيس السلطة الفلسطينية (محمود عباس أبو مازن) وصلت مصر لتلقِّي التدريبات. وأشار (سخروف) إلى أن مصادر مطلعة أكدت له أنه جرى خلال الأسابيع الماضية وصول نحو 350 جندياً من القوة الخاصة الفتحاوية لمصر لتلقِّي تدريبات. وقال مراسل الصحيفة: إن (جمال أبو سمهدانة) أحد نشطاء حركة فتح سيترأس تلك الوحدة الجديدة. وتابع (سخروف) تقريره بالقول: إن الوحدة الجديدة تضم عناصر من المخابرات العامة والأمن الوطني وعناصر جديدة. [صحيفة السبيل الأردنية، 4/4/2007م]
محطة جديدة لـ (غسيل) الأدمغة العربية
بدأ بث قناة (فرنسا 24) الناطقة باللغة العربية الإثنين 3/4/2007م مترافقاً مع احتفالٍ دعت إليه الشبكة في معهد العالم العربي في باريس.
وستبدأ القناة بالبث أربع ساعات باللغة العربية كمرحلة أولى على أن تزداد ساعات البث فيما بعد إلى 12 ساعة.
ويأتي مشروع (فرنسا 24) ضمن مشاريع عدة مماثلة أعلنتها دول غربية خلال السنوات القليلة الماضية ومنها من بدأ بها فعلاً؛ كما هو الحال مع قناة الحرة الناطقة باللغة العربية التي أطلقتها الحكومة الأمريكية قبل 3 سنوات. ويتوقع أن تنطلق في وقت لاحق هذه السنة قناتا بي بي سي العربية التلفزيونية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية، وقناة (روسيا اليوم) الروسية.
وتعتمد القناة الفرنسية باللغة العربية، التي تديرها الصحافية أنياس لوفالوا، على 22 صحافياً يتقنون لغتين على الأقل ومن 8 جنسيات. [صحيفة الشرق الأوسط اللندنية]
التحالف مع إيران.. فمن العدو؟
في حوار صحفي قال منو شهر متقي وزير الخارجية الإيراني:
«نحن نأمل ونرى أن التعاون بين إيران والدول العربية لا بد أن يشهد تطوراً شاملاً ليشمل جميع المجالات، منها:
مجال التعاون الأمني؛ فالأمن في المنطقة يخدم مصلحة الجميع واضطراب الأمن يضر الجميع؛ لذلك أنا فضلت أن أخصص أحد الموضوعات التي أريد أن أتناولها مع القادة العرب لموضوع معاهدة التعاون والدفاع الأمني..، وتناولت مباحثاتنا عدة موضوعات منها موضوع التعاون الأمني والحلف الدفاعي الإيراني العربي بين طهران ودول منطقة الخليج الفارسي» . [الشرق الأوسط، 30 / 3/2007م]
6 ملايين مدخن في السعودية ينفقون 12 مليار ريال على السجائر
يصرف 6 ملايين مدخن بالمملكة العربية السعودية 12 مليار ريال سعودي لشراء السجائر؛ حيث يشير هذا الرقم المخيف إلى ارتفاع عدد المدخنين وإلى إهدار الأموال التي لو استثمرت بطرق صحيحة لرفعت من اقتصاد المملكة.
علماً بأن هناك قرارات سوف تصدر بمنع بيع الدخان والمعسل بالمناطق القريبة من الحرم الشريف والحرم المكي، ومن يخالف القرارات والأنظمة سوف يعاقب ويغرم بمبلغ مالي كبير. [الرياض، عدد 14164، بتاريخ 17/3/1428هـ]
الثمن الباهض للنووي
اليهود في رعب كبيرتقوم مئات العائلات الصهيونية بإنشاء ملاجئ في منازلها للحماية من الإشعاع النووي الذي قد ينتج عن هجوم محتمل؛ فلقد زُوِّرت آلاف المنازل الخاصة بأجهزة الحماية من التسرب الإشعاعي النووي بدءاً من الأقنعة الواقية إلى الأنظمة التي تمنع تلوث المياه بالأشعة النووية. ووفقاً لما ذكره مقاولون في (الأرض المحتلة) فإن الطلب على إقامة ملاجئ نووية شاملة أسفل المنازل قد ارتفع خلال الأشهر الأخيرة.
وتتراوح أسعار الملاجئ النووية من 130 ألف دولار إلى ما يقرب من مليون دولار، وهي تزود بأبواب يبلغ سمك الواحد منها 70 سم ومقاوم للانفجارات، كما يزود بنوافذ مانعة وأنظمة تهوية وتنقية للمياه من الإشعاع النووي. ولقد سرَّع الكنيست الصهيوني من خطوات إقامة ملجأ نووي كبير خلف تلال من أشجار البلوط خارج مدينة القدس سيعدُّ لكي يصبح مركزاً للقيادة في حالة تعرض الصهاينة لهجوم نووي. [وكالات، 12/3/2007م]
__________
س وج
س: ما أهم دلالات وتداعيات اختفاء المسؤول العسكري الإيراني علي أصغري في تركيا؟
ج: يبلغ علي أصغري من العمر 63 عاماً، وهو أحد أكثر المسؤولين الإيرانيين العسكريين علماً بالمعدات والقدرات العسكرية لبلاده، تولّى مناصب رفيعة في وزارة الدفاع، وكان من أهم مسؤولي القسم اللوجستي بوزارة الدفاع خلال الحرب على العراق، وتولى رئاسة الهيئة العامة لأكبر مجمع إنتاج للأسلحة في إيران، وتقلد منصب نائب وزير الدفاع الأسبق الأدميرال علي شمخاني لمدة 8 سنوات حتى 2005م، وكان قائداً بارزاً في الحرس الثوري.
ويعتبر كثير من المراقبين أن أصغري بمثابة (خزان معلومات) بالنسبة للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية.
وبدأت الأحداث عندما وصل أصغري إلى إسطنبول بتاريخ 7 فبراير الماضي قادماً من العاصمة السورية دمشق، وكان اثنان من غير الأتراك توجها إلى فندق (تشايلي) بالمدينة يوم 6 فبراير وحجزا غرفة فاخرة لثلاث ليالٍ، قالوا: إنها لسائح سيصل في الغداة؛ ودفعا التكاليف كاملة نقداً ثم اختفيا تماماً، بعدها وصل أصغري إلى الفندق وسجل اسمه في الاستقبال، واستلم المفتاح وصعد إلى الغرفة، ومنذ ذلك الحين اختفت أخباره ولا يدري أحد أين ذهب.
وذكرت مصادر صحفية أن أصغري كان قد ذهب إلى دمشق 1 فبراير على رأس وفد عسكري وخبراء من منظمة الصناعات الدفاعية الإيرانية لإجراء محادثات مع مسؤولي وزارة الدفاع السورية حول إنشاء مجمعات لإنتاج المعدات العسكرية في سورية، ولم يكن السفر إلى إسطنبول من ضمن برنامج زيارته، غير أنه توجه إلى إسطنبول للاجتماع بتاجر سلاح أوروبي معروف.
تراوحت التحليلات حول اختفاء أصغري بين احتمالين اثنين: الاختطاف أو الفرار. الاحتمال الأول هو ما تروجه الجهات الإيرانية؛ فقد صرح إسماعيل أحمدي مقدم المسؤول في الداخلية أن «من الممكن أن يكون نائب وزير الدفاع السابق قد اختطف على أيدي أجهزة مخابرات غربية؛ بسبب خبراته السابقة في وزارة الدفاع» . وذكرت وكالة (رجا) القريبة من أوساط حكومية في إيران أن الموساد الإسرائيلي وبالتعاون مع الاستخبارات التركية قاما باختطافه، لأسباب تتعلق بتصدير السلاح إلى حزب الله في لبنان.
الاحتمال الثاني أن أصغري تعاون مع جهات استخباراتية غربية من أجل تسهيل عملية الفرار؛ فهو سافر من دمشق إلى إسطنبول بإرادته ودون تخطيط مسبق أو مرافقة مسؤولين آخرين أو حرس. وذكرت صحيفة (ميليت) التركية أن الاستخبارات والشرطة التركية اكتشفت أن أصغري يعارض الحكومة الإيرانية وأن لديه معلومات بشأن خططها النووية.
وكانت تركيا قد شهدت طيلة السنوات الماضية عدة عمليات لتهريب معارضين إيرانيين إلى دول أوروبا وأمريكا، وعدد منهم ينتمون إلى الحرس الثوري الإيراني. ويتبادل الأتراك والإيرانيون صراعاً استخباراتياً غير معلن يتمثل في دعم كل دولة معارضي الدولة الأخرى؛ فإيران تدعم حزب العمال التركي، وتركيا تقدم تسهيلات لمجاهدي خلق. ويذكر أن الخميني نفسه قضى في المنفى التركي ما يقرب من عام قبل أن ينتقل إلى العراق في الستينيات.
وتؤيد وسائل الإعلام الإسرائيلية احتمال الفرار، وذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن فرضية الفرار هي الأكثر ترجيحاً؛ وخصوصاً أن زوجة الجنرال أصغري وأولاده غادروا إيران قبل إعلان اختفائه.
وحول أهمية أصغري، قالت صحيفة (معاريف) : «إنه من الممكن أن يكون المفتاح لفهم الكثير من الأمور المتعلقة بالدور الإيراني في العراق، والحصول على معلومات استخبارية عن برنامج إيران النووي» .
وصرح داني ياتوم الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (موساد) : «إذا انتقل إلى الولايات المتحدة فهناك احتمال أن تُنقل إلى إسرائيل، عاجلاً أو آجلاً، المعلومات التي يمكن أن يقدمها» .
وتركزت نشاطات أصغري من الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات في رئاسة قسم الحرس الثوري الإيراني في لبنان، وأشرف على إرسال مدربين إيرانيين يعملون حتى اليوم إلى جانب الحزب في منطقة البقاع، وهو بذلك يحمل معلومات بالغة الأهمية حول حزب الله، إضافة إلى التعاون العسكري السوري - الإيراني، وهو الملف الذي تكمن فيه الأهمية الكبرى لأصغري.
وذكر بوب باير الذي كان ضابط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في بيروت آنذاك أن أصغري كان وسيلة الاتصال الرئيسية بين حسن نصر الله والقيادي العسكري في الحزب عماد مغنية.
ونقلت صحيفة الشرق الأوسط عن مصدر عسكري قوله: إن أصغري بخير، وإنه يحظى بعناية فائقة في إحدى دول شمال أوروبا؛ حيث يقضي عدة ساعات في اليوم مع جمع من الخبراء العسكريين لاستكمال عدد من الملفات الساخنة كان للحرس الثوري الدور الأساسي فيها؛ من تفجير مقر المارينز في بيروت ونسف السفارة الأمريكية ومعسكر الجنود الفرنسيين أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، إلى قضايا أمنية استهدفت بعض دول المنطقة، وعمليات تصفية قادة المعارضة الإيرانية في الخارج، ولو صحت هذه الأنباء فربما ينتج عنها لاحقاً فتح ملفات القضايا القديمة كوسيلة للضغط على النظام الإيراني.
[بتصرف عن موقع محيط الإخباري، مقال علي عبد العال، 10/3/2007م؛ صحيفة الشرق الأوسط، 1/4/2007م]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
طالب أفيجدور ليبرمان وزير الشؤون الاستراتيجية الصهيوني، الحكومةَ إعطاءه صلاحية منح الجنسية الإسرائيلية لكل من يرغب من قادة المافيا الروسية، دون المساس بصلاحية وزارة الداخلية التي يعد منح الجنسية من صلاحياتها. ويفضل رجال المافيا في روسيا الحصول على الجواز الإسرائيلي؛ لأنه يوفر لهم حرية الحركة في أوروبا والولايات المتحدة وهو وسيلة للحصول على جنسية أوروبية أو أمريكية عند الضرورة.
[نيوز إسرائيل، 24/03/2007م]
إن مصر التي تحصل على مساعدة عسكرية أمريكية سنوية تقدر بـ 1.3 مليار دولار، قامت ببناء واحداً من أقوى الأساطيل البحرية في الشرق الأوسط، وهذا ما يتضح من تقرير أصدرته مؤسسة (Middle-East-Review-of-International- Affairs) وهي مؤسسة أمريكية هامة متخصصة في البحوث السياسية والعسكرية ومقرها واشنطن، ويقول التقرير: إن مصر تمكنت من الحصول على منظومة أسلحة بحرية متطورة للغاية من صناعة الولايات المتحدة، قادرة على سد جميع الطرق البحرية المؤدية إلى إسرائيل.
[موقع نيوز فرست كلاس الإسرائيلي، 24/03/2007م]
تعمل شركة إسرائيلية على تطوير منظومة يمكن بواسطتها تسليح الطائرات المقاتلة في الجو بحيث يصبح بالإمكان، بعد أن تُلقي الطائرة بقذائفها، توصيلها بطائرة شحن تقوم بتزويدها بشحنة جديدة من الأسلحة. [يديعوت أحرونوت، 21/3/2007م]
إن تولي عامير بيرتس حقيبة الدفاع في الحكومة الإسرائيلية أساء إلى سمعة الوزارة، كما أدت تصرفاته وعدم إتقانه اللغة الإنجليزية، فضلاً عن العديد من القضايا الحساسة، إلى تخفيف بعض مؤسسات وزارات الدفاع في العالم علاقاتها بعض الشيء مع وزارة الدفاع الإسرائيلية. [موقع نيوز فرست كلاس الإسرائيلي، 24/03/2007م]
تصريحات
خلال فترة رئاستي قام أفراد الوحدة بتنفيذ نحو 1215 عملية، واعتقال 595 فلسطينياً، وقتلِ 123، وإصابة 109 فلسطيني مقابل إصابة 13 من جنودنا.
[قائد وحدة المستعربين عوزي ليفي، يديعوت أحرونوت، 24/03/2007م]
(كديما) ببساطة بلا رسالة تماماً، فضلاً عن أنه لا يملك أجندة، والأسوأ من ذلك فيما يتعلق بهذا الحزب أنه لا تربطه أي صلة بجمهور ناخبيه.
[الخبير نداف إيال معاريف، 25/03/2007م]
__________
أخبار التنصير
بابا الفاتيكان يقود حملة تنصيرية ضد الإسلام:
أعاد الفاتيكان إحياء منظمة تطلق على نفسها اسم (مساعدة الكنائس المضطهدة) والتي سبق أن استخدمها قبل خمسين عامًا لمحاربة الدول ذات النظم الشيوعية، غير أن الهدف من إحيائها حالياً هو القيام بشن حرب دعائية على الدول الإسلامية بزعم اضطهاد النصارى في هذه الدول، ومن بين هذه الدول مصر.
ويعتمد الكاردينال الألماني (بنديكت) بابا الفاتيكان في مخططه على عنصر التعليم في الدول الإفريقية التي تسمح بوجود تعليم كنسي على أراضيها؛ حيث تكون المدارس وسيلة لاحتلال الأفكار وتذليل العقبات.
وقرر الفاتيكان فرض بعض القوانين الداخلية في بعض المدارس التي تملكها منظمات نصرانية، ومن هذه القوانين:
1- منع الطالبات المسلمات من ارتداء الزي الإسلامي.
2- رفض المدارس، التي بها نظام الإقامة الداخلية، تجهيز الإفطار أو السحور للطلبة أثناء شهر رمضان.
3- التضييق على أداء الطلبة للصلوات الخمس والجمعة والعيدين، وعدم تخصيص مصليات لهم داخل المدارس.
4- تلزم بعض المدارس حضور الطلبة المسلمين طقوس الكنيسة يومي السبت والأحد.
5- إلزام بعض الطلبة بالدراسة النصرانية كمادة بدلاً عن الإسلام.
6- قلة مدرسي المواد الإسلامية. [نبأ، القاهرة، 22/3/2007م]
المغرب ترفض ضغوطاً كنسية مصرية للإفراج عن منصرها قبل استكمال فترة العقوبة:
أفاد مصدر رسمي بوزارة الداخلية المغربية عن رفض بلاده لكل الضغوط التي مارستها قيادات كنسية عليا بالقاهرة للإفراج عن المنصر المصري صادق نصحي ياسين؛ الذي تم القبض عليه متلبساً بممارسة التنصير وزعزعة إيمان مسلم بمنتجع أغادير جنوب المغرب، بعد مراقبة استمرت لثلاثة أشهر متواصلة.
وكانت وكالة رويترز الإخبارية قد نقلت في (29/11/2006م) خبرَ القبض على المنصِّر المصري وتقديمه للمحاكمة بعد سبعة أيام هي فترة استكمال الإجراءات القانونية وتحرِّي المعلومات عن شبكة التنصير التي يعمل من خلالها.
وقالت رويترز: إنه قد صدر حكم بسجن المنصر المصري لمدة ستة أشهر وتغريمه ستين دولاراً فقط؛ بسبب ضبطه وهو يوزع كتباً وإسطوانات مدمجة عن عقيدة صلب الإله على شبان مغاربة مسلمين في الشارع.
ونشر تقارير في وسائل الإعلام المحلية عن إطلاق مسيحيين لحملة سرية لتحويل خمسة آلاف من المسلمين المغاربة إلى المسيحية.
وتذهب تقديرات دبلوماسيين غربيين إلى أنه يوجد حوالي 20 ألف مسيحي أجنبي في المغرب، معظمهم يقيمون في الرباط والدار البيضاء. [دعم، القاهرة، 3 مارس 2007م](236/22)
رئيس المحاكم الإسلامية في الصومال شيخ شريف أحمد للبيان:
لا وجود لمتطرفين في المقاومة.
وأين موقف العلماء ممّا يجري في الصومال؟!
بسبب تصاعد المدّ الجهادي المقاوم للاحتلال الأثيوبي وذيوله العميلة في الصومال، والأحداث المتلاحقة في ذلك البلد المسلم العربي الشقيق، توجَّهت مجلَّة البيان إلى رئيس المحاكم الإسلاميَّة في الصومال شيخ شريف شيخ أحمد ليتحدَّث لنا عن الوضع الراهن في الصومال، حيث أدلى للمجلَّة في زيارة له عابرة لدولة قطر بالحديث التالي:
تصاعد المقاومة في الصومال ناشئ عن وضوح رؤى جميع الصوماليين بأنَّ ما يجري هو احتلال غاشم للصومال من قِبَل القوات الأثيوبيَّة، وقد تمَّ تخطيطه من قَبْل، ويتمُّ تنفيذه في هذه الفترة عبر أجزاء تليها أجزاء متوالية، وذلك على يدي القوات الأثيوبيَّة وبتآمر مع الدول المركزيَّة الكبرى الأخرى.
لقد اتَّضح للشعب الصومالي أنَّ ما يجري هو إبادة جماعيَّة يأخذ أشكالاً وأدواراً عديدة، فرأوا أنَّ الطريقة المثلى هي الانضمام تحت المقاومة، وأنَّه لا حلَّ إلاَّ بالجهاد والمقاومة، ولهذا تطوَّرت المقاومة لكي تكون مقاومة شعبيَّة بالتزامن مع مقاومة المجاهدين المسلَّحة.
وفي حقيقة الأمر لا يوجد هناك حكومة، بل هي اسم لا أثر له؛ لأنَّ الحكومة لها معانٍ ومواصفات وواجبات تجاه شعبها، وليس هناك حكومة تتشكَّل من قِبَل أعداء الشعب، فهي إذاً ليست حكومة شعبيَّة ولا شرعية، حتَّى إن من يعمل بهذه الحكومة ـ كبعض المسؤولين فيها ـ ليس راضياً عن هذه الحكومة، ويعلم أنَّها تسير على خطأ، وأنَّ الأمر ليس بيدها، وأنَّ القوات الأثيوبيَّة هي التي تملك الأمر.
وبخصوص ملابسات الحديث عن وجود مصالحة وطنيَّة أو وقف إطلاق النار فإنَّ الذي يجري الآن من وقف لإطلاق النار هو من المقاومة الشعبيَّة العامة، وما يقال عن مصالحة شعبيَّة من قِبَل الحكومة هو أمر غير واضح؛ لأنَّ المشكلة أنَّ الحكومة الأثيوبيَّة نفسها لا تتعامل مع هذا النظام كونه حكومة انتقاليَّة، بل تتعامل مع الشعب متجاوزة تلك الحكومة.
وأمَّا ما يقال عن وجود مفاوضات بين المحاكم الإسلاميَّة والحكومة الانتقاليَّة فهذا أمر غير صحيح فلا توجد مفاوضات بيننا وبينهم.
نعم؛ بعض القيادات القبليَّة اتصلت بالحكومة لوقف إطلاق النار، وكذا الحكومة تتصل بهذه القيادات الشعبيَّة لكي تكسب الوقت، لأنه قد تبين لها أن التخطيط الذي أتت به قد فشل، حيث إن الحكومة وكذا القوات الأثيوبيَّة كانوا يتوقعون أنَّهم يستطيعون احتلال العاصمة بكاملها بدون صعوبات. والآن هناك تخطيط ونيَّة مبيَّتة لتخطيط جديد.
وحول ما تداولته وكالات الأنباء بأنَّ (عمرو موسى) الأمين العام لجامعة الدول العربية أعرب عن ضرورة عزل من وصفهم بـ (المتطرفين) عن أي دور في المصالحة الوطنية المزمع إجراء مباحثات حولها في الصومال؛ قال شيخ شريف: نأسف أن يخرج هذا الكلام من (عمرو موسى) ، وأنا أقول بأنَّ الحقيقة المرَّة أنَّ كثيراً من إخواننا العرب لا يفهمون ما بداخل الصومال؛ حيث إنه لا وجود لمتطرفين أو إرهابيين هناك كما يزعمون، وإنَّما هناك شعب واعي يريد أن يقاوم الاحتلال الغاشم.
وأمَّا عن عناصر المقاومة فهم منظَّمون، وتمَّ تخطيط مواجهة الاحتلال قبل بدء الاحتلال الأثيوبي للصومال، ولا يوجد من يسمَّون بالمتشددين وغيرهم من المقاومة، بل هذه إشاعات يطلقها الأعداء ليفرقوا الصفوف بين المجاهدين، فكيف يكون هناك اختلاف في المقاومة والناس كلهم يعرفون بأنَّ الحل هو المقاومة.
نعم؛ هناك وجهات نظر متباينة في بعض القضايا بين المجاهدين، فكل واحد يعطي اهتماماً لما يراه ذا أولوية من جانبه، وهذا يثمر عن رأي سديد في مواجهة الاحتلال، وهذا ليس اختلافاً مذموماً، وهذا ما يفسِّر سر تصاعد المقاومة في الصومال؛ فالشعب الصومالي معروف بنضاله ومعرفته لفنون القتال وحتى على الآلات الحديثة، وهو الآن يمارس حرب المدن، وحرب العصابات، وحين أتت القوَّات الدوليَّة عام 1993م ـ وهي مكونة من (35) دولة أجنبيَّة ودوليَّة ـ فشلت في مهمَّتها؛ لأنَّها رأت قوَّة وشكيمة الصوماليين في مقاومة الاحتلال، والصوماليون لا يريدون الكثير، هم يريدون حلاً سياسياً سلمياً لقضيتهم، أمَّا أن يتدخل الاحتلال ليفرض خياره فإنَّ خيارنا هو المقاومة.
وبخصوص ما أدانته منظمة (هيومن راتس ووتش) لحقوق الإنسان عن وجود برنامج دولي للاعتقال السري لصوماليين يشتبه في دعمهم المقاومة الإسلاميَّة وعلى رأسها قوات المحاكم الإسلاميَّة؛ فنحن سمعنا مثل ما سمعتم، ولا ندري عنه، وما نعلمه أنَّ هناك جهات عديدة وكثيرة تسعى إلى الإضرار بالشعب الصومالي المسلم وقياداته الإسلاميَّة، وهذه خطَّة من الخطط التي تُعدّ بطرق معينة ومختلفة، والقادم من الخطط قد يكون أكثر!
ووجَّه الشيخ شريف كلمة أخيرة للعلماء بأن يسارعوا إلى قول كلمتهم تجاه ما يجري في الصومال من إبادة جماعيَّة، وأن يشاهدوا ما يجري في الصومال ويتابعوا أخبار إخوانهم، فيجب أن يقفوا مع الشعب الصومالي؛ لأنَّ المسؤولية الكبيرة تقع عليهم في ظلِّ هذه الظروف، وخصوصاً إن علمنا بأنَّ هذا الشعب عانى قرابة (16) سنة والعالم كله لم يحرِّك ساكناً، وحين انبعثت الهمم في نفوس الصوماليين من جديد وقامت المحاكم بتوفير الأمن وكانت تتعاون مع من يريد الإصلاح؛ انقلب الأمر عليها من الأعداء القريبين والبعيدين، فنحن نريد من العلماء كلمتهم ووقوفهم إلى جانبنا.(236/23)
المفهوم الأمريكي للاعتدال الإسلامي قراءة في تقرير راند 2007م
د. باسم خفاجي (*)
3 ملخص:
أصدرت مؤسسة راند الأمريكية RAND Corporation مؤخراً تقريراً بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) ، يقدم توصيات محددة وعملية للحكومة الأمريكية أن تعتمد على الخبرات السابقة أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر. يوصي التقرير أن تدعم الإدارة الأمريكية قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنها (تيارات متطرفة) . كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفاهيم أمريكية غربية، وليست مفاهيم إسلامية، وأن يكون هناك اختبار للاعتدال بالمفهوم الأمريكي يتم من خلاله تحديد من تعمل معهم الإدارة الأمريكية وتدعمهم في مقابل من تحاربهم وتحاول تحجيم نجاحاتهم. يقدم هذا المقال قراءة مختصرة لهذا التقرير، مع التركيز تحديداً على الجزء الخاص بتعريف الاعتدال من وجهة النظر الأمريكية، وكيفية إقامة تلك الشبكات المعتدلة بالمفهوم الأمريكي. كما يتضمن المقال مجموعة من التوصيات حول الآليات العملية للتعامل مع مثل هذه التقارير، قبل أن تتحول توصياتها إلى سياسات أمريكية عامة تستخدم لتحجيم أو احتواء نهضة الأمة الإسلامية.
3 مقدمة:
تسعى المراكز الفكرية الأمريكية المهتمة بالشرق الأوسط إلى تقديم العديد من التوصيات للإدارة الأمريكية لتوجيه المعركة الفكرية مع العالم الإسلامي. وتبرز مؤسسة راندRAND Corporation، وهي أكبر مركز فكري في العالم، كأحد أهم المؤسسات الفكرية الأمريكية المؤثرة على صناعة القرار في الإدارة الأمريكية الحالية، خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. وقد أصدرت مؤسسة راند مؤخراً تقريراً في نهاية شهر مارس من عام 2007م (ربيع الأول 1428هـ) بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) Building Moderate Muslim Networks، وهو تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ هذا المركز الفكري الهام والمؤثر في إصدارها لتحديد الأطر الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي في الفترة التي أعقبت أحداث سبتمبر.
يقدم التقرير توصيات محددة وعملية للحكومة الأمريكية: أن تعتمد على الخبرات السابقة أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر عن طريق دعم قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنها (تيارات متطرفة) . كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفاهيم أمريكية غربية، وليست مفاهيم إسلامية. وقبل أن نتعرض لمحتوى ذلك التقرير وأهم ما ورد فيه من أفكار، فلعله من المهم إلقاء نظرة على التقارير السابقة لهذه المؤسسة الفكرية، وملاحظة العلاقة بين ما تطرحه من أفكار ورؤى، وما يتحول منها إلى سياسات عامة تتبناها الإدارة الأمريكية، وتفرضها على العالم الإسلامي والعربي.
3 تقارير سابقة:
اهتمت مؤسسة راند بما يسمى بالخطر الإسلامي منذ أكثر من ثمانية أعوام، وصدر عنها العديد من الدراسات التي لا يتسع المقام لعرضها، ولكننا نعرض فقط هنا أهم هذه التقارير، وأكثرها تأثيراً على الإدارة الأمريكية. وقد أصدرت مؤسسة راند كتاباً في عام 1999م، أي: قبل أحداث سبتمبر بعامين بعنوان (مواجهة الإرهاب الجديد) ، وهو من إعداد مجموعة من الخبراء الأمريكيين، وصدر الكتاب في 153 صفحة، وهو خلاصة أفكار وأبحاث أهم خبراء (الإرهاب) في الولايات المتحدة، سواء في دوائر البحث والأكاديميات، أو دوائر السياسة والاستراتيجيات، من أمثال: إيان ليسر، وبروس هوفمان، وديفد رونفلت، وجون أركويلا، ومايكل زانيني؛ كما يذكر مركز كمبريدج بوك ريفيو الذي قام بإعداد قراءة متزنة لهذا التقرير. حاول الكتاب أن يجيب عن سؤال عمّا إذا كان (الإرهاب الجديد) يشكل خطراً استراتيجياً على الولايات المتحدة تحديداً أم لا؟ وأشار الكتاب إلى أن خطر الإرهاب الجديد سيتركز في منطقة الشرق الأوسط، وسيهدد مصالح كل من الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني.
وبعد أحداث سبتمبر قامت مؤسسة راند في عام 2004م بإصدار تقرير بعنوان (العالم المسلم بعد 11/9) في أكثر من 500 صفحة لبحث التفاعلات والديناميات المؤدية إلى حدوث التغيرات (الدينية - السياسية) التي يشهدها المسرح الإسلامي الراهن بهدف إمداد صانعي السياسة الأمريكية برؤية شاملة عن الأحداث والتوجهات الواقعة حالياً في العالم الإسلامي. قدم البحث في محوره الأول - كما تذكر باحثة متخصصة في العلوم السياسية - خريطة شاملة للتوجهات الأيديولوجية في المناطق المختلفة في العالم الإسلامي، مشيراً إلى أن المسلمين لا يختلفون فقط في الرؤى الدينية، بل يختلفون أيضاً في الرؤى السياسية والاجتماعية، مثل: الحكومة، والقانون، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والتعليم. وتذكر الباحثة أن البحث يصنع مساواة مفتعلة بين الإسلام (المعتدل) وبين (العَلْمانية) ، ويقسم العالم الإسلامي تقسيماً قسرياً؛ حيث يتم ـ مثلاً ـ تعريف منطقة معينة في العالم المسلم في كونها (سلفية) ، وأخرى (راديكالية) ، وثالثة (معتدلة) . وتناول الجزء الثاني من البحث الخلافات القائمة بين المسلمين بعضهم مع بعض، مع تركيزه على خلافين أساسيين هما (الخلاف السني - الشيعي) و (الخلاف العربي - غير العربي) ؛ حيث يخلص إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تثبت ولاءها للشيعة العراقية لصدِّ المد الشيعي الإيراني رغم صعوبة ذلك (1) .
أما في فبراير من عام 2005م فقد صدر لمؤسسة راند تقرير بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات) ، ويرى التقرير - كما ينقل أحد الباحثين (2) - أنه لا يمكن إحداث الإصلاح المطلوب من دون فهم طبيعة الإسلام في المنطقة؛ الذي يقف سداً منيعاً أمام محاولات التغيير، وأنّ الحل يكمن في النظر إلى المسلمين عبر أربع فئات، هي: مسلمين أصوليين، مسلمين تقليديين، مسلمين حداثيين، ومسلمين علمانيين. أما فيما يتعلّق بالأصوليين فتقول (راند) : يجب محاربتهم واستئصالهم والقضاء عليهم، وأفضلهم هو ميّتهم لأنّهم يعادون الديمقراطية والغرب، ويتمسكون بما يسمى الجهاد وبالتفسير الدقيق للقرآن، وأنهم يريدون أن يعيدوا الخلافة الإسلامية، ويجب الحذر منهم لأنّهم لا يعارضون استخدام الوسائل الحديثة والعلم في تحقيق أهدافهم، وهم ذوو تمكُّن في الحجّة والمجادلة. ويدخل في هذا الباب السلفيون السنة، وأتباع تنظيم القاعدة والموالون لهم والمتعاطفون معهم، و (الوهّابيون) ، كما يقول التقرير.
وفيما يتعلق بالتقليديين تقول (راند) : يجب عدم إتاحة أي فرصة لهم للتحالف مع الأصوليين ويجب دعمهم وتثقيفهم؛ ليشككوا بمبادئ الأصوليين وليصلوا إلى مستواهم في الحجّة والمجادلة، وفي هذا الإطار يجب تشجيع الاتجاهات الصوفية ومن ثم الشيعية (يقول ابن خلدون: لولا التشيع لما كان التصوف) ، ويجب دعم ونشر الفتاوى (الحنفية) لتقف في مقابل (الحنبلية) التي ترتكز عليها (الوهابية) وأفكار القاعدة وغيرها، مع التشديد على دعم الفئة المنفتحة من هؤلاء التقليديين. وأوصى التقرير بأهمية أن (ندعم التقليديين ضدّ الأصوليين لنظهر لجموع المسلمين والمتدينين وللشباب والنساء من المسلمين في الغرب ما يلي عن الأصوليين: دحض نظريتهم عن الإسلام وعن تفوقه وقدرته، إظهار علاقات واتصالات مشبوهة لهم وغير قانونية، التوعية عن العواقب الوخيمة لأعمال العنف التي يتخذونها، إظهار هشاشة قدرتهم في الحكم وتخلّفهم، تغذية عوامل الفرقة بينهم، دفع الصحفيين للبحث عن جميع المعلومات والوسائل التي تشوه سمعتهم وفسادهم ونفاقهم وسوء أدبهم وقلّة إيمانهم، وتجنب إظهار أي بادرة احترام لهم ولأعمالهم أو إظهارهم كأبطال وإنما كجبناء ومخبولين وقتلة ومجرمين؛ كي لا يجتذبوا أحداً للتعاطف معهم) .
أما في العام الماضي فقد صدر لمؤسسة راند دراسة بعنوان (ما بعد القاعدة) ، وهي تقع في مجلدين: الأول حول حركة الجهاد العالمية، والثاني عن الحلقات الخارجية لعالم الإرهاب. تبحث الدراسة في أربعة مباحث رئيسة، المبحث الأول عن القاعدة: العقيدة، والاستراتيجية، والتكتيك، والتمويل، والعمليات، وتغير الأشخاص، والمستقبل المحتمل. أما المبحث الثاني فهو عن الجماعات الجهادية التي تبنت نظرة القاعدة العالمية، والتي ليست مرتبطة رسمياً بتنظيم القاعدة. والمبحث الثالث حول الجماعات الإرهابية الإسلامية وغير الإسلامية والتي ليس لها أي صلات معروفة بالقاعدة، ولكنها تهدد المصالح الأمريكية والأصدقاء والحلفاء؛ كحماس وحزب الله، وغيرهما. أما المبحث الأخير فهو عن الرابطة بين الإرهاب والجريمة المنظمة، ويتضمن ذلك طرق استعمال الإرهابيين للمنظمات الإجرامية في تمويل نشاطاتهم.
أشرف على إعداد تلك الدراسة (أنجل راباسا) ، وهو معد الدراسة التي سيتناولها هذا المقال أيضاً. تدعو الدراسة الولايات المتحدة الأمريكية إلى توسيع الجهود بشكل كبير لتقويض الدعم للقاعدة وخاصة من داخل الدول الإسلامية، وتقول: إن نجاح مكافحة القاعدة (الجهاد العالمي) يتم من خلال مهاجمة العقيدة الجهادية العالمية، وقطع الصلات بين الجماعات الجهادية، وتعزيز قدرات دول المواجهة إلى مواجهة تهديدات الحركات الجهادية. كما يقول التقرير: إن العقيدة الجهادية تواصل الانتشار وتلقى مزيداً من القبول في العالم الإسلامي، وهذا سينتج إرهابيين أكثر يجددون صفوف القاعدة، وإذا تم الطعن في هذه العقيدة ومصداقيتها فإن القاعدة ستنزوي وتموت. يؤكد التقرير أن طرق مكافحة الإرهاب التقليدية لا تكفي لهزيمة القاعدة، ويجب فهم أن الصراع مع القاعدة صراع سياسي وعقدي، وفي هذا يقول راباسا: «الحركة الجهادية العالمية حركة أيديولوجية متطرفة.. والحرب عليها في أبسط مستوى يكون بحرب الأفكار» ، والهدف من ذلك ـ كما يقول التقرير ـ هو منع القاعدة من استغلال الخطاب الإسلامي والخطاب السياسي والذي استخدمته بكل براعة. يرى التقرير أن تقويض العقيدة الجهادية العالمية من الخارج أمر صعب؛ فالقاعدة قد عبأت المسلمين ضد الغرب، لكن ليس كل الجماعات الجهادية تتفق مع القاعدة في النظرة العالمية؛ ولهذا السبب تدعو الدراسة الولايات المتحدة إلى قطع الصلة بين الجهاد العالمي والجهاد المحلي، وذلك بنشر وتأكيد الاختلافات بين حركة الجهاد العالمية (القاعدة) ، وبين حركات الجهاد المحلية التي لا تهدد الغرب. ومن المهم تأكيد وإبراز أن الدولة الإسلامية التي تسعى القاعدة إلى إقامتها ستستبعد التيارات الإسلامية الأخرى، وبالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة ستسعى إلى القضاء على الجماعات الإرهابية، وتعزيز قدرات الحكومات الحليفة والصديقة للتعامل مع التهديدات الإرهابية، لكن بصفة استشارية بتوفير مجال جمع البيانات والتحليل والتقرير.
3 تقرير راند لعام 2007م:
أصدرت مؤسسة راند مؤخراً تقريراً في نهاية شهر مارس من عام 2007م (ربيع الأول 1428هـ) بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) Building Moderate Muslim Networks، وهو تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ هذا المركز الفكري والمؤثر في إصدارها؛ لتحديد الأطر الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي في الفترة التي أعقبت أحداث سبتمبر. الجديد في تقرير هذا العام أنه يقدم توصيات محددة وعملية للحكومة الأمريكية: أن تعتمد على الخبرات السابقة أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر.
كما يوصي التقرير أن تدعم الإدارة الأمريكية قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنها (تيارات متطرفة) . كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفاهيم أمريكية غربية، وليست مفاهيم إسلامية، وأن يكون هناك اختبار للاعتدال بالمفهوم الأمريكي يتم من خلاله تحديد من تعمل معهم الإدارة الأمريكية وتدعمهم في مقابل من تحاربهم وتحاول تحجيم نجاحاتهم. يقدم هذا المقال قراءة لهذا التقرير، وتحديداً الجزء الخاص في ذلك التقرير والمتعلق بتعريف الاعتدال من وجهة النظر الإسلامية.
أعدَّ الدراسة مجموعة من الخبراء الأمريكيين العاملين بالمركز، ومن أبرزهم (أنجل راباسا) ؛ وهو باحث أكاديمي، عَمِل سابقاً في عدد من المناصب الهامة في كل من وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية، ويجيد التحدث بأربع لغات غير اللغة الإنجليزية، وهي: الفرنسية، الإيطالية، اليونانية والإسبانية، وله عدد من الكتب والدراسات حول العالم الإسلامي.
يحاول التقرير ـ الذي صدر في 217 صفحة، وقُسِّم إلى مقدمة وتسعة فصول، وملخص للتقرير ـ أن ينقل طبيعة المواجهة الفكرية من مواجهة بين الإسلام والغرب؛ لكي تصبح مواجهة من نوع آخر بين العالم الغربي من ناحية والعالم المسلم من ناحية أخرى، على غرار الحرب الباردة التي كانت بين معسكرين شرقي وغربي. يؤكد التقرير أن الصراع هو صراع أفكار إضافة إلى الصراع العسكري أو الأمني، وأن حسم المعركة مع الإرهاب لن يتم فقط على الساحات الأمنية أو العسكرية، ولكن الأهم أن يهزم الفكر الإسلامي - الذي يصفه التقرير بالمتطرف - في ساحة الأفكار أيضاً. يرى التقرير أن هذا الصراع الفطري يحتاج إلى الاستفادة من التجارب السابقة، ومن أهمها تجربة الصراع الفكري مع التيار الشيوعي خلال فترة الحرب الباردة، ويوصي التقرير الولايات المتحدة أن تستفيد من تلك التجارب، وتبحث في أسباب نجاحها وما يمكن أن يتكرر ويستخدم مرة أخرى من وسائل وأدوات وخطط وبرامج في إدارة الصراع مع التيار الإسلامي.
يعقد التقرير مقارنة بين المعركة الفكرية مع التيار الشيوعي، وبين المواجهة الحالية مع العالم الإسلامي، ويفرد لذلك فصلاً كاملاً في الدراسة. وفي الجدول المرفق عرضاً لهذه المقارنة:
كما يرى التقرير أهمية استعادة تفسيرات الإسلام من أيدي التيار الإسلامي وتصحيحها (!) حتى تتماشى وتتناسب تلك التفسيرات مع واقع العالم اليوم وتتماشى مع القوانين والتشريعات الدولية في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا المرأة.
ويركز التقرير كذلك على أهمية إيجاد تعريف واضح ومحدد للاعتدال الإسلامي، وأن يصاغ هذا التعريف من قِبَل الغرب، وأن يصبح هذا التعريف هو الأداة والوسيلة لتحديد المعتدلين في العالم المسلم من أدعياء الاعتدال الذي لا يتوافق مع التعريف الأمريكي والغربي له. يؤكد التقرير أن هذا التعريف للاعتدال هو من أهم ما يمكن أن يساهم به التقرير في خدمة السياسة الأمريكية، وأن على أمريكا أن تدعم فقط الأفراد والمؤسسات التي تندرج تحت مفهوم الاعتدال بالتفسير الأمريكي له، والمقدم في هذا التقرير.
يوصي التقرير أن تهتم الولايات المتحدة الأمريكية بصناعة ودعم شبكة من التيار العلماني والليبرالي والعصراني ممن تنطبق عليهم شروط الاعتدال الإسلامي بالمفهوم الأمريكي، وأن تُستخدم هذه الشبكة في مواجهة التيار الإسلامي الذي يرى التقرير أنه لا يجب التعاون معه أو دعمه بأي شكل من الأشكال، رغم ادعاء بعض فئات هذا التيار أنها معتدلة، وأنها تدعو للتعايش والحوار وتنبذ العنف. ينصح التقرير بعدم التعاون مع كل فئات التيار الإسلامي، وأن يرتكز بناء شبكة التيار المعتدل على التيارات العلمانية والليبرالية والعصرانية فقط. ويجعل التقرير من المفهوم الجديد المقترح للاعتدال من وجهة النظر الأمريكية أحد أهم نتائج التقرير؛ ولذلك فإننا سنركز في هذا المقال على هذا المفهوم الخاص بالاعتدال الأمريكي، رغم أن التقرير يحوي العديد من القضايا الهامة الأخرى التي يجب دراستها وتحديد سبل التعامل معها، ونأمل أن يحدث ذلك في المستقبل القريب ومن خلال مقالات ودراسات أخرى.
3 ما مفهوم الاعتدال الأمريكي؟
تشير الدراسة إلى أن نقطة البدء الرئيسة التي يجب على الولايات المتحدة العناية بها في بناء شبكات من المسلمين المعتدلين تكمن في تعريف وتحديد هوية هؤلاء المسلمين. وفي هذا الصدد تشير الدراسة إلى أنه يمكن التغلب على صعوبة تحديد ماهية هؤلاء المعتدلين من خلال اللجوء إلى التصنيفات التي وضعتها بعض الدراسات السابقة التي قام بها بعض باحثي معهد (راند) . ولهذا الغرض فقد وضعت الدراسة بعض الملامح الرئيسة التي يمكن من خلالها تحديد ماهية الإسلاميين المعتدلين، أهمها ما يلي (1) :
1- القبول بالديمقراطية: يعتبر قبول قِيَم الديمقراطية الغربية مؤشراً مهماً على التعرف على المعتدلين؛ فبعض المسلمين يقبل بالنسخة الغربية للديمقراطية، في حين أن بعضهم الآخر يقبل منها ما يتواءم مع المبادئ الإسلامية؛ خصوصاً مبدأ (الشورى) ويرونه مرادفاً للديمقراطية. كما أن الإيمان بالديمقراطية يعني في المقابل رفض فكرة الدولة الإسلامية.
2- القبول بالمصادر غير المذهبية في تشريع القوانين: وهنا تشير الدراسة إلى أن أحد الفروق الرئيسة بين الإسلاميين المتطرفين والمعتدلين هو الموقف من مسألة تطبيق الشريعة. تؤكد الدراسة أن التفسيرات التقليدية للشريعة لا تتناسب مع مبادئ الديمقراطية، ولا تحترم حقوق الإنسان، وتدلل الدراسة على ذلك من خلال مقال للكاتب السوداني (عبد الله بن نعيم) قال فيه بأن الرجال والنساء والمؤمنين وغير المؤمنين لا يمتلكون حقوقاً متساوية في الشريعة الإسلامية.
3- احترام حقوق النساء والأقليات الدينية: وفي هذا الصدد تشير الدراسة إلى أن المعتدلين أكثر قبولاً بالنساء والأقليات المختلفة دينياً، ويرون بأن الأوضاع التمييزية للنساء والأقليات في القرآن يجب إعادة النظر فيها؛ نظراً لاختلاف الظروف الراهنة عن تلك التي كانت موجودة إبَّان عصر النبي محمد #.
4 ـ نبذ الإرهاب والعنف غير المشروع: تؤكد الدراسة هنا على أن الإسلاميين المعتدلين يؤمنون ـ كما هو الحال في معظم الأديان ـ بفكرة (الحرب العادلة) ، ولكن يجب تحديد الموقف من استخدام العنف ومتى يكون مشروعاً أو غير مشروع؟
3 اختبار الاعتدال؟
يضع التقرير في الفصل الخامس مجموعة من الأسئلة التي يعدّها مقياساً للاعتدال، وأن الإجابة عن هذه الأسئلة تحدد ما إذا كان الفرد أو الجماعة يمكن أن يوصف بالاعتدال أم لا. يحذر التقرير أن التيار الإسلامي يدعي في بعض الأحيان أنه تيار معتدل ولكن وفق تفسير خاص به للاعتدال، وأن وجود قائمة من الأسئلة المختارة والمتفق عليها يمكن أن يحل هذه المشكلة، ويكشف للإدارة الأمريكية حقيقة نوايا الأفراد والجماعات من التيار الإسلامي ممّن يدَّعون الاعتدال أو يطالبون أن يعاملوا معاملة المعتدلين، وهو ما يجب أن يقتصر - حسب رؤية التقرير - على من يجتازون اختبار الاعتدال.
يضع التقرير 11 سؤالاً تشكِّل في مجملها المحددات الرئيسة لوصف الاعتدال المقترح أن تتبناه الإدارة الأمريكية. وهذه الأسئلة وردت بالتقرير، ونورد النص الإنجليزي لها حرصاً على دقة الترجمة؛ لأنه من المتوقع أن يمارس الإعلام التابع للإدارة الأمريكية الكثير من التحوير والتعديل في نص هذه الأسئلة عندما تترجم للغة العربية نظراً للحساسيات التي ستثيرها هذه الأسئلة في حال انتشارها في الإعلام العربي، وبين المفكرين والمثقفين والسياسيين في الدول العربية والإسلامية. ولذلك نرى أهمية أن تكون الأسئلة باللغة الإنجليزية مرافقة للترجمة العربية لها. وهذه الأسئلة هي:
- هل يتقبّل الفرد أو الجماعة العنف أو يمارسه؟ وإذا لم يتقبل أو يدعم العنف الآن؛ فهل مارسه أو تقبّله في الماضي؟
- هل تؤيد الديمقراطية؟ وإن كان كذلك؛ فهل يتم تعريف الديمقراطية بمعناها الواسع من حيث ارتباطها بحقوق الأفراد؟
- هل تؤيد حقوق الإنسان المتفق عليها دولياً؟
- هل هناك أية استثناءات في ذلك (مثال: ما يتعلق بحرية الدين) ؟
- هل تؤمن بأن تبديل الأديان من الحقوق الفردية؟
- هل تؤمن أن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات الجنائية؟
- هل تؤمن أن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات المدنية؟ وهل تؤمن بوجوب وجود خيارات لا تستند للشريعة بالنسبة لمن يفضِّلون الرجوع إلى القوانين المدنية ضمن نظام تشريع علماني؟
- هل تؤمن بوجوب أن يحصل أعضاء الأقليات الدينية على حقوق كحقوق المسلمين تماماً؟
- هل تؤمن بإمكانية أن يتولى أحد الأفراد من الأقليات الدينية مناصب سياسية عليا في دولة ذات أغلبية مسلمة؟
- هل تؤمن بحق أعضاء الأقليات الدينية في بناء وإدارة دور العبادة الخاصة بدينهم (كنائس أو معابد يهودية) في دول ذات أغلبية مسلمة؟
- هل تقبل بنظام تشريع يقوم على مبادئ تشريعية غير مذهبية؟
إن من يقرأ هذه اللائحة من الأسئلة يدرك على الفور أن تعريف الاعتدال بالمفهوم الأمريكي لا يعبر إلا عن المصالح الأمريكية الهادفة إلى تحويل المسلمين بعيداً عن الإسلام تحت دعوى الاعتدال العالمي. إننا أمام محاولة لإعادة تعريف مفهوم الاعتدال داخل المجتمع المسلم بحيث لا يستند التعريف من الآن فصاعداً إلى مبادئ الوسطية والتراحم التي حثت عليها الشريعة، وإنما أن تتحول هذه المبادئ إلى مجموعة من المسلَّمات الغربية التي تُقدَّم للعالم على أنها مبادئ دولية. ومن المتوقع لاحقاً في حال إقرار هذه التوجهات ودفعها في الساحات الفكرية الدولية؛ أن تُمنَع شعوب العالم من رفضها أو حتى الاعتراض عليها بدعوى أن ذلك سيكون اعتراضاً على حقوق الإنسان الدولية أو الشرائع العالمية، كما حدث من قبل فيما يتعلق بما يسمى حقوق الإنسان؛ التي أصبحت مؤخراً حقوقاً للشواذ وحقوقاً لمخالفة الأخلاق والقيم والعادات.
ومن الملفت للنظر أن التقرير يؤكد أهمية استخراج النصوص الشرعية من التراث الإسلامي والتي يمكن أن تدعم هذه اللائحة وتؤكدها، وأن يُستخدَم الدعاة الجدد (أو الدعاة من الشباب كما أسماهم التقرير) لتحقيق ذلك والقيام بهذا الدور. ويوصي التقرير أن تكون الدعوة للاعتدال بعيداً عن المساجد، وأن تُستخدَم البرامج التلفازية والشخصيات ذات القبول الإعلامي والجماهيري من أجل تحقيق ذلك (!) .
كما يوصي التقرير أن يُستخدم التيار التقليدي والصوفي في مواجهة الإسلام السلفي. وقد تم تعريف التيار التقليدي في هذا التقرير: أنه التيار الذي يصلي في الأضرحة ـ بخلاف ما تدعو إليه الوهابية ـ ويميل إلى التمذهب، وعدم الاجتهاد، والميل نحو التصوف. يؤكد التقرير أن من مصلحة الغرب إيجاد أرضية تفاهم مشتركة مع التيار الصوفي والتقليدي من أجل التصدي للتيار الإسلامي.
ويؤكد التقرير على أهمية الاعتناء الأمريكي بالتعاون مع المعتدلين - وفق المفهوم الذي قدمته الدراسة - من العالم المسلم، مع التركيز على الفئات التالية:
| المفكرين والأكاديميين من التحرريين والعَلْمانيين.
| الدعاة الجدد المعتدلين.
| القيادات الشعبية الفاعلة.
| الحركات النسائية المطالبة بعدم المساواة.
| الصحفيين والكُتّاب والمفكرين.
ويرى التقرير أن على الولايات المتحدة أن تحدد من يندرج تحت مفهوم الاعتدال الأمريكي من هذه الفئات السابقة، وأن يتم مساعدة ودعم المؤسسات القائمة لهذه الفئة، وأن تساهم الولايات المتحدة بدور قيادي في تكوين مؤسسات أخرى تدعم التيار المعتدل حسب المفهوم الأمريكي، وأن تساهم في تشجيع تكوين بيئة ثقافية وفكرية واجتماعية تدعم وتسهل وتشجع قيام المزيد من هذه المؤسسات التي تخدم المصالح الأمريكية وتواجه التيار الإسلامي.
ويوصي التقرير أيضاً بأهمية التركيز على الأطراف في الصراع مع التيار الإسلامي والبعد عن المركز؛ لصعوبة تحقيق انتصارات حقيقية في هذه المرحلة، وأن يتم عكس مسار الأفكار الحالي والذي يتحرك من المركز نحو الأطراف. يؤكد التقرير على أهمية استخدام الترجمة والآلة الإعلامية من أجل تحويل مسار الأفكار لتكون من الأطراف نحو المركز، أو من الدول الإسلامية التي يعتقد معدّو التقرير أنها أكثر اعتدالاً وانفتاحاً إلى المركز الذي يحدده التقرير بالعالم العربي.
كما يقدم التقرير العديد من النماذج للجهات والأشخاص الذين يمكن أن يوصفوا بالاعتدال، ومن يمكن دعمهم أو مساندتهم لتحقيق أهدافهم. ومن المحزن أن من ضمن الأمثلة التي يقدمها التقرير في هذا الشأن مجلة تصدر في جنوب شرق آسيا أدارت حواراً خيالياً مع نبي الإسلام #، ومثال آخر لامرأة من باكستان تعيش في النرويج، وتعمل في مجال الكوميديا المسرحية، وتدخل إلى المسرح وهي ترتدي البرقع، وتروي النكات عن الإسلام والمرأة المسلمة، ثم تخلع البرقع على المسرح ليظهر تحته فستان سهرة، ويرى التقرير أن هذا ضمن الاعتدال الواجب دعمه والتشجيع عليه. كما يذكر التقرير نموذجاً آخر وهو موقع سعودي يتحدث عن أحاديث الشهادة وينكر صحتها، ولذلك لا يرى الحاجة للالتزام بها.
3 مقترحات للتعامل مع التقرير، وما يتعلق بالاعتدال:
إن هذا المقال المختصر هو مقدمة للتعريف بهذا التقرير الهام، وهناك الكثير من القضايا الأخرى التي أثارها التقرير، والتي يجب أن تتم دراستها وتحديد سبل مواجهتها والتعامل معها في دراسات وأبحاث أخرى كما أسلفنا. ولكننا نوصي ـ فيما يتعلق بموضوع التقرير بالعموم؛ وإعادة تعريف الاعتدال بالمفهوم الأمريكي بالخصوص ـ بالأمور التالية:
| ترجمة التقرير، وإتاحته في أسرع وقت ممكن لصُنّاع القرار في العالم العربي والإسلامي من العلماء والمفكرين والسياسيين، والتعاون من أجل فهم ما يعنيه هذا التقرير، وما يقدمه من توصيات للإدارة الأمريكية.
| إعداد ردٍّ علمي يتناسب مع الطرح الذي قدمه التقرير فيما يتعلق بمفاهيم الاعتدال، والتحذير من اختطاف المصطلح من قِبَل أنصار التحرر والعَلْمانية والليبرالية في العالم العربي والغربي على حد سواء. نرى أهمية أن يؤكد العلماء والدعاة والمفكرون على مفاهيم الاعتدال الحقة التي دعا إليها الإسلام، وتوّجتها وسطية الأمة المسلمة، وحثَّت عليها الشرائع السماوية، وليس التشريعات العَلْمانية الموجهة سياسياً لقمع الآخر، وإفساد العقول، ومحاربة الأديان.
| نؤكد على أهمية التعريف بالتقرير وما تضمنه من أفكار، والدقة في ترجمة المعاني الواردة فيه، وتفسير أسباب رغبة الإعلام الغربي في عدم الإعلان بوضوح عن صدور هذا التقرير؛ وهل هذا بسبب ما تضمنه من جرأة ومقترحات عملية، أم بسبب أن التقرير يقدم خريطة واضحة المعالم بالأسماء الشخصية وأسماء المؤسسات التي توصف من قِبَل معدِّي التقرير أنها (معتدلة) وفق التعريف الأمريكي المقترح للاعتدال؟
| بيان أن المواجهة الفكرية مع الغرب قد بدأت من قِبَل الغرب، وأن المراكز الفكرية تقوم بحشد الآراء والتوجهات والموارد من أجل هذه المواجهة، سواء قبلنا بذلك أو استمر بعض منا في الدعوة فقط إلى التعايش والحوار. إن الأمة الإسلامية بأكملها تواجه حرباً فكرية بدأت وتمَّ حشد الأنصار لها، ولا بد أن يكون رد الفعل من قِبَل الأمة بجميع فئاتها متناسباً مع الخطر، وموحداً في مواجهة خصم يوحد فئاته، وأن تلتزم الأمة المسلمة في هذه المواجهة بالضوابط الشرعية التي تحكم العلاقة مع الخصوم والمنافسين والأعداء أيضاً.
| الحث على حماية أطراف الأمة الإسلامية إضافة إلى حماية مركزها، وهو ما لا يجب أن يترك لأنصار الهجوم على أطراف الأمة كما يذكر التقرير ويؤكد في أكثر من مكان.
| نوصي أن يكون الإعلام المتزن والجاد هو أحد أسلحة المواجهة الفكرية المضادة للدفاع عن حقوق الأمة المسلمة، وأن يبتعد ما أمكن عن الخطاب العاطفي غير العملي، مع عدم التقليل من دور العاطفة المتزنة والمنضبطة شرعاً في تحفيز الهمم وتقوية العزائم والدفاع الصادق عن مصالح وحقوق الأمة.
| نوصي عموم المسلمين أن الولاء الحق لهذه الأمة في المرحلة القادمة يقتضي الدفاع عن الإسلام في مواجهة الحملات الهادفة إلى المساس به. ونوصي أنصار التيار الإسلامي ومحبيه أن الولاء الحق للإسلام في المرحلة القادمة يقتضي مواجهة الغرب فكرياً وحضارياً وثقافياً وغير ذلك؛ للدفاع عن أمتنا وحماية مصالحها وحقوقها
__________
(*) مدير وحدة الدراسات والأبحاث في المركز العربي للدراسات الإنسانية ـ القاهرة.
(1) مركز (راند) : الإسلام (المعتدل) هو الحل لأمريكا، مركز (راند) بواشنطن، قراءة وترجمة: شيرين حامد فهمي، باحثة وأستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، 25 مارس 2005م.
(2) للإسلاميين فقط: احذروا من أن يستغلّكم الأمريكيون في الحوار والتقارب المزعوم، علي حسن باكير، موقع مجلة العصر، 27 أبريل 2005م.
(1) (وصفة أمريكية جديدة لبناء شبكات الإسلاميين «المعتدلين» ) ، تقرير واشنطن، خليل العناني، 7 أبريل 2007م.(236/24)
دورة في حل المشكلات
علي بن صالح الجبر
لا يخلو مجتمع من مشكلات تطفو على سطحه، وبعض البيوت تغصُّ ببعض المشكلات التي تراكمت وتُركت منذ زمن ولم تحلّ أو يسعَ إلى حلّها، والبعض يتفرج ـ عاجزاً حائراً ـ ولا يملك غير الحوقلة التي تتردد على لسانه كلما تأمل فيها، لكنه لم يسعَ إلى حلِّها ولم يتخذ الخطوات الإجرائية لذلك؛ إيثاراً للسلامة وانطلاقاً من باب: دعهم وشأنهم! فلا تضحية ولا بذل ولا سعي للإصلاح، والله ـ تعالى ـ يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] . تأمل كلمة (لا خير) وكلمة (إلا) ثم كلمة (أو إصلاح بين الناس) ! وتذكّر النتيجة (فسوف نؤتيه أجراً عظيماً) ! الأجر لمن سعى، وليس لمن تفرّج ولم يحرِّك ساكناً! فلا تكن من المتفرجين؛ وإنما من الساعين في الإصلاح ما استطعت بنفسك ومالك وجاهك.
أجزم ـ عزيزي القارئ ـ أن بعض الأقارب والجيران والخُلاّن تحدث بينهم مشكلات تتطور إن لم تجد لها بطلاً يعطي نفسه دورة تدريبية في حلّها؛ كيف ذلك؟ تأمل ـ مثلاً ـ ما يجري بين متخاصمين من ذويك! وادرس أحوالهما، وحاول أن تقرِّب بين وجهات النظر، واجتهد في ردم الهوّة. وإذا تعثّرت جهودك في ذلك؛ فهل تملّ وتكلّ؟ كلاّ! بل اعلم ـ وفقك الله ـ أنك تبتلى، وأنها صعوبة ستتجاوزها بعزمك وإصرارك، واستمدادِ العون من ذي العون وهو الله تعالى، وأنت قادر ـ بإذن الله ـ على التغلّب عليها والخروج منها بنجاح وتحقيق مقصدك الأسمى وهو الإصلاح.
وبهذا تكون قد تدرّبتَ على حلّ مشكلة؛ فلولا المشكلات التي تعترض العظماء فيحاولون التغلّب عليها لما كانوا عظماء! ولا نجاح بدون فشل، ولولا شقاوة الابن لما برز لنا أب حكيم صبور ذو جلد، ولولا مشكلات الطلاب في المدارس ومحاولة حلّها من المعلمين المخلصين لما برز ـ أيضاً ـ معلمون أكفاء ذوو خبرة وحنكة ومهارة! وعلى هذا فَقِسْ. فلعل الله ينفع بك! وتأخذ دورات مجانية في الحياة بعلاج المشكلات التي تطرأ بين متخاصمين؛ وبالذات من أهلك وذويك.(236/25)
غلو في التكفير
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
حكى أحد المتأخرين أن شخصاً ارتكب مظلمةً، فقال المظلوم: هذا ظلم وحاشا السلطان من الأمر والرضى به، فقال الظالم: أنا خادم الدولة المنتمية إلى السلطان؛ فقد نسبتَ الظلم إلى السلطان، فهوّنتَ ما عظَّمَتِ الشريعةُ من أمر السلطان فكفرتَ. فأخذوا «المظلومَ» وجاؤوا به إلى القاضي، وحكم عليه بالردة، ثم جدَّد إسلامه وفعل ما يترتب على ذلك (1) !
والحكاية السابقة لها نظائر في أزمان متلاحقة؛ وفي عصرنا هذا أوفر الحظ والنصيب من هذا الغلو؛ إذ غلب الجهل بدين الله تعالى، واندرس العلم الشرعي، واستحوذ القمع والاستبداد؛ فكان ذلك مناخاً ملائماً ومرتعاً خصباً لهذا التكفير الغالي. وهذا الصنف يكفِّر بلوازم متكلَّفة، قد لا تكون لوازم أصلاً، فضلاً أن يلتزم بها من ـقال هذا الملزوم أو فعله. وهناك أمر ثالث أن هؤلاء المولعين بالتكفير الغالي لا يلتفتون إلى ضوابط التكفير المتقررة عند أهل السنّة، ولا يعتدُّون بعوارض الأهلية من الجهل والخطأ والتأويل ونحوها.
إن التكفير باللازم مطلقاً قد أورث في الأمة تناحراً وتقاتلاً، ورحم الله الإمام الذهبي إذ يقول: (ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفِّر مسلماً موحداً بلازم قوله، وهو يفرُّ من ذلك اللازم، وينزِّه ويعظم الربّ) (2) .
وقد سئل ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: هل لازم المذهب مذهب، أم لا؟
فكان من جوابه ما يلي: (الصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه، كانت إضافته إليه كذباً عليه، بل ذلك يدلّ على فساد قوله وتناقضه في المقال، ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء وغيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة؛ فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه وصفاته حقيقة) (1) .
وساق السخاوي مقالة شيخه الحافظ ابن حجر؛ إذ يقول: (والذي يظهر أن الذي يُحكَم عليه بالكفر مَنْ كان الكفر صريح قوله، وكذا من كان لازم قوله، وعُرِض عليه فالتزمه.. أما من لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافراً ولو كان اللازم كفراً) (2) .
والتكفير بهذه الإلزامات المتكلفة قد لا ينتهي إلى حدٍّ ولا يقف عند شخص؛ فليس له خطام ولا زمام، وقد لا ينجو من التكفير إلا صاحب داء التكفير بتلك الإلزامات، ويعظم خطره إذا اقترن به تنزيله على الواقع، وتطبيقه على عموم المسلمين؛ فهؤلاء إذا كفّروا نظاماً معيناً ألحقوا به عساكر النظام بدعوى مساندة الطاغوت، ثم أتبعوهم بأرباب الوظائف المدنية، وربما حشروا العامة مع العساكر والمدنيين، بدعوى الرضى بالطاغوت، والراضي كالفاعل!
هذا أنموذج صارخ لمظهر من مظاهر الغلو في هذا الزمان، وإن كان المتعيَّن علينا أن ندافع الانحراف كله سواء كان غلواً أو إرجاءً، وأن نعالج هذه الأدواء بعلم وعدل، دون تهوين لداء، أو تهويل لآخر، وأن لا نستغرق في مدافعة الغلو في التكفير حتى نؤول إلى الإرجاء من حيث لا نشعر؛ فالبدعة لا تردّ بالبدعة، وإنما تردّ البدعة بالسنّة.
وإذا كان القمع والظلم الواقعان من قِبَل حكومات تجاه أصحاب هذا النَّفَس الغالي لا يزيد الأمر إلا سوءاً، ولم يخلّف إلا مضاعفة في الغلو والإفراط، فكذا النظرة السطحية والمعالجة الشكلية والتهكم والتمسخر بأولئك القوم.. لم يعقبه إلا مزيد من التأثر والانتشار لهذا الفكر المنحرف، فلا بد من النقاش العلمي الرصين، والحوار العميق مع أصحاب هذا الفكر، ومناظرتهم مناظرة مناصحة لا مكايدة، كما فعل حبر هذه الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إذ ناظر الخوارج ورجع شطرُهم.
ولما خرجت الخوارج سنة (100هـ) على عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بعث إليهم عمرُ مَنْ يدعوهم إلى الحق، ويتلطف بهم، ولا يقاتلهم حتى يفسدوا في الأرض؛ فلما فعلوا ذلك، بعث إليهم جيشاً فكسرهم الخوارجُ، ثم أرسل ابنَ عمه مسلمةَ بن عبد الملك إلى حربهم، فأظفره الله بهم، وقد أرسل عمر إلى كبير الخوارج يقول له: ما أخرجك عليّ؟ فإن كنتَ خرجتَ غضباً لله فأنا أحق بذلك منك، ولستَ أوْلى بذلك مني، وهلمَّ أناظرك، فإن رأيتَ حقاً اتبعتَه، وإن أبديتَ حقاً نظرنا فيه.. (3) .
فتأمَّل ـ رعاك الله ـ مسلكَ العدل والإنصاف مع الخوارج، وسعي الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إلى مناظرتهم برحمة وعلم، وسماع رأيهم، والجواب عنه.
ومن المهم أن يُلتفَت إلى الجوانب النفسية في معالجة هذه النازلة؛ فالنفس البشرية فيها نوع من الكِبْر؛ فتحبّ أن تخرج من العبودية والاتِّباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري ـ رحمه الله ـ: (ما ترك أحد شيئاً من السنّة إلا لكِبْرٍ في نفسه، ثم هذا مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتِّباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه، أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) (4) .
فلا بد من تربية الناشئة في محاضن إيمانية قائمة على تزكية النفوس وفق السنّة النبوية، والعناية بتهذيب النفوس عن أهوائها وحظوظها، من خلال التعبّد المشروع ومحاسبة النفس ومراقبتها؛ فالمسلك الخارجي لا ينفك عن ازدراء غيرهم، وتقلّب آرائهم، مما يستدعي الاشتغال بالجوانب الإيمانية القلبية.
فرأس الخوارج (ذو الخويصرة) طعن في قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمران بن حطان تزوّج امرأة من الخوارج ليردّها عن مذهبها، فصرفته إلى مذهبها.
كما أن البطش والاستبداد وحرمان الحقوق لا يُنبت إلا نفوساً متوترة، وعقولاً جانحة، مما يؤجج نيران هذه الفتنة. وإذا كان اضطراب آراء الخوارج وتعددها سبباً في إخفاقهم؛ فإن الظلم الواقع من بعض خلفاء بني أمية من عوامل قبول المذهب الخارجي، لا سيما في بلاد المغرب العربي (5) .
وإذا كان العدل مطلوباً مع الكفار؛ فما بالك بأهل الإسلام بمن فيهم الخوارج؟!
وكما أن أهل السنّة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، أفلا يكون ذلك باعثاً على الإشفاق عليهم ودعوتهم إلى دين الله ـ تعالى ـ والسنّة بعلم وبصيرة؟!
(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) انظر: العلم الشامخ، للمقبلي، ص 413.
(2) الرد الوافر، لابن ناصر الدين الدمشقي، ص 48.
(1) مجموع الفتاوى: 20/217. (2) فتح المغيث: 2/334.
(3) انظر: البداية والنهاية: 9/187. (4) اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 2/612.
(5) انظر: مقدمة كتاب الخوارج في بلاد المغرب، لمحمود إسماعيل.(236/26)
237 - جمادى الأولى - 1428 هـ
(السنة: 22)(237/)
الاضطراب في المنهج
صالح عبد الله الجيتاوي
استمرار أعمال العنف المسلح في السعودية والمغرب والجزائر، لا يدل على انحراف اتجاه البوصلة فحسب، بل يدل مع ذلك على خلل في التفكير واضطراب في المنهج وغياب للهدف.
إن القصور في بناء الرؤية الشرعية وغياب الهدف يدفع بعض الشباب إلى تقحُّم تلك المرتقيات الوعرة التي أدخلتهم في دوامة الصراع الفوضوي، لقد سقطوا في مستنقع الدماء، وغارت أقدامهم فيه، وراحوا يخوضون في أنحائه بجرأة شديدة دون ورع أو تثبت أو تقدير لعواقب الأمور ومآلاتها.
نعم! غاب الهدف، وأصبح مجرد شعار تائه قلق لا معنى له، ثم اختزل مشروعهم في طلقات عبثية طائشة تثير الرعب والقلق هنا وهناك، لكنها في حقيقتها، تهدم ولا تصلح، وتنفِّر ولا تبشر.
إنها أزمة حقيقية أوقعت أولئك الشباب في دائرة مفرغة، وأوصلتهم إلى طريق مسدود، لم يحصدوا من أرضه إلا الحنظل.
فهل يدرك أولئك المتساهلون في أمر الدماء، المسعِّرون للهيب الفتن، أنهم بأعمالهم المتشنجة غير المسؤولة يسيئون للدعوة الإسلامية ويحاصرونها، ويهيئون المناخ الخصب للاتجاهات العلمانية واليسارية للهجوم على الإسلام ودعاته ومؤسساته؟!
بالتأكيد هي خلايا معزولة محدودة الانتشار في أوساط الشباب، تجد النكير من العلماء الربانيين والدعاة المخلصين ومن مختلف القطاعات الإسلامية، لكن أعمالهم المستفزة تعكس انطباعات سيئة عن العمل الإسلامي برمته.
إننا نخاطب هؤلاء الشباب بكل إشفاق عليهم وعلى أمتهم، ونقول لهم: إن استمرار الفتنة لا يخدم بأي حال من الأحوال أي طرف من الأطراف، بل نراه يعصف بالجميع؛ فهلاّ وقفوا بحكمة واستمعوا إلى علماء الأمة ومصلحيها!
إن هذا الشرخ الغائر يحتاج إلى حوار هادئ وعلاج فكري أصيل، يستحضر واقع المجتمعات الإسلامية من جهة، وواقع أولئك الشباب من جهة أخرى، وعلى العلماء والمصلحين مسؤولية كبيرة في بيان المنهج الشرعي بدليله، وفي حوار تلك الأعداد المحدودة من أبناء الإسلام، ولا يكفي أن يعلنوا نكيرهم لتلك التصرفات غير المحمودة، لكن من واجبهم أن يجدُّوا في بيان الحق ومدافعة الباطل، وأن يقدموا البديل العلمي الناضج، ويبنوا رؤية عملية واعية تتسع من خلالها آفاق وآليات التغيير المطلوب، ويؤصلوا المنهج التربوي المتوازن، الذي يحتوي تلك الطاقات الشبابية.. حوارٍ يوظف غيرتهم بطريقة فاعلة ومؤثرة، ويرشدها ويزيدها فقهاً وبصيرة في أصول الدين ومقاصد الشريعة، ويحميها من انتحال المبطلين، وتحريف الغالين.(237/1)
من لقيادة العرب السنَّة في العراق؟!
صالح عبد الله الجيتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه، وبعد:
فإن تبسيط المقدمات وتضخيم النتائج، آفة يعاني منها الوعي العربي والإسلامي، وأعراضها ظاهرة بقوة في أزمة العراق؛ فالجميع يتحدث عن التراجع الأمريكي والإخفاق المريع الذي مُنيت به إدارة بوش في تحقيق أهدافها من احتلال العراق على النحو الذي خُطط له سابقاً، وهذه حقيقة لا جدال فيها، لكن التحليلات المتداولة تتركز حول إخفاقات الأهداف النهائية والتصورات الكاملة، بينما عند التأمل الموضوعي بعيداً عن العاطفة والحماسة، نكتشف أن كثيراً من أهداف واشنطن المرحلية ـ للأسف الشديد ـ تحققت في العراق.
أبرز الأهداف المرحلية التي نجحت إدارة بوش في تحقيقها من خلال جهود متواصلة متراكمة طَوال أربع سنوات، هي تفريق الصف العربي السني وتشتيت مواقفه وتمزيق صفوفه؛ فلا أحد ـ ولا جهة ـ يمكنها حالياً احتكار التحدث باسم العراقيين السنَّة. هناك فصائل مقاومة متباينة فكرياً ومنهجياً، وهناك أطراف سياسية متخالفة، وأصبح لدى العراقيين تجمعان للعلماء يتبنيان توجهات متعارضة؛ فهناك (هيئة علماء المسلمين) المعروفة والمقبولة جماهيرياً، وتأسس مؤخراً (مجلس علماء العراق) ليتسع الاختلاف إلى الميادين الثلاثة لقيادة الأمة: المقاومة، السياسة، العِلم.
كانت الاستراتيجية المتبعة في تفريق العرب السنَّة ماكرة: جذب أحد الأطراف إلى العملية السياسية حتى ينغمس فيها، وترك الطرف الآخر يتجه إلى أقصى خانة المعارضة للاحتلال الأمريكي، وكانت النتيجة أن الطرف الأول يرفض انسحاباً فورياً للاحتلال، بينما ينادي به الطرف الثاني، وتفرق الرأي العام العراقي السني بينهما، وأدى الخلاف إلى إضعاف «هيبة» العلماء وقوة مرجعيتهم بعد أن علقت الجماهير عليهم آمالاً عريضة، وبلغت المأساة ذروتها والخديعة غايتها عندما تآمر الاحتلال مع الحكومة الشيعية على إبعاد (الشيخ حارث الضاري) رئيس هيئة علماء المسلمين وتحويله إلى «زعيم المعارضة» العراقية في الخارج، وكان محزناً الصمت ـ السني ـ الذي رافق المؤامرة وأعقبها.
انتقلت الخلافات السياسية إلى ساحة المقاومة، وبرزت آفة «الاحتكار» من جديد ليصبح الجهد المقاوم مشتتاً بين إثبات وجوده ونفوذه ومساحة تأثيره في الساحة العراقية السنية، وبين مواجهة الاحتلال وأذنابه، وتبادلت بعض الأطراف تهم الخيانة المستحقة للعقاب الذي تُرجِم في كثير من الأحيان إلى عمليات قتل وسفك للدماء.
شيئاً فشيئاً تآكلت المطالب السنية وتفرقت بين العشائر والأحزاب والفصائل، ويصعب على أي جهة حالياً إعلان قائمة محددة من المطالب باعتبارها متفقاً عليها من جميع الأطراف العربية السنية في العراق.
وبعد أن كان العرب السنة هم العقبة الأكبر في طريق النجاح التام للاحتلال، بدأت الآمال الأمريكية تنتعش من جديد في إمكانية «عزل» الخطر السني وإنهاكه داخلياً.
كانت الخطوة الأولى هي سلب العراقيين السنة قدرتهم على اتخاذ قرار موحد، ثم جاءت الثانية لتسلب القوى السياسية العراقية القدرة على اتخاذ قرارات مهمة ولو بصورة منفردة، ولذلك بقيت الأحزاب العراقية عاجزة عن مواجهة أي قانون أو قرار حكومي يتجاوز السنَّة، بل اتُخذت المشاركة السنية السياسية غطاءً لتمرير تنازلات لا حصر لها، لعل من أخطرها: الأغلبية الشيعية ـ الدستور العراقي ـ الفيدرالية ـ قانون النفط الجديد. ولا يمكن الطعن في هذه القوانين والقرارات بعد ذلك بالقول: إن العرب السنة تعرضوا للتهميش؛ فالأحزاب السنَّية الممثلة في البرلمان والحكومة تزعم تمثيلها لغالبية طائفتهم.
الغريب أن القوى السنية في العراق ترفع بحماسة شعار «عراق موحد» ، بينما تعجز عن تَمَثُّل هذه الوحدة في واقعها، ولا نفهم كيف يدعون إلى وحدة في إطار يشمل كل العراق بينما لم تتحقق هذه الوحدة في المناطق ذات الأغلبية السنية؟
ليكن معلوماً لدى سُنَّة العراق أن الرهانات الأمريكية قد تطورت؛ فلم يعد الرهان منحصراً في صراع شيعي ـ شيعي أو حتى سني ـ شيعي، الرهانات تتركز الآن على صراع سني ـ سني، ويوجد على أرض العراق فضلاً عن جنود الاحتلال أكثر من 120 ألف مرتزق يعملون في الشركات الأمنية الأمريكية وغيرها، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من عملاء المخابرات الأمريكية والإيرانية والإسرائيلية، هؤلاء جميعهم يضعون ضمن أهدافهم المهمة تسخين الصراعات داخل المناطق السنية.
هناك عدد من الباحثين الغربيين المعنيين بشؤون الحركات الإسلامية، يعتبرون أن هذه الحركات تنزع للتوحد والتعاون عندما تكون في مرحلة المواجهة ضد عدو مشترك، ولكن عندما تلوح بوادر النصر تندلع بينها الخلافات والصراعات. الآن في العراق نشهد ملامح تغيُّر في هذه النظرية؛ فالخلافات بين الاتجاهات الإسلامية تمددت لتصل إلى مرحلة المواجهة مع العدو المشترك؛ فماذا يمكن أن يحدث إذا ما لاحت تباشير النصر؟
لقد بلغ التنافس بين الجهات والاتجاهات السياسية والعسكرية حد ادعاء كل تيار أو فصيل أنه يمثل الخطر الأكبر على الاحتلال الأمريكي.
مَنْ مِنَ الإسلاميين لم يقرأ عشرات المرات قول الله ـ عز وجل ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] . البعض يريد تنقية الصف فيدمره، والبعض الآخر يريد توسعته فيخلخله. لقد أصبحت صفوف المسلمين عجباً؛ فهي تتسع ليصطف في جنباتها رموز شيعية وإيرانية، وتضيق عن استيعاب إخوة العقيدة والدين!
إن ذهاب قوة العرب السنَّة يكمن في تنازعهم وتفرقهم. وتمكُّنُهم وصمودُهم فرع عن توحدهم وترابطهم، هذا هو موطن القوة الرئيس، وبغير ذلك فإن خطاب العرب السنة في العراق وسلوكهم وأداءهم المقاوم والسياسي، سوف يلتقي في جوانب كثيرة منه مع المصالح الأمريكية؛ فواشنطن لا تريد استقراراً سياسياً أو أمنياً مطلقاً في العراق؛ فهي تريد من عمل المقاومة قدر ما يسوِّغ بقاءها وخطها الأمني، وتريد من الأحزاب السياسية تغطية سياساتها وإبراز العراق كنموذج سياسي ناجح في المنطقة، وإذا توجهت جهود هؤلاء وأولئك في جزء كبير من بعضهم ضد بعض، كان ذلك بمثابة الجائزة الكبرى للاحتلال، لكن عندما تتلاشى الاشتباكات والصراعات العَرَضية، وتتركز الجهود كلها على هدف أو أهداف واحدة فإن أيام الاحتلال في العراق تصبح معدودة.
من ناحية أخرى فإن تنازع العراقيين السنَّة فيما بينهم يقطع الطريق على المتحمسين العرب خارج العراق لدعمهم وتأييدهم، وسيفسح المجال للمتقاعسين كي يرددوا: كيف نساعد قوماً لا يعرفون ماذا يريدون؟ وستتجاذب القوى الإقليمية والدولية الأطراف العراقية السنُّية وتوظفها لخدمة مصالحها بحسب ما تقدمه لها من دعم وتأييد مقنن، وستصبح مشكلة العراقيين السنَّة في أنفسهم وليس في الدولة أو الدستور أو الفيدرالية أو الطائفية، عندها لن يكون للحديث عن استحواذ شيعي على الجنوب وانفصال كردي في الشمال أي قيمة، وستتوارى المخاوف من النفوذ الإيراني والانفصال الشيعي بدولة جنوبية خلف ضجيج الخلافات السنية.
إن جهود المخلصين من العرب والمسلمين، والصادقين من العراقيين السنَّة، يجب أن تتضافر لتوحيد الكلمة، وإعلان قائمة مطالب أو مبادئ رئيسة تصبح بمثابة ميثاق عمل لجميع الأطراف يتفقون عليها، وليختلفوا من بعدها كما يشاؤون، هذا الإعلان لن يتحقق إلا بتنازلات يقدمها الجميع، ولن يتحقق إلا بمبادرات الأطراف الخارجية الحريصة على مستقبل العراق، مع أهمية التأكيد على أن الوقت ليس في صالح العرب السنَّة؛ فكافة الأطراف ـ ما عداهم ـ يحققون مكاسب على الأرض ويتقدمون باتجاه أهدافهم، بينما لا توجد جهة سنية واحدة قادرة على قيادة الطائفة، ولا يُتوقع في الأجل القريب أن تستقل جهة ما بتحقيق نصر وانتصار على الاحتلالين الأمريكي والإيراني للعراق.
إن ما ذكرناه سابقاً عن تراجع أمريكي عن مستوى تحقيق الأهداف النهائية، ينطبق بصورةٍ ما على القوى السنية في العراق ـ وفي مقدمتها المقاومة ـ فهي نجحت في تحقيق أهداف مرحلية، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى أهدافها النهائية عندما يتراجع المشروعان الأمريكي والإيراني في العراق ويستحوذ العرب السنَّة على حقوقهم السياسية والاقتصادية المسلوبة.
إن أخطر ما يتهدد وحدة العرب السنة في العراق هو دعوى «الاحتكار» .. احتكار الحق أياً كان: في المقاومة أم في السياسة أم في العلم والدعوة، وعندما تقبل القوى السنية اقتسام الحق فيما بينها، ستتساقط أوهام القوة والنصر لدى أعدائها.
فهل تقبل هذه القوى أن تكون لها قيادة جماعية شُورية في العراق؟(237/2)
واجب المسلمين نحو القرآن الكريم
د. محمد الأنصاري
تمهيد:
للقرآن الكريم مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة عند المسلمين؛ فهو كلام الله ووحيه المنزَّل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو كتاب الرسالة السماوية الخاتمة لخير أمة أخرجت للناس، وهو أيضاً مصدر الدين والتشريع والتقنين. قال ـ تعالى ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ؛ فالقرآن هو أصل الأصول وأساسها، منه تنطلق وإليه تعود، وهو أصل حياة الأمة، وسبيل رشدها وعزتها وتحقيق شهادتها على الناس، ولهذا فقد وصفه الله ـ تعالى ـ بأوصاف عدة تبين طبيعته ووظيفته، وتثبت أهميته ومكانته العظيمة، منها:
أـ أنه روح. قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ، والروح هي سر الحياة، ولا حياة للمسلمين في أي زمان ومكان بدون هذه الروح.
ب ـ وأنه شفاء ورحمة للمؤمنين به العاملين بهداه. قال ـ تعالى ـ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
ج ـ وأنه هدى للمتقين. قال ـ تعالى ـ: {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1 ـ 2] ، به تتحقق الهداية للتي هي أقوم في كل أمر من أمور المسلمين. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] .
د ـ وأنه بصائر تبصِّر المتحقق المتخلق بها، فيكون بذلك من المبصرين للحق العاملين به. قال ـ تعالى ـ: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104] .
هـ ـ وأنه نور وضياء؛ به تستضيء العقول وتستنير القلوب. قال ـ سبحانه ـ: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} . [الشورى: 52]
إذن فما السر في كتابٍ هذا شأنه، وهذه وظائفه وطبيعته، لم يحيَ به المسلمون اليوم كما كانوا أحياء به زمن النبوة والخلافة الراشدة، وفي أزمان متفرقة من حياة المسلمين؟
إن العاقل لَيدرك أن عدم حياة الأمة بالقرآن اليوم ـ وهو هو الذي حييت به من قبل ـ إنما يرجع إلى إخلالها الكبير بما يجب عليها نحوه؛ فأكثر المسلمين اليوم أعرضوا عن القرآن إعراضاً وهجروه هجراً؛ فلم يتخذوه هدى يهتدون به، ولا نوراً يستنيرون به، ولا بصائر يستبصرون بها، حتى إنهم لينطبق عليهم قوله ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] .
فإذا كان حال السلف الصالح من هذه الأمة مع القرآن يتمثل في صدق الإقبال عليه بالقراءة والتدبر والفهم، والتبصر والاهتداء، فإن حال الخلف اليوم كحال المخلَّفين من الأعراب حينذاك. ومن هنا فإن عودة الحياة الحقة للمسلمين، حياة العزة والكرامة، ومن ثم قيامهم بالوظائف والأمانات المنوطة بهم، وفي مقدمتها أمانة الاستخلاف والشهادة على الناس أجمعين، وأمانة الترشيد والتوجيه للعاملين..، إن عودة هذه الحياة وأداء هذه الأمانات العظيمة لن تتم عِلماً وعملاً ومنهاجاً إلا بعودة المسلمين عودة نصوحاً للقرآن الكريم؛ فهذه العودة وحدها فقط هي الكفيلة ببعث الحياة من جديد في جسم الأمة المسلمة، وأي عودة لأي شيء آخر غير القرآن فإنما هي عودة إلى الحياة الميتة؛ حياة الضياع والتيه والضلال.
وحتى تكون عودة المسلمين في هذا الزمان إلى القرآن عودة راشدة، فإن السبيل إلى ذلك هو أن نعرف ما يجب علينا في حق الكتاب المسطور (القرآن) والكتاب المنظور (الكون) . وفي هذه الورقات سأتناول ما يجب علينا ـ نحن المسلمين ـ نحو كتاب الله المسطور؛ لأنّ القيام بهذه الواجبات والتخلق بها هو السبيل الذي يبصِّرنا بواجبنا نحو الكون وعمارة الأرض بالخير والصلاح.
فأما ما يجب علينا نحو القرآن الكريم فيمكن اختصاره في الواجبات التالية:
أولاً: واجب القراءة: لقوله ـ تعالى ـ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، فعلى المسلمين اليوم، أفراداً وأسراً ومجتمعات، أن يخصصوا أوقاتاً بالليل والنهار سراً وعلانية لقراءة القرآن وتلاوته، قراءة تكون على منهاج قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - له، كما هو واضح في قوله ـ عز وجل ـ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء: 106] .
ثانياً: واجب الاستماع والإنصات: فالواجب أن يكون استماعنا للقرآن وإنصاتنا له مقدماً على استماعنا لأيِّ كلام آخر دونه؛ فعلى قدر استماع الآذان وإنصات العقول والقلوب الواعية للقرآن يكون استحقاق الرحمة للمستمع المنصت. قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ، فالحرص على الاستماع والإنصات لكلام الله ـ تعالى ـ بصدق وإخلاص يثمر في قلب المستمع محبة القرآن، وهذه المحبة هي مفتاح الإقبال على القرآن بالقراءة والتدبر والفهم والعمل، وهذه الأمور هي طريق الاستبصار ببصائر القرآن والاهتداء بهدايته.
ثالثاً: واجب الترتيل: فالله ـ تعالى ـ أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بترتيل القرآن الكريم، وهو أمر للأمة أيضاً؛ فقال ـ سبحانه ـ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] ، والمراد هنا بالترتيل: قراءة القرآن على تؤدة وتمهل وتبين حروف (1) . والقصد من قراءة القرآن بمنهج الترتيل هو التمكن من تأمل المقروء وفهمه؛ يقول ابن كثير في هذا المعنى: «أي: اقرأ على تمهل، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبّره» (2) .
والمطلوب في القراءة بالترتيل أن تكون بمنهج التلقي؛ حتى تثمر التبصُّر في فكر القارئ المرتل وفي فهمه، وتثمر ثمرة الخشوع القلبي؛ فالترتيل يقتضي استحضار ثقل آيات المرتَّل وعظمة بصائره وكأنها تنزل عليه غضة طرية، تماماً كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ويرتل استجابةً لأمر ربه: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 4 ـ 5] ، وكما في قوله ـ تعالى ـ أيضاً: {وَإنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] .
رابعاً: واجب التدبر: والأصل فيه قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ؛ فالتدبر وسيلة لاستثمار القرآن واستقامة الفكر وصحة الفهم عن الله تعالى، وهو مفتاح خشوع القلب واستحضار عظمة الله تعالى، وبلوغ أعلى درجات المعرفة واليقين. ولأهمية التدبر هذه فقد حذر الحق ـ سبحانه ـ من غفلة القلوب عن الخشوع لذكر الله؛ فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] .
إن الخشوع خصيصة من خصائص هذا القرآن؛ فطبيعته التأثير في الأنفس والمخلوقات كلها حتى الجامدة منها كالجبال. قال ـ تعالى ـ: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] ، وقال ـ سبحانه ـ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] .
خامساً: واجب التعلم والتعليم: فتعلم القرآن وتعليمه واجب على كل مسلم مكلَّف، فهو الواجب الشرعي الذي يحصل به الفقه في الدين؛ فالله ـ تعالى ـ علّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن، إذ به تعلّم الإيمانَ وتعلم الإسلامَ وتعلَّم الشرعةَ والمنهاج، وبه علَّم أصحابه ذلك كله، فصاروا علماء بالقرآن.
والأصل في هذا الواجب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه» (3) ، وقوله أيضاً: «تعلَّموا القرآن والفرائض وعلِّموا الناس فإني مقبوض» (1) .
إن قضية تعلم القرآن وتعليمه مسألة ينبغي العناية بها قبل العناية بتعلم وتعليم أي شيء آخر، عملاً بمنهاج تعليم الله ـ تعالى ـ لرسوله وتعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ولهذا كانت هذه القضية هي أساس انطلاق الأمة المسلمة كمّاً وكيفاً إذا ما أُدِّيت وأُتقِن أداؤها، أما إذا أهملت ـ كما هو واقع الحال اليوم ـ وقُدِّم عليها غيرها من العلوم والمعارف كيفما كانت؛ فإن ذلك هو أساس التيه والضلال، والتخلف والانحدار، والتبعية والانجرار، تماماً كما هو حال الأمة في هذا الزمان. وعلى هذا الأساس فإن واجب تعلُّم القرآن وتعليمه ينبغي أن يكون هم المسلمين جميعاً؛ فتعطى له الأولوية في البيت، وفي مؤسسات التربية والتعليم، وفي وسائل الإعلام كلها؛ مقروءة ومسموعة ومرئية، وفي المؤسسات الاجتماعية والثقافية؛ المدنية والعسكرية، الخاصة والعامة.
وإلى جانب هذه العناية العامة بهذا الواجب من قبل المسلمين أفراداً وأسراً ومجتمعات ودولاً؛ فإنه ينبغي أن تخصص له مؤسسات خاصة تعنى بتعليم القرآن للناس الكبار منهم والصغار، الذكور والإناث على حد سواء.
سادساً: واجب الدعوة إليه والدعوة به: والأصل في هذا الواجب قوله ـ تعالى ـ: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «بلِّغوا عني ولو آية» (2) .
إنّ من أولى الأولويات الدعوية اليوم أنْ تعطى الأولوية للقرآن الكريم بالدعوة به وبمنهاجه وأسلوبه؛ فهو كلام الله الذي تقشعر منه الجلود، وتتأثر به جميع المخلوقات، يتأثر به الإنس والجن، ويتأثر به الحيوان والحجر والشجر، لِِما أودعه الله ـ تعالى ـ فيه من أسرار وبراهين وحجج، ويكفي أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ جعله روحاً، والروح هي سر الحياة في كل شيء؛ فإذا فُقِدَت حلّ الموت محلها في كل شيء، ولهذا قيل في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] : أي: جاهدهم بالقرآن واتلُ عليهم ما فيه من القوارع والزواجر، والأوامر والنواهي (3) .
والمتأمل في واقع المسلمين اليوم يرى خطورة ما آل إليه أمر الدعوة بالقرآن وإليه، من إهمال وضياع، حتى إن مؤسسات الدعوة والدعاة أهملت هذا الواجب بإهمال الأمة له، وأصبحت تعنى بغيره في دعوتها إلى الإسلام، إلى درجة أن الكثير من أبنائها أصبح يتحرّج من ذلك خشيةً من الناس، هذا مع أن الدعوة إلى القرآن وبه هي أحسن دعوة على الإطلاق؛ فهي منهج النبوة وسر نجاح الدعوة في عصر الرسالة والخلافة الراشدة.
سابعاً: واجب تعظيمه وتقديسه: فهو كلام الله المقدس، وتقديسه وتعظيمه تقديس وتعظيم لله تعالى؛ فهو ـ سبحانه ـ القدوس، ومن ثم فلا يجوز الاستهانة به أو العبث أو الإهمال، إذ كل ذلك وما يدخل في معناه دليل على النفاق وعدم الإيمان الحق بالقرآن. أما تعظيمه فدليل على التصديق به، ويكون بالقلب واللسان والجوارح والحال، ولعل سبب إهمال المسلمين لما يجب عليهم نحو القرآن الكريم هو إهمالهم لواجب تعظيمه وإجلاله؛ قلباً وقالباً، تحقُّقاً وتخلُّقاً.
ثامناً: واجب البحث والدراسة العلمية الأكاديمية: فالأبحاث العلمية العميقة والدراسات الرصينة، التي تنطلق من النص القرآني، من أوجب الواجبات على المسلمين في كل زمان نحو كتاب الله تعالى؛ لأنه مصدر كل شيء وأساسه؛ فهو كتاب إعجاز وتشريع وهداية؛ إعجاز علمي بالمعنى العام للعلم، وإعجاز تشريعي بالمعنى العام للتشريع، وإعجاز هداية بالمعنى العام للهدى المنهاجي. واكتشاف هذا الإعجاز أو استنباطه يحتاج إلى بحوث علمية متخصصة تتولى مهمتها الجامعات والمعاهد العليا ومراكز الأبحاث الخاصة، ويشرف عليها علماء من أهل الخبرة والاختصاص حتى تثمر وتنتج، كلٌّ في مجالها.
فالبحوث المتخصصة في علوم الشريعة تستنبط التشريعات والقوانين والأحكام الشرعية وغيرها، وتكتشف الإعجاز التشريعي في القرآن. والبحوث المتخصصة في العلوم المادية والإنسانية تكتشف الإعجاز العلمي المادي والإنساني المبثوث في ثنايا الوحي، واكتشافه يحتاج إلى باحثين متخصصين في هذه العلوم، مؤمنين بالرسالة القرآنية المعجزة.
فأداء هذا الواجب الرسالي العلمي نحو القرآن الكريم ييَّسر سبيل العودة إلى الدين كما ييسر سبل الدعوة إليه وبه؛ لأن اكتشاف هذه الأنواع من الإعجاز العلمي في القرآن يؤكد أنه وحي من الله تعالى، وأنه معجز بلفظه ومعناه وبراهينه العلمية، معجز بهداياته وبصائره، معجز غاية الإعجاز بأحكامه وتشريعاته، فيزداد المؤمن بذلك إيماناً، ويقتنع الكافر فيؤمن، وتقام الحجة على من جحد وأصر على الكفر والضلال.
تاسعاً: واجب العمل بالقرآن والاحتكام إليه في أمور الدين والدنيا: فالمسلمون اليوم ضلوا السبيل بسبب انفراط هذا الواجب في حياتهم؛ فاتبعوا الأهواء والأعداء، وحكّموا في أمورهم القوانين الوضعية المستوردة والمحلية، فصار التدين فيهم مغشوشاً، والتشريعات والقوانين التربوية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية غيرَ مؤسسة على الوحي، ولا مراعية لأحكامه ومقاصده، ولا مهتدية بهداه. والقرآن إنما أنزل للعمل به وتحكيم شريعته؛ فضاعت الأمة بإضاعتها لشريعته وتبعيتها العمياء لقوانين الأعداء وتشريعاتهم التي يحكمها العجز والقصور والضلال، والله ـ تعالى ـ يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
عاشراً: واجب الدراسة بمنهج التدارس: وهو ما يصطلح عليه عند العلماء الربانيين بواجب (المدارسة القرآنية) ، هذا الواجب الذي ضمر في الأمة ضموراً خطيراً، فحلت محلّه أمور أخرى لا تخلو من فائدة، إلا أنها أقل منه كثيراً.
إن المدارسة القرآنية هي أم الواجبات المتقدمة وأساسها؛ ففي إطارها يتم واجب القراءة بمنهج الترتيل، ويتم الاستماع والإنصات للقرآن، ويتم التعلم والتدبر، ولهذا فإن الحديث عنها يقتضي تفصيل الكلام في معناها، ومشروعيتها، ومنهجها، وثمارها وفضائلها.
1 ـ معناها: المدارسة مشتقة من مادة (درس) ، يقال: درسَ الكتابَ يدرُسه دَرْساً ودراسةً، أي: ذلّله بكثرة القراءة حتى انقاد لحفظه. ودرس الكتاب: تَعَلَّمَهُ. ويقال: درست السورة، أي: حفظتها. والمُدارِسُ: الذي قرأ الكتب ودرسها، والمِدْراس: البيت الذي يُدْرَسُ فيه القرآن، وفي الحديث: «تدارسوا القرآن» (1) ؛ أي اقرؤوه وتعهدوه لئلا تنسوه. وأصل الدراسة: الرياضة والتعهد للشيء (2) ، والمدارسة من هذا القبيل. يقال: تدارس القوم القرآن، أي: قرؤوه وتدبروا معانيه، وقلبوا النظر في فهمه واستخلاص هداه؛ فالمدارَسة على صيغة مُفَاعَلة، والتدارُس على وزن التفاعُل، والمراد بها المشاركة الجماعية في فهم القرآن وإدراك أسراره واستنباط بصائره وهداياته.
2 ـ مشروعيتها: المدارسة القرآنية مشروعة بالقرآن والسنة؛ فأما القرآن فقوله ـ تعالى ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ؛ وأما السنة فحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ فلَرَسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة» (3) . وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وفيه: « ... ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ... » (4) .
3 ـ منهجها: إن الاهتداء في المنهج للتي هي أقوم هو أساس النجاح في كل شيء، إذ بقدر التفقه في المنهج والرشد فيه يكون مستوى النجاح كمّاً وكيفاً.
ومن هنا فإن نجاح المدارسة يتوقف على مدى النجاح في اتباع منهجها الخاص؛ فالقرآن الكريم وظيفته الأساس هداية الناس إلى صراط الله المستقيم، ولعل هذا هو السر في تكرار الفاتحة في كل الصلوات المفروضة والمسنونة لتضمنها دعاء خاصاً في بيان القصد من القرآن ووظيفته الأساس: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] . إنها وظيفة الهداية للتي هي أقوم وأرشد في التفكير والتعبير والتدبير، وهي المشار إليها في قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، فبلوغ مرتبة الأقوم في الهداية يتوقف على اتباع المنهج الأقوم في تدارس القرآن الكريم. والمدارسة القرآنية لها منهجها الخاص الذي به تتم، وهو منهج يقوم على قاعدتين:
| القاعدة الأولى: قاعدة: «اقرأ وتدبر ثم أبصر» ، وهذه القاعدة تهم الدارس للقرآن بمفرده، وتهم المجتمعين لمدارسته؛ فهي السبيل لاستخلاص الهدى المنهاجي من القرآن الكريم، وبيانها في حقيقتين:
أـ حقيقة واجب التحقق بالقرآن: والمراد بها: التحقق بالقرآن فهماً وإدراكاً وعلماً، إذ بهذا التحقق يستقيم الفكر ويصح الفهم عن الله تعالى، ولا يتم هذا إلا بالقراءة أولاً ثم التدبر ثانياً؛ القراءة بمعنى التلاوة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ... » ، والتدبر بمعنى التأمل والتفكر في المقروء، لقوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] . إنه تدبُّر يتجاوز مرتبة دائرة التدبر بالعقول إلى مرتبة التدبر بالقلوب ليتحقق بذلك الإبصار، وهو إبصار يتجاوز الإبصار الفردي إلى الإبصار الجماعي للبصائر القرآنية وهداياته المنهاجية.
ب ـ حقيقة واجب التخلُّق بعد التحقُّق: وهي حقيقة تخص الفرد الدارس والجماعة، وسبيلها التبصر بعد القراءة والتدبر والإبصار. والإبصار هنا:
ـ إبصار العقول الواعية والقلوب الحية للطريق المستقيم والمنهاج القويم. قال ـ تعالى ـ: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104] .
ـ وإبصار للنور القرآني والهدى الرباني وتبصر بهما: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] .
ـ إبصار للميزان الذي به يعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والنور من الظلام: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20] .
ـ وإبصار لمنهج القراءة العام: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ، سواء أتعلق الأمر بقراءة الوحي أم بقراءة الأكوان والمخلوقات؛ فالمقروءات كلها ينبغي أن تقرأ باسم الله حتى يتحقق المقصود منها وتعرف أسرارها.
ـ وإبصار لحقيقة الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء، وحقيقة غيره من المخلوقات، وذلك بالرحيل من الأكوان المخلوقة إلى عظمة المكون الخالق سبحانه وتعالى.
ـ وإبصار للأولويات وتبصّر بالعمل بها، وإبصار لمنهج العدل القرآني ولمنهج تسخير السنن الكونية وعمارة الأرض بما ينفع الناس؛ فإرسال الرسل وإنزال الكتب إنما كان القصد منهما ذلك. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] .
وخلاصة الأمر، فإن المراد بحقيقة التخلُّق: التخلق بالهدى المنهاجي المستنبط من الوحي، وذلك بالاهتداء بهدايات القرآن، واتباع منهجه والاستقامة عليه، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود: 112] . فالاتباع والاستقامة هما سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة، قال ـ تعالى ـ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .
| القاعدة الثانية: قاعدة: «أخذ القرآن بمنهج التلقي» (1) ، فالواجب على الدارس للقرآن فرداً كان أو جماعة يجتمعون في مجلس للمدارسة..، الواجب عليهم جميعاً أن يتعاملوا مع القرآن بهذه القاعدة المنهجية في تلقّي القرآن، فالتلقي هنا تلقٍّ خاص، المراد به: استقبال القلب للوحي، وهو على ضربين:
ـ استقبال على سبيل النبوة؛ وهو خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، لقوله ـ تعالى ـ: {وَإنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] ، فهو تلقٍّ لرسالة الوحي من الله تعالى، اقتضته طبيعته: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] .
ـ واستقبال قلبي للوحي على سبيل الذكر؛ وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي وقصد به التذكر: {إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل: 19] .
فالمتدارسون للقرآن في مجالس المدارسة ينبغي أن يستقبلوا القرآن بهذه الكيفية وكأنه ينزل عليهم في تلك اللحظات غضاً طرياً، إنه استقبال بمعنى الإنصات الكامل للقلب والعقل إلى كلام الحق ـ سبحانه وتعالى ـ وهو يخاطبهم، ثم يتدبروه بتقليب النظر وإجالة الفكر فيه، ليتحقق بذلك الإبصار ثم التبصر والاهتداء بهداه.
4ـ ثمارها وفضائلها: للمدارسة القرآنية ثمار جليلة وفضائل عظيمة وكثيرة؛ فالمدارسة خير كلها وبركة كلها، فالله ـ تعالى ـ يبارك فيها فيفيض بنوره على المجتمعين لمدارسة قرآنه، فيثمر ذلك ثماراً نافعة وفضائل عديدة، منها:
أـ أن المدارسة سبيل التعلم والتعليم: فالعلم الحق هو علم القرآن، والمدارسة هي السبيل إلى تحصيل هذا العلم؛ العلم بأحكام القرآن ومعرفة أسراره وحكمه، واكتشاف بصائره المبثوثة في سوره وآياته، قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ (2) الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما تعلَّم القرآن وفهِمَ معانيه ومقاصده وأسراره وطريقة تنزيله، بالتدارس؛ فقد كان جبريل ـ كما جاء في حديث ابن عباس المتقدم ـ يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. والصحابة الكرام إنما تعلموا القرآن وعلّموه بمنهج مدارسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن لهم، وبمجالسهم الخاصة بتدارسه فيما بينهم.
ب ـ أن المدارسة سبيل تزكية الأنفس: فالتزكية إحدى الوظائف الأساسية للقرآن، وحصولها يتم بالمجاهدة الفردية والجماعية كما هو الحال في مجالس المدارسة القرآنية، لقوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2] . ففي هذه المجالس يتعلم الجلساء علم القرآن، ويتربون على معاني الخير وقيم الصلاح التي تزكو بها النفوس وتتطهر القلوب، وهذا ليس غريباً في مجلس قرآني تحف أهله الملائكة الأطهار.
ج ـ أن السكينة تتنزل على المتدارسين للوحي وتحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله فيمن عنده.
والشرط في تحقق هذه الفضائل العظيمة: المدارسة الجماعية للقرآن المعبر عنها في الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه ... » .
د ـ أنها سبيل التذكر والتبصر: فالحاضرون لها إنما يدفعهم للحضور رغبتهم في فهم القرآن والاستفادة منه، فيوفقهم الله ـ تعالى ـ وييسر لهم سبل التذكر، قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17] .
هـ ـ أن القلوب تطمئن فيها بذكر الله، لقوله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] .
وـ بها تتحقق النذارة والخشية من الله في الدنيا ومن عذابه في الآخرة؛ لأنّ مادتها هي القرآن، ووظيفته الإنذار، لقوله ـ تعالى ـ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51] .
ز ـ أن القلوب تخشع فيها لذكر الله؛ لأنَّ المجتمعين اختاروا التعامل مع القرآن وآمنوا بأنه الحق المنزّل من الله، فخشعت قلوبهم له. قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] ، فالمتدارسون للقرآن بصدق وجد وإخلاص آنَ لقلوبهم أنْ تخشع لذكر الله.
ح ـ أن المدارَسَة والتدبر الجماعي للقرآن تتكشف بهما حقائقه ومعانيه وأسراره وحكمه، فيكون ذلك أدعى لاستخلاص الهدى المنهاجي منه.
وخلاصة الأمر، فإن غاية المدارسة الأساس هي استخلاص هذه الثمرة؛ ثمرة الهدى المنهاجي وتجميعه في برنامج عملي يضم أهم العناصر التربوية والدعوية، النظرية والعملية التي يجب الاشتغال بها، تحققاً وتخلقاً، علماً وعملاً، سلوكاً وحالاً؛ تفكيراً وتعبيراً وتدبيراً.
وهكذا يمكننا القول: إن جميع الواجبات التي تجب على المسلمين نحو القرآن الكريم تخدم الواجب الأم؛ واجب المدارسة. والمطلوب أن تكون كذلك حتى يتحقق الغرض الأساس منها كلها ومن التدارس خاصة؛ وهو استخلاص الهدى المنهاجي العام والخاص؛ إذ عودة الأمة إلى مرتبة الخيرية التي أخرجها الله من أجلها تتوقف على الرشد المنهجي في التعامل مع الوحي فهماً وتنزيلاً؛ فالغرض الأول من القرآن هو الهداية إلى هذا الأمر، {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9] .
بهذا الأمر وحده يمكن اختصار الطريق لعودة الأمة إلى التوحد والقوة بدل التفرق والضعف، وإلى السيادة والإمامة بدل التبعية، وإلى العمران البشري الحضاري المادي والمعنوي بدل الخراب والتخلف والوهن، كل ذلك وغيره إنما يتم بالانطلاقة من الوحي والعودة إليه في كل قضايا الدين والحياة، ليستبين سبيل الهداية، وليستقيم ويرشد السير، فتتمكن الأمة بإذن الله ـ تعالى ـ وتوفيقه من أداء الرسالة المنوطة بها، لإنقاذ نفسها وإنقاذ العالم معها من التيه والضياع؛ فتخرجه من ظلام جاهليته إلى نور الإسلام، ومن جور دياناته إلى عدل القرآن، ومن عبادة المادة والأوثان إلى عبادة خالق الأكوان سبحانه وتعالى.
وبهذه العودة المنهاجية النصوح للوحي تتحقق للأمة الخيرية وترتفع إلى مستوى أداء رسالة الشهادة المنوطة بها على الناس أجمعين.
__________
(*) أستاذ الفقه والأصول بشعبة الدراسات الإسلامية، جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، المغرب.
(1) البيضاوي في تفسيره: 5/405.
(2) ابن كثير في تفسيره: 4/435.
(3) البخاري في فضائل القرآن برقم: 4639.
(1) رواه الترمذي عن أبي هريرة في الفرائض برقم: 2017؛ والدارمي في المقدمة بلفظ آخر عن ابن مسعود برقم: 223.
(2) البخاري في أحاديث الأنبياء برقم: 3202؛ والترمذي في العلم برقم: 2593.
(3) الشوكاني: فتح القدير: 4/81.
(1) تحفة الأحوذي: 8/215.
(3) البخاري في بدء الوحي حديث رقم: 5.
(2) لسان العرب لابن منظور، مادة (درس) .
(4) مسلم في الذكر والدعاء: 4867.
(1) انظر كتاب: مجالس القرآن للدكتور فريد الأنصاري: 36 ـ 37.
(2) في قراءة أخرى: «تَعْلَمون» .(237/3)
منهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه
طلال بن علي الجابري
طلبُ الحق وتحري الصواب وإصابة الهدف الصحيح بُغيةُ كل منصفٍ، وطَلِبة كل ناشدٍ للحق.
وكما أن الله ـ عز وجل ـ بيَّن الحق والباطل؛ فهو كذلك بيَّن كيفية الوصول إلى الحق والحذر من ضده، وبين منهجية التعامل مع النصوص والأشياء والأفكار أو الأفهام، كما بيَّن ذلك رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
وهُنا نأخذ طريقة من الطرق ومنهجية من المناهج في التعامل سواء في النصوص أو في كيفية التطبيق لها، وهو ما أسميته «منهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه» .
وذلك من أجل أطر الفكر على هذه الطريقة الربانية في التعامل مع النصوص أو الفكر في التعاطي مع المستجدات والنوازل.
3 المحكم والمتشابه:
ـ جاء في القرآن الكريم وصفه أنه محكم. قال ـ تعالى ـ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] ، وهو بمعنى أنه متقن في ألفاظه وأحكامه ومعانيه.
ـ وجاء في القرآن الكريم وصفه أنه متشابه. قال ـ تعالى ـ: {كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: 23] أي أن آياته يتشابه بعضها مع بعض في الحسن والصدق والجمال.
هذا فيما يتعلق بالمعاني الإجمالية في وصف القرآن أنه محكم وأنه متشابه. قال ابن تيمية: «وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدِّق له؛ فإن الكلام المحكم المتقن يصدِّق بعضه بعضاً لا يناقض بعضه بعضاً بخلاف الإحكام الخاص؛ فإنه ضد التشابه الخاص» (1) .
والمقصود في هذا المبحث المعنى التفصيلي للمحكم الخاص والمتشابه الخاص وهو ما ذكر في قوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} . [آل عمران: 7]
قال أبو الفداء ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «يخبر ـ تعالى ـ أن في القرآن آيات محكمات هُن أم الكتاب، آي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد. ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم؛ فمتى رد ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس» (2) .
مسائل متعلقة بالآية:
1 ـ أن الله هو الذي أنزل الكتاب «القرآن» .
2 ـ أن من القرآن آيات محكمات هُن أم الكتاب أي أصله الذي يُرجَع إليه عند الاشتباه.
3 ـ أن معنى محكمات: واضحات لا تحتمل التأويل.
4 ـ أن معنى من القرآن آيات متشابهات «أي تحتمل دلالتها موافقة المحكَم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد» .
5 ـ أن طريقة أهل الزيغ أصحاب القلوب المريضة أهل الضلال والخروج عن الحق اتِّباع ما تشابه منه «فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دافع لهم وحجة عليهم» (1) .
6 ـ أن أهل الزيغ يفعلون ذلك بقصد الفتنة أي قصداً للإضلال عن الحق، وبقصد التأويل «ابتغاء تأويله» أي تحريف النصوص كما يريدون ويشتهون.
7 ـ جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» رواه البخاري.
8 ـ أن طريقة أهل الحق الراسخين في العلم الإيمان بالكل، وإرجاع المتشابه إلى المحكم، وعدم ضرب النصوص بعضها ببعض.
9 ـ أن في ختم هذه الآية بقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} سراً لطيفاً وهو «إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة» (2) .
ومن هنا نفهم أن العقول السليمة والأفهام السوية «أولو الألباب» هذه طريقتهم وهذا تعاملهم، وليس العكس من رد الحق الواضح والأمر المتفق عليه والدلالة البينة إلى المختلف فيه أو ما له أكثر من وجه، أو الأخذ بالاحتمال البعيد، أو القول الضعيف والرأي الشاذ.
والعجب لا يكاد ينتهي ممن يجعل المتشابه محكماً والمحكم متشابهاً؛ فقد جر هذا المسلك من ويلات وأوقع في انحرافات {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} .
أمثلة على منهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه:
هذه بعض الأمثلة المقتضبة في توضيح المنهجية في التعامل:
1 ـ «لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله: {إنْ هُوَ إلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] «إن هو إلا عبد أنعمت عليه» ، وبقوله: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فكم سيكون في هذا الاحتجاج من الخلل وسوء الفهم بل الشرك والكفر!
2 ـ ما جاء في باب الأسماء والصفات وهو باب واسع، وقد وقع فيه الخلط في منهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه من أهل الأهواء والزيغ، ووفق الله أهل الحق أهل السنة للطريق القويم في هذا الباب وفي غيره من الأبواب؛ فهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف أو تمثيل أو تعطيل أو تكيف؛ كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وهنا نقتصر على مثال واحد فيما يتعلق بمنهجية التعامل وفق المحكم والمتشابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وهذا كما أن لفظ «إنَّا» و «نحن» وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد وله أعوان تابعون له، لا شركاء له؛ فإذا تمسك النصراني بقوله: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله: {وَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ونحو ذلك (3) .
3 ـ ما جاء في توحيد العبادة الألوهية؛ والأمثلة على ذلك كثيرة منها قولهم: إن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله تنفعه حتى لو أشرك؛ مستدلين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة ـ رضي الله عنه ـ: «أقتلته بعدما قال: لا إله الله» ؟ رواه البخاري ومسلم.
وغفلوا أو تغافلوا عن المحكم من قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] .
وأن المنافق يشهد أن محمداً رسوله الله ولا ينفعه ذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] (4) .
إن تربية الأمة على هذه الطريقة الربانية لبنة في البناء وجمع للصف وفق المحكمات ورد المشتبهات إليها وتوحيد للكلمة، بل استقامة في الفكر وفي فهم النصوص؛ فإن سلوك الجادة طريق العقلاء، والأخذ بالمشتبهات وقوع في بُنَيَّات الطرق.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) [التدمرية: 194] .
(2) تفسير القرآن العظيم [1/517] دار الفكر.
(1) تفسير القرآن العظيم [1/517] .
(2) تفسير القرآن العظيم [1/517] .
(3) التدمرية، 207، ويحسن الرجوع إليه ففيه عدة أمثلة.
(4) يحسن النظر في كتاب كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ ففيه عدة أمثلة على ما ذكر.(237/4)
مفهوم الأصلح في السياسة الشرعية
د. مجيد الخليفة
لقد كثُرت المصطلحات السياسية في عصرنا الحاضر، وتنوّعت مضامينها، وكثُر تداول الناس لها؛ من العامة والخاصة، إلا أن معظم هذه المصطلحات هي مصطلحات غربية بعيدة كل البُعْد عن تراثنا الإسلامي، الذي أعطى للإنسانية ما لم يعطه أيُّ دين آخر، وأسّس قواعد التعامل بين الراعي والرعية وفق شرع الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ووجدنا ساستنا قد ابتعدوا كثيراً عن تراثنا الأصيل، وتمسكوا بهذه المصطلحات الغربية والبعيدة عن قيمنا وحضارتنا، فرأينا أن نبين واحداً من هذه المصطلحات، عسى أن يكون جهدنا هذا فيه خير وفلاح للأمة.
3 تعريف الأصلح:
(الأصلح) من الصلاح، والصلاح في اللغة هو نقيض الفساد: (وأصلح الشيء بعد إفساده: أقامه، وأصلح الدابة: أحسن إليها) (1) . أما من حيث الاصطلاح فليس هناك تعريف دقيق له، مع الإشارة إلى الفَرْق الواقع بين المصطلح الشرعي، والمصطلح العقدي؛ فنعني بـ (الأصلح) في السياسية الشرعية: استعمال أصلح الموجود من الناس في المهام السياسية والعسكرية، ويكون ذلك بأن يُختار الأمثل فالأمثل؛ كل منصب بحسبه (2) .
ولا بد من التفريق بين المصطلح أعلاه، وما يعنيه مصطلح (الأصلح) عند المتكلِّمين، خاصة المعتزلة ومن وافقهم؛ فهم يعتقدون أن (الأصلح) في صفات الله ـ تعالى ـ يعني: أنه يجب على الله ـ تعالى ـ أن يفعل الأنفع لعباده في الدنيا والدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما كونه لا يفعل ما هو الأصلح لعباده، أو لا يراعي مصالح العباد، فهذا مما اختلف فيه الناس؛ فذهبت طائفة من المثبتين للقدر إلى ذلك، وقالوا: خلقُه وأمرُه متعلق بمحض المشيئة لا يتوقف على مصلحة، وهذا قول الجهم. وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وأن فعل المأمور به مصلحة عامة لمن فعله، وأن إرساله الرسل مصلحة عامة، وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته) (1) .
(الأصلح) في القرآن الكريم:
لقد جاءت الآيات القرآنية دالةً على مفهوم (الأصلح) من حيث مغزاه الشرعي، في حين أن القرآن الكريم لم يشرْ من قريب أو بعيد إلى ما عناه المعتزلة بـ (الأصلح) في صفات الله تعالى، ولا يخفى أنهم خالفوا العقل والنقل في هذا الباب، قال ـ تعالى ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] . والمفهوم السياسي لهذه الآية واضح، خاصة وأن سبب نزولها كان في اختلاف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في قسمة الغنائم، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: (أمر الله بالتقوى والإصلاح، أي: يكونون مجتمعين على أمر الله، وفي الدعاء: اللهم أصلح ذات البَيْن، أي: الحال التي يقع فيها الاجتماع) (2) . وتدل الآية في معناها الآخر على أن الإصلاح السياسي - بالمعنى المعاصر - له عمق كبير في المجتمع؛ لأنه يؤدي إلى إصلاح طائفة كبيرة من الناس، وهذه هي وظيفة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ التي أُرسلوا من أجلها بعد توحيد الله تعالى، قال شعيب ـ عليه السلام ـ لقومه، بعد أن كذبوه وجحدوا رسالته: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ، قال ابن كثير في تفسير الإصلاح في هذه الآية: (أي: فيما آمركم وأنهاكم، إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي) (3) ، وهذا الإصلاح لا يأتي إلا بتوحيد الله تعالى، والإقرار بألوهيته؛ لأنه الأصل العظيم الذي يجب أن يُبنى عليه كل شيء، وعليه تدور السياسة الشرعية في تأصيل العلاقة ما بين الراعي والرعية.
ومن المعلوم أن الولاية الشرعية تقوم على ركنين أساسيين: القوة والأمانة، وإلى ذلك أشار الذكر الحكيم: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] . وقيل: إن الخليفة الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قد استدلَّ بهذه الآية لوصية المسلمين بتولية عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من بعده، وتعقَّب أبو بكر ابن العربي ذلك على بعض المفسرين فقال: (وليس كذلك فيما نقلوه؛ لأن الصدِّيق إنما ولّى عمر ـ رضي الله عنه ـ بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطِّلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة) (4) ، ولا يستبعد ـ في تقديرنا ـ أن يكون الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قد نظر إلى قوة عمر ـ رضي الله عنه ـ وأمانته، كما أخذ بالتجربة والخبرة والمعاشرة الطويلة مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، فوجد في توليته أمورَ المسلمين هو الأصلح بالنسبة لهم، وكان أبو بكر الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ هو الإمام الواجب الطاعة في حينه، فاختار الأصلح لهم في ذلك، وكان موفّقاً أشدّ التوفيق في ذلك.
(الأصلح) في السنة النبوية:
أما في السنة النبوية؛ فالأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد اهتمَّ مصنِّفو كتب الحديث بذلك، وأفردوا أبواباً في الصلح بوجه عام؛ فقد روى البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب الصلح من صحيحه، باب: فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الناس صدقة» (1) ، والشاهد من الباب الحديث الذي تضمَّنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يعدل بين الناس صدقة» ، قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: (والعدل بين الناس إما في الحُكْم بينهم أو في الإصلاح) (2) ، ويعني بالإصلاح هنا: سياسة أمور دنياهم بما فيه خيرهم وفلاحهم.
ويبدو من خلال سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان حريصاً على جعل الإصلاح السِّمَة التي يتفق عليها المسلمون في علاقتهم ببعضهم، خاصة عند البيعة وعقد العهود؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار على أن يعقلوا معاقلهم ويفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين» (3) .
والأصلح يكون في طاعة الله ـ تعالى ـ ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ويكون ذلك حسب الطاقة، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أمرتكم بأمرٍ فَأْتوا منه ما استطعتم» (4) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في هذا المعنى) : (فمن أدّى الواجب المقدور عليه فقد أطاع الله ورسوله، لكن إن كان منه عجز بلا حاجة إليه أو خيانة عُوقب على ذلك) (5) . ووفق هذه القاعدة الشرعية سارت سنته الشريفة في اختيار الأصلح للأمة؛ سواء كان ذلك من حيث الأفراد أو المواقف التي تقدَّم فيها مصلحة الأمة على غيرها.
ومما لا شك فيه أن المجتمع لا يصلح إلا بصلاح الدِّين، وكان هذا هو الأساس الذي كان عليه منهج النبوة، فكانت ولاية الدين والدنيا متلازمة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على الحرب كان هو الذي يُؤمر للصلاة بأصحابه، وكذلك الحال إذا استعمل رجلاً نائباً على المدينة، كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ولما بعث معاذاً ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن قال: «يا معاذ! إن أهم أمرك عندي الصلاة» ، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (فإذا أقام المتولي عماد الدين فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات) (6) ، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] . وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] . وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . [الذاريات: 56 - 58]
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن واجب الإمام يتمثل في شيئين، الأول: إصلاح أمور دينهم، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم (7) .
وقد سار الخلفاء الراشدون ـ رضي الله عنهم ـ من بعده على نهجه؛ فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى عمّاله: «إنما بعثت عمّالي إليكم ليعلموكم كتاب الله، وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم» (8) ، ولما تغيَّرت الرعية تغيَّر الراعي. وأفضل الرعاة هم القائمون بشرع الله تعالى، السائرون على نهج النبوة في ذلك؛ لأن إقامة أركان الإسلام من صلاة وصيام وحج وزكاة لا تقوم إلا بوجود الإمام الذي يحث على ذلك، وقوّام بين الناس بالقسط والعدل؛ فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحب الناس إلى الله ـ عز وجل ـ يوم القيامة، وأقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة، وأشده عذاباً إمام جائر» (1) ، والأحاديث في هذا الباب معلومة.
أما فيما يخص أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب؛ فإن حادثة الحديبية أفضل مثال يمكن أن نقف عنده؛ إذ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة السادسة للهجرة يريد زيارة البيت معتمراً، لا يريد قتالاً، وساق معه سبعين بدنة، وكان معه من أصحابه سبعمائة نفس، فمنعت قريش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من العمرة تلك السنة، واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعود إلى المدينة دون عمرة؛ وفقاً للاتفاق مع قريش، فأثار ذلك حفيظة بعض الصحابة، منهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ نعطي الدّنية في ديننا إذن؟، قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري» (2) ، ولم يكن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يدرك أن الأصلح للمسلمين في تلك المرحلة هو الصلح الذي عقده النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قريش، وقد اتضحت فوائد هذا الصلح فيما بعد، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن جاء من بعده من الأئمة اختيار الأصلح للأمة، وإن كان ذلك لا يوافق ميول الرعية.
3 الخلاصة:
إن مفهوم (الأصلح) في السياسية الشرعية يستند إلى أصول ثابتة من الكتاب والسنة، وقد تناولها عدد من العلماء الذين كتبوا في السياسة الشرعية، ولكن كان لشيخ الإسلام ابن تيمية قصب السبق في تأصيل هذه القاعدة الشرعية وتيسيرها في يدِ الأمراء والولاة، ويمكن إيجاز أهم هذه القواعد الشرعية وفق التالي (3) :
1 ـ الواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها؛ فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قُدّم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها؛ فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع ـ وإن كان فيه فجور ـ على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن رجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوّته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه للمسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر.
2 ـ استعمال الرجل لمصلحة راجحة مع وجود من هو أفضل منه؛ فقد أمّر النبي - صلى الله عليه وسلم - مرةً عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ في غزوة ذات السلاسل على من هو أفضل منه؛ استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم. وأمّر أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ لأجل ثأر أبيه. وكذلك فعل خلفاء النبي الراشدون من بعده؛ فقد استعمل أبو بكر الصديق خالد بن الوليد ـ رضي الله عنهما ـ في حروب أهل الردة، وفي فتوح الشام والعراق على هفوات كان له فيها تأويل، فلم يعزله لأجلها، بل عاتبه ونبّهه إليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه.
3 ـ أما في باب القضاء فيقدَّم الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قُدّم الأورع فيما قد يظهر حكمه ويخالف فيه الهوى، وفيما يدقُّ حكمه ويخاف فيه الاشتباه يُقدّم الأعلم؛ ففي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» (4) .
4 ـ وأهم ما في هذا الباب - نعني: معرفة الأصلح كما قرّره شيخ الإسلام - هو معرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود؛ فإذا عرفت المقاصد والوسائل تمَّ الأمر، فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصدُ الدنيا دون الدين، قدَّموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد، وكان من يطلب رئاسة نفسه يؤثر تقديم من يقيم رئاسته، ولذلك فالمقصود الواجب في الولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى خسروه خسروا خسراناً مبيناً.
__________
(1) لسان العرب، مادة: صلح.
(2) السياسة الشرعية، ص 13.
(1) منهاج السنة النبوية: 1/462.
(2) تفسير القرطبي: 7/364.
(3) تفسير ابن كثير: 2/427.
(4) تفسير القرطبي: 9/160.
(1) صحيح البخاري: رقم 2560.
(2) جامع العلوم والحكم، ص 407.
(3) مسند الإمام أحمد: 1/271.
(4) صحيح البخاري: كتاب: الاعتصام بالسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقم 6744. وصحيح مسلم: كتاب: الفضائل، باب: توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك سؤاله عما لا ضرورة إليه، رقم 4348.
(5) السياسة الشرعية: ص 15.
(6) السياسة الشرعية، ص 22.
(7) السياسة الشرعية، ص 23.
(8) المستدرك، الحاكم، 4/485.
(1) مسند الإمام أحمد: 3/22.
(2) صحيح البخاري: كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم 2529.
(3) السياسة الشرعية، ص 9 وما بعدها.
(4) مسند الشهاب: 2/152.(237/5)
السلفية في موريتانيا
أحمد ولد محمد ذو النورين
قد كانت نشأة المحاظر (1) ـ التي انتشرت مبكراً في ربوع بلاد شنقيط (موريتانيا) ـ على يد أول معلم وداعية إسلامي يصل هذا القطر حاملاً همَّ الدعوة وهادفاً إلى نشرها، ذلك هو عبد الله بن ياسين الذي جاء إلى شنقيط عام 430هـ بأمر من شيخه عالم السوس وجاج بن زلو اللمطي.
ظلَّ ابن ياسين يعلِّم الناس أصول الدين الإسلامي ويدعوهم إلى اتباع المنهج النبوي، متخذاً أقوم السبل لنشر عقيدة السلف في تمسُّك شديد بالكتاب والسنة وتأسٍّ بالغ بأهل القرون المزكاة، فوضع بذلك أسس ومناهج المحظرة، التي أثبتت فيما بعد جدّيتها ومردوديتها وفاعليتها تربوياً واجتماعياً واقتصادياً وتكوينياً طيلة التاريخ الموريتاني (الشنقيطي) ، متحدّيةً عوامل كثيرة، من أبرزها: حضرية العلم، ذلك أن أهل هذه المحاظر كانوا يترحلون انتجاعاً للمراعي وتتبعاً لقزع المطر، حاملين معهم زاداً معرفياً يرحل ويحل أينما ارتحلوا وحيثما حلّوا.
وفي وصف ذلك يقول المختار بن بون الجكني:
ونحن ركب من الأشراف منتظم
أجل ذا العصر قدراً دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
بها نبين دين الله تبيانا
لقد كانت أهداف المحظرة مؤسسة على تزويد الطلبة بالقيم الإسلامية منهجاً وسلوكاً، وهادفة إلى تكوين أجيال واعدة روحياً وعلمياً؛ فمبنى المحظرة قائم على نشر الإسلام في كل بادية وحاضرة، فكانت صِمَام أمان لدفع صولة كل من يريد النيل من هذا الدين العظيم.. فالتربية المحظرية الأصيلة قائمة على ثنائية العلم والجهاد باعتبارهما صنوين لا يفترقان.
عن طريق هذه المحاظر أخذت الدعوة الإسلامية تنتشر بين صفوف الموريتانيين، وتبعاً لسنة التدافع بين الحق والباطل عملت الدولة الموحدية الظالم أهلها على إسقاط الدولة المرابطية السنية سنة 515هـ، ومع بداية نشأة الدولة الموحدية على يد المهدي بن تومرت المتوفَّى عام 524 هـ بدأت بعض الأهواء والنحل والطرق المنحرفة في الانتشار، ودخل العقائد بعض الدخن، فأولت صفات الله ـ سبحانه وتعالى ـ وظهر الإلحاد في أسمائه الحسنى وسادت البدع.. غير أن الأمة وعلى لسان نبيها - صلى الله عليه وسلم - لا تزال فيها طائفة ظاهرة تحمي بيضة الدين، وتذود المضلين عن الكروع في حياضه وتقذير موارده (1) ، وطبقاً لتلك السنة الكونية لاحت بوادر العودة من جديد إلى منهج السلف الذي هو مهيع الحق.
فتنادت زمرة من أجلّة العلماء والدعاة والمجاهدين الذين تخرجوا من محضن المحظرة لصقل ما علق بالدين من شوائب ونفي ما ناله من تحريف وردّ ما نوصي به من شبه، وطرد ما أصابه من باطل التأويل، ونبذ ما داخله من بدع وغلو وزيغ.
ومن أبرز من تنادوا لإنقاذ المجتمع من أتون الحضيض الأخلاقي والديني الذي انزلق في هاويته خلال هذه الحقبة:
ـ الإمام ناصر الدين أبو بكر بن أبهم الشمشوي، الذي عاش في القرن الحادي عشر الهجري، وبرز في العلوم الشرعية كافة، وحاز السبق في الورع والتقوى والخلال المثلى.. فكان مثالاً للشجاعة والحنكة العسكرية، فرفع راية الجهاد وأعلن قيام نظام إسلامي، متمسكاً في ذلك بالنهج المرابطي، لولا ما أثر عن بعض أقطاب حركته من التخرص على الغيب والخوض في غمار الدجل؛ تأثراً بالثقافة السائدة في المجتمع آنذاك (2) .
في إطار سعيه لإقامة نظام إسلامي حاول الإمام ناصر الدين جباية الزكاة فرفض أحد منسوبي قبائل حسان أداءها إليه، بعد أن احتمى بإمارة الترارزة، فكانت حرب شرببة، التي دامت سنوات عجاف، وأثمرت هزيمة نكراء في صفوف الزوايا، وانتهت بانتصار بني حسان الذين فرضوا شروطهم على الزوايا.. ولئن كان الزوايا قد هزموا هزيمة عسكرية مدوية فإن في طيات كل محنة منحة، فقد انكبّوا على العلم واشتغلوا به حتى صار لهم سجية وأصبحوا يعرفون به، فازدهرت محاظرهم وفاضت بالعلوم الشرعية ومعارف اللغة العربية، وكان لها الأثر الأكبر في تعليم الدين الإسلامي وتخريج علماء مؤهلين عملوا على نشر الإسلام في ربوع إفريقيا والمغرب العربي، مبشرين بنبراس الحضارة الإسلامية أينما حلوا، ضاربين أروع الأمثلة في حفظ المتون ومعالجتها نظماً وشرحاً وتلخيصاً وإبداعاً.
وإن انتشرت في هذه المحاظر العقيدة الأشعرية وتأثر معظمها بالطرق الصوفية، على مدى عقود من انحسار حركة الإمام ناصر الدين؛ فإن قلة من أبنائها ظلوا متمسكين بالمنهج السلفي، داعين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وما كانت عليه الأمة المسلمة خلال القرون المزكاة، ومن أبرز هؤلاء: كمال الدين محمد بن حبيب الله الذي اشتهر بلقبه (المجيدري بن حب الله) اليعقوبي المولود عام 1156هـ، وقد عُدَّ المجيدري ضمن أربعة علماء عُرفوا بالموسوعية على مستوى القطر الشنقيطي، وهم إضافة إليه: سيد عبد الله ابن الحاج إبراهيم المتوفَّى سنة 1233هـ، ومحمد سعيد اليدالي المتوفَّى سنة 1166هـ، وابن رازكة المتوفَّى سنة 1143هـ (3) .
بعدما تضلع (المجيدري) من العلوم المحظرية طفق يجوب الأرض في رحلة علمية طالت أقطاراً إسلامية عديدة، وانتهت به إلى الحج وزيارة المسجد النبوي، وقد تمكن خلالها من جمع مكتبة نفيسة، ورجع إلى بلاده وهو يدعو إلى تطهير المجتمع الموريتاني من الشوائب العقدية والعلمية التي علقت بمناهجه التعليمية إثر انتشار العقيدة الأشعرية وفشو الطرق الصوفية، وقد زعم بعض الباحثين أنه عاد متأثراً بالدعوة السلفية التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب (4) .
لما رجع (المجيدري) إلى البلاد نادى بضرورة التمسك بالكتاب والسنة والتزام منهج السلف، فأنكر عليه جماعة من العلماء كان أبرزهم: المختار بن بون، الذي لم يزل يناصبه العداء حتى شتمه لما بلغه نعيه بقصيدة مطلعها:
أودى الضلال ألا فليفرح الجذلا
من عاش بعد مضلاً شاقق الرسلا
فبادر مولود بن أحمد الجواد اليعقوبي بالرد عليه بقصيدة مطلعها:
أودى الكمال ألا فليفرح الجذلا
من لا يموت ومن لا ينقضي أجلا
توفي (المجيدري) ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 1204هـ بعد أن عاش حياة حافلة بالدعوة والعطاء العلمي، فورث عنه تلميذاه اللذان ناصراه وتبنّيا منهجه وهما: المأمون بن محمد المجاور اليعقوبي ومولود الذي سبقت الإشارة إلى ردِّه على المختار بن بون، ورثا عنه ذلك المنهج السلفي وظلا يدعوان إليه، ويترسمان خطاه، منهجٌ بيّن (المجيدري) نفسه أُسسه التي انبنى عليها، حيث قال: (اعلم يا مكلف أن الله أوجب عليك أن توحده فتعتقد يقيناً بدليل الكتاب والسنة أو هما معاً أن الله موجود لا شبه له مع غيره في ذات ولا صفة ولا فعل ولا اسم ولا حكم ولا عبادة ولا غير ذلك، فهو واحد لا يقبل الشرك في شيء، وصفاته ـ تعالى ـ على الحقيقة، فحياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه واستواؤه على عرشه، وكل صفة وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فَصِفْه بها على الوجه اللائق بجلاله وكماله ولا تؤول) (1) .
لم يتوانَ (المجيدري) في ردِّه على ما زعمه الأشاعرة من تقسيم صفات الله تعالى إلى واجبة وسلبية ونفسية ومعنوية، حيث يقول: (وكون الواجب من صفاته ثلاثة عشر منها ست سلبيات ومنها سبع يقال لها المعاني لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه رضي الله عنهم) (2) .
وهكذا صنّف (المجيدري) أسباب الضلال، في فهم صفات الله تعالى قائلاً: (اعلم أن أشد ما أضل الخلق هو قياس الغائب على الشاهد، حتى أحالوا على الله ما لم تدركه عقولهم ولم يعلموا أنه وهم متباينون غاية المباينة..) (3) .
لقد نظم (المجيدري) ـ رحمه الله تعالى ـ منهجه السلفي قائلاً:
آي الكتاب وأخبار النبي وما
جاء الثقاة به عن صالح السلف
ما اعتاض عنها سوى أعمى البصيرة عن
نهج الحنيفية البيضاء ذو جنف
رين على القلب يكسوه السواد كما
يكسو المداد سواداً أبيض الصحف
فالمصطفى حثنا عند اختلافهم
على التمسك بالقرآن ذي الشرف
وبالذي سنَّ أو سنَّتْ صحابته
طراً وحذرنا من بدعة الخلف
مرجمات ظنون غير مجدية
شيئاً عن الحق بل تفضي إلى التلف
فالحق إياك أن تعدل سواه به
لا يعدل اللؤلؤ المكنون بالخزف
وامتداداً لهذه المدرسة يطالعنا العلامة بابه بن الشيخ سيديا الذي تنسم المجتمع الموريتاني معه إحياء السنة وتجديدها، حيث دعا إلى أن الصواب في العقيدة رفض التأويل الكلامي والإيمان بما احتواه الكتاب والسنة وجعله عقيدة وشريعة ومنهجاً وسلوكاً، ففي المعتقد لا تشبيه ولا تأويل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف.. وفي الشرائع لا استقلال لآراء الفقهاء بتشريع، وإنما تعرض هذه الآراء على المصدرين فما وافقهما قبل وما عارضهما ردَّ ورفض، بعيداً عن تقليد غير المعصوم، في تحصن واحتماء بالقرآن وصحاح السنن من مضلات الأهواء والبدع (4) .
لقد كان لبابه الحظ الأكبر والنصيب الأوفى في دفع البدع ودحضها وإظهار السنن والعمل بها، فقد وجد غالبية الناس يدينون بالعقيدة الوسطى لأبي الحسن الأشعري، فطفق يعالج ذلك بكل ما أتيح له من وسائل ويرد عليه، فردَّ ما ذهب إليه الأشاعرة من التأويل خوفاً من إيهام التشبيه، قائلاً:
ما أوهم التشبيه في آيات
وفي أحاديث عن الثقاة
فهي صفات وُصِف الرحمنُ
بها وواجب بها الإيمان
ثم على ظاهرها نبقيها
ونحذر التأويل والتشبيها
قال بذا الثلاثة القرون
والخير في اتباعهم مقرون
كما دحض البدع وشنع على دعاتها، وأعلى صوت الحسبة في وجه المنكرات، فقال:
كن للإله ناصراً
وأنكر المناكرا
وكن مع الحق الذي
يرضاه منك دائرا
ولا تعد نافعاً
سواءه أو ضائرا
واسلك سبيل المصطفى
ومت عليه سائرا
فما كفى أولنا
أليس يكفي الآخرا
ثم عرج على المبتدعين من أهل التصوف داعياً إلى الإنكار عليهم ومفاصلتهم، ومبيناً للخزعبلات التي يروجون لها، فيقول:
وكن لقوم أحدثوا
في أمره مهاجرا
قد موهوا بشبه
واعتذروا معاذرا
وزعموا مزاعماً
وسودوا دفاترا
واحتنكوا أهل الفلا
واحتنكوا الحواضرا
وأورثت أكابر
بدعتها أصاغرا
فاحكم بما قد أظهروا
فما تلي السرائرا
وإن دعا مجادل
في أمرهم إلى مرا
فلا تمار فيهم
إلا مراء ظاهرا
ولا يتردد باب في جهره بالحض على السنة ومحاربة ما سواها، فيقول:
آمن أخي واستقم
ونهج أحمد التزم
واجتنب السبل لا
تغررك أضغاث الحلم
لا خير في دين لدى
خير القرون قد عدم
أحدثه من لم يجب
قطع بأنه عصم
من بعدما قد أنزلت
اليوم أكملت لكم
وبعدما صح لدى
جمع على غدير خم
تخرج على يد الشيخ سيديا باب جملة من العلماء الأخيار من أمثال: الشيخ محمد بن أبي مدين العالم المحدث الذي عاش أغلب حياته ـ رحمه الله تعالى ـ في التدريس، وقد عرفت عنه جراءته في الحق الذي لم يكن يحابي فيه أحداً، كما اشتهر بذبِّه عن السنة، التي جاء ضمن مؤلفاته في الدعوة إليها والدفاع عنها كتابٌ يحمل العنوان والمدلول نفسه: «الصوارم والأسنة في الذب عن السنة» (1) .
ومن أبرز من تخرج من مدرسة الشيخ سيديا باب العلامة عبد الودود بن حَمَّيه الذي لم يدانيه أحد معاصريه في علوم اللغة والقرآن، والذي لا تزال مؤلفاته وآثاره في ذلك معيناً لا ينضب يؤمُّه طلاب العلم من كل جهات الدنيا وينهلون منه ما ابتغوا من زلال المعارف الصافية.
ظل الشيخ عبد الودود ـ رحمه الله تعالى ـ داعية إلى تصحيح العقيدة ونشر علوم القرآن والسنة في تواضع جمٍّ وزهادة منقطعة النظير وتألُّه وعبادة وإحياء للسنن وإماتة للبدع وإظهار للحق حتى توفي رحمه الله تعالى.
وبالجملة؛ فقد امتد تأثير المدرسة السلفية التي أسسها الشيخ سيديا باب إلى أرجاء واسعة من موريتانيا (بلاد شنقيط) نظراً لعلمه الغزير ومكانته الاجتماعية الرفيعة، والتي مهدت له محاورة أغلب علماء عصره.
وممن كان لهم الأثر الكبير في نشر عقيدة السلف بالقطر الموريتاني العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، إذ حرص بعد استقراره بالمملكة العربية السعودية على مقابلة الحجاج والمعتمرين الموريتانيين، وبذل جهده ـ رحمه الله ـ مع كثيرين منهم في تصحيح عقائدهم ونشر المذهب السلفي بينهم، إضافة إلى رحلته الدعوية التي كان لموريتانيا منها النصيب الأوفر والتي قابل خلالها أغلب العلماء وتحاور معهم مما أتاح له فرصة إقناع بعضهم ورجوعهم إلى مذهب السلف وتخلِّيهم عن المذهب الأشعري، إضافة إلى تأثير مؤلفاته وخاصة تفسيره أضواء البيان، تلك المؤلفات التي تأثر بها بعض أعلام موريتانيا كالشيخ عبد الله بن داداه الذي كان قد تأثر بالشيخ عبد الودود، وكذلك تأثر بهذه المؤلفات الإمام بداه بن البصيري.
أسس الشيخ عبد الله بن داداه «محظرة» قرآنية اتسمت بالميل إلى المنهج السلفي وعمل من خلالها على تعليم القرآن الكريم فكانت من أشهر المحاظر القرآنية في ربوع موريتانيا.
أما الإمام (بداه) فهو المفتي العام لموريتانيا على مدى نصف قرن ظل طيلته يدعو إلى المنهج السلفي ويدافع عنه عبر دروسه ومحاضراته ومؤلفاته التي كان اهتمام معظمها متعلقاً بالعقيدة والحسبة كما هو حال كتبه: تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر، الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد، الحجر الأساس لمن أراد شرعة خير الناس، تنبيه المغتر في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكتائب الشرعية في صدِّ هجوم القوانين الوضعية..) .
كرَّس الشيخ (بداه) حياته متخندقاً في خط الدفاع عن السلفية ودعاتها، الأمر الذي دفع بعجلة العودة إلى المنهج السلفي ضمن مستويات كثيرة داخل موريتانيا، فتسابق الناس إلى إنشاء المؤسسات والمعاهد والمراكز ذات الصبغة السلفية وتوجّه المجتمع وجهة جديدة.
هذا؛ وتنبغي الإشارة بل والإشادة بما أثمره افتتاح معهد العلوم الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية عام 1399هـ من ترسيخ للعقيدة الإسلامية الصحيحة وتعميق للقيم الشرعية النبيلة، حيث تخرج من هذا المعهد ما يربو على ألف وخمسمئة طالب أكمل العشرات منهم الدراسات العليا، وتزاول مجموعة منهم الآن التدريس كأساتذة جامعيين داخل موريتانيا وخارجها.
وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ويصل هدر الكرامة في بلاد شنقيط مستوى لا تحسد عليه هذه البلاد الكريمة، فبينما كان طلاب هذا المعهد يستعدون للاختبارات النهائية للعام الدراسي 1424/1425هـ فُوجئوا بالشرطة وهي تطوق المبنى الذي يحتضنهم، لتعلن عن إغلاقها لهذا المعهد بشكل تعسفي، دون مراعاة منها لظروف طلابه، ودون تقدير منها لعقدين ونصف العقد من العطاء الفذ في المجال العلمي والتربوي والمساهمة الفاعلة في التنمية الاقتصادية للشعب الموريتاني، الذي عاشت أسر منه على حساب رواتب أساتذة ومنح طلاب من المنتسبين لهذا المعهد.
ü أثر الحركات الإسلامية:
وعودة إلى لمحة موجزة عن الحركات الإسلامية، تلك الحركات التي كانت قد بدأت تعرف النور مع بداية الاستقلال ولو على شكل أنشطة فردية، ثم ما لبثت هذه الحركات أن أخذت منعرج التشكل، أما التمايز الأيديولوجي فلم تعرفه إلا بعد عقدين من الاستقلال، حيث اتسمت بدايات التأسيس لكافة الأطياف بمذهب السلف من الصحابة والقرون المشهود بخيريتها، باعتبار ذلك المهيع المأمون والمورد السالك.
لقد عاشت موريتانيا عزلة إعلامية على الأقل على مستوى العالم العربي، رغم تأثرها بما يعيشه من صراعات فكرية حضارية، فعرفت تجاذباً شديداً بين الميل إلى الأصالة والانجذاب إليها من جهة والنزو نحو الغرب من بعض الشرائح المستغربة من جهة أخرى، وفي ظل ذلك كانت الكفّة دائماً لصالح العودة إلى محضن الإسلام فظلت الفئات المثقفة تشهد توجهاً حقيقياً باتجاه التدين، نتيجة الحركة الدعوية المتنامية خاصة على مستوى المساجد والمؤسسات الإسلامية، وإن اعتُبر ذلك من القائمين عليها في أحيان كثيرة تحدياً سافراً للسياسات الحكومية الموريتانية، هذه السياسات التي حملت على عواتقها في كثير من الأحيان تنفيذ وصايا المستعمر في حربها على معالم الإسلام، رغم إعلانها أن دستور البلاد يعدُّ الإسلام دين الشعب والدولة، وأن الشريعة الإسلامية تُعدُّ المصدر الأول للنظم والقوانين، وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، سوى أنها في الغالب لم تألُ جهداً في إدارة ظهرها لهذه المقتضيات.
فحاربت المؤسسات الإسلامية وسجنت العلماء، وأغلقت أبواب الدعوة، بل وإمعاناً منها في الدهاء ومن أجل إزاحة الإسلام النقي عن الواجهة شجعت الطرق المنحرفة والمشوهة للإسلام على الانتشار وأشرعت لها الأبواب على مصاريعها لتجعل منها بديلاً.. وحاولت جاهدة تغيير واقع المحاظر التي ظلت صف المواجهة الرصين والركن الشديد في حفظ وحماية وتثبيت الهوية الإسلامية العربية داخل البلاد، بعد أن وقفت في وجه محاولات الاستعمار الفرنسي طمس هذه الهوية.
في خضم هذه المعطيات بدأت ـ كما أشير إليه آنفاً ـ حركات إسلامية في التشكل، مستبصرة في أغلب رؤاها بحركة الإخوان المسلمين المصرية، ومع مرور الأيام وتعدد الأحداث وتباين المفاهيم انقسمت هذه الحركات إلى ثلاث دوائر هي: الإخوان المسلمون، وجماعة الدعوة والتبليغ، والسلفيون. وقد كان طابعها العام التمسك بالمعتقد الصحيح المنجي عند الله تعالى، وارتسام خطى الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، وظلت هذه الحركات على تنوع مشاربها تدعو إلى تحكيم الإسلام وتعمل على تبصير المسلمين بأمور دينهم.
وبالجملة؛ فقد ظلت هذه الجماعات على مدى سنوات طويلة تتحرك داخل الحقل الدعوي في تكامل، بل وتنسيق في أغلب الأحيان، ويسميها العامة باسم واحد هو الدعاة دون تمييز بين هذه الجماعة أو تلك.
غير أن هوة الخلاف ما فتئت تتسع، فتجسد التمايز شيئا فشيئاً، إلى حد تبادل الاتهامات أحياناً، بل والوقيعة من هذا الطرف في ذلك وإعلان كل طرف البراءة من منهج الطرف الآخر. وإن كان لبعض العلماء والدعاة جهود محمودة في رأب الصدع وتقريب وجهات النظر..
ورغم أن النظام الموريتاني بقيادة (ولد الطايع) أقبعهم جميعاً في جدث واحد وعاملهم المعاملة نفسها، فإنه كان من المفترض تبين الجميع لشمولية الاستهداف، وقد تحقق جانب من ذلك أيام تقاربت المنازل في السجن، إلا أن الانقلاب الذي قاده المجلس العسكري جاء في ظل هيمنة القطب الواحد وظهور العولمة الضاغطة في اتجاه تصنيف الجماعات الإسلامية إلى مجموعات خطيرة وأخرى أقل خطراً، وبناء على ذلك برّأ المجلس العسكري ساحة زعماء الإخوان وبادر بإطلاق سراحهم بعد أن أبدت أمريكا ترحيبها بإدماجهم؛ لكون ذلك جزءاً من استراتيجية التدرج.. وقد أشار منسقهم السيد (محمد جميل ولد منصور) في أكثر من مناسبة إلى أن حواراً خلف الستار ظل يجمعهم بالسفارة الأمريكية التي خرجت عن الصمت، وأعلنت أنها لا تمانع من إشراك الإصلاحيين الوسطيين (جماعة الإخوان المسلمين) في العملية السياسية؛ لنبذهم العنف وتبنِّيهم الديمقراطية، بل وأكثر من ذلك قام السفير الأمريكي بزيارة منسق الإصلاحيين في مكتبه قبل أسابيع من الحملة الرئاسية.
أما السلفيون فلم يلتفت المجلس العسكري إلى ملفهم إلا بعد مدة من الانقلاب إثرَ ضغوط شعبية كبيرة، حيث أطلق سراح ثلاثة من أبرزهم، وهم: الشيخ محمد سيديا بن اجدود الملقب النووي، والإمام عبد الله بن أمينو، والأستاذ محمد بن سيد أحمد الملقب الشاعر، وأبقى على البقية، بل وزادها مجموعة أخرى.
ولا زال رموز السلفيين القابعون في السجن المدني بنواكشوط يعانون الأمرّين، دون أي بوادر لإطلاق السراح أو المحاكمة أو على الأقل المعاملة الإنسانية داخل السجن، ففي مرات عديدة اقتحمت عليهم الشرطة عنابرهم وأشبعتهم ضرباً ومنعت مرضاهم من العلاج، كما حالت دون اتصالهم بذويهم.
قد يتساءل البعض عن المكاسب التي ستجنيها السلطات الموريتانية بل والأمريكية من التفريق بين التيارات الإسلامية وتصنيفها؟
وفي إطار الإجابة عن هذا التساؤل يتضح أنه في ظل العولمة لا بد أن تقدم كل سلطة إقليمية قرباناً للسلطات المركزية في واشنطن في مواجهة المد الإسلامي المتنامي تحت مظلة مكافحة الإرهاب، وبما أن السلطات الموريتانية ابتلاها الله ـ تعالى ـ بشعب مسلم مسالم، دأب أهله على التعاطي مع القضايا بنوع من التسامح والبعد عن التشنج، فلم تشهد تفجيراً ولا قتلاً، كان لا بد لهذه السلطات الجهوية (الموريتانية) من التجاوب مع تطلعات البيت الأبيض الرامية إلى اجتذاذ جذور الإسلاميين بتدرُّج حسب تصنيفهم من حيث الخطورة وقبول الآخر، مما أجبر الحكومة الموريتانية على لفت انتباه تلك السلطة المركزية على أن المخاوف مشتركة والطاعة مطلقة.
فبادرت إلى سجن القادة السلفيين وزعمت أن لهم صلات بالقاعدة من غير بينة أو برهان، وأنهم باتوا يشكلون خطراً على السلم والاستقرار {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] .. ولا تزال الاعتقالات تتجدد تحت ذرائع وتهم تتنوع حسب الاستهلاك وما يستجيب لمعطيات الواقع..
غير أن المراقب للشأن الموريتاني ـ بل وللشأن الإسلامي في كل أصقاع الأرض ـ يتبادر إلى ذهنه سؤال مفاده: إذا كان الهمُّ دعوياً والداعية إنما يدفعه وازعه الديني وطلبه مرضاة الله ـ عز وجل ـ وحرصه على إنقاذ الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وتبصيرهم بدينهم كما بلغه محمد - صلى الله عليه وسلم - نقياً صقيلاً من شوائب الشرك وشبهات البدع ونزوات الضلال، إذا كان الأمر كذلك فما الداعي إلى الاختلاف؟! والدعوة الإسلامية في أمسِّ الحاجة إلى تحقيق التكامل والتآزر ونبذ الفرقة والاختلاف بين كافة المهتمين بالشأن الدعوي.
إن الدعاة هم أول من يجب عليه الالتزام بالكتاب والسنة وتجسيد قول الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ... } [آل عمران: 103] ، وقوله ـ جل شأنه ـ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ... } [المائدة: 2] ، وهم أولى الناس باستحضار جماعية الإسلام، وبثّه لروح الأخوة بين منتسبيه، حيث جعلها من أوثق عراه، وبناها على الارتباط والتضحية والتنازل عن الخصوصية تغليباً للهمِّ العام.. مما يستدعي وعي الدعاة لواجبهم حتى يتسنى لهم الخروج من التقوقع والتعصب للحزبية الضيقة، والعمل على لمِّ شعث المسلمين عامة والدعاة خاصة.. سعياً إلى اتحاد الكلمة في مسؤولية واعتدال وتوازن وإعلاء للحق بحكمة وحسنى.. لما يكتنفهم ـ أفراداً وجماعات ـ من وحدة الهدف ودواعي المحبة ووشائج الألفة.
إن فهم الدعاة واستيعابهم أولويات المرحلة يدفعهم إلى إحياء أواصر التقارب والاندماج، فهم جميعاً محلُّ استهداف وإن بشكل تدريجي، ولا أدل على ذلك مما ورد في تقرير مؤسسة راند الأمريكية للأبحاث نهاية شهر مارس الماضي، والذي يُعدّ ملهماً رئيساً للسياسة الأمريكية، وقد جاء ضمن أبرز توصيات هذا التقرير حث الإدارة الأمريكية على أن تنهج في إطار حربها على العالم المسلم منهج تحويل الصراع والمواجهة من صراع بينها وبين الإسلاميين إلى صراع بين الإسلاميين أنفسهم.. وهي سياسة استعمارية قديمة جديدة.
إن الدعاة جميعاً يتحركون لتحقيق غاية واحدة، ألا وهي تعبيد الخلق لله وحده، والأمانة المعلقة في أعناقهم جميعاً لبلوغ ذلك المرمى عظيمة، والمسؤولية الملقاة على عواتقهم جسيمة.. فواجبهم نبذ الفرقة وطرد النزاع؛ امتثالاً لأمر ربهم وطلباً لمرضاته ووفاء بعهده، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] .
فالاتحاد أقوى لكلمة الدعاة، وأدعى لتحقيق مصالح العمل الدعوي الذي تواجهه تحديات كبيرة وكبيرة جداً.
لقد عانت الدعوة كثيراً جراء هذا التشرذم الذي غذَّته آمال أهل الأهواء وطموحات المشبوهين حتى ساد نوع من عدم الانسجام والتنافر بين المجموعات الدعوية.. الأمر الذي يستوجب إقامة جسور للتواصل والترابط والتكامل حتى يتحقق التغلب على الأخطاء، ويتم التصدي للمخاطر، ويتجدد بناء الثقة ويتجسد التشاور المثمر الذي لا محاباة فيه ولا مجاملة، بل أساسه الصدع بالحق في حكمة بالغة وأسلوب حسن.
إن إنشاء مجلس دعوي يسهر على مصالح الدعوة ويضعها فوق كل اعتبار، ويحيي أواصر المحبة ويجلي أهداف الدعوة ويبين مراميها هو وحده الكفيل بإيجاد مشروع دعوي شامل تنصهر في بوتقته الجهود الدعوية لكل العاملين في الحقل الدعوي، أو على الأقل ينسق مواقفهم ويلائم بين وجهات نظرهم، فتتكلَّل جهودهم بالنجاح وتثمر مساعيهم وتقوى شوكتهم وتتآلف قلوبهم فيرتقون بالعمل الإسلامي ويقدمون النموذج للعامة.
وأملنا كبير في أن تشهد موريتانيا وغيرها من بلاد الإسلام نماذج دعوية رائدة، وتعيش عدالة حقيقية تنصف المظلومين وتأخذ على يد الظالمين وتحفظ للبلاد هويتها وتسير بها وفق المنهج القويم.
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ *} [ص: 28 - 29] .
__________
(1) المحاظر مفردها: محظرة، وهي المدرسة القائمة على شيخ واحد يدرِّس أغلب فنون الشريعة واللغة. وقد عرَّفها بعض الدارسين بقوله: (مؤسسة تعليمية عالية يقودها عالم في فن واحد أو عدة فنون، يسهر عليها وعلى طلابها أخلاقياً وأدبياً ومادياً حسبةً منه لوجه الله تعالى) . انظر: الصوفي بن محمد الأمين، المحاظر الموريتانية وآثارها التربوية في المجتمع الموريتاني، ص: 24، مطبوع على الآلة الكاتبة.
(1) انظر: البخاري (3641) ، ومسلم (1920) .
(2) انظر: شيم الزوايا وأمر الولي ناصر الدين، محمذن بن باباه، ص: 80 ـ 82 وغيرها، ط. بيت الحكمة قرطاج، وانظر: المرجع السابق نفسه من ص 140 ـ 160 وغيرها.
(3) السلفية وأعلامها في موريتانيا، ص 259، الطيب بن عمر.
(4) الطيب بن عمر عن الخليل النحوي، انظر: السلفية وأعلامها في موريتانيا ص 259. هذا المرجع الذي لم يكن صاحبه ملتزماً بالمنهج العلمي ولا بالحياد في عرضه لكثير من القضايا والصراعات التي دارت بين بعض أعلام المنهج السلفي وخصومهم، كما هو حاله في انتصاره للمختار بن بون الأشعري ضد محمد المجاور اليعقوبي السلفي، انظر: ص 274 ـ 276، وكجرأته في إرجاعه نسب الشيخ سيدي الأبييري إلى قبيلة تندغه دون تردد، انظر: ص 282، وعدم ذكره بعض أبرز مشايخ باب كما هو الشأن مع أعمر بن بّدّ الأبييري، وكحرصه على إبراز النسبة القبلية لبعض العلماء، وإهماله لآخرين، كما فعل مع العلامة عبد الودود بن حميه الأبييري. انظر: ص 328.
(1) المجيدري، مبين الصراط المستقيم، ص: 66 ـ 68.
(2) المجيدري، مبين الصراط المستقيم، ص: 68.
(3) المجيدري، مبين الصراط المستقيم، ص: 69.
(4) انظر: أحمد بن ديديه، النزعة السلفية في شعر بابه بن الشيخ سيديا، ص 4.
(1) مطبوع طبعة قديمة غير محققة، وقد صورتها دار الباز بمكة المكرمة على ما هي عليه.(237/6)
نريدها مراجعة لا تراجعاً
فيصل بن علي البعداني
يلاحظ المتابع للساحة الدعوية اليوم، والحراك الفكري داخلها أن هناك قدراً ملموساً من نقد الذات ومحاسبة النفس على المستويين الفردي والمؤسسي في آنٍ واحد.
كما يلاحظ أن تلك العملية لم تقتصر فقط على جانب واحد، إذ ـ مثلاً ـ تناولت الوسائل والأساليب، وراجعت الأهداف وأولويات العمل، وعززت التفريق بين الرمز والفكرة، وطالبت بإعادة النظر في العلاقات البينية بين فصائل العمل الإسلامي ورموزه من جهة، وبين العمل الدعوي والفاعلين في المحيط البيئي والإقليمي والعالمي التي تعيش في أجوائه دعوتنا المعاصرة من جهة أخرى.
وفي اعتقادي أن تلك العملية مظهر صحةٍ ومفتاح نجاحٍ متى ارتبطت بمسلَّمات الشريعة ومقاصدها العامة، وكانت عالية الهمة في إرادة ترتيب الواقع الدعوي الراهن بما يجعل من الجهد الفردي والمؤسسي المعاصر أكثر إجلالاً للنص واستقامة على النهج الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم ـ، وأكثر مراعاة لأحوال العصر، ومنطقية في معايشة الواقع وعدم البقاء في دوائر أحلام اليقظة المثالية أو استجرار اجتهادات لمواقف خاطئة أو مواقف كانت مناسبة لمراحل زمنية سابقة.
وواجب الجميع هو توسيع الأفق، والشعور العالي بالمسؤولية، والترفُّع عن الهوى والمصالح الشخصية والأطر الضيقة؛ من خلال تشجيع كل ممارسة نقدية منضبطة وبنّاءة، بل وتجاوز مرحلة مجرد تشجيع المبادرات الفردية أو شبهها إلى مرحلة تُقنن فيها العملية النقدية وتُوكل من خلال إطارات مؤسسية إلى ذوي الكفاءة والخبرة من أهل العلم والفكر والدعوة.
وما لم يحدث ذلك ويُولَى ما يستحق من دعم واهتمام وتشجيع فإن نتيجته الوقوف على المتحرك، وهو ما قد يفضي بالدعوة في المنظورَيْن المتوسط والبعيد إلى الفتور ومن ثم الانزواء عن الجوانب الأكثر حراكاً وحيوية؛ لا سمح الله تعالى.
وفي المقابل لا بد من القول بأن كثيراً من العمليات النقدية الممارسة اليوم ـ على الأقل في أجزاء رئيسة منها ـ قد تجاوزت نقد الجمود المهلك والدعوة إلى التصحيح المأمول في الجوانب الإدارية والتربوية ونحوها إلى طرح قضايا والمطالبة بمعالجة جوانب يتجاوز من خلالها الثابت وتمسّ أصول الاعتقاد ومناهج الاستدلال تحت الراية نفسها (محاسبة الذات ومراجعة المواقف) ، وهو ما يمثل في الحقيقة عملية تراجع عن النهج السوي لا علاقة لها بعملية التصحيح والمراجعة.
ولعل من أبرز المظاهر التي بدت تبرز في هذا الجانب من قِبَل بعض الفضلاء ما يلي:
ـ الدعوة إلى تجديد مفاتيح العلوم ومنطلقاتها؛ كأصول الفقه ومصطلح الحديث؛ بدعوى هيمنتها على العقل وحدِّها له من الانطلاق في فهم النص!
ـ اعتماد نهج التسامح مع الفرق الغالية الأخرى والتبرير لأصحابها، بل وفي أحيانٍ تقديم بعض شيوخها لعامة الأمة على أنهم رموز اعتدال وأدلاء وفاق.
ـ تتبُّع الرخص في الفتاوى الفقهية، وتقرير أن الصواب أو الراجح هو ما يسهل تطبيقه ويتناغم مع ميول العامة ورغباتها وإن لم يصرحوا بذلك، والمبرر الذي يردِّدونه لذلك الوقوع الحاد تحت ضغط الواقع ومسايرة الجماهير: أن الفقه ما هو إلا التيسير ورفع الحرج، وأن نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث بالحنيفية السمحة، وأن القول الذي يصدعون به قد أفتى به أحد أهل العلم؛ بغضِّ النظر عن قوة دليله وطبيعة الحالة التي أفتى بذلك فيها!
ـ تعطيل كثير من النصوص الثابتة وترك إعمالها أو التعسف في تأويلها تأويلاً يتلاءم مع ضغوط الواقع، بزعم مراعاة مقاصد الشريعة وتحقيق المصلحة! مع أن المتقرر في أصول الشرع أن لا اجتهاد مع النص، وأن مراعاة المقاصد تكمن لا بإهمال النصوص بل بإعمالها والإذعان لها وعدم التعسف في تأويلها، والمصلحة التي تصطدم مع النص إما متوهمة أو غريبة لا يعتدُّ بها، ولذا كان نهج السلف إعمال المصالح فيما لا نصَّ فيه، وفي تقديم الأَوْلى ودفع الأضرِّ، وكانوا يضبطون بها الاجتهاد؛ سواء في مسالك العلة أو عند توهم تعارض النصوص.
ـ النقد الحاد لتأصيلات علمية وممارسات عملية في الجوانب الدعوية وغيرها تقوم على نصوص ظاهرة وقواعد شرعية معتدٌّ بها؛ سواء ما تعلق منها بمسائل الولاء والبراء، أو بمسائل الاحتياط وسد الذرائع، ونحو ذلك بداعي حدوث التجاوز في تطبيقها تطبيقاً ملائماً من قِبَل بعض الفئات في الساحتين العلمية والدعوية، فتجاوزوا السبيل فارِّين من الإفراط إلى نقيضه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولو أردنا أن نحلِّل البواعث الحقيقية المؤدية إلى ذلك الإخلال المنهجي الصارخ، والتراجع باسم المراجعة في دعوات أولئك الفضلاء الذين يحملون همَّ نصرة الدين ويعملون على التمكين له وإعلاء شأنه؛ لوجدناها تكمن ـ على تفاوت بين الأفراد في التلبُّس بها ـ في جوانب عدة، لعل من أبرزها:
ـ الانهزامية أمام صولة الأعداء من أهل الكفر وغلاة المبتدعة في وقتنا، في مقابل ضعفٍ ظاهر وحالة تخلف شديدة تعاني منها أمتنا، والتأثر بالشبهات التي يطرحونها من خلال عمليات تلبيسٍ فائقة الدهاء، وبدلاً من التركيز على عرض الإسلام وتقديمه للبشرية كما أراده الله ـ تعالى ـ هداية للعالمين، فقد انهزمت من الداخل تلك الفاضلة في الغالب الأعم وبقيت في غالب الآحايين في دائرة المدافع الذي يحاول أن يبرِّئ نفسه ومنهجه من النقص والغلط! فأُتُوا من حيث أرادوا السلامة، وقديماً قيل: من مأمنه يؤتى الحذر.
ـ الوقوع في أسر الجماهير ومتابعتها لا القيام بقيادها، وفي أحيانٍ رحمتها والإشفاق عليها؛ من خلال محاولة إبقائها في دائرة المقبول وعدم الوقوع في المخالفة؛ خوفاً من مزيدٍ من الشطح من جهة، ومن وقوعها تحت تأثير براثن أعداء الأمة والفرق الضالة والمذاهب الهدامة من جهة أخرى، مع قلة الناصح المعين الذي يبادر إلى التنبيه على جوانب القصور ولا يكتفي بسلوك نهج التبجيل في البيئات القريبة التي يعيش في وسطها كثير من أولئك الأفاضل.
ـ السعي الدؤوب لترك التقوقع وتجاوز الأطر الضيقة التي يعيش في أجوائها كثير من العلماء والدعاة حتى صار لكل طيفٍ دعوي علماؤه ودعاته. ومع علوِّ همة هذا التوجه في تجاوز هذا الإشكال في هذا الجانب إلا أن الملحوظ أن كثيراً منهم نتيجة تباين أبناء الأمة في أخذ الكتاب بقوة في جانب الأصول والفروع لم يستطيعوا الحفاظ على انضباطهم المنهجي والذين كانوا من ركائز شُدَاتِه في الماضي، مما أفقدهم رصيد الثقة في أوساط بيئاتهم الدعوية، وفي المقابل لم يستطيعوا أن يجدوا لهم موطن قدم في توجيه البيئات الدعوية الأخرى التي أرادوا اقتحامها والولوج إلى التأثير العالمي من بوابتها نتيجة التصنيف المسبق من جهة ومعاملة تلك التيارات لهم بمبدأ الشك والريبة من جهة أخرى.
ـ ضعف البناء التأصيلي وقلة البضاعة المنهجية والفقهية لدى كثير من المتصدرين لمخاطبة الجماهير وساحات الحوار مع أهل الأهواء، ولدى كثير من أصحاب القرار في دوائر العمل الإسلامي، ومما زاد الأمر سوءاً تعقيدات الواقع ودقة التخصص فيه، مما جعل أشخاصاً يكادون أن يمتلكوا في تخصصهم كل شيء بصورة قد تصل إلى حدِّ الإبهار، ولكنهم في خارج التخصص لا يكادون يملكون شيئاً، فأوقعهم التصدر من غير ما تقصد غالباً في البعد عن الضوابط والأطر الشرعية الحاكمة أيّاً كان الأمر؛ إفراطاً أو تفريطاً.
ـ انزواء كثير من العلماء الربانيين عن التأثير في كثير من ساحات الواقع المعاش والتي يمكنهم أن يسدوا فراغاتها من جهة، وقيام جهات متعددة بتقزيم مساحات عملهم وإمكانية تأثيرهم داخل الأمة بعامة، وفي أوساط تيارات العمل الدعوي ومؤسساته بخاصة، مما أدى إلى تصدُّر الجهلة وأنصاف المتعلمين وبعض ضعيفي الاستقامة المنهجية أو السلوكية، والذين بتعالمهم والتصاقهم بالقنوات الإعلامية ودوائر التوجيه يكادون أن يسيروا بالأمة وبجيل دعوتنا المباركة بوعي أو بغير وعي نحو متاهات الجهالة بصورة متناغمة مع مرامي أعداء الأمة من خارجها ومن يدور في فلكهم من أهل الأهواء والشهوات من داخلها، والذين ما يزال مفكروهم في مراكز الأبحاث المختلفة يوصونهم بتقديم أهل التسامح والاعتدال من العلماء والدعاة؛ زعموا! وتقرير مؤسسة راند الأخير بعنوان: (بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي) خيرُ شاهد.
ولعل من أبرز ما ساعد على هذا الانزواء ـ غير الطبيعة الشخصية وحدوث التقصير الذاتي ـ سطوة التيار العلماني والبدعي، وما يسمى بالحرب على الإرهاب، مما أدى إلى تخوف كثير من أهل العلم والدعوة على نفسه من التضييق والمكر إن هو تصدَّر للبيان وبادر بدأب إلى تعليم الأمة ورفع جهلها وتحذيرها من خطر أعدائها.
ـ غيرة بعض الدعاة على وحدة الأمة وسعيهم الدؤوب للتوحيد بين طوائفها؛ سنة وشيعة ومتصوفة، ومع نبل هذا التوجه وسمو مقاصده، إلا أن اتخاذ هؤلاء الفضلاء موقفاً وسطاً بين تلك الطوائف والتركيز على ما يعدونه نقاط الوفاق وصمتهم عن مسائل الاختلاف المنهجي الحاد وعدم تبنِّيهم معالجات واعية ومناصحات صريحة ومسؤولة، إضافة إلى ممارسة عدد من رموز الحوار من الفرق الأخرى مبدأ التقيّة من جهة أو أنهم معتدلون فعلاً لكن لا وزن لهم ولا تأثير في أوساط بني جلدتهم مما جعل الضرر منصبّاً على طائفة أهل السنة والتي تصدر هؤلاء الأفاضل لتمثيلها إن من جهة تعميق الفرقة بين هذه الفئة المتبنِّية لهذا النهج وبين عامة العلماء والدعاة، وإن من جهة التشكيك ببعض الثوابت وزعزعة بعض المسلَّمات في ذهنية جيل الصحوة؛ تبريراً للتصريحات والمواقف التي اتخذها هؤلاء تحت شعار المراجعة وتقويم المسيرة! وإنْ في خسارة فئات عريضة من جيل الصحوة وعامة الأمة الاستفادة من جدية بعض تلك الرموز الفاضلة وحضورها القوي عبر الساحات الإعلامية المختلفة؛ نظراً لمبادرة كثير من الدعاة إلى التشكيك في سلامة نهجهم وكثير من أطروحاتهم في المراحل المتأخرة، حتى صار كثير ممن يبادر إليها من جيل الصحوة يطالعها بعين الملاحظ لا المستفيد.
وفي ظني أن علماء الأمة ومفكِّريها ودعاتها مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالبدار إلى معالجة جادة لهذه الظاهرة التي صارت تمثل مشكلة في جسد الصحوة العلمي والدعوي والتربوي؛ سواء أكان ذلك في إطاره المباشر المتعلق بتلك الفئة الفاضلة التي سلكت هذا المسلك أم في إطاره غير المباشر المتعلق بأثر تلك المشكلة في أوساط جيل الصحوة وعامة الأمة.
وليس المقام في هذه المقالة مقام ذكر معالجات لهذه الظاهرة، وبخاصة في إطارها المباشر، إذ الظن أن ذاك ليس بخافٍ على من يتصدّر لذلك من أهل العلم والدعوة، وأرى أن الأهم من وسائل المعالجة التنبيه على بعض ضوابط المعالجة ومفاتيحها، ولعل من أهمها:
ـ ضرورة تصفية النية والانطراح بين يدي الله ـ تعالى ـ وطلب عونه وتوفيقه؛ لتحقيق معالجة مثلى تُدرأ بها المفسدة، ويكون رائد المرء فيها الوصول للحق لا الانتصار لذاتٍ أو جهة.
ـ تعميق الثقة وتقوية العلاقات الإنسانية الدافئة مع هؤلاء الفضلاء كون ذلك مدخلاً لمصارحةٍ مسؤولةٍ متعمقةٍ حول القضايا والتجاوزات الشائكة من منطلق المحبة الصادقة والرغبة في تجاوز ما قد يقع فيه كلا الطرفين من تجاوز أو هفوة، على أن الثقة لن تقوى والعلاقات الحميمة لن توجد من مجرد ابتسامات وقتية باهتة، إذ لا بد من أن تثمر تلك العلاقة مناشط عملية مشتركة تخدم الأمة من جهة وتحول دون القطيعة وظلم تلك الرموز الفاضلة أو حصارها ممن اعتاد على القبول الكلي أو الرفض المطلق وتمنع من انغماس تلك الفئة الفاضلة في مزيد من التراجع باسم المراجعة.
ـ تحديد محل النزاع مع هؤلاء الأفاضل؛ حتى ينحصر النقاش في مسائل الأصول ومناهج الاستدلال، وحتى يتم الإعذار في مسائل الاجتهاد ولا تكون سبباً لحدوث تباين أو مفارقة، وهذا ما يتطلب تحريراً لهذا من ذاك، إذ الخلط الظاهر لدى أعداد كبيرة من أهل العلم في هذا الجانب أورث التشديد فيه حرجاً في أحيايين كثيرة في واقع الحياة العملية وهو ما أوقع كثيراً في التراجع بداعي المراجعة.
ـ العمل على رفع روح الممارسة النقدية الناضجة في أوساط الأمة بعامة، وجيل الصحوة المباركة بصفة خاصة؛ حتى يتم التمكن من التمييز البين بين المقصد والوسيلة، وبين الشخص والفكرة؛ تطبيقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عند ما جاءه الشيطان: «صدقك وهو كذوب» (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للصحابي الجليل أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ حين وقع مرة في زلل: «إنك امرؤ فيك جاهلية» (2) ، وإزالة الإشكال الناجم من عدم إدراك وجود فروق ظاهرة في قدرة الأشخاص على أداء الأدوار المختلفة، إذ قد يكون المرء خطيباً باهراً لا محدثاً، ومدركاً جيداً لواقعه لا فقيهاً، والتفريق بين الممارسة النقدية لحالة ماضية لا ينبني عليها جانب عملي، ولا يختلج في النفس عند طرحها جنوح نحو الإقدام أو خوف منه وبين نقد حالة راهنة يرافق الناقد في أحيان كثيرة ضغوط عاطفية جامحة وتمتزج فيها الرغبة الدعوية بغياب بعض جوانب الحقيقة، ويختلط فيها الشخصي بالحكم الشرعي وبمصالح الأمة العليا.
وإذا حدث مثل ذلك فإنه سيعني تباعاً إعادة النظر في كثير من جوانب البنية التربوية الحالية، وتهيئة جيل الصحوة لكثير من الصدمات القادمة التي قد تكون أكثر قوة ومفاجأة.
ـ وزن الأخطاء بموازين شرعية صحيحة وترك تضخيمها أو تعميمها، وفي مقابل ذلك التركيز على الإيجاب وإعطائه المساحة التي يستحقها تناولاً وممارسة، والفرح الصادق بالصواب فرحاً ينبني عليه إشادة بالصواب ومبادرة جادة في التشجيع والدعم بل والمشاركة.
ـ الحذر من التعامل بردّات الفعل في الجانب الشخصي، إذ كثيراً ما يصدر عن مثل هؤلاء الأفاضل كلمات ومواقف قاسية أو ممارسات إقصائية للآخرين؛ إما ظناً بعدم الاستجابة لهم وتلبية الآخرين لدعواتهم في برامجهم وأنشطتهم التي برزوا فيها، وإما رغبة في عدم إحداث زوبعة على ضفاف البرامج التي يقيمونها بين من أقصي من العلماء والدعاة وبين بعض المدعوين والذين قد يمثلون بُعْداً عالمياً أو طائفياً أو فئوياً مهما وجدت عندهم من ملاحظات منهجية أو علمية، وإما لتحسس نفسي وشعور بالغضب من بعض الشخصيات لكلمة سمعت عن هذا أو ذاك، ونحو ذلك من المبررات التي ما لم يتجاوزها مريد الإصلاح مهما كان فيها من الحق فإنها ستضخم البون وتعظم خندق المفاصلة وستضفي على كثير من الجوانب الشخصية أبعاداً منهجية وهي ليست كذلك.
ـ ضرورة فهم نفسيات أولئك الأفاضل كلاً على حدة، إذ مع الذكاء الحاد الذي يمتاز به كثير منهم فإن السِّمَة العظمى المحركة لكثير منهم هي العاطفة الجياشة والاعتداد بالرأي والتعويل العالي على الجماهير في قضية الإصلاح والتغيير والجنوح نحو الاستقلال والفردية مهما كان الزيّ الذي يبرزه ويتحلَّى به بعضهم موضوعياً، ولذا فإن المكون الأعظم لمفتاح المعالجة هو الدعم والتشجيع للممارسة الفردية المنضبطة، وتكثيف الجانب العاطفي، ومراعاة المتطلبات النفسية؛ كالحاجة إلى التقدير والإكرام والثقة والمحبة الصادقة وتثمينٍ عالٍ للإنجازات المتعددة والكفاءة المتميزة والقدرة العالية. والإشكالية في هذا الجانب أن كثيراً من هؤلاء الفضلاء لديه مقدار عالٍ من الارتياب في جانبٍ انضافَ إليه من جانبٍ آخر كثير من الشواهد العملية والقولية الصادرة عن الآخرين، والناجمة عن خطأ أو سوء فهم أو ضعف اتصال، والتي بدورها أسهمت بفاعلية في زيادة الفجوة وتعميق حدة المشكلة، ولذا فإن إيجاد معالجة حقيقية سيتطلب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً ومن واجهات علمية ودعوية متعددة حتى يتم تجاوز الأزمة أو التخفيف منها بدرجة كبيرة.
أما جوانب المعالجة غير المباشرة فهي كثيرة، لعل من أبرزها:
ـ ضرورة مراجعة بيئة الدعوة التربوية والعلمية والتركيز فيها على تعميق الخشية والعناية بأعمال القلوب والتأصيل العلمي والمنهجي المتعمق؛ لأن أصل البلوى ومنبت الخلل ـ سواء لدى المتراجعين أو ردّات الفعل غير المقبول بعض صورها لدى مخالفيهم ـ مردّ عامته إلى هذا الجانب.
ـ فقه هدي السلف فقهاً متعمقاً يحيله من مجرد فتوى حول نازلة قد يكون لها ظروفها الزمانية والمكانية التي تحول دون استصحاب تطبيقها في عصرنا إلى منهج حياة تستحضر فيه حقيقة التعبد، ويعظم فيه الدليل الثابت، ولا يستطال فيه على الأصول أو يمزج فيه ثابت بمتغير.
ـ إجلال علماء الأمة ودعاتها الربانيين، والعمل على الأخذ الجاد عنهم، وإعادة دورهم القيادي والتوجيهي في أوساط الأمة بعامة وفي أوساط جيل الصحوة بخاصة؛ سواءً أكانوا من داخل التيارات الإسلامية أم من خارجها، مهما وقع أحدهم في زلة أو صدرت عنه هفوة لا تخرجه عن إطار أهل السنة والجماعة ما دام رائده الحق ومبتغاه تعظيم الرب ـ عز وجل ـ في مقابل السعي الدؤوب لإزالة الإشكلات الناجمة عن تقديس الأشخاص أو رفضهم بالكلية، وعن عدم التفريق بين العلماء والوعاظ، وأهل الفقه والنظر والمتخصصين في جانب علمي أو دعوي أو تربوي أو خيري أو واقعي؛ حتى لا تصدر الأمة وأجيال صحوتنا المباركة عن أنصاف المتعلمين ـ ممن يقفون على منبر إعلامي أو هم في موقع المسؤولية الدعوية ـ، والذين في أحيان كثيرة ـ مهما حسنت النوايا ـ يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ـ ربط الأمة بالمنهج الإسلامي الراشد، الذي يدور فيه المرء مع الحق حيثما دار، تبعه من تبعه، وأعرض عنه وجفاه من جفاه؛ لأن من أعظم أسباب المرج في الوسط الدعوي إزاء تلك التراجعات مردّه إلى التعلق بالأشخاص، ومعرفة الحق بالرجال لا الرجال بالحق، وهو أمر من المتوقع في المستقبل القريب أن تزداد آثاره السلبية مع تفشي ظاهرة الخوف والقلق من الثبات على الحق في ظل الحملة الصليبية المعاصرة للحرب على الإسلام باسم مكافحة الإرهاب، والتي أصبح كل عامل للإسلام بصدق مهدداً بشكل جاد بالتعرض للتضييق والأذى، ووجود محاولات لإغراء بعض الفضلاء وشراء ذممهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وحالات من التعجل لدى بعض الدعاة ومريدي الإصلاح في قطف الثمار وإعادة دفّة قيادة الأمم للإسلام مما لا يتلاءم مع المنهج النبوي للإصلاح والتغيير.
وفي الختام: فالموضوع جلل، وعلى هؤلاء الفضلاء أن يعلموا أنهم بمقدار ما نفعوا دعوتنا المعاصرة بإسهاماتهم المتميزة وأنشطتهم المحمودة ومواقفهم الرائعة وبمزيد من المراجعات الجادة، بمقدار ما أسهموا في مزيد من التمزيق لتيار أهل السنة وتفريق الصفوف وتشتيت العامة ولبس الحق بالباطل؛ لأنهم يتحدثون باسم العلم والسنة بخلاف غيرهم، وزيادة حجم الهوة في أوساط قياداته العلمية والدعوية، وفي الظن أنهم الأقدر على تجاوز الكثير من الآثار السلبية الناجمة عن ذلك؛ لما يتسمون به من ذكاء وحكمة، ويتحلون به من تجردٍ وثوبة إلى الحق حين ظهوره لهم، ولما يحملونه من هَمِّ رصِّ الصفوف وتوحيد الكلمة حتى يتم تمكين الأمة واستعادتها الرفعة المنشودة.
اللهم يسِّر لأمتنا من أمرها رشداً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وصلى الله وسلم على النبي المجتبى وعلى آله وصحبه أجمعين.(237/7)
الموقف من التفجير في بلاد المسلمين
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد طُلِبَ مِنِّي كتابة كلمات في بعض أحداث التفجيرات الأخيرة التي حدثت في دولة عربية أفريقية، فاعتذرت لعدم إلمامي بدوافعها ومَنْ خلفها ومسوغاتها وحقيقتها؛ فلما أُلح عليّ آثرت أن أكتب شيئاً حول منهج التفجير دون أن أُعَلِّق ذلك بحادثة معينة، أو فئة معينة؛ فأقول مستعيناً بالله: إن كثيراً من الأحداث التي لا يمليها شرع ولا عقل ينبغي أن نتساءل عن دوافعها الحقيقية يوم تشير أصابع الاتهام فيها إلى الإسلام أو إلى شخصيات إسلامية.
وينبغي أن نراعي في هذا التساؤل أموراً منها:
ـ هل الخبر جاءت به وسائل إعلامية موثوقة؟ لأن الله أمرنا بالتثبت، قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] .
ـ فإن كانت موثوقة؛ فهل الحقيقة على ما ذكروا أم أنهم غُرر بهم وأُوهِموا أمراً مّا تريده جهات متحكمة دون أن يدركوا أبعاد ما فعلوه؟
ولست أدعو بهذا إلى إنكار الواقع أو الظاهر، لكن يجب النظر في الحوادث بعقل وعلم مع اعتبار القرائن، فبعض الجناة ربما بدرت عنهم أعمال لا تمتُّ للشرع بصلة، ومع ذلك يحاولون تسويغها باسم الشرع، مع أنه قد يصدر في أفعاله عن محض هوى، أو بغية انتقام مِنْ ظُلْمٍ وقع عليه أو على بعض ذويه، غير أنه يحاول فيما بعد أن يصبغه بصبغة شرعية، شأنَ كل مجرم وجانٍ جنى على من يراه مجرماً ثم دعاه داعي الهوى والنفس الأمارة إلى تسويغ عمله بخلع لباس شرعي على صنيعه.
وقد يحدث أن يكون تحركه ابتداء لنصرة ما يظنه ديناً، دون بصيرة أو علم.
ولا كبير فرق معتبر؛ فالجامع بين الاثنين هو جهل كل منهما بالدين. تجد أحدهم لم يجلس في حِلَقِ العلم، ولم يتربَّ على أيدي العلماء الربانيين، ولا عرف الفروق والتقاسيم، ولا درس مقاصد الشريعة، ولا ألمَّ بقواعدها المقررة، ثم يريد إقامة دولة الإسلام دون أن يستند إلى فتوى عالم رباني معتبر، بل ربما رمى أولئك العلماء بالتُّهم والنقائص حتى تصدق دعواه، ويعذر في هواه! فعمرك الله..؛ كيف تقصد إلى ذلك المقصد العظيم ولست أهلاً للنظر فيه فضلاً عن القيام به؟!
متى كان التفجير والتكفير سبيلاً للإصلاح؟
هب أن النظام في تلك الدولة لا يطبق الشرع؛ فما ذنب المجتمع والأمة؟
كيف تُهدر دماءٌ محترمة، وتٌزهق أنفس معصومة بحجج واهية؟
ما المصلحة التي سوف تجنيها فئة مستضعفة من مقارعة دولة متغلبة؟
هل سلك من هو أشجع منهم - صلى الله عليه وسلم - هذا المسلك مع من هم أظهر كفراً وأعظم معاندة من صناديد قريش بمكة حال الاستضعاف قبل الهجرة؟
وهل يظن منصف أن تفجير مبنى أو قتل سائح ـ وإن لم تكن له شبهة أمان ـ سوف يسقط دولة ويقيم نظاماً؟
ألا يعتبر هؤلاء بتجارب مريرة سبقتْ، عاد أصحابها يعترفون بخطأ مسلكهم بعد خراب البصرة وضياع البصيرة؟
إننا لا ندعو إلى إقرار الباطل، ولا إلى ترك منابذته والاستسلام له، ولكن يجب أن يكون ذلك بسبيل مشروع، لا بترويع الآمنين وقتل ضعفة معصومة دماؤهم وأموالهم.
لقد صبرت رسل الله على دعوة أقوامهم ما صبروا؛ فهذا نوح ـ عليه السلام ـ لبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً داعياً لم يزهق روحاً ولا قتل كافراً..؛ فكم صبرت أنت؟!
إنها دعوة للتعقل والنظر في عواقب الأمور والعمل بمنهج الإسلام الحق في الدعوة وسلوك منهجه في التغيير على بصيرة، وإلاّ فإن النية الصالحة ـ إن كانت حقاً صالحة ـ وحدها لا تكفي، حتى تكون على منهج النبوة وسبيل المؤمنين.
لقد مكث نبينا - صلى الله عليه وسلم - بضع عشرة سنة في مكة ومعه رجال لم يكن أحدهم ليتأخر في تقديم روحه نكاية بالكفار لو كان ذلك مشروعاً؛ فليس أبناء اليوم واللهِ أعظم شجاعة وأكثر غيرة على الدين منهم، بل آثر بعض الصحابة أن يفرَّ بدينه إلى أرض البعداء صيانةً لنفسه من الأذى.
ثم إنّ الناظر لدولة الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة يجد فيها إبّان قوة الدولة فئتين من الذين يترصدون المؤمنين ويؤذونهم: طائفة تظهر الإسلام وتبطن الكفر، وزعيمهم عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، وهؤلاء لم يُتعرض لهم، أخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يظهرونه من الإسلام، بل خلع قميصه ليكفِّن به زعيمَهم ومتولي كبرهم.
وأما الفئة الثانية فممثلة في بعض الكفار من اليهود الذين آذوا رسول الله وآذوا عموم المؤمنين سباً؛ نثراً وشعراً، وقائدهم كعب بن الأشرف، ولمّا كانت دولة الإسلام قائمة في المدينة أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعباً بذنبه وجريمته وحده، فكان اغتياله الذي لم ينل غيره من أعوانه ونظرائه وموافقيه ومن هم على ملته، بل تُرُصِّد الرجل وحده ونيل منه دون إهدار لحرمة من سواه، ولم يتكرر هذا منذ بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى مات. الأمر الذي يدلك على أنها قضية عين لها أسبابها وظروفها وملابساتها الخاصة.
فكيف يسوغ إذاً أن يُترصد من يظهر الإسلام والأصل صدقه، والواجب أخذه بالظاهر حتى لو كان منافقاً؛ فليس شراً من ابن سلول؟ وكيف يسوغ قصده من قبل طائفة مستضعفة لم تتحيز في دولة ولم تقم لها شوكة؟
إخوة الإسلام: إن الواجب تجاه الولاة والحكام هو السمع والطاعة ما لم يخلعوا ربقة الإسلام، وإن جاروا وظلموا؛ فجلدوا الظهر وأخذوا المال، فإن رأى راءٍ ـ وكان من أهل النظر ـ أن الإسلام من بعضهم براء فلا يسوِّغ له ذلك منابذتهم حتى يجتمع معه في رأيه أهل الرأي المعتبرون كما قال - صلى الله عليه وسلم -: « ... إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان» (1) . فلا يكفي أن يرى أحدٌ الكفرَ وحده، ولا يكفي أن تراه جماعة أهل الرأي وليس لهم فيه دليل بيِّن لا امتراء فيه، بل مجرد شُبَه وتأولات لا ترقى إلى اليقين القاطع والبرهان الساطع.
فإنْ توفر شرط الخروج فلا بد من اعتبار المصلحة والمفسدة المترتبة عليه، والتي لا تتصور أبداً في تفجير مبانٍ أو مرافق عامة، ولا في قتل أشخاص مستأمنين أو لهم شبهة أمان. وإذا كان الأمر كذلك فسبيل التفجير سبيلٌ ينبغي أن يعلن رفضه في المجتمعات الإسلامية.
بل إن سلوك مسلك التفجير في بلاد الإسلام لا يخلو من اقتراف كبائر موبقة، فقلَّ أن يسلم من تلك الحوادث نفر ممن يظهر الإسلام، أو لا سبيل إلى تيقُّن كفرهم، واقرأ سورة الفتح وتأمل قول الله ـ تعالى ـ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] ، فكيف تعارض النصوص العاصمة للدماء بشُبَه وأمور لم تفهم على وجهها، كقياس من أفسد القياس على مسألة التترُّس التي لم يتصور المستدِلُّ بها صورتَها المُجْمَع عليها؛ والتي تقضي باستئصال شأفة جيش المسلمين إن هم أحجموا عن رمي الترس؛ فيجعل بعض هؤلاء رميَ الترس جائزاً مطلقاً ويزعم أن الأمة أجمعت على هذا الباطل! ثم يقيس عليه ما هو فيه؛ فيعارض النصوص الصريحة بلا أصل مؤسس ولا فرع محقق. في الصحيحين أن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ لمَّا صَبّحوا الحُرَقات من جُهينة أدرك رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فقتله ـ لظنِّه أنه قالها تعوذاً ـ فلما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقال: لا إله إلا الله؛ وقتلته؟!» ، قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!» ، فما زال يكررها عليّ حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذ، فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين ـ يعني أسامة ـ قال رجل: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] ؟ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة.
وتأمل في قصة قتل موسى ـ عليه السلام ـ للقبطي الكافر الظالم في دولة ملحدة رئيسها فرعون، ومع ذلك يسأل موسى ربه أن يغفر له، بل قال ـ عليه السلام ـ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15] ، ولم يسمِّه جهاداً بل حكم على نفسه بالظلم، وسوف يعتذر بهذا الفعل عن الشفاعة الكبرى يوم القيامة، هذا مع أنه لم يُرِد قتله، فماذا يقول هؤلاء المترخصون الخائضون في دماء المسلمين والآمنين؟ فالله المستعان!
وإذا دخل الناس في الفتن وتلوثت الأيدي بالدماء شق بعدها الخروج منها؛ ففي صحيح البخاري، عن ابن عمر أنه قال: «إنَّ مِنْ ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حله» .
وفيه أيضاً عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصبْ دماً حراماً» .
قال ابن حجر: وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامداً بغير حق: «تزود من الماء البارد! فإنك لا تدخل الجنة» .
وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر: «زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم» ، قال الترمذي: حديث حسن، وقد أخرجه النسائي بلفظ: «لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» ، قال ابن العربي: «ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك؛ فكيف بقتل الآدمي؟ فكيف بالمسلم؟ فكيف بالتقي الصالح؟» (1) .
ألا فليتِّقِ الله مَنْ ركب هذا الخطر، ولَيتُبْ إلى الله منه قبل أن يلقى ربه بدماء معصومة، تجعله في مصاف المفسدين الذين اجترح ما اجترح نكاية بهم.
إن علينا لزوم منهج الأنبياء والمرسلين: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] ، وأما الجهاد فإنه قائم ماضٍ إلى يوم القيامة، وله أماكنه وشروطه كما في فلسطين والعراق وغيرهما، وليس من الجهاد في شيء ترويعُ الآمنين، واستباحةُ دماء المسلمين.
هذا واللهَ أسأل أن يلهمنا البصيرة في الدين، وترَسُّم خطى أهل العلم الراسخين، من الصحابة المرضيين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(237/8)
تحفيظ القرآن، آم تعليم القرآن؟
د. محمد بن عبد الله الدويش
إن من أهم معالم النشاط الدعوي في مجتمعات المسلمين اليوم انتشار حِلَق تحفيظ القرآن الكريم ومدارسه؛ فلا تكاد تجد بلداً من بلاد المسلمين إلا وفيه جمعيات وحلقات تُعنى بتحفيظ القرآن الكريم للذكور والإناث.
والعودة للقرآن الكريم وحفظه والاعتناء به ظاهرة صحية؛ فقد كان من منهج السلف الاعتناء بحفظ القرآن الكريم. قال الإمام النووي: «كان السلف لا يعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن» (1) .
وعدَّ ابن جماعة الأدب الأول من آداب طالب العلم في دروسه: «أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها» (2) .
ومن يتأمل نتاج هذه الحلقات والمدارس يرى ما يسر ويستحق الإشادة؛ فأعداد الحُفَّاظ والحافظات في نمو وازدياد.
ونتاج هذه الحلقات والمدارس يتجاوز مجرد الحفظ، بل هي تترك أثرها في توجيه الناشئة واستقامتهم، وهي في الأغلب لا تقتصر على مجرد تدريس القرآن الكريم وحفظه، بل يصحبها العديد من النشاطات والبرامج التوعوية.
والعمل البشري مهما بلغ من النجاح والتميز يحتاج إلى التسديد والتطوير والارتقاء.
ولعل من مجالات التطوير تغيير المسمى من (تحفيظ القرآن الكريم) إلى (تعليم القرآن الكريم) .
وتغيير المسمى من وجهة نظري ليس مجرد أمر شكلي، بل هو موضوعي له مبرراته، ومن أهمها:
ـ تصحيح تلاوة القرآن الكريم لمن لا يجدون الوقت للحفظ؛ وبالأخص ممن تقدمت أعمارهم.
ـ تنمية القدرة على فهم القرآن الكريم وتدبره، وهو أمر لا يحظى بالعناية اللائقة به في مؤسسات تحفيظ القرآن الكريم؛ فيتخرج الطالب والطالبة من هذه المؤسسات وهو قد أتم حفظ القرآن الكريم أو معظمه، دون أن يتلقى أدوات فهم القرآن الكريم وتدبره، ويقتصر الأمر على توجيه أو تأكيد في الكلمات والمناسبات العامة.
إن المسلم بحاجة لأن يتعلم أدوات فهم القرآن الكريم، وهو أمر إن لم يتم في مؤسسات تحفيظ القرآن فأين تكون العناية به؟ وهل يسوغ أن يترك ذلك للجهد والقدرة الشخصية للطالب والطالبة فحسب؟
ـ التربية على أدب القرآن وخُلُقه، وهو منهج السلف رضوان الله عنهم؛ فقد روى الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن قال: «حدثنا من كان يُقرِئنا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يقترئون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل. قالوا: فعلمنا العلم والعمل» (5) .
إنه مجرد رأي آمل من إخواني الذين شرفهم الله بتعليم القرآن الكريم أن يتأملوه، وهم في النهاية أعلم بشؤونهم، والله ولي التوفيق.
__________
(1) المجموع شرح المهذب ج 1، ص 38.
(2) تذكر السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (166 ـ 167) .
(3) رواهما البخاري 5027، 5028.
(4) البخاري 6479، ومسلم 143.
(5) مسند الإمام أحمد (22971) .(237/9)
أطفال الحجارة
محمد الحسناوي
أحمد: هل سمعتِ بِأَطفالِ الحِجارةِ يا أُختي دُعاء؟
دعاء: نعم؛ شاهدتُهم على شاشةِ التِلْفاز، يَرشُقونَ أَعداءَ اللهِ بِالحجارة.
أحمد: إنهم من أبناءِ فِلِسطينَ الحبيبة.
دعاء: إنهم يُدافعونَ عَنِ المَسجِدِ الأَقصى وقُبَّةِ الصخرة، مَسْرَى سَيِّدِنا مُحمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
أحمد: هل تَستطيعُ الحجارةُ أن تُوَاجِهَ الدَّبّاباتِ الحديديَّة، والجيوشَ المُسلَّحَة؟
دعاء: ليسَ الخوفُ مِنَ الحَجَرِ وحدَه. إنما الخوفُ منَ الإنسانِ الذي يَحْمِلُ هذهِ الحجارة، فلا ينهزِم ولا يَتراجَع ولا يَنكسِر.
أحمد: شجاعةُ هؤلاءِ الأطفال تُحرِّكُ الجبالَ الجامِدة!
دعاء: هذا هو الهدف مِنْ حِجارةِ الأطفال بعدَ أنْ ضَعُفَتْ عزِيمَةُ الرِّجال.
أحمد: شاهدتُ النِّساءَ تَجمعُ الحجارةَ وتَحْمِلُها لِلأطفال كي يَرجُموا بِها الأَعداء.
دعاء: إنها بِشارةٌ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ الحجرَ والشجرَ سوفَ تُقاتِلُ معنا، وسوفَ يَنصُرنا اللهُ عليهم مهما طالَ الزمن.
أحمد: اللهُ أكبر.
يا فارِسَ الحَجَرْ
يا راكِبَ الخَطَرْ
عَيناكَ مِنْ شَرَرْ
يُمْنَاكَ مِنْ قَدَرْ
كَبِّر على الفُجَرْ
يا أَيُّها القَمَرْ
إذا الدُّجى اعْتَكَرْ (1)
نَصْرٌ مِنَ اللهِ
لِكُلِّ مَن نَصَرْ
مَسْجِدَهُ الأَغَرْ (2)
(القُدْسُ) وَ (الجَليلْ)
مِنْ فِعْلِكَ الجَميلْ
هَزَّهُما الصَّهِيلْ (3)
لَمَّا هَوى المَغولْ
وانْدَحَرَ التَّتَرْ
هلْ يَنْطِقُ الحَجَرْ
هلْ يَكْتُمُ الشَّجَرْ
وَعدٌ مِنَ اللهِ
في مُحْكَمِ السُّوَرْ
لِكُلِّ مَنْ صَبَرْ
مَرحَى لِكُلِّ طِفْلِ
مَرحَى لِكُلِّ شِبْلِ (4)
حامَوا عَنِ الدِّينِ
وَعَنْ فِلِسطينِ
بالدَّمِ والحَجَرْ
* * * * *
* * * * *
* * * * *
__________
(*) فقدت الأوساط الأدبية الشاعر الإسلامي الكبير محمد الحسناوي، وذلك قبل شهر ونصف الشهر تقريباً، وكان الأديب الحسناوي من أكثر أدبائنا تواصلاً مع (^) ، وله أكثر من عشرين عملاً ما بين ديوان ومجموعة قصصية ورواية ودراسات نقدية، نسأل الله الرحمة لأديبنا، وجنات النعيم. (المحرر الأدبي) .
(1) الدجى اعتكر: اشتدّ سواد الليل. (3) الصهيل: صوت الفرس.
(2) الأغر: الشريف. (4) شبل: ولد الأسد.(237/10)
المعتقدات والمصالح
أ. د. جعفر شيخ إدريس
قال صحافي ومحلل سياسي عربي كبير: إن السياسة الخارجية الأمريكية تقوم على المصالح وأنها لذلك لا تتغير، وكأنه كان يعني أن أيديولوجيات الساسة الحكام لا تغير من هذه الحقيقة. كثيراً ما نسمع مثل هذا الكلام الذي يفرِّق أصحابه بين المعتقدات والمصالح، وكثيراً ما يقصدون به التقليل من قيمة المعتقدات. لكن الحقيقة أن هنالك صلة قوية بين الأمرين؛ فالمعتقدات والتصورات هي العدسات التي ينظر الناس بها إلى الأمور فيقررون ما هو مصلحة للوطن وما ليس بمصلحة؛ فالشيء الواحد قد يبدو مصلحة بمنظار اعتقادي معين ويبدو مفسدة بمنظار آخر.
هل من مصلحة أمريكا أن تنحاز لإسرائيل وتعدها كأنها ولاية من ولاياتها التي لا قيام لها بنفسها والمحتاجة دائماً إلى مساعدة يتكلفها دافع الضرائب الأمريكي؟ إذا نظرت إلى الأمر من ناحية المصلحة المادية ــ كما يفعل بعض الأمريكان الآن ــ فإنك ستقول: إن هذا الموقف ليس من مصلحتها؛ بل إن مصلحتها في أن تصادق العرب الذين هم أكثر عدداً، وأعظم سوقاً، وأكثر موارد طبيعية. لكن سياسياً كبوش وإن سلم لك بذلك قد يقول ـ بناء على معتقده ـ: لكن أمريكا بلد نصراني ونحن نعيش في زمان أظله ظهور السيد المسيح، ونحن نعلم أنه سيظهر في هذه المنطقة؛ فمن مصلحتنا أن نهيئ الجو لظهوره. وهذا لا يكون إلا بالانحياز لإسرائيل حتى لو كان انحيازاً على حساب بعض المصالح المادية التي ذكرتها.
ولولا أن المعتقدات ذات تأثير كبير على نظرة الناس إلى المصالح لما تعددت الأحزاب والجماعات في البلد الواحد؛ فالإنجليزي أو الأمريكي الذي ما يزال يؤمن بالاشتراكية أو ببعض جوانبها يرى من مصلحة وطنه أن يتبنى سياسة تحدُّ من غلواء الرأسمالية، ويبني على ذلك تصوره لسياسات عملية تحقق هذه الفكرة. أما أنصار الفكر الرأسمالي فيرَون أنه لا طريق غيره إلى نهضة اقتصادية يستفيد منها كل المواطنين مهما أدت إلى تفاوت شاسع في نصيبهم من الثروة.
ولأن كثيراً من الناس يتصورون المصلحة تصوراً يجعلها مستقلة عن المعتقدات؛ فإنهم يفترضون أن ما يسمى بالمصلحة الوطنية هو شيء واحد يشترك في رؤيته كل المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم. فكما أن اختلافاتهم الاعتقادية لا تجعلهم يختلفون في رؤيتهم للشمس والقمر والجبال والأشجار؛ فكذلك لا تمنعهم من الاتفاق على ما هو مصلحة للوطن.
مما لا شك فيه أن هنالك مصالح ظاهرة قد يراها كل الناس رؤية واحدة بغض النظر عن معتقداتهم؛ فكل الناس يتفقون الآن فيما يبدو على أنه، إن صح قول العلماء بأن ما تنفثه المصانع والسيارات من غازات قد أثَّر على طبقة الأوزون، وأن هذا قد أدى إلى زيادة في درجات الحرارة العالمية، وأن هذا الأمر إن لم يُتدارَك فسيؤدي إلى ذوبان الجليد، ومن ثم إلى زيادة مياه البحار وما ينتج عن هذا من فيضانات ستغرف بسببها بلاد كثيرة.. أقول: إن هذا أمر قد يتفق الناس على كونه ضاراً إن حدث.
أقول (قد) لأن مؤلفًا أمريكياً (1) يقول: إن من يسميهم بغلاة النصارى، الذين يمثلون ما يقارب الأربعين بالمئة من أنصار بوش، يرون في كوارث مثل: تسونامي، وارتفاع درجات الحرارة، ومشكلات الطاقة والديون الأمريكية، والنزاع بين العرب وإسرائيل، وغزو العراق، يقول: إنهم يرون في كل هذا مبشرات بقرب مجيء المسيح. فهي إذن ليست بالشيء الذي يسوؤهم أو الذي يحاولون تغييره.
لكن ما كل ما يُعَدُّ مصلحة أو مفسدة هو من هذا النوع الذي قد تراه كل النظرات الأيديولوجية رؤية واحدة.
ما النظام الاقتصادي المناسب للبلد؟ ما نوع التعليم المفيد لأبنائنا؟ ما الأقطار التي يجب أن نحسن علاقاتنا بها؟ إلى أيِّ مدى تتاح حرية التعبير، وحرية الحركة، وحرية الاعتقاد، وحرية التنظيامات والاجتماعات، وحرية العلاقات الجنسية، وحرية التجارة؟ هذه وأمثالها من الأمور التي لا يتوقع اتفاق كل المواطنين عليها إذا كانت بينهم اختلافات أصولية دينية أو مذهبية أو فلسفية؛ إذا كان بعضهم مسلمين وبعضهم نصارى وبعضهم علمانيين؛ بل حتى إذا كان بعضهم شيعة وبعضهم سنة. إنه ليس في الانتماء إلى الوطن أيّاً كان نوعه، وليس في الإخلاص له مهما كان قدره، ما يحتم على المواطنين إجابة معينة عن تلك الأسئلة، بل إن أجوبتهم عليها لا بد أن تتأثر بمعتقداتهم وتصوراتهم.
إن المواطَنَة ليست مجرد انتماء شكلي إلى أرض يحدها من الشمال كذا ومن الجنوب كذا ومن الشرق كذا ومن الغرب كذا. هذا انتماء حيواني يستوي فيه البشر والبقر والوطن والزريبة. إن المواطنين بشر لا بقر؛ بشر لهم قيمهم وتصوراتهم ومعتقداتهم، واهتماماتهم التي تتجاوز حدود الحاجات المادية. والوطن ليس زريبة؛ وإنما هو مأوى قومٍ حَدَثَ بينهم قدرٌ كبير من التجانس في القيم حتى صار من الممكن وصفهم في الجملة بخصائص معينة تميزهم عن غيرهم.
غير ذلك كان يقال لنا إلى زمان قريب، وكان يظن كثير منا بسببه في سذاجة أن الديمقراطية تسوي بين المواطنين بغض النظر عن أعراقهم وألوانهم ومعتقداتهم وقيمهم، بل تعدهم جميعاً مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وتحل مشكلة اختلافاتهم في المعتقدات والقيم والفلسفات بصناديق الاقتراع. لكننا نرى اليوم كيف أن الغرب يضيق بالمواطنين المسلمين مع أنهم قلة، وكيف أنهم صاروا يطالبونهم بأن يجعلوا إسلامهم إسلاماً فرنسياً أو إنجليزياً أو أمريكياً، وكيف بدؤوا يتحدثون عن قيمهم الغربية وبعتزون بها ويدافعون عنها ويدَّعون تفوقها على القيم الإسلامية، ويطلبون ممن لا يشاركهم فيها ألاّ يشاركهم في الوطن الذي يعدونه في أساسه وطناً لأصحاب تلك القيم. والذين يعرفون الديمقراطية يعرفون أن هذا ليس بالشيء الجديد عليها، بل كانت كذلك منذ نشأتها في أثينا، ومنذ أن عادت إلى أوروبا وأمريكا. إنها لم تكن أبداً ديمقراطية لكل الناس مهما كانت الخلافات بينهم؛ إنها اليوم ديمقراطية علمانية ليبرالية لا مكان فيها لمن لا يلتزم بهذه القيم. سيقول الذين لا يعلمون: كيف وهم لا يمنعون أحداً من دخول مجالسهم التشريعية حتى لو كان مسلماً؛ كما نرى اليوم في بريطانيا والولايات المتحدة؟ نعم، إنهم يفتحون الباب لكل أحد ولكن بشرط أن يكون ملتزماً بتلك القيم السياسية. ولكن حتى هذا لن يدوم طويلاً إذا ما بدأ المسلمون يكثرون ويزداد تأثيرهم. لقد كانوا إلى وقت قريب يتحدثون عن المجتمع المتعدد الثقافات؛ أما اليوم فقد كثر الحديث عن ضرورة التجانس والتلاحم، ويعنون به التلاحم الثقافي. وصاروا يأخذون بسبب ذلك على المسلمين لِكون دينهم يمنعهم من مثل هذا الذوبان في مجتمع غير مسلم، ويجعلهم يعيشون في عزلة اختيارية عنه.
نعم، إن الوطن يكون أكثر استقراراً، وأكثر قدرة على التطور وعلى الدفاع عن نفسه كلما كان أكثر تلاحماً وكلما قلت الخلافات الأصولية بين مواطنيه، لكن ما كل اتفاق على مبدأ أو ثقافة ـ أيّاً كانت ـ هو مما ينتج هذا التلاحم. بل إن بعض المعتقدات والثقافات من شأنها أن تحدث هي نفسها عداوة بين المنتمين إليها.
ونعم إن الاتفاق على معتقد معين حتى لو كان عبادة للأوثان ينتج ما يسميه القرآن الكريم مودة بين المعتقدين، وقد يدعوهم لأنْ يتحدوا في مواجهة ما يعدونه خطراً عليهم أجمعين.
بيد أن الذي يُحدِثُ التلاحمَ الحقيقي بين الناس ويجعل منهم إخوة متحابين هو المعتقد الحق الذي لا تناقض فيه. أما المعتقدات الباطلة المتناقضة فمن شأنها أن تفرق هي نفسها بين المنتمين إليها، حتى إنك لتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. ولذلك قال أحد السلف (أهو مجاهد؟) مفسراً كثرة الانشقاقات بين الخوارج: «لقد كان أمر الخوارج باطلاً فاختلف، ولو كان حقاً لأْتَلَف» أو كما قال.
نحن لا ندعو إلى ما يدعو إليه الغربيون من إجبار كل الناس على الالتزام بالقيم السائدة في المجتمع؛ فقد تسامحت مجتمعاتنا الإسلامية كلها مع اليهود والنصارى وسمحت لهم أن يعيشوا بين ظهراني المسلمين. إن المهم لاستقرار المجتمع أن تكون هنالك ثقافة غالبة تبنى عليها السياسات الاقتصادية والسياسية والتربوية التعليمية والخارجية وغيرها.
ولذا فإن علينا أن نرفض رفضاً باتاً ما يدعونا إليه الغربيون (مما يفعلون عكسه في بلادهم) من جعل مجتمعاتنا ممزقة بين معتقدات دينية وعلمانية متناقضة متحاربة، لا يكون معها استقرار ولا تطور، بل تظل نهباً لكل طامع.(237/11)
الرؤية المركَّبة (3ـ3)
د. عبد الكريم بكا ر
ذكرتُ في المقال السابق أن حلَّ مشكلات التعليم يحتاج إلى (رؤية مركَّبة) ، وذكرت بعض الأفكار حول تشخيص أوضاعنا التعليمية على نحو مقارب، واليوم أتحدث ـ بإذن الله تعالى ـ عن بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن يُستفاد منها على صعيد بناء رؤية شاملة للارتقاء بالتعليم، وذلك عبر المفردات الآتية:
1 ـ لا ينبغي للرؤية المركبة أن تبدو وكأنها خلطة معقدة، تجعل صانعها بمثابة من قيل فيه: «تكلَّم كثيراً ولم يقل شيئاً» ، وهذا يحدث حين نتبع أسلوباً مبتذلاً في معالجة قضايا شديدة التعقيد، على ما نراه اليوم في مجالس سمرنا، حيث يتحدث من شاء فيما يشاء من غير أي معرفة جيدة ولا تخصص ولا استعداد مسبق ...
2 ـ لا ينبغي كذلك لطرح مشكلات التعليم ـ وكل المشكلات الأخرى ـ أن يبدو وكأنه (تفريق دمه على القبائل) ، وذلك حين نقول: المعلمون والأهالي والطلاب والحكومات والأثرياء وأصحاب المدارس الخاصة، والاستعمار وأصحاب المصانع والمؤسسات ... كل هؤلاء مسؤولون عن ضعف التعليم! لأننا في هذه الحالة نعلِّق الإصلاح على جهات كثيرة، لا يمكن التواصل والتفاهم معها حول قضية التعليم، حيث إن لكل جهة من تلك الجهات همومها الذاتية والشخصية التي تحجبها عن التفاعل المطلوب مع منظِّري إصلاح التعليم، كما أن بحث الأمور بهذه الطريقة يشجع الجميع على التهرب من المسؤولية، كما أنه يؤدي إلى شيوع القنوط واليأس من إمكانية التقدم، وهذا ما أشعر أننا قد ابتلينا به فعلاً في معظم مجالات الإصلاح، مع الأخذ بعين الاعتبار أن من يطرح الأمور بهذا الأسلوب ليس مخطئاً على مستوى المضمون، حيث إن المسؤولين عن ضعف التعليم فعلاً هم كل من ورد ذكرهم، ومعهم آخرون نذكرهم، لكن الخطأ يكمن في أسلوب المعالجة ومدى نجاعة خطة الإصلاح.
3 ـ من المهم أن نقول دائماً: كلما كثرت العناصر المؤثرة في خطة المعالجة صارت المجازفة فيها أكبر، وصار اليقين أقل، وذلك يعود إلى طبيعة عمل الدماغ وطبيعة تعامله مع المعلومات؛ ومن هنا فإن كل ما يقال حول إصلاح التعليم ينبغي أن يُتلقى على أنه شيء ظني تخميني اجتهادي، وعلينا أن نتوقع دائماً أن يشوبه شيء من الوهم والخلط والمبالغة، وإن الواقع يشهد على صحة هذا؛ فلو أردنا أن نزن أوراق الدراسات والبحوث والندوات والمؤتمرات التي أقيمت حول إصلاح التعليم في أي بلد؛ لوجدنا أنها تُحسب بالأطنان، ومع ذلك فإن هناك من يقول: إن التعليم يتدهور ويتراجع.. أكتب هذا من أجل عدم التعويل كثيراً على اجتهاداتنا وبحوثنا، ومن أجل المجاهدة للاحتفاظ بعقول مفتوحة تجاه من يخالفوننا الرأي في مسائل الإصلاح المختلفة.
4 ـ من المهم ونحن ننظِّر لعملية إصلاح التعليم أن نحدد بدقّة المكان والبلد الذي نتحدث عن مدارسه وجامعاته، فمع أن معظم المؤسسات التعليمية يعاني من مشكلات مشتركة إلا أن المطلوب ليس بحث ما هو مشترك، وإنما بحث ما هو خاص. وإنما أقول هذا لأن المعالجة الدقيقة تقتضي بالإضافة إلى الرؤية الشاملة أن نحدد مداخل الحركة الإصلاحية ونقاط الارتكاز فيها، وأن نحدد العوامل الأكثر تأثيراً؛ من أجل منحها اهتماماً وتركيزاً أكبر. ونحن نجد في هذا الإطار أن مدخل إصلاح التعليم يكون في بعض البلدان في تحسين سويّة المعلمين ووضع محفزات لاجتذاب أفضل العقول والكفاءات إلى هذه المهنة، كما هو الشأن في معظم الدول الفقيرة والفقيرة جداً. في كثير من بلدان إفريقيا تجد رغبة جامحة لدى الطلاب في التعلم، لكن التجهيزات المدرسية تقترب من العدم، أما في الدول الثرية والمتوسطة؛ فتجد أن ضعف الرغبة وفقد الحماسة للتعلم هي المشكلة الجوهرية. هناك دول تعاني من كل أشكال الضعف في المؤسسات التعليمية، إلا أن كل شيء يمكن أن ينهض ويتحسن إذا تحسنت الخطط التنموية والأداء الاقتصادي، وذلك كي يشعر الدارسون في المدارس والجامعات أنهم يجدون بعد التخرج فرصاً للعمل أفضل من الفرص التي يجدها (المهنيون) الذين لم يتلقوا إلا حظاً يسيراً من التعليم.
وهكذا نجد أن الوقوف على نقاط الضعف الأساسية في التعليم يتطلب فهم ما عليه الوضع في بلدٍ ما، وما عليه الوضع في بلد آخر، وإلا كنا أشبه بـ (الحلاّق) الذي يمارس الحجامة وقلع الأضراس وختان الأطفال.
5 ـ لا نستطيع ونحن نتحدث عن الرؤية المركبة في مجال التعليم إلا أن نتحدث عن (التعليم الأهلي) ، حيث إنه ينمو بصورة مستمرة، وله مستقبل كبير؛ هذا التعليم يملك إمكانات هائلة تؤهله من أن يقود عملية التغيير التعليمية على مستوى بلد بأكمله، كما أنه في الوقت نفسه يستطيع أن يقدِّم أسوأ النماذج في هذه المهنة الشريفة، إن له وضعاً مختلفاً فعلاً عن التعليم الحكومي، وهذا ما نشاهده اليوم؛ حيث نجد القليل من الجامعات والمدارس الأهلية التي تقدم النصح والتوجيه والتعليم الجيد، والكثير منها يتخذ من الطلاب سلعة للمتاجرة، ويهان فيها المدرِّسون ويظلمون على نحو يخجل الإنسان من الحديث عنه، ولهذا فإن أساس تطويره يقوم على المقولة التالية: «ادعمه وراقبْه» ، المزيد من الدعم من قِبَل الحكومات والمزيد من الضوابط الصارمة والمراقبة المستمرة.
6 ـ مهما طوّرنا وأصلحنا في مؤسساتنا التعليمية، فإنها ستظل تعاني من شيء من القصور، وذلك يعود أساساً لقصور القائمين على الإصلاح وقصور المنظِّرين له، ومن هنا فإنه لا بد من إيجاد نظام نستدرك من خلاله على قصور النظم التعليمية، وهذا النظام يتمثل في التعليم (الخيري) و (اللاربحي) ؛ حتى يجد الطالب الفقير والموهوب المدرسة الممتازة التي يدرس فيها بأقساط ميسرة أو من غير أن يدفع أيَّ شيء، وهذه الفكرة في منتهى الأهمية والحيوية؛ وهي فكرة إسلامية عريقة، حيث إن العمل الخيري في الفلسفة الإسلامية لا يقوم من أجل سدِّ حاجات الناس على نحو كلي، فهذا عسير للغاية، وليس فيه مصلحة، وإنما يقوم بوصفه كرَّة ثانية من أجل الاستدراك على عدالة اجتماعية منقوصة بسبب قصور النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وقد كان المسلمون في يوم من الأيام رواداً عظاماً في التعلم المجاني والخيري، ثم دار عليهم الزمان حتى أصبحوا في ذيل القافلة على صعيد هذا المجال المهم، ولا بد من استعادة ذلك الدور إذا ما أردنا للوضع التعليمي لدينا أن يسير في الاتجاه الصحيح.
والله ولي التوفيق.(237/12)
حوار مع الداعية المجاهد نجم الدين فرج أحمد المشهور بـ (كريكار) .
حاوره: عبد الله العلوان البدري
استراتيجيات المحتل الأخيرة، هي (تكتيكات) الهروب بعد الفشل
أولاً: هل يمكن إعطاؤنا نبذة عن فضيلتكم لنعرّف القراء بكم عن قرب:
الاسم: نجم الدين فرج أحمد المعروف باسم (فاتح كريكار) .
من مواليد 1956 السليمانية/العراق.
أحمل بكالوريوس في اللغة العربية، وماجستير في علم الحديث، مع دراسة الشرع عند علماء المنطقة.
أتحدث اللغات الكردية والعربية والفارسية والأردية والإنجليزية والنرويجية.
لي أكثر من عشرين كتاباً بين دواوين شعرية وتاليف وترجمات، وأكثر من ستمائة درس وخطبة وندوة.
انتمىت سياسياً مثل بقية أفراد أسرتي إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني مبكراً، لكن بعد التعرف على الإسلام في السبعينيات من القرن الماضي انضممت إلى العمل الإسلامي، وبقيت في صفوفه حتى عام 1988م حيث قررت بعد فاجعة حلبجة الانضمام إلى الحركة الإسلامية في كردستان بقيادة الشيخ عثمان بن عبد العزيز، رحمه الله، وبقيت في صفوفها قيادياً في المكتب السياسي حتى عام 2001م، وبعد تفكك الحركة أسسنا مع بعض الإخوة (أنصار الإسلام) .
أمام ضغط الواقع لجأتُ عن طريق الأمم المتحدة إلى النرويج منذ 1991م، وتعرضت في السنوات الخمس الأخيرة إلى ضغوط أمريكا والنرويج بزعم التعاون مع جماعة الطالباني مما أدى ذلك إلى تقديمي إلى تحقيقات أكثر من عشر مخابرات دولية وإلى سجن وتجريد من كافة حقوقي المدنية، وأنا الآن قعيد بيتي منذ أربع سنوات، لكني شديد المعارضة للاحتلال الأمريكي، وأنا أول من أفتى في الأكراد بجواز العمليات الاستشهادية ضد الاحتلال الأمريكي.
ثانياً: الأسئلة:
البيان: ما هو حجم الحرب الطائفية التي يتعرض لها أهل السنة في العراق، ومدى تأثير ذلك على الواقع السكاني والسياسي سواء في العاصمة بغداد أو غيرها؟
3 لا شك أنها حرب عقائدية استئصالية تراكمت فيها أحقاد تاريخية أفرزتها عقيدة دينية منحرفة؛ مع الشعور الطاغي بالمظلمة الحديثة التي ارتكبتها حكومة البعث بحق الدعاة إلى الإسلام من كل المذاهب. أما حجمها فهو بالتأكيد كارثي على أهل السنة؛ لأن الطرف المهاجم والشيعة العراقيين الموالين لإيران عقائدياً أو سياسياً معبؤون بأيديولوجيا ومتهيئون نفسياً، ومنظمون عسكرياً، وحركتهم رسمية حكومية، ولهم ظهر دولة تتدخل بقضها وقضيضها لصالحهم. فالطرف الشيعي لا ينقصه في فرض شروطه شيء! وبالمقابل نجد أهل السنة العرب مشتتين فكرياً لتفرق مرجعيتهم في العالم السني، ومتعبين نفسياً رغم بسالتهم؛ لأنهم يشعرون بخذلانِ مَنْ خَلْفَهم لهم!! ومن الناحية العسكرية فهم رغم أنهم بفضل الله متفوقون، لكنهم مشغولون جماعاتٍ بالاحتلال؛ فهم في جهد جهيد يومياً لإبقاء اختلال الاحتلال مستمراً حتى يُجبَر المحتل على المغادرة، بعدها يُنتظَر منهم أن يُحْدِثوا ـ بإذن الله ـ توازناً حقيقياً مع الشيعة. وسنرى كيف يفعلون!
حجم الحرب كبير؛ أما تأثيرها من الناحية السكانية فهو موجود خصوصاً على بغداد، وقد يطول هذا التأثير لمدة تقصر أو تطول؛ لأن التهجير والاستيطان من سماتها الواضحة، ولكن مع ذلك لن يكون أقوى من تهجير البعث لأكراد كركوك مثلاً أو تهجير مجاميع الشيعة أنفسهم إلى إيران وعودتهم ثانية إلى أماكنهم.
أما التأثير السياسي فلا أرى لذلك تأثيراً يذكر؛ لأن مشروعات الاحتلال ـ بفضل الله تعالى ـ فشلت على صخرة المقاومة؛ فكيف بالمشروع الشيعي الذي هو استنساخ للمشروع الإيراني الفاشل داخلياً في إعطاء الحل المناسب لقضايا الاختلافات القومية والمذهبية في إيران وغيرها؟ وهو مشروع متقوقع خارجياً لا يقدر على التخلص من موروثه التاريخي لصالح أي تجديد خوفاً من التفكك والتشتت.
البيان: ماذا حققت الولايات المتحدة الأمريكية من مشروعها في العراق؟ وهل ما تحقق من المشروع الفارسي في العراق أكثر مما تحقق من المشروع الأمريكي؟
3 لم تحقق الولايات المتحدة الأمريكية من مشروعاتها في العراق بفضل الله وقوته شيئاً! أليس الفشل واضحاً وفاضحاً من ادعائهم الفارغ لتحكيم الديمقراطية؟ وهو أمر يرى العالم كله فشله!! أو كذبهم الفاحش في جلب الأمان، والادعاء الأكذب في دعوى بناء الرفاهية للإنسان العراقي! أليست هذه مشاريعهم؟! لم يحققوا للعراقيين شيئاً قياساً بتدميرهم، وكل الذي حققوه لهم ولأنفسهم نسبي. فانتصارهم على الجيش العراقي وإن كان مكسباً فقد كان انتصاراً تقنياً وليس انتصاراً في عقيدة القتال ولا إرادة الحرب. نعم! حققوا لأنفسهم سلب خيرات العراق ونهب ثرواته، ولكنهم اضطُرُّوا تحت ضغط المجاهدين أن يصرفوا ما سرقوه في حماية أنفسهم؛ فلم يتحوَّل المسروق إلى ميزانية تعينهم على إنجاح مشروعاتهم الاستعمارية العدوانية.
أما ما تسميه بالمشروع الفارسي فأنا لا أوافقك على التسمية. أنا أحب أن أسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية. فالفارسية لغة لخُمْسَيِ الإيرانيين وخُمْسَيْ أفغانستان وكل طاجيكستان وربع الأوزبك.. والفارسية حتى كقومية لم تغلب التشييعَ في زمن الشاه مثلما غلبت القومية الطورانية والعربية والكردية مثلاً إسلامَ هذه الشعوب لفترة من الزمن، وأنا لم أجد في (إيران الثورة) مشروعاً حضارياً أو سياسياً فارسياً، هناك التشييع بأمته ودولته.. وسؤالك: هل حقق هذا المشروع (الإيراني في كل حال) في العراق أكثر مما حققه المشروع الأمريكي؟ نعم! إن ما حققته إيران عبر المجلس الأعلى (عبد العزيز الحكيم) و (قوات بدر) الغدارة وفصائل أخرى شيعية وعبر (جلال الطالباني الكردي) وعبر (أحمد الجلبي العلماني) التابع للبنتاغون أكثر بكثير مما كان ساسة إيران يحلمون به. عندنا في القرى الكردية عندما يجد الكردي أرضاً صلدة لا يستطيع حرثها يدفن فيها حبات من سفرجل فتشم الخنازير البرية رائحتها فتأتي إليها ليلاً تحرثها بحثاً عن مبتغاها!! هذا ما فعله الإيرانيون بإدارة (جورج بوش) الحاقد الغبي. الإيرانيون استطاعوا بدهاء وتقية جر الأمريكان إلى المنطقة وجعلوهم أداة تدمير لعدوَّيْ إيران اللدودين وهما (الطالبان) في شرقهم و (صدام) في غربهم، فحرث الأمريكان لهم الأرض، وورطهم الإيرانيون فيما هم فيه. لم يحصل الأمريكان والمحتلون على مبتغاهم غير قشور، والإيراني زرع مشاريعه كيفما شاء وسط الشيعة ووسط الأكراد ووسط السنة في العراق بصوره مباشرة حيناً، أو بصورة غير مباشرة، وأحياناً بصور أخرى.
البيان: هنا تغلغل فارسي كبير في الساحة العراقية من ضمنه تجوال لكبار ضباط المخابرات الإيرانية والمسؤولين عن إدارة الحرب الطائفية (ومنهم من ألقي عليه القبض داخل القنصلية الإيرانية) فما هو حجم الوجود الفارسي في العراق على المستوى السياسي والعسكري والديني؛ بما في ذلك كردستان العراق؟
3 لا تَعُدْ بي إلى جاهلية البعث البائد وتعريفها التعسفي للثورة الشيعية في إيران بالمجوسية وآية الله الخميني بالدجال، ولا تجرني إلى استراتيجية أمريكا الجديدة لمواجهة من يسميهم القوميون العرب المنهزومون اليوم بالرافضة لإثارة غيرة السلفيين وحمية المتدينين السنة لتوظيف طاقاتهم بوجه المشروع الإيراني، فأنا وأنت ننطلق قبل كل شيء من رؤيتنا الشرعية؛ حيث علّمنا ديننا أن الوصف الذي لا يأتي من صفة الشيء مباشرة لا يكون صحيحاً: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] أو يأتي به غير صادق مجرب {قَالُوا إن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] .. أنا عندي وصف لإيران جاءني من وجودي في إيران في عهدَيِ الشاه والثورة الشيعية، ثم خالطت أرباب الثورة لأكثر من خمس عشرة سنة، كنت في بلادهم إماماً وخطيباً، كنت حراً كما كنت عندهم سجيناً، كنت ضيفاً على سكرتارية رفسنجاني، كما كنت هارباً مختفياً منهم، تعرفت على علمائهم في قم كما تعرفت على سياسة توجهاتهم الحزبية في طهران، وكنت مدرساً للفارسية؛ فأنا بفضل الله ـ عز وجل ـ أميز لهجاتها، فكنت أدخل ثنايا الشعب الإيراني بشتى توجهاتهم الفكرية؛ فإيران عندي (مشروع دولة شيعي) وليس مشروعاً فارسياً.
أما عن تغلغل الإيرانيين وتأثيرهم؛ فحدث ولا حرج! والتأثير الأول هو التأثير التوجيهي المرجعي؛ لأن المراجع الأربعة الكبار في العراق: (السيستاني الإيراني الأصل، وسعيد الحكيم ـ عم عبد العزيز الحكيم ـ الموالي المطلق لإيران، وإسحق الفياض الأفغاني الأصل، وبشير النجفي الباكستاني الأصل) كلهم مرتبطون بمركز قم الإيراني وليس بمركز النجف العراقي الذي أصبح بإعدام الصدرين يتيماً؛ فكل توجه وتوجيه لا ينطلق مع توجيه مراجع قم أو لا يكون منسجماً معه يُضيَّق عليه إلى درجة يكاد أن لا يُسمع في أوساط الشيعة. ثم التأثير السياسي وهو على كل فصيل من فصائل الحركة الشيعية العراقية، ويأتي مباشرة من المشروع الشيعي الإيراني حتى يصبح عند البعض كالمجلس الاعلى فرضاً واجب التنفيذ؛ لأن المجلس أداة إيرانية حالها حال مؤسسة حرس الثورة الإيرانية داخل إيران؛ فلا فرق مطلقاً في تنفيذ أوامر المرشد الأعلى آية الله الخامنئي عند قوات القدس في طهران أو عند قوات بدر في العراق. والتأثير الثالث أو الميدان الثالث هو التوجيه المباشر لإيران عسكرياً لكل أوساط شيعة العراق، بصورة مباشرة وبأفراد إيرانيين أو بالمجلس الاعلى، وغير المباشر مع التيار الصدري وحزب الدعوة مثلاً؛ حيث تقوم إيران باستقبال مجموعات الشباب الشيعي لديها لتدريبهم ثم إعادتهم وتسليحهم وتمويلهم. وتدريبهم إما أن يكون على أيدي الحرس الثوري الإيراني مباشرة، أو من قِبَل مدربي فيلق بدر الذي أنشأته إيران جناحاً مسلحاً لـ (للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) عام 1982م. ثم التأثير المالي؛ حيث يأتي التمويل مباشرة من إيران أو من مشروعاتها التجارية الرسمية مع الحكومة العراقية، أو من خلال مشروعات الحكومة العراقية، التي يسيِّرها (لُوبيُّها) الشيعي فتعود مالاً مستثمراً يدخل في ميزانية المشروعات التي تخدم التوجه الإيراني. وكل هذا يكون تحت تصرف المخابرات الإيرانية ومراكز الدراسات والبحوث التابعة لوزارتها أو لوزارة الحرس الثوري. فتأثير إيران ليس فقط في المفاصل، بل في النخاع الشوكي من المفاصل.
البيان: تروِّج الإدارة الأمريكية للتجربة الكردية من حيث ضمان الحريات الشخصية واحترام حقوق الإنسان؛ فما مدى مصداقية هذه المواصفات في إطار كردستان العراق؟
3 هذا أيضاً من أكاذيبهم؛ أخزاهم الله ومن والاهم. واللهِ ما مرت ببلاد الأكراد فترة أتعس من هذه الفترة التي تمتاز بضياع الوجود وانعدام الوزن الفكري والسياسي. ضيع الأكراد في هذه الفترة في كردستان كل ما يمت إلى تاريخهم بصلة من خلق ودين وتاريخ نضال واستقلالية القرار! تقزَّم النضال القومي الكردي في ظل الحزبين العلمانيين المتناطحين (حزب الطالباني، وحزب البرزاني) إلى إقليمية شملت ثلثي ولاية الموصل القديمة، وانشطرت هذه الإقليمية الصغيرة لتكبرها إدارتان متقاتلتان، ثم فشلت الإدارتان في الاحتفاظ باللغة والأرض والتاريخ، ولم يوظفوا الاقتصاد في البناء؛ كما فشلوا في بناء أصغر مؤسسة دستورية معتبرة أو استقلالية للقضاء أو حرية للتعبير، فضيعوا الأول والتالي. والأمان الذي عاش الحزبان في أجوائه لم يكن منهما، بل كان من الأمريكان والبريطانيين الذين استحدثوا منطقة حظر الطيران العراقي (نو فلاي زون) بعد تحرير الكويت ضغطاً على (صدام حسين) ونظامه. يكفي أن تعرف أن كردستان اليوم رسمياً تابعة للحكومة العراقية؛ فالأكراد لهم اليوم ثلاث وزارات لحقوق الإنسان، وثلاث وزارات للعدل: واحدة مركزية في بغداد، وواحدة في السليمانية وحكومتها (الجمهورية الاتحادية الوطنية الكردستانية الاشتراكية العظمى) بقيادة جلال الطالباني!! وحكومة (المملكة الكردية البارزانية الدستورية الفدرالية) في أربيل بقيادة مسعود البرزاني! ولنا إخوة في سجون أربيل والسليمانية وقد مر على احتجازهم غير القانوني أكثر من ست سنوات دون محاكمة أو توجيه تهمة إليهم!! ولنا إخوة مثل (طاهر توفيق) في السليمانية وقد أطلق سراحه من سجن أبي غريب عند الاحتلال وأعيد اعتقاله في السليمانية بعد ثلاثة أيام، وهذه هي السنة الرابعة وهو قيد الاعتقال دون توجيه تهمة له أو دون تقديمه إلى المحكمة. فأي كرامة أبقاها الحزبان العميلان في ظل الاحتلال المباشر وغير المباشر؟ وأين حرية الإنسان؟ وقد وجه أستاذ جامعي يحمل الجنسية النمساوية نقداً إلى مسعود البارزاني فاعتقل وحكم عليه الحزب الديمقراطي دون محاكمته بالسجن ثلاثين سنة؛ فبِمَ يفتخرون؟ بسجون في الجبال لعرب وتركمان وأكراد مختطفين لا يعلم عنهم شيئاً غير الله ـ عز وجل ـ ينافسون بها غوانتانامو؟!
البيان: كيف ترون واقع أهل السنة والدين والدعاة في كردستان في ظل الحكومات الكردية المتتابعة؟ هل هناك حرية للدعوة الإسلامية؟ وما مدى حقيقة الصراع الديني العلماني والماركسي هناك؟
3 واقعنا في كردستان أكثر من مأساة؛ فالمجاهدون بعدما ضُربوا في (بيارة) وما حولها في مارس 2003م استشهد منهم حوالي 85 مجاهداً، ثم اعتُقل العشرات منهم في إيران والعراق وما زالوا في سجونهما، والبقية الباقية منهم وصلوا إلى العمق السني في المثلث؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً؛ والحمد لله. أما الإسلاميون الآخرون فلدينا خط دعوي؛ فهم مثل (الحزب الإسلامي العراقي) مع مشروعات الاحتلال، وجماعة الأخ (علي بابير) يمثلون التوجه الإيراني في أكراد العراق وهم أيضاً منخرطون مع الأحزاب العلمانية الكردية في مشروع الاحتلال. ولكن الجو العام في كردستان جو إرهاب رسمي أنشأته الإدارة العلمانية الكردية، وأغلبية العلماء أُبعدوا عن المنابر، وأُغلقت كلية الشريعة الوحيدة في كردستان مع خمسة معاهد شرعية أخرى. الكفر يكاد يكون بواحاً وصارخاً ومهاجماً يشبه انحراف زمن (مصطفى كمال) في تركيا أو فترة الناصرية في مصر، والمحنة الكبيرة أن جيلاً من الأكراد أو جيلين تربوا تربية لا تمتُّ إلى قيم المنطقة الحقيقية بصلة، فلا يعرف الفرد منها لغة ولا ثقافة وهو يردد ما يمليه عليه العلمانيون الذين يسيِّرون دفة الأمور. يتحير أمثالنا في توجيه شبابنا المتبقي: أنوجههم فكرياً أم سياسياً، أم نعلمهم ألف باء الشرع، أم اللغة العربية، أم نواجه بهم الغزو العسكري والسياسي والفكري الذي جاءنا طوفاناً وهم فقراء الفكر والمال؟
البيان: أخذ مشروع الفدرالية مساحة واسعة من التوجهات السياسية في العراق، وقد سيطرت قوات كردية على مناطق حارج إقليمها في ديالى والموصل وغيرهما؛ فهل تجدون من مصلحة الشعب الكردي المسلم الانفصال عن الدولة العراقية؟
3 الفدرالية جاءت حلاً سياسياً وإدارياً لمشكلات (إثنية) في بلدان كثيرة، وجاءت في الأوقات الصحية للشعوب، وهي أقل من نظام الولايات الإسلامية التي كانت مطبقة في زمن العباسيين؛ حتى في الفترات المختلفة من تاريخ الدولة العثمانية؛ وفي زمن السلطان عبد الحمد الثاني ـ رحمه الله ـ مثلاً؛ حيث سار على ما سمي في زمانه بـ (الإيالات) واستمر الأمر على ذلك حتى انقلاب العلمانيين عليه في 1908م. والفدرالية التي ينادي بها أكراد العراق لا أرى فيها ضيراً، على ألا تهضم حقوق الآخرين، وألا يكون على حساب الآخرين، وأن يؤيدها أغلبية الشعب الكردي، وأن يقتنع بها اغلبية العراقيين كي تنجح لتكون مثالاً إدارياً؛ لأن عودة مركزية صارمة لحكومة عراقية في بغداد ـ وإن كنت أراها بعيدة في الوقت الحاضر ـ لا أراها إلا صولجان فرعون يعيدنا إلى الحكم البوليسي لتوتاليتارية البعث، وتجربةُ الأكراد مع الحكومات المركزية في بغداد مُرَّة بالمرة.
أما أن الأكراد سيطروا على مناطق خارج إقليمهم، فيحتاج أولاً أن نحدد الإقليم، وأين حدوده ومن يرسمه، وحسب أي قياس؟ فمثلما بالإمكان أن يقال إن إدارة الأكراد ضمت (قضاء خانقين) في ديالى أو (قضاء مخمور) في صلاح الدين إلى المنطقة الكردية، فكذلك يمكن أن يقال إن حكومة العراق الحالية الموالية للاحتلال لا تريد إعادة جغرافية السكان في محافظات الموصل وكركوك وديالى وصلاح الدين إلى سابق عهدها. واليوم عندما يقول الأكراد إن خانقين ومخمور كانتا قبل البعث من ضمن إقليم كردستان وجاء ضمهما إلى غير المحافظات الكردية خطة لحكومة البعث لتشتيت الوجود الكردي في بعض المحافظات وللحدِّ منه في محافظات أخرى؛ فهي آراء لا تكون بعيدة عن الواقعية إن ساندها دليل.
أما الانفصال عن الدولة العراقية، فرغم أنه في الوقت الحالي غير واقعي؛ لكنني أراه ـ من وجهة نظري ـ حلاً لإنهاء الدم المهراق منذ ثمانين سنة عندما شكَّل الإنجليز العراق بجغرافيته الحالية، وأتى تشرشل بعد مؤتمر القاهرة في 1921م بالملك فيصل حينها من أشراف مكة ونصبه ملكًا على العراق، ورضي الشيعة به مثل رضاهم اليوم بجلال الطالباني؛ كان الأكراد يومها في سعيهم لتشكيل دولة خاصة بهم، تنفيذاً للفقرة الرابعة من اتفاقية سيفر 1920م، ولم يرَ الملك فيصل نفسه قادراً على حكم الأكثرية ما لم يضم إلى حكمه الأكراد باعتبارهم سنة بحيث يصبحون مع الثلث السني العربي نصف العراق أو أكثر، فيحصل التوازن النسبي لمقبلات الأيام، فصار ما صار بإلحاق ولاية الموصل (التي كانت تضم كل كردستان العراق اليوم وزيادة) إلى حكومة بغداد، وحاول الأكراد من يومهم الاحتفاظ على الأقل باستقلالية مناطقهم كأقل محصول. ومنذ ذلك اليوم والحكومات العراقية المتعاقبة تحاول السيطرة على الأكراد وكردستانهم بالقوة، وتطبيق قرارات المركز عليهم، وهم لا يشتركون مع المركز في صنع القرار السياسي، بل كل قرار يأتي معاكساً لأبسط آمالهم. فانفصال الأكراد يريح العرب والتركمان وغيرهم. أما إن كان ذلك غير ممكن اليوم، كما يدعي قادة الأكراد القوميون، فهلاَّ أصبحوا جديّاً عراقيين، ودخلوا معمعة صراعاته برجولة واقتدار! أما مواقفهم الحالية من العراق وما يجري في بغداد فمشينة إلى أبعد حد؛ حيث ينفذون المثل الكردي الذي يقول: (حصتي لي، وآكل مع حصتك) ! فإن كانوا عراقيين فليتصرفوا كعراقيين شرفاء ويتحملوا مسؤوليتهم التاريخية في الواقع العراقي الحالي، لا أن يستغلوا تحري العربي الأمانَ في بلادهم ليطالبوه بالإقامة في السليمانية أو أربيل وهما محافظتان عراقيتان؟! وإن كانوا لا يعتبرون أنفسهم عراقيين كما يوجهون الأكراد ليل نهار فلينفصلوا إن كانوا أحراراً ويريدون إنشاء دولة كردية ويتحملوا عواقب ذلك. أما أن يتأرجحوا لمصالح فليتحروا من أين تؤكل الكتف فهذا عار وشنار يسجله التاريخ عليهم.
البيان: مضت أربعة أعوام تقريباً على المقاومة في العراق؛ فهل ترون مسيرة المقاومة الآن في تقدم، أم في تراجع سواء من ناحية العمل العسكري أو الجغرافي وانتشار المقاومة؟
3 مسيرة المقاومة العراقية مسيرة مشرفة جداً، وكانت أكثر من المتوقع، طوبى لهم! أرى مثل غيري، ويشترك معنا خبراء عسكريون وكُتَّاب ومحللون في نيوزويك وغيرها مثلاً ـ أرى خطاً بيانياً صاعداً في النشاط الجهادي للمقاومة خلال السنين الثلاث المنصرمة، وأرى التوسع في أفق قادة المقاومة الفكري والسياسي، ومزيداً من استيعاب القضية وأبعادها المتعددة نتيجة الدروس الواقعية المخضبة بالدم، وأرى فصائل المقاومة تتقارب بعضها من بعض؛ فأنتم ترون تقارب الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين والجامع وجيش الراشدين، وترونها فصائل متقاربة فكرياً وسياسياً وربما جغرافياً أيضاً، وبعض الفصائل الأخرى القريبة من المجاهدين أو من أنصار السنة هم كذلك. هذا وإن كان الأمر يحتاج إلى المزيد من توحيد الجهود، ولكنَّ من يعرف حجم العمل الجهادي وهو في واقع معقد وخطير مثل واقع العراق اليوم يرى أن هذا التقارب ثمرة جهد لا يستهان به؛ لأن الناس تربوا في جو بعث فرعوني لم يكن من السهل إجراء لقاءات موسعة لتلاقح الآراء وتوحيد العمل التنظيمي والتخطيط لكيفية توجيهه.. وهذا لا يمنعنا من أن نبدي ملحوظة أيضاً بأننا خارج التشكيلات المجاهدة نرى في الفترة الأخيرة شيئاً من تنازل الخط البياني للنشاطات المؤثرة قد يكون سببه تقوقع الاحتلال، في معسكرات حصينة، وسعة انتشار قوات الحكومة التابعة للاحتلال، والانشغال برد الهجمات الهمجية لميليشيات الشيعة، وكثرة الاجتماعات السياسية وغيرها، ولكنني أرى بصورة عامة المقاومة العراقية أوعى من كثير من فصائل إسلامية مقاومة في بعض بلدان المسلمين، وهذا هو المتوقع والأمل بعد الله ـ تعالى ـ فيهم، وهذا قَدَر المقاومة العراقية التي امتُحنت بأسئلة أصعب مما امتُحن به غيرها، امتحان المقاومة ينسجم مع مستواها الاستيعابي الفكري والسياسي في مرحلة الأمة التاريخية هذه. أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يرعاهم بمعيته، وأن لا يَكِلَهم إلى غيره طرفة عين، وأن لا يخيب آمالنا فيهم.
أما من ناحية الانتشار؛ فوالله يا أخي! لا يلامون على عدمه؛ لأن الانتشار العسكري الناجح تخاف منه الجيوش النظامية، ألا ترى كم عقد الألمان من جلسات برلمانهم حتى وافقوا على خروج بعض قواتهم من كابول إلى ولاية قندوز؟ ألا ترى كم يحسب البريطانيون حساباً لإعادة انتشارهم لما بعد وقبل مارس؟ المقاومة تتمنى الانتشار جغرافياً لما فيه من إرهاق عدوها، لكن لا ينبغي أن يكون الانتشار انتحاراً؛ كم تمنيت أن تعود بعض كتائبنا إلى كردستان لإنشاء مأوى للمحرومين من جديد، ولتبدأ جولة جديدة من إثبات الذات بحول الله ـ تعالى ـ وقوته؛ ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
البيان: من المعلوم أن كل حرب أو احتلال ينتهي بتفاوض وانسحاب متفق عليه، والوقائع الكثيرة تدل على أن قوات الاحتلال تبحث عن مخرج لها في العراق؛ فهل هناك نية توحيد لفصائل المقاومة وإعلان واجهة رسمية تفاوض عنهم لجني ثمار هذا الجهاد بخروج المحتل؟
3 في عام 1989م سألت أحد الدعاة المشهورين بعد جولة له مطولة أوصلته إلى الصين والاتحاد السوفياتي، قلت له: هل ترى الروس صادقين في قرار الانسحاب من أفغانستان وهم بقوا سنين أطول في بلدان أخرى احتلوها؟ قال: إن الروس يريدون أن يزحفوا على بطونهم فراراً من أفغانستان، لكنهم يخافون أن يتبعهم أهل الجهاد إلى عقر دارهم. وهذا الكلام ينطبق تماماً على المحتل الأمريكي أيضاً؛ فهم دخلوا العراق بغطرسة وغرور نابعين من الشعور بالاستعلاء العسكري، ونسوا أن في أمتنا استعلاء إيمانياً لا يفوقه استعلاء. أمتنا المسلمة هي الوحيدة بين الشعوب والأمم التي لم تتأثر بالمحتل مهما طال احتلاله ولم ترضَ بأنصاف الحلول معه، ألم يبق الصليبيون في بلاد أمتنا 98 سنة؟ ألم يبق الاستعمار الفرنسي في الجزائر 130 سنة؟ أين هم وما الذي تركوه من بصمات على رؤية المجاهدين في الصراع حسب أدبيات أمتنا العقائدية؟ لا شيء!
نعم! إن الحرب ستنتهي مهما طالت، والمقاومة بإذن الله ـ تعالى ـ ستنتصر، وستدخل بعدها مرحلة أخرى أصعب تطول أو تقصر تحمي فيها ثمرة جهادها، وتكمل مسيرتها نحو الهدف الرباني المنشود، وهذا يتطلب اليوم من المقاومة تصرفاً مسؤولاً يتغاضى ـ توحيداً للكلمة وتجميعاً للطاقات ـ عن بعض حقوقها لمن هم في الساحة معها، لكنهم يريدون الدنيا من الآخرة على أن لا يكونوا عصابة تجني الثمر عنوة أو خلسة أو مؤامرة.
على قيادة المقاومة أن تكظم غيظها وتعلق جراحها وتترفع عما يبدد هالتها المضيئة التي حاكها الجهاد حولها. عليها أن تسرع في توحيد رؤى الفصائل وفي تقديم مشروع دولة متكامل، وأن تهيئ واجهاتها من الآن حتى لا يحدث الهرج والمرج فيختلط شعاع الصابر الصادق مع لمعان مزيف يركب موجة العواطف.
نعم! إن الأمريكان في مأزق حقيقي، واستراتيجية بوش الأخيرة ليست استراتيجية، بل هي تكتيكات الاستراتيجية الأمريكية القديمة نفسها وهي مجربة سلفاً، لكنهم يستخدمونها كآخر رمية؛ والله أعلم. فلئن صبرت المقاومة واصطبرت على جهادها، وطال الزمن على الاحتلال فأرى ـ والله تعالى أعلم ـ أن الاحتلال سيغادر المنطقة العربية العراقية قبل انتهاء سنة 2007م.
أما بالنسبة للتفاوض فلا مانع أن يكون للمقاومة جناح للتفاوض من المدنيين الذين تثق فيهم أغلب فصائل المقاومة من الذين ظهروا، أو من الذين لم يظهروا؛ على أن يعود توقيع كل شاردة وواردة إلى قادة المقاومة حصراً.
اللهم جبارَ السموات والأرض أرنا في قوات الاحتلال الظالمة عجائب قدرتك، وأنزل نصرك الذي وعدت به عبادك المؤمنين على إخواننا المجاهدين الصادقين في كل مكان؛ فقد صرنا ربنا أحوج مما مضى إلى ظل الشريعة نستظل بها في حر الجاهلية ونكشف للناس حقيقة سرابها.(237/13)
سبل التقدم العلمي والتقني في البلاد الإسلامية
إعداد: خباب بن مروان الحمد
المشاركون في الإجابة عن أسئلة التحقيق:
1 ـ د. إيهاب الشاعر: فلسطيني مقيم بأمريكا، متخصص في الحاسوب والاتصالات.
2 ـ د. باسم خفاجي: مصري، متخصص في الهندسة المدنيَّة.
3 ـ أ. د. زغلول النجار: مصري، متخصص في علم التربة والجيولوجيا.
4 ـ د. عبد الله الضويان: سعودي، متخصص في علم الفيزياء.
5 ـ د. عبد الوالي العجلوني: أردني، متخصص في علم الفيزياء.
6 ـ أ. د. نعمان الخطيب: فلسطيني مقيم بالسودان، متخصص في هندسة البترول والتعدين.
7 ـ د. محمد المدهون: فلسطيني، متخصص في تنمية الموارد البشرية.
لا ريب أنَّ من أبرز التحديات التي تواجه أمتنا الإسلامية ذلك الضعف العلمي والتقني إلى حد أن صرنا ندعى بأننا (العالم المتخلف) أو (النامي) ، فأصبحنا عالة على غيرناوللأسف.
(البيان) ألقت الضوء على هذه القضية قناعة بأهمية مناقشة هذا الموضوع بأبعاده المختلفة، وتوجهنا لضيوفنا الكرام بالعديد من الأسئلة:
لماذا تأخرنا ولماذا تقدم غيرنا؟ وما سبل التقدم العلمي والتقني للأمة الإسلامية؟ وهل هناك محاولة احتكار لحصار العالم الإسلامي؟ وكيف نتعدى هذه العقبة إن وجدت؟ وما دور صناعة الرأي والمشورة في عملية الاختراعات؟ ... إلى غير ذلك من المحاور العديدة بإذن الله التي ستناقش هذا الموضوع.
3 مدخل مفيد لكنَّه مؤلم:
هكذا استهلَّ الدكتور الضويان حديثه حول واقع العالم الإسلامي مقارنة مع العالم الآخر، من حيث الأميَّة وميزانيَّة التعليم بالنسبة لحجم الدخل القومي، وميزانيَّة البحث العلمي.
كما أبدى عدد من المشاركين استياءهم لقلَّة المخصَّصات لوسائل التقنية في العالم الإسلامي، ورأى الدكتور إيهاب الشاعر أنَّ تخلُّف العالم الإسلامي في المجال التقني والمعلوماتي أقل من الحد الأدنى الذي بدونه لا تعيش الشعوب عزيزة.
في حين يقول الدكتور العجلوني: إنَّ ميزانيات البحث العلمي في الدول العربية والإسلاميَّة هزيلة للغاية، ولا تُذكر ضمن ميزانيات المؤسسات العلمية العربية كالجامعات إلا من باب استعمال الديكور أو المظاهر؛ فهي للأسف لأغراض الزينة وليس للبحث العلمي الحقيقي.
وعودة لأطروحة الدكتور الضويان؛ حيث يتحدث قائلاً: لا يتجاوز ما تنفقه الدول الإسلامية على البحث والتطوير 0.2% من إجمالي الدخل القومي، وهو أقل بكثير مما تنفقه شركة عملاقة واحدة كشركة سوني اليابانية مثلاً على البحث والتطوير. وباستقراء التغيُّر الحاصل في الدول الإسلامية في هذا الجانب خلال السنوات الثلاثين الماضية نجد أنه ـ مع الزمن ـ يتجه إلى الأسوأ؛ مع كل أسف.
ويدلي الدكتور باسم خفاجي دلوه في هذه القضية فيقول: أبسط معطيات التقدم لدى العالم العربي والإسلامي، تفترض إجادة الشعوب لمبادئ القراءة والكتابة في عالم اليوم، بينما تظهر الإحصاءات ـ الصادرة أخيراً عن المنظمة العربية للثقافة والعلوم ـ أن عدد الأميين في العالم العربي قد وصل إلى سبعين مليون شخص خلال العام الميلادي (2005م) . كما أن نسبة ما ينفَق عربياً على التعليم العالي لا تتجاوز 1% من ميزانيات الدول الإجمالية، وهي نسبة متدنية، خصوصاً مع واقع الأمة الإسلامية.
وقد أظهر تقرير صدر أخيراً عن منظمة اليونسكو أن العالم العربي الذي يصل عدد سكانه إلى 290 مليون نسمة، يوجد فيه أكثر من 40 مليون تلميذ في سن المرحلة الابتدائية، كما يوجد أيضاً ما يقارب من 8 ملايين طفل في سن المرحلة الابتدائية خارج المدارس، أي أن ما يقارب 20% من أطفال العالم العربي هم ممن لا يتلقون التعليم الأساسي اللازم لإجادة القراءة والكتابة. وهذه المشكلة تزداد تفاقماً عندما نعرف أن المجتمع العربي مجتمع شاب، فأكثر من 37% من أبناء العالم العربي أعمارهم دون أربعة عشر عاماً، تبعاً لتقرير اليونسكو نفسه عام 2005م.
ويضيف الدكتور باسم قائلاً: بلغت نسبة الإنفاق على التعليم الأساسي في العالم العربي أرقاماً متدنية مقارنة بباقي دول العالم؛ فإجمالي الإنفاق على التعليم الأساسي في مصر لا يتجاوز 0.6% من ميزانية الدولة أي أقل من 1%، وفي المغرب يصل إلى 2.6%. ويقارن ذلك بالكيان الصهيوني الذي ينفق 2.8% على التعليم الأساسي (أي ما يقارب خمسة أضعاف ما تنفقه مصر) . أما إجمالي الإنفاق على التعليم تبعاً لتقرير اليونسكو عن عام 2005م، فإنه يتراوح بين 1% ولا يزيد عن 6% في معظم الدول العربية.
ويذكر الدكتور زغلول النجار أنَّ السبب الرئيسي لهذا التباين الكبير في متوسط دخل الدول الإسلامية يرجع إلى عامل التجزئة، والكيانات المصطنعة التي رسمت حدودها الراهنة القوى الاستعمارية العالمية (وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا) وحافظت عليها، لتبقى الأمة الإسلامية على هذه الصورة من التفتت الذي لا يمكِّن أياً من دولها من القيام بذاته.
3 سبب إهمال دراسات العلوم التقنية في العالم الإسلامي:
يقدم لنا الدكتور محمد المدهون رأيه باختصار حول ذلك في ثلاث نقاط: التبعيَّة، غياب الحوافز، عدم رعاية المبدعين والأفذاد.
بينما يسهب الدكتور زغلول النجَّار في ذكره لأسباب إهمال دراسات العلوم التقنية فيقول:
1 ـ تفشّي الأميّة بين المسلمين البالغين في هذا العصر بصورة مزعجة تتراوح نسبتها بين 50% و 80% (بمتوسط حوالي 58%) .
2 ـ كثرة ما تحتاجه دراسات العلوم والتقنية من تجهيزات، ومختبرات، وأجهزة، ومعدات، وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هذه الأيام من مبالغات.
3 ــ انعدام التخطيط والتنسيق والتعاون بين مختلف المؤسسات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر.
4 ـ هجرة أعداد كبيرة من العلماء والفنيين إلى خارج حدود العالم الإسلامي؛ وهذا في حد ذاته يمثل استنزافاً لأهم طاقات المسلمين ولأعظم إمكاناتهم.
5 ـ تمزُّق العالم الإسلامي المعاصر إلى أكثر من خمسين دولة بالإضافة إلى أقليات منتشرة في كل دولة من الدول غير الإسلامية تفوق أعدادها مئات الملايين في بعض هذه الدول، واحتلال أجزاء عديدة من أراضي المسلمين؛ مما أدى إلى تشتيت المقومات المادية والروحية والطاقات البشرية للمسلمين.
6 ـ اعتماد الدول الإسلامية على الاستيراد من الدول الأخرى بدلاً من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها؛ مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال المسلمين، واستغلالهم، وفرض السيطرة عليهم من قِبَل الدول الموردة وتكتلاتها الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة.
وتجدر الإشارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يمثل أكثر من 1% من تجارتها الدولية، وأن هناك أسعاراً خاصة تفرض اليوم على واردات العالم الإسلامي بصفة عامة، كما أن ما تدفعه تلك الدول سنوياً في الاستيراد يكفي لإقامة أكبر الصناعات، ولدعم أضخم المشروعات الزراعية والإنتاجية التى يمكن أن تسد حاجة المسلمين كافة، وتغنيهم عن تحكم التكتلات العالمية المستغلة فيهم.
ويضيف الدكتور العجلوني شيئاً من الأسباب التي يرى أنَّ لها دوراً في إهمال الدراسات للعلوم التقنية؛ حيث قال: عدم معرفة الأولويات، وانشغال الشعوب بالملهيات، وأحياناً الشعور بالعجز المطبق عند مشاهدة الهوة الواسعة بين مستوانا التقني والمستوى التقني في الغرب واليابان.
ويرى الدكتور نعمان الخطيب رؤية مغايرة لما رآه بعض المشاركين؛ حيث يرى أنَّه ليس هناك إهمال في دراسات العلوم التقنيَّة؛ فيقول: لكن الدراسات في العالم الإسلامي سواء كانت علوماً نظرية (إنسانيَّة واجتماعية) أو علوماً تقنية؛ فإنها لا تُدرّس بالطريقة الصحيحة، وتعتمد على التلقين وليس على البحث والتفكير والابتكار. أما إذا كان المقصود إهمال الأبحاث في الدراسات التقنية؛ فإن السبب هو صعوبة إجراء هذه الدراسات، واعتمادها على أجهزة متطورة غير متوفرة في معظم الأحيان في الجامعات ومراكز الأبحاث في العالم الإسلامي، والتركيز على الأبحاث النظرية التي تحتاج إلى ورقة وقلم فقط.
3 هل تعاني الدول الإسلامية من احتكار التقنية؟
كان العلم متقدماً عندنا في السابق؛ فقد ذكر (سارتون) أن الحضارة الغربية كان مفتاحها الوحيد لغة العرب التي ملَّكتهم ناصية العلم والتقنية، والآن الدول المتقدمة تقنياً تحاول عرقلة التنمية التقنية للدول الإسلاميَّة، ولا أدل على ذلك من تدمير أمريكا بواسطة اليهود المفاعلَ النووي العراقي، وأوضح من ذلك منع بعض التخصُّصات العلمية في بريطانيا بأن تُدرَس من قِبَل طلاَّب دول معيَّنة، بل ما زالت بعض الدول الصناعيَّة تحتكر سوق التقنية وكأنَّه لها فحسب؛ فكيف نتعدى هذه العقبة ونتغلب عليها؟
حول هذه القضيَّة انطلق عدد من المختصين بالتحدث حول الحلول العمليَّة لتعدِّي مرحلة الاحتكار والتبعيَّة في السوق العالميَّة، فيتحدَّث الدكتور محمد المدهون ملخصاً رأيه باختصار حول هذه القضيَّة قائلاً:
نتجاوز تلك العقبة بإذن الله ـ تعالى ـ من خلال: السرية في العمل، الانتقائيَّة والتركيز الدقيق، نشر العلوم التقنية، تبنّي المواهب والقدرات الخاصة.
ويرى الدكتور الضويان أنَّ احتكار التقنية ليس مشكلة إن وُجد، ويوضح مراده بقوله: فالنظرة المادية بشكل عام هي التي تحكم الشركات المصنّعة خاصة العابرة للقارات، كما أن التقنية مستويات، والاحتكار إن وُجد على المستويات المتقدمة جداً منها والباهظة التكاليف والتي يمكننا تأجيلها، لكننا لا نملك التقنية على مستويات أدنى وإن كانت في مجالات تخصنا وهذه هي مشكلتنا.
ويضرب الدكتور الضويان مثالاً على رأيه بقوله: انظر إلى صناعة النفط؛ هل نحن نصدِّر تقنيتها إلى غيرنا؟ وما الشركات البارزة في عمليات التنقيب على سبيل المثال؟ على الرغم من أن امتلاك التقنية مرتبط بالقدرة الصناعية؛ فلا أقل من أن تتميز الدول الإسلامية المنتجة منذ عقود للنفط في مجال التنقيب وتقنياته وصناعة النفط.
ويختتم حديثه بقوله: المهم أنَّ امتلاك التقنية مسألة حضارية يُنظر إليها بشكل متكامل مع قضايا أخرى، وحين تتخلف هذه القضايا تتخلف مسألة التقنية تبعاً لها؛ على الرغم من انتمائها لهذا الدين العظيم.
ويلفت الدكتور الضويان انتباه المتابع بقوله: انظر لحال الأمة المزري: الدكتاتوريات السياسية تخنق الإبداع، وضياع الصدق والأمانة والانضباط يطرد الإنتاج البحثي الناجح، وانتشار الفقر والأنانية والجهل؛ كل هذا عدو للتقدم العلمي. والإباحية الإعلامية وتسطيح الاهتمامات لا تتناسب مع المنافسة التقنية ... إلى غير ذلك من الأمراض الحضارية.
ويقدم الدكتور باسم خفاجي تفسيراً وتحليلاً آخر حول هذه القضية، فيذكر أنَّ المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ذكرت ضمن تقريرها عن واقع التعليم ومستقبله في العالم العربي أنَّ «تطوير التعليم في بلداننا، الذي هو الشرط الأساس لتحقيق النقلة النوعية الحقيقية المطلوبة في النهوض الحضاري، يتوقف على المشاركة الشعبية الواسعة في تحمّل تكاليف التعليم التي تَتَزَايَدُ أعباؤها سنة بعد سنة، وبذلك ستتمكّن الدولة من القيام على نحو أفضل بدور الإشراف والرعاية، وضبط الاتجاهات العامة لمسيرة التعليم وفق المصالح العليا للوطن، وبما يحقق الأهداف الوطنية، ويمهد السبيل نحو الاندماج في المسيرة العالمية.
وفي محاولة ناقدة يقول الدكتور باسم: إننا كثيراً ما نلقي باللائمة على الدول والأنظمة، وأحياناً على الغرب وأمريكا في التعامل مع مشكلة التعليم وارتباطه بالتقنية في عالمنا العربي والإسلامي، ولكن الحقيقة أن الشعوب مسؤولة أيضاً بالدرجة نفسها. وكما علمنا الخالق ـ جل وعلا ـ عندما يُذكِّرنا {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ، فهنا مفتاح الحل. لا شك أن خصوم الأمة يكيدون لها، ولكن هذا الكيد لم يوقف الأمة على مر التاريخ عن التقدم والازدهار عندما أخذت بالجد والحزم وعلو الهمة، وهو ما نفتقده اليوم.
ويؤكد الدكتور باسم أنَّ احتكار سوق التقنيات بالنسبة للغرب لم يمنع الصين وتايوان وسنغافورة، وحتى ماليزيا المسلمة والهند من المسابقة، بل والتقدم إلى الدرجة التي أصبحت معها هذه الدول مصدرة للتقنية إلى البلاد الأوروبية والأمريكية، ويضيف قائلاً: رغم أن أمريكا ومن يحالفها حاربوا هذه الدول بالأمس كما يحاربوننا اليوم. فليس من اللائق عقلاً ولا شرعاً أن نلقي باللائمة على الخصوم كمبرر لتخلفنا، وكأننا نتوقع من خصوم الأمة أن يرفقوا بنا، وأن يعاونونا على النجاح والتقدم.
وينبِّه الدكتور باسم إلى أنَّ الغرب يحاول احتكار أسواق التجارة العالمية ويضيف: والشركات متعددة الجنسية صار لها تأثير كبير في علاقات التبادل التجاري بين الدول؛ فمن جملة (50) أكبر شركة متعددة الجنسية في العالم تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية (33) شركة، بينما تمتلك بريطانيا (5) شركات، واليابان وسويسرا تمتلكان (3) شركات، وألمانيا تمتلك شركتين، وفرنسا شركة واحدة؛ وبقية الدول (3) شركات فقط، وذلك بحسب ما أورده موقع إسلام أون لاين في مقال (الاحتكار.. مزايا للشركات وأضرار للمستهلك) . ولكن بالمقابل فإن هذه الشركات تحتاج إلى أسواق، وهنا تكمن قوة المستهلك الذي يمكنه اختيار من يريد أن يتعامل معه، ممن يساعده على التقدم التقني.
3 الاحتكار عقبة.. كيف نتعداها؟
وعن الطرق الكاسرة لسوق الاحتكار يقدم الدكتور باسم وجهة نظره بقوله: إننا في حاجة إلى أن نربط أسواقنا الاستهلاكية ـ وهي قوة لا يستهان بها ـ بمن يساعدوننا على التقدم التقني، وليس فقط من يريدون تصدير التقنيات لنا.
ويوضح الدكتور زغلول النجار رأيه في المسألة قائلاً: نستطيع التغلب على هذه العقبة بوحدة المسلمين وعن طريق الاستغلال الصحيح لمقومات العالم الإسلامي المعاصر في اتباع الخطوات المؤدية للتقدم العلمي والتقني في العالم الإسلامي. أما الدكتور الخطيب فيرى أنه لا يمكن كسر هذا الاحتكار إلا بالاعتماد على الذات، واتخاذ قرار سياسي سيادي بالخروج من الهيمنة السياسية والاقتصادية والتقنية الغربية الاستعمارية، ولا يكون ذلك إلا عندما تصبح الحكومات الإسلامية من الشعب وللشعب.
ويستند الدكتور نعمان إلى أن العالم العربي يمتلك من الموارد البشرية والطبيعية (نفط، زراعة، معادن) أكثر مما تمتلك الدول الغربية (أوروبا وشمال أمريكا) ؛ فلو كان يملك المقدرة التكنولوجية لأصبح متقدماً على الدول الغربية اقتصادياً وتكنولوجياً، ولفقدت تلك الدول هيمنتها الاقتصادية والسياسية على العالم.
3 هل تحاصر التقنية بلادنا؟
هناك عدد من المحللين الاستراتيجيين يرون أنَّ هناك محاولة لحصار العالم الإسلامي. فمن الملاحظ مساعدة الدول الغربية للبرنامج الهندي النووي، ومحاربة البرنامج الباكستاني النووي، كما يخالفهم آخرون في ذلك كل حسب الزاوية التي ينظرون من خلالها.
فالدكتور نعمان الخطيب يقول: نعم! هناك حصار للعالم الإسلامي؛ وهو حصار متعمد ومدروس ومخطط له؛ حتى يبقى العالم الإسلامي متخلفاً تقنياً ويعتمد على الغرب.
ويضرب الدكتور الخطيب على ذلك مثلاً فيقول: الولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح ببيع الحاسبات المتطورة التي يمكن استخدامها في برامج معينة إلا للدول التي تثق بها، والتي تكون متأكدة أنها لن تستخدمها في برامج مثل: تصميم الصواريخ أو تقنية الفضاء والذرة.
أمَّا الدكتور الضويان فيختلف في نظرته لهذه القضية مع الدكتور الخطيب حيث يوضح مراده بقوله: لا أعتقد أن هناك حصاراً على العالم الإسلامي من الخارج، لكنه فرض الحصار على نفسه. أما موضوع البرنامج النووي الهندي والباكستاني فالمنطلقات فيه مصالح استراتيجية، ولا تُلام الدول على السعي لتحقيق مصالحها ولو أغضبت مواقفها هذا الشعب أو ذاك. وبالمناسبة: من الذي أتى بحكومة البلدين؟ أحدهما اختيار الشعب والأخرى الدبابة والعمالة للأجنبي، وهنا التخلف عينه. الهند تصنع جميع ما تحتاج داخلياً، بينما باكستان لا تستغني عن الدول الأخرى.
3 صناعة الرأي والمشورة في عملية الاختراعات لنقل التقنية:
يبتدئ الدكتور العجلوني الحديث حول هذه القضية؛ إذ يقول: ليس الأساس المشاورة بمعناها المعروف وإنما العمل الجماعي، وهذه يجب تربية الأجيال عليها منذ الصغر قبل تكليفهم بمهام البحث العلمي وهم كبار، وبناء قاعدة علمية في الدولة حتى لو كان مستواها دون مستوى تلك التي في الدول الغربية، ومن ثم تحديد ما يلزم أو الضروري من التكنولوجيا ضمن جدول أولويات والسعي الحثيث لامتلاكها.
كما يؤكد الدكتور نعمان على أهميَّة استشارة ذوي الاختصاص والمعرفة، وأن يتم الأخذ بآرائهم والعمل بها، ويضيف: يجب العمل على تشكيل مجالس استشارية متخصصة من ذوي الخبرة والكفاءة، وأن يعطَوا الصلاحية الكاملة في اتخاذ القرارات الملزمة لكافة القطاعات لتنفيذ هذه التوصيات والتوجيهات.
ويضيف الدكتور المدهون عدَّة نقاط تؤكد على أهميَّة المشورة؛ حيث يلخصها في الآتي:
ـ إنَّ صناعة الرأي تفتح الطريق أمام المبدعين والمتميزين.
ـ توفر المناخ الحيوي للتطور.
ـ يمكن تطويرها بنشر حرية الرأي واعتماد المنهج الإسلامي الذي احترم العقل.
ويختتم الدكتور الضويان الحديث حول هذه الفقرة بقوله:
أما صناعة الرأي في عملية الاختراعات، فلا بد قبلها أن يكون للأمة رأي في أبجديات القضايا يُسمح لها أن تُعبر عنه، قبل أن نقفز إلى مسألة الاختراعات.
ويختتم رأيه متأسفاً ومتأسياً بقوله: شعوب جائعة لا تشارك في قراراتها المصيرية كيف تخترع؟ لا بد من الواقعية العملية وترتيب الأولويات.
3 التقنية لها خطوات فعَّالة ... فما هي؟
في المقدمة نبتدئ بتقديم رأي الدكتور زغلول النجَّار حيث يقول:
لا بد من تطوير التقنية في بلادنا لنساير التطورات العالمية من حيث المستوى؛ فالوسائل والكتب والطرائق والمختبرات وغيرها أساس من أسس التقدم العلمي، كما تتطلب حسن التنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث الإسلامية، وبينها وبين الصناعة في المنطقة العربية والإسلامية؛ وهذا التنسيق مهم بالنسبة للاستفادة من كفاءاتنا العلمية، وكذلك نقل التقنية الحديثة ممن سبقونا فيها.
ثم يضرب الدكتور النجار مثالاً في التأسي بمن قبلنا من المسلمين في خطوات نقلهم للتقنية فيقول: ففي عصر الحضارة الإسلامية التي امتدت قروناً طويلة، تحرك المسلمون من منطلق حب الحكمة الذي غرسه الإسلام في نفوسهم، فجمعوا تراث الحضارات السابقة وترجموه ونقدوه بمعيار الحق الإسلامي، وأضافوا إليه إضافات أصيلة في مختلف مجالاته، فأخذوا صناعة الورق وطوروها، وأضافوا الصفر، ونشروا الأرقام، وابتكروا علوم الجبر وحساب المثلثات واللوغاريتمات.
كما أبدى الدكتور الضويان رأيه في هذه الفقرة، ملخصاً إياه في كلمة قصيرة؛ فيقول: خطوات نقل التقنية موضوع كبير قد كُتبت فيه كتب وأبحاث، لكنها لا تتجاوز الأطر النظرية. وبالجملة: نحتاج لتحديد التقنية اللازمة سواء أكانت مادية (hardware) أو معلوماتية (information) أو فنية (know-how) إلى التعامل الأمثل مع الأجهزة والمعلومات، ومن ثَمَّ وضع خطة على المستوى الفكري والاقتصادي والإداري.
من جهة أخرى يسوق الدكتور باسم خفاجي فكرته حيث يقول: أرى أن الخطوة الأولى في مشروع (نقل التقنيات) تتركز في تغيير طريقة التفكير لدى النخب العلمية والمثقفة في العالم العربي، والتأكيد على أهمية تطوير العقل العربي والإسلامي في مجالات الإبداع والابتكار، وليس فقط في سبل الاستهلاك والاستخدام لما يصنعه الآخرون.
ويعقب خفاجي على حديثه مضيفاً: ينبغي التركيز على فكرة الانتقائية في التعامل مع التقنيات المراد نقلها؛ فليس كل ما أنتجه الغرب صالح لعالمنا، أو حتى صالح للبشرية بوجه عام، فلا يجب أن ننقل إلا ما يثبت لنا صلاحه لأمتنا ليس فقط على المستوى التقني، وإنما على المستوى الأخلاقي والثقافي والعقدي أيضاً.
ويضيف الدكتور باسم قائلاً: أما في مجال الخطوات اللازمة لنقل التقنيات؛ فقد ذكر أهمها أحد الباحثين العرب، وننقل عنه هنا أهم هذه الخطوات:
أولاً: إيجاد قاعدة علمية قادرة على التطوير والابتكار العلمي.
ثانياً: إيجاد قاعدة صناعية متميزة تأخذ بأحدث ما وصلت إليه التقنية مع قبولها التطوير المستمر.
ثالثاً: الترابط الوثيق بين القاعدة العلمية والقاعدة الصناعية، لتحويل الإنجازات العلمية إلى واقع صناعي. ويفضَّل أن يكون هذا الترابط ناشئاً عن مركز بحوث رئيس مُلِمٍّ باحتياجات البلاد وأهدافها التنموية، قادر على الدعم السخي، له صلاحية التنسيق والتنظيم مع وحدات البحث العلمي المختلفة في البلاد والقطاع الصناعي المتطور، وقد أشار إلى مثل هذا الأستاذ سليمان بن صالح الخراشي في مقال له نشر في موقع (صيد الفوائد) بعنوان: (نقل التقنية المتطورة إلى الدول الإسلامية/عوائق وحلول) .
3 مقومات التقدم العلمي وسبل تنميته:
يبتدئ المشاركة في هذه الفقرة الدكتور إيهاب الشاعر، حيث يقول: قبل البدء بالتحدث عن مقومات التقدم العلمي والتقني لا بد من تسليط الضوء على قياس معيار التقدم العلمي؛ فهو يكمن في معيارين:
1 ـ قدرة العالم العربي والإسلامي على أن يكون مستقلاً بصناعة ما يحتاجه للقيام بضرورات الحياة المدنية والعسكرية.
2 ـ قدرة العالم الإسلامي والعربي على تطوير ما هو موجود من تقنية وتوظيفها في مصالحه العامة: اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً، وغير ذلك.
ويشير الدكتور إيهاب إلى أنَّ مجرد استيراد التقنيات واستخدامها أمر استهلاكي وليس أمراً جوهرياً يمس التقدم العلمي.
ثم انطلق الدكتور إيهاب الشاعر مجيباً عن هذه القضيَّة بنوع من التفصيل والبسط؛ وذلك لأهميتها في نظره؛ حيث قال: مقومات التقدم العلمي تكمن في الآتي:
أولاً: الجامعات ومراكز البحوث: وهي القلب النابض للتقدم العلمي في كل الدول وبغيرها لا يمكن عمل شيء، ويكون ذلك عبر عدَّة نقاط هي:
أـ استقطاب المؤهلين من ذوي الخبرات التعليمية والتطويرية وتوظيفهم في الجامعات، وإعطاؤهم حرية البحث.
ب ـ إنشاء صندوق دعم مالي للبحوث، يكون من الدولة والتجار وأهل الخير والشركات المحلية والأجنبية؛ لدعم بحوث الأساتذة في الجامعات.
ج ـ إعطاء المدرسين والأساتذة العاملين في مجال البحث امتيازات خاصة لإشعارهم بالأمن والاستقرار، وليس على أساس عقود وتجديدات.
د ـ منع هؤلاء الأساتذة وتحذيرهم من الانتقال إلى مجالات أخرى إدارية أو غيرها قبل مدة دنيا من البحث والإنتاج.
هـ ـ تشجيع البحث والتفكير منذ عمر مبكر (الثانوية) ، وصياغة المواد التعليمية على هذا الأساس.
وـ الاهتمام بالموهوبين والنابغين من الطلاب، وإنشاء جمعيات خاصة لهم، وإعطاؤهم منحاً خاصة للدراسة والتطوير.
ز ـ إنشاء نوادٍ صيفية لتحفيز العمل الابتكاري والإبداعي وعمل مسابقات في ذلك.
ثانياً: ربط الشركات والصناعة المحلية بالجامعات ربطاً قويما علمياً عن طريق: بحوث مشتركة، وورش عمل، ودعم مالي مفروض على الشركات الكبرى بالذات.
ثالثاً: الدعم الحكومي الرسمي ويتمثل بالتالي:
أـ إنشاء، ومن ثمَّ الإشراف على صندوق دعم وطني لبحوث الجامعات.
ب ـ ربط الجامعات بمثيلاتها من العالم العربي والإسلامي والغربي عن طريق ندوات وورش عمل مدعومة.
ج ـ إنشاء القوانين التي تحث الجامعات والشركات على الاتصال والعمل البحثي، وسنِّها.
د ـ تشجيع الصناعات المحليَّة، حتى ولو كانت جدواها الاقتصادية أقل في البداية.
واختتم الدكتور إيهاب ما قدم بقوله: فهذه خطة متكاملة، ولكنها تحتاج إلى مخلصين؛ وهو الشرط الرابع.
ويقدم الدكتور نعمان الخطيب مقومات يرى أنَّها ذات أهميَّة بقوله:
تحرير مراكز الأبحاث من البيروقراطية والرتابة، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والتخلص من المحسوبية والواسطة في التعيينات والترقيات والقرارات، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح سياسي شامل.
ومن زاوية أخرى يلمح الدكتور زغلول النجَّار إلى أنَّ مقومات التقدم تكمن في الآتي:
ـ مقومات بشرية: (يفوق تعدادها الألف مليون نسمة تتوزع في أكثر من خمسين دولة مستقلة وعلى هيئة أعداد متباينة من الأقليات في كافة دول العالم، ويمثل هذا العدد قرابة ربع سكان العالم، ويضم ملايين من العلماء والأطباء والأدباء والمفكرين)
ـ مقومات أرضية: (مساحة الدول المكونة للعالم الإسلامي تمثل أكثر من ربع مساحة اليابسة وتقدر بـ 148.354.000 كيلو متراً مربعاً) ، ويزيد فى قيمة تلك المساحة الشاسعة اتصال بعضها مع بعض، وتوسطها دول العالم، وتكاملها من ناحية المناخ والتضاريس وطبيعة الأرض، وتعدد ثرواتها، وتنوع مصادر المياه فيها.
ـ مقومات بحرية: (يطل العالم الإسلامي على مسطحات مائية عديدة تخترقها أهم خطوط المواصلات البحرية في العالم، وله موانئ هامة على كل من: المحيط الأطلسي، والمحيط الهندي، والمحيط الهادي، وكل من: البحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر الأسود، وبحر قزوين) .
ـ مقومات اقتصادية: (الثروة الزراعية، الثروة الحيوانية، مصادر الطاقة، الثروة التعدينية) .
ـ مقومات تعليمية: (تضم دول العالم الإسلامي اليوم الكثير من الجامعات والمعاهد المتخصصة، بالإضافة إلى ما يفوق التسعمائة من مراكز البحوث، وأكاديميات العلوم والتقنية، ومراكز للطاقة الذرية والنظائر المشعة) .
3 لا يشترط في التقنية أن تكون منافسة لتقنية الآخرين:
كانت هذه إجابة الدكتور إيهاب الشاعر؛ إذ سألته: هل يشترط للتقنية المأمولة من الدول الإسلامية أن تكون منافسة لتقنية الآخرين؟ أم يكفي أن تحقق هذه الدول المسلمة من التقنية ما يحفظ لها كيانها، ويحميها من كيد العدو؟
وتابع حديثه قائلاً: ذلك الاشتراط يكون في البداية، حتَّى نقوم بالحد الأدنى لاستبدال التقنية الغربية. بينما يرى الدكتور الضويان خلاف رأي الدكتور الشاعر؛ حيث يقول: التقنية المأمولة من الدول الإسلامية لا بد أن تكون منافسة بكل تأكيد وإلاَّ فلا مكان لتقنية رديئة، لكن لا بد أن تكون هذه التقنية ملائمة لهذا البلد أو ذاك من جهةِ: التكاليف، وحجم اليد العاملة، والمردود الاقتصادي المباشر، والآثار الاجتماعية؛ فبعض التقنيات استهلاكية وتُعمّق التبعية للثقافة الغربية مثلاً.
ويتقارب الدكتور العجلوني والمدهون في إجابتيهما؛ حيث إنَّ فيهما جمعاً بين الرأيين السابقين؛ حيث يقول الدكتور المدهون: مرحلياً يكفي أن تحقق هذه الدول المسلمة من التقنية ما يحفظ لها كيانها، ويحميها من كيد العدو، واستراتيجياً عليها أن تكون منافساً كبيراً لتقنية الآخرين.
وفي الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ نستكمل دوائر ومحاور التحقيق، نسأل الله أن ينفع به.(237/14)
الوداع الأخير
حسين الشيبة ناصر
حينما جلست ذات مرة على الشاطئ أنظر إلى الامتداد الشاسع للبحر وأستمع إلى صوت ارتطام الأمواج على الصخور تذكرت مرور الناس من هنا منذ آلاف السنين.. تمضي اللحظات ويغادرنا الزمن ونعيش حلاوة الذكرى ونسعد بالأحلام المسافرة نحو المجد القادم، ومن ظلمة الليل ينبلج الفجر فيرسل إلينا أشعته، وتتفتح الأزهار من حوالينا، وعندما نتأمل فيها نراها وكأنها تتبسم في وجوهنا وتلقي إلينا تحية الصباح محملة بالروائح العطرية.. وحينما نظرت إلى طيور النورس، التي طارت بعيداً في السماء حتى غابت في الأفق، تذكرت صديقي عبد الله الذي ودّعته ذات يوم وأنا على يقين أن في قلبه قطرات من ينابيع الأمل ونوراً من الإيمان، ويشع من ملامح وجهه ضياءٌ ومن عينيه صفاءٌ تغسله دوماً دموع الإيمان؛ فتنساب الدمعات دافئةً لتبلل لحيته، وتحمل معها مشاعر الخوف والرجاء والخشية من الله..
سافر مع أهله إلى بلدة أخرى.. كان زميلي في المدرسة أيام الطفولة والشباب.. ذاق مرارة البعد واليتم فصبر.. احتدمت المعركة الأولى مع نفسه فانتصر عليها.. عاش عابداً زاهداً كثير التأمل في مخلوقات الله العظيمة، ومن جوفه تنبعث معاني الصدق والوفاء والتضحية والرحمة القادمة من هدي الرسالات السماوية، مقتدياً بهدي وسيرة رسولنا العظيم - صلى الله عليه وسلم -؛ فكانت نبراس حياته ومسيرته نحو العلى. وعندما هزته المشاعر الإنسانية كغيره من الناس لما يراه من الأعمال الإجرامية كتب لي في إحدى رسائله يقول: «كيف يطيب لنا العيش وأطفالنا يموتون قتلاً وجوعاً، وصرخات الأمهات ترتفع إلى عنان السماء: (ياالله!) فلا مجيب؟! كيف يطيب لنا العيش ونحن نرى دموع الشيوخ على أولادهم تحت أنقاض المنازل المدمرة، ومناظر بكاء الأطفال على آبائهم القابعين خلف القضبان والأسوار في فلسطين الحبيبة؟! أخي، ماذا جرى لنا؟ الحروب في كل مكان تلتهم كل شيء؛ الإنسان والحيوان والنبات والحجر..! زمن يشيب فيه الأطفال من أهوال ما يرونه والصمت يسيطر علينا..؛ إلى متى؟! ليس أمامنا إلا التضرع إلى الله عز وجل، والخروج من دائرة الحصار الذي يحيط بنا ومجاهدة الأنفس، ومحاربة الشهوات، وإصلاح ما أفسده الزمان» .
مضت الأيام والسنون، وانقطعت بيننا المراسلة والأخبار.. علمت أنه سافر وقطع البراري وركب الأهوال نحو هدفه المنشود.. قصرت عنده المسافات والحلم يكبر تحت لواء (الله أكبر) وتسير القلوب المشتاقة للقاء الله.. تمر الدنيا في ذاكرته كالسحابة ويشتد به الابتلاء والتمحيص.. لَكَمْ تمنى أن يطير بأجنحة نورانية إلى عالم الخلود الأبدي ورضوان من الله! نبضات قلبه تزداد خفقاناً وهو يقترب من رحى الحرب ويشم رائحة الجنة، وينتابه شعور بأنه ولد من جديد وصار تقياً نقياً وطاهراً كقطرات الماء المتنزلة من السماء. وفي أحد الأيام كان ينظر إلى قرص الشمس وقت الأصيل وهو ينحدر نحو الغروب تاركاً وراءه الظلام يلف الأرض، والعصافير تتنقل بين الأشجار بحثاً عن مكان تؤوي إليه. وفجأة! يسمع من بعيد صدى نداء (الله أكبر) يتردد في الجبال بين الفينة والأخرى؛ فيكبِّر هو الآخر، لتمتلئ بتكبيرتهم الآفاق.
جلس في تلك الليلة على قمة تل صغير مع مجموعة من صحبه يرقبون العدو، حينها تساقط رذاذ من المطر على وجوههم فغشيتهم السكينة.. هزم الخوفَ في داخله بذكر الله.. اشتد وطيس المعركة مع الغزاة وقاتل في سبيل الله. لَكَم صغرت الدنيا في عينيه عندما اشتاق إلى نعيم الفردوس بعد أن ودع أمه الوداع الأخير، وسار في قوافل المجاهدين حاملاً روحه الطاهرة للفداء؛ فاستشهد في صبيحة ذلك اليوم.
مات مبتسماً وكأنه استشعر حلاوة اللقاء، وانتشرت في الهواء رائحة المسك تطيّب المكان والزمان، وأصحابه يلقون إليه نظرات المحبة والوداع، وأحسب أن الملائكة تحفّهم بأجنحتها.(237/15)
العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة
أ. د. لواء. زكريا حسين
يتردَّد في أروقة الدولة العبرية حديث هامس أحياناً وصاخب أحياناً أخرى عن استعداد حكومة (إيهود أولمرت) بالقيام بعملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة، في الوقت الذي يتردَّد في المنطقة العربية حديث صاخب عن احتمالات سلام يسعى الرئيس الأمريكي (جورج بوش) إلى أن يختم به فترة رئاسته للولايات المتحدة والتي حفلت بالإخفاقات والانتقادات والهزائم الاستراتيجية خاصةً في الشرق الأوسط؛ سواء في العراق أو على صعيد الصراع العربي الصهيوني.
وعلى الرغم من التناقض بين ما يتردَّد من سعي نحو سلام مأمول إقليمياً ودولياً اتسق مع حركة دبلوماسية واسعة النطاق لمسؤولين على مستوى رفيع تناوبوا على زيارة المنطقة بين الدول الفاعلة والمؤثرة في مسيرة الأحداث والمتغيرات في الشرق الأوسط؛ يأتي الحديث عن احتمالات القيام بعملية عسكرية صهيونية في قطاع غزة! فما الدوافع لهذا التوجه المعادي من جانب حكومة (إيهود أولمرت) ؟
يأتي هذا الاستعداد لهذه العملية العسكرية في إطار الاستراتيجية العسكرية والاستراتيجية الأمنية التي تُعدّ على قمة أولويات الحكومات الصهيونية المتعاقبة؛ خاصة حكومة (إيهود أولمرت) ، وذلك لإخضاع الشعب الفلسطيني وقهره وإذلاله، وفرض الرؤية الصهيونية للسلام عليه، وباغتيال الناشطين والقيادات الفلسطينية وأسرهم من ناحية أخرى، باعتبار ذلك أحد المتطلبات الرئيسة لهذه الاستراتيجية الصهيونية؛ خاصة الأمنية منها.
وعن الاستراتيجية العسكرية الصهيونية فيمكن عدُّها مكملة للاستراتيجية الشاملة التي صاغتها الدولة العبرية واستقرت عليها القيادات والكنيست الصهيوني منذ عام 1985م، والتي شملت اللاءات الست الشهيرة التي حددت المبادئ الأساسية التي ترتكز عليها الاستراتيجيات الصهيونية؛ سواء التفاوضية منها أو العسكرية.
وقد بدأ تفعيل الاستراتيجية العسكرية بعد تهيئة الظروف المناسبة لإنجاحها بعد أن نجحت الدولة العبرية من خلال اتفاق أوسلو للسلام احتواءَ السلطة الوطنية الفلسطينية والسيطرة الفاعلة عليها، والقضاء على الانتفاضة الكبرى، والحدّ من كل أشكال الكفاح المسلَّح الفلسطيني وأنواعه، ثم السماح بقيام شرطة فلسطينية محدودة القوات والتسليح ترتبط بتعاون أمني مع الشرطة والقوات المسلَّحة الصهيونية في فرض الأمن ومطاردة العناصر الفلسطينية الرافضة للسلام واعتقالها، إضافة إلى السيادة الكاملة على كافة المعابر إلى الضفة الغربية وغزة من خلال إغلاق كافة الطرق والمحاور بين مدن الضفة الغربية وأراضيها.
هذا؛ وقد نجح (أرييل شارون) الذي يرجع إليه الفضل الأول في التصعيد السياسي لـ (إيهود أولمرت) وإبرازه وفرضه على الحياة السياسية في الدولة العبرية.. نجح في تفعيل الاستراتيجية العسكرية الصهيونية التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية، وكسر إرادة قيادتها بالقوة العسكرية، وذلك من خلال الأسلوب المتدرج والمتصاعد والمحسوب في استخدام القوات المسلَّحة بكل أنواعها؛ البرية والبحرية والجوية والصاروخية، بالتعاون الفعال والمخطط مع المستوطنين والقوات الخاصة الصهيونية المدرّبة تدريباً عالياً لتنفيذ هذه الاستراتيجية.
وفي إطار هذا المناخ وهذه الظروف التي صاحبت تجربة (إيهود أولمرت) ثم صعوده المفاجئ لخلافة (شارون) ؛ لحالة هذا الأخير المرضية والتي فرضت عدم استمراره رئيساً للوزراء.. كان على (أولمرت) أن يسير على طريق (شارون) ؛ لكونه الطريق المناسب من وجهة نظره؛ لاكتساب الرأي العام الصهيوني.
3 الأسباب التي ترجح القيام بعملية عسكرية في غزة:
لقد تبنَّى (أولمرت) بمجرد قيادته حزب «كاديما» وصعوده المفاجئ لرئاسة الوزراء استراتيجيةً أمنية أطلق عليها «خطة التجميع أو الانطواء» ، والتي صاغها من خلال الأفكار التي طرحها (شارون) والتي تعتمد مبدأين، هما: الأمن المطلق، وفكرة الدولة العبرية النقية، كما ترتكز على بُعْدين اثنين: البُعْد الجغرافي والبُعْد الديموجرافي، والتي على أساسها كانت مبادرة (شارون) بالانسحاب من غزة وتغيير وضع المستوطنات ذات الأعداد الكبيرة سكانياً والمتركزة في قلب الكثافة السكانية الفلسطينية العالية في الضفة الغربية، مع إقامة الجدار العازل في إطار منظومة دفاعية كاملة تحقق الأمن المطلق للدولة العبرية.
وعلى ضوء ذلك؛ فإن أولى الأسباب والدوافع التي ترجح سعي (أولمرت) للقيام بعمليته العسكرية هو الفشل الذي أصاب خطته الأمنية وكشف ما أطلق عليه الأمن المطلق الصهيوني بنجاح العمليتين الناجحتين لكل من الحركات الفلسطينية المجاهدة أو حزب الله اللبناني في اختراق هذا الأمن المزعوم، والنجاح في قتل وإصابة العديد من الصهاينة ثم أسر ثلاثة منهم.
أما السبب الثاني فيرجع إلى إخفاق حكومة (أولمرت) ووزير دفاعه (عمير بيرتس) في عمليته العسكرية ضد حزب الله وما تبع ذلك من تحقيقات أسفرت عن الإطاحة برئيس الأركان وتدنِّي شعبية (أولمرت) إلى حد حصوله على (3%) فقط من الرأي العام الصهيوني، وذلك من منطلق عدم امتلاك حكومته رؤية واستراتيجية أو إرادة سياسية يؤهله للقيام بدور حاسم في مسيرة التفاوض المنتظرة مع الفلسطينيين باعتباره من أضعف رؤساء الحكومات التي قادتها الصدفة وحدها لرئاسة الحكومة، إضافة إلى ما شابها من إخفاقات متنامية ومتصاعدة؛ سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو العسكري أو حتى الجانب الأمني؛ حيث تصاعد العنف وتمَّ هدر نظرية الردع الصهيوني، وتراجع دور المؤسسة العسكرية والجيش الصهيوني الذي لا يقهر.
وإذا أضفنا إلى كل هذه الأسباب تلك الجهود المتصاعدة لعقد صفقة لتبادل الأسرى بين السلطة الفلسطينية والحكومة الصهيونية، وتزامن ذلك مع تصاعد وتيرة الأمل في إحياء مسيرة التفاوض المجمدة عن طريق حلحلة هذا الجمود السائد منذ زمن طويل في عملية السلام.. لم تجد حكومة (أولمرت) التي لا تملك الإرادة السياسية أو مقومات إدارة عملية تفاوضية تقود إلى سلام حقيقي.. تجدها تسعى إلى إعداد حملتها العسكرية ضد قطاع غزة في إطار نسف كل هذه الجهود وإلهاء الرأي العام الصهيوني وتحويله عنها.
هذا؛ وقد ذكرت مصادر أمنية وعسكرية أن الجيش الصهيوني قد استكمل استعداداته الإدارية والفنية والاستخباراتية لتنفيذ عملية كبرى في قطاع غزة، وذلك بهدف التصدي لتنامي قوة المقاومة الفلسطينية ومنها تعاظم قوة حماس خاصة في قطاع غزة.. بالقدر الذي يمنعها من أن تشكل تهديداً استراتيجياً على الجنوب بالقدر الذي شكَّله حزب الله على الشمال.
ولعل من أهم الأسباب التي ترجح القيام بعملية عسكرية في قطاع غزة ما ورد في التقرير الأمني لعام 2007م والذي أشار إلى تزايد تدفق الأسلحة الحديثة على قطاع غزة، مع تنامي وتصاعد الاستعدادات والتجهيزات العسكرية التي تقوم بها حكومة حماس وغيرها من الفصائل المسلَّحة في غزة على ضوء الخبرة المكتسبة من العمليات العسكرية لحزب الله في الجنوب اللبناني؛ خاصة في مجال حفر الأنفاق والممرات وباقي التجهيزات الدفاعية، هذا إضافة إلى ما تدّعيه الدولة العبرية من حدوث تطور نوعي وكمي في كميات الأسلحة التي يتم إدخالها إلى القطاع؛ خاصة الصواريخ التي يتجاوز مداها 20 كيلو متر، مع تزايد عمليات إطلاق صواريخ القسام على الجنوب الصهيوني.
هذا؛ وتشير التقديرات الصهيونية إلى تنامي القدرات العسكرية الفلسطينية والتي تؤكد أن القدرات العسكرية الفلسطينية يمكن أن تصل إلى حدِّ إنتاج صواريخ أبعد مدى من صواريخ جراد التي تصل مداها إلى 20 كيلو متر.
كما تشير التقديرات إلى استغلال حماس لفتح معبر رفح لعمليات تهريب الوسائل القتالية، مع إعلان حركة حماس أنها سوف تستمر في عدِّ المقاومة خياراً استراتيجياً، ولا يبدو في الأفق أيّ تنازل محتمل في هذا الشأن.
وإذا أضفنا إلى كل هذه الأسباب أن العقيدة الاستراتيجية التي التزم بها التخطيط الاستراتيجي العسكري ترتكز على خمسة مبادئ رئيسة، نذكر منها مبدأين هامين:
أولهما: عدم قدرة الدولة العبرية على تحمُّل حرب استنزاف طويلة أو صراع مسلَّح يكبدها خسائر بشرية عالية، كما لا يمكنها أن تتحمل نزيفاً اقتصادياً ناتجاً عن صراعات مسلَّحة طويلة الأمد أو تحمُّل خسائر بشرية تهدد كيانها الاجتماعي والسياسي.
وثانيها: أنه لا يمكن السماح لتهديد محتمل بأن يعمل في بيئة يمكن فيها تهديد الأمن الصهيوني، وقد ارتقى هذا العامل في الفكر الاستراتيجي العسكري الصهيوني؛ لكونه عقيدة راسخة دفعت الدولة العبرية إلى امتلاك وتطوير وإنتاج قدراتها العسكرية.. وتدمر كل الأهداف التي يحتمل أن تهدد أمنها وبقاءها واستمرارها.
3 التخطيط الاستراتيجي لعملية اقتحام غزة:
يمكن تصور الهدف الاستراتيجي لعملية اقتحام قطاع غزة في إعادة الثقة للاستراتيجية الأمنية التي تُعدّ امتداداً للاستراتيجية العسكرية ومكملة لها، وذلك بإجهاض كافة الاستعدادات العسكرية المتنامية المتصاعدة في قطاع غزة، وتدمير كامل لجميع الأسلحة الصاروخية والبنية الأساسية العسكرية لحركة حماس؛ لإفقادها القوة العسكرية على تهديد الجنوب الصهيوني حالياً ومستقبلاً.
هذا إضافة إلى السيطرة العسكرية الكاملة على محور فيلادلفيا الحدودي جنوب قطاع غزة، وتجفيف كافة مصادر التهديد التي يمكن أن تهدد الدولة العبرية، مع تدمير كافة المناطق المحتمل تجهيزها بأنفاق ميدانية؛ خاصة وأن تجهيز تلك الأنفاق يُعدّ تطوراً نوعياً هاماً في أي مواجهات عسكرية مستقبلية.
ينتظر أن يشمل التخطيط الاستراتيجي العسكري عدة مراحل:
أولاً: الهجوم الجوي على معسكرات المنظمات الفلسطينية ومؤسساتها؛ خاصة حركة حماس.
ثانياً: التركيز على الاغتيالات باتجاه أشخاص معينين.
ثالثاً: الاجتياح البري والبقاء المستمر في مناطق في قطاع غزة؛ لبناء مناطق عازلة.
رابعاً: إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل.
هذا؛ وينتظر أن تشمل قائمة الاغتيالات شخصيات قيادية بارزة من حركتي حماس والجهاد، وتضم هذه القائمة إسماعيل هنية رئيس الوزراء، وأحمد الجعبري قائد المجلس العسكري لكتائب القسام، ومحمود الزهار وزير الخارجية السابق، وسعيد صيام وزير الداخلية السابق، ومحمد الهندي القيادي في حركة الجهاد، وغيرهم من القيادات البارزة من حركتي حماس والجهاد.
هذا؛ ومن المنتظر أن تدير الدولة العبرية عمليتها العسكرية المنتظرة ضد قطاع غزة على مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى: حملة جوية وبحرية وصاروخية تشمل عشرات الطلعات الجوية والصاروخية تساندها وتدعمها ضربات للأسطول البحري لتدمير كل المرافق والمنشآت والبنية التحتية العسكرية والاقتصادية، وقد تمتد إلى المرافق الحيوية من الكهرباء والجسور وغيرها.. مما يفقد فصائل المقاومة كل القدرات القتالية والتجهيزات الميدانية وكل المواقع المحتمل وجود أنفاق بها؛ خاصة على امتداد ممر فيلادلفيا المتاخم للحدود المصرية عند معبر رفح.
ويتزامن مع هذه الحملة قيام المقاتلات بحملة اغتيالات واسعة للشخصيات البارزة والناشطة في حركتي حماس والجهاد بصفة خاصة، يعاونها في ذلك تجنيدها لعناصر فلسطينية تمكِّنها من تحقيق أهدافها.
المرحلة الثانية: حملة برية يرتبط تنفيذها بمدى نجاح الحملة الجوية الصاروخية وقدرتها على فرض الأهداف الصهيونية وتهيئة كل أسباب النجاح لها، وذلك بدفع القوة البرية بالتعاون مع القوات الجوية للتقدم عبر محاور آمنة مهدتها لها الحملة الجوية وتتابع تدميرها للقوة البشرية والاقتصادية والعسكرية والأمنية لحركتي حماس والجهاد، على أن يتزامن معها ويرافقها حملة اعتقالات واسعة النطاق تشمل كوادر الحركات الفلسطينية المقاومة وشبابها.
وتتواصل الحملة البرية حتى تحقق أهدافها ومراحلها المخططة لها؛ سواء بالبقاء المستمر في مناطق قطاع غزة وبناء مناطق عازلة تؤمن الجنوب الصهيوني من الهجمات الصاروخية لحركات المقاومة الفلسطينية، أو التمادي في التصعيد لإسقاط حكومة حماس وإحداث أكبر قدر من الخسائر البشرية لمواردها وقدراتها البشرية والتسليحية بإعادة احتلال قطاع غزة بكامله.
3 عوامل كبح المخطط الصهيوني:
هناك العديد من عوامل كبح تنفيذ المخطط الصهيوني للقيام بعملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، نذكر منها:
أولاً: انشغال الولايات المتحدة بالمشكلة الإيرانية ومواجهاتها المستمرة مع الكونجرس والرأي العام؛ نتيجة تورطها في العراق وتصاعد المقاومة والخسائر البشرية المتنامية والاتجاه للانزلاق نحو حرب أهلية، مما يولد صعوبة إعطاء الضوء الأخضر للدولة العبرية للقيام بهذه العملية مما يمكن أن تسفر عنه من خسائر كبيرة خاصة في المدنيين مما يتنافى مع تقرير «بيكر ـ هاملتون» والذي يؤكد ارتباط التصعيد الفلسطيني الصهيوني مع تصعيد المقاومة العراقية.
ثانياً: حجم الخسائر البشرية الكبيرة المنتظر أن تنتهي إليه العملية العسكرية خاصة مع الكثافة السكانية العالية في قطاع غزة مما قد لا تستطيع الحكومة الصهيونية مواجهة تبعاته على صعيد الرأي العام الدولي والعربي.
ثالثاً: أن عملية الحصار الدولي الخانق التي يقوم بها المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد الشعب الفلسطيني عقاباً على اختياره الديمقراطي وانتخابه حركة حماس ممثلة له، واستمرار سياسة العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني؛ من خلال سياسة التجويع والإذلال والحصار وقفل المعابر وغيرها؛ قد تجعل الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي غير مستعدٍّ لقبول مزيد من إهدار الدماء في الشرق الأوسط خاصة في ظل أجواء التفاؤل التي بدأت تسود من احتمال بدء مفاوضات على طريق تحقيق السلام في الشرق الأوسط.
رابعاً: أن هناك تهديداً أكثر خطورة من وجهة نظر المواطن والرأي العام في الدولة العبرية يتمثل في التهديد الإيراني والسعي لامتلاك التكنولوجيا النووية واحتمال تطورها إلى حدِّ امتلاك السلاح النووي، الأمر الذي يدفع الدولة العبرية إلى القيام بضربة إجهاض منفردة أو بالتعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة مما لا يتناسب أو يتناغم مع القيام بعملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة في ظل هذا التهديد المتنامي من الحكومة الإيرانية.
خامساً: إن القيام بمثل هذه العملية العسكرية من شأنه أن ينسف كل الجهود التي بذلت لصفقة الأسرى والتي تشمل الإفراج عن الجندي الصهيوني المختطف، مما يؤثر سلباً على حكومة (أولمرت) التي لم تعد تحظى بقبول من الرأي العام الصهيوني.
وفي النهاية: يمكن القول: إن الأيام القادمة ستشهد حسماً قاطعاً للنوايا الصهيونية في هذا الاتجاه، وخاصة أن حكومة (أولمرت) قد عوَّدتنا على الخيارات غير العقلانية أو المنطقية في كل ما تعرضت له من أزمات.
__________
(*) المدير الأسبق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا، ومستشار رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا.(237/16)
فصول الهزيمة الأمريكية في العراق
حسين عبد عواد الدليمي
منذ الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003 ميلادية والإدارة الأمريكية تنفذ فصولاً متتالية على أرض الرافدين لكسب النصر المزعوم الذي تحلم به إدارة البيت الأبيض في واشنطن. إنها فصولٌ متسلسلةٌ أُعِدَّ قسم كبير منها بالتعاون مع بعض الساسة الذين وعدوا واشنطن بحلم النصر الأكيد يوم أن كذبوا عليهم بأنَّ شعب العراق سوف يستقبلهم بالورود؛ فضلاً عن سيناريوهات الفصول الأخرى التي لا تفتأ إدارة الاحتلال تعمل على إعدادها لتحقيق «المهمة» التي طالما تحدث عنها رأس الدولة الأمريكية (جورج بوش) .
وهكذا تتوالى الفصول ليكون فصل الحسم الأخير، في نظر كثير من المراقبين، ما يسمى بـ «الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العراق» التي أُعلن عنها على لسان الرئيس الأمريكي بوش، وهي بلا شك يُنظَر إليها على أساس أنها حبل النجاة أو الهلاك إذا التف حول رقاب واضعيها، طبقاً لمدى نجاحها أو فشلها؛ لإنقاذ أمريكا من المستنقع الذي تعيشه قواتها المحتلة في العراق في ظل التصاعد المستمر للمقاومة العراقية والعمليات النوعية التي تقوم بها الفصائل الجهادية على اختلاف أسمائها في الأشهر الأخيرة الماضية، التي رأينا فيها العدو مهزوماً مكسوراً أكثر من اي وقتٍ مضى قبل ذلك.
وإذا كان المشهد العراقي متشابك الأطراف ولا يمكن التكهن بالمجريات السياسية الجارية فيه، في مقال إعلاميٍ قصيرٍ فإنَّ معرفة الفصل الأخير من فصول الفشل الأمريكي في العراق أمر ضروري للغاية؛ لأن تحالف الاحتلال الذي قاد حملته العسكرية لغزو العراق بحججٍ واهيةٍ بدأ يتصدع على ما يبدو، يوم أن اعترفت بريطانيا بهزيمتها ـ جهاراً أو إسراراً ـ وقيامها بسحب ربع جيشها المهزوم في فترة قياسيةٍ وجيزة، بمفاجأة غير معلنةٍ وقت ذاك.
وإذا كان هذا الانهزام ـ الذي لم يعلن عنه سابقاً ـ نصراً للمقاومة والمخلصين بحد ذاته؛ فإنَّ مرحلةً مّا بعد الهزيمة التي ستتلوها هزائم قريبة ـ على ما يبدو ـ توجب على كل الخيِّرين والوطنيين والشرفاء العراقيين التفكير الجدي بالعمل المشترك لاستثمار ذلك الانتصار. وقد تنبهت هيئة علماء المسلمين ـ وهي رائدة المشروع الوطني ـ لذلك منذ اليوم الأول لإعلان رئيس الوزراء البريطاني هزيمته بسحب ما يقرب من 1600 جندي بريطاني من جنوب العراق؛ حيث دعت في بيان لها يحمل الرقم (378) أبناء العراق المخلصين من الساسة والميدانيين إلى التفكير الجدي في مرحلة ما بعد هزيمة المحتل، معللة ذلك بأن مرحلة ما بعد هزيمة المحتل بحاجة إلى عمل مبكر وجهود مضاعفة، يلزم من خلاله اتفاق القوى الفاعلة على برنامج عمل موحد، يرسم الجميع من خلاله معالم مستقبل العراق على نحو يرضي الله أولاً ثم العراقيين جميعاً بكل أطيافهم ومكوناتهم، ويحقق المصالح العليا لأمتهم؛ مشيرةً إلى أن هذه الخطوة تُعَدُّ مؤشراً واضحاً على بداية التصدع في التحالف الأنجلو ـ أمريكي في قضية العراق، وبداية هزيمة متوقعة لمشروع الاحتلال في هذا البلد الصابر المحتسب المجاهد؛ في الوقت الذي صرحت فيه بأنَّ الانسحاب الأمريكي بات وشيكاً، وهذه هي النهاية الطبيعية لكل احتلال طال أمده أم قصر، وأن الفضل في تحصيل مثل هذه التطورات المبهجة بعد الله لأبنائنا البررة الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ومن أجل تحرير بلادهم.
وإذا كانت الخطة الأمنية الأخيرة في بغداد التي سميت بـ «خطة فرض القانون» قد أتت نتيجة جزئية للمساعي الأمريكية لحفظ ماء وجهها للخروج بأقل الخسائر من العراق في ظل الاستراتيجية الجديدة؛ فإنها تستوجب وقفات عديدة نلمس من خلالها الفشل المرتقب الذي سَتُمنى به، وما سيترتب عليه من تداعيات وتحالفات وموازنات جديدة على مستويات عديدة ستشهدها الساحة العربية والعراقية، ولن أبالغ إذا قلت: والعالمية، على المستوى السياسي والأمني؛ فضلاً عن تعامل السياسة الخارجية العالمية مع العراق، بما في ذلك تعامل الولايات المتحدة الأمريكية وفق ما يفرضه الواقع الذي لا نستطيع تجاهله.
إنَّ مجرد العودة للوراء قليلاً وتحديداً في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة التخلص من شبح الموت الذي منيت به في غزوها لفيتنام آنذاك وما جرى من خلال تعاملها من تغيير للخطط العسكرية، وزيادة عدد قواتها، واعتمادها على تكثيف القصف الجوي بالطائرات، وتشكيل ميليشياتٍ وجيشٍ موالٍ للأحتلال؛ كل ذلك يوحي بتكرار السيناريو ذاته في العراق اليوم؛ فإنَّ الذي يجري في بلاد الرافدين ـ عموماً ـ هو عملية لاستعادة النَفَس الأمريكي بعد أن ضاق عليه الخناق جراء الخسائر الفادحة التي تكبدتها قوات الاحتلال في الأشهر الأخيرة الماضية عموماً بفعل المقاومة الباسلة، مع ضرورة التركيز على حجم الخسائر بالأرواح والمعدات، وبخاصة الطائرات العشر التي خسرتها تلك القوات الغازية في شهر شباط الماضي تحديداً.
3 خطة أمنية جديدة وواقع مؤلم:
وإذا كنا قد عرفنا بعض الدواعي التي قام من أجلها ما يسمى بـ (خطة أمن بغداد) فإنه من المناسب إلقاء الضوء على بعض المجريات التي صاحبت هذه الخطة، وتوقيت تنفيذها، ومدى إمكانية نجاحها أو فشلها.
ولا شك أن أي نظرة سريعة على الواقع الذي يعيشه العراق عموماً وبغداد خصوصاً يستطيع القارئ من خلالها معرفة حجم التآمر الذي تسعى كثير من القوى السياسية المشاركة في الحكومة إلى تنفيذه. ففي ظل التسريبات التفصيلية للخطة الأمنية والإفصاح عن حيثياتها للقوى المساندة للحكومة كـ (التيار الصدري) الذي نزح قياديوه نزوحاً جماعياً إلى إيران وعلى رأسهم (مقتدى الصدر) الذي كثر الكلام حول هروبه أو اختفائه في إحدى مناطق الشيعة في الجنوب، لنضع ألف علامة استفهام أمام مصداقية هذا التيار في الشارع العراقي في ظل التناقض العجيب الذي صاحب هروب (مقتدى) إلى إيران قبيل بدء الخطة الأمنية التي تنفذها قوات الحكومة بمساندة قوات الاحتلال، والتي لقيت تأييداً من قِبَل (التيار الصدري) نفسه قبيل وأثناء تنفيذها.
في ظل هذه التسريبات المفضوحة بدأت عوامل الفشل والهزيمة، تدب في أوصال هذه الخطة العسكرية، وبخاصة إذا عرفنا المواقف التي أفصحت عنها بعض الشخصيات التي تشارك في الحكومة والبرلمان أمثال طارق الهاشمي ـ أمين عام الحزب الإسلامي ـ الذي توقع الفشل ـ ضمناً ـ للخطة؛ لأنه لم يتوفر فيها عنصر المباغتة؛ ولأن خريطتها سُرِّبت قبل البدء بها إلى عناصر الميليشيات التي تُتهم بقتل العراقيين؛ مع أنه ـ وحزبه ـ من المؤيدين للخطة الأمنية في بغداد.
3 مواقف يجب معرفتها:
في ظل تنفيذ هذه الخطة الأمنية العسكرية التي مضى على البدء بها بضع أسابيع، ينبغي معرفة ما يلي:
أولاً: إنَّ الأمر أصبح واضحاً لكل مراقب أنها في طبيعتها تستهدف أهل السنَّة في بغداد، وهي على كل حال تأتي تطبيقاً لاتفاقات سابقةٍ عمل عليها تياران شيعيان هما: (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) و (التيار الصدري) في إطار تسوية تحدثت عنها بعض تسريبات الإعلام في اتفاق سري يقضي بالعمل على تسليم الجنوب لـ (عبد العزيز الحكيم) لتكوين إقليم فدرالي؛ على أن يتم إعطاء (التيار الصدري) مدينة السلام (بغداد) بعد إفراغها من أهل السنة.
وموضوع استهداف أهل السنة في بغداد أمر ظاهر للعيان، تحدث عنه مؤيدو الخطة الأمنية أنفسهم، والكل سمع (د. عدنان الدليمي) وهو يتحدث عن استهداف مناطق السنة ومهاجمتها من قِبَل الجيش الحكومي دون الاقتراب من مناطق الشيعة.
وقد تحدث (الشيخ الدكتور عبد السلام الكبيسي ـ مسؤول العلاقات العامة في هيئة علماء المسلمين) في بيان يحمل الرقم (373) تلاه أمام جمع من وسائل الإعلام حول الخطة الأمنية وتداعياتها على الساحة العراقية، مبيناً أنها إذا ما سارت على ما هي عليه من أساليب معلنة فلا يعني ذلك إلا أن الهدف المبيت هو «محرقة أهل السنة والجماعة الرافضين للاحتلال في بغداد» .
هذا في الوقت الذي طالبت فيه الهيئة الحكومة الحالية بترك مواقعها؛ لأنها لم تعد قادرة على حفظ الأمن، وأن عهدها غدا شؤماً على هذا الشعب الجريح، ومن ثم فإنَّ عليها أن تترك مواقعها؛ فإنما تُنَصَّب الحكومات في العادة على مواقع القيادة لتوفر الأمن والأمان للشعب، وتحول بينه وبين أعدائه؛ فضلاً عن تلبية متطلباته الضرورية الأخرى؛ فإذا لم تكن قادرة على ذلك كله فما جدوى بقائها؟!
ثانياً: ولذلك عملت الحكومة ـ جاهدة ـ على تطبيق سياسة الإيحاء الكاذب أو المخادع الذي تريد من خلاله إفهام العالم بأنَّ خطة أمن بغداد لا تستهدف السنة فحسب، بدليل ما ترونه من مداهماتٍ لمناطق شيعية كمدينة الصدر (الثورة) وغيرها، مع ما يرافقه من تصنُّع في مداهمة بعض مكاتب (التيار الصدري) في بغداد ومناطق الجنوب.
وسر هذه الفضيحة يكمن في أمور عديدة، منها:
(1) إعطاء الحكومة الضوء الأخضر لـ (مقتدى الصدر) وقادة جيشه للهروب من العراق إلى إيران، في بيان سري وجهه المالكي إلى مقتدى وجماعته.
(2) فشل نتائج مداهمات مناطق الشيعة ومكاتب الصدر من قِبَل قوات الاحتلال والحكومة؛ فلم نسمع أو نشاهد ـ على وجه اليقين ـ أن اعتقالات نالت عناصر التيار أو جيش الصدر الذي طالما اتُّهم بكثير من قضايا العنف الطائفي في البلاد بما لا يخفى على أحد.
(3) إنَّ عدداً كبيراً من منتسبي الجيش والشرطة وقوات الأمن التي تقود الخطة الأمنية هم في حقيقتهم أفراد فاعلون في جيش المهدي، وقد تحدثت دراسات غربية، ووسائل الإعلام عن ممارسة أفراد من الشباب مهام الشرطة أو الجيش نهاراً، إلى جانب الميليشيات الطائفية التي تقتل العراقيين ليلاً.
ومن نافلة القول أنه يمكن استجلاء الموقف الأمريكي من جيش المهدي الذي طالما خدم مصالح أمريكا في العراق، وخاصة تلك التي تعمل على بث روح الفرقة والطائفية في البلاد، معلنة الشعار الذي يقول: (فرق تسد!) . فهي بهذا المعنى حليف كبير ومشارك، بل مشجع لأعماله التي تصب في هذا الإطار؛ بدليل ما نراه من عدم تدخلها في كثير من الأحيان عندما تقوم ميليشيات هذا الجيش بقتل السنَّة وحرق مساجدهم على مرأى ومسمع من الاحتلال والحكومة وقواتهما.
إنَّ السياسة الأمريكية تمتاز بميزة التخفي والتستر، فهي في الوقت الذي تقلّب أوراق الضغط على الساحة العراقية على المستويين: الأمني والسياسي متى شاءت وكيفما شاءت؛ نجدها تعمل وفق سياسة غامضة مخفية، لا يمكن التنبؤ بها من أول وهلة.
وإذا كان الموقف المعلن للولايات المتحدة تجاه (ميليشيا جيش المهدي) معلناً على أساس أنه منظمة إرهابية يجب قتاله، وهو ما يدركه الصدريون أنفسهم ويتحدثون به في وسائل الإعلام؛ فإنَّ هذا التيار هو من خدم الساسة الذين تعاونوا مع المحتل، بل هو من أوصلهم إلى سدة الحكم والتربع على كرسي الرئاسة في العراق.
كما لا يخفى التحالف القائم بين حزب الدعوة والتيار الصدري الذي أوصل نوري المالكي إلى رئاسة الحكومة الحالية ـ التي هي في كل حال امتداد لحكومة الجعفري ـ وإبعاد لـ (عادل عبد المهدي) الشخصية الثانية في المجلس الاعلى للثورة الإسلامية الذي يترأسه عبد العزيز الحكيم.
وهنا يأتي التساؤل: ما موقف نوري المالكي من الضغوطات التي يتعرض لها التيار الصدري على الاقل في الظاهر؟
إنَّ احتمالين يقفان أمام هذا التساؤل، حسب مصداقية هذه الضغوط أو عدمها:
أولهما: أن يكون هذا التعرض والضغط حقيقياً، وعندها من المتوقع أن يقوم التيار الصدري بسحب ثقته من الحكومة وغل يده إلى عنقه التي طالما مدها لحكومة المالكي، ومن ثم سينال تلك الحكومة ويهدد بقاءها تهديداً كبيراً، وخاصة في ظل التقلبات السياسية التي يمارسها التيار، والتي تعوَّد الناس على سماعها منذ الغزو الأمريكي ولحد الآن.
وثانيهما: أن يكون هذا التعرض إعلامياً وهمياً، وعندها فإنَّ مصير العراق سيزداد سوءاً لو بقي (جيش المهدي) مستمراً بعمليات القتل العدائية ضد العراقيين المخلصين، وعندئذٍ لا نستبعد المنزلق الخطير للحرب الأهلية التي تتولد عن مزيد من الشحن الذي تمارسه الأحزاب الحاكمة في العراق اليوم. ولا شك أنَّ هذا الاحتمال سيجعل مصداقية الإدارة الأمريكية والعراقية تحت الصفر في نظر أصدقائهما قبل أعدائهما.
3 الخطةُ الجديدة وحلمُ البيت الأبيض:
إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تحقيق النصر المزعوم في ظل خططها التي لا تقف عند حدٍ من الحدود؛ لأنها تأتي كنتائج لسياسة عوجاء عرجاء غير مخطط لها سابقاً باعترافات رجال البيت الأبيض أنفسهم، عندما أقروا بأنهم تفاجؤوا بشراسة المقاومة المتصاعدة التي أعادت إلى ذاكرتهم مقاومة فيتنام، بما لم يكونوا يتوقعونه في يومٍ من الأيام، حينما أقدموا على ولوج العراق وإشعال الحرب فيه.
أمام هذه الحقيقة خياران لا ثالث لهما ـ حسب ما أشار إليه الأستاذ طلعت رميح في مقال سابق في البيان ـ فاستراتيجية بوش الجديدة: إما أن تتضمن انسحاباً من العراق تحت غطاء عامل القوة والانتصار الموهوم، أو أن تبقى في جحيم المقاومة الذي سيأكل جيش الاحتلال مهما بلغ عدده وعدته إلى أن تقرر هذه القوات الهزيمة فتجبر على خيبة الانسحاب.
وهناك مؤشرات عديدة ترجح الخيار الأول في الوقت الذي توجد مؤشرات أخرى ترجح الخيار الثاني. ولعلَّ ما يبعثُ على التفكير بالخيار الأول هي تلك الوساطات التي تتحدث عنها بعض وسائل الإعلام، والتي تسعى قوات الاحتلال من خلالها للتفاوض مع الجماعات التي تقاومها في العراق، مع رفض كثير من تلك الجماعات ـ أصلاً ـ لمبدأ التفاوض؛ لأنه يفتقر إلى مزيدٍ من الجدية والجدوى؛ بالإضافة إلى ما حمله المستشار الأمني للرئيس الأمريكي جورج بوش عند زيارته الأخيرة لبغداد التي تتضمن نقاطاً عدة فيها حثٌّ للسياسيين العراقيين على شمول المقاومة والمعارضين بمبادرة المصالحة الوطنية، وإصدار عفو عام عن المقاتلين، مع ضرورة حل لجنة اجتثاث البعث التي اتُّخذت غطاءً لإقصاء كل الخيِّرين من المؤسسات العراقية، والعمل على حل الميليشيات وفِرَق الموت، وغيرها.
ولم يفتأ نوري المالكي يغازل معارضيه في مناسبات عديدة بناءً على دواعٍ يعرفها هو قبلَ غيره، ولعل آخرها دعوته لانضمام ضباط الجيش السابق إلى جيشه الجديد؛ مع غصن الزيتون الذي طالما لوَّح به للجماعات المسلحة مقابل أن تترك السلاح، وهو ما ترفضه جماعات المقاومة رفضاً قاطعاً.
هذا في الوقت الذي نشاهد فيه مؤشرات أخرى تشير إلى احتمال استمرار محاولات بوش والإدارة الأمريكية لإحراز النصر على المقاومة العراقية، في ظل ما نشهده من تصرفاتٍ همجية وحشية تتعرض لها مناطق وقرى ومدن كل المناهضين للاحتلال، لتعيش هذه المناطق أوضاعاً مأساوية بالغة الصعوبة كالرمادي وسامراء والبغدادي وحديثة وهيت والرطبة وراوة والزركة، وغيرها.
هذا إذا اخذنا بنظر الاعتبار تلك التحركات الحثيثة التي تواصلها قوات الاحتلال لإقامة قواعد عسكرية دائمة لها في مناطق مختلفة من العراق، جرى الحديث عن آخرها بإقامة القاعدة الأمريكية في كردستان العراق.
وإذا كانت الصعوبة تقف أمام ترجيح أحد الخيارين؛ فإنَّ من المتفق عليه أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى جاهدة لتحويل هزائمها المتكررة إلى عوامل نصرٍ وقوةٍ، تتخذ من خلالها غطاءً لشد رحالها ومغادرة العراق بوجه مشرِّف، كما سماه نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) .
3 الفشل الأكيد ... وماذا بعد؟
إذا كان الفشل يتبادر إلى ذهن أي متابع للخطة الأمنية وأدواتها وأساليبها؛ فإنه من الضرورة بمكان معرفة ما يترتب على هذا الفشل، مع تأكيدنا على الحل البديل لمثل هذه الخطط التي ملَّ أبناء العراق منها ومن كثرتها دونما نتائج تذكر.
فإنَّ حكومة المالكي أضعف ما تكون في هذه الأيام بعد أن فضحت وانكشف وجهها لكل العالم، فضلاً عن فشلها في توفير الخدمات أو الأمن للمواطنين، وقد تسعى أطراف سياسية إلى تكتل كبير تقوم من خلاله بسحب الثقة من هذه الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، ربما يقودها علاوي أو غيره، وقد يكون الواقع مشجعاً على هذا الاحتمال خاصة بعد إعلان تكتل جديد يضم (كتلة علاوي) و (التوافق) و (الحوار) في إطار عمل موحد، ربما بإشارة من قوات الاحتلال، مع ما رافقه من تصدع كبير في جدار الائتلاف الشيعي الحاكم بعد الأنباء التي تواردت عن انسحاب (حزب الفضيلة) الذي يُعَدُّ من أهم مكونات هذا الائتلاف الذي يسيطر على العدد الأكبر من مقاعد الحكومة الحالية والبرلمان؛ وخاصة إذا علمنا أن العدد الذي يملكه حزب الفضيلة في البرلمان هو 15 مقعداً.
ولكنَّ الحكومة البديلة لا يمكن الارتياح إليها ـ أبداً ـ مهما كانت خلفيات تشكيلها، على أساس إنقاذ البلد من المنزلق الطائفي والمذهبي الذي قد يشعل حرباً أهلية في العراق. والكل يذكر أن (فلوجة الصمود) قُصفت ودُمِّرت، وقتل شبابها وأطفالها ورجالها ونساؤها، وشُرِّد أهلها، بإمضاء من (إياد علاوي) يوم أن كان رئيساً للحكومة آنذاك.
وهذا يدعونا إلى التفكير بالمعطيات الأخرى على الساحة العراقية، وهي المقاومة الجهادية والميليشيات الطائفية بعد الفشل الذي ستمنى به القوات المحتلة والحكومية.
وإذا كان القضاء على فرق الموت والميليشيات الطائفية أمر واجب، فإنَّ دعم المقاومة التي تعمل على تحرير العراق لا يقل وجوباً عن ذلك، وعلى فصائل المقاومة أن تدرك خطر التفرقة، فتعمل على توحيد كلمتها، ورصِّ صفوفها، وهي مدعوة لأن تعمل وفق منهجية شرعية واحدة؛ لأنَّ العدو بدأ يهلك، وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة، وقد قرب الخلاص منه إن شاء الله.
إنَّ المقاومة من أجل أن تقطف ثمار الانتصار يجب أن تبتعد كل البعد عن روح المشاحنة أو الاختلاف؛ فإنَّ الانتصارات تزداد يوماً بعد يوم، والمقاومة الباسلة في تصاعد مستمر؛ ولله الحمد، وهذا ما يدعونا إلى التخطيط بجدية للمستقبل؛ فمن الحَيْف والجور أن يتحوَّل من جاد بنفسه في سبيل الله، وساهم في تحرير بلده من الاحتلال ليصبح غداً أو بعد غد مطارداً، ولا يشارك في بناء بلده من جديد.
وعلى جميع المخلصين من أبناء الرافدين ومعهم المسلمون الغيورون أن يقدموا الدعم المادي والمعنوي لهذه الفصائل المخلصة؛ لأنَّ المشروع الجهادي هو الذي أوقف المد الأنجلو ـ أمريكي الذي لم يكن ليقف عند حد احتلال العراق؛ وللمقاومة الفضل الكبير في إفشال المشروع الكوني الأمريكي وإلحاق الهزيمة به، وعليها أن تُبقي الإصبع على الزناد، وأن لا تتحول إلى خلايا نائمة، فينال منها العدو مأربه على حين غفلة من أمرها.
أما محاولات الإنقاذ التي لا تفتأ الإدراة الأمريكية تستخدمها؛ فإنها ستؤول إلى الفشل مهما خططت وأعدت لها. وليس متناغماً ما تفعله إدارة الحرب الأمريكية من دعمها المستميت لعملية متهالكة أثبتت فشلها على مدى سنوات الاحتلال الماضية وما تدعو إليه من مؤتمرات تبغي من خلالها الخروج من عنق الزجاجة الذي بدأ يضيق كلما توغلت في أعماق المستنقع العراقي جراء تزايد خسائرها في البعدين الميداني والسياسي؛ فمن الناحية الميدانية لم تكد قوات الاحتلال تعالج خسارتها لأكثر من مائة جندي خلال شهر واحد حتى ظهر لها سقوط تسع طائرات خلال اقل من شهر. أما من الناحية السياسية فهي الآن مدركة تماماً أنها لم تعد قادرة على الانفراد بالقرار الدولي مثلما فعلت إبّان غزو العراق.
لقد أغرى هذا التخبط الامريكي كثيراً من الدول سواء منها الكبرى أو الإقليمية على استغلال الثغرات للظهور على مسرح الأحداث كلاعبين بدلاء لهذا اللاعب الوحيد الذي بدا عليه التعب والإعياء؛ حيث لم تكن حسابات من خططوا له على درجة عالية من الدقة ومعرفة وثيقة بما سيجري على أرض الواقع من تقلبات.
ولتفادي هذه التداعيات عمدت الإدارة الأمريكية ممثلة بصقورها الذين يعشقون الدم إلى الترويج لمؤتمر تارة يسمونه إقليمياً؛ لأنه سيشمل سورية وإيران، وأخرى يطلقون عليه صفة الدولية، غير أن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن المتحاورين أو المؤتمرين وتحت أي سقف هي أن أمريكا لن ترضى في حواراتها ومؤتمراتها إلا بالحل الذي يؤكد سيطرتها وينتشلها من السقوط في الهاوية.
إنَّ اشتعال المنطقة بحرائق الديمقراطية الأمريكية المصدرة عبر بوابة خريطة الطريق وخريطة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير دعت أمريكا هذه المرة إلى معالجات، ولكن المتابع للسياسة الأمريكية يرى أنها تقف كثيراً عند عوارض المشكلات، وتُعنى بمعالجتها متناسية أو متجاهلة الأسباب التي أفرزت هذه العوارض؛ فهي تعالج نتائج سياستها الهوجاء لا أسبابها.
وبعد كل ذلك: على السياسيين ـ وخاصة من تورط ممن يحسب على أهل السنة، إن كانوا كما يدَّعون انهم شاركوا لمصلحة أهلهم ووحدة العراق ـ أن يعترفوا صراحة بفشل المشروع السياسي الذي كانوا ولا يزالون جزءاً منه؛ لأنَّ انسحابهم اليوم ـ قبل غد ـ من عملية كُتِبَ لها الفشل بعد أن مضى عليها أربع سنين يحسب لهم قبل فوات الفرصة؛ وذلك لسبيين:
أولهما: أنهم سيكونون عندئذٍ ضمن الصف الوطني الذي نأى بنفسه عن أن يكون ضحية عمليةٍ سياسية تمتاز بالظلمة والمصير المجهول، بسبب السياسة الهوجاء للمحتل.
وثانيهما: لأن انسحابهم اليوم يعدُّ الحلقة الأخيرة من فصل المهزلة السياسية الجارية الآن في العراق، وهو بمنزلة النزع الأخير لكل متهالك متعاون مع المحتل وأذنابه؛ ومن عاند منهم وأبى الإنابة وارتضى أن يستمر في طريق مشروع الاحتلال فإنَّ عليه أن يكف لسانه عن مكونات المشروع الوطني العراقي الأصيل من هيئات ومنظمات وتجمعات وفصائل جهادية وغيرها؛ فإنَّ التاريخ يسير وهو يسجل كل موقف وكلمة، وقد علمتنا الدنيا أنها يوم لك ويوم عليك.
إنَّ المواقف غير المسؤولة التي يقوم بها بعض الساسة ممن يُحسَبون على السنَّة ضد القوى الوطنية المشرفة المناهضة للاحتلال، ستقدم حبل النجاة لأعداء الله والوطن من المحتلين وأعوانهم؛ في الوقت الذي نشاهد فيه عدونا وقد توجه نحو الاندحار وهو على وشك السقوط المدوي الذي سيهوي به في قعر الهزيمة والشنار.
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يبصرنا بالحق، وأن يرزقنا اتباعه إنه سميع مجيب.(237/17)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
من هنا وهناك
3 أفاد مدير قسم عمليات مكافحة التجسس بالاستخبارات القومية الأمريكية جويل برينر أن «هناك حالياً 140 جهازاً استخباراتياً أجنبياً يحاول اختراق الولايات المتحدة أو منظمات أمريكية في الخارج، ونحن نشكل بالنسبة للكثير منهم الهدف رقم 1» وأشار إلى أن بعض المواطنين الأمريكيين اختاروا تزويد أجهزة استخبارات أجنبية بمعلومات حساسة ضد بلدهم. [نشرة واشنطن ـ الوطن 21/4/2007م]
3 أصدرت محكمة جرائم الحرب في بلغراد أحكاماً بالسجن بلغت في مجملها 58 سنة ضد 4 متهمين أُدينوا بارتكاب جرائم حرب في مدينة سربرينتسا البوسنية؛ فقد تبين أن الجنود الصرب كانوا يتنافسون في تصوير عمليات القتل والتعذيب بالفيديو للحصول على مكافآت من السلطة العسكرية للصرب عام 1995م، وفي هذه القضية كان دليل الإدانة فيلماً للجناة أنفسهم يقتلون فيه ستة من البوشناق المسلمين. [الشرق الأوسط 11/4/2007م]
3 أكد نعيم قاسم، نائب زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، في تصريح بثته فضائية الكوثر الإيرانية أن حزب الله اعتمد على (الولي الفقيه) في تحديد الموقف الفقهي لحركته العامة وحركته الجهادية الخاصة. [16/4/2007م]
3 في حوار مع نيوزويك الأمريكية قال د. سعد الدين إبراهيم، مدير مركز ابن خلدون للدراسات: إنه كان يتمنى أن يتم تغيير المادة الثانية من الدستور المصري التي تقضي بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وقال: «تقدمنا بتعديل يقضي بأن الشرائع السماوية مصدر أساسي للتشريع» ، وعن موقفه من الجماعات الإسلامية السياسية قال: لدينا فرصة مهمة لدمقرطة الإسلاميين كي يصبحوا كالأحزاب الأوروبية الديمقراطية ذات المرجعية المسيحية. وبخصوص حل أزمة العراق، قال: «الحل أن تنسحب القوات الأمريكية ـ طبقاً لجدول زمني ـ إلى كردستان العراق والكويت حيث سيُرحَب بها» . [نيوزويك 1/5/2007م]
3 قال رئيس الوزراء الصهيوني إيهود أولمرت في حديث إلى مجلة فوكوس الألمانية: «قد لا يكون من الممكن تدمير البرنامج النووي الإيراني بِرَمَّته، لكن في الإمكان إلحاق الضرر به بطريقة يتأخر معها بضع سنوات» . وأضاف موضحاً: «هذا الأمر ممكن من الناحية التقنية، الأمر يتطلب عشرة أيام وإطلاق حوالي ألف صاروخ توماهوك» . ورداً على سؤال عن تدخل عسكري محتمل في إيران بتفويض من الأمم المتحدة، قال أولمرت: «لا يمكن لأحد أن يستبعد ذلك» . [أف ب، 28/4/ 2007م]
علامة تعجب
3 جمهورية (شيشانوف) الخاصة
عيَّن الرئيس الشيشاني رمضان قادروف ابن خاله أوديس بايسلطانوف رئيساً لوزراء الجمهورية القوقازية، وكان بايسلطانوف ـ 42 عاماً ـ تعيَّن نائباً لرئيس الوزراء في مارس، وكان قادروف ـ الأب ـ رئيساًً سابقاً للشيشان قبل أن يُقتل في عملية للمجاهدين. [رويترز 11/4/2007م]
3 مجلس (البواب) اللبناني
قال النائب عن حركة أمل الشيعية علي حسن خليل: إنه مع استفحال الأزمة السياسية في لبنان فإن الأمر يتطلب من الأكثرية التسليمَ بأن المدخل للحل هو في قيام حكومة وحدة وطنية شرعية ودستورية، وأكد خليل أن ذلك هو ما سيجعل رئيس مجلس النواب نبيه بري ـ وزعيم أمل ـ يفتح أبواب المجلس، ويُذكر أن بري يرفض فتح المجلس أمام النواب كما يرفض دعوته للانعقاد. [بتصرف عن الوطن 23/4/1428هـ]
3 لذبحهم
قال وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس أنه أبلغ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي التقاه في بغداد الشهر الماضي، ضرورةَ «مد اليد إلى السنة» . [الشرق الأوسط 21/4/2007م]
3 الديموعراقية
في تعليق أدلى به محلل سياسي بريطاني بخصوص الاحتلال الأمريكي للعراق، قال: «كان مفترضاً بحرب العراق أن تنشر الديموقراطية في الشرق الوسط، لكن أكثر نتائجها وضوحاً حتى الآن هو أنها نشرت العراقيين حول العالم» . [الحياة 22/4/2007م]
3 طالبانستان
تسير الأمور القتالية في أفغانستان على وتيرة واحدة تقريباً: قوات التحالف بقيادة واشنطن تقصف قرى أفغانية وتقتل مدنيين انتقاماً لتعاطفهم مع طالبان، بعدها يصرح مسؤول أمريكي أنه تم قتل عناصر من طالبان..، تخرج تظاهرات في المناطق (المقصوفة) تهتف: الموت لأمريكا!..، ولو أجرينا حساباً للأعداد التي يتم قتلها في أفغانستان وباكستان ثم الادعاء بأن القتلى ينتمون إلى طالبان، سنكتشف أن أفغانستان يسكنها الطالبانيون مع أقلية أفغانية.
مرصد الأخبار
(الحرة) وأخواتها.. قنوات ناسخة للوعي العربي
بدأت فضائية (روسيا اليوم) الناطقة بالعربية بثَّها في أول شهر مايو، وهي قناة حكومية تابعة لوكالة نوفوستي الرسمية، ويترأس تحريرها يفجيني سيدروف الذي يتحدث العربية بطلاقة؛ حيث عمل سنوات طويلة في قناة النيل المصرية.
ويمتد بث القناة إلى 20 ساعة يومياً، تعطى فيها الأفضلية للحدث العربي، لكن برؤية روسية بالطبع. وتبلغ موازنة القناة عند إطلاقها 35 مليون دولار، في مقابل 30 مليون دولار حجم موازنة مثيلتها الناطقة بالإنجليزية، وتبث القناة إرسالها عبر قمر (عرب سات) .
ويقول مراقبون: إن إنشاء القناة تم بإيعاز مباشر من بوتين شخصياً؛ وذلك لمنافسة قناة (الحرة) الأمريكية، وطبعاً صرَّح رئيس تحرير القناة الروسية أن هناك معيارين رئيسين لما سيتم بثه، وهما «الموضوعية والحيادية» .
وكانت فرنسا أطلقت قناتها العربية أول إبريل الماضي برعاية مباشرة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وتبلغ ميزانية القناة الفرنسية 80 مليون يورو، وتعتزم المفوضية الأوروبية هي الأخرى إطلاق نسخة عربية من قناتها (يورو نيوز) التي ستتخذ من مدينة ليون الفرنسية مقرّاً لها، حسبما ذكر رئيس مجلس إدارتها فيليب كايلا، وستبث (يورو نيوز) العربية التي ستنطلق أوائل العام المقبل لفترة 24 ساعة؛ حيث ستعرض وتقدم المحتوى نفسه الذي تعرضه بلغاتها السبع، وستركِّز على أسلوب الأخبار السريعة.
وكانت بي بي سي البريطانية أعلنت عن قرب إطلاق نسختها العربية، وعينت رئيساً لتحريرها الإعلامي المصري صلاح نجم الذي ساهم في تأسيس قناتي الجزيرة والعربية من قبل.
[بتصرف عن الوطن الكويتية 28/4/2007م]
3 الموساد في العالم العربي
تزايدت في الآونة الأخيرة قضايا التجسس التي يضبط فيها عملاء يتجسسون لحساب الكيان الصهيوني في دول عربية، وفي مقدمتها مصر.
وقد شكلت مصر الهدف المفضل للمخابرات الإسرائيلية للعمل في صفوف مواطنيها، بالرغم من اتفاقية السلام بين البلدين التي يمر عليها هذه الأيام ثلاثون عاماً، وقد وصل عدد جواسيس الموساد، الذين تم تجنيدهم والدفع بهم نحو مصر، حوالي 70 جاسوساً، 75% مصريون، و25% إسرائيليون، وقد زخرت ملفات محاكم أمن الدولة المصرية بعشرات من قضايا التجسس لصالح المخابرات الإسرائيلية.
وتتعدد مظاهر العدائية التي يمارسها الموساد ضد العرب، وهي لا تقتصر فقط على جمع المعلومات الحيوية، وقد أفادت تقارير الأمن المصرية أن 86% من جرائم التهريب وتزوير العملات ارتكبها إسرائيليون، كما نُشرت تقارير اقتصادية عن اكتشاف معلبات لحوم حمراء إسرائيلية تم ضخها بكميات كبيرة في الأسواق العراقية وبأسعار منخفضة، وهي إما تحمل فيروسات (جنون البقر) ، أو منتهية الصلاحية، أو تحتوي على مواد سامة؛ يؤدي تناولها للإصابة بأمراض العقم، والكوليرا، والتيفوئيد، والتسمم المعوي، كما تم قبل نحو عامين إحباط محاولات إسرائيلية لتسريب أدوات تجميل وصبغات شعر تحتوي على مواد مسرطنة للأسواق العربية، عبر دول أوروبية.
وتشير تقارير أمنية أن أعداد قضايا المخدرات المتهم فيها إسرائيليون خلال 10 سنوات، بلغت 4457 قضية فقط في مصر لوحدها، ومما يدلل على ذلك اعتراف مصدر إسرائيلي بأن مصر يدخلها 500 طن مخدرات سنوياً عن طريقها. وفي السياق نفسه نشرت صحيفة (معاريف) أن أكثر من 5000 طفل يعيشون في إسرائيل، تم خطفهم أو سرقتهم من الدول المجاورة لها، ثمَّ تم تهويدهم. [مقتطفات من مقال عدنان أبو عامر، المركز الفلسطيني للإعلام 6 ـ 5 ـ 2007م]
قالت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية: إن مسئولاً في فرع جامعة جورج تاون الأمريكية في قطر أبلغ مراسلها في واشنطن بأن جامعته تفتح أبوابها أمام طلاب من جميع أنحاء العالم بما في ذلك إسرائيل. وأكد جيمس ريردون أندرسون عميد الفرع القطري للجامعة أنه يقصد الطلاب الجامعيين الإسرائيليين من اليهود، وقال: «لقد استقبلنا في قطر خلال السنوات الماضية العديد من الإسرائيليين بمن في ذلك طلاباً شاركوا في لقاءات بتنظيم الأمم المتحدة، ولا أرى مشكلة على الإطلاق في استصدار تأشيرات دخول للإسرائيليين؛ يهوداً وعرباً» . [الشرق الأوسط 21/4/2007م]
(حراج) الرؤساء
(إدارة بوش بلاء مطبق، خصوصاً مع جهل الرئيس مدى جهله، ولا أملك إلا أن أقارنه هنا بالرئيس جيرالد فورد؛ فهو الوحيد الذي وصل إلى الرئاسة من دون انتخاب؛ لأن ريتشارد نيكسون عيّنه نائباً له بعد استقالة سبيرو أغنيو في فضيحة فساد، وأصبح رئيساً بعد استقالة نيكسون في فضيحة ووترجيت.
فورد كان يعرف أنه محدود القدرة، لذلك اعترف يوماً بتقصيره، وقال: «أنا فورد ولست لنكولن» ، وهذه عبارة ذكية جدا، فسيارة فورد شعبية رخيصة، أما لنكولن ففخمة ضخمة مرتفعة السعر، تليق بحمل اسم أشهر رئيس أمريكي (إبراهام لنكولن) .
إذا كان جيرالد فورد مثل (فورد) ، فإن بوش الابن (لادا) مستعملة، وقدرته ما كانت لتثير اهتمام أحد لو أنه رئيس دولة من العالم الثالث يرتد جهله على دولته ولا يتجاوز حدودها، إلا أن جورج بوش رئيس العالم ويمارس جهله فينا.. هذا الجهل قتل حوالي 600 ألف عراقي وربما مليوناً، وشرّد أكثر من مليونين خارج بلادهم) . [جهاد الخازن، صحيفة الحياة 23/4/2007م]
في عالم السُّنَّة تجد المباني والمساجد المهدمة والشوارع التي تركتها قذائف المورتر كالغربال، ناهيك عن أكوام القمامة الملقاة هنا وهناك، وانقطاع الكهرباء معظم الوقت مما دفع الكثيرين للامتناع نهائياً عن استخدام الثلاجات.
عكْس هذه الأوضاع تسود في الضواحي والمناطق الشيعية؛ حيث تمتلئ رفوف المحال التجارية بالسلع، وهناك مشاريع تنفَّذ بمجهود جماعي، وبالرغم من عدم توافر التيار الكهربائي إلا أنه لا يوجد هناك مشكلة في توفير الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية في هذه المناطق؛ عندما تعجز الحكومة عن توفير الخدمات يأتي الفرج دائماً على يد الميليشيات الشيعية التي تحاول ملء الفجوة.
وعند التجول في منطقة الأعظمية ذات الغالبية السنية نجد أن المستشفى الوحيد هناك، الذي يطلق عليه اسم النعمان، تنقصه كل الاحتياجات الأساسية، مثل: القطن، والضمادات ... وعندما وقعت قذائف المورتر على الحي في الخريف الماضي ناشد الأطباء الأهالي بتقديم ما هو متوافر لديهم من مستلزمات طبية عبر مكبرات الصوت في المساجد.
يقر المسؤولون الحكوميون بوجود إعاقات تمنع الوزارات من تقديم خدماتهم للضواحي والمناطق السنية، على سبيل المثال: وزارة الصحة يسيطر عليها الشيعة من أتباع مقتدى الصدر ... وذكر أحمد الجلبي، وهو علماني شيعي يترأس اللجنة المكلفة بحشد التأييد الشعبي للخطة الأمنية، أن هناك أربع مشاكل توجد في المناطق السنية وهي: توزيع الأغذية، والكهرباء، والوقود، والخدمات الصحية.
لا يكاد يقترب وقت الظهيرة حتى لا تجد أحداً يتجول في الشوارع، الكثيرون لا يغادرون منازلهم من أجل الذهاب إلى العمل أو زيارة الطبيب؛ بسبب خوفهم من أن يتم اختطافهم وقتلهم على نقاط التفتيش التي يقيمها الجيش والشرطة العراقية؛ التي يطغى عليها العنصر الشيعي.
يهاجم رجال الميليشيات الضواحي السنية ويعملون على قتل وخطف كل من يقال عنه أنه يدعم (المتمردين) . تقول امرأة سنية تقيم في إحدى هذه الضواحي: لم يعد التجار يفتحون متاجرهم، وإذا ما أردنا شراء شيء فإننا نذهب إلى بيوتهم، إذا ما حاول تاجرٌ فتحَ محله فإن المتمردين سيهددونه» . الكثير من النسوة يقمن بالأنشطة التي كان يقوم بها الرجال، مثل: التسوق، وأخذ أغراض المنزل للتصليح، تقول إحداهن: «إنهم يقتلون الرجال فقط! وهذا يجبرنا على الخروج وحدنا» .. وهكذا تمضي حياة السُّنَّة في بغداد ككابوس طويل ليس له نهاية. [صحيفة تايمز البريطانية، الوطن القطرية 1/5/2007م]
3 بوش على خُطى نيكسون
صرح جون مورثا، رئيس اللجنة الفرعية للدفاع في مجلس النواب والمقرب من رئيسة المجلس نانسي بيلوسي، أن الكونجرس قد ينظر في احتمال إقالة جورج بوش من منصبه، وذلك ردّاً على استخدام الرئيس الأمريكي الفيتو الرئاسي ضد قرار ربط تمويل الحرب في العراق بسحب القوات الأمريكية بحلول نهاية مارس المقبل.
وقال مورثا خلال برنامج (فايس ذي نايشن ـ واجه الأمة) على محطة سي بي إس: «هناك ثلاث أو أربع وسائل للتأثير على الرئيس: أولاً: الرأي العام، ثانياً: الانتخابات، وثالثاً: بدء الإجراءات التي تؤدي إلى الإقالة، ورابعاً: المال» ، وسئل تحديداً: إن كان الديمقراطيون الذين يسيطرون على مجلسي الكونغرس ينظرون جديّاً في خيار إقالة الرئيس؟ فرد: «ما أقوله هو أن ثمة أربع وسائل للتأثير على الرئيس، وإحداها هي الإقالة» . [الرأي العام 1/5/2007م]
س وج
س: ما حجم الكلفة الاقتصادية للحرب الأمريكية على العراق حتى الآن، وما توقعاتها القادمة؟
بعد مرور 4 سنوات على الحرب في العراق فإن التكلفة الاقتصادية للحرب بلغت 400 مليار دولار، ومع نهاية السنة الحالية من المتوقع أن تصل التكلفة إلى 500 مليار دولار، بما يزيد عن تكلفة الحرب في كوريا، وما يوازي تقريباً تكلفة 12 سنة من حرب فيتنام.
كما أن الحرب في العراق تكلِّف الاقتصاد الأمريكي خسارة ما يقرب من 1% من قيمة نمو الإنتاج المحلي، وعشية غزو العراق في 2003م لم يتوقع الرئيس جورج بوش وإدارته أن تصل التكلفة حتى إلى ربع هذا المبلغ.
بل إن الإدارة كانت قدّرت موازنة الحرب بنحو 75 بليون دولار في مراحلها الأولى، لكنها بدأت منذ شهر أبريل 2003م في طلب موازنة إضافية تبلغ 54.4 مليار دولار ثم بعدها بسبعة أشهر طلبت اعتماداً إضافياً آخر (70.6) مليار دولار، ثم اعتماداً آخر وآخر ـ، إلى أن طلبت في يناير الماضي 100 مليار دولار أخرى.
وفي دراسة حديثة شارك فيها جوزيف ستيجليتز، أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل، قُدِّرت التكلفة الإجمالية للحرب على العراق بعد إضافة النفقات المستقبلية بـ 2 تريليون دولار.
هناك أيضاً دراسة ثالثة تشير إلى أنه بالمتوسط فإن كل أسرة أمريكية ستتحمل عبئاً قدره 5000 دولار من نفقات الحرب في العراق، وهو عبء لا يزال الإعلام الأمريكي يداريه عن النقاش العام. [الحياة 22/4/2007م]
س: يبدو الحجاب حاضراً في خلفية المشهد السياسي التركي؛ فما موقف الرأي العام الشعبي منه؟
يشير مسْحٌ أجرته مؤسسة «تي أي إس أي في» البحثية أن 60% من نساء تركيا محجبات، وأن 59% من الأتراك يعتقدون أنه يجب على المسلمات أن يتحجبن، وقد بلغ الجدل حول الحجاب ومدلوله السياسي درجة منعت كثيراً من العلمانيين من تسميته باسمه؛ حيث يميلون إلى تسميته (تيوربون) أو (العمامة النسائية) عندما يتحدثون عنه كمدلول سياسي، بينما يسمونه (غطاء رأس) للإشارة إلى ما ارتدته جداتهن أو ترتديه الريفيات، في محاولة لتقليص البعد الديني في ارتدائه.
وذكر تقرير نشر في عام 2006م أن نسبة التحجُّب في تزايد لدى التركيات، ومن بين 1500 امرأة تم استطلاع آرائهن، قالت 36% منهن: إنهن لا يخرجن إلى الشارع من دون حجاب، وكانت هذه النسبة 27.3% عام 1999م.
وأصبحت عروض أزياء الملابس الإسلامية أمراً عادياً في المدن الكبرى، وهو ما لم يكن وارداً قبل 10 سنوات. واعتبرت خبيرة علم المجتمع التركية نيلوفر غل في كتابها (مسلمات ومتطورات: الحجاب والتطور في تركيا) أن خلف الحجاب تظهر ملامح جديدة للمرأة المسلمة؛ حيث إنها أصبحت مثقفة وناشطة اجتماعياً. [بتصرف عن الشرق الأوسط 24/4/2007م، 25/4/2007م]
س: كم يبلغ عدد اللاجئين العراقيين بالداخل والخارج؟
يوجد في سوريا الآن حوالي مليون لاجئ عراقي، وفي الأردن 750000، وفي مصر 150000، وفي إيران 54000، وفي لبنان 40000.
هذا يعني مليوني لاجئ تقريباً خارج العراق، إضافة إلى مليون وَ900 ألف نازح عراقي داخلياً اضطروا إلى مغادرة مناطقهم الأصلية ونزحوا إلى مناطق أخرى داخل العراق، مع ملاحظة أن الأكراد في إقليمهم في الشمال يرفضون قبول غير الأكراد، ونصف الأقاليم العراقية الأخرى ترفض قبول نازحين إليها ما لم يثبتوا ارتباطهم السابق بالإقليم.
وكانت الولايات المتحدة وعدت من قبل بقبول لجوء 7000 عراقي إليها، ثم رفعت الرقم مؤخراً إلى 25000، لكنها في التنفيذ لم تقبل حتى الآن سوى 420 لاجئاً عراقياً، أما بريطانيا، وهي الشريك الآخر في الغزو، فقد رفضت من الأصل قبول أي لاجئ عراقي. [صحيفة الحياة]
ترجمات عبرية
تصريحات
3 «إسرائيل لن تنسحب إلى حدود الرابع من يونيو عام 67 بل ستتراجع إلى حدود متفق عليها، ولا شك أننا سنضطر إلى الانسحاب من أجزاء كبيرة من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن ليس بالتحديد إلى حدود عام 67» . [شيمون بيريز نائب رئيس الحكومة الصهيونية، صحيفة يديعوت أحرنوت، 30/3/2007م]
3 سيتعين على الجيش الإسرائيلي العمل قريباً ضد حماس في ضوء تعاظم قوة الحركة، وإن عملية تعاظم قوة حماس تفترض حلاً كهذا أو ذاك من جانبنا؛ حيث يدور الحديث عن كميات كبيرة من السلاح وارتفاع في درجة التخطيطات العملياتية لديهم. [جابي أشكنازي، رئيس هيئة الأركان الصهيونية، معاريف، 29/3/2007م]
إن حالة الخوف والهلع التي يعيشها الأطفال وأولياء أمورهم، في بلدة سديروت المحتلة والقرى المحيطة بقطاع غزة بسبب صواريخ القسام، تؤثِّر في نفس كل مواطن في الدولة. [رئيس الوزراء الصهيوني إيهود أولمرت، 2/4/2007م]
3 وزير الدفاع عامير بيرتس يشكل خطراً على أمن إسرائيل ولا يفهم شيئاً عن الأمن، وعليه تقديم استقالته على الفور، وأنه إذا كان الوزير بيرتس يستصعب تقديم استقالته بنفسه فأنا على استعداد لأخذ هذه الاستقالة وتقديمها لسكرتيرة الحكومة. [عضو الكنيست ديفيد روتام في مقابلة مع الإذاعة العبرية، 8/4/2007م]
3 يجري العمل في الكنيست على بلورة خطة لدراسة إمكانية إعداد مبانٍ بديلة لاستخدامها كمقر للكنيست في حال تعرُّض المبنى الحالي لهجوم. وقال المدير العام للكنيست، آفي بلشنيكوف: إنه يجري العمل على إيجاد أماكن بديلة لاستخدامها كبدائل للمبنى الحالي في حال تعذر استخدامه. وأضاف أنه تم تشكيل طاقم خاص لبحث هذه المهمة، ومن بين البدائل التي تجري دراستها (مسرح القدس) و (مركز بيجين) و (مركاز هيريديم) في تل أبيب، و (بيت سلاح الجو) في هرتسليا. [موقع الإذاعة العبرية، 5/4/2007م]
3 أظهرت معطيات نشرتها جمعية (شلوميت) الصهيونية لتسجيل المتطوعين للخدمة الوطنية في إسرائيل، أن ارتفاعاً طرأ منذ مطلع العام الحالي 2007م على عدد الشبان العرب الذين تطوعوا لأداء الخدمة الوطنية، مقارنةً مع عددهم في العام المنصرم. وأشارت الجمعية أن عدد المتطوعين العرب وصل هذا العام إلى 213 متطوعاً. ويثير موضوع أداء الخدمة الوطنية جدلاً في صفوف المجتمع العربي في إسرائيل؛ حيث إن غالبية الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني العربية في إسرائيل ترفض المشاركة في أداء الخدمة الوطنية، باعتبارها مقدمة للخدمة العسكرية. [صحيفة هآرتس، 6/4/2007م]
أخبار التنصير
3 مقتل 3 منصرين وإصابة 2 في مركز تنصير بتركيا
كشفت جريمة قتل بمدينة مالاطيا جنوب شرق تركيا، عن واحدة من شبكات التنصير النشطة في تركيا عندما لقي ثلاثة منصِّرين ـ أحدهم ألماني ـ مصرعهم ذبحاً وأصيب منصِّران آخران في هجوم شنَّه مجهولون على (مكتبة) تقوم بأعمال تنصيرية في المدينة التركية.
أشارت المصادر الأمنية إلى توقيت الهجوم الذي جاء بعد معلومات عن تصاعد نشاط المجموعات التنصيرية المسيحية، وخاصة في المناطق الفقيرة بجنوب شرق البلاد؛ حيث تقوم تلك المجموعات بتوزيع نسخ من الإنجيل باللغة التركية وكتب تنصير أخرى مجاناً، بالإضافة إلى وعود للشباب بنقلهم إلى الدول الأوروبية، كما تحدثت المعلومات عن توزيع مبالغ كبيرة لإغراء الفقراء على الارتداد عن الإسلام. [نبأ ـ 19 أبريل، 2007م]
3 تنصير السنة أم الشيعة؟
كشفت مصادر مغربية أن المنصر الأكاديمي الأمريكي (كامبيز كانيبا سيري) أُجبِر على ترك منصبه، مدير الشؤون الأكاديمية بمؤسسة (دار الحديث الحسنية) الشيعية الرسمية بالمغرب عائداً للولايات المتحدة، وذلك بعد ضجة إعلامية كبيرة واكبت تعيينه منذ شهرين في هذا المنصب.
وأوضحت المصادر أن وزير الأوقاف المغربي أحمد التوفيق اتفق في الأيام القليلة الماضية بشكل ودي مع (كامبيز) الإيراني الأصل على وقف مهامه كمشرف أكاديمي على المناهج الدراسية.
وكانت تفاعلات مشاركة المنصِّر الأمريكي قد بدأت بعد أن تسرب إلى وسائل الإعلام خبر ملتقى علمي سري عقده الوزير في مراكش ما بين 23 و26 فبراير الماضي، جمع باحثين أمريكيين ومغاربة وشارك فيه (كامبيز) لدراسة سبل مراجعة برامج دار الحديث الحسنية. [وكالة الأنباء المغربية 23/4/2007م](237/18)
من يفيق أولاً؟
د. يوسف بن صالح الصغير
أثناء زيارة رئيس البنك الدولي لإستانبول طُلِبَ منه خلع حذائه لدى زيارته أحد المساجد، وبقدر ما كان الطلب منطقياً فهو محرج وغير متوقع؛ فقد كانت الصحافة حاضرة، وانتشرت صور قَدَم المسؤول الكبير الظاهرة من خلال الشقوق والتمزقات، ولكن هذا لا يهم؛ لأن شعاره المرفوع بعد توليه منصبه الجديد هو: (التنمية ومحاربة الفساد في إفريقيا) ولا يمكن تحقيق الهدف إلا بمن يحمل صفتي: الأمانة والتدبير.
وإذا عدنا إلى سيرته الذاتية فهو يهودي بولندي الأصل اسمه «بول وولفوفيتز» ولد في نيويورك، ويحمل الجنسيتين الأمريكية والإسرائيلية، وعمل أكاديمياً، ثم سياسياً ينظِّر للمحافظين الجدد، وكانت نظريته الأساسية تقوم على نشر الديمقراطية قهراً؛ وعلى أساسها عُيِّن نائباً لوزير دفاع الولايات المتحدة الأمريكية. ومع بوادر الفشل في العراق كان ضرورياً خروجه قبل سقوط (رامسفيلد) . وهو من أكبر دعاة الحرب، وكان ملفتاً للنظر اختيار الإدارة الأمريكية له، رئيساً للبنك الدولي، وهو ما يفتح الباب للتساؤل حول آلية اختيار المسؤولين حالياً، وهل الأساس فيها البحث عن شخص مناسب للمنصب الشاغر، أم البحث عن منصب شاغر للشخص المناسب؟ ويبدو لي أن الشخص المناسب يُبْحَث له عن منصب لائق؛ وأمامي مجموعة من الأحداث الدالة على هذا الاستنتاج:
1 ـ تعيين (بول وولفوفيتز) نائباً لوزير الدفاع الأمريكي وهو أحد أهم المحافظين الجدد في واشنطن، وأكثرهم نفوذاً في رسم السياسة الخارجية خلال سنوات حكم المحافظين في التسعينيات من القرن الماضي، وقد آمن وولفوفيتز بأن عدم غزو بغداد أثناء حرب الخليج الثانية والاستيلاء عليها كان خطأ فادحاً، وكرر وولفوفيتز وآخرون في الإدارة هذه المقولة مراراً عبر السنوات الماضية، وكتبوا مجموعة من الخطابات والأوراق البحثية مع مجموعات أخرى من المحافظين الجدد من خلال بعض مراكز الفكر مثل: مشروع القرن الأمريكي، ولجنة تحرير العراق. ومع خروجه من البنتاجون تم تعيينه رئيساً للبنك الدولي، وأخيراً اعترف بأنه أساء استخدام منصبه عندما أصدر قرارات ترقية وزيادات في أجر موظفة بالبنك كان على علاقة عاطفية معها، وقد طالبت جمعية موظفي البنك الدولي باستقالة وولفوفيتز حفاظاً على سمعة البنك؛ ومع ذلك أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض (دانا بيرينو) أن «الرئيس يثق ببول وولفوفيتز وبعمله» في البنك الدولي. وأعتقد أن بقاءه مرهون إما ببقاء بوش في السلطة أو العثور على منصب آخر لائق ببول. وإذا كانت هذه الموظفة تنتمي إلى أسرة مسلمة يتلاعب بها هذا اليهودي؛ فماذا يقول دعاة حرية المرأة عن الثمن الذي يجب أن تدفعه المرأة للترقي في العمل زيادة على الأداء المتميز والكفاءة المهنية؟
2 ـ ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن وزارة الخارجية استدعت سفيرها في السلفادور بعد أن عثر عليه عارياً وثَمِلاً ومكبل اليدين ومكمَّماً في أحد شوارع العاصمة سان سلفادور، وقالت وزارة الخارجية: إن السلوك المعيب لأحد ديبلوماسييها في الطريق العام «أمر لم يحصل من قبل» وأعلنت انها ستعين سفيراً جديداً في أقرب وقت.
3 ـ عثر على السفير الإسرائيلي في أثيوبيا مصاباً بالرصاص في منزله بأديس أبابا، وقالت وزارة الخارجية الإسرائيلية: إن الحادث لا يبدو «حادثاً إرهابياً» .
4 ـ تقديم سفير إسرائيل السابق في البرازيل إلى القضاء بتهمة اغتصاب قاصر في الثالثة عشرة من عمرها.
5 ـ وفاة سفير إسرائيل في فرنسا، وكان من أبرز ديبلوماسييها وأكاديمييها، وهو في صحبة غانيتين في أحد فنادق باريس.
وحيث إن كل هؤلاء يحملون الجنسية الإسرائيلية فإنني أكتفي بإيراد بعض التعليقات الإسرائيلية على موقع صحيفة (معاريف) على الإنترنت؛ حيث عزا كثيرون هذا السلوك إلى طريقة التعيينات التي تنتهجها الوزارات المختلفة القائمة أساساً على المحسوبيات، مستذكرين أن رئيس الحكومة إيهود أولمرت وعدداً من النواب في الكنيست الذين شغلوا مناصب وزارية تم تقديمهم إلى القضاء جراء تعيين ناشطين حزبيين في مناصب رفيعة من دون أن تتوافر فيهم الكفاءات المطلوبة. واقترح أحد المعقبين، ساخراً، تعيين السفير العاري «رئيساً للدولة بدلاً من موشيه كتساف» الذي يواجه لوائح اتهام باغتصاب عدد من الموظفات اللواتي عملن معه، وأضاف آخر: «هكذا تكون حالنا عندما يسيطر الإجرام المنظم على الحكم» .
وأخيراً: فإن هذا يدل على أن الفساد وصل إليهم وتغلغل فيهم، وأنهم انتقلوا من مرحلة البناء والظهور إلى المرحلة التالية وهي مرحلة الركون والاستغلال، وكلما ضعفت الحساسية للفساد وبقي من تلبَّس بالخيانة أو التقصير، بل يعلن الرئيس الرضا عنه؛ فإن الانحدار قريب، وما أرجو هو ألا تكون إفاقتهم سريعة، وألا ينطبق عليهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - حول صفات الروم لكثرة اليهود بينهم.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(237/19)
الليبراليون اليوم لهم في تاريخنا نظير
عبد الملك عبد الله آل ملفي
لعل مما ابتلي به المسلمون اليوم هو حرب المصطلحات، وهذه الحرب ليست بالبساطة التي يتوقعها بعضهم، ولتوضيح هذه المسألة فإن فكرة هذه الحرب تعتمد على استبدال مصطلحات شرعية بأخرى ذات دلالات مغايرة؛ بهدف التلبيس على الناس وتهوين شأن المعصية في نفوسهم، أو للهروب من الصفات المترتبة على انطباق بعض المصطلحات الشرعية في حق من يقترف ما يقتضي ذلك، ومن أمثلة ذلك: ما توصف به فاحشة الزنى في بعض البلدان بأنها (تجارب عاطفية) ، أو ما توصف به الخمر من أنها (مشروبات روحية) .
وقد ورد في بعض الأحاديث ما يفيد بوقوع مثل هذا الأمر في آخر الزمان كما في الحديث الذي رواه أبو أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها» (1) .
ومن المصطلحات الحادثة على مجتمعاتنا الإسلامية اليوم ما يعرف بمصطلح (الليبرالية IBERALISM) ، وهو في الأصل مصطلح غربي المنشأ، ويعرَّف بأنه: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي (2) .
ولها تعريفات مرتكزها الاستقلالية، ومعناها: التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي؛ ثم التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاقة والانفلات نحو الحريات بكل صورها.
وبالرغم من أن هذه الفلسفة تنادي بتقديس حرية الفرد حتى ولو على حساب الدين أو العرف بل حتى الفطرة! مما يعني تعارضاً صريحاً مع شريعة الإسلام، إلا أنك تجد وللأسف في بعض بلاد المسلمين اليوم من يُصرِّح بكونه (ليبرالياً) أو نحو ذلك، ويحاولون تجاوز حقيقة المصطلح المصادم للشرع، وذلك عن طريق كثرة التغنِّي بمفاهيم الحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان، حتى يظن من يجهل حقيقة الدين أن هذه المفاهيم إنما هي وليدة هذه الفلسفة وأنها ليست موجودة في الإسلام، بل إن البعض ممن يتسمون بهذا اللقب يعتقدون أن مجرد التسمي به سوف يجعل الناس يقبلون كل ما يمارسه أو يدعو إليه، مستغلين ذلك البريق الزائف لهذا المصطلح.
ويأتي هذا المقال إسهاماً في تعرية هذا الزيف، وذلك عن طريق محاولة وزن تلك الممارسات والدعوات التي يمارسها هؤلاء (الليبراليون) بالميزان الشرعي، وكذلك بمحاولة إحلال المصطلح الشرعي بديلاً لمثل هذه المصطلحات الخادعة.
ولكن يبقى السؤال: ما هو البديل الشرعي الأمثل لهذا المصطلح؟
وللإجابة عن هذا التساؤل فإني أعتقد أنه ينبغي لنا أن ننظر إلى أبرز صفات من يطلقون على أنفسهم هذا المصطلح وكذا أبرز ممارساتهم ودعواتهم، ثم ننظر هل وُجِد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من يشابههم في شيء من ذلك؟ ثم ننظر إلى المصطلح الذي استخدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - للدلالة عليهم فنستخدمه، وبناءً على ذلك فإني سوف أستعرض أبرز ممارسات ودعوات من يسمون أنفسهم بـ (الليبراليين) ، وسأحاول ـ قدر المستطاع ـ أن أكون دقيقاً فيما أنسبه إليهم مستشهداً على ذلك بجملة من مقالاتهم أو مواقفهم المعروفة والمشهورة، ثم أقارن بينها وبين ما وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يشابهها، ومن ثَمّ سيتبين لنا جميعاً المصطلح الشرعي المناسب للحكم على هذه الممارسات والدعوات وأصحابها، فمن ذلك:
1 ـ دعوة الشعوب المسلمة إلى إلغاء الجهاد وعدم تدريس أحكامه بما فيها الشعوب المحتلة:
من أبرز دعوات الليبراليين في هذا الزمن دعوة الشعوب الإسلامية المحتلة إلى «التخلي عن خيار المقاومة نهائياً والخروج من دوامة الحروب والقضية الفلسطينية، والجنوح إلى السلام وقبول الأمر الواقع وإغلاق كل ملفات القتال» والقبول بالسلام بدون شروط، بل بما يراه العدو مناسباً بحجة «أن المهزوم يقبل ولا يفرض» (1) ، بل ويوجهون أشد أنواع النقد لكل عمل من أعمال المقاومة والجهاد تقوم به تلك الشعوب (2) ، وكذلك يدعون إلى إلغاء تدريس أحكام الجهاد بزعم أنه هو «الأساس الذي يستغله المفجرون والمخربون ليجندوا أبناءنا الآن فيما يسمونه جهاداً» (3) .
وبقليل من النظر والتأمل فإننا نستطيع القول بأن هذه الدعوة قد وُجدت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان هنالك طائفة يقفون ضد مبدأ الجهاد ويرون أنه عمل لا مبرر له ويمتنعون عن المشاركة فيه، حتى ولو كان ذلك تحت راية أعظم إمام في التاريخ وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد ورد في قصة غزوة أُحد أن عبد الله بن أُبيّ انسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلاثمائة مقاتل ـ قائلاً: ما ندري علامَ نقتل أنفسنا؟! (4) .
2 ـ النيل من رموز الأمة وعلمائها والتطاول عليهم بالسخرية والتنقص والتهم الكاذبة:
وهذا الأسلوب من أكثر ما يمارسه الليبراليون، وقصدهم بذلك تشويه صورة العلماء والدعاة لدى العامة، ومما يؤسف له أن هذا الأسلوب أخذ في التنامي في الفترة الأخيرة في ظل السكوت المطبق عنهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يصف أحد أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة بأنه (يعد نفسه من العلماء، ومحسوب على هيئة كبار العلماء في المملكة) ، وأنه (يميّع أصل المسألة) ، ويختتم مقالته بقوله: (ونطالبك أنت يا شيخ ... بالاعتذار عما بدر منك في حقنا جميعاً) (5) .
وهذا الأسلوب ـ أيضاً ـ ليس جديداً، فقد مارسه أشباههم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، ونكتفي بذكر مثال واحد وإلا فالشواهد عديدة في هذا الباب: روى محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل وهو يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة: «ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء» ، فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} إلى قوله: {كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65 - 69] ، وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متعلق بنسعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) .
3 ـ ممارسة أساليب التزلف للقادة وتصنّع الغيرة على الوطن:
ومن أمثلة ذلك المزايدات المكشوفة حيال بعض الموضوعات كـ (الوطنية) وإعطاء تصور أنها ـ أي: (الوطنية) ـ حكر على أصحاب الفكر الليبرالي، وأنهم أحرص الناس على مصالح هذا الوطن، ومحاولة اتهام كل من خالفهم بعدم حب الوطن، كما قال أحدهم معدداً مآثر القوم: «وتحدثوا عن الوطن والوطنية، وعَلَم البلاد وهيبتها؛ يوم كان بعضهم يحرم ذلك» (7) ، وهذا الأسلوب قد مارسه أشباههم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، فقد كان عبد الله بن أُبيّ يقوم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل جمعة حين يجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخطبة، فيقول: «هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا» ، ثم يجلس، فيقوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخطب، وكان من أمره أن فعل ذلك في الجمعة التي أعقبت معركة أحد فقام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأجلسه المسلمون بثيابه وقالوا: اجلس يا عدو الله فلست لذلك بأهل وقد فعلت ما فعلت» (1) .
4 ـ الدعوة إلى الفساد تحت مسمى الإصلاح:
يرى الليبراليون اليوم في كثيرٍ مما لديهم من دعواتٍ إفسادية إصلاحاً، ويصفون من يخالفهم بالتشدد والتكفير، حتى قال قائلهم وهو يصف العلماء والدعاة الذين عارضوا ما وقعت فيه بعض الوزارات من خطأ بقوله: «حتى أوصلهم ما وصلوا إليه من تشدد وتكفير وجرأة وصلت إلى التكتل الهائل ضد قرارات الدولة وخططها التطويرية والإصلاحية. وما الموقف المتشنج من قرار وزارة العمل بتشغيل النساء في محلات الأدوات النسائية عنا ببعيد» (2) . وكذلك فهم يعتقدون بأن الإصلاح لا يتم إلا إذا تخلت الأمة عن ماضيها وانسلخت عن دينها و «أدارت ظهرها بالكامل نحو المستقبل» (3) .
وقد وُجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فئةٌ يرون فيما يمارسون ويدعون إليه إصلاحاً، {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] ، ولكن لما كان ما يزعمونه إصلاحاً هو في الحقيقة عين الإفساد؛ فقد ردَّ الله عليهم بقوله: {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] .
5 ـ استغلال الأخطاء التي يقع فيها بعض المنتسبين للدين لتشويه صورة جميع المتدينين، واتهامهم بأنهم يستغلون الدين لأهداف أخرى:
فكما لا يخفى؛ فإن الليبراليين يستغلون ذلك للنيل من الدعوة والدعاة والمتدينين جميعاً ووصفهم بأنهم تيار «الإسلام السياسي» ، وأن «هذا التيار بدأ تكوين نفسه بعد أحداث الحرم المكي مباشرة قبل أكثر من ربع قرن، عندما التقى الفكر التنظيمي للإخوان المسلمين مع التراث الفقهي المتشدد للمدرسة السلفية التقليدية السعودية» ، وأنه «لا يريد الإعلان عن نفسه تحت صفة سياسية فبحث عن دثار يغطيه فوجد تياراً انطلق بقوة الإعصار وانتشر انتشار النار في الهشيم، فمجتمع المملكة شعب مسلم بالفطرة، والدولة قامت أصلاً على الشريعة الإسلامية، فاستغلَّ التيار هاتين الحقيقتين واستثمرهما استثماراً منقطع النظير، حيث تغلغل تغلغلاً هائلاً في المدارس والجامعات والمساجد والأسواق والمناهج المدرسية والجامعية ومختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها، واستخدم كل الوسائل المتاحة: وسائل الإعلام كلها، النشرات والمطويات، الأشرطة، المخيمات، المراكز ... » ، وأن «التيار السياسي ودُعاته لم يدعوا شيئاً إلا وأسلموه وحشروا الدين فيه حشراً أو حشروه في الدين؛ ابتداء من المرأة وشؤونها، وانتهاء بشكل الرجل ولباسه وحديثه» ، وأن «خطأ في الحسابات قد حدث فانفلت الشباب من عقال التنظير الكثيف، إلى ميدان التطبيق العنيف» (4) .
لكن المتأمل يجد ـ أيضاً ـ بأن هذا الأسلوب قد سلكه البعض على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويشهد لذلك ما أخرجه البخاري ومسلم (5) فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيماً على المريسيع، ووردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أجير يقال (جهجاه الغفاري) فازدحم هو و (سنان ابن وبر الجهني) على الماء فاقتتلا، فصرخ (الجهني) يا معشر الأنصار وصرخ (جهجاه) يا معشر المهاجرين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة» ، وبلغ عبد الله بن أُبيّ ذلك، فغضب، وعنده رهطٌ من قومه فيهم (زيد بن أرقم) غلام حدث، فقال: «أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، ووالله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؟! أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ... الحديث» (6) .
وهكذا؛ فإنك تستطيع أن توجد العديد من أوجه الشبه بين الموقفين، ومن ذلك:
1 ـ أن الفريقين قد استغلا ما وقع من أخطاء لاتّهام خصومهم باستغلال الدين من أجل أهداف أخرى (كالسيطرة على البلاد أو الوصول إلى السلطة) ، ولم يحاولا تحديد سبب الخطأ ومعالجته بما يستحق.
2 ـ أن الفريقين استخدما (عمداً) لغة التعميم، فكما أن الليبراليين قد وضعوا الدعوة والعلماء والدعاة في المدارس والجامعات والمساجد والأسواق والمناهج المدرسية والجامعية ومختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها؛ في كفّة واحدة مع شرذمة من المخربين والمفسدين وعمّوهم بلفظ (تيار الإسلام السياسي) ، فقد وضع عبد الله بن أُبيّ النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة جميعاً مع من حدث منه الخطأ وعمّهم بلفظ (جلابيب قريش) .
6 ـ التحالف مع أعداء الإسلام في الداخل والخارج:
أما داخلياً؛ فلا يخفى على أحد ما يمارسه أصحاب الفكر الليبرالي من تعاونٍ مع بعض الطوائف والفرق المناوئة لمنهج أهل السنة والجماعة وحضورٍ لمنتدياتهم والمشاركة فيها، ويحتجون بأن ذلك هدفه تعزيز الوحدة الوطنية (1) ، ويصورون أن منع هذه الفئات من ممارسة طقوسهم وشعائرهم إنما هو نوع وصاية من طائفة معينة ذات مذهبٍ وفكرٍ معين وإقصاءٌ لا مبرر له.
وقد كان من أشباههم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من يدافع حتى عن اليهود، فقد ورد في قصة غزوة بني قينقاع أنهم وبعد نقضهم العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصرهم فنزلوا على حكمه في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا، فعند ذلك قام عبد الله بن أُبيّ ابن سلول فألحَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدر عنهم العفو ولم يرَ مسوغاً لقتلهم وقال: يا محمد، أحسن في موالي ـ وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكرّر ابن أُبيّ مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرسلني» ، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال: «ويحك! أرسلني» . ولكنه مضى على إصراره وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟! (2) .
وأما خارجياً؛ فإنك لن تجد عناءً كبيراً في إثبات مدى التعاون القائم بين هؤلاء الليبراليين وبين أعداء الأمة من الدول الكافرة، بل كل ما عليك هو الرجوع إلى بعض التقارير التابعة لبعض مراكز البحوث الغربية والتي تنادي بدعم هذه الفئة واستغلال أنشطتها ومنابرها لنشر الديمقراطية الغربية (3) .
وهم بذلك إنما يشابهون من نزل فيهم قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] ، فقد ذُكر أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها رجلٌ من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب، وكان له شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية، شرق بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها، وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحد، ورأى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعده ومنّاه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك، وجاؤوا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» ، فلما قفل ـ عليه السلام ـ راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخَبَر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أُسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك المسجد مَنْ هدمه قبل مقدمه المدينة (4) .
فكم يوجد اليوم من «جمعيات وأندية وملتقيات ضرارٍ» ينشئها الليبراليون ويسعون دائماًً إلى أن تحمل صفة الرسمية وأن يفتتحها بعض المسؤولين ليحتجوا بذلك على تقريرها وإثباتها، ولو سألتهم عن أهدافها: {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى} [التوبة: 107] ، بينما هي: {ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} [التوبة: 107] . وبعد هذا العرض الموجز لبعض ما يدعو إليه ويمارسه من يتسمون بـ (الليبراليين) في هذا العصر وما كانت تدعو إليه وتمارسه تلك الفئة المعروفة بمخالفة المسلمين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ نجد أن الطائفتين قد اتفقتا في مجمل تلك الدعوات والممارسات إلى حد التطابق، مما يؤكد لنا أن دوافع كلا الفريقين واحدة.
وعليه؛ فلا ينبغي أن تستوقفنا المصطلحات كثيراً، بل الواجب العودة إلى المصطلح الذي وصف الله ورسوله به من يقع في مثل هذه الأعمال وتحذير من وقع فيها (بعلم أو بدون علم) من أن يكون شريكاً لهم في العقوبة، وكذلك ينبغي علينا أن نكون على حذر ممن شابهوا من قال الله فيهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] .
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) رواه ابن ماجه برقم (3384) وصححه ابن القيم وغيره، ويشهد له ـ أيضاً ـ ما أخرجه البخاري في صحيحه فيما ترجم عليه باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسمِّيه بغير اسمه.
(2) الموسوعة الميسرة.
(1) الحل الذي لا غيره، عكاظ، العدد: 1863.
(2) انظر مثلاً: مقالة: «لماذا تستنجدون بالعرب قبل أن تسألوهم؟» ، الشرق الأوسط، 4 تموز، 26.
(3) عذراً يا شيخ صالح، الوطن، العدد: 285.
(4) الرحيق المختوم.
(5) ما مغزى تهديدات وترويعات (الفوزان) ؟! الجزيرة، العدد: 12386.
(6) تفسير ابن كثير.
(7) ما مغزى تهديدات وترويعات (الفوزان) ؟! الجزيرة، العدد: 12386.
(1) ابن هشام (2/15) .
(2) تبين أن اختلافي معك حول كيان لا حول تحرير مصطلحات، الوطن، العدد: 258.
(3) الطريق إلى عصر الأنوار، الجزيرة (12354) .
(4) تبين أن اختلافي معك حول كيان لا حول تحرير مصطلحات، الوطن، العدد: 258.
(5) البخاري (1/499) ، ومسلم (2584) .
(6) ابن هشام (3/42-43) .
(1) انظر مثلاً: تفاصيل ندوة بعنوان: «الوحدة الوطنية.. مقومات ومعوقات» على موقع: www.okhdood.com.
(2) الرحيق المختوم.
(3) انظر مثلاً: تقرير بعنوان: (الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات) ، لعالمة الاجتماع (شاريل بينا رد) لمركز البحوث الأمريكي المسمى (Rand) .
(4) تفسير ابن كثير.(237/20)
في الخصوصية الحضارية للمصطلحات
مصطلحات الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة والجمال الاجتماعي
د. عمرو عبد الكريم سعداوي
يقول أحد الباحثين في معرض بيانه للخصوصية الحضارية للمصطلحات: «إذا نظرنا إلى أي مصطلح من المصطلحات باعتباره (وعاء) يوضع فيه (مضمون) من المضامين وباعتباره (أداة) تحمل (رسالة) المعنى؛ فسنجد صلاح وصلاحية الكثير من المصطلحات لأداء دور (الأوعية) و (الأدوات) على امتداد الحضارات المختلفة» .
أما إذا نظرنا إلى المصطلحات من زاوية (المضامين) التي توضع في أوعيتها، ومن حيث الرسائل الفكرية التي حملتها (الأدوات: المصطلحات) ـ فسنكون بحاجة ماسة وشديدة إلى ضبط عبارة: (لا مُشاحَّة في الاصطلاح) ؛ لأننا سوف نجد أنفسنا أمام (أوعية) عامة وأدوات مشتركة بين الحضارات والأنساق الفكرية، وفي الوقت ذاته أمام (مضامين) خاصة ورسائل متميزة، تختلف فيها وتتميز بها هذه الأوعية العامة والأدوات المشتركة لدى أهل كل حضارة من الحضارات المتميزة (1) .
لذا تنبع أهمية المصطلحات عموماً من كونها الوعاءَ الذي تطرح من خلاله الأفكار؛ فإذا ما اضطرب ضبط هذا الوعاء أو اختلّت دلالاته التعبيرية أو تميّعت معطياته اختلّ البناء الفكري ذاته واهتزّت قيمه في الأذهان، أو خفيت حقائقه. فضبط الاصطلاحات والمفاهيم ليس من قِبَل الإجراء الشكلي أو التناول المصطنع؛ بقدر ما هو عملية تمسّ صلب المضمون، وتتعدى أبعادها إلى نتائج منهجية وفكرية خطيرة، مما يحدو بنا للبحث عن علمَي (اجتماع المعاني) و (التطور الدلالي للمصطلحات) .
والمتأمل في تراثنا الفكري يلاحظ فعلاً مدى أهمية ضبط الكلمات والألفاظ، لا سيما ما ارتبط منها بموقف فكري أو حركي محدد، لدرجة الحرص التام على إلزام المسلمين بمصطلحات وألفاظ بعينها، والنهي عن الحيدة عنها أو تسميتها بغير مسمياتها، حتى ولو كان التقارب بين اللفظين شديداً {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا ... } [البقرة: 104] .
وتَمورُ وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة ـ الخاصة بالمرأة والمجال الاجتماعي ـ بالعديد من المفاهيم والمصطلحات التي تُشَكِّل في ذاتها الوحدات الأساسية لما يطرح من حلول للمشكلات الاجتماعية لمختلف بلدان العالم، ولا يمكن فهم تلك الحلول المطروحة إلا عبر فهم تلك المفاهيم والمصطلحات، وتحديدها تحديداً إجرائياً دقيقاً، حتى يمكن تشغيلها والاستفادة منها، وإذا كانت تلك المشكلة ـ مشكلة (تحديد المفاهيم) ـ هي المشكلة الأولى، فإن المشكلة الثانية تنشأ عندما يتم نقل هذه المفاهيم من مجتمع إلى آخر، يختلفان ثقافة ولغة ونمط حياة ومستوى حضارة؛ ذلك أن إعادة استنبات المفاهيم في بيئة حضارية مغايرة لا تؤتي الثمار نفسها التي آتتها في بيئتها الأولى، وهو ما أطلق عليه المفكر الإيراني الشهير (علي شريعتي) (1) (جغرافيا الكلام) أي أن كلاماً معيناً قد يكون صحيحاً في بيئة ما، فإذا تم نقله إلى بيئة أخرى لم يكن بدرجة الصحة التي كان عليها في بيئته الأولى.
المشكلة الثالثة: تنبع عندما يتم البدء من كون تلك المفاهيم القادمة من (بيئتها الأولى) معياراً قياسياً (Standard) ، تفهم به الظواهر الاجتماعية في البيئة الثانية بل وتفسر، وأكثر من ذلك يُحَكم به على كل شيء، أي تصير تلك المنقولة أو العابرة للحضارات مفاهيم عالمية، تُرَدُّ إليها الأمور، ويصبح المتخلف هو المختلف مع تلك المفاهيم، والمتقدم هو المتوافق معها، وبذلك تصير البيئة الثانية ليست هي، وإنما نسخة مقلّدة، أو تحاول أن تقلّد البيئة الأولى، ويكون الحكم على نجاحها أو إخفاقها بدرجة قربها من النموذج الأول.
المشكلة الرابعة: هي أنه في أثناء تلك العملية من جلب المفاهيم استيراداً أو نقلاً، واعتبارها حكماً ومعياراً تنشأ مشكلة أهم من ذلك كله، وهي انزواء المفاهيم الأصيلة للبيئة الثانية، وبقدر ما تتم عملية الإحلال والتبديل هذه يتم تجاهل مفاهيم البيئة الثانية ذاتها وتجاوزها.
المشكلة الخامسة: هي ذورة المأساة، وتكون عندما تفهم مفاهيم البيئة الأصلية في ضوء المفاهيم المنقولة استيراداً أو تقليداً، بحجة أنها مفاهيم عالمية عابرة للقارات والحضارات والثقافات والقيم، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك أنه في بيئة الحضارة الغربية مثلاً، عندما يتكلمون عن علاقة الدين بالعلم وما بينهما من تناقض، فإنهم يقصدون بالدين: الدين النصراني، وعندما يتم التقليد وتناقش قضايا المجتمع على خلفية مفاهيم مجتمع آخر، نجد أن كثيراً من المفكرين في العالم الإسلام عندما يتكلمون عن علاقة الدين بالعلم نجد أنهم لا يستبطنون الدين الإسلامي أو الإسلام الذي هو دين المنطقة وشعوبها، بل يستحضرون الحجج نفسها التي قيلت عن تناقض الدين النصراني في العالم الغربي مع مكتشفات العلم الحديث، وهذا ما يحدث في كثير من القضايا، وهنا يثور السؤال عن هذا المثقف والمفكر في العالم الإسلامي المنتمي تكويناً ووجداناً للعالم الغربي: عن أي نمط يعبر؟ هل عندما يتكلم يعبر عن ثقافة ذلك المجتمع الذي يعيش فيه، أو عن ذلك المجتمع الآخر الذي استبطنه وتمثَّل قيمه ومفاهيمه وعاداته وطرق حياته؟
لذا تفرض ضرورةُ ضبط المفاهيم والاصطلاحات القيامَ بعمليتين في آنٍ واحد، وهما:
أـ تحرير المفاهيم الأساسية ـ التي شاعت بشأن قضايا المرأة والاجتماع والعلاقات الإنسانية ـ مما علق بها من مضامين ومعانٍ تخالف حقيقتها؛ لأن الكلمات نفسها كأداة للتعبير وإطار للمعاني تُحمّل بمدلولات نفسية، تلقي بظلالها على ذهن وروح السامع والقارئ، ولأن (اللغة) ليست مجرد أداة رمزية، بل إنها جوهر التفاعل الحضاري.
من ثم، فإن من أهم ما يتصل بقضية تحريم المفاهيم هو عدم قبول المفاهيم الغربية الخاصة بالمرأة على وجه الخصوص، والمجال الاجتماعي بصفة عامة؛ لأنها محملة بمسلَّمات فكرية وأسس فلسفية نابعة من البيئة الحضارية التي أفرزتها؛ ذلك أنه من المسَلَّم به أن كلمات اللغة التي تنطق بها الأمة هي أفكارها وقيمها، وهي ذات صلة عميقة بالعقيدة، وتصورُّ هذه الأمة للإنسان والكون والحياة.
وعلى هذا، فإن اصطلاحات الغرب ومفاهيمه لا يمكن فصلها عن ملابساتها الفكرية وسياقاتها التاريخية، ولا يمكن التعامل مع المصطلحات والمفاهيم الخاصة بقضايا المرأة أو المجال الاجتماعي كما نتعامل مع ألفاظ الاختراعات وأسماء الأشياء.
ب ـ استبطان المفاهيم الإسلامية الخاصة التي تمثل منظومة أو نسقاً مفهومياً مترابطاً، يتداعى تلقائياً عند التعامل مع أحد مكوناته؛ حيث إن المفاهيم الإسلامية تنطلق من التوحيد كأساس وغاية، مما يجعل منها وحدة متراصة متكاملة تتصف بمجموعة من الخصائص تميزها عن غيرها من الأنساق، كما تعبر المفاهيم الإسلامية عن الحقيقة التي تتناولها في شمولها واختلاف أبعادها ومستوياتها، كما تعطي تلك المفاهيم دلالات معينة عند كل مستوى للتحليل، أو عند كل بُعْد من أبعاد الظاهرة؛ ذلك أن الوعي بأهمية الكلمة ومسؤولياتها وفق البيان القرآني إنما يشكل الأساس في تحرير العقول.
وتهدف عملية استبطان المفاهيم الإسلامية ـ أساساً ـ إلى عدة أمور، من أهمها:
ـ تحقيق الهوية والاختصاص والتمايز لمنظومة المفاهيم إسلامية الطابع والمصدر والوسائل والغايات؛ فالمصطلحات وإن كانت (حمّالة) لرسائل فكرية موجهة، فهي أيضاً (أدوات للتواصل والتعبير) عمّا نحمله من مفاهيم يتصورها الإنسان عن الخالق والكون والحياة.
ـ التعامل مع الإنسان المسلم بوحدات من المفاهيم قادرة على أن تمس حقيقة تكوينه؛ حيث تستطيع هذه المفاهيم أن تفجر الطاقة الكامنة من خلال التعامل بمفاهيم الإيمان (الفرض ـ الحلال والحرام ـ رقابة الله) بما يحقق أقصى درجات الفاعلية (1) .
ـ نقض دعوى عالمية المفاهيم الغربية باعتبارها مجمع تراث الإنسانية، ذلك أن مصطلح (العالمية) متصل بتحديد الأنا والذات، وبالمواقف من الآخر، وبالدوائر الحضارية، وبتفاعل الحضارات، كما يقول الدكتور (أحمد صدقي الدجاني) ؛ حيث يلاحظ احتكار الغرب لصفة (العالمية) ، بحيث أصبح المصطلح ينصرف إليه، فكل ما هو غربي عالمي في نظره، فكأن العالم مقتصر عليه (2) .
أهم مصطلحات وثائق مؤتمر الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة والمجال الاجتماعي:
حفلت وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة والقضايا الاجتماعية بالعديد من المصطلحات المتميزة، والتي لا يمكن فهمها إلا باستيعاب دلالات نصها في لغتها الأصلية الإنجليزية ومن وجهة نظر قانونية غربية بحتة.
ولعل مصطلح الجندر (Gender) هو المصطلح ـ المنظومة الذي يمثل (قطب الرَّحَى) وتدور حوله معظم مصطلحات الأمم المتحدة، شرحاً على متنه أو تفسيراً لغامضه، وإن زاده غموضاً؛ فهو مفهوم ومصطح مراوغ وملتبس وموهم، وغير دال، وإن شئنا الدقّة لقلنا: إنه مضلِّل. وقد ظهر لأول مرة في وثيقة مؤتمر القاهرة في (51) موضعاً، منها ما جاء في الفقرة التاسعة عشرة من المادة الرابعة من نص الإعلان الذي يدعو إلى تحطيم كل التفرقة (الجندرية) . إلى هذا الحد لم يثر المصطلح أي نزاع بسبب ترجمته بما يفيد نوع الجنس (ذكر/أنثى) ومن ثم لم يُنتبه إليه، ومراعاةً لخطة التهيئة والتدرج في فرض المفهوم تمّت إثارته مرة ثانية ـ ولكن بشكل أوضح ـ في مؤتمر بكين للمرأة (عام 1995م) ؛ إذ ظهر مصطلح (الجندر) 233 مرة في وثيقة المؤتمر، وكان لا بد لمعرفته، والوقوف على معناه من معرفة أصله في لغته التي صُكَّ فيها، والتعرف على ظروف نشأته وتطوره الدلالي كما سبق بيانه، وكان لجهود بعض المعارضين لأهداف المؤتمر من النصارى الغربيين دور كبير في كشف النقاب عن مخبآت هذا المصطلح.
تقول الموسوعة البريطانية في تعريف ما يسمى بالهوية الجندرية Gender Identity: «إن الهوية الجندرية هي شعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى، وفي الأعم الأغلب فإن الهوية الجندرية والخصائص العضوية تكون على اتفاق (أو تكون واحدة) ، ولكن هناك حالات لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافق بين الصفات العضوية وهويته الجندرية (أي شعوره الشخصي بالذكورة أو الأنوثة) ، ومثال ذلك الحالات التي يريد فيها الإنسان تغيير خصائصه العضوية على الرغم من أن خصائصه العضوية الأصلية (الطبيعية) واضحة وغير مبهمة، ولكن الشخص المصاب يعتقد أنه يجب أن يكون من أصحاب الجنس الآخر» .
«لذلك فإن الهوية الجندرية ليست ثابتة بالولادة، بل تؤثر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهوية الجندرية وهي تتغير وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية كلما نما الطفل» .
«كما أن من الممكن أن تتكون هوية جندرية لاحقة أو ثانوية لتتطور وتطغى على الهوية الجندرية الأساسية؛ حيث يتم اكتساب أنماط من السلوك الجنسي في وقت لاحق من الحياة؛ إذ إن أنماط السلوك الجنسي وغير النمطية منها (بين الجنس الواحد) أيضاً تتطور لاحقاً» .
أما تعريف منظمة الصحة العالمية فهو أدهى من تعريف الموسوعة البريطانية للهوية الجندرية؛ إذ تعرّف المنظمة مصطلح (الجندر) أنه: (المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية) .
أما في بكين فقد أسفر بحث الوفود في المعنى الحقيقي للمصطلح إلى صراع استمر أياماً، وأدَّى إلى إنشاء لجنة خاصة لتقوم بتعريفه، وبيت القصيد هنا أن الدول الغربية رفضت تعريف الجندر بالذكر والأنثى، ولم تنجح اللجنة في تعريف الجندر، بل خرجت متفقة على عدم تعريفه، وهذا ما يثبت سوء النية وبُعْدَ المرمى والإصرار الكامل على فرض مفهوم حرية الحياة غير النمطية كسلوك اجتماعي؛ فلو أن الجندر لا يتضمن الحياة غير النمطية كسلوك اجتماعي، فلِمَ الاعتراض على تعريفه بالذكر والأنثى فقط؟
ومن ثم استمر الصراع أياماً في البحث عن المعنى الحقيقي للمصطلح، مما أدّى إلى إنشاء لجنة خاصة تقوم بتعريفه، ومع ذلك باءت بالإخفاق أيضاً؛ إذ أصرت الدول الغربية على وضع تعريف يشمل الحياة غير النمطية كسلوك اجتماعي، ورفضت الدول الأخرى أية محاولة من هذا النوع، فكانت النتيجة أن عرفت اللجنة المصطلح بعد تعريفه:
The non defnintion of the term Gender، ويظهر ذلك ويتجلى في تقرير لجنة التنمية الاجتماعية في العالم عام 1997م؛ حيث ذكرت ـ بشكل صريح ـ أن (الجندر) مفهوم اجتماعي غير مرتبط بالاختلافات الحيوية (البيولوجية) ، وهو الأمر الذي عجزت الوفود المشاركة في مؤتمر بكين عن تعريفه.
وتكشف وثائق مؤتمر روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية المنعقدة في روما (6/14 ـ 6/18 عام 1998م) عن محاولة لتجريم القوانين التي تعاقب على الشذوذ الجنسي؛ إذ أوردت الدول الغربية أن كل تفرقة أو عقاب على أساس (الجندر) يشكل جريمة ضد الإنسانية، وكان إدخال كلمة (Gender) في تعريف الجرائم بالإنجليزية أمراً غريباً في حد ذاته؛ إذ إن النَّصَّيْن العربي والفرنسي استعملا كلمة (الجنس) ولم يستعملا كلمة (الجندر) ؛ إذ ليس له تعريف واضح ومدلول محدد، وهذا الأمر دفع الوفود العربية والإسلامية ـ بقيادة المملكة العربية السعودية وقطر وسورية ـ إلى اعتماد كلمة الجنس بدلاً من كلمة الجندر، واستمر الخلاف أياماً كالعادة، وفيه قال أحد المفاوضين العرب: «إن كنتم تقصدون أن هذه ترادفُ هذه؛ فلماذا الإصرار؟ وإن كانت تختلف في المعنى فأفهمونا الخلاف باعتبارها لغتكم، لنستطيع أن نرى انسجامها مع القانون أو لا!» . وهذا الخلاف الشديد دعاهم لأن يعترفوا أنها تعني (عدم الحياة النمطية للنوع الواحد) ، بمعنى أنه إذا مارس أحدهم الشذوذ الجنسي فعوقب بناء على القانون الداخلي للدولة كان القاضي مجرماً بحق الإنسانية.
وعلى الرغم من المعارضة الشديدة من الدول العربية والإسلامية لم تنجح تلك الدول في حذف كلمة (الجندر) من النص الإنجليزي، ولكن توصلوا إلى حل وسط، حيث عُرِّف (الجندر) بأنه يعني الذكر والأنثى في نطاق المجتمع، وهو الأمر الذي رفضه وفد المملكة العربية السعودية؛ لأن هذه الإضافة ـ في نطاق المجتمع ـ إنما يراد بها أن الفروق بين الذكر والأنثى ليست عضوية وإنما هي اجتماعية، وهذا ـ بعينه ـ هو مصطلح (الجندر) . والأخطر من ذلك هو نجاح الدول الغربية في تعريف كلمة (الجنس) التي كانت تعني الذكر والأنثى إلى تعريف يقربه من مفهوم (الجندر) إذ عرَّفته ـ أي الجنس ـ بأنه يعني الذكر والأنثى في نطاق المجتمع.
وإتماماً لهذه المسيرة الطويلة لفرض هذا المفهوم دعا إعلان مؤتمر (لاهاي) للشباب عام 1999م إلى إنشاء جهاز خاص في كل مدرسة (لتحطيم الصورة التقليدية والسلبية للهوية الجندرية، للعمل على تعليم الطلبة حقوقهم الجنسية والإنجابية بهدف خلق هوية إيجابية للفتيات ـ النساء، وللفتيان ـ الرجال) .
كما يدعو الإعلان ـ بوقاحة مطلقة ـ الحكومات إلى إعادة النظر وتقديم قوانين جديدة تتناسب مع حقوق المراهقين والشباب للاستمتاع (بالصحة الجنسية) والصحة الإنجابية بدون التفرقة على أساس (الجندر) (1) .
مصطلح التمكين: من المصطلحات ذائعة الصيت في جميع وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة وبقدر ذيوعه بقدر غموضه؛ ففي جدول الأعمال المؤقت للجنة مركز المرأة، الدورة الرابعة والأربعين (متابعة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة استعراض إدماج قضايا المرأة في الأنشطة الرئيسية لمؤسسات منظومة الأمم المتحدة؛ جاء: تركز عمل منظومة الأمم المتحدة في مجال المرأة والفقر على أهمية تمكين المرأة) ولكل مجال من المجالات هناك ثابت أساسي وهو عنصر التمكين (الاقتصادي ـ السياسي ـ الاجتماعي) للمرأة.
وفي كتاب تمكين المرأة (2) ، (Women Empowerment) لم يكن هناك تعريف محدد لمصطلح التمكين وإن جاء فيه: في إحدى ورش العمل (Work shop) للمرأة في الباسيفيك؛ بعنوان المرأة والتنمية والتمكين قالت فانيسا جريفين (Vanessa Griffen) عمّا يعنيه التمكين بالنسبة لها: «إنه ببساطة يعني مزيداً من قوة المرأة، والقوة بالنسبة لها هي: مستوى عالٍ من التحكم ومزيد من التحكم؛ وإمكانية التعبير والسماع لها، والقدرة على التعريف والابتكار من منظور المرأة، والقدرة على الاختيارات الاجتماعية المؤثرة والتأثير في كل القرارات المجتمعة، وليس فقط في المناطق الاجتماعية المقبولة كما كان للمرأة، واعتراف واحترام كمواطن متساوٍ وكيان إنساني مع الآخرين، والقوة تعني مقدرة على المساهمة والمشاركة في كل المستويات الاجتماعية، وليست في مجرد المنزل، والقوة تعني أيضاً مشاركة المرأة مشاركة معترفاً بها وذات قيمة» .
ربما كانت هذه الترجمة حرفية لما قيل، لكن لعل تلك الإطالة مما يزيد المفهوم غموضاً، فالمصطلح الذي يفسر كل شيء لا يفسر أي شيء على الإطلاق، ويظل مصطلحاً غامضاً يفسر حسب مقتضيات الموقف.
وجاء في إعلان مؤتمر بكين في الفقرة (12) تمكين المرأة من كل القيود، بما في ذلك الروحية والأخلاقية والفكرية، وأن تمارس تلك الحرية وحدها أو بالاشتراك مع غيرها تمهيداً لسيادة أنماط السلوك الغربي.
ومن أخطر المصطلحات التي وردت في وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة هو مصطلح (الصحة التناسلية ـ (Reprodrctive Health و (الصحة الجنسية (Sexual Health واعتبارها حقوقاً إنسانية عامة غير مقصورة على المتزوجين زواجاً شرعياً؛ إذ اعتبرتها حاجات طبيعية كالغذاء، وحقوقاً لكل الأفراد من كل الأعمار دون ضوابط من أي شرع أو أي دين.
وهذه المصطلحات تعني في وثيقة (برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي انعقد في القاهرة من 5 ـ 13 سبتمبر سنة 1994م) بـ: المتعة الجنسية المأمونة والقائمة على التراضي باعتبارها حقاً للجميع كالغذاء، وليست حقاً خاصاً بالأزواج زواجاً شرعياً دون سواهم، وأنها ـ في رؤية الوثيقة ـ حق للإنسان يقتضيه الجسد ولا تضبطه حقوق الله ـ الذي لم يَرِدْ ذكر اسمه ولو مرة واحدة في مشروع البرنامج ـ ولا يحدد نطاقها دين؛ أيُّ دينٍ ـ والذي لا وجود لإشارة إليه في كل فصول وفقرات المشروع ـ الذي جاء في حجم كتاب غير صغير (1) .
أما مصطلح الصحة الإنجابية أو التناسلية، فهو وإن كان يحمل معنى إيجابياً بتحسين الصحة الإنجابية للرجل والمرأة من خلال إقامة علاقات سوية باتباع تعليمات وإرشادات صحية، غير أن سياق استعماله وإدخاله ضمن برامج تنظيم الأسرة مع مصطلح (تنظيم الخصوبة) ـ والذي يعني تحديد نسبة التوالد في بلد معين ـ يجعل المصطلح يدور حول معنى محدد، وهو توفير المزيد من وسائل خدمات الرعاية التناسلية والجنسية، ومنها موانع الحمل بأن تكون في متناول الجميع دون اشتراط.
ومن أكثر المصطلحات إثارة للجدل داخل مؤتمر القاهرة للسكان، هو مصطلح (المتحدين والمتعايشين) إذ ذكر إعلان حقوق (التحدين والمتعايشين ـ (Unions and Couples بعيداً عن ذكر الأسرة بوصفها الأساس الطبيعي والوحيد لأي مجتمع بشري، وهو الأمر الذي تكرر في إسطنبول ولاهاي، وهو يعني السعي الدؤوب لتقنين الشذوذ الذي بات معترفاً به من جانب بعض الكنائس والدول الغربية، وهذا ليس بمستغرب؛ إذ التقت المفوضة العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة (ماري روبنسون) رئيسة جمهورية إيرلندا سابقاً في نهاية عام 1998م بالحلف الدولي للشذوذ، وتعهدت خلاله بإعطاء كل تأييدها ودعمها لجهود هذا الحلف، وأعلنت عزمها على تعيين مراقب خاص لمتابعة حقوق الشواذ» (2) .
ومنها بالطبع حق زواج الجنس الواحد، ومكافحة القوانين المضادة للشذوذ الجنسي، على أن كل تفرقة على أساس السلوك الجنسي غير قانونية من وجهة نظرها.
ولعل ذلك يحيلنا إلى مفهوم مصطلح (الأسرة) ؛ فبينما تروِّج وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة لتعدد أنماط الأسرة، حاولت كثير من بلدان العالم والدول العربية والإسلامية والفاتيكان وبعض دول أمريكا اللاتينية والصين التأكيد على أن الزواج هو العقد المبرم بين الرجل والمرأة، والذي تكون الأسرة ـ كجهاز اجتماعي ـ مسؤولة عن إنجاب وتربية الأطفال، وتجدَّد الصراع مرة أخرى في مؤتمر بكين عندما أكدت وثيقته أن للأسرة أنواعاً وأنماطاً تختلف حسب المجتمع، وحاولت الدول المعارضة لهذا التعريف ـ عبثاً ـ إضافة وصف (التقليدية) في وصف الأسرة وأنماطها، ولم تصمد أمام موقف الدول الغربية الرافضة لإدخال كلمة (التقليدية) كوصف للأسرة وأنماطها.
لقد قدمت وثائق الأمم المتحدة مفهوماً للأسرة غير الذي تعارفت عليها الرسالات جميعها ـ وهو مفهوم الأسرة القائمة على الزواج الشرعي بين ذكر وأنثى ـ فهي تتحدث عن (اقتران) لا يقوم على الزواج ـ وهو ما يشيع في العلاقات المحرمة دينياً بين لعشيق والعشيقة، أو بين رجلين أو امرأتين ـ عند الشواذ (1) .
ونجد وثيقة برنامج عمل مؤتمر القاهرة للسكان لا تقف عند إباحة هذه الأشكال من (الأسرة) وإنما ترتب لها (حقوقاً) وتدعو إلى إزالة كل عقبات وألوان التمييز بين هذه العلاقات والاقترانات الشاذة والمحرمة وبين الأسرة القائمة على الزواج، فتقول: «وينبغي القضاء على أشكال التمييز في السياسات المتعلقة بالزواج وأشكال الاقتران الأخرى» . واستخدمت الوثيقة لذلك مصطلحاً هو (The Family - in - all - its Forms) وجعل المؤتمر من أهدافه: وضع سياسات وقوانين تقدم دعماً أفضل للأسرة، وتسهم في استقرارها وتأخذ في الاعتبار تعددية أشكالها.
ثم جاء بعد ذلك في الوثيقة ما يفسر هذه التعددية يمثل زواج الجنس الواحد والمعاشرة بدون زواج والكل في الحقوق متساوٍ (2) .
وهكذا نجد أنفسنا أمام مفاهيم عن العلاقات والممارسات الجنسية ومفاهيم عن الأسرة والاقتران تجعل الجنس القائم على التراضي والمأمون من أن يؤدي إلى الأمراض الفتاكة حقاً لكل جسد، مثله مثل الغذاء، لا تضبطه ضوابط الزواج الشرعي بين الذكر والأنثى، وإنما هو مباح بين الذكور والإناث دون زواج وفي كل الأعمار، وبين المراهقين والمراهقات، أيضاً بين الأمثال من الشاذين والشاذات.
وفي مؤتمر إسطنبول للمستوطنات البشرية عام 1996م، تفجّر الصراع مرة أخرى حول تعريف الأسرة بشكل يثبت إصرار الجهات المنظمة والداعمة لهذه المؤتمرات على نشر الإباحية الجنسية، من خلال تفتيت الأسرة وتحريف مفهومها؛ إذ استمر الصراع أياماً عديدة حول: (هل الأسرة خلية اجتماعية يجب تدعيمها؟) ، أو هي (الخلية الاجتماعية الأساسية التي يجب تدعيمها؟) ، أي حول إضافة (ال) التعريف مع إضافة كلمة (الأساسية) ، وكالعادة وقفت الدول الغربية ضد هذه الإضافة تماماً، وكذلك لم ينتهِ الصراع حول مفهوم الأسرة عند حدِّ الصراع اللغوي، بل امتد مرة أخرى إلى إثارة (هل للأسرة أنماط مختلفة؟) لينتهي الأمر أمام إصرار كندا ودول الاتحاد الأوروبي إلى وجود أنماط للأسرة.
وفي هذه النوعية من المؤتمرات (الدولية) للمرأة تظهر محاولة الاستغناء عن الأسرة في المصطلحات المستخدمة في الإشارة إلى الطفل الذي ولد خارج نطاق الزواج والأسرة؛ فهو لم يعد طفلاً غير شرعي (Illegitimate) كما كان في الماضي؛ فقد أصبح طفلاً مولوداً خارج الزواج (Out of wedlock) ، ثم يتطور الأمر لصبح طفلاً طبيعياً (Natural beby) ، وأخيراً يصبح طفل الحب والجنس (Love Baby) والبقية تأتي (3) .
أما مصطلح (حرية الحياة غير النمطية ـ (Sexual Orientation Freedom الذي ظهر لأول مرة في مؤتمر بكين فإنه دعا إعلان المؤتمر في نص المادة رقم (266) من الوثيقة إلى حرية الحياة غير النمطية كحق من حقوق الإنسان، مما استدعى طلب الكثير من الدول المشاركة لتعريفه أو حذفه، في حين أكدت ـ كالعادة ـ الدول الغربية وعلى رأسها الدول الإسكندنافية وكندا وأمريكا ودول الاتحاد الأوروبي أن العبارة لا تضيف حقاً جديداً من حقوق الإنسان وحرياته، وعلى الرغم من حذف هذه العبارة من نص الإعلان إلا أن المحاولة تكررت في مؤتمر الشباب في براغ في البرتغال عام 1998م؛ حيث حاولت المنظمات التحريرية (الليبرالية) والشاذة إدخال المصطلح مرة أخرى، ولكنها لم تنجح نظراً للمعارضة الشديدة التي لقيتها، ومع ذلك نجحت تلك المنظمات في نحت وإضافة مصطلح جديد يؤدي إلى المعنى نفسه ولكن بشكل آخر (مرض الخوف من الحياة غير النمطية) ، أي من الشذوذ الجنسي، ودعا في نص إعلان الشباب في براغ إلى (مكافحة التفرقة العنصرية والعرقية ومرض الخوف من الشذوذ الجنسي) .
وفي مؤتمر لاهاي للشباب والمنظمات غير الحكومية عام 1999م عاد المصطلح ـ حرية الحياة غير النمطية ـ من جديد ليفرض نفسه بكل قوة على نص الإعلان، وهو أنه يجب أن يكون التعليم الجنسي الشامل إلزامياً على جميع المراحل، ويجب أن تُعطى المتعة الجنسية والثقة، والحرية عن التعبير الجنسي والسلوك الجنسي غير النمطي، كما يدعو الإعلان حكومات العالم إلى (عدم التفرقة بين الشباب على أساس من العرق أو الدين أو الحضارة أو الجنس أو التوجيه الجنسي ـ الحياة غير النمطية ـ أو السلوك والنشاط الجنسي) ، وهو الأمر الذي يمثِّل انتصاراً جديداً لجماعات الشواذ.
لاحظ أن المفهوم تم الإيحاء به في مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994م، ثم بدأ التدرج في فرض المفهوم ـ ومن ثم المصطلح ـ في مؤتمر براغ عام 1998م ولاهاي عام 1999م.
ولعل مشكلة الشاذ الأسترالي (نيكولاس تونون) توضح دور بعض المنظمات الدولية في فرض هذا المصطلح؛ إذ رفع (تونون) دعوى قضائية أمام لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ضد قانون ولايته (تسمانيا في أستراليا) والخاص بمكافحة الشذوذ الجنسي، على اعتبار أن هذا القانون يمثل بالنسبة له خرقاً لحقوقه وتدخلاً في حياته الخاصة، وأن ذلك يتنافى مع التزامات أستراليا طبقاً لمعاهدة حقوق الإنسان المدنية والسياسية. وعلى الرغم من أن هذه اللجنة منوط بها مراقبة تطبيق الدولة الموقعة على الاتفاقية لالتزاماتها الدولية وفق بروتوكول خاص ملحق بمعاهدة حقوق الإنسان المدنية والسياسية لعام 1966م ـ ولا تشير الاتفاقية في أي بند من بنودها إلى الحقوق الجنسية أو حرية الحياة غير النمطية، إنما تشجع الاتفاقية احترام وصيانة حق الزواج وحرمة الحياة العائيلة ـ غير أنها استطاعت أن توسع نص الاتفاقية ليشمل حرية الحياة الجنسية غير النمطية، وعدم جواز تدخل الدول في الحياة الخاصة للأفراد تحت باب المصلحة العامة أو حماية الأخلاق أو منع انتشار الأمراض، وعلى ذلك فقد ألزمت اللجنة أستراليا ـ كطرف ملتزم ببنود الاتفاقية ـ باحترام هذه الحقوق وإلزام ولاية تسمانيا بتعديل قانونها الجنائي بما بتفق والتزامها الدولي تجاه الاتفاقية؛ وذلك خلال (90 يوماً) من تاريخه (1) .
ومن المصطلحات المهمة التي يكثر حولها الجدل مصطلح (عمل المرأة) ، ذلك أن أسوأ ما في تناول النموذج الغربي لقضايا المرأة هو تناولها باعتبار المرأة كياناً وحيداً ومنفصلاً وفرداً مستقلاً ليس منتمياً لا إلى أسرة ولا إلى مجتمع ولا إلى دولة، وليس له أية مرجعية، وفي هذا الإطار تم إعادة تعريف مفهوم عمل الإنسان (Labour) باعتباره هو العمل الذي يقوم به المرء نظير أجر نقدي محسوب (كمٍّ محدد) خاضع لقوانين العرض والطلب، على أن يؤديه في رقعة الحياة العامة أو يصب فيها في نهاية الأمر، وهذا التعريف يستبعد بطبيعة الحال الأمومة وتنشئة الأطفال وغيرها من الأعمال المنزلية؛ فمثل هذه الأعمال لا يمكن حسابها بدقِّة، ولا يمكن أن تنال عليها الأنثى أجراً نقدياً، رغم أنها تستوعب جل حياتها واهتمامها إن أرادت أن تؤديها بأمانة، ولا يمكن لأحد مراقبتها أثناء أدائها؛ فهي تؤديها في رقعة الحياة الخاصة.
باختصار شديد: إن عمل المرأة في المنزل هو عمل لا يمكن حساب ثمنه مع أن قيمته مرتفعة للغاية، ولذا فهو ليس (عملاً) ، حتى إنه أصبح من الشائع الآن أن تجيب ربة البيت عن سؤال بخصوص نوعية عملها بقولها: «لا أفعل شيئاً فأنا أمكث في المنزل» ، بمعنى أن وظيفتها كأم (برغم أهميتها) وعملها كأم (برغم المشقة التي تجدها في أدائه) هو (لا شيء) ، فهو عمل لا تتقاضى عليه أجراً، ولا يتم في رقعة الحياة العامة، وهنا تأتي المؤتمرات (الدولية) التي لا تنتهي عن المرأة وعن تحديد النسل وحركة (تحرير) المرأة التي تهدف إلى تفكيك الأسرة وإلى تحرير المرأة من أدوارها التقليدية مثل (الأمومة) ، وهي أدوار ترى حركة التمركز حول الأنثى أن المرأة سجينة فيها) (2) .
بل إن وثيقة مؤتمر المرأة العالمي السابع (مؤتمر المرأة في بكين) كان دائماً يعبر فيها عن عمل المرأة في بيتها كزوجة وأم أنه العمل غير المربح (Unremunerated Work) .
كما ورد في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (السيدوا) العديدُ من المصطلحات التي تحمل من الدلالات ما يستحق الوقوف عنده وكشف غامضه أو إن شئنا الدقَّة: فكّ شفرته.
يمثل مصطلح (التمييز) قطب الرَّحى الذي تدور عليه الاتفاقية؛ ذلك أن التمييز صُكَّ كمصطلح قانوني على تداعياته وآثاره الاجتماعية، وإن كانت لفظة التمييز (Discrimination) في لغتها الأصلية تعبّر عن واقع الظلم والإجحاف أكثر مما تعبر عن واقع مجرد التفرقة، فليست كل تفرقة بين مختلفين ظلماً؛ فالمساواة لا تتحقق إلا عندما تكون بين المتماثلين في السِّمات والخصائص والوظائف والمراكز القانونية (المركز القانوني هو مجمع الحقوق والالتزامات) .
أما مصطلح (الأدوار النمطية ـ (Stereotyped Roles أو (الأدوار الجامدة) فليس سوى هجوم على مفهوم (الأسرة الفطرية) الذي أجمع عليه أهل الرسالات والمجتمعات التقليدية التي تمثل أغلب شعوب العالم، باعتبارها تتكون من رجل وامرأة، يربطها عقد زواج شرعي وتتوزع بينهما وظائف الحياة سعياً نحو التكامل؛ فالأدوار النمطية أو الجامدة تعني أن هناك أنماطاً خاصة بالنساء باعتبارهن نساء، أو أنماطاً خاصة بالرجال باعتبارهم رجالاً، ومن ثم تدعو الاتفاقية إلى القضاء على تلك الأدوار النمطية أو الجامدة، وإلى اعتقاد أن هناك إمكانية واسعة لتبادل الأدوار باعتبارها محايدة. والنمط الجامد هو وصف يطلق على دور المرأة في المجال الأسري، وذلك بهدف القضاء على دور الأم المتفرغة لرعاية أسرتها، وأن الأمومة وظيفة اجتماعية، فهي ليست وظيفة لصيقة بالمرأة (صفة بيولوجية) بل هي (وظيفة اجتماعية) يمكن أن يقوم بها أي إنسان آخر، لذا نادى تفسير الأمم المتحدة لاتفاقية (السيدوا) بضرورة وضع نظام إجازة آباء لرعاية الأطفال بالإضافة لدور الحضانة حتى تتفرغ الأم لمهمتها الأساسية وهي العمل بأجر خارج البيت (في رقعة الحياة العامة) .
مصطلح (الاستحقاقات الأسرية ـ (Family benefits مصطلح استخدمته الاتفاقية لتشير به إلى المساواة الكاملة في الميراث بين الأخ والأخت، وهو مصطلح ملتبس كما يقول د. محمد عمارة، وقد صيغ على هذا النحو لتجنّب ردّ الفعل الإسلامي عند الحديث عن المساواة في الميراث.
ومن المصطلحات والتعبيرات التي وردت باتفاقية (السيدوا) وينبغي الوقوف عندها تعبير (حقوق المرأة كوالدة بغضِّ النظر عن حالتها الزوجية) (Woman rights (as a parents) irrespective of their marital status) ، فهذا التعبير يفصل بين حق الأم كوالدة ووضعها كزوجة، ولا يبين عن أي وضع (شرعي أو غير شرعي) نتجَ بمقتضاه مسمّى المرأة كوالدة، ويثار هذا الأمر بأكثر من شكل في بعض وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة والمجال الاجتماعي مثل: (الأم أم مهما كان الطريق الذي حملت منه) .
لهذا نجد أن وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان فصلت بين الزواج والجنس والإنجاب، واعتبرتها موضوعات متباينة لا علاقة لبعضها بالآخر ولا يقوم بينها ارتباط.
__________
(1) د. محمد عمارة: معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1996م، ص (4) .
(1) هذا المفكر الإيراني يُعجب به كثير من المعاصرين من الإسلاميين الذين لا يعرفون حقيقة الرجل على ضوء ما سطرته يداه من أصول الرافضة وبخاصة الموقف من الصحابة.
(1) انظر في أهمية تحرير المفاهيم وضبطها: هبة رؤوف عزت، المرأة والعمل السياسي، رؤية إسلامية، واشنطن (فيرجينيا) المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة الرسائل الجامعية (18) ، 1995م، ص (44) .
(2) د. أحمد صدقي الدجاني، التحيز في المصطلح، ندوة إشكالية التحيز، رؤية معرفية وعودة للاجتهاد، (19 ـ 21 فبراير 1992م) ، القاهرة: نقابة المهندسين والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص (1) .
(1) حمدي عبيد، قراءة في مصطلحات مشبوهة، المنار الجديد، العدد (11) ربيع 2000م، ص (68) .
(2) Marilee Karl, Women and Empowerment, Participation and Decision Making, London: Zed Books LTD, 1995, P.14.
(1) د. محمد عمارة، صراع القيم بين الغرب والإسلام، القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، في التنوير الإسلامي، (19) ، 1997م، ص (17) .
(2) حمدي عبيد، مرجع سابق، ص (62) .
(1) د. محمد عمارة، صراع القيم بين الغرب والإسلام، مرجع سابق، ص (22) .
(2) د. الحسيني سليمان جاد، وثيقة مؤتمر السكان والتنمية رؤية شرعية، كتاب الأمة: العدد (53) ، جمادى الأول 1417هـ، ص (59) .
(3) عمرو عبد الكريم، في قضايا العولمة، إشكالات قرن قادم، القاهرة، سما للنشر، 1999م، ص (52) ، وانظر أيضاً الدكتور عبد الوهاب المسيري، العلمانية الشاملة رؤية جديدة، ص (176) .
(1) حمدي عبيد، مرجع سابق، ص (65) .
(2) د. عبد الوهاب المسيري، الأنثوية، ما بين حركة تحرير المرأة وحركة التمركز حول الأنثى: رؤية معرفية، القاهرة، سبتمر ـ أكتوبر 1997م، ص (58) .(237/21)
لمحات من دور المسلمة في الهجرة النبوية
ماجدة محمد شحاته
منذ أن نزل الوحي على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أول مرة في غار حراء؛ لم تكن المرأة في معزل عنه، ولم تكن مستبعدة على مدى التاريخ الإسلامي المشرق من المبادرة أو المشاركة في مسيرة الأمة بكل أحداثها.
وإذا تتبعنا دور المرأة منذ بداية الوحي فإننا نلمحه واضحاً بلا غموض، بارزاً بلا توهم، لقد عاد - صلى الله عليه وسلم - من غار حراء خائفاً مما رأى فإذا بزوجه تطمئن قلبه، وتربت على كتفه، بل وتستشرف الخير مما رأى، فتحيل خوفه أمناً وسكينة، ساعية لدى ابن عمها (ورقة بن نوفل) تستوثق لزوجها مما رأى فتزيده ثقة وتأكيداً وتكون بذلك أول إنسان يوحّد الله بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، متحملة بعد ذلك عبء الرسالة على نحوٍ لم يعرفه تاريخ امرأة من قبل (1) .
وإذا عرفنا أن (سمية بنت خياط) أول شهيدة في الإسلام وهي سابع سبعة في الإسلام، وإذا ثبت أن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ هي الرقم السابع عشر ممن دخلوا الإسلام؛ تبين لنا مسارعة النساء إلى الدخول في الإسلام، وربما كانت النساء سبباً في دخول الرجال الإسلام، فهن (أرق عاطفة، وأكثر اندفاعاً، وأسمح نفساً، وأطيب قلباً) (2) .
ولا شك أن من يتصف بهذه الصفات يمكنه أن يفعل الكثير (فالمرأة إذا آمنت بشيء لم تبالِ في نشره والدعوة إليه بكل صعوبة، وعملت على إقناع زوجها وإخوتها وأبنائها به) (3) .
والتاريخ يذكر أن (سفانة بنت حاتم الطائي) لما عفا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلمت لم تزل بأخيها (عدي) الفارّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عاد مسلماً جندياً في الصف الإسلامي.
وكذلك امرأة عكرمة ابن أبي جهل ـ رضي الله عنهما ـ ألم تخرج هذه المرأة في طلب زوجها، قاطعة المسافات الطوال مجازفة ومخاطرة حتى أمنته وعادت به ليكون أحد صناديد الإسلام؟!
هذان النموذجان يقطعان الطريق على من يحاول بَخْسَ المرأة قدرَها أو التقليل من قدرتها على أن ينتظم بها الصف وينضبط في مشاركة فعّالة، ومساهمة أكثر من إيجابية، وهكذا دائماً وفي أي عصر نجد أن (حركة الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة الخطى، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة) (4) .
وعودة إلى رصد دور المرأة في الهجرة بوجه عام، والهجرة النبوية على وجه الخصوص فإننا ندرك الحقائق التالية:
1 ـ في الهجرة إلى الحبشة كان عدد الرجال أحد عشر رجلاً وأربع نسوة في رواية، وفي أخرى أن أول عشرة هاجروا إليها كان نصفهم من النساء.
2 ـ في الهجرة نفسها نجد أن الزوجات لم يفارقن أزواجهن بل صاحبْنهم متحملات معهم مفارقة الأهل والعشيرة، وصعوبة الرحلة ومشاقّ الطريق.
3 ـ يصل إصرار المرأة على الهجرة بدينها مداه حين تتكرر الهجرة مرة إلى الحبشة وأخرى إلى المدينة، فأول من قدم المدينة مهاجراً (أبو سلمة المخزومي) وزوجته (أم سلمة) - رضي الله عنهما ـ، وحين حيل بينها وبين الهجرة يذكر لنا التاريخ صفحة مشرفة يندر أن تتكرر في إصرارها على اللحاق بزوجها فتخرج كل يوم إلى أطراف مكة تستشرف من يرافقها في هجرتها، وأمام إصرارها يرقُّ لها من لا يزال على كفره فيصحبها في هذه الرحلة الطويلة حتى يبلغها مأمنها، وهذا الإصرار العجيب نجده في زوج (عامر بن ربيعة) فقد هاجرت مرة إلى الحبشة بصحبته وأخرى إلى المدينة.
4 ـ وإذا ثبتت رواية (أم معبد) فسوف نجدها أول من أسلم أثناء الهجرة ما بين مكة والمدينة إذ بايعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام.
فإذا ركزنا النظر في الهجرة النبوية فإننا نلحظ ما يلي:
1 ـ لم يعلم بهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا علي وأبو بكر وابنتاه أسماء وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ ومن ذلك نستنتج أنه جعل أسماء وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ محلَّ ثقته وسره ولم يخشَ منهما على أمر الهجرة، وهو أعظم حدث في تاريخ الإسلام بدليل أنه لم يتحدث مع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في أمر الهجرة إلا بعد معرفته بأنهما وحدهما الموجودتان عنده، وإلا لأخرجهما من البيت لينفرد بالسر هو وأبو بكر وحدهما، وهذا في حد ذاته دليل دامغ ندفع به من يتصنعون الخوف على الدعوة والحركة فيستبعدون العنصر النسائي كما لو كان شراً مستطيراً ستضيع به الدعوة، وتهلك به العصبة.
2 ـ لم يتوقف دور المرأة على مجرد العلم وكتمان السر، إذ يقف نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام على باب أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فتخرج إليهم أسماء ـ رضي الله عنها ـ، وعندما يستفسرون عن أبيها تنكر معرفتها وتأبى أن تجيبهم إلى ما يريدون، وكان أبو جهل فاحشاً خبيثاً إذ يلطم خدها لطمة تطرح منها قرطها ولا تبالي (5) .
وفي دعوتنا ومسيرتها الحالية نجد من يهمش المرأة ظاناً أنها بضربة كف تكشف الدعوة وتدل على رجالها ولا ثقة في تربية أو قدوة.
3 ـ ولما كانت الرحلة طويلة، فإنها تحتاج إلى إعداد وتجهيز، ومَن غير المرأة يجيد هذا الدور؟
لقد دفع أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالراحلتين ـ اللتين أعدَّهما للهجرة ـ إلى أسماء وعائشة ـ رضي الله عنهما - فجهزتاهما أحثّ الجهاز، إذ صنعتا لهما سفرة في جراب وقطعت أسماء ـ رضي الله عنها ـ قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها (6) .
4 ـ وإذا كان الرحل سيمكث على أطراف مكة ثلاث ليال فإن التاريخ لم يجهل دور المرأة، ولم تقف هي بإيجابيتها إلى هذا الحد فقد ينفد الزاد وهنا لا بد أن يستمر دور المرأة ولا يتجمد في أي مرحلة من مراحل الدعوة مهما كان حجم هذا الدور ومهما كانت طبيعة المرحلة، وهنا تكون المرأة أقدر على تأمين الزاد وهو دور يناسبها كامرأة كما ناسب أخاها عبد الله نقل الأخبار إذ هو بطبيعته أقدر وأوثق (7) .
ومن ثم فإننا:
(لا نستطيع أن نمر دون الإشارة إلى شخصية أسماء العجيبة ـ رضي الله عنها ـ وهي الأنثى الحامل في شهورها الأخيرة، تصعد الجبل الذي يعجز المسلم العادي صعوده) (8) .
هذه هي المرأة في حدث واحد من أحداث الإسلام الكبرى والأخطر في مسيرته ومرحلته، أضعها بين يدي من ينظر في دور المرأة؛ حتى تكون نظرته متوازنة فلا يكون هناك إفراط في الانطلاق بها دون مراعاة لقدراتها ومناسبة المناط بها لهذه القدرات، ولا يكون هناك تفريط في الجمود بها عن أداء دور بحيث يصل إلى التهميش وربما الإسقاط والإلغاء فتكون العاقبة: تجهيل يؤخر ولا يقدم، بل يعطل ويعوق، والله من وراء القصد.
__________
(1) السيرة النبوية: دروس وعبر، للأستاذ مصطفى السباعي، ص 45.
(2) المصدر السابق، ص 72.
(3) المصدر السابق، ص 73.
(4) المصدر السابق، ص 73.
(5) السيرة النبوية، لابن هشام، ج 2.
(6) البداية والنهاية، لابن كثير، ص 485.
(7) المنهج الحركي، لفضيلة الدكتور منير الغضبان.
(8) المنهج الحركي، لفضيلة الدكتور منير الغضبان.(237/22)
المجتمع الإسلامي والنهوض الحضاري
د. عبد العظيم محمود حنفي
تركزت نظريات التنمية الغربية على الدولة باعتبارها المحرك الأساسي لعملية التنمية وعليها يقع أكبر العبء في تحقيقها والنهوض بالمجتمع. وسواءً أكانت تلك الدولة أداة في يد الطبقة البرجوازية، أو كانت تعبيراً عن صراع المصالح في المجتمع، أو كانت دولة بروليتاريا؛ فإنها في جميع الأحوال جهاز فوقي يدير المجتمع ويخضع لتفاعلات القوة أكثر من التزامه بقواعد الحق. والخبرة الأوروبية في بواكير نهضتها تؤكد هذا الدور للدولة؛ فهي التي قامت بالغزو والاستعمار سواء المباشر، أو الاستيطاني القائم على التطهير العرقي في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا فيما عرف بالكشوف الجغرافية، وقد ساعد ذلك الدول الأوروبية على تحقيق التراكم الرأسمالي اللازم لبدء النهضة الصناعية وما صاحبها من تغيير اقتصادي واجتماعي وسياسي. ثم كان للدولة دور كبير في تأمين الأسواق اللازمة لتصريف المنتجات الأوروبية لتحقيق نمو الصناعة وتطويرها، وكذلك تأمين مصادر المواد الأولية والطاقة الضرورية لسير عجلة التصنيع.
أما في الخبرة الإسلامية فيلاحظ أن مفهوم الدولة ذاته يختلف؛ فالدولة تعني: عهداً سياسياً أو نظاماً حاكماً، ولا تعني الدلالات الأوروبية نفسها التي تشتمل على شعب وحكومة وإقليم؛ وذلك لأنّ الدولة في اللغة العربية مشتقة من التداول والتغير، وفي اللغات الأوروبية من الثبات والاستمرار والديمومة.
وقد قام المجتمع الإسلامي بالدور الأعظم في تحقيق النهوض الحضاري وبناء الأمة؛ حيث لم تكن الدولة سوى جهاز للأمن والجهاد وحماية الثغور، وإقامة العدل، وحماية الفقير والضعيف، وتأمين بعض الخدمات الأساسية كالطرق والبريد. أما باقي الفعاليات فقد كانت تتم من خلال المجتمع الذي مثَّل المُشيِّد الأول للحضارة الإسلامية، ولذلك عندما كانت تضعف الدول وتنهار أو تمر بفترة ركود طويلة، لم يكن هناك انهيار بالدرجة نفسها في المجتمعات الإسلامية؛ وذلك لأنَّ المجتمع كان قوياً محافظاً على ذاته واستمراريته بغض النظر عن قوة الدولة وضعفها.
وقد مثَّل الوقف ـ الذي هو حبس العين، والتصدق بالمنفعة على جهة من جهات البر ابتداءً أو انتهاء، وهو مؤسسة إسلامية لم تعرف قبل الإسلام ـ على مر العصور مصدر الحيوية والفعالية للمجتمع الإسلامي ووسيلة للحفاظ على غايته ومنهجه؛ حيث حقق الوقفُ استقلالَ العالِم في مواجهة السلطان، وحافظ على الكثير من الوظائف مستقلة ومستمرة، مما حافظ على استمرار كثير من القيم الإسلامية في الواقع العملي. وقد وُجِدَت أنواع عديدة من الأوقاف غطّت جميع نواحي الحياة من؛ تعليم، وصحة، ورعاية فقير ومسافر، إلى أوقاف الخدمة ورعاية الحيوانات مثل (وقف مساقي الكلاب) .
كذلك مثَّلت فروض الكفايات محركاً ودافعاً محفزاً للفعل الحضاري؛ لأنَّ فرض الكفاية غير فرض العين؛ إذ هو واجب على المجتمع حتى تقوم فئة تكفي لتحقيق الغاية من الفرض وتؤدي الوظيفة، هنا يسقط الإثم عن الأمة. ولذلك رأى الإمام السيوطي أن للقائم بفرض الكفاية ميزة على القائم بفرض العين؛ لإسقاطه الحرج عن المسلمين كافة. ويشهد العالم المعاصر العديد من صور الأوقاف في العالم الإسلامي لا يستطيع منصف أن ينكر دورها الحيوي في الحفاظ على هوية هذه الأمة وتطورها وتنمية شعوبها، بل إنها تمثِّل في بعض المجتمعات مجال الحيوية الحضارية الوحيد.
وهنا يلاحظ أن المجتمع الإسلامي مثَّل عنصر فعالية موازياً للدولة لم يتأثر كثيراً بضعفها وقوتها، حتى بداية حكم محمد علي باشا لمصر؛ الذي ألغى الفعاليات الاجتماعية كما ألغى الحسبة، وبدأ في تكريس نمط الحكم الذي يعطي الدولةَ الأولويةَ على المجتمع. وظل هذا النمط ينتشر أفقياً على مستوى العالم الإسلامي ويتمدد رأسياً في كل مجتمع، حتى أصبحت الدولة مهيمنة على المجتمع متحكمة في كل فعالياته، واحتكرت لنفسها كل شيء، مما أثقل كاهلها وأضعف قدرتها واستنزف مواردها؛ فكانت الدولة نفسها سبباً في التخلف وعاملاً مؤثراً في استمرار الركود وضعف الفعالية. هذا ناهيك عن كون بعض النُّخَبِ الممثلة للدول العربية المعاصرة متغربة، تتبنى نمطاً ثقافياً مغايراً لثقافة المجتمع؛ فتحولت مرة أخرى إلى مصارع للمجتمع مجهض لفعالياته. والعكس بالعكس؛ فانقسم المجتمع إلى متناقضين يجهض كل منهما فعالية الآخر.
وللخروج من حالة تغوُّل الدولة على المجتمع وتمددها لتحتكر معظم فعالياته التاريخية؛ مما أعجزها عن القيام بتحقيق التنمية أو العمران المحقق لرسالة الاستخلاف ـ ينبغي اعتماد مسلكين؛ هما:
1 ـ التأكيد على الدور الحضاري للمجتمع وفعالياته التطوعية التي كانت تقوم بالعبء الأكبر في التنمية والعمران، وذلك من خلال رصد فعاليات المجتمعات الإسلامية تاريخياً وتوضيح دورها الحقيقي مقارناً بدور الدولة في تلك الحقب التاريخية، وكيف أن المجتمع ومؤسساته القائمة على التمويل الذاتي ـ خصوصاً من خلال الأوقاف ـ قد استطاعت إنجاز الفعل الأساسي لتحقيق العمران والاستخلاف فيما يطلق عليه في عالمنا المعاصر مفهوم (التنمية) . ولعل إنشاء الجمعيات الخيرية والمؤسسات التطوعية وصناديق الأوقاف يمثِّل وسيلة مهمة في المجتمعات الإسلامية لإعادة الفعالية واليد الطولى للمجتمع في مواجهة الدولة.
2 ـ تهميش السلطة في الوعي الإسلامي المعاصر، وذلك من خلال إعادة تشكيل العقلية المسلمة التي أصبحت تقف من السلطة السياسية موقفين منتاقضين، أولهما: رفضها والرغبة في تغييرها، أو تعديل هيكلها ووظائفها. وثانيهما: حبها وتقديسها، والرغبة فيها على أنها أساس مدخل التغيير. هذان الموقفان جعلا العقل المسلم ـ في كل مستوياته، خصوصاً الجماعات الإصلاحية ـ لا يرى طريقاً للإصلاح إلا ويمر عبر السلطة، وأنّ السلطة هي الوسيلة الناجحة لبناء المجتمع المسلم. وهذا يؤدي بدوره إلى تحقيق إصلاحٍ غيرِ متجذر ومفروضٍ من أعلى لا يتسق ومنطقَ الفعل الحضاري الإسلامي المتعارف عليه في هذا التاريخ الممتد.
__________
(*) مدير مركز الكنانة للبحوث والدراسات.(237/23)
جمادى الآخرة - 1428 هـ
يونيو - 2007 م
(السنة: 22)(238/)
قليلاً من الحياء أيتها الصحافة!
لم يعد خافياً على أحد اليوم أن العلمانية نهج فكري له موقف يتعارض مع الدين، وأن أنصاره يقفون من الدين موقف المحادَّة، وقد يكون هناك ما يسوِّغ لهم إظهار موقفهم بالإعلان عنه بالمظاهرات ونحوها، وإظهار التمسك به وتحمُّل التبعات في ذلك، لكن الذي لا يستطاع قبوله أن تجد في مَنْ ليس في ظاهرهم مصلحة في ذلك، مَنْ يبالغ في نشر ذلك وكأنه يشيد بهذا المسلك ويعده من البطولة، ويشد الناس للإعجاب به شداً. فقد لاحظ القراء كثيراً من وسائل النشر في بلاد عربية شعوبها مسلمة وتنص دساتيرها على أن دينها الإسلام والشريعة مصدر رئيسي للتشريع فيها تتبع هذا المنهج، فتعاملت بطريقة غير مقبولة مع تظاهرات العلمانيين في تركيا ضد ترشيح وزير الخارجية ذي الأصول الإسلامية لرئاسة الدولة؛ فإذا بهذه المطبوعات تنقل أحداث المظاهرات وتقول: (تظاهرة المليون دفاعاً عن العلمانية) ، وتنقل صور الجموع الحاشدة، ثم تُجري المقابلات مع بعض العلمانيين، وتنقل قول إحدى النساء العلمانيات: (لا يسعني كامرأة سوى أن أشعر بالخوف من أن أُجبَر يوماً على ارتداء الحجاب) في لهجة تحريضية لا يظهر منها أدنى اعتراض أو توجيه أو حتى تلميح بتعارض ذلك مع الدين. وتزهو تلك المطبوعات بالقوة التي حققتها المعارضة من خلال هذه التظاهرات المبالغ في تقديرها. والناظر في هذا الموضوع يتساءل: هل كان الناخب التركي الذي انتخب هذا الحزب بالغالبية يجهل أصوله؟ أم جاء الحزب إلى الحكم عن طريق القوة والانقلاب المسلح؟ ألم يكن ذلك عبر انتخابات لا شك في نزاهتها حتى بمعايير العلمانيين أنفسهم؟ أم أنها الرغبة الجامحة في تسويق مشروع فكري آسن ذبلت أغصانه في أشد البلاد تمسكاً به، وزكمت رائحته النتنة الأنوف؟ لو كان المشهد معكوساً لانبرت الصحافة وأخرجت قاموس مفرداتها المشهور تتهم الإسلاميين بأنهم: إقصائيون أصحاب مواقف حدِّية، لا يقبلون بالديمقراطية ولا يعترفون بالآخر. فلماذا تخاذلت الصحافة أمام علمانيي تركيا؟!
قليلاً من الحياء أيتها الصحافة؛ فإن القول الحق: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) .(238/1)
الفارغ.. عندما يكون فرصة!
التحرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد:
ربما كانت الإجازة الصيفية من أكبر التحديات التي تواجه المصلحين والمصلحات، بل وعامة الآباء والأمهات. فالشباب والفتيات يواجَهون بسلسلة من الفتن الضخمة والمستفِزة تدفعهم دفعاً إلى العبث الفكري والأخلاقي من جهة، وإلى السطحية والتفاهة من جهة أخرى. وكثير من أبنائنا ـ بسبب ضعف التربية والتحصين ـ لديه القابلية للسقوط والانزلاق نحو الرذيلة، والاستسلام لتيار الشهوات.
وأي أمة من الأمم لا تسعى إلى المحافظة على أبنائها، وتحصينهم من الفتن والشبهات؛ فإنها عرضة للاستلاب الحضاري والضياع الفكري والأخلاقي.
إنَّ كثيراً من الناس مع الأسف الشديد لا زال يتعامل مع الوقت على أنه شيء ثانوي، ولا يتحرج من إهداره والعبث به، ومنا من يتعامل مع أوقات الإجازة بمنطق الهروب.. الهروب من المسؤولية، الهروب من العمل وأداء الواجبات، الهروب من العطاء والإنجاز، وأصبحت الإجازة عند بعضهم محضناً للكسل، وتربية على الغفلة والدعة واللامبالاة.
إنَّ إهدار الوقت فرع عن التخلف الفكري والتربوي الذي يضرب بجذوره في واقع الأمة. وإهمالنا للعمل والبناء في أيام الإجازة يجعلنا نتربى على أن الحياة بلا معنى أو قيمة، وبلا طموح أو هدف.
صحيح أن الترفيه من الحاجات النفسية المهمة، والإنسان بحاجة إلى الراحة، والأسرة بحاجة إلى الاستجمام، لكن الترفيه لا يكون بالمحرمات، والراحة لا تعني الكسل وغياب الهدف، كما أن الاستجمام لا يعني العبث وضياع الدين أو ضعف الفاعلية والعطاء. ومن المهم جداً إزالة التناقض الوهمي بين مفهومي الترفيه والإنتاجية.
ومن الضروري الحرص على التوسط بين الجدية والترفيه في الإجازة بحيث لا تذهب إلى أحد الطرفين فقط، وتقدير ذلك يختلف باختلاف الناس وقدراتهم وحاجاتهم وما يناسب كل بيئة بحسبها.
وما أجمل قول الإمام ابن القيم: (وعمارة الوقت: الاشتغال في جميع آنائه بما يقرِّب إلى الله، أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب، أو منكح، أو راحة؛ فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله، وتجنُّب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت، وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات) (1) .
إنَّ العناية بالوقت كما أنه ديانة وتعبُّد، فهو ثقافة وتربية، والإحساس بقيمة الوقت هو بداية التصحيح وبعث الهمم. والحديث في هذا الموضوع طويل جداً، ومتشعب، وحسبنا في هذه الافتتاحية أن نركز على مَعْلَم واحد من المعالم المهمة، ألا وهو: استثمار أوقات الإجازة الصيفية لتربية الشباب.
فإذا كنا نتطلع إلى التأثير والريادة في مجتمعنا فإن من واجبنا أن نتعامل بجد مع تربية الشباب، ولئن كانت الإجازة الصيفية ـ كما ذكرنا آنفاً ـ تعد أبرز التحديات التي تواجه المحاضن التربوية، فهي كذلك من أكبر الفرص التي يمكن استثمارها وتوظيفها بطريقة فاعلة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ» (2) . واستثمار المربين للإجازة في التربية يتطلب أموراً عديدة، منها:
أولاً: التجديد والإبداع:
من الضروري أن يبادر المصلحون والمصلحات إلى المراجعة المستمرة لآلياتهم التربوية، والسعي الحثيث للتجديد والإبداع في مشاريعهم الموجهة للشباب؛ فهذا العصر مليء بالمتغيرات، وتجددات العولمة بقنواتها المختلفة من أعظم الفتن التي تمتد بآثارها على الشباب خصوصاً.
ولا بد أن يستشعر الدعاة أنهم في سباق مع الزمن، وتنافس مع أهل الأهواء. والتفكير والعمل بطريقتنا التقليدية الرتيبة سوف يفقدنا الكثير من آليات التأثير، ونحن أحوج ما نكون إلى مشاريع إبداعية تستوعب اهتمام الشباب، وتكسب قلوبهم، وتقدم لهم البدائل العملية المقنعة والمحفزة التي تملأ أوقات فراغهم.
ثانياً: التنوع والتكامل:
ينبغي أن نراعي الاختلاف في اهتمامات الفتيان والفتيات، ونستوعب خصائص المراحل العمرية، والفروق الفردية في القدرات والتطلعات. ومن ثَمَّ فإنه ينبغي أن يتحقق التنوع والتكامل في مشاريعنا التربوية، ولا تصاغ كلها في قالب واحد جامد لا يقبل التطوير، ولا يتميز بالمرونة والتجديد.
إنَّ من الملحوظات الجديرة بالاهتمام والمدارسة أن معظم البرامج التربوية التي يقدمها الإسلاميون للفتيان والفتيات توجه للمتدينين والمتدينات خصوصاً، أو للقريبين منهم، وينسون شريحة عريضة من الشباب أُسْلِموا غنيمة باردة للفضائيات الساقطة ونحوها.
ونحسب أننا في حاجة ماسة إلى الارتقاء بأفقنا الدعوي، والانطلاق في الفضاء الرحب الذي يستوعب الدوافع النفسية والعقلية لعامة الشباب والفتيات؛ فكما أن الدعاة مسؤولون عن إيجاد محاضن ناضجة للمتدينين، فهم كذلك مسؤولون عن إيجاد محاضن أخرى جديدة بأطر مختلفة ومقنعة لبقية شرائح الشباب والفتيات.
ثالثاً: الخطاب العلمي:
من المهم جداً أن يتسم خطابنا التربوي إلى الشباب بالعلمية، وأن تُبنى مواقفهم بمنطق الإيمان والاقتناع، وليس بلغة التلقين والتقليد. إن اتساع الصدر للحوار مع الشباب، وتفهُّم قضاياهم، وسماع آرائهم، وتصحيح أفكارهم ومنطلقاتهم بالحجة والبرهان، سيجعلهم هذا ـ بالتأكيد ـ أكثر يقيناً بمواقفهم وبرامجهم، وأكثر حماساً في رفض الانحراف الفكري والأخلاقي. وفي قصة الشاب الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الزنا أبلغُ دليل على ذلك.
وإذا كانت لغة التلقين قد نجحت مع بعض الشباب في مرحلةٍ ما من المراحل، فليس بالضرورة أنها تنجح في كل وقت، وخاصة في عصر الانفتاح الفضائي والإلكتروني الذي كثرت فيه الشبهات والمؤثرات الفكرية.
رابعاً: التربية الإيمانية:
إن تزكية النفوس وتطهير القلوب من أعظم الزاد الذي يُحَصَّن به الشباب لمواجهة الفتن التي تحيط بهم. وتقوية الصلة بالله ـ عز وجل ـ أعظم معوان يتقوى به الإنسان على مواجهة مكائد شياطين الإنس والجن. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] .
وأصل التزكية وأساسها تربية الإنسان على مراقبة الله ـ عز وجل ـ وخوفه في السر والعلن. انظر إلى ذلك الشاب الذي استيقظ الإيمان في قلبه عندما ذكَّرته تلك الفتاة التي استسلمت له مُكْرَهة لمجرد أنها قالت له: «اتقِ الله، ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه! (1) » .
والمتأمل في الواقع التربوي اليوم يجد ـ مع الأسف الشديد ـ قصوراً ملحوظاً في هذا الميدان، بل ربما يجد الإنسان ـ أحياناً ـ تزهيداً وتهويناً من شأن التربية الإيمانية.
فلْنستثمر الإجازة في التشجيع على التنافس في الخيرات، والمحافظة على الصلوات، والإقبال على الطاعات وحفظ القرآن العظيم، ومجالسة الصالحين، ونحوها من الأعمال التي تسمو بها النفوس، وتزكو بها القلوب.
خامساً: بناء المسؤولية:
من أهم جوانب تربية الشباب: العناية ببناء روح المسؤولية عندهم؛ فأكبر أسباب هدر الأوقات، وما يتبع ذلك من الإخفاقات أو الانحرافات ناتج عن عدم المبالاة وضعف الشعور بالمسؤولية.
وأكثر ما يقلق الآباء والأمهات: أن بعض أبنائهم يأكل وينام ويلهو، دون أن يفكر في بناء نفسه أو رعاية والديه وأسرته، ودون أن يفكر في مصالحه الدنيوية فضلاً عن المصالح الأخروية.
إن استشعار الشباب لمسؤولياتهم هو الطريق الصحيح لتربيتهم وإصلاحهم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزول قدما عبد حتى يُسأَل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به؟» (2) . فقيمة الإنسان الحقيقية تتجلى في مدى استيعابه لواجباته، وحرصه على تنفيذها بإتقان.
وبناء المسؤولية لا يتم بمجرد كلمة أو موعظة فحسب؛ وإنما بتربية وتعاهد وإعداد عميق، وتدرج في البناء، مع طول نَفَس وسعة صدر. وإذا تأملتَ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمط الأذى عن الطريق فإنه لك صدقة» (3) ، فسوف تجد أنَّ فيه تربية متقدمة على الشعور بالمسؤولية؛ فالإنسان المسلم بحسه المرهف يمد يده لإزالة الأذى عن المسلمين خاصة، والناس عامة؛ حرصاً على ما ينفعهم، وإشفاقاً على مصالحهم.
سادساً: بناء الإيجابية:
يعاني كثير من الشباب وخصوصاً في المجتمعات المترفة أو المجتمعات التي غرقت في اللهو، من البطالة وقلَّة الإنتاجية، وهذه آفة مستشرية، تزداد عمقاً في أوقات الإجازات.
إننا نتألم كثيراً عندما ننظر إلى بعض التجمعات الشبابية وبخاصة في أوقات الصيف فلا نجد إلا اهتمامات وضيعة، أو طاقات مترهلة مستهلكة فيما لا نفع فيه. والبطالة إذا سيطرت على وقت الشاب كانت سبباً رئيساً للاختلال والاضطراب في شخصيته على المدى القريب والبعيد.
وهنا يتأكد دور المربين والمربيات في تعميق الإيجابية في حياة الفتيان والفتيات. وبالتأكيد لا نقصد نمطاً محدداً من الإيجابية، وإنما نعني الإيجابية بكل صورها وأشكالها، ابتداءً من الإيجابية مع النفس ببناء القدرات وتنمية الطاقات والتدريب على المهارات الأساسية، ومروراً بالإيجابية في الأسرة والمجتمع، وانتهاءً بالإيجابية في خدمة الدين.
وإذا أردتَ أن تقف على الإيجابية بأبهى وأعظم صورها؛ فاقرأ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل سلامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عنها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة» (4) .
وتحقيق هذه الإيجابية يتطلب مشاريع وبرامج عملية ـ خاصة في أوقات الفراغ ـ تحيي الطاقات وتوجهها، وتزيل عنها غبار السلبية. وواجب المصلحين هو بذل جهد جاد في اكتشاف هذه المشاريع الإبداعية التي تجعل من الشاب أكثر عطاءً، وأكثر نفعاً لنفسه ولأسرته وأمته.(238/2)
التأول الموغل في المخالفة
عبد الله بن محمد السعوي
ثمة بعد بدهي يتعذّر تجاوزه يَتمثّل في قداسة النص القرآني وقدرته على مباشرة الوظيفة الإيقاظية، من خلال تنظيم إيقاع الحياة، وقدرته على الجدلية ـ بحسبه فاعلاً ـ مع متباين السياقات الزمانية ـ بوصفها منفعلاً ـ دون أن يفقد شيئاً من ماهيّته، ملبياً آفاق الإنسان وطموحاته عبر تقديمه للمثل الأعلى ـ على نحو خالٍ من التعقيد المنهجي ـ الذي يتمركز حوله النشاط الجمعي العام. ولو تأملنا في الخطاب القرآني على نحوٍ معمَّقٍ لألفيناه ـ كرسالة شمولية عامة تتعالى عن الحدود الزمانية والمكانية ـ يزخر بالعديد من التوجيهات العامة الرامية إلى إفساح المجال للفاعل الفقهي ليباشر الفعل التأويلي ويتحرك داخل النص وفق أصول منضبطة، وفي ظلال المقاصد العامة للشريعة، وفي إطار حاجات المجتمع المسلم. الممارسة التأويلية لا تجري على نحو عشوائي، بل هي محكومة بمنهج، ومقيّدة بنص، ومؤطَّرة بضوابط معرفية، ومطالَبة باستقطاب المنتَج التأويلي العام المتمخض عن الذهنية السلفية المعتبرة للتماهي معه والالتزام بأنظمته ومحدداته؛ التي يفضي تجاوزها إلى ضرب من الخيال التأويلي، والترجمات غير الأمينة التي لا تتناغم والقيدَ الموضوعي؛ كما نلاحظ في كثير من السلوكيات التأويلية التي تتعاطى مع النص بانفتاح تأويلي لا نهائي ـ كإجراء يخترق النظام العقدي ـ؛ فهي تباشر الفعل التأويلي وفق الهندسة المفاهيمية المستوحاة من الجغرافيا الفكرية ـ المنحرفة ـ التي تنتمي إليها؛ فتتعاطى مع مفردات النص، باعتبارها لا تركن إلى دلالة ثابتة بقدر ما هي متعالية على التحديد، عبر انفتاحها على حقل دلالي متنوع، يحيل النص إلى مساحة رحبة للعمل العقلي على نحوٍ ناءٍ عن الشرط المعرفي المعتبر.
هذه الذهنية ـ المنشقة على الأسس الموضوعية ـ ترى أن التعددية الدلالية، وتدفق المعنى الفائض هو الأصل الذي يدفع الفاعل التأويلي إلى تجاوز المعاني المباشرة للتشكيل اللغوي في بنية النص إلى البنية العميقة لاستجلاء ما أضمر من أي كمون إيحائي، ودفع النص للبَوْح بكل معطياته المتوارية! هذا القالب يمارس الفعل التأويلي التقويلي على النص عبر تحميله لدلالات نائية عن طاقته المعنوية، انطلاقاً من إيمانه بأن النص قابل للتأويل المستمر والصيرورة الدائمة؛ فهو لا نهائي في نصيّته، ولا محدودية في معطياته الدلالية! بل هو قابل للنقد والمراجعة كأي نص بشري آخر، كما نرى عند (عفيف الأخضر) الذي يوغل في المخالفة العقدية؛ فهو يذهب إلى أن النص القرآني لا يتعالى عن المساءلة، ولا يستعصي على النقد! ولذا فهو ينزع إلى توسُّل المنهج (الأبستمولوجي الباشلاري) النقدي التفكيكي في التعاطي مع النص، ومعاينة مضامينه، والمسلك ذاته ينهجه (شاكر النابلسي) . هذا الحراك الموصوف بالتأويلي يرى أن التمسك بحرفية النص ومعطياته اللغوية المباشرة يحيله إلى نص مغلق؛ يعكس إمبرياليّته وأحاديته التي يُنزَّه عنها كفضاء دلالي رحب الآفاق! كما نرى في كتاب (قراءة معاصرة في إعجاز القرآن) لِـ (إبراهيم محمود) ؛ حيث يرى: «ضرورة عدم الحجر على النص القرآني في معنى موجه» ! (ص: 102) .
هذا السطو المعنوي الموجه يرمي ـ كما يتوهم ـ إلى تشكيل الجغرافيا الدلالية عبر ملامسة (ميتافيزيقا) النص بعد تفكيكه من الفهم التراثي الذي عَلِق به في ظروف زمانية مكانية معينة، ولكنه يقع فيما هرب منه؛ لأنه أخضع النص مرة أخرى للمعطى الزماني كما نرى عند (محمد أركون) ؛ الذي يتوّسل المنهج (الأركيو لوجي) الحفري، ويشتبك مع النص القرآني عبر القراءة التفكيكية ـ تأثراً بِـ (جاك دريدا) التفكيكي الأول ـ كمنهج نقدي قائم على أساس عدم وجود قراءة واحدة للنص، بل هو يستجيب لإمكانيات القراءات المتعددة. ولا ريب أن هذا المنطق التأويلي منافٍ لطبيعة النص؛ فهو يتقوّل عليه ويقلّل من قداستة. المسلك الأركوني اللاموضوعي يرى أن الإسلام خاضع للتاريخانية، وأن البعد الميثي هو القالب الناظم للخطاب القرآني، وأن المنحى المجازي هو الركيزة الجوهرية التي يتوفّر عليها؛ حيث يقول في كتابه (تاريخية الفكر الإسلامي) : «إن القرآن كما الأناجيل ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري. إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً» (ص: 299) . وفي الكتاب ذاته يندفع متهوراً ويتهجم على الإمام الشافعي ويرى أن تحديد الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في (الرسالة) لمصادر التشريع الإسلامي بأنها: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس ـ أن هذا هو: «الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم الكبير بأن الشريعة ذات أصل إلهي» (ص: 297) . وقريباً من هذا نجد الدكتور (محمد عابد الجابري) الذي أطروحاته دائماً تتمحور حول التراث والتحديث ـ قد سلك منهجاً فكرياً ينحو المنحى الفلسفي في قراءة التراث، وقد وقع في مغالطات حادة (1) . من ذلك قوله في كتاب (بنية العقل العربي) : «اللغة والشريعة والعقيدة والسياسة، في الماضي والحاضر، تلك هي العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية التي قلنا: إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي إلا بالتحرر منها» . أيضاً يذهب (محمد أركون) إلى القول بأسطرة القصص القرآني، ويرى أن المعطى الزمني المعاصر هو الذي يجب أن يحاكم إليه القرآن؛ حيث يقول في كتاب (الفكر الإسلامي: قراءة علمية) : «ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس» ! (ص: 203) .
إن التماهي العميق مع الأسس (الهيرمونوطيقية) أفضى إلى التمرد على النص المحكم، وانتهاك الشرط التأويلي من خلال مصادرة قداسة النص، ونفي بُعْدِه الإلهي، بل وثمة من ذهب إلى أبعد من ذلك؛ إلى تبنّي المنهج (النيتشوي) (2) ، والقول بموت الأشياء الغيبية (كما هو تعبيرهم المعتمد) ، وأن لفظ الجلالة ليس إلا رمزاً لذاتٍ عُليا مجهولة الصفات ـ جلّ الله في علاه ـ، وأن السلوك الإلحادي هو الحالة الإنسانية الطبيعية للتعاطي مع الوجود! الجنوح إلى توسيع فضاء الممارسة التأويلية اللامنضبطة لا يفرز إلاّ تغيير البنيان النظري للمفردة ـ عبر زحزحتها على الصعيد الدلالي من واقعها الفعلي ـ ويحيل الحقيقة الموضوعية إلى ضرب ميثولوجي أسطوري، والمقدس المتعالي إلى متعين مادي! كما نرى في (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة) لِـ (محمد شحرور) الذي قفز على القواعد الشرعية، وصادم المسلَّمات البديهية، ودلف في مغامرات (هيرمونوطيقية) دفعته إلى اعتبار الوجود المادي هو عين الوحي المقدس؛ حيث يقول: « ... فالوجود هو عين كلام الله وهو مخلوق غير قديم» (ص: 256، 257) ! هذا الانحراف الحاد في تضاريس الجغرافيا التأويلية المعاصرة لا يبتغي في حقيقته التقاطع مع النص اتفاقاً؛ وإنما يرمي إلى التقاطع مع العقل ـ المحدود ـ بحسبه الملهمَ الأول لدعم فكرة أو دحض أخرى.
وصفوة القول: إنه لا يخفى على ذي تنبّهٍ في هذا المساق أن التعاطي مع النص وفق رؤية سلفية هو حجر الزاوية في تصويب الرؤية، وترشيد تداعياتها؛ لأن السلف كما يقول (ابن تيمية) في كتابه (درء التعارض) هم: «أكمل الناس في معرفة الحق وأدلّته والجواب عمّا يعارضه» (7/ 172) .(238/3)
من آحكام الحرب في الإسلام
د. عثمان جمعة ضميرية (*)
- المقدمة:
التطور التاريخي للعلاقات الدولية:
للأمم في علاقاتها مع غيرها قواعد مرعيَّة ومبادئ تعارفت عليها منذ العصور الغابرة، وعليها أقامت أساس العلاقات في حالَيِ السلم والحرب حتى قال مونتسكيو: (ما من أمة من الأمم إلا ولها في حقوق الدول نظام، حتى قبائل إركوا ـ في أمريكا الشمالية ـ الذين يأكلون أسراهم لهم نظام من هذا القبيل؛ فإنهم يرسلون رسُلهم، ويستقبلون رسل غيرهم، ويعرفون أحكام السلم والحرب. ولكن من سوء أمرهم أنَّ نظام حقوقهم غير مبنيٍّ على الصحيح من الأصول) (1) .
فالعلاقات الدولية والقانون الدولي ثمرة المساعي المشتركة التي تقوم بها الشعوب وتتعاقب عليها الأجيال. وقد نشأت هذه القواعد بنشأة الجماعات الإنسانية ذاتها، وقبل أن تكتسب صفة «الدولة» كما يعرفها القانون الدولي الحديث، الذي لا يتجاوز عمره أربعة قرون، منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي على إثر المنازعات الأوروبية التي انتهت بإبرام معاهدة وستفاليا سنة (1648م) التي تعتبر فاتحةَ عهدٍ جديد للعلاقات الدولية والنقطةَ التي يبدأ عندها تاريخ القانون الدولي في وضعه الحالي، حيث نشأ ـ في الأصل ـ في أوروبا ثمَّ امتدَّ سلطانه خارجها إلى الدول التي اعتنقت المدنية الأوروبية. ثم أصبح قانوناً عالمياً دولياً حيث اتسعت دائرة العضوية في الهيئة الدولية، ولكنه عاد إلى العنصرية والديكتاتورية التي نجد بذرتها في نظام أهم مؤسسات المنظمة الدولية وهو (مجلس الأمن) وطريقة تشكيله واتخاذ قراراته؛ علاوة على أهم خصائصه في قيامه على القوة والمصلحة الذاتيَّة والأنانية المفْرِطة.
الإسلام والقانون الدولي:
وقد اهتمَّ علماءُ الإسلام غايةَ الاهتمام بالبحث والتصنيف في العلاقات الدولية أو القانون الدولي العام والقانون الدولي الخاص وسائر فروع القانون العام فيما كتبوه عن الجهاد والمغازي وعلم السِّيَر. وحسبنا شاهد واحد على ذلك وهو كتابات (الإمام محمد بن الحسن الشيباني) الذي كان له فضل السبق في تأسيس هذا العلم، وقد اعترف المنصفون من الغربيين بأنه (أبو القانون الدولي) في العالم كله، قبل أن يأتي العالم الهولندي (غروسيوس) وغيره ممن عرفوا بـ (آباء القانون الدولي) بسبعة قرون. وتجدر الإشارة إلى تأثير (الإمام محمد) في (غروسيوس) الذي عاش مدة في القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية التي كانت تتبنى المذهب الحنفي فقهياً.
وهذا يقف شاهداً عدلاً على أنَّ الإسلام لم يغادرْ جانباً من جوانب الحياة إلا وقد نظَّمه أروعَ تنظيمٍ، ووضعه في مكانه من البنيان الإسلاميِّ العظيم، وأبان عن حكمه وحكمته؛ فأقام قواعدَ الحقِّ والعدلِ في دعوةٍ عامة للناس جميعاً، تحقِّق للإنسان كرامتَه وإنسانيَّتَه، وتحفظ له حقوقَه في حال السِّلم وفي حال الحرب.
مفهوم القانون الدولي الإنساني:
ابتكر تعبير (القانون الدولي الإنساني) القانونيُّ المشهور (ماكس هبر) الرئيس الأسبق للَّجنة الدولية للصليب الأحمر، ولم يلبث أن تبناه معظم القانونيين.
وهو فرع من فروع القانون الدولي العام، يتكون من القواعد الخاصة بحقوق الإنسان واحترام آدميته. ويقصد به في نظر اللجنة الدولية للصليب الأحمر: (القواعد الاتفاقية أو العرفية المنشأ التي تستهدف على وجه التحديد: تسوية المشكلات الإنسانية المترتبة مباشرة على النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية، والتي تقيِّد - لأسباب إنسانية - حقَّ أطراف النزاع في استخدام سبل ووسائل الحرب محل اختيارها، أو التي تحمي الممتلكات والأشخاص المتضررين أو المحتمل تضررهم من النزاع) .
وعرّفته محكمة العدل الدولية بأنه: (فرع من القانون يتضمن القواعد المتصلة بتسيير الأعمال العدائية، وكذلك القواعد التي تحمي الأشخاص الخاضعين لسلطة الطرف الخصم) .
وعرَّفه بعضهم بأنه: (مجموعة قواعد القانون الدولي التي تهدف في حالات النزاع المسلح حماية الأشخاص أو المصابين من جرّاء هذا النزاع. وفي إطار واسع: حماية الأعيان التي ليس لها علاقة مباشرة بالعملية العسكرية) . ويشتمل هذا التعريف على عنصرين أساسيين: حماية الفرد، وحماية الأعيان (1) .
القواعد العليا في قانون القتال:
يتكون قانون القتال من القواعد العامة والخاصة التي تحكم سلوك الدول المتحاربة. وترجع هذه القواعد إلى قاعدة (الضرورة) . وإذا كانت الحرب نفسها ضرورة اجتماعية، فإنَّ هذه الضرورة تقدر بقدرها وتقيَّد بعدم العدوان والتجاوز.
ويقصد بالضرورة الحربية: الوسائل التي تؤدي إلى التسليم الكامل أو الجزئي من قِبَل العدو بأسرع وقت ممكن وبطرق القهر المنظمة التي لا تتعارض مع القانون أو العرف، وما زاد عن تلك الوسائل فهو محرَّم؛ لأنه خارج عن الضرورة الحربية.
ويتناول هذا البحث أهم تلك القواعد والأحكام الفقهية الشرعية المتعلقة بذلك في أربعة مباحث:
- المبحث الأول:
التمييز بين المقاتِلين وغير المقاتِلين:
أولاً: القاعدة العامة:
أرسى الإسلامُ القاعدة الأساسيةَ في التفرقة بين المقاتلين من الأعداء الذين تُوَجَّه إليهم الأعمال الحربية فيحلّ قتلهم، وغير المقاتلين الذين لا توجَّه إليهم الحرب فلا يحل قتلهم، فقصر القتال على الذين يقاتلون حقيقة أو حكماً، وهم العسكريون ومَنْ في حكمهم، ومَنَعَ مِنْ قَصْدِ قتلِ المدنيين الذين لا يشتركون في القتال؛ وإن كانوا جميعاً يشتركون في صفة العداء للمسلمين.
والعمدة في أحكام من يجوز قتلهم في الحرب ومن لا يجوز هي ـ مع الأحاديث الصحيحة الكثيرة الخاصة بأصناف منهم ـ وصيةُ أبي بكر الصديق لـ (يزيد بن أبي سفيان) لما بعثه على أحد الجيوش، ولذلك يحسُن إثباتها كاملة بنصِّها، وهي تجمع أصناف غير المقاتلين، وتبين مدى مشروعية بعض أعمال العنف والإغاظة في الحرب:
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: بعث أبو بكرٍ الصديقُ يزيدَ بنَ أبي سفيان على جيشٍ، فخرج معه يمشي وهو يوصيه، فقال: يا خليفة رسول الله! أنا الراكب وأنت الماشي؛ فإمّا أن تركب وإمّا أن أنزل. فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: ما أنا بالذي أركب ولا أنت بالذي تنزل؛ إني أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله. ثمَّ قال: إني موصيك بعشرٍ فاحفظهنَّ:
1 ـ إنك ستلقى أقواماً زعموا أنهم قد فرَّغوا أنفسهم لله في الصوامع، فَذَرْهُمْ وما فرَّغوا أنفسهم له.
2 ـ وستلقى أقواماً قد حلقوا أوساط رؤوسهم من الشَّعر، فافلقوها بالسيف,
3 ـ ولا تَقْتُلَنَّ مولوداً.
4 ـ ولا امرأة.
5 ـ ولا شيخاً كبيراً (هَرِماً) .
6 ـ ولا تَقْطَعَنَّ شجراً بدا ثمره إلا لنفع. إلا شجراً يمنعكم قتالاً، أو يحجز بينكم وبين المشركين.
7 ـ ولا تَحْرِقَنَّ نحلاً.
8 ـ ولا تخربنّ عامراً، ولا تغرقن نخلاً ولا تحرقنَّه.
9 ـ ولا تَذْبحنَّ بعيراً أو بقرة ولا شاة، ولا ما سوى ذلك من المواشي إلا لأكلٍ.
10 - ولا تهدموا بيعة (1) .
وفيما يلي بيان للأصناف الذين لا يجوز قتلهم في الجهاد؛ لأنهم غير مقاتلين، فهم يتمتعون بالحماية من القتل، ما لم يوجد سبب يبيح قتلهم كما سيأتي:
1 ـ النساء: لا ينبغي أن يقتل النساء في الحرب؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] والنساء لا يقاتِلْنَ، أو ليس من شأنهنَّ القتال. وقد أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا لما رأى امرأة مقتولة في إحدى المغازي فقال: (ما كانت هذه تقاتِل! أدركْ خالداً فقل له: لا تَقْتُلُنَّ ذريَّةً ولا عسيفاً) (2) .
واتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قتل النساء في حرب ولا في غيرها إلا أن يقاتلن حقيقة أو حكماً، فيكون عندئذ لا منجا منهنَّ إلا بقتلهن، فيجوز قتلهن مقبلات لا مدبرات. ومن هذا يُعلَم حكم النساء اللائي يشتركن في القتال في جيوش الأعداء؛ حيث تجنّد بعض الدول النساء كما تفعل أمريكا وإسرائيل وغيرهما، فيشتركن في القتال اشتراكاً حقيقياً يبيح للمسلمين قتلهن.
2 ـ الصبيان: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الصبيان أو الذرية؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوصي أمراء الأجناد بتقوى الله، ويوصيهم بمن معهم من المسلمين خيراً، ويقول: «لا تقتلوا امرأة ولا وليداً» وفي رواية: «ولا تقتلوا الولدان» (3) .
3 ـ الرهبان وأصحاب الصوامع: ولا يُقتل الرهبان ورجال الدين الذين انقطعوا عن الناس في الصوامع؛ بحيث لا يقاتِلون ولا يساعِدون في القتال، وهم أول من أوصى أبو بكر الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بعدم قتلهم (4) .
4 ـ الشيوخ (كبار السن) : الشيوخ قسمان:
(أحدهما) : الشيخ الفاني وهو من كبرت سنُّه فأصبح غير قادر على القتال ولا التحريض عليه، أو خرف عقله وزال فأصبح لا يعقل؛ فهو في حكم المجنون. وهذا القسم لا يحل قتله، لحديث بريدة؛ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية يقول: «لا تقتلوا شيخاً كبيراً» (5) .
(والقسم الثاني) : الشيخ الكامل العقل الذي له رأي في الحرب أو يقدر على القتال أو التحريض عليه. وهذا يجوز قتله؛ فقد روي أن رَبِيعَةَ بن رُفَيْعٍ السُّلَمي ـ رضي الله عنه ـ أدرك دُرَيْدَ بن الصّمَّة يوم حنين وهو شيخ كبير، فقتله ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لأنه كان ذا رأي في الحرب (6) .
5 ـ الزَّمْنَى أو أصحاب العاهات: لا يجوز قتل أصحاب الأعذار من العميان والزَّمْنَى أصحاب العاهات كالمقعدين ومقطوعي الأيدي والأرجل من خلاف، والمشلول، إذا لم يكن لهم رأي ولا تدبير في الحرب؛ لأن المبيح للقتل هو المقاتلة، وهؤلاء لا يتحقق منهم القتال ولا يقدرون على ذلك، ولا نكاية منهم للمسلمين. وكذلك لا يُقتل المجنون؛ لأنه غير مكلَّف، إلا أن يكون واحدٌ من هؤلاء يقاتل؛ فلا خلاف في أنه يُقتل عندئذ؛ لأنه يباشر القتال ويشترك فيه (7) .
6 ـ العُمال والفلاحون: جاءت النصوص بمنع قتل العُسَفاء (8) والفلاحين؛ فقد تقدم حديث رباح بن الربيع: «لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً» ، وأَثَرُ زيد بن وهب في كتاب عمر: «واتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب» (9) .
7 ـ حكم قتل الأقارب: يراعي الإسلام النواحي النفسية والإنسانية ويُعْلي من شأنها في العلاقات الدولية وغيرها؛ ولذلك نجد الفقهاء يتناولون هذه الجوانب بالبحث، ومن ذلك حكم قتل المسلم لقريبه المشرك في الجهاد.
ويحكم هذه المسألةَ قاعدةٌ عامةٌ هي: تحريمُ قصدِ قتل الأصل المشرك وإن علا من أي جهة كان - كالأب والجد - أو البدء بقتله، وجواز البدء بقتل سائر الأقارب المشركين من الأرحام وغيرهم، وقتل الأب لابنه في الجهاد.
ويدل على ذلك أن حنظلة بن أبي عامر، وعبد الله بن أُبَيٍّ ـ رضي الله عنهما ـ استأذنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبويهما فنهاهما (1) . وقد كان أبو عامر مشركاً محارباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابنُ أُبيّ منافقاً بيِّنَ النفاق، قد شهد الله ـ تعالى ـ بكفره.
وأما الاستثناء من القاعدة فهو يشمل حالتين: إحداهما: حال الاضطرار، بأن يقصد الأبُ قتلَ ابنه ولا مخلص للابن إلا بقتل أبيه. والثانية: أن يسمع الابن أباه يسبّ الرب ـ سبحانه ـ أو النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد روى مالك بن عمير قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: يا رسول الله! إني لقيت العدوَّ، ولقيت أبي فيهم، فسمعت منه لك مقالة قبيحة فطعنتُه بالرمح فقتلتُه. فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثمَّ جاء آخر فقال: يا نبي الله! إني لقيت أبي فتركته وأحببتُ أن يليه غيري. فسكت عنه (2) .
8 ـ حكم قتل الرسل والسفراء: وقد نصَّ بعض العلماء على أنه لا يوقع على الرسل والسفراء عقوبة القتل، ولذلك لا يُقتلون في الحرب؛ لأن الرسل آمنون حتى يبلّغوا الرسالة؛ فقد قال الشافعية: ويقتل كل كافرٍ إلا الرسل، حتى وإن كان معهم كتابٌ بتهديد أو قولٌ بتهديد (3) .
ثانياً: الاستثناء من القاعدة العامة في قتل غير المقاتلين:
تلكم هي القاعدة العامة فيمن لا يجوز قتلهم أثناء القتال، ويَرِدُ على هذه القاعدة ـ باتفاق العلماء ـ استثناء يشمل ثلاث حالات يجوز فيها قتل غير المقاتلين، وهي:
1 ـ حال اشتراك واحد من هؤلاء الأصناف في القتال حقيقةً بالمباشرة للقتال، أو حكماً بالرأي والمعاونة.
2 ـ حال الإغارة على العدو وتبييتهم بالإغارة عليهم ليلاً؛ بحيث لا يتميز المقاتلون منهم من غير المقاتلين.
3 ـ حال تترُّس الأعداء بمن لا يجوز قصدهم بالقتل أثناء الحرب (4) .
مقارنة: وشتان بين تلك الأحكام الإسلامية وبين ما فعله أعداء المسلمين منذ العهود الغابرة إلى عهدنا هذا، من عهد جنكيز خان وهجوم المغول والتتار على الخلافة الإسلامية، مما لا يزال يذكر إلى الآن حتى ذهب مثلاً في القسوة والهمجية والوحشية.
وفي عصرنا الحاضر؛ إن ما يأتيه أدعياء الحضارة وحقوق الإنسان والسّلم الدولي والنظام العالمي الجديد … لمما تتضاءل أمامه أفعال جنكيز خان وأحفاده، ولا يزال التاريخ يذكر قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما في الحرب العالمية الثانية، وقنابل النابالم في عدوان اليهود على العرب المسلمين في فلسطين المحتلة وغيرها من البلاد التي تخضع للاحتلال. وقد أثبتت تجارب الحرب العالمية الأولى أن المدنيين من النساء والأطفال كانوا هم الغالبية الساحقة من ضحايا الغارات الجوية؛ فقد بلغ عدد ضحايا المدنيين 5% وأصبح في الحرب العالمية الثانية 48% ثمَّ ارتفع في الحرب الكورية إلى 84%. وعرفت الحرب العالمية الثانية القذف بالقنابل من الجو بغير تمييز للمدن ومراكز الصناعة. وإذا استُعملت الأسلحة الجرثومية فسوف تزداد نسبة الضحايا المدنيين وقد يشكلون 90%. واليوم نجد أمثلة كثيرة وشواهد حية تدل على ذلك (5) .
- المبحث الثاني:
مدى مشروعية وسائل العنف وأعمال الإغاظة:
أولاً: وسائل العنف:
يجوز القيام بالأعمال التي تؤدي إلى التسليم بأسرع وقت لإنهاء القتال، بأن يحرِّقوا حصون الأعداء بالنار، وأن يرسلوا عليهم الماء ليغرقوهم أو ليغرقوا بساتينهم وحصونهم. ولا بأس أن ينصبوا عليهم المدافع، وأن يرموهم بالطائرات ونحوها، وأن يقطعوا عنهم الماء، ما داموا ممتنعين في حصونهم، إذا كان المسلمون لا يتمكنون من الظفر بهم بوجه آخر (1) .
والدليل على مشروعية تلك الأفعال من القرآن الكريم قول الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .
ومن السنة النبوية ما رواه أسامة بن زيد قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قرية يقال لها أُبْنَى، فقال: «ائتها صباحاً ثمَّ حرِّق» (2) .
وفي هذا كلِّه نَيْلٌ من العدو، وهو سبب اكتساب الثواب، كما أن حرمة الأموال تابعة لحرمة أصحابها، ولا حرمة لأنفسهم حتى إنهم ليُقتلون؛ فكيف تكون الحرمة لأموالهم؟ (3) .
ثانياً: أنواع الأسلحة الحربية:
يجوز أيضاً استخدام الأسلحة التي تؤدي إلى سرعة التسليم في الحرب والظفر بالعدو تقصيراً لأمد القتال. ومما يتصل بهذه الأسلحة: القتل بالتدخين: فلا بأس بذلك، إلا أنهم لو قدروا على قتل المشركين الذين فيها بغير تدخين؛ فالأوْلى لهم ألا يدخنوا، وإن لم يقدروا على ذلك إلا بالتدخين فلا بأس بذلك.
ولعل هذه الأمثلة عن الأسلحة التي يجوز استخدامها في الجهاد تبين لنا مدى مشروعية استخدام الأسلحة الحديثة من أسلحة التدمير الشامل التي تصيب غير المحاربين وقد تدمر المباني والمنشآت، وقد يكون لبعضها تأثير على الإنسان دون المنشآت والمباني (4) .
ثالثاً: أعمال الإغاظة والتخريب:
يجوز القيام بكل ما فيه إغاظة وكبت للأعداء في الحرب، كتحريق الأشجار والزروع وإتلافها؛ فلو حاصر المسلمون أهلَ حصنٍ فلا بأس بقطع أشجارهم ونخيلهم وتحريق ذلك، لكسر شوكتهم، دون أن يكون القصد من ذلك التخريب والإفساد، لمجرد الفساد؛ فإنه عندئذ غير جائز؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد نهى عن الفساد في الأرض.
ويدل على هذا: القرآن الكريم، والسنة النبوية والسيرة المطهرة، والأدلة العقلية والقياس:
1 - قال الله ـ تعالى ـ: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] .
2 ـ ونزول الآية في قصة بني النضير، لما حاصرهم بعد أن غدروا، وقد أمر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بقطع النخيل فقطعت، فقال بعضهم لبعض: ليس لنا مقام بعد النخيل. فنادوه: يا أبا القاسم! قد كنت تنهى عن الفساد؛ فما للنخيل تُقْطَع وتحرق؟ أتؤمِّننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الإبل إلا السلاح؟ قال: نعم! ففتحوا الحصون، وأجلاهم على ما وقع الصلح عليه (5) .
3 ـ ومن العقل والقياس: أنه لما جاز قتل النفوس ـ وهي أعظم حرمة من هذه الأشجار والأموال ـ لكسر شوكتهم، فما دونه من تخريب البنيان وقطع الأشجار ونحو ذلك، أَوْلى بالجواز (6) .
استثناء من حالات التخريب وقطع الأشجار:
هناك حالات تعتبر استثناء من هذه القاعدة أو قيداً عليها، تمنع من أعمال التدمير والعنف، وهي:
أـ أن يكون في ذلك تفويت مصلحةٍ حربية للمسلمين، أو إلحاق ضرر بهم.
ب ـ أن يكون في ذلك إخلال بشرط في معاهدة بين المسلمين والمشركين.
ج ـ أن يكون هناك وسيلة للظفر بهم والتغلب عليهم دون اللجوء إلى تلك الأعمال.
مذاهب العلماء في أعمال الإغاظة:
ويمكن أن نرجع المذاهب والآراء في حكم هذه المسألة إلى مذهبين اثنين:
(الأول) : مذهب جماهير العلماء الذين قالوا بمشروعية أعمال الإغاظة والتخريب للضرورة وعند الحاجة.
و (الثاني) : مذهب الإمام الأوْزَاعِيِّ عالم أهل الشام الذي قال بالمنع من ذلك في المشهور عنه. وهو أيضاً: مذهب الإمام اللَّيْثِ بنِ سعدٍ فقيه أهل مصر، وأبي ثور، خالد بن إبراهيم الكلبي البغدادي (7) .
تعقيب وترجيح:
وتعقيباً على الرأيين في هذه المسألة، لا نجد تعارضاً حقيقياً بينهما، بملاحظة ما يلي:
1 ـ إن القاعدة العامة هي عدم اللجوء إلى أعمال الإغاظة إلا للضرورة وتحقيقاً للمصلحة، إذا تعيَّن ذلك طريقاً للظفر بالأعداء، أو غلب على الظن أنهم لا يؤخذون بغير ذلك.
2 ـ إن كلام الجمهور ينصبُّ على الجواز لا الوجوب، فيجوز الفعل كما يجوز الترك؛ فهم لم يوجبوا ذلك.
3 ـ كما يلتقي المذهبان في أن ما فيه ضرر بالمسلمين يمكن إزالته بذلك، فيجوز فعله عندئذ.
4 ـ ويلتقيان أيضاً في أن كلاً منهما لا يهدف من وراء هذه الأعمال شيئاً من الإفساد أو التخريب لذاته. وكلاهما يسعى إلى بثِّ الخير والفضيلة وعمارة الأرض.
مقارنة: وهذه القاعدة لم تكن أوروبا تعرفها حتى في أزهى عصور القانون عندها، ولا كانت جيوشها لتتورع عن إتلاف وتخريب كل ما تجد في سبيلها مما يتيسر لها نهبه. والأمثلة على هذا كثيرة تعزّ على الحصر، حسبنا أن نذكر هنا ما كتبه مؤرخ الحروب الصليبية رئيس أساقفة صور (وليم الصوري) حيث قال: (اعتقد الملك بلدوين ونبلاء المملكة ـ بدون سبب واضح ـ أن الفرصة المرغوبة منذ زمن طويل لإلحاق الضرر بالعدو ـ المسلمين ـ قد حلَّت ... فمرُّوا خلال بلاد حوران ـ في جنوب سورية ـ وشقُّوا طريقهم نحو مدينة درعا المشهورة الآهلة بالسكان واجتاحوا المنطقة من هناك، ودمَّروا جزءاً كبيراً من المواقع النائية المعروفة باسم (القصور) حيث حرقوا هذه المواقع أو خرَّبوها بكل وسيلة ممكنة ... وحرّقوا ودمَّروا بطريقة أو بأخرى المحاصيلَ ومستلزمات الحياة الأخرى. ولما كانت الحبوب لا تحرق بسهولة لأنها لا تشتعل وحدها، وتعذر إلى حدٍّ كبير إلحاق الضرر بالبيادر باستثناء بعثرة الحبوب ونقل بعضها علفاً لدوابِّهم أقبل الجنود الباحثون عن سُبُل إلحاق الضرر بمزج التبن والقشّ مع الحبوب المنظَّفة من قبل حتى يمكن إحراقها بسهولة) (1) .
ولما جاء (جروسيوس) أبو القانون الدولي الأوروبي في القرن السابع عشر، وضع في قواعد الحرب أنه لا يجوز التدمير والإتلاف إلا إذا كان وسيلة سريعة لإخضاع العدو. ثمَّ تتابع علماؤهم على تنقيح هذه النظرية وترويجها، فذكر (فاتيل) أن الأغراض التي يجوز من أجلها الإتلاف ثلاثة:
1 ـ معاقبة شعب همجي لمنعه من أعمال الهمجية.
2 ـ الحدّ من تقدُّم العدو.
3 ـ تمكين الجيش من القيام بأعماله الحربية.
فحاذى بذلك النظرية الإسلامية إلى حدٍّ كبير عمداً أو اتفاقاً؛ فالتخريب والإتلاف لا يتقيد فيه هذا الفاعل بهمجية ولا مدنية، وليس قصر العقاب على الشعوب الهمجية مما يعقل له معنى، ولا هو مما يلتزم في القصاص الدولي، اللهم إلا أن يكون المعنى: أن كل من فعل تخريباً أو إتلافاً فهو شعب همجي. بل لعل هذه ثغرة مقصودة في القانون الدولي لِيَثِبَ منها الأوروبيون الأقوياء على الشعوب الضعيفة المتخلفة، أحراراً من كل قيد باسم إبطال أعمال «الهمجية» زوراً وبهتاناً مما لا يعرفه الإسلام ولا يُقرّه.
فنظرية (فاتيل) أضيق من النظرية الإسلامية. ولكنهم عادوا فاستوفوا ما بقي منها حين قرروا ـ في اتفاقية لاهاي سنة 1899م الخاصة بالحرب البرية ـ أن الإتلاف محرَّم إلا لضرورة حربية. وقد أعيد النص على هذا التحريم في المادة (23) من لائحة الحرب البرية سنة (1907 م) (2) .
- المبحث الثالث:
تحريم المُثْلَة والتَّحريق:
يدعو الإسلام دائماً إلى التمسك بالفضيلة والأخلاق مع الناس جميعاً، سواء في العلاقات بين الآحاد أم بين الجماعات، وسواء في السلم أو الحرب، وأشدّ ما كان يدعو الإسلام إلى ذلك في الجهاد، خشية أن تندفع النفوس في حال احتدام القتال إلى ما يخالف ذلك المبدأ العام، ولذلك جاء تحريم التمثيل بجثث الأعداء في الحرب وتحريقهم.
أولاً: تحريم الْمَثُلة:
وهي قطع بعض الأعضاء أو تسويد الوجه، وشقّ الجوف، ورضخ الرؤوس ونحو ذلك. وقد فرّق الفقهاء بين حالتين:
(الأولى) : حال القتال إذا وقع ذلك قتالاً، كمبارز ضرب فقطع أذنه، ثمَّ ضرب ففقأ عينه ونحو ذلك؛ لأنه أسلوب من أساليب الحرب، وهو أَبْلَغُ في كبت الأعداء ووهنهم، وأضرُّ بهم.
وفي (الثانية) : وهي حال ما بعد القتال أو الانتصار على الأعداء؛ ففي هذه الحالة ينبغي اجتناب الْمَثُلة؛ لأنها محرّمة بنصوص كثيرة:
أـ ففي القرآن الكريم، يأمر الله ـ تعالى ـ بالمعاملة بالمثل، ولكنه لا يجيز هذه المعاملة إذا كان فيها تشويه ومَثُلة؛ فلو أن الأعداء فعلوا ذلك بقتلانا فلا يجوز لنا أن نجاريَهم في ذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] .
ب ـ ومن السنة النبوية: حديث سليمان بن بريدة ـ رضي الله عنه ـ: «لا تغلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا» . وعن عِمْرانَ بن الحُصَيْن ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطبنا، فيأمرنا بالصدقة وينهانا عن الْمَثُلة» (1) .
ثانياً: قطع الرؤوس:
ومما يتصل بالمثلة، وهو نوع منها: قطْعُ رؤوس الكفار وحَمْلُها إلى الولاة، ونقلها من بلد إلى آخر أو من ناحية إلى أخرى، ما لم يكن في ذلك نكاية بالعدو وردع له. فقد ذُكِر عن عقبة بن عامر الجُهَنِيّ ـ رضي الله عنه ـ أنه قدم على أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ برأس (يَنَاق الَبِطريق) فأنكر ذلك، فقيل له: يا خليفة رسول الله! إنهم يفعلون ذلك بنا. فقال: «فاسْتِنَانٌ بفارس والروم؟ لا يُحْمَل إليّ رأس، إنما يكفي الكتاب والخبر» . وفي رواية: كتب إلى عُمّاله بالشام: «لا تبعثوا إليّ برأس، ولكن يكفيني الكتاب والخبر» (2) .
ثالثاً: التعذيب بالنار:
ومما يتصل بالمثلة أيضاً: التحريق أو التعذيب بالنار، وقد نهى الإسلام عنه أشدَّ النهي، واعتبره اعتداء على حق الإلهية؛ إذ لا يعذّب بالنار إلا ربّ النار، على ما روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية وقال لهم: «إن قدرتم على فلان فأحرقوه بالنار. وكان قد نخس دابة زينب ـ رضي الله عنها ـ ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أَزْلَقَتْ ـ أي ألقت ولدها قبل تمامه ـ ثمَّ قال: إن قدرتم عليه فاقتلوه ولا تحرقوه؛ فإنما يعذب اللهُ ـ تعالى ـ بالنار» (3) .
مقارنة:
تلكم هي أحكام الإسلام، تجعل الفضيلة والكرامة نُصْبَ عينيها حتى ولو مع الأعداء والحيوانات، فلا يجوز تعذيبها ولا التمثيل بها ولا تحريقها.. بينما حروب العصبيات والتشفي والمطامع التي يعيشها القرن العشرون، تترك آثارها في المحاربين: سَمْلاً للأعين، وقلعاً للأظفار، وجدعاً للأنوف، وقطعاً للآذان والأطراف والأعضاء.. وتشويهاً في الجسم، وقتلاً جماعياً، واعتداء على الأعراض، وانتهاكاً للحرمات. والأمثلة والشواهد على هذا كثيرة تعزّ على الحصر، تجدها في الاعتداء على المسلمين وعلى الأقليات المسلمة في شتى بقاع الدنيا: في الفلبين، والحبشة، وروسيا، والبوسنة والهرسك.. وغيرها كثير.
- المبحث الرابع:
مدى مشروعية الخداع الحربي:
ينفِّر الإسلام أشدَّ التنفير من الغدر ومن كل ما يشبه الغدر؛ سواء في حال السلم أو الحرب، ولكنه يبيح استعمال الحيلة والخداع في الحرب ما لم يكن فيهما ما يتنافى مع الأخلاق الإسلامية.
أولاً: مشروعية وسائل الخداع الحربي:
ترجع إباحة الخداع الحربي إلى أنه يخرج عن مفهوم الغدر، إذ إنه يعمل في مجال أمور متوقعة في كل لحظة، ويمكن توقِّيه باليقظة التامة والعلم بأساليب الحرب. وهو أيضاً من العوامل التي تقصِّر أمد الحرب بأدائها إلى سرعة الاستسلام، فيكون فيه حقن الدماء، وذلك كالإشعار بأن عدد القوات أكثر مما هي في الحقيقة أو أقلّ مما هي في الواقع، لإصابة العدو بالخطأ في الحسبان، وبعثِ العيون والأرصاد، واستعمالِ الألوان والأعلام المضلِّلة (4) .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحرب خُدْعة» (5) .
ثانياً: التفريق بين الخداع الحربي والأمان:
ويفرق العلماء تفريقاً واضحاً بين الخداع في الحرب باستعمال معاريض الكلام، والأمان الذي لا يجوز فيه الغدر. فالأمان تطمئن إليه نفس الكافر، والخديعة هي تدبير غوامض الحرب بما يوهم العدو الإعراض عنه أو النكول حتى توجد فيه الفرصة؛ فيدخل في الخداع: التورية، والتبييت، والتفريق بينهم، ونصب الكمين، والاستطراد حال القتال (1) .
ولقد بلغ الإسلام شأواً عالياً في الالتزام بالوفاء في استعمال هذه المعاريض والحيل الحربية والخداع، لا يدانيه أحدث القوانين الدولية. ومن روائع الأمثلة في ذلك ما رواه الإمام محمد بن الحسن أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى أحد قادته المحاربين للفرس قال: «بلغني أن رجالاً منكم يطلبون العِلْج (2) حتى إذا فرَّ العلج واشتدَّ في الجبل وامتنع، فيقول له الرجل المسلم: لا تخف! ثمَّ إذا أدركه قتله؛ وإني والله! لا يبلغني أن أحداً فعل ذلك إلا ضربت عنقه» (3) .
مقارنة:
وفي القانون الدولي العام يفرّق الشرَّاح القانونيون بين الحيلة التي تباح في الحرب كتضليل العدو واستدراجه، ومفاجأته بالهجوم ليلاً أو في مواقع لم يكن يتوقع الهجوم منها، وبث الألغام والحُفَر في طريق قوات العدو لتعطيل سيره، ونشر معلومات غير صحيحة عن حركات الجيوش ومواقعها، والحصول على معلومات عن قوات العدو، وبين الخديعة المحظورة التي تنطوي على الغدر كاستعمال علامات التسليم أو إشارات الصليب الأحمر لستر عمليات حربية، إلا أنهم لم يفطنوا إلى ذلك ولم تستيقظ ضمائرهم إلا في هذا العصر منذ اتفاقية لاهاي الرابعة عام 1907م التي قررت أنه ليس للمحاربين أن يختاروا دون ضابط الوسائل التي تضرّ بالعدو والقيود التي ترد على الوسائل، على ما هناك من تجاوزات عند التطبيق العملي؛ فقد لجأت ألمانيا في هجومها المضاد في فرنسا عام 1944 إلى استخدام الزي الرسمي الأمريكي (4) .
- الخاتمة:
وفي ختام هذا البحث تجدر الإشارة إلى الخلاصة أو النتيجة التي ننتهي إليها؛ فإن الحرب في الإسلام لها آداب رائعة، وتنظيم عالٍ، وأحكام ضابطة لسيرها وإدارتها، والقواعد العليا في قانون القتال يحكمها مبدأ الضرورة بضوابطها واستثناءاتها، وقد تناول العلماء ذلك كله بتفصيل واسع أبان عن سموِّ أحكام الإسلام وعدله وإنسانيته.
كما تجدر الإشارة أيضاً إلى بعض المبادئ الإسلامية التي انتقلت إلى الفقه الأوروبي وتأثرت بها بعض القوانين؛ حيث انتقلت إليهم عن طريق نقل الثقافة الإسلامية بواسطة الوافدين إلى المدارس الإسلامية في الأندلس وفي بالرمو، وعن طريق الاحتكاك بسبب عقود الأمان التي تمنحها دار الإسلام للحربيين للمبادلات التجارية ونحوها، وعن طريق الاحتكاك بهم أثناء الحروب الصليبية، ومن ذلك: التمييز بين القانون الدولي (علم السِّيَر) وبين السياسة، ومبدأ الإنسانية في الحرب وإبّان النزاعات المسلحة الداخلية (حروب البغي) ، ومبدأ الضرورة التي تقدر بقدرها في الحرب، والقواعد التي تحكم علاقات وامتيازات السفراء وإقرار المسؤولية الفردية، والاهتمام بالفرد ومخاطبته باعتباره من أشخاص القانون الدولي، وغيرها كثير.
وأخيراً تجدر الإشارة إلى الآمال التي يعلقها القانونيون الغربيون على الجهود الإسلامية في تطوير القانون الدولي وبعث الروح الأخلاقية والإنسانية فيه؛ حيث يرى كثير منهم أن أحكام الشريعة الإسلامية في المسائل الدولية يمكن الاستفادة منها وبخاصة في مجالين رئيسين:
(الأول) : تطوير أحكام القانون الدولي في شأن مركز الفرد فيه، والاعتراف به شخصاً من أشخاص القانون الدولي.
و (المجال الثاني) : إدخال المبادئ الأخلاقية في القانون الدولي.
فالشريعة الإسلامية غنية بالمسائل التي تتصل بهاتين المسألتين (5) .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ
__________
(*) كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة.
(1) (روح الشرائع) ، لمونتسكيو: 1/17.
(1) انظر: (مبادئ القانون الدولي العام) د. عبد العزيز سرحان، ص (10) ، وله أيضاً: (مقدمة لدراسة ضمانات حقوق الإنسان) ص (5) ، (حقوق الإنسان) المجلد الثاني: دراسات حول الوثائق العالمية والإقليمية، إعداد الدكتور محمود شريف بسيوني وآخرين: 2/100-102 (القانون الدولي الإنساني: وثائق وآراء) ، د. عمر سعد الله، ص (6-7) .
(1) أخرجه: الإمام مالك: 2/447 ـ 448، وسعيد بن منصور: 2/241، وعبد الرزاق: 5/199، وابن أبي شيبة: 12/383 ـ 384.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد: 4/13، والنسائي في (الكبرى) كتاب السِّير: 5/186، وابن ماجة في الجهاد: 2/948.
(3) أخرجه أبو يوسف في (الخراج) ص (212) ، والإمام أحمد: 1/300، والبزار: 2/270: 11/224، وله شواهد يتقوى بها.
(4) انظر: (الإفصاح عن معاني الصحاح) لابن هبيرة: 2/274، (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة) ، ص (382) ، 176، (البحر الزخار) : 6/397.
(5) هذا في رواية أبي داود، وأصله في صحيح مسلم وقد تقدم تخريجه.
(6) أخرجه البخاري: 8/41 ـ 42، ومسلم: 3/1943 ـ 1944.
(7) انظر: (الاختيار لتعليل المختار) : 4/188 ـ 189، (بدائع الصنائع) : 9/4307، (مختصر اختلاف العلماء) له أيضاً: 3/455، (الدسوقي على الشرح الكبير) : 4/176 ـ 177، (نهاية المحتاج) : 8/64، (المغني) : 10/534 ـ 535.
(8) العُسَفَاء جمع عسيف ـ بعين وسين مهملة والعسيف: الأجير.
(9) أخرجه ابن أبي شيبة: 12/383، والبيهقي: 9/91، وسعيد بن منصور: 2/239.
(1) رواه ابن إسحاق: 2/292 ـ 293، والطبري: 28 /116، والحميدي: 2/520، ورواه الطبراني والبزار ورجاله رجال الصحيح. انظر: (مجمع الزوائد) : 9/318، (تفسير ابن كثير) : 4/373.
(2) أخرجه الإمام محمد في (السِّيَر الكبير) : 1/107، وأبو داود في (المراسيل) ص (164) ، والبيهقي: 9/27 وقال: (مرسل جيد) .
(3) انظر: (حاشية الشرقاوي على التحرير) : 2/454.
(4) انظر: (بدائع الصنائع) : 9/4307، (الاختيار لتعليل المختار) : 4/188 ـ 189، (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير) : 2/76، (مغني المحتاج) : 4/222 ـ 223، (المغني) : 10/534،، (المحلَّى) : 7/296 ـ 298، (السيل الجرار) : 4/532، (نيل الأوطار) : 7/278 ـ 282.
(5) وانظر: (القانون الدولي العام) د. حامد سلطان، وآخرين، ص (744) ، (الأسلحة الكيميائية والجرثومية) ، د. نبيل صبحي، ص (157) .
(1) انظر: (المبسوط) : 10/31، (حاشية ابن عابدين) : 4/12، (بدائع الصنائع) : 9/4309، (مختصر اختلاف العلماء) : 3/432.
(2) تقدم تخريجه فيما سبق.
(3) انظر: (شرح السِّير الكبير) : 4/1467، (تبيين الحقائق) : 3/244، (بدائع الصنائع) : 9/4309.
(4) انظر في ذلك (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية) د. محمد خير هيكل: 2/1343 ـ 1361.
(5) انظر: (سيرة ابن هشام) : 2/190، (طبقات ابن سعد) : 2/57 ـ 58، وأخرجه أبو داود في (المراسيل) ص (168) مختصراً.
(6) (السِّير الكبير) : 1/43 ـ 44، 4/1480، (أحكام القرآن) للجصاص: 3/429.
(7) (الخراج) لأبي يوسف، ص (210 ـ 211) .
(1) انظر: (تاريخ الحروب الصليبية) تأليف وليم الصوري، ترجمة د. سهيل زكار: 2/1049 ـ 1050.
(2) انظر: (محاضرات في العلاقات الدولية في الإسلام) لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص (46) ، مذكرات لطلبة الدراسات العليا بكلية الشريعة والقانون بالأزهر، (القانون الدولي العام) د. علي صادق أبو هيف، ص (810 ـ 812) ، د. حسني جابر، ص (334 ـ 336) .
(1) أخرجه أبو داود: 4/12، والإمام أحمد: 4/428، وابن أبي شيبة: 9/423،، وصححه ابن حبان، ص (362) .
(2) أخرجه الطَّحاوي في (مشكل الآثار) : 7/404 ـ 405، والبيهقي: 9/132، وسعيد بن منصور: 2/245 و 246.
(3) رواه ابن إسحاق عن أبي هريرة: 1/657، وأصل القصة في البخاري: 6/149.
(4) انظر: (منهج الإسلام في الحرب والسلام) ، ص (202) ، (القانون الدولي) د. حسني جابر، ص (322) .
(5) أخرجه الإمام أحمد: 1/90 و 126، والطَّحاوي في (مشكل الآثار) : 7/366، وأبو يعلى: 1/260.
(1) انظر: (القوانين الفقهية) لابن جزيء ص (162) .
(2) العلج: الرجل الضخم من كفار العجم، ويطلق أيضاً على كل كافر مطلقاً، والجمع علوج وأعلاج. انظر: (المصباح المنير) : 2/425.
(3) انظر: (التمهيد) : 24/234.
(4) انظر: (القانون الدولي العام) د. محمد حافظ غانم، ص (672) ، د. سامي جنينة، ص (623) .
(5) انظر: (تطور القانون الدولي) ، تأليف ولفغانغ فريدمان، ترجمة لجنة من الأساتذة الجامعيين، ص (196)(238/4)
أعداء الأمن كما وصفهم القرآن الكريم
عبد العزيز بن ناصر الجليل
إن الله ـ عز وجل ـ خلق الثقلين الجن والإنس ليعبدوه، وسخر لهم ما في السماوات والأرض ليستعينوا بذلك على القيام بهذه الغاية العظيمة، قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، وجعل ذلك مركوزاً في عقولهم وفِطَرهم، ولكن من رحمته ـ سبحانه ـ أنه لم يَكِلهم إلى ذلك فحسب، بل أعانهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل؛ ليبينوا للناس غاية خلقهم ومصيرهم، ويُعرّفوهم بربهم ـ سبحانه ـ وأسمائه وصفاته، وكيفية عبادته، ووعدهم إن هم قاموا بذلك أن يأمنوا ويسعدوا ويسلموا في الدنيا على أنفسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، وفي الآخرة لهم الأمن التام بدخولهم دار السلام آمنين مطمئنين. وتوعدهم إن هم أعرضوا عن عبادته ـ سبحانه ـ وكفروا به بالخوف والجوع والمعيشة الضنك، والشقاء في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] .
وإن المتأمِّل في عالمنا المعاصر ليرى دون عناء ما يعج به عالمنا من المخاوف والمزعجات والمقلقات، والقتل، والجوع والأمراض النفسية والأسرية والاجتماعية، ويرى الهلع على وجوه كثير من الناس من جراء ما يهدد وجودهم وأعراضهم وأموالهم وقبل ذلك دينهم. ولا شك أن حماية الدين وتأمين الناس في أنفسهم وأعراضهم وعقولهم حتى تنتشر السكينة وتعمّ الطمأنينة، وردّ المعتدين؛ واجب على كل شخص بحسب علمه وقدرته.
لكن الملاحظ أنه قد صاحب ذلك التهديد للأمن حملة ماكرة خبيثة ملبسة مضللة من الكفار وأذنابهم المنافقين في وسائل إعلامهم المختلفة؛ وذلك بالتلاعب بالمصطلحات، والتلبيس على الناس في معنى الأمن ووسائله، ومعنى الإرهاب وطرائقه، وجاؤوا بزخرف من القول غروراً؛ ليصرفوا الناس عن الأسباب الحقيقية لاختلال الأمن في حياة الأفراد والمجتمعات والدول، والتي ذكرها الله ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم، وجعلها سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتحول، وصرفوهم عن الأعداء الحقيقيين للأمن، وجاؤوا بأسباب أملتها عليهم أهواؤهم ومصالحهم؛ فجعلوا الحق باطلاً، والباطل حقاً. وهكذا شأن شياطين الإنس والجن الذين أخبرنا الله عنهم بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113] .
فبيَّن ـ سبحانه ـ في هذه الآية الكريمة أن تضليل شياطين الإنس والجن للناس بأقوالهم المزخرفة المضللة لا ينطلي إلا على من ضعف دينه وإيمانه بالآخرة. وإلا فإن المؤمن بربه الذي يصدر عن كتابه ـ سبحانه وتعالى ـ وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمن بلقاء ربه في الآخرة؛ لا يصغي لهذا المكر ولا يرضاه ولا يقبله.
ولما كانت الحملة على الإسلام وثوابته ومفاهيمه شديدة وشرسة ولا سيما في هذه السنوات الأخيرة من قِبَل الكفار وإخوانهم من المنافقين في ديار الإسلام؛ أصبح بيان الحق في هذه الحرب متعيناً على كل قادر بلسانه وقلمه وبيانه وماله، وذلك لرفع اللبس عن المسلمين وإزالة الشبهات وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وذلك بالرجوع إلى القرآن وهديه ومجاهدة الأعداء به، قال ـ تعالى ـ: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] .
ـ ومن صور التلبيس في مفهوم الأمن اليوم قصره على أمن النفوس والأموال فحسب مع أنه أشمل من ذلك من حيث إن أعظم الأمن هو الأمن في الدين والعقيدة والأخلاق وحماية الناس من أن يُفتنوا في دينهم، وهذا المفهوم الشامل قد غاب عن حياة كثير من الناس اليوم. وقد أسهم في تغييبه الإعلام الماكر للكافرين وإخوانهم من المنافقين، حيث لم يضعوا للدين وحمايته أي اعتبار في تحقيق الأمن. مع أن الله ـ عز وجل ـ قد أفهمنا في كتابه الكريم أن أي خلل في أمن الناس فمصدره الخلل في دينهم وإيمانهم، فبضعف الدين والإيمان، أو غيابه يحصل اختلال الأمن في بقية ضروريات الإنسان من نفس ومال وعقل وعرض. قال ـ تعالى ـ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .
ـ وكذلك من المفهوم القاصر للأمن الذي يحاول الملبسون ترسيخه في أذهان الناس اليوم هو توجيه الأنظار إلى توفير الأمن على النفس والرزق في هذه الحياة الدنيا فحسب، ونسيان الأمن الحقيقي والسعادة الكبرى في الآخرة، وعدم أو ضعف الحرص على ذلك، وإغفال الأسباب التي توصل إلى الأمن يوم الفزع الأكبر، والفوز بدار الأمن والسلام، والتي أعدَّها الله ـ عز وجل ـ لعباده المتقين، قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 45 - 46] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] .
ـ وبهذا الطرح الشامل لمفهوم الأمن ينكشف لنا الأعداء الحقيقيون لأمن الناس الذين يتترسون وراء مكافحة الإرهاب العالمي، والحرص على توفير الأمن للناس؛ مع أنهم مصدر الإرهاب في العالم والخوف والجرائم والفساد، وبيان ذلك واضح وجليٌّ في أقوالهم وأفعالهم وجرائمهم الشنيعة، في إفسادهم للدين والنفس والعقل والمال والعرض وما يترتب على ذلك من العقوبات والمخاوف الدنيوية والعقوبات الأخروية في نار جهنم حيث لا أمن ولا راحة ولا سلام.
فأي الفريقين أحق بالأمن والدعوة إليه في الدنيا والآخرة؟ أهم دعاة التوحيد والإيمان والفضيلة؟ أم دعاة الشرك والكفر والفساد والرذيلة؟ لقد حسم الله ـ عز وجل ـ الجواب بقوله ـ سبحانه ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] . وما مثل أعداء الأمن الذين يعتدون على الناس في دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأعراضهم وأموالهم، ويعرضونهم لعقوبة الله ـ تعالى ـ في الدنيا والآخرة إلا كما قال الأول: (رمتني بدائها وانسلّتْ) .
ـ ولإيضاح هذا الأمر أضمُّ إلى آية الأنعام السابقة الآيات التالية والتي يوضح الله ـ عز وجل ـ فيها مَنْ هم دعاة الأمن وأهله ومَنْ هم دعاة الشر والعذاب وأهله، وأنه لا التقاء بينهما، وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق.
ـ قال ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27] .
ـ ويقول ـ عز وجل ـ: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221] .
ـ ويقول الله ـ عز وجل ـ عن مؤمن آل فرعون وهو يدعو قومه: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 41 - 42] .
ـ إذن فكل من ناصب الدين العداء، وسعى لصدِّ الناس عنه، وحرمهم من نعمة الأمن الحقيقية في ظلاله، وكان سبباً في حلول عقوبة الله ـ عز وجل ـ في الناس سواء في الدنيا أو في الآخرة، فهو العدو الحقيقي لأمن الناس، وسلامتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، سواء كان هذا الصد عسكرياً أو فكرياً أو أخلاقياً، وسواء كان هذا العداء على الدين والأخلاق، أو على الأنفس والأموال والأعراض.
وبهذا يتبين أن أعدى أعداء الأمن اليوم هم الكفار ومن سار على نهجهم من المنافقين الذين أخافوا الناس وسلبوهم الأمن في دينهم وعقولهم إما بالشبهات أو الأفكار المنحرفة، وسلبوهم الأمن في نفوسهم باحتلال ديار المسلمين وإهلاك الحرث والنسل بالقتل والتشريد والتعذيب، وسلبوهم الأمن في أخلاقهم وأعراضهم بما سلطوا عليهم من وسائل الشهوات والإباحيات والفضائيات التي تقتل الفضيلة وتشيع الفاحشة، وسلبوهم الأمن في أموالهم بما سلطوا عليهم من نار الربا والبيوع والعقود المحرمة وأكل المال بالباطل. وساعدهم في تحقيق ذلك العملاء المنافقون المنتسبون زوراً وبهتاناً للإسلام والمسلمين، كما ساعدهم على ذلك بعض أبناء المسلمين من أهل الفسوق والمجون واللهو واللعب المتبعين للشهوات والذين ليس لهم هَمٌّ إلا الدنيا ومتاعها الزائل، وهؤلاء على درجتين:
1 ـ فمنهم الماجن الفاسد في نفسه وبيته.
2 ـ ومنهم الداعي إلى الفساد بماله وفكره وجهده، وهؤلاء أشد جرماً من الفاسد في نفسه فقط. ولا يخفى ما لأهل الفسق والمجون والشهوات من أثر خطير على أمنهم في أنفسهم، وعلى أمن الناس الذي يضلونهم وينشرون الفاسد بينهم، فكم من مستقيم على دينه ضلَّ بسببهم! وكم من نفس تلفت أو لحقها أذى بسببهم! وكم من عقل اغتالته المسكرات والمخدرات بسببهم! وكم من عرض انتهك بسببهم! وكم من مال اعتدي عليه بسببهم! والمقصود أن أثر هذه الفئة ظاهر وجليٌّ في تهديد أمن الناس في حاجاتهم وضرورياتهم. وهم الذين يستخدمهم أعداء الدين من الكفرة والمنافقين في تمرير الفساد والخنا والرذيلة والفجور، حيث وافق فساد الكفرة ومخططاتهم الخبيثة هوى في نفوس هؤلاء الجهلة وأهل الشهوات، ووافق حباً للدنيا في قلوبهم فأسهموا في تنفيذ مخططات الكفرة المفسدين في بلاد المسلمين. وهؤلاء هم الذين أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ على أيديهم حتى لا تغرق سفينة المجتمع بسببهم، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» [البخاري: 2493] .
ـ وممن يلحق أيضاً بأعداء الأمن أهل الأهواء والبدع من أهل القبلة ولا سيما فرقتي الخوارج والمرجئة، ذلك أن من عقيدة الخوارج تكفير عصاة المسلمين ومن ثم استباحة دمائهم وأموالهم، وفي هذا عدوان على أمن الناس في دينهم بهذا المعتقد المخالف لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ وعدوان عليهم في دمائهم وأموالهم باستحلالها؛ لكونهم عند الخوارج كفاراً غير معصومين.
وأما اعتداء المرجئة على أمن الناس فيتمثل في معتقدهم المنحرف المخالف لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ، وفي هذا اعتداء على الدين وعدوان على أمن الناس في أعراضهم وأموالهم وأنفسهم؛ لأن الإيمان عندهم إنما هو التصديق فحسب، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية، ولا يخفى ما في ذلك من تجرئة الناس على الفجور والفساد والتهوين من شأن المعصية والرذيلة والفساد.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يؤمِّننا في ديننا وأنفسنا وعقولنا وأعراضنا وأموالنا في الدنيا، وأن يمنَّ علينا بدخول الجنة دار السلام والأمن، يوم يبعث ما في القبور، ويُحصّل ما في الصدور، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(238/5)
وقفات في أحوال الدعاة
عبد الله سعيد القحطاني
منذ عقود عديدة يتعرَّض المجتمع الإسلامي لأصناف من التضييق الدعوي، يختلف باختلاف الزمان والمكان، وما ذاك إلا من أجل وَأْد مسلَّمات هذا الدين، ومزجه بالشهوات والشبهات على حسب الأهواء. وقد يتبنَّى حدوث الأزمات في حياة الدعاة جملة من الأديان والفِرَق والمذاهب والجماعات، حيث يكون لها النصيب الأكبر في إيقاد فتنة عميقة في البلد، حتى يكون نتاج ذلك فجوة بين الدعاة أنفسهم، وبين الدعاة والمجتمع..
وفي هذا المقال أضع بين يدي الداعية بعض الخواطر التي أرجو أن تكون بَلْسماً ناجعاً لكل الدعاة، وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.
- الرموز الدعوية:
الله ـ عز وجل ـ يهيِّئ للناس دعاة إليه ـ سبحانه ـ؛ بدءاً بالأنبياء والرسل ـ عليهم السلام ـ ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وانتهاءً بأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والصف النفاقي، وعشّاق الحسد، لا يألون جهداً في إطفاء المعالم التي ينطلق من خلالها الدعاة؛ سواء كان ذلك من الجانب الاجتماعي، أو من الجانب النفسي، أو من أي جانب يُسْقط مكانة الداعية، أو يقلِّل من جهوده وطاقاته.
ومن الأمثلة على ذلك: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث أوجد الصفُّ النفاقي ـ وعلى رأسهم عبد الله بن أُبَيّ ـ أسلوباً في إسقاط مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك باتهام عرض أمّنا عائشة رضي الله عنها، وقد خابوا وخسروا في استغلال ذلك، فهذا هو أسلوبهم؛ فهم مثل الذباب لا يقعون إلا على المستقذَر، يحاولون جاهدين النيلَ من الرموز الدعوية، ولو كان ذلك على حساب الأعراض.
وعشّاق الحسد، وأساطين النفاق، يقودهم الغيظ، حينما يرون أن لمثل هذه الرموز واجهة فعلية لهذا المجتمع، مما يقودهم ذلك إلى (إثارة البلبلة في الصف الإسلامي، وإيجاد حالة من الانهزامية النفسية لدى المسلمين، وذلك من خلال الانسياق في بحر الأزمات، مما يولدُ حالةً من عدم الثقة بين المسلمين؛ فهذا يرمي بالتهمة، والآخر يصدق، ويكون صراع داخلي، وهذا الصراع يزيد من الفرقة بين الأمة، مما يسهل تسلُّط الأعداء، والابتعاد عن القيادة الدعوية، وذلك يولدُ حالةً من الإحباط النفسي بين الصفوف، والضعف والاستكانة أمام العدو) (1) .
(وكذلك صرف اهتمامات القيادة الدعوية من أمور الدعوة إلى الفتن والأزمات الداخلية يشعل الأزمة في أي مجتمع؛ فتتعطّل حركة التنمية ومسيرة العطاء مدةً من الزمن، تطول أو تقصر حسب حجم هذه الأزمة وآثارها، ما لم يتم العمل حسب الأسلوب الأمثل لعلاج هذه الأزمة. والمجتمع الإسلامي حالهُ حال أيّ مجتمع في ذلك؛ فالأزماتُ تعطِّل عجلة العطاء، وتهدر الكثير من الطاقات والوقت، ويفقد الصف الإسلامي بسببها الكثير من الإنجازات التي تمَّ تحقيقها؛ فبعد انتصاراتٍ عظيمة حققها المجتمع الإسلامي؛ بقيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الجبهات العسكرية، أو على جبهة بناء المجتمع المسلم، أو على الصعيد الدعوي، نجد الصف النفاقي يُحدث مثل هذه الفتنة؛ لكي يصرف اهتمامات القيادة الدعوية، من إرساء دعائم المجتمع المسلم إلى إشغاله بمعالجة آثار هذه الفتن، والعمل على إخماد نارها) (1) .
- تهويل أخطاء الدعاة:
الإنسان معرَّض للخطأ، ولا شك أن الأخطاء تتفاوت بحسب حجم العمل، مما يجعلنا نربِّي أنفسنا على النظرة الواقعية للعمل؛ سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأعمال المؤسسية.
فمن الإجحاف أن نجعل الخطأ خطيئة لا تغتفر، والزلَّة في مرتبة العزل والمنع، ولا شك أن تعميم الخطأ هو شهوة العاجزين والحاسدين، وفي مخيلة الإنسان مواقف كثيرة تثبت أن أسلوب التعميم في الخطأ أسلوب جرى عليه الكثير من المؤسسات الحكومية والمسؤولة، وأصبح لديهم عشق لخبر أيِّ زلّة أو خطأ يصدر من الدعاة أو من أيِّ عمل مؤسسي.
حيث إن أداة تفعيل المكر وإشاعة الخطأ فنٌّ يجيده صغارهم، مع أن أبواب التحكم لديهم مهيَّأة لهم؛ وذلك من خلال الصوت الإعلامي، والسلطة والمكانة، مما يجعل ذلك فرصة لهم في أخذ الحرية في إكمال السير، وتحقيق الهدف.
وعلينا ـ كأفراد ومؤسسات ـ أن نعالج الأخطاء التي تصدر من أفرادنا ومؤسساتنا بشكل إيجابي، مع إظهار الأُطر الإيجابية للمجتمع عند إظهار خلاف ذلك، ونحن لا نبرِّئ الرمز الدعوي من عدم الوقوع في الخطأ؛ فهو يبحث عن معالجة الأخطاء التي بدرت منه سواء كان ذلك من خلال الكلام أو السلوك، أو يبحث عن المعالم التي تبتعد به عن الوقوع في تهمة تُثار عليه في دعوته.
- الرموز الدعوية وفقد التوازن:
لما تهبّ عاصفة قوية على الرموز الدعوية، فإن ذلك يشكل ثَلْماً واضحاً في صفوف الدعاة والمجتمع ككل، بل قد يؤدِّي إلى حدوث إبادة كلية لأيِّ عمل دعوي، وهذا أمر طبيعي عند حدوثه مباشرةً. والمطلوب من الصف الدعوي أن يصنعوا التوازن عند حدوث الحدث، وكذلك التعامل معه في قالب يشكل الاستمرار في العمل الدعوي، وعدم الانحناء أو الفتور.
ومن الطبيعي أن يشكل المجتمع الذي يبجِّل هؤلاء الرموز نوعاً من الحماس، وذلك للمكانة التي يحملها في نفسه تجاه هؤلاء، ولكن من الحكمة أن يفعل هذا الحماس فعلاً إيجابياً؛ من أجل أن ينصر الحدث، أو يقلِّل من استمراره؛ لأنه في حال فقد التوازن في التعامل مع أي حدث دعوي، يجعل هناك خسائر دعوية على جميع الأصعدة؛ سواء كان ذلك من النشء الدعوي، أو من الأعمال والترتيبات الدعوية، أو ذهاب فترة زمنية لم تُحقَّق فيها مصالح دعوية، أو تبدّد المكاسب والإنجازات من ذي قبل، أو حدوث الفجوات بين الرموز الدعوية باختلاف أعمالهم وشخصياتهم. ومن الأهمية أن لا يفقد التوازن مهما استمرَّ التيار المقاوم، وأن يستمر سلّم العمل الدعوي باختلاف أساليبه.
- سدُّ الثغور:
لا شك بأن عزل الدعاة عن المنابر الدعوية ثُلْمةٌ واضحة في تاريخ المجتمعات، وأسلوب بارد لتجميد منابع الخير، ومنحة سانحة إذا استغلّت استغلالاً جيداً؛ لأننا نخشى من أصحاب الفكر السيِّئ، ومريدي الانفتاح والشر، أن يشمِّروا لسدِّ ثغور أهل الدعوة والخير.
وراعي الشاه يحمي الذئب عنها
فكيف إذا الرعاةُ لها الذئاب
وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأيام وصفاً دقيقاً كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعاتٌ، يُصدًّق فيها الكاذبُ، ويُكذًّب فيها الصادق، ويُؤتمَن فيها الخائنُ، ويُخوًّنُ فيها الأمينُ، وينطقُ فيها الرُّويبضَةُ، قيل: وما الرُّويبضَةُ؟ قال: الرجل التافهُ يتكلمُ فى أمر العامَّة» (2) .
- صبراً أيها الدعاة:
يقول صاحب (ظلال القرآن) : (إن موكب الدعوة إلى الله الموغل في القِدَم، الضارب فى شعاب الزمان، ماضٍ من الطريق اللاحب، ماضٍ في الخط الواصب، مستقيم الخطى، ثابت الأقدام، يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، يقاومه التابعون من الضالين والمتبوعين، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء، وتتمزق الأشلاء، والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يجيد، والعاقبة مهما طال الزمن للمؤمنين» (3) .
يأمر الله ـ جلًّ وعلا ـ بالصبر في عشرين موضعاً من القرآن الكريم؛ مرةً بصيغة (اصبر) ، وهي ثماني عشر، ومرةً بصيغة (اصطبر) ، وهي اثنتان.
أما الصبر فقد ورد في نحو تسعين موضعاً في القرآن الكريم؛ فهو أكثر خُلُق تكرر ذكره في كتاب الله ـ عز وجل ـ. ولنقرأ معاً بعض هذه الآيات الكريمة:
قال ـ تعالى ـ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} . [الأحقاف: 35]
{وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] .
{فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] .
{وَاصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115] .
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] .
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7] .
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص: 17] .
{فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] .
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] .
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج: 5] .
ثم يأتي الأمر بالصبر بعد النبي إلى الأمة في آيات كثيرة أيضاً:
يقول الله ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .
- كلمة للظالمين:
(وأما الذين يفتنون المؤمنين ويسومونهم سوء العذاب فما هم أبداً بمُفْلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش، ومهما زاد ظلمهم وانتعش، فكما أن الله ـ تعالى ـ جعل الابتلاء سُنّة جارية ليميز الخبيث من الطيب، فقد جعل أخذ الظالمين ـ أيضاً ـ سُنّة لا تتبدَّل ولا تتخلف، فكل هذه القوى بكل ما تملك من وسائل التقنية الحديثة ومن وسائل الإبادة والتدمير مَثَلُها: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] .
نعم؛ فأين الطواغيت والفراعنة والجبابرة والأكاسرة والقياصرة؟!
أين فرعون الذي قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] ، واستخفّهم بقوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف: 51] ! فأجراها الله من فوقه؟!
أين نمرود بن كنعان الذي قال لإبراهيم ـ عليه السلام ـ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] ؟!
أين قارون الذين قال في خيلاء وكبر واستعلاء: {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] ؟!
وأين عاد وأين ثمود؟! وأين أبو جهل وأبو لهب؟!
{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] .
فيا أيها الظالمون! يا أيها المجرمون!
محالٌ أن يموت المظلومون ويبقى الظالمون، فاعملوا ما شئتم فإنا عاملون، وجوروا فإنَّا إلى الله مستجيرون، واظلموا فإنَّا إلى الله متظلِّمون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .
ولله درُّ القائل:
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟
أين من دوّخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان؟
هل أبقى الموت ذا عزٍّ لعزته أو هل نجا منه بالأموال الإنسان؟
إذاً:
فلا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى النّدمِ
تنامُ عيناك والمظلومُ منتبهٌ يدعو عليك وعينُ الله لم تنمِ
أيها الظالمون!
اتقوا دعوة المظلومين فليس بينها وبين الله حجاب؛ فإن الله ـ تعالى ـ يرفعها إليه فوق الغمام ويقول لها: «وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» ) (1) .
بشرى للدعاة:
قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . [الصافات: 171 - 173]
فلئن عرف التاريخ أَوْساً وخَزْرجاً فلله أوسٌ قادمون وخزرجُ
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً صابرة رغم المكائد تخرجُ
إن الدعاة الصادقين من تمَّ عزلهم وإيقافهم، لكن نور علمهم ودعوتهم السابقة تسدُّ مكانها، وتحذو حذوها، حتى وإن لامس جوَّ الدعوة شيءٌ من الفتور، إلا أن نور الفجر سيسطع ويشعُّ ضوؤه، كقدوم النهار على الليل. قال الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] . ولتكن مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع البلاء في مخيّلة كل داعية؛ حتى تهون الأمور، ويعظم الأجر، وتتحرك الهمم، وتستمر الدعوة.
هذا ما أردت الدّلو به لنفسي، ولإخوتي الدعاة، علَّ الله ـ تعالى ـ أن يجعل ذلك وسيلة من وسائل تجاوز الأزمات الدعوية، ومفتاحاً في تخطِّي مصاعبها.
تمَّ الكلام وربنا محمود وله المكارم والعلا والجود
وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
__________
(1) كتاب: إدارة الأزمات في حياة الدعاة، لمحمد علي شماخ.
(1) كتاب: إدارة الأزمات في حياة الدعاة، لمحمد علي شماخ.
(2) حديث صحيح: أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم، انظر: صحيح الجامع 1/681، حديث رقم (365) .
(3) مستفاد من طريق الدعوة في ظلال القرآن، نقلاً: عن محمد حسان في كتاب: خواطر على طريق الدعوة.
(1) محمد حسان من كتاب: خواطر على طريق الدعوة.(238/6)
أولوياتنا بين التعجيل والاهتمام
محمد مصطفى المقرئ
لا ينازع أحد في حتمية ترتيب أولوياتنا وفق معطيات الواقع وباعتبار تقدير المآلات؛ فالاستطاعة وتحقيق مقاصد الشريعة (مصالحها) حدّان ضابطان للواجب كيفما كان، ومعياران ملزمان للمكلف على كل حال، وعلى أساس من ذلك تتحدد قائمة أعمالنا وسلسلة أولوياتنا.
والذي أريد أن أنوِّه عليه هنا: كون ترتيب هذه الأولويات لا يقتضي إهمال المتأخر منها؛ فبعضها ـ وإن كان مطلوباً على التراخي ـ غير أنه لا يُنتظَر له أن يتحقق في حينه الموائم هكذا من فراغ، أو أن تُختَزَل مسافات تكوّنه واكتماله في لحظة حلول دوره (ضربة لازب) ، وبلا أصول يتطور عنها ومراحل نمو يتدرج خلالها، فذلك كله مخالف لسنن الوجود، وسبحان الذي: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *} [فصلت: 9 - 12] .
ألم ترَ أنك إن رغبت في ولد صالح يدعو لك حين ينقطع عملك، وتتوكأ عليه عند ضعفك وكبرك.. توجَّب عليك ـ لا ريب ـ أن تستنبت بَذرته الآن وإن لم تجنِ ثمرتها من تَوِّك؟
ستختار له المنبت: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] ، وستبذر وتحرث وتسقي، فإذا ما نبت واليْتَه بالعناية، وكفلته بالرعاية، ونقيت له محيطه من كل فساد ودغل، وحميته من كل شر وخطر، وحطته بالحذر من جهاته الأربع، حتى إذا بلغ أشده واستوى ـ وقد آن أوان جنيك ثمرة التعب ـ وجدته قد وافاك وأنت في أمس الحاجة إليه.
أتراك فاعلاً كل هذا جملة واحدة، دفعة واحدة، حينما تحل لحظة حاجتك تلك؟!
وكذلك الحاذق من الناس؛ يرصد قمح الصيف للشتاء، ولكنه لا يؤخر حرثه ليوم حصاده، ولا يتواكل على أنه قد كُفِيَ يومَه أو سنتَه، ولا يُسوِّف أنه الآن في غنى عن مشقات الفلاحة، أو أن ما يلزم إنجازه على الفور مقدم على ما لا حاجة لنا فيه الساعة.
إن مراداتنا كأمة قد تستغرق جيلاً أو أكثر، أو بعض جيل، وكثير من هذه المرادات لا يحتمل التأجيل، لا من جهة الانتهاء ولكن من جهة الابتداء.
فقد نتفق ـ مثلاً ـ على إرجاء إنفاذ تصور ما، غير أن هذا الإرجاء مقدر بوقت ـ قصر أو طال ـ أو هو مؤجل التقدير بحسبه وبحسب ما يلفه من معطيات وتقويمات، ولكن تبقى هناك بدايات لا بد من الشروع فيها، والتدرج من نقطتها، والتحرك من خط انطلاقها شيئاً فشيئاً، إلى أن تجتمع لنا عناصر الاكتمال، ناهيك عما يتصل بذلك التصور من تصورات داعمة مهيئة لأنْ تنجز، ومن غير أن يتصل بإنجازها ضرر أو مفسدة، أو تأخير لما هو أولى.
خذ مثلاً:
يرصد المتابع نضجاً ملحوظاً يتجه بجماعاتنا الإسلامية ـ أو بقطاعات منها ـ إلى التسليم بضرورة تحركنا كأمة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] ، ما من شأنه تكريس القناعات بأنه لا خروج من التنازع والفشل إلا من خلال مرجعية موحدة؛ وإن تعددت أطيافها، وهذا أمل عريض لا يتم بضغطة (زر) ، ولا ينشئه مجرد قرار أو بيان، ومن جهة أخرى: لسنا نقدر له عمر إنجاز قصيرٍ، كي ننظر في مناسبته للمرحلة الراهنة من عدمها.
إن لهذا الإنجاز متطلبات تربوية هي أعمق في أبعادها من الهيكلة التنظيمية واللوائح الداخلية وسائر آليات التكتل والاجتماع.
والمطلوب أن نوافي لحظة الإنجاز النهائية ـ في حينها المناسب المختار ـ وقد استوفت مناهجنا التربوية مقاصدها، وبلغت من إعدادها لنفوس المجتمعين ما يؤهلهم لمشروعها. مطلوب أن ترتقي تربوياتنا بوعي جيلنا الناشئ فوق ما قصَّر عنه جيلنا والأجيال قبله؛ كي نكون أكفاء لهذا الانصهار الكبير في الجسد الكبير.
ألا فلنرفع القواعد، بانتظار أن يحل الموسم لنؤذِّن في الناس: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] «وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله» (1) .. فيلبوا.
وقِس عليه..
فكثير من الغايات والأهداف قد تتوفر إمكانية تحقيقها، ولكن يكون إتمام إنجازها في ظرف بعينه موضعَ نظر، أو يفتقد تحقيقها في مرحلة معينة شرط الملائمة والتناغم، فيصطدم مع طبيعة تلك المرحلة ويناقض أهدافها. غير أن الذي أعنيه ـ هنا ـ ليس تمام الإنجاز واكتمال نضجه واستواءه على سوقه، بل مكوناته وممكناته الأولية التي لا يشملها هذا الاعتبار السابق؛ فهذه يلزمنا إنجازها لمعنيين: الأول: قيمة الوقت. والثاني: الأثر الإيجابي لتزامن وتوازي الأعمال على الأعمال نفسها، سواء بالنسبة لكل منها على حدة، أو بالنسبة لها مجتمعة.
ثم إنه قد بقيت نقطة مهمة تتصل بالمثل المضروب، وبالمعنى المراد:
أقول: هذا الكم الهائل من الأفكار والأطروحات الذي يملأ علينا ساحاتنا ومكتباتنا..؛ ما السبيل إلى جمع الناس عليه، مع تعدد آرائهم في مفرداته، وتباين مواقفهم منها؟ أَوَ غير المرجعية الموحدة للأمة الواحدة سبيل لجمع الناس؟
إن المرجعية التي ننشد ليست إلغاءً للتعدد الكائن في ساحتنا الإسلامية ما بقي هذا التعدد مصلحة لجماعاتنا؛ فإن يكن بهذا الاعتبار قبلناه وباركناه، وإلا فهو معوق رئيس لمشروع وحدتها، كما أن مصلحته من جهة الأصل هي ـ أيضاً ـ مؤقتة، وقد تستدعي مراعاتها ـ في مرحلة ما ـ إذابة تلك الكيانات ودمجها في دائرة الأمة، وليس بغائب أن الولاء في هذه الدائرة ينبغي أن يُقدَّم على كل ولاء حزبي خاص، حتى مع بقاء التعدد في ساحتنا الإسلامية.(238/7)
الدعاة والخشبة!
فيصل بن علي البعداني
زرت بلداً عربياً فحكيت لأحد أهل العلم الفضلاء فيه عجبي من واقع بعض الدعاة المنتسبين إلى التيارات الدعوية ومؤسسات العمل الخيري وما يتسم به كثير منهم من محدودية في النظر، وضيق في الأفق، وتعصب مقيت أدى إلى ازدرائهم الآخرين، ونظرة دونية لأعمالهم، وعدم الفرح بشيوع الخير عن طريق غيرهم ... فتأوه قليلاً، ثم قال: لا تعجب يا أخي! فإن مؤسساتنا الدعوية والخيرية كالخشبة المحمولة، والدعاة حولها على صنفين: صنف يحملها، وصنف تحمله. فأمَّا الذي يحملها فإنك تجده فرحاً بكل من يأتي ليعينه في حملها، بل إن بعض عقلاء هذا الصنف تجدهم دوماً يسبرون العدد الذي يشاركهم في حملها؛ فإذا رأوا فيه كفاية تخلوا عن مواقعهم لغيرهم وهم جذلين، وبحثوا عن خشبة أخرى لا يكفي من يحملها فحملوها. وأما الذي تحمله فهو متعلق بها مع تظاهره بحملها، وأنت لاقٍ هذا الصنف دوماً يحاول أن يحول بين الدعاة والقرب من الخشبة؛ فإذا اتجه أحد نحوها تضايق غاية التضايق ظناً منه أنه سيفعل كفعله، وعندها ينفضح حاله، ويتجلى عواره، ولا يتمكن من الاستمرار في تعلقه.
واستطرد قائلاً: ولو تأملت في خِلال الجادين من أصحاب الصنف الأول القائم بتلك المؤسسات الدعوية والخيرية من عامة المنتمين للعمل الإسلامي لرأيت أن من أبرزها في الغالب الأعم ـ مع أن مدار الأمر على صلاح النية والسلامة من الأهواء والتخفف من حظوظ النفس ـ: امتلاك حظ وافر من العلم والمعرفة أو مقدار معتبر من الخبرات الدعوية والتربوية أو جانب ذي بالٍ من الملاءة المالية أو المنزلة الاجتماعية ... ونحو ذلك من جوانب القوة الذاتية التي تجعل المرء في موقف المعطي في خدمة الدعوة ونشرها وحمايتها بما يجيد أو يملك من جوانب القوة بكل انضباطٍ وتفانٍ، ولذا تجد هذا الصنف الموفق ينهض بتيارات العمل الإسلامي ومؤسساته الدعوية والخيرية التي ينتمي إليها دون أن يأخذ في اعتباره أن يثبِّت نفسه ويوطِّن قدمه في مواقع من مواقعها الإدارية التي قد تعود عليه بجاه أو مصلحة.
وتجده حين يختلف مع بعض من فيها من ذوي النفوذ أو القرار يبادر إلى ترك موقعه فيها بعد إبداء النصح من دون إحداث جَلَبَة أو جلجلة مع استمرار خدمتها وتقديم العون لها والحرص على استمرار نفعها.
وتجده مفتاح خيرٍ يشجع كل أحد على إتيان الخير وبذل المعروف مع تقديم ما يقدر من خبرة ومعونة ونصيحة سواء أكان منتمياً للمؤسسة التي يعمل فيها والتيار الدعوي الذي هو مقتنع به أم لا.
أما الصنف الآخر فلو تأملت في حاله لوجدته يقوم على مؤسسات العمل الدعوي والخيري ولا يقوم بها، ولذا فهو يخاف على مصالحه ومركزه باسم الخوف على الدعوة ومكتسباتها من أن تمس بسوء أو أذى. وآية هذا الصنف أن عامة عمره مفني في الحديث عن جلالة العمل المؤسسي وضرورة العمل في إطار فريق واحترام قيادات العمل الدعوي وعدم نقدها أو الاعتراض على رأيها مهما بدر منها من زللٍ بذريعة الخوف من تفرق الصف وتشتت الكلمة وسخرية الأعداء، وترى كثيراً منهم بمرور الوقت يخرج عن النَّصَف ويزداد في هذا الجانب غُلُوّاً يُصَيِّر الوسائل غايات والغايات قشوراً وترهات.
وإضافة إلى ما ذكرتَ من ازدراء الآخرين وعدم الفرح بالعمل للدين إن لم يخرج من العباءة التي ينتمون إليها؛ إن لم يصل الأمر إلى ممارسة التضييق والتشويه المتعمد والوشاية الظالمة على من ليس تحتها.. تجد الضيق بالحوار الناضج والنقد البناء والمناصحة المسؤولة، والوصاية على مصلحة العمل الدعوي والخيري وكأن أحداً لا يهمه أمرها غيرهم، والإغراق في تقديس القيادات والرموز، وتقريب أصحاب هزِّ الرؤوس الذين يؤمِّنون على الأقوال والأطروحات التي يتلقونها ويتفانون في فرضها والدفاع عنها في أروقة العمل الدعوي والخيري ثقة بمن يمليها عليهم من دون ما فهمٍ أو استيعاب لواقع أو دليل.
قال: والإشكالية من وجهة نظري ليست في وجود هذا الصنف؛ إذ ما فتئ محبو الخير من الجهلة وذوي الأفهام المحدودة وأصحاب المصالح المشوبة موجودين في كل مكان وحين، ولا بد من استيعابهم والإفادة منهم.. ولكنها كامنة في تصدُّر تلك الفئة وتغلغلها في بعض المواقع القيادية للعمل الدعوي والخيري، وهي قضية إن لم يبادر إلى معالجتها شجعان النَصَحَة المدركون لواقع العمل الإسلامي فإنَّ جوانب الضعف ستتفاقم ويزداد الأمر سوءاً، وعندها سيبكي كثير من المخلصين، ولكن بعد خراب الديار وفوات الأوان، لا قدر الله عزَّ وجلَّ.
فقلت عندها لذلك الجليل: ما السبيل إلى معالجة هذا الإشكال وتجاوزه وأنت راءٍ عمقه وخطره وسط درة أمتنا المضيئة: التيارات الدعوية والمؤسسات الخيرية؟
فأجابني قائلاً: لا حلول سحرية، ولا بد أن يأخذ الزمن مداه في عملية المعالجة؛ لأن البناء دوماً أطول وأشق بكثير من الهدم؛ فكيف إذا تلبَّس الباطل بأثواب الحق ووقع بعض الأخيار في شيء من الباطل، وتطلَّب الأمر عملية إقناع ثم هدم فبناء؟ مما يعني أن قناعة المعالج وإدراكه لحجم الخطأ ومقدار الخطورة لا بد أن تكون عالية، وعزيمته لا بد أن تكون ماضية، وتجرده لله ـ تعالى ـ وجرأته في قول الحق لا بد أن تكون قوية، ووجود المعين المسدد على امتلاك مزيد من التدبير والحكمة أمر في غاية الضرورة، وسرعة المبادرة وإدراك أهمية الوقت وإلحاح المرحلة لا بد أن يكون جلياً. هذا من جهة المقومات الأساسية في من يتصدر للمعالجة.
أما من ناحية عامة؛ فالظاهر لي أن المعالجة تتعلق بأكثر من جانب؛ إذ لا بد من:
3 تشجيع النقد البنَّاء، وفتح أبواب المناصحة، والإعانة على ممارسة الحسبة المسدِّدَة على العلماء والدعاة وفي أروقة تيارات العمل الإسلامي ومؤسساته الدعوية والخيرية.
3 إعادة الدور القيادي للعلماء الربانيين وأهل النظر الثاقب والفكر المستنير بأصول الشرع ومنطلقاته، سواء أكانوا من داخل فصائل العمل الإسلامي أم من خارجه؛ كل فيما يحسنه حتى تتكامل جهودهم مع الدور الهام الذي يقوم به أهل التنفيذ والممارسة ومن يمتلك القرار الإداري والمالي داخل تيارات العمل الإسلامي ومؤسساته، وكثير منهم من الصنف الثاني.
3 إعادة النظر في المناهج التربوية والممارسات الدعوية والآليات الإدارية داخل مؤسسات العمل الإسلامي وتياراته، والتي أفرزت هذا النتاج الذي لا يتلاءم في جزء منه بصورة جلية مع طبيعة الإسلام ونقاوته؛ وذلك من خلال الغَرْف القوي من المعين النبوي ونهج أئمة الدين من الصحابة الكرام ومن سار على نهجهم في الدعوة والبناء والتربية.
3 البدار إلى تقوية الفئة الضعيفة المتعلقة بالخشبة المحمولة داخل أروقة العمل الإسلامي ومؤسساته في أي مجال من مجالات القوة المعنوية والمادية المتعددة، والعمل على إقناعها من خلال ممارسات عملية متكررة بأن مكانتها ومصالحها لن تتأثر، وأنهم وإن تركوا بعض المواقع التي هم فيها لمن هو أكثر علماً وعمقاً وروية فإنهم قادرون على العيش في الأجواء الدعوية، وهم محل تقدير واحترام؛ لأن الحاجة إليهم والإفادة من عطائهم وإمكاناتهم وخبراتهم التنفيذية ستبقى ملحة مهما اختلفت الأدوار وتبدلت الرتب.
ثم أردف صاحبي قائلاً: وأعتقد أن من الواقعية بمكان إدراك أن مقاومة المعالجة والتغيير وعدم إفساح المجال لأهل العلم والفكر والتجرد ليس كله هوى محضاً، بل هو مشوب ببعض الحق وبتخوفات موضوعية على مكتسبات الصحوة من زاوية، وبضعف ظاهر في الطرح وامتلاك زمام المبادرة لدى عامة علماء الأمة ومفكريها، وقد قيل: لا تَلُمِ القوي المبادر على قوته وسرعة مبادرته، ولكن لُمِ الضعيف على ضعفه وتقاعسه.
وحدث طارئ، فتوقف الشيخ الجليل عن الحديث، وانتهى اللقاء، وكنت لانقضائه كارهاً.
اللهم هيئ لأمتنا من أمرها رشداً، واحفظنا واحفظ بنا، واستخدمنا في طاعتك، يا جواد يا كريم!
وصلى الله وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.(238/8)
علاقة العلم بالدين
أ. د. جعفر شيخ إدريس
المعاني أهم من الألفاظ. لكن المعاني لا تأتينا مجردة إنما تصل إلينا محمولة على ألفاظ؛ فإذا ما عزونا إلى الألفاظ معاني غير التي تحملها، أو غير ما تعنيه في سياق معين، حصل خلط في فهمنا للحقائق أو في تصورنا لها. لذلك كانت العناية بالألفاظ أمراً ضرورياً لحماية المعاني.
من أسوأ ما رأيت من أنواع هذا الخلط اللفظي ما حدث للفظي (العلم) و (المعرفة) في لغتنا العربية الحديثة؛ وذلك أنه عندما ظهر العلم التجريبي الطبيعي في أوروبا أرادوا تمييزه عن العلم الذي تدل عليه كلمات مثل كلمة نولج knowledge في اللغة الإنجليزية، فاختاروا له لفظة تدل عليه بخصوصه وتميزه عن العلم بصفة عامة هي لفظة سيَنس science ذات الأصل اللاتيني.
لكن المترجمين العرب فعلوا العكس تماماً: عمدوا إلى أكثر الكلمات دلالة على العلم بصفة عامة وأعطوها هذا المعنى الخاص، فصارت كلمة (علم) تعني (سيَنس) . ثم أرادوا أن يميزوا بين هذا المعنى الخاص والمعنى العام فعمدوا إلى كلمة أخرى هي كلمة (معرفة) فأعطوها المعنى العام الذي تدل عليه كلمة (نولج) . هذا مع أن كلمة (معرفة) أخص من كلمة (علم) . لذلك قال أهل اللغة: إن كل معرفة علم، ولكن ما كل علم معرفة. وقالوا: إنه بينما يوصف الخالق ـ سبحانه ـ بالعلم؛ فإنه لا يوصف بالمعرفة.
أدى العبث بمعاني هذه الألفاظ المهمة إلى خلط تصوُّري عظيم ولا سيما في العلاقة بين العلم والدين. إن كلمة (العلم) من أهم الكلمات القرآنية وأكثرها وروداً في الكتاب العزيز، لكنها عندما أُعطيت ذلك المعنى الخاص ـ معنى كلمة سينس ـ حدث لَبْسٌ عظيم من أمثلته:
أننا صرنا نسمع بعض الناس يقولون: هذه مسألة علمية لا دينية.
بل سمعنا من يقول: إن القرآن كتاب هداية لا كتاب علم.
ثم أدى هذا إلى شنائع أخرى هي أنه في سبيل الدعاية للعلوم الطبيعية وبيان اهميتها وعدم مخالفتها للدين صار كثير من المتحمسين لها من أهلها ومن غير أهلها يستدلون على أهميتها بآيات مثل قوله ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27 - 28] .
وقوله ـ سبحانه ـ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] .
(علمية لا دينية) وهل يقوم الدين الحق إلا على الأدلة العلمية: على الآيات البينات، والبراهين الساطعات، والحجج القاطعات؟ وإذا كان الدين كله بمعزل عن العلم فلا مجال لتمييز دين حق منزل من السماء عن دين باطل خرافي من اختراع البشر. وإذا كانت هذه هي النتيجة التي يريد أن ينتهي إليها أعداء الدين ولا سيما في البلاد الغربية؛ فما بال المستمسكين من المسلمين بدينهم الحق؟
(كتاب هداية لا كتاب علم) يا ليت شعري! وهل تكون الهداية إلا على أساس علمي؟ ألم يقل الله ـ تعالى ـ:
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 54] .
فجعل الإيمان قائماً على العلم، وجعل الهداية إلى الصراط المستقيم راجعة إليه.
{إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28] . أفكل من اختص بشيء من العلوم الطبيعية كان ممن يخشون الله تعالى، وكان ممن يرفعهم الله درجات؟ لعمري إن هذا من أبطل الباطل:
أولاً: لأنه مخالف للواقع المشهود، فهو بذلك كلام غير علمي حتى بمقياس الـ (سينس) . كيف يكون علمياً ونحن نرى أن بعض هؤلاء العلماء الطبيعيين من أكثر الناس إنكاراً حتى لوجود الخالق سبحانه؟ من أشهر هؤلاء عالم الأحياء الإنجليزي الداروني (دوكنز) الذي ظل منذ سنوات طويلة يكتب مدافعاً عن الإلحاد، وقد ألف مؤخراً كتاباً في هذا الموضوع وُصِف بأنه من أكثر الكتب انتشاراً (1) .
وثانياً: لأنه ما كل علم ينتج عنه عند كل إنسان إيمان بالله وخشية له، بل إن بعض العلم قد يكون لبعض الناس فتنة تصدهم عن قبول الحق. ألم يقل الله ـ تعالى ـ:
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] .
وقد حدث هذا لبعض علماء الطبيعة؛ إذ كان من بين ما دعاهم إلى الإلحاد أو إنكار الوحي أنهم استكبروا فظنوا أنهم هم وحدهم أصحاب الكلمة الأخيرة في ما يمكن وما لا يمكن أن يكون في الكون، فكرهوا لذلك أن يؤمنوا بإله هو خالق لهذا الكون ومتصرف فيه.
وثالثاً: لأن الأدلة سواء كانت كونية أو عقلية أو آيات منزلة لا تُلْزِم هي وحدها أحداً بقبولها أو الاعتراف بموجباتها. قال ـ تعالى ـ:
{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] .
قال أكثر المفسرين: (لا يؤمنون) أي عَلِمَ الله أنهم لا يؤمنون. ولكنهم لم يعنوا بذلك أن الله ـ تعالى ـ أجبرهم على عدم الإيمان أو خلقهم بحيث يكون عدم الإيمان من طبيعتهم، وإنما المقصود أنه ـ سبحانه ـ علم أنهم يصرون على عدم الإيمان. والله ـ تعالى ـ إنما يهدي من يعلم أنه يستحق الهداية.
ولذلك قال القشيري في تفسيره لهذه الآية الكريمة:
الأدلة ـ وإنْ كانت ظاهرة ـ فما تغْنِي إذا كانت البصائر مسدودةً، كما أن الشموسَ ـ وإن كانت طالعة ـ فما تُغْنِي إذا كانت الأبصار عن الإدراك بالعمى مردودة، كما قيل:
وما انتفاعُ أخي الدنيا بمقلته
إذا استوَتْ عنده الأنوارُ والظُلَمُ؟
من أعجب ما قرأت حديثاً عن أحد الملحدين من علماء النفس أنه اعترف بأن هنالك حقيقة أثبتها علماء الأنثروبوليا هي أنه ما من أمة من أمم العالم إلا والناس فيها يؤمنون بوجود الخالق. واستنتج من هذا باعتباره عالماً نفسياً أنه يدل على أن لهذا الاعتقاد أصلاً في النفس البشرية، واعترفَ بأن كل حال أو اعتقاد أو سلوك له أصل في النفس البشرية (يعني أشياء مثل الخوف أو الحب أو الميل الجنسي) لا بد أن تكون فيه فائدة للإنسان. لكنه أصر على إلحاده؛ لأنه لم يجد للإيمان بالله فائدة للإنسان (2) !!
رابعاً: قوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} معناه أن الذين يخشون الله ـ تعالى ـ هم العلماء به حقاً. فالآية جعلت الخشية دلالة على العلم لا العكس. ولذلك قال قتادة ـ رضي الله عنه ـ تعليقاً على هذه الآية الكريمة: «كان يقال: كفى بالرهبة علماً» . فالخشية تدل على العلم الحقيقي الذي يدخل القلب فيؤثر فيه. أما علم اللسان فقد يتصف به حتى المنافق.
وقد حدث خلط آخر في علاقة العلم بالقرآن الكريم والسنَّة المطهرة نذكره بهذه المناسبة. كثيراً ما تسمع قول بعضهم عن آية من آيات الكتاب العزيز كقوله ـ تعالى ـ:
{يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] :
إن الناس لم يعرفوا معناها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذا المعنى إنما كشفته العلوم الطبيعية الآن. الذين يقولون هذا يخلطون بين أمور ثلاثة هي: عَقْلُ المعنى الأوَّلي للآية، وفهم الآية، وتأويل الآية.
المعنى الأولي للآيات يعقله كل متحدث باللغة التي يرسل الله بها رسولاً من رسله؛ لأن الله ـ تعالى ـ لا يُنزِل على رسوله كلاماً لا يمكن لأحد من المخاطَبين أن يعرف معناه. كيف؛ والحجة إنما تقوم بفهم المعنى؟ وكيف؛ والله ـ تعالى ـ يقول عن القرآن الكريم: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] أي تعقلون معناه.
هذا العقل الأولي للمعنى أمر يشترك فيه كل المخاطَبين ممن عرف لغة القرآن كفاراً كانوا أو مسلمين؛ لأن الإنسان إنما يصدِّق الكلام أو ينكره بعد أن يعرف معناه؛ ولذلك فإن الله ـ تعالى ـ إنما يرسل كل رسول بلسان قومه ليبين لهم. قال ـ تعالى ـ في ذم بعض الكفار:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ؟ [البقرة: 75] .
أما الفهم ـ وهو ما يمكن للإنسان أن يستنبطه من الآيات بعد أن عرف المعنى الأولي لها فأمرٌ يختلف فيه الناس اختلافاً عظيماً، وهو أمر لا يتأتى إلا بالتدبر الذي أمر الله ـ تعالى ـ به.
من الأدلة الواضحة على الفرق بين الفهم وإدراك المعنى الأولي ما جاء في صحيح الإمام البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن.
وأما التأويل فهو الواقع الذي يتحدث عنه النص، وهو شيء مختلف عن معناه. إذا قال لك إنسان: إن بالمكان الفلاني شجرة غريبة طولها كذا وألوان أوراقها وأحجامها كذا وكذا فإنك تعقل ما قال. وأما إذا أراك إياها فتكون قد أدركت تأويل ما قال لك. ونحن الآن نعقل معنى الآيات التي تحدثنا عن عجائب ما في الجنة وإن لم نرَ تأويله. والله ـ تعالى ـ قد يخبر المخاطَبين في زمان نزول الوحي بكلام لا يظهر تأويله إلا في المستقبل مثل ما أخبرهم به ـ تعالى ـ من غلبة الروم على الفرس. ومثل قوله ـ تعالى ـ:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟ [فصلت: 53] .
والمكتشفات العلمية المؤيدة لما أخبر به الله ـ تعالى ـ كلها أو معظمها من هذا النوع. إنها لا تعلمنا معنى كلام ربنا، لكنها تُظهِر لنا بعض حقائقه التي أخبر بها. كيف تعلمنا المعنى ومعرفة المعنى شرط في معرفة موافقة الخبر العلمي له. كيف تعرف مطابقة قوله ـ تعالى ـ: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] لما كشفه العلم إذا كنت لا تعرف المعنى اللغوي لهذه العبارة؟
نقول بعد هذا: إنه لم يكن قصدنا من هذا المقال التشكيك في العلوم الطبيعية أو التقليل من شأنها وأهميتها، وإنما كان القصد منه وضع الأمور في نصابها الصحيح.
إن العلم هو كل دعوى موافقة للواقع سواء كان هذا الواقع غيباً أو شهادة، وسواء كان حسياً أو نفسياً أو عقلياً. والعلوم وإن صدق عليها كلها هذا التعريف إلا أنها تختلف باختلاف مجالاتها وباختلاف طرقها التي تحتمها عليها تلك المجالات. والمسلم يعترف بكل حقيقة دل عليها واحد من تلك العلوم إذا ما قام عليها دليل صحيح. والعلوم الطبيعية المسماة (سيَنس) هي من هذه العلوم، بل هي نفسها علوم مختلفة في بعض طرقها. فعلم الفلك ليس كعلم الأحياء، وعلم الكيمياء ليس كعلم الفيزياء. وهي كلها علوم مفيدة، بل إن منها ما هو ضروري للمسلمين في هذا العصر. وكما أنها مهمة في مجال الحياة الدنيوية فهي مفيدة في مجال الإيمان بالله وبرسوله؛ فقد أيد كثير من حقائقها ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن هنا نشأ العلم الذي سمي بالإعجاز العلمي. فما قلناه عن العلوم الطبيعية ليس المقصود به إذن إنكارها أو تحقيرها أو التقليل من شأن الاهتمام بها، وإنما المقصود به وضعها في موضعها الصحيح.(238/9)
التأصيل الإسلامي للتربي
د. محمد بن عبد الله الدويش
من يتحدث اليوم في القضايا التربوية والنفسية لا يخلو من أن يسمع المطالبة الملحة من الحضور والقراء بضرورة تأصيل ما يقدمه بنصوص الكتاب والسنة، أو الاستشهاد على ما يقول بمواقف من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وحين يورد المتحدث فيما يقدمه شواهد من السيرة النبوية فإنه يلقى ترحيباً وإشادة من المستمعين.
لا شك في أن هذا الأمر ظاهرة إيجابية تستحق الإشادة والترحيب، وتستحق التفاعل معها؛ فهي تعني الولاء للدين لدى المستمعين، وتعني الإيمان بشمولية الدين لجوانب الحياة، وبأن الدين يقدِّم الحلول لمشكلاتهم، وبثقتهم بما يرتبط بالدين ويستند إليه.
وهو يفرض على المهتمين بالشأن التربوي والنفسي العناية بتأصيل ما يقدمونه من آراء وأفكار وتجارب.
ومما ينبغي مراعاته في مجال التأصيل ما يلي:
3 ليس من التأصيل أن يقرر الباحث نتائج وأفكاراً ثم يبحث لها بعد ذلك عما يؤيدها من شواهد القرآن والسنة النبوية، وهو أمر يتكرر كثيراً، ويعني التقرير ثم الاستدلال.
إن قيمة التأصيل والاستدلال أن يضيئا لنا المنهج الحق، لا أن يعطيا تسويغاً لما نقرره ونسعى إليه.
3 لا يسوغ تفسير مواقف السيرة النبوية ونصوص القرآن والسنة من خلال قوالب ونظريات جاهزة؛ فالنظريات تحوي بُعداً فلسفيا ورؤية شمولية لموقف نفسي أو تربوي، واشتراك معنى النص مع قدر من عناصر النظرية لا يعني بالضرورة انطباقه عليها.
ومن ذلك تطبيق نظريات التعلُّم السلوكي، أو المعرفي، أو نظريات الإدارة: العلمية، الإنسانية، أو أنماط القيادة ... ونحو ذلك، على المواقف النبوية. ويكثر هذا المسلك لدى من يفتقدون إلى العمق والنضج المعرفي، أو الرؤية الكلية الشمولية للأفكار.
3 ليس من التأصيل الشرعي الاعتماد على أقوال آحاد السلف؛ فهي رغم أهميتها وضرورة الاعتناء بها لا ترقى لأن تكون مصدراً للاستدلال، بل هي مما يُسْتَدَل عليها لا بها، ولا بد من الوعي بظروف المقالة وسياقها وطبيعة المجتمع الذي صدرت فيه.
3 ليس من التأصيل المطالبة بالاستدلال على كل ما يقال؛ فثمتَ أمور هي مما يندرج تحت أصل الإباحة؛ وبناءً عليه فلا تتطلب استدلالاً، ومن أبرز ذلك ما يندرج تحت الوسائل والأساليب؛ لكن حين يأتي الاستدلال غير متكلَّف فهو يزيدها قوة، ويؤكد فاعليتها وجدواها.
إننا بحاجة للعناية بالتأصيل للعلوم الاجتماعية والإنسانية، لكن التأصيل ينبغي التعامل معه بعمق ووعي، وبمنهجية شرعية في الاستدلال، لا أن يكون مجرد استجابة لمطالب الآخرين، أو وسيلة لإعطاء مشروعية للأفكار المقررة سلفاً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(238/10)
إدارة التعانف (1 ـ 2)
د. عبد الكريم بكار
إن الله ـ سبحانه ـ قد فطر الإنسان على الاستئناس بأخيه الإنسان كما فطر الخلق ورتّب شؤونهم على الاحتياج العام بعضهم لبعض، لكن من الثابت أيضاً أن اجتماع الناس يولّد العديد من التوترات والصدامات؛ وذلك بسبب اختلاف أمزجتهم وأفهامهم وأهوائهم ومصالحهم ... ومن وجه آخر فإن من الثابت أيضاً أن التقدم الحضاري الذي يشهده العالم اليوم لم يهذِّب الطباع على النحو المأمول، ولم يقرِّب المسافات العقلية والروحية والنفسية الفاصلة بين الناس؛ حتى إن أحد الباحثين يرى أن التقدم الحضاري هو تقدم في الطلاء والشكل أما في الأعماق فإن هناك وحشاً كاسراً يتربص وينتظر للفتك والافتراس، والحقيقة أن لدينا شواهد لا تحصى وفي كل مكان من العالم على صحة ذلك.
ويبدو لي أن الناس على مستوى العامة كانوا يدركون هذه الحقيقة أفضل من إدراك بعض الخاصة لها؛ حيث إننا نجد أن الهمّ الذي يسيطر على (الثقافة الشعبية) ليس الإنجاز ولا الرؤية أو الموضوعية أو وضع الأمور في نصابها ... وإنما تحقيق أعلى درجة من التضامن الأهلي والتلاحم الأخوي؛ وذلك بغية سد الطرق والأبواب في وجه الصدام والتعانف والعدوان.
انطلاقاً من كل ما سبق فإنّ مصطلح (إدارة العنف) يعني الاعتراف بوجوده كامناً وظاهراً، كما يعني نوعاً من الاعتراف بالعجز عن محوه والقضاء عليه؛ حيث لا سبيل سوى إدارته والتعامل معه، والسعي إلى التخفيف منه قدر الإمكان وإلى إبقائه تحت السيطرة. وإذا أردنا أن نستقصي التشريعات والآداب والإجراءات التي أقرها الإسلام وحفَّز عليها من أجل إدارة العنف ـ فإننا سنجد أمامنا الكثير الكثير مما يمكن أن نتحدث عنه؛ فلا بأس إذاً أن أشير على نحو خاطف إلى ما هو مهم منه، وذلك عبر النقاط الآتية:
ـ امتنَّ الله ـ تعالى ـ على قريش بما حباها به من الأمن بسبب مجاورتها لبيته العتيق؛ فقال ـ سبحانه ـ: {لإيلافِ قُرَيْشٍ * إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ *} [قريش: 1 - 4] .
والأمن يوم القيامة وفي الجنة أحد موعودات الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] .
إن شرح قيمة الأمن والاستقرار والشعور بالهدوء والسكينة يفتح وعي الناس عليها ويحفِّزهم على المحافظة عليها، ويحمِّلهم مسؤولية رعايتها من خلال الاستقامة على أمر الله ـ تعالى ـ والتأدب بآداب الشريعة الغراء.
ـ مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - الرفقَ؛ والذي يعني: اللطف وسهولة الخلق ويسر التعامل؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه» (1) . واللطيف اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ والرفق من محابِّه؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف» (2) . إن كل الأشياء يمكن أن تؤدَّى بطريقة خشنة وعسرة وجافة، ويمكن أن تؤدَّى بطريقة لينة وسهلة وجميلة، وإن على المسلم أن يجنح إلى الثانية؛ لأنها هي التي ترضي الله سبحانه، وهي التي تدل على سُموِّ الخلق ورُقي النفس. ودعا ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأصحاب الأخلاق والمعاملات والمواقف السهلة والسمحة بقوله: «رحم الله عبداً؛ سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى» (3) .
ـ إن من المتوقع دائماً أن يقع الناس في الأخطاء والتجاوزات من كل الأشكال والأنواع، وهذا يحفِّزهم على مقابلة الإساءة بالإساءة والعدوان بالعدوان..؛ لكن الله ـ جل وعلا ـ يريد من عباده أن يكسروا هذه المعادلة الرديئة حتى لا يدخلوا في دوائر العنف؛ التي قد لا يعرفون كيف يخرجون منها، ومن هنا جاء قوله ـ تعالى ـ: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] .
وقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن: 14] .
ـ إن الزحام يثير حفائظ الناس، ويزعجهم، ويُظهر ما لديهم من سوء كامن؛ وهذا بسبب أن كل واحد مِنّا يرسم فضاءً وهمياً لنفسه على مستوى النظر وعلى مستوى اللمس؛ فإذا اعتدى أحد على ذلك الفضاء فإنه يشعر بالخطر، ولهذا فإنه ينزعج ويتأهب للدفع؛ الذي يصل إلى القتل عند الحاجة. ويبدو أن رسم الفضاء الخاص والحيِّز الشخصي ليس خاصاً بالإنسان، بل إن الحيوان ـ أو بعضه ـ يفعل ذلك؛ فقد دلّت بعض الدراسات على أن بعض أنواع الأسماك تطلق روائح كريهة من أجل طرد الأسماك التي تدخل على ما تعده مجالاً حيوياً لها!
ومن هذا الأفق نفقه مغزى قول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] .
.. وللحديث صلة.(238/11)
سبل التقدم العلمي والتقني في البلاد الإسلامية (2 ـ 2)
إعداد: خباب بن مروان الحمد
المشاركون في التحقيق:
1 ـ د. إيهاب الشاعر: فلسطيني مقيم بأمريكا، متخصص في الحاسوب والاتصالات.
2 ـ د. باسم خفاجي: مصري، متخصص في الهندسة المدنيَّة.
3 ـ أ. د. زغلول النجار: مصري، متخصص في علم التربة والجيولوجيا.
4 ـ د. عبد الله الضويان: سعودي، متخصص في علم الفيزياء.
5 ـ د. عبد الوالي العجلوني: أردني، متخصص في علم الفيزياء.
6 ـ أ. د. نعمان الخطيب: فلسطيني مقيم بالسودان، متخصص في هندسة البترول والتعدين.
7 ـ د. محمد المدهون: فلسطيني، متخصص في تنمية الموارد البشرية.
تحدث مُعدُّ هذا التحقيق ـ وفقه الله ـ في الجزء الأول من هذا التحقيق عن العديد من الملفات المتعلقة بالتقدم العلمي؛ سبله ووسائله، وما العوائق والعراقيل التي تعترضه؟ وفي هذا الجزء يستكمل الحديث ـ إن شاء الله ـ عن عدد من القضايا المتعلقة بالتقدم التقني؛ فما الجوانب التقنية ذات الأولوية جَلْباً إلى العالم الإسلامي؟ وما أسباب التخلف التقني؟ وهل لطرائق التدريس أثر في تنمية الإبداع؟ وما دور الأمة تجاه المبدعين من المخترعين المسلمين؟ وإلى غير ذلك من المحاور العديدة التي سيتطرق لها أثناء هذا التحقيق. (البيان)
- آثار التخلف التقني على مستوى الشعوب والجامعات:
يتحدَّث في هذا الصدد الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار قائلاً: أدى تفتيت العالم الإسلامي إلى إفقاره على الرغم من ثرواته البشرية والطبيعية الهائلة، فالغالبية العظمى من سكان الدول الإسلامية اليوم ـ باستثناء الدول النفطية ـ تعيش تحت الحد الأدنى للكفاف اللازم لصون كرامة الإنسان، وذلك بتباين واضح في متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي والذي يتراوح بين (20،0) سنتاً في اليوم للفرد ـ أي: في حدود (73) دولاراً في السنة ـ في دولة إسلامية مثل تشاد، وبين (63) دولاراً في اليوم للفرد في كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة بروناي ـ مثلاً ـ (أي: في حدود 23000 دولار في السنة) .
من جهته يرى الدكتور الخطيب أنَّ التخلف التقني والعلمي يؤدي إلى التخلف الاقتصادي والعسكري، وبهذا تبقى الشعوب خاضعة للهيمنة الغربية، ولا تمتلك القرار المستقل، وتكون ناقصة الكرامة، ولا تستطيع الدفاع عن حريتها واستقلالها؛ حسب قوله.
ويضيف الدكتور الضويان أنَّ آثار التخلف تشمل جميع نواحي الحياة، والتخلف جالب للفقر والجهل وهما مرتع خصب لكل بلاء.
ومن ناحيته يرى الدكتور المدهون أنَّ من آثار التخلف الشعور بالهزيمة والتبعيَّة وعدم القدرة على صدِّ العدوان أو إيقاف النيران.
ويختم العجلوني هذه الآثار بقوله: ومن آثار التخلف التقني شعور المواطن بالضعف والهوان وقلة القيمة حتى لو كان هذا المواطن وزيراً أو أكثر من ذلك أو أقل. ويتحمل السياسيون وأصحاب الرأي في الأمة مسؤولية هذا الشعور؛ إذ إنهم ساهموا في تكوينه. ولأن يكون المواطن مواطناً بسيطاً في دولة قوية ومتقدمة خير ألف مرة من أن يكون قائداً أو مسؤولاً في دولة لا قيمة لها.
- أسباب التخلف التقني:
يرى جميع الدكاترة المشاركين في التحقيق أنَّ أهم سبب في ذلك هو الناحية السياسية؛ فهي الوزن الكبير في معادلة التخلف كما يقول الدكتور الضويان. وهناك أسباب أخرى يتفق عليها جمع من المشاركين، وقد أجملها الدكتور الشاعر بقوله:
1 ـ عدم وجود الرغبة من المسؤولين والسياسيين للخوض في ذلك.
2 ـ هجرة العقول إلى العالم الغربي.
3 ـ ضعف وانعدام الحريات وشيوع العنصريات.
4 ـ الضعف الاقتصادي والتحفيزي.
5 ـ أنظمة الجامعات قديمة ومتخلفة ولا تواكب الواقع.
6 ـ التخطيط معدوم وهو آخرها وليس أولها.
ويدلي الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار بدلوه إزاء هذه القضيَّة حيث يقول: ما يحدث الآن من إهمال للبحث العلمي في القضايا التقنيَّة إنما هو بسبب:
1 ـ كثرة ما تحتاجه من تجهيزات ومختبرات وأجهزة ومعدات، وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هذه الأيام من مبالغات، وما يلاقيه الباحثون من عناء ومشقة مما يجعلهم ينصرفون عن البحث والدراسة.
2 ـ انعدام التنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث الإسلامية، وبينها وبين الصناعة في المنطقة العربية والإسلامية.
- خنق الإبداع والابتكار.. كيف نتخطاه في واقعنا الإٍسلامي؟
هناك من يقول بأنَّ بعض البلاد الإسلامية تتعامل تجاه من يقوم بتطوير بعض الأعمال التقنية بتكميم فاه فيخنق الإبداع والابتكار! فكيف نتخطَّى هذه المرحلة ونتربى على ممارسة الإبداع والابتكار في خدمة أمَّتنا؟
أجمع المشاركون في الإجابة عن هذا السؤال حول قضيَّة اعتبروها مهمَّة وملحَّة، وهي أنَّ ذلك لا يكون إلاَّ بالارتقاء بالنظام السياسي وإصلاحه وتولي الشعوب أمورها بنفسها في ظلِّ الشورى الإسلاميَّة، كما نصَّ على ذلك الدكتور المدهون وكذا الخطيب في جوابهما.
ويضيف المدهون: ومن النقاط المهمَّة في ذلك أن يصبح الارتقاء والتطور مطلباً جماهيرياً، وأن نحسن صناعة الإبداع فهو طريق للتحدي لا للخنوع.
بينما يختلف الدكتور الضويان مع من يرى بأنَّ أفواه المخترعين تُكمَّم في عالمنا الإسلامي، ويقول: تكميم أفواه بعض المخترعين لم أسمع عنه شخصياً ولا أظن حدوثه؛ لأن الحكومات لا تستفيد من ذلك.
أمَّا الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار فيتحدَّث حول هذه القضيَّة بقوله: في ظل الحكومات المستبدة لا يمكن أن يظهر أي إبداع، فلا بد من المطالبة بإطلاق الحريات وإلغاء القوانين الاستثنائية واحترام آدمية الإنسان؛ حتى تتمكن الأمم من إفراز الكوادر القادرة على الإبداع، ففي المسلمين في العالمين الغربي والشرقي مئات الآلاف من العلماء الذين هربوا من بلادهم؛ إما نتيجة للاضطهاد السياسي أو جرياً وراء توفر إمكانات البحث العلمي.
- أيها أولى في المجال التقني؟
هناك جوانب تقنية من المهم أن يتقنها أبناء العالم الإسلامي ويتطوروا فيها؛ فما هذه الجوانب؟ وما الأولويات في ذلك؟
حول هذا السؤال أفاض جمع من المشاركين بالجواب عنه، فالأستاذ الدكتور زغلول النجَّار لخَّص رأيه في هذه القضيَّة بقوله: الأولويات كالتالي:
ـ الاستخراج الثلاثي والرباعي لكل من النفط والغاز، التقنيات المتقدمة في تحلية المياه، علم الحياة الجزئي، الحواسيب فائقة السرعة، المواصلات فائقة القدرة، استزراع الصحراء، استزراع البحر، ومصادر الطاقة البديلة؛ مثل: الطاقة الشمسية، الطاقة الهوائية، وطاقة الحرارة الأرضية.
من جهته يقول الدكتور باسم خفاجي: أرى - والله تعالى أعلم - أن الأهم في هذه المرحل هو الإلمام بأساسيات العلوم الحديثة وكيفية تطويعها في الصناعات المختلفة، فقد بعدت الأمة كثيراً خلال العقود الماضية عن مواكبة أصول العلوم والتقدم الحادث في هذه المجالات، ولذلك يصعب علينا كثيراً إنشاء أية صناعات حقيقية؛ لفقداننا الأسس التي تقوم عليها تلك الصناعات، لذلك يجب أولاً التركيز على العلوم الأساسية في المجالات الهندسية والطبية والعلوم الحيوية.
أما المجالات التي يجب أن ينصب الاهتمام الأولي على التميز التقني فيها؛ فأرى أنها المجالات التي تخدم رسالة الأمة أولاً قبل أن تخدم رفاهيتها. ويعني ذلك أمرين؛ الأول: هو ما يتحقق به أمان الأمة من خصومها من تقنيات عسكرية وأمنية، والثاني: هو التقنيات الحديثة في مجالات التواصل والإنترنت وعلوم الحاسبات التي تخدم البنية التحتية لكافة وسائل الدعوة المستقبلية.
أمَّا الدكتور إيهاب الشاعر فيقول: لا أنصح في الوقت الحالي بالتركيز على التقنية العسكرية، بل التقنية المدنية والتطبيقات السلمية، فهذه هي الخطوة الأولى لحل الكثير من المشاكل المتراكمة، فنحن لسنا بحاجة إلى عوائق إضافيَّة، والكثير من هذه التقنيات يمكن توظيفها في مجالات أخرى والاستفادة منها عندما يكون المجتمع قد نضج والوقت قد حان، ومع ذلك فإنَّ الدكتور إيهاب يشير إلى أنَّ رأيه لا يعني إهمال التقنية العسكريَّة بالكليَّة ولكن يعني عدم التركيز عليها وجعلها هدفاً لذاتها، وأنَّ الكثير من مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية هي مرهونة بالتقدم العلمي المدني وليس العسكري، وذلك لنكون متوازنين في هذه القضية.
ويتوافق الدكتور العجلوني مع الدكتور الضويان بأن الجوانب التقنية التي يجب على العالم الإسلامي أن يتقنها تبدأ من شعور قادة هذه الدول بالمسؤولية ومن ثم ضرورة التكامل؛ فدول الخليج ـ مثلاً ـ تجعل الصناعات البتروكيمياوية والنفطية اهتمامها الأول، ومصر تتميز بالصناعات الإلكترونية؛ لوفرة اليد العاملة وهكذا بقية المجالات.
- تجارب الأمم الأخرى في التقنية هل يمكن الاستفادة منها؟
لا ريب أنَّ (الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها) كما جاء في الحديث، ومن هذا المنطلق ساءلت العديد من الدكاترة المشاركين في التحقيق السؤال التالي: كيف تستفيد أمَّتنا من تجارب الأمم الأخرى بالأعمال المتواصلة للتقدم العلمي كاليابان مثلاً؟ وما تقييمكم للتجربة الماليزية والباكستانية؟ والمقارنة كذلك بين مسيرة التطور التقني بين اليابان ومصر؟
اتفق الجميع على ضرورة الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى وبخصوص تقويم التجارب، فقد أجاب الدكتور باسم خفاجي قائلاً: إن تجربة اليابان تعكس بلا شك الإرادة القوية في التغلب على الهزيمة والنهوض من جديد، وهي تؤكد فكرتي الأساسية أن العزيمة والإرادة أهم بكثير مما نعتقد في عالمنا العربي المعاصر.
ويرى الدكتور العجلوني أنَّ التجربة الماليزية مقارنة مع باقي العالم الإسلامي تجربة رائدة، ويضيف: وأظن أنَّ أهم سبب لها هو الوعي والتصميم والإرادة التي تحلت بها القيادة السياسية هناك. أمَّا التجربة الباكستانية فهي ممتازة في مرحلة مضت وإن كانت السياسة سبباً في تقهقرها، أما تجارب الشعوب الأخرى كاليابان وكوريا الجنوبية فقد كانت الإرادة والتصميم دافعين لها، ونحن بحاجة إلى هذه الإرادة وهذا التصميم أكثر من حاجتنا لأي شيء آخر.
ويتحدث الدكتور الخطيب قائلاً: بالنسبة للتجربة الباكستانية فهذا يدل على أن تركيز الموارد وإعطاء الحرية للباحثين وإمدادهم باحتياجاتهم المادية يؤدي إلى الوصول إلى الأهداف الموضوعة، ولكن للأسف التجربة الباكستانية على الرغم من أهميتها إلا أنها مقتصرة على تركيز التقدم التكنولوجي في مجال واحد ولم تتم على أساس بناء قاعدة صناعية تكنولوجية متقدمة تستخدم في كافة الأغراض الصناعية.
وحول مقارنة مسيرة التنمية والتطور التقني بين اليابان ومصر يرى الدكتور الضويان أنَّها مفيدة لكنها تؤدي إلى الإحباط بكل تأكيد، فهي صاعدة مع الزمن في اليابان هابطة في مصر. والسبب في رأيه أنَّ الأولى دولة مؤسسات والثانية لأفراد. ولما كان اقتصاد بلد لا ينفك عن تقدُّمه التقني نُذكِّر بقيمة الجنيه المصري وكمية ديون مصر الآن وقبل خمسين سنة، وكذا الحال بالنسبة لليابان التي أصبحت يباباً إثر خروجها مهزومة ذليلة من حربها الخاسرة ضد الحلفاء ومقارنة ذلك بوضعها الحالي حيث تملك ثاني أضخم اقتصاد وما صاحبه من تقدم تقني مشهود.
من جهته يقول الدكتور العجلوني متحدثاً عن المقارنة بين تجربة اليابان ومصر: هو كما تقارن بين نملة تسير على غير هدى وصاروخ كروز موجه إلى هدفه بدقة، أو كما تقارن بين مخلوق ضعيف غارق في بحر تتلاطم فيه الأمواج وأحد الطيور المهاجرة يحلِّق في السماء يعرف جيداً نقطة انطلاقه ونقطة وصوله.
- أثر طرائق التدريس في تنمية الإبداع والحث على الاختراع:
يؤكد الدكتور الضويان على أهميَّة طرائق التدريس ودورها في صناعة روح الإبداع، ولكنَّه تساءل قائلاً: لكن من سيحتضن المبدع؟ ويجيب: إنَّ من يحضنه بالتأكيد الشركات والجامعات الأجنبية في الخارج؛ لأنَّ فاقد الشيء (من الحكومات الإسلاميَّة ومؤسساتها) لا يعطيه!
ومن ناحيته تحدث الدكتور العجلوني قائلاً: التدريس هو الأساس، ولكن يجب تربية المدرِّسين قبل تربية من بين أيديهم، وذلك على احترام الآخر والرغبة في العمل الجماعي وتنمية روح الإبداع ...
أما الدكتور نعمان الخطيب فإنه يرى أن الإشكاليَّة تكمن في طرائق التدريس منذ المرحلة الابتدائيَّة إلى الجامعيَّة، فهي تعتمد على التلقين والحفظ وليس على الإبداع والابتكار، ولذا يقول: تحتاج طرائق التدريس إلى إعادة نظر وإلى تأهيل المدرِّسين منذ البداية، ويجب تشجيع المدرِّسين ووضع الحوافز المادية لهم بحيث ينخرط في سلك التدريس الطلبة المتفوقون، ولا تقتصر مهنة التدريس على فئة من متوسطي وقليلي الكفاءة.
وينهي الأستاذ الدكتور زغلول النجار الحديث حول هذه القضيَّة مبيِّناً أفضل أساليب طرائق التدريس فيقول: لطرائق التدريس أثر كبير في بناء فكر التلاميذ والدارسين، إلاَّ أن طرائق التدريس التي تنمي الإبداع في الدارسين تعتمد أسلوب التحليل والتفكير وأسلوب البحث عن المعلومة لغرس كيفية البحث العلمي والتفكير المنطقي داخل عقل الطالب.
وقد أكَّد جمع من الدكاترة المشاركين بأنَّ المجالات العلميَّة لم تعد تصلح للعمل الفردي بل لا بدَّ فيها من العمل الجماعي المنظَّم، ويضيف الدكتور الضويان بأنَّ إدارات الأبحاث والتطوير لا تعمل بالفردية والأنانية (كما هو حال الحكومات الإسلامية) ولكن بروح الفريق، ويسوق على ذلك مثلاً بقوله: شركة (تويوتا) استفادت من آلاف الاقتراحات من موظفيها في تطوير منتجاتها من السيارات. ويستحيل دفع البحث العلمي بعقلية الفرد الواحد.
- المخترعون المسلمون.. دورهم ودورنا تجاه أمَّتنا:
نسمع كثيراً عن المخترعين المسلمين، وبراءات الاختراع التي نالوها، ولكن ينتهي سماعنا بهم مع نهاية ما قيل عنهم؛ فكيف السبيل لتنشيط إبداع هؤلاء؟ وما السبيل كذلك لاحتضانهم؟ وما دور الحكومات وأصحاب الأموال في رعايتهم وتشجيعهم على الابتكار والاختراع؟
بهذه الأسئلة توجَّهنا للدكتور نعمان الخطيب فأجاب بقوله: المخترعات وبراءات الاختراعات العربية بهرجة إعلامية وغالباً ما تكون عديمة الفائدة.
أمَّا الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار فأجاب عن سبل احتضان المبدعين وتشجيعهم بعدَّة نقاط على النحو التالي:
ـ إنشاء مراكز للبحوث العلمية والتقنية المتخصصة، ومراصد فلكية وأرضية ومؤسسات للطاقة على أرفع المستويات العالمية في دول العالم الإسلامي في غير تكرار أو ازدواجية أو عشوائية.
ـ العمل على إعادة كتابة العلوم البحتة والتطبيقية من تصور إسلامي صحيح عن الإنسان والكون وعلاقتهما بالخالق العظيم.
ـ وضع البرامج الزمنية المحددة لترجمة أمهات الكتب العلمية والتقنية المختلفة إلى اللغة العربية وغيرها من اللغات الرئيسية في العالم الإسلامي، والتعليق على ما قد يرد فيها من أخطاء تتعارض مع قضية الإيمان.
ـ العمل على إصدار مؤلفات ودوريات وموسوعات علمية وتقنية إسلامية عامة ومتخصصة باللغة العربية وبغيرها من اللغات المحلية في العالم الإسلامي.
ـ التعاون في إنشاء مراكز للإعلام والتوثيق العلمي والتقني والصناعي، ومصارف للمعلومات ولخدمات تجهيز البيانات ومكتبات شاملة إقليمية وعامة.
ـ التعاون يإنشاء مركز عام ومراكز إقليمية للملكية الصناعية ووثائق براءات الاختراع تقوم بتنسيق تشريعات الملكية الصناعية في العالم الإسلامي، وحماية حقوق المخترعين المسلمين، ودراسة الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص، وتبادل تلك الوثائق مع المراكز المشابهة في العالم.
ـ ربط الصناعة بالبحث العلمي وحرص الحكومات على تشجيع المخترعين وأصحاب براءات الاختراع.
ويتطرق الدكتور الضويان للموضوع ذاته قائلاً: المخترع مكسب للأمة أياً كان اختراعه، ويقيّم اختراعه أهل التخصص من خلال إدارة براءات الاختراع. والمهم هو ترجمة فكرة المخترع إلى واقع من خلال الشركات وأصحاب رؤوس الأموال. وشركاتنا لا زالت استهلاكية وليس صناعية تقنية إنتاجية بمعنى الكلمة، كما أن طموح أصحاب رؤوس الأموال الربح السريع والمريح من خلال ممارسات تجارية تقليدية.
أمَّا الدكتور العجلوني فيقول: السبيل إلى ذلك بتوفير الاحترام لهم وتشجيعهم قبل توفير الإمكانات المادية لهم، أما الحكومات في واقعها الحالي فقد ترى فيهم عبئاً عليها فلا مكان لمبدع لديها، والأفضل لها أن يذهبوا إلى الغرب. أما أصحاب الأموال فيمكن تشجيعهم من خلال تحصيل جزء من أموال الزكاة أو الصدقات للبحث العلمي أو استغلال البحث العلمي لأغراض تحقق لهم ربحاً مادياً وهذا ممكن مما يجعلهم يستثمرون في البحث العلمي بدلاً من الاستثمار في مشاريع لا تحقق ربحاً مادياً إلا لهم، بينما باقي الأمة تخسر.
- وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوَّة:
لعل ما يوجد من تطوير للأسلحة والصواريخ على مدى عدَّة أميال في فلسطين وبعض الدول الإسلامية المحتلة؛ ما يشرح النفس من ناحية التقدُّم العلمي في صناعة الأسلحة، فهل لنقل العلوم التقنية والاستفادة منها أثر في نصرة أمَّة الإسلام؟ ثمَّ ألا يدخل في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ..} [الأنفال: 60] ؟ وإمكانيَّة التقدُّم بإمكانات ضعيفة؟ وهل المشكلة عدم وجود الطاقات أم عدم تفعيلها؟
يختلف المشاركون في تشخيص الجواب عن هذه القضية؛ فبينما يرى الدكتور نعمان الخطيب أنَّ المشكلة ليست في عدم وجود الطاقات، فإنه في المقابل يرى أنَّ المشكلة في عدم تفعيلها، وفي قبالة رأيه يرى الدكتور باسم خفاجي أنَّ المشكلة ليست في عدم وجود طاقات أو حتى في عدم تفعيلها، ويضيف: المشكلة هي في الانتقال من دائرة الضعف إلى دائرة المبادرة، ومن دوائر التقليد إلى دوائر الإبداع. إن الأمة الإسلامية كانت دائماً أمة مبدعة، وما سيرة غزوة الخندق عنا ببعيد. الأمر في المجال العسكري لا يتوقف فقط على الإبداع في صنع السلاح، ولا شك أن هناك حاجة إلى تعلم التقنيات الحديثة في مجالات التسلح، ولكن لا يجب أن نغفل عن السلاح الحقيقي لكسب المعارك، وهو الإرادة والإيمان، ولا ننسى أن الله ـ تعالى ـ قد طلب منا «ما استطعتم» وليس أكثر من ذلك كونه طريقاً للنصر.
- مراكز الأبحاث التقنيَّة.. دورها وتقويمها:
يرى الدكتور المدهون أنَّ مراكز الأبحاث لها أكبر الأثر في دفع التقنيَّة ودعمها، ولكنَّها بحاجة إلى رعاية صانعي القرار، إلاَّ أنَّ مخرجاتها محدودة ومبعثرة ومتباعدة وأحياناً ركيكة.
وبصيغة حزينة يعبِّر الدكتور الخطيب عن رأيه فيقول: مراكز الأبحاث يجب أن يكون لها الدور الأساسي في نقل وتطوير وتقدم التقنية، ولكن هذه المراكز في العالم العربي والإسلامي ـ في الغالب ـ لا تتعدى أن تكون مجرد تسميات واستكمال لهيكلية الجامعات أو الوزارات، والمصاريف الإدارية والبيروقراطية في هذه المراكز تفوق الصرف على دعم البحث العلمي وتشجيعه.
ويحاول الدكتور الضويان أن يوضح الدور المرجوّ والمأمول من مراكز الأبحاث بقوله: لا يكون لمراكز الأبحاث دور مؤثر ما لم يسبقها إرادة وتخطيط وتحديد أهداف ودعم مالي وفني وبشري وتعاون الشركات معها. ودورها ليس مالياً ولكنه تنسيق بين العقول التقنية والمستفيد المالي من ترجمة أفكار هذه العقول.
وينهي الدكتور العجلوني الحديث حول هذه الفقرة بقوله عن مراكز الأبحاث: لها دور مهم، ولكن واقع الحال لدينا ـ للأسف ـ أن هذه المراكز لا يختلف حالها عن أحوال الأمة في كثير من المجالات السياسية والاقتصادية، حيث تحكمها النزعة الفردية، وتُدار بواسطة الأصدقاء والمحاسيب، ولهذا لا نرى أيّ مردود حقيقي لمراكز الأبحاث في العالم الإسلامي؛ فمخرجاتها هزيلة، وإنتاجها ركيك، فهل سمعت يوماً أن مركز أبحاث إسلامي طوّر منتجاً؟ أو تبنّى مبدعاً؟ أو هل سمعت بمبدع عربي خرج من هذه المراكز؟!
- لغتنا العربية لم لا تستثمر لترجمة كتب التقنية المهمَّة؟!
كان للدولة الصهيونيَّة دور في الاختراعات والتنمية العلميَّة الصناعية، بل ترجموا في جامعاتهم بلغتهم (العبريَّة) كثيراً مما يحتاجون إلى ترجمته، وكذا كان الوضع في كوريا الجنوبية، فلِمَ لا تُترجم الكتب التي تشرح بعض الأعمال التقنيَّة والتنموية والصناعيَّة إلى اللغة العربية، وخصوصاً أنَّ لغتنا العربية تستوعب بمفرداتها اللغوية شتَّى الفنون؟ وهل اللغة عائق في الإبداع والتطور؟ وهل يمكن للأمة أن تتعلم بلغة غيرها؟
حول هذا الأمر يقول الدكتور الضويان: الدولة الصهيونية دولة مؤسسات، وللفرد كلمته فيها، وهي نموذج مكرر من الدول الغربية الصناعية التقنية، فقياداتها قادمة أو مستنسخة من هناك. والترجمة مع غيرها أحد الوسائل الضرورية لتوطين التقنية، لكنها مبعثرة لدينا بلا تخطيط وتحديد أهداف وتنسيق بين مراكز الترجمة إضافة إلى ضعف الدعم لها. واللغة ليست عائقاً دون امتلاك التقنية، بل إن العربية أقدر على مجاراة التقنية من غيرها، ونؤكد هنا ضرورة تعلم اللغات الأخرى المفيدة للمختصين؛ لضمان استمرار التواصل مع الدول ذات الخبرة حسب المجال المطلوب.
من جهته يقول الدكتور باسم خفاجي: إن اللغة العربية ليست عائقاً أمام التقدم التقني، فلا تكاد تخلو مدينة أمريكية من طبيب سوري بارز، والطب في سورية يدرس باللغة العربية، فاللغة لا تمثل عائقاً أمام المنتصرين، ولكنها دائماً شماعة يلقي عليها المتخاذلون همومهم. إن الإعلاء من شأن اللغة هو عنوان للاستقلال الحقيقي وتعميق للشعور بالانتماء، ودليل على الثقة والرسوخ.
ويختلف الدكتور إيهاب الشاعر مع بعض نقاط السؤال المذكور سلفاً قبل عدَّة سطور، حيث يقول: ما زالت الجامعات المرموقة في الدولة الصهيونية تستخدم اللغة الإنجليزية لغةً علميَّة وليست العبرية. ثمَّ يقول: أنا أظن أن اللغة ليست العائق بل إنَّ الخطَّة تكون في مسارين:
الأول: تعلم اللغات الأجنبية لمواكبة العلم والتقدم.
الثاني: الترجمة للمستويات الدنيا كالثانوية والمعاهد.
وإذا صرنا على مستوى الإنتاج والاختراع والاكتفاء بما نصنع فسنعتمد على لغتنا فقط ونترجم كل شيء يخرج.
وفي ختام الحديث عن هذه النقطة يرى الدكتور العجلوني أنَّ الوقوف في وجه الترجمة إلى العربية واستخدامها في العلوم في وطننا الكبير هو أحد أهم وسائل الغرب في إبقائنا منهزمين ومتخلفين. وقد ساهم الكثير من الدارسين بالخارج في هذا الوقوف؛ لأن تعلمهم للغة الإنجليزية ـ مثلاً ـ يعطيهم ميزة على غيرهم ممن لا يعرفها، وإذا كنا نعرف تميز العلماء والباحثين العراقيين وهؤلاء درسوا مناهجهم الجامعية باللغة العربية، فإننا نعلم أيضاً أن الكثير من أبناء الدول العربية الأخرى يدرسون باللغة الإنجليزية؛ فلا هم أتقنوا لغة ولا هم أحسنوا تعلماً.
- العقول المهاجرة والابتعاث.. بين رأيين:
يبتدئ الدكتور إيهاب الشاعر التحدث عن الخطوات الأساسيَّة للاستفادة من جهود المبتكرين المسلمين في العالم الغربي فيقول: هذا السؤال في منتهى الأهميَّة، حيث تُعدّ هذه الخطوة جوهرية في تنشيط الجو الإبداعي والبحث، ويمكن تنفيذها كما يلي:
1ـ إنشاء جمعيات خاصة لجمع المعلومات عن المبتكرين من المسلمين في العالم الغربي، وعناوينهم ومجالات بحوثهم.
2ـ إنشاء دورات وندوات وورش عمل تجمع بين أهل الاختصاص الواحد دورياً.
3ـ إنشاء جسور وحلقة وصل بين هذه الجمعيات والجامعات أو حكومات الدول العربية والإسلامية.
وعند الحديث عن تقويم ظاهرة الابتعاث للخارج هل أفادت الأمة في قضايا التقنية؟ وما دورها في نقل التقنية؟ وكيف نشجع قدوم وتوطين العقول المهاجرة للعودة لبلادهم وخدمتها؟ يجيب الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار قائلاً: المسلمون في العالمين الغربي والشرقي يتجاوز عدد العلماء فيهم مئات الآلاف الذين قد هربوا من بلادهم إما نتيجة للاضطهاد السياسي أو جرياً وراء توفر إمكانات البحث العلمي. وفي ظل الحجر الشديد على أبناء العالمين العربي والإسلامي في العالم الغربي لم تعد هناك فائدة حقيقية في الابتعاث والبحث العلمي كالشجرة التي لا بد من نموها في أرضها. ونتيجة الابتعاث لعقود طويلة كانت مخيبة للآمال، ويمكننا تشجيعهم بتوفير الإمكانات اللازمة للبحث العلمي.
من ناحيته ينفي الدكتور إيهاب الشاعر أنَّ الابتعاث أفاد العالم العربي والإسلامي حيث يقول: لا يظهر لي أنَّ الابتعاث أفاد العالم العربي بقدر ما أفاد العالم الغربي إلاَّ ما ندر، وذلك للأسباب التي قلناها من أسباب التخلف التي تمنع المبتعثين من الطموح للأحسن.
وحول دور المبتعثين في نقل التقنية إلى العالم الإسلامي يقول الدكتور المدهون: دورهم كبير في نقل التقنية إذا تم إحسان العمل والسير في الطريق إلى منتهاه، ويتم تشجيعهم بالحوافز، والاستقرار السياسي، وبخلق الانتماء، وبالتواصل معهم.
ومن جهته يقول الدكتور الضويان: لا شك أن الابتعاث للخارج له أهميّة كبيرة، فهو وسيلة للانفتاح التقني وتنمية العقول باحتكاكها بالتجارب المتقدمة الأخرى.
ويضيف قائلاً: لكن لا بد من التخطيط له بشكل جيد من خلال تحديد الأهداف والتخصصات المطلوبة ومساهمة الشركات المعنية لنقل الأفكار التقنية وتوطينها. وقد أفاد هذا الابتعاث الأمة من جانب وأضرَّ بها من جانب آخر، ذلك أنها كانت تسير بشكل فوضوي ولا زالت، فالابتعاث للابتعاث أياً كان التخصص والجهة المبتعث إليها، ولذا عادت بعض العقول بفضلات الحضارة الغربية مع الأسف، وبعضها بقمة إبداعات تلك الحضارة لكن دون رعاية جادة من القطاع الحكومي والخاص. ولذا رأت بعض العقول المبتعثة البقاء هناك لمواصلة تحقيق ذاتهم وإبداعاتهم فهاجرت إلى الأبد، ولا أعتقد بالإمكان استرجاع تلك العقول في الظروف المرئية وليس ذلك من المصلحة؛ لأن البشرية ستُحرم من إسهاماتهم التقنية، فلندع الدول الغربية تستثمرهم بما فيه فائدة لازدهار البشرية.
- هل يمكن توطين العقول المبدعة في بلادنا الإسلاميَّة؟
يتحدث الدكتور باسم خَفَاجِي حول هذه القضيَّة قائلاً: إن من المحزن أن قوانين بلداننا العربية لا تزال تنظر إلى استقطاب العقول على أنه (جلب عمالة) من الخارج، ومن ثم يعامل صاحب العقل الراشد كالعامل في بلداننا العربية، وفي المقابل يعامل كالعالم في بلدان الغرب. لذلك لا غرابة في أن الأمة الإسلامية تعاني من استنزاف قدراتها الفكرية التي تهاجر بلا عودة إلى الغرب بحثاً عن فرصة علمية أو اقتصادية أو بحثاً عن تقدير الذات الذي يفتقد إليه كثير من علماء الأمة في بلادهم.
ويبدي الدكتور باسم تعجُّبه من حال أوضاع بعض المسؤولين في بلادنا الإسلاميَّة بقوله: أليس من المضحك أن تولي دولة من أكبر دول العالم العربي مسؤولية التعامل مع العلماء المهاجرين بالخارج إلى وزير لا يحمل إلا شهادة الابتدائية في دولة عرفت بأنها من أعرق دول العالم العربي في التعليم. كيف يمكن تفسير أن عالماً حاصلاً على شهادة نوبل يجد مسؤولاً عنه في بلده لم يحصل إلا على شهادة الابتدائية، ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين؟!
ويضيف: استقطاب الطاقات يبدأ من التقدير الحقيقي لها، وليس من امتهانها على أبواب السفارات. إن الولايات المتحدة تفتح ذراعيها لعلماء العالم الإسلامي، وتستثنيهم من كثير من قيود الهجرة، بل وتمنحهم الجنسية الأمريكية لكي تجذبهم إلى الاستقرار في الغرب. ولكننا في العالم العربي لا نسمح للعالم ـ في بعض الدول العربية ـ أن يدخل أبناءه لكي يدرسون في الجامعة نفسها التي يدرِّس هو بها؛ لأنهم من (الأجانب) . نرفض أحياناً أن نعطيهم إقامة طويلة المدى في بلداننا الإسلامية؛ لأن القوانين تساوي بينهم وبين كل العمال، ولكننا نتحدث كثيراً أفراداً وجماعات عن تكريم العلم والعلماء، وأن المعلم كاد أن يكون رسولاً، ويسأل الكثير من العلماء العرب والمسلمين أنفسهم في بلادنا: ألا يقرأ هؤلاء قوله ـ تعالى ـ: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] ؟!
ويذكر الدكتور المدهون عدة نقاط تساهم في توطين العقول في بلادنا الإسلامية، وهي:
1 ـ التكامل والتوازن يقتضي استيعاب العقول والآلات معاً، وللعقول أولوية.
2 ـ الرعاية المؤسساتية الكاملة.
3 ـ يمكن المساهمة في ذلك من خلال بناء الخطط وبناء المؤسسات.
ومن جهته يؤكد الدكتور الضويان على أهمية توطين العقول الإسلامية في بلدانها، ويشير إلى أنَّ الدول المحترمة تسعى إلى توطين العقول لتوظيفها في دعم عجلة التصنيع وتنمية شعوبها ورفاهيتها، وتستطيع الدول الإسلامية ذلك.
إلاَّ أنَّ الدكتور الضويان تساءل في ختام جوابه بقوله: ولكن الواقع يقول: ماذا ستُقدم هذه الدول لتلك العقول لو هاجرت إليها سوى الكبت والتهميش وتقييد الحريات إضافة إلى الفقر والمرض؟!
وحول تأكيده على أهميَّة جلب العقول وتوطينها يشير الدكتور الخطيب إلى أنَّ الولايات المتحدة استطاعت استقطاب معظم العقول النابهة من العالم الثالث، وأن معظم التطور العلمي والتقدم التكنولوجي في الولايات المتحدة هو ثمرة تلك العقول التي استقطبتها الولايات المتحدة في مدى الأعوام السبعين الماضية منذ بداية الحرب العالمية الثانية، ومعظمها كان من العالمين الإسلامي والعربي.
- كيف نكسر قاعدة التبعية في المجال الاقتصادي؟
التكامل والتعاون الاقتصادي يحمل مؤشرات الانتقال إلى مرحلة الاعتمادية الذاتية، وبذلك نكسر قاعدة التبعية؛ كان هذا جواب الدكتور المدهون عن سؤالنا له عن دور التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية (التجارة البينية) .
ومع تأكيد الدكتور الضويان على أهمية التكامل الاقتصادي الذي يصاحبه التكامل البشري والفني بين الدول الإسلامية وعدّه مطلباً ضرورياً لامتلاك التقنية، إلاَّ أنَّه يقول متأسفاً: ولكن مع كل أسف الحاصل بينها نوع من التكامل الأمني؛ لأنها ليست دول مؤسسات تنظر بعين تنمية الشعوب ورفاهيتها.
ويختم الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار الجواب عن هذه النقطة بإجابة مستوعبة فيقول: التكامل الاقتصادي بين الدول العربية والإسلامية هو أحد وسائل الانتعاش الاقتصادي، والذي بدونه لا يمكن تحقيق أية نهضة علمية. ومن الأمور المخزية أن الدول الإسلامية اعتمدت على الاستيراد من الدول الأخرى بدلاً من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها، مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال المسلمين واستغلالهم، وفرض السيطرة عليهم من قِبَل الدول الموردة وتكتلاتها الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة. وتجدر الإشارة في ذلك إلى أن حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يمثل أكثر من (2%) من تجارتها الدولية! وأن هناك أسعاراً خاصة تفرض اليوم على واردات العالم الإسلامي بصفة عامة، كما أن ما تدفعه تلك الدول سنوياً في الاستيراد يكفي لإقامة كبرى الصناعات، ولدعم أضخم المشروعات الزراعية والإنتاجية التي يمكن أن تسد حاجة المسلمين كافة، وتغنيهم عن تحكم التكتلات العالمية المستغلة فيهم. وتكفي الإشارة هنا إلى المبالغ التي دفعت ولا تزال تدفع لاستيراد السيارات والشاحنات والطائرات والأعتدة الحربية.
بهذه الإجابة تكون أجوبة المشاركين في التحقيق قد انتهت، ونسأل الله ـ تعالى ـ أن ينفع بها، وأن يكون هذا التحقيق قد استكمل دوائر الحديث ومحاوره حول هذا الموضوع الحيوي في هذه الحقبة الزمنية، وأنه كان مفيداً لاستطلاع آراء المختصين فيه، والله ولي التوفيق.(238/12)
الدكتور الفيضي للبيان
مقاومة المحتلين حق مشروع وحتى تنجح لا بد من الاتفاق
حاوره: عبد الله بن علوان البدري
المقاومة للمحتلين لبلاد المسلمين حق مشروع يقره الشرع المطهر، وتقره أيضاً الأنظمة الوضعية. والمحتلون أنفسهم قالوا: إن من حق الشعب المحتل أن يقاوم محتليه. ومن هنا جاءت مقاومة الشعب العراقي المسلم دفاعاً عن الدين أولاً ثم العرض والأرض، وهذا ما تقوم به الفئات المقاومة بكل بطولة. وللوقوف على حال المقاومة في العراق كان لنا هذا الحوار لمعرفة واقعها ومعاناتها مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد بشار الفيضي، لمعرفة المزيد من هذه المواقف التي يقوم بها أبطال المقاومة في بلاد الرافدين.
واللهَ نسأل أن يوفقهم وأن يسددهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
البيان: طرأت تطورات هامة على ساحة المقاومة العراقية، وهناك حالة من التوتر تسود العمل الجهادي في العراق، بينما هناك مشاريع التحام بين فصائل عراقية كبيرة؛ فما تقييمكم لواقع المقاومة في هذه المرحلة؟
3 المرحلة التي تمر بها المقاومة الآن من الخطورة بمكان؛ فالأمريكيون على وشك الخروج، ومثلما امتُحِنَت الإدارة الأمريكية في رسم سياسة ناجحة للبلاد، بعد احتلالها له، وفشلت في ذلك فشلاً ذريعاً؛ فإن المقاومة ستتعرض للامتحان ذاته، وعليها أن تكون بمستوى المسؤولية، وترسم للبلاد سياسة مستقبلية ناجحة؛ وبين المقاومة وبين الوصول إلى ذلك الهدف عقبات.
فالمقاومة بحاجة أولاً إلى أن تتفق على برنامج سياسي موحد، ترسم من خلاله معالم مستقبل العراق، والمتابع لبياناتها يجد أن ثمّة خلافاً في الرؤية؛ فثمّة جهات تريد دولة الخلافة وتتبنى مشروع الجهاد العالمي، الذي يكون العراق بدايته وليس آخره، وثمّة أصحاب المشروع الإسلامي الوطني الذين يريدون للعراق حكماً إسلامياً على منهاج شرعي، لكن طموحهم يقتصر على فعل ذلك داخل حدود بلدهم، وثمّة من يعتمد الخيار الوطني الذي يسعى إلى تاسيس دولة مدنية حديثة، يتساوى فيها أبناء البلد في الحقوق والواجبات، ويكون الإسلام فيها الدين الرسمي، والمصدر الأساس للتشريع.
هذا الخلاف يجب أن يسوَّى من الآن وقبل أن يخرج المحتل؛ لأن عدم تسويته سيجر أصحابه إلى الاختلاف ومن ثَمّ الاقتتال، وقد نشهد ـ لا سمح الله ـ مشهداً مماثلاً للاقتتال الأفغاني إبّان خروج الروس من أفغانستان.
ونحن في هيئة علماء المسلمين وجهّنا نداءً عاجلاً إلى أبناء المقاومة أن يفكروا بهذا الأمر ملياً، وأن يستعدوا للحظة يكونون فيها على خط المواجهة في المسؤولية، كما طلبنا منهم الحوار المبكر فيما بينهم وإبداء المرونة؛ لأن الاتفاق بين جماعاتٍ تمتلك رؤى متباينة يتطلب إبداء تنازلات من جميع الأطراف.
ومن أجل خطوة في هذا الاتجاه دعونا إلى توحيد الفصائل على مستوى التنسيق في أقل تقدير، ونجد الآن ـ بحمد الله ـ مبادرات في هذا الصدد، ونحن نؤيدها وندعمها.
أما بالنسبة للتوتر الملحوظ هذه الأيام في العمل الجهادي فهو متوقع؛ لأن المحتل، وقد قرر الخروج من العراق، لا يريد أن يخلفه مشروع جهادي ناجح، بل يسعى بما يملك من مكر ودهاء إلى دس بذور الفتنة بين الفصائل، وما حدث حتى اللحظة شيء قليل، وربما يحدث ما هو أكبر وأخطر، وهنا تتوقف النتائج على مدى ما يتمتع به المقاومون من نضج وحكمة؛ فهل سيسترسلون مع المخطط المعد لهم بدهاء؛ أم سيكونون على جانب كبير من الوعي، ويجنبون أنفسهم الوقوع في صراعاتٍ من شأنها أن تذهب ببريق جهادهم، وتحولهم في نظر الناس بعد كل ما قدموه من تضحيات إلى مجرد قتلة وأصحاب أهواء، همهم الدنيا واكتساب المصالح، ونوال المناصب؟
البيان: شهد العراق، وبغداد خاصة، انهياراً كبيراً ومفاجئاً للخطة الأمنية للحكومة الحالية؛ فكيف تفسرون هذا الانهيار وأسبابه؟
3 منذ البداية قلنا: إن الخطة الأمنية ستفشل، على الرغم من أن ساسة كثيرين قدموا لها الدعم وتوقعوا منها خيراً؛ وفي مقدمتهم قادة جبهة التوافق. وللفشل أسباب كثيرة، منها: أن القائمين عليها ادعوا أن الغرض منها ردع الميليشيات الطائفية، ولم يكونوا صادقين؛ بل كانت الغاية كما توقعناها ضرب المقاومة العراقية. ويخفى على هؤلاء أن مقاومة المحتل أمر فطري وشرعي لا يمكن وضع حد له، بل إنه يشبه إلى حدٍّ كبير نبات الأثل كلما قصصت أوراقه نَبَتَ من جديد وازداد قوة وانتشاراً، كما أن هذه الخطة قامت على الظلم وإلحاق الأذى والعدوان بطائفة معينة. والظلمُ فعلٌ؛ ولكل فعلٍ ردُّ فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، بالإضافة إلى أن هناك دولاً إقليمية لا يطيب لها حدوث أي استقرار في ظل الاحتلال الأمريكي الذي يشكل وجوده في العراق خطراً عليها، لذا فهي تبذل كل ما في وسعها لإثارة الاضطراب، وإحراج الأمريكيين بعدم الاستقرار؛ وما المفخخات التي تحصد العشرات من أبنائنا كل يوم إلا وسيلة قذرة من الوسائل التي تعتمدها هذه الدول لزعزعة الاستقرار في البلاد.
البيان: هناك تصعيد من الطرف الشيعي ضد أهل السنة المشتركين في العملية السياسية؛ فكيف ترون مستقبل العملية السياسية في العراق، وكيف تقيِّمون موقف السنّة المشاركين فيها؟
3 الساسة الذين جاؤوا مع المحتل نموذج للأَثَرة والأنانية، يسعون إلى الاستيلاء على كل شيء، ولذا تعاملوا مع الساسة السنة بعدة أساليب، تضمن لهم ـ في المجمل ـ التفرد بالسلطة؛ فبعضهم جنّدوه لخدمة أجندتهم، فكان أقسى على السنة منهم، كما كان وزير الدفاع السابق سعدون الدليمي؛ الذي أقسم يوماً أن يهدم بيوت من سماهم (الإرهابيين) على نسائهم وأطفالهم. ومنهم من اشتروا ذمته، أو ملؤوا قلبه رعباً منهم؛ فصمت عن باطلهم صمت الأحجار، ويمكن اعتماد السيد عبداً مطلقاً نموذجاً. ومن استعصى على الاستمالة أقصوه عن طريقهم: إما بالاغتيال، أو بتوجيه تهمة له يتم من خلالها رفع الحصانة عنه، أو عن طريق ملاحقته بحيث يغدو خارج العملية السياسية، كما فعلوا مع السيد ناصر الجنابي والسيد ظافر العاني، وكلاهما عضو في البرلمان.
أما مشاركة السنة في العملية السياسية فهي الأسوأ في تقييم العقلاء؛ فهم منحوا الإقصائيين الغطاء القانوني ليمارسوا الإقصاء بحقهم وبحق الآخرين من أبناء الوطن المخلصين، وأعطوهم الفرصة ليرتكبوا مجازر بحق أبناء العراق بِاسم ضبط الأمن، وملاحقة الخارجين على القانون، ولذلك حين قيل للمالكي: إنك تستهدف السنة في الخطة الأمنية؟ قال: لا، السنة إخواننا وهم معنا في العملية السياسية، نحن نستهدف الإرهابيين. وهكذا بفضل ذكاء الساسة السنة المشاركين في العملية السياسية (!) أصبح كل من لم يشارك في هذه العملية البائسة إرهابياً في نظر المالكي لا بد من ملاحقته وتصفيته جسدياً.
وهذا يفسر لنا سر توجه القوات الأمريكية، ومعها العراقية، عبر الخطة الأمنية لمناطق، مثل: الغزالية، والأعظمية، والعامرية، والفضل، وشارع حيفا والصليخ.. وغيرها، وكأنه لا يوجد في بغداد مناطق غيرها!
البيان: هل تنوي هيئة علماء المسلمين الاشتراك في العملية السياسية في المستقبل القريب؛ كأن تتحالف مع إياد علاوي لإسقاط حكومة المالكي، أو توجه العراقيين للاشتراك فيها؟ ومتى يمكن للهيئة أن تدعم العملية السياسية في العراق؟
3 الهيئة لها ثوابت معلنة، ومنها أنها لن تشارك في أية عملية سياسية تُجرى في ظل الاحتلال لثقتها المطلقة، التي أكدت التجارب صدقها، أنّ عمليةً من هذا النوع لن يراعى فيها مصالح البلاد والعباد.
ومن علاوي حتى تتحالف معه الهيئة؟!
قد يكون هذا الشخص أقل طائفية من غيره..، لكنه بالمحصلة أداة بيد المحتل؛ هو مسؤول عن ضرب النجف والفلوجة، والظلم الذي لحق بالمدينتين وصُنِّف عالمياً على أنه كارثي.
أما متى تدعم الهيئة العملية السياسية؛ فذلك حين يخرج المحتل، ويتوفر في أي عملية سياسية قادمة الحد الأدنى من المعايير الدولية لسلامة مثل هذه العملية وضمان تحقيق الأهداف النبيلة من ورائها.
البيان: ما موقف الهيئة من مشاريع الإنقاذ التي تدخل فيها العشائر العراقية، وفتح باب تطوع أهل السنة للشرطة والجيش، وخاصة أن الكثير من المواطنين السنة مسرورون بدخول الشرطة المحلية مناطقهم واستتباب الأمن فيها؟
3 نحن منذ الأيام الأولى كنّا نقول لمن يستشيرنا في هذا الموضوع: إذا كنتَ متأكداً أنك لن تُجنَّد لقتل أخيك، ولن تعمل لحماية وجود الاحتلال، وكنت ضامناً أن لا تُستهدَف في حياتك من قبل القائمين عليك ـ فتوكل على الله..، وإلا فإياك أن تتورط!
وهذا ما نقوله الآن.
إننا نلاحظ على سبيل المثال أن بعض أجهزة الشرطة والجيش في محافظة الأنبار، بعد ردة الفعل التي انتابت عشائرها ضد تنظيمات معروفة بسبب أدائها السيء، بدأت تُستَغل لضرب المقاومة وتصفية عناصرها..؛ فمن يتحمل المسؤولية؛ والاحتلال بعدُ لم يغادر البلاد، ونحن أحوج ما نكون إلى كل فرد مقاوم؟
البيان: ما موقف الهيئة من مؤتمر علماء العراق؟ وكيف تقرأ الدوافع التي دفعت المجتمعين إليه؟
3 الهيئة منذ تأسيسها نبَّهت على أن العراق ليس حكراً على أحد، ومن حق كل أبنائه أن يشكلوا تجمعات، دينية كانت أم مدنية، بيد أن المهم أن يكون ذلك التجمع نزيهاً، بمعنى أن يعمل منتسبوه لصالح القضية العراقية، وأن لا تقف وراءه جهات مشبوهة، ونحن ننظر لمؤتمر علماء العراق وغيره بهذا المنظار.
قد يكون مجيء هذا المؤتمر في هذا الوقت الحرج، واضطراب الرواة في تشخيص الجهة التي تقف وراءه، إعداداً وتمويلاً يثير علامات استفهام، لكننا لن نتعجل في الحكم عليه، وسنرقب أداءه، ولدينا يقين أنَّ ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
البيان: هل هناك مراجعة لأجندة الهيئة وطريقة أدائها؟ وهل الهيئة مقتنعة بتمثيلها لأهل السنة؟
3 هناك مراجعة دائمة لأداء الهيئة ولخططها في التعامل مع الأحداث في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ بلدنا، ونحن ما زلنا نعتقد بصواب خطواتنا، ودقة تشخيصنا للواقع، وسلامة رؤيتنا للمستقبل، وكل الذين راهنوا على أن الهيئة أخطأت في تقدير المواقف يؤكدون اليوم أن الواقع دلَّ على خلاف ما راهنوا عليه؛ فالعمليات السياسية ـ على سبيل المثال ـ التي جنَّبت الهيئةُ نفسَها من التورط فيها قادت البلاد والعباد إلى الحضيض، وعرّضت الذين عقدوا الآمال عليها إلى الإحساس بخيبة الأمل، وبدا أبطال هذه العمليات ـ الذين كانوا يروِّجون لأنفسهم وأحزابهم على أنهم منقذون ـ مجردَ أدوات نفَّذ بها المحتلُ خططَه المشبوهة؛ ومن ثَمَّ فقدوا ما لديهم من رصيد.
أما بالنسبة لتمثيل الهيئة لأهل السنة، فَمع أننا سنة، ويهمنا أن يكون أهل السنة في أحسن حال، غير أننا لم نطرح أنفسنا ممثلين لأهل السنة فقط؛ إنما نحن نسعى لأنْ نكون لأبناء وطننا كلهم؛ نعمل على تحريرهم من الاحتلال والعملاء، وتأمين مستقبل زاهرٍ لهم جميعاً.(238/13)
حرب الأفكار بين بأس الأمريكيين ويأسهم
د. عبد العزيز كامل
خلف كل مواجهة ميدانية، أو منازلة عسكرية، صغرت أم كبرت، صراع بين فكرة وفكرة، أو بين عقيدة وعقيدة، أو رؤية ورؤية، تعكس كل منها مصلحة أو مطمعاً أو رغبة في العلو بالحق أو بالباطل، وهذه كلها تنتهي إلى تنازع بين قناعات وقناعات وبين مناهج ومناهج؛ إذ لا يمكن أن تتحرك الإرادات على أرض الواقع دون دوافع في العقول والقلوب والضمائر، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] . وقال ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] ، والمعنى من الآيتين: لولا دفعُ اللِه بأسَ المشركين بممانعة وجهاد الموحِّدين، وحكمهم بالوحي المنزَّل، لزاد الفساد واستحكم الظلم، وحُرِم العباد من عبادتهم لربِّ العباد. فالتدافع هو الأصل بين سبيل الأبرار والفجار، ليس في ميادين المعارك العسكرية فقط، بل قبل ذلك في ساحات المواجهة الفكرية، وحقيقته صراع بين من يحملون المنهج السوي من أتباع الرسل، وبين من يحتمون بسواها من ملل الجهالات والمقالات والأهواء. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} . [إبراهيم: 13 ـ 14]
ولكن الصراعات تكون أيضاً بين باطل وباطل، وقد يكون ذلك خيراً لأهل الإيمان، كما كان الصراع بين الفرس والروم، حيث أنْهَك كلٌ منهما الآخر، لتَسهُل المهمة بعد ذلك على عباد الله الموحدين في الانتصار عليهما.
صراعات عصرنا ليست استثناء في كون أصلها صراعاً بين عقيدة وعقيدة، أو فكر وفكر؛ فتطورات وتفاعلات الأحداث في النزاعات الكبرى، أكَّدت دائماً أنه كان خلف كل نزاع عسكري أو سياسي منها، اختلاف منهجي وفكري. ولو تأملنا في الحروب الدولية الكبيرة، لوجدناها تعكس ذلك بوضوح صريح؛ فالحرب العالمية الأولى كانت في حقيقتها صراعاً بين الأفكار والرؤى والأيديولوجيات التي تحولت إلى أزمات، حيث كانت الأفكار الشيوعية قد بدأت في التبلور في بدايات القرن العشرين، لتفجر الثورة الروسية التي تصدرت لمقاومة الأفكار الرأسمالية التي كانت تتحرك بها أطماع الغرب.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، لتشعل صراعاً جديداً بين أفكار النازية (1) ، والفاشية (2) من جهة؛ والرأسمالية الليبرالية من جهة ثانية، ثم أعقبتها الحرب الباردة، التي امتدت إلى نهاية القرن العشرين، وكانت صراعاً بين فكرة الليبرالية الرأسمالية أيضاً، والماركسية الشيوعية.
لكن ما كان يميز كل تلك الصراعات بشِقَّيْها الفكري والعسكري، أنها كانت بين باطل وباطل، من طوائف الضلال المختلفة من كتابيين وملحدين ووثنيين، وما قد يلحق ببعضهم من فئام الجهلة أو المنافقين في بلاد المسلمين.
أما اليوم، فالصراع الدولي الناشب في ميادين متعددة على أرض العالم الإسلامي يمثل نوعاً آخر، لم يكن للبشرية عهد به منذ قرون؛ إذ يتضح يوماً بعد يوم أنه صراع واضح بين الحق الصريح والباطل الصارخ، أي بين حق الإسلام، وباطل الأعداء، الذين تأتي الصهيونية الأمريكية ـ بشِقَّيْها: اليهودي والنصراني ـ في مقدمتهم، حيث أطلقت الولايات المتحدة حربها التي سمتها (الحرب العالمية على الإرهاب) بعد أن لعبت بمصطلح (الإرهاب) لكي يكون مرادفاً للإسلام شيئاً فشيئاً، ولكي يكون هذا المصطلح صالحاً لأن يطلق على أشخاص دون أشخاص، ودول دون دول، وجماعات دون جماعات، وممارسات دون ممارسات، كما عُرف ذلك من مواقف الأمريكيين وحلفائهم من الإرهاب الصهيوني في فلسطين، والروسي في الشيشان، وإرهاب عملاء أمريكا في كل مكان، وكذلك إرهاب أمريكا نفسها في أفغانستان والعراق والصومال والسودان ولبنان، وغيرها مما قد يأتي بعدها.
وعندما شنت الولايات المتحدة حربها العالمية على ما أسمته (الإرهاب) ، جعلت جزءاً رئيساً من هذه الحرب الصليبية، مواجهات فكرية، تستهدف حضارة وثقافة وقيم الأمة الإسلامية، وقد استلزم ذلك أن يبدأ الأمريكيون عملية تضليل كبرى، لصرف المسلمين عن أُصول دينهم، وأُسس شريعتهم وعقيدتهم، لتَحُل محلها ما يُسمونه (قيم الغرب) الداعية إلى (الليبرالية) بجميع أنواعها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين والثقافة والإعلام.
وقد تكاثرت في السنوات الأخيرة نداءات المخططين والمنظرين والمتنفذين في الغرب بضرورة إشعال وتوسيع وتطوير (حرب الأفكار) ضد العالم الإسلامي، وقد كان أول من أطلق هذا المصطلح، ووضع له الأساس الفكري القاضي الأمريكي (لويس باول) ، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وكان يريد من نشره وتفعيله، مواجهة الأيديولوجيات المعارضة والمعادية للرأسمالية، وتحمس لفكرته أحد اليمينيين المتطرفين وهو (وليام كورز) فأسس مراكز للأبحاث لهذا الغرض.
لكن وزير الحرب الأمريكي المُقال المهزوم (دونالد رامسفيلد) هو أول من أطلق شرارة (حرب الأفكار) ضمن ما أسمته أمريكا (الحرب على الإرهاب) وذلك عندما دعا في مقابلة صحفية في خريف عام 2003م إلى شن تلك الحرب وظل يردد الكلام عن أهميتها، حتى أواخر بقائه في منصبه، وقد أدلى بحديث إلى صحيفة الواشنطن بوست في (27 /3/2006م) قال فيه: (نخوض حرب أفكار، مثلما نخوض حرباً عسكرية، ونؤمن إيماناً قوياً بأن أفكارنا لا مثيل لها) وأردف قائلاً: (إن تلك الحرب تستهدف تغيير المدارك، وإن من المحتم الفوز فيها وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها) .
وعجيب أن يكون المسؤول الأول عن وضع الخطط العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في أوج هياجها واستعلائها، هو نفسه المتابع الرسمي لتلك الحرب الفكرية، حيث عقد مزاوجة لافتة بين ما هو عسكري وبين ما هو فكري، مؤسساً بذلك لحملةٍ صليبيةٍ فكرية، موازية للحملة الصليبية العسكرية، وقد أفصح عن ذلك المسؤول العسكري (المدني) عن الغرض المبيت لتلك الحرب فقال في تصريح له في أكتوبر 2003م: (نريد لشعوب الشرق الأوسط أن يكون إسلامها كإسلام الشعوب المسلمة في شرق أوروبا) يقصد مسلمي البوسنة وألبانيا، الذين ذاب غالبيتهم ـ إلا من رحم الله ـ في قاع الحياة الأوروبية المادية، حتى صار الدين بالنسبة لأكثرهم مجرد انتماء تاريخي، لولا المحنة التي تعرضوا لها على يد النصارى الصرب فأيقظت فيهم الحنين للدين بعد أن أُبعدوا عنه.
ما صرَّح به رامسفيلد لم يكن أحلاماً شخصية، ولا مجرد أمانٍ أمريكية، بل هو توجه صليبي عام، يستهدف الإسلام بالتغيير، والمسلمين بالتغرير، وقد تبين ذلك من الحملة شبه المنظمة على شعائر الإسلام وشرائعه وحرماته ومقدساته في معظم بلدان أوروبا في الآونة الأخيرة.
وفيما يخص (حرب الأفكار) تتابعت التصريحات والإيضاحات التي تحكي أبعاد تلك الحرب المعلنة، من قوىً غربية عديدة معادية، وليس من أمريكا فقط، وكان آخر ذلك ما أدلى به «الذيل المهزوز» (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني، في كلمات ذات مغزى خلال مؤتمر صحفي عقده في 17 /4 /2007م، قال فيه: (إن الوقت قد حان لتتوحد إدارات الحكومة البريطانية، من أجل تحقيق النصر في حرب الأفكار) وأضاف ذلك المستقيل المهزوم: (إذا كنتم تريدون أن تنقلوا الحرب إلى أرض الأعداء، فعليكم أن تهزموا أفكارهم ودعايتهم إلى جانب هزيمة مخططاتهم) .
أما زعيم المهزوزين المهزومين (بوش) ، فكان قد قال في خطاب له في أعقاب هجوم سبتمبر: (نحن نحارب في جبهات مختلفة عسكرية واقتصادية وسياسية وفكرية، ونحن واثقون بأننا سننتصر في كل جبهة) وقد نصت الورقة الرئيسية لاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة على أن أحد أهم أدوات أمريكا في نشر مبادئها في الشرق الأوسط هو (شن حرب أفكار) مع اللجوء للخيار العسكري عند الحاجة إليه.
وبعد هذا التقرير لم تهدأ مراكز الأبحاث ومعاهد التفكير المحسوبة أو القريبة من إدارة بوش في إصدار التقارير التي تصب كلها في كيفية إدارة تلك الحرب بكفاءة، وأشهرها بالطبع التقارير الصادرة عن (معهد راند للأبحاث) حيث أصدر ذلك المعهد عدداً من التقارير الخاصة بتحديد الأهداف والوسائل الخاصة بمواجهة المد الإسلامي عموماً، والتوجه السني المقاوم خصوصاً.
كان من الطبيعي في ظل التوافق على أهمية (حرب الأفكار) أن توضع لها السياسات، وتستخلص التجارب، وهذا ما حدا بوزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) أن تحدد منذ البداية الملامح الرئيسة لتلك الحرب، وذلك عندما كانت ـ حينها ـ مستشارة للأمن القومي الأمريكي؛ إذ قالت في كلمة ألقتها في معهد السلام الأمريكي في صيف 2002م: (لا بد من اتباع أساليب الحرب الباردة نفسها ضد الشيوعية لمواجهة أفكار (الكراهية والموت) في الشرق الأوسط) . وهي تتحين الفرص كل فترة لإبداء قناعتها بخطورة تلك الحرب وضَرورة السير فيها إلى النهاية؛ فقد قالت في مقالة لها في صحيفة الواشنطن بوست في ديسمبر 2005: (إننا ضالعون في حرب أفكار أكثر مما نحن منخرطون في حرب «جيوش» ) . وقد صرحت في مناسبة أُخرى بأن الهدف الأكبر للمواجهة الفكرية المزمعة، هو ـ تحديداً ـ الانتصار لفكر (الليبرالية الأمريكية الجديدة) ، حيث قالت: (إن المهمة الأساسية في حرب الأفكار، تتعلق بالترويج للقيم الأمريكية المتمثلة في الحرية والديموقراطية ونظام السوق الحر) .
إن هذه التصريحات تدل بوضوح، على أن ما تسمى بـ (القيم الغربية) ، النابعة من خلفيات يهودية ونصرانية محرفة، لم تعد تأبه بندٍّ منافس سوى (القيم الإسلامية) الشاملة للمبادئ والسلوك، والمستمدة من الوحي الصحيح والدين القويم؛ حيث أصبحت هذه القيم مع من يحملها، في مواجهة حرب لا هوادة فيها على كل أرض، وفي كل ميدان، وضمن كل مجال، أي (في جهات مختلفة عسكرية واقتصادية وسياسية وفكرية) كما قال بوش في تصريحه المذكور آنفاً.
وقد نص تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م على ذلك التوجه، حيث جاء فيه: (إن العدو الرئيسي لأمريكا هو تيار إسلامي راديكالي متطرف، تعود مرجعيته إلى أفكار ابن تيمية وسيد قطب ... ولا يوجد مجال للتصالح مع هذا التيار، ولا بد من عزله وتصفيته تماماً، لكن لا بد أولاً من منازلته في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه) .
وحتى لا يتبادر إلى أذهان بعضنا أن مقصودهم بـ (التيار الإسلامي الراديكالي) هو التيار القتالي أو المقاوم للهيمنة الغربية والذي يوصم دوماً بـ (الإرهاب) ، فإن على من يتوهم ذلك أن يطالع تقرير مؤسسة الأبحاث الأمريكية (راند) الأخير، الخاص بإنشاء توجهات أو تجمعات تُمثل (الإسلام المعتدل) حيث وضع ذلك التقرير المعايير التي يحدد من خلالها الفرق بين المعتدلين والمتطرفين (1) .
وأهم سمات الاعتدال في نظر من أعدوا التقرير: (القبول بالديمقراطية) وهذا يعني رفض مبدأ الدولة الإسلامية، و (القبول بالمصادر غير المتعصبة في تشريع القوانين) بما يعني إلغاء مصدرية ومرجعية الشريعة، و (نبذ العنف إلا في حالة «الحرب العادلة» ) أي التخلي عن الجهاد والمقاومة، و (احترام حقوق النساء والأقليات) وهو ما يستدعي إحلال المفاهيم الغربية محل الإسلامية فيما يتعلق بالنساء وغير المسلمين.
وقد حدد تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر هدفاً جوهرياً من أهداف (حرب الأفكار) عندما نص على أنه (لا بد من منازلة التيار غير المعتدل في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه) .
«كسب الغالبية» إذن؛ هو الهدف والرهان الاستراتيجي، للاستيلاء على القلوب والعقول، والوصول إلى ذلك لا يكون إلا عبر تحركات تكتيكية يكون (الدولار) فيها هو الوقود المحرك لأفكارهم والمحرق لأفكار غيرهم، وهذا ما ذهب إليه تقرير مؤسسة راند السابق الصادر في (18/4/2005) بعنوان (قلوب وعقول ودولارات) والذي نص على أهمية مزاحمة (العدو) على عقول الناس وقلوبهم، عن طريق تسخير الدولار، في تغيير الأفكار، باتجاه العلمنة والأمركة واللبرلة.
أي باختصار: (تغيير الإسلام) في فهم واعتقاد متبعيه. لهذا فإن الحرب الأمريكية الراهنة على العالم الإسلامي، ستبقى في جوهرها ـ وإن سكنت المدافع ـ حرب أفكار، ولذلك فمن غير المتوقع أن تتوقف بشكل نهائي، أو ترتبط بتغيرات سياسية عندنا أو عندهم، لارتباط تلك الحرب بمعايير رضاهم عنا وعن عقائدنا ومبادئنا وأفكارنا، وهذا الذي لن يحصل، ما دام المسلمون مسلمين، والنصارى نصارى واليهود يهوداً: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ، فالمعركة بيننا وبينهم ستظل دائماً معركة على الثوابت، بين ما عندنا من منهج الحق والهدى، وما عندهم من أفكار الغي والهوى.
- يأسهم في طيات بأسهم:
الإمكانات التي رصدت ولا تزال ترصد لإدارة (حرب الأفكار) لا تكاد تصدق، ولا ندري كيف صدق الأمريكيون وغيرهم من اليهود والنصارى أنفسهم في أنهم يمكن لهم أن يغيروا ديننا، كما غيروا دينهم؟ ولكن صدق ربنا إذ قال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] .
ومن يلاحظ إصرار الأمريكيين وحلفائهم على المضي في حرب الأفكار؛ ربما يظن أنهم يملكون مزيد ثقة فيما عندهم، أما نحن فيقيننا أنهم ليس لديهم من يقين إلا ما يقبع خلف الشك والحقد الدفين: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55] .
لذلك فإنهم حتى وإن دعا بعضهم إلى حوار في بعض الأحيان، فإن حوارهم المقترح هو نفسه جزء من حرب الأفكار؛ إذ ليس لدى أكثرهم وهم يحاوروننا رغبة في الإنصات أو الإنصاف، إنما يستمعون ـ إذا استمعوا ـ لنُخرج ما عندنا كي يُلقوا عليه ما عندهم.
لقد طالَبَ الكاتب الأمريكي الأشهر اليوم في العالم (توماس فريدمان) بما أسماه (حوار الأفكار) بين الولايات المتحدة وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، بعد أن لاحظ أن أمريكا تفقد مصداقيتها بشكل مقلق بين تلك الشعوب، ولكن: هل يقصد فريدمان الحوار حقاً؟ إنه مع دعوته «البريئة» للحوار، لم يستطع أن يخفي ما وراءها من مآرب وأسرار؛ فليس إضاعة الأوقات وتمرير المخططات هو فقط المراد من هذا الحوار، وإنما استغلال أرضية الحوار لتأسيس مزيد من الركائز الحامية لمصالح أمريكا وحلفائها وعملائها. ولهذا اشترط أن يلتزم العرب مع أمريكا ـ في ظل ذلك الحوار ـ بثلاثة أمور، وهي:
1 ـ استمرار تزويد أمريكا بالنفط.
2 ـ الحفاظ على انخفاض سقف أسعاره.
3 ـ تحسين المعاملة مع إسرائيل.
وقال: (إذا حصلنا من العرب على هذه الأمور الثلاثة، فلسنا معنيين بشيء من أمورهم حتى ولو كان يتنافى مع الأفكار الأمريكية المعلنة) .
إن الالتزام العربي الذي يطالب به فريدمان، هو لضمان استمرار قوة وقدرة أمريكا وحليفتها في مقابل ضعفنا وعجزنا، ومع ذلك تظل حرب الأفكار معلنة حتى تحت شعار الحوار.
لقد طالب توماس فريدمان أيضاً في دعوته للحوار، بأن تكثف أمريكا سياسة تغيير الأفكار بين شعوب الشرق الأوسط، واقترح عليها مثلاً أن تمنح خمسين ألف تأشيرة دراسية لطلاب عرب للقدوم إليها، ليكونوا هدفاً للتأثير الفكري المباشر!!
ما هي المهام التي يمكن أن يكلف بها خمسون ألفاً من العملاء الفكريين لأمريكا، إذا عادوا منها وقد رضعوا لَبَنها وأُتخموا بلحمها، وسمنوا بسمومها؟ وهل هذا يسمى حوار أفكار، أم تجنيد أنصار؟!
في إطار المقترحات في (حرب الأفكار) أيضاً، كان مدير الاتصالات في البيت الأبيض (تاكر إسكيو) قد وضع خطة لنشر الأفكار والمفاهيم و (القيم) الأمريكية، كُللت وقتها بتأسيس (قناة الحرة) الأمريكية اللاكنة بالعربية، وكذلك (إذاعة سوا) من أجل مخاطبة العرب بألسنةٍ أمريكية ناطقة بالعربية.
وقد قال (تاكر) عند تأسيسه لهذه الوسائل الحربية الفكرية: (إننا نملك المال، ونملك الخبرة، ونملك الأفكار، ولن يستطيع أحد أن يقف أمامنا) .
لكن التجربة أثبتت أن الأمريكيين وإن كانوا يملكون المال والخبرة، فإنهم لا يملكون الحكمة والفكرة، ولذلك ظلت وسائلهم فاشلة، ولم تجذب إلا المجاذيب، ولم تفتن إلا المفتونين الذين يصدقون دعايات أمريكا في مزاعم الحرية والديموقراطية واحترام الإنسان!
إن مئات الملايين من الدولارات التي أُنفقت ولا تزال تُنفق لإطفاء نور الوحي؛ لم تزده إلا وهجاً وضياء؛ فهناك عدد من مراكز الأبحاث المتخصصة في شؤون الشرق الإسلامي المسمى بـ (الشرق الأوسط) مثل مركز (امريكان أنترابرايز) الذي يهيمن عليه المحافظون اليهود الجدد، ومعهد (بروكنجر) ، ومعهد (كارنيجي) ، ومعهد (الشرق الأوسط) الذي يعرِّف منطقة الشرق الأوسط بالأراضي الممتدة من أفغانستان إلى المغرب العربي، وهذه المراكز تُرصَد لها ميزانيات بالملايين سنوياً؛ لأنهم لا ينتظرون منها أرباحاً، إلا إثبات النجاح في اختراق حصوننا، من الداخل أو الخارج!
وقد رُصد لمعهد الشرق الأوسط وحده، ميزانية تصل إلى مليون دولار سنوياً، وهي ميزانية تجيء من أرباح وقفية، وقفتها على ذلك المركز شركات عديدة كبرى مثل: (أرامكو) ، (كوكا كولا) ، (شل) ، (بوينج) ، و (الشركة الكويتية للنفط) ، ويرأس المعهد (إدوارد ووكر) السفير الأمريكي السابق في (تل أبيب) ومصر، لكنَّ نتائج جهود تلك المراكز تعكس حتى الآن الفشل والخيبة والخذلان. وصدق الله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ *} [الأنفال: 36] .
- اعترافات الحسرة:
لقد بدؤوا يعترفون بخسارة (حرب الأفكار) مثلما خسروا حرب الحديد والنار، في بقاع عديدة من العالم الإسلامي، وقد اعترف رامسفيلد نفسه ـ مُشعل (حرب الأفكار) ـ في تصريح له في 16 فبراير 2006م، بأن أمريكا تخسر حربها الدعائية والفكرية ضد (المتشددين) الإسلاميين، وأضاف: (ينبغي إيجاد وسائل أخرى بديلة لكسب قلوب وعقول الناس في العالم الإسلامي، حيث نجح المتشددون في تسميم الأفكار عن أمريكا) .
وكذلك أقرَّ تقرير أعدَّته هيئة استشارية تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ، أن أمريكا عجزت عن إقناع العالم الإسلامي باستراتيجيتها الدبلوماسية والعسكرية، وهو ما اعتبره التقرير خسارة لما يسمى (حرب الأفكار) ، وقال التقرير الذي قُدم في نوفمبر 2004م: (إنه لا أحد يصدِّق وعود أمريكا عن الحرية والديمقراطية) ، وبين أن تدخلات أمريكا في العديد من بقاع العالم الإسلامي، رفعت من أسهم القوى المناوئة لها.
وقد صرح (مارك جنزبيرج) السفير الأمريكي السابق في المغرب، وأحد الخبراء الأمريكيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط بأن أمريكا تواجه هزيمة في حرب الأفكار، رغم ضخامة الإمكانات المرصودة لها، وقال في حديث له نشرته صحيفة (الواشنطن بوست) : (نحن نُهزم في حرب الأفكار لسببين: الأول: أننا تركنا الساحة للمتشددين الإسلاميين ليزاحمونا بما عندهم، والثاني: أننا لم نساعد حلفاءنا بالقدر الكافي في مواجهة هؤلاء المتشددين) .
ومؤخراً صدر للبنتاجون تقرير ـ كان سرياً ـ عن نتائج الحرب الأمريكية العالمية على ما تسميه بالإرهاب، اشتمل على انتقادات حادة لإدارة بوش لهذه الحرب، وقد أعد التقرير (المجلس العلمي للدفاع) في البنتاجون، واختص هذا التقرير بوضع تصور عن كيفية كسب حرب الأفكار ضد ما أسماه: (الجماعات المعادية لأمريكا) ، ونصت خلاصة التقرير على ضرورة العمل على إجراء تحول في الاتصالات الاستراتيجية للولايات المتحدة بعد أن فشلت في إيصال رسالتها في الداخل والخارج عن أهمية الحرب على الإرهاب، وبدأت تخسر معركة الأفكار أيضاً. وأكد التقرير على أن أساليب إدارة بوش كانت فاشلة في إدارة تلك الحرب بشِقَّيْها العسكري والفكري، وأشار إلى أن جموع الشعوب الإسلامية لا تكره أمريكا لذاتها، ولا تكره الحرية التي تنادي بها؛ ولكنها تكره سياستها التي يحركها بوش وفريقه منذ بداية الألفية الثالثة، وعبَّر التقرير أيضاً عن القلق من حالة الارتباك الحادة التي وضعت أمريكا نفسها فيها عندما سلكت تكتيكات خاطئة لمحاربة الإرهاب، تسببت في الوصول إلى خلل جسيم في استراتيجية تلك الحرب، وجاء فيه: (إن الولايات المتحدة قد تورطت في صراع عالمي بين الأجيال بشأن المعتقدات والأفكار، لم يعد قاصراً على مواجهة بين الإسلام والغرب فقط، بل بين الغرب وبقية العالم. ولأجل كسب هذه المعركة العالمية الخاصة بالأفكار ينبغي اعتماد سياسة جديدة للعلاقات تعتمد على التعامل مع الواقع كما هو على الأرض، لا كما يريد ساسة أمريكا) .
لكن مع تلك الهزيمة التي تبدو جسيمة في هذه الحرب الفكرية، قياساً بما رُصد لها من إمكانات، وما رُسم لها من توقعات، فلا يزال هناك إصرار وعناد على مواصلة (حرب الأفكار) ولو بأساليب أُخرى.
وقد صدر في فبراير من العام الماضي، التقرير الدوري للبنتاجون ـ والذي (يصدر كل أربع سنوات) ـ كُشف فيه عن أن الحرب ضد (الإرهاب) بشِقَّيْها: الفكري والعسكري هي حرب طويلة، وأنها يمكن أن تستمر لثلاثين عاماً أخرى، وأنها تمثل المرتكز الأكبر في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنوات عديدة قادمة، وأكَّد التقرير على أن العالم كله هو ساحة تلك الحرب، وليس بلداً واحداً، أو قارةً بعينها. وفي منتصف عام 2006م صدر كتاب بعنوان: (الخطوات العشر لإنزال الهزيمة بالإرهاب العالمي) من تأليف (هارلان أُولمان) كبير المستشارين في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بواشنطن وصاحب استراتيجية (الصدمة والذهول) التي أشار بها في غزو العراق، والتي حوَّلها إلى كتاب بالعنوان ذاته، وقد ركَّز ضمن خُطُواته العشر على أهمية الاستمرار في (حرب الأفكار) باعتبارها الحل الوحيد لتجاوز التحدي الناشئ عن توليد المبادئ الإسلامية لأجيال جهادية جديدة، في ساحات جديدة لا يمكن احتواؤها، ولا اختراقها بسهولة.
- عولمة حرب الأفكار:
في محاولة للتغطية على الفشل المتصاعد في مخططات وخطوات حرب الأفكار، لجأت الولايات المتحدة إلى محاولة عولمتها بدلاً من الاكتفاء بأمركتها؛ حيث اتجهت في الآونة الأخيرة إلى تقسيم الساحة الدولية إلى قسمين: قسم: يمثل (القيم) الغربية، وقسم: يمثل القيم الإسلامية، مثلما كان حال تقسيم العالم إبَّان الحرب الباردة إلى عالمين: (شيوعي ورأسمالي) . والواضح أن هناك محاولة لتشكيل تكتل فكري غربي ضد العالم الإسلامي على غرار التكتلات الاقتصادية والتحالفات العسكرية، وقد أطلق بوش الأرعن أيضاً شرارة هذا الشر، ورفع شارته عندما تحدث في شهر مايو عام 2006م، عن خطر ما أسماه (الفاشية الإسلامية) ، حيث اعتبرها وريثة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والشيوعية الروسية التي كافحها العالم الرأسمالي خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، إلى حين سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعدها ذكر بوش ما وصفه بـ (الفاشية الإسلامية) ست مرات خلال ثلاثة أسابيع في خطبه وتصريحاته، قبل انتخابات التجديد النصفي لعام 2006م، حيث كانت عينه وعين نائبه (ديك تشيني) على فوز حزبهما في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2008م، والتي تمنيا لو يفوز فيها مرشح الجمهوريين لاستكمال ما بدأه تحالف الإنجيليين واليهود المحافظين.
وقد تحدث بوش في كلمته التي تكلم فيها عن ما أسماه (الفاشية الإسلامية) عن ضرورة حشد العالم في مواجهتها؛ لأنها ـ كما قال ـ: (تجسد عدداُ هائلاً ممتداً في أنحاء العالم، يمثل خطراُ أشد من خطر موسوليني وهتلر وستالين معاُ) !
يعتبر المنظرون الفكريون في إدارة بوش أن (الفاشية الإسلامية) تشمل السنة والشيعة معاً، وخاصة أن إيران برهنت على عدائها عندما شنت هجوماً على (الدولة العبرية) من خلال أنصارها في لبنان صيف 2006م. وهو ما يدل في نظرهم على أن الخطر الإسلامي يتحول من خطر مجموعة من الحركات والنخب الفكرية إلى خطر أنظمة وحكومات تحمل فكر العداء والحرب ضد مطامح الغرب.
ويهدف ترويج مصطلح الفاشية الإسلامية إلى إقناع الأمريكيين والعالم بوجود خطر كبير، يستدعي ضرورة البقاء العسكري في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، وضرورة استمرار الحرب العالمية على (الإرهاب) بشِقَّيْها: العسكري والفكري.
- نقاط للتأمل:
- حرب الأفكار التي تشنها الولايات المتحدة وحُلفاؤها، هي في النهاية حربٌ لحساب الفكر الليبرالي الرأسمالي، الذي انتهى إليه نصارى الغرب بعد ثورتهم على الدين، وتعتبر (الليبرالية الأمريكية الجديدة) آخر صيغ هذا الفكر الذي يقوم على الترويج له في بلادنا تيار (الليبراليين الجدد) .
- الفكر الليبرالي مع تحلله من الثوابت والعقائد، إلا أن انحداره من خلفيات عقائدية، يهودية ونصرانية منحرفة، جعل معركته مع الإسلام ذات خلفيات دينية وهذا يُفسره تشبث كثير من المتنفذين السياسيين الغربيين بشعارات الدين، رغم علْمانيتهم وليبراليتهم.
- حرب الأفكار ـ بناءً على ما سبق ـ هي تسمية أُخرى لصراع الثقافات، الذي يظهر أنه قد بدأ قبل (صراع الحضارات) الذي بشَّر به أو دعا إليه المفكر اليهودي (صمويل هنتجتون) ، والذي سمَّاه المفكر الفلسطيني (إدوارد سعيد) بـ (صراع الأُصوليات) . وبما أنَّ الأُصوليات، هي خُلاصات العقائد، فإنَّ الصراع يتمحض مع الوقت بين العقائد الباطلة كلِّها، والعقيدة الإسلامية الصحيحة.
- الصراع بين الصحيح والمحرَّف من العقائد، هو جوهر (حرب الأفكار) الراهنة، والإسلام (غير المحرَّف) يُمثله في أنصع صورةٍ منهج أهل السنة والجماعة، ولهذا فإن حَمَلة هذا المنهج هم المستهدفون الأوائل في حرب الأفكار، مرةً باسم الأُصوليين، ومرةً باسم السلفيين، ومرةً ثالثة باسم الوهابيين، ولهذا نجد تقارير (معهد راند) وغيرها، تصبُّ في اتجاه تجييش العالم بكُفاره ومنافقيه ومرتديه ومبتدعيه ضدَّ أنصار هذا المنهج، الذي يمثل الدين الصحيح.
- (حرب الأفكار) تعكس شمول المواجهة مع أمة الإسلام، وكما يحشد الغرب لحروبه العسكرية الجيوش والمعدات والإمكانيات، فإنه يجهز لحروبه الفكرية جهود العشرات من مراكز التفكير ومعاهد الأبحاث، مستدعياً تجاربه التاريخية ـ وبخاصةٍ مع الشيوعية ـ ومحاولاً في الوقت ذاته تجنيد طابور خامس من المرتزقة الفكريين في بلاد العرب والمسلمين، بحيث يكونون رديفاً لجيش الباحثين والمفكرين في تلك المراكز الفكرية الغربية، ولعل تقرير (مؤسسة راند) الأخير، عن إنشاء شبكات أو جماعات لتيار (الإسلام المعتدل) أو (الإسلام العلماني) ، يؤكد هذا التوجه.
- مع كل ما يبدو من إشاراتٍ على الهزيمة الأمريكية والغربية في (حرب الأفكار) فإنَّ هذا لا ينبغي أن يصرفنا عن استشعار خطرها، والاستمرار في تطوير الأساليب للتصدي لها، باعتبارها أدقَّ وأخطر من الحرب العسكرية؛ لأن حرب الأفكار بالمعنى الذي سبق استعراضه، هي حرب باردة جديدة، وهي أخطر من الحروب الساخنة؛ لأنها تستهدف ما في العقول والقلوب، بينما تستهدف الأُخرى ما تحت الأيدي والأرجل، ولأن الحروب الساخنة يمكن أن تتوقف أو تبرد، ولكن صراع الفكر والمناهج، يظل مستعراً.
والذي نعتقده، أنَّ الإسلام العظيم، عظمته ذاتية، ولذلك فإنه يسجل بخلوص الولاء له أمجادًا لأهله وحامليه، كما يسجل انتصارات ومعجزات عسكرية ـ بإذن الله ـ بأدنى الإمكانات المادية المستطاعة، كالذي هو حاصلٌ في العراق وأفغانستان وغيرهما، وبدون سندٍ ولا مددٍ لأنصاره إلا من الولي النصير سبحانه؛ فإنه سوف يحرز انتصارات أُخرى مماثلة في (حرب الأفكار) بعونٍ من الواحد القهار، مكور الليل على النهار.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . [يوسف: 21]
__________
(1) النازية: من كلمة (nazi) ، وهي اختصار للحروف الأولى من عبارة (حزب العمل الاشتراكي الألماني) ، وقد نشأ هذا الحزب كردِّ فعل للأزمات التي واجهت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، كي يواجه الفساد الاقتصادي، ويُوحد العمال، ويعيد الكبرياء الوطني لألمانيا، وقد التحق به هتلر، وتدرج فيه، حتى صار زعيماً له، ووجه سياسة الحزب نحو إقامة دولة ألمانية قوية وموحدة، تقوم على أساس تفوق العنصر الآري، ولهذا تعالى الألمان في ظلِّ النازية على الأجناس الأخرى، وحاولوا السيطرة على الشعوب المجاورة تحت زعامة هتلر، وقد نجح هتلر بالفعل في اجتياح العديد من بلدان أوروبا، بالتحالف مع الفاشية (الإيطالية) ، ولكن بقية الأوروبيين ومعهم الأمريكيون والروس، اجتمعوا ضد ألمانيا وحلفائها وهزموهم في الحرب العالمية الثانية.
(2) الفاشية: مصطلح الفاشية (fascism) مشتق من الكلمة الإيطالية (fasces) ، وهي تعني الحارس أو الحامي، وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأ استعمال هذه الكلمة للإشارة إلى مجموعة من الثوريين الاشتراكيين، وقد شكَّل (بنيتو موسوليني) جماعة برلمانية مسلحة عام 1919م من الفاشية، وكانت معادية للرأسمالية، = = وتحالف الفاشيون بزعامة موسوليني مع النازيين بزعامة هتلر لتحدي الرأسمالية الليبرالية، ولهذا اقترنت الفاشية بالدكتاتورية، وعندما أصبح موسوليني رئيساً لوزراء إيطاليا، أقام الحكومة على حزب واحد هو الحزب الفاشي، وتمكنت هذه الحكومة من إسقاط العديد من النظم الرأسمالية الديموقراطية في أوروبا، لكن الحرب العالمية الثانية شهدت سقوط الفاشية، كما شهدت سقوط النازية، وبقي الصراع فقط بين الشيوعية والرأسمالية، حتى انتهاء الحرب الباردة، وتفرُّد الرأسمالية بزعامة العالم تحت قيادة أمريكا، التي أحلًّت الإسلام نِدّاً بديلاً للندِّ الشيوعي المهزوم.
(1) سبق لمجلة البيان أن عرضت ذلك التقرير الأخير في العدد (236) .(238/14)
الإسلام ينتصر في تركيا
د. كمال حبيب
تركيا، التي نراها اليوم، مساحتها أقل من مليون كم2، ولكنها تكاد تعبر عن الموجة الكبرى الثانية من الفتح الإسلامي الذي قاده العثمانيون استكمالاً لجهود السلاجقة الأتراك في بداية القرن الثالث عشر الميلادي.
ومدينة إسطنبول الضخمة التي تتوزع بين قارتي آسيا وأوروبا، ويشرف عليها في الجانب الأوروبي المسجد السليماني الضخم، كما يبدو في الأفق (القصر الضخم) الذي حكم العثمانيون منه العالم والمعروف بـ (طوب قابو) ، وبها مسجد محمد الفاتح ومسجد الصحابي الجليل (أبو أيوب الأنصاري) وقبره، والسور القديم الضخم للقسطنطينية (مركز العالم الأرثوذكسي الإمبراطوري قبل أن تصبح: إسلام بول) - أي مدينة الإسلام - ومسجد آيا صوفيا الذي كان كنيسة ولا يزال في غالبه متحفاً حتى اليوم بضغوط غربية ـ هذه المدينة لم يستطع (أتاتورك) تحمُّل العَبَق الإسلامي القوي فيها، فهرب إلى أنقرة التي يشعر زائرها بالضيق؛ فليس بها سوى بعض التماثيل ومؤسسات الحكم العلمانية التي أقامها (أتاتورك) .
تعبير: (ترك) و (أتراك) و (تركيا) لم يكن معروفاً أيام الدولة العثمانية؛ حيث لم يكن هناك انتماء للقومية والعرق، وإنما الانتماء للدولة العثمانية باعتبارها جامعة لشعوب متعددة تحترم الإسلام ونظامه، وتدين بالولاء للسلطان والخليفة والخلافة باعتبارها أحد رموز الإسلام وعنوانه. فالتركي كان تعبيراً عن عدم التحضر في السلوك، ولم تصعد تعبيرات الترك هذه إلا مع انهيار حكم الدولة العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد سنة 1908م، وهو العصر الذي بدأ بحكم (الاتحاد والترقي) وانتهى بقمة جبل الجليد متمثلاً في (كمال أتاتورك) 1923م وهو العام الذي تأسس فيه (حزب الشعب الجمهوري) الذي ظل يحكم تركيا منفرداً حتى عام 1946م.
تعرضت تركيا للاحتلال الكامل من دول الحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، واحتل اليونانيون الأعداء التقليديون للعثمانيين والإسلام وتركيا منطقة إزمير، ودخلوا عاصمة الخلافة الإسلامية ـ آنذاك ـ في مشهد حزين أعاد للأذهان دخول التتار لعاصمة الخلافة العباسية بغداد في عام 1258م، وكانت هناك حرب للتحرير هي التي بزغ فيها نجم (أتاتورك) الذي كان (ياوران) للسلطان والذي بدأ المقاومة بتحريض منه وبأموال دفعها له، ولكنه تمرد عليه.
اتفاقية لوزان عام 1923 التي منحت تركيا الاستقلال هي معاهدة دولية كان ضمن بنودها إسقاط الخلافة العثمانية، وهي رغم ضعفها بعد السلطان عبد الحميد ولكنها كانت رمزاً يسعى مشعلو حرب (المسألة الشرقية) إلى إنهائها بإعلان إسقاط الخلافة، وقام (أتاتورك) بذلك وكوفئ بتتويجه وكيلاً للحضارة الغربية على جسد تركيا التي كانت قلب دار الإسلام.
\ علمنة تركيا:
العلمنة تسللت إلى أفكار المثقفين في العالم الإسلامي من خلال التأثر بالثورة الفرنسية. والثقافة الفرنسية هي التي كانت سائدة في الدولة العثمانية وفي حواضر الإسلام الكبيرة مثل مصر، وظهر هذا الاتجاه بقوة داخل مؤسسة الخلافة ذاتها، معتقدةً أن الهزيمة أمام الغرب حلها يكون باتباع قِيَمه والتزام حضارته واتباع سننه، وجاء (أتاتورك) ليعبر عن هذا الاتجاه ليس كقائد تيار فكري وإنما كحاكم يمسك بالسلطة والثروة وبإرادة نافذة لا يمكن مقاومتها أو الاعتراض عليها.
وهناك دراسات عديدة تتحدث عن الأمراض النفسية التي كان يعاني منها (أتاتورك) وهذا ليس اسمه الحقيقي، فاسمه (مصطفى كمال) ولكن جنونه دفعه لتغيير كل الأسماء القديمة واختيار أسماء جديدة؛ فـ (أتاتورك) معناه أبو الأتراك؛ فهو كان يعتقد أنه الباعث الحقيقي لنهضة تركيا وتقدمها، ومَنْ يسافر لتركيا يلاحظ أن جميع تماثيل أتاتورك تشير إلى الغرب، أي أن الغرب هو الوجهة التي على تركيا أن تتجه إليها.
ظل نص (الدين الرسمي لتركيا هو الدين الإسلامي) حتى قبل وفاة (أتاتورك) بعام أي حتى عام 1937م، وكان آخر تعديل في الدستور التركي الذي عرف حوالي 10 تعديلات، وأثبت في المادة الثانية من الدستور التركي أن (تركيا دولة علمانية) واعتُبر نصاً لا يمكن تغييره. وكل تعديلات الدستور التركي كانت في اتجاه حذف كل ما له صلة بالإسلام من آثار العثمانيين. ومن آخر ما بقي من الشريعة (الأحوال الشخصية) . وصارت تركيا حتى في (الأزياء) التي يرتديها الرجال والنساء في كل أوضاعها المؤسسية والدستورية والقانونية ـ صارت علمانية لا مكان للدين الإسلامي فيها مطلقاً، ومثَّل ذلك كارثة كبيرة لكل العلماء والمثقفين والمدرسين والخطباء والوعاظ والقادة الذين اعتبروا الإسلام والخلافة جزءاً مهماً من وجودهم وحياتهم، فضاقت بهم تركيا الجديدة، وهاجروا منها في أفواج، تشير المعلومات إلى أن من هاجر إلى مصر وحدها بلغ أكثر من مئة من العلماء والوجهاء والمثقفين وأكابر القوم، وكان على رأسهم العلاَّمة شيخ الإسلام (مصطفى صبري) ، والشاعر العظيم (محمد عاكف أرصوي) الذي ألَّف نشيد الاستقلال لتركيا والذي لا يزال جزءاً من ثوابتها إلى اليوم، وهو يمثل أحد رواد الحركة الإسلامية في تركيا.
في فترة حكم (أتاتورك) المرعبة التي تشبه حكم (ستالين) في الاتحاد السوفييتي الغابر، تعرَّض الكثير من العلماء للموت شنقاً، وأذكر أنني بينما كنت أسير مع أحد الأصدقاء حول مسجد الفاتح بإسطنبول، أشار مرافقي إلى مكان وقال لي: هنا كانت تُعَلَّق جثث العلماء المعارضين لهذا الطاغية.
وظل حزب الشعب يحكم وحده ويرأسه (أتاتورك) ، ولم يتحمل المعارضة له حين جاء بصديق له اسمه (فتحي أوقيار) وجعله يؤسس حزباً اسمه (الحزب الجمهوري الحر) ودخله معارضو (أتاتورك) ومزقوا صوره وداسوها بالأقدام، ولم يتحمل (أتاتورك) ذلك فأغلق الحزب المذكور.
وجاء (عصمت إينونو) من بعده وكان أكثر وحشية وعلمانية، غير أنه أدرك أنه لم يعد ممكناً لتركيا أن تظل بدون تعددية حزبية، فقبل تأسيس مجموعة من المعارضين لحزب الشعب حزباً جديداً سموه (الحزب الديموقراطي) ودخل الحزب الانتخابات البرلمانية على عجل وحقق نتائج مبهرة (حصل على 46 مقعداً) ، وفي الدورة التالية عام 1950م اكتسح البرلمان وشكل الحكومة، وتحول (حزب الشعب) إلى المعارضة. وبدأ الإحياء الإسلامي الأول في تركيا، فأعيد الأذان بالعربية، وبدأ القرآن يُبَثُّ من الإذاعة، وبدأت دورات تعليم الدين في الجيش، وافتتحت كلية الإلهيات ومدارس الأئمة والخطباء؛ وهكذا بدأت استعادة الإسلام لمكانته ودوره في الحياة من جديد بعد إرهاب أتاتورك وأتباعه.
ü الإسلام ينتصر:
مهندس النظام التركي أقامه على الجيش والنظام الحزبي. والنظام الحزبي يقبل بأحزاب الوسط في اليمين واليسار، والأحزاب الكبيرة هي المسيطرة، أما الصغيرة فلا مكان لها. ولم يكن للإسلاميين مكان في هذه اللعبة، ولكن بعد عام 1960م والانقلاب الأول لم تعرف السياسة استقراراً، وكان هناك أجنحة للإسلاميين في الأحزاب، ولكن في نهاية عام 1969م تأسست أول لبنة في الحركة الإسلامية المعاصرة في تركيا، وتأسس لها حزب مستقل هو (حزب النظام الوطني) الذي سرعان ما أُغلق مع انقلاب 1970م، ثم جاء (حزب السلامة الوطني) الذي دخل في عدد من الائتلافات، ولكنه أُغلق مع انقلاب 1980م. ثم تأسس (حزب الرفاه) في عام 1983م، واكتسح الانتخابات المحلية حيث أدى ممثلوه أداء متميزاً ونزيهاً، وكان منهم (طيب أردوغان) الذي كان عمدة لإسطنبول، ثم اكتسح الانتخابات البرلمانية عام 1995م وشكل حكومة ائتلافية في عام 1996م تولى رئاستها (نجم الدين أربكان) أبو الإحياء الإسلامي المعاصر في تركيا، ولكنه لم يكمل العام وتم الانقلاب عليه من الجيش فيما عرف باسم (انقلاب ما بعد الحداثة) أو (الانقلاب اللطيف) وخرج من الحكومة. ثم تأسس (حزب الفضيلة) وأُغلق من المحكمة الدستورية التي كانت كل مرة تغلق هذه الأحزاب بدعوى تحديها للعلمانية وانتهاك مبادئها.
ثم جاء (حزب العدالة والتنمية) للسلطة في نوفمبر عام 2002م مكتسحاً الحياة السياسية، وطرد منها الأحزاب الكبيرة التي تربعت على عرش السياسة التركية منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وأصبح له الأغلبية في البرلمان التركي (373 نائباً أصبحوا 357) ، وجاء (طيب أردوغان) أحد رموز الإسلاميين الأتراك في الثمانينيات من القرن الفائت، وتبنى حزبه ما عُرف باسم (الديموقراطية المحافظة) واستطاع أن يحقق نجاحات مهمة في الاقتصاد، وحقق الاستقرار للسياسة التركية التي فقدت معناها مع الأحزاب العلمانية اليمينية واليسارية معاً.
زوجات كل من (أردوغان) و (عبد الله غول) و (بولنت أرينج) وغيرهم محجبات، والحجاب ممنوع بحكم القانون التركي، والديموقراطيون المحافظون، ذوو الجذور الإسلامية هم اليوم في قلب رئاسة الوزراء، وهم دعم لا شك فيه للعودة للإسلام في تركيا؛ فهناك قانون اجتماعي ثابت في تركيا وفي غيرها حين يكون هناك حكومة غير يسارية أو ديموقراطية محافظة فإن الصعود الإسلامي يمضي إلى وجهته؛ ولذلك نجد أن الإسلام والصحوة الإسلامية يتعاظمان في ظل الحكومات التي لا تقمع ولا تأخذ موقفاً أيديولوجياً من الإسلام. هناك انتصار وصعود واطمئنان للإسلام في تركيا وهو ما يفسر خروج المظاهرات المليونية في أنقرة وتركيا من جانب العلمانيين؛ إنهم يحاولون قطع الطريق على الصعود الإسلامي الذي لا يمكن إيقافه.
ü تغيير قواعد اللعبة:
المشهد الذي نراه اليوم، وهو ترشيح (غول) لمنصب الرئيس هو استرجاع للأدوات الدستورية التي يمكن من خلالها استعادة الدولة التركية من أيدي العلمانيين والقوميين الذين يستلهمون تقاليد (أتاتورك) . وإذا كان (تورجوت أوزال) هو مَنْ أسَّس للجمهورية الثانية التي انتقدت العلمانية وطرحتها للنقاش العام، وهو من أعلن تمسكه بالصلاة علناً، وقام بأداء فريضة الحج، ورفض تصنيم (أتاتورك) . إن ما يجري اليوم من توتر وصراع هو محاولة استعادة (أردوغان) والذين معه للدولة التركية من الكمالية والعسكر؛ بحيث يتحول البرلمان إلى مؤسسة حقيقية تتخذ قراراتها دون تأثير من (مجلس الأمن القومي) ودون تأثر بتهديد رئاسة أركان الجيش. ومن يقول إن منصب الرئيس شرفي في تركيا فإنه لا يعرف ما يستحوذ عليه الرئيس من سلطات دون أي مسؤوليات.
لو استطاع الإسلاميون الذين يخوضون المعركة في تركيا اليوم أن ينجحوا في محاولاتهم تغيير قواعد اللعبة وتغيير الدستور العلماني وانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب؛ فإن هناك آفاقاً واسعة لتحوُّل حقيقي في المركب التركي العلماني الأتاتوركي الذي يمثل أكبر عقبة في حياة تركيا، وعندها سوف يحقق الإسلام والمسلمون تحولات اجتماعية وسياسية تعيد لتركيا وجهها المشرق والمعبر عن الإسلام بعيداً عن سطوة المعادين لأصالة الشعب التركي المسلم المغلوب على أمره، وتدخُّل العلمانيين من عسكر وأحزاب مشبوهة، وبوسائل الإعلام الكاذبة، وسطوة الاتجاهات الحزبية العلمانية و (العسكرتاريا) المدعومة من الغرب ضد أي تحرك إسلامي.
فهل يعي الأتراك تلك الأخطار، فلا يكونوا ألعوبة في يد تلك التيارات المشبوهة؛ حيث يجيّش فيه العامة والرعاع، بدعوى الحفاظ على إرث المؤسس المشبوه من قِبَل العلمانية التي أفسدت أكثر مما أصلحت، وجعلت تركيا ذيلاً في عالم اليوم تستجدي الانضمام لأوروبا، بعد أن كانت حاكمة ومؤثرة، وهذا ما يريده أعداء الإسلام ويعملون على استمراره لتكون تركيا دولة تابعة وغير مؤثِّرة؟
__________
(*) متخصص في الشؤون التركية.(238/15)
مفاجأة سارة
أحمد ذو النورين
بعد وضع اللمسات الأخيرة على آخر فصول لعبتها الديمقراطية بتعيين حكومة مبالَغ في ضعفها وانعدام تجربتها حسب خبراء السياسة عاشت موريتانيا أزمة أمنية متفاقمة، حين تفجرت قضية المخدرات، التي قلَّ أن تشهد دولة في العالم مثلها حجماً ووسائل (طائرتان وباخرة وزهاء مليون يورو ومئات ملايين الأوقية وعشرات السيارات وعبوات كبيرة من وسائل الاتصال ... ) ، والأدهى والأمرُّ من ذلك ما كُشف عنه من خيوط تبين ضلوع شخصيات نافذة على مستوى الهرم السياسي بشكل مباشر في هذه المشكلة.. في الوقت الذي تتالت فيه أسابيع من العطش المهلك والظلام الدامس على مدينة انواكشوط عاصمة موريتانيا إثر انقطاع المياه والكهرباء، حتى كادت أن تتحول إلى مدينة أشباح. ناهيك عن جملة كبيرة أخرى من القضايا التي ظلت البلاد تعاني منها منذ عهد ولد الطايع، ولم تعرف حلاً خلال الفترة الانتقالية.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيدُ
في خضم هذا الليل المدلهم والأفق الحالك لم يكن من الحكومة الجديدة إلا البحث عن بديلٍ جديد يصرف اهتمام الرأي العام عن كبريات الأزمات خاصة قضية المخدرات، التي تعد اختباراً حقيقياً لقدرة هذه الحكومة وكفاءتها، ومعياراً دقيقاً لقياس قوتها على تجاوز المعضلات ـ بديلٍ يحظى بالاهتمام نفسه وتقل مزالق الخوض فيه.
فوقع الاختيار على قضية بالغة الأهمية بالنسبة للشارع الموريتاني ... إنها قضية سجن العلماء الذين قبعوا في السجن تعسفاً منذ وقت طويل، دون أن يعرفوا محاكمة أو إنصافاً أو إنسانية بعد أن استُثنوا من العفو الرئاسي الصادر بُعَيْدَ انقلاب أغسطس 2005م.
وظلت السلطات الانتقالية خلال حكمها تماطل في تقديمهم للمحاكمة، فتعرضوا خلال ذلك لأبشع أنواع التنكيل وأفظع صنوف التعذيب من استخدام المناشير الحديدية وإطفاء السجائر في أماكن حساسة من الأجسام، إلى الاغتصاب والازدراء وسوء المعاملة ... {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] . يقدَّم اليوم هؤلاء للمحاكمة لا رغبة في إنصافهم، ولا سعياً إلى معاملتهم بعدل، بدليل شكاواهم المتطابقة من ضباط شرطة صرحوا بأسمائهم خلال المحاكمة ساموهم سوء العذاب أثناء التحقيق، ورغم الآهات والصيحات ومطالبة المحامين وذوي السجناء بالانتصاف من الظالمين، فإن هؤلاء الضباط لا زالوا مبجلين في عز وظائفهم، دون أن تستدعيهم العدالة لتبرئة ساحتهم، ولو من خلال التلفيق والكذب الذي عهدوه، كما تشهد عليهم محاضرهم بذلك.
لقد قُدِّم العلماء للمحاكمة بوصفهم كبش فداء لمافيا المخدرات في عهد الحكومة المنتخبة، كما سُجنوا من قبل قرباناً لمتصهيني البيت الأبيض في عهد ولد الطايع والحكومة الانتقالية.
لم تشمئز عدالة موريتانيا من الصور المروعة للتعذيب الذي تعرض له العلماء، ولكن لما تناولت بعض وسائل الإعلام الفرنسية موضوع محاكمتهم وشككت في جديته، وذكرت أن الأحكام في حقهم معروفة مسبقاً، وأن محاكمتهم ستطول ولن تكون نتائجها عادلة، ثارت لذلك ثائرة عدالة موريتانيا الميمونة، ورأت أن هذه المحاكمة باتت محفوفة بالمخاطر، ما دامت وسائل إعلام أجنبية تناولتها، فإما العدل والشفافية، أو الفضيحة والعار البوار.
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة
خرقاء تنفر من صفير الصافرِ
كان هذا الرأي السائد أثناء سير المحاكمة، غير أن النتائج جاءت عكس هذا التصور، بفضل من الله تعالى، ثم بجهود مشتركة من محامي الدفاع الذين كان لهم دور بارز في الذود عن هؤلاء، إضافة إلى بعض القضاة المنصفين الذين تحلّوا بالمسؤولية والنزوع إلى العدل، والذين من بينهم من ذكر أن الانتماء للعقيدة السلفية ليس تهمة يجرم عليها القانون الموريتاني..، وأن الدولة الموريتانية تعتنق النهج السلفي، وأن ذلك يعكسه نشيدها الوطني. إن تبرئة العلماء وإخراجهم من سجن ظالم جائر قبعوا فيه طيلة سنوات عجاف؛ بلا شك سيضفي مصداقية على الحكومة الجديدة بقيادة رئيسها (سيدي ولد الشيخ عبد الله) وسيمنحها بُعْداً شعبياً له تأثيره.
__________
(*) باحث وكاتب من موريتانيا.(238/16)
الجامعات العراقية تراجع علمي في ظل التدهور الأمني
حسين الدليمي
أريد أن أتحدث عن بعض الظواهر التي طرأت على المجتمع العراقي منذ أن وطئ المحتلّون ثرى بلاده بلاد الرافدين؛ حديثاً واقعياً سيكون عن ظاهرة (الاختطاف) و (هجرة الأساتذة) ، مع التعريج على بعض التداعيات الأخرى التي أفرزها الواقع؛ كـ (تسييس الجامعات) و (ظاهرة السلب والنهب) وغيرها، مستمداً من الله يد العون والتوفيق.
الاختطافُ..الداء الذي أنهك جامعات العراق
أستاذ وطالب..ومصيرٌ مجهولٌ.
3 ظاهرة غريبة تحلُّ في مجتمع العراق!
لم يكتفِ الواقع العراقي المأساوي الذي يعيشه الأستاذ والطالب في التدهور الأمني المتصاعد بعمليات الغدر والقتل والاعتقال، بل تجاوز ذلك إلى الحالة التي دائماً ما يصاحبها (الاغتيال) ، ألا وهي ظاهرة (الاختطاف) . فمن خلف أسوجة الحرم الجامعي، ومن خلف الأسلاك الشائكة تلوح نظرات الخوف والحزن على وجوه الأستاذ والطالب على حدٍّ سواء وهم لا يعلمون تلك المفاجئات التي قد يلقون من خلالها مأساتهم، فيتم خطفهم من جامعاتهم أو من طريق ذهابهم إليها أو إيابهم منها. هذا هو الواقع الذي يعيشه أبناء الرافدين، وهو ما أصبح جزءاً من الممارسات اليومية التي يرونها عياناً ويعيشونها جزءاً من واقعهم الذي فُرض عليهم.
3 أستاذ عراقي: السلعة الرخيصة لتصفية الحساب:
لعلَّ من نافلة القول أنَّ الأستاذ الجامعي والأكاديمي حاله حال أي مواطن عراقي في تلقِّي المآسي كل يوم؛ من قتل أو خطف أو اعتقال، ولكن فرصة التهديد أمامه أكبر؛ لأنه ثروة البلد العلمية التي تسعى أطراف كثيرة إلى إفقاره وإفراغه منها.
وتشير تقارير عديدة إلى وجود مئات من العلماء الذين تمَّ اختطافهم من بيوتهم أو جامعاتهم، وغالباً ما يكون مصيرهم القتل بعد أيام، وقد يبتزون فتؤخذ أموال طائلة للإفراج عنهم.
وقد حدث أن تمَّ اختطاف بعض أبناء الأستاذ لغرض التأثير عليه من أجل ترك العمل والهجرة خارج العراق، أو بقصد دفع الفدية التي غالباً ما تكون مبالغ لا يمكن تصورها؛ فيضطر الأستاذ إلى مغادرة البلد، أو بيع ما يملك من بيت - إذا كان يملك بيتاً - أو مستلزماتٍ أخرى؛ لغرض تأمين المبلغ الذي يطلق بموجبه سراح ولده أو أحد أفراد عائلته. ولا أريد الإطالة في هذا؛ لأنه واضح للعيان، ولا يخفى على أيِّ متابع للشأن العراقي، ولذلك أودُّ استغلال الفرصة للحديث بشكل أوسع عن ظاهرة اختطاف الطلبة، كما سيأتي في السطور القادمة.
3 طالب يعيش تحت رحمة الأنذال!
لا أريد أن أتحدث طويلاً عن موضوع اختطاف الطلبة في العراق، فهو أمر يكاد يكون ظاهراً أمام أعين الناس، ولكنني في هذه العجالة أودُّ أن أوضِّح بعض النقاط التي تتعلق بموضوع اختطاف الطلبة؛ ليطلع عليها القارئ الكريم، مما هو مثار استغراب وتعجب بخصوص هذه المسألة، ونبين هذه النقاط حسب التالي:
أولاً: اختطاف الطالبات ثم قتلهنَّ:
ظاهرة اختطاف الطالبات أمر له وجود في الشارع العراقي، فليس الطالب وحده هو المهدَّد بالاختطاف في العراق اليوم، بل تشاركه في هذه المأساة أيضاً أخته (الطالبة) ، فهي الأخرى وجدها أولئك القتلة فريسة سهلة لتحقيق مآربهم الدنيئة.
وحتى لا يطول بنا الكلام أودُّ أن أشير إلى مثال يدلِّل على صحة قولي. وهذا المثال مفادُه: أنه كانت جماعة من المليشيات الطائفية قد اقتحمت مبنى الجامعة المستنصرية، واختطفت ثلاث طالبات؛ اثنتين من كلية الآداب وواحدة من كلية التربية، وعُثر على جثثهنَّ في مشرحة بغداد بعد اغتصابهنَّ والتمثيل بهنَّ، وقد تواتر الخبر ونقلته جملة كبيرة من وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت، وقد أحدث هذا العمل الإجرامي هزة عنيفة في الشارع العراقي، على مستوى المواطنين، ولن ينسى أهل بغداد تلك الصرخات المدوِّية التي أطلقوها بعد أن فجعهم خبر اغتصاب الطالبات الثلاث والذي انتشر في بغداد انتشارَ النار في الهشيم، معزِّين بعضهم بعضاً، وانتشرت صرخات (الله أكبر) يتبادلها الناس فيما بينهم عبر رسائل الجوال، مطالبة المخلصين بأخذ الثأر من تلك المليشيات التي لا تفتأ أن تعتدي على أرواح الناس وأعراضهم، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل تعدَّى الأمر إلى مستوى فصائل المقاومة، وقد أصدرت جماعة أنصار السنة آنذاك بياناً تطلب فيه من الطلبة عدم الاقتراب من جامعة المستنصرية؛ لأنها ستكون هدفاً لضرباتها بعد أن تحولت إلى وكر للمليشيات الطائفية؛ كما نقلت بعض الصحف ووسائل الإعلام.
وقد أدانت هيئة علماء المسلمين في العراق جريمة اختطاف الطالبات ومن ثم قتلهنَّ بعد اغتصابهنَّ وتعذيبهنَّ، وأخذ الفدية من ذويهم على أمل إطلاق سراحهنَّ (1) ، وحمّلت الهيئة ـ في بيان لها نُشر على موقعها على الإنترنت ـ قوات الاحتلال والحكومة الحالية والمسؤولين عن المليشيات الإرهابية المسؤوليةَ الكاملة عن مثل هذه الجرائم غير الأخلاقية التي ترفضها جميع الشرائع السماوية والأعراف الإنسانية، وطالبت بوضع حدٍّ لهذه الأعمال البشعة، ومحاسبة المجرمين.
وقالت (منظمة الدفاع عن المرأة في العراق) ـ وهي منظمة مستقلة -: إن الطالبات الثلاث اغتصبن بطريقة بشعة على أيدي مليشيات تستبيح بغداد، من دون رادع، وتستقوي على العراقيين بتغطية من بعض المراجع الدينية والأوساط الحكومية التي تدعمها؛ على حد قول المنظمة.
وقالت: إنَّ هذا مؤشر جديد على انحدار الجرائم منحدراً أخلاقياً غير مسبوق في العراق (2) أمام أعين وأسماع الحكومة العراقية التي لا تكاد تحرك ساكناً، وتبدي مزيداً من الضعف كل يومٍ أمام المليشيات التي تتحرك مستغلة أجهزة الحكومة وتجهيزاتها ووثائقها في تنفيذ جرائمها ضد العراقيين المغلوبين على أمرهم (1) .
واستنكرت (مؤسسة عز العراق لحقوق الإنسان) تلك الجريمة، وقالت: إنَّ هذه الجريمة يندى لها جبين الإنسانية؛ كونها جريمة هزّت الضمير الإنساني للمجتمع العراقي، لما تمثله من انتهاك صارخ للقيم الاجتماعية والأعراف والتقاليد والشرائع الوضعية والسماوية.
وناشدت مؤسسة (عز العراق) مجلسَ حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والمنظمتين العربية والأوروبية لحقوق الإنسان، واتحاد المحامين العرب، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لإدانة هذا الفعل المشين، والعمل على وقف نزيف الدم العراقي الذي يتعرض له أبناء العراق عموماً والطلبة خصوصاً (2) .
وأدان (مؤتمر أهل العراق) - وهو إحدى التشكيلات المشاركة في الحكومة تحت قائمة التوافق ـ تلك الحادثة الجبانة، وقال في بيان له: تستمر المليشيات الطائفية الإرهابية بارتكاب أبشع الجرائم وأخسّها بحق أهل السنة، وبدعم من الخارج، وبلا مبالاة من حكومة المالكي، ضمن مسلسل طائفي مقيت يرمي إلى طرد أهل السنة من موطئ أجدادهم وآبائهم وديارهم في بغداد الرشيد، حيث بلغت الخسة والنذالة بهؤلاء المجرمين أن يقوموا باختطاف الطالبات من أهل السنة من جامعاتهن واغتصابهن وقتلهن ورمي جثثهن في دائرة الطب العدلي، وساق البيان الخبر آنف الذكر.
والغريب أن يظهر رئيس الجامعة المستنصرية (3) على شاشات التلفاز ينفي هذه الأنباء التي أشارت إلى اختطاف الطالبات من الجامعة المستنصرية، قائلاً: إنَّ تلك الأنباء عارية عن الصحة تماماً ولا أساس لها..، ولا داعي للتعليق على هذا النفي! ولا ندري هل قال ذلك بقناعة أم بضغوط عليه وهو الأقرب للصحة؟!
ثانياً: خطف الطلاب على الهوية:
وهذا أمر واقع في العراق أيضاً، ويكاد يعرفه القاصي والداني من أبناء الشعب العراقي، فمَنْ اسمه عمر - مثلاً - لا يستطيع الذهاب إلى جامعته؛ خشيةً من المليشيات الطائفية التي تقف في الطرقات وتفتش الشباب على الهوية أو اللقب أو منطقة سكناه، وإلى الله المشتكى.
ولنا على ذلك شواهد عديدة؛ فقد تحدث جمع غفير من الطلبة عن وجود نقاط تفتيش تدقق في البطاقات الشخصية للطلبة، وتعتقلهم على الأسماء، حتى تواتر القول عن الطلاب بـ: (إنَّ الوصول إلى الجامعات بات أمراً صعباً؛ بسبب تلك السياسة الحاقدة) .
وقد أكد المسؤولون أنَّ طلبة المحافظات العراقية ممن هم خارج بغداد انقطعوا عن الدوام في جامعات بغداد بسبب عمليات الاختطاف التي قد يتعرضون لها أثناء تنقلهم من جامعاتهم وإليها، وقد أكدت الدكتورة سعاد ياسين ـ المسؤولة عن دوام الطلبة في كلية العلوم بالجامعة المستنصرية ـ أن طلبة المحافظات انقطعوا عن الدوام، وذلك حسب ما نقلت صحيفة الحياة في عددها في 6/12/2006م، بالإضافة إلى تأكيد جمع من الأكاديميين بأن المشكلة سياسية، وإذا لم تُحلّ فإنَّ كارثة ستحل بالتعليم الجامعي في العراق، وهذا ما يؤكده ـ أيضاً ـ واقع الخبراء في العراق والمعاناة التي يلاقونها ليل نهار.
خبراء العراق
3 هجرة العقول: البداية والأسباب:
لم تكن هجرة العلماء من العراق وليدةَ الوضع المأساوي للبلد بعد الاحتلال، ومعلوم أن عدداً من الأساتذة هاجروا أيام كانت دولة العراق قائمة، وقد هاجروا إلى بلدان عربية وأجنبية متعددة. والواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تفتأ تغازل علماء العراق منذ التسعينيات من القرن الماضي؛ بقصد استقطابهم إلى مراكز أبحاثها وجامعاتها ومختبراتها، وتم سنُّ قانون خاص لهجرة العراقيين صادق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي في نوفمبر من عام 2002م ويقضي بمنح العلماء العراقيين الذين يوافقون على إفشاء معلومات مهمة عما يتعلق ببلادهم بطاقةَ الهجرة الأمريكية الخضراء، مستغلة بذلك الحصار المفروض آنذاك على العراق؛ كي تجعل من اللجوء إلى الدوائر الأمريكية حلاً معقولاً أمام العلماء الذين لا يطيقون الوضع البائس آنذاك.
ومما لا شك فيه أن هناك فرقاً كبيراً بين الهجرتين، فهجرة الأستاذ - في الغالب - قبل الاحتلال كانت أكثر ما كانت بسبب العوز المادي الذي كان يعاني منه الأستاذ، ويقدَّر راتب الأستاذ الجامعي قبل الاحتلال بما لا يتجاوز (عشرة دولارات) ، واستمر هذا الحال ما يقرب من عشر سنين، وبذلك يكون الأستاذ قد ذُبح بغير سكين جراء هذا العوز الذي طالما عانى منه أساتذة الجامعات. ولذلك نرى أن الأستاذ كثيراً ما كان يرد على فكره ترك البلد والهجرة في أرض الله بحثاً عن مكان يؤويه ويوفر له لقمة العيش الكريمة له ولعائلته. وقد اضطر قسم من أولئك الذين هاجروا إلى بيع كل ما يملك من مقتنيات للحصول على تأشيرة دخول وتذكرة الطائرة إلى الدولة التي كان يقصدها هو وعائلته.
أما الهجرة بعد الاحتلال فغالباً ما كانت بسبب ذلك الضيم والظلم اللذين طالا الأستاذ الجامعي؛ من اغتيال، أو خطف، أو اعتقال، أو تهديد بضرورة مغادرة البلد، أو اعتداء مشينٍ من قِبَل بعض الطلبة، وهكذا.
وكل هذه الأسباب لا تحتاج إلى أمثلة لتأكيدها؛ لأنها واضحة لكل متابع، سوى أنني أودُّ الإشارة إلى أن تهديد الطلبة لبعض الأساتذة والاعتداء عليهم بالضرب كان من أهم الأسباب التي تقف وراء هجرة الأستاذ الجامعي؛ لأنه أدرك أن قيمته العلمية وأسلوب التعامل الأخلاقي معه بدأ بالتخلل والتراجع، ففي جامعات العراق اليوم من السهل جداً أن يأتي طالب أو مجموعةُ طلابٍ ويعتدون على الأساتذة، كما حدث مراراً في جامعة بغداد؛ فعلى سبيل المثال - حسب بعض وسائل الاعلام - نذكر ما تعرض له أحد أساتذة كلية الإعلام بجامعة بغداد ممن يحمل درجة (الأستاذية = البرفسور) من ضرب من قِبَل ثمانية من الطلبة، وفي داخل مكتبه الجامعي، وطلبوا منه مغادرة الكلية باعتباره شخصاً غير مرغوبٍ فيه، وهذه الحادثة وقعت في الـ (20) من كانون الثاني (يناير) من عام 2005م.
3 لا تستغرب حينما تقرأ هذه الأخبار:
ومن الغريب أن هجرة الأساتذة والمفكرين قد تترافق مع عمليات الاغتيال أو الاختطاف وتداعياتهما، فقد يضطر الأستاذ إلى الهجرة بسبب ما يراه أمامه من اغتيال لزميله الذي كان يعمل معه، أو كانا يجلسان سوية في غرفة الأساتذة. وقد حدثت في العراق مآسٍ يندى لها الجبين، وأنقل عملية ذات رؤوس ثلاثة في آنٍ واحد؛ اغتيالاً، واختطافاً، وهجرةً، ففي الجامعة المستنصرية ببغداد حدث أن اختطف أحد أساتذتها - وهو الدكتور علي حسن مهاوش عميد كلية الهندسة - ثم وُجد مقتولاً بعد أيام، وكان أن قام إخوانه أعضاء هيئة التدريس بتشييعه، وأثناء عملية التشييع قُتل أحد الأساتذة أيضاً في قسم الهندسة الكهربائية، واختطف ثلاثة آخرون في اللحظة نفسها، بل وهاجر الدكتور عدنان كريم رجب فاراً بنفسه تاركاً أروقة الجامعة، ومودعاً قاعات الدرس؛ من أجل النجاة والسلامة (1) .
3 تقاريرٌ توضّح حجم الكارثة:
ذكرت تقارير أعدتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية أن عدد الأساتذة الذين غادروا البلد بسبب مخاوفهم قد تجاوز (3000) أستاذ جامعي وأكاديمي منذ الغزو الأمريكي للعراق في شهر نيسان 2003م؛ حسب ما نقلته صحيفة الحياة.
ونقلت صحيفة الرياض في 21/2/2006م أن الذين تمت تصفيتهم من الأساتذة الجامعيين العراقيين بلغوا (250) أستاذاً جامعياً، واختفى منهم مئات، وهرب عدد كبير يُقدّر بالآلاف.
ويبدو لي - والله أعلم - من خلال متابعتي أن إحصائية وزارة التعليم العالي غير دقيقة، فإنَّ عدد الأساتذة والأكاديميين الذين هاجروا يفوق ذلك بكثير، ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن العدد الأقرب إلى الصواب هو أضعاف ما ذكرته الوزارة، خاصة وأن رابطة التدريسيين الجامعيين أكدت أنه غادر في السنة التي بعد الاحتلال (2004م) ما يقرب من 1250 أستاذاً؛ حسب ما نشرته جريدة (الشرق الأوسط) في عددها (9407) بتاريخ 30/أغسطس/2004م.
هذا إذا وضعنا في الحسبان بأن تلك السنة (2004م) كانت من أخف السنين عنفاً، وإن ما بعدها من السنين زاد فيه العنف والقتل أضعافاً مضاعفة، ويستدعي توفر فرصة الهجرة بشكل أكبر، مما يؤكد أن العدد زاد أربعة أضعاف على الأقل؛ لأننا في السنة الرابعة للاحتلال. وقد ذكر الأستاذ الدكتور أكرم المشهداني - أستاذ عراقي ومتابع - أن حوالي عشرة آلاف من أعضاء هيئة التدريس والباحثين وحملة الشهادات والأساتذة والعلماء أُجبروا على الرحيل من العراق منذ بدأ الاحتلال الأمريكي، والعدد في تصاعد.
ويؤكد قول الدكتور المشهداني ما نقلته بعض وسائل الإعلام عن مصدر مسؤول في وزارة التعليم العالي العراقية أن عدد الأساتذة الجامعيين والأكاديمين الذين غادروا العراق يصل إلى أكثر من عشرة آلاف أستاذ، وقال المصدر: إنَّ هذا العدد يشكّل رقماً مخيفاً، خاصة وأن الظاهرة مستمرة.
هذا في الوقت الذي تشير فيه بعض الأرقام المعلنة إلى أن حوالي 17 ألفاً من العلماء والأساتذة والأكاديميين قد أُجبروا على الرحيل من العراق منذ بداية الاحتلال.
الحرم الجامعي أضحى مباحاً في العراق الجديد!
المضايقات الأمنية المختلفة
وأثرها في التراجع العلمي والمعرفي
3 مضايقات وانتهاكات:
كل ما يمكن للعقل أن يتخيله ما فعله المحتل وأعوانه في أرض العراق! لا أتحدث هنا عن تلك الانتهاكات الإنسانية التي كان يمارسها المحتل عند مهاجمة المدن الآمنة، ولكني أتحدث هنا عن انتهاكات ارتكبت بحق أولئك الأخيار من الأساتذة والطلبة.. مداهماتٌ مستمرة لمساكن الأساتذة، وأخرى للأقسام الداخلية التي يسكن فيها الطلبة، مع ما يقوم به الاحتلال من انتهاك صارخ للحرم الجامعي في كثير من الأحيان!
فليس غريباً في ظل الفوضى الأمنية العارمة أن تداهم مساكن الأساتذة الجامعيين بحجج متنوعة، وأعذارٍ واهية، وقد شهدنا مثل هذه العمليات مراراً، ويطول بنا المقام عند حصرها، نكتفي بذكر مثال حدث في يوم تزامنت فيه جريمتان بحق السلك العلمي والأكاديمي في العراق، وهو يوم 24/كانون الثاني/2007م، وقد تزامن في هذا اليوم أن قتل أستاذ من كبار علماء وخبراء الاقتصاد - وهو الأستاذ ضياء المكوطر - ودُوهمت مساكن الأساتذة في الجامعة المستنصرية من قِبَل قوات الاحتلال الأمريكي - فضلاً عن مداهمة الحرم الجامعي - والتي جاءت بشكل مريع ومخيف؛ حيث قامت تلك القوات بتكسير الأبواب الخارجية، وتحطيم أثاث المنازل؛ بحجة البحث عن جماعة مسلحة (1) . أما مداهمة الأقسام الداخلية فقد قامت بها القوات الأمريكية وقوات الجيش الحكومي أكثر من مرة.
ومداهمة الحرم الجامعي وانتهاك مكانته أضحى أمراً عادياً، ولا تفتأ أن تقوم قوات الاحتلال أو الحكومة أنَّى شاءت ومتى شاءت أن تدخل باحات الحرم الجامعي بآلياتها وعدّتها وتعتقل أو تفتش أو تقتل.. ولطالما اتخذت قوات الاحتلال بعض مباني الجامعات مقرات وثكنات عسكرية لها، فمن ينظر اليوم إلى جامعة الأنبار وكلياتها - مثلاً - لا أعتقد أنه سيتمالك نفسه إلا بعد أن تدمع عينه بسبب تلك المناظر المؤلمة التي يشاهدها جراء الأعمال الهمجية التي يقوم بها الاحتلال وأذنابه.. بالإضافة إلى الجامعات والكليات الأخرى التي تعرضت مراراً للمداهمة والتفتيش؛ كما في جامعة بغداد، والجامعة المستنصرية، والنهرين، وكلية المأمون، وكلية الإمام الأعظم، والجامعة الإسلامية وغيرها..
3 قطعوا الطرق فانقطعت مسيرة التعليم!
إنَّ وضع الطلاب اليوم في العراق ينحدر إلى الهاوية في ظل المستقبل المجهول، وبخاصة وضع الطالبات في الجامعات العراقية الذي يكاد يقترب من الوضع المأساوي بسبب غلق مداخل الجامعات، ونقاط التفتيش والحواجز التي تقيمها قوات الاحتلال والجيش الحكومي، فمَنْ مِنْ شابات العراق ترضى أن يُفتش بدنها من قِبَل غريب؟ إنَّ شكوى ودعوات الطالبات بهذا الخصوص وصلت إلى السماء، لكنها لم تلامس بعد نخوة المسؤولين في الحكومة العراقية الحالية، فقد تحدثت إحدى الطالبات عن خروجها من بيتها الساعة الثامنة صباحاً للوصول إلى الكلية، لكن دبابة أمريكية تغلق مدخل الجامعة الذي يؤدي إلى الكلية، تقول: وأنا أخشى الاقتراب من الدبابة الأمريكية، ولا أعلم هل أرجع إلى المنزل أم أنتظر حتى تذهب هذه الدبابة.. ولا أستطيع الدخول إلى كليتي؟ وأشارت تقارير كثيرة - حسب إسلام أون لاين - إلى أن سوء الأوضاع الأمنية، وكثرة قطع الطرق، وازدحام المرور بسبب ذلك القطع؛ كل ذلك أثّر وبشكل كبير على المسيرة الدراسية وطريقة انتظامها.
وتداعيات قطع الجسور والطرق تتمثل بتأخير الطالب المستمر عن حصصه الدراسية، بالإضافة إلى تأخره عن أداء الامتحانات في ساعاتها المحددة.
ولا نبالغ إذا قلنا إن ظاهرة قطع الطرق ونصب حواجز التفتيش عليها قد أسهما وبشكل خطير في ترك قسم كبير من الطالبات مقاعدهنَّ الدراسية؛ لأنهنَّ أصبحن عرضة للتفتيش لتجاوز تلك الحواجز، بما تنكره شريعتنا الغراء، وتقاليدنا العربية الأصيلة، والأخلاق الفاضلة!
سياسة الأحزاب
تغزو صروح العلم في العراق!
3 أقوال بلا أفعال:
في تأكيد الحكومة الحالية على عدم السماح للجامعات العراقية بأن تكون ساحة للصراعات السياسية تأتي تصريحات وزير التعليم العالي والبحث العلمي؛ حيث قال: إننا لن نسمح باستخدام أروقة الجامعات ساحات صراع بين الأطياف السياسية والمذهبية المختلفة في البلاد (1) .
وأشار بعض الأساتذة الجامعيين إلى أنهم يلمسون الآن اتجاهات عديدة في الجامعات العراقية، فبعد أن كانت الجامعة أسيرة الحزب الواحد، أصبحت الآن أسيرة أحزاب متعددة، متمثلة بتوجهات الطلبة والأساتذة، بل وحتى الموظفون الذين لا يألون جهداً في ممارسة نشاطاتهم الحزبية داخل الحرم الجامعي.
ونشاط الحركات والتيارات والأحزاب الدينية - كما يقال - واضح جداً، فأضحى واضحاً لدى الجميع أسباب مقتل العدد الكبير من الأساتذة والطلبة.
3 طلبةٌ أحرار يرفضون التبعية:
وقد عبَّر طلبة العراق أكثر من مرة في مظاهرات عديدة عن غضبهم بسبب تحول بعض الجامعات إلى مسارح لتصفية الحسابات السياسية بين الأحزاب العراقية؛ ومن هذه المظاهرات مظاهرة حاشدة انطلقت ببغداد صباح 4/11/2003م، واشترك فيها عدد كبير من الطلبة من أهمِّ مكونات الجامعات العراقية - كجامعة بغداد والمستنصرية والتكنولوجية - الذين تظاهروا أمام مقر قوات الاحتلال، ومجلس الحكم العراقي المؤقت ـ آنذاك ـ احتجاجاً على ما أسموه بـ (استغلال الحرم الجامعي لتصفية الصراعات السياسية في العراق) .. وهذه واحدة من كبريات المظاهرات التي تنطلق عادة في كل مناسبة، يؤكد فيها الطلبة استنكارهم الشديد لتدخل الأحزاب السياسية في مسيرتهم التعليمية.
3 الطلبة ضحايا التوجهات السياسية:
بقي علينا معرفة ذلك التأثير الذي تخلّفه حركة الأحزاب الكاتبة والسياسية على عقل الطالب الجامعي وطريقة تدريس الأستاذ تتبعاً للمخاطر التي يعيشها الاثنان معاً، فقد أشار جمع من الأساتذة إلى خطورة هذا الجانب، يقول الأستاذ ناظم عودة - أستاذ الأدب الحديث في جامعة بغداد -: لا يمكن أن ننكر وجود نشطاء للأحزاب والتيارات السياسية في الجامعات العراقية، وهذه الحقيقة التي يؤكدها كل منتسبي الجامعة: أساتذة وطلبة وموظفين، وهي سبب مباشر لتدنِّي المستوى العلمي، وبروز ظواهر غير صحية في (الحرم الجامعي) . إنَّ اغتيال العديد من الأساتذة والطلاب وبعض من يشغل مناصب إدارية رفيعة هو أحد التجليات البشعة لهذه الهيمنة الجديدة، ولعلَّ الأخطر من هذا هو الاعتداء على منزلة الأستاذ الجامعي من قِبَل موظفين أو طلاب ينتمون إلى أحزاب بعينها، لقد سبّب تدخل الأحزاب وميليشياتها التي تتخفى بازدياد الوظيفة أو التعليم اضطراباً في العملية التدريسية ذاتها؛ فتحولت المحاضرة إلى نوعٍ من الحرب بين الطالب والأستاذ، وانعكس هذا بدوره على انخفاضٍ في مستوى التحصيل العلمي للطالب، ولعل الأخطر من هذا هو الهيمنة الأيديولوجية لهذه الأحزاب على النشاط الثقافي في الجامعة، والذي كان نشاطاً مستقلاً يرفد الثقافة العراقية بالعديد من الكتّاب والأدباء والباحثين المؤثرين، أما الآن فتحولت الثقافة داخل الجامعات إلى ثقافة طقسية، معدّة للاستهلاك، وفي أحيان كثيرة تكون مناسبة لإثارة بعض المشاكل بين الطلبة أنفسهم.
إنَّ الرؤية المستقبلية لوضع الجامعات في ظل هذا التدخل تبدو أمراً مرعباً، ولذلك فإنَّ المخرج الحقيقي لهذه الأزمة هو أن تكون الجامعات مكاناً علمياً بحتاً مستقلاً، مخصصاً لطلب العلم، ونيل الثقافة، تخرج دفعات من حملة النور والمعرفة ممن يؤثرون في المجتمع وتكوينه العلمي والثقافي.
إنَّ النظام الإداري والعلمي للجامعات العراقية يحتاج إلى مراجعة دقيقة، يشترك فيها المختصون والقانونيون والأساتذة والطلاب أنفسهم لرسم سياسة علمية وثقافية وقانونية تستند إلى مرجعية دستورية تحمي الطالب من الاعتداء المعرفي والفكري والثقافي، وتحمي الأستاذ في ممارسة حريته في طرق أيِّ موضوعات ذات محمول علمي أو تاريخي من دون أيِّ حرج أو مضايقة.
إنَّ الجامعة هي الوجه الحضاري للبلد ومقياس نهضته وتطوره، فإذا ما أردنا لهذا الوجه أن يكون دائم النظرة، فيلزم أن نغذيه غذاءً ناصحاً، الذي يستمده من حرية الطالب والأستاذ ومن التزود بأجود أنواع العلوم والمعارف والثقافات. وتحرير الجامعات من الهيمنة الحزبية إنما هو تحرير للعقل العراقي من المؤسسة الحزبية التي تدجن العقل وتستعبده.
تلك عينة من آراء أساتذة الجامعات العراقية، وبدوري الآن أنقل رأي الطالب هو الآخر في هذا الصدد حتى تكتمل الرؤية بجوانبها كافة؛ ففي معرض الحديث عن الأحزاب وتدخلاتها في الأكاديمية الجامعية وتهميشها مقابل الصبغة السياسية يشير الطالب طلال عبد الهادي - طالب دراسات عليا في جامعة النهرين - إلى أثر هذه الأحزاب، وقال: من الممكن أن يلاحظ أي شخص يدخل الحرم الجامعي تأثير الأحزاب داخل الجامعة، متمثلة بالأستاذ المسيّس، بمعنى رؤية اضمحلال الصبغة الطائفية، حتى ترى الطلاب منقسمين فيما بينهم انقسامات شتى، وبدأ الطالب يشاهد لافتات متنوعة على أسوجة الجامعات الخارجية والداخلية؛ فهناك لافتات تحمل أسماء أو اتجاهاً معيناً، وثانية تحمل اتجاهاً آخراً، وأخرى تحمل اتجاهاً يناقض الاثنين.. وهكذا، حتى أصبحت الجامعات تضم بين ثناياها حركات طلابية متنوعة الأشكال، ومما هو مؤكد أن تلك الحركات مدعومة مسبقاً من الأحزاب السياسية أو الدينية المعروفة في العراق، ومن ثم يكون أولئك المنتمون خطراً كبيراً؛ مما بدأ يتضح لدى جميع الطلبة خوف الأساتذة من هؤلاء الطلبة، ليشكل هذا عامل ضعف كبير في العلاقة بين الأستاذ والطالب، فبدأ الأستاذ من أجل رغبة البقاء على حياته إنجاحَ أكبر عدد ممكن من الطلبة على حساب المستوى العلمي.
والأدهى من ذلك والأمرّ أن هناك من الأساتذة أنفسهم من ينتمي إلى مثل تلك الأحزاب السياسية أو الدينية، مما زاد الهوة بين الأستاذ والطالب، وأدى هذا ـ من ثم ـ إلى تغيير طريقة البحث العلمي من طريقته المثلى إلى طريقة أقرب ما تكون إلى طريقة تلقينية بعيدة كل البعد عن روح البحث العلمي الجادّ والاجتهاد، ومن أجل أن لا يدخل الأستاذ في إرباكات مع بعض الطلاب بدأ يستنسخ أغلب محاضراته ويوزعها على الطلبة، لتتحول قاعة الدرس إلى إرشادات بعيدة عن المنهج العلمي؛ وإلى الله المشتكى.
3 أمركة الجامعات العراقية: الغاية والطموح!
ومما له صلة وثيقة بموضوع تسييس الجامعات تأتي تلك الخطة المفضوحة لما يسمى بـ (أمركة الجامعات العراقية) . وقد أعرب الأساتذة وطلبة الجامعات في أكثر من مناسبة رفضهم القاطع لتلك الفكرة التي تسعى من خلالها قوات الاحتلال إلى إضاعة التاريخ المشرق للبلد والتلاعب بالمناهج التي رسمت حضارة بلاد الرافدين. وفي الوقت الذي رحب فيه أساتذة جامعيون بالتعاون مع الجامعات الأمريكية رفض الدكتور فائق جواد العزاوي - نائب رئيس جامعة النهرين ببغداد - مبدأ أمركة الجامعات العراقية، وقال: لكننا نرحب بالتعاون مع الجامعات الأمريكية، في إطار التعاون في الخطط والمناهج والأبحاث والدراسات العليا، وتبادل الزيارات والمنح الدراسية، واتفاقات التوأمة.
وأضاف العزاوي أيضاً: إن سلطات الاحتلال الأمريكية تفكر منذ أن وطئت أقدامها مدينة بغداد في تحويل جامعة النهرين ببغداد إلى جامعة أمريكية على غرار تلك الجامعات التي تسمى باسمها في لبنان ومصر.. وأشار إلى أن الأمريكيين لاحظوا أنَّ هذه الجامعة تختلف عن باقي الجامعات العراقية، وأن أسلوب الدراسة فيها أقرب ما يكون إلى النظام الأمريكي (1) ، على أن أساتذة عراقيين من جامعات مختلفة قد قاموا بالتنسيق لإعداد حلقة وصل مع المسؤول الأمريكي المشرف على وزارة التعليم العراقية للتوصل إلى اتفاق توأمة بين الجامعات الأمريكية والجامعات العراقية، مدعين أنه يأتي في إطار التعاون المطلوب من أجل الارتقاء بالمستوى التعليمي (2) ، وهذا مثال واحد من رفض جمهور الأساتذة الجامعيين لمبدأ أمركة الجامعات.
إننا نشك كثيراً في مثل هذا التنسيق المبطن الذي يراد من خلاله تغيير هوية الجامعات العراقية التي يمتد تاريخها لمئات السنين، وإن مجرد التفكير في إقامة مثل هذه الاتفاقيات يعني تراجعاً كبيراً في مستوى التفكير الذي يتمتع به أمثال هؤلاء الأساتذة، ولذلك جاء الرفض من الشارع العراقي لمثل هذه المشاريع المبطنة، كما جاء الرفض من طلبة الجامعات العراقية أنفسهم، ففي استطلاع أجراه موقع (إسلام أون لاين) أشار فيه عدد كبير من الطلبة إلى رفضهم القاطع لمثل هذه المشاريع، وأكدوا على أن العراق بلد له استقلاليته وحريته، وليس من المطلوب أن تكون الجامعات العراقية تابعة للجامعات الأمريكية، وإن الأساتذة العراقيين يتمتعون بكفاءة عالية ولهم القدرة على مواكبة التطور الذي يشهده العالم الغربي، وخاصة تلك الجامعات الأمريكية.
ومما يذكر أن مجموعة (كرييتف أسوشييش إنترناشيونال) ومقرها الولايات المتحدة الأمريكية قد حصلت في الـ 11/4/2003م على عقد مبدئي لمدة عام بقيمة مليون دولار لتطوير النظام التعليمي في العراق، وقالت المجموعة: إنها ستحاول تعزيز (نظام تعليم أكثر ديمقراطية) ، في إطار الخطة الأمريكية لإعادة صياغة المناهج التعليمية؛ ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة كلها.
إنَّ الانفلات الأمني الذي عمَّ العراق بعد دخول المحتل وسيطرة الاحتلال على كافة المرافق الخدمية والتعليمية هو الذي جعل الأمريكيين يفكرون بمثل هذه المشاريع؛ لأن الجامعات العراقية قد شهدت حالة من التردي والفوضى ما لم تشهده جامعة من أي جامعات العالم على الإطلاق، وانفلات الأمن كما ساعد على التفكير بتلك المشاريع ساعد أيضاً على أن تكون حرم الجامعات مأوى لتجمُّع القوات المحتلة داخلها واتخاذ ساحاتها ثكنات عسكرية تنطلق من خلالها، وإلا ففي أي وقت نسمع أن جندياً أمريكياً يُقتلُ داخل حرمٍ جامعي! فعلى سبيل المثال: أفادت تقارير عن أن جندياً أمريكياً توفي متأثراً بجراحه بعدما أصيب يوم الأحد الموافق 6/7/2003م إثر تعرضه لهجوم شنَّه مسلَّحون مجهولون داخل حرم جامعة بغداد، حتى وصفت تلك التقارير بأن هذا الهجوم يُعدّ الأول من نوعه الذي يقع داخل الحرم الجامعي.. إنَّ التداعيات التي خلَّفتها تلك العملية تتمثل بقيام قوات الاحتلال باحتجاز آلاف الطلبة بجامعة بغداد، لتحاصر الحرم الجامعي إثر ذلك الهجوم؛ حسب وسائل الإعلام.
وكانت إذاعة الـ (بي بي سي) قد نقلت عن شهود عيان أن جنديين أمريكيين كانا يتحدثان مع بعض الطلبة عندما جاء شخص من خلفهم، وأخرج مسدساً، ثم أطلق الرصاص من مسافة قريبة ليصيب أحد الجنود في الرأس، ثم لاذ بالفرار.. وتحدث بعض الطلاب بأنهم رأوا الجندي الأمريكي ينزف دماً وهو ممدد على الأرض.
ولا يتوقف الأمر عند مسلسل التدمير والنهب والتدهور الأمني الذي شهدته الجامعات فحسب، بل يتعدى ذلك إلى ما رافقه من مظاهر مقززة لنشر الأسلاك الشائكة والمتاريس والمطبَّات الاصطناعية داخل الحرم الجامعي حتى بدت الجامعات وكأنها أشبه ما تكون بالمعسكرات التعليمية.
لا؛ بل إنَّ بعض تلك الجامعات قد حُوِّل فعلاً إلى معسكر أمريكي كبير؛ كما في جامعة الأنبار، فقد رأيت بعيني تلك الحواجز العسكرية التي تقيمها تلك القوات على الباب الرئيسي الوحيد الذي يمكن أن يصل الطلبة من خلاله إلى كلياتهم وأقسامهم التعليمية، حتى إنَّ الطالب لا يستطيع الوصول إلى باب الجامعة إلا بعد قطع مسافة تقدر بثلاثة كيلو مترات، وعبور حاجزين عسكريين يتعرض فيها الطالب إلى أفضح عمليات الإهانة وهدر الكرامة بحجة التفتيش. وهذه الحالة مرت بي يوم أن كنت أراجع رئاسة الجامعة هناك قبل أشهر.
وبناءً على كل ما تقدم اشتكى مئات الآلاف من الطلبة من هذا الوضع المأساوي الذي تشهده جامعاتهم، ولطالما أعرب الطلبة بأنهم لا يستطيعون الاستمرار بدراستهم والحال هذه؛ لأن القوات الأمريكية تتجول داخل حرم الجامعة بأسلحتها ودباباتها وآلياتها العسكرية دون مراعاة لمشاعر الأساتذة أو الطلبة.. حتى قال بعض الطلاب الجامعيين: (إنَّ الأمر قد يتطور، ويدخل جنود الاحتلال معنا إلى قاعات الامتحان) .
وقد تحدث بعض الأساتذة عن غضبهم وتألمهم من وجود الدبابة الأمريكية في جامعتهم، حتى قالت أستاذة علوم الحياة بجامعة بغداد الدكتورة آمنة سعيد: (لا نعلم سبب هذا الوجود العسكري داخل حرم الجامعة، يجب أن يفهم الأمريكان أنَّ جامعتنا ليست معسكراً لقواتهم) .
جامعات العراق تنهبُ..وقواتُ الغزو تتفرج
3 حملة الهمجية الشعواء:
كانت الجامعات العراقية في أغلب محافظات البلد قد تعرضت لحملة كبيرة من عمليات السلب والنهب، وأفرغت من محتوياتها وأثاثها ومختبراتها، حتى اضطرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى تأثيث أغلب الجامعات من جديد بعد الاحتلال، وقد أعلن الدكتور زياد أسود وزير التعليم العالي العراقي ـ الذي تسلَّم منصبه بعد الاحتلال بخمسة أشهر تقريباً ـ أنه تمكن من الحصول على بعض المساعدات البسيطة لإعادة تجهيز الجامعات التي تمَّ نهبها عقب الاحتلال في 9/4/2003م، وقال: إنَّ الكثير من الجامعات لا تزال ينقصها الكثير حتى نستطيع أن نقول إن وضعها عاد كالسابق، وقال أيضاً: إنَّ بعض الكليات قد نهبت بالكامل؛ كالجامعة التكنولوجية ببغداد.
3 تحالفُ السرَّاق والغزاة:
ومن الجدير بالذكر أن (84%) من البنى التحتية لمؤسسات التعليم العالي قد تعرضت للأضرار جراء الحرب، وأعمال السلب والنهب التي طالت عموم الجامعات (1) .
والغريب أن تلك العمليات طالت مؤسسات التعليم، مع تفرج واضح للجنود الأمريكان، الذين اتخذوا من الجامعات العراقية مكاناً لهم منذ اللحظة الأولى لاحتلال العراق.. ولذا؛ فإنَّ عمليات السلب والنهب التي طالت الجامعات العراقية في يومٍ من الأيام ألقت بظلِّها على تعليمٍ يفتقر إلى أبسط مقومات النجاح، فالطالب الذي يدرس في الأقسام العلمية يفتقر الآن إلى تلك الأجهزة المتطورة التي تؤهله لأن يكون ناجحاً في مسيرته الدراسية فيخدم مجتمعه وأمته، والطالب الذي كان يجلس في قاعات التدريس في جوٍّ ملائم هو الآن يجلس في قاعة تبلغ درجات الحرارة فيها ما يتجاوز الـ (50) درجة مئوية.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن (84%) من مؤسسات التعليم العالي في العراق قد حرقت أو نهبت أو دمرت، علماً بأن النظام التعليمي في العراق كان الأفضل في المنطقة، وأن أهم ثروات العراق كان المستوى التعليمي المتقدم لأبنائه (2) .
والجدير بالذكر: أن مكتبات الجامعات نالت النصيب الأوفر من عمليات السلب والنهب، حيث تعاني مكتباتنا من فقر كبير للمصادر العلمية التي يستعين بها الطلبة على إتمام بحوثهم أو أطاريحهم العلمية، وقد أوضح الدكتور طلال الزهيري - أمين عام المكتبة المركزية بالجامعة المستنصرية - أن مكتبة المستنصرية فقيرة من المصادر العلمية التي يحتاجها الطلبة؛ كونها قد نهبت بعد الاحتلال، وقد أعيد إليها ما يقرب من 140 ألف كتاب، ومع ذلك لا تزال تعاني الفقر (3) .(238/17)
الهزيمة في العراق أم في أفغانستان: أيها أخطر على أمريكا؟!
د. محمد مورو
لماذا يعدُّ الغرب الهزيمة في أفغانستان أخطر من الهزيمة في العراق رغم أن العراق يتمتع بثروات بترولية هامة تجعله مطمعاً للقوات الاستعمارية، ورغم الموقع الاستراتيجي للعراق؛ كونه على بوابة الوطن العربي الشرقية، فإن الغرب يعدّ الهزيمة في أفغانستان أخطر من الهزيمة في العراق، وذلك لعدة أسباب تتصل بأن التحدي الرئيسي الذي يواجهه الغرب - من وجهة نظر الغرب طبعاً - هو الإرهاب الإسلامي.
الهزيمة في العراق لها بالطبع تداعيات استراتيجية كبرى، على مستوى خطورة الصعود الإيراني من ناحية، وعلى مستوى التداعيات بالنسبة لدول المنطقة، وأيضاً على مستوى إحساس الشعوب بالقدرة على مواجهة العدوان الأمريكي الصهيوني، وعدم قدرة آلة الحرب العسكرية الأمريكية على إخضاع الشعوب، الأمر الذي سيقلص قدرة أمريكا على فرض إرادتها بسهولة على الآخرين، ويرفع الروح المعنوية لقوى المقاومة للمشروع الأمريكي الصهيوني، ولكن هذا الأمر أيضاً يتحقق بالهزيمة الأمريكية الغربية في أفغانستان، صحيح أن زخم الهزيمة في العراق من الناحية الإعلامية كبير جداً، ولكنه في النهاية في إطار الدعاية والإعلام اللذين من الممكن احتواء آثارهما.
الهزيمة في العراق تعني أيضاً فشل المشروع الإمبراطوري الأمريكي الذي كان يخطط للقفز على سوريا ثم مصر وهكذا، وإخضاع المنطقة بالكامل للنفوذ الأمريكي الصهيوني، ولكن هذا الفشل في المشروع الإمبراطوري الأمريكي يعني فقط فشل أجندة اليمين المحافظ الأمريكي، ويمكن ـ من ثمَّ ـ لإدارات أمريكية أخرى أن تتخلَّى عن هذا المشروع بالكامل وتعود إلى سابق سياساتها في المنطقة، وهو في النهاية فشل لأحد المشروعات الأمريكية.
هذا بالطبع ليس بالأمر البسيط وله آثاره الكبيرة والممتدة، ولكن من الممكن لأمريكا أن تتحمل هذا الفشل خاصة أنها نجحت إلى حدٍّ بعيد في إحداث فتنة طائفية في العراق يمكن لها أن تمنع قيام قاعدة إسلامية (سنية) في العراق إلى فترة غير قصيرة يمكن أن تشكل خطراً على الغرب وأمريكا.
بخصوص أفغانستان فإن الأمر مختلف، فالهزيمة الأمريكية الغربية تعني مباشرة تحول أفغانستان إلى منطلق للمقاومة الإسلامية السنية ضد الغرب وأمريكا، وهي المقاومة التي لا تقبل ولا تملك عناصر التفاهم مع أمريكا، على عكس المشروع الشيعي، الذي لا يمانع من التفاهم مع الغرب وأمريكا على حساب السُّنّة، بل يسعى إلى ذلك سعياً حثيثاً، ولولا وجود مشكلات عويصة مثل الدولة الصهيونية والملف النووي الإيراني وغيرها؛ لأمكن لهذا التفاهم أن يتم.
من الناحية العرقية والمذهبية فإن أفغانستان يمكن أن تصلح قاعدة للمقاومة السنية، والتحالف الشمالي في أفغانستان وصل إلى حالة من التفكك والإحساس بعدم جدوى المراهنة على الأمريكان بحيث أنه لم يعد قادراً على منع تحول أفغانستان إلى قاعدة للمقاومة السنية، أضف إلى ذلك أن هذا التحالف لا يستند إلى عمق استراتيجي عرقي أو مذهبي؛ فباكستان ـ مثلاً ـ من الناحية الشعبية والمذهبية والعرقية ستنحاز إلى البشتون وطالبان، خاصة أنها لم تجد من أمريكا أي فائدة في إطار صراعها مع الهند، وهي ترى أن طالبان والبشتون هما عمق استراتيجي لها في النهاية في إطار المعادلات الإقليمية المعقدة في تلك المنطقة، أما شيعة العراق أو حلفاء أمريكا في الغرب فهناك امتدادات مذهبية لهم في إيران وعرقية بالنسبة للأكراد في العراق وكل من إيران وسورية وتركيا وهكذا، فإن طالبان لو استعادت السلطة ستكون أكثر استقراراً من أي حركة سنية تصل إلى نوع من السلطة في العراق أو بعض مناطقه، والمحصلة النهائية أن الحرب على الإرهاب ستتأثر بالهزيمة في العراق، ولكنها ستصاب بضربة قاتلة بالنسبة لأمريكا في حال الهزيمة في أفغانستان.
ولعل نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) قد شخَّص الحالة بشيء من الدقة عندما قال في خطاب له في أستراليا في زيارته الأخيرة إليها أن الجهاديين يمكن لهم بعد أن ذاقوا طعم النصر أن يشكلوا ملاذاً وقاعدة للإرهاب في أفغانستان، ومن ثم فإن قرار رئيس الوزراء البريطاني بسحب نصف قواته من العراق يتضمن أيضاً توجيههم إلى أفغانستان.
المؤشرات في أفغانستان تشير إلى غير صالح الاحتلال، ورغم وجود 33 ألف جندي من قوات حلف الأطلنطي، بالإضافة إلى 20 ألفاً من القوات الأمريكية في أفغانستان، ويتم زيادتهم باستمرار، وقد طلب الرئيس الأمريكي زيادة قدرها 10.6 مليار دولار لحساب الحرب في أفغانستان، وبرغم تسلُّم قائد أمريكي جديد هو (دان ماكنيل) يوم 4 فبراير 2007م من زميله البريطاني (ديفيد ريتشاردز) مهمةَ قيادة قوات الناتو في أفغانستان؛ فإن الحقائق على الأرض تظهر تصاعد قوة طالبان، فالخسائر في الأرواح، وعدد العمليات الاستشهادية والفدائية التي نفذتها عناصر طالبان في عام 2006م كانت كبيرة جداً، بالقياس إلى مستوياتها منذ عام 2001م حتى عام 2005م، وتعترف مراسلة مجلة (نيويورك تايمز) الأمريكية في أفغانستان أن حركة طالبان أصبح لها وجود مقاوم في كل ولايات أفغانستان من دون استثناء، وأن هناك ثلاث ولايات تسيطر عليها طالبان بالفعل وهي: أوروزغان، وهلمند، وقندهار، وهناك ثلاث ولايات أخرى تسيطر طالبان على أجزاء منها وهي: كابول وغازفي وبكتيكا، كما شهد بداية عام 2007م استيلاء طالبان على عدد من المدن الهامة، بل ووجود مساندة من جانب جنود منسوبين للحكومة لطالبان في هذا الصدد، كما حدث في الهجوم على مدينة موسى قلعة، الأمر الذي يعني وجود اختراق قوي لطالبان في صفوف الجيش الحكومي، ووجود تعاطف لدى هؤلاء الجنود مع حركة طالبان، وعدم قدرة الحكومة على السيطرة على جيشها، وهو أمر يضع أعباء كبيرة على عاتق القوات الأجنبية، وفي الحقيقة؛ فإن الرفض الشعبي الأفغاني لقوات الاحتلال يتزايد، والفشل والفساد المستمران لحكومة كابول أدّىا إلى عزلتها وعدم وجود تأثير لها خارج القصر الرئاسي الذي يحرسه حراس أجانب!
ووصل الأمر إلى حدِّ اندلاع مظاهرات تندِّد بالاحتلال في قلب العاصمة كابول، بل في مناطق من كابول ليست من الأغلبية البشتونية، بل تابعة لأعراق أخرى كانت تؤيد تلقائياً تحالف الشمال، وهذا يعني أن الإفلاس الحكومي ورفض الاحتلال وصل إلى كل الأعراق الأفغانية وليس البشتونية فقط، أضف إلى ذلك أن الإحساس الباكستاني بضرورة تأييد طالبان رغم أنف الجنرال (برويز مشرف) حاكم باكستان أو برضاه الصامت؛ أصبح يعبر عن نفسه علناً، فالسيد (محمد خان أوركزاي) حاكم الولاية الحدودية الشمالية الغربية الباكستانية المتاخمة لأفغانستان وصف حركة طالبان بأنها (حركة تقوم بحرب تحرير وطنية) ، مما دفع الإدارة الأمريكية والرئيس الأفغاني (حامد كرزاي) إلى اتهام باكستان بأنها توفر ملاذاً آمناً لمقاتلي طالبان، والحقيقة أن تعاون الشعب الباكستاني مع حركة طالبان هو تعاون يستند إلى أسباب دينية وعرقية ومن ثم فهو أقوى من أن تمنعه حكومة باكستان، بل إن شخصيات كثيرة داخل الحكومة ذاتها تعدُّ دعمَ طالبان جزءاً هاماً من المصلحة الباكستانية والأمن القومي الباكستاني.
وهكذا؛ فإن فشل حكومة (كرزاي) وفسادها، وعدم نجاح قوات الاحتلال في تقديم أي خدمات أو مزايا للشعب الأفغاني، وكذا إحساس الشعب الأفغاني بالمهانة بسبب الاحتلال الأجنبي، إلى جانب رفضه التقليدي المعروف والعتيد للاحتلال؛ جعل الشعب الأفغاني يتعاطف مع حركة طالبان التي نجحت بدورها في تنظيم صفوفها واستعادت زمام المبادرة، مما يعني أن أياماً عصيبة تنتظر القوات الأجنبية في أفغانستان، وأن العدَّ التنازلي لهزيمة الغرب في أفغانستان قد بدأ.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي.(238/18)
في المناطق الفلسطينية تسميم للأرض والإنسان
د. يوسف كامل إبراهيم
3 الفلسطينيون والتمسك بالأرض:
القتل والتشريد والتهجير والتسميم أدوات استخدمها الكيان الصهيوني ضد أبناء شعبنا الفلسطيني وذلك لدفعهم لترك أراضيهم وقراهم ومدنهم، ومن ثم ترك فلسطين والهجرة إلى خارجها. وتطبَّق هذه السياسة على كافة القرى والمدن الفلسطينية على طول ربوع فلسطين المحتلة، ولم يكتفِ العدو الصهيوني بهذه الممارسات عندما وجد الفلسطينيين يتمسكون بأرضهم ويتجذرون بها ويموتون دفاعاً عنها؛ فاتجه الكيان الصهيوني إلى تسميم هذه الأرض وتعريض حياة السكان وثرواتهم الحيوانية ومزروعاتهم للخطورة الشديدة؛ من خلال دفنه للنفايات النووية والمواد المشعة والمواد الكيميائية داخل الأراضي الفلسطينية؛ وتحويل الكثير من مجاري المياه العادمة التي تخرجها المستوطنات إلى الأراضي الفلسطينية، مما ساهم وساعد على انتشار الأمراض والأوبئة وحالات السرطان بين السكان الفلسطينيين وتعريضهم للموت البطيء.
3 جنوب الخليل ملوث بالإشعاعات النووية:
كُشف النقاب مؤخراً عن قيام السلطات الصهيونية بدفن نفايات نووية في الأراضي الفلسطينية، مما تسبب في زيادة حالات الإصابة بمرض السرطان. مصادر عديدة أكدت أن القرى الواقعة في جنوب جبال الخليل، في الضفة الغربية، شهدت ارتفاعاً حاداً بالإصابة بحالات من السرطان والتشوهات لم يسبق لها مثيل، وقد أكد مختصون أن سببها لا يمكن إلا أن يكون سبباً بيئياً. وحذّر أطباء ومسؤولون في منطقة جنوب الخليل من حالات السرطان المتزايدة التي تشهدها المنطقة بسبب الإشعاعات النووية المنبعثة في المنطقة.
ويبدو أن الأمر لا يقتصر على جنوب الخليل، بل يتعداه إلى قرى النقب المتاخمة لتلك المناطق التي تشهد حالات من السرطان والعقم والتشوهات، ما ينذر بخطر كبير.
إن الجو في جنوب الخليل ملوّث بالإشعاعات النووية؛ لقرب المنطقة من مفاعل (ديمونا) النووي، ولوجود العديد من مكبات النفايات النووية هناك، فضلاً عن عدم وجود حواجز إسمنتية توضع حول المفاعل أو المكب لصد هذه الإشعاعات، الأمر الذي قد يخفف أثرها لكن لا يخفيها نهائياً.
مصادر طبية عَزَتْ أعلى نسبة أضرار للبيئة والإنسان في منطقة جنوب الخليل، وتحديداً قرى جنوب الخليل، لِكونِ هذه المناطق هي الأقرب إلى مفاعل (ديمونا) ؛ إذ إن الإشعاعات النووية عدو للإنسان والحياة، وتمتلك طاقة كبيرة يصل تأثيرها إلى الجينات الوراثية لدى الإنسان، وتتأثر الكروموزومات عند الإنسان فينتقل هذا الأثر عبر الأجيال.
ويؤكد الدكتور سعادة، وهو من بلدة الظاهرية، أن انتشار الأمراض ووجود تشوهات وأمراض خبيثة فتاكة تحصد الأبرياء في قرى جنوب الخليل، في السنوات الأخيرة، ليس له تفسير سوى الإشعاعات النووية، مشيراً إلى أن عشرات الحالات من الظاهرية تعالَج حالياً في مستشفى بيت جالا. ويضيف: لقد وُلِدَ في الآونة الأخيرة طفل نصف وجهه أحمر، وتم اكتشاف سرطان الثدي لدى عجوز، الأمر الذي لا يمكن إرجاعه إلى عامل الوراثة؛ حيث هناك حالات تَشوُّهٍ وسرطان لدى عائلات غريبة بعضها عن بعض من عشائر مختلفة. كما أنه من خلال عمله في معالجة المرضى من أهالي جنوب الخليل وتحديداً الظاهرية، فإنه لا يبالغ عندما يقول: إن حالات السرطان أصبحت يومية في هذه المنطقة.
واستعرض عدداً من الحالات المرضية المصابة بالسرطان جرّاء الإشعاعات النووية، فهناك أطفال يولدون دون أيدٍ، ومنهم من يولد بتشوه في وجهه أو جسمه، وقد وُلِدَ أحد الأطفال بانحراف كامل في الوجه إلى جهة اليسار، كما أن الأورام الجلدية تنتشر بين الناس بسبب هذه الإشعاعات القاتلة، ولوحظ أن الرجال في قرى جنوب الخليل يعانون من تساقط الشعر بشكل كبير.
ويذكر الدكتور سعادة إحدى الحالات، وهي النمو غير الطبيعي للأمعاء عند أحد الأشخاص؛ حيث أصبح شكلها مثل ثمرة القرع، وهو تشوّه غريب من نوعه، منوّهاً إلى أن هذه الحالة تشكل خطورة كبيرة وتحتاج إلى بحث عميق للتعرف على هذا النوع من التشوهات الخطيرة، ما يؤكد أن السبب وراء ذلك هو الإشعاعات النووية التي تصل إلى جنوب الخليل من المكبات النووية التي يقيمها الكيان الصهيوني هناك.
وتعقيباً على ملاحظة ارتفاع نسبة مشاكل العقم عند الجنسين كليهما في قرى جنوب الخليل، وجد الدكتور سعادة أن هذه الإشعاعات هي المسبب الرئيس لمشاكل العقم.
رئيس بلدية يطا المهندس سامي شنيور نفى بدوره أحاديث أشارت إلى أن نسبة العقم بلغت نحو 60 %، واعتبرها عارية من الصحة وغير سليمة وليست مبنية على أسس علمية، مؤكداً في الوقت نفسه على تصريحات مدير صحة الخليل الدكتور نبيل السيد ودراسات الصحة التي تؤكد أن هناك تضخيماً في النسب والأعداد. وقال: هذا الأمر حسّاس للغاية، وقد أدى في بعض الأحيان إلى إثارة البلبلة والحرج والمشاكل بين العائلات.
ويبدو الأمر في غاية السوء، في ظل وجود مكبات نووية لم تستطع سلطة البيئة الفلسطينية تحديد أماكنها بدقة؛ بسبب التكتم الصهيوني، ولسيطرة الجيش على هذه المناطق؛ حيث يشكّل ذلك خطورة تحُول دون الكشف الميداني عن هذه المكبات، غير أن بعض السكان من مناطق مختلفة كان يبلِّغ عن قيام الجيش بتطويق منطقة معينة وتأتي سيارات خاصة تنقل هذه النفايات، ويتم إخفاء هذه المواد بمواد إسمنتية شبيهة بالصخور حتى يصعب التعرف عليها.
3 حبوب مضادة للمواد المشعة فقط لليهود:
التهديد الخطير الذي يشكله مفاعل ديمونا اضطر الحكومة الصهيونية لاحقاً إلى اتخاذ قرار بتوزيع حبوب مضادة للمواد المشعة على سكان البلدات الصهيونية المجاورة للمفاعل.
كما أنّ الجهاز الأمني الصهيوني صَادَقَ على توزيع هذه الحبوب لسكان هذه البلدات، غير أن القرار الأخير بهذا الشأن تُرِكَ لإقراره من قبل الحكومة. وقد سبق لهذا الجهاز أن قرر توزيع حبوب (اليود) التي يفترض بها أن تمنع تسرب المواد المسببة للسرطان إلى الجسم، لكنه تقرر في النهاية الإبقاء على هذه الحبوب في المخازن. لكن المسؤولين في الجهاز الأمني عادوا وقرروا مؤخراً، وبعد سلسلة من المداولات التي امتدت لأكثر من عامين، تقديمَ حبوب اليود المسماة (لوجول) ، لسكان يروحام وديمونة (المجاورتين للمفاعل النووي) وكذلك لسكان يفنة (المجاورة للمركز النووي في ناحل شوريك) ، تحسباً لأي طارئ.
3 النفايات السامة داخل وَحَوْل الأراضي الزراعية:
الاعتداءات الصهيونية تتكرر يومياً على البيئة الفلسطينية، وتلحق أضراراً جسيمة بالبيئة الفلسطينية، وتترك آثاراً خطيرة على حياة الإنسان. إن المحاولات الصهيونية لتهريب ونقل نفاياتها الصلبة، بما في ذلك النفايات الخطرة، ودفنها في الأراضي الفلسطينية ما زالت مستمرة وبشكل متواصل، ناهيك عمّا لا يتم كشفه والعلم به؛ كما يشاع عن دفن نفايات خطيرة في الأراضي الفلسطينية في جنوب الضفة الغربية بشكل سري دون علم أو معرفة أحد. ووصلت الأمور إلى حد الشروع في إقامة مكبات للنفايات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية؛ كما في محاولة إقامة مكب النفايات بموقع (كسّارات أبو شوشة) قُرْب دير شرف شمال غرب نابلس خلال العام قبل الماضي (نيسان 2005م) .
كما لوحظ أن العدو الصهيوني يقوم بكبِّ النفايات الخطرة بالقرب من الأراضي الزراعية وحقول الزيتون؛ كما حصل في أراضي قرية كفر جمال وأراضي قرية جيوس، وقُدِّرت مساحة الأراضي التي تدفن فيها النفايات بأربع دُونُمات، وقد لوحظ أن هذه المنطقة تتميز بأنها أراضٍ تحيط بها أراضٍ زراعية، خاصة حقول الزيتون. كما وُجدت نفايات خطرة عند تلة في قرية فلامية تطل على القرية من جهة وعلى مستوطنة (كوخاف يائير) من الجهة الثانية وبمساحة قُدِّرت بست دُونُمات. وقد لوحظ خطورة هذه المكبات من خلال ما يلي:
1 ـ أن هذه المكبات تقع على مقربة من أراضٍ زراعية تكثر بها البيوت البلاستيكية وأشجار الزيتون والحمضيات والجوافة.
2 ـ أن هذه المكبات تقع بالقرب من آبار المياه الأرتوازية.
والجدول التالي يشير إلى بعض المستعمرات الصهيونية وأماكن التخلص من نفاياتها الصلبة.
3 مكونات النفايات الخطرة:
النفايات المهربة من حيث طبيعتها ومكوناتها عبارة عن مزيج متنوع من الخشب والحديد والدهانات والأقمشة وبطاريات السيارات والألمنيوم وغيرها. فهي تشتمل إذن على نفايات تصنف على أنها خطرة كبقايا الدهانات والبطاريات، هذا إلى جانب ما تخلِّفه المصانع الصهيونية المقامة في المستوطنات، أو على حدود الخط الأخضر، من نفايات صناعية تشتمل على نفايات خطرة، علماً بأن غالبية هذه الصناعات محظورة داخل الكيان الصهيوني نظراً لمخاطرها على البيئة والصحة العامة. ومن هذه الصناعات (الصناعات الكيميائية، والمبيدات الزراعية، والمنظفات الكيميائية، وصناعة الألمنيوم، والجلود، والبطاريات، والإسمنت، والبلاستيك، والصناعات الغذائية، والصوف الزجاجي، والكحول، والخزف، والرخام..، وغيرها) . وتشتمل نفايات هذه المصانع على نفايات خطرة مثل: المعادن الثقيلة السامة؛ كالألمنيوم والكروم والرصاص والزنك والنيكل والأحماض والمعادن، والتي غالباً ما تلقى في المياه العادمة الناتجة عن المستوطنات التي تُصَرّف في الأراضي الفلسطينية المجاورة مسببةً تلوثها. كما تشتمل النفايات الخطرة على نفايات صناعية مثل: النفايات الكيميائية السامة؛ من رصاص، وزنك، ونيكل..، وغيرها، ونفايات طبية، ونفايات مشعة. وقد استُخدمت الأراضي الفلسطينية طوال سنوات الاحتلال مكاناً لدفن النفايات الخطرة من خلال عمليات تهريب منظمة؛ فقد تم رصد ما لا يقل عن 50 موقعاً في الأراضي الفلسطينية للتخلص من النفايات الصهيونية (بما فيها نفايات المستوطنات) . ومن أمثلة ذلك:
1 ـ في عام 1987م قام الكيان الصهيوني بدفن نفايات صلبة في مكب قرية عزون قرب قلقيلية.
2 ـ اكتشاف كميات كبيرة من النفايات الخطرة السامة من بقايا المواد الكيميائية بالقرب من قرى عزون وجيوس وتل صوفين قرب قلقيلية.
3 ـ في مارس عام 1999م تم اكتشاف 250 برميلاً تحتوي على نفايات سامة مجهولة مهربة من الكيان الصهيوني إلى قرية أم التوت في جنين.
4 ـ إنشاء مكب للنفايات الصلبة بالقرب من مستوطنة يافيت في غور الأردن، بعد نقله من منطقة العفولة داخل إسرائيل.
3 خطر الإشعاعات على خلفية دفن النفايات الخطرة: سرطان الدم، العقم، الإجهاض، تساقط الشعر:
آثار خطيرة جداً تتركها النفايات التي يتم دفنها في الأراضي الفلسطينية سواء أكانت هذه الآثار على الأرض أو على الإنسان؛ فالمصادر الطبية الفلسطينية تحدّثت عن وجود عشرات الحالات المصابة بالسرطان في الظاهرية، ووجود ارتفاع في نسبة مشاكل العقم عند كلا الجنسين في قرى جنوب الخليل، دفعت أهالي بلدة يطا إلى نشر مناشدة مفتوحة في جريدة (الحياة الجديدة) لإنقاذهم من هذا (الغول) الذي يتهدّدهم.
3 بلدة الظاهرية والسرطان:
الدكتور محمود سعادة، صاحب عيادة في بلدة الظاهرية، على تماسّ مباشر بمرضى السرطان وطبيعة إصاباتهم، ويمتلك العديد من الأدلة والشواهد، ولديه سجل دقيق يرصد فيه أحوال المرضى. يقول سعادة: يبدو أن الحرب القادمة هي حرب الرحم الفلسطيني، وقد ثبت علمياً أن الإناث عرضة للإصابة بالسرطان أكثر من الذكور، وتحدّث عن عشر نساء أجهضت الواحدة منهن أكثر من خمس مرات. ووصلت نسب الدم إلى درجة خطيرة من التدني، وازدادت حالات تساقط الشعر وجرثومة المعدة، كما وصل عدد المعاقين في بعض العائلات إلى أكثر من خمسة أشخاص. واستغرب سعادة أن يتم دفن الرؤوس في الرمال وإخفاء مثل هكذا قضايا لأسباب تتعلق بالسمعة والعيب وما إلى ذلك؛ حيث تتخوّف بعض العائلات من الإعلان عن حالات السرطان.
3 سرطان الدم:
صحيفة القدس أوردت في 26/4/2005م أن الطبيب الصهيوني ميخائيل شابيرا من مستشفى هداسا، أكد صحة المعلومات الواردة عن انتشار مرض سرطان الدم على نحو غير طبيعي في منطقة جبل الخليل، وبلدة يطا تحديداً، ولم يستبعد الطبيب الصهيوني أن يكون لذلك علاقة بمخلفات نووية وكيماوية خطيرة يتم دفنها في مناطق تتاخم تلك البلدة دون رقابة، موضحاً أن انتشار سرطان الدم لدى عشرات المواطنين يعني وجود تلوث خطير في مصادر المياه.
لم يكتفِ الكيان الصهيوني باقتلاع الأشجار وتدمير الممتلكات ونشر الرعب والدمار والتخريب وممارسته للمذابح الجماعية طوال سنوات الصراع، بل راح يضع الموت في بطن الفلسطيني، ولكن هذه المرة الموت البطيء؛ عبر دفنه للنفايات السامة والكيمائية والمواد المشعة داخل التجمعات الفلسطينية؛ فبدأت حالات الإصابة بالأمراض الخطير تظهر بأعداد كبيرة.
المراجع:
ـ وزارة شؤون البيئة.
ـ هيئة الاستعلامات.
ـ صحيفة الطريق.
__________
(*) أستاذ الجغرافيا، جامعة الأقصى، غزة، فلسطين.(238/19)
في عالم السياسة.. الكل ليس في واحد
أحمد فهمي
في الجانب المظلم من السياسة تصطفُّ عدة مبادئ ومفاهيم وسلوكيات؛ دوماً كان الخطاب السلفي يحذر منها، وحذر رموزه من تورط التيارات الإسلامية في الممارسات السياسية إلى الحد الذي يغرقها في طوفان من الهواجس والحسابات والاعتبارات السياسية التي تنخر في ثوابت الدين ومسلَّماته.
الآن يمر الخطاب السلفي بمرحلة تقويم ومراجعات ومحاولات تجديد وإصلاح؛ بعضها يأخذه الشطط مأخذاً بعيداً، وبعضها يتسم بالرشد والحكمة، لكن ما يبعث القلق هو تنامي ما يمكن وصفه بظاهرة (الهواجس) ، أي: الوقوع في دائرة احتساب ردود الأفعال والأقوال إلى الحد الذي يجعلها عنصراً رئيساً في رسم دائرة الحق والصواب.
إن الفهم السلفي بطبيعته - وهي إحدى مزاياه - لا يُغرق في المواربة والمداراة، لذا فهو يجنح دوماً إلى تأصيل أدائه وخطابه، وهنا مكمن الحذر، أن يؤدي الإغراق في الهواجس إلى تأصيلها وتحويلها إلى ثوابت، وهكذا يمكن أن نجد أنفسنا وقد وقعنا فيما حذرنا منه سابقاً؛ أي: في الجانب المظلم من السياسة.
من ناحية أخرى؛ فقد اعتدنا دوماً في العقود - وربما في القرون - الأخيرة على مواجهة عدو واحد، إستراتيجيتنا ورؤانا الفكرية تخصصت - غالباً - في مواجهة هذا النمط من العداوة، وربما كانت عهود الاستعمار مثالاً نموذجياً لذلك، فقد كان للبلاد الإسلامية المحتلة عدو واحد يلزمها مواجهته، ولكن في السنوات الأخيرة أصبح للمنطقة العربية ثلّة من الأعداء يملكون مخططات واضحة وطموحات طامعة، فهناك الولايات المتحدة وشرق أوسطها: الكبير، الجديد.. إلخ، وهناك الدولة العبرية وحلم التطبيع مع الأسواق العربية، وحلم إيران بإقامة قوة إقليمية نووية تسيطر على غالبية النفط العالمي..
في هذه الوضعية المركبة لا يصلح أبداً استخدام الإستراتيجية القديمة نفسها في مواجهة عدو واحد، ولكن الحاصل أن كثيرين لا يزالون يتمسكون بهذا النهج (الكل في واحد) ، والنتيجة: افتقاد القدرة على مواجهة ثلاثة أعداء في وقت واحد، تختلف إستراتيجياتهم ومخططاتهم وطموحاتهم، ويمكن أن يتوافقوا أو يتخالفوا على اقتسام الغنيمة.
والنتيجة العملية هي: استخدام رؤية رأسية في المواجهة وليس رؤية أفقية، بمعنى أنه للبَدْء في المواجهة يجب تسكين عداوة أحد الأطراف أو أكثر؛ للتفرغ لمواجهة الطرف الآخر؛ فلكي تواجه الولايات المتحدة يجب أن تسكن العداوة مع إيران، ولكي تواجه إيران يجب تسكين العداوة مع أمريكا، فلا توجد غير خانة واحدة في إستراتيجية المواجهة مخصصة للأعداء، وهذه الثغرة تحديداً ينفذ منها الطابور الخامس العَلْماني في بلادنا، فيخاطبون الرأي العام وفق عبارات مثل: أيهما أشد خطراً....
أما الرؤية الأفقية فهي التي تستخدم نهجاً متوازناً يضع أعداء الأمة في مستوى متجاور، ولا بأس بعد ذلك من تحديد الأولويات حسب الأخطار والتهديدات الآنية.
يجب أن نتخلص من النظرة الأحادية المسيطرة على إستراتيجيات المواجهة، كما يلزم أن نتعلم تكوين رؤى تتناسب في تعقيداتها مع تعقيدات الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة، يجب أن نقفز فوق المعاني البسيطة والمفهومات الأحادية التي ترى الأمور من جانب واحد.
إن قوماً ينطلقون من رؤى أحادية، وتقودهم الهواجس في مساراتهم، لن يمكنهم أن يحققوا ما تعقده عليهم أمتهم من آمال، إن الحكمة ليست في تكثير الهواجس، كما أن الحنكة ليست في اختزال التعقيدات.
ينبغي أن نتخلص من طرائق التحليل والاستنتاج التي تصل بنا في النهاية إلى اختزال القضايا المحورية إلى أسئلة من نوعية: هل تضرب أمريكا إيران أم لا؟ مَنْ أكثر عداء للأمة: إيران أم أمريكا؟ هل إيران عدوة لأمريكا أم متحالفة معها؟ ... لا يوجد ما يضغط علينا لكي نختصر مواقفنا في كلمات قليلة أو خيارات محدودة، فلماذا نضيق على أنفسنا مداخل الفهم ومن ثم مخارج الفعل؟!
حتى في مجال الإفتاء والفتاوى، من يتأمل في نهج شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فتاواه، يجد أنه في كثير من الفتاوى يكتفي بنقل أقوال كل مذهب، وربما يشير إلى قول الجمهور، ثم لا يرجح قولاً معيناً لأسباب مختلفة، فلماذا نصر نحن على ترجيح ما لا نفتقر إلى ترجيح له، وفي مجال السياسة لا الفقه؟!
لا أبالغ إذا قلت: إننا في وقتنا هذا نفتقر إلى رؤى متكاملة متوازنة تنطلق بنا في مسارات آمنة، رؤى تجديدية تستوعب المتغيرات والمتغيرين، وتقفز فوق الطروحات الشخصية والرؤى الذاتية لتقدم للأمة نهجاً لا يفقد بريقه وألقه إلا بعد سنوات طوال، فهل يبعث الله لهذا الأمة من يجدد لها دينها ونهجها وفكرها ... ؟(238/20)
الغرقى
د. يوسف بن صالح الصغير
في كل موسم أمطار نسمع بين الفينة والأخرى أخبار الغرق الجماعي نتيجة محاولة إنقاذ غريق في مجرى مائي سريع، أو في تجمع للمياه الموحلة، وغالباً ما يكون السبب ليس جهل المنقذ بالسباحة، ولكنه طريقة تصرف الغريق الفطرية ـ عندما يكون في حالة الوعي ـ مع المنقذ مما يؤدي إلى غرق الجميع بعد محاولات يائسة من المنقذ المفترض للتخلص من تشبُّث الغريق. إنه مشهد متكرر في حياة البشر، ولكنه أيضاً يتكرر في حياة الأمم والشعوب، وكلما كانت الضحية أقوى كان إنقاذها أو التخلص منها أصعب. إنني في هذا المقام أوجِّه رسالة للأمة الإسلامية شعوباً ومنظمات وحكومات، أن لا تدخل في أي مشروع لإنقاذ الغرقى في المنطقة، ولا تسيطر علينا العواطف الإنسانية المجردة أو المصالح المتوهمة، فلنترك من سبح في المستنقع وليغرق وحده وليتشبث الغرقى ببعضهم.
إنها تمثل حالة الغريق الأصغر مع الغريق الأكبر، والمشكلة أن كل واحد منهما يحاول النجاة لوحده وإغراق الآخر، والذي يظهر لي أن حالة الاثنين ميؤوس منها، فأمريكا اضطرت لإجراء حوار علني متكافئ مع إيران لبحث موضوع واحد، هو الوضع أو الورطة في العراق، ولم تسمح إيران ببحث أي مواضيع جانبية؛ ويبدو من تصريحات السفير الإيراني ونقده لعدم جدية الاحتلال الأمريكي في تدريب وتسليح الجيش الرافضي في العراق، وعرضه القيام بهذه المهمة، ويبدو من تصريحات نجاد أن محادثات بغداد جاءت بعد طلبات أمريكية متكررة، وهذه تمثل مرحلة خروج أمريكي ودخول إيراني علني أو بصورة أخرى محاولة أمريكية للخروج من المستنقع على أكتاف الإيرانيين، مع الاستمرار في السياسة الهجومية والضربات الاستباقية، مع الاستفادة من تجارب العراق وأفغانستان وذلك بالعودة إلى الاعتماد شبه الكلي على الوكلاء، وهذا يبدو واضحاً للعيان من أحداث لبنان الحالية وتدفق المساعدات العسكرية الأمريكية غير البشرية وبروز دور الحلفاء المحليين، وهذا تطور خطير؛ لأن الصراع المستقبلي سيكون أمريكيَّ التوجيه ولكنه إقليمي التنفيذ، يجتمع فيه استهتار أمريكي بخسائر الآخرين مع تخبط وأزمة قيادية تعاني منها الإدارة الأمريكية.
حتى إن القائد السابق للقوات الأمريكية في العراق الجنرال (ريكاردو سانشيز) علّق بعد تقاعده من الجيش أنه: (يجب على الولايات المتحدة في يوم من الأيام أن تسأل نفسها ما هو الانتصار، وفي الوقت الراهن لست متأكداً من أن الولايات المتحدة تدرك فعلاً ما هو الانتصار) .
وأضاف: إنه (مقتنع تماماً بأن لدى الولايات المتحدة حالياً أزمة قيادة) . وهذا واضح؛ لأن المسؤولين ينتقدون السياسة التي كانوا يقومون بتنفيذها مباشرة بعد خروجهم أو إخراجهم من مناصبهم، وهذا يدل على غلبة المصالح الذاتية لدى الطبقة العليا؛ بدءاً من وزير الخارجية إلى مدير المخابرات المركزية، وهذا مؤشر على خطورة المراهنة على ثبات السياسة الأمريكية حتى على المدى القصير، ولذا فإنَّ كل من يقترب من هذا الغريق فلا يلومنَّ إلا نفسه، والعاقل من اتعظ بغيره.
ولا يفوتنا أن ننوه هنا أن هناك بوادر عودة للحرب الباردة بعد تصريحات الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) قبيل مشاركته في قمة مجموعة الثمانية في ألمانيا، وذلك بتوجيه تحذير قوي إلى الولايات المتحدة، مهدداً بأن الجيش الروسي سيردُّ على خطة نشر منظومة الصواريخ الدفاعية الأمريكية بالقرب من حدود بلاده، بتوجيه صواريخه على القواعد الأمريكية في أوروبا، ولذا فعلى الراغبين في الانعتاق والنجاة عدم الاقتراب من الغرقى.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(238/21)
مرصد الأحداث
من هنا وهناك
انتقدت المعارضة السورية في الخارج الاستفتاء على رئاسة جديدة للرئيس بشار الأسد مدتها سبع سنوات، وقالت: إن تكاليف الاستفتاء وما صحبه من حملات دعائية صاخبة حمّلت ميزانية الدولة مبلغاً يتراوح من 800 إلى 1000 مليون دولار، في حين كان الفوز محسوماً حيث لم يكن هناك سوى مرشح واحد فقط هو بشار الأسد. [أ. ف. ب 30/5/2007م]
فسَّر محمود الزهار القيادي البارز في حركة حماس ما يحدث من خلافات داخلية بين حماس وفتح بأنه (ترجمة واقعية للفوضى الخلاقة التي تدعو إليها الإدارة الأمريكية في المنطقة والتي اضطرت وزير الداخلية إلى الاستقالة، وهذا تنفيذ حرفي للخطة الأمنية التي زودت حرس الرئاسة بالأموال اللازمة بشكل علني لتنفيذ هذه الخطة) ، وقال الزهار: إن حماس وفتح اتفقتا على وقف الاقتتال، ولكن جهة معينة في فتح لها أجندة خاصة عادت وأججت المسألة الأمنية ...
[التجديد المغربية 18/5/2007م]
أقالت جهات رسمية في قطر وضاح خنفر مدير قناة الجزيرة من منصبه كعضو في مجلس الإدارة، وذلك إثر الأزمة التي ثارت بسبب انتقادات حادة وجهت للمرجع العراقي الشيعي السيستاني في برنامج (بلا حدود) ، وقد صدر قرار من ولي العهد تميم بن حمد آل ثاني بتشكيل مجلس الإدارة الجديد لشبكة فضائية الجزيرة دون أن يتضمن اسم خنفر، وهو ما كشف عن إقالته، دون أن يتضح هل سيبقى في منصب المدير أم لا؟
[الشروق الجزائرية 20/5/2007م]
نشرت صحيفة صنداي تليجراف البريطانية تقريراً حول محادثات بين قيادة القوات البريطانية ومقاتلين سُنّة في العراق، وذكرت الصحيفة أن المحادثات يقودها (جريمي لامب) قائد القوات، وكشفت الصحيفة أن الهدف من المفاوضات تعميق الشقاق بين المقاتلين السُّنّة وعناصر القاعدة، وأنه قدمت بعض الإغراءات مثل العفو ومنح وظائف بارزة في أجهزة الأمن.
[بي بي سي 27/5/2007م]
علامة تعجب
... والسادات أمير المؤمنين؟
في برنامجه الذي يقدمه في قناة الجزيرة، قال محمد حسنين هيكل الكاتب القومي المصري: إن الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر (رجل مسلم تقي متدين وكل حاجة، ولكنه ليس متعصباً للإسلام) ، ومن المعروف أن فترة حكم عبد الناصر اتسمت بترسيخ دعائم العَلْمانية في مصر، والتي تمثلت ذروتها في إصدار ما يعرف بـ (الميثاق) الذي ينحي تماماً دور الإسلام في المجتمع والدولة.
[قناة الجزيرة 31/5/2007م]
أول جمهورية للمسنّين في العالم:
ذكرت إحصائيات رسمية تونسية أن عدد التونسيين الذين يتجاوزون 60 سنة؛ سيبلغ نسبة 29% من العدد الإجمالي للسكان مع سنة 2050م، وسيبلغ عدد من يتجاوزون 80 عاماً خُمْس عدد السكان، بينما لم يتجاوزوا نسبة 9% السنة الماضية، وتوقعت الدراسة الإحصائية أن النسبة ستبلغ 15.2% عام 2024م، وبغضِّ النظر عن أن هذه الإحصاءات ترجم بالغيب حول أعمار الناس؛ فإن أهم أسباب هذه التركيبة السكانية المتوقعة هو تراجع المواليد بسبب ارتفاع سن الزواج، وانتشار أنماط الحياة الغربية في تونس.
[بتصرف عن موقع تونس أون لاين 2/5/2007م]
سنمار كان عراقياً:
يلقى العملاء والجواسيس الذين استعانت بهم أمريكا في غزو العراق معاملة سيئة من قِبَل سلطات الاحتلال الأمريكي، وذكرت صحيفة (صنداي تليجراف) البريطانية قصة امرأة عراقية نصرانية تدعى ديانا عملت جاسوسة للقوات الأمريكية ضد المقاومة حتى تعرض ابنها للاختطاف، ولم يفعل الأمريكيون شيئاً لإطلاقه فاضطرت إلى دفع فدية لتحريره، ثم تركت العراق هرباً إلى الأردن وقدمت طلباً للجوء إلى أمريكا، فتم رفض طلبها بحجة أنها قدمت دعماً لـ (الإرهابيين) تمثَّل في الفدية التي دفعتها لإطلاق سراح ابنها.
[بي بي سي 27/5/2007م]
قرد داروين.. في البداية أم النهاية؟
أقرَّ حاكم ولاية نيوهامبشاير الأمريكية الديمقراطي (جون لينش) قانوناً يجيز لممارسي الشذوذ الجنسي الزواج، سواء كانوا رجالاً أو نساء، والمثير أن حاكم الولاية عدَّ ذلك القانون مفخرة لولايته، وقال: (نحن هنا في نيوهامبشاير لدينا تقليد عريق نفخر به، وهو أننا دائماً نكون في قيادة المجتمعات التي تعارض الممارسات العنصرية) ، وأضاف قوله: (اليوم.. هذا التقليد سنواصله) ، ويذكر أن قانوناً مماثلاً طبق في مدينة سان فرانسيسكو قبل ثلاثة أعوام، ونتج عنه عقد 2600 زواج مثلي بين الشاذين في أسبوع واحد.
[سي إن إن 1/6/2007م]
مرصد الأخبار
البيت الأبيض والنفط الأسود
نشرت مؤسسة (بي إف سي انرجي) الاستشارية للدراسات النفطية ـ التي تتخذ من واشنطن مقراً رئيسياً لها ـ تقريراً بالغ الأهمية بشأن حالة وأوضاع صناعة النفط العالمية، حيث كشف التقرير التحول في موازين القوى ورجحان كفة شركات النفط الوطنية التي تهيمن عليها الدولة، وحسب هذه المؤسسة فإن شركات النفط متعددة الجنسيات تمتلك الآن أو يمكنها الوصول إلى أقل من 10% من مصادر النفط العالمية، وهذا يعني أن 90% من احتياطي النفط تملكه اليوم شركات نفط حكومية، أو أنه ليس في متناول الشركات متعددة الجنسيات ولا يتوافر بسهولة بالنسبة لها.
والمحور الذي تدور حوله صناعة النفط إنما هو المخاطر وكيفية إدارتها، وتنجلي أكثر فأكثر اليوم حقيقة أنه في عالم يحال فيه بين شركات النفط الأجنبية ومكامن النفط الاحتياطية الهائلة فإن هذه الشركات سوف تزيد المخاطر في أعمالها كي تؤمن احتياطياً كافياً من النفط، وهذا يأتي بنا إلى العراق، الذي يشكل احتياطيُّه النفطي نحو 10% من إجمالي احتياطي العالم من النفط.
إن النفط كان يقيناً أحد أكبر البواعث على غزو العراق، والأهم من ذلك أن الأهمية الاستراتيجية لنفط العراق تزداد بشكل متسارع بالنسبة لعمالقة شركات النفط، فمنذ عام 2003م اتجهت الأحداث نحو الأسوأ بالنسبة لهم ولا سيما في فنزويلا ونيجيريا وروسيا، وللعراق مشاكله أيضاً، إلا أن الجائزة من الضخامة بحيث يستسيغ من تحلقوا حول مائدته الشهية لعق بعض المرّ.
ويحتدم اليوم الصراع الشرس حول من يهيمن على احتياطي العراق من النفط، وتشتد ضراوة هذا النزاع لترسخ القناعة بأن غزو هذا البلد لا يمكن أبداً فك ألغازه إلا بإدراك الأهمية القصوى للنفط بالنسبة للغزاة ومن يلوذ بحماهم من الشركات متعددة الجنسيات، وتمنح مسوّدة قانون تم تمريرها في فبراير/شباط سيطرة هائلة على الاحتياطي النفطي العراقي للشركات الدولية، وتهدد إدارة بوش الآن الحكومة العراقية بأنها إذا لم تصادق على المشروع وتباركه فسوف تسحب عنها غطاء الثقة وتفضح ممارساتها.
[باختصار من مقال (إندي رويل) ، صحيفة الخليج الإماراتية 29/5/2007م]
طهران تؤدب قناة الجزيرة
كشفت مصادر حكومية إيرانية أن إعادة فتح مكتب قناة الجزيرة في طهران جاء على خلفية اعتذار القناة وتعهدها بمراعاة شؤون المرجعية والمذهب الشيعي، وتجنب طرح قضايا تمس الأمن القومي الإيراني أو وحدة الدولة.
وذكرت المصادر أن غسان بن جدو مدير مكتب القناة في طهران سابقاً - وبيروت حالياً - لعب دوراً في التوسط لدى مسؤولين إيرانيين وإقناعهم بأهمية تواجد القناة لتغطية الشؤون الإيرانية.
[الشرق الأوسط 30/5/2007م]
العراق الحر.. يذوق المر
كشفت دراسة لكلية الطب بجامعة البصرة ارتفاعاً قياسياً في عدد حالات السرطان الناجمة عن الحرب، وذكرت الدراسة أن نسبة تزيد على 45% من حالات الوفاة المسجلة مؤخراً بالمحافظات الجنوبية جاءت نتيجة الإصابة بمرض السرطان.
وكان تقرير صحي أمريكي كشف أن نسبة بقاء الأطفال على قيد الحياة في العراق حتى ما بعد سن الخامسة؛ قد تراجعت بشدة منذ العام 1990م، ليحتل هذا البلد ذيل الترتيب العالمي خلف مجموعة من أفقر دول العالم مثل بتسوانا وزمبابوي، بعدما تضاعفت وفيات الأطفال فيه فأصبحت النسبة 150%، وأكد التقرير ـ الذي أعدته منظمة (أنقذوا الأطفال) ـ أن طفلاً من بين كل ثمانية أطفال في العراق يموت قبل أن يبلغ سن الخامسة.
جدير بالذكر أن الرئيس العراقي جلال الطالباني وجَّه رسالة إلى الرأي العام الأمريكي في زيارته الأخيرة لواشنطن، وقال فيها: إنهم في العراق يواجهون بعض المشاكل، لكنه قال: (نعيش في الوقت الراهن في ظروف أفضل من الماضي) !
[سي إن إن 1/6/2007م، 11/5/2007م، وكالات 1/6/2007م]
معرض كتاب أم محطة كهرباء؟!
قال وزير الثقافة التونسي محمد بن عاشور: إن بلاده منعت عرض نحو ثمانية آلاف كتاب خلال الدورة الخامسة والعشرين من معرض الكتاب الدولي الذي اختتم الشهر الماضي، وقال الوزير التونسي: إن هذا المعرض يشكل درعاً ضد (الظلامية) والانكماش على النفس، مبدياً عدم رغبة تونس في تلقي دروس في الدين.
وكانت دور نشر عربية قد عبرت عن استيائها من منعها من المشاركة في هذا المعرض، فيما استنكر آخرون الرقابة الشديدة على الكتب ومصادرة بعض العناوين المعروفة ضمن كتب التراث العربي الإسلامي وكتب التفسير والفقه، وكانت السلطات الأمنية قد فرضت إجراءات رقابية شديدة على زوار المعرض، من قبيل تفتيش الحقائب اليدوية ومراجعة بطاقات التعريف الوطنية، كما تم إخضاع المحجبات لإجراءات صارمة وصلت إلى حدِّ الاستفزاز والمسِّ بالكرامة الشخصية للنساء من طرف رجال الأمن.
[صحيفة التجديد المغربية 18/5/2007م]
«فريق العلاج والتمريض»
في مقابلة مع قناة (فرانس-24) قال عبد العزيز بلخادم رئيس الوزراء الجزائري ـ أُقيل لاحقاً ـ وبشكل مباشر: إننا في جبهة التحرير (نؤيد تعديل الدستور من أجل فتح المجال أمام رئيس الجمهورية لتولي ولاية ثالثة) ، وعن تدهور الحالة الصحية للرئيس بو تفليقة وكون ذلك يمثل عقبة أمام التجديد، قال بلخادم: (الرّئيس لا يتعب.. بل إنّه يُتعب من حوله من الفريق الذي يرافقه في خرجاته) ، ولا يزال أمام بو تفليقة عامان حتى يكمل فترته الثانية، وتحدثت تقارير عديدة عن أن المهتمين بصحة الرئيس والمقربين منه يعطونه مقوِّيات في غاية التركيز، حتى يتسنى له إدارة الأمور.
[موقع محيط 31/5/2007م]
سدّ الآذان عن سماع الأذان
أطلق أعضاء في حزب الشعب السويسري ـ وهو حزب يميني يُعدّ حالياً أكبر الأحزاب في البرلمان السويسري ـ حملة لمنع بناء المآذن في سويسرا، وذلك رداً على محاولة بناء مئذنة صغيرة في مدينة لانجينثال الصغيرة الواقعة خارج العاصمة بيرن، حيث تم وقف المشروع بعد تلقي السلطات آلاف الاعتراضات، وهذه المئذنة أريد تشييدها لمسجد قائم بالفعل في موقع مصنع قديم على مشارف المدينة، وتقدم بطلب بناء المئذنة شخص ألباني الأصل يدعى مطلب كراديمي يقيم في سويسرا منذ 26 عاماً، وفي بداية الأمر وافقت السلطات المحلية في المدينة على الطلب الذي تقدم به كراديمي لبناء مئذنة بارتفاع خمسة أمتار، إلا أن هذا المشروع أثار معارضة قوية، وقام آلاف السويسريين بالتوقيع على عريضة تطالب بوقف بناء المآذن، وكانت النتيجة أن قررت الحكومة المحلية في بيرن تأجيل مشروع بناء المئذنة إلى أجل غير محدد.
ويقول كراديمي: إن (هناك تمييزاً غير عادل ضد الإسلام) ، ويضيف (أعطيتهم تعهداً مكتوباً أننا لن نرفع الأذان للصلاة من هذه المئذنة، إلا أنهم يعتقدون أننا جميعاً مجرمون أو إرهابيون. الأمر يشبه القول بأن كل إيطالي هو عضو في المافيا) .
ويعبر (أوسكار فرايسينجر) عضو البرلمان عن حزب الشعب السويسري عن وجهة النظر المؤيدة لمنع المآذن فيقول: (ليس لدينا أي شيء ضد المسلمين، لكننا لا نريد المآذن.. إنها رمز للإسلام السياسي العدواني.. إنها رمز للقوانين الإسلامية.. اللحظة التي توجد بها المآذن في أوروبا تعني أن الإسلام أصبح مسيطراً) .
ويبلغ مسلمو سويسرا نحو 350 ألف فرد، والذين يطالبون منذ عقود بالحصول على مزيد من الاعتراف بعقيدتهم، وفي كل سويسرا توجد مئذنتان صغيرتان فقط؛ واحدة في زيورخ والأخرى في جنيف. ولا يسمح برفع الأذان للصلاة على أي من المئذنتين، كما أن أغلب المساجد في سويسرا عبارة عن ورش أو مصانع قديمة تم تحويلها إلى مساجد. أما في مدينة بيرن ـ عاصمة سويسرا ـ فإن أكبر مساجد المدينة عبارة عن ساحة تحت الأرض كانت تستخدم لصف السيارات.
[بي بي سي 28/5/2007م]
س وج
س: ما حقيقة الاشتباكات التي حدثت في العامرية بين فصائل المقاومة العراقية؟
ج: اندلعت في الشهر الماضي معارك عنيفة في حي العامرية في العاصمة العراقية بغداد بين جماعات مسلَّحة تنتمي إلى المقاومة العراقية، وذكرت التقارير الصحفية أن طرفي النزاع هم الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين من جهة، ومجموعات تابعة لجماعة دولة العراق الإسلامية من جهة أخرى، ولا يعرف تحديداً كيف بدأت المعارك، ولكن التحليلات تذكر أن ذلك يأتي على خلفية صراع على النفوذ وبتحفيز أمريكي يستهدف تقليص المقاومة العراقية داخلياً.
وهذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها حرب شوارع بين فصائل سنية، وقال الجيش الأمريكي ـ الذي حاول الاستفادة من التوترات ـ: إنه ساعد السكان المحليين في القتال ضد (متشددي) القاعدة الذين كانوا مسلَّحين برشاشات وقذائف صاروخية، وصرَّح اللفتنانت كولونيل (ديل كوهل) ـ قائد الكتيبة الأولى بالفرقة الخامسة لسلاح الفرسان ـ لرويترز في رسالة بالبريد الإلكتروني بقوله: (بدأ الأمر كانتفاضة شعبية ... من السكان المحليين الذين سئموا العنف الذي جلبته القاعدة إلى الحي) ، وقال في أول تعليق للجيش الأمريكي على القتال: إن القوات هبت في أحد المواقف لمساعدة سكان حاصرهم (متشددون) من القاعدة مدججون بالسلاح داخل أحد المساجد، وأضاف إنه لا يعرف العدد الإجمالي للقتلى، لكن السكان أبلغوه بمقتل ثلاثة على الأقل من قادة القاعدة. وقال: إن القوات الأمريكية ساعدت عشرة جرحى على الأقل.
وقال السكان: إنهم يخشون الخروج رغم هدوء العنف خوفاً من نقاط تفتيش وهمية لخطف الأشخاص، وقال ساكن: إنه تعرض للخطف لعدة ساعات، وقال ساكن آخر (22 عاماً) طلب أيضاً عدم الكشف عن هويته: (أنا داخل منزلي مع مجموعة من الأصدقاء حاملاً بندقيتي الكلاشنيكوف) ، وأضاف: (نشعر بالخوف لأن الجانبين يقتحمان المنازل لمحاولة العثور على أشخاص من الجانب الآخر. نرى من النافذة أن بعض هذه المجموعات تقيم نقاط تفتيش. هناك عدد من الجثث في الشارع بالخارج) ، وقال سكان آخرون: إن الجانبين جلبوا المزيد من المقاتلين من أحياء مجاورة وربما من مناطق بعيدة مثل الأنبار، وقال بعض الأهالي: إن المنطقة محاصرة بشكل كامل من قوات الأمن العراقية.
وقال مسنٌّ تخوّف من الكشف عن اسمه: إن الاشتباكات دفعت العديد من الأشخاص إلى الهرب من المنطقة راجلين، وأصحاب المتاجر إلى إغلاق متاجرهم، وقال نفر من سكان العامرية: إن العنف تفجر بعد دخول عناصر من جماعة الجيش الإسلامي مسجد الملوكي الذي تسيطر عليه القاعدة وبدؤوا جدلاً محتدماً مع عناصر من القاعدة بشأن عمليات القتل التي نفذت مؤخراً، وقالوا: إن المتشاحنين اندفعوا خارجين من المسجد بعد قليل، وأعلن شخص عبر مكبر الصوت على المئذنة أن أبا طيبة ـ الذي يعتقد أنه الرجل الثاني في القاعدة في المنطقة ـ اغتيل، مما دفع عشرات المسلَّحين من القاعدة إلى الإمساك بستة على الأقل من رجال الجيش الإسلامي وقتلهم، وأضاف السكان إن عناصر القاعدة توجهوا بعد ذلك إلى أحد معاقل الجيش الإسلامي في المنطقة وأنشؤوا قاعدة لهم في المنازل الخالية.
وكان حميد الهايس زعيم ما يسمى (مجلس إنقاذ الأنبار) والذي تشكل برعاية أمريكية لمواجهة ما سمي بالعنف؛ كان قد صرح بالقول: (لقد أرسلنا خمسين رجلاً من الشرطة السرية من أهالي الأنبار إلى حي العامرية في بغداد، وبدؤوا بضرب تنظيم القاعدة فيها، ولقد تمكنا من قتل الكثير منهم) .
وزعمت مصادر عراقية عسكرية أن القوات العراقية والأميركية في الحي فرضت حظراً للتجوال على المركبات فقط من أجل السيطرة على الاشتباكات، وأن قائد تنظيم القاعدة في منطقة العامرية المعروف بالحاج حميد قتل، وتم اعتقال 45 عنصراً آخرين خلال اشتباكات اندلعت بين قوات الاحتلال وأهالي المنطقة من جهة ضد تنظيم القاعدة هناك.
[موقع ميدل إيست أون لاين 31/5/2007م، 1/6/2007م، موقع سويس إنفو 1/6/2007م] .
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
وضعت الحكومة (الإسرائيلية) خطة تقضي بنقل مقارّ كل الوزارات باستثناء وزارة الحرب والمؤسسات والدوائر الحكومية من تل أبيب والمدن الكبرى الأخرى وموظفيها البالغ عددهم حوالي 10 آلاف في غضون 8 أعوام؛ إلى القدس، وتسعى الخطة إلى أن يعمل انتقال هذا العدد الكبير من الموظفين على ترجيح الثقل الديموجرافي لليهود في المدينة، التي تشهد نمواً سكانياً فلسطينياً يبلغ ضعفه عند اليهود.
[يديعوت أحرنوت 11/5/2007م]
في حادثة غريبة من نوعها طلب رئيس الحكومة (الإسرائيلية) (إيهود أولمرت) ـ في بداية جلسة المجلس الوزاري المصغَّر ـ من الوزراء نزع بطاريات هواتفهم الخليوية بذريعة منع العدو من الإصغاء، الأمر الذي عدَّه الوزراء منعاً لتسريب فحوى المناقشات إلى الخارج.
[موقع نيوز فرست كلاس 18/5/2007م]
الرئيس السوري معنيٌّ بتسوية سياسية مع (إسرائيل) ، وإن اقتراحه بإجراء مفاوضات سرية بين الدولتين يشير إلى رغبته في السلام. [وثيقة داخلية لوزارة (الخارجية الإسرائيلية) - (إذاعة الجيش الإسرائيلي) 10/5/2007م]
أرقام صهيونية:
إن (الإسرائيليين) عام 2007م فقدوا الأمل في تحسن الأوضاع السياسية والأمنية، واعتراهم اليأس وباتوا يبحثون عن الخلاص لدى اليمين (الإسرائيلي) ، كما فقد غالبيتهم ثقتهم بالجيش، وباتت الغالبية ترى في الأعوام الأخيرة (المسألةَ الديموغرافية) أهم من (المسألة الجغرافية) ، إذ قال 57%: إن ضمان غالبية يهودية في (إسرائيل) هي القيمة الأولى على جدول اهتماماتهم. [استطلاع للرأي أجراه مركز بحوث الأمن القومي - جامعة تل أبيب 19/5/2007م]
65% من (الإسرائيليين) يعتقدون أن الولايات المتحدة حليف يدين بولائه إلى (إسرائيل) ، في حين عارض 11% هذا الرأي، بينما كان هناك إجماع 91% على أن العلاقات الوطيدة مع واشنطن هي ذات أهمية حيوية وضرورية للأمن (الإسرائيلي) . [استطلاع مشترك لجامعة (بار إيلان) ولجنة مكافحة التشهير الأمريكية 19/5/2007م]
85% من اليهود الذين هاجروا من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة لا يشعرون بأنهم (إسرائيليون) ويفضلون أن يعرفوا أنفسهم بأنهم يهود أو حسب الدولة التي قدموا منها، رافضين أن يصنفوا أنفسهم (إسرائيليين) مقابل 84% من يهود إثيوبيا، فيما سجل اليهود الذين قدموا من دول الاتحاد السوفيتي السابق نسبة أقل ممن يرفضون التعريف بأنفسهم بأنهم (إسرائيليون) بلغت 76.5%، مفضلين الهوية الروسية التي تعلو بالنسبة لهم على الهوية (الإسرائيلية) وتتقدم عليها. [مركز الهجرة والاستيعاب الاجتماعي في المركز الأكاديمي (روفين) 11/5/2007م]
أخبار التنصير
تخريج 72 منصّراً سنوياً في السودان:
في لقاء حول إمكانات واحتياجات الكنائس التنصيرية في السودان؛ صرح (دانييل ماركس) ـ أسقف الكنيسة الكبرى بالعاصمة السودانية الخرطوم ـ أنهم يحتاجون إلى أكثر من 350 ألف دولار في مجال التعليم، لتطوير أداء كلية اللاهوت التي لا يزيد عدد المتخرجين منها سنوياً عن (72) منصِّراً، والانتقال إلى المقر الجديد بمدينة (جوبا) .
وأشار (ماركس) إلى أن التنصير في السودان يشهد نمواً مطرداً خلال الربع الأخير من القرن العشرين، حيث ارتفع عدد الإيبارشيات (مجمع كنائس) من أربع إلى ثلاثين إيبارشية، متوسط عدد الكنائس التابعة لكل إيبارشية لا يقل عن خمس وعشرين كنيسة، يتبعها ما يقارب تسعمائة ألف مسيحي. [الكوثر ـ الكويت ـ أبريل 2007م]
فضائية للكنيسة المصرية تتخصص في سبّ نبي المسلمين:
في جلسة غير عادية لمجلس الشعب المصري؛ قدم الدكتور أحمد عمر هاشم بصفته رئيساً للجنة الدينية بالمجلس، متضامناً مع عشرة من النواب أعضاء اللجنة، طلبَ إحاطة لمساءلة الدكتور أنس الفقي وزير الإعلام المصري حول الهجمة التنصيرية التي تشنّها بعض القنوات ضد الإسلام وأهله بصفة عامة، والقرآن الكريم وشخصية النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بصفة خاصة.
وأشار طلب الإحاطة إلى أن على وزير الإعلام ضرورة اتخاذ قرار صارم لمنع واحدة من هذه القنوات الصليبية تدعى (الحياة) والتي يقوم عليها قس مصري تجاوز كل الحدود، حتى أصبح فتنة تهدد أمن واستقرار الأمة الإسلامية.
وطالب الدكتور أحمد عمر هاشم بضرورة إنشاء قناة فضائية مصرية للرد على ما يثيره القس المصري من ضلالات، وأجاب وزير الإعلام بأنه لا يملك القدرة على وقف بث هذه القناة. [أ. ش. أـ القاهرة 24 أبريل 2007م]
مجلس أعلى للمرتدين في ألمانيا:
بدعم من مجلس الإرساليات الدولي بألمانيا، والمتخصص في رعاية المرتدين على المستوى العالم، قررت مجموعة من المتنصرين تأسيس منظمة دولية تحمل اسم (المجلس الأعلى للمسلمين السابقين) برئاسة امرأة إيرانية الأصل تدعى (مينا عهدي) .
وأشارت الإيرانية المرتدة إلى أن هدفها الأول هو محاربة الثوابت الإسلامية التي نجحت المدارس الإسلامية بألمانيا في نشرها خاصة تدريس القرآن الكريم والسيرة النبوية.
وعلى المستوى السلوكي؛ فإنها سوف تتصدى لمناهضة انتشار الحجاب بين الفتيات والنساء الألمانيات. [المجتمع الكويتية 10/3/2007م] .(238/22)
ما أحلمك!
رضا محمد فهمي
استيقظ من نومه على جرس منبهه الذي ضبطه قبل النوم.. أيقظ زميل غربته: حمد، حمد، هيا! هيا!
توضأ سعد، واستغرق وضوؤه فترة طويلة؛ فقد كان بحاجة إلى الحمام، والماء يتقطع من الصنبور.. لقد كان الماء في نهايته.
عاد سعد إلى غرفته ليهيئ نفسه لصلاة ركعتين اعتادهما، ولكن الوقت لم يسعفه؛ فلم يبقَ إلا القليل على إقامة الصلاة. وأثناء تصفيف شعره أمام المرآة أخذ ينشد:
أخيَّ توضأ وقم للصلاه
وصلِّ لربك تكسب رضاه
حمد.. حمد.. ستقام الصلاة الآن، أسِرع!
لبس ثوباً خصصه للصلاة يزيد طيبَه طيبُ سريرته، وانطلق إلى المسجد في لهفة ليحضر إقامة الصلاة فيه، وبالفعل؛ عندما قدّم رجله اليمنى داخل المسجد أقيمت الصلاة. لمح جمالاً وجميلاً في مكانهما الذي يغبطهما عليه خلف الإمام، ولكنه وجد ثغرة في الصف الأول فتقدم وسدّها.
وما إن كبَّر الإمام حتى سالت دموع الفرح على وجنتيه؛ حيث راجع فضل الله عليه إذ اختاره للصلاة ـ وأي صلاة؟! ـ صلاة الفجر في المسجد في الصف الأول يشهد مع المسلمين تكبيرة الإحرام.
نفض سعد رأسه مجاهداً نفسه؛ فقد كاد يسرح عن مناجاة مولاه بالسبع المثاني خلف الإمام، واستحضر قول ربه: حمدني عبدي، أثنى عليَّ عبدي، مجَّدني عبدي، هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. ويزداد الدمع، ويقشعر البدن، ويستجمع قوى فكره: لا أعبد إلا أنت ولا أريد سواك.
وينتهي الإمام من الفاتحة ويؤَمِّن سعد مع الجماعة تأمين الخاشع الراجي هداية ربه، وتبتهج النفس ويُحسِنُ الظن عندما بدأ الإمام بالقرآن: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] .
يغالب سعد شرود ذهنه؛ فقد شغله حق صديقه عليه وكيف تركه محروماً من هذه النفحات، ويتذكر وكأنه لم يغلق صنبور المياه.. أخذ يغالب شروده ويجاهد نفسه في جمع جوانبها على تسبيحاته وتحميداته وتكبيراته وقراءة إمامه، وظل كذلك حتى سلم بعد تسليمة الإمام.
تردد سعد برهة: هل يأتي بركعتي السنة القبلية أم يقرأ القرآن؟ فقد عزم على أن يحوز فضل حجةٍ وعمرة تامتين؛ فاليوم عيده الأسبوعي.
وبالفعل صلّى الركعتين، ثم تابع بقراءة القرآن متنقلاً بين رياض ورده، لا يصرفه عنه صارف ولا يشغله عنه شاغل؛ فلم يبقَ في المسجد سوى أربعة.. كلٌ قد عقد عزمه على الغدوة والزاد. وتسمو الروح، وتخشع الجوارح، وتخفت الأضواء.. وإذا بالأيادي تُرفع مع لهث اللسان بالثناء على الحي القيوم الحنان المنان.
تغلق المصاحف، ويحسن الابتهال، وتبتل اللحى.. كل له شأنه وحاجته، ويستمر الدعاء ويستمر حتى يروي ظمأ الروح، وتسكن النفس، ويطمئن القلب، وينشرح الصدر.
يُنزِل سعد يديه، ويلمح الساعة تقترب من السادسة، وينظر حوله وكأنه قد رجع من رحلة المعراج.. فإذا بالمسجد قد خلا إلا منه، وآخر المصلين خرج لتوه.
وقف سعد يصلي ركعتي الضحى وهو يحتسب على الله أن يثبت أجره، وأن لا يحرمه غدوته هذه حتى الممات.
ويعود إلى غرفته.. فإذا بصديقه حمد ما زال نائماً؛ فيشفق عليه، ويستشعر تقصيره في حقه؛ حيث لم يجهد في إيقاظه؛ فأيقظه يعتذر له عن تقصيره في ذلك.
ولكن حمد يفاجئه: ولِم هذا الإزعاج؟! أليس اليوم يوم جمعة؟!
سعد: ولكن الصلاة..؟!
حمد: نحن نفزع إلى الصلاة كل يوم.. ألم تعلم أن لبدنك عليك حقاً؟!
سعد: نحن نفزع إلى الدوام ومعه الصلاة.. فهلا فزعنا اليوم للصلاة بدون الدوام؟! هلا فزعنا لصلاة الجماعة في المسجد بالصف الأول نشهد مع المسلمين تكبيرة الإحرام..؟! ألا إن المحروم حقاً من حُرِم!
يستلقي سعد على سريره يقلِّب فكره في جوامع كلمة - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه» ، «أثقل الصلاة على المنافقين الفجر والعشاء» ، «لو تعلمون ما في النداء والصف الأول ... » ، «من صلّى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله» .
ثم انتفض يفكر بصوت مسموع: ولكن هؤلاء إخوتي! هؤلاء صحبتي! كيف أنقذ إخواني؟ كيف أكرم خلاني؟!
وسرعان ما هدأ روعه وسكنت نفسه؛ حيث قرر أن يعلِّق هذه النصوص النبوية لوحات في المجمع السكني الذي يقطنه.
وذات يوم أكمل صديقه حمد صلاته ـ كعادته ـ بعد تسليمة الإمام ـ فنادراً ما كانت تفوته تسليمة الإمام ـ وأثناء عودته، ودون أن يناقشه أحد، أخذ يجادل نفسه التي بدأت تؤنبه: وما عليَّ إلا أن ألتزم السكينة والوقار.. فما أدرك أصلِّيه وما فاتني أتمه؟ أليس ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
وفي المدرسة، وفي الحصة الأولى، هيأ حمد طلابه لشرح درسه.. وقبيل النهاية طُرق الباب؛ وإذا حمد بطالب تبدو عليه السكينة والوقار، نظر إليه لحظة ثم سأله باستنكار: وماذا تفعل في ما فاتك من شرح أو استفهام؟!
ويجيب الطالب ببرود واسترخاء: لا عليك؛ ما أدرك أفهمه، وما فاتني أتمه بعدك إن شاء الله.
وهنا أخذ حمد ينظر إليه ولا يراه! إنه بفكره يراجع جداله وشريط حاله مع الصلاة، ولم يزد على قوله:
ما أحلمك عليَّ ربي! ما أحلمك!
أعاهدك ربي أن أزاحم جمالاً وجميلاً وسعداً في الصف الأول خلف الإمام.(238/23)
فقه الخطابة من خلال خطبة الوداع
وصفي عاشور أبو زيد
الخطابة إحدى الركائز الأساسية والوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ فهي اللقاء الأسبوعي الذي يحتشد فيه المسلمون في مسجد جامع ليسمعوا الخطيب يذكِّرهم ربهم ويعلمهم دينهم.
فالخطابة في الإسلام تمثل مظهر الحياة التي تجعل القيم النبيلة، والمثل الرفيعة، والأخلاق الفاضلة تصل من قلب إلى قلب، وتثب من فكر إلى فكر، فتنعش الروح ويتجدد الإيمان؛ فلا غرو أن تكون بذلك من شعائر الإسلام.
ومن المؤسف حقّاً ـ في عصرنا الحاضر ـ أن كثيراً المنابر أصبحت تحمل فوقها ساعة الجمعة أشباه الخطباء الذين فرَّغوا الخطابة من محتواها، وأخرجوها عن إطارها الصحيح، وأبعدوها عن أداء أماناتها وإبلاغ رسالتها.
فلا يرقى أكثرهم أن يقرأ آية من كتاب الله ويعطيها حقها، أو يروي حديثاً صحيحاً بنصه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يصوغ عبارة صحيحة من ناحية اللغة، فما أصدق ما قال أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي: «ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجالٌ بمعنى الكلمة، لا رجالٌ في أيديهم سيوف من خشب» (1) .
وإني لأعرف أناساً من المصلين يتأخرون عن الخطبة ـ بصرف النظر عن الحكم الشرعي لذلك ـ ويحضرون قبيل إقامة الصلاة حتى يعفوا آذانهم من سماع الكلام المكرر الذي يخدش روعة الجمعة، ويُذهِب جلال اليوم وبهاءه.
وهذا الحديث ليس موجهاً لهؤلاء الذين اتخذوا من الخطابة مهنة يتكسبون من ورائها، إنما هو موجه إلى دعاة على درجة معينة من الثقافة، يفقهون دور الخطابة، مدركين أثرها وتأثيرها في المجتمع.
أما أولئك فساحة المسجد أوْلى بهم من منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
بين أيدينا حديثٌ من جوامع الكلم، وخطبة تُعدُّ وثيقة من وثائق الإسلام، ومثلاً أعلى لكل داعية، ونموذجاً للخطبة الناجحة يحتذيه الخطيب الناجح.
إنها خطبة حجة الوداع التي ألقاها أفصح العرب طُرّاً محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - في جموع بلغت عشرات الآلاف.
بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال - صلى الله عليه وسلم - (2) : «أيها الناس! اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت. فمن كانت عنده أمانة فلْيؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل رِبا موضوعٌ، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس ابن عبد المطلب موضوعٌ كله، وإن كل دمٍ كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل؛ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد: أيها الناس! فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبَد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطَعْ فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!
أيها الناس! {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] ، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر (1) ، الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد: أيها الناس! فإن لكم على نسائكم حقّاً، ولهن عليكم حقّاً، لكم عليهن ألا يُوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرِّح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوانٍ (2) ، لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي! فإني قد بلَّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله، وسنة نبيه.
أيها الناس! اسمعوا قولي واعقلوه! تعلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُن أنفسكم، اللهم هل بلَّغت؟» .
فذُكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اشهد.
قال ابن إسحاق: « ... كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعرفه ربيعة بن أمية بن خلف ... » .
في هذه الخطبة من الدروس والعبر ما لو أدركه الدعاة والخطباء لأدت الخطابة رسالتها أحسن ما يكون الأداء.. ومن أهم هذه الدروس:
أولاً: الإخلاص والحرص على هداية الناس:
فالإخلاص هو مدار الأمر كله ـ بعد الفقه الكامل لمعنى الخطابة ـ إذ به يصل الكلام إلى القلوب، فيتمثله الناس واقعاً عملياً في حياتهم، وبغيره لا يتعدى الكلام الآذان، ولو ملك الخطيب ناصية البيان وقوة الحجة ونصاعة البرهان.
وقد قال ابن عطاء الله السكندري في حكمته الشهيرة: «الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها» .
من هنا وجدنا الإخلاص متمثلاً في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصيح في هذا الجمع الحاشد: «أيها الناس! اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً» .
إن الذي يعيش الموقف مع هذا الجمهور يشعر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأمة بمثابة الأب مع أبنائه، يريد ألا يدعهم في آخر لقاءٍ بهم قبل أن يُلقي في آذانهم آخر ما لديه من نصح وحب وإرشاد.
وهذا من تمام حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومه وإخلاصه لهم: «كان يُحس أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة وحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه بالرشد، ويذكره بما ينفعه أبداً» (3) .
فألقى النبي هذا البيان الجامع الذي هو خلاصة رسالته التي ظل ثلاثاً وعشرين سنة يجاهد من أجل إرسائها في الواقع، وعَقْدها في قلوب الأمة.
أفلم تكن تُغني ثلاث وعشرون سنة عن هذا البيان الأخير؟ ولكن النبي الرؤوف الرحيم يريد أن يضع البصمات الأخيرة، والمبادئ الكلية، وأهداف الرسالة وخلاصتها قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى؛ لتظل هذه التوجيهات، وتلك الصيحات حاضرة في أذهانهم، ترددها آذانهم بعد رسول الله أبد الآبدين.
والحق أن الإخلاص والحرص على هداية الناس منهج الأنبياء جميعاً؛ فكم تكرر في القرآن الكريم على لسان الأنبياء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108] ، {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] ، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الشعراء: 145] ، وقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27] ، وغير ذلك.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على هداية قومه؛ فكم قال: «اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون» وحين جاءه مَلَك الجبال وهو في الطائف رد عليه قائلاً: «لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً..» وقبل هذا كله قرر الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .
وفي هؤلاء الأنبياء جميعاً أسوة للدعاة إلى الله الذين يواجهون المجتمع، ويُمسكون بزمام الجماهير إلى الله تعالى.
ثانياً: جذب الجمهور وتهيئته من أول الخطبة:
وقد أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في البداية عبارته المؤثرة: «لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً» . وهنا تشرئب الأعناق، وتتطاول الرقاب، وتترقب الآذان ما يُلقى من وعظ ومن إرشاد.
فهناك من الخطباء من يجعل من الخطبة وسيلة لإنامة الجمهور، فيذهب فريقٌ من الناس للجمعة ليستكمل ساعات نومه، فإذا ما سمع الإقامة صلى مع المصلين وركع مع الراكعين، فلم ينتفع بموعظة، ولم يخشع في صلاة.
إن وسائل الجذب وبراعة الاستهلال أول الخطبة ـ ليتهيأ الناس للكلام ـ لا حصر لها، يملكها الخطيب اللبيب من خلال الواقع الذي يموج بأحداث يعيشها الناس، ومن خلال القضايا المثارة في المجتمع التي ينبغي أن يكون الخطيب على دراية كاملة بها.
ولم يكن هذا الدرس الهام في بداية خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، إنما تخلل مواضع كثيرة منها؛ فكم قال: «أيها الناس!» ، وقال: «اسمعوا قولي واعقلوه!» ، وقال: «فاعقلوا أيها الناس قولي!» ثم يرمي بالتبعة على كاهلهم حتى يتنبهوا لخطورة الكلام حين قال: «فإني قد بلَّغت» وفي النهاية: «اللهم اشهد!» .
والقرآن الكريم يعلمنا هذا الأسلوب في كثير من سوره: فمرة يبدأ السورة بذكر شيء، ثم يستفهم عنه، ثم يعظِّم من شأنه: «الحاقة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة» ، وقوله: «القارعة. ما القارعة. وما أدراك ما القارعة» ، ومرة يفجأ الناس بوقائع مرهبة، وأحداث مرعبة: {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 1 - 3] ، ومرة أخرى يثير تساؤلاً، ثم يجيب عنه: «عم يتساءلون. عن النبأ العظيم» ، ومرة يبدأ بقَسَم ـ والقسم يشير إلى أهمية ما بعده ـ مثل قوله: {ن» وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] . إلى آخر هذه الوسائل المثيرة للعقل والوجدان معاً.
والخطيب الحاذق هو الذي يتعلم من هذا الكلام المعجز؛ فيوظف أحداث عصره في ذلك، ثم يستهدي الشفاء والدواء من كلام الله ورسوله.
ثالثاً: التركيز على المتفق عليه:
لا ينبغي بحالٍ أن تثار قضايا الخلاف على المنبر في حضور هذا التجمع أو في أي تجمع؛ لئلا يُحدث ذلك اضطراباً واختلافاً وجدلاً بين الناس؛ فما لأجل هذا جُعلت المنابر، إنما جعلت لتثبيت أركان التوحيد، وتقرير شعائر الإسلام، وتوضيح مبادئه الكلية ومقاصده العامة.
لكنَّ هناك نوعاً من الخطباء ـ لا ينقصهم الإخلاص بقدر ما ينقصهم حسن الفهم وعمق التجربة ـ يصعدون المنابر، وليتهم لا يصعدون، من أجل إثارة هذه القضايا التي لم ينتهِ الخلاف فيها أزلاً، ولن ينتهي الخلاف فيها أبداً، ويقيمونها مقام أصول الإسلام، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فينقسم الناس إلى طوائف يتراشقون ويتشاحنون، وليتهم شغلوا أنفسهم بالمتفق عليه ـ وهو كثير ـ أو بقضايا واقعهم المخزي المرير.
إن المتأمل في خطبة الوداع لا يجد فيها إلا أصول الإسلام العامة ومبادئه الكلية التي لا يختلف فيها اثنان، ولا ينتطح عليها عنزان.
من يختلف في حرمة دم المسلم وماله وعرضه، وأداء الأمانة؟ أو من يشك في حرمة الربا؟ أو من ينكر حقوق المرأة التي قررها الإسلام؟ أو من يماري في أن الرابطة العليا هي أخوة الإسلام؟ بل من يتكلم في كلمة النبي الجامعة: «تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه» ؟.
وإذا كان هذا هو آخر ما يريد نبي الرحمة أن يطبعه في أذهان الأمة؛ فإن من يثير كلاماً في تجمعات الناس وجُمعهم يخالف فحواه هذه التعاليم، يُعد مخالفاً لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبه.
يقول الشيخ رشيد رضا معلقاً على خطبة الوداع: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر قواعد الإسلام، وأمر أن يبلِّغ الشاهد الغائب، ونعى إليهم نفسه، وأشهد الله ـ تعالى ـ والمؤمنين أنه قد بلَّغ الدعوة» (1) .
إن إثارة مثل تلك القضايا الخلافية في تجمعات الناس وجُمعهم ليُعدُّ ـ في رأيي ـ نوعاً من السفه الذي يجب أن يترفع عنه الدعاة الذين أقامهم الله مقام الأنبياء ليُضيئوا ظلمات الأرض بنور السماء.
رابعاً: شمول الخطبة أمور الدنيا والآخرة:
من الخطباء من يجعل شغله الشاغل وهمه الأكبر الحديث عن عذاب القبر، وعذاب النار، وسخط الله وعقابه، وقضايا الآخرة عموماً، ويعد الحديث عن شؤون الدنيا أمراً لا ينبغي أن يكون موضوع خطبة، أو يحسبه رجساً من عمل الشيطان يجب على الخطباء أن يجتنبوه، فإن الخطبة ـ بزعمهم ـ تقوم على الوعظ الذي يشمل التخويف والترهيب وحسب.
وما نحن بصدده أكبر دحض لهذا، وإن أطول آية في كتاب الله تعالج أمراً دنيوياً.
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته هذه لم يركز على أمور الآخرة ـ على أهميتها ـ بقدر ما ركز على شؤون الدنيا، فقد ذكّرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم سيلقون ربهم فيسألهم عن أعمالهم، ثم بين لهم سبل غواية الشيطان وحذرهم منه.
لا تكاد الخطبة تذكر من أمور الآخرة شيئاً سوى ذلك، أما بقيتها فتعالج شؤون الحياة الدنيا، فإن صلاح الآخرة مرهونٌ بإصلاح الدنيا، والذين لا يبنون دنياهم يهدمون آخرتهم.
بينما قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمور الدنيا الكثير الكثير، ومن ذلك:
ـ حرمة الأموال والدماء والأعراض: وهذا يمثل مفرق الطريق بين نظام الإسلام والنظم الأخرى من شيوعية ورأسمالية وغيرها.
ـ حرمة الربا: وهو النظام الذي يسحق الفقراء، ويجعل المجتمع طبقياً.
ـ العدل والمساواة وحقن الدماء: حيث وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا، وأول ربا وضعه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب، ووضع دماء الجاهلية، وأول دم وضعه دم ابن عمه، ابن ربيعة بن الحارث.
ـ حق الرجل على المرأة وحق المرأة على الرجل: اللذان يكوِّنان أسس العلاقة التي تقوم عليها كبرى لَبِنات المجتمع المسلم.
ـ حق المسلم على أخيه المسلم: وهو بيان أن الرابطة العليا في الأمة هي رابطة العقيدة (2) .
فهل ترك النبي من أنواع العلاقات شيئا؟!!
لقد ذكر علاقة المسلم بنفسه: عندما حذر من الشيطان وأوصانا بمجاهدته.
وذكر علاقة المسلم بربه: عندما تحدث عن لقائنا بالله وسؤاله لنا.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الصغير «الأسرة» : عندما ذكر حقوق النساء، وأوصى بهن خيراً.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الكبير: عندما قرر حرمة الدماء والأموال والأعراض وأمر بأداء الأمانة.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الأكبر: وهي الأخوة التي تنتظمها العقيدة؛ لتكوِّن الرابطة العليا في الأمة.
إن الخطابة التي تقتصر على أمور الآخرة والترهيب وتهمل شؤون الدنيا تبعث على اليأس والقنوط، وتجعل الناس في حالة من السآمة والملل والإعراض؛ لأنها لم تشتمل على قضايا تلمس واقع الناس، وتعالج مشكلاتهم، «وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حيّاً بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل» (3) .
إن كل نبي من الأنبياء أرسله الله ليعالج مرضاً واقعياً موجوداً في حياة الناس، وذلك باستهداء الوحي الذي ينزله الله عليه، مع الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده قبل كل شيء.
وهكذا المجددون والمصلحون يبعثهم الله بعد انقطاع من الزمن ليجددوا ويُحيوا معالم الإسلام التي انطمست وماتت ـ أو تكاد ـ في ضمير الأمة.
خامساً: الاقتباس من القرآن والسير معه:
وهذه لا يتقنها أشباه الخطباء، إنما يقدر عليها أولو العزم منهم، الذين استظهروا كتاب الله قراءة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، وقبل ذلك حازوا ثقافة اللغة والأدب.
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمَّن خطبته معانيَ وآيات قرآنية كثيرة، وكيف لا وهو أفصح من نطق بالضاد، ومن ذلك: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، و {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ..} [التوبة: 37] . و {إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] . وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن، وغير ذلك.
وكيف يكون داعيةً إلى الله مَن لا يفقه كلام الله قراءة وحفظاً، فضلاً عن إدراك أسراره ومقاصده؟ فالقرآن لم يدع أمراً من شؤون الدنيا والآخرة إلا تحدث فيه، والخطبة التي تخلو من كلام الله ينقصها الكثير.
«إن الخطيب الذي يصلح للتحدث عن الإسلام رجلٌ خبيرٌ بالحياة وعللها، مكين في الوحي الأعلى» (1) .
قد يتحدث الخطيب عن معنى رائع أو فكرة هامة، لكن المعاني والأفكار وحدها لا تكفي ما لم يكن لها لباسٌ حسن، وكساءٌ أخَّاذ، والقرآن الكريم قد تحدى العرب جميعاً، وأخرس الأولين والآخرين في فصاحته وبيانه.
يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ: «لا تسمى خطابة إسلامية هذه الكلمات الميتة التي يسمعها الناس في بعض المساجد ثم يخرجون وهم لا يدرون ماذا قال خطيبهم؛ لأنه لم يَصل أحداً منهم بروح القرآن، ولا أنعش قلباً بمعانيه، ولا علَّق بصراً بأغراضه» (2) .
وبجانب الاقتباس من القرآن يليق بالخطيب أيضاً أن يسير مع القرآن؛ فهناك قضايا ركز عليها القرآن، وأطال الحديث عنها في غير موضع، وهناك قضايا ذكرها في موضع أو موضعين، وبين هذه وتلك تفاوتٌ ونسبيّة في عرض القرآن للقضايا، والخطيب الناجح هو الذي يسير مع القرآن حيث سار، فيولي ما اهتم به القرآن اهتمامه الأكبر؛ لأن القرآن لا يركز على أمر إلا إذا كان له أثره الكبير في معاش الناس ومعادهم.
سادساً: على الداعية البلاغ:
وهذا أمرٌ حسمه القرآن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، و {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] ، و {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، و {إنْ أَنتَ إلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 23] ، و {فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20] ، إلى آخر هذه الآيات التي تحسم الأمر بوضوح لا لبس معه، ولا شبهة فيه.
وفي خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقي التبعة عليهم ـ بعد أن بلَّغ ما عليه ـ أنهم سيلقون ربهم، ويسألهم عن أعمالهم، وكم تكرر في خطبته الجامعة: «اللهم هل بلَّغت؟» فتردد الجماهير: «اللهم نعم!» .
وهذا ـ بالطبع ـ لا يتنافى مع شعور الداعية بالأسف والحزن على ما به قومه من ضلالة، وأنهم على غير الصراط المستقيم؛ فقد كان ـ صلوات الله عليه ـ أوضح مثل لذلك، حتى أنزل الله عليه يواسيه ويخفف عنه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] .
يسير الداعية بهذا الحرص على قومه، ويرجو الله أن يهديهم، لكنه لا يقنط ولا ييأس إن استجابت له قلة، أو لم يستجب له أحد؛ فلقد مكث نوحٌ ـ عليه السلام ـ في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل.
المهم أنه أدى ما عليه، وبلَّغ ما أناط الله بعنقه، وأشهد الله وأشهدهم على ذلك، كما فعل مؤمن آل فرعون، وقد سلك مع قومه كل سبيل، ثم قال في النهاية: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ} [غافر: 44] .
وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بدأ الإسلام بشخصه في مكة وهو شاخصٌ ببصره إلى السماء وجبريل يناديه: «أنت رسول الله، وأنا جبريل» ـ ها هو في المكان نفسه قريباً من غار حراء وقد احتشد حوله عشرات الآلاف ليعلن فيهم إتمام المهمة، وتبليغ الرسالة، وإكمال الدين.
من أجل هذا كان الخطاب على الملأ: «اللهم هل بلَّغت؟» فيجيبون: «اللهم نعم!» فيرفع يديه لرب السماء قائلاً: «اللهم فاشهد!» .
__________
(1) وحي القلم: 1/25، دار ابن زيدون. بيروت. بدون تاريخ، وانظر معنى السيف الخشبي في: «قصة الأيدي المتوضئة» .
الجزء: 2/245 من الكتاب المشار إليه.
(2) السيرة النبوية لابن هشام: 6/8 ـ 11 دار الجيل. بيروت. ط أولى. 1411هـ. بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، رواها ابن هشام عن ابن إسحاق بغير إسناد، وقد جاء إسنادها في أحاديث متفرقة؛ فقد جاءت في الصحيحين عن أبي بكرة، ولمسلم عن جابر رواية جامعة، وفي سنن الترمذي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص، وغيرها من كتب السنة. وحسبنا ما قاله ابن حجر العسقلاني في مقدمة «لسان الميزان» وهو يتحدث عن فضل الاشتغال بعلم الحديث مورداً بعض ما جاء في خطبة الوداع: «فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلِّغ أوعى من سامع..» ، قال عن الخطبة: «وقد بلغت حد التواتر» راجع لسان الميزان: 1/3 بيروت. ط ثالثة. 1406هـ.
(1) إنما قال النبي ذلك؛ لأن ربيعة كانت تُحرِّم رمضان وتسميه رجباً، فبين أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وأنه الذي بين جمادى وشعبان.
(2) عوانٍ: جمع عانية، وهي الأسيرة.
(3) فقه السيرة للشيخ الغزالي: 505، بتخريج الشيخ الألباني. دار الدعوة. ط ثانية. بدون تاريخ.
(1) خلاصة السيرة المحمدية: 66، المكتب الإسلامي. بيروت. ط رابعة. 1405هـ.
(2) ذكر الأستاذ منير الغضبان عشرة مبادئ تضمنتها الخطبة عموماً، راجع المنهج الحركي للسيرة النبوية:
3 /200 ـ 201. مكتبة المنار. ط سادسة 1411هـ.
(3) وحي القلم: 2/247.
(1) مع الله/ دراسات في الدعوة والدعاة: للشيخ الغزالي: 273، دار الكتب الإسلامية. ط سادسة 1405هـ.
(2) السابق: 272.(238/24)
«شكراً لكم»
محمود العمراني
هات الدواة وداوني بالداءِ
أفنيت في وصف الجراح محابري
وكتبت شعر الحب ثم هجرته
لم يُبقِ لي زمن الأسى بقريحتي
وأتيت أحمل للعراق مدائحي
فلعل في بعض المواهب بلغةً
حتى إذا وافيتها متفائلاً
طلعت عليَّ فجائعٌ ومواجعٌ
فقصدتها والشعر شعر مدائحٍ
أواه يا بغداد أي مصيبة
واقتادني بعض الجنود لخندقٍ
فرأيت فيه كرامةً مهدورةً
وسمعت ثرثرة السياط ووقعها
ورأيت عربدة الغزاة وغلّهم
حتى إذا التفتوا إليَّ صرختُ: لا
وقصائدي في وصف كل جميلةٍ
هل عندكم للعاطلين وظيفةٌ
حسناً.. أتيتم لاجتماع قلوبنا
لم تستبيحوا حرمةً أو تقتلوا
شكراً لكم فلقد حفظتم أمننا
إني وجدت الشعر بعض عزائي
ونقشت قافيتي على الأشلاءِ
لما رأيت تهافت الشعراءِ
إلا قصيد الهم والأرزاءِ
بلد الندى والجود والخلفاءِ
ولعل في بعض القصيد ثرائي
وعقلت راحلتي لدى الزوراءِ
وفظائعٌ رقصت لها أحنائي
ودخلتها والشعر شعر رثاءِ
حلَّت مجلجلةً وأي بلاءِ..؟!
ذي رهبةٍ محلولك الأرجاءِ
وتوجعَ الأموات للأحياءِ
وقصيدةً من أنّةٍ وبكاءِ
في ثلّةٍ منزوعة الأحشاءِ
أنا شاعرٌ من جملة الأدباءِ
ما كان وصف الحرب من أعبائي
إني أجيد قصائد الإطراءِ
ولكي نحوز مراتب العلياءِ
طفلاً ولم تتعرضوا لنساءِ
شكراً لهذا الجهد والإبلاءِ(238/25)
خدعة التشيع الصفوي
ماجد محمد الحمد
(التشيع الصفوي والتشيع العلوي) كتاب ألَّفه المفكر الإيراني الشيعي (علي شريعتي) ، قصد من خلاله تصحيح بعض جوانب الغلو في التشيع الحالي ـ الذي دعاه بالتشيع الصفوي ـ رأى أنها لا تمتُّ بصلة إلى التشيع الأصيل ـ في زعمه ـ والذي يسميه بالتشيع العلوي، حيث كرَّس التشيع الصفوي مبدأ الطقوس الوثنية والنصرانية والشرك والخنوع والكذب والتقليد الأعمى المقيت الذي تبنَّته الدولة الصفوية؛ لإحداث شرخ في تدين الناس؛ حتى لا يتأثروا بالدولة العثمانية المنافسة والمخالفة لها في المذهب، وتغذية العداء التاريخي بين الطائفتين السنية والشيعية والتمايز بينهما؛ من خلال المغالاة في التشيع لإحكام السيطرة على العامة، حيث استطاع الصفويون خلال مدة وجيزة تحويل بلاد فارس ذات الأغلبية السنية إلى المذهب الشيعي الغالي تحت تهديد السلاح والفتك بعشرات الآلاف من السنة؛ تحقيقاً لأطماع سياسة طائفية توسعية.
ثم تلقف هذا التصنيف واشتهر على ألسنة الكُتّاب والنقاد مع تحويره إلى التشيع الصفوي، مريدين به: التشيع الخاضع للسيطرة الإيرانية ومرجعياتها الفارسية في قم، والعامل وفق أجندتها السياسية، والمؤمن بما يسمى (ولاية الفقيه) في طهران.
أما التشيع العربي فأريد منه: التشيع الرافض للسيطرة الإيرانية، المعتز بعروبته، والذي يقلد مرجعيات عربية في النجف، والرافض لولاية الفقيه.
ولا شك أن التشيع بشقّيه الصفوي والعربي واقع في حمأة الغلو والتطرف؛ فالتشيع قائم على ركيزتين أساسيتين:
ـ الأولى: الغلو في آل البيت، ودعوتهم من دون الله في الرخاء والشدة، وصرف كثير من العبادات إليهم؛ نسأل الله العافية.
ـ والثانية: الطعن في الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بخاصة الشيخين ـ رضي الله عنهما ـ، وكذلك الطعن في أمهات المؤمنين زوجات المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وخصوصاً عائشة وحفصة رضوان الله عليهما؛ بكلام يعف عنه الإنسان السوي فضلاً عمن يدعي النسبة إلى الإسلام.
وللأسف؛ فإن التشيع أصبح قابلاً للانحدار نحو الأسوأ، فكلما ازداد أحدهم غلواً ازدادت شعبيته والاحتفاء به، فنتج عن ذلك أن ما يُعدّ من أقوال الغلاة سابقاً أصبح في وقتنا الحالي من ضروريات المذهب الشيعي؛ كما يقول أحد أئمتهم.
فالغلو في التشيع سابق لقيام الدولة الصفوية بمئات السنين، فنظرة إلى كتاب (الكافي) للكليني كافية لمعرفة ما وصل إليه الغلو الفاحش في كتابٍ من أشهر كتبهم المتقدمة، لذا من الخطأ الاعتقاد بأن التشيع كان معتدلاً حتى جاء الصفويون فغلوا فيه، فالغلو بدأ مع بداية التشيع حيث حرّق علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أوائلهم في زمنه.
وليس ثمّة شك أن التشيع الصفوي الإيراني الحالي جمع السوأتين معاً؛ سوأة التشيع الغالي وسوأة الشعوبية الحاقدة على العرب، حيث طالت هذه النزعة الشعوبية المقيتة الشيعةَ العرب؛ حتى من كان منهم في منطقة الأحواز العربية ذات الأغلبية الشيعية والذين يعاملون مواطنين من الدرجة الثانية؛ بل لا يُعترف باللغة العربية لغةِ القرآن ولغة أهل البيت لغةً للتعليم في مدارسهم. ولم يسلم من حقد هذه النزعة الشعوبية الشيعةُ العراقيون اللاجئون إليها، حيث التنكيل بهم، وعدم الاعتراف بمرجعياتهم، وحشرهم في معسكرات تشبه معسكرات الفلسطينيين سابقاً بعد أن امتصت دماء أبنائهم في حربها مع العراق حيث جندت الكثير منهم في فيلق بدر لمقاتلة بلدهم تحت مظلة التشيع، فإيران تستخدم التشيع وسيلة لتخوين الأقليات الشيعية ضد بلدانهم؛ لتحقيق مكاسب سياسية لها، لكنها تخذلهم إذا تعارضت مصالحها مع مصالحهم، وتتناسى حينئذ تشيعهم!
لكن إذا كان التشيع الصفوي بهذه القتامة فليس يعني ذلك أن التشيع العربي بريء من هذا التطرف والغلو العقدي وإن اختلف سياسياً مع إيران، إذ إن من الخداع الذي يمارسه بعض الكُتّاب ـ للتسويق لبعض الأحزاب الشيعية العربية ـ الزعمَ أن التشيع العربي تشيّع متسامح خالٍ من الغلو وقابل للتقريب؛ لكون الخلاف معه ـ حسب زعمهم ـ محصور في جزئيات قليلة؛ لأنه رافض للهيمنة الإيرانية. فكأنما الخلاف مع الشيعة خلاف سياسي فحسب، فمتى ما رأينا منهم تبايناً سياسياً مع إيران تناسينا خلافنا العقدي الذي هو أسُّ المشكلة وسبب التنافر والتكفير.
ونظرة إلى واقع العراق يدرك من خلالها العاقل خطورة مثل هذا التصنيف حين يؤمن به بعض أهل السنة، فكثيراً ما تقرأ أن حزب المجلس الأعلى الشيعي بقيادة (الحكيم) وجناحه العسكري (فيلق بدر) ـ وهو حزب صفوي ـ يعمل وفق مصالح إيران، بينما التيار الصدري فهو على الخلاف منه يحركه التشيع العربي، الرافض للهيمنة الفارسية على بلاد العراق؛ لذا ينبغي التماهي مع مشروعه والعمل على تشجيعه والثناء عليه وإشراكه في تجمعات أهل السنة ومؤتمراتهم، ظناً أن عروبة هذا التيار ستنسيه الخلاف العقدي، حتى تفاجأ كثير من المتابعين للشأن العراقي من أهل السنة ـ ممن ليس للتحليل العقدي عنده كبير شأن ـ من وحشية هذا التيار وخصوصاً جناحه العسكري المسمى (جيش المهدي) حيث أعاد لذكراهم وحشية الصرب مع مسلمي البوسنة، حيث التفنن في التعذيب بصورة مقززة، وسحق العلماء وأئمة المساجد، والقيام بمجازر يذهب ضحيتها النساء والأطفال كما وقع في حي الجهاد، وتعظم المصيبة حين يكون القائم بمثل هذه الجرائم ممن ينتمي إلى القبيلة نفسها والمجرم جار للضحية وممن تربطه بها روابط النسب والقرابة، عند ذلك تدرك أن خداع تغييب التحليل العقدي في التعامل مع الفرق والجماعات أعظم مصيبة من خداع الانكفاء على التحليل العقدي وحده!
وإنك لتعجب من اختلاف الشيعة في العراق؛ فمن شيعة عَلْمانية إلى شيعة حركية إسلامية إلى شيعة صفوية أو عربية، ولكن عند عداء أهل السنة لا تلحظ هذا الافتراق، بل تجد تنافساً في إبادة أهل السنة، فاختلافهم اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد كما يتوهمه البعض، بل هو ـ فيما أحسب ـ شبيه باختلاف اليهود الشرقيين (السفارديم) واليهود الغربيين (الاشكنازيم) داخل فلسطين مع اتحادهم حيال المسلمين، بل إن عداء اليهود العرب أعظم وأشد من عداوة اليهود الغربيين!
فمن لم يعتبر من التاريخ، ولم تزل شلالات الدم في العراق غشاوة عينيه فيعرف عدوه من صديقه؛ فهو لن يتّعظ إلا بنفسه ساعةَ لا ينفعه ذلك.
ولا أحسب أن هناك حاجة إلى التذكير أنه لا مشاحة في استخدام هذا التصنيف ما دام في دائرة أن بعض الشر أهون من بعض، أو في دائرة توصيف فرق الشيعة وخلافاتهم الداخلية، أو استثمار هذا الخلاف بما يعود نفعه على المسلمين، ولكن ما نرفضه هو تسويق أن الخلاف السني الشيعي إنما هو خلاف سياسي لا عقدي، وحصره في التشيع الصفوي وحده، وخداع السنة ومخاتلتهم بأن التشيع العربي هو تشيع معتدل قريب لأهل السنة حتى يلدغوا من جحره مرات ومرات!(238/26)