التغلغل الصهيوني في العراق بات حقيقة
د. أكرم المشهداني
| الدور الصهيوني في الحرب الأمريكية على العراق:
ليس سرّاً أن حماية أمن كيان الدولة الصهيونية هو من أهمِّ أهداف غزو القوات الأنجلو أمريكية للعراق، إضافةً إلى السيطرة على منابع النفط العراقي، والهيمنة العسكرية والسياسية المباشرة على الممرات البحرية وطرق المواصلات العالمية. ويرى الباحثون الاستراتيجيون أن أمن العدو الصهيوني قد توفر وتعزز في الوقت الراهن بعد تدمير أمريكا القدرات العسكرية العراقية وبعد إنهاء أيّ قدرة على تهديد ذلك العدو عقب قرار (بول بريمر) بحلِّ الجيش العراقي بكافة أسلحته: الجوية والصاروخية والبرية والبحرية، وهذا الأمر يؤكد أن حرب غزو العراق قامت بها القوتان الاستعماريتان أمريكا وبريطانيا نيابةً عن (الدولة الصهيونية) ؛ لأن هذه الدولة ترى أن العراق يشكل خطَّ مواجهة وليس قوة مساندة فقط لأي معركة عربية ـ صهيونية مستقبلاً، كما ترى أن ضرب وتفكيك وتقسيم وتجزئة العراق هو مصلحة صهيونية بالدرجة الاولى، كما أن (العراق) من الدول العربية القليلة التي شاركت في حرب 1948م ولم توقع على الهدنة مع ذلك العدو، وتعتبر نفسها في حالة حرب معه.
ولقد رأى الصهاينة ـ كما أكّد أكثر من مسؤول منهم ـ بالحرب الأمريكية على العراق الفرصة الذهبية لتحقيق ما كانت تمنِّي الدولة الصهيونية نفسها به؛ من تفتيت العراق وإضعافه، وإثارة الفتن المذهبية والعرقية، وغرس الموساد في مختلف مناطق العراق.
وقد كشفت صحيفة (إيديعوت أحرونوت) في 5/12/2004م عن وجود عشرات الخبراء العسكريين الصهاينة المرسلين من قِبَل شركات أمنية صهيونية لتدريب أطراف عراقية في قاعدة عسكرية شمال العراق، كما كشفت الجريدة في تقريرها أن الشركات الصهيونية انطلقت من بناء مطار دولي في منطقة أربيل. ولتأكيد هذه المعلومات نشرت الصحيفة صورةً ولافتة للمطار وأمامه وحدة أمنية متنقلة. إضافة إلى ذلك كشفت الصحيفة معلومات سبق أن تردّدت كثيراً وحاول مسؤولون عراقيون إنكارها تفيد أن الشركات الصهيونية تغلغلت في العراق، وتعمل بصورة سرّية، وتحمل أسماء متعددة للتمويه، فيما أكدت معلومات أخرى أن شبكات الموساد الصهيونية عملت على إثارة الفتن الطائفية والمذهبية، ونفذت عمليات إرهابية ضد المدنيين، محاولةً تشويه صورة المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي وتشويه صورة الإسلام والمسلمين على حدٍّ سواء، كل تلك دلائل على الدور الصهيوني في تخريب العراق، ناهيكَ عن الحقد التاريخي.
ومؤخراًً ذكرت صحيفة (معاريف) الصهيونية أن ما يسمى حكومة كردستان العراق على استعداد تامّ لافتتاح قنصلية صهيونية في مدينة أربيل في المستقبل القريب، وكان (مسعود البارزاني) قد صرحّ في الكويت مؤخراً أن «إقامة علاقات مع الدولة الصهيونية ليست جريمة، فأنا مستعد لافتتاح قنصلية صهيونية في أربيل في حال قررت الحكومة العراقية افتتاح سفارة صهيونية في بغداد» . وصرَّح أحد الشخصيات العراقية البارزة لصحيفة (الشروق) المصرية مؤخراًً قائلاً: «إن الوجود الصهيوني معلن وسافر في الفنادق والمراكز السياحية بشمال العراق، ويظهر ذلك التواجد العلني حيث يحرص الصهاينة على ارتداء غطاء الرأس الخاص بهم؛ حتى يقدّموا رسالة لها معنى فيه تحدّ للشعب العراقي وكل العرب بأنهم موجودون في العراق وتحت رعاية وحماية الأكراد. ولا يقتصر ذلك الوجود على الشمال فقط، وأذكر أن أحد كبار الضباط السابقين في الجيش العراقي قال لي: أنه توجّه مؤخراً إلى مقرِّ وزارة الدفاع للعمل بها بعد أن أصبح محتاجاً إلى العمل أو إلى مصدر للدَّخْل بعد تسريح الجيش عقب الاحتلال، وأخبرني أنه رأى أحد اليهود من الذين يرتدون القبعة اليهودية يروح ويجيء داخل مكاتب الوزارة، والمؤكد أن جهاز المخابرات الصهيونية (الموساد) موجود في أماكن كثيرة رسمية داخل العراق، مستغلاً العلاقة الوثيقة مع الاحتلال الأمريكي، وقد بثّت المقاومة أشرطة مسجلة لعمليات تصفية عملاء الموساد» .
كما كشفت تقارير إعلامية عراقية عن (أن شركة صهيونية فازت بعقدين للاستثمار في مجال التنقيب عن النفط الخام في العراق. وذكرت الأنباء أن شركة سرسل الصهيونية ـ التي أدرجها النظام العراقي السابق على القائمة السوداء للشركات المحظور التعامل معها ـ حصلت من خلال شركة عراقية على عقدين نفطيين للاستثمار في مجال التنقيب عن النفط الخام. وأوضحت الصحيفة أن الشركة ـ ومقرّها تل أبيب ولديها فرع ثانٍ في فرنسا ـ حصلت على العقدين تحت عباءة شركة عراقية تدعى (أميرة بكس) يقودها ويشرف عليها فاسدون في شركة الاستكشافات النفطية التابعة لوزارة النفط، وهي تنتظر الفوز بعقد ثالث) .
ü الحقد اليهودي التاريخي للعراق:
ويبدو أن الأساطير اليهودية الصهيونية هي التي روَّجت لضرورة سحق القوة العراقية مبكراً، حيث يجد اليهود في تلمودهم المزعوم أن خراب دولتهم الثانية سيكون على أيدي جندٍ أولي بأس شديد يخرجون من أرض بابل مثلما خرج (نبوخذ نصّر) الذي خرّب دولتهم الأولى قبل آلاف السنين، وسباهم رجالاً ونساءً أسرى وعبيداً من أورشليم إلى بابل. وكان الصهاينة وعلى رأسهم (الإرهابي شارون) هم أكثر الفرحين والشامتين بدخول القوات الأمريكية الغازية شوارع بغداد، وبينما كان العرب والمسلمون يعتصرهم الألم كان الصهاينة فرحين والابتسامات تعلو وجوههم، ويتبادلون التهاني، ويتعاقرون الخمر سعادةً وطَرَباً بالإنجاز العظيم الذي حقّقه لهم بوش وبلير.
\ غزو العراق يمهّد لإقامة الدولة الصهيونية الكبرى من النيل إلى الفرات:
إذاً؛ فأمريكا غزت العراق من أجل تأمين الدولة الصهيونية كقوة عظمى وحيدة في المنطقة، وطَمْس هوية العراق العربية والإسلامية، وقطع كل صلاته بتاريخه الحضاري العريق، وتوتير علاقاته مع دول الجوار وخاصة مع العالم العربي. ولو تأملنا أساليب تعامل قوات الغزو الأمريكي مع العراقيين أفراداً ومُدناً وتأمّلنا صور التعذيب الأمريكية ولجوء قوات الاحتلال إلى دهم البيوت ونسف المنازل وجرف المزارع وقلع البساتين.. لوجدناها تتطابق تماماً في تفصيلاتها مع ما تمارسه القوات الصهيونية في فلسطين. وقد تبين فعلاً أن خبراء صهاينة في فنون التعذيب والاعتداءات الجنسية هم الذين درّبوا الجنود الأمريكيين على أساليب التحقيق الوحشية مع المعتقلين العراقيين والتعامل مع المدن الخارجة عن الطاعة! فعند بدء الاستعدادات العسكرية الأمريكية ـ البريطانية لغزو العراق، وضع الكيان الصهيوني نفسه في واجهة الأحداث الأمامية لهذا الغزو، باعتبار أن الحرب التي تشنّها أمريكا وبريطانيا على العراق هي (حرب صهيونية) بالدرجة الأولى، تأسيساً على الفكرة (الإسرائيلية) القائلة: بأن أيَّ حدث أو تغيير قد يتأتَّى عن هذا الغزو سيغيّر الوضع في المنطقة وفي الكيان الصهيوني بالذات، لذا فإن نتائج الغزو الأمريكي ـ البريطاني للعراق ستنصبّ في خدمة الأهداف الاستراتيجية الصهيونية، وتفتح الأبواب على مصراعيها أمام نشوء أوضاع جديدة ومختلفة، تُخرج الكيان الصهيوني من المستنقع الفلسطيني الذي بات يغوص فيه، وتخلّصه من الورطة الاستراتيجية التي تعيشها آلته العسكرية وانسداد أيّ أفق سياسي لحلِّ الصراع حسب المقاس الشاروني الصهيوني، إلى جانب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تهدد بانهيار الاقتصاد الصهيوني والانقسامات السياسية والاجتماعية والإثنية والطائفية التي تنخر جسد الكيان الصهيوني.
ü التغلغل الصهيوني في العراق إبّان الغزو وبعده:
أول ثمرة قطفها الصهاينة من وراء احتلال أمريكا وبريطانيا للعراق هي إنهاء العراق كقوة إقليمية لا يُستهان بها، هذا على الصعيد الاستراتيجي، أما الثمرة الأخرى فتمثلت في الاختراق الاستخباراتي للعراق أرضاً وإنساناً، فعلى هذا الصعيد أنشأت الدولة الصهيونية فرعاً للموساد في بغداد، وذلك حسب المصادر العراقية؛ لتنفيذ مهام خطيرة تتعلق في مطاردة العلماء العراقيين، والبحث عن أرشيف المخابرات العراقية، وتجنيد العملاء المحليين، بالإضافة إلى اختراق المجتمع العراقي، والتغلغل في أوساط النخبة السياسية والحركات والمنظمات السياسية الناشئة، والتقصِّي والتفتيش عن برامج أسلحة الدمار الشامل، والبرنامج النووي العراقي الذي كانت هذه الدولة قد سدّدت له ضربة قاتلة بقصفها مفاعل (تموز) العراقي أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
ومن مظاهر التغلغل الصهيوني في العراق بعد الغزو افتتاحُ مركز صهيوني للدراسات الشرق أوسطية في العاصمة العراقية أول أغسطس 2003م، ويحتلّ المركز مبنى كبيراً في شارع (أبو نواس) المطلّ على نهر دجلة، ويُعدّ المركز أول مركز صهيوني يعمل علانية في بغداد بعد سقوطها، وقد تمكن من الحصول على التصريحات اللازمة من قوات الاحتلال الأمريكية، ومن وزارة الدفاع البنتاغون، كما أن حراسة أمريكية مشددة تُفرض حوله، وهذا المركز يتبع مؤسسة صهيونية تدعى «ميمري» (مركز الصحافة العربية) الذي أنشئ عام 1999م ومقره الرئيس في العاصمة الأمريكية واشنطن، وله فروع منتشرة في لندن وبرلين والقدس الغربية، والمركز يتولى ظاهرياً متابعة الصحافة العربية الصادرة في الوطن العربي والدول الأوروبية ولا سيما بريطانيا، حيث يقوم بترجمة المقالات الهامة الصادرة في الصحف العربية إلى اللغات العبرية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وتوزيعها على المشتركين، كما يقوم بتزويد المؤسسات الصهيونية الرسمية بهذه الترجمات.
وتسرّبت معلومات عن أن وحدات أمنية صهيونية دخلت بغداد في اليوم الثاني لسقوطها، حيث تحركت تلك الوحدات من أربيل باتجاه كركوك، ثم استقرت في بغداد، وكانت برفقة قوات كردية. وقالت المصادر العراقية: إن الوحدات الصهيونية التابعة للجنرال الصهيوني (ديفيد تزور) ـ المعنيّ بتطوير التعاون الأمني مع الأمريكيين في العراق ـ دخلت بغداد مرتدية ملابس مدنية، وبسيارات مدنية ـ أيضاً ـ مكتوب على لوحاتها «السليمانية، وأربيل» ، وبتنسيق كامل مع قنوات أمنية أمريكية. في هذا الأثناء كشفت المصادر الصحافية أن الوحدات الأمنية الصهيونية في بغداد وبالتنسيق مع حزب الجلبي كان هدفها اكتشاف مخبأ أرشيف المخابرات العراقية لأسباب ترتبط بعمليات «الموساد» الصهيوني خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وخاصة تلك المتعلقة بصلة المخابرات العراقية مع أجهزة الأمن الفلسطينية التي قادها صلاح خلف «أبو إياد» وخليل الوزير «أبو جهاد» .
ü الصهاينة يدرّبون الأمريكان على حرب المدن:
وتعود أخبار التسلّل الصهيوني إلى ما قبل الغزو الأمريكي البريطاني، حين نشرت صحيفة (هاآرتس) الصهيونية تقريراً يفيد أن القوات الأمريكية الغازية تستعين بخبرات صهيونية في فنون وأساليب حرب المدن وقمع المقاومة المسلحة إبّان الاحتلال، وفي هذا الإطار ألقى الكولونيل الصهيوني (موشيه تامير) قائد فرقة جولاني الصهيونية محاضرة على ضباط قوات المارينز الأمريكي تمحورت حول الدروس التي تعلَّمها جيش الاحتلال الصهيوني من الصراع المسلّح مع حركات المقاومة الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى. وركزت محاضرة الكولونيل الصهيوني على عملية «السور الواقي» التي شنّتها قوات الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني في إبريل 2002م، ومحاضرته كانت جزءاً من سلسلة محاضرات وتدريبات حول حرب المدن التي كانت تتوقعها القوات الأمريكية مع الجيش العراقي. وخلال أيام الحرب أعلنت القيادة العراقية أنها عثرت على بقايا صواريخ تخص الجيش الصهيوني، وهي إشارة واضحة تؤكد أن الدولة الصهيونية خاضت الحرب على العراق جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فالعراق وإلى قبيل الغزو الأمريكي البريطاني كان يشكل تهديداً مباشراً للأمن الصهيوني الاستراتيجي، ويقف عقبة في وجه التفوق العسكري للصهاينة، ويحول دون التوسع الجغرافي لدولة يهود الذين يحلمون بإقامة (إسرائيل الكبرى) التي حدودها من النيل غرباً إلى الفرات شرقاً، ومن جبال الأرز شمالاً في لبنان وحتى نخيل خيبر جنوباً في المملكة العربية السعودية، وهذا حلم إبليس في الجنة. ولا غرابة أن يسعى الصهاينة لقضم ما تيسر لهم من كعكة العراق حتى وإن تعثّر الأمريكان والبريطانيون في تثبيت أقدامهم على بلاد الرافدين جرّاء المقاومة المسلحة العراقية التي توالي تكبيدهم خسائر كبيرة وعلى رأسها حصد أرواح الجنود الأمريكان.
ونشرت صحيفة (جيروسالم بوست) في 15/8/2003م تقريراً مفادُه أن جنوداً أمريكيين تلقّوا تدريباً في مدرسة مكافحة الإرهاب قرب «موديعين» في ضواحي القدس.
وتابعت «ذي تايمز» الموضوع وحصلت على تأكيد من الدكتور (تال توفي) ـ وهو خبير في حرب العصابات في كلية الأركان العسكرية في الدولة الصهيونية ـ بأن المارينز ووحدات جوالة في الجيش الأمريكي قامت بزيارات متكررة إلى الدولة الصهيونية للمشاركة في مناورات، وكان هناك تعاون وثيق على صعيد التكتيكات. وقال (تال توفي) في 19/8/2003م: «لدينا خبرة كبيرة في حرب العصابات، وأظهر الأمريكيون اهتماماً خاصاً بثلاثة مجالات: استخدام مروحيات (أباتشي) لعمليات قتل مستهدفة، وحرب المدن، وكيفية القيام بعمليات عسكرية كبيرة في مناطق مكتظة بالسكان. نملك الكثير من الخبرة في هذا المجال» .
ü مسؤولون صهاينة يزورون العراق:
بتاريخ: 2005/5/2م أذاع راديو سوا (صوت أمريكا) خبراً مفادُه أن ثلاثة مسؤولين صهاينة دخلوا العراق بجوازات سفر تركية، وذلك للتحضير لوفود صهيونية أخرى للقاء رجال الدين اليهود هناك، وفحص حالة القبور والأماكن الأثرية اليهودية في كردستان والموصل.
ü جريدة (هاآرتس) تكشف زيارة مساعد الجلبي للدولة الصهيونية واتصالات عراقية صهيونية:
وكان بعض المسؤولين العراقيين الجُدد مستعجلاً أكثر من اللازم في تنفيذ المخطط الصهيوني الأمريكي من احتلال العراق، فقد نشرت جريدة (هاآرتس) الصهيونية في عددها الصادر في 4/9/2004م تقريراً عن زيارة (مثال الآلوسي) مساعد أحمد الجلبي إلى الدولة الصهيونية لحضور ندوة عن (الإرهاب) أقامها مركز دراسات هرتزليا، وقد وصل (مثال) عن طريق تركيا، وكان يشغل وظيفة مدير ما يسمى بهيئة اجتثاث البعث التي شكّلها الحاكم الأمريكي السابق (بريمر) لفصل مئات الألوف من العراقيين من أجهزة الدولة ومحاربتهم في رزق عائلاتهم. وزعم (مثال) للجريدة أن الكثير من العراقيين يريدون إقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة الصهيونية. وأضاف: «إن العديد من المثقفين العراقيين يدركون أن الدولة الصهيونية يجب أن تؤخذ بالاعتبار كحقيقة موجودة، وأن أجيالاً من الناس قد خُلقوا هنا، وأن من مصلحة العراق أن تكون له علاقات مع الكل وهو ما نريده» .
ü الحاكمون الجُدد في العراق راغبون في علاقات مع الكيان الصهيوني:
صحيفة (هاآرتس) الصهيونية نقلت في 4/9/2004م عن (صلاح الشيخلي) سفير بغداد في لندن قوله: «إن موضوع العلاقات الدبلوماسية مع الصهاينة سوف يبحث بعد الانتهاء من الانتخابات العامة في العراق» . وأضاف (الشيخلي) في لقاء خصَّ به مراسل الصحيفة الصهيونية في لندن (شارون ساديه) : «إن مجموعة ضغط قوية من رجال الأعمال والمسؤولين السياسيين في العراق تعمل في بغداد من أجل إقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة الصهيونية» . وتابع (الشيخلي) حديثه قائلاً: «أنا لا أمانع شخصياً في إقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة الصهيونية أو في قيام مواطنين صهاينة بزيارة العراق» .
ü الصهاينة يسيطرون على وثائق مخابرات النظام السابق:
بعد دخول القوات الأمريكية العراق بأيام، كان رجال الموساد ينامون في مقارّ خاصة بـ (حزب المؤتمر) في المنصور ببغداد، حيث كشف تقرير نشرته صحيفة عراقية تواطؤ المؤتمر مع الدولة الصهيونية في تنفيذ اغتيالات وسرقة وثائق حساسة جداً تخص النظام السابق من مبنى المخابرات، حيث كان نظام (صدام) يحتفظ فيها بوثائق حساسة جداً، وخصوصاً أرشيف جهاز المخابرات العراقية الذي جرى تخزينه على أسطوانات «سي. دي» خاصة. واتهم التقرير الجلبي بأنه ساعد الموساد على اقتحام متحف بغداد وسرقة مئات القطع الأثرية الثمينة والنادرة، وأن جزءاً من هذه الآثار موجود بالفعل في الدولة الصهيونية. وأفاد التقرير أن بين التاسع من أبريل سنة 2003م ويونيو من السنة ذاتها كان رجال الموساد ينامون في مقارّ خاصة بحزب الموتمر. الأمر الخطير الآخر في التقرير المنشور كشف أن أرييل شارون وافق شخصياً على منح حزب المؤتمر مبلغ مليون ونصف المليون دولار شهرياً؛ دعماً لأنشطة الحزب داخل العراق ضمن خطة معدّة لتجنيد سياسيين وقادة مجتمع لبناء ما يسمى النفوذ الصهيوني في هذا البلد العربي الكبير والحيوي. واتّهم التقرير الدولة الصهيونية بتقديم بعض الأسلحة إلى عناصر حزب المؤتمر وتدريب قسم منهم في معسكرات خاصة بالموساد في دول إفريقية، وأن البعض من هذه العناصر مجنّد في المخابرات الصهيونية بشكل مؤكد.
ü كوماندوز صهاينة يقتلون علماء عراقيين:
وفي هذا السياق كشف جنرال فرنسي متقاعد عن وجود (150) من وحدات الكوماندوز الصهيونية داخل العراق؛ لاغتيال العلماء الذين وردت أسماؤهم فى قوائم مفتّشي الأسلحة الدوليين! وقال الجنرال الفرنسي المتقاعد ـ في تصريحات لقناة التلفزة الفرنسية الخامسة يوم 8 أبريل 2004م ـ: «إن أكثر من (150) جندياً صهيونياً من وحدات الكوماندوز دخلوا الأراضي العراقية في مهمة تستهدف اغتيال العلماء العراقيين، الذين كانوا وراء برامج التسلّح العراقية، وقُدّمت أسماؤهم إلى لجنة مفتشي الأسلحة الدولية برئاسة (هانز بليكس) » . وقال الجنرال الفرنسي: «إن مخطط الاغتيال هذا تمَّ وضعه من قِبَل مسؤولين أمريكيين وصهاينة، وأن لديه معلومات دقيقة بوجود الكوماندوز الصهاينة داخل العراق حالياً، بهدف اغتيال العلماء العراقيين الذين كانوا نواة برامج التسلّح الصاروخي والنووي والكيماوي، التي أرعبت الدولة الصهيونية، وعددهم ـ حسب الجنرال الفرنسي ـ قرابة ثلاثة آلاف و (500) عالم عراقي عالي المستوى، من بينهم نخبة تتكون من (500) عالم عملوا في تطوير مختلف الأسلحة، وهذه النخبة هي المستهدفة من العمليات الصهيونية بالدرجة الأولى» .
ü طالباني يدعو رجال أعمال الدولة الصهيونية للاستثمار في العراق:
ونشرت (القدس العربي) خبراً من مراسلها في فلسطين المحتلة، أن الرئيس العراقي جلال طالباني قال في مقابلة خاصة بثّتها القناة الثانية للتلفزيون الصهيوني أن التقدّم في العملية السلمية بين العدو الصهيوني والفلسطينيين سيفتح الباب على مصراعيه لإقامة علاقات بين تل أبيب والعراق. واعتبر طالباني أنه لا توجد عداوة بين العراق والدولة الصهيونية.
وأضاف أن العراقيين لا يريدون أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. أما حول الاستثمار الصهيوني في العراق فقال طالباني: إن بلاده مفتوحة أمام رجال الأعمال الصهاينة، وأنه يرحب بكل مبادرة منهم لفتح باب التبادل التجاري مع العراق بصورة علنية، ووجّه لهم دعوة رسمية إلى استثمار أموالهم في العراق.
ü (المصافحة) العراقية الصهيونية هل كانت مفاجأة عابرة حقاً؟!
من ناحية أخرى، تصافح وزير الخارجية العراقي (هوشيار زيباري) ووزير البنية التحتية الإسرائيلي (بنيامين بن أليعازر) على هامش المنتدى الاقتصادي للشرق الأوسط في الأردن. وقد تقدّم (بن أليعازر) من (زيباري) في أحد الممرات بين قاعات المنتدى، وقال لهوشيار بالعربية: «أنا عراقي.. شلونك؟» . وردَّ عليه وزير الخارجية العراقي بالإنجليزية قائلاً: «أنا بخير» ، ثم قال بالعربية: «الحمد لله» . وفي تصريحات لاحقة لـ (الشرق الأوسط) نفى (زيباري) أن تكون المصافحة مرتبة، وأكّد أنها لا تمثل موقفاً سياسياً من قِبَل الحكومة العراقية، وشدّد على أنه لا توجد ترتيبات لأيِّ لقاءات مستقبلاً.
ü ضباط صهاينة يعملون بمعيّة الجيش الأمريكي في العراق:
كشفت إحدى الصحف الصهيونية أن الجنرال (أهارون زئيفي فاركاش) رئيس قسم المخابرات العسكرية الصهيونية يعمل مستشاراً لدى قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال (كيسي) ، وأن هذا العمل طبيعي في أعقاب إرسال الرئيس بوش لعدد من الضباط الأمريكيين إلى الدولة الصهيونية لتبادل الخبرات والتدريب من أجل ضبط الحرب في العراق. وكانت «المؤسسة اليهودية للشؤون الاستراتيجية» في مقدّمة من عرض على بوش مقترحات تدعو إلى الاعتماد على الخبرة الصهيونية، وحددت له أسماء بعض الضباط المهمين لمساعدته في الحرب على العراق منذ بدايتها وحتى الآن.
واعتبر التحليل المنشور أن إدارة بوش والمحافظين الجُدد المتشددين داخلها وجدوا أن اليهود الأمريكيين أو الصهاينة لديهم دوافع أكثر من الأمريكيين في تحطيم الإرادة العراقية خصوصاً إذا ما كانوا قد اطلعوا على ما قالته التوراة حول سبي اليهود إلى بابل قبل ما يزيد عن ألفي عام، ولذلك يكشف التحليل أن (تومي فرانكس) القائد الأعلى السابق لقوات الاحتلال في العراق من أصل يهودي روسي، وهو من الجيل الثاني الذي نشأ صهيونياً متشدداً، وأن الجنرال الأمريكي (ريتشارد ناتونسكي) القائد العسكري الذي تولّى مهمة الهجوم المكثف على الفلوجة من الصهيونيين اليهود القادمين من أوكرانيا. ويذكر أن (ناتونسكي) قال: «إن الفلوجة سرطان، فالمسلمون فيها يستخدمون المساجد والمدارس لنصب الكمائن لقوات المارينز، ولذلك وجدنا في كل مسجد مخزن سلاح ومصنع متفجرات ووسائل قتالية» . وكشف ـ أيضاً ـ أن العقيد الصهيوني (نوعام تيفون) شارك في تدريب عدد من ضباط وجنود المارينز على اقتحام مداخل مخيم يضم بعض المساجد بعد مناورة مع الجيش الصهيوني انطلقت من نيتسانيم قرب قطاع غزة. وفي المعارك التي جرت في الفلوجة استعانت القوات الأمريكية ـ بموجب المصادر نفسها المذكورة ـ بعقيد من الجيش الصهيوني هو (إيغئال شارن) ومعه (800) من قوات الكوماندوز الصهيوني. وذكرت المصادر أن العقيد (إيغئال شارن) قال: «إن الأمريكيين تبدو عليهم السذاجة تجاه حداثة المعركة ضد المقاتلين المسلمين، ولذلك شعروا بالامتنان لشركائهم الصهاينة» .
ü أصابع الموساد في تعذيب العراقيين في أبو غريب:
وفي سجن (أبو غريب) ـ الذي شهد أسوأ أنواع التعذيب الجسدي والنفسي التي مُورست على المعتقلين العراقيين بعد الاحتلال ـ فإن الأصابع الصهيونية ظهرت واضحة في الأساليب التي كشفت عنها الصحافة ولجان التحقيق الأمريكية نفسها حول ما جرى في ذلك السجن. ولا تستبعد مصادر الأنباء وجود أصابع لـ (الموساد) الصهيوني (جهاز التجسس والمهام الخاصة الصهيوني) في عدد من العمليات التفجيرية التي نسبتها الولايات المتحدة للمجموعات الأصولية الإسلامية المسلحة منذ التسعينيات من القرن الماضي حتى الآن.
ü العدو الصهيوني: (قواتنا في العراق) :
صحيفة (معاريف) الصهيونية كتبت تحت عنوان (قواتنا في العراق) بقلم الكاتب الصهيوني (بوعز غاوون) الذي قال فيه: «إن الدولة الصهيونية دخلت العراق لتأخذ حصتها» ! واللافت أن أكثر الجهات التي تقوم بفضح وكشف مثل هذا التواجد هي الجهات الصهيونية وعلى مختلف مشاربها، وقد تكون الصحافة الصهيونية واحدة من هذه الجهات، وبدءاً من صحيفتي (معاريف) و (هاآرتس) ، وانتهاء بصحيفة (إيديعوت أحرونوت) التي ذكرت في تقرير لها أن (8) خبراء صهاينة يعملون الآن في العراق للمساعدة على إعادة بناء البنية التحتية للبلاد. ويشارك الخبراء الثمانية (حسب الصحيفة) ـ الذين توجهوا إلى العراق بدعوة من أمريكيين ـ في برنامج عام لإعادة إعمار أحد مجالات البنية التحتية، وقالت: إن وصولهم كان بالتنسيق مع الحكومة العراقية. كما يشارك في البرنامج عديد من الشركات والمؤسسات الصهيونية الخاصة التي تعمل في مجال تصنيع الأجهزة التقنية والنظم المتطورة. ونقلت الصحيفة عن أحد المسؤولين في الوفد الصهيوني قوله: «إن النشاط الحالي هو ثمرة جهود سرية، وإن أول اتصال بين السلطات الصهيونية والعراقية تمَّ من خلال وساطة دولة شرق أوسطية ولكنه لم يكشف عنها» .
ولم تقتصر متابعة أخبار التواجد والتغلغل الصهيوني على الصحافة الصهيونية وحسب، وإنما اهتمت بذلك صحافة الدول الإقليمية، حيث ذكرت صحيفة (جمهوريت) التركية بتاريخ 18/11/2004م من خلال تقرير لها في الموضوع نفسه، يؤكد على أن النشاطات والفعاليات الصهيونية مستمرة في شمال العراق منذ عام 1993م، وتريد الدولة الصهيونية من ذلك تأمين خط أنابيب بترول من شمال العراق إلى حيفا في فلسطين المحتلة، وتشغيله بأسرع وقت ممكن؛ لزيادة القوة الاقتصادية للدولة الصهيونية، ولهذا قامت الدولة الصهيونية بشراء أراضٍ في مدينة كركوك بمساحة ستة آلاف دونم، إضافة إلى شراء خمسمائة منزل في مدينة الموصل، وألفي دونم وثلاثين مبنى في أربيل، ولقد حصلت الدولة الصهيونية على بعض المساعدات من اليهود الأتراك في منطقة شمال العراق حسب تقرير الصحيفة التركية.
وإذا كان العديد من الحقائق قد أكدت على الدور الصهيوني في العراق، الذي ارتدى لبوسات مختلفة، فإن معركة الفلوجة قد كشفت الدور العسكري للكيان بعد أن اعترفت المصادر الصهيونية أن عدداً من الجنود اليهود من حملة الجنسيتين الصهيونية والأمريكية قُتلوا في الهجوم الأخير على مدينة الفلوجة، إذ قالت صحيفة (هاآرتس) في 21/11/2004م على لسان أحد كبار الحاخامات اليهود في القوات الأمريكية في العراق: إن المقاومة العراقية تمكنت من قتل ضباط وجنود يهود أمريكيين في الفلوجة، وأكّد على ذلك مراسل الصحيفة المذكورة في نيويورك وعلى لسان الحاخام (آرفننج آلسون) وهو برتبة رائد في الجيش الأمريكي حيث قال الأخير: «إن هناك العديد من اليهود قُتلوا في المعارك الأخيرة في الفلوجة، ومنهم: المقدَّم (آندي شتيرن) ويعمل في سلاح المدفعية، وجرى دفنه في المقبرة العسكرية الأمريكية في «آرلينغتون» في أمريكا، ومنهم ـ أيضاً ـ (ماك أفين) وهو قناص يهودي وحفيد أحد الحاخامات الكبار في أمريكا» . وكشف الحاخام في كلمته التي نشرتها صحيفة (هاآرتس) عن وجود عدد كبير من الجنود اليهود في الجيش الأمريكي، معظمهم يعملون في القنص، وتتراوح أعمارهم بين (18 و19) عاماً، منهم مجندات يهوديات. ودعا الحاخام عائلات الشباب اليهودي الأمريكي إلى إرسال أبنائهم إلى العراق للحرب ضدّ من أسماهم أعداء الدين اليهودي، معتبراً أن القتال ومساعدة الأمريكان في العراق أفضل كثيراً من العمل الديني في المعابد اليهودية. وكشف الحاخام (آرفننج) عن عدد الجنود اليهود في العراق قائلاً: «إنهم حوالي (1000) جندي، منهم بعض الضباط العاملين في الجيش الأمريكي» .
ü تحطم طائرة نقل عسكرية صهيونية أثناء هبوطها في مطار حرير:
في 11/9/2005م وفي إطار السعي الصهيوني المحموم لبناء جيش انفصالي كردي في شمال العراق، تحطمت طائرة شحن صهيونية محملة بمعدات عسكرية وأسلحة مرسلة من الدولة الصهيونية إلى الميليشيات الكردية أثناء هبوطها في مطار حرير الذي طوّره خبراء صهاينة ليكون بمقدوره استقبال الطائرات ذات الحمولة الثقيلة. المصادر الكردية المسؤولة عن هذه العملية تفرض تكتُّماً شديداً على مثل هذا النشاط خشيةَ ردة الفعل الغاضبة من العناصر الكردية الوطنية المغيبة من قيادات الأحزاب الكردية المتواطئة بالتنسيق المباشر مع الموساد الصهيوني.
إن معسكرات تدريب عديدة أقيمت في المنطقة الكردية بشمال العراق، بإدارة وإشراف خبراء صهاينة، الذين يقومون بتدريب الآلاف من الأكراد بشكل علني.
ونقلت مصادر خاصة أن وحدات عسكرية صهيونية قوامها ثلاثمائة عنصر وصلت بداية أغسطس الماضي إلى المنطقة الكردية، في إطار خطة لتشكيل جيش كردي بتدريب صهيوني، ووقّع قادة الأكراد على اتفاقيات مع الدولة الصهيونية تقوم تل أبيب بموجبها ببناء مطارات مدنية وعسكرية ومستودعات للأسلحة ومعسكرات للجيش الكردي الذي يقوم خبراء صهاينة بتدريبه والإشراف عليه وتشكيله. وذكرت المصادر أن النفوذ والتغلغل الصهيوني لم يعد يقتصر على إقامة مكاتب التجسس ومحطات التنصّت والتجنيد، بل امتدّ ليشمل كافة المرافق وبشكل خاص إنشاء جيش كردي. وقالت المصادر: إن شحنات من الأسلحة دفعت بها الدولة الصهيونية إلى المنطقة الكردية وهي بداية لعملية تسليح صهيونية للجيش الكردي، في حين حصلت شركات عسكرية ومدنية صهيونية على عقود استثمار متنوعة في كردستان العراق. وأكدت المصادر أن الزيارات المتبادلة بين القادة الأكراد والمسؤولين الصهاينة لم تتوقف، بل ازدادت وباتت الحركة نشطة بين أربيل وتل أبيب. وهناك ضباط من البشمركة (الميليشيا الكردية) يتلقون تدريبات عسكرية في مراكز تدريب داخل الدولة الصهيونية. وقالت المصادر: إن شحنات من الأسلحة دفعت بها الدولة الصهيونية إلى المنطقة الكردية وهي بداية لعملية تسليح صهيونية للجيش الكردي، في حين حصلت شركات عسكرية ومدنية صهيونية على عقود استثمار متنوعة في كردستان العراق، وأكدت المصادر أن الزيارات المتبادلة بين القادة الأكراد والمسؤولين الصهاينة لم تتوقف، بل ازدادت وباتت الحركة نشطة بين أربيل وتل أبيب. وهناك ضباط من البشمركة (الميليشيا الكردية) يتلقون تدريبات عسكرية في مراكز تدريب داخل الدولة الصهيونية.
لا شك أنه لا شيء يسير مصادفة فيما يتعلق بالمخطط الأمريكي ـ الصهيوني لإعادة فكّ وتركيب العالم العربي والإسلامي بما يخدم المصالح الصهيونية، ولا شك أن هدف الحرب الأمريكية على العراق ليس فقط امتصاص دم (بترول) العراقيين، ولكن ـ أيضاً ـ تأمين الجبهة الشرقية للدولة العبرية من الخطر العراقي الذي كان يقضّ مضاجع الصهاينة، وقلب العداء العراقي ضد الصهاينة إلى علاقات دبلوماسية بين البلدين رغماً عن أهل العراق. فقد كانت مفاجأة غريبة أن يعلن (جروسمان) ـ المسؤول عن وضع خطة سيناريو المستقبل بالنسبة للعراق ـ أن إقامة العراق علاقات دبلوماسية مع الدولة الصهيونية دليل على ديمقراطية هذه الدولة العراقية المستقبلية! والأغرب أنه رغم أن الكعكة العراقية لم تنضج، ولا تزال في فرن المحرقة العسكرية الأمريكية، إلا أن الصهاينة وأعوانهم في البيت الأبيض قد شرعوا في تحديد نصيبهم منها، خاصة نفط العراق.
وفي الختام: أقول للمسلمين وخصوصاً الغافلين منهم عمّا يُحاك ضدهم: متى تكون الصحوة؟ ومتى يكون الانتباه؟!
__________
(*) باحث من العراق.(232/13)
الانتخابات النيابية والبلدية في موريتانيا
أحمد ولد محمد ذو النورين
يصل عدد سكان موريتانيا (بلاد الشنقيط) قرابة ثلاثة ملايين نسمة، يسكنون في مساحة قدرها 419212 ميلاً مربعاً وهو ما يعادل (1037500 كلم2) .
يتكون النسيج الاجتماعي الموريتاني في معظمه من القبائل العربية (4/5) ، وبعض المجموعات العرقية (الزنوج) ، وقد ظلت اللُّحمة قوية بين فئات هذا المجتمع المسلم رغم التعدد العرقي، وذلك للرباط الإسلامي الذي يدين به الجميع.
مع بداية القرن العشرين الميلادي تم احتلال موريتانيا من قِبَل الاستعمار الفرنسي الذي انتهج كافة السبل لقطع صلتها بالإسلام، وعمل على إذكاء جذوة الأعراق، والعزف على وتر القوميات ... تجسيداً لسياسة السيادة على حساب التشتت.
لم يتمكن الفرنسيون من تحقيق مآربهم وإن أحرزوا بعض النقاط على الطريق.
بعد ثلثي قرن من السيطرة الاستعمارية رحل الاستعمار في الظاهر، وترك ممثلين مظهرهم المواطنة ومخبرهم العمالة، كما هو الشأن في جل البلاد الإسلامية التي رزحت تحت نير الاستعمار، ورغم أولئك فإن الهوية الحضارية للبلد ظلت راسخة أمام عواصف التغريب.
بعد ما يناهز العقدين من حكم المدنيين لموريتانيا كانا من أكثر فتراتها استقراراً دخلت البلاد سلسلة انقلابات كان أسوأها من حيث الخطر الفكري والأيديولوجي على المجتمع؛ ذلك الانقلاب الذي جاء بولد الطايع سنة 1984م إلى سدة الحكم.
منذ وصول ولد الطايع إلى السلطة طفق يبذل قصارى جهده من أجل بتر أي صلة للمجتمع الموريتاني بالإسلام، وقد عمل ذلك بشكل مؤسَّس ومنظم تدعمه رياح العولمة المشؤومة.
فبادر بالعلاقة مع الكيان الصهيوني، وعمل على فرنسة التعليم، وغيَّر المناهج، وأغلق المعاهد الإسلامية، وغيَّب العلماء والدعاة في غياهب السجون، وسن قانوناً لتعطيل المساجد، واستخف بشعبه واستهزأ بالإسلام وحَمَلَته.. وعادت البلاد إلى أجواء الانقلابات من جديد حتى كادت بلاد شنقيط بعد أن كانت تعرف ببلاد المليون شاعر تتحول إلى بلاد المليون انقلاب (كناية عن كثرتها) .
وفي غمرة ذلك جاء انقلاب الثالث من أغسطس/ آب عام 2005م بزعامة أحد ركائز النظام السابق.. عاش الناس في اللحظات الأولى لهذا الانقلاب فرحة عارمة دون أن يهتموا بما ستؤول إليه الأمور؛ لأنهم يرون أن مجرد التخلص من ولد الطايع ونظامه يعد إنجازاً لا نظير له.
وفور مجيء المجلس العسكري أطلق وعوداً بإرساء الديمقراطية من خلال إجراء انتخابات نزيهة وشفافة.. وهو الأمر الذي دفع الفرقاء السياسيين إلى الدخول في حلبة سباق محموم مدفوع بجملة من القناعات والمصالح والآمال المشوبة بالحذر، يريد كل امرئ منهم أن يجد موطئاً في هرم السلم.
لقد خطا المجلس العسكري بعد الانقلاب خطوات جيدة على طريق الإصلاح، سوى أن تلك الخطوات ظلت تعاني من ملحوظات خطيرة عدة، كان من أهمها:
| الاحتفاظ بمجموعة من السجناء الإسلاميين لأسباب لا تمت إلى إقامة الحق والعدل بصلة.
| تأكيد هذا المجلس العسكري على لسان رئيسه في كل مناسبة ـ من غير حياء ـ على أهمية العلاقة مع الكيان الصهيوني، ودفاعه المستميت عن تلك العلاقة معه، والتي تعد وصمة عار في جبين كل الوعود والإنجازات؛ وبخاصة أنها كانت قد اتخذت منعرجاً خطيراً في أيام ولد الطايع؛ حيث وصلت إلى توقيع بروتوكولات بين تجار موريتانيين والصهاينة كما وقع بين أحد البنوك الموريتانية والصهيونية.
رغم تلك المآخذ بدأت البلاد تستعد لاستقبال سلسلة من الاستحقاقات الانتخابية في سابقة لم تشهد مثلها؛ إذ تجاوزت اللوائح البلدية 200 لائحة، وقاربت النيابية 450 لائحة، في خطوة تكتسي أهمية كبيرة على مستوى التربية السياسية والتعاطي مع الجو الديمقراطي، في تحد للثقافة التقليدية وجفاء الصحراء والتمايز الطبقي وأمواج المعاناة العاتية.
إننا في هذا السياق ـ لا نزكي الديمقراطية أبداً ـ بل نراها إيديولوجية أرضية الابتكار، وثنية المنشأ، دنيوية الأمل، علمانية المحضن، غربية المنطقة، نصرانية الحماية، قائمة على الكيل بمكاييل متعددة، وهي قبل هذا وذاك من تشريع البشر وتجسيد لحاكمية غير الله.
إلا أننا نرى أن ترك الحرية للناس في مسؤولياتهم عن شؤونهم ومشاركتهم في واقعهم يعتبر أقل شيء في حقهم.
ظل الموريتانيون يتوقون إلى أي شيء يجدون من خلاله متنفساً بعد عقدين من حبس الحريات ومصادرة الآراء وفشوِّ الاستبداد وانتشار الظلم وقتامة الظروف وسوء الأحوال.
بدأ المجلس العسكري مساراً إصلاحياً حامت حوله شُبَهٌ كثيرة، لما اعتوره من انتقادات حادة، ظلت تصدر بين الفينة والأخرى من مختلف الفرقاء السياسيين فساءت الظنون ... ورغم ذلك وُجدت إصلاحات سياسية تمثلت أهم محطاتها فيما يلي:
| تعديل الدستور بشكل يسمح بتحديد الفترة الرئاسية مرة واحدة.
| إصلاح الإعلام وإلغاء المواد المقيدة لحرية الصحافة.
| سن رزمة من القوانين تجسد أهمها في القانون الانتخابي ونظام الترشح.
وكان أغرب النظم تلك: تخصيص (20%) من المقاعد البرلمانية للنساء، ذلك النظام الذي هو تحقيق لنبوة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم ... » .
إن نظام (الكوتا) النسوية هذا موغل في التقليد الأعمى للديمقراطيات المصطنعة في البلدان المتخلفة، وهو في واقع الأمر ليس إلا قراراً ارتجالياً استباقياً سينتج بتطبيقه في الغالب انتخاب نوعية من النساء، ضاربة أطنابها في الأمية الدينية، قاصرة عن تدبير شؤونها الخاصة وبالأحرى القضايا العامة، وقد عُد هذا القرار مأخذاً على هذه الانتخابات، وأثار حفيظة الأحزاب السياسية التي لم تجد بداً من التسليم به.
فالمتابع للواقع الموريتاني له أن يتساءل ـ نظراً لتواضع التجربة الدستورية وبساطتها ـ عن حقيقة إمكانية الانتقال إلى نظام تسوِّقه نخبة تمتلك القدرة على إنجاز برامج إصلاحية من شأنها النهوض بالمجتمع على كافة الأصعدة.
ذلك التساؤل المستشرف لحقيقة تلك الوعود التي ظلت تحوم حول الوفاء بها شكوك جمة، زادت من تلهف الناس إلى خطوة إقامة انتخابات بلدية وتشريعية حرة ونزيهة، وضاعفت من تَوَقانهم إلى تلك الانتخابات بقدر كبير من الاهتمام والترقب، فغدا كثيرون يتطلعون بشغف بالغ إلى ما ستؤول إليه هذه الانتخابات، باعتبارها المحك الحقيقي والمسار الرئيس الذي يتيح فرصة الحكم على أهم وعود المجلس العسكري، الذي أنشأ هيئة مستقلة تم اختيارها بالتشاور مع مختلف الشركاء السياسيين، وظيفتها الإشراف على الانتخابات المذكورة، كما التزم بفتح المجال أمام مراقبين محليين ودوليين. وقد وفَّى المجلس بما وعد، فتم الاقتراع في موعده المحدد (19 نوفمبر 2006م) ، وجاء أهم ما تميزت به على النحو التالي:
| فجأ الحياد التام من قِبَل الإدارة والعسكر في عمليات الاقتراع كافة من في الميدان، وأجمعت ألوان الطيف السياسي أن العملية جرت بنزاهة وشفافية، ولم يسجل تدخل مؤثر من ِقبَل الجهات الحكومية في سير الانتخابات التي لم تترشح فيها أي شخصية رسمية، وإن سعت فلول من بقايا النظام السابق إلى إشاعة مسلكيات غير متحضرة كالخروقات التزويرية واللعب على عقول الناخبين من خلال الإشاعات المغرضة والضغوط المادية والمعنوية، وهو الأمر الذي كان مبرراً آخر للتخوفات السابقة والتي سبقت الإشارة إلى أنها نشأت لدى الأحزاب بعد ترشحات بعض المستقلين، الذين كانوا قد أذهلوا المشهد السياسي بتسارع استقالاتهم من الأحزاب وخاصة الحزب الحاكم سابقاً، وسابقوا إلى الترشح كمستقلين.
| لقد انجلى واقع كثير من الأحزاب التي بلغت (25 حزباً) ، واتضح أن بعضها ليس سوى حوانيت تجارية تفتقر إلى القواعد الشعبية، ذلك ما أبرزته نتائج الاقتراع، مما يعطي انطباعاً بأن الجدير بالبقاء من هذه الأحزاب أقل من النصف.. تلك الأحزاب التي تبوأت من النتائج صدارتها وهي:
ـ حزب التكتل: بقيادة أحمد ولد داده، ويعد من أهم وأعرق أحزاب المعارضة ـ التحالف الشعبي ويرأسه (مسعود بن بلخير) هذا الحزب الذي يقال إنه قام على زواج بين الشرعية الناصرية (القوميين) وشعبية الحراطين (الزنوج) !.
ـ الإصلاحيون الوسطيون: وهم كتلة سياسية تمثل تيار الإسلاميين، الذي لم يسمح له بإنشاء حزب، فعمل تحت مظلة مستقلة شبيهة بالحزب السياسي.. هذه الجماعة التي تتهمها جهات متنافسة معها في الميدان السياسي باستغلال الدين لمصلحة السياسة، وتنبزها جهات سلفية بالخضوع للعمل الاستبدادي، والتشنيع على المجاهدين والرضى بتحكيم شرائع من عمل البشر، سوى أن بعضهم يردُّ بأن الإسلام سياسة، وأن الجهاد يحتاج إلى دعوة بالحسنى تصاحبه، وحوار مرن يتم في ظله إبرام معاهدات مع العدو.
ـ الحزب الجمهوري: وهو الممثل لكتلة السياسيين من بقايا نظام ولد الطايع، والمزوَرّين خلف النهج الليبرالي المتربص بالإسلام، هذه الكتلة مدعومة من قِبَل رجال أعمال ومتنفذين ووزراء سابقين.
ـ حزب حاتم: الذي يعتبر امتداداً لحركة فرسان التغيير، وأغلب قادته من العسكريين الذين حاكمهم ولد الطايع إثر محاولاتهم المتكررة للإطاحة بنظامه، وهو برئاسة صالح ولد حننّ، وقد حقق هذا الحزب رغم حداثة نشأته مساحة من الثقة لا يستهان بها، خاصة لدى الشباب والطبقات الفقيرة في مناطق من البلاد.. وهناك أحزاب أخرى.
ومن الملاحظ أن نطاق الترشحات في هذه الانتخابات قد اتسع بشكل لافت للنظر؛ حيث فاق عدد المترشحين كل التوقعات، فتم إيداع (441) قائمة انتخابية للتنافس على مقاعد الجمعية الوطنية البالغ عددها (95) مقعداً، موزعة بين لوائح حزبية وصلت (260) ، و (124) قائمة مستقلة، و (32) وطنية. أما عدد الترشحات للمجالس البلدية فقد وصل (1264) لائحة حزبية ومستقلة أو متحالفة للتنافس على (216) بلدية.
رغم حياد الإدارة وشفافية الانتخابات فإن التحالف القبلي والحضور النسبي لأصحاب النفوذ التقليدي كان له بعض الأثر خاصة في المناطق النائية.
لقد وصلت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات زهاء (75%) ، وهو أمر مثير للانتباه، والراجح أنه يعود ولو جزئياً إلى كثرة المتنافسين، كما اتسمت أجواؤها بالهدوء، ولم تسجل فيها حوادث أمنية، ولم تستغل فيها وسائل الدولة كما كان يحدث أيام ولد الطايع.
| جاءت نتائج هذه الانتخابات قلباً للمعادلة السياسية، حيث تبوأت أطراف معارضة هرم الاستحقاقات بعد أن ظلت تعاني من التهميش والإبعاد، في حين تقهقر الحزب الجمهوري الذي جثم على زمام السلطة قرابة العشرين سنة استأثر خلالها بكل مقدرات البلاد، ودأب على نشر الظلم والفساد.
| تميزت هذه الانتخابات بالمشاركة المعتبرة للإصلاحيين الوسطيين (الإسلاميين) خاصة في العاصمة نواكشوط التي فازوا في ثلاث من أكبر مقاطعاتها التسع، وأخذوا مقعداً من مقاعد نوابها الأحد عشر، واحتلوا المرتبة الثالثة فيها بعد أكبر حزبين معارضين هما حزب التكتل والجمهوريين.
لقد تميزت هذه الانتخابات بغياب أغلبية لأي حزب، نظراً لتشرذم الأصوات بين الطوائف المتعددة والأطياف المختلفة، مما ينذر بوجود صعوبة بالغة في تشكيل حكومة منسجمة، واستحالة قيام حكومة ذات قرار مركزي.
إن مرور هذه الانتخابات بشكل نزيه وشفاف فتح آفاقاً واعدة، وأعطى انطباعاً جيداً عن وفاء المجلس العسكري بالتزامه، كما نزع جزءاً من الغشاوة التي دارت حول وعوده، بعد الشُّبَه التي أثيرت تجاه تصرفات رأى فيها بعضهم تحيزاً وتملصاً من الضمانات.
وجاءت هذه الانتخابات تعبيراً عن مستوى نضج النخبة السياسية الموريتانية، كما أنها بعثت آمالاً وأومضت إشارات اطمئنان لما سيكون عليه النزال الرئاسي بعد أربعة شهور.
إن الأمل كبير في ظل ما تم من إنجازات لحلحلة بعض النقاط التي لا تزال محتاجة إلى التسوية من قِبَل المجلس العسكري، كما هو الشأن بالنسبة لملف الإسلاميين المعتقلين دون تقديمهم للمحاكمة، وكذلك الإصرار الفج على العلاقة المقيتة مع الكيان الصهيوني.
لكن السؤال الذي يبقى عالقاً مفاده: هل الديمقراطية بقضها وقضيضها وأيديولوجيتها في مصلحة هذا الشعب المسلم المسالم ذي النسيج الاجتماعي المتنوع؟
أم أن العودة إلى الإسلام الصحيح في شوريته وتطبيقاته السبيل الأمثل والمنهج الأكمل الذي ضمن خلال قرون آصرة هذا المجتمع في أبهى صورها ونقائها، وفي أكثر عصوره رفاهاً وازدهاراً؟
وهو الوحيد (الإسلام) القادر على منحه تلك الصورة في حركته الحضارية الحديثة.
إن في الإسلام حرية مؤطرة بالعبودية لله وحده، ومساواة لا نظير لها، وعدالة لا يشوبها ظلم، وإنصافاً لا يخالطه حيف.
فبه تمام النعمة وكمال السعادة، وهو هداية وبشرى. قال ـ تعالى ـ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] . وقال جل شأنه: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . [المائدة: 15 - 16](232/14)
حسن الحكيم وعبد العزيز نصرالله!
أحمد فهمي
المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وحزب الله في لبنان، ظاهرتان جديرتان بالدراسة والاعتبار، فكلٌّ منهما يمثِّل بحاله نهجاً مستقلاً في الخطاب والأداء والأثر، ورغم اختلافهما في ذلك إلا أنهما يتكاملان على نحو مدهش، وربما تزول الدهشة لو تناولنا ما يتفقان فيه قبل المختلف.
حزب الله والمجلس الأعلى هما أبرز منظمتين شيعيتين عربيتين تعتنقان مبدأ ولاية الفقيه على الطريقة الإيرانية، وكلاهما يعتبر مُرْشد إيران مرجعهم في التقليد.
وقد تأسس الحزبان في نفس العام 1982م، وأشرف على تأسيسهما الحرس الثوري الإيراني برعاية الخميني، ولكل منهما جناح سياسي وآخر عسكري.
أما ما يختلفان فيه أو بالأحرى يتكاملان، فهو الخطاب والأداء، فالمجلس الأعلى ـ الذي يرأسه حالياً عبد العزيز الحكيم ـ يتم إبرازه على أنه زعامة سياسية عراقية مقبولة دولياً، فهو بالأساس مبرمج دولياً، وبالأخص فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ومرفوض شعبياً لدى الرأي العام العربي، ولذلك ليس غريباً أن يتم استقباله في البيت الأبيض وكأنه زعيم دولة.
بينما سبقه هادي العامري قائد فيلق بدر وسفاح العراق الأكبر إلى زيارة بريطانيا، حيث التقى مسؤولين في حكومة طوني بلير، وعقد ندوة في البرلمان البريطاني.
أما حزب الله فقد تمت برمجته شعبياً، أي: اختراق الرأي العام العربي، ولذلك أصبح مقبولاً من فئات عربية كثيرة، لكنه مرفوض دولياً، ولنتأمل الموقف الأمريكي المتناقض من كلا الحزبين رغم معرفة الأمريكيين أنهما وجهان لعُمْلة واحدة تصدر في طهران.. ألا يُعدّ ذلك نجاحاً لافتاً للمخطط الإيراني؟!
ومن علامات التناقض الأمريكي في المستنقع الإيراني ـ أيضاً ـ أن الحكيم يطالب بوش صراحة بعدم سحب القوات الأمريكية من العراق، بينما يقيم نصر الله لبنان ولا يقعدها ضد حكومة يعتبرها مواليةً للبيت الأبيض، وفي العراق يرفض الحكيم تماماً مناقشة اقتراح السُّنّة إقامة حكومة وطنية، في حين يعتبر نصر الله هدفه الأول في معركته السياسية الأخيرة: إقامة حكومة وحدة وطنية، بينما لا يزال العرب يراوحون ويريحون أنفسهم بالتحذير من الهلال الشيعي الذي أوشك أن يصبح بدراً مكتملاً.
وفيما يتعلق بالخطاب، فإنه يجب أن نثبت تفوق نصر الله في هذا المضمار بمراحل على عبد العزيز الحكيم، فرغم ازدواجية الخطاب لدى كليهما، إلا أن الأول يبدو أكثر احترافاً من الثاني، وربما يكون سبب ذلك اختلاف التخصص، فأحدهما شعبي والآخر دولي.
يتبادل قادة الأحزاب الشيعية هذه التقاسيم والتنويعات انسجاماً مع (المايسترو الإيراني) ، بينما تمارس أحزاب السُّنّة أداءً نشازاً، فلا زعماء مؤثرين للسُّنّة في لبنان، وفي العراق يبدو أكبر زعيمين للسُّنّة على طرفي نقيض، فالحزب الإسلامي أصدر بياناً مقتضباً تعليقاً على قرار توقيف الشيخ حارث الضاري، بينما شارك الأستاذ طارق الهاشمي في البيان المشترك مع الرئيس العراقي وعبد العزيز الحكيم؛ لاستنكار تفجيرات مدينة الصدر، وهو ما شجَّع نوري المالكي ـ رئيس الوزراء العراقي ـ أن يحتجَّ على زيارة الشيخ الضاري للأردن، وكأنه أصبح مطلوباً دولياً، وفي نفس الوقت بدأت المؤامرات على هيئة العلماء، وتناقلت فضائيات الشيعة إشاعات عن انقسامها ورغبة علماء سُّنّة في تشكيل هيئة جديدة.
ولنتأمّل جدياً هذه التراتبية العجيبة، أولاً: مؤامرة ضد الشيخ حارث الضاري لتحويله إلى زعيم للمعارضة العراقية السُّنّية من الخارج، وتهميش دوره في الداخل، ثانياً: بوش يعلن عن استقبال الحكيم في واشنطن، ثالثاً: بعد ذلك بشهر بوش سيستقبل الهاشمي ـ أيضاً ـ في البيت الأبيض، هل أصبحنا في حاجة للبحث عن طهران سُنّية؟!!(232/15)
أين المفر؟
د. يوسف بن صالح الصغير
من المعلوم أن أكبر مظاهر الفشل والتردي هو تحوُّل أسباب القوة إلى مظاهر ضعف، وتحوُّل القوى الداعمة إلى قوى معيقة، وانقلاب الصفات المرغوبة والأخلاقيات المفضلة إلى سبة ومنقصة، وهنا لا مناص من الاختيار بين التغيير الكامل أو الانهيار الكامل، وإذا أردنا دراسة أحد الأمثلة المعبرة فإنها تنطبق على المأزق الأمريكي.
فقد أدى سقوط الاتحاد السوفييتي السريع إلى فقدان الولايات المتحدة لتوازنها، حيث فوجئت بأنها أصبحت سيدة العالم بلا منازع، ودخلت في مشاريع كثيرة اعتُني فيها بالعناوين والبدايات وأهملت التفاصيل والاحتمالات؛ لأن النجاح مضمون ومؤكد؛ وبدأت موجة من التغيير في أوروبا الشرقية، وتحت رايات الحرية والوعود بالرفاه، وصل إلى الحكم من يحمل الجنسية الأمريكية، وبعد سنوات قليلة اكتشف الناس أن الذي انتقل إليهم من الغرب هو مستوى الأسعار، بدل مستوى المعيشة، وأن النظام الاقتصادي الجديد نجح في تصدير سلعة منافسة وحيدة، إنها اللحم الأبيض؛ فقد اهتم الغرب بالسيطرة وأهمل التنمية؛ لأنها تفاصيل لا داعي لها، خاصة عندما يكون الربح مضموناً، ولذا بدأ الناس رحلة العودة إلى الماضي القاسي هرباً من الحاضر الأقسى؛ وفي هذه الحالة فلا شك أن الروس قادمون من جديد.
أما في أصقاع العالم الإسلامي فقد رفع الغرب شعارات الحرب الاستباقية على الإرهاب ومواجهة محاور الشر ونشر الديمقراطية والإعمار؛ وأخيراً حماية إسرائيل. واستغلت أمريكا دخول صدَّام للكويت وأحداث الحادي عشر من سبتمبر في تكثيف الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة واحتلال أفغانستان والعراق واستكمال السيطرة على منابع النفط.
إنها إنجازات هائلة في زمن وجيز وبدون خسائر تذكر؛ ففي بداية الحرب على أفغانستان أحس الغرب بأهمية الاستعانة بقوى محلية وإقليمية؛ ومع إجبار باكستان على المشاركة تم الاتفاق مع إيران على مشاركة فعالة حتى إن أحد المسؤولين الإيرانيين صرح أنه ما كان لأمريكا دخول كابل بدون المساعدة الإيرانية، وبقدر ما كان عنوان النجاح مبهراً في تنصيب الأفغاني المقيم في أمريكا رئيساً وإقامة حكومة أفغانية تابعة لهم، وإقناع حلف الناتو بالمشاركة، وإقامة مؤتمرات الدول المانحة لما يسمى (إعمار أفغانستان) فإن المشكلة تكمن في التفاصيل؛ فطالبان نجحت في الاحتفاظ بقوتها وتأجيل المواجهة والذوبان في المجتمع، وتحالف الشمال يحس أنه يتعرض للتهميش والإبعاد حتى إن (رباني) صرح باحتمال العودة لحمل السلاح ضد الاحتلال في الوقت المناسب.
إنها تفاصيل مهمة خاصةً إذا علمنا أن طالبان التي تحتفظ بكامل قواها تسخِّن الوضع إلى الحد الذي يدفع الغرب إلى إرسال مزيد من القوات والتورط التدريجي بحيث يصبح وجودهم كبيراً مما يعني أن هزيمته تعني القضاء على الحلف وتفكيكه، وهذا هدف تسعى إليه أيضاً كل من الصين وروسيا؛ ولذا فإنه عندما يصرح رئيس الأركان البريطاني بأن الوضع في أفغانستان أكثر سوءاً من العراق فإنه يعني أن الأمور تسير إلى وضع عسكري أصعب من العراق؛ لأن سياسة طالبان قائمة على أساس أن إغراق الضحية يجب أن يكون في وسط المستنقع.
وإذا كانت خطط احتلال أفغانستان قد أعدت على عجل؛ فإن غزو العراق دُرِس بعناية بقدر ما تسمح به قدراتهم الذهنية، واتخذ القرار قبل أكثر من خمس سنوات من الغزو، ومع ذلك فقد كثرت العناوين والشعارات وغابت التفاصيل. لقد اعتمد الغزو على قوة امريكية مفرطة وقوى محلية عراقية اجتمعت على هدف إسقاط النظام أساسها الزعامات الكردية في الشمال والقوى الشيعية المرتبطة بإيران التي كان لها حضور قوي في الاجتماعات التمهيدية لهذه القوى مع الجانب الأمريكي الذي اهتم بالعنوان ولم يُلْقِ بالاً لأطروحات الآخرين وتصوراتهم لعراق المستقبل.
لقد تبخر شعار تحرير العراق غداة سقوط بغداد السريع، وتحولت القوات الأمريكية رسمياً إلى قوات احتلال، ولا يتصور أن أياً من القوى المشاركة سيكون له دور مؤثر، حيث تم تعيين حاكم عسكري. وصرحت كونداليزا رايس من بغداد بأن النجاح في العراق مقدمة لنجاحات أخرى في المنطقة، وتم التصريح باسم سورية؛ حيث إن احتلالها يجعل سورية الكبرى تحت النفوذ الأمريكي المباشر.
وبدأ التحرش بإيران؛ لأن سكرة النصر السريع جعلتهم يحسون بعدم الحاجة لأي خدمات جديدة من إيران، وحيث إن دور العملاء يتعاظم مع تعاظم الحاجة لخدماتهم فقد حرصت إيران وسورية على إثبات الحاجة إليهما؛ وهنا تاهت أمريكا في التفاصيل التي تكرهها فلم يقبل السُّنَّة التهميش والاحتلال، ولم تمانع الدولتان في تنامي المقاومة السنية في أفغانستان والعراق؛ بحيث أصبحت إيران وسورية ممراً آمناً لمن يريد الانضمام للمقاومة السنية، وكان تصاعد المقاومة في العراق دافعاً لبناء جيش وأمن عراقي جديدين، وكلما نمت المقاومة السنية تضطر أمريكا لزيادة حجم وتسليح القوى العراقية الجديدة المكونة أساساً من الشيعة، وارتفع العدد من عشرات الآلاف إلى مئات الآلاف، ومع انشغال أمريكا بمواجهة السنَّة تم نسيان التعمير؛ بل تم نسيان نفط العراق وتسلَّم الشيعة القادمون من إيران التابعون لحزب الدعوة والثورة الإسلامية مقاليد السلطة.
وتحت شعار مواجهة الإرهاب دخلت الميليشيا الشيعية التابعة لإيران على الخط، وبدأت تحت حماية قوات الاحتلال والحكومة بتنفيذ عمليات فرز طائفي تمهيداً لقيام كيان شيعي خالص في جنوب ووسط العراق، وكان الرد الأمريكي مزيداً من التخبط العسكري والاستمرار في محاولة كسر شوكة السنَّة مع إطلاق التهديدات لإيران وسورية.
وكانت حرب لبنان الأخيرة وسقوط الحزب الجمهوري في انتخابات الكونجرس من الأمور الحاسمة في دفع الإدارة الأمريكية إلى محاولة أخيرة للتخلص من المصيدة العراقية، وبدأ أقطاب الإدارة في القدوم إلى المنطقة طلباً للمعونة بدلاً من إصدار التوجيهات، وكان اجتماع عمَّان الأخير علامة فارقة يمثل فيه الملك الشاب عبد الله بن الحسين دور الوسيط والمشير.
ولأنه لا يوجد حل مريح لأمريكا فلم يجد بوش بداً من تكرار ما كان يقوله سابقاً أنه لن ينسحب من العراق قبل إتمام المهمة، ولم ولن يسأله أحد ما هي المهمة؛ لأن الحقيقة أن المهمة قد سُلِّمت لإيران وسورية، وإذا كان يحس أن المالكي ممثل حزب الدعوة لا يستطيع القيام بالمهمة جيداً، فلم يجد بداً من دعوة عبد العزيز الحكيم لواشنطن للتباحث معه حول العراق، ولم يزد الرئيس بوش على أنه نفض يده من يد إيران اليسرى ليمسك بيدها اليمنى؛ فأمريكا تمر الآن بمرحلة حساب للمخاطر المحتملة على مصالحها في المنطقة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولذا فإنها على استعداد لتسليم العراق لإيران، وعودة سورية للبنان. ومن هنا نفهم زيارة الرئيس العراقي لطهران واستضافة وزير الخارجية السوري في بغداد وترك حكومة السنيورة لمصيرها أمام معارضة مرتبطة بوضوح بالمحور السوري الإيراني، اجتمع فيها حزب الله ومنظمة أمل.
لقد ادعت أمريكا أن العميل المزدوج (أحمد الجلبي) هو الذي أقنع الإدارة الأمريكية بسهولة غزو العراق وإسقاط نظامه، ولا نستبعد أن أمريكا سترد الجميل لإيران وتدخلها في العراق، ومن ثم يتحول الصراع في المنطقة من مقاومة النفوذ الأمريكي إلى مواجهة السيطرة الباطنية، وستخوض دول المنطقة صراع وجود جديداً تترحم فيه على أيام التهديد الصدَّامي.
ولا أدري: هل تكون أمريكا في وضع يمكِّنها من تطبيق نظرية الاحتواء المزدوج للشيعة والسنة، أم أنها ستضطر للتفرج من بعيد وتكتفي بمحاولة حماية مصالحها المهددة في حديقتها الخلفية؟
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(232/16)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
من هنا وهناك
- توقع مصرف الكويت الوطني أن يبلغ فائض الموازنة العامة لهذا العام في الكويت 4.5 مليار دينار، أي أكثر من 15 مليار دولار، مع بلوغ عائد النفط 14.1 مليار دينار، بافتراض سعر برميل البترول 56.1 دولاراً، وهذا الفائض هو ثاني أكبر فائض على الإطلاق، وكان فائض العام الماضي 6.7 مليار دينار هو الأكبر، وتستثمر الهيئة العامة للاستثمار في الكويت أصولاً تبلغ قيمتها 100 مليار دولار. [صحيفة المستقبل 28/11/2006م]
- ذكر الصحفي الإيراني أمير طاهري أن عدد رجال الدين في إيران يقدر بـ 399 ألف. [الشرق الأوسط 13/10/2006م]
- قال ديتليف ميليس رئيس لجنة التحقيق السابق في قضية مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في حديث أجرته معه قناة «الحرة» 12/11/2006م عبر برنامج «ساعة حرة» : «نحن واللجنة ذكرنا في تقريرنا إلى مجلس الأمن أننا لمسنا أن هناك أدلة قاطعة على انخراط الاستخبارات السورية في عمليات الاغتيال» .
- قدمت القناة الرابعة البريطانية برنامجاً وثائقياً عن فرق الموت في العراق، والتي تختص بقتل السنة العرب، وصور البرنامج عشرات الجثث لعراقيين مغدورين وأيديهم مقيدة من الخلف بقيود معدنية تستخدمها الشرطة، وصرحت سيدة بريطانية من أصل عراقي كانت تعمل في منظمة لحقوق الإنسان في عهد وزير الداخلية السابق بيان جبر صولاغ، أن هذا الأخير يكذب عندما ينكر ما حصل في وزارته، وذكرت المراسلة أن المستشار الأمريكي لصولاغ، مايك كاريم قال: أن صولاغ عندما كان وزيراً للإسكان جرد الوزارة من السنّة والأكراد وكل الطوائف الأخرى، ووظف شيعة مكانهم، وكان له المئات من الحراس الذين يلبسون السواد. وكان شرطي بريطاني أشرف على تدريب الشرطة العراقية ذكر لمراسلة التلفزيون البريطاني أن الميليشيات كانت تدخل سلك الشرطة بأعداد غفيرة وعندما قدم شكوى لرامسفيلد لم يكترث بها، وحاولت المراسلة لقاء مقتدى الصدر لكنه رفض؛ لأنه يرفض الحديث مع أجانب حسب زعمها، فتحدثت مع رئيس الكتلة الصدرية في البرلمان بهاء الأعرجي الذي ضحك وقال لها: هناك من يلبس ملابس جيش المهدي ويقتل العراقيين. [مجلة الشراع، نوفمبر 2006م]
__________
علامة تعجب
فضل طالبان:
الصحفية البريطانية إيفون ريدلي التي كانت حركة «طالبان» اعتقلتها أثناء محاولتها دخول أفغانستان في أكتوبر 2001م قبل أن تطلق سراحها فيما بعد وتعلن إسلامها، انتقدت هجوم وزير الثقافة المصري على الحجاب في محاضرة ضمن فعاليات المؤتمر العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي الذي تستضيفه القاهرة، وقالت إن: هؤلاء العرب الذين يريدون أن يكونوا غربيين في سلوكهم أكثر من الغربيين أنفسهم يثيرون السخرية أمام الآخرين «ومن غرائب ما ذكرته قولها: آخر مرة زرت فيها القاهرة تم تلقيبي بالمتطرفة، الاتهام جاءني من شيخ الأزهر الدكتور (محمد سيد طنطاوي) لأني عندما مد إليَّ يده لمصافحتي رفضت المصافحة ـ التزاماً بحكم شرعي ـ فقال لي: أنت متطرفة» . [موقع المصريون 23/11/2006م]
أحمدي نجاد وشراء السجاد:
«ونحن صغار، في المدينة المنورة، كنا ننتظر قبل موعد صلاة الظهر والعصر بدقائق لعرض ما لدينا من سجاجيد الصلاة لبيعها للحجاج؛ فمع جو المدينة الحار، واستعجال الحجاج للحاق بمواعيد الصلاة لا يتسنى لهم المفاصلة حول السعر، فيشترون فوراً السجاد وفق السعر المعروض، ويلحقون بالصلاة قبل أذان الإقامة إلا الحجاج الإيرانيين، كانوا الأكثر دهاء، حيث يشترون منا السجاد بعد الصلاة، فلا هم مستعجلون، ولا نحن قادرون على اللعب على عامل الوقت» . [طارق الحميد، الشرق الأوسط 18/11/2006م]
إعمار لبنان وإفقار إيران:
في كلمة وجهها لمؤيدين لحزب الله قال (حسن نصر الله) زعيم الحزب: نحن لن نترك الناس، وكما قلنا لكم منذ اليوم الأول للنصر فإننا ملتزمون معكم بإعمار منازلكم ومؤسساتكم وبالمال النظيف، وعسى أن تنطلق ورشة إعمار الضاحية خلال ثلاثة أشهر. ونقلت صحيفة الأخبار عن نصر الله قوله للحشود: إن حزب الله دفع 300 مليون دولار نقداً بدل إيواء وتعويضات لأولئك الذين خسروا منازلهم في الحرب التي أدت إلى تدمير نحو 15 ألف وحدة سكنية وإلحاق أضرار بثلاثين ألفاً أخرى، وقال (نصر الله) : إن الأموال التي دفعت للمتضررين كلها أموال شرعية من السيد (علي الخامنئي) . [صحيفة السفير 13/11/2006م
... أين أنا؟
أصبح الحديث عن أي أمر - مهما كان تافهاً - عملية محفوفة بالمخاطر في سورية، ويتندر السوريون المغتربون برواية طرفة مشهورة عن شابين واقفين في (طابور) طويل لجمعية استهلاكية تعاني نقصاً في المواد الغذائية، فأخذ أحدهما يصيح قائلاً: كيف لا توجد لديكم هذه المواد؟ أين السكر؟ أين الرز؟ أين صاحبي؟ أين تأخذونني؟ [موقع صفحات سورية]
__________
مرصد الأخبار
المنار: بيت من زجاج
اتهمت قناة «المنار» التلفزيونية التابعة لحزب الله في إحدى نشرتها الإخبارية ما زعمت أنه «ميليشيا تيار المستقبل» بإطلاق النار في الحادثة التي وقعت في منطقة قصقص في بيروت وأدت إلى مقتل أحد المواطنين وإصابة عدد آخر بجروح، وذكرت القناة اسم الشخص الذي يتهمه عناصر حزب الله بأنه أطلق النار من سلاح حربي بصفته «مسؤولاً» في «ميليشيا تيار المستقبل» ، وأصدر تيار المستقبل بياناً جاء فيه: إن تيار المستقبل يلتزم حتى الآن بالتهدئة وضبط النفس ومنع الفتنة، وإنه قام خلال الأيام الأخيرة بمنع وسائل إعلامه من تغطية أعمال الخطف التي تعرض لها مواطنون لبنانيون عزل على يد عناصر مسلحة في بشامون، وأعمال التخريب والاعتداء المتكرر التي تعرضت لها أعماق أحياء بيروتية والتي وقع فيها عشرات الجرحى من سكان هذه الأحياء وأحدثت أضراراً جسيمة في العديد من الممتلكات، وذكر البيان: الجميع في لبنان والعالم العربي والإسلامي يعلم من هي الجهة اللبنانية الوحيدة التي تملك ميليشيا وهي الجهة الوحيدة التي تملك تنظيماً مسلحاً، وهي الجهة الوحيدة التي تفاخر قيادتها بامتلاكها أسلحة، وعلى رأسها عشرون ألف صاروخ، ومن هي الجهة اللبنانية الوحيدة التي يأتي كل تمويلها من الخارج وكل أسلحتها من الخارج، ومن هي الجهة الوحيدة التي تقيم مربعات أمنية تمنع أجهزة الدولة الشرعية من دخولها، ومن هي الجهة الوحيدة التي تشارك الدولة وأجهزتها الأمنية في صلاحياتها وأدوارها عن طريق اللجان الأمنية الخاصة. [صحيفة المستقبل]
النزاهة السنية و «النباهة» الشيعية
أكد نائب رئيس الجمهورية العراقية طارق الهاشمي رئيس الحزب الإسلامي العراقي أن «الحزب الإسلامي وجبهة التوافق السنية التزمت مبكراً أن تكون شريكاً نزيهاً مخلصاً في العملية السياسية ولحكومة نوري المالكي» مشيراً إلى أن هذه «الشركة ما تزال قائمة رغم ما واجهته الحكومة من عقبات كثيرة» . وكان الهاشمي يرد على سؤال حول دعوة أمين عام هيئة علماء المسلمين العراقية الشيخ الدكتور (حارث الضاري) الدول العربية إلى سحب اعترافها بالحكومة العراقية، وأوضح الهاشمي قائلاً: «أنا مسؤول عن تصريحاتي ومواقفي، ولا يمكن أن أعلق على تصريحات ومواقف الآخرين» . وتابع نائب الرئيس: «لا تزال هناك الكثير من المسائل التي اتُّفق عليها ولم تنفذ كما نتمنى، لا نريد أن نعلق مشكلات العراق على شخصية واحدة؛ فالكل شركاء في تحمل المسؤولية في هذا الظرف الصعب» وطالب (الهاشمي) في ختام اجتماع للمجلس السياسي للأمن الوطني بإعادة النظر في أداء الحكومة؛ فالفرصة لا تزال مواتية. ويذكر أن المجلس الوطني يضم الرؤساء الثلاثة للجمهورية والحكومة والبرلمان ونوابهم بالإضافة إلى رؤساء الكتل البرلمانية. ويذكر أيضاً أن نوري المالكي تسلم منصبه بعد أن تلقى دعماً أساسياً من تيار الصدر في البرلمان العراقي، ومن المعروف أن جيش المهدي المتسبب في معظم المذابح التي يتعرض لها أهل السنة في العراق، هو الجناح العسكري للتيار الصدري.
[بتصرف عن السياسة الكويتية 27/11/2006م]
البهارات السورية على الطبخة اللبنانية
أوقفت قوى الجيش اللبناني ثلاثة سوريين تبين أنهم يقومون باستفزاز مفتعل لمواكب التظاهرات الخاصة بتيار حزب الله وميشيل عون، وكانت هذه القوات قد أوقفت من قبل السوري (حمزة محمد صادق إسماعيل) ، على أثر مطاردته بسبب إقدامه في وسط بيروت على توجيه شتائم إلى الأمين العام لـ «حزب الله» (حسن نصرالله) .
ونقل أن السوريين الثلاثة الذين باشرت الوحدات المختصة في الجيش التحقيق معهم، ضُبطوا على سطح بناء قريب من جامع الخاشقجي في بيروت يرمون الحجارة على القوى الأمنية وعلى سكان المحلة، بينما كان يمرّ موكب لـ «حزب الله» ، وهو الأمر الذي تسبّب بإشكال وقع فيه أربعة جرحى وإحراق عدد من المحال. [المستقبل 4/12/2006م]
الشرطي الإيراني يتحفز لممارسة مهامه
قدمت إيران احتجاجاً رسمياً إلى الإمارات بدعوى قيام الأخيرة بأنشطة مناهضة للأولى مرتبطة بالأمريكيين، وقال (محمد علي حسين) المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية: «ننتظر من حكومة الإمارات أن تمنع استخدام أراضيها لشن أنشطة ضد الجمهورية الإسلامية وستتقدم سفارتنا باحتجاج رسمي للحكومة الإماراتية» وكانت الخارجية الأمريكية أنشأت في مارس الماضي مكتباً للشؤون الإيرانية في دبي يهدف إلى الاتصال بمواطنين إيرانيين، وذلك في محاولة لتكوين صورة أوضح عن الداخل الإيراني، حسب المعلن من أهداف المكتب.
ويوجد في دبي عدد كبير من رجال الأعمال الإيرانيين الذين تربطهم صلات وثيقة ببلدهم، كما يتوجه العديد من مواطني الإمارات إلى إيران بغرض السياحة.
وكانت صحف إيرانية قد نشرت مؤخراً تقارير حول تعرض السياح ورجال الأعمال الإيرانيين لمعاملة سيئة في مطار دبي، ودعا نواب إيرانيون إلى اتخاذ إجراءات ضد الإمارات.
ويذكر أن الإمارات هي الشريك التجاري الأول لإيران؛ فقد وصل حجم الواردات الإيرانية من الإمارات السنة الماضية حسب التقويم الفارسي الإيراني والتي تنتهي في 20/3/2006م إلى 7.5 مليار دولار، بينما بلغ حجم صادراتها إلى الإمارات 2.5 مليار دولار وفقاً للأرقام الإيرانية. [السياسة الكويتية 27/11/2006م]
السلفيون هم الأكثر تعليماً بين الإسلاميين
كشفت دراسة أمريكية اعدتها مؤسسة (غالوب) العالمية للاستطلاعات في واشنطن أن من تزعم كونهم متطرفين في البلدان الإسلامية هم أكثر ثراء وأعلى تعليماً وثقافة من الأشخاص المعتدلين، وشملت الدراسة مقابلات مع 9 آلاف شخص من تسع دول أعضاء في المؤتمر الإسلامي، هي: مصر والأردن والمغرب والسعودية وأندونيسيا وتركيا وإيران وبنغلاديش ولبنان بواقع 1000 مشارك في كل دولة، واستمرت المقابلات فترة عامي 2005 ـ 2006م.
وحسب (غالوب) فإن (وحدة بحوث العالم الإسلامي) في المؤسسة قاست درجة التطرف والاعتدال بناء على موقف المشاركين من هجمات 11 سبتمبر، حيث اعتُبر المشارك ميّالاً للتطرف إذا قال إن الهجمات مبررة جزئياً أو كلياً، وأدرج في خانة المعتدلين كل من وصفها بغير المبررة.
وأظهرت الدراسة أن «المتطرفين» لم تتجاوز نسبتهم 7 % في (العينة الكلية) واتضح أن لهم مصادر دخل أعلى من المعتدلين، كما أن فترة بقائهم في الجامعات والمدارس كانت أطول.
ووفقاً للباحثة في (غالوب) في الشؤون الإسلامية (داليا مجاهد) فإن نتائج الدراسة في هذا الجانب تتناقض مع الاعتقاد السائد بأن «المتطرفين» ينتمون لأوساط فقيرة ولم يتلقوا تعليماً كافياً؛ إذ تبين أن 44% ممن اعتبرتهم الدراسة من «المتطرفين» تلقوا تعليماً جامعياً أو أنهوا الثانوية على الأقل، مقابل نسبة من المعتدلين تصل إلى 38%، فيما لم تتجاوز نسبة من تلقوا تعليماً ابتدائياً فقط بين المتطرفين 23%، وأن 34% من المعتدلين لم يتلقوا تعليماً ابتدائياً أو كانوا أميين.
وفي الجانب الاقتصادي في الدراسة ظهر أن ربع «المتطرفين» كان لديهم دخل عال أو فوق المتوسط في حين أن 22% منهم كانوا فقراء أو أصحاب دخل أقل في المتوسط.
وأرتفعت نسبة الفقراء بين المعتدلين إلى 31% وتراجعت نسبة ذوي الدخل العالي أو فوق المتوسط بينهم إلى 21%.
وكشفت الدراسة ان 56% فقط من «المتطرفين» يؤدون الشعائر الدينية بانتظام في حين أن 59% من المعتدلين ملتزمون بأداء الشعائر والتردد على المساجد.
وأعرب 53% من «المتطرفين» عن آمال كبيرة في تحسن أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية في غضون خمس سنوات، بينما أظهر المعتدلون نسبة كبيرة من مشاعر الإحباط واليأس وصلت إلى 44%. ويذكر أن التيارات السلفية في التقويم الأمريكي تعد في غالبها متطرفة أو تشكل الجانب الأكبر من التيارات «المتطرفة» حسب قياساتهم المتحيزة. [بتصرف عن صحيفة الوطن الكويتية 15/11/1427هـ]
__________
(س) و (ج)
س: لماذا سارع اليهود بالموافقة على إعلان تهدئة مع الفصائل الفلسطينية وحماس تحديداً؟
ج: بخلاف الأسباب السياسية؛ فإن التطوير الذي دخل على صواريخ القسام تحديداً كان له دور كبير في مسارعة حكومة أولمرت على إعلان التهدئة التي رفضتها كثيراً من قبل.
فقد أصابت صواريخ القسام في الأسابيع الأخيرة دولة الكيان في مقتل؛ فالذعر من القسام أصبح حقيقة لا يمكن لسكان مستعمرة سديروت إنكارها، والفشل في وضع حد لإطلاق هذه الصواريخ أصبح في عرف قادة جيش الاحتلال ضرباً من الخيال، لا يمكن لأي من قادة الأجهزة الأمنية أو العسكرية الإسرائيلية إخفاؤه.
الأجهزة الأمنية الإسرائيلة أقرت بعجزها وفشلها في وقف المقاومة ومنعها من تطوير قدراتها القتالية، وذكر أحد التقارير أن نجاح حماس في الشهر الماضي في التسبب بأضرار وإسقاط ضحايا يدل على التطور المتواصل للصاروخ البدائي «القسام» .
وتحدثت بعض التقارير الإسرائيلية أن مدى صاروخ القسام الجديد يصل إلى 10 - 11 كيلو متراً، بالمقارنة مع 7 - 8 كيلو مترات في النماذج السابقة، كما أن زيادة دقة هذه الصواريخ يعود إلى تطوير آلية الإطلاق، واستخدام مواد متفجرة نوعية؛ حيث إن رأس الصاروخ من النموذج الجديد يعتبر فتاكاً بالمقارنة مع النماذج القديمة.
وتقول الأجهزة الأمنية الإسرائيلية: إن حركة حماس تعمل على إنتاج صواريخ يصل مداها إلى ضعفي مدى صواريخ القسام، وتحمل من المتفجرات خمسة أضعاف ما يحمله القسام؛ فقد تناولت التقارير الإسرائيلية معلومات مصدرها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن الصناعة العسكرية لحماس في قطاع غزة تستعد لإنتاج صواريخ مشابهة لصواريخ الكاتيوشا، بقطر 122 ميلي متراً، ويصل مداها إلى 20 كيلو متراً؛ وهو الأمر الذي يعني أن إطلاق هذه الصواريخ من بيت حانون يجعلها قادرة على قصف «كريات غات» ومنطقة عسقلان بأكملها.
وجاء أن المعلومات الموجودة لدى الأجهزة الأمنية تشير إلى أن مهندسي حماس يعكفون بشكل مكثف على دراسة إنتاج هذه الصواريخ في قطاع غزة. ويستخدم مهندسو حماس صواريخ «غراد» التي تم تهريبها إلى قطاع غزة، حيث جرى تفكيكها من أجل دراستها، واستنساخ المنظومة التي تعمل بواسطتها.
وأضافت التقارير أن مهندسي حماس بات لديهم إلمام بإنتاج صواريخ تعمل بنظام الكاتيوشا. وأنه يجري التخطيط لاستبدال صواريخ القسام بهذه الصواريخ الجديدة.
كما تشير التقديرات إلى أن هذه الصواريخ، المماثلة للكاتيوشا، من المتوقع أن تظهر في قطاع غزة خلال أشهر معدودة. والإشارة هنا إلى صواريخ يصل مداها إلى ضعفي مدى القسام، وتحمل رؤوسها المتفجرة 4 - 5 كيلو غرامات من المواد المتفجرة، بالمقارنة مع كيلو غرام واحد في صاروخ القسام.
إسرائيل الآن تحاول أن تضع كل إمكانياتها العسكرية والسياسية والاستخبارية على الطاولة بغية الوصول إلى وقف القسام؛ ففي جلسة أمنية انعقدت قبل شهر قال أولمرت: إن وقف إطلاق صواريخ القسام هو الهدف الرئيس والوحيد للجيش. كما أشار أولمرت إلى أن الجيش وجهاز الأمن العام يعتقدون أن وقف إطلاق صواريخ القسام ليس هدفاً قابلاً للتحقيق.
وبرأي جهات في الجيش فإنه: «يجب أن تدرك التنظيمات أن هناك ثمناً لاستمرار إطلاق الصواريخ، ولكن ليس هذا هو واقع الحال، والجيش الذي يعمل في غزة أثبت أن العمليات المركزة والمحسوبة فعالة فقط حينما تنفذ لفترة طويلة» .
وكان بيرتس قد عقد جلسة تقييم مع قادة الأجهزة الأمنية من أجل «دراسة السبل للسيطرة على مناطق إطلاق الصواريخ، لإبعاد نقاط الإطلاق ومنع تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، وفي الوقت نفسه الامتناع عن البقاء لفترة طويلة في غزة» . وأوكل بيرتس الجيش بـ «إيجاد حلول إبداعية» .
إلا أن هناك قيادات إسرائيلية بدأت تدرك أن الحلول العسكرية وحدها باتت شبه مستحيلة، وأنه يجب أن يكون هناك حلول أخرى؛ وهذا ما دفع (إيتان كابل) من حزب العمل إلى حث الحكومة على دراسة الهدنة التي أعلنت عنها المقاومة الفلسطينية بجدية، وأن لا تتعجل في رفضها.
مصدر سياسي إسرائيلي رفيع المستوى قال: إنه يجدر دراسة إمكانية نشر قوات دولية في غزة، وإنه من الجدير دراسة اقتراح الوزير يتسحاك كوهين (شاس) الذي اقترح في جلسة للحكومة نشر قوات دولية في غزة على غرار تسوية وقف إطلاق النار التي طبقت في لبنان، وحسب أقوال المصدر «تسوية سياسية، هي فقط التي أوقفت إطلاق الصواريخ من لبنان وليس عمليات الجيش» .
وقد رفض أولمرت قبل شهر في محادثة مع نظيره الإيطالي، رومانو برودي، فكرة تطبيق الحل اللبناني في غزة. وقال: «إنه من المبكر أن نحكم على الصيغة اللبنانية بأنها ناجحة، ولا جدوى من إدخال قوات لا يمكنها أن توقف إطلاق الصواريخ، وفي الوقت نفسه تمنع إسرائيل من الرد» .
[بتصرف، باسم أبو العطايا، التجديد العربي، موقع انتخابات السعودي 27/11/2006م]
__________
أخبار التنصير
جماعات تنصيرية بتركيا تعمل من خلال الدعارة والجنس
كشفت سلطات البوليس التركي (الجاندرما) عن أسلوب جديد في التنصير حيث ثبت تورط المنصرين في توظيف فتيات نصرانيات يقمن باستدراج الشباب التركي المسلم من خلال العلاقات الجنسية المحرمة.
وذكر موقع «haber7» أن السلطات التركية ألقت القبض على عشرات المنصرين وشرعت في استجواب تسعة وخمسين شخصاً، بالإضافة إلى كشف أسماء خمسة آلاف شخص لهم علاقة بالجماعات التنصيرية.
وحصلت السلطات على معلومات هامة عن هذه الجماعات بعد أن تمكنت من كسر شفرات الملفات المخزنة على أجهزة الحاسوب لدى هذه الجماعات. [نقلاً من موقع «haber7" 20» نوفمبر 2006م]
الفاتيكان يتمسك (بحقه) في التنصير بين المسلمين
أبدى المساعد الأول لبابا الفاتيكان تخوف الفاتيكان من أوضاع ما يسمى بالأقليات المسيحية في الدول الإسلامية بأنها تعيش في خطر، وأن من حق الكنيسة مواصلة «التبشير بين المسلمين» .
وزعم الكاردينال «تارسييو بيرتوني» وزير خارجية الفاتيكان في مقال له في مجلة «30 يوماً» الإيطالية الكاثوليكية «أن الكنيسة الكاثوليكية لا تستطيع أن تتخلى عن «الحق في التبشير بالإنجيل حتى بين المسلمين» ما دام ذلك يتم باسلوب يحترم حرية الأديان، مشيراً إلى أن الفاتيكان سيستغل بعثاته الدبلوماسية في الدول ذات الأغلبية المسلمة للمساعدة في زيادة التفاهم والتوافق بين الأديان» . [جريدة اللواء الأردنية 28 تشرين ثاني 2006م]
إنجيل موجه للمسلمين
تسببت ترجمة حديثة لكتاب العهد الجديد «الإنجيل» في جدل واسع بين الأوساط الثقافية والدينية في مصر؛ إذ حملت الترجمة التي صدرت مؤخراً اسم «الإنجيل الشريف» ولأن هذا الإنجيل موجه للمسلمين تم تغيير الأسماء بما يتفق مع الإسلام، فتحول يسوع إلى عيسى، ويوحنا إلى يحيى بن زكريا، فضلاً عن اعتماده على اللهجة المصرية.
وتضاربت الأقوال داخل الكنيسة ما بين معارض لهذه الترجمة ومؤيد؛ فمن ناحية اعترض الأنبا مرقص المتحدث الرسمي باسم الكنيسة الأرثوذكسية على ما يسمى بـ «الإنجيل الشريف» ، أيد القس «سامي منير» راعي الكنيسة الإنجيلية بالقاهرة هذه الترجمة ووصفها بأنها تبسط المعلومات وتقربها للدين الإسلامي.
ومن جانبه أكد الدكتور محمد عمارة، أن طبع وترجمة الإنجيل بهذه الصورة التي تجعله قريباً من الثقافة الإسلامية هو هدف منصوص عليه في مؤتمر «كلورادو» الذي عقد في أمريكا عام 1978م، حيث ناقشوا فيه التنصير بالثقافة الإسلامية، وطبع الكتاب المقدس بالحرف المطبوع به القرآن وتغليفه مثل المصحف، وإنشاء إذاعة في قبرص يتلى فيها الإنجيل مثلما يرتل القرآن، وذلك لكسر عزلة المتنصرين في المجتمعات الإسلامية، ووضح أن هذه الترجمة الجديدة تعتبر تنفيذاً لهذا المخطط.
وعلي موقعها الإلكتروني أعلنت دار النشر الصادر عنها ما يسمى بـ «الإنجيل الشريف» أنها توجهه للعالم الإسلامي ليكون بالنسبة لهم صلاة عام 2006م، وأن تغيير أسماء الأشخاص يهدف إلى مساعدة المسلمين على الفهم الواضح لمعنى كلمة «الله» بزعمهم.
[جريدة المصري اليوم 2 ديسمبر 2006م]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
ü «هناك حالة من عدم الرضا في أوساط قيادة الجيش بعد أن اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً بوقف إطلاق النار مع الفلسطينيين في قطاع غزة» .
[الخبير السياسي عكيفا ألدار لهآرتس 15/11/2006م]
ü «إن الفلسطينيين يحاولون إيجاد معادلة جديدة على الأرض مع الإسرائيليين والذين يعتبرون أن أي عملية عسكرية في الضفة الغربية ستدفعهم للرد عليها من قطاع غزة بإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل» .
[عضو الكنيست داني ياتوم ليديعوت أحرنوت 28/11/2006م]
ü كشف تقرير رُفع أمام لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست الإسرائيلي أن نسبة المغادرين من بين اليهود القادمين حديثاً تبلغ خمسة أضعاف المغادرين من اليهود القدامى من كبار السن، وتبين من المعلومات الواردة في التقرير عن العام الحالي 2006، أن مئات الطلبة الذين أنهوا دراستهم الثانوية في «إسرائيل» يغادرونها لاستكمال دراستهم في روسيا وأكرانيا، مما يزيد من صعوبة اندماجهم في المجتمع «الإسرائيلي» .
[هآرتس 14/11/2006م]
ü «إسرائيل تقوم بصورة منهجية وخبيثة بقضم حقوق الفلسطينيين وتتصنع النوايا الحسنة عندما تفتضح هذه السياسة» . [هآرتس 13/11/2006م]
ü «شيء مخجل لليهود أن يكون عمير بيرتس هو المسؤول عن الأمن. وإذا لم يكن في الحكومة؛ فماذا ينبغي أن يكون؟ على الأكثر سائق سيارة أجرة» .
[الملياردير اليهودي من أصل روسي - أركادي غيداماك 19/11/2006م]
ü «اتحاد مراكز الدعم الاجتماعي والنفسي تلقى من شهر يناير وحتى شهر أكتوبر، أكثر من 28 ألف شكوى حول الاغتصاب والتحرش الجنسي، منها 6270 جديدة، مقابل 5230 شكوى جرت أحداثها في الفترة الزمنية نفسها من العام 2005» . [معاريف - 22/11/2006م]
ü «سورية استخلصت العبر من حرب لبنان الأخيرة والتي تقضي بأن منظومة الصواريخ والمقذوفات الصاروخية هي المنظومة الأهم في المواجهة مع إسرائيل» .
[هآرتس 26/11/2006](232/17)
هموم
يحيى بشير حاج يحيى
«إلى الذي لم يتمغر وجهه مرة واحدة لما يصيب المسلمين»
هُمومُ المسلمينَ أسىً دَفوقُ
وَمَا لَكَ لَسْتَ تَعْبأُ بالمَآسي
لَيالِيهمْ ظَلامٌ في ظَلامٍ
وقد أَمْسى حِماهُم دونَ حامٍ
فَبُوذِيٌّ يُذَبِّحُهم جِهاراً
وكم ذاقُوا الأَذى في دارِ غَرْبٍ
وكم أَجْرَىُ الشيوعيونَ دَمْعاً
إذا غَضِبَ النَّصارَى أَنْصَفُوهم
وإِنْ غَضِبَ اليهودُ فَإنَّ أَلْفاً
وما لِلْمسلمينَ إذا تَنَادَوْا
تُحيقُ بهم هُمومٌ قاتِلاتٌ
فكُلُّ مصائِبِ الدنيا توالَتْ
ولنْ تَجِدَنَّ أَرْخَصَ مِنْ دِمانا
أَتَلْهو؟! ما خُلِقْتَ لِمثْلِ هذا
أأنتَ وَرِيثُ مَنْ فَتَحوا بِرِفْقٍ
فَوَجْهُكَ مِنْ صَفاقَتِهِ مَرايا
تُرَدِّدُ ما يُقالُ بغيرِ فَهْمٍ
فليتَكَ ـ والرَّزايا كالِحاتٌ ـ
إِذا لم تَسْتَفِقْ عند البَلايا
فما لَكَ لا تُحِسُّ ولا تُفيقُ؟!
تُحاصِرُهم! فما هذا المُروقُ؟!
فلا بَدْرٌ يَلوحُ، ولا بُروقُ!
وبينَ حَصادِهِمْ شَبَّ الحَريقُ
وهِنْدوسِي، وسِيخيٌّ صَفِيقُ
وكم ضاعَتْ لهم فيها حُقوقُ؟!
لهم ودَمَاً، وكم غُصَّتْ حُلوقُ؟!
وحاوَرَهم بإحسانٍ «رَفيقُ» !
مِنَ الأعذارِ يَبْذُلُها «شَفوقُ» !
لِنَيْلِ حُقوقِهم إِلاَّ العُقوقُ
ولولا العَجْزُ ما كانت تَحيقُ
فَتَهْجيرٌ وتَجويعٌ وضِيقُ
تُراقُ! وأنتَ دَمْعَكَ لا تُريقُ
فَشَعْبُكَ في مآسيه غَريقُ
قلوبَ الناسِ؟ حَاشا لا يَليقُ
لِظُلمِ الظالمينَ، وأَنْتَ بُوقُ
كِضِفْدَعَةٍ يَطيبُ لها النَّقِيقُ
تُحِسُّ بِهِنَّ يوماً، أو تَضِيقُ
فَلَسْتُ إِخالُ أَنَّكَ تَسْتَفِيقُ(232/18)
منظور لغوي للواقع السياسي
د. جمال الحسيني أبو فرحة
لا شك أن اللغة مرآة للفكر، فنحن بمجرد سماعنا لشخص يتكلم يمكننا أن نحدد ـ بدرجة كبيرة ـ بلده، ونتعرف على خلفيته الثقافية والعقدية؛ بل وأحواله الصحية والنفسية إلى حدٍّ كبير، ومن هنا قال سقراط قولته الشهيرة: «يا هذا! تكلم حتى أرى مَنْ أنت» .
وإذا كان هذا الأمر مشاهداً منا جميعاً، ولا يمكننا إنكاره؛ فإني أزعم أن الأمر لا يقف عند هذا الحدِّ، بل يتعدَّاه إلى أن كل لغة إنما تعبِّر عن خلفيات كثيرة لكل أبنائها، خلفيات اجتماعية وثقافية ودينية.. إلخ، أي: أنها تعبِّر عن العقل الجمعي لأربابها.
وعليه؛ فإذا أردنا أن نفهم الغرب جيداً، وخاصة في هذه المرحلة ـ التي كُشف لنا فيها عن وجهه القبيح ـ فلا بدّ أن نتوقف أمام لغته؛ لنكتشف حقيقة ما يقبع تحت هذا الستار اللفظي من أفكار وتصورات وخصائص لا بدّ لنا من معرفتها.
وأكتفي في هذا المقام بالتمثيل لما قصدتُ بكلمتين وبقاعدة لغوية في الإنجليزية. أما الكلمتان فهما: كلمة (يهودي jew) ، وكلمة (فلسطيني Philistine) . وأما القاعدة فهي: تقديم الصفة على الموصوف.
وأول ما نلاحظه على هذه الكلمة (jew) أنها لا تدل في اللغة الإنجليزية على اليهودي وحسب، بل لها معانٍ أخرى.
يقول معجم (إلياس) :jew: يهودي، إسرائيلي، غشَّ، ضحك على.
ويجعل معجم (OXFORD) من معاني كلمة: (jew) : offensive، cheat، grasping person.. إلخ.
وكلمة (offensive) تعني: مهاجم، مزعج، مسيء، مؤذٍ للشعور، نابٍ، منفر، خبيث، كريه، سمج، يحدث اشمئزازاً.
وكلمة (grasping) تعني: جشع، طماع.
وكلمة (cheat) تعني: مخادع، غشاش، محتال.
وهذا الربط اللغوي بين كلمة (يهودي) وهذه المعاني لا شك يعبِّر عن صورة ذهنية لليهودي في الفكر الإنجليزي مرتبطة بهذه المعاني، وهي صورة لا شك سيئة، وهي لا تعبِّر عن رأي فرد بل رأي أمة، ولا تعبِّر عن رأي عصر محدود، بل تاريخ طويل لا بدّ منه لتكتسب الكلمات معانيها المعجمية الجديدة.
على أن هذا الذي تضع اللغة يدنا عليه في دقيقة يؤكده تاريخ الأدب الإنجليزي: شعر، مسرح، رواية.. إلخ، وليس أشهر في الدلالة على هذه المعاني من مسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير، ومسرحية (يهودي مالطة) لكريستوفر مارلو.. إلخ.
ولكن لنا أن نتساءل: إذا كانت هذه هي صورة اليهودي في الفكر الإنجليزي؛ فبماذا نفسِّر مساعدات أمريكا وإنكلترا على وجه الخصوص للدولة اليهودية؟!
وهنا نجد الإجابة من تأمّلنا لبعض التراكيب اللغوية في الإنجليزية، وأكتفي في ذلك بمثال واحد لضيق المقام، وهو تقدُّم الصفة على الموصوف، وهذا التقديم في رأيي يعبِّر عن خلفية فكرية مهمة لأرباب هذه اللغة، فهو يعبِّر عن أن نظر أصحاب هذه اللغة إلى الصفات يسبق نظرها إلى الذات المتجردة عن الصفات.
وذلك ـ في تصوّري ـ يعني أن أهمية المرء تُقدّر بالنظر إلى صفاته لا بالنظر إلى ذاته كآدمي وكإنسان بصرف النظر عن أيِّ صفة له ككونه ذا عرق، وذا دين، وذا لغة، وذا ثقافة وحضارة، وذا مال وقوة.. إلخ.
بمعنى: أن صورة اليهودي في الفكر الإنجليزي ـ كما توضحها دلالات كلمة (jew) ـ وإن كانت مدعاة لكراهيته، إلا أنها في الوقت نفسه بالنظر إلى القاعدة اللغوية (تقديم الصفة على الموصوف) مدعاةٌ لمساعدته في إٍقامة وطن قومي في فلسطين؛ تخلّصاً منه ومن صفاته القبيحة بإبعاده عن الغرب، واستغلالاً لصفاته القبيحة في تحقيق أطماع الغرب الاستعمارية، حتى وإن كان ذلك على حساب إنسانية الإنسان الفلسطيني وسلبه كل حقوقه الإنسانية.
وخاصة بعد أن نجح الإعلام اليهودي في تشويه صورة الفلسطيني أمام الفكر الإنجليزي، حتى غدا من معاني كلمة (فلسطيني Philistine) في اللغة الإنجليزية كما يقول معجم (WEBSTER) :
an individual guided by material rather than intellectual or artistic values.
أي: شخص تتحكم فيه المادة أكثر من العقل أو القيم الأدبية.
أو كما يقول معجم (OXFORD) : «Unecultured person» أي: شخص غير مثقف.
فتعامل الغرب مع القضية الفلسطينية من منطلق نظرته إلى صفات اليهودي القبيحة، وصفات الفلسطيني المزعومة، لا من منطلق إنسانية كل منهما وحقوقه الإنسانية التي منها محاولة الأخذ بيده لا التخلّص منه ولا سحقه.
أما اللغة العربية (لغة القرآن) ، فتنظر إلى إنسانية الإنسان قبل أن تنظر إلى صفاته، فتقدم الموصوف على الصفة، فتراعي إنسانية الإنسان قبل أن تراعي أي صفة أخرى لهذا الإنسان؛ من انتمائه إلى عرق أو ثقافة أو دين مغاير، وهو ما يؤكده تاريخ العرب وواقعهم.
قد يقال: إن دلالة التركيب اللغوي على سِمَات خلقية معينة لأرباب اللغة التي تستخدمه ليست قطعية في دلالتها على هذه السِّمات، فقد نجد أرباب لغات تقدمت الصفة على الموصوف في لغتهم ولم تتقدم في نظرتهم ومعاملاتهم مع غيرهم.
وهذا في رأيي أمر صحيح، ولكنه لا يعني بحال الغضّ من شأن هذه الدلالة رغم أنها قد تختلف في بعض اللغات؛ لأنها ـ أيضاً ـ قد تتأكد في لغات أخرى إذا انضمت إليها قرائن من تاريخ طويل، وفلسفات معلنة، وأحداث معاصرة مشاهدة صباح مساء. نعم؛ إن القرينة لا تدل بمفردها وقد تتخلف أحياناً، إلا أنها أيضاً تتقوى إذا اجتمعت مع قرائن أخرى، حتى إنها قد توصلنا إلى علم يقيني ـ ما أحوجنا إليه ـ إذا كثرت واستفاضت.
وختاماً أقول: صدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] .
__________
(*) أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد في جامعة طيبة ـ المدينة المنورة.(232/19)
تاريخ الأندلس والدراسات الاستشراقية الإسبانية
صالح عبد الله الجيتاوي
يشكل تاريخ المغرب والأندلس حلقة متميزة من حلقات التاريخ العربي الإسلامي، وقد حظيت بعض محطاته بعناية كثير من المؤرخين شرقاً وغرباً. فمن المشارقة أذكر على سبيل المثال: عبد الله عنان، إحسان عباس، محمود علي مكي، حسين مؤنس ... ومن المغاربة الذين اهتموا بذلك: المقري، عبد الله كنون، محمد حجي، إبراهيم حركات، محمد بن شريفة ... ومن الغربيين أذكر: كوندي، دوزي، سكوت، لاين بول ...
كل هؤلاء كتبوا عن تاريخ المغرب والأندلس، وهي بالطبع كتابات تختلف من كاتب لآخر منهجاً وتحليلاً، لكنها تتحد في الحديث عن أنها حضارة، وعقيدة، وعن فكرة إنسانية، وعن تجربة عمرت زمناً، واختلفت اختلافاً جذرياً عمَّا كان سائداً.
والسؤال المطروح في بداية هذا المقال: ما الغاية التي نتغياها من وراء دراسة تاريخ الأندلس؟ وما الفائدة التي نرجوها من ذلك؟ وما هي نظرة المستشرقين الإسبان لتاريخ الأندلس؟
الحقيقة أن مثل هذه التساؤلات هي التي رسمت ووجهت المسار العلمي للمؤرخ (حسين مؤنس) وكان لها أكبر الأثر في اختياره التخصص في تاريخ الأندلس.
فهل دراستنا لهذا التاريخ هي من أجل البكاء على ضياع الأندلس؟ أو كما قال المؤرخ الإسباني (بول برودل) : «أنا أعرف أنكم - والكلام موجه هنا للعرب عامة، ولحسين مؤنس خاصة - تحبون القراءة عن الأندلس؛ لأنكم تحبون البكاء عليه، وأنا معكم في أنكم أسديتم إلى إسبانيا خدمات كبرى وقلوبكم كلها حزن عليه، ولكن الحزن لا مكان له في العلم؛ فإذا كنت سترضى بالتخصص في الأندلس فأرجوك ألا يكون ذلك تخصصاً في البكاء» .
لذا وجبت دراسة تاريخ الأندلس بروح المؤرخ المتجردة عن العواطف الإيجابية أو السلبية لضمان دراسة موضوعية وعلمية نزيهة؛ فالمؤرخ يجب أن يكون كالطبيب الجراح في عمله؛ لأن الطبيب الناجح لا بد أن يجد لذة في الجراحات، ولا بد أن يستمتع بالقطع والدخول في الجراح، ولكنه كإنسان لا يمكن أن يحب هذا العمل.
وتبقى الغاية الأساسية من دراسة هذا التاريخ بالإضافة إلى توخي الموضوعية والعلمية المذكور آنفاً، أنها عبرة مهمة للاتعاظ؛ فهي تقدم لنا قصة طويلة مُشْجِيَة من تقلُّب المصائر والحظوظ، تتناوبها صور متباينة من القوة والعظمة، والضعف والانحلال، والاتحاد والتفرق، والنعماء والضراء، ولكن يميزها دائماً ذلك الطابع الحضاري المؤثر، الذي جعل من الأندلس المسلمة، أمة نموذجية عبقرية، تتفوق على سائر أمم العصر بعلومها وفنونها، والتي استطاعت بها تحويل القفار الإسبانية الموحشة إلى حدائق مزهرة وحقول غناء، بهرت بها الجيران في شبه الجزيرة من الممالك النصرانية، كما بهرت أمم الفرنج الأوروبية، التي كانت تتخبط في موجات من الجهالة والتأخر.
\ الاستشراق في اللغة والاصطلاح:
أ- الاستشراق لغة:
الاستشراق لفظة لم ترد في المعاجم العربية المختلفة، (أتحدث هنا عن المصادر) مثل لسان العرب لابن منظور أو القاموس المحيط للفيروز آبادي (1) .
ولكن يمكن تفكيك اللفظة؛ فهي مشتقة من الشرق، وهي تعني مشرق الشمس وترمز إلى هذا الحيز المكاني من الكون.. أما إذا أضيف إليها الألف والسين والتاء (أي الاستشراق) فهي تعني طلب الشرق، أي علوم الشرق وآدابه وأديانه بصورة شاملة؛ هذا في معاجم اللغة العربية. أما في اللغات الغربية فهناك من يرى أن المقصود بالشرق ليس الشرق الجغرافي، وإنما الشرق المقترن بمعنى الشروق والضياء والنور (2) .
ب - أما في الاصطلاح، فأود الإشارة في البداية إلى أنني سأتوقف عند نماذج لتعريفات معينة، ولن أدخل في تفاصيل ما قدم من تعريفات وخلافات حول المفهوم، تكاد تتعدد باختلاف الباحثين في هذا المجال، ويمكن للباحث تصفح الدراسات التي كتبت حول الموضوع ليتبين له كثرتها وتعددها، ولذا آثرت ذكر تعريفين هما:
| الأول: أكاديمي صرف، وهو التعريف الذي قدمه (أحمد سمايلوفتش) حيث قال: «علم الشرق أو علم العالم الشرقي. ويشمل كل ما يتعلق بمعارف الشرق من لغة وآداب وتاريخ وآثار وفن وفلسفة» .
| الثاني: تعريف رحب واسع، أطلقه إدوارد سعيد: «الاستشراق هو أسلوب في التفكير قوامه التمييز الوجودي والمعرفي بين غرب قادر على معرفة نفسه، وشرق عاجز عن معرفة ذاته، وقابل لمعرفة الغرب لها» (3) .
وأوضح أنور عبد الملك في دراسته الرائدة «الاستشراق في أزمة» (1963) أن المشكلة في التخصص الاستشراقي مزدوجة: هناك أولاً: النقد الاستعماري الذي يعتبر الاستشراق بطرائقه الفيلولوجية والتاريخانية من مواريث عصر الاستعمار. وهناك ثانياً: النقد العلمي الذي يعتبر أن الاستشراق لم يفد من الثورة الحاصلة في العلوم الاجتماعية والتاريخية. وجاءت دراسة إدوارد سعيد عام 1978 التي أثبتت (أو أقنعت بذلك) أن الاستشراق تخصص استعماري، أي انه نشأ في حضن الاستعمار، ونقل أطروحاته، أو أنه حشر الإسلام والشرق في صورة أشبعت وتُشبع طموحات الغرب ومطامعه في استعمار واستمرار امتلاك الإسلام والعالم الإسلامي (4) .
لا بد من الإشارة في البداية ولو في عجالة للدوافع الأساسية لهذه الظاهرة، ويمكن إجمالها في ثلاثة أمور أساسية وهي:
1 - دوافع دينية تنصيرية.
2 - دوافع سياسية استعمارية.
3 - دوافع علمية صرفة.
\ المدرسة الاستشراقية الإسبانية:
إن غياب الأندلس عن ذاكرة الإنسان العربي، بعد سقوطها في أيدي الإسبان صاحَبَهُ حضور قوي للأندلس والأندلسيين في واقع الأمة الإسبانية، التي تشكّلت في شبه الجزيرة الأيبيرية عقب سقوط غرناطة.
وهكذا نشط الاستشراق الإسباني، منذ مطالع القرن التاسع عشر، وظهر التراث الأندلسي لأوائل المستشرقين الإسبان «كنزاً» ثميناً، فأقبلوا عليه جيلاً بعد جيل، يدرسونه ويقوِّمونه، مقدرين ما ينطوي عليه من الإبداع والمعارف والعلوم. فعدُّوا المخطوطات الأندلسية تراثاً لهم، ولذا أخذوا في ترجمة بعضها إلى الإسبانية ودراستها، والاستفادة من مادّتها الغزيرة، الأدبية والعلمية، مثل تآليف (ابن الفرضي) و (ابن بشكوال) و (الضبّي) و (ابن الأبّار) .
وقد نشأ الاستشراق الإسباني في أحضان حركة عدائية لكل ما هو عربي ومسلم، وكان هدفها التحقير والانتقام والتشويه، وقد وصف المستعرب الإسباني (خوان غويتسولو) في كتابه (في الاستشراق الإسباني) (1) نماذج من هذا النوع حين يكتبون عن الإسلام والمسلمين بقوله: «إنهم إنما يكتبون ويتصرفون وينطقون باسم المسيحية في مواجهة حضارة متدنية، وفي أفضل الأحوال فإن استحضار الماضي المجيد الذي عرفه العالم الإسلامي يدفعهم إلى التفجُّع على نحوٍ متحذلق على الانحطاط الحالي (الذي كان في رأيهم محتماً ولا مناص منه) وعلى عجزه الطبيعي عن هضم التقدم الأوروبي» .
ووصف (غويتسولو) دراسات المستشرقين الأسبان للغات الإسلامية بأنهم يدرسونها كما لو كانت «لغات حضارات منقرضة، ومقطوعة عن اللغات الحالية التي هي وريثها الشرعي، حاكمين عليها بذلك أنها تشكل عدماً أو ما هو أقل من العدم» .
واختلط الدافع الديني الحاقد بدافع استعماري سياسي حينما بدأت حركات الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي وطمعت إسبانيا في المناطق المجاورة لها، فجندت مستشرقيها لإعداد الدراسات لمعرفة مواصفات السكان وطبائعهم وتجارتهم وزراعتهم، وكذلك معرفة اللغات واللهجات المحلية، وقد أنشأت الحكومة الأسبانية العديد من المراكز لتعليم العربية والعامية المغربية، وقد تجاوزت الخمسين مدرسة. وما تزال إسبانيا تحتفظ بالكثير من المخطوطات العربية في مكتباتها الكبرى كمكتبة الأسكوريال، ومكتبة مدريد الوطنية، ومكتبة جمعية الأبحاث الوطنية.
أياً كانت ميول المستشرقين الإسبان وفئاتهم، فإنها تنطلق من موقف ديني نصراني موحد هو عدم الاعتراف الكامل بمساهمة الحضارة الإسلامية الأندلسية في النهضة الأوروبية. والمستشرقون الإسبان اعتزّوا بالتراث الأندلسي الباقي في بلادهم، وجعلوه (إسبانيّاً دماً) ، مُغْفِلين، أو متجاهلين أنه (إسلاميُّ الروح) (2) .
\ منطلقات الدراسات الاستشراقية الإسبانية:
1- التحليل العرقي:
عندما انطلقت الأيديولوجيات التي كانت سائدة في أوروبا لتناول مجموعة من المواضيع، ومن بينها: العمارة، المدينة ... كان دائماً المعتمد أو السند هو البحث عن الأصل الإغريقي الروماني؛ فنجد على سبيل المثال (كلوديو سانشيز) يحلل المجتمع الأندلسي بتحليل عرقي منطلقاً من دعوى مفادها أن التركيبة السكانية في الفتوحات الإسلامية الأولى كانت قليلة من حيث العدد، وهذه القلة العددية لم تستطع أن تؤثر الأثر الكبير في السلالة الإسبانية التي كانت كبيرة وواسعة الانتشار، وقد قاد هذا التعصب إلى حد اعتبارهم عمالقةَ الفكر الأندلسي كـ (ابن حزم) وغيره إسبانيين؛ لأن الإسلام - في نظرهم - دين شبقي عاجز عن إنتاج مثل أولئك العمالقة، وحتى (ابن الحاج القرطبي) واضع أكبر ناعورة في فاس أرجعوا ذكاءه وألمعيته إلى تكوينه في وسط أسرة مسيحية، رغم أنه كان من الفقهاء الذين خلَّفوا ثروة علمية هامة.
2 - الدراسات الاستشراقية الإسبانية تتحدث بالأساس حول استبداد الشرق وعدم استقلاله وهذا النمط من التحليل ساد في معظم الدراسات.
3 - قضية إلغاء الفرد أو الفردية، وهي ظاهرة موجودة في جل الدراسات الاستشراقية، ومفاد هذه النظرة التركيز على بعض القبائل التي كان لها القدرة على التسيير الذاتي، وهو أمر استعمل في تحليل جل المجتمعات، ومثال ذلك التركيز على المجتمع المغربي من خلال إبراز الفسيفساء الاجتماعية التي كانت عائقاً أمام الوحدة السياسية، في بعض الفترات التاريخية.
وجدير بالذكر أن هذه المنطلقات التي تحكمت في الدراسات الاستشراقية الإسبانية، هدفت بالأساس إلى ترسيخ مجموعة من المفاهيم في ذهن المتلقي، من بينها:
| أن الوجود الإسلامي في الأندلس كان بمنزلة وجودٍ كارثي، لكن سرعان ما امَّحى مع حروب الاسترداد بالأندلس.
| أن قيم الجدة والنبوغ في العطاءات الأندلسية لا يمكن فهمها إلا بالدم الإسباني؛ فـ (ابن القوطية) مثلاً في نظرهم كان مرتبطاً بالفكر الهلِّيني. و (ابن حزم) في كتابه (طوق الحمامة) كان من المتأثرين بالروح المسيحية أكثر من تأثره بالروح الإسلامية؛ لأن الروح الإسلامية في نظرهم روح عاجزة عن إبداع مثل تلك الأحاسيس الجياشة.
\ تميز المسلمين باللاعقلانية، وبعقيدة جبرية، وبشبقية حيوانية:
للمدرسة الاستشراقية الإسبانية خصوصيات، منها أن المستشرق الأسباني (ميكال بارسو) يرى أنه لا يمكن إدراج الدراسات الإسبانية ضمن الكم الهائل من الدراسات الاستشراقية؛ فقد تم تقدير حوالي 62 ألف عنوان أنجز ما بين 1800م -1950م، كان فقط حول الإسلام والمسلمين.
لكن لا يمكن الوقوف على خصوصيات الدراسات الاستشراقية الإسبانية إلا من خلال معرفة المحيط السياسي المؤثر فيها، ومنه تقسيم هذا الخطاب إلى ما يلي:
1 - هناك خطاب رجعي عدمي تعود جذوره إلى مرحلة طرد (المورسكيين) ، ويهدف هذا الخطاب إلى محاولة محو الوجود الثقافي للعرب والمسلمين في الأندلس.
2 - وفي المقابل هناك خطاب ليبرالي متعاطف مع (المورسكيين) من قِبَل طبقة تقليدية محافظة ومن أمثالها (كوندي) و (سافيدرا) .
3 - وهناك أيضاً خطاب مدافع ومنافح عن الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس، ومن هؤلاء أذكر على سبيل المثال: (أمريكو كاسترو) الذي أكد في غير ما مرة على الخصوصية الثقافية الإسلامية ومساهمتها في تاريخ الأندلس، ودافع عن الحضور الإيجابي للمسلمين في تاريخ الأندلس.
ومن الباحثين (1) من قَسَّم رواد المدرسة الاستشراقية الإسبانية إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ مغرضين: ونموذج هذه الفئة المستشرق (كلاوديو سانشيث البرنوث) وله كتابان: (إسبانيا الإسلامية) ، (إسبانيا الإسلامية والغرب) .
2 ـ معتدلين ... ولكن: ونموذج هذه الفئة المستشرق (إميليو جاريا جومث) .
3 ـ منصفين: وتتكون من مجموعة من الشبان الذين تخلصوا من كابوس محاكم التفتيش ومن عقدة نقاوة الدم. ففي المجال الأدبي نذكر: (خوان غويتسولو) ، (أنطونيو غالا) ، (أنطونيو مونيوز مولينا) ، (رامون مايراتا) في روايته: (علي باي العباسي) (2) .
لكن رغم اتصاف هؤلاء بالإنصاف (ونموذج ذلك غالا) نجد الصورة التي رُسمت بها الشخصية الإسلامية في روايته (المخطوط القرمزي) (3) كانت صورة سلبية جداً؛ فهي تمثل أخلاقيات ومعايير مجد زائل؛ وذلك في مقابل الشخصيات المسيحية التي تمثل إرهاصات مُلك في طريقه إلى الوقوف على قدميه، وإن كان ذلك يستند إلى دعائم واهية (4) . و «الوله التركي» لا يقل سلبية في وصفه للمرأة المسلمة، (والصورتان السابقتان لغلاف الروايتين) .
\ خاتمة:
إن جل الدراسات التي درست الظاهرة الاستشراقية، كانت ذات رؤية قاصرة لم تتجاوز عتبة الوصف والتجميع المعجمي ذي الطابع المدرسي، ولم تَرْقَ إلى مجال التحليل والنقد العلميين، فبقيت سجينة رؤية تقريظية تسجل للمستشرقين ما لهم وما عليهم (5) .
ومنها دراسات انخرطت في بلورة استنساخ ردود فعل انفعالية ومتشنجة، اكتفت برد مجموع الجهد الاستشراقي إلى أهواء ورغبات المستشرقين وميولهم المتربصة بالإسلام والعرب، انطلاقاً من مواقف وميول واضحة (6) .
وعليه؛ فإن معالجة إشكالية الاستشراق في مختلف دراساته، يجب أن تتم بعيداً عن تناول أغراض ونوايا وميول المستشرقين، والابتعاد في الوقت نفسه عن الانزواء داخل منهجية الانتماء الملي العقدي؛ لأن الهدف الأساس هو النفاذ إلى إشكالية الاستشراق والحفر في مكوناتها، وآلياتها التي تسمح بوجودها؛ وبهذا يستطيع الباحث الوصول إلى الخيط الناظم، ويقف على المنطلقات الأساسية لهذه الدراسات. وجدير بالذكر أن هذه العملية دشنها (سالم يفوت) في كتابه: (حفريات الاستشراق: في نقد العقل الاستشراقي) .
محمد السروتي (*)
__________
(*) باحث (دكتوراه) في تاريخ الإسلام وحضارته. جامعة محمد الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة ـ المملكة المغربية.
(1) محمد عبد الواحد العسري: الفكر الإسلامي بالأندلس في تصورات الاستشراق الاسباني - أعمال المؤتمر الدولي حول الأندلس، قرون من التقلبات والعطاءات - ق: 2- ص 253.
(2) عبد الله علي العليان: الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف. المركز الثقافي العربي، ط: 1- 1996م. ص: (9) وما بعدها.
(3) إدوارد سعيد: الاستشراق المعرفة السلطة الإنشاء. ترجمة كمال أبو ديب، ط: 1 1981م.
(4) http://forum.nadyelfikr.net/viewthread.php?fid=5&tid=11806&page=1&pid=67240
رضوان السيد الحياة 2003/04/27
(1) خوان غويتسولو: في الاستشراق الإسباني. ترجمة كاضم جهاد (بيروت، 1987م) ص: (165) .
(2) أحمد عبد الرحمن الكامون: التراث الإسلامي الأندلسي في ميزان الاستشراق - أستاذ اللغة والحضارة الإسبانية، بوجدة.
(1) أحمد عبد الرحمن الكامون: التراث الإسلامي الأندلسي في ميزان الاستشراق - أعمال المؤتمر الدولي حول الأندلس، قرون من التقلبات والعطاءات ... م س.
(2) رامون مايراتا: علي باي العباسي: مسيحي في مكة، ترجمة: رفعت عطفة، منشورات ورد- ط: 1-1999م. والمعروف أن (رامون) كان من الجنود الذين خدموا إسبانيا في الصحراء المغربية إبان حكم (فرانكو) وهي تجربة مكنته من معرفة الشخصية الإسلامية عن قرب.
(3) أنطونيو غالا: المخطوط القرمزي: مذكرات أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس، منشورات ورد- ط: 2002م.
(4) محمد أبو العطا: نافذة على الغرب: المخطوط القرمزي، لأنطونيو غالا - مجلة الفيصل العدد: 187- سنة: 1992- ص: (99-104) .
(5) عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين، بيروت: ط: 1981م
(6) سالم حميش: الاستشراق في أفق انسداده. ط: 1991م.(232/20)
الفساد والصلاح الإداريان وأثرهما في ازدهار التنمية
حامد محمد إدريس (أريتيري)
إن حركة التنمية في كل بلد تتوقف على الأخلاق الإيجابية التي يتحلى بها الراعي والرعية، ومتى اعوجت أخلاقهما فقد أثر ذلك الاعوجاج على التنمية الوطنية سلباً، وهذا الموضوع يعالج هذه القضية من الناحية الشرعية في زمن كثر فيه الفساد الإداري في كثير من البلدان في التعامل بين الطرفين (السلطة والشعب) .
\ أولاً: الفساد الإداري وأثره السلبي في التنمية:
\ تعريف الفساد الإداري:
كثيراً ما نسمع عن مصطلح الفساد الإداري، وهو وصف تتهم به المؤسسات الحاكمة كثيراً من البلدان، ويطلق على تركيبة من الصفات السيئة يتحلى بها كثير من الموظفين، تؤدي إلى نمو المصلحة الخاصة بطرق غير مشروعة وباستغلال المناصب الوظيفية على حساب المصلحة العامة للوطن.
فإذا اهتم موظفو الدولة بأنفسهم واستغلوا مناصبهم لتحقيق مصالحهم الخاصة فهذا مؤشر لوجود فساد إداري عام في أجهزة الدولة التي تبلى بهذا الفساد؛ مما ينذر بكارثة تنموية بسبب الكارثة الأخلاقية التي أصيب بها الجهاز الحاكم. والناس يراقبون سلطتهم السياسية أكثر مما تراقب هي الأمة؛ فإن وجدوها تعد بمشروعات ولا تفي بها، وتعلن عن إنجازات لم تحققها، ويرون موظفها لا يقبل معاملات الجمهور إلا بدفع الرُشا (جمع رشوة) ، ويعانون من ضياع حقوقهم لانتفاء العدل تحت ظل استشراء المحسوبية والجهوية والفئوية؛ فإنهم يقطعون بأن أخلاق نظامهم قد أوشكت على الانهيار، فتبدأ المسافة تتباعد بين الشعب والسلطة الحاكمة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى الانحطاط التنموي؛ وذلك لعدم وجود تعاون بنَّاء بين السلطة والشعب وبين أجهزة الدولة نفسها، وإن هذا ناتج عن مجموعة من الأخلاق السيئة التي يتسم بها الإداريون في تلك الدولة.
الأصل أن من واجبات الدولة حماية أخلاق الناس من الانحراف، ليس فقط حماية أخلاق من يعمل تحت جهازها الإداري؛ وإنما من واجبها أن تطوف في الأسواق لمعرفة أخلاق الناس وحمايتها وإرشادها وتقويمها على النحو الذي وضحه الحديث الآتي:
مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صُبْرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» فقال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا» رواه مسلم.
ومراقبة سلوك العاملين بالدولة مثل مراقبة أخلاق عامة الناس، حتى لا تنتشر العدوى الأخلاقية السلبية من أعلى السلطة إلى أدنى الأمة، وهي أضبط كذلك وأيسر؛ لمحدودية العدد، ولوجود إمكانية المراقبة الدائمة. وأفضل المراقبة أن يتلقى موظفو الدولة دورات تربوية مستمرة في الأخلاق السامية التي تتعلق بعملهم؛ من أجل أن تؤسس رقابة ذاتية داخلية للموظف كما أشار إلى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يتخول صحابته بالموعظة بين فترة وأخرى.
الغش خلق ذميم وجده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السوق فأخذ يوجه مرتكبه توجيهاً يحمل تعنيفاً شديداً «من غشنا فليس منا» أي إن صفة الغش إذا اتصلت بإنسان أصبح غير صالح ليكون عضواً في المجتمع المعافى؛ لأنه سيكون عامل هدم للتنمية الوطنية، وهو أمر غير مرضي عنه. ولهذا يلزم إبعاد الغاشين عن الوظيفة العامة؛ لأنهم عناصر غير منتجة وغير مؤدية لواجبها المطلوب منها.
\ من الأخلاق السالبة:
إن الفساد الإداري في أجهزة الحكم تعبير عن وجود مجموعة من الأخلاق السيئة التي يتحلى بها بعض الموظفين، وبموجبها قد انصرفت رسالتهم الأساسية من أداء الأمانة والقيام بواجب الوظيفة التي يتلقون الأجر مقابلها إلى مآرب أخرى خاصة بهم، وهي تنهك التنمية في أي بلد؛ لكنهم لا يبالون بمصلحة العامة ولا يهمهم تحقيق هدف رقي الوطن وتنميته.
يأتي على رأس الأخلاق السلبية التي تؤدي إلى الفساد الإداري الكذب والخيانة والغدر والفجور في الخصومة كما يوضحه الحديث النبوي الشريف:
«أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.
إن الموظف الذي يتسم بهذه الأخلاق يعمل في إعاقة تنمية وطنه، فهو يكذب مع مسئوليه ومع الناس، ويخون الأمانة التي فرضت عليه إن لم يقمْ بواجبه الوظيفي حق القيام، وهو يغدر بالعهد الذي أُخذ عليه يوم تقلد الوظيفة، وربما يظهر منه الفجور في الخصومة مع مخالفيه مستغلاً موقعه الوظيفي. وأي تنمية تأتي على يد من تتجمع في أخلاقه صفات الشر والنفاق من الكذب والخيانة والغدر والفجور؟!
\ صور من الفساد الإداري:
إن الأخلاق الذميمة التي سبق ذكرها إذا سادت في الجهاز الحاكم فسوف تجد مظاهرها وصورها في كل مرافق الدولة؛ فتحت تأثير هذه الأخلاق السيئة سيكون كل موظف يبحث عن مصلحته الخاصة ولا يهتم بواجبه المطلوب فمثلاً: شرطي المرور يظل همه الأكبر إيقاف السيارات المخالفة ليس لتأديب أصحابها على مخالفة ارتكبوها؛ وإنما يتم إيقافها سروراً بما يرجى من رزق حرام يأخذه من سائقها، وقد يتعين مقداره باتفاق بين السائق وبين الشرطي؛ الذي يصبح موقعه الوظيفي عامل تهديد يزيد الضغط على السائق حتى يدفع، ويُفَضِّل الطرف الضعيف تسوية الأمر بتكلفة أخف مما لو مشى إلى مركز الشرطة لسداد الفاتورة لصالح خزينة الدولة.
وضابط الجوازات والجنسية قد يتخذ لنفسه مجموعة من الوسائط والسماسرة الذين يسعون بينه وبين المستفيدين لعقد صفقات تتيسر بموجبها المعاملة، ولولا هذه الصفقات لتعقدت الأمور؛ لأن المستفيد كلما وفّى بشرط ابتكروا له شرطاً آخر إلى ما لا نهاية.
وفي ظل سيادة الفساد الإداري يصبح موظفو المطارات والموانئ بوابة دخول وخروج المحظورات تحت مظلة (الظرف المغلق، أي الرشوة) التي تتم بينهم وبين الفئات التي تحيا في الأجواء الفاسدة ولا ترضى بالقانون ليضبط حركتها. وعبر هذه البوابات يمكن أن يخرج من البلد مجرمون ويأتي إليها مجرمون، ويمكن أن تباع الثروات العامة بثمن بخس، ويمكن كذلك أن تسرب إلى البلاد عبر بواباتها بضائع وسلع خارجية تحارب الاقتصاد العام وتعيق حركة النمو الاقتصادي.
وفي ظل الفساد الإداري أيضاً يصبح الحصول على الوظيفة في الدولة أو فقدانها مبنياً على المحسوبية، فيقال الموظف الصالح، ويعين الموظف الطالح، ويوسد الأمر إلى غير أهله. في كل ذلك لا يبالى بالمعيار الأخلاقي الذي وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتقليد الولايات والوظائف: «من استعمل في عصابة رجلاً، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين» وقوله: «إنا لا نعطي هذا الأمر من طلبه، ولا من حرص عليه» .
ومن صور الفساد الإداري في بعض البلدان التلاعب بالأراضي، واستغلال المناصب لسلب حق الناس فيها. ولمواجهة هذا الخلق السلبي جاءت النصوص الشرعية تحرم الظلم:
«من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه إلى سبع أراضين» متفق عليه.
«من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين» متفق عليه.
فإن كان الوعيد السابق يخص ما يتعلق من فساد إداري في الأراضي الذي بموجبه يُحرم من حقهم قوم لصالح قوم آخرين لا يستحقونه؛ فإن هناك نصوصاً أخرى تحرم على كل الإدارات الفاسدة أن تمتد يدها وبطشها إلى العباد فقد قال -صلى الله عليه وسلم-:
«من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: وإنْ قضيباً من أراك» رواه مسلم. وردعاً لهؤلاء الذين يستغلون مناصبهم ويسعون في الأرض فساداً ويبنون مصالحهم بظلم الآخرين قال -صلى الله عليه وسلم- لصحابته:
«أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم. فهذا الموظف الذي يستخدم سلطته لسلب أموال الناس والتعرض لأعراضهم والاعتداء على دمائهم البريئة جزء من منظومة إدارية فاسدة أخلاقياً، لا يستحقون ما هم عليه من مناصب، وذلك لأن المنصب أمانة، وهؤلاء خانوها، وإن هدف المنصب بناء ونماء الوطن، وهؤلاء لا ينمَّون إلا مصلحتهم الشخصية بمضرة الآخرين، ولا يشيِّدون إلا ما يخصهم على حساب نمو وتقدم الوطن. ولهذا فهم يستحقون ما قال في حقهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» . رواه البخاري. وهذا يشمل كثيراً من الأجهزة الحكومية التي تشرف على المال العام وتشرف على الإدارة العامة ائتُمنت على خزينة الدولة صرفاً وإيراداً وكلفت بواجب تنمية الوطن، فبأخلاقها المنحرفة خانت الأمانة وأعاقت مسيرة الأمة وتقدم الوطن وتنميته.
فأي وطن هذا الذي ينمو وقد ذهبت إيراداته على يد جباتها من موظفي الشرطة ورجال الجمارك وموظفي مصادر ميزانية الدولة؟! وأي وطن هذا الذي ينمو وقد ذهب ما جمع في خزانته اختلاساً بيد حماتها؟!
ومما يدخل في الفساد الإداري غياب الموظف عن محل عمله بلا عذر شرعي، أو جلوس الموظفين متحلقين في أحاديث فراغ خلال ساعات الدوام، أو قعود الموظف على كرسيه نائماً مُعطَّلَ الفكر والذهن، مجمد العمل والإنتاج، يهتم فقط بتسجيل الحضور والانصراف حفاظاً على وظيفته، دون أن ينظر ما الذي أضافه لتنمية الوطن، ومقابل أي شيء يتلقى الراتب الشهري من خزينة الدولة، ولا يفكر في المراجعين من الأمة الذين يزورون مكتبه راغبين في إنجاز معاملاتهم، وهو يردهم خاسرين بترحيل أجل المعاملة من تاريخ إلى تاريخ وأحياناً كثيرة يغيب عن موقع عمله، فيظل المراجع مرابطاً أمام المكتب من بداية دوام إلى نهاية دوام ... وهكذا دواليك. إن مجمل هذه الخلطة السيئة من الأخلاق هي التي توصف بالفساد الإداري الذي يعمل في إعاقة مسيرة التنمية في أي بلد، ويضر بمصالح الأمة.
\ ثانياً: الصلاح الإداري وأثره الإيجابي في التنمية:
\ تعريف الصلاح الإداري:
إذا كان الفساد الإداري عامل هدم لتنمية أي بلد فإن الصلاح الإداري يأتي ليحل محله، فإذا تجمعت في الجهاز الموظف في خدمة الدولة بمختلف فروعها مجموعة من الأخلاق الحميدة من الصدق والوفاء والأمانة والعفو والإخلاص فإن العافية تسود، الأمر الذي يبشر بالنمو والتقدم والتطور. ويترتب على عدم الوفاء بالعقود ما دلت عليه كثير من النصوص الشرعية ومنها قول الله ـ تعالى ـ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] .
هذه نصوص شرعية توجب على كل موظف مراعاة العقد المبرم بين الأمة وبينه، وبينه وبين ربه، ولهذا كان من المفروض عليه أن يتصف بكل خلق حميد يساعد في أداء واجبه المناط به.
\ صور من الصلاح الإداري:
وإذا أردنا أن نضرب أمثلة للصلاح الإداري الذي يعمل على ازدهار التنمية نجد أنه لا بد أن يكون الفرد الموظف في الدولة صالحاً، والمراد بصلاح الموظف اتصافه بالأخلاق الحميدة التي تثمر مراعاته حق الدولة في عمله وحق الأمة، فهذان ميدانان تظهر فيهما صلاح أخلاق الموظف، ومن صلاح الأفراد الموظفين يتكون الجهاز الإداري الصالح، ومنه يأتي الأداء الإداري الصالح.
يدخل العمل الوظيفي في الدولة في باب الأمانات العامة التي يلزم أن يؤديها موظفوها، فمنذ أن يتم تعيين الموظف وجب عليه القيام بأداء عمله وفاءً بالأمانة التي أمر الله بأدائها. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . ولأن الوظيفة العامة خدمة للأمة؛ فإن شاغلها يلزمه أن ينظر إليها بهذا المعنى، فمن اتخذها مطيةً لخدمة فئة دون فئة دون عموم الأمة فقد خان ولم يقم بواجبه المطلوب منه.
الحرص على جودة العمل وإتقانه:
ومما يدخل في الأخلاق الحميدة أن يجتهد الموظف في جودة عمله وإتقانه. وهذه درجة زائدة على الأداء العادي للواجب الوظيفي، وقد جاء الحديث الشريف مرشداً على مثل هذه الدرجة من العمل: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» ، وحديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» ، وحديث: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
التعامل الطيب مع الناس:
ومما يأتي ضمن الأخلاق الحميدة أن يتعامل الموظف مع الناس رؤساء ومرؤوسين بالأخلاق الطبية معاملة وتخاطباً فـ «الكلمة الطيبة صدقة» «وتبسمك في وجه أخيك صدقة» «ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ... » ، وأن يتحلى بالسماحة امتثالاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» . وبعد أن يتحلى موظف الدولة بكل الصفات الحميدة من الإخلاص والسماحة والطيبة وحسن التعامل وإجادة العمل يلزمه من خلال الوظيفة القيام بمراعاة حقين اثنين: حق الدولة، وحق المواطن، حتى يكون لبنة في بناء الجهاز الإداري الصالح، فهو يتحرك أحياناً في ميدانين متقابلين: قوي مسلط (الحكومة) ، وضعيف مسلط عليه (المواطن) ، وعليه أن يعطي كل ذي حق حقه.
أ - مراعاة الحق العام (حق الدولة) :
مع ضرورة الامتثال بالخلق الطيب في تعامله تقع على عاتق الموظف مراعاة حق الدولة، فلا يجوز أن يفرط فيه إرضاءً لأهله وعشيرته أو معارفه وأصدقائه أو مصالحه ومنافعه. فإنَّ صَرْفَ حق الدولة، من وقت ومال وأمانة، إلى غير الدولة خيانة كبيرة تستحق المؤاخذة الدنيوية والمؤاخذة الأخروية، وقد جاءت عدد من النصوص الشرعية تعد خيانة الدولة ضمن الجرائم الكبيرة، حتى وإن كانت الخيانة صغيرة في نظر مرتكبها أو بالنظر إلى حجمها، مصداق ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في حق عامله (ابن اللتبية) : «أما بعد: فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله ـ تعالى ـ يحمله يوم القيامة» متفق عليه. وفي حديث آخر: «كان على ثَقَل (أي العيال، وما يثقل حمله من الأمتعة) النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل يقال له: كِركِرة فمات؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هو في النار. فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها» رواه البخاري. والأصل في الغلول السرقة من الغنيمة قبل قسمتها، ولأن حرمة الغنيمة أتت من كونها مالاً للدولة - وليس من كونها أخذت في حرب -؛ جاز القياس عليها لتضم كل مال تابع للدولة سواء دخل في خزينتها، أو تمت إعاقة وصوله إلى الخزينة العامة بواسطة الجباة الخونة، فيصدق الغلول المحرم - إذاً - في أي قدر من المال العام يوجه إلى المصلحة الخاصة دون إجازة من السلطة بل ودون علمها. ومن صلاح الجهاز الإداري في الدولة أن يقوم موظفوها العاملون في الموارد المالية بتوريد ما يتحصلون عليه من مال إلى الخزينة العامة دون أن يخفوا منه شيئاً ولو كان صغيراً ويسيراً في نظرهم؛ كما دل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من استعملناه منكم على عمل فكَتَمَنَا مِخْيَطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة» . رواه مسلم. وبمثل هذه الأخلاق يقاس صلاح الجهاز الإداري في الدولة ويعد قائماً بواجبه.
إن من امتثل بهذه الأخلاق الحميدة هو الجهاز الإداري المعافى الذي يعمل في تنمية الوطن، ومن دلائل عافيته أن كل موظف يزيد خزينة الدولة وارداً من المال خاصاً دون اختلاس أو خيانة، ودون غش أو خداع أو كذب. ومن درهم إلى درهم يأتي به الجباة المخلصون الأمناء في مختلف وزارات الدولة ومصالحها وأجهزتها تُملأُ خزينة المال العام، وبه تؤسس المشروعات التنموية التي يقوم برعايتها الأمناء المخلصون، المجتهدون، الحريصون على تنمية الوطن، المجيدون لعملهم، المتقنون له والمبتكرون فيه.
ب - مراعاة حق المواطن:
سبق أن ذكرنا إجمالاً أن موظف الدولة عليه واجبان يقوم بهما؛ أحدهما تجاه الدولة كما سبق بيانه، والآخر تجاه المواطن. وإن أي تقصير في أحد هذين الواجبين يعد خيانة للأمانة. وإذا كانت الدولة تطالب الموظف أن يستوفي حقها من المواطن سواء تعلق هذا الحق بضريبة لازمة، أو غرامة على مخالفة، أو زكاة واجبة، أو رسوم معاملة، أو فواتير خدمة، أو تعلقت بتحصيل مالي خاص مقرر بوجه شرعي لمصلحة عامة؛ فإن من حق هذا المواطن، بعد أن يقوم بما عليه من واجب، أن يَسلَمَ من أذى الموظف الحكومي في دمه وماله وعرضه كما يدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، وفي بلدكم هذا» متفق عليه. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله» رواه مسلم.
فإذا تعدى الموظف على حقوق المواطن وحرماته بعد استيفاء حق الدولة منه فقد ظلمه. وهذا مؤشر سلبي خطير ينذر بحلول عقاب على فاعله عاجلاً أو آجلاً كما يفيده قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» رواه مسلم.
ولا يجوز للموظف الحكومي أن يضيف شيئاًً من عنده على ما تقرره الحكومة وتلزم المواطن به مصداقاً للحديث الشريف:
قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين وجهه والياً إلى اليمن: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعِلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم! واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» متفق عليه. والإضافة السليبة من الموظف قد تكون صريحة؛ كأن يطالب لنفسه قدراً من المصلحة معيناً، مادية كانت أو معنوية، وقد يجبِرُ - بسوء أخلاقه - المتعاملين معه من الشعب على الدفع الظالم، وذلك حل يلجأ إليه المواطن اتقاء لشر الموظف أو تخليصاً للمعاملة المحبوسة بالمماطلة. فإن هذا الخلق من صاحبه يدخل ضمن قائمة الفساد الإداري، وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كل إنسان سبب مشقة للناس حيث قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمرهم شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به» .
إن صلاح الموظف معناه تحلِّيه بالأخلاق الحميدة التي بموجبها يقوم بحق الدولة على وجهه ويراعي حق الأمة على وجهه كذلك، موفقاً بين واجبيه، أداءً للأمانة ووفاءً بالعهد، ويفعل ذلك بكل إخلاص وحرص واجتهاد وإجادة وإتقان. ومن بين مجموعة موظفي الدولة المتحلين بهذه الأخلاق الحميدة يتكون الجهاز الإداري الصالح الذي يثمر الصلاح الإداري، وبه تتم التنمية الوطنية.
__________
(*) دكتوراه في الدراسات الإسلامية (قيد التحضير في جامعة النيلين - السودان) .(232/21)
إن شاء الله أدب مع الله
متعب العصيمي
إن الأدب أياً كان نوعه ـ قولاً أو فعلاً ـ خُلُق عظيم، ووصف نبيل، يعلو كلما علا شأن المتأدب معه، ويزداد علواً وعزاً وشرفاً إذا كان مع الله ـ عزّ وجل ـ وهو أحق من يُتَأدَّبُ معه. والحديث عن «الأدب مع الله» حديث يشرح الصدر، ويهذب النفس ويزكيها، ويسمو بها إلى معالي الأمور؛ فلقد كان أكثر الناس وأكملهم أدباً مع ربهم هم الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كيف لا، وهم أكرم الخلق وأتقاهم لله؟!
قال الله ـ تعالى ـ: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
بل حثّنا ـ سبحانه وتعالى ـ على الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- في هذا الخلق العظيم، في أقواله وأعماله وعبادته لربه، فقال ـ جلّ وعلا ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] .
فمن الأدب مع الله ـ عزّ وجل ـ قولك: (إن شاء الله) عندما تخبر عن أمر تنوي فعله مستقبلاً؛ عملاً بقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ... } [الكهف: 23 - 24] .
يقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: «فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبَلية: (إني فاعل ذلك غداً) من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور وهو الكلام على الغيوب المستقبَلية، التي لا يدري العبد هل يفعلها أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالاً وذلك محذور ومحظور؛ لأن المشيئة كلها لله، ولما في ذكر مشيئة الله من تيسير الأمور وحصول البركة فيها» .
ومما يدل على أهمية هذا الأدب وعلو شأنه هو أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد استثنى في كلامه فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح: 27] .
قال ثعلب ـ رحمه الله ـ: «إن الله استثنى فيما يعلم، ليستثني الخلق فيما لا يعلمون» ، وقال سيد قطب ـ رحمه الله ـ: «ولكن الله ـ سبحانه ـ يؤدِّب المؤمنين بأدب الإيمان؛ فالدخول واقع حتم؛ لأن الله أخبر به ... إنه أدب يلقيه الله في رُوع المؤمنين ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور» (1) .
وقيل: إن الحكمة من استثناء الله ـ عزّ وجل ـ هو أنه ـ سبحانه ـ علم أنه يموت بعض الذين كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية.
ومما يدل على أهمية الاستثناء في تيسير الأمور وحصول مراد العبد منها ما ذكره الله لنا حكايةً عن بني إسرائيل لما طلب منهم موسى ـ عليه السلام ـ أن يذبحوا بقرة امتثالاً لأمر الله ـ عزّ وجل ـ فإنهم لو لم يستثنوا لم يهتدوا إليها.
قال الله ـ تعالى ـ: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] .
ومن نماذج الأدب مع الله في الاستثناء في أقوال أنبيائه وعباده الصالحين، قول إسماعيل ـ عليه السلام ـ لأبيه عندما عرض عليه أمر ذبحه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] .
قال سيد قطب ـ رحمه الله ـ: «ثم الأدب مع الله ومعرفة حدود قدرته، وطاقته في الاحتمال، والاستعانة بربه على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ومساعدته على الطاعة، ولم يأخذها شجاعة ولم يأخذها بطولة، ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة، ولم يُظهر لنفسه ظلاً ولا حجماً، وإنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به؛ فيا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان! ويا لنيل الطاعة! ويا لعظمة التسليم!» (1) .
وقال أهل العلم: «إن إسماعيل ـ عليه السلام ـ لما استثنى وفَّقه الله للصبر» . ومن أمثلة الأدب في الاستثناء قول موسى ـ عليه السلام ـ للخضر: {قَالَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] .
فموسى ـ عليه السلام ـ عزم على الصبر مع الخضر، وعلَّق ذلك بمشية الله قبل أن يرى الممتحَن به، والعزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله ولا حصوله، فهو لم يدّعِ حصوله في نفسه قبل أن يرى ما الذي سيمتحن به، ولذا فإن موسى لما رأى ذلك الممتحَن العظيم لم يصبر على ذلك، فهو لم يخرج على مشيئة الله له.
ومن نماذج الأدب مع الله في الاستثناء أيضاً قول يوسف ـ عليه السلام ـ: {إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] ، وذلك لما رأى أبويه وإخوته قد دخلوا عليه في ملكه آمنين بأمن الله. قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] .
ومن النماذج التي تأدّب فيها الصالحون مع ربهم في الاستثناء قول صاحب مدين (الشيخ الكبير) (2) لموسى ـ عليه السلام ـ بعدما عرض عليه أن يكون أجيراً عنده كما في قوله ـ تعالى ـ: {سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] .
قال سيد قطب ـ رحمه الله ـ: «وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله، فهو لا يزكّي نفسه، ولا يجزم بأنه من الصالحين، ولكن يرجو أن يكون كذلك، ويَكِلُ الأمر في هذا لمشيئة الله» (3) .
إن مشيئة الله نافذة مطلقة ومثبتة، ومشيئة العبد تابعة تحت مشيئة الله، ولن تنفذ مشيئة العبد إلاّ بمشيئة الله. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] .
قال السعدي ـ رحمه الله ـ: «فإن مشيئة الله نافذة عامة لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير؛ ففيها رد على القدرية الذين لا يُدخِلون أفعال العبد تحت مشيئة الله، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة ولا فعل حقيقة، وإنما مجبور على أفعاله، فأثبت الله للعبد مشيئة حقيقةً وفعلاً، وجعل ذلك تابعاً لمشيئته» (4) .
فلما كان هذا الأدب مع الله يجلب الخير للعبد من تيسير أموره، وعدم تأخرها، وحصول البركة فيها، فإنَّ تَرْكَه (5) نسياناً قد يتسبب في تأخير ما تنوي فعله مستقبلاً، وهذا ما حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله اليهود عن خبر الفتية، فقال: أخبركم غداً. ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه حتى شق عليه، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء في مثل هذا، ولو نسيه فإنه يستثني عندما يذكره.
قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إذَا نَسِيتَ ... } [الكهف: 23 - 24] .
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ: «أي إذا نسيت الاستثناء فقل: إن شاء الله. سواء كانت المدة قليلة أو كثيرة» (6) .
وقد يكون في تركه نسياناً عدم تحقيق الفعل، أو لا يتم له حصول الفائدة منه، ومثل هذا حدث لنبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ عندما ترك الاستثناء ومضى في فعله.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قال سليمان بن داود: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية: تسعين - تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال الملك: قل: إن شاء الله. فلم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهنّ فلم يلد منهن إلاّ امرأة واحدة نصف إنسان، قال -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته» رواه البخاري ومسلم.
فالواجب على من عزم أن يفعل أمراً مستقبلاً أن يقول: إن شاء الله، قبل أن يُقدِم على ذلك، تأدباً مع الله، وامتثالاً لأمره، واقتداء بأنبيائه وعباده الصالحين.
سدّد الله الخطى، وبارك في الجهود، وهدى إلى الصواب من القول والعلم والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) «في ظلال القرآن» لسيد قطب، (6، 3330) .(232/22)
الإفراط في النشيد
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
يُحكى أن مغنياً عزم على التوبة، فقيل له: عليك بصحبة الصوفية! فإنهم يعملون على إرادة الآخرة، والزهد في الدنيا، فصحبهم، فصاروا يستعملونه في السماع والإنشاد، ولا تكاد التوبة تنتهي إليه لتزاحمهم عليه، فترك ذاك المغني صحبتهم، وقال: أنا كنتُ تائباً ولا أدري (1) .
هذه واقعة سطّرها يراع ابن القيم ـ رحمه الله ـ، وهي تذكّرنا بالإغراق والمبالغة في النشيد هذه الأيام، والذي استحوذ على فئام من أهل النشيد، حتى أفضى الأمر عند بعضهم إلى محاكاة الغناء الماجن.
فصاحَب بعض الإنشاد التكسّرُ والتأوه في الإلقاء، ومشابهة لحون الغناء المتهتك، واعتناء بعض المنشدين بجمال الصورة، وتنميق المظهر، وحلق شعر الوجه؛ بل أفضى الأمر إلى استعمال المعازف في ذاك النشيد المتفلت، ويضاف إلى ذلك تقنيات الصوت ومؤثراته، والتي جعلت الأسماع لا تكاد تميّز بين غناء المجون وهذا النشيد.
وقد ألمح ابن الجوزي إلى ذلك وحذّر من مغبة هذا الصنيع فقال: «ولما يئس إبليس، أن يسمع من المتعبدين شيئاً من الأصوات المحرمة كالعود، نظر إلى المعنى الحاصل بالعود، فدرجه في ضمن الغناء بغير العود وحسّنه لهم، وإنما مراده التدريج من شيء إلى شيء. والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج، وتأمّل المقاصد» (2) .
ـ والانهماك في كثير من هذه الأناشيد يورث عاطفة وانفعالاً عند بعض الناس، لكن دون بصيرة أو فقه، فهو يحِّرك المشاعر، ويؤجج العواطف. وقد استخوذ على الصوفية سماع القصائد فقلّ علمهم وعزّ فقههم، حتى قال سفيان الثوري: «أعزّ الخلق خمسة أنفس ـ وذكر منهم ـ: فقيه صوفي» (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا غلب على منحرفة المتصوفة الاعتياض بسماع القصائد عن سماع القرآن، فإنه يعطيهم حركة حبّ من غير أن يكون ذلك تابعاً لعلم وتصديق.. وله تأثير من جهة التحريك والإزعاج لا من جهة العلم» (4) .
فالأجيال العاكفة على سماع النشيد لا تنال بذلك فقهاً، ولا تحقق علماً بدين الله ـ تعالى ـ، وإنما هو ترنّم وتواجد، وانفعال عاطفي.
ـ والولع بسماع النشيد يزهّد في سماع القرآن العظيم، «ولذا تجد مَنْ أكثر مِنْ سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه» (1) .
وقد قال الإمام الشافعي: «خلّفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير (2) ، يصدون به الناس عن القرآن» (3) .
قال ابن تيمية ـ معلقاً على كلام الشافعي ـ: «وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين، فإن القلب إذا تعوّد سماع القصائد والأبيات والتذَّ بها، حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات، فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن» (4) .
ويقول ـ في موطن آخر ـ: «فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المسكرة، فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن، وفهم معانيه، واتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله ... » (5) .
فالقلوب أوعية، فإن كان الوعاء مملوءاً بحبّ القصائد والأناشيد، فأين يقع حبّ القرآن وذكر الله ـ تعالى ـ في ذلك الوعاء؟!
وقال ابن الجوزي ـ في نقده الصوفية ـ: «وقد نشب حبّ السماع بقلوب خلق منهم، فآثروه على قراءة القرآن، ورقت قلوبهم عنده مما لا ترق عند القرآن، وما ذاك إلا لتمكن هوى باطن تمكن منه، وغلبة طبع ... » (6) .
ـ إن النشيد المنضبط بالضوابط الشرعية بديل محمود عن الأغاني الماجنة، لكن إذا وضع بتوازن في موضعه الصحيح، أما إذا أردنا أن نعرف الحكم الشرعي في ذلك النشيد المتفلت، فعلينا أن ننظر إلى مآلاته وعواقبه، وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم قاعدة في ذلك، وأعملاها على السماع المحدث، فكان مما قاله ابن القيم:
«إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء: هل هو الإباحة أو التحريم؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي. ولا سيما إذا كان طريقاً مفضياً إلى ما يغضب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- موصلاً إليه.
فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر؛ لأنه يسوق النفس إلى السكر الذي يسوقها إلى المحرمات، ثم يبيح ما هو أعظم منه سَوْقاً للنفوس إلى الحرام بكثير؟ ... » ـ إلى أن قال ـ: « ... والذي شاهدناه ـ نحن وغيرنا ـ وعرفناه بالتجارب أن ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم، وفشت فيهم، واشتغلوا بها؛ إلا سلط الله عليهم العدو، وبُلوا بالقحط والجدب وولاة السوء. والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر، والله المستعان» (7) .
ـ هذا النشيد المتهتك أنموذج من الترخص المتفلت في واقعنا الحاضر، فقد ظهرت في الآونة الأخيرة توجهات ومؤلفات في التفلت عن ضوابط الشرع، والتواثب على حرمات ـ الله عز وجل ـ مثل: حلق اللحية، وإباحة سماع الغناء، والتوسع في أنواع من المناكح والمكاسب والمطعومات دون التحقق من أحكام الشرع.
إضافة إلى ما هو أطم من ذلك كالتساهل في وسائل الشرك وذرائعه، وتهوين عقيدة الولاء والبراء، وغير ذلك.
وهذا الواقع يوجب على العلماء والدعاة أن يربّوا الأمة على أخذ الدين بقوة، والدعوة إلى التمسك بالسُّنة والعض عليها بالنواجذ، والحذر من تتبع الرخص والحيل المحرمة والأقوال الشاذة، وإحياء واعظ الله في قلوب أهل الإسلام، والتذكير بالوقوف بين يدي الجبار جل جلاجه، الذي يعلم السر وأخفى، قال ـ عزَّ وجلَّ ـ: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15] .
__________
(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) انظر: الكلام على مسألة السماع، ص (342) .
(2) تلبيس إبليس، ص (249) .
(3) مدارج السالكين (330/2) .
(4) مجموع الفتاوى (2/42) .
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/484) .
(2) التغبير: هو الضرب بالقضيب، وهو آلة من الآلات التي تقرن بتلحين الغناء، انظر: الاستقامة (1/38) .
(3) أخرجه ابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص (257) . (4) مجموع الفتاوى (10/532) ، وانظر: الاستقامة (1/238) .
(5) مجموع الفتاوى (10/43) . (6) تلبيس إبليس، ص (276) .
(7) مدارج السالكين: (1/496، 497، 500) ، وانظر: مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية (2/308) .(232/23)
233 - محرم - 1428 هـ
(السنة: 22)(233/)
قبل فوات الأوان!
مشهد إعدام الرئيس العراقي فجر يوم النحر في ظل صخب وضجيج الصفويين، لا يختلف كثيراً عن تلك المسرحية الهزلية التي أعقبت دخول القوات الأمريكية الغازية إلى بغداد، والتي تمثلت بإسقاط تمثال صدام حسين. صورتان متقاربتان تحملان أشد صور الهمجية والضغينة والحقد، وفي كِلا الصورتين لم يكن صدام حسين مقصوداً لذاته بالتأكيد!
المسرحية الأمريكية كانت تسخر من العرب والمسلمين، وتهدف إلى سحق كرامتهم وعزتهم. أما المسرحية الصفوية فكانت تخاطب أهل السنة خصوصاً، قاصدةً ترويضهم وانتزاع البقية الباقية من أَنَفَتهم وشموخهم.
نعم! انتهى صدام، ووقف بين يدي حَكَمٍ عدل لا يظلم الناس شيئاً، لكن الذي لم ينتهِ بعدُ هو حرب الإبادة الطائفية التي يقودها جيش المهدي، وفيلق بدر، والميليشيات الصفوية التي تمتلئ حقداً وبغضاً.
إنها حرب تصفية جماعية لم تشهد المنطقة لها مثيلاً، هُجِّرت العوائل السنية، وحوصرت البيوت، وانتُهِكت الأعراض، ونُهِبت الأوقاف والمساجد والممتلكات، ذُبِح الأئمة والعلماء والمؤذنون ذبح الشياه، وأنهار من الدماء تملأ بغداد خصوصاً.. وتزداد وتيرة هذا الحقد ساعة بعد ساعة تحت رعاية الجيش الأمريكي وأمام سمع العالم وبصره!
إن الأمر جدّ خطير، وخريطة المنطقة كلها ـ وليس العراق وحده ـ مهددة بتلك الأيدي العابثة التي راحت تصدر شعاراتها الثورية، وتستعلي بأطروحاتها الطائفية؛ فهل يبقى علماء السُّنَّة مكتوفي الأيدي أمام همجية الحاقدين؟!
إنها أزمة حقيقية تُوجِب على مختلف أئمة السنة ورجالاتها ورموزها من داخل العراق وخارجه، أن يعيدوا حساباتهم من جديد قبل فوات الأوان.(233/1)
المقاصد الوهمية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
لقد أثيرت زوبعة منذ مدة حول المقاصد وموقعها من الشريعة وعلاقتها بالنصوص، وألحت أصوات على ضرورة توسيع دائرتها مما دفع إلى بذل جهد في إيضاح الرؤية حول تصنيف المقاصد التي قصدها الشارع والتي توهمها الناس.
لقد جاءت مقاصد الشريعة نتيجة استقراء واسع لنصوص الشريعة وما حوته من كليات، من قِبَلِ الراسخين في العلم من أهل ملة الإسلام بعد أن فحصوا نصوص الوحي باعتبارها المصدر الوحيد والمنبع الفذ لاستخلاص هذه المقاصد.
قال الإمامُ الغزالي: «مقاصدُ الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع؛ فكل مصلحةٍ لا ترجعُ إلى حفظِ مقصودٍ فُهِمَ من الكتاب والسنة والإجماع؛ فهي باطلة مُطَّرحة» (1) .
وذلك ما عبرَ عنهُ الإمامُ الشاطبي حيث قال: «كون الشارع قاصداً للمحافظةِ على القواعدِ الثلاث: الضرورية والحاجيّة والتحسينية، لا بد عليه من دليل يستند إليه؛ والمستند إليه في ذلك إما أن يكونَ دليلاً ظنياً أو دليلاً قطعياً، وكونه ظنياً باطلٌ، مع أنه أصلٌ من أصولِ الشريعة، بل أصلُ أصولها، وأصولُ الشريعة قطعية؛ فأصول أصولها أوْلى أن تكونَ قطعية، ولو جازَ إثباتها بالظن لكانت الشريعة مظنونة: أصلاً وفرعاً، وهذا باطل، فلا بد أن تكون قطعية، فأدلتها قطعية بلا بد، دليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض بحيث ينتظمُ من مجموعها أمرٌ واحدٌ تجتمعُ عليهِ تلك الأدلة.. فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من: الظواهر، والعمومات، والمطلقات، والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألْفَوْا أدلة الشريعة كلها دائرة على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة» (2) .
وقال الإمام العز بن عبد السلام: «أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء، طُلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح» (1) .
ولقد أحسن شيخ المقاصديين الإمام الشاطبي حين أتحفنا بوضع أهم المعالم التي ننطلق منها في تصنيفنا للمقاصد إلى مقصود ومتوهم، عبر جملة من القواعد الكبرى، فقال:
ـ «المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو: إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً» (2) .
ـ «وُضِعت الشريعة على أن تكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع فيها، وقد وسع الله على العباد في شهواتهم وتنعماتهم بما يكفيهم ولا يفضي إلى مفسدة ولا إلى مشقة» (3) .
ـ «من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساعٍ في ضد تلك المصلحة» (4) .
ـ «إن عامةَ المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح؛ فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع، فهو المقدم في نِِحَلهم، بحيث لا يتهمون العقل، وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر ... وليس كل ما يقضي به العقل يكونُ حقاً» (5) .
ومما نأخذه من هذه النصوص أن الشاطبي يرفض جملةً وتفصيلاً التخلي عن جزئيات الشريعة ودقائقها بدعوى الحفاظ على روحها أو مغزاها أو توهم مقاصدها.. إذ كلها وأجزاؤها مرتبطة ببعض، وذلك الكل وتلك الأجزاء لم ينتجها العقل ولا التفكير ولا التوهم، وإنما وجدت تبعاً لوحي محكم لا يتبدل ولا يتغير، فلا مجال لعبث العقل.. ولا محل للارتجالية والتوهم في الدين، بل لا بد من الوقوف عند الحدود التي رسمتها نصوص الشرع والانقياد لها والاستسلام، قال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، مما يبين أن توهم المقاصد وتوظيفها تبعاً لمعايير عقلية ليس إلا إقصاء للنص الشرعي، وتبريراً لحلول يمليها الاستسلام لضغط الواقع.
قال ابن تيمية: «فتبين أن قول الذين يُعرِضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله، ويطلبونه في كلام غيره من أصناف أهل الكلام والفلسفة وغيرهم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم» (6) .
يقول الدكتور الخادمي: «المقاصد الشرعية ـ وكما تدل علىها صفتها الشرعية ـ هي المقاصد الثابتة بالشرع الإسلامي، أي بأدلته ونصوصه وتعاليمه وهديه، فهي مبنية على الشرع ومنضبطة بقيوده وقواعده، ومعلوم أن ميزان الحكم على أن هذا الفعل مصلحة أو مفسدة إنما هو الشرع وما يتعلق بذلك الفعل من الأدلة والقرائن والمعطيات الشرعية النصية والاجتهادية، والقول بغير هذا موقع بلا شك في القول بتحكيم العقل قبل مجيء الشرع وبعده» (7) .
فالله ـ تعالى ـ إنما أرسل الرسل ـ عليهم السلام ـ وأنزل الكتب ليكون الواقع خاضعاً لما جاء به أولئك الرسل ونزلت به تلك الكتب. قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} . [الشورى: 52 - 53]
غير أن بعض المتعالمين سعى من خلال طلب التوسط والسماحة إلى فتح الباب على مصراعيه تحت شعار (فقه التيسير ورفع الحرج) فقاده ذلك إلى تقديم فتاوى شاذة وآراء غير ممسوكة بزمام، تخالف النصوص والإجماع وما دأب عليه الأئمة المتقدمون وما تعارفوا عليه، من الوقوف عند حدود النص والبعد عن التقوُّل بخلافه، بل والورع عن الفتوى في ما لا يعلمون، ظانين (المتعالمين) أن ذلك سينهض بالأمة ويساهم في حل أزماتها.
ولله در القائل:
وإذا رجوتَ المستحيل فإنما
تبني الرجاء على شفير هاري
لقد راعى الشرع المطهر أحوال العباد ومصالحهم الخاصة والعامة، وأتاح الرخص وسلك التيسير، فكان مجمل نصوصه مبنياً على قصد التخفيف، مؤسَّساً على اليسر والسماحة، كما دعا إلى ربط الأحكام بمعطيات الواقع ومراعاة الظروف، مع الأخذ بقدسية النص وتطبيق مدلولاته والاستجابة له وتطبيقه، غير أن مراعاة الشريعة لتلك الأحوال وإتاحتها لفرص التيسير لم تأذن يوماً بالخروج عن النص ومن باب الأحرى أن تناقضه.
فالبديل المطروح يظل متمثلاً في الرجوع إلى النصوص ودراستها واستيعابها وفهمها واستظهار مقاصدها والتعامل مع الواقع انطلاقاً منها وبها.
فالحكم ليس إلا لله ـ تعالى ـ وحده والعباد محكوم عليهم. قال ـ تعالى ـ: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] .
فما أحوج الخلق إلى تطبيق هذا القرآن العظيم والامتثال لهذه السنة المطهرة! يقول ابن تيمية: «حاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يتلف عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله» (1) .
لقد ركز دعاة المعاصرة على اختلاق أو تخيل مقاصد يعملون على نسبتها إلى الشارع، وغالباً ما تكون من الارتجال أو التوهم لتبرير تصرفات، أو لإصباغ شرعية على مواقف أو أطروحات يخافون إنكار علماء الشريعة لها؛ ففي الميدان السياسي مثلاً يجنحون إلى ضرورة تطبيق الديمقراطية بدعوى تماثلها مع الشورى الإسلامية، وكذلك يدعون إلى وجود دستور للدولة المسلمة له مواد قانونية وضعية يتأسس عليها، زاعمين أن الشريعة قصدت ذلك طلباً للمصلحة، غير أن تاريخ المسلمين يكذِّب هذه الأطروحة؛ إذ حكم بلادَ الإسلام دولٌ متعاقبة على مساحات شاسعة من المعمورة، وانضوت تحت حكمها شعوب مختلفة، وقاد المسلمون تلك البقاع، وساسوا جميع هذه الشعوب بأحكام الشرع المنزل، ولم يعرفوا الديمقراطية ولم تكن لهم دساتير أو أنظمة حكم غير الكتاب والسنة وما انبثق عنهما؛ فما هي المقاصد التي فوَّتوها حتى تُسْتَدْرَك عليهم؟ أم إنه اتباع سنن اليهود والنصارى؟ حيث وضعوا نُظُماً وضعية تنظم معايشهم وأمور دولهم، وسنوا قواعد لتيسير حياتهم بعدما عانوا من ظلم الملوك ورجال الكنيسة باسم الدين، فثاروا على ذلك، واضطروا إلى وضع قوانين بشرية وضعية للتخلص من سلطان الملوك والبابوات وسدنة الكنيسة، فاتبعهم كل ناعق من جهلة أبناء المسلمين.
ورغم علم هؤلاء الأتباع برفض المجتمع لما هم عليه وحتى لا يفتضح ما ذهبوا إليه من تقليدهم الأعمى للعَمَه الغربي فإنهم يتقنعون بمقاصد موهومة نسبوها إلى الشرع المطهر، وإن لم تقصدها الشريعة؛ بل قصدت خلافها حين قصدت مخالفة أصحاب الجحيم.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الله أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأمرنا أن نتبع صراطه المستقيم، ولا نتبع السبل فتفرق بنا عن سبيله، وجعل هذه الوصية خاتمة وصاياه العشر، التي هي جوامع الشرائع التي تضاهي الكلمات التي أُنزلت على موسى ـ عليه السلام ـ في التوراة، وإن كانت الكلمات التي أُنزلت علينا أكمل وأبلغ، وأمرنا أن لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات، وأخبر: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] » (2) .
فإن مجرد توهم المقاصد لا يجعلها شرعية؛ فالمقاصد الوهمية هي التي يُتخيَّل ويُتَوَّهم أن فيها مصلحة ومنفعة أو دفع مفسدة ومضرة، إلا أنها في الحقيقة خلاف ذلك فهي مردودة باطلة» (3) .
وخلاصة القول: إن المقاصد حتى تكون معتبرة من الشارع وغير ملغاة منه، لا بد أن تستند إلى دليل من كتاب أو سنة أو قاعدة كلية منبثقة عنهما، فلا تعارِض نصاً شرعياً ولا قاعدة ثابتة شرعاً في إطار من الموازنة واعتبار المآل، أما مجرد الوهم أو الرأي غير المستند إلى النصوص والضوابط الشرعية فهيهات أن يعتبر مرجعاً ودليلاً لاستخلاص الأحكام!
قال ـ تعالى ـ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 114 - 116] .
__________
(1) الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تحقيق وتعليق سليمان الأشقر (1/430) .
(2) الشاطبي، الموافقات (2/37 ـ 39) ، وانظر (3/3 ـ 11) .
(1) ابن عبد السلام، قواعد الأحكام (1/10) .
(2) الشاطبي، الموافقات (2/455 ـ 456) .
(3) الشاطبي، الموافقات (1/299) .
(4) الشاطبي، الموافقات (1/310) .
(5) الشاطبي، الاعتصام (1/184 ـ 185) .
(6) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل (5/374) .
(7) الخادمي، الاجتهاد المقاصدي (1/103) .
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (13/230) .
(2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (25/126 ـ 127) .
(3) انظر: الغزالي، شفاء الغليل ص (219) ، وانظر مقاصد الشريعة عند ابن تيمية ص (131) .(233/2)
أهل الذمة والولايات السياسية
(1 ـ 2)
محمد بن شاكر الشريف
\ مقدمة:
منذ عقود مضت، بل منذ القرون الأخيرة ـ التي ظهر فيها ضعف المسلمين؛ حيث ركنوا إلى الحياة الدنيا وابتعدوا عما أراده الله منهم ـ أُهمِلت بعض الأحكام الشرعية وهُجِر العمل بها، ومن تلك الأحكام المهجورة الأحكام المتعلقة بأهل الذمة. لكن على رغم ذلكم الضعف وذلكم الإهمال لم يكن هذا إلا في الجانب العملي التطبيقي. أما الجانب الفقهي النظري فقد ظلت تلك الأحكام محفوظة مدونة في كتب أهل العلم، تدرّس بعض موضوعاتها للطلاب ومن طلبها وجدها.
أما اليوم، وفي ظل حالة الضعف الشديدة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، وفي ظل ظهور الكفر وأهله وعلوهم في الأرض بالباطل، فإنه يراد لهذه الأحكام أن تُهجَر فكرياً ونظرياً كما هُجرِت عملياً وتطبيقياً، فبدأت حملة تغيير المناهج في بلاد المسلمين وحذف الموضوعات التي تتعلق بتلك الأمور، وإفساد دلالة الأدلة عليها بالتحريف لها، ووجدنا من يسارع ممن ينتسبون إلى الإسلام ـ إما أفراداً وإما جماعات ـ من يوافق على هذا، بل يؤلف ويكتب فيه الكتب والمقالات داعياً وناشراً لذلك بين الناس، فوجدنا من يقول عن أهل الذمة: مواطنون لا ذميون، ويجعل ذلك عنواناً لرفض الأحكام الشرعية المتعلقة بأهل الذمة بعبارة مقبولة عند العامة، ويسوِّغ ذلك بأن تلك الأحكام كانت وقتية وواقعية مرتبطة بواقع الصراع بين المسلمين وأهل الكتاب عند بداية الدعوة ـ وهذا من تحريف الكلم ـ ووجدنا من يتبعه ممن يقول: إن المواطنة التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة.
وبدأت سلسلة التنازلات شيئاً فشيئاً؛ فبعد أن أعلنت بعض الجماعات الإسلامية ـ على لسان أحد المسؤولين فيها ـ أن لأهل الذمة أن يتولوا المناصب كلها في الدولة الإسلامية من وزراء ومستشارين، باستثناء رئاسة الدولة، ثم عادت تلك الجماعة بعد أكثر من عقد من الزمان على لسان أحد المسؤولين فيها أيضاً لتقول: لا مانع من أن يكون على رأس الدولة الإسلامية التي تنشدها شخص قبطي. وهكذا تتوالى التنازلات، ابتغاء تحقيق حلم هو في عداد الأوهام. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ؛ فمن رام رضى اليهود والنصارى عليه وهو يخالفهم ولا يتبعهم فهو واهم، كما قال الطبري: «والعداوة على الدين، العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما» (1) . لكنهم إذا رضوا عنه فهذا يعني موافقته لهم، أو أنه يحقق أهدافهم وطموحاتهم، وهو بذلك يكون قد أضر بدينه وأغضب الله عليه.
\ ما المراد بأهل الذمة؟
أهل الذمة هم الكفار الذين أبوا الدخول في دين الإسلام، لكنهم رغبوا في البقاء في دار الإسلام والتمتع بحماية المسلمين لهم في دينهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، سواء كانوا من أهل تلك البلاد المفتوحة، أو قدموا من ديار الكفر راغبين في ذلك بناء على عقد يعقد بينهم وبين دولة المسلمين يعرف بـ (عقد الذمة) (1) ؛ حيث يرتب هذا العقد حقوقاً وواجبات على الطرفين ينبغي الوفاء بها من كليهما.
ويدخل في هؤلاء الذين يجوز أن يُعقَد لهم عقد الذمة: أهل الكتاب اليهود والنصارى، ويلحق بهم في ذلك المجوس عبدة النيران، قد ثبتت النصوص بذلك وانعقد عليه الإجماع، أما من عداهم من عبدة الأوثان فقد اختلف أهل العلم بشأنهم: هل يجوز أن تعقد لهم الذمة أم ليس أمامهم إلا الإسلام أو الحرب؟، وقد رجح طائفة من أهل العلم دخول عبدة الأوثان فيمن يجوز أن تُعقَد لهم الذمة (2) ، وهو الذي يعضده الدليل على ما تبين في حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً وفيه: « ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم ... » إلى أن يقول: « ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية؛ فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم» (3) فعلق الحكم بلفظ المشركين وعمم، ولم يستثنِ من ذلك مشركاً من المشركين.
والذمة: الأمان والعهد؛ فعقد الذمة: عقد الأمان الذي تمنحه الدولة لأهل ذمتها، وتتعهد بمقتضاه بحمايتهم وتأمينهم، وبه أحكام تفصيلية كثيرة، لكن أظهر ما فيه وأجمعه هو: قبول الكفار بجريان أحكام المسلمين عليهم في الشأن العام، مع التزام دفع الجزية، التي هي مبلغ مالي مُقدر من قِبَل الدولة، يعبر عن قبولهم بعقد الذمة والتزامهم به وخضوعهم لأحكامه، وفي مقابل ذلك يأمن الذميون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، لا يُقرب شيء من ذلك إلا بالحق الذي بينه الله ـ تعالى ـ. قال الله ـ تعالى ـ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
\ معاملة المسلمين لأهل الذمة:
ولقد عُومل أهل الكتاب على مدار التاريخ الإسلامي معاملة عادلة من المسلمين، لا وكس فيها ولا شطط، شهد بذلك مؤرخوهم ومفكروهم؛ فهذا عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو على فراش الموت، يقول قولته المشهورة وهو يوصي من يتولى أمور المسلمين بعده: «وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله #: أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم» (4) ؛ فهم ذمة الله ـ تعالى ـ وذمة رسوله #، يجب الوفاء بما عوهدوا عليه، وأن لا يُنتقص منه شيء، وأن يُدافع عنهم ضد أي اعتداء، وأن لا يُكَلَّفوا من الأعمال فوق طاقتهم. وقد ذكر أبو يوسف في (كتاب الخراج) أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رأى رجلاً كبيراً يسأل الناس؛ فلما علم أنه من أهل الذمة، وأنه يسأل من أجل الفقر الذي به؛ ولكي يدفع الجزية المطلوبة منه، وضع عنه عمر الجزية، وأعطاه شيئًا من عنده، وقال: «ما أنصفناه أن أخذنا منه وقت شبابه وقوته على الكسب، ثم نتخلى عنه عند ضعفه وعدم قدرته على التكسب» (5) .
وانظر موقف ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ عندما ذهب إلى ملك التتر يفاوضه على الإفراج عن الأسرى فأعطاه ملك التتر الأسرى من المسلمين، فأبى الشيخ إلا أن يفرج عن أهل الذمة أيضاً؛ لأنهم ذمة المسلمين، واستنقاذهم من بين يدي الأعداء واجب المسلمين.
قال ابن الأزرق فيما نقله عن القرافي: «وقد حكى ابن حزم في (مراتب الإجماع) له، أن من كان في الذمة، وقصده العدو في بلادنا، وجب الخروج لقتالهم، حتى نموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله ـ تعالى ـ وذمة رسول الله #؛ لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة» (6) ، وعقد الذمة عقد مؤبد ويكتسب قوته من أمر الله ـ تعالى ـ للمسلمين بالوفاء بالعقود. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
ولا تعني المعاملة العادلة أن يُعطَى أهل الذمة ما لم تعطه لهم النصوص الشرعية؛ فإن ذلك وإن كان فيه تفضل عليهم بما ليس لهم، لكنه من الناحية الثانية فيه ظلم للمسلمين بإعطاء بعضٍ من حقوقهم لغيرهم، ومن ذلك الولايات السياسية، وهو موضوع الفقرة التالية.
\ الولايات السياسية:
الصورة الأولى: من يكون عامَّ الولاية عامَّ العمل؛ كالخليفة والملك والسلطان والرئيس. فولايته عامة تشمل الرقعة الإسلامية كلها، ونظره وعمله في الأمور جميعها.
والصورة الثانية: من يكون خاصَّ الولاية عامَّ العمل؛ كولاة الأقَالِيمِ وَأمراء الْبُلْدَانِ. فولايته محدودة بحدود إقليمه، ونظره عام في كل أمره.
وَالْصورة الثالثةُ: من يكون عامَّ الولاية خاص العمل؛ كالقائد الأعلى للجيش، وكرئيس مجلس القضاء الأعلى، وَحَامِي الثُّغُورِ، وَمُسْتَوْفِي الخرَاجِ، وَجَابِي الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تعم ولايته الرقعة الإسلامية كلها، ولكنها خاصة في عمل معين.
وَالصورة الرَّابِعة: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الأعْمَالِ الْخَاصَّةِ؛ وَهُمْ كَقَاضِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ، أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ أَوْ نَقِيبِ جُنْدٍ؛ لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاصُّ النَّظَرِ مَخْصُوصُ الْعَمَلِ، وكل هذه الأمور فيها عزٌّ وعلو اليد واستطالة، واطلاع على أسرار المسلمين ودواخل أمورهم؛ فلذا لا يجوز أن يتولاها غير المسلمين الأمناء على دينهم وديارهم (1) .
وذلك أن الدولة الإسلامية دولة ذات عقيدة ولها رسالة، ورسالتها ليست قاصرة على توفير الرفاهية ورغد العيش في الحياة الدنيا لأفرادها، وإنما هي مكلفة بالعمل وفق هذه العقيدة، وتبليغ تلك الرسالة إلى كل من يمكن أن تصل إليهم؛ رحمة بهم وشفقة عليهم ورغبة في إخراج من شاء الله منهم من الظلمات إلى النور، وهذا يتطلب جهداً كبيراً وبذلاً عظيماً مع ما تحتاج إليه الدولة من الجهاد في سبيل الله لبلوغ هذه الغاية، وهذا يعني أنه لا يقوم بهذه المهمة ولا يقدر على ذلك إلا من هو مؤمن بهذه الرسالة معتقد لها، مستعد للبذل والعطاء في سبيلها، يرى في نشرها وتبليغها الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، لذا كان من الأمور المنطقية ألا يقوم على هذه الدولة إلا المؤمنون برسالتها، ومن هنا يتبين أن ولي الأمر لا يجوز أن يكون ممن لا يؤمنون بهذه الرسالة.
وتكليف أهل الذمة بتولي الأمر، يعني أحد أمرين: إما تكليفهم بالعمل والسعي في نصرة ما يناقض أو يخالف دينهم أو عقيدتهم؛ وهذا يعد إكراهاً لهم، وإما التفريط في رسالة الدولة وإضاعتها، وكِلا الأمرين غير مقبول. يقول محمد أسد ـ رحمه الله ـ: «إننا يجب ألا نتعامى عن الحقائق، فنحن لا نتوقع من شخص غير مسلم مهما كان نزيهاً مخلصاً وفياً محباً لبلاده متفانياً في خدمة مواطنيه، أن يعمل من صميم فؤاده لتحقيق الأهداف (الأيديولوجية) للإسلام، وذلك بسبب عوامل نفسية محضة لا نستطيع أن نتجاهلها. إنني أذهب إلى حد القول: إنه ليس من الإنصاف أن نطلب منه ذلك، ليس هناك في الوجود نظام (أيديولوجي) ، سواء قام على أساس الدين أو غير ذلك من الأسس الفكرية من أي نوعٍ، يمكن أن يرضى بأن يضع مقاليد أموره في يد شخص لا يعتنق الفكرة التي يقوم عليها هذا النظام» (2) .
وقد ورد النهي عن تمكين الكفار (أهل الذمة وغيرهم) من ولاية أمر المسلمين على أي صورة كان ذلك، وفي ذلك أدلة كثيرة، منها:
1 ـ النهي عن توليهم واتخاذهم أولياء:
قد تعددت النصوص الشرعية الواردة في ذلك في مواضع عدة من القرآن وفي مواقف مختلفة، وتنوعت أساليبها؛ فمرة تنهى عن اتخاذهم أولياء، وأخرى تبين أن الكفار بعضهم أولياء بعض، وثالثة تحصر موالاة المؤمنين في المؤمنين فلا تتعداها لغيرهم، وقد تنوعت النصوص الزاجرة عن مخالفة ذلك في بيان العقوبات المترتبة على المخالفة.
والموالاة المنهي عنها ليست عملاً قلبياً فقط، بل منها القلبي ومنها العملي، وكلاهما منهي عنه ومحرم على المؤمنين، وبعضه أشد جرماً ومعصية من بعض.
فمن الموالاة العملية: التحالف والنصرة، والركون إليهم، والمعونة، والمظاهرة.
ومن الموالاة القلبية: المحبة لهم، وركون القلب إليهم، والأنس بهم، والمودة لهم. حتى وإن كان الوادُّ المحب لا يوافقهم على دينهم، كما قال ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] . وإذا كان المؤمنون منهيين عن مودة الكافرين والركون إليهم، فهل يقوم بعد هذا في تصور إنسان يعقل ويدري ما يقول ويخرج من رأسه أنه يجوز أن تقر الشريعة ولاية أهل الذمة للمسلمين؟
فالنصوص التي تنهى عن اتخاذهم حلفاء أو الانتصار بهم، تنهى من باب أوْلى عن توليتهم للإمارة أو دخولهم فيمن يسندها لمن يستحقها من المسلمين، فإن هذا من أعظم الموالاة.
وقد وردت في ذلك آيات متعددة، وأهل العلم في تفسيرهم لآية من هذه الآيات يوردون الآيات الأخر، وذلك دليل على أنها كلها تدل على المعنى نفسه:
فمن النصوص الواردة في المسألة قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
[المائدة: 51]
قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيرها: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله ـ تعالى ذِكْرُه ـ نهَى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً ووليّاً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان» (3) .
وفي تفسيرها أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عِيَاضٍ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى فِي أَدِيمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَرَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَعَجِبَ عُمَرُ، وَقَالَ: «إِنَّ هَذَا لَحَفِيظٌ؛ هَلْ أَنْتَ قَارِئٌ لَنَا كِتَاباً فِيَ الْمَسْجِدِ جَاءَ مِنَ الشَّامِ؟» فَقَالَ: إِنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ، قَالَ عُمَرُ: «أَجُنُبٌ هُوَ؟» قَالَ: لا، بَلْ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ فَخِذِي، قَالَ: «أَخْرِجُوهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (1) ، وروى ابن أبي حاتم أيضاً بسنده قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ: «لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً وَهُوَ لا يَشْعُرُ» ، قَالَ: فَظَنَنَّاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (2) .
وقال الجصاص الحنفي في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] : «فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الصَّغَارِ الَّذِي أَلْبَسَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِكُفْرِهِمْ؛ وَنَحْوُهُ قَوْله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] الآيَةَ، وَقَالَ: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] فَنَهَى فِي هَذِهِ الآيَاتِ عَنْ مُوَالاةِ الْكُفَّارِ وَإكْرَامِهِمْ، وَأَمَرَ بِإِهَانَتِهِمْ وَإذْلَالِهِمْ، وَنَهَى عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِزِّ، وَعُلُوِّ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى يَنْهَاهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي كِتَابَتِهِ، وتَلاَ قَوْله ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] (3) .
قال ابن العربي المالكي: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيّاً فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» (4) .
وقال ابن كثير الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: «ينهى ـ تعالى ـ عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] (5) ، ثم أورد أَثَرَيْ ابن أبي حاتم السابقين.
وقال الرازي: «رُوي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إن لي كاتباً نصرانياً، فقال: ما لك؟ قاتلك الله! ألا اتخذتَ حنيفاً! أما سمعت قول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] ؟ قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أُعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني، والسلام. يعني هب أنه قد مات؛ فما تصنع بعده؟ فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره» (6) .
وقال النسفي: «أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم، وتؤاخونهم، وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين» (7) .
وقد ورد بمعنى الآية المتقدمة قوله ـ تعالى ـ: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] ، قال ابن كثير في تفسيرها: «نهى الله ـ تبارك وتعالى ـ عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: من يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} [النساء: 144] ، وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} إلى أن قال: {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] وقال ـ تعالى ـ بعد ذِكْر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب ـ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] (8) .
قال أبو حيان في تفسير قوله ـ تعالى ـ: « {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 144] قال: «قيل: وفي الآية دليل على أنّ الكافر لا يستحق على المسلم ولاية بوجه: ولداً كان أو غيره، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية، كقوله ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] (9) .
وقد بيَّن القرآن سبب مسارعة بعض من يظهر الانتساب للإسلام في التحالف مع الكفار، وأن ذلك نتيجة ضعف إيمانهم أو ذهابه بالكلية؛ لكي يكون لهم الكفار نصراء وحلفاء عند الحاجة. يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير الآية، وكأنه يصف حال كثيرين من أهل زماننا ممن يوالون اليهود والنصارى ويسارعون فيهم: «وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [المائدة: 52] أي: شك، وريب، ونفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] أي: يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52] أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمرٌ من ظفرِ الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أيادٍ عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك» (10) . وهذه في الحقيقة حجة كثيرين ممن يزعمون أن لأهل الذمة الحق في المشاركة في الحياة السياسية في بلاد المسلمين؛ يصطنعون بذلك يداً عند أمم الكفر الغالبة موافقة ومداهنة لهم.
ومن تتبع الشروط الواردة في ولاية أمر المسلمين في جميع كتب أهل العلم من جميع المذاهب، علم يقيناً أنه لا يجوز بحال أن يتولى كافر ولاية الأمر، سواء كان كافراً أصلياً أو كافراً لردته عن الإسلام، وسواء كان غازياً محتلاً لبلاد المسلمين، أو كان من أهل الذمة المقيمين في بلاد المسلمين؛ فما نسمعه اليوم من المنتسبين إلى بعض الجماعات الإسلامية الخائضين في الانتخابات البرلمانية، من أنه يجوز للنصراني في بلد المسلمين أن يكون ولياً للأمر هو باطل بيقين ومخالف لإجماع المسلمين. قال القاضي عياض: «أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الإمَامَة لَا تَنْعَقِد لِكَافِرٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْر اِنْعَزَلَ، قَالَ: وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَة الصَّلَوَات وَالدُّعَاء إِلَيْهَا» (1) ونقل هذا الإجماع أيضاً ابن حجر فقال: يَنْعَزِل بِالْكُفْرِ إِجْمَاعاً (2) .
وقال ابن الأزرق: « (بعدما ذكر كلام ابن العربي المتقدم) قلت: وقد ورد العمل بذلك عن السلف، قولاً وفعلاً، ويكفي من ذلك روايتان: الرواية الأولى: (وذكر رواية عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ مع أبي موسى الأشعري ـ رضي الله تعالى عنه ـ التي سبقت) ، الرواية الثانية: قال: «وكتب عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ إلى بعض عماله: أما بعد: فإنه بلغني أن في عملك رجلاً يقال له: فلان وسماه ـ على غير دين الإسلام، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] ، فإذا أتاك كتابي هذا، فادعُ فلاناً إلى الإسلام، فإن من أعمال المسلمين، فقرأ عليه الكتاب، فأسلم» (3) ، وما تقدم من الأدلة والأقوال دليل على أنه لا يجوز أن تكون لأهل الذمة ولاية على المسلمين، سواء كان في ولاية عامة أو خاصة، وقد سئل أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ: « (في رواية أبي طالب) نستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ فقال: لا يستعان بهم في شيء» (4) .
2 ـ النهي عن اتخاذهم بطانة:
قال الله ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] ، بوَّب البخاري في صحيحه باب: بِطَانَة الْإِمَام وَأَهْل مَشُورَته، الْبِطَانَة: الدُّخَلاء، قَال ابن حجر في الشرح: قوله: (بَاب بِطَانَة الإمَام وَأَهْل مَشُورَته) بِضَمِّ المُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفَتْح الرَّاء: مَنْ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، قَوْله (الْبِطَانَة: الدُّخَلاء) هُوَ قَوْل أَبِي عُبَيْدَة قَالَ فِي قَوْله ـ تعالى ـ: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} الْبِطَانَة: الدخلاء، وَالخَبَال: الشَّرّ. اِنْتَهَى. وَالدُّخَلاء بِضَمٍّ ثُمَّ فَتْح جَمْع دَخِيل: وَهُوَ الَّذِي يَدْخُل عَلَى الرَّئِيس فِي مَكَان خَلْوَته وَيُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ، وَيُصَدِّقهُ فِيمَا يُخْبِرهُ بِهِ مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْر رَعِيَّته وَيَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ» (5) .
قال ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ: «فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاَّء وأصفياء، ثم عرّفهم بما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم» (6) ، وقد بين ابن جرير أن هؤلاء «هم الذين وصفهم ـ تعالى ذِكْره ـ بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله # وأصحابه من أهل الكتاب» (7) .
وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] الآية، فيه ست مسائل:
الأولى: أكد الله ـ تعالى ـ الزجر عن الركون إلى الكفار، وهو متصل بما سبق من قوله: {إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 100] والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به.
قال الشاعر:
أولئك خلصائي نعم وبطانتي
وهم عيبتي من دون كل قريب
الثانية: نهى الله ـ عز وجل ـ المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم، ثم بين ـ تعالى ـ المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] يقول: فساداً، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم، وإن لم يقاتلوكم في الظاهر، فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة. وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: لا تستعملوا أهل الكتاب؛ فإنهم يستحِلّون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ: إن ههنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحدَ أكْتَبُ منه ولا أخطُّ بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.
فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والإنابة إليهم. قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء.
وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله #: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً» (1) ، فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد ـ عليه السلام ـ: لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً، قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] (2) .
وقال ابن الجوزي: «قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب. وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلهم الله» (3) .
وذكر ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إن هاهنا غُلاماً من أهل الحِيرة، حافظاً كاتباً، فلو اتخذته كاتباً؟ فقال: قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين. ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال ـ تعالى ـ: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] (4) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولما كانت التولية شقيقة الولاية كانت توليتهم (5) نوعاً من تولِّيهم (6) . وقد حكم ـ تعالى ـ بأن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً، والولاية وصلة، فلا تجامع معاداة الكافر أبداً» (7) .
فهذه الآية تمنع من اطلاع الكفار على أسرار المسلمين، وقد بينت الآيات العلة في ذلك وهو كُره الكفار للمسلمين ورغبتهم في حصول ما يُعنتهم ويشق عليهم، وليس هناك من اطلاع على أسرار المسلمين أكثر من أن يصير الرجل متولياً لبعض أمورهم.
3 ـ النهي عن الركون إليهم:
قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود: 113] ، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا، وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود: 113] أي: ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم، ولا ناصر يخلصكم من عذابه» (8) فهو نهي عن الاستعانة بالظلمة، ويدخل فيهم دخولاً أولياً أهل الذمة فهم كفار، وقد قال الله ـ تعالى ـ: [ {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَرْكَنُوا} الركون حقيقة: الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء، والرضا به. قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وكله متقارب، وقال ابن زيد: الركون هنا: الادّهان؛ وذلك ألاّ ينكر عليهم كفرهم ...
الثالثة: قوله ـ تعالى ـ: {إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قيل: أهل الشرك، وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ... } [الأنعام: 68] الآية، وقد تقدم.
وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم:
عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
الرابعة: قوله ـ تعالى ـ: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي: تحرقكم، بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم، وموافقتهم في أمورهم» (9) .
وكل ما أوردناه فيما سبق من الأدلة والنقول دال على عدم جواز تولية الكفار أهل الذمة وغيرهم الولاية على المسلمين. وإن كان هذا لا يمنع من استخدام من كان منهم حسنَ الرأي في المسلمين، وذلك في غير ولاية الأمر أو ما فيه علو واستطالة على المسلمين، أو ما كان فيه اطلاع على أسرارهم.
__________
(1) تفسير الطبري 7/145.
(1) انظر الموسوعة الفقهية 7/121 ـ 122. (4) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد رقم 3052.
(2) انظر أحكام أهل الذمة، لابن القيم 1/87 ـ 90. (5) انظر الخراج، لأبي يوسف ص 126.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير رقم 3261. (6) السلوك لمعرفة دول الملوك، لابن الأزرق.
(1) ولا يراد من ذلك بقية الأعمال من تجارة وزراعة وصناعة أو تعليم أو طب ونحو ذلك، وقد حفظت لنا كتب التاريخ أسماء كثير من أطباء أهل الذمة الذين كانوا يعملون عند الولاة والأمراء والخلفاء على مدار التاريخ كله.
(2) منهاج الإسلام في الحكم، ص83 ـ 84. (3) تفسير ابن جرير 10/398.
(1) تفسير ابن أبي حاتم، سورة المائدة آية رقم 51 أثر رقم 6545. (6) مفاتيح الغيب، تفسير الفخر الرازي، سورة المائدة آية رقم 51.
(2) تفسير ابن أبي حاتم، سورة المائدة آية رقم 51 أثر رقم 6546. (7) مدارك التنزيل، للنسفي سورة المائدة آية رقم 51
(3) أحكام القرآن، للجصاص تفسير سورة التوبة آية رقم 29. (8) تفسير ابن كثير 2/30.
(4) أحكام القرآن، لابن العربي سورة المائدة آية 51. (9) البحر المحيط، لأبي حيان، سورة النساء آية رقم 144.
(5) تفسير ابن كثير، المائدة آية 51، 3/132. (10) تفسير ابن كثير سورة المائدة آية رقم 52.
(1) شرح النووي على صحيح مسلم
(2) فتح الباري 13/132.
(3) بدائع السلك في طبائع الملك، والرواية الثانية ذكرها ابن القيم في أحكام أهل الذمة 1/459 وذكر أن الذمي كان اسمه حسان بن زيد، وكان من فضل اتِّباع الشريعة في ذلك أن أسلم هذا النصراني وصار من عباد الله الموحدين.
(4) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء ص 32. (6) تفسير ابن جرير 7/138.
(5) فتح الباري 13/201 ـ 202. (7) تفسير ابن جرير 7/146.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/127. (6) والمراد بها اتخاذهم أولياء.
(2) تفسير القرطبي تفسير سورة آل عمران رقم 118. (7) أحكام أهل الذمة 1/499.
(3) زاد المسير في علم التفسير سورة آل عمران آية رقم 118. (8) تفسير ابن كثير 4/354.
(4) تفسير ابن كثير 2/107. (9) تفسير القرطبي 9/108.
(5) المراد بالتولية هنا توليتهم الولايات.(233/3)
الولاء والبراء بين الغلو والجفاء
إبراهيم الأزرق
- مكانة البراءة من الكافرين عند المؤمنين:
إن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، كما جاءت بذلك الآثار (1) ؛ فإذا انْتقَضت تلك العروة فلا تسل عن محل الإيمان من أهل الزمان. قال العلاَّمة ابن مفلح: «وقال أيضاً ـ يعني ابن عقيل ـ (2) : إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك! وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري ـ عليهما لعائن الله ـ ينظمون وينثرون، هذا يقول: حديث خرافة (3) .
والمعري يقول:
تلوْ باطلاً وجلوْا صارماً وقالوا صدقنا فقلنا نعم (4)
يعني بـ (الباطل) كتاب الله عز وجل. وعاشوا سنين وعظمت قبورهم واشتُريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب» . وهذا المعنى قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى» (5) ، وقال ابن عقيل عن ابن الراوندي أيضاً: «وعجبي! كيف عاش؛ وقد صنف (الدامغ) يزعم أنه قد دمغ به القرآن، والزمرد يزري به على النبوات ثم لا يقتل؟ وكم قد قُتل لصٌ في غير نصابٍ ولا هتْكِ حرزٍ؟ وإنما سلم مدة وعاش؛ لأن الإيمان ما صفا في قلوب أكثر الخلق، بل في القلوب شكوك وشبهات، وإلا فلمَّا صدق إيمان بعض الصحابة قتل أباه» (1) .
إن مداهنة أعداء الشريعة برودة في القلب وأي برودة! إنها برودة الذين غابت عن قلوبهم شمس الوحي، وسلبت ـ أو كادت تسلب ـ روح الإيمان، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع انتفاء الشرط انتفاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب» (2) ، وهذه الآية تتناول الإيمان الواجب الذي يأثم مخالفه، كما تتناول أصل الإيمان الذي يكفر تاركه، وإنزال ذلك بحسب نوع الموالاة ودوافعها (3) . فإن تقرير امتناع اسم مسمى أمرٍ أمر الله به ورسوله كنفيه؛ وهذا لا يكون إلاّ إذا ترك بعض واجباته كما قرر ذلك شيخ الإسلام في الإيمان الكبير (4) . ومعلوم أن ترك الواجب لا تلازم بينه وبين زوال الأصل، بل قد يزول وقد لا يزول، وكثير نفي الإيمان في الشرع عمن ترك بعض الواجب، «كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا صلاة إلا بأم القرآن» (5) ، وقوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» (6) ونحو ذلك. فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب» (7) . فكان نفي الواجب في ترك القراءة بأم القرآن في الصلاة مبطلاً للصلاة عند الجماهير. أما ما بعدها من الأمثلة فدلت مثل هذه النصوص على وجوبها وتأثيم تاركها، فهكذا قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81] يتناول الإيمان الذي يبطل انتفاؤه أصل الإيمان، والإيمان الذي يوجب انتفاؤه التأثيم.
وأشد من هذه الآية في التهديد والوعيد قول الله ـ تعالى ـ قبلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض خاف أن يُغلب أهل الإسلام، فيوالي اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب واليهود والنصارى صادقون» (8) ، وفي معناها قال ابن جرير: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله ـ تعالى ذِكْره ـ نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان» (9) ، ثم قال الله ـ تعالى ـ مؤكداً هذا المعنى بعدها: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 53] ، فبين أن الذين يسارعون فيهم قد حبطت أعمالهم، والمسارعون هم الذين: «يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر» (10) ، قاله ابن كثير، ولعل الذي أشعر بهذا المعنى الاستعاضة عن الموالاة بضمير الغائبين (هم) وتعدية الفعل إليه بحرف الجر (في) دون (إلى) ، فقال: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] (يسارعون فيهم) ولم يقل: في موالاتهم، أو إليهم، قال أبو السعود: «وإنما قيل: فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها، وإيثارُ كلمة (في) على كلمة (إلى) للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله ـ تعالى ـ: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61] ، لا أنهم خارجون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] » (1) . ولهذا قال ابن كثير: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} «يبادرون إلى موالاتهم في الباطن والظاهر» ، فمعنى المسارعة يتضمن إظهار آثار الموالاة عند أدنى مناسبة وحِيال أي ملابسة، في كل فرصة، فشبّه إظهارها المتكرّر بالمسارعة؛ فهؤلاء قوم موالاتهم للكافرين موالاة عامة في الظاهر والباطن، وقد ذكر بعض أهل العلم أن الموالاة العامة هي الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم؛ فإذا صدرت من مسلم لكافر كفر، أما مجرّد الاجتماع مع الكفار، بدون إظهار تام للدين، مع كراهية كفرهم، فمعصية لا توجب الكفر. وبعض أهل العلم يخص التولي بهذه الموالاة العامة موافقة للآية: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} [الممتحنة: 9] .
ومثل هذا الصنف من الموالين للكافرين جدير بأن يحبط عمله، حري بالخسارة، ولهذا عقب بعدها بما يزيد خسارته وحبوط عمله بياناً فذكر توعد المرتدين، وقرنه بذكر أبدالهم من المؤمنين، فخص وصفهم بضد ما ارتد به أولئك، فذكر موالاتهم للمؤمنين ومعاداتهم للكافرين، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] ، ثم أكد هذا المعنى تارة أخرى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] ، فشرط للإيمان عدم اتخاذهم أولياء، وهذا بعمومه يشمل أصل الإيمان وكذلك الإيمان الواجب بحسب نوع الولاء ودوافعه، قال الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الإمام: «موالاتهم لأجل دنياهم، يجب عليها من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله. وإن كانت الموالاة لأجل دينهم؛ فهو مثلهم، ومن أحب قوماً حشر معهم» (2) .
ولعل من نظر في آيات المائدة الآنفة وجد خمس تأكيدات جاءت في سياق واحد تدل على أن موالاة الكافرين خطر عظيم وشر مستطير، قد يؤول بصاحبه إلى الخسران المبين، وذلك إن كانت موالاة عامة، أو موالاة لأجل الدين.
ولعل ما سبق يبين بعض مكانة البراءة من الكافرين في نفوس المؤمنين الصادقين، وخطر الإخلال بها على الدين.
- ما تجب البراءة منه؟
البراءة من الكافرين تتضمن أموراً. قال الله ـ تعالى ـ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فقد أمرنا الله أن نتأسى بإبراهيم والذين معه؛ إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون الله، وقال الخليل: {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27] ، والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض، وأصل الولاية الحب. وهذا لأن حقيقة التوحيد أن لا يحب إلا الله ويحب ما يحبه الله لله، فلا يحب إلاّ لله، ولا يبغض إلاّ لله» (3) .
والتأسي بإبراهيم والذين معه صرح فيه بذكر ثلاثة أمور:
الأول: التبرؤ من الكافرين ومما يعبدونه.
والثاني: الكفر بهم.
والثالث: إظهار العداوة وإعلانها أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده (1) .
- حكم التلطف واللين مع الكافرين:
لعل إشكالاً قد يقع في هذا؛ فبينما يغلو أناس فيحسبون بعض الأفعال المنطوية على لين وتلطُّف لا غضاضة فيها من الموالاة الموبقة؛ يتساهل آخرون فلا يرون بأساً في أضرُب من اللين والتلطف اللذين هما من قبيل الموالاة المحرمة.
ولعل الذي يظهر هو أن الفعل المشتمل على تلطف مع الكافرين ولين لهم إما أن يكون لمقتض صحيح كدعوتهم، أو لكون المخاطَب قريباً كأب وأم وأخ أو نحو ذلك، أو لا يكون، فإن كان المقتضي صحيحاً والغرض شرعياً جاءت به النصوص؛ فلا إشكال فيه، بل قد يُندَب، بل قد يجب كما قال الله ـ تعالى ـ لموسى وهارون في شأن فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، وقال ـ تعالى ـ في الوالديْن المشركيْن: {وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] ، {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8] ، وذلك بشرط عدم المحاربة لقوله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9] ، قال البخاري في صحيحه: باب الهدية للمشركين وقول الله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] . ثم أورد فيه حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة؛ أفأصل أمي؟ قال: «نعم! صِلي أمك» (2) ، وأورد فيه كذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: رأى عمر حلة على رجل تباع، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ابتعْ هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفد.
فقال: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة» .
فأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها بحلل، فأرسل إلى عمر منها بحلة، فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلتَ ما قلتَ فيها؟
قال: «إني لم أكسُكَها لتلبسها؛ تبيعها أو تكسوها» .
فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يُسْلم (3) .
وأما إن لم يكن للتلطف واللين مقتضٍ صحيح يدفع إليه؛ فلعل الأصل فيه هو المنع؛ لأنه مظنة إخفاء العداوة المطلوب إظهارها، ولأن موالاة القوم ممنوعة، بيد أن هذا لا يمنع من البر والقسط.
- اجتماع إبداء العداوة مع البر والقسط:
إن إبداء العداوة لا يمنع من الصدق في معاملة الكافرين، وكذلك العدل معهم، والإحسان إليهم، طالما كانوا غير حربيين، لقول الله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
والحق أن هذه الآية محكمة والأمر كما قال شيخ المفسرين: «لا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح» (4) ، قال القرطبي: «وعلى هذا أكثر أهل التأويل» (1) ، وهذا لا يعارض ما تقدم من الأمر بإظهار العداوة لهم، وترك البِشْر والتلطف واللين، وإظهار التوقير لغير مقتضٍ صحيح؛ فليس من برهم في الآية ذلك، وليس من برهم كذلك الخنوع والتذلل لهم، أو الانبساط معهم، أو التودد إليهم، ونحو ذلك، ويظهر ذلك بتحرير معنى البر وأصله الذي يدور عليه في لغة العرب، أما إطلاقه فهو مجمل قد يحمله بعضهم على استخدامات لغوية صحيحة لكنها غير مرادة لبيان الأدلة الأخرى؛ فإنَّ لينَ الجانب وخفض الجناح وإطلاق الوجه والتودد لهم و «كل ما عده العرف تعظيماً، وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه» (2) ، ما لم يقتضِهِ مقتضٍ شرعي دال على جوازه في ذلك المقام لمعنى ظاهر.
ولعل المراد بالبر في الآية ونحوها أصلُ وضعه اللغوي الذي يدور على الصدق (3) ، أو مطلق الإحسان؛ فالآية جاءت بصدقهم في المعاملة، والإحسان إليهم، والرفق بهم، والعدل معهم، ولا يخفى أن هذا يكون مع كلٍ بحسبه.
وقد دلت نصوص أخرى على جواز التصدُّق عليهم وصلتهم بالمال (4) ، فضلاً عن النفقة على من وجبت النفقة عليه منهم (5) . وقد حمل بعض أهل العلم قول الله ـ تعالى ـ: {وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} في هذه الآية على ذلك المعنى لا مطلق العدل؛ إذ العدل مفروض مع الكل، فقالوا: تقسطوا إليهم: تعطوهم قسطاً من أموالكم (6) . ولعل حمله على العدل أجود؛ فهو أشمل معنى يدخل فيه ما ذكروا من أوجه البذل والإنفاق، كما أن للتذكير بالعدل ههنا مغزى؛ فكأنه ينبه على أهمية التزامه عند الإفضاء إليهم والتعامل معهم فلا يدفع الأمر بالبر إلى تجاوز حد الإنصاف، ولا طبيعة العداوة الدافعة إلى شيء من البغي إلى تخطي العدل «فلا تغلوا في مقاربتهم ولا تسرفوا في مباعدتهم» (7) . ولما كان التنبيه إلى تحري العدل حال التعامل معهم مراداً لما تعتري تلك الحال من عوارض قد تصرف عنه نظراً لواقع العداوة، عدَّى القسط بإلى والأصل أن يعدَّى باللام، أو يقال: القسط مع الناس لا إليهم، ولعل النكتة تأكيد تحري العدل حال التعامل بتضمين الفعل معنى الإفضاء إليهم (8) .
وإذا علم أن البر يختلف من إنسان إلى آخر بحسبه، فالبر المفروض للوالد غير المأمور به مع عامة الناس، والإحسان المتوجب تجاهه غير الإحسان المندوب إليه مع سائر الناس. ومن تأمل حال إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه لحظ ذلك؛ فلم يكن إظهاره العداوة مانعاً له من بر أبيه، فما فتئ يدعوه بذلك النداء الحاني: (يا أبتِ!) ويظهر شفقته وخوفه عليه، وما استثنى القرآن من الأمر بالاتِّساء به في ذلك شيئاً إلاّ قوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] .
ومما مضى يظهر وجه الجمع بين الأمر بإبداء عداوة القوم مع الأمر بالبر والقسط؛ فبر الكفار والعدل معهم والإحسان إليهم معنى واسع يختلف مع كل كافر بحسبه، وقد يشمل ذلك ترك إبداء عداوتهم، وقد لا يشمل ذلك؛ فكم من مقسط يحسن إلى عدوه بإعطائه ما يجب له على أتم الأوجه وأكملها، فضلاً عن أن يغمطه قدره أو يبخسه حقه، بل يصدق معه ويعدل. وليس من لازم الإحسان إخفاء العداوة فضلاً عن زوالها، بل ليس من لازمه ترك القتل إذا لزم القتل شرعاً؛ ففي حديث شداد بن أوس عند مسلم: ثنتان حفظتهما عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدَّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» (1) .
وقد نبه إلى شيء من هذا الإمام ابن القيم فقال: «فإن الله ـ سبحانه ـ لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفارَ أولياء، وقطع المودة بينهم وبينهم، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة؛ فبين الله ـ سبحانه ـ أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة» (2) ، وذلك لأن المودة من الموالاة ولو كان الكافر ذا رحم قريبة، وقد تكون ذنباً ينقص به الإيمان، وقد تصل إلى حد الكفر الأكبر، بحسب دافعها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد تحصل للرجل موادَّتُهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] » (3) .
فأخطأ من ظن أن الإحسان أو العدل أو الرفق أو البر يمنع من أن تكون العداوة بادية معروفة، وأخطأ من ظن أنه يستلزم المودة المنهي عنها، ولعل تلك واحدة من نكت التعقيب بهذه الآية بعد انتهاء سياق قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] ، وما تعلق بها مما جاء بعدها، ثم قال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآية، فجاء هذا التعقيب البديع مشيراً إلى ما قدم.
وكما يخطئ بعضهم فيظن أن من لازم الإحسان المودة، يغلط آخرون فيظنون أن من لازم إبداء العداوة العبوس وتقطيب الجبين ومَطُّ الشفة عند رؤية كل كافر، أو عند سماعه، وليس ذلك كذلك حتى في حق الحربي، بل المراد أن تكون العداوة بين فئة المسلمين وفئة المشركين ظاهرة غير خفية، وهذا لا يلزم منه ما سبق طالما كانت العداوة معلنة صريحة معروفة، بل لا يلزم من إبداء العداوة ترك التبسم بل الضحك إذا صدر عن أحدهم ما يقتضيه إن كان حقاً، ولهذا ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- تصديقاً لقول الحَبْر، كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين قال: «جاء حَْبر من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد! إنَّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] » (4) ، ومن تأمل السِّيَر وجد لهذا نظائر، كما لا يلزم من البر والقسط ترك الغضب والانتقام إذا بدر من أحدهم ما يقتضيه.
هذا والله أسأل أن يجعلنا سِلْماً لأوليائه، حرباً على أعدائه، نحب بحبه من أحبه، ونعادي بعداوته من عاداه، كما أسأله أن يرزقنا ديناً وَسُوطاً، لا ذاهباً شطوطاً، ولا هابطاً هبوطاً، كما رضيه وأنزله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) روي المعنى مرفوعاً عن جماعة من الصحابة منهم ابن عباس، وابن مسعود، والبراء بن عازب، رضي الله عنهم، وقد حسنه الألباني. ينظر تخريجه في السلسلة الصحيحة 2/698 ـ 700 (998) ، 4/306 ـ 307 (1728) .
(2) ما بين المعقوفين مقحم للتوضيح.
(3) يعني القرآن ـ عليه من الله ما يستحق ـ وقد وضع كتاباً أسماه (الدامغ) يرد به على القرآن وقد ساق ابن الجوزي في تجرمته من المنتظم شيئاً من ذلك ورد عليه، قال: «وقد ذكر في كتاب (الدامغ) من الكفر أشياء تقشعر منها الجلود، غير أني آثرت أن أذكر منها طرفاً ليعرف مكان هذا الملحد من الكفر، ويستعاذ بالله ـ سبحانه ـ من الخذلان!» . (المنتظم 6/21) .
(4) وقد أورد له ابن الجوزي ومن بعده ابن كثير طائفة من الأبيات التي لايمكن أن يعتذر له فيها إلاّ بزعم التوبة بعدها، انظر البداية والنهاية ترجمته 12/74 وما بعدها.
(5) الآداب الشرعية، لابن مفلح 1/237.
(1) نقله عنه تلميذه ابن الجوزي في المنتظم 6/100.
(2) كتاب الإيمان الكبير له، بتحقيق الألباني، ص17 ـ 18، وهو في المجموع 7/17.
(3) وذلك للأدلة الدالة على أن بعض الموالاة لا ترقى لحد الكفر وليس موضوع المقال يتناولها.
(4) ص10 وما بعدها، وهو في المجموع 7/14 وما بعدها.
(5) حديث عبادة بن الصامت، وهذا لفظ مسلم 1/295 (294) ، وهو عند البخاري بلفظ: (فاتحة الكتاب) 1/263 (723) .
(6) حديث أنس عند أحمد 3/135 (12406) ، ومواضع من المسند، وهو حديث حسن خرجه ابن خزيمة في صحيحه 4/51 (2335) ، وابن حبان 1/422 (194) ، وغيرهم.
(7) السابق ص 15.
(8) الفتاوى 7/194.
(9) تفسير ابن جرير 4/615.
(10) ينظر تفسير ابن كثير للآية 2/94.
(1) ينظر إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، لأبي السعود، تفسير الآية، 3/48.
(2) الدرر السنية 8/160 القسم الأول من كتاب الجهاد، فصل في التنبيه على حاصل ما تقدم (في حكم موالاة المشركين) ، وممن بين هذا المعنى الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن تراجع الدرر السنية 1/472 واستدل له بأثر حاطب بن أبي بلتعة المشهور، ولعله تبع فيه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد ذكره في الفتاوى 7/523.
(3) الفتاوى 10/465.
(1) ينظر في هذا المعنى (أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن) لمحمد الأمين الشنقيطي، تفسير الآية 8/93، والكلام للشيخ عطية سالم ـ رحمه الله ـ ضمن تتمته المرفقة بالأضواء.
(2) ينظر الصحيح 2/924 (2477) ، وقد رواه في غير موضع، وهو متفق عليه. ينظر صحيح مسلم 2/696 (1003) .
(3) صحيح البخاري 2/924 (2476) وقد رواه قبلها في مواضع، والأثر متفق عليه. ينظر صحيح مسلم 3/1638 (2068) . والأخ هو عثمان بن حكيم من أمه خيثمة بنت هشام بن المغيرة.
(4) هو قول ابن جرير في تفسيره 12/62 عند تفسير الآية.
(1) تفسير القرطبي للآية 18/53.
(2) من كلام للألوسي يتعقب فيه فتوى من أفتى بجواز القيام لهم في المجالس، وهو في تفسيره روح المعاني 3/120 عند كلامه عن آية آل عمران: 28 {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] .
(3) ينظر في أصل المادة معجم مقاييس اللغة لابن فارس.
(4) ومعلوم أن في كل كبد رطبة أجراً، بيد أن المؤمنين إلى ذلك أحوج وهم به أوْلى، والمراد بيان حكم عام جاء موضعه هنا.
(5) ينظر بحث المسألة في زاد المعاد للإمام ابن القيم 5/483.
(6) ذهب إليه ابن العربي، قال: « (وتقسطوا إليهم) أي تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به من العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل» ينظر أحكام القرآن له 4/193 عند تفسير الآية، وتبعه القرطبي في تفسيره 18/53.
(7) نقل هذا الأخير الماوردي عن ابن حبان. ينظر النكت والعيون 5/520.
(8) أشار إلى شيء من هذا المعنى ابن عاشور في التحرير والتنوير فلينظر 28/136، ومن قبله الآلوسي 28/74.
(1) صحيح مسلم 3/1548 (1955) .
(2) أحكام أهل الذمة 1/602.
(3) ينظر مجموع الفتاوى 7/522 ـ 523، وهذا في كتاب الإيمان الكبير.
(4) صحيح البخاري 4/1812 (4533) ، وغير موضع، وصحيح مسلم 4/2147 (2786) وغير موضع.(233/4)
قواعد التيسير في الفقه الإسلامي
د. قطب الريسوني
إن الإسلام دين رحابة وسماحة، وداعية تبشير وتيسير، نسخ شرائع الأغلال بوسطية محكمة، ورفع الآصار عن الكواهل باعتدال موزون، وهما الجناح الزفاف الذي طار به كل مطار، والآية المبصرة التي فتحت أعين الناس على قيم الحق والخير والجمال، فاستوت الإنسانية بعد إكباب، وأشرقت الأرض بنور ربها بعد إدلاج (1) .
ومقصد التيسير يسري في الشريعة الإسلامية سريان الماء في العود الأخضر، ويضبط فروعها بميزان دقيق لا يجنح بالمكلف إلى طريق الحرج والعنت، ولا يميل به إلى طريق التميع والانسلاخ بعيداً عن ثوابت الدين وتعاليمه المستقرة.
ولما كانت قاعدة التيسير روحاً لكيان التشريع الإسلامي لا تنفك عنه في كل شاذة ولا فاذة، استفرغ علماؤنا الوسع الجاد في صياغة قواعده الكلية بما يسعف الفقيه على الإلمام بمواضع التيسير وشروطه ومآلاته. ويمكن التمييز في قواعد التيسير بين ثلاثة أضرب (2) :
أـ قواعد التيسير الأصلي:
إن المقصود من التيسير الأصلي هو ما تعلق بالإذن في المنافع وتحريم المضار بعد ورود الشرع، إذا لم ينهض من الشرع دليل يجلّي حكمهما. ويعبر فقهاؤنا عن هذه المسألة بقاعدتين جليلتين:
الأولى: الأصل في المنافع الإباحة: ويقصد بهذه القاعدة انتفاع المكلف بالمنفعة المسكوت عنها شرعاً على نحو لا يتضرر به المالك ولا المنتفع؛ كالاستضاءة بضوء الغير والاستظلال بجداره (3) ، أما ما ورد في شأنه دليل من الشرع فلا احتكام فيه إلى هذه القاعدة.
والأدلة على حجية القاعدة كثيرة غزيرة، ولا يسعف المقام هنا بجلبها وبيان وجه الاستدلال بها، ولعل أقواها دلالة على المقصود، وتعلقاً بالغرض، حديث أبي الدراداء مرفوعاً: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] (1) .
والحق أن دلالة الحديث صريحة في العفو عما سكت عنه، والمعفو عنه لا غضاضة في إتيانه، وهذا خاص بالمنافع دون غيرها، ولذلك عبّر ابن القيم هذه القاعدة بقوله: «كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو» (2) ، ثم شرح معنى هذه القاعدة في أكثر من موضع من كتابه (إعلام الموقعين) فقال: « ... وهو ـ سبحانه ـ لو سكت عن إباحة ذلك أو تحريمه لكان ذلك عفواً لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله، فإن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرّمه الله، وما سكت عنه فهو عفو» (3) .
ولا يخفى ما لهذه القاعدة من أثر بالغ في التيسير على الناس؛ لأن العمل بمقتضاه يرفع عن المكلّف مشقتين: مشقة مادية تتمثل في إباحة المنافع؛ ما لم يرد في شأنها دليل يقضي بالمنع، ومشقة معنوية تتجلى في انتشال المكلف من حيرته وتردّده في الإقدام على ما يبدو منفعة مباحة ولم يرد في شأنه شيء، فتطمئن نفسه إلى مجانبة المحظور، ويركن إلى الفعل مستصحباً البراءة الأصلية، وفي هذا (دفع واضح لمشقة نفسية) (4) .
الثانية: الأصل في المضار التحريم: وتُذكر هذه القاعدة مرتبطة بأختها السابقة، وتوردها كتب القواعد الفقهية بصيغة: (الضرر يزال) (5) ، وهي صيغة خبرية دالة على وجوب دفع كل الأضرار؛ كوجوب الوقاية من الأمراض، واستحقاق التعويض للغير عند إتلاف ماله، وتأديب أهل الإجرام بالعقوبات والتعزيرات.
ويشهد للقاعدة الحديث المشهور: «لا ضرر ولا ضرار» (6) ، وقد صدّر بـ (لا) ، وهي نافية للجنس على الراجح عند أكثر أهل العلم، فيكون المنفي كل ما كان من جنس الضرر، ويقدّر خبر (لا) بنحو: لا ضرر سائغ أو مباح في دين الإسلام. ومما يعضّد نفي الضرر مطلقاً ورود النكرة في سياق النفي مما يقتضي الاستيعاب واستغراق القاعدة لفروع فقهية غزيرة، «فإذا انضم النفي الذي لا اختصاص له اقتضى ذلك العموم» (7) .
وبناء على هذا التخريج تكون جملة الحديث خبرية قصد منها النهي عن الضرر والإضرار، وكل إخبار يراد به النهي يكون أبلغ في إفادة الطلب من التصريح به، يقول ابن القيم: «لقد دل الحديث على تحريم الضرر؛ لأنه إذا نفى ذاته دل على النهي عنه؛ لأن النهي طلب الكف عن الفعل، وهو يلزم منه عدم ذات الفعل؛ فاستعمل اللازم في الملزوم» (8) .
وما زال في الجعبة من بلاغة هذه القاعدة نكت كثيرة وفوائد غزار، إلا أن المقام لا يسمح بالاستقصاء والاستيفاء، وحسبنا الإشارة إلى ثراء هذه القاعدة في حمولتها الدلالية وجوهرها التشريعي.
وعوداً على بدء أقول: إن قاعدة (الأصل في المضار التحريم) تستمد مشروعيتها من حديث: «لا ضرر ولا ضرار» ، وترجع إلى دليل شرعي آخر هو المصلحة؛ لأن المصلحة كما تكون بجلب المنافع تكون بدرء المفاسد، ودفع المضرة والنهي عن الوقوع فيها هو المصلحة بعينها، واليسر بذاته، إلا أن الأضرار تتفاوت قدراً وأثراً، فيوازن بينها عند التعارض والتزاحم، ويدفع الأعلى بالأدنى.
ب ـ قواعد التيسير الطارئ:
تحفل كتب فقهائنا بقواعد جليلة وضوابط راشدة تؤصِّل لمنافذ اليسر وفسح التخفيف في دين الله، حتى إذا ولج المكلف مضيقاً من مضايق الحرج الطارئ، وجد من الرعاية التشريعية ما يراعي أعذاره، ويدفع عنه أسباب العنت وغوائل الهلاك.
وأول ما يصادفنا في كتب القواعد، مما له صلة وثقى بالتيسير ورفع الحرج الطارئ، القاعدةُ الأم: (المشقة تجلب التيسير) ؛ إذ عدّها العلماء واحدة من خمس قواعد بني عليها الفقه ودارت عليه الأحكام (1) ، ويتخرّج عليها جميع رخص الشرع وتخفيفاته، ومعناها: أن المشقة المعتبرة في التكليف تكون سبباً شرعياً في جلب التيسير بتسهيل الحكم الشرعي والتخفيف منه على نحو ما، فإذا كان الحكم الأصلي محرجاً أو معنتاً انفتح باب الرخصة إلى غاية اندفاع الإحراج والإعنات، فإذا ما اندفع ذلك عاد الحكم إلى أصله بزوال موجب الترخّص.
وعبّر الشافعي عن هذه القاعدة بقوله: «الأمر إذا ضاق اتسع» (2) ، وأجاب بها في ثلاثة مواضع:
أولاً: إذا فقدت المرأة وليها في السفر جاز لها أن تولي أمرها رجلاً أجنبياً.
ثانياً: يعفى عما يحمله الذباب في رجله من النجاسة.
ثالثاً: يجوز التوضؤ من أواني الخزف المصنوعة بالسرجين (3) إذا لم يوجد غيرها من الأواني الطاهرة (4) .
وللفقهاء عكس هذه القاعدة: (إذا اتسع الأمر ضاق) ، ومثاله: قليل العمل في الصلاة لمن كان يشق اجتنابه رخّص فيه، وكثيره مما لا تمس إليه الحاجة لم يرخص فيه. وقد جمع ابن أبي هريرة بين هاتين القاعدتين فقال: «وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت، وإذا اتسعت ضاقت» (5) ، وعبّر عنها الغزالي بقوله: «كل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده» (6) .
ومن أشهر قواعد التيسير الطارئ وأسيرها قاعدةُ: (الضرورات تبيح المحظورات) (7) ، وفروعها بحر لا تترعُه الدلاء، ومعناها: استباحة المحرّم لعسر احتمال المكلّف عسراً يجلب عليه من الضرر ما لا يقدر عليه، ومن ثم تأخذ الممنوعات حكم المباحات في الضرورة المعتبرة شرعاً.
ومن فروعها: إباحة الميتة ولحم الخنزير لمن لم يجد طعاماً حلالاً وخشي على نفسه الهلاك، وشُرب الخمر لإزالة الغصة، ونبش القبور إذا دفن فيها الموتى بغير غسل، وكشف العورة أمام الطبيب لأجل المداواة.
بيد أن إباحة المحرمات للمضطر ليست مقصورة على المطعم والمشرب والتداوي، وإنما القاعدة عامة لكل ما يتحقق الاضطرار إليه في معترك الحياة؛ لأجل دفع العنت واتقاء الهلاك؛ ما سلم من المعارضة المساوية أو الراجحة، ولذلك عدّ ابن القيم من فروع القاعدة: جواز الفتوى بالرأي عند غياب النص، وجعلها كالميتة التي تباح عند الضرورة، قال: «إن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة؛ فالضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار» (8) .
وتنزيل هذه القاعدة على الواقعات ترد عليه ثلاثة قيود:
الأول: تصور قدر الضررين: الضرر الوارد على المكلَّف، وضرر استباحة المحرم، فأي الجانبين ترجّح كان الحكم له، ولذلك اشترط فقهاؤنا في إعمال هذه القاعدة نقصان المحظورات عن الضرورات، فلو كان الميت نبياً فإنه لا يحل أكل لحمه للمضطر؛ لأن حرمته في ميزان الشرع أعظم من مهجة المضطر.
الثاني: الضرورة تقدر بقدرها، فيكتفى في استباحة المحرم عند الاضطرار بالقدر الذي ألجأت إليه الضرورة من غير مجاوزة وشطط، قال ـ تعالى ـ: { ... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، ومن ثم لا يشرب المضطر من الخمر إلا القدر الذي يزيل به الغصة.
الثالث: الضرر لا يزال بالضرر، أي: أن ضرر إنسان لا يزال بضرر إنسان آخر؛ لأن الخلق كلهم عيال الله، ومتساوون في الحرمة، ويتخرج على هذه القاعدة أن المضطر لا يأكل طعام مضطر آخر أو يقتل ولده.
جـ ـ قواعد التيسير بالتدارك:
إذا وجد في الشريعة من القواعد ما يكفل التيسير ابتداء أو عند قيام الأعذار، فإنها لم تعرَّ عن تيسيرات تدفع مشاقاً واقعة، وتبيّن المخارج منها بتدارك الخلل وتعقب الخطأ، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه: قواعد التيسير بالتدارك (1) . وهي كثيرة غزيرة، منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق العبد؛ إلا أنها تؤول جميعها إلى معنى جامع هو اغتفار الذنوب، ومحو الآثام، ليستأنف المكلّف حياته بنقاء جديد لا يعكّره شيء من عثرات الماضي أو ينغصه تخوف من عواقب المآل وحساب المستقبل.
ومن أعظم قواعد التيسير بالتدارك قاعدة التوبة، وهي ذات أثر بالغ في رفع الحرج ودفع المشقة؛ وآية ذلك أن الإنسان غير معصوم من الخطأ واجتراج الإثم، لكنه في لحظة من لحظات اليقظة الإيمانية يرعوي عن غيّه، ويفيء إلى كنف الرشد، ولو حوسب بذنوب الماضي وترِكتِه، تبدّد أمله في رحمة الله، وخاب مسعاه في استئناف حياة طاهرة، وهذا منتهى الحرج وغاية الإعنات.
ويذكر العلماء للتوبة شروطاً لا بد من استيفائها لتؤتيَ أكلها، وتعمل عملها في محو الماضي الكالح بخطاياه وآثامه، واستشراف المستقبل بخير الزاد وهو التقوى، ويمكن إجمال هذه الشروط فيما يلي:
أولاً: الإقلاع عن الذنب.
ثانياً: الندم على اجتراح الذنب ندماً صادقاً.
ثالثاً: العزم الأكيد على عدم العودة إلى الذنب.
رابعاً: تدارك ما أمكن تداركه من رد الحقوق إلى أصحابها، أو طلب العفو منهم.
خامساً: حصول التوبة في الوقت الذي حدّده الشارع وهو ما قبل الغرغرة، أي: خروج الروح.
وإذا استُوفيت هذه الشروط برمتها كان التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فتغسل التوبة الحوبة، وتُذهِب الحسنات السيئات ولو بلغت عنان السماء، وهذا على مذهب من يرى أن دليل قبول التوبة قطعي، وهو المذهب اللائق بيسر الإسلام ومقاصده في التمكين لدين الله بجلب المهتدين، وإرشاد الضالين، وفتح باب الإغضاء والصفح الجميل، وإلا عاش المذنب في غياهب ماضيه محروماً من بارقة أمل في استئناف حياة النقاء والصفاء.
وخالف هذا المذهب إمام الحرمين ومن لفّ لفّه، فحمل الأدلة على غير ظاهرها، وتأولها بقوله: «يقبل التوبة عن عباده إن شاء» (2) ، بناء على أن دليل قبول التوبة ظني، وهذا مسلك غير مرضي في تفسير النصوص، ولو جرى العمل به لتعطّلت أحكام في الشريعة، وانسلخت عن مقاصدها الأصلية، وقد كفانا أبو حامد الغزالي مؤونة الردّ على منتحلي هذا المذهب فقال: «فمن يتوهّم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول، والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول» (3) .
ومن قواعد التيسير بالتدارك قاعدة الكفارات، وهي في جوهرها ومآلها جابرة للنواقص، وساترة للذنوب، ومخرج من مضايق الإثم، فلا غرو أن يذكر السلف الصالح الكفارات من جملة المخارج الشرعية التي لا تخفى آثارها الحسنة في غور المجتمع أو غور النفس الإنسانية على حد سواء.
وقد علم بالاستقراء الدقيق أن الكفارات صنفان:
ـ صنف عام، لم يخصّص بذنب معين، ولا يدخل في باب العقوبات الشرعية، وهو ينتظم كل ما يصيب الإنسان من قوارع الدهر، وينزل به من مكروه في بدنه وولده وماله، فقد جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ الابتلاء فرصة للمسلم لتكفير ذنبه، ومحو سيئاته، إذا ما لهج لسانه بحمد الله، ورضي بقدره، وأخذ نفسه بالصبر والاحتساب. ويلحق بهذا الصنف ما ينهض به المسلم من طاعات تكفّر الخطايا وتزيد في الدرجات؛ كالوضوء، والتنفل، والصدقات، ومحاسن الخلق، وغيرها.
ـ صنف خاص، وهو الشائع في اصطلاح الفقهاء عند إطلاق لفظ الكفارة، وقد عُرِّفت بأنها: اسم لأشياء مخصوصة طلبها الشارع عند ارتكاب مخالفات معينة (4) ، وهي في حقيقتها تأديب على ارتكاب معاصٍ، وتكفير عن خطايا ارتكس فيها المكلّف بسبب جهالته وضعف وازعه الديني، ولا تخرج المعصية عن ثلاثة أنواع: معصية فيها الحدّ، ومعصية فيها الكفّارة، ومعصية لا حدّ فيها ولا كفّارة، ويجتهد الإمام أو القاضي في تقدير عقوبتها، وهو ما يسمى عند أرباب الفقه بـ (التعزير) .
والكفارات المعروفة في الشرع خمسة أضرب: كفارة التمتع بالعمرة إلى الحج، وكفارة اليمين، وكفارة القتل الخطأ، وكفارة الإفطار عمداً في رمضان، وكفارة الظهار. ومعنى التيسير فيها ملحوظ جليّ؛ إذ إنها مخرج للمكلّف مما تورط فيه، وتمكين له من أسباب التوبة، فضلاً عما يترتب عليها من رفع الحرج عن غير المكفّر.
__________
(*) أستاذ الفقه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي.
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/125.
(2) جرينا في هذا التمييز على التقسيم الوارد في كتاب (قاعدة المشقة تجلب التيسير) : ليعقوب الباحسين.
(3) المحصول للرازي: 2/545.
(1) رواه الحاكم: 2/357، والبزار: 132، والبيهقي: 6/12، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه النووي فيما نقله عنه ابن رجب في (جامع العلوم) ص 66، والألباني في (غاية المرام) 2، وقال البزار: إسناده صالح.
(2) القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين: لعبد المجيد جمعة الجزائري، ص 285.
(3) إعلام الموقعين لابن القيم: 1/384 ـ 438.
(4) قاعدة المشقة تجلب التيسير: ليعقوب الباحسين، ص 438.
(5) الأشباه والنظائر للسيوطي: 1/10 ـ 11.
(6) أخرجه مالك في الموطأ: 2171 مرسلاً، وأحمد: 37/438، وابن ماجة: 2340، والدارقطني: 3/77، والحاكم: 2/57 ـ 58، وغيرهم موصولاً. وهو صحيح أو حسن بمجموع طرقه. قال النووي في الأربعين: «حديث حسن.. وله طرق يقوي بعضها بعضاً» ، وأقره على ذلك ابن رجب الحنبلي في (جامع العلوم والحكم) : ص 570.
(7) المعيار للونشريسي: 8/475.
(8) إعلام الموقعين لابن القيم: 3/77.
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 8، والمنثور في القواعد للزركشي: 1/120.
(2) المنثور في القواعد للزركشي: 1/120.
(3) السرجين بكسر السين: الزبل، كلمة أعجمية وأصلها سركين بالكاف فعربت إلى الجيم والقاف فيقال: سرقين أيضاً. انظر: المصباح المنير، ص 273.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 83.
(5) المنثور في القواعد للزركشي: 1/120.
(6) انظر المراجع السابقة.
(7) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 93، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 85.
(8) إعلام الموقعين: 4/306.
(1) جوهرة التوحيد للبيجوري: ص 118.
(2) انظر تفصيلاً مفيداً عن هذه القواعد في كتاب: (قاعدة المشقة تجلب التسير) : ليعقوب الباحسين، ص 513 ـ 571.
(3) إحياء علوم الدين للغزالي: 4/15.
(4) بحث مقارن في الكفارة: لمحفوظ إبراهيم فرج، ص 23.(233/5)
حتى لا يتكرر المشهد
ماجد محمد الحمد
عاشت الأمة حيناً من الدهر وهي تنعم بالوحدة والإخاء وسلامة المعتقد واجتماع الكلمة، لا يعكر صفوها انتحال المبطلين ولا كيد الحاقدين ـ وإن لم تسلم من شرهم ـ، حتى إذا انقضى القرن الأول ـ خير القرون ـ بدأت بعض نوابت السوء تظهر للعيان وتجاهر بمعتقداتها الباطلة، وكان من أعظمها أثراً في الأمة فرقة المعتزلة؛ التي كانت تمتاح من وثنية الإغريق، وترى نفسها النخبة التي عجز المجتمع الإسلامي بعلمائه عن مجارات خطابهم العقلاني، الذي وقف حائراً أمام النص الشرعي؛ فأقصاه واستبدله بأقيسة عقلية سقيمة.
حتى إذا بان لهم عجزهم عن استمالة المجتمع لحمل قناعاتهم الفكرية، وضعفت حججهم أمام أهل العلم لجؤوا إلى حيلة أهل الباطل في كل زمان للالتفاف على هذه العزلة التي حاصرهم بها المجتمع المسلم؛ حيث استمالوا السطلة السياسية إلى تبنِّي أفكارهم وحمل الأمة على قبولها بحد السيف، فيما عرف بفتنة خلق القرآن، يفرضون وصايتهم الدينية على الأمة كلها.
فوقف الإمام أحمد في وجه مشروعهم الباطل، وتحمل الأذى في سبيل نصرة الحق، مما كان له أعظم الأثر ـ بعد توفيق الله ـ في إزاحتهم عن مواقع نفوذهم، وانزوائهم في جنبات التاريخ بعد افتضاح باطلهم.
وفي خِضمِّ هذا الصراع بين أهل السنة والجماعة والمعتزلة؛ خرجت طائفة من أهل الكلام ـ تأثرت بأهل السنة ولم تدرك كنْهَ عقيدتهم على حقيقتها ـ رأت أنها الأقدر على فهم خطاب المعتزلة واستخدام مفردات هذه الخطاب في محاججتهم وكسر شوكتهم، عرفوا فيما بعد بـ (الأشاعرة) ، زعموا أنهم وسطيون بين من يقدم النص وبين من يقدم العقل.
وقد جاء بروزهم وقت استعلاء أهل السنة واندحار المعتزلة لذا جاءت علاقتهم بأهل السنة على مرحلتين:
الأولى: مرحلة الانتساب إلى أهل السنة والجماعة وإظهار ولائهم لهم، كما هو حال أبي الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة) حيث نص على أنه: «بما كان يقوله به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون» (1) .
حتى إن الباقلاني، أحد رموز الأشعرية، كان يكتب اسمه أحياناً في بعض أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي (2) .
ووصف هذه العلاقة خير وصف أبو إسحاق الشيرازي عندما قال: «إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة» (3) .
وكانت الألفة هي سمة العلاقة بينهم وبين أهل السنة في هذه المرحلة، حيث كانت فجوة الخلاف لم تتسع بعد، وكانوا يداً واحدة في معاداة أهل الاعتزال والتجهم والرفض.
الثانية: في هذه المرحلة اتسعت هوة الخلاف وتطور المذهب الأشعري حتى كاد يلحق بالمعتزلة في معظم أصوله، وحيث إنه تم القضاء على المعتزلة فكرياً، وضعف شأنهم وانكسرت شوكتهم، رجع الأشاعرة إلى الإساءة إلى من أحسن إليهم، فجاهروا بعداوة أهل السنة والجماعة، وسلكوا طريق المعتزلة عينه في تعاملهم مع أهل السنة؛ فبدؤوا بلمزهم بـ (الحشوية) و (المجسمة) لتنفير الناس منهم، ومن ثم تطور الخلاف إلى استعداء السلطة السياسية والتقرب إليها لترويج مذهبهم، حتى أصبحت الأشعرية معتقد معظم الدول في تلك الفترة، وفرضت على الناس اعتناقه، وأقصي مذهب أهل السنة ـ المذهب الحق ـ وحوربوا، بل وصل الحال أن نازع الأشاعرة أهل السنة في أحقيتهم بهذا الاسم؛ فكان إذا أطلق اسم أهل السنة كانوا هم المعنيين به (4) ، أي (الأشاعرة) ، وأصبح أهل السنة الحقة مشبِّهة جهلة مخالفين لاعتقاد السلف ـ زعموا ـ.
بل استطاعوا في هذه المرحلة التغلغل إلى محاضن الفكر السلفي عينه؛ ألا وهو علم الحديث علماً وتعلماً، فأصبح في عداد كبار أهل الحديث من يتبنى مذهب الأشاعرة، حيث راجت عليهم شبههم؛ فظنوهم سلفية بلبوس عقلي، بل لم يسلم من التأثر بفكرهم بعض علماء الحنابلة كابن الجوزي وابن عقيل (5) وغيرهما، فانشق الصف السلفي حتى كاد يختفي من الساحة وتمَّحي رسومه لولا عناية الله ولطفه.
فكانت هذه نهاية من رأى تغليب مصلحة مواجهة المعتزلة على إثارة نقاط الخلاف، وهذه عاقبة من لم يحصِّن أتباعه ويحذرهم من خطورة هذه الفرقة.
وليس ثمة شك أن الأشاعرة أقرب المذاهب إلى أهل السنة، وأن لهم جهوداً مشكورة في محاربة المعتزلة والباطنية؛ ولكن ليس من الموازنة في شيء أن نكون قناة لتمرير باطلهم إلى عموم الناس، أو أن نكون مطية لتحقيق المشروع الأشعري في الأمة، حتى إذا اشتد عودهم رموا أهل السنة بالزور وكان الإقصاء هو الخاتمة لهذه العلاقة المتوترة.
وها هو التاريخ يعيد نفسه، والمشهد ذاته تتكرر فصوله تارة أخرى بمسميات أُخر في واقعنا المعاصر.
فهذه الليبرالية تطرح نفسها مشروعاً بديلاً للإسلام في بلاد المسلمين، ساعية جهدها في نشر أفكارها بين الناس، مستعينة بقوى الغرب الكافر ـ الذي رباها على عينه ـ لكسر عزلتها في المجتمع المسلم، مستقوية به لزحزحة ثوابت الأمة والمجاهرة بخلافها لمبادئ الإسلام، محاولة الوصول إلى صانع القرار السياسي لاستعدائه على خصومها من أهل السنة؛ لإقصائهم عن ريادة الأمة، وسعياً لتمرير مشروعها التغريبي في مجمل حياة الناس، وخصوصاً في واقع المرأة والحكم.
وها هو المشهد الأشعري تُعاد فصوله كرة أخرى، فها هي طائفة ممن كانت من أهل الضلال والعلمنة ردحاً من الزمن أعلنت أوبتها إلى الإسلام؛ ولكن تريد أن تكون رأساً في الحق كما كانت في الباطل؛ وإن لم تحمل أهلية لذلك، حيث لا زالت مرجعيتها الفكرية هي هي، وجهلها بالإسلام هو لم يتغير، تريد جهلاً المواءمة بين الإسلام والليبرالية حتى يكون وسطياً كما تزعم، وهي في حقيقتها تريد تطويع الإسلام لمبادئ الغرب الكافر، فيقبل منه ما وافق أهواء الليبراليين، ويرفض أو يؤول ما خالف رغباتهم الفاجرة تحت عباءة تجديد الخطاب الإسلامي.
وهذا التيار الذي اصطلح على تسميته بـ (الليبرالية الإسلامية) أو (العقلانيين) يقع في منطقة رمادية بين الحق والباطل، فهو يحمل بعض الحق وبعضاً من الباطل، فطائفة منهم كالحة السواد، لا تكاد تجد كبير فرق بينهم وبين الليبراليين إلا بعض كتابات في الثناء على بعض قيم الإسلام، فهم في حقيقتهم علمانيون بمسوح إسلامي لمخاتل أهله، وآخر إسلامي تأثر بفكرهم ويروج لمنهجهم في التعامل مع النصوص الشرعية، ومن بينهم ـ للأسف ـ من ينتمي للعمل الإسلامي؛ مما كان سبباً في ترويج هذا الفكر بين شباب الصحوة وبعض مثقفيها، فنتج عنه انتكاسة بعضهم ممن له سابقة في الانتماء للعمل الإسلامي، فعاد حرباً على إخوانه، زاعماً أنه يقوم بنقد التيار السلفي، وتفكيك بنيته التقليدية.
وتكمن خطورة هذا التيار أنه أصبح قناة تُمرر من خلاله الأفكار الليبرالية والعلمانية إلى الإسلاميين، لذا لم يعد مستغرباً سماع الدعوة إلى (الديموقراطية) أو (الحرية الفكرية) بين الإسلاميين، وحين تستنكر هذه المفاهيم الضالة يجيبك هؤلاء: أن هذه المصلطحات ليست بمدلولاتها الغربية؛ بل تم تطويعها لتتواءم مع الإسلام، فالديموقراطية إنما جوهرها ولبها «أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم» ، والحرية الفكرية إنما عني بها أن يطرح الناس آراءهم بحرية، ما لم تخالف الثوابت الشرعية، فلم يبقَ لهذه المصلطحات من اسمها الغربي إلا رسمه، حيث تم أسلمتها، حتى إذا ألِف الناس الخلاف حولها وحسبوه خلافاً لفظياً جاءك من يعيد هذه المصطلحات جذعة كما هي عند الليبراليين، وتعظم المصيبة عندما يكون ذلك من بعض قادة العمل الإسلامي، فأحدهم يصرح أنه: يقبل أن يتولى الحكم في بلاد المسلمين نصراني أو يهودي، وآخر يدعو إلى تطبيق الديموقراطية بحذافيرها؛ فهو يستنكر حرمان الشيوعيين من تكوين أحزاب لهم في بلاد المسلمين؛ بل يدعو إلى تمكينهم من نشر إلحادهم بين الناس، ولا يمانع من نقد الإسلام ذاته من باب تكافؤ الفرص!! وآخر يدعو إلى نشر بعض الروايات التافهة التي أفتى بمنعها الأزهر لما فيها من مساس بالذات الإلهية، ويدعو المؤلف إلى عدم الالتزام بهذه الفتوى؛ لأنها تخالف حرية الفكر، كما يزعم.
عند ذلك تستبين سبب الألفة بين هؤلاء (العقلانيين) و (الليبراليين) ، حيث تلحظ حضورهم المكثف في القنوات الليبرالية، فهم الذي يُدعون إلى المؤتمرات، وهم الذين يُستكتبون في صحافتهم ويُقابَلون في قنواتهم، وهم الذي يقدَّمون للعامة؛ لأنهم أصحاب «فكر إسلامي مستنير» أو «وسطيون» وغيرها من ألفاظ التزكية الليبرالية، أمَّا غيرهم ممن يخالفهم الرأي: فهو ظلامي رجعي سلفي (1) متشدد إقصائي.
عندها تدرك لِمَ مراكز البحث الغربية تدعو إلى دعمهم والعناية بهم (2) ؛ لأنها علمت أنهم حصان طروادة الذي من خلاله يتم هدم قلاع الممانعة الإسلامية من الداخل.
وهم ـ شعروا أو لم يشعروا ـ أول مراحل هدم قيم الإسلام وإحلال القيم الليبرالية محلها، وهم مطية يتم من خلالها تسويق الفكر العلماني داخل المجتمعات المسلمة سواءَ أدرك ذلك بعضهم؛ فرضي بذلك مقابل الشهرة التي يمنحونها له، أو عن طيبة قلب وسذاجة فكر تم استغلاله، وهو لا يدرك خطورة الدور الذي رُسِم له.
وهنا يسأل البعض: هل من الحكمة جعل هؤلاء كلهم في سلة واحدة ومخاصمتهم، والأمة تعاني من تكالب العداة ومحاولتهم بكل السبل النيلَ من ثوابتها وقيمها؟
بطبيعة الحال ليس من الحكمة فعل ذلك، ولكن إذا استشرى شرهم، وعلا ضجيجهم، وبان أثر فكرهم وخطورة انحرافهم في استقطاب كوادر العمل الإسلامي، والتأثير على محاضنه الفكرية، واستنبات بذور الفرقة داخل الصف الإسلامي بسبب جهل الكثيرين حقيقتهم، عند ذلك تكون الحماقة عينها التغاضي عن هذا الواقع ونحن نصطلي بناره، حتى يصبح المنهج الحق خارج السرب يغرد وحده، وليس من الحكمة في شيء أن نرضى بسرقة الصحوة والعمل الدعوي من قبل هؤلاء العقلانيين تحت ذريعة أنهم الأقدر على التواصل مع الغرب، والأقدر في إدارة دفة الحوار مع الآخر؛ لكونهم يملكون القدرة على تفكيك خطابه، فهم ـ إن سلَّمنا أنهم كذلك ـ من أبعد الناس عن فهم نصوص الشرع وتنزيلها على واقع الخصم.
فإن لم يقم الدعاة ببيان حقيقة هذه الطائفة وتصويف باطلها؛ ساعتها سيجدون أنفسهم مقصيين عن الساحة، تعلو رؤوسهم كلمات النبز واللمز كما فُعِل بأهل السنة من قبل، فالتاريخ يعيد نفسه، ونحن نلحظ بوادر تكرار للمشهد الأشعري فنتساءل: أَأيقاظ ـ أولئك الدعاة ـ أم نيام؟(233/6)
معالمٌ في الأزمات
ناصر بن عبد الله الجربوع
يعيش المسلمون هذه الأيام في أماكن شتى أياماً عصيبة، ومصائب كبيرة، فما أن يندمل جرح من جسد الأمة الإسلامية إلا وتُصاب بجرح آخر قد يكون أعظم مما سبق. ولعلَّ ما حلَّ بأهلنا في فلسطين ولبنان أظهر شاهد على ذلك. ولنا مع هذه الأزمات والأحداث العظيمة بعض المعالم والوقفات، لعلّها تكون عوناً لنا في الصبر والتسلية وفي رفع الغمّة. وهذه المعالم هي:
المَعْلم الأول:
أن يعلم المؤمن أن كل ما يحصل في هذا الكون من حوادث وصراعات فهو بقضاء الله وقدره وبعلمه وإرادته ومشيئته لا يخرج شيء من ذلك، كما قال ـ سبحانه ـ: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وأنه ـ سبحانه ـ قدّر ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلن تموت نفسٌ قبل أجلها المحدّد لها، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» (1) ، فإذا علم المؤمن ذلك وآمن به انشرحت نفسه ولم يجزع أو يتسخط، ورضي بقضاء الله وقدره، وانشغل بعبادة ربه وتحصيل معاشه بنفسٍ مطمئنة، عكس من لم يؤمن بذلك فتجد الهلع والخوف قد استولى على قلبه فلا يجد للحياة طعماً، بل يصل به الأمر إلى الوفاة أو محاولة قتل النفس للتخلُّص من الحالة التي يعيشها.
المَعْلم الثاني:
أن الصراع والاختلاف سُنّة ربّانية ماضية. وهذا الصراع قد يكون بين أهل الحق وأهل الباطل، وهو صراع دائم ومستمر، ولن ينتهي إلا عندما يترك أهل الإسلام دينهم كما قال ـ سبحانه ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} [البقرة: 217] . وقد يكون الصراع ـ أيضاً ـ بين أهل الحق أنفسهم، أو بين أهل الباطل أنفسهم؛ نتيجة الاختلاف في المواقف أو الأطماع. والشواهد من التاريخ على ذلك كثيرة في الماضي والحاضر، وخير شاهد ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. والله ـ سبحانه ـ قد يولِّي بعض الظالمين بعضاً، ويكون في ذلك الخير والفرج للمؤمنين كما قال ـ سبحانه ـ: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] .
ولهذا ينبغي للمؤمن أن لا يستغرب حدوث مثل هذه الصراعات والأزمات، بل يؤمن أنها سُنّة جارية.
المَعْلم الثالث:
أن ما أصاب المؤمنين من تسلُّط الأعداء عليهم وتقتيلهم وهدم بيوتهم وتهجيرهم من ديارهم قد يكون بسبب أنفسهم، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] .
وإذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما هُزموا في معركة أُحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تساءلوا فيما بينهم عن سبب الهزيمة فأنزل الله ـ سبحانه ـ قوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ، وكان الذنب الذي بسببه هُزموا هو مخالفة الرُّماة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزولهم من الجبل.. فعلينا أن نحذر من الذنوب والمعاصي، فهي سبب الهزيمة والضعف والوهن، ولن ننتصر على عدونا الخارجي إلا إذا انتصرنا على عدونا الداخلي، وغيَّرنا من حالنا، وأقبلنا على طاعة ربنا: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
المَعْلم الرابع:
من أعظم ما يجب على المؤمن التوكلُ على الله في الرخاء والشدة، واللُّجوء إليه عند المحن والأزمات، وطلب الفرج منه، فهو الناصر والمعين: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ، والثقة بنصره وعدم الخوف من كثرة العدو وقوته: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174] .
ولنا في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير برهان، فهو لم ينتصر في معاركه الكثيرة مع الكفار بكثرة جيشه وأسلحته. ومن كان الله معه فليبشر بالنصر والتمكين: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] .
المَعْلم الخامس:
إن أعظم ما يعين المؤمن على الثبات ويقوي قلبه وقت الفتن والأزمات بعد التوكل على الله ـ سبحانه ـ الأعمالُ الصالحة؛ من دعاء وذكر وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، فإن الأعمال الصالحة غذاء القلب، ومادة قوته، كما أن الطعام والشراب غذاء الجسم ومادة قوته. وكان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة (1) ، وقد أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالاستعانة بالصلاة في سائر الأحوال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] .
وأمر عند ملاقاة العدو بالإكثار من ذكره وبيَّن أنه سبب الفلاح والنصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] .
المَعْلم السادس:
أن النفس البشرية جُبلت على حب الحياة وكراهية الموت والقتل، وهذا لا تثريب فيه على الشخص، ولكن إذا وقعت الحروب والأزمات فعلى المؤمن أن لا يجزع من ذلك ويعترض على قضاء الله وقدره، فقد يكون في باطن ذلك الخيرُ والفرج وبداية النصر، وقد لا ندرك ولا نعلم هذا الخير؛ لقصورنا البشري كما قال ـ سبحانه ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 216]
ولما عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلح الحديبية مع المشركين وكان من بنود الصُّلح أن يرجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فلا يدخلوا مكة؛ أصاب أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ حزنٌ شديد وشقَّ ذلك عليهم، ثم إن الله فتح بعد ذلك مكة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث نقض المشركون الصُّلح، فلننظر كيف أن هذا الصلح الذي كرهه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أصبح خيراً بعد ذلك وصار سبباً لفتح مكة (2) .
المَعْلم السابع:
أن يعلم المؤمن أن الباطل مهما استفحل وانتصر على الحق في أحوال فإن ذلك لا يعدو أن يكون مرحلياً ووقتياً، وأن النصر في النهاية هو للحق وأهله، وهذه حقيقة شرعية وإرادة كونية قدرية، يجب أن نؤمن بها، ونثق بوعد الله ـ عز وجل ـ، وأن يدعونا ذلك للتفاؤل وقت الأحداث، وأن وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر قد قرب بزوغ فجره، وأن ظلمة الباطل قريباً ما تنقشع، فهو ـ سبحانه ـ لا يخلف الميعاد: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . [الصافات: 171 - 173]
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى إليه أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ما يلاقونه من عذاب وشدة من المشركين دعاهم للصبر، وعدم الاستعجال، وبشّرهم بانتصار الدين وغلبة أهله فكان يقول: «ليبلغنّ هذا الأم ر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين» (3) . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (4) .
إلا أن هذا التفاؤل وانتظار الفرج يجب أن يصحبه عمل جادّ، وبحثٌ في الأسباب والعلاج، أما التفاؤل دون ذلك فهو عجز وخَوَرٌ، ولننتظر عند ذلك أن يحلّ بنا قوله ـ تعالى ـ: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} . [محمد: 38]
المَعْلم الثامن:
إن أعظم فرصة للدعاة إلى الله ـ تعالى ـ وللعاملين بحقل التربية والتعليم اغتنامُ أوقات الأزمات والحوادث لنشر رسالتهم في المجتمع، فإن النفوس يومئد أقرب ما تكون إلى الخير وتحتاج إلى من ينير لها الطريق، وأن يقوم الداعية والمربِّي بربط ما يقع ويحدث بالسنن الإلهية الكونية. والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أشدِّ الظروف بل في أعظم مصيبة يُصاب بها أهل الإسلام، وهي قرب مفارقته -صلى الله عليه وسلم- للدنيا ومع ذلك لم يمنعه من القيام بالدعوة إلى الله، حيث كان يقول وهو يعالج سكرات الموت: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» (1) .
إن عدم قيام الدعاة والمربين برسالتهم وقيادة المجتمع سوف يجعل المجتمع يموج كما يموج البحر تتلاطمه هواة أقلام الصحف والمجلات ومقدِّمو القنوات الفضائية والتحليلات الإخبارية.
إن الداعية والمربِّي البصير من يسعى إلى أن يحوّل المحنة إلى منحة، والخوف من المستقبل إلى الثقة به.
وأن يوظف ما لديه من إمكانيات التوظيف الإيجابي لتحقيق رسالته.
المَعْلم التاسع:
أن متابعة الأحداث والتعايش معها والتأثر لأحوال المسلمين ... ينبغي أن لا يكون مانعاً للمؤمن من السعي في عمارة الكون وتحصيل رزقه ومصالحه، ولا يعتبر هذا تعلّقاً بالدنيا وعدمَ اهتمامٍ بأحوال المسلمين. والنبي -صلى الله عليه وسلم- وجّه بعمارة الأرض حتى آخر لحظة من عمر الدنيا، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها» (2) .
إن الواجب على أهل الإيمان خصوصاً وقت الأحداث المبادرةُ والسعي بأخذ أسباب القدرة والنصر المادية والمعنوية، كما قال ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، وأن لا يكون موقفهم موقفَ المتفرج الذي ينتظر ويستجدي وسائل النصر من غيره بل أحياناً من عدوه.
المَعْلم العاشر:
أن نظرية المؤامرة يجب أن لا تكون مصاحبة لنا في كل حدث نعايشه بحيث تكون هذه النظرية عقدة ملازمة لنا مع كل حدث، فإن الاختلاف بين البشر أمر فطري وسنّة ماضية، وتعارض المصالح بينهم أمر موجود حتى بين الأصدقاء أنفسهم، وخير شاهد على ذلك ما وقع في الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي قتل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، فقد كانت نتيجةَ اختلاف على الأطماع وسيادة بين الدول الغربية، كما أن الصراع بينهم قد يكون فيه مصلحة لأهل الإسلام وفرج لهم، ولهذا لما وقع القتال بين الدولتين العظيمتين الكافرتين الروم وفارس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتصر الروم فرح الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بذلك لكون الروم أقرب للحق، فهُمْ أهل كتاب.
المَعْلم الحادي عشر:
في زمن الفتن والأحداث يروج سوق الشائعات والأخبار، وتصبح حديث المجالس، وتتعلق بها القلوب من دون تثبّت، مع أن مصدرها قد يكون تحليلاً إخبارياً عبر قناة إعلامية والتي أصبحت أكبر مصدر لها؛ لجذب أكثر عدد من المتابعين.
إن الإشاعة ونقل الأخبار بمجرد سماعها وعدم التثبّت منها قد يترتّب على ذلك عواقب وخيمة في المجتمع واضطراب للأمن وخلل في الاقتصاد، وهذا أمر مُشاهد معلوم، ويكفي لبيان أثر ذلك مثال واحد حدث زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أُشيع خبر مقتله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد، فكان من أثر ذلك أن قعد بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عن القتال (3) .
والإسلام جعل منهجاً واضحاً عند سماع الأخبار ونقلها، وهو التثبّت والتبيّن منها، بل جعل من يحدّث بكل ما سمع كذّاباً، كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» (4) .
وهذا المنهج لا يتغير سواء حال السِّلم أو الحرب، بل إنه ليتأكد حال الحرب والفتن؛ حفاظاً على أمن المجتمع وسلامته.
وفي الختام نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يحفظ بلاد المسلمين من كل مكروه، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) القاضي في المحكمة العامة في الرياض.
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب: حجاج آدم موسى، رقم (2653) .
(1) أخرجه الإمام أحمد (388/5) ، وحسّنه الألباني.
(2) انظر تفاصيل هذه الغزوة في: صحيح البخاري (378/1 ـ 381) ، وصحيح مسلم (104/2) ، وزاد المعاد (122/2 ـ 127) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (103/4) ، وصححه الألباني.
(4) أخرجه البخاري: رقم (3612) .
(1) أخرجه الإمام أحمد (290/6) ، وصححه الألباني.
(2) أخرجه الإمام أحمد (290/6) ، وصححه الألباني.
(3) انظر ذلك في: قصة غزوة أحد في البداية والنهاية، وسيرة ابن هشام، وغيرها من كتب السيرة.
(4) رواه مسلم في مقدمة صحيحه(233/7)
قليلاً في فلسفة العمل الخيري!
إبراهيم بن سليمان الحيدري
ينطلق العمل الخيري مهما اختلف حجمه وتباين نشاطه من ثلاثة محاور، هذه المحاور هي:
أهداف المنظمة الخيرية، رغبات المتبرعين، وحاجات المستهدفين.
عملية التوفيق بين هذه المحاور، التي قد تبدو متعارضة، هو الطريق الممهد لبقاء المنظمة الخيرية ونجاحها بعد توفيق الله، والانسياق خلف واحد منها قد يكون دهليزاً نحو الفشل.
أما المحور الأول فهو: أهداف المنظمة الخيرية التي تسعى لتحقيقها وتكافح من أجلها (أو هكذا يفترض) ، وبقدر ما يسخر القائمون على المنظمة الخيرية لهذه الأهداف من موارد مالية وبشرية بقدر ما تقترب المنظمة نحو تحقيق النجاح.
المحور الثاني هو: رغبات المتبرعين؛ وهي متنوعة ومتباينة بتباين قيم الناس وثقافاتهم، إلا أن ثقافة المجتمع تلعب دوراً كبيراً في توجيه رغبات المتبرعين، ولعل هذا ما يفسر تكدس الناس على مشاريع خيرية محددة وتجاهلهم لأخرى قد تكون أعظم أجراً وأكبر نفعاً.
أما المحور الثالث فهو: حاجات المستهدفين، والمستفيد في هذه الحالة هو الفرد الذي (يستهلك) منتجات المنظمات الخيرية؛ سواءً كانت هذه المنتجات ملموسة أو غير ملموسة، وهناك جدل كبير: هل المستفيد قادر على تحديد احتياجاته أم لا؟
إن انطلاق المنظمة الخيرية من أحد هذه المحاور وتجاهل المحاور الأخرى سوف يقود لا محالة إلى نتائج سلبية، فالتركيز على أهداف المنظمة وتجاهل رغبات المتبرعين سيجعل المنظمة الخيرية تعاني من شح الموارد المالية؛ مما يهدد بقاءها وجودة خدماتها، كما أن تجاهل الحاجات الفعلية للمستهدفين سيقود إلى وصول المنظمة الخيرية إليهم؛ لكن ليس إلى تلبية حاجاتهم بالضرورة.
من زاوية أخرى، فإن الانسياق خلف رغبات المتبرعين، أو تتبع حاجات المستفيدين وإهمال أهداف المنظمة الخيرية، قد يقود إلى تشتت الجهود وبعثرتها في مشاريع وبرامج لا تحقق في مجموعها هدفاً سامياً ومؤثراً.
إن عملية التوفيق والتوازن بين هذه المحاور الثلاث تبدو كأنها مشي على الشوك، والقيادة الحكيمة للمنظمة الخيرية هي التي تستطيع أن تمزج بين عناصر هذا المركب بمقادير محددة، من خلال تفكير استراتيجي يرسم أهدافاً راسخة للمنظمة، تلبي حاجات معينة للمستهدفين وتجد صدى لدى شريحة كافية من المتبرعين.
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(233/8)
الفروق الفردية في ميزان التربية الإسلامية
صالح عبد الله الجيتاوي
أساس الإسلام أن العقل هو مناطق التكليف، ولذا كان العقاب والحساب على من له عقل، ولا حساب على من لا عقل له، فيقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبّ، وعن المعتوه حتى يعقل» (1) .
وحثَّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على مخاطبة الناس حسب مستوياتهم العقلية والفكرية، فيقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» (2) .
ومن الدلالات التربوية التي نستطيع أن نستنبطها من هذا الحديث: أن على المعلِّم أن يخاطب طلابه حسب مستوياتهم العقلية ومستوياتهم العلمية؛ ضماناً لحسن فهمهم، وتحقيقاً للعدل، فلا يهتم بطائفة منهم ويهمل طائفة. فنحن نجد في واقعنا بعض المعلِّمين يثنون حسن الثناء على الفائقين من طلابهم، ويوسعون ضِعاف التحصيل لوماً وتوبيخاً، حتى إن بعضهم ليتسرّبون من التعليم لهذه المعاملة.
الفروق الجسدية:
ويقصد بهذه الفروق عدم التماثل في جوانب النموّ الجسمي المختلفة، فالأفراد يختلف بعضهم عن بعض في الطول والحجم ولون البشرة وكذلك في صحتهم العامة، فيقول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في قصة بني إسرائيل: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] .
قال الإمام الشوكاني شارحاً هذا المعنى: «بيّن (الله) لهم وجه الاصطفاء: بأن الله زاده بسطة في العلم، الذي هو ملاك الإنسان، ورأس الفضائل، وأعظم وجوه الترجيح، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب، ونحوها، فكان قوياً في دينه، وبدنه، وذلك هو المعتبر، لا شرف النسب، فإن فضائل النفس مقدّمة عليه» (3) .
والاختلاف الجسدي ينعكس على أداء الأفراد في المجالات المختلفة، تعليمية أو غير تعليمية، فمن يعانون ـ مثلاً ـ من مشكلات في السمع أو في البصر لن يكونوا على نفس المستوى في التحصيل الدراسي في قدرتهم على السمع أو الرؤية (4) .
فعلى القائمين على العملية التربوية مراعاة الفروق الجسمية بين المتعلِّمين، وذلك بتكليف الطلبة ذوي القدرات الجسمية العالية تدريبات خاصة تنمّي قدراتهم بإشراكهم في أنشطة رياضية متنوعة، مع إهمال الطلبة ضِعاف البنية الجسمية، أو ذوي العاهات فهؤلاء لهم قدرات عقلية عالية في الحقيقة، ولكنها قد تعزُّ على الظهور، ما لم يتهيأ لاكتشافها معلّم مخلص موهوب.
الفروق الاقتصادية:
يقول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {إنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] .
قال الإمام البقاعي: «ولما كان سبب البخل خوف الفقر، وسبب البسط محبة إغناء المعطي، قال مسلِّياً لرسوله -صلى الله عليه وسلم- عما كان يرهقه من الإضافة عن التوسعة على من يسأله بأن ذلك إنما هو لتربية العباد بما يصلحهم، لا لهوان بالمضيق عليه، ولا لإكرام للموسع عليه: {إنَّ رَبَّكَ} أي: المحسن إليك، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ} البسط له دون غيره، {وَيَقْدِرُ} أي: يضيق كذلك سواء قبض يده أو بسطها، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27] ، ولكنه ـ تعالى ـ لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عنه أقصى مكروهه، فاستنّوا في إنفاقكم على عباده بسنّته في الاقتصاد، {إنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} ، أي: بالغ الخبر، بالغ البصر بما يكون من كون القبض والبسط لهم مصلحة أو مفسدة» (5) .
والفروق الاقتصادية نجدها واضحة بشكل جليٍّ ما بين الطلاب، فنجد الطالب الغني الحريص على التظاهر بغناه في المأكل والملبس، والطالب الفقير المعترف بفقره أو الفقير المتمرد على فقره، ومن هنا يظهر أهمية دور المعلِّم في مراعاة هذه الفروق بينهم، وذلك من خلال معاملتهم على أساس من العدل والمساواة، فلا فرق بين الطالب الغني والطالب الفقير.
كما أن على المدرسة مراعاة هذا الجانب من خلال توفير جميع المستلزات التي يحتجها الطلبة كأجهزة الحاسوب وغيرها.
__________
(1) أورده الترمذي في الجامع الصحيح: كتاب الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، رقم 1427، 4/32، وقال أبو عيسى: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
(2) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده: 4/70.
(3) فتح القدير: (ج /1 ص 356) .
(4) إبراهيم وجيه وآخرون، علم النفس التعليمي، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية، 2002م، ص 12.
(5) نظم الدرر للبقاعي: (ج /5 ص 60) .(233/9)
برامج التدريب هل تبني الشخصية؟
محمد بن عبد الله الدويش
تشهد السوق انتشاراً واسعاً لبرامج التدريب، ويُعد التدريب من أهم الفرص والمجالات الاستثمارية، ويتجه إليه عدد من الناس رغبة في تطوير أنفسهم وبناء شخصياتهم.
وكغيرها من الظواهر تشهد هذه الظاهرة جدلاً في الساحة.
هل يتلاءم ما يبذل من جهد واهتمام مع أهمية التدريب؟
هل يمكن أن يكون التدريب أداة فاعلة في بناء الشخصية المسلمة؟
هل يمكن أن يكون بديلاً للمحاضرات والدروس والبرامج الثقافية؟
ومثل هذه الظواهر تحتاج إلى دراسات علمية تتعامل مع الواقع وتتجاوز الآراء الفردية والشخصية.
لكن ذلك لا يمنع من التداول والتحاور وإبداء الرأي الشخصي.
ويمكن أن نسجل هنا بعض الملحوظات حول هذه الظاهرة:
ـ التوجه للتدريب وإدراك أهميته ودوره في التغيير يُعدُّ ظاهرة صحية وإيجابية.
ـ الإنفاق على التدريب، سواء من قبل الأفراد، أم من قبل المؤسسات استثمار يستحق الكثير مما ينفق عليه.
ـ لا بد من الفصل بين أهمية التدريب وجدواه وبين الممارسات في الواقع؛ فالواقع ليس بالضرورة ممثلاً للصورة المثالية.
مما يؤخذ على برامج التدريب ما يلي:
- غياب الوعي بفلسفة التدريب؛ فالتدريب ليس تعليماً، كما أنه ليس بديلاً للتعليم، وما يتطلب تحقيقه عن طريق التعليم فليس التدريب هو البديل الصحيح في تحقيقه.
- تهميش المعرفة والتقليل من شأنها، فالمهارات والاتجاهات رغم أهميتها لا تغني عن المعرفة التي تسهم في بناء الشخصية، وتمثل عنصراً مهماً من عناصر تكوينها.
- دخول كثير من المدربين في غير مجالات تخصصهم؛ فمن المألوف أن تجد برامج حول التربية الفاعلة، أو التسويق، أو الإقناع، أو القيادة ... إلخ، يقدمها من هم ليسوا أهل اختصاص في هذه المجالات. ومن غير المقبول أن يتحدث الشخص في غير تخصصه فضلاً عن أن يصبح مدرباً فيه، وحين تطَّلع على سيرة بعض المدربين وما يقدمونه من برامج فيمكن أن تجد قائمة غير متجانسة تحوي العديد من التخصصات.
- عدد من البرامج التدريبية وبالأخص ما يتصل ببناء الشخصية لا يستند إلى أسس علمية، بل هو خواطر وآراء شخصية يجمعها المدرب من مصادر متفرقة أقل ما فيها المراجع المتخصصة.
- تستند كثير من عوامل النجاح في هذه البرامج إلى المهارات الشخصية للمدرب وبالأخص ما يتعلق بمهارات الإلقاء والتأثير، وكثير من هذه المهارات تختفي من ورائها جوانب القصور في التكوين المعرفي والعلمي وعمق الشخصية لدى المدرب.
إن الحاجة ماسة إلى التدريب والاعتناء به، لكن من المهم الوعي الجيد بفلسفة التدريب وتوجيهه للمجالات الملائمة له، وألا يقود الانبهار به إلى إقحامه في مجالات ليس هو الأداة الأفضل لتحقيقها، ومن المهم ألا يتصدى للمهام التدريبية إلا من يحمل التأهيل الكافي، وأن تستند البرامج التدريبية إلى أساس معرفي وعلمي.(233/10)
الاتباع العلمي.. والتبعية الجاهلية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
«العلم إمام العمل» كما قال الإمام البخاري. فكل عمل لا ينبني على علم يقيني أو غلبة من الظن فهو عمل جاهلي. فما معنى الاتِّباع إذن؟ الاتِّباع في حقيقته إنما هو اتباع للعلم، ثم يدخل فيه اتباع من قام عندنا دليل علمي على أن له علماً؛ وهذا ما عنيته بالاتباع العلمي. وأما إذا لم يكن الاتباع مؤسساً على علم بأن المتبَع ذو علم، وكان مبنياً على غير ذلك من الأسباب الداخلة في مفهوم الهوى، فهو بالضرورة تبعية جاهلية. فنحن نتبع ما نجد في القرآن الكريم؛ لأنه قد قام عندنا دليل على أنه كلام الله تعالى؛ والله لا يقول إلا حقاً ولا يحكم إلا بعدل. واتِّباعُنا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- إنما هو لأنه قد قام الدليل العلمي عندنا على أنه رسول الله الذي أُوحي إليه ذلك الكتاب، ولأن الله ـ تعالى ـ يقول لنا:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] .
{مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] . ونتبع إجماع علماء المسلمين؛ لأنه قد قام عندنا الدليل القطعي العقلى والنقلي على أنهم لا يمكن أن يجتمعوا على ضلالة (1) .
وأما ما سوى ذلك فإننا لا نتَّبع من أفراد العلماء إلا من قام عندنا دليل على صحة ما قال أو على أن قوله أقرب إلى الصواب. وقد عبر عن هذه الحقيقة الإمام مالك بقوله: «كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر» (ويشير إلى القبر الشريف) . فيؤخذ ما قام الدليل على صحته أو على قربه أكثر من غيره إلى الصواب، ويترك ما لم يقم دليل على صحته أو قام دليل على بطلانه.
في كتاب الله ـ تعالى ـ أدلة كثيرة على أننا مأمورون بالاتباع العلمي ونبذ التبعية الجاهلية بتلك المعاني التي ذكرناها. فنحن ندعو الله ـ تعالى ـ بأمر منه، في كل ركعة من ركعات صلواتنا قائلين:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 2 - 7] .
فالصراط المستقيم هو الطريق الذي قام الدليل العلمي على إيصاله سالكَه إلى الله تعالى. والذين أنعم الله عليهم هم الذين قام الدليل العلمي على أنهم سلكوا ذلك الطريق، فاتِّباعهم اتِّباع علمي. وأما المغضوب عليهم فاتباعهم اتباع جهلاني؛ لأنهم قوم أبَوْا أن يجعلوا عملهم تابعاً لما علموا. وأما الضالون فاتباعهم أيضاً جهلاني؛ لأنهم عملوا بغير علم. في هذه الآيات العظيمة أكبر دليل على أن الاتباع العلمي لا يكون إلا باتباع طريق من قام الدليل على أنهم ساروا في الطريق المستقيم، وإلا باجتناب من قام الدليل العلمي على سلوكهم غير ذلك الطريق.
وما ورد في أم القرآن مجملاً ورد في غيرها من سور القرآن الكريم مفصلاً. فالجدير بأن يتبع هو الذي يأتي بالحق:
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35] .
فالرسل يُتَّبعون؛ لأنهم هم الذين يجيئون بالحق الموحى إليهم من الله ـ تعالى ـ ولأنهم أحسن الناس اتباعاً له:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} .
[الأنعام: 89 - 90]
هنالك فروق عظيمة بين الاتِّباع العلمي والتبعية الجاهلية. فلما كان الاتباع العلمي هو في حقيقته اتباعاً للعلم؛ فإن المتبَع يستطيع أن يأتي بالدليل على صحة ما يدعو إليه، ولما كانت التبعية الجاهلية إنما هي اتباع لأشخاص؛ فإن المتبَع لا يستطيع أن يأتي بدليل ولا يستطيع أن يجيب على اعتراض، بل يُغضبه أن يُعترَض عليه، ولذلك فإنه يجعل عدم السؤال أو الاعتراض شرطاً في الاتباع.
من الأدلة على هذا أن موسى لما ذهب لملاقاة العبد الصالح ورضي بأن يكون له تابعاً سوَّغ تبعيته له بقوله: {عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] . ولما اشترط عليه العبد الصالح أن لا يسأله، لم يجعل ذلك شرطاً مطلقاً، وإنما قيده بقوله: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] .
ولما قال الرجل الذي آمن لقومه: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] لم يكتف بهذه الدعوى بل بين لهم ماذا يعني بسبيل الرشاد. وأما فرعون الذي كان يريد من الناس أن يتبعوه تبعية جاهلية فقال: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] فسبيل الرشاد عنده شيء تابع لرأيه وهواه لا دليل علمياً عليه. كان اتِّباع أصحاب رسول الله له اتباعاً علمياً، لذلك لم يكونوا يتحرجون من سؤاله، ولم يكونوا يرون في السؤال تنافياً مع يقينهم بأنه رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، ولم يكن رسول الله ـ بأبي هو وأمي ـ ينكر عليهم أن يسألوه أسئلة يستبينون بها الحق ويزدادون به يقيناً. فهذه أم المؤمنين عائشة تقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كيف يُخسَف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم» فأجابها بقوله: «يُخسَف بأولهم وآخرهم، ثم يُحْشَرون على نياتهم» . لماذا سألت أم المؤمنين هذا السؤال؟ سؤالها يدل على أنها لم تستطع أن توفق بين قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وقاعدة عظيمة من قواعد الدين هي أن الإنسان لا يعاقَب إلا على جرم ارتكبه، وهي تعلم أن الدين الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حق لا تناقض فيه.
ولما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة» فقال له أعرابي: «يا رسول الله! فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟» فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فمن أعدى الأول؟» . ولا بد أن الأعرابي إنما سأل هذا السؤال؛ لأنه يعلم أن الدين الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حق لا يمكن أن يخالف حقيقة تجربية واقعية. وإجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تدل على أنه لم يَعْنِ بعدم العدوى انتقال المرض من شخص إلى آخر، وإنما عنى به أنها ليست السبب الأول للمرض.
وقصة عمر ـ رضي الله عنه ـ في صلح الحديبية معروفة. أذكر بهذه المناسبة أننا كنا أيام الشباب نقرأ كتب العبقريات للعقاد، وإنه كان يقول فيها: إن لشخصية كل عبقري مفتاحاً، وإنه جُعل مفتاح شخصية أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ التسليم، وقارن في هذا بينه وبين عمر ـ رضي الله عنه ـ الذي كان يسأل ويناقش؛ فلم يعجبني قول العقاد وقلت لبعض زملائي كلاماً فحواه أن تسليم أبي بكر كان تسليماً قائماً على علم حاجَّ به عمرَ رضي الله عنهما. والإنسان إنما يسأل ويستفسر إذا لم يعلم.
هكذا كان الاتباع في عهد النبوة والقرون الصالحة، وهكذا كان عند أئمة أهل السنة والجماعة. فما أكثر ما روي عنهم من نهي عن التقليد، وحث على البحث عن الدليل واتباعه. وما أكثر ما كانوا يحرصون على الفهم والتدبر والتفكر. وما زال مثل هذا الاتجاه معروفاً عند السالكين سبيل أولئك الأئمة. ما أكثر ما سمعت شيخنا الشيخ عبد العزير بن باز ـ عليه رحمة الله ـ يقول لطلابه: لا تحقروا أنفسكم، ثم ينصحهم بأن يبحثوا عن الدليل وأن يقولوا بما توصلوا إليه؛ فإذا تبين للواحد منهم أنه كان مخطئاً فلا بأس عليه من أن يغيِّر رأيه ويقول بما علم وهو مأجور في الأولى وفي الآخرة.
لكن الذي غلب على المسلمين في أيامهم الأخيرة هو الرجوع إلى التبعية الجاهلية، تبعية لأشخاص لا علم فيها ولا سؤال ولا مناقشة ولا مطالبة بدليل ولا برهان، بل شعارها ـ بلهجتنا السودانية ـ: «اليعترض ينطرد» . وصار المثل الأعلى للمريد أن يكون بين يدي شيخه كالجنازة بين يَدَيْ غاسلها، فتحوَّل الأتباع ـ وما أكثرهم ـ من قوم خلقهم الله ليعلموا ويعقلوا ويتفكروا إلى جنائز لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر. بل حتى الذين زعموا أنهم تحرروا وصاروا علمانيين إنما كان تحررهم أن استبدلوا بالشيوخ الدينيين شيوخاً علمانيين غربيين. فكان ما كان من أمر تدهورنا في أمر الدين وما تبعه من تخلُّف في أمور الدنيا. وأنا الآن لو سُئلت: ما سبب تخلف المسلمين؟ لأجبت بكلمتين: التبعية الجاهلية. لكن هذا موضوع أرجو أن نعود إليه في مقال قادم.
__________
(1) انظر المقدمة الثالثة من كتاب الموافقات للإمام الشاطبي.(233/11)
التأثير الهامشي
د. عبد الكريم بكار
قد نكون في هذه الأيام في حاجة ماسَّة إلى إنعاش (التفكير العلائقي) ؛ وهو نوع من تشغيل الذهن، يستهدف اكتشاف العلاقات التي تربط بين الظواهر التي تشغل بالنا، أو تؤثر في حياتنا. ويبدو لي أن هذا اللون من التفكير يميل إلى التعقيد، ونتائجه غير حاسمة، ولهذا فإن الناس يعرضون عنه؛ مع أن له أهمية بالغة في فهم الأحداث والوضعيات! ولعل لاعتماد على السنن هو أفضل وسيلة لفهم الروابط والتأثيرات الكائنة في هذا الوجود. وسنحاول في هذا المقال تقديم نموذج يشرح هذه الفكرة، ويقربها من أذهان الإخوة القراء.
إننا إذا نظرنا في مختلف الظواهر والوضعيات الملموسة، سنجد أن لكل واحدة منها وجودين: وجوداً بوصفها كياناً متكامل الأركان والقسمات والحدود، ووجوداً بوصفها أجزاء من منظومات أكبر وأوسع.
إن العلاقة بين الزوجين ـ مثلاً ـ هي جزء من علاقة أوسع، وهي علاقة أفراد الأسرة: الآباء والأمهات والأبناء، وعلاقة الأسرة جزء من علاقات أهل الحي أو أهل القرية، وهذه الأخيرة تشكّل جزءاً من علاقات المجتمع في قُطْر من الأقطار. والفقر الموجود لدى شخص من الأشخاص هو جزء من الفقر السائد في بلدته، وفقر أهل بلدته جزء من الفقر السائد في إقليمه أو قطره، وهذا جزء من محيط أوسع، إلى أن نقول: إن فقر أي شخص في العالم هو جزء من فقر العالم جميعه.
يتشكل الوجود المستقل للظواهر والوضعيات من ملامحه وحيثياته الدقيقة والخاصة. أما الوجود العلائقي، فهو مدين للملامح العامة الظاهرة، والقوانين التي تحكمها على مستوى الكون، ومدين للتأثير الذي يتركه المحيط فيها.
وقد فطر الله ـ عز وجل ـ الخلائق ـ بدءاً بالفيروس وانتهاء المجرات ـ على السعي الدائب نحو الاستقلال، وذلك من خلال المحافظة الشديدة على المقومات والخصائص والميزات، لكن بما أن كل شيء هو جزء من سلسلة أو منظومة، وبما أن لكل منظومة وكل سلسلة طبيعتها وعلاقاتها، فإن سعي الخلائق إلى الاستقلال سيظل منقوصاً ومحدوداً، كما أن الممانعة التي تبديها الأشياء في سبيل المحافظة على كينوناتها، تظل غير كاملة؛ بسبب تأثير محيطها ومنظوماتها. والتأمل في هذه الشؤون المنظمة غاية التنظيم يوقفنا على حقيقة كبرى، هي أن كل ظاهرة وكل وضعية تخضع لنوعين من العوامل المؤثرة: عوامل داخلية، وعوامل خارجية، ويظل تأثير العوامل الداخلية أقوى وأعظم، ويظل تأثير العوامل الخارجية هامشياً أو محدوداً، ما لم يتمكن العامل الخارجي من اختراق المنظومة الداخلية للظاهرة، ويجعل من نفسه جزءاً منها، فإذا تمكن من ذلك زاد تأثيره، وصارت تسميته بالعامل الخارجي شيئاً لا معنى له. وسأقدم مثالين لشرح هذه الفكرة:
الأول: الفقر: وهو يعني عجز الإنسان عن توفير حاجاته الأساسية من مسكن وملبس ومطعم وتدفئة ودواء.
وإذا نظرنا في أحوال الفقراء وجدنا أن ما هم فيه من بؤس وقلة يعود إلى نوعين من العوامل: داخلية، وخارجية. فبعض الناس يكون فقيراً؛ بسبب عدم تعلمه وعدم نيله شهادة يدخل بها سوق العمل، وبعضهم يكون فقيراً؛ بسبب كسله، أو انعدام طموحه، أو تكبله بالأوهام التي تمنعه من رؤية الفرص التي أمامه، وبعضهم بسبب تغير الظروف عليه وعدم استطاعته التلاؤم مع الظروف الجديدة؛ كما يحدث مع المشرَّد الذي فقد وطنه وصار لاجئاً، وكما يحدث مع الذي احترق بيته ومتجره وصار من غير مأوى وعمل. ومن الناس من يبذل كل جهده، ويعمل كل ما عليه، ويأخذ بكل ما يعرفه من الأسباب، ثم يجد نفسه في صفوف الفقراء والمعوقين أو من قُدِر عليهم رزقهم، فلا يكاد يصل إلا إلى بعض حاجاته الضرورية. وفقر هذا الصنف من الناس يعود إلى أسباب خارجية، تعود في الغالب إلى البيئة التي يعيش فيها، وذلك كمن يعيش في صحراء ويقتات من الماشية والأنعام التي يملكها، ثم توالى عليه القحط عاماً بعد عام إلى أن هلك كل ما لديه، وهو يجد نفسه مضطراً للإقامة؛ بسبب وجود والديه معه وصعوبة انتقاله إلى مكان آخر. وإذا ألقينا نظرة على واقع الفقراء في محيطنا، فإننا سنجد أن فقر السواد الأعظم منهم يعود إلى عوامل ذاتية داخلية، على نحو ما أشرنا إليه قبل قليل، وفئة محدودة منهم تعاني بسبب صعوبة البيئة أو ضغوط وعدوان الآخرين، ولدينا براهين ساطعة على صحة ما نقول، من أهمها: وجود أعداد كبيرة من الفقراء في بيئات ثرية وممتازة؛ حيث تجد من جاء من أقصى الأرض ليكسب رزقه وبعد مدة يصبح ثرياً، وتجد من وُجد في تلك البيئة هو وعشرون جداً من أجداده؛ لكنه لا يتمكن من الحصول على الضروريات! وفي المقابل نجد في بيئات صعبة، تسودها الحروب والقحط والخوف من يستطيع أن يعيش، وينفق على عياله، ويدخر.
إن الله ـ سبحانه ـ أعطى الإنسان قدرات كامنة عظيمة، ومن خلال استغلال تلك القدرات يتغلب على الكثير من العقبات والصعوبات التي تعترض طريقه، وهذا ما يفعله كثير من الناس؛ حيث يمتلك الإنسان العزيمة والإصرار على تطوير ذاته واكتشاف الآفاق الجديدة، ويتخذ من (الزمن) وسيلة أساسية في حل المشكلات، إذ إن العوامل الخارجية يتهاوى الواحد منها تلو الآخر. وقد شاهدنا كثيراً من المقدمين الذي يملكون الطموح، فعملوا بجدية وصبر حتى ملكوا نفقات السفر، وتخلصوا من بيئاتهم قاصدين بيئات جديدة، يتوفر فيها العلم أو فرص العمل، وخلال سنوات قليلة تغيرت أحوالهم، بل انقلبت رأساً على عقب. وحين تؤثر الظروف الصعبة في الفقير، فتحوِّله إلى إنسان يائس بائس خائف وقانع، إنسان يجد، في سؤال الناس والاستدانة منهم والخضوع لشروطهم، مخرجاً وحيداً مما هو فيه، فإن العامل الخارجي يتحول حينئذ إلى سمة ذاتية للفقير تحطِّمه، وتسدّ كل الآفاق أمامه. وفي الدول الثرية مدمنون ومتشردون اختاروا عن طيب خاطر العيشَ على هامش المجتمع وفي أوكار الرذيلة، ومع كثرة المحاولات من أجل مساعدتهم لم يطرأ أي تحسِّن على حياتهم؛ وذلك بسبب رفضهم قبول المساعدة، وعجزهم عن مساعدة أنفسهم.
في المقال القادم سأذكر بإذن الله ـ تعالى ـ مثالاً ثانياً على سيطرة العوامل الداخلية مع الإشارة إلى بعض التدابير ... والله مولانا.(233/12)
ضوء القمر
طارق شديد
دخل حجرته الخاصة المكتظة بالكتب، أو (صومعته) كما يحلو له أن يسميها، متأبطاً حافظة أوراقه ومجموعة الصحف والكتب الجديدة التي ابتاعها وهو عائد من الجريدة، مسح كتبه ـ المتراصة في أناقة ونظام، والتي تغطي فراغات الحجرة ـ بنظرة إعجاب حانية، ألقى ما يتأبطه فوق مكتبه، أنار (كشاف القراءة) ، هَمَّ بتصفُّح المطبوعات الجديدة، وقعت عيناه على ساعة المكتب أمامه، كانت عقاربها متعانقة معلنة انتصاف الليل، ندَّت عنه شهقة مندهشة:
ـ «مرت ساعتان على خروجي من مكتبي، ولم أكتب بعد! بل ولم أستقر على فكرة الموضوع الذي سأسلمه غداً لرئيس التحرير كي ينشر في زاوية (الرأي الحر) لهذا الأسبوع» .
أزاح المطبوعات الجديدة جانباً، تلقف قلماً من المقلمة، استل أوراقاً بيضاء من حافظة أوراقه.. انكب عليها يريد أن يسودها حتى يثبت لرئيس التحرير أنه أهل للثقة التي خصه بها دون زملائه، أخذ يشجع نفسه على الكتابة:
ـ «هيا! لقد أُتيحت لك فرصة ذهبية، ستكتب زاوية (الرأي الحر) الموقوفة على كبار المفكرين، والتي ظل رئيس التحرير يرفض مساهمة أي عضو من أسرة التحرير فيها، حتى ولو كان في مرتبة رئيس قسم» .
لقد استدعاه اليوم رئيس التحرير وطلب منه الاتصال بالأساتذة المفكرين المتعاملين مع الجريدة، ورغم عكوفه على الهاتف أكثر من ساعة لم يفلح في انتزاع وعد من أحدهم بكتابة زاوية (الرأي الحر) لهذا الأسبوع، فهذا مشغول بإعداد بحث سيلقيه في مؤتمر سيعقد قريباً، وذاك يضع اللسمات الأخيرة على كتاب جديد، وثالث عازم على السفر غداً للمشاركة في أعمال ندوة، ورابع مرتبط بموعد الليلة ولا يستطيع كتابة سطر واحد!
حكى لرئيس التحرير محاولاته الفاشلة في استكتاب أحد المفكرين البارزين.. فاجأه رئيس التحرير بقوله: «تكتب أنت المساهمة؛ وأستلمها منك غداً..!» .
ظن في البدء أن رئيس التحرير يمزح معه، لكن سرعان ما انقشعت سحائب ظنه أمام جدية ملامح رئيس التحرير وتواصل حديثه: « ... ثقتي فيك كبيرة؛ فأنت مثال للصحفي المسلم الواعي المجتهد» .
خرج من مكتب رئيس التحرير ولسانه يلهج بعبارات الشكر والامتنان، وقلبه مثقل بالفرح الممزوج بعبء المسؤولية، ظل طوال طريقه إلى بيته يستعرض الأفكار التي جرت العادة على معالجتها في هذه الزاوية ليستبعدها تباعاً، استمر يتذكر ويستبعد، حتى لحظة جلوسه إلى مكتبه في (صومعته) ، كان لا يزال يجهل: أيَّ موضوع سيطرق في زاويته المرموقة!
مع أنه أمسك بقلمه وانحنى فوق أوراقه فارضاً على نفسه وضعية الكتابة، على أمل أن تترفق به الأفكار فتهبط عليه سخية، إلا أنه مكث لحظات طوالاً عاجزاً عن خط حرف واحد، نهر نفسه: «ماذا بك؟! ألم تعد قادراً على طرح فكرة ومعالجتها؟! هل استفحل العقم في عقلك وخيالك إلى حد شل يدك عن الكتابة؟!» .. لكن هذا التوبيخ لم يأتِ بالمردود المرتجى.
خطر بذهنه أن يصنع لنفسه (فنجاناً) من القهوة ينبهه ويشحذ ذاكرته، بعد أن احتسى قهوته في تؤدة ـ محاولاً بين رشفة وأخرى لملمة شوارد أفكاره ـ وجد قلمه ما يزال جامداً في يده، والأوراق أمامه تتحداه ببياضها الناصع.
حاول مرة أخرى، قبض على قلمه بعزم.. خط في أعلى ورقة بيضاء كلمتَي: (الرأي الحر) ، مع أنه ظل قابضاً على القلم، فقد تعذر عليه تسطير كلمة واحدة أخرى، نظر في حنق إلى (رأس) القلم، ضغط بأصابعه على (جسمه) وكأنه يحاول إرغام كلمة، قد انتصبت في (حلق) القلم، على الخروج؛ ولكن الكلمة في عنادها متشبثة!
شعر بصداع خفيف يغزو رأسه.. قام وابتلع قرصين لصد الغزو، عاد إلى أوراقه يشجع نفسه: «هيا! اعصر دماغك وفكر ملياً!» ولكن يبدو أن الفشل قد صار حليفه!
تلصصت عيناه بقلق على ساعة المكتب أمامه، «أووه!!» .. زفر بها في حدة وغضب؛ طارت على أثرها عصافير اليأس واخترقت رأسه.. تسللت رويداً رويداً عبر شرايينه إلى جميع خلايا جسده، لقد صار الليل شيخاً هرماً ولم تبزغ بعد فكرة جديدة، ولم يطلق هو سراح قلمه، شعر بخدر عميق يسري في عروقه! تسارعت نبضات قلبه، تفصد جبينه عرقاً بارداً، أحس باختناق شديد، اندفع نحو شرفة (صومعته) يتلمس نسمات تسعفه، صافحت وجهه نفحات ربيعية ناعمة، أحس شيئاً من الانفراج، سبح ببصره في أرجاء القبة السماوية المرقطة بقطع الألماس اللامعة، أعمل عدسته التدبرية، فاستدعت هذه اللقطة الباهرة ـ في مخيلته ـ لوحة السماء نهاراً، وتعجب كيف أن رسول النور ـ منذ إشراقه ـ يحجب عن بصره العالم الأكبر كله، فيصبح أعمى لا يراه، وعندما يغيب رسول النور ويحل الظلام، يصبح أهدى، ويكون للعالم الأكبر أبصر!
اتسعت عدسته التدبرية حين تمركز نظره على القمر شبه المكتمل والمائل نحو المغيب: «هذا الوجه الوضاء الذي ألهب خيال الشعراء، وأجج عاطفة المحبين على مر العصور، ثبت أنه قناع زائف يرتديه الوجه الذي هو ظلام، وتراب، وصخر، وخلاء، وصمت، ووحشة رهيبة مديدة» .. ثم تساءل: «هل هذا الوجه الساكن المتجهم يعبر عن حقيقة الذات القمرية؟!» .
تلاشى إحساسه بالاختناق، شعر بالدماء تتدفق في شرايين التواصل الكوني داخله، خُيِّل إليه كأن خيوطاً نسجت بين ذاته والقمر كذات عابدة ساجدة: «قاموس هذه الذات القمرية اللغوية يستوعب جميع مفردات (التسبيح والقنوت) التي نعرفها والتي لا نعرفها، ولكننا نحن الجهابذة المغرورين بقطرات علمنا المحدود لا نفهم كيفية تسبيحها المتفرد (!) هذا القمر العابد يستبشر بنا حين ننسجم معه تسبيحياً، ويكاد يتفطر كلما سمعت أذنه المرهفة أحاديثنا الجاحدة، وكلما بصرت عينه النافذة تصرفاتنا الآثمة. إنها الغيرة التي تسكن قلبه الساجد الأواب، كم حزن هذا القلب حينما رأى أول أقدام بشرية تطأه هي أقدام الجحود والضلال، وأول عَلَم يُزرع فوقه هو عَلَم الشرك والطاغوت! فكم تمناها أقدام العرفان والطهارة، وعَلَم التوحيد والهداية!» .
هذا التواصل مع إيقاعات القمر القانت الأواب جعله يتذكر فجأة أنه لم يؤدِّ صلاة العشاء؛ فقد ترك مكتبه في الجريدة دون أن يصليها في جماعة مع بعض زملائه كما تعوّد، انسل من الشرفة عازماً الوضوء، أحس بعد إسباغه الوضوء بارتياح طرح عن كاحله أحمالاً ثقيلة، افترش سجادة الصلاة.. وقف بين يدي ربه تغمره بحار الخشوع.. سجدت جميع خلاياه تسبيحاً وقنوتاً.. رفرفت روحه محلقة عبر أجوائها النورانية، شعر بانسجام الأنغام النابعة من ذاته المعزوفة الكبرى للكون الأواب من حوله.
ما إن فرغ من صلاته، وشرع في العودة إلى مكتبه لتحرير الزاوية العصيَّة؛ حتى انهمرت عليه الأفكار المنتظرة: (أزمة النخبة الثقافية السياسية في عالمنا الإسلامي) ، (خطر الاستغراب والمستغربين) ، (محنة المسلم مع حضارة العصر) ، (أمة اقرأ؛ متى تقرأ؟) ، (المسلمون والخروج من دائرة رد الفعل إلى دائرة الفعل الحضاري) .
أوقف سيل الأفكار المتدفق عليه، مندهشاً من الجدب الذي حل بذهنه طويلاً، وفشله المرير في قنص فكرة واحدة، ثم انثيال الأفكار عليه بمجرد عودته إلى ذاته العابدة، وتجاوبها مع إيقاعات الكون القانت! تناسى الأفكار الجديدة.. مكث يتأمل تجربته ويبلور أفكارها: «إذن! الإنسان السوي المتفوق المتسامي يتحقق في مرونة، تثير الدهشة والإعجاب، حينما يلتزم بمنهج الخالق، ووجود هذا الإنسان سيحل جميع مشاكلنا المزمنة تلقائياً. ما أمسَّ حاجتنا إلى ذلك الإنسان الذي ينشده الإسلام!» .
في الحال، وقبل أن يرحل الليل وهو مستغرق في توصيف الإنسان المنشود، قبض على قلمه، بدأ بتسطير عنوان مقالته: «الإنسان الرباني.. أولاً وأخيراً» .. وفي أقل من ساعة، وقبيل أن تتناغم ذاته مع الكون الساجد تلبية لنداء الفجر؛ كان قد سود الأوراق، وأنجز الصياغة.(233/13)
معاناة أهل السنة في العراق إلى متى
صلاح علي حمادي
ما يلاقيه أهل السنة في العراق هو الأكبر والأقسى بين كافة مكونات المجتمع العراقي لأسباب سنأتي على ذكرها، كل في محله. وإذا أردنا أن نصور واقع المأساة والمعاناة التي يعانيها أهل السنة في العراق فلا بد أن نضع محاور بارزة للحديث، بناءً على ما اتبعته الأحداث من مسارات متميزة، ولنبدأ منذ انتهت الدولة العراقية في التاسع من نيسان عام 2003م، بناء على محورين أساسيين هما: المحور الأمني، ومحور الخدمات.
(1) المحور الأمني:
إن الحديث عن المحور الأمني لمعاناة أهل السنة يأخذ بنظر الاعتبار مجمل الحالة الأمنية لأهل السنة في العراق منذ بدء الاحتلال، دون النظر إلى الوقائع الفردية التي حدثت وتحدث حتى اليوم، ذلك أن هذا المحور بني أساساً على مواقف جماعية لا فردية لطرفي النزاع (السنة والشيعة) في التجربة العراقية هذه. ويمكن تصنيف المحور الأمني لمعاناة أهل السنة في العراق إلى محورين ثانويين متلازمين؛ ولكنهما في الوقت نفسه متميزان عن بعضهما كما يلي:
(أ) المحور الأمني الناجم عن دخول قوات الاحتلال إلى العراق.
(ب) المحور الأمني الناجم عن ممارسات الحكومة وأجهزتها الأمنية والميليشيات المسلحة.
(أ) المحور الأمني الناجم عن دخول قوات الاحتلال إلى العراق:
مع دخول قوات الاحتلال للعراق وإسقاط العاصمة بغداد في التاسع من نيسان عام 2003م، برزت حالة من التحدي واضحة المعالم غير خافية على أي متتبع للواقع العراقي، وهي أن الولايات المتحدة وحلفاءها إنما يسيرون في هذا المخطط وفقاً لعقيدة أعلن عنها الرئيس الأمريكي، حينما وصف حملته هذه بأنها (حرب صليبية جديدة) ؛ لذلك كان على هذه العقيدة أن تحدد أعداءها في العراق قبل احتلاله ـ ولا نريد أن نتشعب في الحديث عن حقيقة العداء بين النظام العراقي السابق والولايات المتحدة وحلفائها ـ فالحملة الصليبية التي قادها بوش ضد العراق إنما استهدفت ذوي العقيدة الإسلامية الحقة فقط، بعد أن خاضت ضدهم حرباً ضروساً في أفغانستان عام 2001م وفشلت في القضاء على وجود تلك القوة المتمسكة بعقيدتها الإسلامية، رغم الإمكانيات والجهود الهائلة التي بذلت في تلكم الحرب.
لقد بحثت الولايات المتحدة عن ساحة تخوض فيها حرباً تعوض بها هزيمتها في أفغانستان، فوجدت ضالتها في نظام علماني (مارق) يُسخّر إمكانات بلده النفطي للحصول على أسلحة متقدمة، ولعل هذا أحد أهم أخطاء المحافظين الجدد الذين تسلموا السلطة في الولايات المتحدة، فأعدوا العدة وجمعوا حلفاءهم وجاءوا إلى العراق.
مع الأيام الأولى لاحتلال العراق انتفضت قوى عديدة معلنة بدء المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وبنظرة خاطفة إلى الخارطة الجغرافية لبدء عمليات المقاومة في العراق يتضح لنا أن الغالبية العظمى من العمليات المسلحة إنما كانت تتم في المناطق (السنية) من أرض العراق، مثل: الخالدية، وبيجي، والرمادي، والموصل، وسامراء، والضلوعية، والفلوجة، وبعقوبة، وراوة (ولن نتحدث عن بغداد الآن) . على أن بعض المناطق الأخرى في العراق قد شهدت بوادر مقاومة مسلحة للاحتلال ما لبثت أن خمدت شيئاً فشيئاً. وعليه فإن عقيدة معينة هي التي دفعت هؤلاء المقاومين لذلك، وهي بشكل مبدئي عقيدة ترفض احتلال الوطن، واستباحة دار المسلمين وبيضتهم، وانتهاك حرماتهم، وهذه أسس لا يمكن التفريط بها تحت أية ذريعة وفقاً لعقيدة أهل السنة.
يتميز العراق بأنه مهد لمدارس فقهية متعددة انتهجت سنة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ومنهج السلف الصالح في التمسك والحفاظ وإحياء هذه السنة المطهرة، حتى ضمت أرض العراق رفاة أكابر علماء السنة جنباً إلى جنب مع الأئمة من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين تمسكوا أيضاً بتلكم السنة وذلكم المنهج القويم.
إن مدونات التوراة التي بين يدي اليهود اليوم تصرح أن الجيش الذي سيبيد (إسرائيل) إنما يأتي من بين آشور وبابل، واليهود آمنوا بذلك؛ فعملوا على مر التاريخ على تأليب القوى العظمى لاحتلال وادي الرافدين، أو بلاد ما بين النهرين (العراق لاحقاً) ، فكيف الحال بالصهاينة الذين زادوا على أكاذيب أسلافهم الكثير، فيما يتعلق بزوال ملكهم (الإلهي) على يد القادمين من شرق (إسرائيل) ؟!
لقد حمل أهل السنة في العراق لواء المقاومة المسلحة إيماناً منهم أن الله لا يرضى منهم أن تستحل دارهم، وتنتهك حرماتهم، ويتسلط الكافر على رقابهم؛ فكانت ثورتهم ضد المحتل أول خطوات إفشال المخطط الأمريكي ـ الصهيوني في العراق، والذي بشروا به جنودهم حينما أوهموهم أن العراقيين (كل العراقيين) سيستقبلونهم بالورود. فما كان من الأمريكيين بعد أن استتب لهم الأمر في شمال العراق وجنوبه إلا أن يبدؤوا حملتهم لـ (تطهير) العراق من الجماعات المسلحة المتمردة غرب البلاد وشمال غربها، ثم شرق البلاد. فكان أن أنشأت القيادة الأمريكية غرفة عمليات متكاملة لمقاتلة المسلحين فيما عرف بعدئذٍ بالمثلث السني، وهم بذلك قد أعلنوا صراحة أن المقاومة العراقية إنما ترفعها وتنوء بحملها (طائفة) ذات عقيدة ومنهج محدد في العراق.
لقد تمثلت معاناة أهل السنة، وفق المحور الأمني الناتج عن الاحتلال، بتدمير مدنهم، واعتقال عشرات الآلاف من الشباب والرجال والنساء حتى امتلأت المعتقلات الأمريكية بهم؛ بل وضاقت عليهم. وفي غضون عامين فقط من الاحتلال كان مجموع ما تم تدميره من المدن (السنية) في العراق أكثر من عشرين مدينة (الفلوجة، الخالدية، بعقوبة، راوة، حديثة، بيجي، سامراء، الضلوعية، القائم، بلد، الدور، الموصل، تكريت، تلعفر، الرمادي، بهرز، الخالص، الحويجة، أبو غريب، اللطيفية، اليوسفية، المحمودية، المدائن، ... إلخ) ؛ بل إن هذه المدن لا زالت تعاني من سلسلة من المعارك الشرسة بين فصائل المقاومة العراقية وقوات الاحتلال. فإذا كان الوازع الوطني هو وحده الذي يحث أبناء هذه المدن على مقاومة الاحتلال، وبالتالي يحث قوات الاحتلال على استهدافها وتدميرها؛ فهل أبناء باقي المدن العراقية أقل وطنية وحباً لوطنهم من أبناء هذه المدن؟! أم إنها العقيدة التي يحملونها في قلوبهم، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة؟
إن الصورة التي يرسمها الأمريكيون وحلفاؤهم في أذهانهم عن مدى خطورة هذه (الطائفة) في العراق تتمثل في خشيتهم من أن يؤول الأمر في العراق إليهم فيعيدوا تجربة طالبان (حسب زعمهم) ، وهنا تتجلى الصورة واضحة، فطالبان، والشيشان، والبوسنة والهرسك، والصومال، وفلسطين، كلها شواهد على تصدي أهل السنة لقوى شيوعية أو صليبية أو صهيونية، كانت مساهمة غير أهل السنة فيها محدودة للغاية، ما لبثت أن أنجبت صراعات طائفية وعقائدية فيما بعد.
إن معركة قوات الاحتلال ضد أهل السنة في العراق لها وجهان متضادان أساسيان: هما الواجب العقائدي الذي يفرضه الإسلام على أهل السنة لمقاومة الاحتلال، والواجب العقائدي الذي تفرضه الصهيونية والصليبية الجديدة لاستهداف أهل السنة في العراق. وهنا أجدني مضطراً للقول: إنه حتى لو قعد أهل السنة عن مقاومة الاحتلال منذ بداية دخوله العراق، لما تخلى الاحتلال عن تنفيذ مخططه الهادف لاستئصال شوكة أهل السنة دون غيرهم، بعد أن أصبح العراق معقلاً للمفكرين والدعاة المسلمين حتى في ظل النظام البعثي العلماني السابق.
إن مخطط الاستئصال هذا ليس عاطفياً ولا عبثياً، وإنما ينم عن قراءة مستفيضة لواقع حال المجتمع العراقي الذي تغير كثيراً عن حاله في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ومع انقضاء الثمانينيات وبدء تجربة الحصار الاقتصادي، كان العراق بمجمله، وأهل السنة فيه خاصة، قد أصبحوا يمثلون عمقاً استراتيجياً كبيراً للمقاومة الفلسطينية، والقضايا العربية، وحركات التحرر العالمية، ناهيك عمَّا تمخضت عنه الصحوة الدينية في العراق إبّان الثمانينيات، ومن ثم في التسعينيات من اهتمام بقضايا العالم الإسلامي، حتى أخذت جامعات العراق تستقطب اهتمام الباحثين وطلبة العلم الشرعي من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وأخذت حلقات الدعوة والإفتاء والفكر الإسلامي الهادف تظهر على القناة الفضائية العراقية، ويحمل لواءها شخصيات (سنية) معروفة على مستوى العالمين العربي والإسلامي. لذا لم تكن القوى الصهيونية والصليبية نائمة عمَّا يجري في العراق من صحوة دينية يقودها أبناء السنة فيه.
وعليه؛ فإن معركة أهل السنة ضد الاحتلال لم تأتِ تحصيل حاصل لدخول قوات أجنبية إلى العراق، وإنما سبقها إعداد فكري من قِبل قوى الاحتلال خانها فيه تصور، أو وهم، مفاده أن العراقيين سيقبلون بالاحتلال من أجل الخلاص من نظام صدام حسين، وأن العلمانية وفكر البعث قد تمكنتا من المجتمع السني، ولن تنهض فيه عقيدة الجهاد الإسلامي الصحيحة ضمن منهج أهل السنة والجماعة التي ما جاء الاحتلال إلى العراق إلا للقضاء عليها فيه، وإذا بهم يكتشفون أن عقيدة أهل السنة في العراق لا ترتبط بصدام حسين أو حزب البعث البتة؛ وإنما ترتبط، أولاً وآخراً، بما يمليه عليهم دينهم، فتحمّلوا معاناة كبيرة تمثلت في المعارك الطاحنة التي خاضوها ضد قوات الاحتلال، وما نجم عن ذلك من خراب ودمار منكر لمدنهم وقراهم وحواضرهم.
(ب) المحور الأمني الناجم عن ممارسات الحكومات المتعاقبة وأجهزتها الأمنية والميليشيات المسلحة:
متزامناً مع سابقه، ظهر على الساحة محور أمني آخر نجم عن تشكيل الحكومات (العميلة) المتتالية (علاوي، الجعفري، ثم المالكي) والطريقة التي تعاملت بها هذه الحكومات غير الشرعية مع واقع أهل السنة في العراق بعد أن اطمأن كلٌّ على مصالحه (ولو نظرياً) ولم يبقَ خارجاً عن سرب العمالة والتبعية للاحتلال إلا أهل السنة؛ وحتى إن انضمت شخصيات تنتمي لأهل السنة إلى العملية (السياسية) في ظل الاحتلال في محاولة واهية لإضفاء شرعية مفقودة على البناء السياسي الجديد في العراق المحتل. ومن أجل ألاَّ تحيد هذه الحكومات (العميلة) عن خطى السادة (وأعني قوات الاحتلال) فقد بادروا إلى (الثأر) ، والاقتصاص غير العادل من أهل السنة ومدنهم وتجمعاتهم ووجودهم المادي والمعنوي، فقامت قوات الحرس الحكومي وقوات وزارة الداخلية بشن هجمات لا تعد ولا تحصى على ما يمكنها أن تصل إليه من مدنيين: أفراداً وجماعات، حتى مرت على بغداد والمدن العراقية (السنية) سنون وهي تشيّع كل يوم عشرات من أبنائها الذين قتلتهم قوات وزارة الداخلية وألويتها جهاراً نهاراً تارة، وغدراً وغيلة تارة أخرى؛ على مرأى ومسمع من قوات الاحتلال، والحكومة العميلة، وقوات الحرس الحكومي. كما دأبت الميليشيات المسلحة المرتبطة بالحكومة وأجهزتها (وعلى رأسها منظمة بدر) على تنفيذ الاغتيالات والاعتقالات التي تنتهي بالقتل أيضاً.
وفي مرحلة لاحقة، بدأت الميليشيات المسلحة غير المرتبطة بالحكومة والمسماة (جيش المهدي) بأداء الدور ذاته الذي لعبته منظمة بدر في اغتيال أهل السنة وتصفيتهم أفراداً وجماعات، وزادت عليه أن نفذت مذابح جماعية غاية في الوحشية ضد أهل السنة في أحياء بغداد، وديالى، والبصرة، وحيثما كان لها موطئ قدم، بعد أن عجزت هذه الميليشيات المسلحة على تنفيذ عملياتها في مدن أهل السنة؛ التي شهدت، ولا تزال تشهد، معارك ضد قوات الاحتلال غالباً، والحرس الحكومي أحياناً.
لقد وصلت معاناة أهل السنة من الدور الذي مارسته وتمارسه قوات الحكومة والميليشيات المسلحة إلى حد ألاّ يستطيع أهل السنة دخول مناطق معينة من بغداد، أو الانتقال إلى محافظات أخرى؛ خشية قتلهم أو اعتقالهم؛ مما قطّع البلد إلى أوصال تفصلها نقاط التفتيش المشبوهة غالباً، وواقع كهذا فرض طبعاً أن يتم تهجير أهل السنة من باقي مدن العراق، قابلته هجرة غير أهل السنة من مدن أهل السنة، بعد أن أخذت جهات حكومية بالاصطياد في مياه الطائفية العكرة؛ متخذة من وجود غير أهل السنة في مدن أهل السنة وسيلة لإثارة الفتنة، ومن رحيلهم وسيلة لإثارة الفتنة أيضاً!
إن الدلائل كثيرة على أدوار حكومية دنيئة لاستغلال وجود غير أهل السنة في مدن أهل السنة لتأسيس مكاتب للمنظمات والميليشيات الطائفية المسلحة في تلك المدن، والواقع يفرض عدم المبادرة بمثل تلك المحاولات لمنع إثارة الفتنة التي لا تخدم سوى الاحتلال وعملاءه. ومع بداية رحيل غير أهل السنة عن مدن أهل السنة، فقد عمدت الجهات الحكومية نفسها إلى تصوير الحالة على أنها تهجير طائفي مقصود، وعلى أجهزة الحكومة وقواتها أن تتخذ تدابير (أمنية) معينة إزاء هذا التهجير.
(2) محور الخدمات:
لا يمكن فصل محور الخدمات والنواحي الاجتماعية عن المحور الأمني مطلقاً؛ لأنه نجم عنه أساساً، ثم أصبح محوراً قائماً بذاته حتى مع تشكيل حكومة يقال عنها: إنها (حكومة وطنية) ؛ والتي من المفترض أن تتحمل أعباء الخدمات وتوفيرها لمواطني البلد الذي تحكمه.
لقد افتقر العراق بأكمله للخدمات والبنية التحتية مع بداية احتلاله من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ثم بدأت بعض (الأقاليم) بالحصول على الخدمات بشكل تدريجي. فالمنطقة الشمالية كانت الأسرع من وجهة نظر الاحتلال للاستقرار، والمباشرة بمشاريع التنمية والبناء، وإعادة الإعمار، ثم تبعتها محافظات الجنوب (حسب زعم الحكومة ووسائل إعلامها) بإعادة الإعمار، وبناء المشاريع الاستثمارية، حتى دفعت القائمين عليها للتبشير بإعلان قيام فيدرالية الجنوب التي تماثل فيدرالية الشمال، ولكنها لا تضم طبعاً مدن أهل السنة (المتوترة) . لقد كشفت وقائع كثيرة عن مبادرات متتابعة لقوات الاحتلال لتسوية الأوضاع في مناطق (المثلث السني) بعد أن وجد الاحتلال نفسه عاجزاً عن بسط سيطرته العسكرية على تلك المناطق، فعمد إلى التفاوض بقصد تسليم إدارتها لمجالس محلية؛ إلا أن أصابع خفية كانت تمتد لتمنع المحتل من المضيِّ بمبادراته تلك. ومع أن أهل السنة لم يعوِّلوا على مبادرات الاحتلال مطلقاً؛ لأنها إنما طرحت لتخدم مصالح الاحتلال دون غيرهم؛ إلا أن تلكم المبادرات مثلت في وجه من وجوهها هزيمة لمشروع الاحتلال وعملائه في العراق، ولن نغفل أبداً إجراءات الاحتلال بادئ ذي بدء في منع الاستقرار عن مدن أهل السنة وتقويض أمن أهلها كما أسلفنا. وعليه، فإن تعمد منع حالة الاستقرار عن مدن أهل السنة هو أمر متعمد وغير عشوائي مطلقاً.
ويمكن تقسيم محور الخدمات إلى محاور ثانوية عديدة تبعاً للقطاعات المتضمنة في هذا المحور الأساس كما يلي:
أـ محور الوظائف:
أدت أول تجربة سياسية خاضها الاحتلال في العراق متمثلة في مجلس الحكم الانتقالي إلى إظهار العراق بمظهر طائفي مرفوض؛ تحت ذريعة التنوع الطائفي والقومي والديني للمجتمع العراقي! ومع أول حكومة شكلها الاحتلال عمد إلى تكريس المحاصصة الطائفية؛ مما نجم عنه استئثار أحزاب وقوى معينة بإدارة الوزارات والمؤسسات الواقعة في (حصتها) من أجهزة الدولة، وهنا لا بد أن نذكر صراحة أن الوزراء من غير أهل السنة بسطوا سيطرتهم التامة على وزاراتهم، بينما لم يستطع الوزراء من أهل السنة الذين جيء بهم من أجل (شرعنة) الحكومة في بسط سيطرتهم على وزاراتهم؛ بسبب وجودهم الشكلي أساساًً وسلطة (المستشارين) القادمين مع قوات الاحتلال (إن لم يكونوا أمريكيين أصلاً) ، وكذلك بسط نفوذ الوكلاء والمديرين العامين من غير أهل السنة على عمل تلك الوزارات، فتم منع أهل السنة من التوظيف في الكثير من الوزارات والمؤسسات، وأقصي الكثير منهم تحت ذريعة التجديد، وقانون اجتثاث البعث، وهيئة النزاهة، وغيرها من الوسائل التي أوجدها الاحتلال وعملاؤه في معركتهم ضد أهل السنة في العراق. ولم يتغير الحال مع مجيء إبراهيم الجعفري وحكومته حتى وصل الأمر أن يقوم نائب رئيس الوزراء، المشرف على قطاع النفط (أحمد الجلبي) بتسريح (150) موظفاً من موظفي وزارة النفط (معظمهم من إدارات ما قبل الاحتلال) قسراً وفقاً لقانون اجتثاث البعث. كما سُجلت العديد من الحوادث في وزارة المالية ضد الموظفين من أهل السنة من ضمنها إقصاء المديرين العامين، وقد حدث الأمر نفسه في وزارات التجارة، والكهرباء، والنقل، والاتصالات، والتعليم العالي، والبحث العلمي؛ وفي الأخيرة وصل الأمر أن تتحول إحدى الجامعات العراقية إلى مؤسسة يمنع فيها نفوذ أهل السنة حتى وفق الإطار المهني الصرف. لقد فرضت إدارات الوزارات في حكومتي (علاوي، والجعفري) استحصال موافقة الأحزاب والقوى المشكلة للحكومة عند التعيينات تحت مسمى (التزكية) أو (التوصية) على أن المتقدم للوظيفة هو من المفصولين السياسيين أو المتضررين من النظام السابق، أي أن المواطن الذي لم يتضرر شخصياً من النظام السابق، أو لم يستطع أن يثبت ذلك الضرر لا يحق له التقديم للتوظيف؛ لأنه لن يستطيع استحصال تزكية أو توصية من الأحزاب والقوى التي كانت (تعارض) النظام السابق ممن استقرت في السلطة الجديدة! وهذا حال معظم أهل السنة في العراق، وخاصة أن الأحزاب والقوى المحسوبة على أهل السنة، والتي دخلت العملية السياسية في ظل الاحتلال، قد أخفقت في إثبات معارضتها للنظام السابق وتضررها منه، فضلاً عن أن تزكياتها وتوصياتها لنيل الوظائف كان مردودها عكسياً.
ب ـ محور الخدمات العامة:
سنطرح فيما يلي فرضية، وسنثبت صحتها سريعاً إن شاء الله.
إن جدية المحاولات للسيطرة على الوزارات ذات الطابع الخدمي، والتي بذلت سلطة الاحتلال جهوداً استثنائية لتأهيلها وتشغيلها، كان لها هدف أساس؛ هو فتح الباب أمام الوزراء المنتمين إلى أحزاب وقوى معينة لاستغلال وجودهم في وزارات كهذه؛ لملء جيوبهم، وخزانات أحزابهم قبل حلول موعد الانتخابات (البرلمانية) اللاحقة؛ فقد أبرمت سلطة الاحتلال، وتحت ظلها مجلس الحكم الانتقالي ومن بعده حكومتا (علاوي، والجعفري) الكثير من العقود الحقيقية غير القابلة للتنفيذ، أو العقود الوهمية بمليارات الدولارات تحت مسميات مشاريع ضخمة، ومن أبرزها: تجهيز مواد الحصة التموينية لصالح وزارة التجارة، تأهيل مطار بغداد وموانئ البصرة وإعادة تطويرها، بناء مطار النجف الدولي لصالح وزارة النقل، تشغيل شبكات الهاتف النقال تحت إشراف وزارة الاتصالات، إعادة تأهيل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي وتأثيثها، تجهيز وزارتي الدفاع والداخلية، وتأهيل قطاع الكهرباء، وهذه القطاعات تضمنت إنفاق مليارات الدولارات دون أن يتمكن المواطن العراقي من رؤية أي من نتائج هذه العقود والمشاريع على أرض الواقع، والحجة القائمة الدائمة هي (الإرهاب) ، ولا أدري هل إبرام هذه العقود والمشاريع يتم دون استشارة متخصصين، يمكنهم القول بعدم جدوى إبرام هكذا عقود ومشاريع في ظل حالة من عدم الاستقرار، واتساع دائرة (الإرهاب) في بلد كالعراق؟! وللقارئ مقارنة واقع حال هذه القطاعات مع حجم الأموال المنفقة. بينما لم تشهد وزارات أخرى أعطيت لوزراء من أهل السنة مشاريع كهذه أو إنفاقاً كهذا، مثل: وزارات: التخطيط والتعاون الإنمائي، والصناعة والمعادن، والعلوم والتكنولوجيا، والبيئة، والعدل، مع ضرورة الإشارة إلى أن الوزارات ذات الطابع الخدمي المباشر مثل: البلديات والأشغال العامة، والصحة، والموارد المائية، والإسكان والإعمار تدار من قبل حكومة إقليم كردستان في المنطقة الشمالية، وتديرها قوى الحكومة وأحزابها في المنطقة الجنوبية، بينما لم تشهد أي تقدم يذكر لصالح المواطن العراقي في مناطق أهل السنة؛ بسبب (الإرهاب) طبعاً!
وبعد أكثر من ثلاث سنوات من الاحتلال، ساء واقع خدمات الكهرباء، والماء، والطرق والجسور، والري والزراعة، والإسكان في مناطق أهل السنة، بينما انعدم الإعمار، وماتت حقوق الإنسان، وأصبحت هذه المناطق ميداناً عملياً لوزارة المهجّرين والمهاجرين. وفي ظل حكومة المالكي، شهدت مناطق أهل السنة منع وصول الحصص التموينية ـ وهي حصة شهرية لمواد غذائية أقرها قانون مجلس الأمن (النفط مقابل الغذاء) وتعتمد عليهم الأسرة العراقية حتى الآن ـ وغالبية رواتب موظفي الدولة وتجهيزات المدارس، وفي الوقت نفسه تصرح وسائل الإعلام الأرضية والفضائية أن إقليم كردستان العراق يشهد ازدهاراً وتقدماً، وأن المواطن العراقي فيه يعيش حالة من الرفاهية، بينما تشهد محافظات الجنوب تنامياً ملحوظاً وازدهاراً متوقعاً، وإن المواطن ينعم بالأمن والاستقرار! ولو تابعنا الأخبار الاقتصادية للعراق يومياً فسنشهد المشاريع تلو المشاريع في مدن الجنوب، بينما لا ذكر لمدن أهل السنة في الأخبار الاقتصادية قط.
ج ـ محور الخدمات الصحية:
لم نكن لنتمكن من الاطلاع على واقع الخدمات الصحية في محافظات العراق الشمالية والجنوبية لولا ما تعرضه القنوات الأرضية والفضائيات العراقية؛ وخاصة العراقية، والحرية، والديار، والفرات، وبلادي، والفيحاء، وآشور، وعشتار، من خلال التقارير والتحقيقات التي تتناول أداء المستشفيات والمؤسسات والمستوصفات والمراكز والمختبرات الصحية وكيف أنها في تقدم ملحوظ ومضطرد. أما واقع الخدمات الصحية في محافظات الوسط، وخاصة المنطقة السنية، فإننا على تماس معها تقريباً. لقد افتقرت المستشفيات والمستوصفات في مناطق أهل السنة إلى التجهيزات العلاجية والدوائية بعد أن أصبحت وزارة الصحة حكراً لتيار محدد من القوى المشاركة في الحكومة (التيار الصدري) ، حتى وصل الأمر إلى تهديد وكيل وزير الصحة (وهو من أهل السنة) لترك منصبه، وقد ترك منصبه وغادر العراق فعلاً، كما جرى اختطاف مدير عام صحة ديالى (وهو من أهل السنة) داخل أروقة وزارة الصحة. كما أصبحت مستشفيات بغداد الرئيسية محظورة على أبناء أهل السنة إلا من دخول ثلاجات الطب العدلي؛ لاستلام جثث أبنائهم الذين تغتالهم أجهزة الحكومة والميليشيات المسلحة! كما تعطلت حملات تلقيح الأطفال ومكافحة الأوبئة والأمراض، وخاصة في ظل حادثة انتشار وباء إنفلونزا الطيور أواخر العام الماضي، ناهيك عمّا سببته الحملات العسكرية المتلاحقة على مناطق أهل السنة من كوارث صحية، نتيجة القتل المفرط وترك الجثث لتتفسخ على أرض المعركة، ولعل ما جرى في (سامراء، وتلعفر، وبيجي، والرمادي، وبعقوبة) يشهد على ذلك. ولدينا شريط وثائقي عن الكارثة الصحية التي حلت في مدينة الفلوجة بعد المعركة الثانية التي خاضتها قوات الاحتلال والحرس الحكومي في المدينة في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2004م. لقد تناول الإعلام العربي والعالمي ما جرى في الفلوجة بشكل مستفيض؛ إذ أدى انتشار الجثث المتفسخة وانعدام الخدمات الصحية لأسابيع، بعد انتهاء العمليات العسكرية، إلى واقع صحي قاسٍ لأبناء المدينة، مع ضرورة التأكيد أن قوات الاحتلال قد استخدمت أسلحة محظورة كالفسفور الأبيض في معاركها في مناطق أهل السنة؛ مما أسفر عن تفشي حالات مرضية داخل الوحدات المجتمعية في تلك المناطق، بينما تلجأ في عملياتها العسكرية ضد بعض رموز ميليشيا جيش المهدي في مدينة الثورة (الصدر) غالباً إلى عمليات الاغتيال عبر قصف الطائرات لسياراتهم أو بعض منازلهم، مع كامل الحيطة والحذر من المساس بالمدنيين في تلك المناطق.
د ـ محور الحالات الإنسانية:
تمخضت العمليات العسكرية لقوات الاحتلال في مدن أهل السنة وعمليات الاغتيال والتصفية الجسدية، التي قامت بها قوات الحكومة والميليشيات الطائفية المسلحة، عن واقع إنساني مأساوي؛ تمثل في فقدان كثير من العوائل لمعيليها، وتشريد الكثير منها بسبب التهجير القسري، مما أحدث تغيرات كبيرة في الواقع السكاني لمدن أهل السنة التي استقبلت العوائل المهجرة، وترتب على ذلك حالات إنسانية غاية في السوء؛ بسبب نقص المواد الغذائية والصحية، والوحدات السكنية، وحالة الشلل التام في الحركة الاقتصادية والعمالة والموارد المالية، خاصة في ظل الخطط الأمنية غير المجدية التي نفذتها وتنفذها هذه القوات والميليشيات، حتى لم تعد المساعدات والتبرعات التي قدمتها، وتقدمها الجمعيات الخيرية والإنسانية وجمعيات الإغاثة، كافيةً أمام حجم المأساة التي تشهدها مناطق أهل السنة.
هـ ـ معاناة أئمة المساجد وخطبائها وروادها:
يجب الإشارة إلى أن معاناة الأئمة والخطباء من أهل السنة في ظل واقع استثنائي للغاية في العراق قد بلغت ذروتها؛ بسبب ما تمخضت عنه تجربة الاحتلال وما تبعها من إفرازات. تمثل معاناة أئمة مساجد أهل السنة وجوامعها، ومعاناة خطبائها، محوراً يتداخل في الجوانب الأمنية والخدمية؛ إذ عانى الأئمة والخطباء في مدينة بغداد ومحافظات الجنوب من التصفية الجسدية والاغتيال غدراً، أثناء الهجمات المسلحة لقوات الاحتلال وقوات الحكومة والميليشيات الطائفية المسلحة على مساجد أهل السنة وجوامعها، رغم عظم الدور الذي اضطلعوا به ـ وما زالوا ـ تجاه المجتمع من ناحية الفتوى والعمل الشرعي، وكذلك من ناحية النصح والتوجيه والإرشاد فيما يخص تقديم الخدمات للمواطنين من: توفير المحروقات، ومواد الإغاثة، والمساعدات، ناهيك عن دور الأئمة والخطباء في مناطق أهل السنة التي استقبلت العوائل المهجرة من مناطق أخرى في إحصاء هذه العوائل وإسكانها وإغاثتها.
بل قد اعتادت وسائل الاعلام الحكومية، بتأييد من وسائل إعلام دول الاحتلال وبعض دول الجوار، اتهام أئمة المساجد والمصلين فيها باتخاذها منطلقات لعمليات إرهابية ضد مدنيين، أو إظهار بعض أئمة المساجد، من الذين تشهد لهم مدن العراق بصلاحهم وورعهم وتقواهم، وهم يقرون بكل ما من شأنه النيل من عقيدة أهل السنة ودينهم، أو بالإقرارعنوة بسفاهات أخلاقية يندى لها الجبين، بل إن حكومات الاحتلال الطائفية تتباهى باقتحام المساجد وإهانة أهلها، وشتم رموز أهل السنة الدينية وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوجاته أمهات المؤمنين. وكثيراً ما تم تعليق صور مراجع الشيعة داخل مساجد أهل السنة من قبل قوات الأمن الحكومية؛ بل تم بناء حسينيات تابعة لتيارات طائفية متشددة مدعومة بميليشياتها جنباً إلى جنب لمساجد أهل السنة في المناطق مختلطة السكان من المذهبين؛ للتضييق عليهم، ومنعهم وصدهم عن سبيل الله.
وبعد حرق المساجد بعد أحداث سامراء وما تبعها خلت أغلب مساجد بغداد من أهلها، وهُجّر الكثير منها تماماً، وقلمّا يجد رواد صلاة الجمعة في مدينة بغداد خطيب المسجد الراتب ليخطب بهم؛ بل اعتادوا أن يعتلي المنبر من فيه جرأة من المصلين، بعد أن قُتل إمام المسجد وخطيبه، وربما قتل عدة أئمة وخطباء في المسجد الواحد تباعاً، ولازال العشرات من أئمة المساجد في سجون الاحتلال، وأضعاف عددهم في سجون الحكومة ومعتقلات الميليشيات.
بينما تم اقتناص المصلين في بعض مناطق بغداد الواحد تلو الآخر ليلاً عند صلاة الفجر أو العشاء، أو نهاراً علناً وعلى مرآى ومسمع من الناس، أو تم اختطافهم والتمثيل بهم أبشع تمثيل وأشنعه، أو اعتقالهم رسمياً ومن ثم تسليمهم لمعتقلات الميليشيات للعبث بهم قبل تصفيتهم، أو توجيه التهم الملفقة لهم ومحاكمتهم وسجنهم بتهم مخلة بالشرف والدين، وتشويه سمعتهم عبر وسائل الإعلام والملصقات في الشوارع والأماكن العامة.
إضافة إلى صعوبة تسلم بعض أئمة المساجد وخطبائها مرتباتهم من وزارة الأوقاف ومديرياتها؛ بسبب السيطرة التامة للميليشيات عليها، وخطورة الدخول والخروج منها وإليها بالنسبة لأهل السنة؛ مما قطع علاقة الكثير من أئمة المساجد بعملهم لاستحالة التواصل بينهم وبين وزارتهم؛ كل تلك الأسباب أدت إلى تدهور كبير في واحدة من أهم الخدمات في دولة (98%) من سكانها مسلمون.
إن هذه الحرب الطائفية الخبيثة التي يتعرض لها أهل السنة من قبل قوات الاحتلال والحكومات الشيعية المتعاقبة وميليشياتها أدت إلى تدهور أحوال أهل السنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخلفت آثاراً سلبية صحية ونفسية لا حدود لها، وليس هناك أي إحصاءات رسمية أو غير رسمية لضحايا التعذيب والمعوقين أو المصابين بعاهات من جرائه، ويمكن تصور الكارثة الاجتماعية للأعداد المهولة من الأرامل والأيتام، فضلاً عن أحوال المهجرين، والفقر المدقع الذي تعج به مدن أهل السنة، بعد أن ازدحمت عليهم بالمهجرين القادمين من كل أنحاء العراق، خاصة مع انعدام الخدمات أو نقصها بشدة في مناطقهم، ومنع وصول الحصة التموينية الغذائية إليهم، وانقطاعهم عن التحاكم إلى القضاء العراقي، أو اللجوء إلى مراكز الشرطة؛ بل انقطاعهم عن كل دوائر الدولة بما في ذلك المستشفيات، أو الحصول على جثث أبنائهم المغدورين من مستشفى الطب العدلي؛ خشية الوقوع بين يدي عصابات الموت الطائفية التي تتمثل بقوات الجيش والشرطة والأمن ...
ولا حول ولا قوة إلا بالله.(233/14)
الصومال لا بواكي له!
عمرو توفيق
يتعرَّض الشعب الصومالي المسلم لحرب إقليمية ودولية شعواء تهدف للقضاء على بذور اليقظة الإسلامية التي أعادت الأمن والاستقرار، وعلى الرغم من ذلك لا نكاد نسمع للدول الإسلامية والعربية همساً ولا ركزاً، وكأن مَنْ في الصومال ليسوا مسلمين عن بكرة أبيهم، أو كأن الصومال لا يمثل امتداداً
استراتيجياً وثغراً متقدماً من ثغور هذه الأمة.
فوسط غفلة أو تغافل العالم العربي والإسلامي، اجتاحت القوات الصليبية الإثيوبية ـ بتحريض ودعم أمريكي وبمساندة مجرمي الحرب الصوماليين ـ الأراضيَ الصومالية، واحتلّت المدن الإستراتيجية الواحدة تلو الأخرى؛ بهدف القضاء على قوات المحاكم الإسلامية التي بدأت في إعادة الأمن والاستقرار إلى الصومال الجريح، ومن ثَم إعادة الفوضى وتنصيب حكومة عميلة لتحقيق المصالح والأهداف الأمريكية.
- أرض الصومال.. تحترق:
عندما سقط نظام (سياد بري) عام 1991م، وانتظر فرقاء الانقلاب أن يُتّوج كل منهم زعيماً.. اندلعت شرارة الحرب الأهلية، وظهر أمراء الحرب وتجّار السلاح الذين تحولوا إلى مجرمي حرب، وفي ظل نيران العصبية والقبلية والدعوات الجاهلية ـ التي أهلكت الحرث والنسل ـ وفي ظل رغبة خارجية في فوضى مسلمي الصومال وتناحرهم، وفي ظل رغبة إثيوبية في صومال ضعيف لا يطالب بحقه، ظل الجرح الصومالي ينزف دونما التئام، ودونما بواكي ترثي صومالاً إسلامياً عربياً. لكن رحمة الله تداركت هذا الشعب المسلم، فقيَّض لهم ـ سبحانه وتعالى ـ من عباده المخلصين ممن يحملون همَّ أمتهم ومجتمعهم دونما مصالح وأهواء، لينتشلوا هذا البلد الجريح من الفوضى والخراب والدمار والدعوات القبلية المنتنة، ومن مستنقع الجهل والفقر والمرض، ليخرجوه إلى نور شرائع الإسلام.. هؤلاء هم الثّلة الوضيئة المتوضئة رجالاتُ اتحاد المحاكم الإسلامية.
- المحاكم الإسلامية.. على طريق الأوائل:
لقد نشأ اتحاد المحاكم الإسلامية من رحم المعاناة الصومالية، وهو ما يعبِّر عنه رئيس الاتحاد (الشيخ شريف أحمد) بقوله: «لقد برزت فكرة تأسيس المحاكم الشرعية عندما كثرت الاغتيالات، وعمليات الاختطاف، وأعمال النهب والسلب بصورة واسعة النطاق في العاصمة على أيدي العصابات المجرمة، حيث اجتمع أهل كل حي لدراسة الموقف واتخاذ الإجراءات اللازمة حيال مواجهة عصابات المافيا، ووضع حدّ لممارساتهم التي تزعزع أمن المواطنين وترعبهم. وعلى هذا الأساس أُنشئت المحاكم الشرعية في معظم أحياء العاصمة الصومالية مقديشو؛ استجابة لرغبة الشعب في استتاب الأمن والاستقرار» .
وتتلخص فكرة تأسيس «المحاكم الإسلامية» في أن تتولى كل قبيلة مهام إرساء الأمن في منطقتها، عبر إنشاء محكمة على رأسها أحد العلماء، تساعده مجموعة من القوات العسكرية غير النظامية. وتضم المحاكم تشكيلة متنوعة من علماء الدين وقادة إسلاميين، ورجال الأعمال الذين يموّلون نشاطها، والسكان الرافضين للخضوع للمليشيات والعصابات.
ويرى المحللون أن شعبية المحاكم الإسلامية كانت لقدرتها على تجاوز العداوات العشائرية التي وقعت الصومال في خضمِّها منذ الإطاحة بنظام سياد بري، وذلك من خلال توحيد القبائل والعشائر تحت راية الإسلام القادر وحده على انتشال الصومال من مستنقع الاحتراب والاقتتال الداخلي.
وشهد عام 2000م نهاية للمحاكم إثر موافقتها على اتفاق السلام بين الفصائل المتناحرة بمدينة «عرته» الجيبوتية، وأسفر عن تشكيل حكومة صومالية، ومن ثم انتفت الأسباب التي دفعت لقيام المحاكم وهي انتشار الفوضى وانعدام الأمن.
لكن الأمور عادت من جديد إلى الفوضى والاقتتال الداخلي في ظل حكومة ضعيفة يقودها أمراء حرب يعملون لمصالحهم بعيداً عن هموم الشعب. إثر ذلك أُسِّسَ «المجلس الأعلى لاتحاد المحاكم الإسلامية» في مقديشو، برئاسة (الشيخ شريف شيخ أحمد) ، فطاردت العصابات الإجرامية في العاصمة، وقامت بتطبيق أحكام الشرعية وتنفيذ الحدود، مما أدّى إلى عودة الأمن والاستقرار إلى مقديشو.
في هذه الأثناء شكّل أمراء الحرب ـ بدعم إثيوبي أمريكي ـ ما يُسمّى بـ «تحالف إعادة السلام ومكافحة الإرهاب» بهدف التصدّي لقوات المحاكم الإسلامية، حيث تقاطعت مصالحهم في القضاء على بذور اليقظة الإسلامية. إلا أن قوات المحاكم بتوفيق من الله ـ سبحانه وتعالى ـ ثم بدعم الشعب الصومالي؛ استطاعت دحر أمراء الحرب عن مقديشو، ثم واصلت تطهير المدن من فلول مجرمي الحرب، حتى توقفت عند مدينة «بيدوا» مقر الحكومة المؤقتة ورفضت اقتحامها، لتفتح ذراعيها أمام المصالحة، ووافقت على التفاوض مع الحكومة الضعيفة بشأن مستقبل البلاد.
وبالفعل دخل الطرفان مفاوضات في الخرطوم بوساطة جامعة الدول العربية، واتفقا في 4/9/2006م على وقف إطلاق النار، وتشكيل قوات مشتركة، بالإضافة إلى تجنُّب الاستعانة بقوات أجنبية في إشارة إلى إثيوبية، لكن يبدو أن الحكومة الموالية لإثيوبية كانت تدخل المفاوضات بهدف إضاعة الوقت حتى يتسنّى لإثيوبية الاستعداد الجيد للغزو.
- إثيوبية.. الصليب والأوجادين والسواحل:
لم يكن الغزو الإثيوبي مفاجئاً لمتابعي الشأن الصومالي، فهو ثمرة لميراث من الحقد الصليبي والصراع الحدودي والطمع في السواحل الصومالية.
بدأ الصراع العقدي مبكراً بين البلدين، حيث كانت التربة الصومالية أكثر تأّثراً بنور الإسلام، خاصة في منطقة الأوجادين، التي أقام بها بنو مخزوم إمارة «شوا» الإسلامية في القرن الثالث الهجري، واستمرت حتى القرن السابع الهجري، وبعد سقوطها قامت نحو سبع إمارات إسلامية شنّت الحبشة عليها حروباً واسعة، وكان النصر للمسلمين خاصة في عهد الإمام (أحمد بن إباهيم) ، لكن كما هي العادة دائماً، فقد استنجدت الحبشة بنصارى الغرب، مما دفع بالقوات البرتغالية لدخول المعركة وهزيمة المسلمين عام 950 هـ، إلا أن الخلافة العثمانية تدخلت وقلبت موازين المعركة لصالح المسلمين. وبنفس السيناريو تدخلت مصر لنجدة المسلمين وحققت انتصارات كبيرة عام 1292هـ، إلا أن النجدة الصليبية جاءت هذه المرة على يد بريطانيا.
ذكر أحد كبار موظفي مكتب الشؤون الإفريقية في الخارجية الأمريكية أهمية إثيوبية بالنسبة لواشنطن، لأسبابٍ كثيرة وعلى رأسها «ميراثها النصراني الذي يمكن أن يكون عائقاً أمام مدّ الحركات الإسلامية» (1) ، كما ذكر تقرير فرنسي أن الغرب ينظر إلى إثيوبية وإريترية باعتبارهما حصناً منيعاً أمام الزحف الإسلامي في القرن الإفريقي (2) .
- تحقيق الأهداف الأمريكية:
إضافة إلى كل ما سبق وعطفاً على البُعْد العقدي في الصراع، فإن إثيوبية تعتبر الرجل المخلص للغرب ولأمريكا بشكل خاص في المنطقة، فهي لا تستطيع البقاء في المنطقة دون مساعدة غربية قديماً وحديثاً، وباعتبارها تمثِّل الصليب في هذه المنطقة فهي دائماً تحتمي برعاة الصليب، بداية بالبرتغال ثم بريطانيا، ولما تقدمت أمريكا مؤخراً لتحمل راية الصليب أسرعت إثيوبية لتقديم الولاء والخضوع، لذا احتلت الصومال لتحقيق أهداف ومطامع خاصة، بالإضافة إلى مصالح وأهداف غربية أمريكية.
- مصائب المسلمين.. أمريكا دائماً:
لا يمكن استيعاب المصلحة الأمريكية في القضاء على المحاكم الإسلامية إلا باستيعاب الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع الدول الإسلامية. لقد أدركت الدراسات الاستراتيجية الأمريكية أن الحلم الإمبراطوري لا تزال أمامه عقبة منيعة، تحمل في طيّاتها منافساً حقيقياً ليس قادراً فقط على عرقلة الحلم الإمبراطوري، بل استيعابه وصهره، ولن يكون بوسع أمريكا أو غيرها الوقوف في وجهه، ولم يكن هذا المنافس سوى الإسلام.
لذلك اتجهت أمريكا بكامل طاقتها نحو الإسلام هدماً وتخريباً وتفريغاً من أصالته وخصائصه القادرة على منافسة الحلم الأمريكي. وكما أدركت واشنطن أن خطر الإسلام يكمن في ذاته وسِمَاته، فإنه يكمن ـ أيضاً ـ في من يجعلونه منهجاً ونظاماً للحياة ويحملونه إلى كافة أرجاء العالم، أي: في أبناء الصحوة الإسلامية، لذلك انطلقت حملات التحريض والتشويه على المستوى الفكري والسياسي، فيما كانت القوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة تعمل لوَأْد أي بصيص من النور تحمله طلائع الإيمان في أي بقعة من العالم.
وفي تفاصيل هذه المصالح الأمريكية، يمكن رصد الرغبة في السيطرة على القرن الإفريقي بما يمثله من موقع استراتيجي حيوي جنوب العالم الإسلامي، وهنا تبرز أهمية الصومال بما يملكه من سواحل بالغة الأهمية الاستراتيجية، حيث تطل على بوابة البحر الأحمر والمحيط الهندي، حيث التحكم في طريق التجارة العالمي، خاصة تجارة النفط، كما أنها تُعدّ ممراً مهماً لأيِّ تحرّكات عسكرية قادمة باتجاه منطقة الخليج العربي الغنية ببذور الصحوة الإسلامية كغناها بالنفط.
كما تتمثل المصالح الأمريكية في شدِّ أطراف العالم الإسلامي ومحاصرته داخل نطاقه وعدم تمدّده، بالإضافة إلى احتلال الأطراف الاستراتيجية للعالم الإسلامي استعداداً لأيِّ مواجهة مستقبلية. بالإضافة إلى المزيد من التهديد للسودان، والتحكم في مياه النيل بما يزيد من الضغوط على مصر، ويهدد شريان حياتها إذا وصلت أي قوة إسلامية للحكم هناك.
في الصومال جاء الخوف الأمريكي على المستوى الأول بسبب اليقظة الإسلامية هناك، حيث «لحق تغيير كبير بأخلاقيات المجتمع الصومالي؛ فلقد كان يميل إلى العلمانية بعض الشيء، أما اليوم فأصبحت الملابس التقليدية الإسلامية تحل محل الملابس والعادات الغربية، والسبب أن الصوماليين التفتوا نحو الخليج، وأصبح النفوذ والتأثير لجماعات المتدينين» (3) (*) .
- ملخص القضية الصومالية:
يرى الدكتور (هاني رسلان) رئيس تحرير ملف الأهرام الاستراتيجي والمتخصص في الشأن الإفريقي:
أن ما يحدث في الصومال هو جزء من حالة الغياب والضعف والوهن العربي كما هو ظاهر في العراق وفلسطين، فهو جزء من حالة الضعف العام، حيث لا رؤية استراتيجية موحدة، ولا نظاماً إقليمياً قادراً على تحديد مصالحه بدقّة والوقوف خلفها.
لذلك يطالب الدول العربية والإسلامية بعدم ترك الصومال للهيمنة والاحتلال الإثيوبي، وذلك بدعم استراتيجية تسعى لتوحيد أراضي الصومال لمصلحة الصوماليين، وليس بغرض فرض اتجاه أيديولوجي أو سياسي معين. ويرى أنه كان من الممكن القيام بهذا الدور عن طريق دعم المحاكم الإسلامية التي كانت تستثمر الرؤية الإسلامية لتوحيد القبائل؛ لأن الإسلام هو الوحيد القادر على اجتذاب ولاء أعلى من الولاء القبلي أو المناطقي. فكانت فرصة ضائعة على العالم العربي والإسلامي لإعادة توحيد الصومال وإقامة مؤسسات الحكم والدولة فيه مرة أخرى.
وحول الدور الإثيوبي الأمريكي في الصومال، يقول الدكتور (رسلان) :
إن إثيوبية لا ترغب في قيام دولة موحدة مرة أخرى في الصومال؛ لأن هذا يمثِّل خطراً عليها من ناحية التماسك الداخلي، فهي تتكون من عدة قوميات وتسيطر أقلية على الحكم مما يثير القوميات الأخرى. من الناحية الأخرى، فهي تسيطر على إقليم الأوجادين الصومالي والذي لم يعترف الصوماليون بتبعيته لإثيوبية منذ استقلال الصومال عام 1960م حتى الآن، ومن ثم فإن قيام دولة موحدة تحت قيادة المحاكم سوف يؤدي إلى إثارة هذه المطالب مرة أخرى، سواء في الأوجادين أو في الأراضي الصومالية التي تحتلها كينيا في الوقت الحالي، بالإضافة إلى أن قيام دولة موحدة صومالية تحت اتجاهات إسلامية، سوف يؤدي إلى إثارة الأقلية المسلمة كبيرة العدد في إثيوبية والتي ترى أنها مهضومة في حقوقها السياسة والاقتصادية في الوقت الحالي، فضلاً عن طمعها في السيطرة على سواحل البحر الأحمر.
ولقد حاولت أمريكا من قبل أن تقضي على المحاكم عبر دعمها لتحالف أمراء الحرب، لكنهم فشلوا في مواجهة المحاكم التي حظيت بشرعية كبيرة واستطاعت فرض السيطرة على مساحة كبيرة من الصومال، لذلك لجأت إلى إعطاء الضوء الأخضر لإثيوبيا للقيام بهذه المهمة، خاصة أن هناك توافقاً في المصالح، حيث لإثيوبية مصالحها الاستراتيجية الخاصة في هذا الإطار. ومن ثم أخذت الحالة الصومالية تراوح في مكانها طوال الأشهر الماضية، حتى أتمت إثيوبية استعداداتها العسكرية، وقامت بهذا الهجوم واسع النطاق.
لكن ما حدث يمثل مصلحة سلبية لأمريكا وليست إيجابية، فما حدث قد منع خطر قيام نظام إسلامي في الصومال، لكنه سيأتي بالحكومة المؤقتة، وهي ليست الحليف القوي الذي يمكن لواشنطن الاعتماد عليه في تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية بعيدة المدى.
وحول مستقبل القضية الصومالية، يرى الدكتور (رسلان) أن الاحتلال الإثيوبي لن ينهي الأزمة، حيث ستتحول المحاكم الإسلامية لحرب العصابات، ومن ثم سيصعب على الإثيوبيين فرض الاستقرار عبر الحكومة المؤقتة التي سوف تحتاج إلى دعم ثابت ومستمر.
بالإضافة إلى أن الأطراف صاحبة المصلحة في مناوأة الإثيوبيين لن تكفَّ عن إزعاجهم في الفترة المقبلة عبر دعم حرب العصابات في المنطقة، فضلاً عن مشاكل إثيوبية الداخلية والاقتصادية، فإن لم يكن لديها دعم قوي فلن تستطيع الصمود والسيطرة على الأوضاع.
من جهته يقول الأستاذ (طلعت رميح) رئيس تحرير مجلة (استراتيجيات) والخبير في الشؤون الإفريقية:
إن هناك عدة نقاط رئيسة عند الحديث عما يجري في الصومال الآن:
أولاً: إن الفكرة الجوهرية فيما يحدث الآن في الصومال ليس العمل العسكري في حدِّ ذاته، إنما الوضع الإسلامي والعربي الذي سمح لإثيوبية بممارسة الفعل العسكري دون مواجهة حقيقية حتى على المستوى السياسي. وهذا الغياب الإسلامي العربي يمكن فهمه من خلال الحالة العراقية والأفغانية، فهذا يشير إلى أن الموقف على المستوى الرسمي يتعاطى مع مصالح الدولة القطرية الجزئية، التي لا تضع بالأساس مصالح الأمن، وإنما تبحث في أفضل الحالات عن مصالح الدولة نفسها، وفي الأغلب الأعم عن مصالح نظم الحكم في استمرار السيطرة على مقدرات شعوبها. ولقد كانت المصلحة الإسلامية والعربية تقضي استقرار الصومال، فكان من مصلحتها الاستراتيجية والسياسية استقرار المنطقة بوجود دولة مركزية قوية بقيادة إسلامية، لكن الإشكالية من يسمع ومن يعمل من أجل ذلك.
ثانياً: كان بادياً أن القرار الأمريكي والإثيوبي ومن أطراف أخرى هو جرُّ السلطة الإسلامية الجديدة في الصومال إلى معركة مبكرة قبل أن تتمكن من تثبيت أوضاعها الداخلية.
ثالثاً: كان السبب في التفكير بالمواجهة العسكرية السريعة هو ظهور الوجود الإسلامي على المستوى السياسي وتحوّله إلى حالة سلطة لقيت استجابة كبيرة جداً من الشعب الصومالي، حيث تمكنت المحاكم الإسلامية من إعادة بناء مؤسسات دولة جنينية تحقق حالة من الوحدة المركزية، وكان لذلك تداعيات وما زالت على الإقليم المحيط، وذلك بسبب وجود نشاط إسلامي فاعل في كثير من الدول المحيطة بالصومال، لذلك كان التفكير بالمواجهة.
رابعاً: أعتقد أن الاندفاع الإثيوبي وإن كان وفق نظرية الحرب الاستباقية الأمريكية وبنفس الأسلوب الصهيوني في التعامل مع الحركات الإسلامية وكل التطورات في الوضع العربي، لكن يظل الفارق هنا الذي لم تفهمه إثيوبية جيداً أنها تواجه حركة إسلامية قادرة على أن تحدث حالة من تطوير الوعي والقدرة داخل الصومال، ومن شنِّ مواجهة جهادية واسعة المساحة الزمنية. وفي تقديري عندما تحدثت قيادة المحاكم عن تغيير الاستراتيجية كانت صادقة، ولنا أن نتذكر الدخول الأمريكي في أفغانستان والحالة الراهنة، حيث قامت حركة طالبان بانسحاب استراتيجي واسع لمصلحة التحول لحرب جهادية ضد الوجود العسكري. وهذا هو المأزق الذي ستعيشه إثيوبية في الفترة القادمة؛ لأنها إذا كانت بنَتْ خطتها على الهجوم السريع المباغت، فقد وقعت في محظور آخر، وهو أن طرفها الإسلامي لديه إمكانية التحول السريع إلى الحرب الجهادية.
خامساً: لا يوجد فصل دقيق بين اعتبار ما يحدث في الصومال حرباً أمريكية وبين اعتباره حرباً إثيوبية أو بين اعتباره حرباً ذات مصالح مشتركة؛ وذلك لأن السلطة في إثيوبية هي ليست سلطة متحالفة مع الولايات المتحدة، بل إن وجودها مرتبط بوجود أمريكا، فواشنطن تتبنّى منذ فترة في هذه المنطقة دعم ما يسمى «القادة الجدد» الذين ساهمت في وصولهم إلى السلطة ومنهم رئيس الوزراء الإثيوبي (ميلس زيناوي) .
- في الزمن الأمريكي.. الصومال لا بواكيَ له!
ورغم كل هذا، فإن تطور الأحداث في الصومال يشي باقتراب نهاية المشروع الأمريكي، فمن جهةٍ يتصاعد المدّ الإسلامي في بقاع العالم شتى، ومن ثم تتعقّد المهمة الأمريكية وتصبح مستحيلة.
كما أن استخدام واشنطن لإثيوبية في هذه الحرب يشير إلى مدى الإرهاق والخسائر الأمريكية جرّاء التدخل المباشر في أفغانستان والعراق، وأنها غير قادرة على خوض أكثر من حرب في وقت واحد بشكل مباشر، فضلاً عن المواجهة السياسية والإعلامية والفكرية، خاصة في ظل تصاعد قوى تناهض واشنطن في كافة أنحاء العالم وبشكل خاص في حديقتها الخلفية، حيث يتسارع صعود اليسار في أمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى محاولة روسيا العودة إلى مكانها على الخريطة الدولية، أضفْ إلى ذلك المارد الصيني القادم بقوة.
لذلك فإن الذي يثير الحزن في النفس ليس التكالب الصليبي على ديار الإسلام، فهذا مما يمكن تفهمه، لكن المحزن حقاً ألا نجد من المسلمين من ينهض لنصرة أخيه المظلوم.
ففي الوقت الذي تكالبت الأكلة على قصعتها من إثيوبية إلى أمريكا.. كلٌّ يريد مصالحه وأطماعه، لا نجد حراكاً للدول العربية والإسلامية، حتى من باب المصالح المهددة وليس من باب الواجب الشرعي!
وإذا كان الزمن الأمريكي يمنع هذه النصرة، فهل نعدم ـ أيضاً ـ من يبكي الصومال؟!
__________
(1) فصلية، ميدل إيست جورنال، خريف 1992م.
(2) ماري سوبيتل، صحيفة اللموند الفرنسية، إبريل 1993م.
(3) رونالد مارشال، مجلة الإكسبريس الفرنسية، الأهرام، عدد (42013) .
(*) للاستزادة انظر: عبد الرحمن بن عبد القادر الحفظي، الصومال.. أزمة الحكومة ومأساة شعب، مجلة البيان، العدد 176، ربيع الآخر 1423هـ ـ يوليو 2003م.(233/15)
انهيار الولايات المتحدة الأمريكية (قراءة للوضع الاقتصادي)
علي حسين باكير
ظهرت مؤخراً العديد من الكتابات والدراسات التي تتحدّث عن انهيار الولايات المتّحدة بشكل عام؛ ولكنّ من تحدّثت منها في صلب الموضوع كان قليلاً جداً، ومن عالج المسألة بشكل مباشر كان أقل. فكثير هم من يخلطون بين أمانيهم بضرورة انهيار الولايات المتّحدة والواقع، ويبثّون آراءهم هذه في كل محنة أو مشكلة تقع فيها أمريكا. وأكثر منهم الآخرون الذين يمجدون أمريكا ويُنزّهونها عن كل نقيصة أو ضعف؛ بل وينسبون لها قوة ليست فيها، وينزلونها منزلة أكبر من مكانتها، فلا يرون إمكانية لانهيارها لا حالياً ولا لاحقاً.
من وجهة نظرنا، فإنّ أي دراسة لقوّة أي أمّة أو دولة إنّما يجب أن يتم من وجهة نظرنا من خلال رصد المثلث: الاقتصادي، العسكري، والاجتماعي لها. هذا المثلث يعطينا فكرة واضحة عن موقع الدولة في ميزان القوّة والضعف، وعن كونها فتيّة وقادرة على زيادة قوّتها أم هرمة وضعيفة، وفي مرحلة الانهيار أم في مرحلة الوسط بين المرحلتين. مع العلم أن مرحلة الوسط هذه تكون في المقياس الذروة التي تصل إليها الدولة في قوّتها؛ وهي نقطة القمّة، وبعدها تأخذ قوّة الدولة في الانحدار نزولاً.
ولأنه من الصعب رصد العناصر الثلاثة التي تحدّثنا عنها أعلاه في مقال واحد، فإننا سنناقش الوضع الاقتصادي المالي ومسألة الديون في هذا المقال. وسنحاول قدر المستطاع اختصار الفكرة وعرضها بطريقة مقتضبة في هذا التحليل.
- الدَّين العام الفيدرالي والكلي:
تشير بعض التقارير والمصادر إلى أن الدين الأمريكي الكليّ الإجمالي يقترب من 65 تريليون دولار أمريكي. أما بالنسبة إلى الدين العام الفيدرالي، فقد ارتفع خلال الثمانينيات بشكل كبير؛ وذلك بسبب العجز المتواصل في الموازنات السنوية الفيدرالية، وقد تباطأ هذا الارتفاع في العجز بشكل دراماتيكي في التسعينيات لدرجة أنّ معدل ارتفاع الدين قد بدأ بالانخفاض فعلاً نهاية ذلك العقد بعد الإنجاز التاريخي للرئيس الأمريكي (بل كلينتون) والذي لم يحققه أي رئيس للولايات المتّحدة الأمريكية؛ والمتمثّل بتوفير فائض مالي في الموازنة الأمريكية بلغ 236 مليار دولار في العام 2000م، والذي كان عجزاً عند استلامه للحكم في عام 1992م بواقع 290 مليار دولار.
ثمّ ما لبث أن ارتفع الدين العام الفيدرالي بشكل كبير جداً منذ العام 2001م؛ وذلك بسبب العجز الكبير في الموازنات السنوية الفيدرالية الجديدة. فقد حوّل بوش الابن الفائض المالي في الموازنة الفيدرالية إلى عجز هائل وقياسي أيضاً بلغ 412 مليار دولار العام 2004م. فيما توقع مساعد مدير مكتب الموازنة في البيت الأبيض (جويل كابلان) أن تسجل ميزانية البلاد عجزاً للعام 2006م يتجاوز 400 مليار دولار، ويشكل هذا العجز نسبة 301% من الناتج القومي للولايات المتحدة.
وقد بلغ دين أمريكا الفيدرالي في السنة المالية 2005م (تبدأ السنة المالية في الولايات المتّحدة من 1/تشرين أوّل إلى 30/أيلول) وفقاً لأرقام وزارة الخزانة أو المالية الأمريكية Dep. Of Treasury 7.9 تريليون دولار.
وقد ازداد الدين العام الفيدرالي منذ 11 أيلول 2001م وحتى أيلول 2005م حوالي 2.3 تريليون دولار، وهو ما يساوي حوالي 29% من حجم الدين العام الفيدرالي الأمريكي منذ نشوئها حتى عام 2005م؛ والبالغ 7.9 تريليون دولار.
وفيما يتعلّق بالسنة المالية الحالية 2006م؛ فقد بلغ الدين العام الفيدرالي استناداً إلى U.S. National Debt Clock في 30/1/2006م ما قيمته 8 تريليون و 198 مليار دولار أمريكي، وهو بذلك يزيد منذ 30 أيلول 2005م بمعدّل 2.18 مليار دولار يومياً، والذي إذا قسّمناه على عدد سكّان الولايات المتّحدة البالغ 298.367.186 مليون نسمة، فإنّ حصّة كل واحد منهم من الدين تبلغ تقريباً 27.475 ألف دولار أمريكي.
أما إذا قارنّا هذا الدين العام بالنسبة للناتج المحلّي الإجمالي الأمريكي؛ فإننا سنلاحظ أنّه كان يساوي للعام 2004م نسبة 62.5% من الناتج المحلي الإجمالي. ووفقاً لتقرير (مايكل هودجيز) الاقتصادي فإنّ الفائدة على الدين العام الفيدرالي للعام المالي 2003م قد بلغت 41 مليون دولار في الساعة، وبذلك تكون الفائدة على الدين الفيدرالي قد ارتفعت من 214 مليار دولار في السنة في عام 1988م إلى 318 مليار دولار في العام 2003م.
وإذا ما حسبنا مجموع الفوائد خلال الـ 14 سنة هذه فإنّها ستبلغ 5 تريليون دولار، وهو ما يعني أنّها تساوي 71% من مجموع الدين العام الفيدرالي البالغ 7 تريليون دولار في العام 2003م. مع العلم أن هذه الفوائد ضخمة لدرجة أنّها كافية لإدارة الحكومة الفيدرالية لمدّة أكثر من سنتين دون الحصول على أي دخل مالي، أو أنها تكفي لإدارة الحكومات في الولايات لأكثر من 3 سنوات دون دخل، أو لتغطية الأمن الاجتماعي لمدة عشرة سنوات دون ضرائب، أو العناية الصحية لمدّة عشرين سنة.
أما من حيث تركيبة هذا الدين، فهو يقسم إلى قسمين:
أولاً: intragovernmental holdings- أي تلك التي تحتوي الصناديق الائتمانية الحكومية، مثل: خطط الراتب التقاعدي، والدين للأمن الاجتماعي، وغيرها. وتبلغ الآن حوالي 3.3 تريليون دولار.
ثانياً:debt held by public- أي الديون المملوكة من قبل العامة أو الجمهور وهي تبلغ حوالي 4.6 تريليون. ومصطلح العامة أو الجمهور هنا لا يعني فقط الأمريكيين أو المقيميين في أمريكا؛ بل الدول الخارجية أيضاً التي تمتلك 44% من هذا الدين لعام 2004م. وتأتي في مقدّمتهم اليابان حالياً بمبلغ 1.2 تريليون دولار لوحدها حتى آذار للعام 2005م، ومن ثمّ الصين بمبلغ 223.5 مليار دولار أمريكي.
- الميزان التجاري الأمريكي:
يعتبر الميزان التجاري عادة مؤشراً على قوة وقدرة البلاد الإنتاجية وعلى مدى وصولها إلى أسواق الآخرين، وهو ما يعطينا فكرة عن كون الدولة دائنة أم مدينة تجاه غيرها من الدول التي تصدّر إليها وتستورد منها، بشكل عام، سلعَ وخدمات.
وقد بدأ العجز في الميزان التجاري الأمريكي (سلع وخدمات) منذ العام 1971م. وقد بلغ وفقاً لـUS. Dep. Of Commerce في العام 2005م مبلغ 723.616 مليار دولار أمريكي وهو رقم قياسي جديد في العجز التجاري الأمريكي، وأسوأ بحوالي أكثر من 25% من العجز المحقق في العام 2004م.
فيما يتعلّق بالعجز التجاري في السلع، فقد بلغ 781.642 مليار دولار في العام 2005م. على الرغم من انخفاض قيمة الدولار في عهد بوش الابن والتي من شأنها أن تزيد الطلب على البضائع والسلع الأمريكية؛ وبالتالي من الصادرات الأمريكية إلى الخارج.
وفي حين كانت أمريكا واقعة في عجز تجاري في البضائع يبلغ حوالي 710 مليار دولار من أيار 2004م إلى أيار 2005م؛ كانت كل من اليابان وألمانيا تحققان فائضاً في هذا المجال في نفس الفترة يبلغ: (125) و (199) مليار دولار على التوالي.
أما بالنسبة إلى الصين القوّة العالمية المستقبلية؛ فقد استطاعت في العام 2001م وللمرّة الأولى تجاوز اليابان بتحقيقها الفجوة التجارية الأكبر مع الولايات المتّحدة الأمريكية. فقد ازدادت الفجوة ومعها العجز لصالح الصين بنسبة 95% في السنوات الثلاث اللاحقة لتبلغ 162 مليار دولار أي حوالي 26% من العجز التجاري الأمريكي للعام 2004م. وقد بلغت 201 مليار دولار في العام 2005م لصالح الصين.
بالنسبة إلى قيمة الدولار، قامت أمريكا؛ معالجةً الأزمة الاقتصادية، بتخفيض قيمة الدولار الذي فقد حوالي 35% من قيمته أمام اليورو منذ بداية عام 2002م وحوالي 17% مقابل سلة عملات واسعة بما فيها اليوان الصيني على أمل أن يساعد ذلك على تحريك عملية التصدير؛ للتخفيف من الركود الاقتصادي الداخلي، وتحقيق الانتعاش الاقتصادي، ولدفع المستثمرين إلى الاستثمار بالدولار الأمريكي، وللحد من الآثار السلبية لارتفاع أسعار النفط بشكل هائل.
إلا أن هذه السياسة في تخفيض العملة خطيرة جداً وحساسة ولا تنفع إلا في فترات قصيرة، وقد تؤدي إلى انفلات زمام التحكّم بالاقتصاد، وإلى انهيار قيمة العملة نهائياً، خاصّة في ظل وجود عملة بديلة تكمن في اليورو، وهو الأمر الذي لم يكن موجوداً إثر الأزمة الاقتصادية العالمية في الستينيات وأوائل السبعينيات، عندما هرع الجميع بمن فيهم الأوروبيون إلى دعم الدولار الأمريكي خوفاً من انهياره؛ وذلك لارتباط عملاتهم واحتياطيّاتهم به، ولكن في هذه المرّة إنْ حصل الانهيار الاقتصادي فلن تساعد الصُّدف الولايات المتحدة الأمريكية كما كانت تفعل من قبل، خاصّة في ظل التقارير الدوليّة التي تفيد أن أكثر من نصف البنوك المركزيّة العالميّة قد حوّلت بالفعل احتياطيّاتها من الدولار إلى اليورو.
- استنتاجات واقعية مخيفة وخطيرة:
لتوضيح ما ورد في المقال على من استعصت عليه الأرقام والجمل، نورد النقاط التالية كخلاصة:
أولاً: الولايات المتّحدة تستورد أكثر وتنتج أقل في مصانعها الداخلية، وهي تبيع ثروتها غير القابلة للاستبدال، ومصانعها المنتجة، وأصولها المالية الأخرى لتدفع ثمن المستوردات وخدمة الدين وما يتعلق به.
ثانياً: أمريكا تخسر الملكية؛ وبالتالي السيطرة الاقتصادية، خاصّة فيما يتعلّق بعجز الميزان التجاري. إذ تشير الأرقام الرسمية إلى أن أمريكا خسرت في السنوات العشر الأخيرة حوالي 3 تريليون دولار فقط في مسألة الميزان التجاري، و1.3 تريليون من هذه الأموال عادت إلى الولايات المتّحدة عبر الدول التي تمتلكها؛ ولكن هذه المرّة لشراء مصانع الإنتاج في أمريكا نفسها، وقد بلغت ما يزيد عن 8600 من أفضل الشركات الأمريكية وأكبرها في هذه الفترة نفسها.
ثالثاً: لا نمو إيجابي وبالتالي لا تسديد للديون. فعلى الرغم من أنّ التقارير تذكر أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي ينمو سنوياً بنسبة 4% منذ 10 سنوات، إلا أن هذه الأرقام لا تعكس الوضع الاقتصادي الصحيح، لا سيما إذا عرفنا أن حوالي 70% من هذه النسبة في النمو تذهب في شق النفقات الاستهلاكية، سواء عبر استيراد السلع الاستهلاكية أو إنتاج بعضها في الولايات المتّحدة عبر الشركات المملوكة من قبل الأجانب (25 إلى 80% منها تعود للأجانب!) ، وهو ما يعني بدوره أنّه كلما زاد الناتج المحلي الإجمالي وفق هذه الصيغة زاد العجز في الميزان التجاري، وبمعنى آخر فإنّه كلما نما الاقتصاد زاد الدين؛ لأنّ الناتج المحلي الإجمالي لا يتطرق إلى مسالة خسارة الأصول المالية التي تمتلكها أمريكا، أو عملية دفع الديون أو خدمتها، وغيرها من هذه الأمور.
وحتى لو كانت نسبة النمو هذه حقيقية فهي غير قادرة على تغطية ولو حتى جزء من الديون أمام تصاعد العجز التجاري بنسبة تقدّر بـ 25% سنوياً خلال العشر سنوات الأخيرة.
رابعاً: صحيح أن الدولار الأمريكي يحتل منذ حوالي 60 سنة موقع الريادة بين العملات العالمية موفراً للولايات المتحدة استيراد ما تشاء من أي بلد في العالم، وتسديد قيمته بعملتها الوطنية، وتمويل استثمارات محلية أكبر كثيراً من قدرة المجتمع الأمريكي على الادخار، بحيث أصبح معدل الاستثمار لديها أعلى بكثير من معدل الادخار دون أن تضطر إلى الاقتراض من الخارج. وهو يهيمن على ثلثي سلة الاحتياطات الدولية للعملات الحرة؛ بحيث يمكّن هذا الوضع الخاص أمريكا من سد العجز الداخلي والخارجي في الموازنة العامة للدولة.
إلا أن الصحيح أيضاً أن سياسة الدولار القوي قد ولّت من دون رجعة، وأن سياسة طبع الدولار الورقي، (وهي أكبر عملية نهب في التاريخ) والذي لا غطاء ذهبي له منذ عام 1971م، وشراء ما يتم استيراده به أو بيعه للدول الأجنبية؛ كسندات خزينة في سبيل تمويل العجز، لم تعد تجدي، خاصّة أن أمريكا مضطرة إلى إبقاء سعر الدولار ضعيفاً لزيادة صادراتها؛ وإلا لو كان قوياً لازداد معدّل العجز التجاري لديها. كما أن الضعف، والذي سيستمر مستقبلاً، يدفع الدول الأخرى للتخلي عن الدولار مخافة سقوطه وانهياره، وهذا ما يفسّر ضغط أمريكا على جميع الدول بضرورة ربط عملتهم بالدولار مع رفع أسعارهم مقابله؛ وذلك لأن أمريكا تعلم أن الدول بهذه الطريقة لن يكون من مصلحتها انهيار الاقتصاد الأمريكي، وستسعى إلى دعمه؛ خوفاً من أن تسقط وتنهار معه في حال انهياره.
خامساً: بكل بساطة: الإفلاس والانهيار قادمان والمسألة مسألة وقت، فكيف ستستطيع أمريكا دفع خدمة الدين؛ فضلاً عن الدين نفسه (يزداد حوالي 400 مليار سنوياً فيما يخص الموازنة الداخلية، و600 مليار سنوياً تقريباً فيما يخص التجارة الخارجية، ناهيك عن الديون الاخرى الكليّة الداخلية والخارجية وخدمة هذا الدين) إذا كانت أمريكا تبيع أصولها المالية، ومصانعها، وشركاتها المنتجة التي لا يمكن استبدالها؛ وذلك مقابل استيراد المواد والسلع والاستهلاكيةّ؟!
الأمريكيون يعتمدون بكل بساطة على الاستدانة (داخلياً وخارجياً) لتغطية نفقاتهم الاستهلاكية، ولا ثروة أو فائض مالي لديهم يقومون عبره بتمويل هذا الدين أو تغطية النفقات، فتكون النتيجة مزيداً من الاستهلاك، ومزيداً من الاستدانة، ومزيداً من بيع الأصول ومرافق الإنتاج، وبالتالي ارتفاعاً في العجز الاقتصادي والدين إلى حين الانهيار الكامل.
كخلاصة، إنّهم يدمرون أنفسهم بشكل ممتاز، وكما ذكرنا فانهيار أمريكا مسألة وقت، وفي حال تخلى عنها الأقوياء والحلفاء (حتى الدول التي تعتبر ضعيفة تساعد على بقاء أمريكا واقفة على قدميها حتى الآن) فإنّ هذا بلا شكّ سيؤدي إلى انهيارها مباشرة. وبغض النظر عن هذا، فإنّ هكذا انهيارات اقتصادية تحصل بشكل مفاجئ. فلا تستغربوا مثلاً: إنْ نهضتم لعملكم في يوم من الأيام كالمعتاد، ووجدتم أن الولايات المتّحدة أعلنت الإفلاس، وانقسمت إلى ولايات أو انهارت كلّياً! فمؤشرات الانهيار موجودة؛ ولكن هل يوجد من يقرؤها؟!
ومن هذا المنطلق ندعو كل الدول العربية والإسلامية إلى عدم ربط عملتها بالدولار فقط، كما ندعوها إلى أن تفّكر بشكل جدّي في إعادة النظر في روابطها الاستراتيجية مع الولايات المتّحدة، وأن تبدأ النظر باتّجاه الصين! فالصين قادمة قريباً.
__________
(*) باحث في العلاقات الدولية www.maktoobblog.com/alibakeer.(233/16)
النفط في الاستراتيجية الأمريكية
باسل النيرب
يستهلك العالم ما يقرب من 80 مليون برميل من النفط يومياً، وتحرق الإمبراطورية الأمريكية منها ما يقرب من 20 مليون برميل يومياً، وقد وصلت الولايات المتحدة إلى القدرة القصوى في إنتاج النفط من حقولها المحلية منذ سنة 1970م حيث كانت تنتج 10 ملايين برميل في اليوم. ومنذ ذلك الوقت بدأت قدرتها الإنتاجية تتناقص حتى وصلت الآن إلى 5 ملايين برميل في اليوم بينما تستهلك 20 مليون برميل في اليوم.
كما تمتلك 28 مليون برميل كاحتياطي استراتيجي، والأرقام الواردة، وهي من مصادر رسمية غربية، تفسر حاجة الولايات المتحدة الماسة للنفط، أي أنها تحتاج إلى 15 مليون برميل في اليوم لتعويض النقص في إنتاجها المحلي، وإذا حصل وقررت الدول المصدرة للنفط كإيران وفنزويلا مثلاً وقف إمداداتها من النفط للولايات المتحدة فلن يتبقى لديها من النفط والغاز الطبيعي ما يكفي لأربع سنوات فقط.
وفي ما يلي نحاول استعراض إدمان الولايات المتحدة على النفط، ومواقف الدول الأخرى: الصين والهند من النفط، ومحاولة قراءة أرباح شركات النفط وحجم الطلب الأمريكي، ودور السياسيات الأمريكية في كل من: فنزويلا، ونيجيريا، وروسيا، وإيران، والعراق في تقليص حجم الصادرات من تلك البلاد.
- إدمان الولايات المتحدة على النفط:
أصاب الخطاب السنوي عن حالة الاتحاد للرئيس الأمريكي (جورج بوش) الكثير من المحللين بالدهشة، وخاصة إشارته إلى «إدمان» الولايات المتحدة على النفط، ونية إدارته العمل على الاستعاضة عن الواردات النفطية من منطقة الشرق الأوسط (الخليج العربي) بمقدار 75% بحلول عام 2025 بنفوط أخرى، في ظل الارتفاع غير المسبوق لأسعار المحروقات.
وهذه الدهشة التي أصابت الكثيرين ممن تابعوا خطاب (بوش) لم تجد صداها عند أقطاب صناعة النفط، الأمريكية فهم يدركون بقرارة أنفسهم استحالة الاستغناء عن الواردات النفطية من دول الخليج العربي، إلا أن (فوبيا) النفط، وخصوصاً من الشرق الأوسط بحد ذاته، أخذت أبعاداً سياسية وإعلامية في الولايات المتحدة دون غيرها، ويعود ذلك إلى تراكم انطباعات خاطئة حول الحظر النفطي العربي أوائل السبعينيات لدى الرأي العام وأوساط الكونغرس، وإلى حروب الولايات المتحدة في المنطقة والمواقف منها خلال العقدين الماضيين.
وما يؤكد ذلك ما قاله نائب شركة إكسون موبيل (ستيورات مجيل) إذ يقول: «إن الولايات المتحدة ستعتمد دائماً على واردات النفط الأجنبي لتلبية احتياجاتها، وينبغي لها أن تتوقف عن محاولة أن تصبح مستقلة في الطاقة، ومن الناحية الواقعية فإنه ليس شيئاً محتملاً في أي فترة زمنية متصلة، وفكرة بوش ليست فقط سيئة بل يتعذر تحقيقها أيضاً» ، وهذا القول يعيدنا إلى مقولة الصحفي اليهودي (أوري أفنيري) الذي وصف عمل الفريق الذي يحيط بـ (بوش) بأنّه: سرقة موارد الشعوب الفقيرة لزيادة ثرائهم. بمعنى آخر جشع الفريق الذي يحيط بـ (بوش) للسيطرة العسكرية لتحقيق المنافع الاقتصادية، حيث يقول (سمير أمين) في هذا السياق: «إنّ مشروع (بوش) للسيطرة على أوراسيا من خلال السيطرة على نفط الشرق الأوسط لم ينبثق من بنات أفكاره لتطبقه عصبة من المحافظين الجدد المتطرفين، بل هو مشروع الطبقة الحاكمة الأمريكية منذ عام 1945م» . ويضيف: «لقد فهِمت المؤسسة الأمريكية جيداً أن سعيها للهيمنة يستند إلى ثلاثة عناصر تفوّق على منافسيها الأوروبيين واليابانيين، في طليعتها السيطرة على الموارد الطبيعية للكوكب، والاحتكار العسكري، وهيمنة الثقافة الأمريكية» .
إن كل من يتابع تصريحات الإدارة الأمريكية يجد مراراً مثل هذا النوع من الكلمات، فإذا عُدنا إلى السبعينيات حينما بدأ (بوش) في إنشاء شركته النفطية، كان (جيمي كارتر) يحاول إقناع الأمة الأمريكية بتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للطاقة، وقبله كان (ريتشارد نيكسون) يدشّن مشروع الاستقلال لمساعدة الأمريكيين على إنتاج كل أنواع الطاقة التي تحتاجها بنفسها، فالولايات المتحدة تستورد نحو 2.5 مليون برميل يومياً من منطقة الشرق الأوسط، تمثل 20% من حصة وارداتها البترولية و 12% من استهلاكها، وجل الواردات من الشرق الأوسط تأتي من السعودية (1.5 مليون برميل يومياً) ، والمتبقي من العراق والكويت وغيرها.
وتتوقع وزارة الطاقة الأمريكية أن يتضاعف حجم الواردات من منطقة الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة وغيرها؛ لأن تلك المنطقة، وببساطة، هي القادرة من حيث الاحتياط وظروف الإنتاج وخفض تكاليفه على تلبية حاجات العالم من النفط. ولا يفوتنا هنا التنويه على أن السوق الأمريكية تواجه مشاكل في التكرير بسبب تكاليف الإنتاج العالية ووصول غالبية المصافي إلى طاقتها الإنتاجية القصوى. في الوقت الذي يتوقع فيه ارتفاع الطلب الأمريكي على النفط إلى 20,91 مليون برميل في اليوم.
أما حصة الشرق الأوسط من الواردات النفطية الأمريكية بغيرها من الدول، فنجد أن اليابان تستورد نحو 80%من حاجاتها من تلك المنطقة، والصين 45%، والاتحاد الأوروبي 26%. والمتوقع تزايد تلك النسب، بل إن من المتوقع أن تزيد الصين وارداتها من المنطقة بستة أضعاف بحلول عام 2025م.
- دول أخرى متعطشة للنفط:
مع تجليات تأثيرات العولمة برزت قوى دولية كبيرة متعطشة للمزيد من مصادر الطاقة، ونجدها في كل من الصين والهند؛ فالصين كانت حتى نهاية القرن الماضي من الدول المكتفية ذاتياً من مصادر الطاقة المحلية، إلاَّ أن النمو المتسارع للاقتصاد الصيني ـ بلغ هذا العام 10% ـ إضافة إلى التحول من الفحم إلى النفط والغاز كمصادر للطاقة، رفع من حجم استهلاكها النفطي بقفزات غير عادية، وكذلك الهند.
وحسب النشرة الإحصائية لشركة (بريتش بتروليوم) فإن الزيادة السنوية لاستهلاك الصين من النفط وصلت إلى 893 مليون برميل يومياً في 2004م مقارنة بـ 412 مليون برميل يومياً في 2003م، وكذلك فإن الهند بلغت الزيادة في استهلاكها من 46 مليون برميل في 2003م إلى 136 مليون برميل يومياً في 2004م. وبالرغم من عدم دقة الأرقام في هذه النشرة بالنسبة لهاتين الدولتين إلا أن هذا يعطي مؤشراً على عمق هذا التغيير في الأسواق العالمية للنفط.
وعليه فإن الصين والهند بدأتا في البحث عن تأمين إمداداتهما النفطية ليس عن طريق الشراء من الأسواق فقط، بل محاولة الوصول إلى المصادر نفسها في الدول المنتجة، وساند هذا دعم حكومي قوي للشركات النفطية الوطنية الصينية والهندية لضمان الحصول على الامتيازات في هذه الدول.
وعمدت السياسة الصينية في هذا المجال إلى عدم التصادم مع مناطق نفوذ الشركات الغربية وذلك بتوجهها إلى أماكن في أفريقيا كالسودان وأنغولا، وذلك عن طريق اتفاقيات مقاسمة الإنتاج، إلا أن الشركات الصينية بدأت باقتحام مواقع النفوذ الغربي بطرحها صفقة شراء شركة (يونيكال) الأمريكية والتي لاقت معارضة شديدة في أوساط صُناع السياسة في الولايات المتحدة.
وقد بدأت الشركات الغربية في الحديث علناً عن أن الشركات الصينية والهندية تقدم عروضاً مغرية للدول المنتجة للنفط تتجاوز اقتصاديات المشروع المبنية على الربحية إلى تقديم خدمات اجتماعية، ومساعدة في بناء البنية التحتية في تلك الدول؛ ممّا يفقد الشركات الغربية مزايا تنافسية.
- أرباح شركات النفط:
كشفت دار السمسرة الفرنسية (أوريل لوفان) أن الشركات النفطية العالمية الرئيسية الـ250 حققت عام 2005م أرباحاً إجمالية بقيمة 243 مليار يورو، أي بزيادة 35% عن عام 2004م، بالرغم من الأضرار الكبيرة التي لحقت بالإنتاج النفطي العالمي بسبب الأعاصير في خليج المكسيك.
وأعلنت شركة (أكسون موبيل) الأمريكية كبرى المجموعات النفطية في العالم عن أرباح بقيمة 36 مليار دولار، ورقم أعمال بقيمة 371 مليار دولار خلال سنة 2005م، ما يزيد عن إجمالي الناتج الداخلي للسعودية، المنتج الأول للنفط في العالم.
أما المجموعة النفطية الثانية في العالم الشركة البريطانية (رويال داتش شل) ؛ فقد وصلت أرباحها عام 2005م إلى 22.94 مليار دولار، محطمة الرقم القياسي لأرباح الشركات البريطانية، مقابل 19.31 مليار دولار لشركة (بريتيش بتروليوم) (بي بي) البريطانية، وحوالي 15 مليار دولار لشركة (توتال) الفرنسية.
وكشفت دراسة أعدتها وكالة (موديز) للتقييم المالي أن المائة الأولى من الشركات النفطية العالمية وزعت العام الماضي حوالي مئة مليار دولار على مساهميها، ويبدو أن المساهمين مرتاحون لهذه الأرباح، إلا أن المستهلكين مستاؤون من تزايد أسعار الوقود التي تخطت الصيف الماضي عتبة رمزية قدرها 1.50 يورو لليتر الواحد في العديد من الدول الأوروبية.
- الدور الأمريكي في تقليص المعروض من النفط:
إن ما يحدد أسعار النفط في السوق العالمي هو العلاقة البديهية بين العرض والطلب، فكلما قلَّ العرض وكثر الطلب ارتفعت الأسعار، وتكاد تجمع بعض الآراء أن السياسة غير المسئولة لإدارة الرئيس (بوش) في مجال الطاقة الداخلية أدت إلى رفع الطلب العالمي على النفط، كما قادت سياسته الخارجية العدائية إلى خفض حجم الإمدادات العالمية، والتأثير سلباً على كميات النفط المعروضة في السوق، ومن الأمثلة على ذلك:
نيجيريا:
تزخر نيجيريا بمواردها الهائلة من الطاقة، ولم تحرك إدارة (بوش) ساكناً للدفع بالإصلاحات الحكومية، وإنهاء الصراعات الدموية المستفحلة في البلاد. فقد أدت المواجهات العنيفة على خلفية الصراع حول توزيع عائدات النفط واستفادة السكان الفقراء من المداخيل، إلى منع إنتاج النفط بصورة طبيعية. وتشهد خطوط النفط سرقة وتفجيراً، كما يتعرض الموظفون الأجانب إلى الخطف، وهو ما أدى في النهاية إلى انخفاض نسبة إنتاج النفط بـ20% مقارنة بالعام السابق.
فنزويلا:
وبالانتقال إلى فنزويلا التي كانت إلى عهد قريب رابع مزود لأمريكا بالنفط. فقد أدى تأييد إدارة (بوش) لانقلاب عسكري فاشل ضد (هوجو شافيز) عام 2002م إلى تسميم العلاقات المتوترة أصلاً بين البلدين، مما دفع (شافيز) إلى تحدي الولايات المتحدة مستفيداً من سياساته المالية وأسعار النفط المرتفعة. وفي الشهور الأخيرة، فرض (شافيز) ضرائب باهظة على الشركات الأجنبية العاملة في مجال الطاقة، كما سيطر على بعض مشاريع التنقيب التي كانت في يد شركات أجنبية، أسفر ذلك عن مغادرة تلك الشركات لفنزويلا، وبالتالي انخفاض مستويات الإنتاج. والأكثر من ذلك أن هذه التطورات تزامنت مع ارتفاع سعر الخام العالمي بسبب مخاوف السوق من تقلص الإمدادات النفطية.
روسيا:
أدى تغاضي إدارة (بوش) عن تراجع الرئيس (فلاديمير بوتين) عن الإصلاحات الاقتصادية التي بدأتها بلاده في وقت سابق، وتأميمه لشركة النفط العملاقة (يوكوس) ، إلى انخفاض حصة روسيا من الإنتاج العالمي للنفط.
إيران:
تعد إيران رابع أكبر منتج للنفط في العالم. وقد رفضت إدارة (بوش) التفاوض مباشرة مع طهران معززة بذلك احتمالات المواجهة العسكرية، أو فرض عقوبات عليها، وهي العقوبات التي قد توجه ضربة قاصمة إلى الإمدادات العالمية من النفط، مما سيرفع الأسعار إلى مستويات قياسية، ويلحق أضراراً بالغة بالاقتصاد العالمي.
العراق وحكاية أخرى:
في العراق نجد عجز الإدارة الأمريكية الواضح عن إحلال الأمن وفرض سيادة القانون، مما تسبب في انخفاض مطرد لمستوى إنتاج النفط، علماً بأنّ العراق يمتلك ثالث أكبر احتياط من النفط في العالم. فبينما كان حجم إنتاجه من النفط قبل الغزو الأمريكي لأراضيه في مارس 2003م يصل 2.5 مليون برميل يومياً، تراجع هذا الرقم مع حلول 2005 إلى 1.8 مليون برميل يومياً، فعشية سقوط بغداد لم يحرس الجيش الأمريكي إلا وزارة النفط؛ حيث اشتدت بعدها المعركة القانونية لاقتسام نفط العراق بمجرد وصول سلطة الحكم العراقية، وبدأت المفاوضات بين القوى النافذة في السلطة العراقية ورجالات المنطقة الخضراء وشركات النفط الأمريكية والبريطانية لاقتسام الغنيمة.
واحتدم هذا التنافس لمناقشة الوضع القانوني للامتيازات الروسية والصينية التي تم التعاقد عليها إبّان الحكم السابق في العراق، فالصين وروسيا لم تتنازلا بسهولة عن امتيازاتهما، وكانت الحلول المقترحة من وجهة النظر الأمريكية تنحصر في توجهين وفقاً لما هو متاح من كتابات في هذا الخصوص، الأول: هو الطعن في شرعية تأميم النفط وإعادة الامتيازات القديمة للشركات العالمية التي انتزعت منها، والثاني: هو خصخصة النفط العراقي بنزع ملكيته من الدولة العراقية ونقلها للقطاع الخاص سواءً كان محلياً أم أجنبياً. يقول (أرييل كوهين) في ورقة بعنوان: (نماذج وسياسات إنتاج النفط، وتحصيل الدخل، والإنفاق العام: دروس من العراق) نشرت بواسطة مؤسسة (هيرتج) اليمينية المعروفة: «إنَّ على مستهلكي النفط أن يدفعوا باتجاه خصخصة قطاعي النفط والغاز في الدول المنتجة» ، ويقترح فيما يخص النموذج العراقي، بحجة حاجة العراق إلى إعادة البناء، بأنْ يتم بيع الاحتياطي النفطي العراقي مقدماً مع فرض ضرائب على الإنتاج الفعلي.
وحول خصخصة نفط العراق نشرت مؤسسة (بلاتفورم) Platform وهي بريطانية تهتم بمراقبة نشاطات الشركات النفطية العالمية دراسة معنونة باسم (عقود مشاركة الإنتاج خصخصة النفط) للكاتب (جريج ميوتيت) وهي موجودة على الإنترنت في موقع المؤسسة وباللغة العربية. ملخص هذه الدراسة يقول: لا الخصخصة ولا اتفاقيات مقاسمة الإنتاج هما الأسلوب الأمثل لإدارة الثروة النفطية العراقية، حيث لم تثبت الشركات الغربية الكبرى التي كانت موجودة بالعراق لحين تأميم النفط في السبعينيات أي توجه للمحافظة على البيئة أو تطوير المجتمعات المحلية أو القوى الوطنية العاملة؛ بل استغلت وجودها بالعراق لتحقيق أقصى استفادة ربحية بغض النظر عن أي عوامل أخرى، ولا توجد أي إشارات عن تغيير في هذا التوجه.
إن الذي يقوم اليوم على سرقة نفط العراق هو الشركات الأمريكية والبريطانية التي وقعت العقود والصفقات لشراء نصف إنتاج الخام العراقي المقدر بنحو 8 آلاف برميل، إلى جانب أن الشركات الكبرى أبرمت صفقات لإعادة العافية لقطاع النفط العراقي، إضافة إلى أن شركة (إكسون موبيل) تعتبر من أكبر المشترين؛ حيث تقوم بتصفية الخام في مصافيها الضخمة في (بايتون) ، وعقود مقاسمة الإنتاج تعقد عادة بين دولة ذات إمكانيات إنتاجية ضعيفة سواء من الناحية التقنية أو الناحية المالية، وهي إلى جانب توفيرها غطاء تعاقدياً للشركات الأجنبية لتجنب مخاطرة الهبوط في السعر فإنها مجزية؛ حيث تحصل الشركات على برميل النفط بعد اقتطاع كافة المصاريف بتكلفة لا تتجاوز الدولار الواحد للبرميل لفترة تمتد من 20 إلى 30 سنة، هذا يعني أن متوسط أرباح هذه الشركات لحصة 30% من إجمالي إنتاج العراق 3 مليون برميل يومياً عند سعر 20 دولاراً للبرميل سيصل إلى 208 بليون دولار في 25 سنة، وترتفع إلى 646 بليون دولار في حال ما بقي السعر عند 60 دولارا للبرميل. هذه الأرباح تقتطع في الواقع من حقوق المالك وهو في هذه الحالة الشعب العراقي، وللتدليل فإن دولاً عديدة (السعودية والكويت) ما زالت ترفض العمل بمثل هذه العقود المجحفة. هذا الذي دعا مؤلف دراسة (بلاتفورم) المذكورة إلى إضافة عنوان جانبي لها وهو: سرقة ثروة العراق The Rip-Off of Iraqs Oil Wealth.
وأخيراً:
إن تصريحات (بوش) حول النفط في خطاب حالة الاتحاد رسالة يجب استيعابها جيداً وعدم الاستهانة بها؛ لأن شركات الأبحاث الدولية؛ والأمريكية بالذات، تعمل ليل نهار لاستنباط تكنولوجيا حديثة لتطبيقات الطاقات البديلة يمَكنُها بشكل واقعي أن تكون بديلاً اقتصادياً مناسباً في المستقبل، هذه السيناريوهات تستدعي تفعيل خطط التنويع الاقتصادي والمالي لدول (الأوبك) ، فلا أحد يعرف مايدور في كواليس المطبخ السياسي والاقتصادي الأمريكي الذي تحركه مصالحه بالدرجة الأولى، فخلال الشهور الستة الأخيرة صدرت ثلاثة كتب تتقاطع كلها عند نقطة واحدة هي أن الوفرة النفطية العالمية انتهت أو تكاد، وأن الندرة النفطية العالمية بدأت أو تكاد. وعمّا قريب ستندلع حروب موارد جديدة قد لا يكون لها سابق في التاريخ.
والكتاب الأول الذي يحذر من هذا الخطر هو لـ (ديفيد غودشتاين) البروفسور في مؤسسة كاليفورنيا للتكنولوجيا وهو بعنوان (نفاد الغاز) وهو علمي ـ تقني، يسند افتراضاته إلى نظرية الجيولوجي الأمريكي الشهير (م. كينغ هابرت) الذي تنبأ العام 1965م بأن معدلات استخراج النفط من الولايات الأمريكية الـ 48 ستصل إلى ذروتها العام 1970م ثم تبدأ انحدارها السريع. وقد عرّف هذه الذروة بأنها تعني الوصول إلى استهلاك نصف احتياطي النفط، ونبوءة هابرت هذه صدقت. فاستخراج النفط الأميركي وصل إلى ذروة بلغت تسعة ملايين برميل يومياً العام 1970م، وهو يهبط منذ ذلك الحين حيث بلغ اليوم أقل من ستة ملايين برميل. وقد طبق (غودشتاين) معادلات (هابرت) وحساباته على النفط العالمي، فاستنتج أنه من أصل تريليونين برميل المخزّنتين في جوف الأرض، وصل استهلاك البشر الآن إلى النصف، وبالتالي باتت معادلة (هابرت) حول الذروة ـ الانحدار قاب قوسين أو أدنى.
الكتاب الثاني لـ (بول روبرتس) وهو بعنوان (نهاية النفط) يركّز على الجوانب الاستراتيجية والدولية لأزمة الطاقة، ويرى أن الطلب على النفط يتزايد بوتيرة كبرى، خاصة من جانب الصين والهند الصاعدتين، فيما يتقلص الاحتياطي والقدرات الإنتاجية. هذا التطور يعطينا برأيه فكرةً واضحةً عن أسباب حرب العراق، فقبل الغزو كان العراق ينتج 5.3 ملايين برميل يومياً، و (بوش) اعتقد أن هذا الرقم سيتضاعف قبل نهاية 2010م. وإذا كان بالإمكان إقناع العراق الجديد بتجاهل (كوتا أوبك) وإنتاج أقصى طاقته، فإن دفق النفط الإضافي يمكن أن ينهي سيطرة (أوبك) على التسعير. ثم إنه إذا ما نجحت أمريكا في تفكيك (أوبك) ، وبسبب كونها متقدمة لمدة عقد عن كل العالم في مجال التكنولوجيا العسكرية، فهذا سيضمن لها التفوق العالمي لمدة قرن أو أكثر.
الكتاب الأخير لـ (مايكل كلير) ويحمل عنوان (الحروب على الموارد) ، وفيه تركيز على أن حروب الطاقة مندلعة بالفعل منذ نهاية الحرب الباردة عام 1989م بسبب الزيادة الكبيرة في طلب النفط. وتشارك في هذه الحروب، إلى جانب أمريكا، الصين واليابان والهند وأوروبا وروسيا، هذا في وقت تشير فيه آخر الدراسات إلى أن الأرض خسرت نحو ثلث ثرواتها الطبيعة المتاحة (خاصة الماء والنفط) في فترة قصيرة للغاية من 1970م إلى 1995م، أي أكثر مما خسرته في أية فترة أخرى في التاريخ.(233/17)
أيام تمضي
عبد الحميد بن سالم الجهني
عِطاف عليان.. معتقلة فلسطينية سجن الاحتلال الإسرائيلي ابنتها الرضيعة معها رحمةً بها! فكانت هذه الكلمات:
صبراً عِطاف! فإنها أيامُ
تمضي كأن عذابها أحلامُ
ستمر يا أختاه لست أشك في
هذا، ويهوي البغيُ والإجرامُ
وكأن شيئاً لم يكن يوماً إذا
ساد الضياء وشُرِّد الإظلامُ
لكنها سنن الإله بعلمه
تجري ولا يدري بها الظُّلاَّمُ
هجموا عليك بليلة وحشية
وقد احتمت بك طفلة ستنامُ
سحبوك فانفجرت بصدرك صرخةٌ
حرَّى، وأدمت قلبك الآلامُ
وبكت رضيعتك التي لم ترتوِ
فلها على أيدي البغاة فطامُ
ومضيت للسجن الكبير بعبرة
خفيت، وقد عمَّ المكانَ ظلامُ
هذا سبيل لستِ فيه وحيدةً
لكِ فيه أحمدُ قدوةٌ وإمامُ
وشكا به نوحٌ، وإبراهيم لم
تنصره إلا الطيرُ والآرامُ
ومضى عليه المؤمنون وحولهم
تسَّاقط الجبناءُ والأصنامُ
وأراكِ يا أختاه في ظُلَم الدجى
نوراً يضيءُ فتشرق الآكامُ
إن الظلام وقد تمادى بعده
فجرٌ يلوح ورحمة وسلامُ
هي رحلة لله في درب الهدى
أعلامها الإيمان والإسلامُ
حُفَّتْ بكل كريهة حتى يُرى
بين الورى الأعلام والأقزامُ
لكنَّ عقبى الصابرين عظيمة
في الخلد، لا حزنٌ ولا أسقامُ
لا تسألي عنا! فإنا معشرٌ
هانتْ علينا الأرض والأرحامُ!
هانت علينا القدس..! أيُّ مصيبةٍ
بقيت؛ وقد أزرت بنا بغدامُ؟! (*)
كلا، فلا زالت هناك بقية
تزري بنا، فعلى الطريق الشامُ!
يا أيها الغافون أحلاس الونى
قوموا فأهل الرافدين قيامُ!
واستلئموا إن الحياة قصيرة
والحق أبلج والزمان همامُ
لا تركنوا للظالمين تمسكم
نار، وقولوا للطغاة: حرامُ!
__________
(*) بغدام: لغة في بغداد، ذكرها صاحب تاج العروس، وقد ذكر العلماء لبغداد ثلاث عشرة لغة.(233/18)
الدكتور بشار الفيضي: فصائل المقاومة التي تورطت سياسياً تم اختراقها
حاوره: أحمد فهمي
مع تصاعد الأحداث في العراق بصورة غير مسبوقة وعلى كافة الأصعدة، بات كثير من المراقبين يلمح معالم مشروع جديد في العراق يرتكز ـ في الأساس ـ على مزيد من التهميش للعرب السنّة من خلال استبعاد من لا يؤيدون العملية السياسية، وكانت الخطوة الأولى إصدار قرار توقيف للشيخ (حارث الضاري) ، تمهيداً لمزيد من الحصار لنشاط هيئة علماء المسلمين في العراق، وربما تؤول الأوضاع إلى أن يصبح رموز السنّة الرافضين للعملية السياسية قادة للمعارضة من الخارج.
وعلى الجانب المقابل كان واضحاً التصعيد ـ أو التلميع ـ السياسي لدور المجلس الأعلى الشيعي للثورة بزعامة عبد العزيز الحكيم، الذي حظي باستقبال حار في البيت الأبيض، ثم في لندن، حيث التقى بأعضاء مجلس العموم البريطاني، بينما يتم الإعداد لبلورة دور جديد للتيار الصدري باعتباره (ميلشيا للإيجار) أو لتنفيذ المهام الصعبة في العراق.
وعلى ضوء النتائج الإيجابية للتيار الإصلاحي الإيراني في انتخابات الخبراء والمجالس البلدية، هل يمكن اعتبار ذلك مؤشراً على تغيرات مرتقبة في السياسة الإيرانية في المرحلة المقبلة؟ وماذا تريد طهران تحديداً من العراق؟ وهل يسعى رجال الدين الإيرانيون إلى إقامة دولة شيعية في الجنوب؟ وإذا كانت إيران رافضة لأهل السنّة فهل هي قابلة للاحتلال الأمريكي؟
هذه القضايا وغيرها طرحتها البيان على الشيخ (محمد بشار الفيضي) الناطق الرسمي باسم هيئة علماء المسلمين في العراق.
^: توجد إشكالية حول ما الذي تريده إيران بالضبط من العراق؟ بعضهم يرى أنها تريد دولة شيعية مستقلة، وهناك من يقول: إن إيران لا تريد دولة شيعية منافسة لها بل تريد فيدرالية، وآخرون يرون أن طهران تسعى إلى عراق موحد خاضع لها، هناك خلط بين التكتيكي والاستراتيجي في تحليل الرؤية الإيرانية؛ فما رأيكم؟
| بسم الله الرحمن الرحيم، في ضوء ما يجري الآن في العراق، من دون شك هناك تدخل إيراني كبير بلغ حدَّ النخاع، كما عبّر عن ذلك الأمين العام لهيئة علماء المسلمين. قد يكون في التصور أن وراء ذلك هدفاً هو إبعاد وجود الأمريكان في المنطقة؛ وهذا يشكل تهديداً مباشراً على إيران، لكن الذي يُلاحِظ طبيعة السياسة الإيرانية في العراق يبدو له أن هناك هدفاً آخر يتجاوز مسألة دفع الخطر الأمريكي؛ لأن المليشيات التي تدرّبت في إيران تمارس أعمالاً يصعب حصر تفسيرها بدفع أمريكا، فهي من جانب داعمة للوجود الأمريكي، ومن جانب تعمل على تصفية المقاومة العراقية وتصفية الرموز السنّية؛ حتى الكفاءات العلمية. وهذا يجعلك تشعر بالقلق، ويساورك الشك أن هناك هدفاً آخر وهو الهيمنة على المنطقة. لا أظن إيران من السذاجة بحيث تريد أن تستولي على العراق بحكم مباشر، يعني: أن تدخل العراق كما دخل صدام الكويت، لا أظن، لكنها تريد أن يكون لها نفوذ في المنطقة بحيث يكون الحكام الذين يديرون شؤون العراق قابعين تحت طوع يديها، كما هو الحال الآن، إنها تريد أن يمتد هذا بشكل دائم.
^: ما النظام السياسي الذي يناسبها لتحقيق هذا الهدف؟
| من دون شك لو كانت واثقة أن الحكومة ستبقى بيد حلفائها فمن مصلحتها أن يبقى العراق واحداً ويكون كله طوع يديها، ولكن يبدو هذا لم يعد ممكناً، لو تلاحظ أن هناك توجهات نحو الفيدرالية، هذا نفهمه من خلال إلحاح عبد العزيز الحكيم؛ وهو الذي ترعرع في إيران ويعمل لها بشكل واضح.
^: إذاً؛ هل الفيدرالية هدف إيران في هذه المرحلة؟
| نعم؛ ومتى ما حدثت الفيدرالية فاعتبرْ الجنوب كأنه ملحق لإيران إذا حكمه أمثال هؤلاء الساسة.
^: ما التوقيت المناسب لإيران كي ينسحب الاحتلال الأمريكي؟
| حينما تهيمن تماماً على الأوضاع في العراق، حينما تقضي على المقاومة، حينما تمسك بكل الخيوط، حينئذٍ لن تكون ثمّة حاجة لبقاء الأمريكان.
^: هل تسعى إيران لإقامة علاقات مع بعض فصائل المقاومة؟
| إيران لاعب ذكي جداً، هي الآن تمد أحياناً بعض فصائل المقاومة، وهذه حقائق ولم تعد خافية ... هذا بشهادات الإيرانيين أنفسهم؛ حيث إن (قاسم سليماني) (1) ذكر في جامعة الحسين في ندوة مغلقة في كلية الدراسات الاستراتيجية والدفاعية أن إيران تقدم تسهيلات لبعض فصائل المقاومة. (زلماي) ذكر ذلك أيضاً. هذه التنظيمات قد تتقبل المساعدة على أنها غنيمة من عدو وتضرب بها عدواً آخر، لكن لإيران حساباتها، إيران بهذا الدعم ـ إذا ثبت ـ تضرب أمريكا من خلال المقاومة وتضعف المقاومة في الوقت ذاته.
^: هل يمكن القول ـ إذاً ـ: إن إيران هي صاحبة الرؤية السياسية المتكاملة الوحيدة في المنطقة مقارنة بالاحتلال والعرب السنّة؟
| نعم؛ لأن إيران ـ إذا جاز التعبير ـ امتطت ظهر (البعير) الأمريكي.
^: التيارات المتصارعة الرئيسة داخل إيران: إصلاحيون، محافظون معتدلون، أو محافظون متشددون، هل تملك هذه التيارات أجندة واحدة للعراق؟
| نعم؛ إن إيران في علاقتها الخارجية هي هي، سواء كان حكّامها إصلاحيين ومحافظين، هي نفسها زمن الشاه، وهي نفسها الآن.. الاستراتيجية نفسها، وإن المصالح القومية لديهم مقدَّمة على كل الاعتبارات.
^: هل كانت الأحوال أفضل في فترة رئاسة الزعيم الإصلاحي (محمد خاتمي) ؟
| في رأيي الشخصي، ما كنا نعانيه في زمن خاتمي لا يختلف في شيء كبير عمّا نعانيه الآن، سُرق العراق في زمن خاتمي، ونقلت خيراته إلى إيران في زمن خاتمي، وهكذا.. إذاً؛ الاختلاف في الخارجية ليس اختلافاً كبيراً.. السياسة الخارجية لإيران واحدة، وحينما تتعاقب الكتل السياسية على الحكم فإنها لا تخرج عن هذه السياسة.
^: هل يمكن أن يؤثر غياب المرشد الإيراني علي خامنئي ـ لأي سبب ـ على السياسة الإيرانية؟
| الطموحات نفسها تبقى، لكن درجة السعي في تحقيقها تختلف باختلاف القادة.. وإن التطور الذي حصل في تحقيق الأجندة الإيرانية خلال السنوات الثلاث الماضية كان مذهلاً.
^: هل كل الشيعة في العراق يؤيدون المشروع الإيراني الصفوي؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فأين هي دلالات المعارضة الشيعية للسياسة الإيرانية؟
| نحن أبناء الميدان لدينا تقييم للعراق، ونعرف أن الشيعة في الجنوب يتعرضون للاضطهاد أيضاً من قِبَل المليشيات، قُتل منهم الكثير وهذا موثّق، حيث إن أكثر من عشرين شيخ عشيرة شيعي قُتل على يد المليشيات الشيعية، والجنوب الآن هو هو فقيرٌ كما كان؛ بل ربما يكون الآن أكثر فقراً، مع أن الحكومة شيعية، ومن ثم فإن الزعم بأن الشيعة كلهم في خندق واحد ضد السنة ليس دقيقاً.
^: يعني ذلك يمكن اعتبار تيار الحسني وتيار الخالصي منهم؟
| نعم؛ تيارا الحسني والخالصي توجّهاتهما وطنية ومع وحدة العراق وضد التدخل الإيراني، لكن يبقى هو شيعياً، لا أستطيع تغيير مذهبه كما أنني سنّي لن أغير مذهبي.
^: لكن هناك من يقول: إن المعارضة الشيعية لإيران لا تعني الاصطفاف مع السنّة، بل تعني: وجود مشروع شيعي آخر مختلف، يعني: من الممكن أن يكون لهم مشروع استقلال ومشروع فيدرالية أيضاً؟
| لا لا.. أبداً، هذه العناصر التي نتكلم عنها لديها مشروع الوحدة الوطنية، وترفض الفيدرالية، والشيخ جواد معروفة أطروحاته، وكذا الشيخ البغدادي وحسين المؤيد، وهذا يعني أن الذين يرفضون الفيدرالية كُثر.
^: هذه التيارات المعارضة لإيران كم تمثل نسبتها من إجمالي شيعة العراق؟
| من الصعب ـ اليوم ـ أن تزن الشعب بهذه التيارات، حيث إن ظهور التيارات السياسية في العراق حديث، نحن في السابق لم نكن نعرف سوى سلطة الرجل الواحد والحزب الواحد، ولا يوجد مجهود شعبي في مجال التكتلات السياسية، لكن أنا أتكلم عن الطبقة العامة، الطبقة العامة حسب دراستنا لها: شيعية، أو سنية، أو كردية هي مع الوحدة الوطنية، هي مع وحدة العراق، مع عدم تدخل الأجنبي حتى إن كان إيرانياً، هذا الشكل عام؛ لكن يوجد أناس ولاؤهم لإيران، يوجد أناس ولاؤهم لتركيا مثل: التركمان، هذا موجود، لكن نحن نتكلم عن الشريحة العامة كونها مع عراق واحد يتعايش أهله سلمياً.
^: هل يمكن أن يحقق مطلب الانتخابات المبكرة الذي تبنّته جبهة التوافق السنّية في لقاء رئيسها مع (جورج بوش) مؤخراً هدفَ العراق الموحد؟
| نحن نعتبر أي عملية سياسية في ظل الاحتلال فاشلة حتى لو تمَّ إعادة الانتخابات.
^: حتى لو تمّت بإشراف دولي؟
| الإشراف الدولي يقلِّل من نسبة الخطأ دون شك، لكن ستبقى المشكلات قائمة بسبب الطعون في العملية السياسية في ظل الاحتلال، يعني: لماذا لا نُعطى حقنا؟ حقُّنا أن يخرج الاحتلال، وأن تتم عملية انتخابية بإشراف دولي، وآنذاك من ينجح سيدينُ له الجميع.
البيان: هناك تقديرات بأن انسحاب الاحتلال سيشعل حرباً أهلية؟
| لا؛ الاحتلال هو الذي يدعم المليشيات، وإن لدينا وثائق تدل على ذلك، الاحتلال هو الذي يسهل الطريق للمليشيات للذبح.
^: إذاً؛ لماذا يبدو الاحتلال في الفترة الأخيرة وكأنه ضد ميلشيات جيش المهدي؟
| هذا كلام يدخل في باب المساومات مع إيران والضغط عليها، إنما الخط الثابت لا يزال على الميدان، الجيش الأمريكي يطهر تطهيراً طائفياً، وسبق أن قلت هذا قبل سبعة أشهر في مؤتمر صحفي موثق في مواقع الإنترنت، هناك قادة أمريكان من حقهم أن يقفوا مكان (سلوبودان ميلوسيفيتش) ؛ لأنهم يرتكبون الجرم نفسه.
^: كيف هو قبول الشارع السنّي للعملية السياسية؟
| الآن هناك شبهُ إجماع على رفضها في تقييمنا نحن؛ لأنهم وجدوا أن لا ضوء في نهاية النفق.
^: لماذا يحرص الأمريكيون على وجود مشاركة سنّية سياسية؟
| لأنها تعطي شرعية للحكومة وشرعية لنجاح العملية السياسية، الأمريكان لا يهمهم حقوق الناس ولا يهمهم حقيقة الأمور. هناك مَثَلٌ أستشهد به دائماً يقول: إن الأمريكيين يقولون: ليس المهم ما هي الحقيقة، إنما المهم كيف تقنع الناس أن هذه هي الحقيقة. هذه مشكلتهم، المهم أن يقتنع الناس أن هناك انتخابات. وتذكر بعد مرور أربع سنوات على الاحتلال ظهر بوش وتكلم عن الحرية في العراق والانتصار، والناس مذبوحة وجائعة، فهذه مشكلة، إلى أن صدر تقرير (بيكر) والذي كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فهو الآن لا يستطيع أن يخرج مرة أخرى ويقول فيه كلمة (الحرية) ؛ لأن ذاك التقرير قد كشف المستور.
^: ما مواطن الاتفاق بين هيئة علماء المسلمين والحزب الإسلامي؟
| بعيداً عن العملية السياسية فموقفنا لا يختلف عن موقفهم. هم طبعاً يختلفون عن غيرهم. هم لم يأتوا على الدبابة الأمريكية، هم يسمون الاحتلال احتلالاً، لا ينكرون المقاومة، هذه كلها نقاط التقاء، لكن اختلافنا قائم في العملية السياسية، نحن نعتقد أن الدخول في العملية السياسية هو إنجاح للمشروع الأمريكي وإضاعة للحق العراقي، وهم كانوا يرون الدخول في العملية السياسية ضرورة للحصول على ما يمكن الحصول عليه تحت شعار: (شيء خيرٌ من لا شيء) ، نحن كنا نقول: هذا الشيء سيضيع كل شيء.
^: يثير قرار توقيف الشيخ (حارث الضاري) مخاوف من احتمال بقائه خارج العراق بصورة دائمة، أي: يصبح معارضاً من الخارج؟
| ممكن، هذا وارد، الدكتور (حارث) أمين عام الهيئة، لكنَّ الهيئة كلها في العراق، لا يوجد في الخارج سوى الدكتور؛ وأنا بسبب أني ناطق رسمي، وأصبح الإعلام في العراق شبه محرّم، فلذلك الهيئة انتدبتني للإقامة في عمّان في هذه الفترة، وهناك من يقول: إن المذكّرة هي بغرض إضعاف رمزية فضيلته.
^: لماذا اقتحمت هيئة علماء المسلمين ميدان السياسة وهي مؤسسة علمية شرعية في الأساس؟
| هذا صحيح، الهيئة أُسِّست على أساس أن تكون مرجعية شرعية، ونحن في بداية الاحتلال لم نكن ندخل في الموضوع السياسي، ونقول: لكلٍّ اختصاصه، لكن حين شُكّل مجلس الحكم خلت الساحة من موقف ضد الاحتلال؛ فهل يعقل هذا؟ فكان لا بد للهيئة أن تمارس دوراً سياسياً، لكن هذا لا يعني أننا حركة سياسية، نحن حتى اللحظة لسنا حركة سياسية، لسنا حزباً سياسياً، ليس لدينا طموح في السلطة، هذه عندنا ثوابت، نحن هيئة شرعية، لكن لها مواقف سياسية بحسب مقتضيات الواقع، نحن لسنا علمانيين، السياسة جزء من الدين، بل الدين هو سياسة الناس، ولو وجدنا أن هناك أحزاباً سياسية تقوم مقامنا لم نقترب هذا الميدان؛ لأن ميداننا الطبيعي هو المساجد والدعوة، بصراحة نحن دائماً نقول: هذه جنّتنا، لكن لما خلت الساحة فجأة من أي صوت معارض للاحتلال شعرنا بالرعب، وهذه أمانة تاريخية، فاضطررنا أن نقوم بالمهمة.
^: تواجه فصائل المقاومة حالياً ضغوطاً هائلة لدفعها إلى التمثيل السياسي والتفاوض؛ هل ترون ذلك يناسب دور المقاومة العراقية؟
| رأي الهيئة بشكل عام أن المقاومة يجب أن تبقى في الميدان، إذا استُدرجت للسياسية فستضعف، النهاية علمها عند الله. نحن لا ننصح المقاومة بالتورّط، وبالفعل تورّطت بعض الفصائل، وتمَّ اختراقها، وتمَّ استهدافها واستهداف قادتها ممن فتحوا قنوات اتصال مع الأمريكيين، المقاوم تنتهي مهمته يوم يحقق هدفه وهو خروج الاحتلال، والسياسة يمارسها آخرون، وفي تقديري الشخصي الجزء الأعظم من المقاومة هو في ميدانها، لكن هناك بعض الفصائل تحاول أن تجرب خطاً آخر.
^: التفجيرات التي تحدث وسط تجّمعات شيعية مدنية مثل تجمّعات العمّال؛ هل هي من أعمال المقاومة في تقديركم؟
| إن هذه الأعمال في رأيي الشخصي إنما هي أعمال مخابرات دولية تتناوب عليها المخابرات التابعة لـ (السي آي إيه) والموساد ومخابرات بعض دول الجوار، وهذا لم أقله أنا، بل قاله وزير الداخلية في حكومة (إياد علاوي) (فلاح النقيب) ، فعندما سألوه عن المفخخات قال: لدينا ملف كامل عن المفخخات مسؤولة عنها إحدى دول الجوار، أو الجزء الأعظم منه مسؤولة عنه إحدى دول الجوار.
^: لكن في بعضها يقوم أشخاص بتفجير أنفسهم؟
| ممكن، ففي إيران توجد كتائب (استشهادية) فيها أربعون ألف متطوع ومتطوعة، هذا نقله مركز (زاد) للدراسات الإيراني المعروف، حيث ذكر أن هناك عناصر من كتائب خاصة تنفذ العمليات في العراق.
الساحة مفتوحة، وكل شيء وارد، أنا لا أنكر أن يكون هناك بعض (المتشددين) يفعلون هذا، ربما، لكن هناك عمليات غير منطقية، كالتي تقع في الأسواق مثلاً، أو في أماكن تجمّع العمّال البسطاء. وأريد أن ألفت الانتباه إلى ملاحظة هامة، وهي أن كثيراً من العمليات ليس فيها استشهاديون أو انتحاريون؛ إنما القنوات الإعلامية تأخذالمعلومات من الشرطة، والشرطة بدورها إنما هي ميليشيات كلها، فهي على الفور تبث لوسائل الإعلام أنها عمليات انتحارية؛ لكي تتهم بها المقاومة، وقد سألت خبراء متخصصين في التفجيرات حتى نكتشف هذه العملية: أكانت استشهادية أم انتحارية؟ فأجابوني: حتى يأتي الخبير، والخبير يتراوح زمن قدومه بين ثلاثة أرباع الساعة إلى الساعة. ولو لاحظنا زمن إعلان خبر التفجير، فإنه يكون خلال دقائق معدودة نبأ بأنها عملية انتحارية.
ولو سألت قناة الجزيرة أو العربية: من أين عرفتم أنها انتحارية؟ فسيقولون لك: إنها كانت مصادر الشرطة. وإن مصادر الشرطة ليست مصادر مؤسساتية مستقلة حتى تعطيك معلومات صحيحة.
البيان: بخلاف الجنوب؛ ما أكثر المناطق التي يتعرض أهل السنّة فيها للذبح؟
| بغداد وضواحي بغداد، كل هدفهم بغداد؛ لأنه من يملك بغداد يملك العراق. إيران همّها بغداد، والحكومة همّها بغداد، والأمريكان همّهم بغداد، والمقاومة همّها بغداد، والمعركة الفاصلة ستكون في بغداد.
^: هل فعلاً يتم تهجير السنة قسراً في بعض الأحياء؟
| إي والله، إنهم يهجّرون ويقتلون ويذبحون بأبشع مجزرة في التاريخ (القديم والحديث) .
^: كم كانت نسبة السنة في بغداد في بداية الاحتلال؟
| نسبة السنة تقدّر النصف تقريباً (50%) إن لم يكن أكثر! في تقديري الآن انخفضت النسبة إلى الربع. هذا مخطط أمريكي مرسوم. إن الهدف القائم الآن من قِبَل الحكومة والمليشيات الإنهاء على الوجود السنّي في بغداد، عنذ ذلك تملك بغداد ثم تملك العراق.
^: هل يمكن أن تنجح إيران في إقامة الفيدرالية؟
| لا أعتقد أن هذا سيحدث، هذا ليس من مصلحة الدول، وأنا قلت هذا منذ وقت مبكر، سيضطر الأمريكيون أن يعيدوا الحكم الموحد القوي للعراق.. الفيدرالية لو أُقيمت فإنها تعني: أن إيران ستضع الخليج ودوله بين فكّيها.
^: ما مكاسب الصفويين من السيطرة على بغداد؟
| سيسيطرون على الجنوب كله، وعلى كل منابع النفط، وربما يمتدون إلى سامراء، وهذا مخططهم، ويأخذون الوسط والجنوب، ويصير السنة في الأنبار وصلاح الدين والموصل، وهذا هو المخطط.
^: والموصل ينازع عليها الأكراد؟
الأكراد نعم. وإذا لم تتحسن الأمور فإننا من الممكن أن ندخل في نفق مظلم لا نهاية له.(233/19)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
من هنا وهناك
علامة تعجب
مرصد الأحداث
من هنا وهناك
ـ ذكرت قناة الجزيرة في نشرة إخبارية أن هناك تنامياً كبيراً داخل المجتمع الإسرائيلي لظاهرة شراء الدينار العراقي؛ طمعاً في الحصول على أرباح كبيرة قادمة؛ وتوقعاً لارتفاع أسعاره. [2/12/1427هـ]
ـ ذكر التقرير الذي يقدمه البنتاغون إلى الكونجرس الأمريكي بصفة دورية أن أعمال (العنف) قد بلغت مستوى غير مسبوق في العراق، وقال التقرير، الذي صدر متزامناً مع أداء (روبرت غيتس) اليمين الدستورية كوزير جديد للدفاع خلفاً لدونالد رمسفيلد: إن متوسط العدد الأسبوعي للهجمات في العراق قد ارتفع بنسبة 22% خلال الفترة ما بين منتصف أغسطس إلى نوفمبر الماضيين، وارتفع عدد الهجمات إلى ألف هجوم أسبوعياً مقابل 800 هجوم أسبوعياً في الفترة ما بين مايو وأغسطس.
[موقع بي بي سي 19/12/2006م]
ـ أعلن وزير الخارجية الإيراني (منوشهر متكي) أن طهران مستعدة لمساعدة الولايات المتحدة على الانسحاب من العراق شريطةَ أن تغيّر واشنطن موقفها من طهران، وقال المسئول الإيراني الذي كان يتحدث في مؤتمر حول الأمن في الخليج تستضيفه البحرين: «إذا غيّرت الولايات المتحدة موقفها فإن جمهورية إيران الإسلامية مستعدة لمساعدة هذه الإدارة، عندما يقولون: إنهم قرروا الانسحاب من العراق؛ سنشرح لهم كيف يمكن للمنطقة أن تساعدهم» .
[وكالات 9/12/2006م]
ـ في استمرار لحملة التشويه المبرمجة التي تقودها قطاعات من حركة فتح ضد حركة المقاومة الإسلامية، زعم سلطان أبو العينين، مسئول فتح في لبنان، أن حماس فشلت في تسيير أمور السلطة؛ حيث أصبحت حكومتها صندوقاً للتبرعات، وادعى أبو العينين أن حماس اغتالت أكثر من 40 كادراً من حركة فتح في فلسطين منذ تسلمها السلطة.
[موقع الحدث 17/12/2006م]
كشفت صحيفة (ديلي تليجراف) البريطانية أنه خلال 2006م تمت تسمية 4255 طفلاً باسم محمد، ليصبح بذلك أكثر انتشاراً من اسم (جورج) الذي سمي به 3386 مولوداً، وحمل اسم (جوزيف) 3755. وأكد مكتب الإحصاء الوطني أن اسم محمد بذلك يكون قد حل في المرتبة الثانية والعشرين على لائحة أكثر الأسماء الدارجة للأطفال الذكور في بريطانيا، والتي يحتل مركز الصدارة فيها لهذا العام اسم (جاك) . ومن المعروف أن اسم (محمد) هو أكثر الأسماء انتشاراً في العالم الإسلامي تعبيراً من المسلمين عن علامة تعجب
على تقصيرها في الذبح
ذكرت الجزيرة أن هناك حديثاً يدور حول مفاوضات واتفاق بين قادة الطوائف الشيعية على مواجهة فرق الموت.
[نشرة الأخبار الفضائية 2/12/1427هـ]
وفي الحروب نعامة!
صرح الرئيس السوري في مقابلة نشرتها صحيفة (لاريبوبليكا) الإيطالية الشهر الماضي: «إن كثيراً من الأصوات ترتفع في إسرائيل للمطالبة بحوار مع دمشق. وأضاف: «أقول إذن لأولمرت: ليقم بمحاولة لرؤية ما إذا كنا نخدع؟!» . [18/12/2006م]
رمي الجمرات و (الجمرة الرابعة)
واصل الرئيس التونسي المدعو (زين العابدين) بن علي تهجمه على الإسلام، حيث قال في حديث مع صحيفة لوموند الفرنسية: إن الحج هو رمز من رموز الجاهلية الأولى؛ حيث كان الناس يعبدون الأصنام. ودعا التونسيين إلى توفير أموالهم للنماء والإعمار!
[صحيفة الخبر الجزائرية]
بين جيش المهدي وجيش المالكي
قال بعض أهالي حي الحرية، الذي تسكنه أقلية سنية في بغداد: إن ميلشيات جيش المهدي هاجمت مناطقهم، وأجبرتهم على مغادرة منازلهم بعد مواجهات مسلحة جرت تحت أعين قوات الجيش الحكومية، والتي التجأ إليها السكان؛ لكي تعاونهم في مواجهة جيش المهدي، ولكنهم رفضوا التدخل! وقال قائدهم العسكري للأهالي وهم يخرجون من المنطقة: «أنتم جبناء! ارجعوا إلى بيوتكم وقاتلوا، احموا أنفسكم» . [موقع الحدث 10/12/2006م]
انتظار البلاء (السياسي) أشد من وقوعه
هذه المقولة تبدو صادقة إلى حد كبير في عالم السياسة، ومثالها لجنة التحقيق في اغتيال الحريري، فهي كما يلوح في الأفق لجنة معمرة ربما تتعامل معها الأجيال القادمة من السياسيين والحكام العرب، وإذا كان الكشف عن قتلة الحريري هو البلاء الذي يخافه البعض، فإن انتظاره والتلويح بقربه ربما يكون أكثر تأثيراً بالنسبة لواشنطن، فلجنة التحقيق ورقة يمكن التلاعب من خلالها بقوى كثيرة محلية وإقليمية، بينما كشف غموض الاغتيال ورقة محروقة تستخدم لمرة واحدة فقط وقد تأتي في غير موعدها فتصبح بلا قيمة. بينما لجنة (بيرميرتس) متعددة الأغراض واسعة المجال والمفعول، فهي تُستخدم للتأديب السياسي، وللتسخين أيضاً، كما لها أثر بالغ في تسوية الخلافات وإثارتها على السواء، أو على النار لا فرق.
وقد كانت أمريكا تسعى لتحويل محاكمة صدام إلى سيناريو مشابه، ولكن الرأي العام اكتشف أن صدام لا يملك أسراراً تخفى على واشنطن، أليس غريباً أننا لم نسمع عن تحقيق جِدِّيٍّ مع الرئيس السابق، ولم يعلن عن أي معلومات ذات قيمة تم الحصول عليها منه؟! ألا يعني ذلك أن الرجل كان غامضاً مع شعبه، بالغ الصراحة مع الأمريكان؟!
حبهم للرسول #. [بتصرف، موقع (المصريون) 23/12/2006م]
أخبار
دورة السلاح في العراق
أكدت صحيفة (نيويورك تايمز) أن مسؤولين في الجيش العراقي يبيعون الأسلحة الأمريكية إلى من وصفتهم بـ «الإرهابيين» . وقالت: إن ارتفاع أسعارها أخيراً؛ بسبب تصاعد الاحتقان المذهبي. وذكرت الصحيفة أن العديد من مختلف قطع الأسلحة التي خصصتها الولايات المتحدة لعشرات الآلاف من قوات الشرطة والجيش العراقي تمت سرقتها أو بيعها لتستقر فى السوق السوداء؛ حيث تباع بأثمان باهظة. وأوضحت أن أسعار هذه الأسلحة آخذة في الارتفاع مع اتساع رقعة الحرب الطائفية؛ حيث يرفع العديد، من الذين يسرقون هذه الأسلحة لبيعها فى السوق السوداء، أسعارَها لتصبح أعلى بكثير من الأسعار التي كانت سائدة عند بدء الغزو الأمريكي للعراق منذ ما يقرب من أربع سنوات.
وأضافت الصحيفة: إن هناك ثلاثة أنواع من الأسلحة التي خصصتها الولايات المتحدة للشرطة والجيش العراقي متوافرة فى الوقت الراهن داخل المحلات التجارية والأسواق، وهي مسدسات من طراز عيار 9 مم، ورشاشات كلاشينكوف غير مستخدمة كانت قد أتت أصلاً من دول أوروبا الشرقية.
وقال العميد حسن نوري، رئيس مكتب التحقيقات السياسية فى محافظة السليمانية: إن هذه الأسلحة تذهب من الجيش الأمريكي إلى الجيش العراقي، ثم إلى أيدي المهربين. وإنه تمكن من مصادرة العديد من هذه الأسلحة بعد أن اشتراها من وصفهم بـ «الإرهابيين» . [وكالات 10/12/2006م]
(نزيهة) ... ذهبت بلا عودة!
قال محمد نزَّال، عضو المكتب السياسي لحركة حماس: «إن مسئولين فلسطينيين موالين لعباس قاموا بالاجتماع مع آخرين صهاينة ومصريين وممثلين عن الاتحاد الأوروبي، وتم التوافق خلال اجتماع بينهم على عدم السماح بإدخال أي أموال مساعدة مالية للفلسطينيين عبر معبر رفح» ، وأضاف: «إن رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير (صائب عريقات) حصل على تعهد (مصري) بالعمل على عدم وصول الأموال إلى الفلسطينيين عبر معبر رفح» .
واعتبر نزَّال أن التطورات الأخيرة هي «جزء من مخطط فلسطيني عربي دولي لإسقاط الحكومة، وتمهيد الأجواء لإجراء انتخابات مبكرة» ، وقال نزال: «إن مستشار الأمن القومي (إليوت أبرامز) ، وهو أمريكي من أصل يهودي، هو صاحب نظرية إسقاط الحكومة في الإدارة الأمريكية الحالية» ، مشيراً إلى أنه يتقاطع في توجهاته هذه مع (عاموس جلعاد) المستشار في وزارة الحرب الصهيونية، وأضاف: «إن هذا التيار الاستئصالي توافق مع تيار داخل السلطة الفلسطينية يقوده عضو المجلس التشريعي عن حركة فتح، ورئيس جهاز الأمن الوقائي سابقاً، محمد دحلان» .
وأكد نزَّال أن الحكومة الفلسطينية ترفض الانتخابات المبكرة، وتعتبرها انقلاباً على الشرعية الفلسطينية، مؤكداً: «إنها لن تكون نزيهة؛ لأن إجراءها بنزاهة سيؤدي إلى فوز حماس بالمجلس التشريعي والرئاسة، وهو خيار لن تقبله السلطة ولا الكيان الصهيوني والولايات المتحدة» ، وقال: «إن الانتخابات التشريعية التي جرت مطلع هذا العام ستكون الأولى والأخيرة التي تتسم بالنزاهة» ، وأضاف: «إن واشنطن وصلت إلى اقتناع بأن أي انتخابات نزيهة بالمنطقة ستأتي بالإسلاميين إلى السلطة؛ وبالتالي لم تعد تسعى لذلك» .
وكانت صحيفة (معاريف) الصهيونية نقلت عن رئيس جهاز الاستخبارات الصهيوني (يوفال ديسكن) قوله في تقرير أمني قدمه للحكومة: إن عباس أوكل إلى دحلان مهمة إقامة قوة عسكرية جديدة؛ تمهيداً لمواجهة (عسكرية) مع حماس.
[المركز الفلسطيني للإعلام] سوريا تبيع (الدب) قبل صيده!
الأصل في المثل أنه يقول: «لا تبع فراء الدب قبل صيده» . ومن الواضح أنه مثل غربي، فليس في بلادنا العربية دببة أو بطاريق، فهناك الدب الروسي والدب القطبي الأوحد، أي أمريكا، وقد تملَّكت دمشق النشوة إثر تصاعد الأحداث في لبنان، وهي ترى قدرتها على تحريك الساكن وتجميد المتحرك في البلد المنكوب، فانطلق المسئولون السوريون يعلنون في تصريحاتهم بيع الدب نفسه وليس بيع فرائه فقط. وفهذا نائب رئيس الوزراء السوري عبد الله الدردري اعتبر في مقابلة نشرتها صحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية أن عُزلة بلاده الدولية انتهت، وأن القوى الغربية أدركت ضرورة العمل مع دمشق، وقال الدردري: «إن (الناس) أدركوا في العواصم الغربية أنهم إذا أرادوا أن يكونوا نافذين في الشرق الأوسط، فلا يمكن تجاهل دمشق» ، مؤكداً أن «العزلة السياسية السابقة لسورية قد انتهت» . وأضاف مؤكداً: «العزلة لم تعد قائمة» . وأشار الدردري في المقابلة مع الصحيفة الاقتصادية إلى أن الولايات المتحدة كانت تقوم في السابق بتقديم لائحة مطالب إلى سورية لإنهاء ممارسات مختلفة بدلاً من التحاور حول مواضيع ذات اهتمام مشترك، معتبراً أن هذا الموقف أظهر عدم فاعليته، وقال: «هذا الأمر لم ينجح في نيسان 2003م بعيد اجتياح بغداد. وإذا كان هذا الأمر لم ينجح في تلك الفترة في أوج النفوذ الأمريكي في المنطقة؛ فإنه لن ينجح الآن» ، مؤكداً على أن الأولوية بالنسبة لدمشق هي ضمان استعادة هضبة الجولان التي احتلتها إسرائيل عام 1967م.
(فتح) ملفات الفساد اتهم أبو مازن في خطابه الانقلابي الشهير حركة حماس بأنها تسرق أموال المساعدات العربية التي بذل هو جهوداً كبيرة في توفيرها! ويأتي هذا الاتهام بينما كانت السلطة الفلسطينية غارقة في الفساد إلى أذنيها قبل الانتخابات الأخيرة، وهذا الاتهام بالغ الخطورة كونه يخلط الأوراق ويحذف تراثاً متراكماً من الفساد عبر عشرات السنوات حققته حركة فتح، ويوجه اتهاماً فاضحاً إلى أنظف حكومة فلسطينية تسلمت الحكم منذ تأسيس السلطة الفلسطينية.
وفي هذا السياق نكتفي فقط بذكر شهادات وإجراءات قالها واتخذها فتحاويون في مواجهة فتحاويين، وإن كان ذلك بالطبع لا ينفي وجود تيار وطني شريف داخل حركة فتح.
ـ قبل تشكيل حماس للحكومة الفلسطينية العاشرة بفترة وجيزة أعلن النائب العام الفلسطيني أحمد المغني أن النيابة تحقق في 50 قضية فساد مالي وإداري، وأشار إلى أن قيمة الأموال المهدورة والمختلسة فيها تبلغ أكثر من 700 مليون دولار، بينها قضية بمبلغ 300 مليون، منوهاً إلى أن الأمر يتعلق بمسئولين كبار ومتنفذين في السلطة.
ـ في 3 فبراير من العام الحالي ألقت أجهزة الأمن الفلسطينية القبض على مدير عام وزارة المالية سامي رملاوي، بينما كان يحاول مغادرة الأراضي الفلسطينية إلى الخارج عبر جسر الملك حسين في غور الأردن، وبحوزته حقيبة دبلوماسية بداخلها 100 مليون دولار!
ـ في حديث لسلام فياض وزير المالية السابق قال: إن مداخيل الخزينة في السلطة قد ارتفعت بمقدار 30 مليون دولار في الشهر خلال عام 2004م؛ نتيجة مكافحة الفساد! أي بمعدل 360 مليون دولار سنوياً.
ـ نشرت مجلة (فوربس) الأمريكية الاقتصادية المعروفة تقريراً يضع عرفات في المرتبة التاسعة بين حكام الدول الأكثر ثراءً في العالم، وقدر جويد الغصين الرئيس السابق للصندوق القومي الفلسطيني ثروة عرفات بأنها تبلغ (3 ـ 5) مليار دولار، وذلك بعد خلافه مع عرفات.
ـ ذكر تقرير لصندوق النقد الدولي نشر في عام 2003م أنه تم تحويل 900 مليون دولار بين عامي 1995 و2000م من ميزانية السلطة إلى حساب مصرفيِّ خاص باسم عرفات.
ـ أحد كبار فتح نفسها (محمد جهاد) لم يتورع عن القول: إن عرفات قد أحاط نفسه بثلة من اللصوص والمبتزين، كما ذكر محسن صالح في كتابه: (القضايا الفلسطينية خلفياتها وتطوراتها حتى العام 2001م) .
ـ في حوار مع صحيفة عكاظ، 27/5/2004م، قال جبريل الرجوب عن محمد دحلان: «ليس مهماً أن أعطي أي أجوبة حول دحلان؛ لأنه لا يهمني إطلاقاً، هو عميل والجميع يعرف» .
ـ في عام 1997م صدر تقرير لجنة المراقبة في المجلس التشريعي الفلسطيني مؤكداً أن الفساد المالي في أجهزة السلطة والسرقات قد طالت 326 مليون دولار أمريكي.
ـ مدير عام هيئة البترول حربي الصرصور، اعتقِل بتهمة اختلاس أموال وشراء عقارات بمسميات عدة، واختلاس أموال تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
ـ كشفت لجنة تحقيق تابعة للمجلس التشريعي، الذي كانت فتح تسيطر عليه وقتها: أن جمال الطريفي، وزير الشئون المدنية السابق، كان يستورد الإسمنت من مصر لحساب السلطة، ثم يقوم بإعادة بيعه للصهاينة مرة أخرى؛ حيث يُستخدم في بناء المستوطنات والجدار العازل.
ـ في أغسطس 2005م، وبعد الانسحاب الصهيوني من غزة، كشف رئيس سلطة الأراضي الفلسطينية فريح أبو مدين في مؤتمر صحفي أن التعديات على 80% من الأراضي الحكومية في القطاع هي من قبل مسؤولين ومنتسبين للأجهزة الأمنية الفلسطينية، وصفهم بأنهم من «أثرياء السلطة» .
ـ صحيفة الـ (صنداي تايمز) اللندنية ذكرت أن أرملة عرفات حصلت بعد موته مباشرة، بناءً على اتفاق مع رئيس وزراء السلطة آنذاك أحمد قريع، على 13 مليون جنيه إسترليني فوراً، بالإضافة إلى 800 ألف جنيه إسترليني تصرف لها سنوياً لحين بلوغها سن التقاعد؛ على اعتبارها موظفة رسمية في مكتب الرئيس قبل زواجه منها! ثم يصرف لها بعد التقاعد مبلغ 300 ألف جنيه إسترليني سنوياً مدى الحياة.
ـ نشرت الحياة اللندنية في 5 سبتمبر 2005م أن آلاف من الموظفات في مؤسسات السلطة الفلسطينية ودوائرها يحصلن على رواتب وهن غير موجودات في الأراضي الفلسطينية منذ سنوات طويلة، وأن بعضهن زوجات مسؤولين كبار في السلطة الفلسطينية، وقد قدر عددهن بأربعة آلاف.
ـ صرح وزير الإعلام الفلسطيني الدكتور يوسف رزقة في مايو 2006م: إن عدد موظفي وزارته 162 موظفاً، وإن 127 منهم مدراء ورؤساء أقسام، أي نحو 78.4% هم في وظائف إشرافية.
ـ لاحظت استطلاعات الرأي العام في الضّفة والقطاع أن نسبة المعتقدين بوجود فساد في السلطة الفلسطينية ومؤسساتها ارتفعت من 49% في سبتمبر 1996م إلى 71% في يونيو 1999م، إلى 83% في يوليو 2001م، و81% في ديسمبر 2003م، أي أن الإجماع الفلسطيني على وجود فساد في السلطة كان أكبر من أي إجماع آخر، حتى على انتفاضة الأقصى نفسها.
(المعلومات مستقاة من تقرير وائل السعيد حول الفساد في المنظمة والسلطة، ونشره المركز الفلسطيني للإعلام على الإنترنت) .
س وج
س: هل هناك مؤشرات تبين توجهات الرأي العام الفلسطيني حول الأحداث الأخيرة ودعوة (أبو مازن) إلى انتخابات مبكرة؟
ج: تشير أحدث استطلاعات الرأي إلى ارتفاع نسبة المؤيدين لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) ، بالرغم من الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني وحكومته منذ تسعة أشهر، مقابل تراجع لحركة (فتح) ، إضافة إلى رفض الانتخابات المبكرة التي دعا إليها رئيس السلطة محمود عباس.
وكان من أبرز ما نشر في هذا الشأن؛ استطلاع أجراه موقع قناة (الجزيرة) على شبكة الإنترنت، الذي بيّن أن 82.4 في المائة من إجمالي المشاركين في الاستطلاع، وعددهم أكثر من أربعين ألفاً، لا يؤيدون الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، فيما أيدها فقط 17.67 في المائة من إجمالي المصوتين. وفي استطلاع آخر، يجريه موقع صحيفة القدس الفلسطينية وشارك فيه قرابة 11 ألفاً؛ قال نحو 48.52 في المائة من المشاركين في الاستطلاع: إنهم سيصوتون لصالح حركة حماس إذا أجريت الانتخابات المبكرة، فيما قال 30.35 في المائة: إنهم سيصوتون لصالح حركة فتح. وفي إجابتهم على سؤال، يطرحه موقع إخباريات الإلكتروني: إذا جرت انتخابات مبكرة لمن ستصوت؟ قال 56.3 في المائة من المشاركين في الاستطلاع، والذي بلغ عددهم 1200 زائر: إنهم سيصوتون لحركة حماس، و32.9 في المائة لفتح» . أما نتيجة استطلاع موقع (فلسطين اليوم) ، والذي شارك فيه نحو ألف زائر، حول موقفهم من دعوة رئيس السلطة محمود عباس لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة فكانت على النحو التالي: 61.68 في المائة يرفضون هذه الدعوة، فيما أيدها 38.32 في المائة. وفي استطلاع لموقع (فلسطين الآن) ؛ أجابت الغالبية (67.5 في المائة) من المشاركين في الاستطلاع وعددهم نحو خمسمائة، أن الخروج من الأزمة السياسية الراهنة يكون بإجراء انتخابات رئاسية فقط، مقابل 22 في المائة رأوا بأنه مرتبط بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، و10.4 في المائة غير ذلك. أما الاستطلاع الذي يجريه موقع (المركز الفلسطيني للإعلام) ، وشارك فيه حتى الآن نحو سبعة آلاف مصوت؛ فإن 85.88 في المائة من زوار الموقع أعربوا عن رفضهم لدعوة عباس، فيما أيدها 13.37 في المائة. [المركز الفلسطيني للإعلام]
س: كيف تنظر مراكز الدراسات الأمريكية إلى مشروع نشر الديموقراطية في ضوء فوز الإسلاميين المرجّح دائماً؟
ج: يمكن أن نأخذ مثالاً على ذلك: التقرير الذي نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، وهو تابع لمنظمة (إيباك) الصهيونية في أمريكا، ويعتمد التقرير الذي يقدم وصفة لكيفية هزيمة الإسلاميين في الانتخابات على دراسات مختصرة لثلاثة من المتخصصين، كان أبرزهم الإيطالي (سونر جاجابتاي) ، الذي اعتبر أن ضعف الأحزاب الليبرالية العلمانية في العالم الإسلامي هو السبب الرئيس لفوز الإسلاميين؛ بسبب سياسات القمع، وهو يتهرب من الاعتراض بأن الإسلاميين تعرضوا لقمع مماثل بالقول: إنهم استخدموا المساجد كبديل للمنظمات والأحزاب. أما في الدول التي لم تشهد قمعاً فيعتبر (جاجابتاي) أن انتشار الفساد لدى الاتجاهات غير الإسلامية عاملاً مهماً في فوز الإسلاميين، كما في تركيا وفلسطين، وأيضاً يرجع تأثير كبير لتوفر تمويل ضخم للإسلاميين ـ كما يزعم ـ وذلك بخلاف الليبراليين.
وفي نهاية دراسته يحدد (جاجابتاي) ثلاثة عوامل مهمة لهزيمة الإسلاميين في الانتخابات، وهي: أولاً: تحديد الحلفاء بوضوح، وهم المسلمون من غير الإسلاميين، واعتبار أن معركة الغرب مع الإسلاميين وليس عموم المسلمين. ثانياً: تعميق التمييز والانقسام بين المسلمين والإسلاميين من خلال إقامة أنشطة موازية لما تقوم به الحركات الإسلامية، خاصة في مجالات: التعليم، والصحة، والمجتمع المدني، والمساعدات الاجتماعية. ثالثاً: رفع تكلفة العمل مع الإسلاميين من خلال استخدام المنح والمعونات الأمريكية ومزايا الهجرة وغيرها كوسائل للضغط على غير الإسلاميين، ويلفت (جاجابتاي) إلى أهمية استغلال الجاليات العربية في محاربة الإسلاميين، مذكراً بالتجربة الأمريكية في محاربة الشيوعيين في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية.
أما المحلل (جريجوري جوس) فيعتبر أنه لا بديل عن تأجيل نشر الديموقراطية في العالم العربي؛ لأن النتائج النهائية لتلك التجربة لا تتفق مع المصالح الأمنية الأمريكية.
أما الباحثة القبطية منى مكرم عبيد فدعت إلى استراتيجية مزدوجة تتبنى تشجيع البديل الليبرالي، ودمج التيار الإسلامي المعتدل في الحياة السياسية نظراً لصعوبة استئصاله من المجتمع.
[بتصرف عن موقع ميدل إيست أون لاين23/12/2006م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
تصريحات
إن إسرائيل تفهم العملية السلمية على أنها فرصة لإضعاف الطرف المحتلة أراضيه ويتعرض إلى الاضطهاد؛ ولذلك فإنها ترفض تنفيذ اتفاقات (أوسلو) ، وتحاول استبدال قيام الدولة الفلسطينية بهياكل فلسطينية تكون تابعة لها وبمثابة وحدة إدارية في إطار دولة إسرائيل.
[نائب رئيس مجلس النواب التشيكي، ورئيس الحزب الشيوعي التشيكي (فويتيخ فيليب) ـ معاريف 21/12/2006م]
«بما أننا نعيش في عصر المعلومات فإننا نجد أن العالم الإسلامي ينقصه المعلومات الأساسية عن إسرائيل، لذا أطلقت وزارة الخارجية الإسرائيلية موقعاً على الإنترنت باللغة الإندونيسية، يهدف إلى إيجاد حوار مع إندونيسيا أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان» .
[السفير الإسرائيلي في سنغافورة إيان بن دوف ـ موقع وزارة الخارجية]
«هل يعقل أن ينشأ لدينا جيل لا يعرف ما هي حدود إسرائيل في عام 1948م، ولا يعرف كيف دارت حرب 1967؟ وكيف تم تحرير القدس الشرقية وحائط المبكى، وتوحيد القدس؟» .
[وزيرة التعليم الإسرائيلية (يولي تامير هارت س) 5/12/2006م]
ترجمات
أبلغ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية خلال اجتماعهما في طهران بضرورة «التريث لحين خروج إيران بعد أربعة أشهر ببيان دراماتيكي حول تغيير ميزان القوة الاستراتيجي في المنطقة» . [معاريف 18/12/2006م]
فرضت المحكمة العليا الإسرائيلية قيوداً على سياسة الجيش في اغتيال النشطاء الفلسطينيين؛ لكنها رفضت التماساً يطالب بتجريم هذه الممارسة تماماً. [هاارتس 16/12/2006م]
عاد نادي (هاكوه) الرياضي اليهودي إلى مقره القديم في فيينا بعد ما يزيد على 60 عاماً من قيام النازيين بإغلاقه. وبدأ تشييد الملاعب الجديدة رسمياً في موقع المبنى القديم للنادي الذي صادره الحكام النازيون للنمسا عام 1938م. يذكر أن نادي (هاكوه) الذي أنشئ عام 1909م ظل لفترة طويلة أكبر رابطة رياضية للهواة في العالم. [معاريف 14/12/2006م]
ارتفعت حصيلة استثمارات الإسرائيليين في العقارات في الخارج بعشرة أضعاف في غضون سنتين: إلى 61 مليون دولار» . [صحيفة زي ماركر الاقتصادية 3/12/2006م]
«قررت شركة الطاقة المملوكة للدولة في إسرائيل البدء في إنتاج كهرباء متوافقة مع الشريعة اليهودية، في محاولة لإرضاء المتشددين اليهود تتكلف 10 ملايين دولار لـ (مَيْكنة عمليات الإنتاج، وتعيين عمال من (الأغيار) ، أي: من غير اليهود؛ لإنتاج الكهرباء يوم السبت، يوم العطلة الأسبوعية لليهود، دون مخالفة الشريعة اليهودية» . [معاريف 17/12/2006م]
أخبار التنصير
استراتيجية التنصير في السنغال
أكد رئيس المجلس الإسلامي بالسنغال الشيخ (سيد غالي لو) ، أن التنصير في السنغال لا يحتاج إلى غزو؛ حيث تعمل المئات من المنظمات التنصيرية في السنغال على قدم وساق، ولا تجد هذه المنظمات أدنى صعوبة. وأشار الشيخ (لو) إلى أن الأثرياء من أبناء المسلمين يذهبون إلى هذه المدارس لتلقي علومهم! وهناك إقبال على المستشفيات التي تحمل شعار الصليب الأحمر؛ في وقت لا توجد المستشفيات التي تحمل شعار الهلال الأحمر.
وأضاف الشيخ (لو) في حواره مع شبكة (الإسلام اليوم) : إن الأعياد المسيحية تحوّلت إلى أعياد رسمية، وليس عيدا الفطر والأضحى، ومع ذلك فإن استراتيجية التنصير في السنغال تعتمد على إيجاد تباعد وهوة بين المسلم ودينه الحنيف، بحيث لا يلعب الدين دوراً في حياته، وهو ما يُعدّ أفضل لديها من أن يكون مسيحياً.
وتابع قائلاً: كذلك ينتشر المنصرون بين القبائل الوثنية، فهم يفضلون استمرارها في عبادة الأصنام على اعتناق الإسلام الذي يُعدّ الدين الأكثر اعتناقاً في أوساط الوثنيين.
[الإسلام اليوم 18/12 /2006 م]
محاضرة البابا المسيئة للإسلام تفوز بجائزة (كلمة العام)
منح مؤتمر الخطابة المحاضرةَ التي أساء فيها (بنديكت) السادس عشر للإسلام ولشخص الرسول # جائزة (كلمة العام) .
وكانت المحاضرة التي ألقاها بابا الفاتيكان بجامعة (ريجينسبرج) الألمانية في سبتمبر الماضي، والتي تأسّف بعدها لسوء فهم المسلمين لمحاضرته وغضبهم؛ ولكنه لم يعتذر! ذلك بعد أن ربط في محاضرته بين الإسلام والعنف، وتعرض للنبي محمد #، مدعياًَ بأنه لم يأتِ إلا بكل ما هو شر.
وزعمت الهيئة المانحة لهذه الجائزة أن «موضوع الكلمة التي أُسيء فهمها عمداً هو العلاقة بين العقل والإيمان في المسيحية، وتأكيد العقيدة المسيحية التي تتصرف بعقلانية توافق طبيعة الله» .
ويمنح مؤتمر الخطابة جوائز (كلمة العام) منذ عام 1998م، ومن بين الذين حصلوا على الجائزة: وزير الخارجية الألماني السابق (يوشكا فيشر) والنائب الفرنسي الألماني بالبرلمان الأوروبي (دانييل كون بنديت) .
[رويترز 18/12/2006م](233/20)
إيران توصي حلفاءها في العراق بطاعة الأمريكان
الشيخ حارث الضاري الأمين العام لهيئة علماء المسلمين في العراق
الشيخ الدكتور: حارث الضاري
مطالب السنَّة وغيرهم من القوى الوطنية المعارضة للاحتلال في مقدمتها إنهاء الاحتلال، فرحيل قوات الاحتلال من العراق؛ لأن كل ما حصل للعراق والعراقيين من أذى وسوء وشر هو بسبب الاحتلال. المطلب الأول لكل عراقي وطني واعي ينبغي أن يكون هو رحيل الاحتلال.
مطالبة إيران برحيل الاحتلال مطالبة أعتقد أنها غير صادقة؛ لأن هناك من الأدلة ما يؤكد أنها غير صادقة وغير جدية؛ إنها توصي حلفاءها في العراق بأن يطيعوا الأمريكان وأن يتعاملوا معهم إلى أبعد الحدود، ثم إن تصريحات بعض مسؤوليهم تدل على أنهم لا يريدون رحيل الاحتلال، ولكن يريدون تصعيد الأزمة في العراق، ويبقى العراق هكذا مغموساً في وحل المشاكل والجرائم والفوضى وما إلى ذلك لكي يدخلوا، ولكي يتمكنوا أكثر فأكثر في العراق؛ إذ صرح أحد مسؤوليهم بقوله: «إننا ندعم بعض الجهات التي تقاوم الاحتلال، حتى تلك الفصائل المتطرفة التي تقتل الشيعة» فلما قيل له: لماذا تدعمونهم وهم يقتلون الشيعة وقتلوا محمد باقر الحكيم؟ قال: «هذا الموضوع غير مؤكد؛ فمصلحة إيران الاستراتيجية والوطنية تقتضي أن ندعم هؤلاء ليبقى الوضع في العراق على ما هو عليه» . قال ذلك بهذا المعنى ونقله عنه مصدر إيراني في بعض الصحف والفضائيات المعروفة.
المعارضون للاحتلال من أهل السنة وغيرهم لا يطالبون برحيل الاحتلال عن فراغ؛ وإنما لأنهم يعلمون أن لديهم القدرة على أن يملؤوا هذا الفراغ، وإلا فلماذا طالبوا برحيل الاحتلال؟ هذا أولاً. وثانياً: ليعلم الجميع أن الاحتلال هو وراء المشاكل كلها، وأنه إذا رحل فإن الكثير من هؤلاء الذين يستخدمهم في العراق لإحداث الفتن سيرحلون برحيله، ومن ثم سيعود العراق إلى أهله وبإرادة أهله وبقوة أهله الذين سيملؤون الفراغ.
أعتقد أن الاحتلال إذا رحل سينسحب الغطاء عن هؤلاء العملاء الذين يعيثون فساداً في أرض العراق، والذين يقفون وراء الجرائم المنظمة ضد هذه الفئة أو تلك، ولا سيما الموجهة إلى أهل السنَّة؛ فرحيل الاحتلال هو بداية سحب الغطاء عن هذه الجهات المجرمة، ومن ثم ستكشف لبقية أبناء العراق، وسيكون دورها ضعيفاً، ولا بد لها من أن تختفي من على وجه الأرض.
الاحتلال يرفضه 90 بالمائة من العراقيين؛ أما من يرفض هذه الحكومة ومشروع إيران في العراق، وهو مشروع التقسيم فيزيدون عن 70 إلى 80 بالمائة، هناك تنسيق في الأهداف، في الأفكار، في المواقف، وقد بدت واضحة والحمد لله يوم صدور المذكرة باعتقالي، فكانت هذه المذكرة بمثابة استفتاء على الحكومة وعلى معارضيها؛ إذ إن الكثير من الجهات الوطنية العراقية من مرجعيات دينية ومن قبلية وسياسية وغيرها كلها استنكرت هذه المذكرة واستهجنتها وازدرت الحكومة التي أصدرتها، فكانت كما قلت بمثابة استفتاء وضع الحكومة وأنصارها في زاوية ضيقة.
__________
(*) الأمين العام لهيئة علماء المسلمين في العراق.(233/21)
الرِّق الجماعي
د. يوسف بن صالح الصغير
تعتبر الفرقة الأجنبية من أفضل فرق الجيش الفرنسي أثناء الفترة الاستعمارية. وهي مؤلفة من مرتزقة مجندين يقاتلون من أجل المال، ومن أجل ممارسة هواية البطش والتسلط تحت لواء دولة ظاهرة. ولا ننسى انتكاس فطرة البعض أيام انتشار الرق؛ حتى إنه يفتخر بأنه عبدٌ للسلطان، ويتعامل مع المستضعفين من الناس كما لو أنه هو السلطان.
وفي هذا العصر تضاءل الرِّق الفردي، واستُبدِل بالرق الجماعي: رِّق الشعوب والأمم، أو رِّق الدول والمنظمات: فمن يستطيع أن يدعي أن منظمة الأمم المتحدة حرة وليست مسلوبة الإرادة من الأسياد؟! وسنجد في كل قارة دولاً ومنظمات وضعت نفسها تحت طلب الأسياد. وبسبب التداعي الجديد على الصومال سأركز في حديثي هذا على الحالة الأفريقية. وسنذكر أمثلة نبدأ فيها بأوغندا؛ فقد حصل فيها انقلاب عسكري قاده ضابط حصل على دورات تدريبية في الجيش الصهيوني، واستمر النظام الجديد في تأدية دور بلاده المرسوم في دعم الخطط الغربية لفصل جنوب السودان، ولكن بعد فترة من الزمن بدأ عيدي أمين يقترب من العالم الإسلامي ويحاول التحرر من الأسر، وكان إغلاق الحدود مع السودان كافياً لخنق التمرد الجنوبي، واضطراره لعقد اتفاقية سلام مع نظام جعفر نميري. وهنا بدأ الغرب محاولة إعادة الرئيس النصراني السابق الذي لجأ إلى تنزانيا التي كان يحكمها (جوليوس نيريري) ، وبعد محاولات فاشلة لإعادته عن طريق المعارضة الأوغندية قام الجيش التنزاني، الذي تم تجهيزه لهذه المهمة، بغزو أوغندا وسط ترحيب غربي، وتم إسقاط النظام، وعاد الحكم فيها إلى النصارى، وهنا عادت أوغندا إلى أحضان الشرعية الدولية، وبدأت تمارس دورها من جديد في جنوب السودان، وتطور الأمر إلى حصولها على وكالة من أمريكا لتتولى تصفية النفوذ الفرنسي في منطقة البحيرات الكبرى، وقام الجيش الأوغندي بغزو راوندا وبورندي والكونغو وتسليم الحكم فيها إلى أتباع (الأنجلوساكسون) ، ولم تصدر في حقها قرارات تحت البند السابع، ولم تُرسل قوات أممية لمنع الإبادة الجماعية التي ذهب ضحيتها مئات الألوف من (الهوتو) و (التوتسي) وقبائل الكونغو. إن تصرف أوغندا مبرر؛ لأنه دفاع عن النفس! ونحن الآن أمام مهمة جديدة للدفاع الشرعي عن النفس تقوم به إثيوبيا.
نعم إن إثيوبيا المسالمة، التي تحتل إقليم (أوجادين) الصومالي وتحمي بجيشها وجود حكومة (بيدوا) الشكلية، تتعرض للتهديد من إمكانية تشكل نظام صومالي جديد يعيد بناء دولة واحدة للصوماليين، الذين تعرضوا لعملية شرذمة وتقسيم، تمنع تكوّن تكتل إسلامي كبير؛ حيث إن وضعهم السياسي يشبه وضع الأكراد إلى حد كبير. فقد حرص الغرب على تقطيع أوصال الصومال الكبيرة إلى أجزاء، منها: الصومال الفرنسي (جمهورية جيبوتي) ، وأوجادين (تحت الحكم الإثيوبي) ، وغرب الصومال (تحت الحكم الكيني) ، والباقي يعرف بالصومال الإيطالي والإنجليزي؛ الذي تشكلت منه جمهورية الصومال التي أعيد تفكيكها بعد انهيار حكم زياد بري، وقسمت إلى جمهورية أرض الصومال، والباقي وُضع، بعد فشل محاولة الاحتلال الأمريكية، تحت سلطة حكومة ديمقراطية وهمية لم تدخل العاصمة مطلقاً؛ فبعد أن كانت في نيروبي (كينيا) انتقلت إلى ركن قِصيِّ، قريب من حدود إثيوبيا (بيدوا) .
حُكِم ما تبقى من الصومال من قبل ميليشيات قبلية متناحرة، وكانت العاصمة مسرحاً رئيسياً لمحاولة قادة الميليشيات القبلية إثبات وجودهم، وفُقِد الأمن، وانعدم العدل، وكان هذا وضعاً مثالياً لنهب ثروات البلد وتحويله إلى مكب للنفايات بدون رقيب ولا حسيب. وكان الوضع من السوء بحيث تقبل عامة الناس ظهور مشروع ريادي يتمثل في تحالف مجموعة؛ ممن يحبون العدل بقدر ما يكرهون الظلم، وتعاهدهم على رفض الظلم وأخذ الحق للضعيف من القوي، وسميت: (المحاكم الإسلامية) . وكان تكوُّنُ قوة مسلحة ضرورياً لتنفيذ الأحكام، وسرعان ما تقبلها الناس فكانت المتنفس الوحيد للضعفاء لأخذ حقهم، وحصل التحول الكبير في الصومال حيث برزت القيادة الشرعية، وتحول الولاء الأول من القبيلة إلى القاضي، وهنا جُنَّ جنون إفرازات الحرب الأهلية وهاجموا المحاكم الإسلامية، وحاولوا استثارة أمريكا باتهامها بالعلاقة بالقاعدة وأنها (طالبان) الصومالية، وكان الدعم الأمريكي دافعاً لصراع عسكري انتهى بسقوط قيادات الميليشيات القبلية وتكوُّن نواة سلطة مركزية جديدة تقوم على الراية الوحيدة التي يمكن أن يجتمع عليها كل الصوماليين؛ إنها راية الشريعة الإسلامية. مسافة لقد فُرِض الصراع العسكري على المحاكم؛ مما حولها بسرعة من مشروع دعوي إلى مشروع سياسي كبير، ووجد قضاة المحاكم أنفسهم يوضعون في المقدمة لِيمارسوا السياسة في محيط معادٍ حريص على القضاء على (طالبان) الجديدة في مهدها، وإنه يجب أن تعود الأمور إلى سابق عهدها قبل أن يعتاد الناس على الوضع الجديد، ويجب أن يُعلم أن ما يجري بالصومال حالياً هو حربٌ الهدف منها إبقاء الصومال مفككاً ومنع تكوّن نظام مركزي من جديد، وخاصة إذا كان النظام إسلامياً.
إن ِفشل قادة الميليشيات أدى لتدخل مباشر من إثيوبيا، وإن فشل إثيوبيا سيؤدي إلى دخول أطراف أخرى. فقد صرح (باتريك مازيمهاكا) ، نائب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي لوكالة الصحافة الفرنسية: «إن الاتحاد الأفريقي يعترف بأن إثيوبيا مهددة من المحاكم الإسلامية، ونحن نقر بحقها في الدفاع عن النفس» . وهو يماثل تصريح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية (غونزو غاييغوس) أن لإثيوبيا مخاوف حقيقية على أمنها مما يجري في الصومال؛ ولذا فإن على المحاكم التعامل مع الوضع، إنهم أمام أمرين لا ثالث لهما، وهما: إلغاء المشروع وعودة الأوضاع إلى سابق عهدها مع توقع اضطهاد ومحاربة التوجه الإسلامي، وفرض كيان صومالي جديد قائم على نظام ديمقراطي شكلي تحت الحماية الأجنبية، أو الدخول في مواجهة طويلة الأمد مما يقتضي الاقتصاد في القوى، والحذر من الدخول في مغامرات عسكرية فاشلة، وأن تكون الحرب مع الحبشة بأسلوب يناسب المحاكم. وكما أنه وسيلة لإنهاك الحبشة وطردها فإنه فرصة لتكوين قوات عسكرية متماسكة متمرسة، تنصهر فيها مكونات المجتمع الصومالي؛ ولذا فإن على المحاكم أن تحرص على تجنب الدخول في صراع مع الميليشيات الصومالية المرافقة للجيش الإثيوبي. وإن النجاح في عزل الجيش الإثيوبي، باعتباره جيش احتلال، هو الخطوة الأولى.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(233/22)
سحر الكلام وفن التشجيع
عبير العقاد
في يوم من الأيام، وبعد تشجيع من أحد أهمّ الشخصيات المهنية في حياتي، أحسست بنيران الهمة العالية تغلي في مرجل أعماقي، متأججةً بتوقّد رهيب يتطلع إلى الانفجار.. وما هي إلا أيام حتى انفجر البركان وانطلقت حمم الهمة بإقدام ٍ مصرّ لا تعوقه المصاعب ولا الآلام، حاملةً معها نشاطات وإبداعات ما كانت لتظهر لولا كلمات ذاك الشخص الذي أشعل المصباح في رأسي وقلبي، ليريني قوتي ويدفع القوى المتصارعة في داخلي إلى التوحد بدل العراك، والانطلاق في الدرب الذي أناره لي بهندسة فنية متقنة ورائعة لم أشهد لها مثيلاً من قبل.
ومن ضمن النشاطات التي توقدت في داخلي وتبلورت، أردتُ إعداد كتاب في موضوع من اختصاصي الذي أُعرف ببراعتي فيه، ولأنني لا أعلم قواعد النشر، اتصلت للاستفسار عنها مستعينةً بإحدى أكبر المراكز المشهورة والمتألقة المسؤولة عن الأمر.
فاجأني إداريٌّ رفيع المستوى بإجابات وكلمات لا تحتاج كثير جهد لِتَشم رائحة السخرية والتثبيط المنبعث منها.. «الكتاب يمكن ألا ينشر ... إنه يحتاج موافقاتٍ كثيرة ... هناك خطوات صعبة للنشر من المحتمل عدم قدرتك على تخطيها.. إن كنت تفكرين في نشر الكتاب للحصول على وارد مادي يستحسن ألا تضيعي وقتك بالكتابة ... » إلى غير ذلك من الكلمات المثبطة. والغريب في الأمر أن ذلك المسؤول رفيع المنصب لم يسألني عن اختصاصي ولا عن موضوع الكتاب الذي أودّ تناوله، ولا إن كانت لديّ المؤهلات الثقافية التي تؤهلني لنشر الكتاب أم لا!
يا للهول! أحسستُ بكلماته ماءً أطفأ توقدي وصخرة عرقلت وثبتي.
انطفأتُ ... تراجعت ... ونام حلمي.
كلماتٌ أحيت الحلم، وكلمات أسدلت عليه الستار.
يا لسحر الكلمات!
يحكى أن ضفادع كانت تقفز مسافرةً بين الغابات، وإذا اثنتان منها تقعان في بئر عميقة يستحيل الخروج منها.. نظرتْ الضفادع في الأعلى إلى صديقتيها الواقعتين في البئر بعين الحسرة وظنت أنهما لا بد هالكتان، وبدأت الضفادع تنقل شعورها إلى صديقتيها في الأسفل مُعْلِمَةً إياهما أنهما لا بد ميتتان؛ فلا داعي لبذل الجهد والتعب للخلاص من هذا المأزق الذي لا حلّ له.
لكنّ حلاوة الروح دفعت بالضفدعتين إلى المحاولة بكل ما أوتيتا من قوة للخروج، ومع كل خطوة إلى طريق النجاة كان هناك تيار معاكس من التثبيط القوي الآتي من الضفادع في الأعلى التي كانت تصرّ عليهما بألاَّ يتابعا المسير؛ لأنهما لا بد ميتتان.
استمرت الضفدعتان بالمحاولة، واستمرت الضفادع في الأعلى بالدعوة إلى توفير الجهد والطاقة والتعب، وإيقاف المحاولة؛ فالأمر عسيرٌ عسير.
وبعد سلسلة من المحاولات، انصاعت إحدى الضفدعتين لإيحاءات الضفادع في الأعلى التي جعلتها تقتنع بأن لا جدوى للسير قُدُماً، فاعتراها اليأس واستسلمت للأمر الواقع وكفّت عن المحاولة، فسقطت ميتة.
أما الأخرى، فلم تُعِرْ لكلامهنّ أية أهمية، وبدتْ كما لو أنها صمّت سمعها وفؤادها عن كلامهنّ وإيحاءاتهنّ السلبية، وتابعت القفز أسرع وأسرع وأسرع حتى وصلت حافة البئر وقفزت إلى خارجه ونجت.
وبعد الترحيب بها والتهنئة بسلامتها، اكتشفت الضفادع أنها لم تكن تسمع صياحهنّ؛ إذ ما هي إلا ضفدعة مصابة بصمم جزئي؛ ذلك الصمم الذي جعلها تعتقد أن صديقاتها في الأعلى يشجعنها على المضي قُدُماً في طريق النجاة مما ضاعف عزمها، ولما نجت شكرتهنّ وعبَّرت لهنّ عن امتنانها لتشجيعهن الذي بسببه نجت من غياهب الئر.
ثانيةً ... كلماتٌ أحيت الضفدعة، وكلمات أماتت صديقتها.
يا لقوة الكلمات!
يقول الكاتب والطبيب النفسي (رودلف دريكوس) : «يحتاج الطفل إلى التشجيع مثلما يحتاج النبات إلى الماء» ؛ فإذا كان هذا حال الصغير الذي قلما يصطدم بجدران المصاعب القاسية؛ فما بال الراشد الكبير الذي يفاجأُ كل يوم بأرطال من الصعاب الكثيرة التي تنوء بحملها الجبال؟!
إذاً؛ فقد كان من الأفضل لـ (دريكوس) أن يقول: «يحتاج الإنسان إلى التشجيع مثلما يحتاج النبات إلى الماء» .
فالتشجيع هو احتياج إنساني أساسي؛ إذ يقال رمزياً: إن كل شخص يولد وعلى جبهته علامة تقول: «من فضلك اجعلني أشعر أنني مهمّاً» . بل ويقال إنه كلما حدث اتصال بين الناس تناقلوا بينهم رسالة صامتة مفادها: «فضلاً زكِّني، لا تمرّ بي غير آبه، أرجوك اعترف بكياني» !
إذاً؛ فللتشجيع أهمية كبرى لا يمكن إغفالها في حياة المرء.
ويؤكد علماء النفس على أهمية التشجيع؛ إذ يرونه المحرك والدافع لمواصلة الأعمال وتنميتها.
ويمكننا إدراك أهمية هذا الأمر عندما نعلم أننا كبشر ما نحن إلا مجموعة من الأحاسيس والمشاعر التي يجب أن تُدار ـ لنتميز ـ بالأحاسيس والمشاعر أيضاً، تلك المشاعر التي يمكن أن يعبّر عنها بالتشجيع والكلمات الإيجابية.
ونرى كثيراً من الناس لا يعيرون أهمية لصدى كلماتهم ووقعها في نفوس الغير، فتراهم لا يفكرون بما يقولون، ولا يأبهون بمشاعر الآخرين.
وهناك من الأشخاص من تعدّى هذه المرحلة وتنبّه إلى أثر الكلمات الإيجابية في النفس، فتراهم يحدثون الآخرين بكلمات وتعبيرات جميلة المظهر، إلا أنها للأسف لا تملك ذلك الأثر الفعال. لماذا؟ لأنها غير صادقة ولا تقال بإخلاص.. إنما هي مجرد كلمات أراد صاحبها إسدال ستار اجتماعي جميل على نفسه حينما قالها، ولم يفكر في طبيعة البشر التي تتميز بوجود جهاز استقبال قوي مفعم بالذكاء والتحليل؛ ذلك الجهاز الذي يستطيع أن يكشف ما وراء الكلمات المنطوقة، ويستطيع أن يميز الكلمات التي تُنطق دونما نية صافية من نفس صاحبها عن الأخرى التي تحمل في همساتها كل الحب والصفاء والشفافية والتقدير.
فالكلمات التي تخرج منا تكون محمّلة بطاقة ناطقها الفعلية.. فإما طاقة الحب.. أو المجاملة.. العطف ... اللامبالاة ... التملّق ... الكره ... إلخ.
لذا؛ فكثيراً ما تكره شخصاً رغم مقدار الكلمات الإيجابية التي يستخدمها في خطابه معك، ورغم كثرة ما يستخدم معك تعبير «يا حبيبي!» . لماذا؟ لأن جهاز استقبالك ـ إن كان حساساً وناضجاً ـ استطاع التقاط طاقة الكلمة وعرف أن ذاك الشخص يبعث لا مبالاة، وربما كُرهاً مع كلمة «ياحبيبي!» .
إذاً؛ كي يكون للكلام والتشجيع أثره الإيجابي، يجب قبْلاً خلق جو من الألفة والمودة مع الأشخاص الذين نرغب بتشجيعهم؛ ذلك كي نستطيع ملامسة قلوبهم؛ فالكلمة التي تلامس القلب يكون لها أكبر الأثر. كما يجب أن نفكر بالدوافع وراء كلماتنا: لماذا نشجع الآخر؟ ما الذي يدفعنا إلى ذلك: أهو مجرد الحب، أم مجرّد الكلام، أم ماذا؟ وما أحوجنا في هذا المجتمع المتضارب المتباغض إلى جعل دوافعنا سامية وراقية؛ مؤداها خدمة الآخرين ومساعدتهم على تخطي العقبات وتجنب المصاعب، وما إلى ذلك من الدوافع النيرة المضيئة التي باتت تُشتهى في عالم انسكب في غياهب المادة.
وعند التشجيع، يجب أن نعي تماماً أن الناس جُبلت على مقاومة رغبتها بالكشف عما يقضّ مضجعها؛ فالناس رغم حاجتها إلى البوح بآلامها ومكامنها إلا أنها تكره ذلك البوح وتقاومه ما استطاعت؛ لأنها تخشى الرفض ... تخاف عدم تقبّل الآخرين لها.
لذا؛ فإن كنتَ جادّاً في رغبتك في تشجيع الآخرين حبّاً بالبشر ورغبةً في خلق مجتمع فاضل، فحاول أن تلتقط التلميحات التي يرسلها هؤلاء؛ فتلميحاتهم إعلان عن احتياجاتهم المستترة، التقط هذه التلميحات وحاول أن تجد الحلول وتشجع الآخرين بحماسة، مستعيناً بدفء الكلام وعذوبته ورقته وصدقه.
فالكلمات قد تؤلم وقد تُفرِح، والأكثر من ذلك أن بإمكانها أن تغير اتجاه الحياة ومسراها، من مسرى سلبي أو مسرى غامض إلى آخر غاية في الوضوح والإيجابية.
ويُلاحظ على مجتمعنا العربي بثّ الإحباط ـ للأسف ـ ومقابلة أعمال الآخرين بروح من الاستهزاء والسخرية والتثبيط والسلبية وعدم الاكتراث، ليُطفَأ الألق والنور الذي سطع في نفس الفرد وليعود أدراجه خائباً بائساً لا يرغب في النهوض من جديد.
وإن كان هذا خطأ المجتمع، فهو كذلك خطأ الفرد الذي يستجيب بسهولة للمؤثرات السلبية التي تُبَثّ حوله. فالإنسان المزوَّد بقدر كاف من الثقة بالنفس والإيمان برؤيته ورسالته لا يثنيه التثبيط إلا كما يحرك الهواء الخفيف ضوء الشمعة، فهو يهزها ويؤرجحها لكن لا يطفئها.
لذا على المرء أن يتزود بسلاح الهمة والثقة والعزم، ليمضي في حياته قُدُماً بأقل الإخفاقات. ويساعده في ذلك وضع هدف محدد لحياته يعزم على تحقيقه مهما هبّت العواصف واندلعت النيران.
وللوصول بالمرء إلى هذه المرحلة، ينبغي أن نرعى طفولته وأن نبني منه شخصية إيجابية ذات مسلك قويم.
إذاً؛ من أهم الفئات التي تحتاج إلى التشجيع والكلام الإيجابي فئة الأطفال، جيل الغد الذين نعوّل عليهم الكثير.
وللكلمة المنطوقة الموجهة إلى الطفل قوة ما بعدها قوة؛ ذلك لأن كل كلمة أو جملة تقال له تحمل في طياتها رسالة ضمنية موجهة له بخصوص العالم، وذلك لأن للطفل خيالاً رحباً واسعاً لا محدوداً وهو يستخدمه في كل أوقاته.
فعندما نوجه للطفل كلاماً ما (تشجيعاً أو تثبيطاً) يبدأ الطفل بالحديث مع ذاته عما سمعه من الآخرين من رسائل (أنتَ) . مثلاً: لقد كنتَ شجاعاً اليوم (تشجيع) .
أنت كسول مثل أخيك (تثبيط) .
بعدها يبدأ خيال الطفل بالبحث عن أدلة تثبت تلك الرسائل، فإن وجد صورة أو محادثة تعزز التشجيع أو التثبيط ركز على الأمر وعممه على شخصيته (أنا فعلاً شجاع) أو (أنا فعلاً كسول مثل أخي) .
وتتحول هذه التعميمات مع الزمن والتكرار إلى معتقد عن ذاته، مما يتولد عنه سلوكه مع الآخرين ... إن كان إيجابياً فسلوك إيجابي، وإن كان سلبياً فلا بدّ للسلوك أن يكون سلبياً هو أيضاً.
إذاً؛ كلامنا وتشجيعنا أو تثبيطنا هو الذي يخلق أشكال السلوك التي نحبها أو نكرهها في أطفالنا، والتي سيحملها معه في رحلة حياته وتتحول إلى ميزة (إن كان الكلام إيجابياً) أو عيب (إن كان كلاماً سلبياً) في حياته المستقبلية، وربما تحولت الكلمات إلى عقدٍ ومشاكل نفسية عويصة قد يكره المرء جراءها حياته وربما أهله أيضاً.
إذاً؛ فالاستخدام الواعي لعبارات التشجيع والتعزيز مع أطفالنا يدعم صحتهم العاطفية، بل والجسدية أيضاً؛ إذ بإمكانه أن يحقق التالي:
1 ـ تعزيز الاستقلالية والمسؤولية الذاتية لدى الأطفال.
2 ـ المساعدة على تغيير مفهوم الطفل لنفسه من بنائها الخارجي إلى الداخلي.
3 ـ تقوية ثقة الطفل بنفسه وتقديره لذاته.
4 ـ علاجه من بعض الأمراض كالخجل والخوف.
5 ـ مساعدته على النظر إلى المستقبل بصورة مشرقة ومتفائلة.
وأنسب الأوقات لاستخدام الكلام الإيجابي وتعزيزه في حياة الطفل هو الوقت الذي يكون فيه أكثر استرخاء؛ خصوصاً عندما يحين وقت النوم. لذا ما أروع أن تتفوه الأم بكلمات إيجابية رائعة وهي تدثر طفلها وتودعه لينام. وما أجمل أن تنقل له رسائل إيجابية متألقة كأن تحدثه عن حبها له وعن مستقبله المشرق الذي ينتظره وعن أفعاله الحسنة التي قام بها اليوم والتي سُرّت بها، وعن جمال وجوده في حياتها ... إلخ.
وفي النهار، وخلال اليوم، على الآباء ألا يركزوا على أخطاء أطفالهم وألا يكثروا من التوبيخ والنقد واللوم والعقاب والتخجيل ... فكل هذا من شأنه تثبيط الأبناء وتحطيمهم.
نعم! نحن نحتاج إلى التقويم والتصحيح عندما يخطئ الأولاد ويسلكون سلوكاً خطيراً يؤذيهم أو يؤذي الآخرين؛ لكن في هذه الحالة ينبغي أن نركز على قباحة الفعل وليس قباحة الفاعل (الابن) فإن ضرب الولد أخاه الصغير، يجب أن ننبه أن ضرب الصغير عمل سيئ بدلاً من أن نصف ابننا بأنه ولد سيئ ومزعج.
ومن الأفضل تجاهل السلوك الخطأ كلما كان هذا ممكناً ولا يؤثر سلباً، وبالمقابل يجب تركيز الانتباه على السلوك الصحيح وتشجيعه.
إن على الآباء تقدير الجهد الذي يبذله الابن وآثار عمله ومراعاته الآخرين والعقبات التي تجاوزها أثناء عمله، وينبغي أن تكون ردود فعل الأهل أمينة وصادقة وحقيقية، دون كثير مبالغة.
وعلى الآباء إعانة الأبناء ليقدِّروا بأنفسهم الأمور الحسنة التي قاموا بها، وليكتشفوا قيمة ما أنجزوه من أعمال حسنة، كما ينبغي مكافأتهم عليها بعد إبداء الإعجاب بها.
ومن الأمور المشجعة أن نسلّم الأبناء بعض المسؤوليات والأعمال ليقوموا بها بأنفسهم؛ فبهذا رسالة لهم مضمونها «إني أثق بقدراتك، وأنت تستطيع القيام بهذا الأمر؛ فأنت ولد مسؤول» .
ولا ننسى أهمية الإنصات للأبناء والاستمتاع بصحبتهم والمكوث معهم؛ فبهذا رسالة لهم أيضاً مغزاها «إنني أحب الوجود معك.. إنني أحبك.. إنك شخص جدير بالمجالسة» .
ولكي يكون للتشجيع أثره القوي، فإن على المشجِّع أن يشجع ذاته قبلاً؛ إذ لا يمكن غرس الثقة والإيمان في طفلٍ ما إن لم يكن لدينا الثقة والإيمان في ذواتنا؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
إذاً شجع نفسك وتخلص من آثار الكلمات السلبية التي وُجِّهت إليك فيما سبق والتي ربما توجه إليك كل يوم.
وبتشجيع النفس يستطيع المرء تذليل المصاعب أو تقبُّل الأخطاء التي حدثت دون عمد ـ التي هي من عادات البشر ـ دون أن يتجمد عندها، بل يذللها للاستفادة منها كتجربة علينا ألا نكررها في المستقبل الآتي؛ فليس هناك أفضل منا على تشجيع ذواتنا.
وبعد ... لقد انطفأتُ حقاً من كلام ذاك المثبط الذي كاد أن يُجهِض همتي ويَئِدَ موهبتي، لكن أنَّى له ذلك وأمامه شخصية زرعت الحياةُ الثقةَ والإصرار في نفسها.
لقد انطفأتُ برهة لكن نيران همتي أشعلتني من جديد.. دون كثير وقت ودون كثير جهد بل ودون أخذ وردّ.
واليوم أضع أولى صفحات كتابي الذي أتمناه أن يكون منهلاً للجميع، وأرى أنه لا بد سيرى النور ... سيراه ويحلِّق في كل البلدان رَغم أنف ذاك المثبط الذي أطفأني لكنه لم يُذِبْ شمعتي.
ولذاك الذي شجعني كثير شكر وتقدير من قلبي، فأمثالك ـ الخيرين ـ ينشرون النور في الأفق ويدحرون الظلام.
لك مني جزيل شكر وكثير أمانٍ.. أتمناها لك بكل صدق ومودة.
المراجع:
(1) أولادنا: من الطفولة إلى الشباب: منهج عملي للتربية النفسية والسلوكية/ مأمون مبيض. ط 1، بيروت: المكتب الإسلامي، 1997م.
(2) قوة الحديث الإيجابي: كلمات لمساعدة كل طفل على النجاح/ دوجلاس بلوك؛ بالتعاون مع جون ميريت. ط 1. ـ الرياض: مكتبة جرير، 2005م.(233/23)
العولمة الثقافية حروبها الضرورية
د. محسن محمود خضر
كيف تتبدى الصورة بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني في أوائل الألفية الثالثة؟
لم يعد العالم هو العالم بعد تداعيات حادثة 11 سبتمبر، فها هي الولايات المتحدة تخوض حرباً فعلية ضد الوجود الإسلامي، والثقافة الإسلامية، في حرب تدور رحاها على قوس يمتد من حدود الصين وروسيا الجنوبية إلى الصومال، وتصل إلى وضع بعض المقاتلين الإسلاميين المأسورين من كهوف أفغانستان داخل أقفاص كالحيوانات؛ تمهيداً لاستجوابهم ومحاكمتهم في قاعدة جوانتانامو العسكرية المنيعة في خليج كوبا.
ويكاد يكون تصريح السيناتور الديموقراطي الأمريكي اليهودي (ليبرمان) الأخير في جامعة (جورج تاون) بواشنطن هو الأخطر منذ تصريح رئيسه (بوش) الشهير: «من ليس معنا فهو ضدنا» ، فقفز فوق تصريحات أسامة ابن لادن السجالية حول تقويض السلام الأمريكي ما دام الشعب الفلسطيني لم ينعم بالأمن والسلام.
فقد أشار (ليبرمان) في تصريحه إلى أن: «جدار برلين الجديد هو قيد التشييد بمساعدة حجارة مصنوعة من الفقر والطغيان، ومدعومة بهاون الحقد والعنف» .
صحيح أن (ليبرمان) دعا رئيسه بوش إلى إعادة النظر في سياسته إزاء الدول الإسلامية بهدف منع الأصوليين من بناء ستار حديدي أيديولوجي؛ ولكن تفكيك تصريح (ليبرمان) قد يفضي بنا إلى نتيجة معاكسة بخصوص مسؤولية الولايات المتحدة ذاتها عن بناء هذا الحائط الأيديولوجي.
إن اشتعال ما يسمى بحروب الحضارات يدلل على أهمية (مراكز الفكر) في صناعة السياسة الأمريكية الخارجية، فأغلب مشروعات التسوية أو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط تستند إلى دراسات قدمتها مراكز البحوث المتخصصة، وفرق البحث من المحللين الإستراتجيين الأمريكيين فيما يسمى بـ (مستودعات الفكر ـ The Think Tanks) والتي يعكف داخلها مجموعة من المتخصصين في السياسات الدولية ومحللي العلاقات الدولية على وضع تصورات وخطط تغذي باستمرار صانع القرار برؤى وتصورات وخطط للعمل؛ تعينه على رسم وتبني السياسات الخارجية الأمريكية المعينة فيما يخص المصالح الأمريكية؛ سواء تعلق الأمر بالعلاقات مع الصين، أو اليابان، أو روسيا، أو العراق، أو الصراع العربي الصهيوني، أو أمريكا اللاتينية.
وقد صرح وزير الدفاع الأمريكي السابق بضرورة العمل على وضع صدام حسين نفسه في صندوق. ويبدو أن فكرة الصناديق المغلقة التي يوضع فيها أعداء الولايات المتحدة تسيطر على ذهن الساسة الأمريكيين؛ ربما استلهاماً من الوقائع التاريخية حول عبيد روما الذين كانوا يوضعون في أقفاص قبل تقديمهم للأسود الجائعة أو مشاركتهم في قتال يفضي إلى الموت، أو مستمدة من التاريخ الأمريكي القديم الذي شهد اقتياد العبيد الأفارقة من مواطنهم إلى الأرض الأمريكية الجديدة لتسخيرهم لخدمة الرجل الأبيض.
الجدار الأيديولوجي الجديد لم يصنعه الإسلاميون كما يعتقد (ليبرمان) ؛ ولكن صنعته مخالفات السياسات الأمريكية المجانية للعدالة تجاه شعوب العالم المتستضعفة، كما حدث في الانحياز للجانب الصهيوني المستمر، وانتهاءً باستخدام الفيتو الأمريكي رقم 25 لتجنيب دولة اليهود أي قيود أو التزامات تجاه إدانة الدولة الصهيونية، أو تخفيف معاناة الفلسطينين.
وعندما تخرج مجلة (النيوزويك) قبل مدة تتساءل: «لماذا يكرهنا العالم؟» فإن السؤال المستبعد والأصح، والمسكوت عنه الذي يجب أن يطرح هو: «لماذا لا يكره العالم أمريكا؟» .
ولنتأمل انغماس القوات الأمريكية في الواقع في محاربة مختلف أشكال الحركات الإسلامية المطالِبة بحقوقها المستلَبة مثلما يحدث في الفلبين، فأمريكا أرسلت قوات أمريكية (24 عسكرياً) سيزدادون إلى 120 فرداً من أمن القوات الخاصة من البحرية والقوات البرية وسلاح الجو لمساعدة القوات الحكومية؛ للتدريب على محاربة أنصار (أبو سياف) . ويبدو أن الإدارة الأمريكية ليست عازمة على محاربة تجار المخدرات، وخارقي حقوق الإنسان والديموقراطية من النظم الصديقة، ولا المتاجرين بديون ومصالح العالم الثالث، بل أصبح اللاعبون الأمريكيون طرفاً مباشراً في الحرب ضد الجماعات الإسلامية لا فارق بين أن يكون اسمها (أبو سياف) أو (حزب الله) أو (حماس) أو (جيش محمد الكشميري) .
ضرب الحركات الإسلامية العسكرية وتصفيتها يقض مضاجع الإدارة الأمريكية، لِتدلل بالفعل على إشعالها حرباً جديدة قد تكون الحرب العالمية الثالثة بين الغرب وديار الإسلام، بحيث تقلب السياسة الأمريكية مفهوم (دار الحرب ودار الإسلام) الذي يتبناه الفقه الإسلامي إلى (دار الإرهاب واللاإرهاب) ، على طريقة «من ليس معنا فهو ضدنا» ، وكأننا أمام أحد أفلام كوبولا وجيمس بوند.
انغماس السياسة الأمريكية السياسي والعسكري في القتال ضد الحركات والجماعات الإسلامية يعزز بالفعل فكرة حائط (برلين) الأيديولوجي الجديد بين الشرق والغرب، وكأنه يستعيد مقولة (كبلنج) الشهيرة: «الشرق شرق والغرب غرب؛ ولن يلتقيا» ، وهكذا فإن تنظيرات (فوكوياما) و (فريد مان) و (هنتجتون) حول (نهاية التاريخ) و (الخطر الإسلامي الأخضر) و (صِراع الحضارات) تؤسس الأرضية الفكرية للتحركات العسكرية للأساطيل الأمريكية وقوات المارينز وسلاح الجو.
عصا التأديب الأمريكي وصلت في وقاحتها إلى حد المطالبة بتغيير مناهج التعليم في الأقطار الإسلامية خصوصاً مناهج التعليم الديني، في سابقة لا يمكن أن توصف إلا بالوقاحة لتدخلها في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية، وقد تابعنا مؤخراً كيف أمر الجنرال الباكستاني (برويز مشرف) بإدخال دراسة اللغة الإنجليزية والعلوم في مناهج المدارس القرآنية الباكستانية، وغير بعيد ما فعله الخبراء الأمريكيون في المناهج التعليمية المصرية في بداية التسعينيات بتعديل مناهج التاريخ والدين الإسلامي بحذف ما يشير إلى انحراف اليهود وخياناتهم. صحيح ـ من جهة أخرى ـ أن هناك خطاباً إسلامياً يتخذ موقفاً متشدداً من الثقافة الغربية؛ لكنه يبقى في النهاية رد فعل للسياسات الأمريكية المنحازة ضد الحقوق والمصالح العربية والإسلامية.
وإذا كانت تداعيات هجمات 11 سبتمبر مستمرة فإن تداعيات الحرب الأمريكية ضد أفغانستان لم تظهر بعد، وإذا أخذنا بقوانين الفيزياء حول الفعل ورد الفعل، فإن محصلة الحمى الأمريكية ضد الحركات الإسلامية سوف تتجمع في المستقبل لتصب في غير صالح وجهة النظر الأمريكية، وخاصة لدى أجيال شابة ستتأثر لما حدث للشعب الأفغاني، بصرف النظر عن مدى مسؤلية تنظيم القاعدة، وحركة طالبان من هجمات 11 سبتمبر.
السؤال الذي ترفض العقلية الأمريكية والخطاب الأمريكي الإجابة عنه بصراحة هو: عن أسباب تنامي موجة العداء في العالم الإسلامي للسياسات الأمريكية؟ وهي سياسات معادية ومنحازة وخاصة ما يحدث في فلسطين. مغالطة الخطاب الأمريكي ذاته تصل إلى حد حرمان أسرى القاعدة وطالبان من اعتبارهم (أسرى حرب) ، فبأي منطق يمكن وصف ما حدث تجاه نقل مقاتلين من بلدهم إلى معسكرات اعتقال؟ وحسب تصريح أخير لوزير الدفاع الأمريكي (رامسفيلد) بأن هؤلاء الأسرى «معتقلو معارك» ، وليسوا «أسرى حرب» ؛ وبالتالي لن تكون لهم الحقوق المكفولة لأسرى الحرب، وربما سينطبق ذلك في المستقبل على أسرى من اليمن، والصومال، وحزب الله، وحماس، والجهاد.
وربما نتهلل لكون السلطات الأمريكية ستمنح لكلٍ من هؤلاء الأسرى بساطاً صغيراً، ومنشفتين، وثلاث وجبات يومية، ومعجوناً للأسنان، وصابون شامبو دلالة على تحضرها ورقة قلبها! وعلينا أن نتناسى مؤقتاً زنازين القرود التي سيوضع فيها هؤلاء الأسرى، في عرضٍ حيٍّ في بدايات الألفية الثالثة وكأننا نتجول في شوارع روما القديمة في العهد القيصري.
ربما لا يعني الخطاب الغربي، ولا منظري وساسة البيت الأبيض وعواصم الغرب، الجهود الفكرية الهائلة لمفكري العالم الثالث والإسلامي الذين يشغلون أنفسهم بالدعوة إلى (حوار الثقافات) عوضاً عن (صِدام الحضارات) وكأنه حوار الطرشان.
نستعيد قصة رمزية من عالم كليلة ودمنة للقرد الذي أراد أن يطهر قلب الأسد المفترس من عنفه وتعطشه للدماء بأن أخذ يغنِّي بصوت رخيم للأسد علَّه يؤسر قلبه ويصفيه، ولكن لسوء حظ هذا القرد كان الأسد أصماً لا يميز الأصوات، فهجم على القرد وافترسه، وهكذا يبدو أننا بدعوتنا إلى حوار الثقافات والتسامح بين الشعوب واحترام الخصوصيات الثقافية نغنِّي لأسد أمريكي أصم؛ حيث يستعمل الغرب المفاهيم التي ينتجها بمعنى واحد وفي اتجاه واحد يعبر عن وجهة نظره الأحادية بين المركز إلى الأطراف، ومن الأنا إلى الآخر، كنوع من النرجسية.
الرئيس (بوش) تصرف بتلقائية تحركها الذهنية الغربية، أو ربما هي أقرب إلى تعبير عابد الجابري (اللا شعور السياسي) أو تعبير فرويد (فلتات اللسان) ليلخص في كلمة واحدة الموروث المتراكم والهائل من العداء والخوف الموجه للعرب والصليبيين عندما نطق كلمة: «سيشنها حرباً صليبية» وإن تراجع، ليؤكد أن الكلمة التي تفوّه بها لا تعني الحملات الصليبية القديمة الموجهة ضد الأرض العربية؛ بل بمعنى (الحملة) كما تستخدم الكلمة في السياق الغربي.
كما عزز (بوش) في مناسبة لاحقة هذا المكتوب السياسي الغربي عندما قال: إن الاعتداء لم يكن موجهاً ضد الولايات المتحدة فحسب، بل ضد الدول الحضارية. وكأنه يستعين بقاموس المفكر الأمريكي (صموئيل هنتجتون) صاحب نظرية (صِدام الحضارات) والذي اعتبر الإسلام آخر تهديد لقيم الحضارة الغربية. قوبلت نظرية (هنتجتون) في حينها بموجة رفض وحملة تنديد من مفكري العالم الثالث؛ وخاصة آسيا وأفريقيا والدوائر الثقافية الإسلامية التي رفضت توصيفه للنظام القيمي العالمي الذي أفرزته العولمة بأنه صِدام حضارات، داعين إلى أن يتحول إلى حوار ثقافي إنساني عميق بين كل الفرقاء.. هل تجدد عملية (الكاميكازم) فوق واشنطن ونيويورك الحاجة إلى إعادة نظرية (هنتجتون) حول (صِدام الحضارات) والتي كشفت الأحداث الأخيرة عن صحة جزء منها؟
الفكرة الرئيسية في نظرية (صِدام الحضارات) هي أن البعد الرئيسي الأكثر خطورة في السياسة الكونية الناشئة، سوف يكون الصِدام بين جماعات من حضارات مختلفة، ولذا فإن صدام الحضارات هو الأكثر تهديداً للسلام العالمي.
الحضارات السبع المتصارعة التي سوف تتصادم في نظر المفكر الأمريكي الكبير هي: الغربية، والهندية، واليابانية، والإسلامية، والغربية، واللاتينية، والأفريقية.
وفي خريطته الفُسيفسائية؛ فإن الغرب أسهم وحده في إنتاج الأيديولوجيات السياسية الكبرى في القرن العشرين وتتضمن: الليبرالية، والاشتراكية، والفوضوية، والاتحادية، والماركسية، والشيوعية، والديمقراطية، والمحافظة، والقومية، والفاشية، والديموقراطية المسيحية.
ومن الغريب أن المفكر المغربي الكبير (المهدي المنجرة) قد سبق (هنتجتون) في استشراف هذه السيناريوهات منذ السبعينيات؛ حيث صاغ تخوفات الغرب في ثلاث قنابل، القنبلة الديموغرافية، والقنبلة الآسيوية (الصين واليابان) ، القنبلة الإسلامية، ولعلها نفس القنابل الثلاث التي حاول (هنتجتون) بناء استراتيجية لتفجيرها خارج المدار الغربي.
إن (المهدي المنجرة) اعتبر أن التعدد الثقافي أمر جوهري، لكن لا يمكن اعتباره أمراً حاصلاً، إنه هدف يجب الدفاع عنه كعنصر أساسي لإقامة السلام واستمرار حياة البشر، وهو بذلك سبق تقرير اليونسكو الشهير (تنوعنا الخلاق Diversity Our Creatve) الصادر عام 1996م.
إن (هنتجتون) الداعي في نظريته حول صدام الحضارات إلى تفجير العالم، وعسكرته، وإن اتخذ الأمر قناعاً ثقافياً، وهو ما يناهضه (إدوارد سعيد) حيث يصف (هنتجتون) بأنه خبير في عالم تدبير الأزمات؛ ومن ثم فإن أطروحته ليست إلا إحدى التداعيات التي تعيشها الإدارة العسكرية الأمريكية.
أطلت الحروب الثقافية من سباتها بعد تفجير مركز التجارة العالمي، وأطلقت مخزون العداء الغربي في اللاوعي الغربي، وهو المخزون الذي تنامى منذ صدام الجيوش الإسلامية والأوروبية، ثم على أسوار القسطنطينية، وتالياً في الحروب الصليبية وفي الأندلس، ومروراً مع حملة (نابليون بونابرت) على مصر والشام في 1798م، ثم تجددت مع تحطيم أسطول محمد علي في نفازين في 1929 وإجهاض مشروعه النهضوي، وتجددت ثانية مع تحطيم القوات المصرية في صحراء سيناء 67 لإجهاض مشروع النهضة العربي الثاني مع جمال عبد الناصر، ثم يعود الصِدام ليتجدد في صحراء الكويت ليوسع من تشويه المدرك العربي للعرب والإسلام، وهو ما نجحت آلة الدعاية الصهيونية في النفخ فيه، (إذا قربنا أيضاً دروس الثورة الإيرانية) .
الأشباح الذي أذلوا العنجهية الأمريكية بعمليات قد يختلف في توصيفها؛ لم تطِح فحسب بالهيبة الأمريكية؛ بل بِنظرية الأمن القومي الأمريكي، حيث أتى العدو من الداخل وليس من الخارج، أي ضرب ضربته في الداخل بعيداً عن أي تصديق.
أصبح الإسلام مجدداً في قفص الاتهام، وبالرغم من تطمينات الحكومات والزعماء الغربيين لشعوبها تجاه الإسلام وتنقية صفحته، فإن حملة العداء الشرسة التي امتدت ضد كل ما هو إسلامي وعربي من الدانمارك إلى كندا غرباً، ومن الولايات المتحدة إلى استراليا هي تأكيد لهذا الصراع الثقافي بين الغرب والآخر الإسلامي.
هل فعلاً نصبت المصيدة والسيد بوش ونحن معه أيضاً نمشي إليهما؛ كما يحذر الكاتب البريطاني (روبرت فيسك) في مثال أخير له من حرب شهوة الانتقام البغيضة؟ هذا التحليل يربط الانتقام من المسلمين بالبنتاجون ومركز التجارة، ولكن لا أحد في العالم يستطيع أن يحدد حتى الآن متهماً رئيسياً.
__________
(*) أستاذ بجامعة عين شمس ـ القاهرة.(233/24)
الإعلام الإسلامي.. ضرورة عصرية
د. أحمد حسن محمد
يعتبر الاتصال الإنساني فطرة فطر الله عليها البشرية منذ نشأتها الأولى، فقد كان التكليف الأول الذي أمر الله به آدم ـ عليه السلام ـ بعد خلقه هو مهمة البلاغ والتوضيح والإفهام، وذلك في أول اتصال بملائكة الله، حيث يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] .
ومضت سيرة الحياة الإنسانية ضمن سلسلة علاقات متعددة تقوم على اتصال الإنسان بالإنسان أفراداً وجماعات وأمماً، حتى أمكن تنظير هذه الفطرة ضمن سلسلة من العلوم والمعارف كان منها الإعلام.
والإعلام بدأ ينقل المعلومة من شخص أو أشخاص إلى آخرين، وذلك عن طريق الكلمة المنطوقة لتصل مباشرة من الفم إلى الأذن دون وسيط أو وسيلة، بجانب نقل هذه الكلمة أيضاً عن طريق البصر مباشرة كما هو الحال في الصور أو الرسم، وظلت حاسّتا السمع والبصر (الأذن والعين) هما المداخل الأساسية لإدراك الكلمة والتي تمثل رسالة مقصودة من جانب مرسلها إلى آخر مستهدف بها، أي: أداة للتفاهم وزيادة المعرفة. حتى كان التطور السريع الذي صاحب العمليات الاتصالية عامة والإعلام بصفة خاصة، حيث أصبحت هذه الكلمة أو المعلومة ـ والتي اُصطلح عليها باسم الرسالة الإعلامية ـ تنقل من شخص أو أشخاص إلى عالم متّسع من المتلقّين عن طريق الأذن، ولكن بوسيلة جديدة وجهاز جديد عُرف بالراديو ... وتنتقل ـ أيضاً ـ على أنظار الملايين وعيونهم عن طريق التلفاز أو السينما أو غيرهما من الوسائل المرئية الحديثة، مما جعل العملية الإعلامية تتحول شكلاً ومضموناً وهدفاً، حيث لم تعد مجرد خبر ينقل أو تسلية في وقت فراغ، بل أصبحت تمثّل نشاطاً هادفاً يسعى إلى العديد من الأهداف والتي تتركز في معظمها على التأثير والإقناع بهدف إحداث التغيير والتحويل نحو أهداف ومبادئ وقيم يسعى إليها صاحب الرسالة ومرسلها، سواء كان ذلك في عالم القيم والمثل أو الاتجاهات والمبادئ والمذاهب، وبهدف استمالة المتلقّي (السامع أو الرائي) واعتناقه قيمَ صاحب الرسالة واتجاهاته ومبادئه.
- الإعلام والصراع العالمي:
ومع تطور الحياة السياسية والاجتماعية تعدَّدت الدول وقامت معظمها على مبادئ وأفكار وقيم مختلفة، وكل دولة تسعى لسيادة مبادئها وانتشار أفكارها وإخضاع الآخرين لما يرونه من مبادئ واتجاهات، فكان هذا الصراع العالمي الذي اتخذ شكل الحروب والقتال والغزو العسكري.
وظهر الإعلام سلاحاً خطيراً في هذا الصراع الدولي، ولا سيما بعد أن توفرت له وسائل متطورة، لها قدرة الوصول إلى أيِّ مجتمع ـ أفراده وجماعاته ـ وبسهولة وبساطة..، فحظيَ الإعلام ـ بذلك ـ باهتمام كبير من جانب الدول والمجتمعات والهيئات في عالمنا المعاصر، وأصبحت الرسالة الإعلامية تحمل فكر مرسلها، وتعمل في كافة مجالات النشاط الإنساني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفنياً، فكان الإعلام بذلك قوة فاعلة تربط المجتمع الإنساني بمضامين واتجاهات متعددة بغرض التحول والإقناع، ومن ثم الاتِّباع والولاء.
وما نشاهده اليوم من هذا الفيض الهائل من البرامج المسموعة والمقروءة والمرئية والتي تحملها أجهزة متطورة يوماً بعد يوم لدليلٌ واضح على خطورة الإعلام وأهميته بالنسبة لأي جماعة أو دولة تتطلّع للسيادة والانتشار.
وعلى الرغم من إيجابيات هذه الثورة الإعلامية والوسائل المتطورة في مجال التثقيف والإخبار، وربط المجتمع البشري بما يحدث في أنحاء العالم لحظة بلحظة، وما تحقق من وعي ويقظة فكرية بين الأجيال الجديدة في هذا العالم ... فإنها لم تخلُ من سلبيات خطيرة ومظاهر سالبة انجرفت إليها الكثير من محطات الإرسال والبث ودور النشر والطباعة، سواء كان ذلك بغرض الهدم المقصود لما تعارف عليه الناس من قيم ومُثُل أو الكسب المادي والانتشار، وكلها ـ ولا شك ـ قادت نحو آثار سالبة ظهرت في العديد من الدول، وخصوصاً في مجال الفكر والثقافة والآداب العامة، مما أوجد صراعاً رهيباً في عقول الناشئة ومعارضات سالبة من جانب المفكرين والمربِّين، فوقع العالم في حيرة نتيجة هذا الصراع بين ثقافات متعارضة ودول مختلفة ليضع الأجيال الحالية في حيرة، بل وأحياناً في ضياع وتِيْهٍ ... ولعلَّ من مساوئ هذه الهجمات والأفكار ما كان منها بغرض الاستهداف والاعتداء والافتراء على نظم بعينها أو مبادئ سائدة بغرض تحقيق انصراف الناس عن هذه المبادئ أو الثورة على هذه النّظم بما يحقق سيطرة أفكار ونظم الجهات التي تقف خلف هذه الرسائل والبرامج الإعلامية الغازية.
- العالم الإسلامي والثورة الإعلامية:
لما كان العالم الإسلامي جزءاً لا يتجزَّأ عن غيره من الدول والمجتمعات التي تعرض لما يبثّ من برامج إعلامية مختلفة؛ فقد كان طبيعياً أن تتأثّر كثير من هذه المجتمعات المسلمة بمضامين وأهداف الرسائل الإعلامية الصادرة من أجهزة الإعلام المختلفة، ولا سيما بعد سيطرة الشبكات الإذاعية والأقمار الصناعية. ولما كانت المصادر الإعلامية في معظمها بعيدة عن هدي الإسلام ومبادئه، أو على الأقل غير حريصة على تقديم مفاهيم الإسلام وتوجيهاته ضمن مضامين برامجها، فقد أتاح ذلك سيطرة ملموسة على ما يصل العقل المسلم من برامج منحرفة عن هدي الله، حتى أصبحت مثل هذه البرامج قضايا مسلّماً بها لدى بعض الناشئة، حيث لا بديل عنها تقدّمه الدول والمؤسسات الإسلامية، والتي كانت ـ بل وما زالت ـ لا تمتلك تقنيات الاتصال الحديثة أوالتنظير والتأصيل الإسلامي للرسالة الإعلامية.
ولعلَّ من أهمِّ الأسباب التي حالت دون تقدّم المجتمعات الإسلامية في مجال الإعلام الحديث ووسائله ما يلي:
أولاً: تركيز علماء المسلمين وطلاب العلم وجامعاتهم على العناية بالعلوم الشرعية والأصول الإسلامية ودراسة اللغة العربية. وهذا أمر طبيعي ومطلوب دائماً ولا شك، ولكن الأمر كان يتطلَّب بذل الجهد والعناية بالعلوم الحديثة، والفنون الإنسانية الجديدة ـ ومنها الإعلام ـ دراسة وتأصيلاً، ونقداً وتحليلاً؛ بما يوفر طاقات علمية قادرة على الإسهام بالجديد الملتزم بهدي الله، سواء في مجال البرامج أو التقنيات أو القوى البشرية المدرّبة.
ثانياً: لما كان الإعلام الموجَّه لدول المسلمين صادراً عن مصادر أقل ما يقال عنها: إنها بعيدة عن الإسلام أو غير متحمِّسة لنشر مبادئه إن لم تكن معادية تماماً؛ فإن هذه الرسائل جاءت متأثرة بعادات وتقاليد أصحابها التي كانت في معظمها مخالفة لشرع الله، سواء في المضمون أو الشكل أو الإخراج، مما أوجد معارضة من المسلمين عامة وعلمائهم خاصة، حتى اعتبر بعض طلبة العلم أن ما تقدِّمه وسائل الإعلام في حكم المحرّم شرعاً، بل وصل الأمر عند بعضهم بتحريم الأجهزة التي تحمل مثل هذه البرامج، وظلَّ ذلك الأمر لفترة طويلة أتاحت سيادة البرامج الغربية المنحرفة.
ثالثاً: عندما أدرك المسلمون خطورة الإعلام، واستحالة صدِّ ما تبثّه الوسائل المختلفة ومنع تأثيرها على الناشئة خاصة والمجتمع عامة؛ لم يكن أمام المتحمّسين والحريصين سوى النموذج الغربي في البرامج تصويراً وإخراجاً.
رابعاً: أن محاولة تأهيل جيل إعلامي متخصص في فنون الإعلام وتقنياته كان عن طريق توجيه هذا الجيل نحو المؤسسات الإعلامية في بلاد الغرب، فعادوا يحملون تقنية الغرب بل وفكر الغرب، فنشأ جيل إعلامي يحمل عامته اسم الإسلام ويفكر بعقل الغرب الذي ينكر الإسلام ومبادئه.
من أجل هذه الأسباب وغيرها أصبح العالم الإسلامي في معظمه عالة على الإعلام الغربي، مستورداً لبرامجه وفنونه بل وأفكاره ونظرياته مما يجعلنا نطرح السؤال التالي:
- ما ضرورة الإعلام الإسلامي؟
إن الواقع الذي تعيشه معظم المجتمعات الإسلامية في صراعها مع التيارات الوافدة والأفكار المادية والتي تحملها أجهزة إعلام لها قدرة التأثير والتجديد والإقناع، لا شك أنه لا يتفق تماماً مع ما يجب أن تكون عليه هذه الأمة المسلمة من مكانةٍ وريادةٍ، والتي أشار إليها كتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
وليس هذا أمر خيار أن تكون كذلك أو لا تكون، بل هو فرض على أمة الإسلام أن تتولى الدعوة والإبلاغ بأحكام الله الداعية للفضيلة والصلاح، بل ومحاربة المنكرات وكل ما يفسد عقائد الناس أو ينحرف بسلوكهم. يقول الحق ـ سبحانه ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .
ويؤكد على ذلك رسول الله # في قوله: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه؛ فلا يُستجاب لكم» (1) ويستحيل على أمةٍ أن تكون كذلك بغير وسائل فاعلة قادرة على التحدي والصمود، والتفوق على وسائل غيرهم من غير المسلمين، مما يتطلب ضرورة الاهتمام بالإعلام ووسائله، وتجنّد له الطاقات والأخذ بأفضل الأساليب والوسائل وأفضلها سواءً في مجال البرمجة أو التقنية (2) .
ومن نعمة الخالق على هذه الأمة أن شرع لها ديناً هادياً وأرسل إليها رسولاً مرشداً، دين يتعامل مع كافة مظاهر الحياة ومواقف الإنسانية على اختلافها، فإذا ما ضعفت الشخصية الإسلامية أمام هذا الفيض والكمّ الهائل من التيارات المعادية والمبادئ المستحدثة فليس ذلك مطلقاً لعجز في القدرة على الاستجابة لمحدثات ولمستجدات العصر؛ ولكن لأن الكثير من المسلمين فقدوا روح المبادرة على التغيير، ومن ثم فقدوا حركة الاجتهاد والتطوير الباني، فعاشوا عالة على غيرهم في كثير من مجالات المعرفة والتقنية، وكان الإعلام من أبرزها.
ومع مستحدثات القرن التاسع عشر وما بعده امتدَّ الغزو الغربي على نطاقه الواسع، فاستيقظ العقل المسلم ليجد هذا التحدي الصارخ لحضارته وأفكاره ومبادئه، مما جعل المواجهة أمراً حتمياً (3) .
إن هذه المواجهة أصبحت ضرورة لا خياراً، فالإسلام يرفض مواقف السلبية بين الإنسان ومجتمعه، كما يرفض الضغط والإجبار لصالح مبادئ وأفكار واتجاهات تتعارض مع هدي الله، وذلك بعد أن حرّر الإسلام الإنسان من قيود القهر، وكلّفه أعباء المسؤولية عن إرادة واختيار، ومن هنا تبرز ضرورة الإعلام الإسلامي الذي يحمل هدي الله، ليس لمجرد المواجهة وردّ الفعل فقط؛ بل لإعزاز كلمة الله من خلال أجهزة ووسائل يقوم عليها متخصصون مدرّبون مؤمنون برسالة الإسلام: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
ويسعى الإعلام المهتدي بهدي الله إلى تحقيق أمور هامة، نذكر منها:
أولاً: مواجهة حالة الضياع التي يعيشها المجتمع المعاصر عامة، ومجتمع المسلمين خاصة، بما يعيد التوازن السليم بين فطرة الإنسان ومستحدثات العصر الفكرية منها والمادية.
ثانياً: تحقيق مواجهة إيجابية فاعلة أمام حملات غير المسلمين ممن يعادون الإسلام إما جهلاً به أو حقداً عليه، وذلك من خلال أجهزة ووسائل متطورة تواكب مطلوبات العصر؛ بما يحقق إعلاماً قادراً ومتميزاً يقوم على المنهج العلمي الصحيح.
ثالثاً: تقديم الإسلام ومبادئه وفق أصوله التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ونقد ما لصق به من شبهات وافتراءات، من خلال برامج تجمع بين قوة الحجة وفنّ الإقناع والتأثير، بجانب الجاذبية وحسن العرض.
إن عالمنا المعاصر في أشدِّ الحاجة إلى هذا النوع من الإعلام والذي بدأ ـ بفضل من الله ـ يظهر من خلال جهود بدأت متواضعة، ولكنها تنمو يوماً بعد يوم بما يبشِّر بنجاحها، وخصوصاً بعدما ظهر واضحاً إقبال الكثيرين من أهل الصلاح على التعامل معها والاستجابة لمضامينها.
ومن هنا ولهذه الأسباب وغيرها؛ تظهر أهمية الإعلام القائم على هدي الله وفق منهج إسلامي يقوم على التأهيل العلمي المعاصر، ويجمع بين المضمون الهادف والعرض الجذّاب.(233/25)
اصبروا وصابروا ورابطو!
أ. د. نزار عبد القادر ريان
كان سيدنا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يقف يوم بدر على رأس ثلاث مئة وستين مجاهداً من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ: قليل عددهم، ضئيل زادهم، لم يكن فيهم فارس يومها غير المقداد، وأكثرهم حفاة، لا يجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يحملهم عليه، أو يكسوهم به، وكان كفن الشهداء ساعتئذٍ نبات الإذخر.
يومها كانت فارس تمتد في المشرق من أطراف الجزيرة العربية حتى تتجاوز أسوار الصين، وتسيطر روما على مغارب الأرض من أطراف أوروبا الشرقية حتى ساحل الشام وبعض بلاد أفريقيا الشمالية، وكنا نحن القليل عددهم، الضئيل زادهم، لا نرى غير راية الحق التي نحمل للعالمين، ننقذ البشرية مما هي فيه من ضلال وتيه، فاستعصى الطغاة على الدعوة، ولم يبق غير الحراب المؤمنة تنفي العناد والشرك عن الأمم والشعوب التي تضطهدها أنظمة الجاهلية والكفر؛ لذلك كان سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على رأس المجاهدين؛ حربته الأولى في الحراب، وسيفه ذو الفَقَار الأقطع، ورمحه البتار يسبق الريح، ينشر الخير والنور والعدل والإيمان.
ومضت تلك السُّنَّة مضيئة الآفاق، خالدة المعالم، تكتب التاريخ بسطور من دموع ودماء وإباء؛ فهذا أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يُخرج جيش أسامة بن زيد نحو الشام، ويتبعه بعد ذلك عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في فتح بلاد بيت المقدس، يكتب له أبو عبيدة بن الجراح، ويذكر جموع الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: «أما بعد: فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسرٌ يُسرين، وإن الله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .
ثم يمضي على السُّنَّة ذاتها عثمان ـ رضي الله عنه ـ، ويتواصل خروج الصحابة القُرَّاء حتى يستحرَّ القتل فيهم، فيجمع القرآنَ من الأفواه في المصحف العثماني، ولا يمنع القراء من مواصلة الخروج على رؤوس البعوث، يتقدمهم عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فاتحاً في ثلوج أذربيجان، ويتبعه تلميذه سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ على رأس آلاف القراء من طلبة العلم مع ابن الأشعث شرقاً، بعد أن صار ركوبُ البحر، نحو قبرص ومطالع أوروبا، دأبَ الفاتحين ونهجهم.
ويُسْلِمُ العراق والشام، وتمتد أعناق المطي برايتنا وارفة الظلال في البقاع الطاهرة، يحرس ثغورها العلماء جيلاً بعد جيل؛ فهذا الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، يحرس الثغر الشمالي في أطراف الشام العليا، فيرابط في ثغر طرسوس وحلب، ويصير طريق الشام مألوفاً له كما هو الأمر في طرائق المشرق ودروبها، شعاره حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «طوبَى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه» فيخرج محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة من الشام قِبَل الحرم، فيملي عبد الله بن المبارك عليه هذه الأبيات بطَرَطُوس قرب عكا من بلادنا فلسطين، إلى الفضيل بن عياض، ويودِّعه للخروج، وينشد معه:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمتَ أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضبُ خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يُتْعِبُ خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
رِيحُ العبير لكم ونحن عبيرنا رَهَجُ السنابك والغبار الأطيبُ
قال محمد بن إبراهيم: «فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام؛ فلما قرأه ذرفت عيناه، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني» .
ويروي تلامذته صور جهاده وبلائه، فيقول عبدة بن سليمان المروزي: «كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدوَّ، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى المبارزة فخرج إليه ابن المبارك، فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس فكنت فيمن ازدحم إليه، فإذا هو يلثّم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته؛ فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمروٍ ممن يشنِّع علينا؟!» .
ويقول عبد الله بن سنان: «كنت مع ابن المبارك ومعمر ابن سليمان بطَرَطُوس فصاح الناس: النفيرَ، النفيرَ! فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج عِلْجٌ رومي فطلب البِرَاز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله ... حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلى ابن المبارك، فقال: يا فلان! إن قُتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج، فعالج معه ساعة، فَقَتَلَ العلجَ، وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة علوج، وطلب المبارزة، فكأنهم كاعوا ـ أي جبنوا ـ عنه، فضرب دابته وطرد بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء؛ فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله! لئن حدَّثت بهذا أحداً وأنا حيٌّ ... فذكر كلمة» .
كذلك كان علماؤنا، وكذلك كان أهل الحديث خاصة؛ فالإمام ابن المبارك إمام في الحديث والجهاد، يمضي على طريقته الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل؛ حيث يقول: «خرجت إلى الثغر على قدميَّ، فالتقطت» يعني: كان يلتقط التمر من الأرض من الجوع، يصاحب المجاهدين في مواقع النبال، يفتي المرابطين في الثغور ويعلمهم دينهم، ويروي لهم الحديث في مظانِّ الموت تماماً كما كان أبو موسى الأشعري حين يروي أحاديث الجهاد والرباط التي تلقاها عن سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرابط الخيل ووجه العدو، فيؤديها كما علمها.
نعم! فقد كان هذا دأب الصالحين من قبلُ؛ فأبو أيوب الأنصاري يشخص مرابطاً في سبيل الله، حتى يُدْفَن تحت أسوار القسطنطينية، ينتظر وعد رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، بفتح القسطنطينية أولاً، وها هي شواهد الحق تروي للناس من بعدُ حكاية أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهنا قبر أبي عبيدة، وهنا قبر معاذ بن جبل، وهنا قبر عكرمة، وهناك في الأرض تتبعثر قبور الصالحين من الفاتحين والمجاهدين، ليلتئم شمل أمة الجهاد والفتح المبين.
وهذا إمامنا البخاري ـ رحمه الله ـ إمام الحديث والفقه الجهادي، يرى حراسة الثغور دِيناً كما هو الأمر في رواية الحديث وطلبه، فيلزم الثغر الذي يخاف منه هجوم العدو، فيرابط في بلادنا فلسطين في قيسارية جنوب حيفا، ويرابط في أيلة، وبيت المقدس، ويتعب في رواية الحديث يوماً فيستلقي على قفاه، فيقول له تلميذه: ما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبنا أنفسنا اليوم، وهذا ثغر من الثغور، خشيت أن يحدث حَدَث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح، وآخذ أُهبة؛ فإن غافصنا العدو كان بنا حَراك. وكان يركب إلى الرمي كثيراً؛ فما أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، وكان لا يسبق؛ يهتف بالحديث: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» .
وكان حذيفة بن اليمان يغزو في أذربيجان وأرمينيا، ويعقب عمر الجيوش في كل عام، فشُغِل عنهم عمر، فلما مر الأجل قفل أهل ذلك الثغر، فاشتد عليهم وتواعدهم وهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لتركهم الثغر في الموعد المحدد؛ فكيف بمن سيَّب الثغور كلها؟
هؤلاء أئمة الدين والجهاد؛ قد عرفت فَالْزَمْ!
__________
(*) عضو القيادة السياسية لحركة حماس.(233/26)
234 - صفر - 1428 هـ
(السنة: 22)(234/)
المحاكم الإسلامية.. تجربة قصيرة ... ودروس كبيرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تغزو فيها أثيوبيا الصليبية أرض الصومال المسلمة؛ فقد سبق أن دخلتها بين أعوام 1992م و 1998م، لمهاجمة إحدى الجماعات الإسلامية التي كانت معروفة آنذاك باسم (الاتحاد الإسلامي) بزعامة (الشيخ حسن عويس) وهذه الجماعة هي التي خرجت منها بعد ذلك (المحاكم الإسلامية) . وقد تولى الشيخ حسن عويس رئاسة المجلس الاستشاري للمحاكم، واسمه موضوع على قائمة الشخصيات التي تتهمها الولايات المتحدة والأمم المتحدة بالإرهاب؛ فالأحباش حَمَلَةُ راية الصليب في القارة الإفريقية، هم أول من اتخذ موقفاً عدائياً من أماني الشعب الصومالي في العودة إلى الاستقرار في ظل هويته الإسلامية الأصيلة.
لقد عاد الإسلاميون الذين طاردهم نصارى أثيوبيا، بعد نحو خمسة عشر عاماً، تحت اسم (المحاكم الإسلامية) فرحبت جموع الشعب الصومالي بخطواتهم الإصلاحية، والتفوا حولهم لإعادة البناء والاستقرار إلى بلد لم يذق للأمن طعماً منذ هلاك رئيسه الماركسي الأسبق (سياد بري) الذي كان همه الأكبر تحويل الشعب الصومالي إلى شعب ملحد وتابع للاتحاد السوفييتي آنذاك، فلما أزيح شره عن كاهل الشعب عام 1991م، تطلعت أمريكا إلى وراثة النفوذ الشيوعي في ذلك البلد، وفي القرن الإفريقي كله. وما هي إلا سنوات قليلة حتى كانت جحافل الأمريكان تطأ بأحذيتها الثقيلة أرض الصومال، بالدعوى المكرورة السمجة ذاتها التي ترفعها الولايات المتحدة كلما أرادت نهب بلد والهيمنة عليه، وهي جلب الاستقرار ونشر الديمقراطية! ولهذا أطلقت على عملية غزو الصومال عام 1993م اسم (إعادة الأمل) ثم تبين أن حقيقة هذا الأمل عند الأمريكان هي وضع اليد على الثروات الهائلة لهذا البلد الفقير التي لم تُستغل بعدُ، وهي ثروة اليورانيوم، والمعادن، وكذلك البترول الذي تنقب عنه شركات أمريكية.
لا زلنا نذكر أن ذلك الشعب المنهَك في جراحه، تغلّب على تلك الجراح وقاوم الغزاة القادمين عبر القفار والبحار، ليضربوا مظهر قوته ويسلبوا بقايا قُوتِه ليضموا ذلك إلى أكداس إمكاناتهم الجشعة. وفوجئ الأمريكان، ودهش العالم كله من أن ذلك الشعب الأعزل لم يكن سهل المراس ولا قليل الحيلة؛ فقد تصدى شرفاؤه للغزاة، ونكَّلوا بجنودهم، وكان مشهد واحد من مشاهد تلك المواجهة كافياً لأن يجر الأمريكيون أذيال الهزيمة، ويقرروا الانسحاب الفوري بعد أن تناقلت شاشات العالم مشهد ضابط أمريكي قتله المجاهدون ضمن 18 جندياً، وتركوا جثته للعوام والأطفال كي يسحلوها في شوارع مقديشو، وهو ما جعل الشعب الأمريكي يطالب بالانسحاب الفوري تعاطفاً مع شخص واحد من أفراد القوة المعتدية؛ بالرغم من أن الصوماليين فقدوا بسبب ذلك الغزو مئات الضحايا، وتسببت لهم الحرب الأثيوبية ضدهم وضد إرتيريا في مقتل ما لا يقل عن 70 ألفاً من البشر.
منذ تلك الهزيمة الأمريكية والشعب الصومالي مغضوب عليه من الولايات المتحدة، ومن منظمات ما يسمى بالشرعية الدولية؛ فقد تُرك هذا الشعب ليعاني الويلات في أتون الاحتراب الناشئ عن صراعات العصابات والميليشيات المسلحة الموالية لهذا الطرف أو ذاك، ولم تكن تلك الحال المستمرة لنحو خمسة عشر عاماً، لتجعل المجتمع الدولي يذرف دمعة على ذلك البلد المسلم المنكوب!
ولكن ... ما إن بدأت طلائع إصلاح الأوضاع على أيدي بعض الإسلاميين من المحاكم وغيرها لتخليص البلاد والعباد من فوضى السلاح وأمراء الحرب، حتى شمَّرت دول الجوار القريبة للتنسيق مع دولة الجور البعيدة ـ أمريكا ـ لإطلاق عملية جديدة، كانت بحق عملية (إبادة الأمل) الذي بدأ يلوح في الأفق لذلك الشعب المظلوم.
بدأ التحرش بتسليط عصابات إجرامية على حركة المحاكم الإسلامية باسم قوات محاربة الإرهاب، ولم تكن تلك القوات إلا صنيعة أمريكية رخيصة الصنع رديئة المعدن من المنافقين الخُلَّص، ولهذا فسرعان ما قضت عليها قوات المحاكم الإسلامية، وظل جزء من عصابة العملاء محتمياً بأعداء الصومال، وهم أعضاء ما يسمى بالحكومة الانتقالية. ولما ضُيِّق على هؤلاء الخناق ولم يعودوا يصلحون للتعويل عليهم في محاربة الإسلاميين، أوعز الأمريكيون لإخوانهم الصليبيين الأثيوبيين بالتدخل المباشر، تحت ذريعة (محاربة الإرهابيين) !!
وقد جهزت أمريكا للغزو بتدريب وحدات خاصة من القوات الأثيوبية، وزرعت بعض الجواسيس داخل صفوف المحاكم بغرض إيقاع الخلاف والإرجاف بينهم، وعقدت صفقات مع بعض أمراء الحرب الذين أسقطتهم المحاكم، أو من لحقوا بها لإقناع الجميع بالانقلاب عليها مرة ثانية، وقدمت الدعم المالي والعسكري واللوجستي والاستخباراتي لتقوم بالغزو نيابة عنها.
كان العدوان الأثيوبي الأمريكي للصومال، هو الحرب الأمريكية الرابعة في الألفية الثالثة ضد العالم الإسلامي، بعد حرب أفغانستان والعراق ولبنان، وكانت المسوغات الحقيقية لتلك الحرب لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها السابقات: السيطرة على الأماكن الاستراتيجية في العالم الإسلامي ... ضرب أي قوة ناهضة فيه، وبخاصة إذا كانت توجهاتها إسلامية ... تمكين دولة اليهود من البقاء كقوة إقليمية وحيدة ضاربة في الشرق الأوسط بكل مناطقه الاستراتيجية.
دروس مستفادة:
أسفرت تلك الحرب على قِصَر مدتها وتسارُع أحداثها عن دروس وعبر بالغة، نذكر منها ما يلي:
(1) لا زالت القاعدة العامة من شعوب الأمة الإسلامية على أصل فطرتها وحنينها للإسلام، مهما كانت وسائل التضليل والتجهيل، وهذه الشعوب تعبر عن هذا الحنين والعاطفة بالالتفاف حول الرموز الإصلاحية الإسلامية. وقد كان التفاف الشعب الصومالي حول المحاكم الإسلامية صورة رائعة من هذا السلوك الواعي الذي يتكرر في بقاع مختلفة من العالم الإسلامي؛ فالجماهير تلتف حول العلماء والدعاة الصادقين، وتشارك في جهود الجماعات العاملة للإسلام، سواء في جهود الخير أو جهاد الأعداء؛ وهذا ما يضاعف المسؤولية على النخب الإسلامية عموماً في إحسان التعامل مع تلك الشعوب التي تمثل في مجموعها أمة محمد #، خير أمة أخرجت للناس.
(2) أمريكا تتصرف في العالم على أساس أنها قاعدة الشرعية وقائدة الأمم دون نواب أو انتخاب، ودون منافشة أو مشورة، ولسان حال رئيسها الأرعن يقول: (أنا العالم) مثلما كان أحد ملوك أوروبا السابقين يقول: (أنا الدولة) ! وعندما يُقْدِم بوش على غزو دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة، دون إذن من أحد ـ حتى من حلفائه ـ ودون اعتبار لعرف عالمي أو قانون دولي، فإن هذا يبرهن على أن أمريكا في حاجة إلى من يتعامل معها بالمثل، في عدم المبالاة، وإلا فإن العالم أجمع بسكوته، يقر لها بحقها المطلق وحق زعيمها الأخرق في أن يفعل في البشرية ما يشاء!
(3) في كل مرة تُظهِر الأمة رغبتها في العودة إلى كامل هويتها بالإقبال على الشريعة، نرى تنكراً سريعاً وهائجاً ومتضامناً من طواغيت العالم، ما يلبث أن يتحول إلى تحالف غير مقدس بين الكفار والمنافقين، ليبرهن الكفار من جهة على أن عداوتهم عقائدية، ويبرهن المنافقون من جهة أخرى على أن ولايتهم ليست لأمتهم، بل للأعداء الظالمين المعتدين الكافرين، وأن عداوة أحزاب النفاق لا تقل عنهم بل تزيد، وهذا ما بينه القرآن في مواضع كثيرة، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 140 - 141] .
(4) الإسلاميون يبرهنون مع الزمن على أنهم يمثلون أماني شعوبهم، وهم يقودونهم إلى مقاعد الشرف ومعاقد العز بهذا الدين، بخلاف المنافقين على اختلاف أطيافهم وراياتهم، حيث يجرُّون الأمة كُرهاً إلى مواقع البلاء ومعاطن الفقر والذل والتبعية؛ وهو ما يدل على أن مفهوم (المواطنة) كأساس للانتماء وصدق الولاء، مفهوم أعوج؛ فكم من أبناء وطن من الأوطان أباً عن جد، هم أكثر الناس بُعداً عن الأمانة واقترافاً للخيانة لذلك الوطن في مواضع الخطر، بينما يكفي الانتماء للإسلام بحق، أن يكون المرء من أخلص الناس لبلد من بلدان الإسلام، وهو غريب عنه أو ضيف عليه.
(5) من الأمور المؤسفة حقاً أن موالاة أعداء الأمة بعضهم لبعض، أكثر ظهوراً وأعمق آثاراً، من موالاة طوائف الأمة بعضهم لبعض في أزمنة الفتن وآونة الخطر، وهذا مما يحيِّر الألباب؛ فالمراقب لتداعي مواقف الأعداء بالنصرة والتأييد في كل مواجهة مع الإسلام، يدمي قلبه، وهو يرى في الوقت نفسه مواقف الخذلان وقلة النُّصرة، وبخاصة في المواقف الرسمية المتخاذلة التي لا تُغني عنها كثيراً المواقف الشعبية المكبَّلة، بينما رأينا مراراً ـ ومؤخراً في حالة الصومال ـ تداعي الكفار والمنافقين للنصرة، لإجهاض تلك التجربة الإسلامية الوليدة، لكتم أنفاسها وهي لا تزال في مهدها.
(6) بينما كانت قوافل الغزاة تتدفق على العاصمة مقديشو وهي عاصمة من عواصم (الجامعة العربية) و (الاتحاد الأفريقي) وبينما كانت الطائرات تخترق أجواء بعض البلدان العربية ـ بإذن أو بغير إذن ـ كانت غالبية الحكومات والمنظمات والهيئات العربية والإفريقية والإسلامية تغط في نومها، أو تلتهي بأحوالها، وهو ما يؤكد أن قضايا الإسلام على المستويات الرسمية، لم تعد في وارد الاهتمام إلا بما يرتبط منها بالمظاهر والمصالح، وإلا فكيف سكتت بعض الحكومات.. و (تفهمت) بعض الزعامات ... وشاركت بعض القيادات في إسقاط عاصمة عربية إسلامية تحت أقدام الغزاة، ضد جزء أصيل من شعب الصومال، لم يُعرف بشيء مما اشتهرت به عصابات الخراب، التي كان يُرَحَّب بها ـ ولا يزال ـ في بعض العواصم العربية.
(7) إذا كانت الحرب العالمية على ما تسميه أمريكا بـ (الإرهاب) هي في جوهرها حرباً على الإسلام، فإن جوهر تلك الحرب على الإسلام يؤول في النهاية إلى حرب على شريعة الإسلام؛ فهذه الشريعة وحَمَلَتُهَا وحُمَاتها ودعاتها والمطالبون بها والمجاهدون من أجلها، هم موضوع تلك الحرب الشاملة، صدَّقنا بذلك أم ضحكنا على أنفسنا، وإلا ... فالمتأمل في أحوال العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمان، يجد أن المعركة هي معركة الشريعة، كان الكفار يخوضونها بأنفسهم أولاً، ثم وكَّلوا المنافقين بإدارتها، في صورة حرب مفتوحة ضد الإسلاميين المطالبين بالشريعة والداعين إليها والمجاهدين من أجلها. ولهذا كانت المعركة دائماً بين الإسلاميين وبين العلمانيين المنافقين تدور حول محور الشريعة.
(8) رسالة المحاكم الإسلامية كانت العودة بالشعب إلى رحاب الشريعة سلمياً، ووصف هذه المحاكم التي كان يقوم على إدارتها قضاة ودعاة وطلاب علم بالإرهاب، يدل على حقيقة المراد بهذا الوصف، ومؤخراً وُصِفَ الإسلاميون السالكون سبل السلم مع مجتمعاتهم، في كل من فلسطين ومصر وغيرهما بالإرهاب؛ فأي شريحة جادة في الأمة يمكن أن تنجو من هذا الوصف المؤهل لشن الحرب وتجفيف المنابع؟! إن الأمر يحتاج إلى وقفة حاسمة للوقوف ضد هذا (الإرهاب) الممارَس ضد الإسلام باسم الحرب على الإرهاب.
(9) إذا كانت معركة (المحاكم الشرعية) قد أضيفت إلى قائمة معارك (حاكمية الشريعة) ؛ فإن المنتظَر والمؤمَّل، أن تظل حاكمية الشريعة هي قضية المحاكم الشرعية، وقضية غيرها من الجماعات والحركات والدعوات الإسلامية؛ إليها تدعو، ولها تمتثل، وعليها تُفاصِل، ومن أجلها تجاهد؛ فهذا هو طريق الانتصار في معركة الشريعة، مهما طال مشواره. أمَّا إذا تخلينا أو تخلى بعضنا عن حمل أمانة الشريعة، باسم المصلحة أو المصالحة، فإن هذه هي الهزيمة حقاً؛ فالهزيمة قبل أن تكون على الأرض، تكون في القلب والعقل، ولهذا لم يقبل العقلاء قول من قال بأن المحاكم الإسلامية قد هُزمت، ولا الطالبان قبلها قد هُزموا، لا ولا الشيشان ولا غيرهم من سائر المناضلين تحت راية الشريعة ... ما داموا حاملين رايتها.. وساعين في نصرتها.(234/1)
الاحتياط الشرعي حقيقته وضوابطه
د. قطب الريسوني
عرّف علماء الأصول الاحتياط بتعريفات متباينة تتفاوت حظوظها من الدقة والاستيفاء، ويلاحظ على أكثرها النزوع إلى منحيين: الأول: تعريف الاحتياط بالطريق المفضية إليه، والثاني: تعريفه بالمآل الذي يُرجى منه، وفي كلا المنحيين تجوّز لا يرتضى في باب الحدود؛ لأن الأصل أن نعرّف الشيء في ذاته ونفسه، إما على نحو من الضبط والإحكام فيكون حدّاً، وإما على سبيل تمييزه عن غيره فيكون رسماً، على ما هو مقرّر في علم النطق.
ولسنا بحاجة هنا إلى سوق التعريفات وبيان وجه الاختلال في صياغتها، وحسبنا الإشارة إلى أن التعريف المختار هو: (الاحتراز من الوقوع في منهي أو ترك مأمور عند الاشتباه) (1) ، وهو تعريف لا يؤتى من جهة الجمع والمنع؛ لأن لفظ الاحتراز يشمل العالم والعامي، فكلاهما يصح منه الاحتراز سواءً كان فعلياً أو تركياً؛ ولأن لفظتي (المنهي والمأمور) تشملان الأحكام الشرعية الأربعة: الحرام، والمكروه، والواجب، والمندوب، فضلاً عن أن لفظ الاشتباه يشمل التردد في حرمة الشيء، أو كراهته، أو وجوبه، أو استحبابه (2) .
ومن أجود التعاريف التي يمكن الاستئناس بها تعريف القرافي: (ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس) (1) ، وأقرّه عليه ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2) ، وقد رأيت بعض العلماء يطلق لفظ الورع ويقصد به الاحتياط، على أساس أن (الورع هو الاحتياط نفسه) (3) ، ولا ضير في ذلك، فإنّ تغير المباني ليس بمحظور إذا فهمت المعاني.
والاحتياط حجّة عند الجمهور من الحنفية (4) ، والمالكية (5) ، والشافعية (6) ، والحنابلة (7) ، إلا أن أكثر المذاهب إعمالاً للاحتياط المذهب المالكي؛ لأن من أصوله الاجتهادية التوسّع في سدّ الذرائع ومراعاة الخلاف، وكلاهما ضرب من الاحتياط تُدفع به المفاسد المتوقعة أو الواقعة، وتُراعى المآلات بما يستوفي مصلحة الإنسان في العاجل والآجل.
ومن ثم فقد عُدّ الاحتياط مسلكاً شرعياً في استنباط الأحكام والترجيح عند تعارض الأدلة، وذكره بعض العلماء ضمن الأدلة الشرعية التبعية، وهي ضربان: ضرب يرجع إلى الأصول الأربعة رجوعاً معيناً؛ كقول الصحابي مردود إلى السُّنَّة، وشرع من قبلنا مردود إلى القرآن إذا قصّه الله ـ تعالى ـ من غير إنكار، ولم يرد في الشرع ما يخالفه، وضربٌ يرجع إلى الأصول رجوعاً مختلفاً؛ كالاحتياط والاستصحاب، فتارة مرجعهما إلى القرآن، وتارة إلى السُّنَّة، وتارة ثالثة إلى غيرهما كالقواعد الفقهية، ومقاصد الشريعة، والمناسبة العقلية.
ونسوق هنا جملة من النصوص التي صرح أصحابها بحجية الاحتياط واعتماده أصلاً من أصول الشرع:
أـ قال السرخسي: «والأخذ بالاحتياط أصل في الشرع» (8) .
ب ـ قال الجصاص: «واعتبار الاحتياط والأخذ بالثقة أصل كبير من أصول الفقه، فقد استعمله الفقهاء كلهم» (9) .
ج ـ قال الشاطبي: «الشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرر مما عسى أن يكون طريقاً إلى المفسدة» (10) .
د ـ قال الجويني: «إذا تعارض ظاهران، أو نصّان، وأحدهما أقرب إلى الاحتياط، فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأحوط مرجَّح على الثاني، واحتجوا بأن قالوا: اللائق بحكمة الشريعة ومحاسنها الاحتياط» (11) .
أما الفريق المعارض للعمل بالاحتياط فتزَعّمه ابن حزم الذي عقد باباً مستقلاً في (الإحكام) للرد على ما سماه: (الاحتياط، وقطع الذرائع والمشتبه) (12) ، ومن جملة أقواله فيه: «ولا يحلّ لأحد أن يحتاط في الدين؛ فيحرِّم ما لم يحرِّم الله؛ لأنه حينئذٍ يكون مفترياً في الدين، والله ـ تعالى ـ أحوط علينا من بعضنا على بعض» (13) .
ولا يفهم من موقف ابن حزم رفض الاحتياط جملةً وتفصيلاً، فإن من أشبع النظر في رده على المخالفين يدرك بوضوح وجلاء أنه لا ينكر الورع واجتناب مظانِّ الرِّيَب؛ وإنما إنكاره منصرف إلى إثبات التحليل والتحريم من جهة الاحتياط؛ لأنْ لا شرع إلا بالنص، والشرع أحوط علينا من أنفسنا، وأعلم بمواطن الاحتراز والحزم.
وإذا كان الاحتياط على أضرب، فإن ابن حزم لا ينكرها جميعاً، فالاحتياط للحكم مشروع عنده في الجملة، ولا سيما في حال تعارض الأدلة والأمارات وعدم ظهور أثر الرجحان، فإنه تعدّ هذه الحالة شبهة ينبغي اجتنابها (14) ، كما يصح عنده الاحتياط لمناط الحكم كاختلاط حلال محصور بحرام محصور، فمذهبه في ذلك التوقف حتى يتبين الحال، والتوقف ـ في حقيقته ومآله ـ ضرب من الاحتياط لدين الله والخشية من مواقعة الحرام.
أما الاحتياط لمآل الحكم وهو ما يعرف بـ (سدّ الذرائع) فقد تصدى ابن حزم لإبطاله وتسفيه حجج القائلين به في كتابه (الإحكام) ؛ لأن مرجعه إلى الحكم بالظن الكاذب والرجم بالغيب، وهذا لا يحل في الشريعة التي تُبنى أحكامها على الأدلة المستقيمة والحجج الناهضة، يقول: « ... فكل من حكم بتهمة، أو احتياط لم يستيقن أمره، أو بشيء؛ خوفَ ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل» (1) ، ويستشف من كلامه هذا أنه لا ينكر سد الذرائع على الإطلاق، فإذا كان إفضاء الوسيلة إلى المفسدة مُحقَّقاً وقطعياً فلا مانع عنده من إجراء العمل بهذه القاعدة والحكم بها، وقرينة هذا التقييد قوله: «لم يستيقن أمره» .
ويزداد موقف ابن حزم وضوحاً وتجلياً حين ينكر الغلو في الاحتياط إلى حد الإفتاء به على وجه الإلزام؛ لأنه مسلك حسن في الدين، محمول على الورع واجتناب ما حاك في الصدر، لكنه لا يرقى إلى الواجب الذي يُقضى به على الناس، يقول: «ليس الاحتياط واجباً في الدين، لكنه حسن، ولا يحل لأحد أن يقضيَ به على أحد، ولا أن يلزم به أحداً، لكن يندب إليه؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يوجب الحكم به» (2) .
فليس بساط الخلاف ـ إذاً ـ بين الجمهور وابن حزم بالسعة التي يتصورها الكثير؛ إذ يوجد بينهما قدر غير يسير من المتفق عليه، ويفترقان في مسألة الاحتياط لمآل الحكم الذي ذهب فيه إمام الظاهرية مذهب التقييد بقطعية إفضاء الوسيلة إلى المفسدة المتوقعة.
وإذا كان الاحتياط أصلاً ثابتاً، ومسلكاً مشروعاً، يستدل عليه بالنصوص القاطعة من الكتاب والسُّنَّة، ويستأنس له بعمل السلف الصالح وفتاوى الأئمة الأربعة، فإن التوسط فيه منزع محمود يليق بمحاسن الشريعة ومقاصدها في التكليف، فلا نغالي فيه إلى حد التنطع والتعمق وإيجاب ما لم يجب، ولا نجفو عنه إلى حد تقحّم الشبهات ومظانِّ الرِّيَب، وقد قيل: إن كل شيء تجاوز حده انقلب إلى ضده.
ولعل من الغلو في الاحتياط ـ سواء كان أخذاً بأكثر ما قيل أو بأثقل ما قيل ـ أن نلزم الناس به على سبيل الوجوب، مع أنه تنزه وتورّع، يقول الدهلوي: «أصل التعمق أن يؤخذ موضع الاحتياط لازماً» (3) ، فمن المرغوب فيه أن يُندب العالم إلى الورع، ويشير باجتناب ما حاك في النفس، إلاَّ أنه لا يقضي بذلك على أحد، ولا يفتي به فتوى إلزام، وإن شاء أن يكون شديد الأزر على نفسه فيأخذها بالتحوط فله ذلك، ما لم يُخشَ عليه التنطع في الدين، وهو مهلكة ما بعدها مهلكة.
إن الخروج إلى طرف الغلو في الاحتياط لا تزكو به ثمرة الدين، ولا تقوم به مصلحة الخلق، وهذا مشاهَدٌ في كل من ذهب به مذهب العنت فبَغُض إليه الدين، وانقطع عن سلوك طريق الآخرة، ولذلك كان التكلف الشرعي في كل صوره جارياً (على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال) (4) ، فلا غرو ـ إذاً ـ أن يكون من تمام تعريف الاحتياط عند ابن القيم التنصيص على مراعاة التوسط فيه، حتى يرتفع المسلم عن تقصير المفرِّطين، ولا يلحق بغلو المعتدين، يقول: «الاحتياط: الاستقصاء والمبالغة في اتِّباع السُّنَّة وما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، من غير غلوٍ ومجاوزة، ولا تقصير ولا تفريط» (5) .
وليس كل احتياط يشرع ويستحب من باب الورع والتنزه عن الشبهات! ذلك أن منه ضرباً مذموماً لا يلتفت إليه، وهو ما كان مفضياً إلى محظور شرعي، أو كان من قبيل الوساوس التي تتخذ ديناً وهي إملاء من الشيطان الرجيم، ومن صوره الشائعة: سد الذرائع التي تفضي نادراً إلى المفسدة، والتنزّه عن الرخص المشروعة، والزيادة في المشروع على سبيل الوسوسة.
ومن هنا تبدو الحاجة ماسة إلى بيان ضوابط الاحتياط الشرعي التي تصحّح العمل به، وتصونه عن الوقوع في المحظور، ولا سيما أن هذا المسلك موضع لتجاذب الأنظار وتضارب الأفهام؛ فما يراه عالم احتياطاً، لا يراه غيره كذلك، فلا بد ـ إذاً ـ من ثوابت يحتكم إليها في تقويم منارع المجتهدين في هذا المعترك الصعب، ويمكن إجمالها فيما يلي:
أـ ألاّ يكون في المسألة المحتاط فيها نصّ؛ لأن الاحتياط منزع اجتهادي يُلجأ إليه عند فقدان الدليل، فإذا وجد وظنّ المجتهد أن من الاحتياط تركه، فقد تورط في مخالفة صريحة أمْلتْها الوسوسة أو الابتداع في الدين.
ب ـ أن تكون الشبهة الحاملة على الاحتياط قوية معتبرة؛ ولذلك صرح الفقهاء بأن الخلاف الذي يُراعى ويُستحب الخروج منه ما كان مبيناً على تكافؤ الأدلة، أما السقطات والشذوذات فلا يلتفت إليها، ولا يحتاط لها.
وكذلك لا يعتد بالشبهة التي تدرأ الحدود إلا إذا كانت قوية ناهضة، وقد نظم ذلك أبو بكر الأهدل الحسيني اليمني فقال:
وباتفاقٍ الحدودُ تسقط بالشبهات حسبما قد ضبطوا
وشرطها القوة فيما ذكروا جزماً وإلا فهي لا تؤثر (1)
ج ـ ألاّ يفضي العمل بالاحتياط إلى مخالفة النص الصحيح الصريح، فكل احتياط جاء على خلاف المشروع فهو ضرب من الاجتهاد في مورد النص، والحكم بفساد اعتباره لا يحتاج إلى تقرير؛ فضلاً عن نصب برهان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والاحتياط حسن، ما لم يُفضِ بصاحبه إلى مخالفة السُّنَّة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك الاحتياط» (2) ، وأقرّه تلميذه ابن القيم على ذلك فقال: «فالصواب أن يحتاط الإنسان لاتّباع السُّنَّة لا لمخالفتها» (3) .
ومن الاحتياط المخالف للسُّنَّة التورعُ عن اليمين في الحق بالحق من غير إكثار؛ بدعوى أن الأيمان كلها مكروهة، لقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] .
وهذا احتياط في غير محله؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يحلف كثيراً، ولو كان مكروهاً لكان أبعد الناس عنه. أما النهي في الآية فمحمول على الإفراط في الحلف الذي لا ينفك عنه الكذب غالباً، وصدق الشيخ (زروق) حين قال: «ورع بلا سُّنَّة بدعة» (4) .
د ـ ألاَّ يفضي الاحتياط إلى مشقة فادحة لا يمكن احتمالها والصبر عليها، وهذا ملاحظ في تصرفات الفقهاء، وجارٍ في فروعهم، ومنها: إذا المرأة المتحيرة التي نسيت عادتها ووقتها يحل للزوج وطؤها؛ (لأنه يستحق الاستمتاع ولا نحرمه بالشك؛ ولأن في منعها دائماً مشقة عظيمة) (5) ، وهذا وجه في المذهب الشافعي، فالاحتياط هنا أُلغيَ رعياً للحرج البالغ الذي يعنت كلا الزوجين، وإلى هذا الوجه مالَ (العز بن عبد السلام) (6) .
هـ ـ ألاّ يفضي الاحتياط إلى تفويت مصلحة راجحة، وبفواتها يظل التعارض قائماً، فيحتاج إلى دفعه، فإذا كانت المصلحة أقوى وأهم قدمت على أصل الاحتياط، قال ابن تيمية: «وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية قد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع؛ كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة، ويرى ذلك ورعاً، أو يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع» (7) .
إن الاحتياط مسلك تُجتنب به الشبهات، ومرجّح عند تعارض الأدلة، ومخصّص لعموم الإباحة إذا ثبت، ولا خلاف في حُسنه بين العقلاء في الجملة، إلا أن الإغراق فيه يؤول في نهاية المطاف إلى الاستدراك على الشرع، واجتراح البدعة المذمومة، وقد تفطن (ابن رشد الحفيد) إلى هذا المحذور فقال: « ... وهو إن كان يخيّل فيه أنه أولى لمكان النجاة من الذم، فكذلك يخاف لحوق الذم بزيادة ما ليس من الشرع في الشرع» (8) .
__________
(*) أستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي.
(1) العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي لمنيب شاكر، ص 48.
(2) المصدر نفسه، ص 48 ـ 49.
(1) الفروق للقرافي، 4/368.
(2) بدائع الفوائد لابن القيم، 3/257.
(3) الإحكام لابن حزم، 1/51.
(4) الأسرار في الأصول للدبوسي، 1/54، وأصول السرخسي، 1/345، والتحرير مع تيسير التحرير لابن الهمام، 3/151.
(5) منتهى الوصول والأمال لابن الحاجب، ص 223 ـ 225، ونفائس الأصول للقرافي، 3/334، ومفتاح الوصول للتلمساني، ص 646.
(6) المستصفى للغزالي، 2/447، والبرهان للجويني، 1/402، والمحصول للرازي، 5/349.
(7) العدة لأبي يعلى، 4/1244، والتمهيد للكلوذاني، 1/87، 211، والمسودة لآل تيمية، ص 308، 531.
(8) أصول السرخسي، 2/23.
(9) الفصول في الأصول للجصاص، 2/99.
(10) الموافقات للشاطبي، 2/276.
(11) البرهان للجويني، 2/779.
(12) الإحكام في أصول الأحكام، 6/2 ـ 15.
(13) المصدر نفسه، 6/10.
(14) الإحكام لابن حزم، 6/ 3 ـ 4.
(1) المصدر نفسه، 6/13.
(2) المصدر نفسه، 1/51.
(3) الحجة البالغة للدهلوي، 2/134.
(4) الموافقات للشاطبي، 1/124.
(5) الروح لابن القيم، ص 351.
(1) الفوائد الجنية للفاداني، 2/ 134 ـ 142.
(2) نقلاً عن إغاثة اللهفان لابن القيم، 1/163.
(3) الروح لابن القيم، ص 346.
(4) قواعد التصوف لزروق، ص 47 ـ 48.
(5) المجموع، شرح المهذب للنووي، 2/461.
(6) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، 2/18.
(7) الفتاوى لابن تيمية، 10/215.
(8) الضروري في أصول الفقه لابن رشد الحفيد، ص 142.(234/2)
أهل الذمة والولايات السياسية
(2 - 2)
محمد بن شاكر الشريف
بيّنتُ في الحلقة الأولى من هذه المقالة عدالة الشريعة في تعاملها مع أهل الذِّمّة، والتزام المسلمين بذلك في تعاملهم معهم، ثم سقتُ الأدلة التي تبين أنه لا يجوز تولية أهل الذِّمّة الولايات السياسية في بلاد المسلمين، ونقلتُ طائفة كبيرة من أقوال أهل العلم من مختلف المذاهب في ذلك، وفي هذه الحلقة نكمل ـ إن شاء الله ـ ما بقي من هذه المقالة.
من خلال ما تمر به بلاد المسلمين اليوم من ضعف وتخاذل أمام عدو الله وعدو المسلمين، نجد اليوم من المسلمين من يحاول أن يؤكد مساواة أهل الذِّمّة للمسلمين في حق تولِّي الولايات، وذلك بأنواع من الكلام الذي يظنه أدلة وما هي إلا شبهات، سَهَّل قبولَها لديه والدعوة إليها والتمسك بها الحالةُ التي عليها العلاقات الدولية اليوم، وها أنذا الآن أعرض بعضاً من هذه الشبهات وأردُّ على ما اشتبه منها:
- وزارة التنفيذ:
لقد تصرَّمت قرون الإسلام وانقضت بالاتفاق على أن أهل الذِّمّة لا ولاية لهم على المسلمين في شيء، وهذا الاتفاق لا يخدشه ـ كما يتوهم البعض ـ ما نُقل عن الماوردي (الشافعي) بإجازته لأهل الذِّمّة أن يكونوا وزراء تنفيذ. والذي دعا الماوردي ـ رحمه الله ـ لذلك هو تصويره هذا النوع من الوزارة على أنه ليس من ولاية الأمر، حيث يقول عن الذمِّي المعيَّن في وزارة التنفيذ: (فهو معيَّن في تنفيذ الأمور وليس بوالٍ عليها ولا متقلِّداً لها) (1) . وسبب ذلك ما تقرر عنده ـ كما عند بقية أهل العلم ـ أن الولاية لا يجوز عقدها لغير المسلم. لكن الماوردي مع ذلك محجوج بالنصوص الشرعية التي تنهى عن ذلك، ومحجوج بعمل الخلفاء الراشدين وأصحاب السيرة المستقيمة من الخلفاء الأمويين والعباسيين (2) .
وقد ردَّ عليه الجويني (الشافعي أيضاً) ـ رحمه الله ـ بكلام شديد فقال: (ذكر مصنِّف الكتاب المترجَم بـ (الأحكام السلطانية) أن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذمّياً، وهذه عَثْرَة ليس لها مقيل، وهي مشعرة بخلوِّ صاحب الكتاب عن التحصيل؛ فإن الثقة لا بد من رعايتها، وليس الذِّمّي موثوقاً به في أفعاله وأقواله وتصاريف أحواله، وروايتُه مردودة، وكذلك شهادته على المسلمين؛ فكيف يُقبل قوله فيما يسنده ويعزيه إلى إمام المسلمين) . ثم ذكر بعضاً من الأدلة إلى أن يقول: (وقد نصَّ الشافعي ـ رحمة الله عليه ـ أن المُترجِم الذي يُنهي إلى القاضي معاني لغات المدّعين يجب أن يكون مسلماً عدلاً رضيّاً، ولست أعرف في ذلك خلافاً بين علماء الأقطار؛ فكيف يسوغ أن يكون السفير بين الإمام والمسلمين من الكفار؟) (3) .
- هل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين؟
هناك من يزعم ـ من المسلمين ـ أن أهل الذِّمّة في البلاد الإسلامية لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويستدلون على زعمهم ذلك: أن هذه قاعدة شرعية، أو ما ينسبه البعض الآخر إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وهذا لا شك في خطئه؛ فليست هناك قاعدة شرعية تذكر ذلك، كما أن الرواية المزعومة هي من الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل هذا النص إنما ورد في حق من أسلم من الكفار؛ فقد سأل ميمون ابن سِيَاهٍ أنسَ بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: يا أبا حمزة! ما يُحرِّمُ دمَ العبد ومالَه؟ فقال: «من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلَّى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم» (1) . وأخرجه النسائي بلفظ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلَّوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقِّها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم» (2) . وأخرجه أبو داود بلفظ: «قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلّوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقِّها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين» (3) .
فأخذه هؤلاء وجعلوه لأهل الذِّمّة، وأهل الذِّمّة كفار لم يشهدوا أن لا إله إلا الله، ولم يشهدوا أن محمداً رسول الله، ولم يستقبلوا قبلتنا، ولم يصلّوا صلاتنا، ولا أدري هل وقعوا في ذلك جهلاً أو عمداً؟ ولا شك أن هذا القول الذي ينسبه هؤلاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخالف لكل ما تقدَّم من الأدلة التي أوردتُها في الحلقة الأولى من المقالة، وليس في أيدي هؤلاء أكثر من محاولة بيان عدم دلالة هذه الأدلة، وذلك بأنواع مستكرهة من التأويل.
هل قوله ـ تعالى ـ: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] وما تلاه شرط في الحكم أم هو كشف عن حقيقة أمرهم؟
قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] . في هذه الآية كشف وبيان لحقيقة موقف أهل الذِّمّة من المسلمين، ولفظ الآية ونَظْمها يبين أن ما ذكر فيها هو من خصائص القوم وصفاتهم المتأصلة فيهم؛ فالله ـ تعالى ـ ينهانا أن نتخذ من أهل الذِّمّة بطانة، ويكشف لنا عن حقيقة موقفهم من المسلمين فيقول: إنهم لا يألونكم خبالاً، ودّوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم. ثم يبين الله ـ تعالى ـ أن الأمر أكبر مما ظهر بقوله: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} . ثم يقول ـ تعالى ـ محرّضاً المؤمنين على عدم اتخاذهم بطانة: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} . فجاء أناس ممن يريد لَيَّ النصوص ويدعي الفهم والاستنارة فزعم أن قوله ـ تعالى ـ: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} هو شرط لتطبيق الحكم، فإذا تخلف ذلك الشرط جاز اتخاذهم بطانة، فإذا كان أهل الذِّمّة ـ كما زعمت ـ ممن لا يجتهدون في أذيّتنا، ولا يودّون لنا التعب والمشقة، ولم تظهر البغضاء من أفواههم، جاز اتخاذهم بطانة. وهذا ما لم يقله أحد من أهل العلم السابقين.
ولفظ الآية يأبى هذا التفسير التحريفي؛ فالآية تكشف عن حقيقتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} الآية [آل عمران: 118] ، فهذه حقيقتهم والصفة المتأصلة فيهم، ولذلك حسُن أن يقال عنهم: قد بدت البغضاء من أفواههم؛ تأكيداً وتوثيقاً للحكم في نفوس السامعين، وحسُن قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} وكأن فيه جواباً أو ردّاً لمن يقول: وإذا لم يظهر منهم ما نَكْره من الأقوال أو الأفعال؟ فيقال لهم: إن كانت لكم عقول تعقلون بها عداوتهم لكم، فقد بيَّنا لكم الآيات الدالة على ذلك. ولذلك يقول ابن جرير في تفسيرها: (نهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذّرهم بذلك منهم ومن مخالَّتهم) ، فهم منطوون على هذه الأمور، وليست هي شرطاً أو قيداً في الحكم يزول بزوالها، ومن الذي يقدر على العلم بذلك وهي أمور قلبية لا يطّلع عليها الناس؟ ومع هذا الوضوح فقد زعم بعض من لم يفهم كلام أهل العلم أن الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ ممن يرى جواز الاستعانة بغير المسلمين في أمور المسلمين وشؤونهم، مع أن الطبري بيَّن ذلك بعبارة واضحة وهو يردُّ على من يقول: إن الذين بدت البغضاء من أفواههم هم المنافقون، قال ـ رحمه الله ـ: (القول في تأويل قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} : قال أبو جعفر: يعني بذلك ـ جلَّ ثناؤه ـ: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم ـ أيها المؤمنون ـ أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} يعني: بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم: إقامتهم على كفرهم، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة؛ فذلك من أَوْكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان؛ لأن ذلك عداوة على الدِّين، والعداوة على الدِّين العداوةُ التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعادين إلى ملّة الآخر منهما، وذلك انتقالٌ من هدى إلى ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين، ومقامهم عليه، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة) .
ثم نقل عن قتادة ـ رحمه الله تعالى ـ: (قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} يقول: قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار؛ من غشِّهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم) .
ثم عقب عليه بقوله: (وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة، قول لا معنى له) .
ثم بدأ يبين سبب حكمه على ما قاله قتادة، فقال: (وذلك أن الله ـ تعالى ذِكْرُه ـ إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغشّ للإسلام وأهله والبغضاء، إما بأدلة ظاهرة دالة على أنّ ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم.
فأما من لم يُثبِتوه معرفةً أنه الذي نهاهم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عن مخالَّته ومباطنته، فغير جائز أن يكونوا نُهوا عن مخالَّته ومصادقته، إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها.
وإذا كان ذلك كذلك ـ وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودُّد إليهم ـ كان بيِّناً أن الذي نهى الله المؤمنين عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم، على ما وصفهم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ به، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم ـ تعالى ذِكْره ـ بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمّةٌ وعهدٌ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من أهل الكتاب؛ لأنهم لو كانوا المنافقين، لكان الأمر فيهم على ما قد بيَّنا، ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ، لم يكن المؤمنون متّخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن كان له من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهدٌ وعقدٌ من يهود بني إسرائيل) (1) . فالمعنيُّون بهذه الآيات ليسوا هم المنافقين وليسوا هم الكفار من أهل الحرب، وإنما كفار أهل الذِّمّة.
- البرُّ بهم والإقساط إليهم:
لم ينهَ ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن البرِّ والإقساط بمن لم يقاتلنا في الدِّين ولم يعينوا المشركين علينا، كما قال ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
فبِرُّهم والإقساط إليهم أمر مطلوب، لكن ليس من معنى هذا توليتهم الولايات على المسلمين؛ فإن هذا لم يقل به أحد، والآية إنما تعني: أن المسلمين أهل عدل وإنصاف وإحسان لا يظلمون أحداً شيئاً، وأن من لم يقاتلهم في الدِّين ولم يعنْ عليهم أحداً فإن المسلمين يحفظون له ذلك ويثيبونه عليه.
- ما يجوز من الاستخدام أو الاستعانة؟
يجوز الاستعانة بأهل الذِّمّة واستخدامهم فيما يحتاج إليه المسلمون، وذلك وفق عدة شروط، منها:
ـ أن لا يكون في ذلك ولاية على المسلمين.
ـ أن يكون حَسَنَ الرأي في المسلمين.
ـ أن تكون بالمسلمين حاجة إليه.
والوقائع التي حدثت في السيرة النبوية تدل على هذا الجواز بتلك القيود المذكورة. وإذا تأمّل المتأمّل ما يُساق من وقائع في ذلك، لا يجد فيها استعانة أو استخداماً مطلقاً، بل يجدها مقيدة بأحد القيود السابقة؛ كاستئجار الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة دليلاً مشركاً خبيراً بالطرق؛ فهي ليست ولاية، وكان الرجل مأموناً، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حاجة إلى ذلك. وكذلك اتخاذه عيناً (جاسوساً) من خزاعة على مشركي قريش، وكانت خزاعة عيبة نصح (2) لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ مشركهم ومسلمهم، ونحو ذلك من الأمور.
- محكمة التاريخ:
لقد كانت هناك فترات من الزمن تخلَّى فيها المسلمون عن كثير من الأحكام الشرعية، وتقاعس فيها بعض ولاة الأمور من المسلمين عن الالتزام بالأحكام الشرعية الخاصة بالمشاركة السياسية لأهل الذِّمّة؛ فولّوهم بعض الولايات والمناصب التي لا ينبغي أن يتولّوها. وقد أثبت التاريخ والواقع ما تحدَّث عنه القرآن بما يكنّه الكفار للمسلمين، وما تنطوي عليه أفئدتهم بما لا يدع مجالاً لمُشكِّك أو لمُخذِّل، وفي هذا الواقع التاريخي بيان وردٌّ على بعض المعاصرين الذين يحاولون التفرقة بين من ظهرت عداوته من أهل الذِّمّة، وبين من ظهرت مودّته أو لم تظهر منه عداوة، فيجعلون كل ما تقدم من الأدلة خاصاً بمن ظهرت عداوته، ويرون أن من ظهرت مودّته أو لم تظهر منه عداوة فإن الأدلة لا تتناوله.
وذلك أن ما في القلوب لا يعلمه إلا الله ـ تعالى ـ وقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204 - 205] ، والأدلة المتقدمة ليس فيها هذا القيد الذي زعموه، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عشرين موضعاً من كتاب الله ـ تعالى ـ في بيان غشِّ الكفار من اليهود والنصارى للمسلمين، وعداوتهم وخيانتهم وتمنِّيهم السوءَ لهم، ومعاداة الربِّ ـ تعالى ـ لمن أعزَّهم أو والاهم أو ولاَّهم أمورَ المسلمين. ثم قال بعدما أورد هذه المواضع العديدة: (والآيات في هذا كثيرة، وفي بعض هذا كفاية) (1) .
وهذه بعض الوقائع التاريخية من القديم ومن الحديث، ومن الشرق ومن الغرب، ومن اليهود ومن النصارى، بما يدل على أن ما يظهره أهل الذِّمّة غير ما يبطنون، وقد تمثَّل ما قاموا به سواء في القديم أو الحديث ـ عندما تولّوا بعض الأمور، أو عند شعورهم بالقوة وأَمْنهم من معاقبة المسلمين لهم ـ في أمرين:
الأول: ظلمهم للمسلمين وإذلال من يقع منهم تحت أيديهم، والاستعانة بأهل ملّتهم في أعمال الدولة وإبعاد المسلمين عنها، بل وفصلهم من وظائفهم. وقد بلغت مكانة اليهود في الدولة الفاطمية أن قال القائل ـ في وصف ما هم عليه من العزِّ والسؤدد الذي لم ينله كثير من المسلمين ـ:
يهود هذا الزّمان قد بلغوا
غايةَ آمالهم، وقد ملكوا
العزُّ فيهم والمال عندهم
ومنهمُ المستشار والملكُ
يا أهلَ مصر إنّي قد نصحت لكم
تهوّدوا قد تهوّد الفَلَكُ (2)
وقد تسلّط اليهود ـ أيضاً ـ في دولة غرناطة على الناس، وقاموا بحكم الجماعات الإسلامية، وجمع الضرائب منهم، مما دفع بابن الجد أن يقول:
تحكمت اليهود على الفروجِ
وتاهت بالبغال وبالسروجِ
وقامت دولة الأنذال فينا
وصار الحكم فينا للعلوجِ
فقلْ للأعور الدجال: هذا
زمانك إن عزمت على الخروجِ
وهذا أبو إسحق الألبيري الصنهاجي وقد رأى ما ساد به اليهود على المسلمين، فيقول:
وإني احتللت بغرناطة
فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها
فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها
وهم يخضمون وهم يقضمون
ورخَّم قردهم (3) داره
وأجرى إليها نمير العيون
فصارت حوائجنا عنده
ونحن على بابه قائمون
ويضحك منا ومن ديننا
فإنا إلى ربنا راجعون (4)
والثاني: تحريضهم المشركين وأعداء المسلمين على غزوهم ومحاربتهم، وإيذائهم للمسلمين بكل سبيل، وإعانتهم للقوى الكافرة المهاجمة لبلاد المسلمين.
وقد كان أول ذلك ما فعله اليهود زمن البعثة النبوية؛ فرغم ما كان بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبينهم من معاهدات؛ فقد خانوا ونقضوها، وحرّضوا المشركين على قتال المسلمين، ولكن الله خذلهم.
ومن ذلك ما فعله النصارى في الأندلس زمن دولة المرابطين عندما حرَّضوا الطاغية (ابن رذمير) على محاربة المسلمين وقتالهم، وتوالت عليه كتبهم، وتواترت رُسلهم ملحّة بالاستدعاء، مطمعة في دخول غرناطة، فلما أبطأ عنهم، وجّهوا إليه زماماً يشمل اثني عشر ألفاً من أنجاد مقاتليهم، لم يَعُدُّوا فيها شيخاً ولا غرّاً (5) .
وعندما أغارت جموع التتار على بلاد الشام ودخلوا دمشق استطال النصارى هناك على المسلمين، (وأحضروا «فرماناً» من (هولاكو) بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم؛ فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشّوه على ثياب المسلمين في الطّرقات، وصبّوه على أبواب المساجد، وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مرّوا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب، وصاروا يمرون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهراً: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، فقلق المسلمون من ذلك، وشكوا أمرهم لنائب (هولاكو) وهو (كتبغا) فأهانهم وضرب بعضهم، وعظَّم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم) (1) .
ومن ذلك ـ أيضاً ـ الحريق الكبير الذي شبَّ في دمشق سنة سبعمائة وأربعين هجرية، وبعد خمسة عشر يوماً شبَّ حريق أعظم منه، وكان أمراً مهولاً، ثم تبين بعد ذلك أن من فعل ذلك هم مجموعة من النصارى الذين تستعملهم الدولة في أعمالها، وعلى رأسهم (سلامة بن سليمان بن مرجا النصراني) كاتب (الأمير علم الدين سنجر البشمقدار) (2) .
قال ابن القيم: (ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتابَ، ومكاتبتِهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنّيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان، لَثَنَاهُمْ ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال. وهذا الملك الصالح (أيوب) كان في دولته نصراني يسمى (محاضر الدولة أبا الفضائل بن دخان) ، ولم يكن في المباشرين أمكَنَ منه، وكان المذكور قذاةً في عين الإسلام، وبَثْرةً في وجه الدين، ومثالبُه في الصحف مسطورة، ومخازيه مخلَّدة مذكورة، حتى بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم بردِّه إلى دين النصرانية، وخروجه من الملّة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين وأعمالهم وأمر الدولة وتفاصيل أحوالهم، وكان مجلسه معموراً برُسل الفرنج والنصارى، وهم مكرَّمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحل لهم الأدرار والضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يُؤذن لهم، وإذا دخلوا لم يُنصفوا في التحية ولا في الكلام، فاجتمع به بعض أكابر الكتاب فلامَه على ذلك وحذّره من سوء عاقبة صنعه، فلم يزده ذلك إلا تمرُّداً) (3) .
وفي حوادث سنة سبعمائة وسبع وستين هجرية عندما هاجم الفرنج الإسكندرية وقت الضحى من يوم الجمعة، دخل ملك قبرص ـ واسمه (ربير بطرس بن ريوك) ـ وشقَّ المدينة وهو راكب، فاستلم الفرنجُ الناسَ بالسيف، ونهبوا ما وجدوه من صامت وناطق، وأسَرُوا وسَبَوْا خلائق كثيرة، وأحرقوا عدة أماكن، وهلك في الزحام، بباب رشيد، ما لا يقع عليه حصر، فأعلن الفرنج بدينهم، وانضمَّ إليهم من كان بالثغر من النصارى، ودلّوهم على دور الأغنياء، فأخذوا ما فيها، واستمروا كذلك، يقتلون، ويأسرون، ويسبون، وينهبون، ويحرقون، من ضحوة نهار الجمعة إلى بكرة نهار الأحد، فرفعوا السيف، وخرجوا بالأسرى والغنايم إلى مراكبهم، وأقاموا بها إلى يوم الخميس ثامن عشرينه، ثم أقلعوا، ومعهم خمسة آلاف أسير (4) .
وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر تطاول النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسبِّ والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكاناً، وصرّحوا بانقضاء ملّة المسلمين وأيام الموحدين (5) .
وعندما سافر عسكر الفرنساوية إلى جهة الصعيد صحبهم (يعقوب القبطي) ليعرّفهم الأمور ويطلعهم على المخبَّآت، ولما تظاهر (يعقوب القبطي) مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة، جمع شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزيّ مشابه لعسكر الفرنساوية. والوقائع في ذلك كثيرة وهذه مجرد أمثلة.
وهكذا تثبت وقائع التاريخ المتعددة على اختلاف ما بينها من الزمان والمكان ما جاء في كتاب ربنا العليم الحكيم، وهو مصداق لقوله ـ تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ، فقد بيَّنت هذه الوقائع التي أوردناها ما ذكرته الآيات من كراهية الكفار للمسلمين وحقدهم عليهم وإرادة السوء بهم.
اللهم! بمنِّك وكرمك وقدرتك نجِّنا منهم ومن شرِّهم وممن مكّن لهم وأعانهم.
__________
(1) الأحكام السلطانية، ص 28 ـ 29.
(2) انظر: أحكام أهل الذمة، لابن القيم 1/456 ـ 478. وتحطيم الصنم العلماني، ص 108 ـ 110.
(3) غياث الأمم في التياث الظُّلم، ص 114 ـ 116.
(1) أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، رقم 393.
(2) أخرجه النسائي في كتاب: تحريم الدم، رقم 3967. وأخرجه أحمد بنحوه: رقم 12643.
(3) أبو داود، كتاب: الجهاد، رقم 2641.
(1) تفسير ابن جرير الطبري: 7/145 ـ 147.
(2) يحفظون سرَّه ولا يخفون عنه شيئاًً.
(1) أحكام أهل الذِّمّة: 1/498.
(2) إتحاف الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، للمقريزي.
(3) إشارة منه إلى الوزير اليهودي.
(4) تاريخ الأدب الأندلسي، إحسان عباس: 1/148.
(5) الإحاطة في أخبار غرناطة.
(1) السلوك لمعرفة دول الملوك.
(2) انظر في تفاصيل ذلك: السلوك لمعرفة دول الملوك.
(3) أحكام أهل الذِّمّة: 1/499.
(4) انظر في تفاصيل ذلك: السلوك لمعرفة دول الملوك.
(5) انظر: عجائب الآثار للجبرتي.(234/3)
فقه الواقع في العمل الإسلامي ضرورة حضارية
د. عبد الكبير حميدي
- مقدمة في الموجبات:
لماذا يجب أن نفقه الواقع؟
فقه الواقع ضروري لأي تخطيط، وإلا ضاع الهدف؛ لعدم تحديد المنطلق.
وفقه الواقع ضروري لأي دعوة إصلاحية، وإلا وضع الشيء في غير موضعه، وأُسنِد الأمر إلى غير أهله.
وبما أن العمل الإسلامي اليوم بكل أشكاله وألوانه يمر في مرحلة غاية في الدقة والحرج، كأنها عنق زجاجة أو سّمُّ خِيَاط، في ظلِّ الجولة الراهنة من الحرب الصليبية ـ الصهيونية ـ على الإسلام، تحت مسمى «الإرهاب» ؛ حيث اتخذت أمريكا والغرب ومن ورائهما الصهيونية العالمية الحركةَ الإسلاميةَ، بكل اتجاهاتها وتياراتها؛ بما فيها تيار الوسطية والاعتدال، هدفاً مباشراً ومعلناً لحملتها العدوانية المسعورة. وقد وجدت الأنظمة العميلة الحاكمة في العالم الإسلامي في تلك الحملة فرصة لتصفية حساباتها التاريخية مع الحركات الإسلامية؛ فانخرطت هي الأخرى في حرب العمل الإسلامي، والتضييق عليه، وتجفيف ينابيعه بشتى الطرق والأساليب؛ كالحملات الأمنية والتشهيرية الهوجاء، وإصدار القوانين التعسفية التي تخنق الأنفاس وتصادر الحريات، وإطلاق أيدي المخابرات وأجهزة القمع في الاعتقالات والمداهمات، تحت طائلة التهم الجاهزة، ودون حاجة إلى أدلة أو إثباتات.
وبما أن الأمر كذلك فقد صار تجديد العمل الإسلامي فريضة شرعية وضرورة واقعية، ولا سبيل إلى ذلك بغير فقه الواقع الدولي والإقليمي والوطني الجديد، ذلك بأن تجديد بناء الأمة، وإقامة الدين؛ التي هي الهدف الاستراتيجي للعمل الإسلامي المنظم، يتطلب:
ـ فِقهاً لما به يكون التجديد ـ وهو الدين ـ مُمَّثلاً في القرآن والسُّنّة.
ـ وفقهاً لما له يكون التجديد ـ وهي الأمة ـ ممَّثلة في واقع المسلمين.
ـ وفقهاً لكيف يكون التجديد ـ وهو المنهاج ـ ممّثلاً في كيفية تنزيل الدين على الواقع وإحلاله فيه.
وكل ذلك مرتبط بالواقع بشكل ما من الارتباط. وإذا جاز تصور تحصيل الفقه الأول بمعزل عن الواقع فإن الفقهين الآخرين لا يستطاع تصور تحصيلهما دونه؛ فوجب الانطلاق من «فقه سديد» للواقع في أي محاولة للتجديد الصحيح.
- فقه الواقع: المصطلح والدلالات:
«فقه الواقع» مركب اصطلاحي إضافي يتكون من مصطلحين: الفقه ثم الواقع، ونبدأ في دراسة مفهوم هذا المركب بالمضاف إليه ثم بالمضاف.
- الواقع في لسان العرب: الساقط والنازل، قال ابن فارس: «الواو والقاف والعين: أصل واحد يرجع إليه فروعه، يدل على سقوط شيء» مقاييس اللغة/ وقع.
وعند الراغب أن «الواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ (وقع) جاء في العذاب والشدائد» المفردات/ وقع.
وأما الواقع في الاستعمال العربي المعاصر، فيرى الدكتور عبد المجيد النجار أن المراد به: «ما تجري عليه الحياة في مجتمع ما، من أسلوب في تحقيق أغراض ذلك المجتمع، ويدخل في ذلك مجموع الأعراف والتقاليد والنظم التي تتفاعل؛ فينشأ منها الأسلوب في تحقيق الأغراض. وأسلوب تحقيق الأغراض الحياتية يشتمل على عنصرٍ اجتماعيٍّ متمثلٍ في بنية الترابط الاجتماعي، وطبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يمارس من خلالها الأسلوب الحياتي، كما يشتمل على عنصرٍ اقتصاديٍّ متمثل في نظام الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وما يجري عليه من قواعد، كما يشمل عنصراً سياسياً يتمثل في طبيعة الحكم القائم في المجتمع ونظامه، وعنصراً ثقافياً متمثلاً في أنماط التعبير الفني التي ينتهجها الناس في تصوير آمالهم وآلامهم وأفراحهم وأتراحهم» (1) .
وللدكتور (الشاهد البوشيخي) تعريف وتقسيم آخر لواقع الأمة، فأما التعريف فيرى فيه أن: «الواقع هو: الحالة التي عليها الأمة الآن، فيدخل فيه كل الجزئيات والكليات التي تتكون منها الأمة الآن حسب حالتها الراهنة» (2) ، وأما عن تقسيمه لواقع «الأمة» فيرى أنه: «انسجام مع التحليل السابق لمفهوم الأمة» (3) ، نترك التصنيف المألوف للواقع الذي يجزّئ الحياة العامة إلى: واقع سياسي، وواقع اقتصادي، وواقع اجتماعي ... إلخ، مستبدلين به التصنيف حسب «العناصر المكونة لمركّب الأمة» من واقع الجمع البشري لها، وواقع وحدتها والأمر الجامع لها، وواقع قصدها والرسالة التي تضطلع بها.
ويقصد بواقع الجمع البشري للأمة: الحالة التي عليها الناس الذين يشكلون الجسم «المادي» للأمة: كثرة وقلة، غنى وفقراً، علماً وجهلاً، صحة ومرضاً، شعوباً وقبائل، طبقات ومستويات، مؤسسات وتنظيمات.
ويقصد بواقع وحدة الأمة والأمر الجامع لها: الحالة التي عليها ممارسة الإسلام والتدين في الأمة، والروابط الجامعة المنبثقة عنه من: عقيدة وعبادة وأخلاق وشريعة، وما درجة ذلك قوةً وضعفاً، اتساعاً وضيقاً، صواباً وخطأً.
ويقصد بواقع قصد الأمة والرسالة التي تضطلع بها: الحالة التي عليها تأهل الأمة للشهادة على الناس، ومدى أدائها لها في مختلف المجالات بالحال والمقال، ما درجة الأهلية؛ وسطيةً وخيرية؟ وما درجة الشهود الحضاري والشهادة؛ إمامةً وتبليغاً؟ (4) .
ويرى الدكتور البوشيخي أن للواقع زمناً يتحرك فيه، ومجالاً يحيط به ويؤثر فيه، أو يتأثر به.
فأما الزمن: فهو المعيش في بعديه المؤثرين: الماضي القريب، والمستقبل القريب، وهو ما قد يسمى بـ «العصر» . ولا يستطاع تحديده علمياً بيوم أو شهر أو عام؛ لتحركه المستمر بتحرك العائش فيه، ويمكن تحديده دراسياً من أجل ضبط المعطيات والنتائج.
وأما المجال: فهو المحيط الخارجي الذي يتبادل التأثر والتأثير مع الواقع الداخلي، حسب سنن التجاور تآلفاً أو تخالفاً. وإنما يُحدَّدُ بالأثر، ويصنف حسب القوة والضعف والقبول والرفض. وأكبر حاضر في المجال ومؤثر في واقع الأمة إلى حد «الصنع» أحياناً، أو ما يشبه «الصنع» هو ما اصطلح عليه بـ «الغرب» (5) .
والخلاصة أن «الواقع المقصود: هو الحالة التي عليها الأمة بكل مكوناتها في هذا الظرف المعيش، داخل المجال الدولي المحيط، وهي تتحرك فاعلة منفعلة متفاعلة» (1) .
- وأما الفقه في لسان العرب فهو: «العلم بالشيء والفهم له» لسان العرب/ فقه.
وعند الراغب: هو «التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد؛ فهو أخص من العلم» المفردات/فقه.
وهو عند الجرجاني: «عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه» التعريفات/فقه.
وقد أحسن الحكيم الترمذي حين قال: «الفقه بالشيء: هو معرفة باطنه، والوصول إلى أعماقه» (2) . «وبعد دراسة الفقه في عشرين موضعاً من القرآن، تبين للشيخ محمد رشيد رضا أنَّ المراد به: نوع خاص من دقة الفهم والتعمق في العلم الذي يترتب عليه الانتفاع به» (3) .
وهذا كله يفضي إلى أن الفقه: فهم دقيق نافذ إلى البواطن والأعماق والأغراض.
فإذا أضيف إلى الواقع أمكن تعريفه هكذا:
- فقه الواقع هو: الفهم الدقيق النافذ إلى أعماق ما يجري في الظرف المعيش، والمجال المحيط.
وبتحليل التعريف إلى عناصره نجد:
ـ الفهم بشروطه، وهو أداة الفقه.
ـ والوضع بمكوناته، وهو موضوع الفقه.
ـ والظرف المعيش بجريانه، وهو الإطار الزماني.
ـ والمجال المحيط بتفاعلاته، وهو الإطار الإنساني.
ولا سبيل إلى فقه واقع الأمة بغير إحكام أمر الأداة: أدمغة وأجهزة ومؤسسات، ومنهج في التوثيق والتدقيق والتحقيق، ويقوم على الاستيعاب والتحليل والتعليل قبل أي تركيب، مُقدِماً عند الدراسة الوصفَ على التاريخ، والجزئي على الكلي ... إلى آخر ما يجب إحكامه من أمر الأداة؛ لتأمين ذلك المستوى من الفهم.
كما لا سبيل إلى فقه واقع الأمة بغير التمكن من مكونات الوضع الموضوع، والتتبع الأفقي والعمودي لما يجري في الظرف المعيش، ويتفاعل في المجال المحيط.
لا جرم أن هذا العبء ضخم، وأن التخطيط له بُلْهٌ، وإنجازه يحتاج الى صفوة من أولي العزم، ولكن إذا وجدت الشروط وزالت العوائق فإن المشروع بإذن الله ـ تعالى ـ يكون.
- الآثار السلبية لغياب فقه الواقع في العمل الدعوي المعاصر:
يشكِّل الواقع بكل مظاهره وتجلياته مناطَ التغيير وموضوع الإصلاح في العمل الإسلامي المعاصر، بل إن تغيير الواقع وإصلاح ما به من فساد واختلال، وإخضاعه لتصورات الإسلام وقيمه وأحكامه، يشكِّل عاملاً مهماً من عوامل قيام حركة البعث الإسلامي المعاصر، وغاية من أكبر غاياتها.
غير أن المتأمل لأشكال الخطاب، وأنواع الفعل الدعوي المعاصر بأبعاده المختلفة: تنظيمياً، وتربوياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً، لا يجد كبير عناء في الوصول إلى استنتاجٍ مؤسفٍ مفادُه: ضعف حضور فقه الواقع في الأوراق والتصورات، وفي البرامج والخطط، وفي الأنشطة والأعمال. هذا الضعف يؤثر لا محالة على مردودية العمل، ويَسِمُهُ بسمة الارتجال والعفوية، ويقلل من ثماره ونتائجه في الواقع. هذا على سبيل الإجمال، وأما على سبيل التفصيل فمن الآثار السلبية لغياب فقه الواقع في العمل الدعوي المعاصر نذكر:
1 - الاشتغال بالقضايا الهامشية على حساب القضايا المركزية:
إن من أهم ما يميز العمل الإسلامي المعاصر خاصية الشمول؛ ذلك أنه يشتغل على كل الجبهات، ويسعى إلى إقامة الدين في كل مجالات وميادين الحياة العامة: في التربية، والثقافة، والإعلام، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع وغيرها. غير أن هذه المجالات وما يبذل فيها من جهود لا تكون على نفس الدرجة من الأولوية والأهمية دائماً، وإنما يكون بعضها ـ أحياناً ـ أولى وأهم من بعض، حسب ما تمليه وتقتضيه ظروف الزمان والمكان والإنسان. ومن ثم فلا بد للعمل الإسلامي المنظم من سلّم أولويات يحدد مجالات العمل، ومرتبة كل مجال، ويضع برنامجاً لما يَلزم من الأنشطة والأعمال في كل مجال، ومرتبة كل عمل أو نشاط، حسب ظروف ومعطيات الفئة البشرية المستهدفة، واللحظة التاريخية، والبيئة الجغرافية. وكل ذلك يتأسس في المقام الأول وبالدرجة الأولى على مدى القدرة على فقه الواقع، ورصد معطياته بكل دقة وموضوعية. ولعل الناظر في الواقع الراهن للعمل الدعوي يلحظ اختلالاً واضحاً في سلّم الأولويات، وارتجالاً بيّناً في توزيع الجهود والمبادرات، والأمثلة في ذلك أظهر وأكثر من أن تحُصر وتذكر. وأصل الداء في كل ذلك كله هو: غياب فقه الواقع الذي عليه ينبني فقه التنزيل.
2- التيه وعدم تحديد الوجهة، وعدم امتلاك الرؤية المبصرة، واستراتيجية العمل:
لكل عمل من الأعمال رؤية واستراتيجية تناسبان طبيعة ذلك العمل، وتأخذان بعين الاعتبار خصوصياته، وظروفه في الزمان والمكان والإنسان. ويقصد بالرؤية في مجال العمل الإسلامي: التصور العام الذي يحدد منطلقات العمل، وأهدافه، ووسائله، ومجالاته، وضوابطه العامة. في حين يقصد بالاستراتيجية: الخطة العامة التي تحدد منهج وكيفية تنزيل الرؤية، وتصريفها في الواقع، وذلك من خلال برنامج أولويات يرتب مجالاتِ العمل حسب الأهمية، ويتكون من مراحل، وأهداف، ووسائل دقيقة ومحددة وقابلة للقياس. فإذا كانت الرؤية تكتسي طابعاً تصورياً نظرياً عاماً؛ فإن الاستراتيجية تتميز بطابعها المنهجي الإجرائي والعملي، باعتبارها أجرأة وتنزيلاً للرؤية. وإذا كانت نجاحة وفعالية الرؤية العامة تقاس بمدى قدرتها على معالجة مشاكل الواقع، والاستجابة لمطالبه وتحدياته؛ فإن نجاح الاستراتيجية ومردوديتها، إنما تقاس بمدى قدرتها على تكييف الرؤية مع معطيات الواقع التفصيلي وحسن تنزيلها عليه، أي أن فقه الواقع يظل مصدراً أساس ومرجعاً مهماً في تكوين كل من الرؤية والاستراتيجية. إلا أنه بالرجوع إلى العمل الدعوي المعاصر فإن الخَصَاص الواضح، والفقر الكبير في الأوراق والأدبيات المتعلقة بفقه الواقع، أفرغ الرؤى والاستراتيجيات من محتواها، وحَدّ من فعاليتها وأثرها في توجيه الواقع والتأثير على أحداثه ومجرياته.
3 - تحول العمل الدعوي المنظم إلى عمل نخبوي:
النخبوية من أبرز سمات العمل الدعوي المعاصر، ومعنى النخبوية: «انحصار العمل الدعوي في فئة أو فئات معينة من الناس ذات خصائص، وانتماءات عرقية، أو جغرافية، أو ثقافية، أو اجتماعية، أو مهنية، واحدة أو متقاربة دون باقي فئات المجتمع؛ مما يضيق من آفاق العمل، ويحد من انفتاحه على أوسع مجال بشري، حين يطبعه بلون عرقي، أو جغرافي، أو اجتماعي، أو ثقافي، أو مهني واحد» . وظاهرة الفئوية أو النخبوية في العمل الدعوي ترجع في الغالب إلى افتقار العاملين فيه إلى القدرات والكفايات التواصلية التي توصلهم إلى الآخر، وضعف درايتهم بالمداخل والمفاتيح التي توصلهم إلى مختلف فئات وتشكيلات المجتمع، وإنما يرجع ذلك في نهاية المطاف إلى ضعف استيعاب الواقع الاجتماعي من حيث مكونات المجتمع وفئاته، والعوامل الموجِهة له والمؤثرة فيه، وأنماط التطلعات والاتجاهات الحاكمة لسلوك الجماهير، والمُحدِّدَة لأشكال العلاقات بينهم، وهذا بدوره يرجع إلى أحد سببين أو إليهما معاً، وهما:
أولاً: ضعف الانخراط الميداني والمشاركة الفعلية في الواقع الاجتماعي، بما يؤدي إلى مراكمة الخبرات الميدانية والمعارف الصحيحة حوله، باعتبارها المدخل إلى تكوين تصور كلي شامل للواقع الذي اصطلحنا على تسميته بـ «فقه الواقع» .
ثانياً: الافتقار إلى الأدوات المنهجية، والآليات النظرية التحليلية الكفيلة بحسن قراءة الواقع، وتدبر مجرياته، وتحليل بُنياته، وسبر أغواره.
- قواعد أساسية في فقه الواقع:
ينقسم فقه الواقع إلى قسمين: فقه كلي يتعلق بالأصول والكليات، وفقه جزئي يتعلق بالفروع والجزئيات. وإذا كان غرض القسم الأول هو: التقعيد لفقه الواقع وضبطه من خلال الاجتهاد في إنتاج القواعد والطرائق المكونة لمنهج الفقه؛ فإن غرض القسم الثاني هو: جرد النتائج التي أفضى إليها إعمال المنهج في الواقع وتطبيقه عليه. ولسنا معنيين ـ في هذا المقال ـ بهذا القسم الأخير، ولا حتى بالقسم الأول بشكل مفصل. ما يعنينا الآن هو الوقوف على ثلاث قواعد يعتبر الوقوف عليها بداية البداية، ورأس الطريق في تكوين الملكة المنهجية المتعلقة بفقه الواقع.
1 - قاعدة اعتبار الواقع مجالاً للتفاعل بين الوحي والعقل:
لقد جاء الوحي بتصور شامل ومتكامل للحياة البشرية بكل أبعادها ومناحيها، وهو يسعى بذلك إلى التأسيس لواقع اجتماعي إنساني ينسجم مع نظرته إلى الوجود والحياة والإنسان، ولكن الوحي لا ينظر إلى الواقع نظرة نمطية واحدة، بل يميز فيه بين: ظواهر وجوانب إيجابية تنسجم مع تصوراته وتتماشى مع مقاصده، يمكن التعايش معها والبناء عليها، كما يتجلى من خلال الحديث: «إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق» (1) ، وأخرى سلبية لا بد من إصلاحها أو تغييرها. وبما أن الإنسان في التصور الإسلامي هو خليفة في أرض الله، والعقل هو مناط التكليف بذلك؛ فإن الإنسان العالم هو المكلف شرعاً بتنزيل تصور الوحي للحياة البشرية في الواقع، وتصريفه فيه، والانتقال به من حيّز القوة إلى حيّز الفعل، ولن يتأتى ذلك إلا بتوفر ثلاثة شروط:
- أولاً: فقه العقل للوحي فقهاً عميقاً أفقياً وعمودياً.
- ثانياً: تمثُّل العقل للواقع تمثلاً صحيحاً شاملاً ومستوعباً.
- ثالثاً: نجاح العقل في حسن تنزيل الوحي على الواقع، وحسن تصريفه فيه.
وبذلك يتبين أن الواقع هو مجال خصب وواسع للتفاعل بين الوحي والعقل.
2 - قاعدة اعتبار فهم الواقع مقدمة لإنتاج فقه الواقع والعمل والإنجاز فيه.
فقه الواقع ـ كما سبقت الإشارة ـ مركب اصطلاحي يعبر عن مستوى من إدراك الواقع يتميز بقدرٍ كبيرٍ من الدقة والإحاطة والوضوح، بعيداً عن العموميات والانطباعات والآراء المسبقة. ولإنتاج فقه راشد وناضج للواقع؛ لابد من المرور من مرحلتين:
- الأولى: مرحلة الفهم: وتتجلى في رصد ظواهر الواقع المختلفة، وتجميع معطياته، واستقراء جزئيات أحداثه، وتفاصيله اليومية في الزمان والمكان، وفي مختلف الميادين: في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والأخلاق، والثقافة، والإعلام، وغيرها.
- الثانية: مرحلة الفقه: وتُعنى بفرز المعطيات، وتصنيف الظواهر والوقائع، حسب معايير ومقاييس دقيقة ومحددة، كما تُعنى بالبحث عن الخيط الناظم للأحداث، والأسباب الكامنة وراءها، والسنن والقوانين الحاكمة لنشأتها، وتطورها، واختفائها، وُصُولاً في نهاية المطاف إلى صياغة الجزئيات في الكليات، والخروج بقواعد نظرية، وقوالب تصورية تمثل التصور النظري العام للواقع.
ولبلوغ مستوى الفقه لا بد من إتقان الفهم؛ وعلى قدر درجة الفهم من الإحاطة والدقة والوضوح تكون درجة الفقه.
على أن فقه الواقع في العمل الدعوي المعاصر ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود منه هو: الفعل والإنجاز في الواقع وفقاً للقاعدة المقاصدية الشرعية التي عبّر عنها الإمام الشاطبي في كتابه «الموافقات» بقوله: «كل علم لا ينبني عليه عمل فهو باطل شرعاً» .
إذا كان الأمر كذلك؛ فإن فقه الواقع في مجال الدعوة إلى الله يجب أن يكون مدخلاً نحو إنجاز فعلٍ دعويٍّ راشدٍ متنوعٍ وكافٍ لرفع الدعوة والدعاة إلى مستوى الخيرية والإمامة في كل مجال. على أن مستوى الفعل والإنجاز الدعوي في الواقع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى الفقه الذي يرتبط بدوره بمستوى الفهم، اتساعاً وضيقاً، دقة وضعفاً، وضوحاً وغموضاً.
3 ـ قاعدة اعتبار «التجربة التاريخية» ، و «السياق التاريخي» مدخلاً أساسياً لفقه الواقع، والوقوف على عناصر التأثير فيه (أهمية الوعي التاريخي) :
يتميز الواقع بحيثياته وأحداثه وظواهره بأنه ليس وليد لحظته التاريخية الآنية، وإنما هو عبارة عن: تراكم تاريخي ممتد ومستمر للوقائع والأحداث، خلال فترة زمنية تمتد بين الماضي والحاضر؛ ولذلك فإن فهم حقيقة الواقع، والوقوف على بنياته من الوقائع والأحداث بشكل علمي صحيح يستلزم الرجوع إلى الماضي للبحث في امتدادات الواقع فيه، ودراسة نشأة الوقائع وتطورها، والعوامل الكامنة وراءها. ومعنى ذلك أنه لا بد لفهم واقع مجتمع مّا من استحضار «تجربته التاريخية» في الزمان والمكان، ولا بد لفهم حدث أو ظاهرة ما من الوقوف على «السياق التاريخي» لذلك الحدث، أو لتلك الظاهرة. وبكلمة: إن الدعاة إلى الله، وأنصار المشروع الإسلامي في كل مجال مطالبون ـ اليوم وأكثر من أي وقت مضى ـ بتحصيل قدر من «الوعي التاريخي» يُمَكِّنُهم من فقه صحيح للواقع، وإنجاز راشد فيه.
- المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
- الحديث النبوي الشريف.
- إعلام الموقعين، ابن القيم.
- في فقه التدين فهماً وتنزيلاً، الدكتور عبد المجيد النجار.
- فقه واقع الأمة: دراسة في المفهوم والشروط والعوائق، الدكتور الشاهد البوشيخي.
- الموافقات في أصول الشريعة، الإمام الشاطبي.
- تفسير المنار، الشيخ محمد رشيد رضا.
- المفردات، الراغب الأصفهاني.
- لسان العرب، ابن منظور.
- التعريفات، الجرجاني.
- مقاييس اللغة، ابن فارس.
- سلسلة أين الخلل؟ مجلة الأمة القطرية.(234/4)
عندما يحال بين المرء وقلبه
طه بن حسين بافضل
المرء بقلبه لا بجسده ومنظره؛ حقيقةٌ مهمة ينبغي للإنسان أن يتفطن لها ولا يغفلها أو يغضَّ الطرف عنها أو يتجاوزها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» (1) ، ولذا فقد جاء ذكر لفظ (القلب) في القرآن أكثر من مائة مرة، ناهيكَ عن مرادفات (القلب) من (الصدر) و (الفؤاد) ، ولهذا جاءت الشريعة بمخاطبة هذا الجزء المهم خطاباً يتواكب مع كل حدث يمرُّ به المرء، ومع كل قضية تقابله، أو معضلة ومصيبة تواجهه. وها هو ـ تبارك وتعالى ـ يعلن لعباده المؤمنين في «جملة تُعدّ من أعجب جمل القرآن» (2) : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ، «إذ إن من سنن الله في البشر الحيلولة بين المرء وقلبه الذي هو مركز الوجدان والإدراك ذو السلطان على إراداته وعمله، وهذا أخوف ما يخافه المتقي على نفسه إذا غفل عنها وفرَّط في جنب ربه، كما أنه أرجى ما يرجوه المسرف عليها إذا لم ييأس من روح الله فيها» (3) ، كما أن هذه الجملة أيضاً «أبلغ جُمل القرآن وأجمعها لحقائق علم النفس البشرية وعلم الصفات الربانية وعلم التربية الدينية التي تعرف وقائعها بما تثمره من الخوف والرجاء» (4) .
ولعلِّي في هذه المقالة أحاول الغوص في إشراقات هذه الآية ومقاصدها وفوائدها؛ رغبةً في الوصول إلى فهم يؤثر في سلوكياتنا ونيّاتنا وأعمالنا؛ ليرتقي ويسمو بها إن شاء الله.
أولاً: ماهية القلب:
القلب عند أهل اللغة: «تحويل الشيء عن موضعه، يقال: قَلَبه يَقْلِبُه قَلْباً، وقلَّبه أي: حوله ظهراً لبطن، وتقلّب الشيء ظهراً لبطن.
قال الشاعر:
وما سُمِّي القلب إلا مِنْ تقلُّبه والرأي يصرف بالإنسان أطوارا» (5)
وقال آخر:
ما سُمِّي القلب إلا مِنْ تقلُّبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وعندما يطلق اللفظ فإنه يتناوله صنفان من الناس، فكل صنف يعرِّفُه بطريقته:
الصنف الأول: الأطباء، ويقولون: إنه عضو عضلي أجوف يقع في منتصف التجويف الصدري تقريباً. أو هو المضخة التي تضخ الدم من بداية تشكّل الجنين وحتى وفاة الإنسان دون توقف من ليل أو نهار بما يعادل سبعة آلاف ومئتي لترٍ من الدم يومياً إلى كل خلية في الجسم عبر شبكة معقدة طويلة من الشرايين والأوردة والشعيرات الدموية التي يبلغ طولها آلاف الكيلومترات.
الصنف الثاني: العلماء والفقهاء والعارفون بأحوال القلوب، وقد قالوا: «هو لطيفة ربانية روحانية لها تعلّق بالقلب الذي عرّفْناه آنفاً» (1) .
وفرّق بعضهم فجعل الأول القلب العضلي والثاني القلب المعنوي.
خلاصة الأمر: إن تحقيق الأمر في تعريف القلب هو من قبيل تحقيق عن السر الذي لم يفصح عنه ربنا ـ جلّ وعلا ـ ولا نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهو الأجدر بالاعتماد، وما ذكرته ما هو إلا تقريب للمعنى.
ثانياً: القلب هو الأصل وهو المَلِك:
ينبغي أن نعلم أنَّ «القلب هو الأصل في جميع الأقوال والأفعال؛ فما أمر به الله من الأفعال الظاهرة فلا بد فيه من معرفة القلب وقصده، وما أمر به من الأقوال كذلك، والمنهي عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب» (2) . وهو «المَلِك الذي تصدر الأقوال والأفعال عنه، فإذا لم يعلم ما يقول لم يكن ذلك صادراً عن القلب بل يجري مجرى اللَّغْو، والشارع لم يرتِّب المؤاخذة إلا على ما كسبه القلب من الأقوال والأفعال كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] » (3) .
ولما كان الأمر كذلك فإن الأنبياء والعلماء والصالحين جعلوا له مكانة مرموقة ودرجة عالية من الاهتمام والعناية، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ولما كان هذا القلب لهذه الأعضاء كالمَلِك المتصرّف في الجنود التي تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستعانة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم ويحله؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله» (4) «فهو ملكها وهي المنفِّذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هدايته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده، وهو المسؤول عنها كلها؛ لأن كل راعٍ مسؤول عن رعيته، كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون» (5) . وقال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «القلب مَلِك والأعضاء جنوده، فإذا طاب المَلِك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده» (6) .
ثالثاً: التلازم بين القلب والجوارح:
هذه الآية دليل واضح لهذا التلازم المهم والمؤثر في حياة الإنسان وعلاقته بربه وخالقه، إذ لن يصلح القلب (المَلِك) إلا إذا صلحت جنوده (أعضاء الجسم) ، ولن تصلح الجنود إلا بصلاح المَلِك، فيجب على المرء أن يستجيب لأمر الله، وينتهي عمّا نهى الله عنه وزجر، وبذلك يستقيم هذا المَلِك، فتصبح أوامره للجوارح صحيحة، ومن ثم تكون النتائج صحيحة، فالجنود يجب عليهم تنفيذ الأوامر بل الاستبشار بها، والاستجابة لها والمبادرة السريعة لتنفيذها، فإن حصل ذلك تمكّن هذا المَلِك في ملكه، وتعزّز وضعه، وثبت على عرشه، وكان جديراً له أن يحكم الرعية ويسوسها بحكم عادل ثابت بعيداً عن الزيغ والضلال والانحراف؛ «وإذا قام بالقلب التصديق به ـ أي: الله عز وجل ـ والمحبة له لزم ضرورةً أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة؛ فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمُه ودليله ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له ـ أيضاً ـ تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه» (1) .
«إنَّ ما يقوم بالقلب من تصديق وحب لله ورسوله وتعظيم، لا بد أن يظهر على الجوارح، وكذلك بالعكس، ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن، كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب» ، وكما قال الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: لمن رآه يعبث في الصلاة: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) ... فإن الإرادة التي في القلب مع القدرة توجب فعل المراد» (2) ، فالجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب ـ وإن كان رئيسها وملكها ـ بأعمالها؛ للارتباط الذي بين الظاهر والباطن، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسودّ قلبه» (3) ، فمثلاً: الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره: قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه: تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلُّف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليلٌ على فساد الباطن وخلوّه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته، فالإيمان قلب الإسلام ولبّه، واليقين قلب الإيمان ولبّه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمانَ واليقينَ قوةً فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول» (4) .
وتأكيداً على هذه المسألة المهمة آتي بمثال يوضحها أكثر، حيث إنه: «لا يصرُّ على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله أمر بها أصلاً، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصرٌّ على تركها، هذا من المستحيل قطعاً، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغِ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها. وتأمّل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد والجنة والنار وأن الله فرض عليه الصلاة وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية» (5) .
والكلام في هذا الباب يطول، ومقصودي أن ذكر الآية للمرء بما فيه من جوارح تنقاد بالضرورة لمَلِكها (القلب) وما فيه من أعمال؛ فهذه الحيلولة ما حصلت إلا لوجود هذا التلازم العظيم والمهم والذي يثبت قواعد راسخة لمسألة تعاطي الإيمان وترجمة مدّعيه عملاً حقيقياً في أرض الواقع.
رابعاً: التحذير من الحيلولة بين المرء وقلبه:
المتأمِّل الآية الكريمة ـ التي هي محور مقالنا هذا ـ والعالِم بوقت نزولها والحادثة التي نزلت فيها يستشفُّ مدى عظمتها ومكانتها. لقد نزلت هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة وفي سياق الحديث عن معركة بدر في سورة الأنفال، السورة التي بيّنت وقائع مهمة من أحداث المعركة. ولعلِّي ألخّص عدداً من الفوائد التي قدّمتْها لنا هذه الآية فيما يتعلق بالباب الذي نحن بصدده:
1 ـ ينادي ربنا ـ جلّ في علاه ـ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بوجوب الاستجابة له ـ سبحانه ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم يحصل ذلك منهم فإنه قادر على أن يحول بين المرء وبين قلبه، فكأن هذا تحذير لهذه العصابة المؤمنة المبتدئة والحديثة العهد بالتبعات الإيمانية من مغبّة الاستهتار والغفلة عن مقتضيات الإسلام والإيمان، فكما أدخل وكتب ـ سبحانه وتعالى ـ الإيمان في القلب فإنه قادر أن يمنع استمراره فيه وثباته عليه، إنه «يخبرهم ويعلمهم أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئاً من إيمان أو كفر، أو أن يعيَ به شيئاً، أو أن يفهم إلاَّ بإذنه ومشيئته. وذلك أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز ـ جلّ ثناؤه ـ بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكَه سبيلٌ» (1) .
2 ـ أنه خطاب ونداء مهمّ للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في تلك المرحلة خصوصاً، وللأمة عموماً في كل مرحلة تمرّ بها؛ من رخاء وشدة وعُسْر ويُسْر وبَأْساء وضرّاء، بأن يلتفتوا إلى قلوبهم فيعزّزوها بالاستجابة السريعة والمساعي الحثيثة لتنفيذ ما يريده الله، وتحكيم شريعته بينهم، لتحيا أجسادهم حياة كريمة طيبة وعزيزة، بعيدة عن الذلّة والمهانة في الدنيا والآخرة؛ «فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمَنْ فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول -صلى الله عليه وسلم-» (2) ، فاستجابة القلب وإذعانه لخالقه ومولاه أعظم السبيل لحياته وسلامته؛ ذلك أن الله ـ جل جلاله، وتقدّست أسماؤه وصفاته ـ متمكنٌ من قلوب العباد كيف يشاء بما لا يقدر عليها صاحبها؛ فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويلهمه رشده ويزيغ عن الصراط السويّ قلبه ويبدله بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً، وذلك كمن حالَ بين شخص ومتاعه، فإنه القادر على التصرف فيه بدونه» (3) .
3 ـ وليس معنى ذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يفعل ذلك ظلماً وعدواناً بقلوب عباده، بل إن فعله ـ تبارك وتعالى ـ عدلٌ فيمن حادَ وضلَّ عن الصراط المستقيم وأعرض عن الهداية والاستقامة، أما من كان مستجيباً ومستقيماً فإنه ـ عزَّ وجلَّ ـ أخبر أنه لولا استغفار عباده ورجوعهم إليه لعذَّبهم وأهلكهم في الدنيا قبل الآخرة، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [الزمر: 54] ، فالمقدمات الصادقة الصحيحة لا تولد إلا نتائج صادقة صحيحة، فمتى ما تحققت الاستقامة والاستجابة تحققت الحياة الطيبة الكريمة وتحقق ثبات القلب واستقامته، ولهذا فالله ـ سبحانه ـ يحول بين الكافر وبين الإيمان «وهكذا فعل بفرعون، منعه من الإيمان جزاء على تركه الإيمان أولاً؛ فدسّ الطين في فم فرعون من جنس الطبع والختم على القلب ومنع الإيمان وصون الكافر عنه، وذلك جزاءً على كفره السابق» (4) .
4 ـ إن حياة القلب واطمئنانه وثباته واستقامته إنما تكون بالامتثال والالتزام بأوامر الله والاقتداء بهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- والانتهاء والابتعاد عن نواهيه، فإن لم يحصل ذلك فإن الله ـ جلَّ جلاله ـ «يحول بين العبد وبين قلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه؟ وهل أضمر ذلك؟ أو أضمر خلافه؟» (5) ؛ حينها يجعل ـ سبحانه وتعالى ـ المرء لا يملك قلبه الذي بين جنبيه، ولا يستطيع بأيِّ حال من الأحوال أن يقوده إلى ما يريد، بل إن هذا القلب تنقلب عليه الأمور رأساً على عقب، وتختلط عنده الموازين، وتهتزّ أرضه من تحته، وتسقط قواعده وأركانه، ويخرّ السقف عليه من فوقه، ويصبح كالبيت الخرب ليس فيه قرار ولا مأوى، والأسوأ أن يكون عشّاً تعشعش فيه الشياطين، فلا الإيمان فيه يقوم ولا الإسلام إليه يروم. وحدِّث ولا حرج عن قلب كهذا يقود جوارح الإنسان، فإنه ولا شك يرديها ويوبقها ويسوقها إلى حتفها وسوء مأواها، وبئس القرار والمأوى، نسأل الله العفو والعافية.
خامساً: صور من الحيلولة:
لا تحدث الحيلولة بين المرء وقلبه دفعة واحدة أو فجأة، بل ينبغي أن تحدث بعد عدد من المراحل والخطوات يسلكها المرء في لحظات من الغفلة والاستهانة بسنن الله في خلقه حيناً، ومن الإعراض والإصرار على الخطأ والذنب حيناً آخر، ودعني أوضِّح المقال بالأمثلة:
- هذا الملتزِم حديث عهد بالتزام تجده في خطوات التزامه الأولى مجتهداً في ظاهره بطاعة ربه، ملتزماً بهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-، خاشعاً في صلاته وقراءته القرآن، محباً للخير فعّالاً له، سبّاقاً لفعل المعروف والأمر به، نهًّاءً عن المنكر، ثابتاً على المبادئ والقيم التي ترسخت في قلبه وعقله، وبما أن الطريق طويل والابتلاءات والمطبّات كثيرة، والعقبات في وجه التزامه تتوالى؛ يحصل له فتورٌ وكسلٌ، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ثم إن لكل عمل شرة، وإن لكل شرة فترة.. الحديث» (1) .
نجد أن هذا الملتزِم ـ كما يقال ـ يبدأ يتهاون شيئاً فشيئاً بعد أن كان ملتزِماً، ويقصر عن الذي كان له محافظاً، ويتأخر كثيراً عن الذي كان له مشمِّراً، ويبدأ الشيطان يزيِّن له المعصية وإن صغرت، ويحلّيها فيقع فيها بنظرة أو كلام أو سماع أو تناول محرّم، فإن عاد واستغفر فإنما هي عودةُ متردّدٍ وإذا به يرتادها بين الفينة والأخرى، ناهيكَ أن يكون عاشقاً أو مغرماً بجمال امرأة أو أمرد كلما عرضت له صورة أحدهما في تلفاز أو أمام عينه مباشرة، كل ذلك وقلبه تُنكت فيه نكت المعاصي والذنوب وهو لا يحس! ويخلط العمل الصالح بالعمل السيِّئ، فربما تجده في زمرة الطيبين، في مجالسهم ومنتدياتهم ومحاضراتهم وندواتهم وشتى أعمالهم، وشتّان بينه وبينهم! فقلبه حينئذ بدأ وكأنه يودع صاحبه في سلّم طائرة الشيطان والأخ كأعمى لا يبصر تلويح الوداع، حينها تكون الحيلولة، فيلتفت يمنة ويسرة فإذا الخشوع قد ولّى، وإذا الرقّة واللين قد غابا وتلاشا كلاهما فلم يبقَ له إلا القسوة والحسرة، فهذا الأمر لم يكن إلا بعد خطوات شيطانية لم ينتبه المسكين إليها، فيستيقظ من غفلته ويحافظ على قلبه بالأَوْبة الصادقة والتوبة النصوح والمحاسبة الدائمة مع استجابة مستمرة لا تنقطع لأمر الله ونهيه، واقتداء متواصل بهدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، حتى يبقى قلبه متلألئاً نيِّراً كأنما علِّق على صدره سراج وهّاج يضيء له الطريق حتى يحذر بنياته المهلكة.
- كما أن العالم أو الداعية أو الواعظ تعرض لهم هذه الحيلولة فمستقل أوّابٌ إلى ربه، ومستكثرٌ يزلُّ فيزلّ به العالَم ويُمحى ذكرهُ بعد أن كان منشوراً بين الخلائق، فمنهم من لم يطلب العلم إلا ليقال: العالم الفلاني، ومنهم الداعية النشط في الدعوة والواعظ الخطيب المفوّه الذي يهزّ أعواد المنابر وتجتمع له الناس مصغية متأثرة وما ذلك إلا ليُمدح وتنشر له دواوين الثناء في الآفاق، وفي ذلك يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: «فالعالم منهم يغضب إن ردَّ عليه خطؤه، والواعظ متصنّع بوعظه، والمتزهد منافق أو مراءٍ. فأول عقوباتهم إعراضهم عن الحق شُغلاً بالخَلْق. ومن خفيِّ عقوباتهم سلب حلاوة المناجاة، ولذة التعبد» (2) . ثم يقول: «إن من العلماء من شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقلَّ الصبر فدخلوا مداخل شانتْهم وإن تأولوا فيها، إلا أن غيرها كان أحسن لهم؛ فالزهري مع عبد المَلِك، وأبو عبيدة مع طاهر بن الحسين، وابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد، وابن قتيبة صدَّر كتابه بمدح الوزير. وما زال حِلفٌ من العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم، وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقاً من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا» (3) .
قلت: هذا كلام ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ في قوم قد سبقوه، فكيف لو رأى حالنا وزماننا لكتبَ مجلدات من كثرة ما سيصطاده خاطره! لقد حيل بينهم وبين قلوبهم حتى سرحت مع المركب الهنيّ والفراش الوطيء وسعي للنعيم والراحة بعيداً عن مواطن الأذى والتضييق، حتى تغيرت المواقف واهتزت الثوابت وانقلبت إلى متغيرات بين عشية وضحاها!
ولست أعمّم هنا، فلا زالت الأمّة تمتلك علماء كُثُر أجلاء أكابر تفتخر بهم وبجهودهم، ودعاة ينافحون لأجل تبليغ دعوة الله، والذّود عن شريعته، وإن اختلفت مذاهبهم ومواقفهم، إلا أنهم لا زالوا صِمَام أمان لأمّتهم، ولا زالت أمّتهم تكنّ لهم محبة واحتراماً وتوقيراً، وما ذلك إلا لصدقهم واستقامتهم، كأنهم عود هندي طُرح على مجمر ففاح طيبهم فاستنشقتهم الخلائق ومدحتهم الألسن ورُفعت الأكفُّ ابتهالاً إلى المولى أن يحفظهم ويسدد خطاهم، هكذا أحسبهم، والله حسيبهم، ولا أزكي على الله أحداً.
سادساً: الأسباب الشرعية للوقاية من الحيلولة:
لقد نبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهمية العناية بالقلب وأعماله في كثير من المواضع؛ ليُعلِّم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن لا يركنوا إلى أعمالهم وطاعاتهم ويعتقدوا أن النجاة بسببها، بل يتعاهدوا قلوبهم ويحافظوا على سلامتها وصفائها من الزيغ والانحراف، فإذا أصابتهم الشدائد والابتلاءات كانوا أسرع أَوْبة واستجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دعواتٌ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو بها: يا مقلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك، قالت: فقلت: يا رسول الله! إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء، فقال: إن قلب الآدمي بين أصبعين من أصابع الله فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه» (1) . وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، قال: فقلنا: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها» (2) .
وعن النواس بن سمعان الكلابي ـ رضي الله عنه ـ يقول: «سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه. وكان يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، قال: والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه» (3) .
وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر في دعائه يقول: اللهم مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، قالت: فقلت: يا رسول الله! أو إن القلوب لتقلّب؟ قال: نعم؛ ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأله ربنا أن لا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، قالت: فقلت: يا رسول الله! ألا تعلّمني دعوة أدعو بها لنفسي، قال: بلى؛ قولي: اللهم ربّ النبي محمد! اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني» (4) .
«لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من هذا الدعاء وهو رسول الله المعصوم، فكيف بالناس وهم غير مرسلين ولا معصومين؟» (5) .
هذا الإكثار والتكرار النبوي في دعائه -صلى الله عليه وسلم- ربَّه بثبات قلبه على الدين يثمر لنا عدداً من الفوائد:
- منها: ما سُمِّي القلب إلا لتقلّبه، كما وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ القلبِ مثل الريشة تقلبها الرياحُ بفَلاة» (6) . وهذه الميزة حريٌّ بنا أن ننتبه لها، فهنا يصوّر لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- القلب، وأنه لخفّته تماماً مثل الريشة التي تؤثر فيها أقل النسمات فتغيّر اتجاهها، فهذا القلب الأصل فيه أنه ليس بثابت على حالة واحدة لا يتأثر بما يعرض عليه، بل إنه يتفاعل مع أبسط الأشياء؛ كنظرة وكلمة وربما همسة..، ناهيكَ عن التأثر العضوي لمضغة اللحم والتأثيرات المتعددة عليه، لذلك فهو بحاجة ماسّة للمدد والعون الإلهي، وبحاجة إلى الرجوع إلى صانعه، فهو أعلم بحاله وما يصلحه أو يفسده، إذ هو صنعته التي صنعها وأبدع فيها.
- ومنها: أنه -صلى الله عليه وسلم- ركّز في دعائه على أهمية ثبات القلب على الدين وعلى الطاعة، وهي معانٍ مترادفة توحي إلى أن القلب لا يصلحه إلا الدين وطاعة الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ، ألم يقل ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] ؟؟ ولا يطمئنه ويسكنه إلا ذكر الله ـ عزّ وجل ـ، فإن «ذكر الله يُخامر قلب المؤمن عندما يزله الشيطان إلى ذنب يرتكبه في جنب الله.. إنه لا يبقى في وهدته التي انزلق إليها، إنه لا يبقى في سقطته التي جرّه الشيطان عندها، إنه يذكر أن له ربّاً يغفر الذنب، ويقبل التوب.. ولذلك فهو ينهض من كبوته، ويطهِّر نفسه، ويعود إلى ربه، ويستأنف الطريق إليه، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] » (7) .
- ومنها: «سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية وإلزام خوف الله وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإجابة؛ لأن ذلك يحصل الحسنات ويرفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك؛ لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة» (8) ، كما تعلِّمنا الآية أن لا نأمن من مكر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فنغترّ بطاعاتنا ونعجب بأنفسنا، وبالمقابل أن لا ييأس العاصي والمقصر من روح الله فيسترسل في اتباع هواه حتى تحيط به خطاياه، ومن كان هذه حاله جدير أن يراقب الله ويحاسب نفسه على خواطره وهفواته.
- ومنها: هذا الإكثار النبوي يقابله ما كان يدعو -صلى الله عليه وسلم- ويُعلِّم صحابته ـ رضي الله عنهم ـ أن يأتوا به في الصلاة، ألا وهو الاستعاذة من الفتن وأنواعها، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلِّمنا هذا الدعاء كما يعلِّمنا السورة من القرآن: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» (1) .
وعن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، تعوّذوا بالله من عذاب النار، تعوّذوا بالله من عذاب القبر، تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، تعوّذوا بالله من فتنة الدجال» (2) ؛ ذلك لأن الفتن أول ما يتأثر بها القلب، فعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: تُعْرَضُ الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً، فأي قلب أُشْرِبَهَا نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سوداءُ، وأي قلب أنكرها نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضرهُ فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخرُ أسود مُرْبَادّاً كَالْكُوزِ مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكرُ منكراً إلا ما أُشْرِبَ من هواه» (3) ، «فالقلب الذي لا تردّه الشدة إلى الله قلب متحجر، فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة ومات فلم تعد الشدة، تثير فيه الإحساس! وتعطلت أجهزة الفطرية فيه، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة التي تنبه القلوب الحية للتلقِّي والاستجابة» (4) .
والفتن تُظهِر مقدارَ الإيمان وثباته في القلبِ وصلابةَ العقيدة في النفس، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «بادِروا بالأعمالِ فتناً كقِطَع الليل المظلم، يصبِح الرجل مؤمناً ويمسِي كافراً، ويمسِي مؤمناً ويصبِح كافراً، يبيع دينَه بعرضٍ من الدنيا» (5) .
وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النبيّ قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أمّتكم هذه جُعل عافيتها في أوّلها، وسيصيب آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكِرونَها، وتجيء فتنٌ يرقّق بعضُها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكَتي، ثم تَنكشِف، ثم تجيء الفتنة فيقول: هذِه هذه، فمَن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل الجنّة فلتأتِه منيّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليَأتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه» (6) .
سابعاً: اليقظة اليقظة من تقلّب القلب:
وبعد هذه السياحة اليسيرة مع إشراقات هذه الآية وبعض مقاصدها وفوائدها حريٌّ بنا أن نؤكد على أن هذه الآية توضح لنا «صورة تستوجب اليقظة الدائمة والحذر الدائم والاحتياط الدائم؛ اليقظة لخلجات القلب وخفقانه ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافةَ أن يكون انزلاقاً، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف، والتعلق الدائم بالله مخافةَ أن ينقلب هذا القلب في سهوة من سهواته أو غفلة من غفلاته أو دفعة من دفعاته» (7) .
فكلما مررت بهذه الآية تذكّرْ أن قلبك يحتاج منك اهتماماً وعناية ورعاية، فاحملْه على التوِّ على جناحي الخوف من الله وحده والرجاء فيه ـ سبحانه ـ، وفرَّ إلى ربك ومولاك، فإن رمقْتَ بطرفك حبلَه المتين فتمسك به بقوة واعتصم به بشدة، وإياك ثم إياك من مغبّة الوقوع في شراك المعصية فإنها توهن القلب وتضعفه، وإذا الرّان قد ظهر والختم قد وقع والسواد قد انتشر حينها تبني بنفسك وتشيد جدار الحيلولة بينك وبين قلبك، فإن هدمت الجدار فنِعْمَ العمل، وإن تركته فاعلم أنك لن تعود إلى إيمانك وطاعة ربك، ولا يملك بالمقابل الكافر أن يؤمن بخالقه بعد أن أعرض وأبى هذا الإيمان من قبل وحلّت عليه ساعة الصفر.
نسأل الله العلي القدير مقلّب القلوب أن يثبت قلوبنا على دينه وطاعته، وأن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) أخرجه مسلم (16/94) .
(2) تفسير المنار، محمد رشيد رضا (9/ 529) .
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) لسان العرب (11/269) .
(1) إحياء علوم الدين (3/3) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (14/119) .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (14/116) .
(4) أخرجه البخاري في الإيمان (52) ، ومسلم 3/1219رقم 1599.
(5) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، 5/1.
(6) رواه معمر في جامعه 11/221، رقم 20375، والبيهقي في شعب الإيمان 1/ 132-133، رقم 109، وروي مرفوعاً ولا يصح.
(1) مجموع الفتاوى (7/ 541) .
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (6/487) .
(3) تفسير القرطبي (1/118) .
(4) الفوائد، لابن القيم، ص (162) .
(5) الصلاة وحكم تاركها، لابن القيم، ص (35) .
(1) جامع البيان في تأويل القرآن (6/215 ـ 216) .
(2) الفوائد، لابن القيم، ص (166) .
(3) روح المعاني (5/132) .
(4) تحفة الأحوذي (8/405) ، كتاب: تفسير القرآن.
(5) الفوائد، لابن القيم، ص (162) .
(1) صحيح ابن حبان وغيره عن عبد الله بن عمرو، قال الألباني: (صحيح) ، انظر: حديث رقم: 2152، في صحيح الجامع.
(2) صيد الخاطر، ص (10) .
(3) المرجع السابق، ص (10) .
(1) أخرجه أحمد في مسنده (6/19) ، والطبراني في الأوسط (2/319) برقم (1553) .
(2) أخرجه الترمذي (2140) .
(3) أخرجه أحمد (6/19) ، والنسائي في الكبرى، رقم (7738) .
(4) أخرجه أحمد (6/301) ، والترمذي في سننه (3522) .
(5) في ظلال القرآن (9/1495) .
(6) أخرجه ابن ماجه (88) .
(7) خطبة جمعة للشيخ محمد الغزالي، بعنوان: هذا هو الذكر، من موقع (المنبر) .
(8) فتح الباري (2/585) .
(1) أخرجه مالك في الموطأ (1/512) رقم (33) ، وأخرجه مسلم (1/413) رقم (134) ، وأبو داود (2/190) رقم (11543) .
(2) قال الألباني: (صحيح) ، انظر: حديث رقم: (2262) في صحيح الجامع.
(3) أخرجه مسلم (144) ، وأحمد (5/386-405) .
(4) في ظلال القرآن (2/1089) .
(5) أخرجه مسلم (169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) أخرجه مسلم في الإمارة (1844) .
(7) في ظلال القرآن (9/1495) .(234/5)
التعليم الشرعي بين علم العامة والخاصة
محمد بن عبد الله الدويش
تتفاوت العلوم في سعة دائرة من يحتاجون إليها، ما بين علوم قاصرة على المتخصصين فيها لا يحتاجها غيرهم، وعلوم تتسع فيها دائرة الحاجة وتتقاطع مع علوم أخرى.
ومهما اتسعت دائرة الحاجة إلى علم من العلوم فإن العلم الشرعي يبقى أوسع العلوم احتياجاً؛ فالمختص فيه يحتاجه كشأن أيِّ متخصص في علم من العلوم، وكثير من المتخصصين في مجالات أخرى يحتاجون منه ما يرتبط بتخصصهم كالمتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية، والاقتصاد والمعاملات المالية، والعلاقات الدولية والحقوق ... إلخ.
كما أن كل مسلم يحتاج إلى العلم الشرعي ليعرف ما تصح به عبادته وما لا تصح، ويعرف الحلال والحرام في معاملاته وما يأتي ويذر، وليكون أكثر صلة بخالقه وقرباً منه.
ومن هنا يمكن أن نحدد دوائر أربع للحاجة للعلم الشرعي:
- الدائرة الأولى: المتخصص في المجال نفسه، كالعقيدة، والحديث، والفقه، والتفسير.
- الدائرة الثانية: ما يحتاجه متخصص في أحد فروع العلم الشرعي من فرع آخر كحاجة المتخصص في علم الفقه إلى الحديث، وحاجة المتخصص في علم التفسير إلى علم أصول الفقه.
- الدائرة الثالثة: ما يحتاجه متخصص في غير علوم الشريعة، كحاجة المتخصص في الاقتصاد إلى علم الفقه.
- الدائرة الرابعة: ما يحتاجه عامة المسلمين مما يتصل بتدينهم، وهم دائرة واسعة فيهم المثقفون وأساتذة الجامعات، وفيهم التقنيون، وفيهم من هو أقل تعليماً، وفيهم الأمي والأمية.
إن الوعي بهذه المستويات ليس بقدر من التعقيد يجعله خافياً على المهتمين بشأن العلم الشرعي، لكن المشكلة تكمن في التعامل معه.
وتنوُّع دوائر الاحتياج للعلم الشرعي يفرض على المعتنين بنشره ما يلي:
- مراعاة هذا التنوع في مناهج التعليم الشرعي سواء ما يتصل بالتأليف، أو اختيار مؤلفات ما، أو طرق التدريس وأساليبه؛ فلكل دائرة أهداف قد لا تشترك فيها مع الدوائر الأخرى.
- مراعاة هذا التنوع في لغة التأليف والتدريس؛ فاللغة التي تناسب الدوائر المتخصصة ليست بالضرورة هي الملائمة للدوائر الأخرى.
- مراعاة هذا التنوع في القدر الذي تحتاجه كل دائرة، وفي حجم التفاصيل التي تتطلبها؛ فغير المتخصصين لا حاجة لهم بالتفاصيل المرتبطة بآراء الفِرَق المخالفة حين ندرِّسهم العقيدة، ولا التفاصيل المرتبطة بنقاش الأدلة أو بمسائل نادرة حين ندرِّسهم الفقه.
إن الإصرار على قالَب واحد ونموذج لتقديم العلم الشرعي لكافة الفئات ـ بغضِّ النظر عن مستواها وطبيعة احتياجها - يقلل من فرص انتشاره، ومن تحقيقه لأهدافه.
والفصل بين محتوى العلم في أصله، وبين محتوى ما يُقَدَّم، والفصل بين الغايات والوسائل، والفصل بين التعبد بطلب العلم الشرعي وبين الممارسات والعمل البشري - إن هذا الفصل يعطي المهتمين بشأن العلم الشرعي أفقاً أوسع ومرونة تتيح لهم تطوير أساليب التعليم الشرعي بما يسهم في تحقيق مزيد من أهدافه(234/6)
فوائد إدارية في صلاة الجماعة
إبراهيم بن سليمان الحيدري
نهل الأطباء من الصلاة فوائد، ووجد علماء النفس فيها معانيَ ومقاصد، والآن جاء دور الإداريين.
ليست ليّاً للعنق، ولكنها محاولة صغيرة لكشف معانٍ إضافية وتعظيم فوائد أعمال يومية، راجين أن نسهم في نهضة إسلامية قادمة.
صلاة الجماعة في مقصدها وطريقة أدائها شكل من أشكال العمل الجماعي المنظم الذي تقوم عليه المنظمات الإدارية الحديثة، والمسلمون يؤدونها بتنظيم راق وتناغم أخَّاذ، ويبلغ الإعجاب أشده وأنت ترى مئات الآلاف من البشر مع اختلاف لغاتهم وأعمارهم ومهنهم ينخرطون في هدوء ووقار لأداء الصلاة جماعة في الحرمين الشريفين بلا مرشد أو موجه.
- من هذه الفوائد وهي كثيرة:
إن وجود قبلة واحدة يتجه إليها المصلون إشارة إلى أهمية أن يكون للمنظمة الإدارية وجهة محددة يتجه نحوها كل موظفي المنظمة وتصبُّ فيها مواردها المالية وإمكانياتها، وجهة فيها من الثبات والوضوح ما يوحِّد الجهود ويسهل العمل. وفي تحديد آلية اجتماع الناس للصلاة بالصفوف المتوازية لفتة إلى حاجة المنظمات الإدارية إلى وجود تنظيم إداري داخلي يحدد مواضع الأفراد وينظِّم العلاقات فيما بينهم ليسهل بعد ذلك معرفة حدود الصلاحيات ونطاق المسؤوليات.
ثم إن في فضل صلاة الجماعة وعدم تحصيله إلا بالاجتماع في وقت ومكان واحد همسةً إلى أهمية وجود العاملين في منظماتهم في أوقات محددة، وأن الغياب أو التأخُّر يؤثِّر في أداء الأفراد والمنظمة كما يؤثر التخلف أو التأخُّر عن صلاة الجماعة في مقدار الأجر.
وفي وجود شروط ومواصفات يعرفها الجميع للإمام، ومدى ارتباطها بطبيعة المهمة التي يقوم بها، إشارة إلى ضرورة أن تحدد المنظمة الإدارية مواصفات الوظائف ومتطلباتها، وأن يتم الاختيار وفقاً لها. وكما أن في اجتماع الناس للصلاة في المساجد تلبية لبعض حاجاتهم الاجتماعية؛ فإن المنظمات الإدارية ينبغي ألاَّ تُغْفِل تهيئة مناخ اجتماعي تهدِّئ فيه نفسية الموظف وتكسر بعضاً من (روتين) العمل.
إن سُّنّة الجمع بين الصلوات لظروف بيئية كالمطر ونحوه همسة لطيفة لضرورة أن تراعي القيادة في المنظمات الإدارية التغيرات التي تحدث في بيئتها الخارجية، وتترجم هذه المراعاة استمراراُ في التقييم ومرونةً في التغيير والتطوير؛ مع المحافظة في الوقت ذاته على وجهة المنظمة وهويتها.
أخيراً: إن أُمَّة ينخرط أبناؤها منذ نعومة أظفارهم في عمل منظم دوري لهي أمة حريَّة بأن تقود العالم.
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(234/7)
التأثير الهامشي 2 ـ 2
د. عبد الكريم بكار
تحدثت في المقال السابق عن فكرة جوهرية، هي أنَّ تأثير العوامل والأسباب الخارجية في حياة الأمة يظلّ هامشياً ومحدوداً ما لم يتحوّل العامل الخارجي إلى عامل داخلي، أو يولّد عوامل داخلية، وذكرت مثالاً على ذلك (الفقر) بوصفه مشكلاً كبيراً يعاني منه عدد كبير من المسلمين، ووعدت بتقديم مثال ثانٍِ على ذلك؛ من أجل توضيح هذه
الفكرة.
والمثال الثاني الذي سأقدمه اليوم ـ بحول الله وطوله ـ يدور حول (الاستعمار) وسيطرة العدو الخارجي. والحقيقة أن هذا المثال يفيدنا في شرح الفكرة فائدة كبرى، وذلك بسبب اعتقاد كثير من الناس أنَّ الاستعمار هو عامل خارجي وعدوان أجنبي سافر، لا يحتمل أي تحليل أو فهم مغاير. وأود شرح هذا المثال عبر المفردات التالية:
1 ـ من المهمّ أن نُدرك أنَّ البشر يتنازعون البقاء على هذه الأرض بصورة جليَّة حيناً وبصورة خفية حيناً آخر، كما أنَّ لهم مصالح متعارضة وطموحات جامحة، منها المشروع وغير المشروع.
2 ـ حين يتطلع البشر إلى تحقيق مآربهم والوصول إلى أطماعهم، فإنهم يأملون في بلوغ ذلك بأقل قدر ممكن من الخسائر والجهود والتكاليف؛ فالإنسان كائن اقتصادي من الطراز الرفيع.
3 ـ حين تحاول دولةٌ استعمارَ دولة أخرى، فإنها تقوم بحسابات دقيقة للربح والخسارة، فإذا كانت التوقعات تشير إلى خسارة فادحة في الأرواح والأموال، وإلى منافع قليلة، فإنها تحجم عن ذلك، وإذا ارتكب زعماؤها حماقة في ذلك، فإنهم يواجهون بعد مدة بين شعوبهم من يقف في وجوههم، فيحاولون التراجع وتصحيح الخطأ.
4 ـ هذا يعني أن القوى الاستعمارية الغاشمة تبحث باستمرار عن الدول الهشة والشعوب الرخوة من أجل غزوها والنجاح في السيطرة عليها، أي أن ضعف المستعمَرين هو الذي يغري المستعمِرين بالعدوان والتسلط والاجتياح، وهذا ما سمّاه مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ (القابلية للاستعمار) . هذا يعني أن على كل الأمم المستعمَرة والمغلوبة على أمرها أن تفكر في الأسباب الداخلية التي شجعت الآخرين على العدوان عليها، وأن توجِّه التهمة إلى نفسها؛ حيث إن من الثابت أن الاستعمار أشبه بالجراثيم التي تغزو الجروح المفتوحة، وبمثابة السوس الذي ينخر الأسنان، وأنه يقوم بعمل اصطفائي واضح؛ فالأجزاء التي لا يصل إليها السِّواك أو فرشاة الأسنان، هي التي تصاب بالتسوُّس.
5 ـ الناس لا يحبون التفكير بهذه الطريقة؛ لأنهم لا يريدون تحمُّل أي قسط من مسؤولية استعمار بلادهم، إنهم يتحدثون فقط عن العدوان والمعتدين من أجل تحميلهم كل المصائب التي نزلت بساحتهم، وهذا اللون من التفكير غير قويم؛ فالواقع يشهد بأن لدينا دولاً عربية لم تطأها قدم مستعمر، كما أنَّ لدينا دولاً عربية أيضاً استعمرها الأجنبي ما يزيد على قرن من الزمان، والعجيب أن الدول التي استُعمرت أكثر تقدماً وازدهاراً، وأفضل اقتصاداً من الدول التي لم تُستعمَر!
وهذا كله يعني أن ويلات الشعوب ومآسيها، لا تعود دائماً إلى تخريب المستعمرين؛ فهناك القصور الذاتي والتحلل الداخلي، وهناك المستعمِرون المحليون!
6 ـ كثير من الشعوب يُستَعمر، لا لأنَّه ليس قادراً على المقاومة؛ فشيء من الاستبسال وردّ كيد العدو ممكن دائماً؛ ولكن لأنه يعيش في حالة من القهر والذل والاستبداد وسلب الحقوق، أو في حالة من الفقر والبؤس واليأس، وهذا يجعل الناس لا يشعرون بأنَّ الاستعمار سوف يسلبهم شيئاً عزيزاً، أو ينغِّص عليهم عيشاً هانئاً، وقد قال أحدهم معبراً عن هذا المعنى: «لماذا أدافع عن وطن لم يؤمِّنِّي من خوف، ولم يطعمني من جوع؟» ! بل إن بعض الشعوب المقهورة من أبناء جلدتها تغبط بعض الشعوب المستعمَرة؛ لأن لدى المستعمِر من الرحمة والتحضر ما لم يجدوه عند بني قومهم! هذا كله يعني أن الأمم تفقد روح المقاومة بسبب سوء أوضاعها الداخلية، أي أنَّ قوة المستعمِر لا تكون وحدها كافية لإتمام عملية الاستعمار.
7 ـ يحاول المستعمر دائماً أن يدجِّن الحسَّ الوطني لدى الذين يقوم باستعمارهم، وذلك من خلال إعطاء فئة منهم امتيازات وسُلطات كبيرة، ومن خلال استخدام فئة أخرى عملاء وجواسيس وأعواناً له على باقي أبناء الشعب، ومع الأيام ترتبط مصالحهم بمصالح المستعمِر، ويصبحون راغبين في بقائه. وقد لاحظ أحد الباحثين هذا حين ذكر أن نفوذ المستعمِر يزيد في العادة بعد خروجه من البلاد المستعمَرة، حيث تذهب جذوة المقاومة، ويأتي دور النفوذ الروحي والثقافي، وهذا واضح؛ فأبناء الشعوب التي استُعمرت من قِبَل الفرنسيين ما زالوا مرتبطين بفرنسا إلى اليوم، فهم يتعلمون لغتها بوصفها لغة ثانية، ويرسلون البعثات إليها، ويقضون إجازاتهم السنوية فيها، ويستوردون منها كثيراً من احتياجاتهم.
8 ـ يؤكد القرآن الكريم على نحو لا لبس فيه، على محورية العوامل الداخلية وهامشية العوامل الخارجية في عدد من الآيات الكريمة، منها قول الله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] .
وقوله ـ سبحانه ـ: {إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120] .
إنَّ الانحراف والظلم والبغي والفساد الإداري والكسل والفوضى والأنانية وسوء فهم الواقع ... هي الجنود الغازية التي تدمر المجتمعات من داخلها، وإن إصلاح أوضاعنا الداخلية، هو الذي يقلِّل من فرص هيمنة الأمم القومية علينا؛ ولا يصح لعاقل أن يتجاهل هذه الحقائق.
(2 - 2)(234/8)
الفارس والدواء
د. آدم بامبا
سوف يظلُّ إقلاعي المفاجئ عن داء الهَوَس بكرة القدم لغزاً محيِّراً لجميع من عرفوا سيرتي الأولى؛ فلست أدري متى نشأ هذا الحبُّ العارم للكرة، ومتى سرى في جسمي وجرى مجرى الدَّم في عروقي. كان العالم كلُّه في عيني يتقلَّص في الكرة وفي الملعب الوطني. كان جزءٌ كبيرٌ من مرتبي الشهري الزَّهيد يتبخَّر في المساهمة الشَّهرية التطوعيَّة لمساندة فريقي، وفي شراء صور اللاعبين، والميداليات، وخاصةً التذكرة الأسبوعيَّة مساء كل سبت لمشاهدة تدريبات فريقي.
حين كنت أخوض الحوارات الحامية تأييداً للفِرَق الوطنية والعالميَّة التي أشجِّعها، كنت أبدو خطيباً مُفْلِقاً لا يُشقُّ له غبار. كنت أسرد المباريات التي خاضها فريقي والأهداف التاريخيَّة التي سجَّلها نجومه، و ... ، وكل ذلك بإيراد التواريخ الدقيقة، والأسماء، والأرقام، والإحالة إلى أقوال الصحفيين والإذاعات. وكنت أشعر بزهوٍ عظيم بسماع إطراءات زملائي لي، ورجوعهم إليَّ في خلافاتهم الرياضية، لم يكن يُفتى في أمر الكرة وأنا حيٌّ أُرزق.
أما زواجي بتلك البنت التي لا تمتُّ إلى دنيا الكرة والرياضة بصلة، فخروج على طبعي لا يقاس عليه. كم حاولت زوجتي المستحيل في بداية زواجنا للتقليل من بعض غرائزي الكروية، ولكن كيد حواء - للمرة الأولى في تاريخ الانتصارات الإنسانية - مُنِيَ بهزيمة نكراء. أخيراً؛ شدَّتها أقوال المنجمين في زوجها المسحور. وعملاً بنصيحة أهل الذِّكر: فيما لا يُدرَك كله، لا يُترك جُلُّه، فقد حاولت التقليل من سهراتي خارج المنزل مع ثلّتي حول إبريق الشاي الصيني الأخضر.. استضافتْ ثلَّتنا الصاخبة عدَّة مرات، أغرتنا ببعض المشويات الخفيفة، وبالفول السوداني المحمَّر، وغدت خادمة طائعة لنا، لكن ذلك لم يطل؛ إذ كاد الأمر ينتهي بتحرير الجيران - عفا الله عنهم - دعوى قضائيَّة ضدَّ ثلّتنا.
ويوم بشَّرتني زوجتي بحملها الأول، هتفتُ قائلاً:
- آه! أرجو أن يكون غلاماً فنسميه «بيليه الصَّغير» ، لا شك أنه سيصبح لاعباً مشهوراً.
نظرة خيبة أمل واستياء تصادمت بنظرة زهوٍ وإعجاب. لزمت زوجتي الصمت. يتردد في نفسي تضرُّعها المتأوِّه إلى الله: «اللهم لا تفجعني في والد وما ولد!» .
* * *
عدت تلك اللَّيلة كعادتي إلى منزلي في الثانية صباحاً، وأنا مهموم، متعب، غضبان، يُرثى لحالي، بعد مشاهدة صاخبة لمباراة عالمية خسر فيها فريقي خسارة فادحة، ولم يعدل فيها الحَكَم في حقِّ فريقي حين رفض له ضربتَيْ جزاء لا تنتطح في صحَّتهما عنزان!
وعلى مرِّ الأيام؛ فإن زوجتي كانت قد تعلَّمت قواعد حسن السيرة والسلوك، والتأقلم مع مثل هذه الأجواء المتأزمة، والتقلُّبات المفاجئة في زوجها والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الغليان والاحتراق.
فتحتُ الباب، وبحركة ميكانيكية ضغطتُ على زر الكهرباء، وارتميتُ على الأريكة مادّاًً رجليَّ على الطاولة الصغيرة وسط الأرائك. يا إلهي! إنها لم تضع على الطاولة كعادتها شُرْبة «المديدة» التي أدمنت شربها قبل النوم، وكان ذلك موبقة عظيمة لا تكفَّر إلا بالقيام وإعداد هذه الشُّرْبة حتى تهدأ ثائرة الطفل الكبير، وتخفّ درجة حرارته وينام.
هُرِعتُ إلى داخل غرفة النوم، ضغطت على زرِّ المصباح، كانت الغرفة خالية، وفي تلك اللحظة فقط.. يا إلهي! تذكَّرت أن زوجتي حامل، وأنها كانت طلبت مني في الصباح قبل خروجي شراء بعض الحاجيَّات وإخبار خالتها بالمجيء في اليوم نفسه لدنوِّ وقت وضعها. خرجت من الغرفة مسرعاً، وعند الباب، كدت أصطدم بصاحبة الدَّار العجوز الحاجة (زَينبو) رغم ضوء القمر المنير. بادرتني قائلة:
- ابني خِطْ لي فمي قبل أن أملأ آذان أعدائك وحسّادك بخبرك الجديد!
- خالة (زينبو) ! لك عليَّ ألف فرنك حمراء.
زغردت العجوز (زينبو) ، لعلَّ ذلك للمرة المائة في ذلك اليوم دون مبالاة بالوقت المتأخر من الليل، وبالوصايا الرَّشيدة في حقوق الجيران النائمين. أتبعَتْ زغردتها بحركة خفيفة راقصة تنبئ عن علم ودراية قديمة، وإن خانها جسمها النَّحيل.
- ابني! لقد وضعته ابنتي مكتملاً مثل ثور، فارعاً مثل شجرة (باوْباب) كان ذلك وقت أذان العصر.
توقَّفتْ برهة، وبصوت حزين متصنَّع تابعتْ:
- آه! غير أنَّ الطفل - مع الأسف - لم يشبه أباه، ولا جدَّه، ولا أحداً من أسلافه السابقين.. إنَّه قمرٌ من نجوم!
رفعتْ بصرها إلى القمر المنير.. تابعتْ أيضاً:
- كذا حال الرجال السُّعداء؛ لا يأتون إلا في ليلة التَّمام، انظر إلى وجهه في دائرة البدر المنير! «زوجي» الجديد ما أبهاه، ما أجمله!
- الحمدُ لله ربِّ العالمين.. خالتي (زينبو) ! زدتك ألفاً أخرى، وسبحة، وجلباباً، وخماراً للجمعة القادمة.
زغردة أخرى مطوَّلة.. بدأت تتغنَّى بأنشودة شعبية قديمة قيل إنَّ عروس البحر (بافارُو) غنَّتها على شاطئ نهر النيجر لمحبوبها الفارس الأسطوري في ضوء البدر المنير. انفتحت أبواب مجاورة، تجاوبت زغردات النِّساء.
بعينٍ مرحة كنت واقفاً أتفرَّج على الخالة الحاجة (زينبو) والنساء حولها، وهنَّ في حركات سعيدة في ضوء القمر، يمازحنها «بعريسها» الجديد، وهي تهدِّد أية امرأة عديمة الحياء تحاول اختلاس الفارس الجميل منها. وعدتْها إحداهن بإهدائها زجاجة عطر «مِسْكُو مكة» ، تتعطر به يوم زفافها، ووعدتْها أخرى بإعطائها عقداً، وأخرى مازحتها بإعطائها عبوة صبغة «يُومبو» تصبغ بها شعرها.. ضحكات وقهقهات، تردُّ الحاجة (زينبو) بحدَّة:
- يا حاسدة! «الشاة تولد ببياضها، أما العنز فتهرم وتموت، وهيهات أن تشيب» ! وكأنها تريد أن تقول: البياض جمال وليس علامة شيخوخة.
ورغم سعادتي في تلك اللَّحظة، فقد اجتاحتني حالة اكتئاب وتأنيب ضمير عارمة. تُرى من الذي تكفَّل بمصاريف سيارة الأجرة إلى المستشفى، ورسوم العناية الطبية، ورشاوى الأطباء والقابلات؟ إنَّ كل شيء هنا في إفريقية لا بدَّ له من رسوم ورشاوى: الولادة، والعلاج، وحتى الموت براحة وسلام لا بدَّ له من دفع رشاوى للأطباء، والممرِّضين، والصيدليين، وحرّاس المشارح، وحفّار القبور..
كنت أعلم أنَّ أحداً من الجيران قد تكفَّل بالمصاريف، طبعاً ليس من أجلي، ولكن من أجل زوجتي الطَّيبة، فعلاقاتي بالجيران - يشهد الله - سيئة منذ حادثة محاولتي وثلَّتي تحويل الدار إلى منتدى مصغَّر لمنظمة الفيفا. خجلٌ شديد، وحزن عميق كانا يصطرعان في داخلي، وكدت أسيخ في الأرض، لا بدَّ أنني حديث الحي في إهمال زوجتي في فترة حرجة وخطرة. لكن يعلم الله أنني لم أكن أتوقَّع أن تضع زوجتي في هذا الأسبوع، كان عليها أن تفصح لي، لكن النساء يجعلن الرجال دائماً خارج الدائرة في مثل تلك الأمور التي تخصُّهن. أمن الإنصاف أن نبعد النحلة عن الخليّة؟
كانت تلك صدمة عنيفة في نفسي، فماذا جنيت من الكرة؟ من أجل الكرة كنت آخر من يعلم بولادة ابني الأول. ويغفر الله لي في هذا الموقف، فقد كرهت (بيليه) و (روجيه ميلا) ، وقرأت على صنم (كأس العالم) آية النسف، وعلى ثلّتي سورة براءة.
بصوت عالٍ أوقفت النسوة الثرثارات.
- حاجَّة (زينبو) ! لِمَ لا تخبرينهن أن «عروسك» يحمل اسم المرحوم زوجك؟
زغردة أخرى من «العروسة» السَّعيدة خالتنا الحاجة (زينبو) وجوقتها كادت توقظ الحيَّ كلَّه، ما برحت أن انقلبت إلى بكاء ونحيب، ثم ضحكات عالية، وأغانٍ متفرقة. تنازلت الخالة عن الألفي فرنك التي وعدتها إياها. بل أقسمت أن تذبح كبشاً أملح يوم عقيقة الطفل، وأن تهدي كيس أرز مائة كيلو لإمام الحي الذي سيُشهد الله وملائكته وجميع المسلمين أن هذا المولود (قد أمرنا أبوه أن يسمى الحاج براهيما جابي) .
* * *
في الصَّباح الباكر، أيقظتني الخالة الحاجة (زينبو) للذهاب إلى مستشفى الولادة، وهناك علمت أن ابنها هو الذي دفع المصاريف كلها، واشترى اللَّوازم.
حين علمت زوجتي باسم الطفل، سألت: وماذا عن اسم (بيليه الصَّغير) ؟!
نظرة استياء تصادمت بنظرة استغراب ودهشة.. ابتسمت، يرنُّ في أذني شكرها لله ودعاؤها إياه: «اللهم لا تفتنّا بعده!» .(234/9)
البيان ومبرة الأعمال الخيرية تقيمان مؤتمراً بعنوان:
تعظيم حرمات الإسلام
تزايدت في الآونة الأخيرة ظاهرة التطاول على حرمات الدين الإسلامي ومقدساته، من أصناف متعددة من المعادين للدين، وعلى رأسهم جهات متنفذة من كفار أهل الكتاب، حيث يقومون منذ مدة بـ (تبادل الأدوار) في التعدي على المسلمين؛ فبينما تقوم قوى نصرانية بالتهييج ضد المسلمين والتحرش بهم من خلال مواجهات عسكرية وتضييقات أمنية، يتربص آخرون بالمسلمين فكرياً وحضارياً، لتتكامل معالم هجمة صليبية معاصرة، تتنوع فيها الساحات، وتبتكر فيها الوسائل، وتتخير الأوقات والمناسبات التي تثار فيها في كل مرة فتنة استغضاب عالمي للمسلمين
وقد صارت حملة الاستغضاب والاستفزاز شاملة، من غالب دول العالم الغربي على اختلاف أنظمته السياسية ومذاهبه الدينية؛ فمن أمريكا البروتستانتية التي أشعلت نار الحرب العالمية على الإسلام منذ سنوات، صدرت سلسلة من أعمال الإهانة المتعمدة، مثل إلقاء أوراق المصحف أو استعمالها في المراحيض، والتبول عليها أمام المعتقلين المسلمين في معتقل جوانتانامو، وكذلك التطاول شبه الرسمي على القرآن الكريم من خلال السماح بطباعة آلاف من النسخ من كتاب شاذ ومنكر في العداوة والهزء بالإسلام عقيدة وشريعة وقيماً، أطلقوا عليه اسم (الفرقان) . وإضافة إلى ذلك التعدي الفاضح من بروتستانت أمريكا، فقد تعاطفت أوروبا مع بروتستانت الدانمرك، خلال أزمة الرسوم المسيئة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث تكررت بشكل متعمد إعادة نشر الرسوم في العديد من الصحف والدوريات الأوروبية. أما الكاثوليك، فقد بدأت الإساءة من فرنسا، خلال أحداث أزمة الحجاب، التي منعت الحكومة الفرنسية فيها الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب في المدارس ضاربة بعرض الحائط قيم الحرية والعدالة والمساواة المدعاة.
ثم جاءت الإساءة الكبرى من الكاثوليك على لسان كبيرهم وحبرهم الأعظم (بابا الفاتيكان) من خلال تصريحاته المجحفة بالإسلام ورسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-، دون أن يصرح بالتراجع أو الاعتذار عما قال، متأسياً بحكومة الدانمرك التي امتنعت عن الاعتذار خلال أزمة الرسوم المسيئة وبعدها.
وفي الوقت نفسه فإن جماعة من أهل الأهواء من بني جلدتنا تجرؤوا على حدود الشريعة، وتطاولوا على ثوابت الدين، وراحت أقلامهم الملوثة تعبث بنصوص الكتاب والسنة، تارة باسم حرية الفكر، وتارة أخرى تحت عنوان النقد العلمي، وثالثة تحت مظلة الرواية والقصيدة والمسلسلات التلفزيونية.. وهكذا، وصدق المولى ـ جلَّ وعلا ـ: {وَإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} . [الأعراف: 202]
وفي محاولة للتصدي لهذه الحروب، عقدت (مجلة البيان) بالتعاون مع (مبرَّة الأعمال الخيريَّة الكويتيَّة) مؤتمراً يضمُّ أكثر من 200 عالم ومفكر وباحث من شتَّى أنحاء العالم، بعنوان (تعظيم حُرُمات الإسلام) بين (3 - 5) محرم 1428هـ الموافق (22 - 24) يناير 2007م.
وأعلن منظمو المؤتمر أنَّهم يهدفون من ورائه مناقشة الهجمة الشرسة من الغرب ومن أهل الأهواء المنتسبين إلى الإسلام على حرمات الدين الإسلامي الحنيف.
وانطلقت بعدها دورة الأعمال والأوراق التي قدَّمها لفيف من المشايخ والمفكرين متحدثين عن تعظيم حرمات الإسلام، وواجبات المسلمين في تعظيم تلك الحرمات، وصد المعتدين عليها.
كما استعرض المشاركون في المؤتمر المخاطر التي تواجه العالم الإسلامي في هذا العصر من الهجوم على مقدسات الإسلام وحرماته، وأنَّ هذا الهجوم لم يعد تصرفاً محدوداً من طائفة محددة ولكنه غدا ظاهرة تمثل توجهاً فكرياً من كثير من الساسة والمفكرين وبعض رجال الدين في بلاد الغرب على وجه الخصوص.
وتناول المشاركون في المؤتمر ثلاثة محاور كان كل محور منها على شكل ندوتين، وتلاها عدد من مداخلات الحضور، وكانت هذه المحاور على النحو التالي:
الأول: فهم طبيعة العداء وخلفياته.
الثاني: الهجمة الأخيرة على الإسلام.
الثالث: استراتيجيَّة المواجهة.
وثمّن المؤتمر في هذا السياق الجهود التي تقوم بها المؤسسات الإسلامية في الدفاع عن حرمات الأمة، ورأى المشاركون في المؤتمر أنه وعلى الرغم من أهمية العديد من المؤتمرات التي عقدت لبحث الإساءات المتكررة، والبيانات التي صدرت في التنديد بالإساءات، والمظاهرات التي خرجت للتعبير عن المشاعر، فإن الأمر لا يزال في حاجة إلى آليات أكثر تأثيراً، وأوسع بلاغاً؛ أداءً للواجب وإبراءً للذمَّة.
واختتم المؤتمر ندواته بذكر عدد من التوصيات، التي رُشِّح لها فريق عمل لمتابعتها، حتى تطبَّق على أرض الواقع ـ بإذن الله تعالى ـ. وفيما يلي نورد التوصيات التي خرج بها المؤتمر وهي على النحو التالي:
- أولاً: حق الأمة الإسلامية في الدفاع عن دينها وحرماتها:
يدعم المؤتمر حق جموع الأمة في الدفاع عن عقيدتها وشريعتها بكل السبل المشروعة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، ويدعو إلى استثمار عاطفة الجماهير وتوجيهها نحو الوسائل الأرشد، ويحث المسؤولين على التكاتف مع الشعوب الإسلامية في حماية هويتها وحرماتها وقيمها من حالات التجاوز والتطاول على الثوابت داخل ديار المسلمين، والتي تعد إحدى أسباب زيادة جرأة بعض غير المسلمين على حرمات الأمة ورموزها.
- ثانياً: التعدي على الحرمات نقطة فاصلة في علاقة الأمة بغيرها:
يؤكد المؤتمر أن الاعتداء على الثوابت والشعائر، سواء كان ذلك من الداخل أم من الخارج، يعتبر اعتداءً على جميع الأمة، تجب الحيلولة دونه. كما أن القيام بهذه الواجبات ينبغي أن يكون فرصة للاجتماع والائتلاف على القواسم المشتركة بين الإسلاميين على اختلاف بلدانهم وتوجهاتهم.
- ثالثاً: الاعتداء على الإنسان المسلم اعتداء على جموع الأمة:
يؤكد المؤتمرون على أن حرمة الإنسان في الإسلام هي من أعظم الحرمات، ولهذا فإن الاعتداء على أرواح وأعراض وأموال المسلمين هو انتهاك لحرمات الشريعة وحدودها «والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم» ، لذا يطالبون لأجل ذلك بالكف عن الاستهانة بالدم المسلم من المعتدين ومن يساندونهم.
- رابعاً: التحرك العملي البنَّاء لحماية حرمات الأمة:
مع ما يركز عليه المؤتمر من التأكيد على رفض كل أنواع الاعتداء تجاه عقيدة المسلمين وشريعتهم؛ فإنه يوصي بتحويل ذلك الرفض النظري إلى تحرك عملي جاد ومستمر على المستويات الرسمية والشعبية، لإظهار أن الأمة الإسلامية لا تقبل المساس بمقدساتها وحُرُماتها. كما يرى المؤتمر أن تفعيل جهود المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية للجهات المصرة على مواقفها العدائية هو أحد السبل الناجعة في العلاج.
- خامساً: أهمية تضافر الجهود الإعلامية والفكرية والثقافية للتأكيد على مكانة الأنبياء:
ينظر المؤتمرون بقلق بالغ لظاهرة انتشار الاستهزاء بأنبياء الله ـ صلوات الله عليهم ـ في وسائل الإعلام الغربية تحديداً، ومن خلال العديد من المواقع الإلكترونية الغربية، ومن خلال الكثير من الأعمال الفكرية والفنية والثقافية في الحياة الغربية المعاصرة. وصاحب ذلك تزايد الظاهرة نفسها في بعض المنتديات الفكرية العربية ومن خلال عدد من وسائل الإعلام العربية أيضاً. لذا يوصي المؤتمر أن تتضافر الجهود من أجل الحفاظ على منزلة ومكانة الأنبياء، ولسَنِّ الأنظمة الدولية التي ترعى حرمتهم، وتصونها من العبث الفكري والإعلامي والثقافي، وأن تكون الأمة الإسلامية في طليعة المطالبين بذلك.
- سادساً: إنشاء ودعم مراكز الدراسات المتخصصة في دراسات الاستشراق والغرب:
يرى المؤتمر أن الأمة الإسلامية تعاني من ندرة المراكز الفكرية المتخصصة في التعرف على الفكر الغربي، والقادرة على التصدي للمواقف الفكرية والإعلامية والثقافية الغربية التي تنال من حرمات الأمة، أو تعتدي على شعائرها ورموزها؛ لذا يوصي المؤتمر أن تُعنَى الأمة في المرحلة القادمة بإنشاء العديد من المراكز الفكرية والإعلامية المتخصصة في فهم الغرب، وفي توجيه دفعة التعامل مع الفكر الغربي، ومع المواقف الإعلامية الغربية التي تؤثر على الأمة الإسلامية سلباً أو إيجاباً. كما يرى المؤتمر أهمية إيجاد فريق عمل فكري يوصف أفراده بالعلم الشرعي والاطلاع الفكري على الغرب وامتداداته في بلاد المسلمين لإدارة هذه المواجهة الفكرية بكفاءة.
- سابعاً: إصدار دراسات متخصصة في استراتيجيات الأمة في الحد من الإساءات الموجهة ضد دينها وحرماتها:
إن قسماً كبيراً من أسباب قلة تأثير مواقفنا المعارضة لتلك التصرفات المعادية، يعود إلى نوع من القصور يشوب فهم دوافع المعتدين والمتجرئين على ديننا وثوابتنا، وهو ما يؤدي إلى بعض التضارب والتناقض في المواقف؛ لذا يوصي المؤتمر باعتبار ما طرح في فعالياته من أفكار ورؤىً وتصورات منطلقاً لمزيد من التعمق في دراسة تلك الظاهرة ودوافعها وأبعادها، على أن تتحول فيما بعد إلى دراسات شاملة تكشف جوانب الموضوع، وتطرح استراتيجيات التعامل معه.
- ثامناً: أهمية تفاعل الحكومات والمؤسسات الرسمية مع بقية الأمة:
يطالب المؤتمر الحكومات العربية والإسلامية، والهيئات والفعاليات السياسية والدبلوماسية، باتخاذ مواقف أصح وأصرح، للتعبير عن دين الأمة وهويتها؛ إذ لا يعقل أن تكون كثير من ردود الأفعال الرسمية تجاه التدخل في تفاصيل الشؤون الداخلية، أهمَّ وأكبر من اقتحام واستباحة حرمات الأمة كلها من أطراف خارجية أو داخلية، والمؤتمر يَعُدُّ عدم التفاعل الرسمي من البعض في مواجهة تكرار هذه الإساءات لأمتنا نوعًا من الإخلال بأمانة المسؤولية وتكاليف النيابة عن الأمة.
- تاسعاً: ضرورة تأكيد مناهج الدراسة في العالم الإسلامي على تعظيم الحرمات، واحترام الأنبياء، والاقتداء بالصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ:
يتقدم المؤتمر بدعوة إلى وزارات التربية والتعليم في العالم الإسلامي، وإلى القائمين على مسيرة تطوير مناهج التعليم في الأمة الإسلامية للتأكيد على تعظيم الشعائر والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ والصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ من خلال البرامج التعليمية التي تربي الأجيال الناشئة من الأمة على تعظيم حرمات الإسلام.
- عاشراً: دعوة وسائل الإعلام في الدول العربية والإسلامية إلى تعظيم حرمات الإسلام والمسلمين، وعدم استفزاز عموم الأمة بالتطاول على الثوابت:
ينكر المؤتمر على بعض وسائل الإعلام في الدول العربية والإسلامية انسياقها مع الحملات المغرضة في التهجم على حرمات الإسلام وشعائره ورموزه، ويوصي بالمواجهة الرسمية والشعبية الحاسمة لهذه الحملات، ومنع استمرارها بالطرق الشرعية الممكنة. كما يوصي المؤتمر القائمين على وسائل الإعلام العربي والإسلامي أن يكونوا درعاً للأمة في صد الحملات الخارجية، وألا يتحول البعض منهم إلى سلاح ضد الأمة بدلاً من أن يكون سلاحاً لها، ويشكر المؤتمر الإخوة التجار الذين تفاعلوا مع جلسات المؤتمر وتكفلوا بإنشاء قناة فضائية خاصة بتعظيم حرمات الإسلام.
- الحادي عشر: إنشاء لجنة إسلامية قانونية للدفاع عن الحرمات الإسلامية:
يوصي المؤتمر بتكوين لجنة قانونية متخصصة تسعى إلى ضمان عدم التعدي على الحرمات الإسلامية، وتجريم الإساءة إلى ثوابت الدين، والملاحقة القضائية والقانونية للمتجاوزين من غير المسلمين أو من المنتسبين إلى الإسلام، وتحميلهم المسؤولية الشرعية، والتنسيق مع اللجان الأهلية والحكومية العاملة في المجال نفسه من أجل توحيد الجهود وتعزيزها. وقد بادر بعض القانونيين في كلية الحقوق في الكويت بتقديم مشروع متكامل في هذا الصدد.
- الثاني عشر: التركيز على الجهود الدعوية الرامية إلى تعريف الغربيين بالإسلام:
يؤكد المؤتمر على أهمية الجهود الدعوية في الدفاع عن حرمات الأمة عن طريق تعريف الغربيين بالإسلام من خلال البرامج الإعلامية والفكرية الموجهة، والقنوات الفضائية المتخصصة في مخاطبة الغرب، والتركيز على مخاطبتهم بالأساليب الدعوية المناسبة للشخصية الغربية.
- ثالث عشر: أهمية دور الجاليات الإسلامية في الغرب:
يوصي المؤتمر بالاستفادة من الجاليات المسلمة في الغرب كخط دفاع أول في مواجهة ظاهرة التطاول. كما يدعو المؤتمر إلى دعم الجاليات والتواصل معها والحرص على وحدة كلمتها وتنسيق جهودها، ودعوتها إلى التركيز على نشر الإسلام بصورته المشرقة.
- رابع عشر: الاهتمام بجوانب الآداب والفنون لمواجهة ظاهرة التطاول على حرمات الإسلام:
يرى المؤتمر أن ظاهرة التطاول على الإسلام وحرماته قد استغلت بعض مجالات الآداب والفنون، وأن التصدي لها يقتضي تشجيع العاملين في المجالات الأدبية والفنية في العالم الإسلامي لتوظيف تلك المجالات واستخدامها في الدفاع عن الإسلام وتعظيم حرماته وشعائره.
- خامس عشر: مطالبة المنصفين من عقلاء الغرب بالإعلان عن مواقفهم:
يطالب المؤتمر قادة الرأي وصناع القرار في الغرب بتحري الموضوعية والإنصاف فيما يتعلق بقضايا العالم الإسلامي الحضارية. ويرى المؤتمر أن تخلف العقلاء من قادة الفكر والرأي في الغرب عن ذلك قد يعد تأييداً لمواقف المعتدين. وقد تم تشكيل لجنة من بعض حضور المؤتمر لإعداد رسالتين: الأولى: موجهة إلى قادة الغرب ومفكريه، أعدت مسودتها الأولى بعنوان: (موقفنا من تجاوزاتكم) ، ولا زالت في مرحلة الصياغة. والثانية: موجهة إلى بابا الفاتيكان لرد افتراءاته الأخيرة.
- سادس عشر: على أهمية عقد ورش عمل حول التوصيات، وتحويل نتائج المؤتمر إلى خطط وبرامج عملية:
يوصي المؤتمر بالتنسيق والتكامل بين المؤسسات الإسلامية العاملة في هذا الشأن، ويعتزم منظمو المؤتمر - بإذن الله - عقد ورش عمل لتحويل التوصيات الخاصة بالمؤتمر إلى برامج عملية تساهم في الحد من هذه الظاهرة، وتتكامل مع قرارات وتوصيات المؤتمرات الإسلامية السابقة.
- سابع عشر: تكوين لجنة خاصة بمتابعة توصيات المؤتمر من اللجان المنظمة:
وختاماً:
يحث المؤتمر العلماء والمصلحين على تربية أبناء الأمة على التفاؤل والإيجابية، والاعتزاز بالهوية، وتعظيم النصوص الشرعية والوقوف عند حدودها.
ومن خلال هذا الملف نقدِّم عدداً من البحوث المقدَّمة للمؤتمر، لعلَّها تعكس الروح العلميَّة والفكريَّة التي سادت أجواءه، ومن الله الحَوْل والطَّوْل، وهو حسبنا ونِعْم الوكيل.(234/10)
عناصر الشرك الاستكبار والفحش في القيم الغربية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
أصبح من البدهيات أن القادة السياسيين في الغرب يعتقدون أن الإسلام ـ الذي يصفونه بالرادكالي ـ هو الآن العدو الأول والخطر الأكبر على الحضارة الغربية بعد سقوط الشيوعية. لقد كان الاتحاد السوفييتي مضاهياً للغرب في تقدمه العلمي والتقني، وما ترتَّبَ على ذلك من قوة مادية، وكان في مبادئه وأيديولوجياته ومؤسسيه امتداداً للفكر الغربي نفسه. أما المسلمون فما الخطر الذي يمثلونه على الحضارة الغربية وهم اليوم أكثر ما يكونون تخلفاً في تلك العلوم والتقنيات بالنسبة للغرب، إذ إنهم لا يكادون يملكون من القوة المادية شيئاً، بينما تملك دولة كالولايات المتحدة من أسلحة الدمار الشامل ما يُمكِّنها ـ حسب زعمهما ـ من تحطيم الكرة الأرضية كلها عدة مرات؟
فما الخطر الذي يمثله الإسلام إذاً؟ أهو الإرهاب؟ لكن الجماعات الإسلامية التي تُسمَّى بـ (الإرهابية) مهما ألحقت بالبلاد الغربية من أضرار فإنها أضرار محدودة؛ لأنها لا تملك هي الأخرى من القوة ما يُمكّنها من هزيمة الدول الغربية أو حتى إضعافها.
إن تصرفات الساسة الغربيين، ولا سيما الأمريكان منهم والبريطانيين، تدل على أنهم لا يحصرون الخطر الإسلامي على حضارتهم في ما يسمونه بالإرهاب، بل يجعلونه في الدين الإسلامي نفسه. ولهذا صاروا يصفون حربهم على الإسلام بأنها حرب قِيَمٍ وأنها معركة لكسب القلوب والعقول. إنها معركة؛ لأن الإسلام رغم ضعف أهله المادي هو ـ كما يقولون ـ أكثر الأديان انتشاراً في بلادهم. لكننا مرة أخرى نتساءل: ما الخطر في هذا على الحضارة الغربية؟ إذا كانت هذه الحضارة قد قبلت النصرانية واليهودية وهما دينان شرقيان، وإذا كانت قد استفادت في تاريخها من نتاج الفكر الإسلامي في مجالات الدين والفلسفة والعلوم، وإذا كانت قد قبلت العلمانية بل والإلحاد وغير ذلك من أنواع الأيديولوجيات؛ فما الذي يمنعها من أن تقبل الإسلام إذا كان هذا هو ما اختاره بعض أهلها لأنفسهم طوعاً لا كرهاً؟!
إنه لا إجابة عن هذا السؤال الصعب إلا القول بأن الأمم الغربية، رغم تعددها وتفاوتها ورغم تعدد مكونات حضارتها وتنافرها، إلا أن فيها فكراً يمثل غالبيتها ويشيع بينها، ويؤثر في تصرفاتها، وأنه هو الذي يحدد موقفها من غيرها من المعتقدات والقيم ولا سيما الإسلامي منها.
لكن هذا ليس بالشيء الغريب ولا الخاص بالحضارة الغربية وأممها، بل هو سنة اجتماعية عامة قررها كتاب ربنا الذي نقرأ فيه: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] .
فكل أمة صغيرة كانت أم كبيرة لها أعمال تراها حسنة، سواء أكانت هذه الأعمال في نفسها صالحة أو كانت فاسدة. لا حظ أن الآية الكريمة تحدثت عن تزيين العمل لا عن الاعتقاد مع أن العمل تابع للاعتقاد! ربما لأن المقصود هو الاعتقاد الذي يؤثر في العمل ويوجهه، لا الذي يدّعيه الناس بألسنتهم.
في القرآن الكريم تفاصيل أخرى عن هذه السُّنّة الاجتماعية:
منها: أن ذلك العمل المزين هو الذي يجمع الأفراد وينشئ بينهم ودّاً يجعل منهم أمة معينة. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ إنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] .
قال ابن كثير:
{إنَّمَا اتَّخَذْتُم} هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا، وهذا على قراءة من نصب: {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} على أنه مفعول له. وأما على قراءة الرفع فمعناه: إنما اتخاذكم هذا يحصل لكم المودة في الدنيا فقط، ثم يوم القيامة ينعكس الأمر فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضة وشنآناً.
ومنها: أن الأمة إنما تتخذ مواقفها من غيرها بحسب قربه أو بعده من هذا العمل المزين الذي يجمع بينها؛ فهي لا تتحمل ولا تتسامح مع من يخالفها فيه مخالفة كاملة ويعترض عليها، وإن كان من أبناء وطنها.
قال ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] .
وقال: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88] .
وقال: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] .
وقال: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] .
ومنها: أنه قد تشذ جماعة من الأمة فترى ما لا ترى غالبيتها.
قال ـ تعالى ـ: {وَإن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87]
وقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] .
ومنها: أن العاقبة تكون لمن كان على الحق: إمَّا بغلبتهم على أعدائهم، وإمّا بانتقام الله ـ تعالى ـ من أولئك الأعداء، كما نرى ذلك في قصص كل الأنبياء مع أقوامهم المعادين لهم.
- ما العمل الذي زين للغربيين؟
نعود بعد تقريرنا لهذه السُّنّن الاجتماعية التي فصلها لنا كتاب ربنا إلى سؤالنا الذي بدأنا به: ما العمل الذي زينه الله ـ تعالى ـ للأمم الغربية والذي هو سبب عدائها للإسلام وأهله؟ إنك لا تجد جواباً واضحاً لهذا السؤال في ما يسمى بالنظريات أو الفلسفات أو الأيديولوجيات السياسية الغربية. فالغرب ليس، من حيث هذه النظريات أو الفلسفات أو الأيدلوجيات، أمةً واحدةً؛ وإنما هو أمم مختلفة ودول حدثت بينها حروب وتفرقت أحزاباً وجماعات.
لعل الإجابة هي في ما يسمى بالقِيم الغربية التي صار الغربيون الآن يكثرون من ذكرها، ولا سيما حين يريدون بيان موقفهم من الإسلام وأهله؛ سواء في بلادهم أو في غيرها. فما القيم الغربية هذه التي تجعل من الغرب كله أمة واحدة في مقابل الأمم الأخرى، ومنها الأمة الإسلامية؟ إن الذي يكادون يجمعون عليه هو ما يعدّونه من مصادر ثقافتهم العامة أو مكوناتها؛ وهو الفكر اليوناني، والحضارة الرومانية، والديانتان: اليهودية والنصرانية، والفلسفة الليبرالية، والديمقراطية، وحركات الإصلاح والنهضة والتنوير. لم أذكر الإسلام؛ لأنه ليس من المصادر المعترف بها عند عامتهم، وإنْ كان مما يعترِف به قلة من علمائهم؛ فهذا أحد مؤرخيهم الكبار المعاصرين يقول: «إن أوروبا كانت في القرون الوسطى مَدِينَةٌ بالشيء الكثير للإسلام، وإنها لم تكن مدينة لأية مدنيّة أخرى مثلما ما كانت مدِينة للإسلام» (1) .
إذا تأملنا في هذه الثقافة المعترف بها تاريخياً وجدنا فيها، أو في فهمهم وتصورهم لها، عناصر مشتركة؛ لعلها هي التي تمثل قيمهم أو عملهم الذي زُين لهم. إنها عناصر الشرك والاستكبار والفحش في القول والسلوك.
وإليك أمثلة على ذلك:
الفكر اليوناني: يعتقد عامة الغربيين أن الفكر اليوناني هو أساس فكرهم، حتى قال أحد فلاسفتهم: إن الفلسفة الغربية كلها إنما هي حواشٍ على كتابات أفلاطون. هذا الفكر اليوناني هو أول ما لا يزالون يرجعون إليه في تأريخهم لقضية من القضايا العلمية أو الأدبية أو الفنية. لكنهم يعتقدون فوق ذلك أن الفكر اليوناني هذا هو الذي وضع أسس الفكر العقلاني المعتمد على المنطق (أليس أرسطاليس هو واضع علم المنطق؟) ، وأن الأمم الأخرى ـ ومنها العرب ـ لا تعرف هذا التفكير العقلاني المنطقي. حتى قال أحد كبار المستشرقين عن العرب: إنهم لا ينكرون التناقض، بل يعدونه مما يزيد العبارة غنى. هذا مع أن العرب عندما اطّلعوا على علم المنطق لم يروا فيه شيئاً جديداً حتى قال قائلهم: إنني كنت أعلم دائماً أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد (1) . ذلك لأن الأسس التي يقوم عليها هذا العلم هي من المعايير العقلية التي فطر الله عليها البشر أيّاً كانوا، وخاطبهم بها في رسالاته. والعرب كغيرهم من البشر يعلمون بطلان الكلام المتناقض؛ ولذلك فإنهم يحتملون في لغتهم كل شيء إلا التناقض. قال سيبويه عن العرب:
ويحتملون قبح الكلام حتى يضعوه في غير موضعه؛ لأنه مستقيم ليس فيه نقض (2) .
والحضارة اليونانية كانت، رغم إنجازاتها الفكرية الكبيرة، كانت حضارة شرك وفحش. لم يكن شِرْكُها، كما كان شرك العرب، محصوراً في الألوهية، بل كان شركاً في الربوبية أيضاً؛ فلم يكونوا يعتقدون أن آلهتهم مجرد وسائل تقرّب صاحبها إلى الله ـ تعالى ـ؛ بل كانت تحل محله سبحانه! فهذا ربّ للحب، وذاك رب للجمال، وثالث رب للحرب، وهكذا.
وكانت حضارة فحش لا ترى بأساً بالعري، كما تدل على ذلك تماثيلهم المنحوتة، وصورهم المرسومة، وقصصهم وأشعارهم التي يشيع فيها قصص البغاء والشذوذ الجنسي الذي كان معروفاً حتى بين كبار مفكريهم وفلاسفتهم. وقد اهتم مؤرخو هذا الفكر حديثاً بهذه القضية، وكتبوا فيها كتباً يقال: إن أهمها كتابٌ نشر في عام 1987م (3) ، ثم تبعه سيل من الكتب التي تتحدث عن هذا الموضوع.
الديانة اليهودية: إن الله ـ تعالى ـ يفضل الناس ويكرمهم بأعمالهم الصالحة الاختيارية، وقد فضل الله بني إسرائيل على غيرهم عندما كانوا آخذين برسالة موسى. لكن تحريف الدين والفهم السيء له حوّل هذا التفضيل إلى مسألة عرقية؛ فصاروا يعتقدون أنهم باعتبارهم عنصراً هم شعب الله المختار، ثم انتقلت هذه الفكرة إلى الديانة البروتستانتية، ثم صارت عن طريقها، كما يذكر لنا صاحب كتاب الثيوغراطية الأمريكية، جزءاً من التفكير القومي للشعب الأمريكي، ومن قبله للشعب البريطاني وللأفركان الذين حكموا جنوب أفريقيا. فاعتقاد الشعب الأمريكي بأهميته القومية الذاتية ليس سراً لا في داخل أمريكا، ولا في خارجها كما يقول.
لقد ظل الأمريكان منذ قرون يعتقدون أنهم شيء خاص، شعب وأمة اختارها الله لتقوم بمهمة فريدة بل خيّرة في العالم. والرؤساء المنتخبون يجنحون إلى الدعوة إلى هذه الخصوصية ويؤكدونها (4) .
وما يسمونه بالكتاب المقدس مليء بقصص من الفحش، منسوبة إلى أنبياء الله ـ أكرم خلق الله ـ. وقد استغل بعض الملحدين هذه الحقيقة؛ فنشروا كتباً أحصوا فيها كل النصوص التي فيها ما اعتبروه نوعاً من الفحش، ثم طالبوا بأن يكون هذا الكتاب من الكتب التي تسمى بالفاحشة، التي يمنع وضعها بين أيدي الأطفال!
الديانة النصرانية: أما الديانة النصرانية فأخذت عنصر الاستكبار من العهد القديم الذي تعده جزءاً من دينها كما رأينا في ما نقلنا قبل قليل. ثم زادت عليه أنه لا نجاة لأحد من الأولين والآخرين لم يتشرف بالإيمان بربوبية عيسى ـ عليه السلام ـ واعتبار موته تكفيراً عنه، وأن هذا تكفير حاصل لا محالة لكل من اعتقد ذلك الاعتقاد مهما كانت سيئاته وجرائمه، هذا مما يزين الفحش لمن كان شخصاً عادياً ضعيفاً. لكن النصرانية زادت هذا الإغراء به في طلبها من قساوستها أمراً مخالفاً للفطرة كانت نتيجته الوقوع في الفواحش سراً والتستر عليها. وقد استغل هذا خصومهم من الملحدين والمنكرين للدين أسوأ استغلال، حتى عدّه الفيلسوف البريطاني الشهير من أسباب كونه ليس مسيحياً.
هاتان الديانتان اللتان كانتا في الأصل ديانتي توحيد مبنيتين على وحي الله ـ تعالى ـ إلى موسى ثم إلى عيسى ـ عليهما السلام ـ صارتا بعد التحريف ديانتي شرك. فاليهود أشركوا بتحريفهم لكلام الله وبرفضهم لنبي الله عيسى ثم لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، مع أنهم مأمورون في كتبهم بالاعتراف بهما؛ بل باتِّباعهما عند ظهورهما. وكان الاستكبار من أسباب هذا الرفض.
حركة التنوير: توصف الحركة التي ظهرت في القرن الثامن عشر في أوروبا بحركة التنوير وبكونها كانت حركة عقلانية. لكنها هي الأخرى لم تنسَ نصيبها من الدعوة إلى الفحش وتزيينه.
الحضارة الرومانية: ورث الغرب من الحضارة الرومانية فكرة الجمهورية وفكرة الإمبراطورية التي توسعت بغزو إمبريالي فيه كثير من القسوة وإخضاع للشعوب، كما يحدِّثنا المؤرخون الغربيون. وكانت قبل أن يجعل الإمبراطور النصرانية ديانة رسمية لها تعج بديانات كلها وثنية.
حركتا الإصلاح والبعث: من أوضح مظاهر الغرور في الثقافة الغربية أنهم يرون أن هنالك نقصاً في كل حضارة أو ثقافة أو ديانة لم تمر بالتاريخ الذي مرت به حضارتهم وثقافتهم وديانتهم. فمما يأخذونه على الإسلام مثلاً: أنه لم تحدث فيه حركة إصلاح كحركتهم تعيد تفسير الدين وتفهمه فهماً جديداً يتناسب مع أهواء الثقافة الشائعة. وهم ما يزالون يأملون أن يحدث شيء من هذا حتى يقترب الإسلام من ثقافة الغرب وقيمه. وما يزال بعض المغفلين في بلاد الإسلام يغرونهم بأن هذا سيحصل، وأن الإسلام سيعود قريباً ديناً معاصراً لا خلاف بينه وبين متطلبات الحضارة الغربية.
الليبرالية: تقوم الليبرالية على فكرة هي في جوهرها صحيحة، فكرة تقول: إن لكل فرد حقوقاً لا يجوز لأحد أن يتغول عليها حاكماً كان أو أغلبية مواطنين. هذه الحقوق هي في الأصل حقوق أعطاها الله ـ تعالى ـ لعباده كما نجد ذلك في القرآن الكريم؛ فلما غلب الشرك وغلبت العلمانية على الحضارة الغربية فصلوا مفهوم هذه الحقوق عن أصله، ثم لم يجدوا لها أصلاً آخر يتفقون عليه إلا كونها وثيقة أجازتها الأمم المتحدة، أو وضعت في دستور بلد من البلاد. وبهذا صارت هذه الحقوق نفسها هي مما أعطاه بعض الناس لآخرين. ولما كان من أعطوها من المتأثرين بقيم الشرك والاستكبار والفحش؛ فقد فسروا كثيراً من هذه الحقوق بحسب أهوائهم تلك؛ فجعلوها أو أكثرها انحرافاً عن الفطرة السويّة. فسّروها بحرية الكسب الذي لا قيود عليه فكان أن أدى إلى الرأسمالية، وكان مَثَلُهم كمثل مدين قوم شعيب الذين اعترضوا على أوامر الله في الكسب.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] .
ثم زعم بعضهم، تمشّياً مع فكرة الغرور تلك، أن هذه الليبرالية مع أختها الديمقراطية (التي هي في الحقيقة متناقضة معها) هي نهاية التاريخ في مجال النُظم السياسية والاقتصادية، وأن العالم كله سائر في الطريق الذي رسمته له وسارت فيه الحضارة الغربية. لكن يُشكر للرجل أنه استثنى في كتابه المسلمين الذين قال: إنهم ما يزالون يتصورون أن لهم بديلاً هو خير من الليبرالية ومن الديمقراطية. ويشكر له ثانياً أنه تنازل عن تلك الفكرة السخيفة حين تبين له عورها.
وكما فسروا الليبرالية تفسيراً جعلها تؤدي إلى الرأسمالية فقد غلوا في تفسير ماتدعو إليه من حرية، وجعلوا أكبر همهم فيها حرية الفحش الجنسي الذي أدى في ما أدى إليه من إضعاف للأسرة، وانحدار عظيم في معدلات الإنجاب، حتى قال قائل منهم: إننا لم نعد نحتاج إلى عدو خارجي يهزمنا؛ بل نحن الذين نهزم أنفسنا بهذا النوع من الانتحار. وحتى قال كبير من كرادلتهم:
«هل تحتاج الديمقراطية إلى صناعة فحش مقدارها بليون دولار لتكون ديمقراطية حقاً؟! وهل تحتاج إلى معدل إجهاض يبلغ عشرات الملايين؟!» .
قال الكاردينال الأسترالي (جورج بل) هذا الكلام في محاضرة ألقاها بالولايات المتحدة يحذر فيها الغرب من أن الإسلام قد يكون هو البديل إذا لم يعدل الغرب من ديمقراطيته التي وصفها بالفارغة والأنانية (1) . بيد أنه رغم وجود أصوات معارضة كهذه فقد صارت الحرية الجنسية من أهم الحريات التي يتحدث عنها الغرب إن لم تكن أهمها.
الديمقراطية: في النظام الديمقراطي، كما هو مطبق في الدول الغربية ودول أخرى كالهند، محاسن كثيرة ولا سيما إذا ما قورن بنظم أخرى كالنظام الذي كان سائداً في الاتحاد السوفييتي. وككثير من النظم الدكتاتورية أو شبه الدكتاتورية التي ما تزال سائدة في بعض البلاد؛ أَعْمَتْ هذه المحاسن كثيراً من الناس عن أن أصل الديمقراطية أصلٌ شركي يعطي بعض البشر حق التشريع لبشر آخرين، مع أن هذا الحق إنما هو حق لله ـ تعالى ـ. ونسوا أن ما فيها من محاسن ليس بخاص بها وأن كثيراً منها ليس من لوازمها، ونسوا أنه ليس فيها محتوى خلقي؛ وأنها لذلك لم تمنع المستمسكين بها من الإقدام باسمها على استعمار الشعوب واحتلالها، واسترقاق أناس ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
العلوم الطبيعية: من المعلوم أن أحسن ما في الحضارة الغربية هو تقدمها الهائل في مجال العلوم الطبيعية وما بني عليها من تقنية، كانت هي سبب قوتهم الاقتصادية والعسكرية، ووسيلتهم إلى استعمار كثير من بلدان العالم واحتلالها.
ليس في هذه العلوم نفسها ما يجعلها متناقضة مع عقيدة التوحيد أو يدعو إلى فحش أو استكبار، لكنّ الغربيين ربطوا بينها وبين كل ذلك؛ بسبب قيمهم تلك المنحرفة:
1 ـ غرتهم معرفتهم بالسنن التي أودعها الله ـ تعالى ـ في ما أسموه بالطبيعة، ومعرفتهم لذلك بأسباب كثير من المسببات؛ فصار الغالب عليهم فصل هذا العلم عن الدين، واعتبار الطبيعة كوناً مكتفياً بنفسه، تفسر ظواهره الطبيعية بظواهر أخرى طبيعية، ولا يجوز تفسيرها بأسباب خارجة عن هذا الكون، حتى صار هذا التفسير الإلحادي جزءاً من مفهوم العلم، كما قلت ذلك في عدة مناسبات وكتابات.
2 ـ وغلا بعضهم فصار يعتقد أنه لا حق إلا ذلك الذي يأتي عن طريق منهج هذه العلوم؛ فأغراهم هذا بإنكار كل ما جاءت به الأديان اعتماداً على الوحي الإلهي.
3 ـ بل إن بعضهم صار يستغل هذه العلوم لتأييد الميل إلى الفواحش التي منها فاحشة الشذود، وقالوا: إنها عند بعض الناس شيء فطري موجود في (جيناتهم!) .
4 ـ ثم ارتبط هذا التطور العلمي بالغرور الأوروبي؛ إذ اعتقدوا أنهم إنما سبقوا غيرهم فيه بسبب عقلانيتهم التي ورثوها عن اليونان، وأن غيرهم لم ينجز ما أنجزوا؛ لأنهم ذوو تفكير خرافي.
5 ـ وقد زاد من فتنتهم بهذا تخلفُ المسلمين في هذه المجالات، تخلفاً بدؤوا يعزونه إلى الدين الإسلامي، ويقول بمثل قولهم فيه بعض المرتدين من المنتسبين إليه.
- طبيعة القيم الغربية:
كيف صارت تلك المصادر والمكونات المتنافرة شيئاً واحداً يسمى بالقيم أو الثقافة الغربية؟
1 ـ صارت كذلك أولاً لسببٍ ذكرناه سابقاً: وهو كونها كلها جزءاً من تاريخهم الذي ما يزالون يدرسونه في مدارسهم وجامعاتهم، والذي ما يزالون يكتبون عنه ويتأثرون به.
2 ـ وصارت كذلك؛ لأنه ما من مكَوَّن من مكوناتها إلا وله أنصار كبار من المفكرين أو من الجماعات أو الأحزاب.
وصارت كذلك؛ لأن العلمانية، وهي امتداد للشرك الموجود في كل تلك العناصر التي ذكرناها، قد صارت هي الثقافة الطاغية التي يعاد تفسير العناصر الأخرى ـ بما فيها العناصر الدينية ـ لموافقتها. وصارت هذه الأديان تُمدح ويُتسامح معها بقدر تصالحها مع العلمانية وخدمتها لها. فها هو الفيلسوف الألماني الشهير (هابرماس) المعروف بعلمانيته. يقول: إنّ النصرانية لا غيرها هي الأساس النهائي للحرية والضمير وحقوق الإنسان والديمقراطية، وهذه هي أهم معايير الحضارة الغربية (1) .
وقبل قرن كتب عالم الاجتماع الألماني (ماكس فبر) كتابه الشهير عن الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.
والنصارى بدورهم صاروا يفسرون الدين تفسيراً يتوافق مع أهواء عصرهم. فأكثر كُتّابهم اليومَ لا ينكرون الشذوذ، ويفسرون قصة قوم لوط وما حصل لمدينتهم (سدوم) : إما بأنها قصة مجازية، أو أن الذين أنكروا هذا الفعل من كتاب البايبل كانوا متأثرين بثقافة عصرهم.
3 ـ ولأن الفكر العلماني وما يستتبعه من قيم صار هو الفكر الطاغي الذي يمثل الإطار العام للثقافة الغربية وقيمها؛ فقد أضحت الخلافات خلافات في داخل هذا الإطار فلم تعد ذات خطر. ولذلك نجِدُ الملحد والنصراني أستاذين في كلية واحدة، ونجد الشاذ وغير الشاذ جنديين في جيش واحد، وصار النساء كلهن يتبعن مظهراً واحداً، وهكذا.
4 ـ قد يقول قائل: إننا نجد أمثلة لما عزوته إلى الحضارة الغربية في كل الأمم بما في ذلك الأمة الإسلامية؛ فما الذي يميز القيم الغربية في هذا عن غيرها؟! نقول: إنه مما لا شك فيه أنه لا تكاد تخلو أمة حتى من فاحشة الشذوذ بعد أن سنّها قوم لوط، وأن الشعور بالكبر قد يكون أيضاً طابعاً لأمة لا تنتمي إلى الحضارة الغربية، وأن الشرك موجود حتى بين المنتسبين إلى الإسلام؛ لكننا نقول أيضاً: إن هنالك فرقاً بين أن يكون الزنا، أو الشذوذ، أو الجهر بالسوء من القول، في نظر الأمة جريمة أو ذنباً يستنكره مجتمعها ويعاقب عليه قانونها، وأن يكون أمراً مقبولاً لا يستنكره مجتمع ولا يعاقب عليه قانون، وإنْ استنكره بعض الأفراد. هذا الأخير هو ما تمتاز به القيم الغربية الآن متأثرة بتاريخها ذلك. لقد أصبح المستنكَر فيها، وربما كان المعاقَب عليه فيها، هو استنكار الفحش ولا سيما فاحشة الشذوذ. فهذا الكاردينال (راتزنجر) الذي صار البابا الحالي يشكو من أن أحد القساوسة البروتستانت، سُجن لمدة شهر في السويد؛ لأنه أنكر الشذوذ الجنسي استناداً إلى حجج من كتابهم المقدس!
5 ـ هذه العناصر، ولا سيما عنصر الكبر، هي التي زيّنت للغربيين احتلال الشعوب الأخرى، واستعمارها، واسترقاق بعض أهلها. لقد كانت الحركة الاستعمارية الاحتلالية حركة اشترك فيها، أو شجعها، أو وافق عليها، قادة الثقافة الغربية كلهم إلا ما ندر. لم تكن حركة سياسية فحسب؛ وإنما كانت حركة اشترك فيها الكتاب والشعراء والفلاسفة ورجال الدين، كما بيّن بعض ذلك إدوارد سعيد في كتابه عن الثقافة والاستعمار.
- ما العمل؟
إننا إزاء تحدٍّ كبير على ديننا وأمتنا؛ فماذا نحن فاعلون؟ ليس هذا بالسؤال الذي يختص بالإجابة عنه فرد واحد؛ لأنه سؤال للأمة كلها: علمائها، وزعمائها، وعامتها. فالإجابة التي أقترحها إنما هي جهد فرد مقل من أفراد هذه الأمة.
أرى:
أولاً: أن ننأى بأنفسنا عن مشاعر الحزن والضيق والأسى فإنها مشاعر سلبية لا تحل مشكلة خارجية، وإنما تنشئ مشكلات نفسية. وما أكثر ما يحذرنا كتابُ ربِّنا من أمثال هذه المشاعر السلبية! وما أكثر ما يُذكرنا علماؤنا الأفاضل بهذه المعاني القرآنية! فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في معرض تعليقه على حديث «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ» :
وكثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغيُّر كثير من أحوال الإسلام جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب. وهو منهي عن هذا؛ بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى.
ثانياً: أن نكون على يقين بأن مداهنة أعداء الحق ومحاولة إرضائهم بالاستجابة لمطالبهم ـ وهي مطالب قديمة ـ بتغيير هذا الدين وإعادة تفسيره بما يتناسب مع أهوائهم المعاصرة، أن هذا فوق كونه خيانة علمية؛ فإنه لن يجدي شيئاً في حل المشكلة. نعم! إن الأعداء سيرضون عن كل محرف للدين بمقدار تحريفه؛ لكن هذا التحريف لن يزيدهم إلا شراً؛ إذ يرون أن المسلم المحرف يقترب منهم مع أنهم ثابتون في مكانهم؛ فيطمعون منه ثم من غيره في قرب أكثر، ويحاولون أن يجعلوا منه وسيلة للكيد من غيره من إخوانه المسلمين. لكن القاعدة هي ما قال الله ـ تعالى ـ عن كل من زين له عمله: أنه لن يرضى عنك رضى كاملاً إلا إذا اتّبعت ملته: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 89] .
ثالثاً: إن الرؤساء الغربيين يصرحون بأن الحرب على ما يسمونه بالإسلام الراديكالي حربان: حرب أيديولوجية، يقولون: إنها لكسب العقول والقلوب، وحرب سنانية تساعد على تحقيق أهداف الحرب الأيديولوجية. أما نحن فما نزال منتصرين في ما أسموه بالحرب الأيديولوجية. إن ديننا هو الذي يزحف نحوهم ويكسب كل يوم من عقولهم وقلوبهم، وإن أديانهم وقيمهم وأيديولوجياتهم هي التي تولّيه الأدبار. وهذا أمر يدعونا إلى المضيّ، لا إلى التواني في نصرة ديننا بالحجج العقلية والعلمية والمعايير الخلقية. إن مشكلتنا هي في الحرب السنانية؛ لقد فرطت أمتنا في الأخذ بالأسباب العصرية لاكتساب القوة التي دعاها ربها إلى إعدادها. لقد آن الأوان لأن نبذل جهوداً كبيرة في اكتساب العلوم الطبيعية المرتبطة بالتقنية والمساعدة على اكتساب القوة الاقتصادية والعسكرية. ويجب أن تكون هذه الجهود على مستويين: مستوى شعبي عام ينشر مبادئ هده العلوم بين الناس ويجعلها جزءاً من ثقافتهم الشعبية، ومستوى تخصصي تتعاون فيه الدول العربية على الأقل، حتى يكون لنا علماء مبرزون مكتشفون ومخترعون ومنظرون في كل المجالات المرتبطة بالتقدم التقني.
إننا لا نريد أن نكون أقوياء لنعتدي على غيرنا، وإنما لنرهب ونردع من تحدثه نفسه بالاعتداء علينا. إننا نعلم أن السِّلم في مصلحتنا، نعلم هذا من ديننا ومن تجاربنا، فنحن حريصون عليه، واثقون بأن عاقبته خير إن شاء الله.
رابعاً: بما أن الغرب ليس كله كتلة واحدة صماء معادية للإسلام، بل فيه جاهلون بهذا الدين، وفيه مغررون، وفيه منصفون مدافعون عن حقوق الناس، وفيه عقلاء يرون أنه ليس من مصلحتهم شن حروب شاملة دعائية كانت أم قتالية على الثقافات الأخرى، وفيه ... وفيه ... ؛ فيجب عند المعاملة ألّا نشمل الجميع بخطاب واحد لا يميز بين محق ومبطل، ومعتدٍّ ومنصف. إن التفرقة بين هذه الأصناف، ومعاملة كلٍّ بحسب موقفه، أمرٌ يتطلبه العدل الذي يقوم عليه بنيان الدين الحق، ثم إنه سياسة مربحة تؤدي إلى نتائج أفضل.
خامساً: لكن التقدم الحقيقي لأمتنا لا يكتمل إلا بتقدم آخر لا يحتاج منا إلى جهد كبير. فكما نأخذ بوسائل عصرنا في التقدم العلمي التقني، فكذلك يجب أن نعتبر مقتضياته في الإصلاح السياسي. إننا لا نريد أن نكون أمة تابعة تترك الأصالة لغيرها ثم تقلده في كل ما رآه مناسباً له من مؤسسات ومبادئ وأسماء. نريد أن نكون أمة أصيلة تؤمن بأن كتاب ربها هو دستورها الأعلى، ثم تأخذ منه المبادئ السياسية العامة، ثم تنشئ لنفسها من المؤسسات ما يناسب تلك المبادئ من مؤسسات تتناسب مع عصرها. إن كل من له أدنى معرفة بالإسلام يعلم أن مبادئ مثل: حكم القانون، والشورى، واختيار الحكام، وحرية الرأي وحقوق الإنسان، التي صار الناس يربطونها بالديمقراطية، هي مبادئ إسلامية بيّنتها النصوص، وطبّقها النبي وخلفاؤه الراشدون.
وإذا كان مثل هذا الإصلاح أمراً يستوجبه ديننا وتستدعيه ظروفنا؛ فإنه أيضاً أمر لازم لتحسين صورتنا العالمية التي صارت ترتبط في أذهان الكثيرين، ولا سيما في الغرب، بالدكتاتورية والفيودلية والثيوغراطية، ويقال عن جهل أو سوء قصد: إنها من تعاليم ديننا.(234/11)
تعظيم حرمات الله
د. عبد الرحمن بن صالح المحمود
لقد جاء تعظيم حُرُمات الله وتعظيم شعائره في القرآن الكريم في سياق الحديث عن الحج وشعائره، يقول ـ تعالى ـ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29 ـ 33] .
وقد يُفهم من هذا السياق أن الحُرُمات مختصة بالحج وما يتعلق به، كما ورد عن بعض السلف في التفسير، مثل قول زيد بن أسلم: أن المراد بها: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمُحْرم حتى يحلّ.
ولكن من تأمّل سياق هذه الآيات وجدها لا تقتصر على حُرُمات الله في الحج والعمرة، بل هي أعم وأشمل، بل يدخل فيها:
1 ـ مكان البيت، وتطهيره، وأيام الحج المعلومات، وبهيمة الأنعام وذكر الله عليها.
2 ـ اجتناب الرِّجس من الأوثان وكل ما يُعبد من دون الله تعالى.
3 ـ اجتناب قول الزور، وكل قول فيه كذب على الله ـ تعالى ـ وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى شرعه ودينه.
4 ـ اجتناب الشرك بجميع أنواعه وصوره.
5 ـ وجوب تقوى الله ـ تعالى ـ التي هي مفاتيح تعظيم الحُرُمات وتعظيم شعائر الله تعالى.
وهذا الذي فهمه كثير من أئمة التفسير، قال مجاهد: حُرُمات الله المراد بها: مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. وقال أبو جعفر النحاس في (معاني القرآن ص 4) : قال مجاهد: الحُرُمات الحج والعمرة، وقال عطاء: المعاصي. والقولان يرجعان إلى شيء واحد؛ لأن حُرُمات الله ـ عزَّ وجلَّ ـ تشمل ما فرضه وأمر به، وتشمل ما نهى عنه؛ فلا ينبغي أن يُتجاوز. وقال ابن كثير: تعظيم الحُرُمات: اجتناب المعاصي والمحارم بحيث يكون ارتكابها عظيماً في نفسه.
وينبغي أن يُعلم أن هناك تلازماً بين تعظيم حُرُمات الله وتعظيم شعائره، بحيث يشمل أمرين أساسيين:
الأول: تعظيم ما أمر الله بتعظيمه، مثل: البيت الحرام، ومشاعر الحج، والهدي، والقرآن الكريم، والرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسنّته، والصلاة والصيام والحج والزكاة، والمسلم في دمه وماله وعرضه.. إلخ.
فهذه تُعظّم بأمرين:
1 ـ تعظيمها واحترامها وطاعة الله فيها.
2 ـ عدم انتهاك حُرمتها بأيِّ نوع من أنواع الانتهاك بقول أو فعل.
الثاني: تعظيم ما حرّمه الله ونهى عنه، مثل: الشرك بالله، والظلم، وقتل النفس بغير حق، والزنا، والربا، والسحر والعقوق ... إلخ.
وهذه ـ أيضاً ـ تُعظّم بأمرين:
1 ـ تعظيم وتأكيد هذه الحرمة في القلوب وفي الألسنة؛ لأن الله هو الذي حرَّمها.
2 ـ أن لا تُنتهك فعلاً باقتراف شيء منها قولاً أو فعلاً.
وقد جاءت السُّنّة والآثار في ذلك، فتكلّم العلماء كثيراً عن البيت الحرام، وما يجب تجاهه، وتكلموا عن القرآن الكريم والمصحف وما يجب تجاهه، وتكلموا عن حرمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يجب علينا نحوه، وعن حرمة المؤمن.. وهكذا.
- أسس وشروط تعظيم الحُرُمات:
هذا مهمٌّ حتى يُفهم الأصل الذي يجب أن ننطلق منه في هذا الباب العظيم الذي كثُر فيه التجاوز من جانب كثير من الكفار وأعداء الإسلام، بل ومن جانب بعض المنتسبين إلى الإسلام.
1 ـ الأساس الأول لها تعظيمُ الله ـ تعالى ـ، الذي له الخَلْق والأمر، وهو المعبود المطاع وحده لا شريك له، وإنّ تعظيم أحكامه وشرعه أمراً ونهياً هو تعظيم وعبودية له سبحانه.
2 ـ تعظيم الأمر والنهي، وهو مقتضى الخضوع لحُكْمه ـ تعالى ـ، وتحكيم شرعه في جميع شؤون الحياة. ومدار العبادة وتحقيق معنى (لا إله إلا الله) على هذا الأصل.
3 ـ عدم معارضة الأمر والنهي، سواء كان ذلك بما يناقضهما من أهواء وأحكام وموازين البشر، أو بالعدول عن منهجهما الوسطي إلى ترخُّص جافٍّ، أو تشدُّد غالٍ، أو كان بتأويلٍ فاسد يخرج الأمر والنهي والأحكام عن مواردها التي أرادها الله وأرادها رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
4 ـ عدم المعارضة بين حُكْمه القدري وحُكْمه الشرعي؛ فما اقتضت حكمته أن يكون معظَّماً فهو المعظَّم؛ من الأماكن والأوقات والأشخاص، وهو مقتضى حُكْمه الشرعي، وكل ذلك مستقيم لا عوجَ له؛ لأنه صادر عن عين الحكمة. ومن عارضَ القدر بالشرع أو عارضَ الشرع بالقدر فهو على ضلالة، والخلق والأمر كله لله تعالى.
- تعظيم الحُرُمات في عصرنا:
تعظيم الحُرُمات من ثوابت عقيدتنا الإسلامية وشريعتنا الحنيفة، التي لا تتغير مع تغيّر الزمان والمكان، وقد ربطت الشريعة كثيراً من هذه الأحكام بعلامات كونية لا تدخُّلَ للبشر فيها، وهي إحدى علامات ثبات هذا الدِّين وبقائه إلى يوم القيامة:
1 ـ فالصلاة والصيام والحج مرتبطة كلها بعلامات كونية، هي: الشمس والقمر والليل والنهار.
2 ـ والحج ومكة مربوطان بعلامات زمنية ومكانية لا تتغير ولا تتبدَّل.
3 ـ وقد حفظ الله القرآن، كما هيَّأ ـ تعالى ـ رجالاً لحفظ السُّنّة، فصار هذان المصدران ثابتين، لا يملك أحدٌ لهما تغييراً ولا تبديلاً.
4 ـ فثوابت هذا الدِّين راسخة، وهي إحدى دلائل بقاء هذا الدِّين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، رغم هذا الهجوم الكبير المتنوع من كافة الأعداء على دين الإسلام وشعائره وحُرُماته.
وتتابعُ الهجوم في الفترة الأخيرة على الإسلام هو جزء من سلسلة طويلة من العِداء له منذ أن بعث الله نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- واصطفاه ليكون خاتم المرسلين، ولتكون شريعته ناسخة لما سبقها من الشرائع.
وفي مقابل ذلك هيَّأ الله من يواجه ذلك العِداء في كل زمان ومكان؛ من العلماء والدعاة والمصلحين؛ معظمين شريعة الله ودينه، وشعائره وحُرُماته، مظهرين ذلك من خلال الوسائل المتوفرة لديهم.
وفي عصرنا هذا ـ عصر الإعلام والعولمة بأذرعها السياسية والعسكرية والاقتصادية والتقنية والعقدية والثقافية ـ نحتاج إلى مواجهة ذلك بما يليق به من خلال القيام بالأسباب الشرعية والمادية.
ومن ذلك ما يتعلق بموضوعنا وهو (تعظيم حُرُمات الله) . ويمكن أن نعرض لذلك من خلال الأمور التالية:
أولاً: مسؤوليتنا الخاصة، أي: واجبنا من الداخل:
ونعني بذلك: مسؤوليتنا كمسلمين منتسبين إلى هذا الدِّين؛ كأفراد ومجتمعات، وكأمة مسلمة عُرفت بذلك. وهذا مبنيٌّ على مسألتين مهمتين:
الأولى: أن المسلم إذا لم يدافع عن دينه فليس له أن ينتظر من غيره دفاعاً عنه. وإذا كان هو البادئ بانتهاك حُرُمات هذا الدِّين فلن ينتظر من غيره إلا أن يكون أشدّ انتهاكاً لها.
الثانية: أن احترام الآخرين لك ولدينك ميزانه مدى احترامك لعقيدتك ولمبادئك، وهذا مشاهد حتى في بلاد الغرب؛ فالذي يحترم دينه يحترمونه، والذي ينتهك دينه يحتقرونه وإن أظهروا له المودة والإعجاب بأفعاله. وأكبر دليل على ذلك هذه المسيرة الضخمة لكثير من بلاد المسلمين في رَكْب الغرب وتغريبه وعلمانيته، ولم ينتج ذلك إلا مزيداً من احتقار الغرب لهذه الدول، بل ولقادتها وأهل الرأي والفكر فيها، فهم على الهامش عند هذه الدول سياسياً وثقافياً، بل ولا تكاد توجد لهم عندهم قيمة إلا إذا أرادوهم أدواتٍ لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية في بلاد المسلمين.
وبناءً على ذلك فإن تعظيم حُرُمات هذا الدِّين ـ داخل بلاد المسلمين ـ لا بدّ فيه مما يلي:
1 ـ الاحترام الحقيقي للإسلام وشعائره وحُرُماته من جانب الدول الإسلامية قولاً وفعلاً، وتشريعاً وحُكْماً؛ امتثالاً لما أمر الله به وأمر به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتطبيقاً لأحكام الشريعة على كافة المستويات؛ بدءاً من أنظمة الدولة وتشريعاتها، وانتهاءً بالأفراد ووجوب تقواهم ربهم ـ تعالى ـ في امتثال أحكام دينه، وفيما بين ذلك من: الإعلام، والتعليم، والقضاء، والمؤسسات الثقافية والتوجيهية، والنُّظم المالية والصحية، وغيرها، فيجب أن تُراعى أحكام الله وحدوده وحُرُماته.
2 ـ هناك وسيلتان مهمتان، ولهما دور كبير في الأمة تجاه هذا الواجب، وهما:
أـ الإعلام.
ب ـ التعليم.
فيجب أن يقوما بدورهما في تحقيق احترام دين الله وتعظيم حُرُماته، وأن تكون مناهج التعليم ووسائله التربوية، ووسائل الإعلام في بلاد المسلمين قائمة على أسس متينة من التأصيل الصحيح والمنهج السليم؛ حتى تتربّى الأجيال على تعظيم دينها واحترامه.
3 ـ الوقوف أمام كل من ينتهك حُرُمات الله في بلاد المسلمين، وجَعْلُ ذلك من المسلَّمات التي يلتزم بها الكافة، وأن لا يُسمح لأحد بانتهاكها تحت شعار (الحرية والليبرالية) ، ولا تحت شعار: أنه غير مسلم ما دام يقيم في بلاد المسلمين.
إن من المؤسف أن نطالب من ينتهك حُرُمات الله في غير بلاد المسلمين الكفَّ عن ذلك والاعتذار للمسلمين، ونحن ساكتون عمن ينتهكها في بلادنا ـ نحن المسلمين ـ من بني جِلْدتنا وينتسبون إلى ديننا؛ باسم الحرية والحوار والرأي والرأي الآخر.
ولا أظن أن هناك حاجة إلى ضرب الأمثلة على ذلك مما يدور في بعض وسائل الإعلام، أو في كتابات ذات اتجاهات معروفة أعلنت تحدّيها للأمة وخروجها عن ثوابتها، والاستهزاء بأحكام شريعتها. ولا شك أن العلمانية في بلاد المسلمين أصبحت مفتاح كل شر وفساد وطعن لهذا الدِّين بثوابته ومحظوراته.
4 ـ ولا ننسى الوقوف أمام ما يقوم به بعض أهل البدع من نقضٍ لمسلَّمات وحُرُمات أجمعت الأمة على احترامها وعدم المساس بها؛ كالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فإن الطعن فيهم وسبّهم هو مفتاح لكل إلحاد وزندقة ومروق من هذا الدِّين، ولهذا نجد مسارعة أهل البدع والعلمنة إلى تجاوز هذا المحظور ـ وهو الصحابة ـ لأن ذلك يهون من تجاوز باقي مسلَّمات الأمة والطعن في أئمة السلف على مدار التاريخ، ويفتح باب الشكوك في ثبوت القرآن، وفي السُّنّة كلها، بل يفتح باب الطعن في المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حيث اتخذ هؤلاء الصحابةَ أصحاباً ووزراء وأمناء له على نقل دين الله وتبليغه الأمة.
5 ـ المدرسة العصرانية العقلانية (أهل الأهواء) ـ التي تصف نفسها أحياناً بأنها تنويرية تدعو إلى الإسلام المستنير ـ فتحت الباب لتجاوز الكثير من مسلَّمات الأمة وثوابتها، فحاولت أن تتخذ لها منهاجاً غريباً يجمع بين الانتساب إلى الإسلام والأخذ بأصول أهل البدع وطعونهم، وممالأة الكفار والحرص على رضاهم وعدم إغضابهم، فقام منهجهم على عدة أسس، أهمها:
ـ فتح باب التأويل لنصوص الكتاب والسُّنّة، دون قواعد أو ضوابط، حتى صحّح بعضهم تأويلات المعتزلة والباطنية والفلاسفة.
ـ الطعن في السُّنّة أو في كثير مما ثبت منها، وردُّها عن طريق العقول، أو عن طريق الطعن في رُواتها؛ بدءاً بالأئمة الكبار وانتهاء بالصحابة رضي الله عنهم.
ـ محاولة إلغاء قواعد مصطلح الحديث.
ـ محاولة إلغاء كثير من قواعد أصول الفقه.
ـ فتح باب الاجتهاد ـ غير المنضبط ـ وإلغاء الترجيح، والقول: بنسبية الحق.
ـ وتحوّل هذا إلى الطعن في مسائل معروفة في دين الإسلام، متعلقة بسدِّ الذرائع، والولاء والبراء، والمرأة، وغيرها.
ـ اتهام عقيدة المسلمين ـ عقيدة السلف الصالح ـ بشتى التهم، والإعظام من شأن الغرب، وإعلاء ما هم عليه من إلحاد وإباحية، ومدحها والثناء عليها.
ـ الالتقاء مع العلمانية الصريحة، وتعاون الطائفتين فيما بينهما على كل ما يلتقيان عليه؛ من إعلاء لشأن الغرب، والتهوين من شأن المسلمين وعقيدتهم وشريعتهم.
وتفصيل حال هذه المدرسة مما يطول، ولكن أردت أن أبيّن خطورة مثل هذا التوجه على زرع انتهاك حُرُمات الله في بلاد المسلمين، وفي ناشئتهم وأُسرهم، بل وفي كثير من مثقّفيهم.
فالواجب الوقوف أمام هذه المدرسة وكشف عوارها كما فعل سلفنا تجاه تجاربها السابقة على مدار التاريخ الإسلامي، إذ إن المدرسة العصرانية تكررت سابقاً، وكانت نتيجة فكرها أنها لا للإسلام نصرت ولا للكفار كسرت.
6 ـ والإعلام اليوم سلاح ذو حدَّين، فكما أنه يشيع انتهاك حُرُمات الله بأوسع نطاق وبأسرع وقت، فهو كذلك ينبغي أن يكون وسيلة للدعوة إلى الإسلام وتأصيل أسس العقيدة الصحيحة والشريعة التي تغرس في نفوس المتلقِّين احترامَ الثوابت وتعظيم الحُرُمات.
فالمحطات الفضائية، والشبكة المعلوماتية، والإذاعة، والصحافة ودور النشر، وغيرها وسائل عظيمة لنشر هذه الأسس العظيمة في بلاد المسلمين وفي غيرها.
7 ـ وأخيراً: فإنني أدعو ـ كما دعا كثيرون من العلماء والدعاة وفي مناسبات مختلفة ـ إلى تبنِّي جملة من الوسائل في الأمة لغرس المنهج الصحيح والعبودية الحقّة لرب العالمين، مما يغرس في النفوس تعظيم ما عظَّمه الله وحرَّمه، ومن ذلك:
ـ خطيب الجمعة وإمام المسجد، فلهما دور كبير في ذلك، ومعلوم أن المسجد ومنبر الجمعة وسيلتان من أعظم الوسائل، ولذلك ينبغي التواصي في ذلك.
ـ الأسرة داخل البيت، يجب أن يكون لها ـ من خلال وسائل وأساليب متنوعة ـ دور كبير في نشر الوعي والفهم الصحيح لهذه المسلَّمات والحُرُمات.
ـ التعليم، والمدرِّس مع طلابه، ينبغي أن يرسِّخ فيهم هذه الأسس والمبادئ.
ـ العناية بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونشرها، ونشر ما لم يُنشر من مخطوطات، مع الضبط والتحقيق والبُعْد عن الخرافات والروايات الموضوعة والضعيفة.
ـ إعادة طباعة ونشر الكتيبات والمطويات التي تتحدث عن نصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقتصر توزيعها على وقت معين.
ـ بناء المواقع الإلكترونية والمحطات الفضائية التي تُعنى بهذا الجانب العظيم، والتشجيع على ذلك، وأن ينبري التجار والمحسنون إلى بذل الأموال في ذلك.
ثانياً: مسؤوليتنا تجاه انتهاك حُرُمات الله من خارج بلاد المسلمين:
وهذه قد كتب عنها الكثير، خاصة مع الأحداث التي تكررت أخيراً في الإساءة إلى الإسلام وإلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وتعظيم حُرُمات الله تجاه من ينتهكها من الكفار يقوم على أسس ثلاثة:
الأول: سبق بيانه، وأساس ذلك أنه يجب أن نكون أقوياء تجاه من ينتهك هذه الحُرُمات داخل بلاد المسلمين، وإذا فعلنا ذلك عرف الأعداء من الخارج جِدّيتنا في الدفاع عن ديننا، وأنه لا مساومة في ذلك.
أما أن يُحارب البعيد ويُترك القريب الذي قد يكون انتهاكه أشدَّ وأعظم، فهذا تناقض ومفتاح لكل الطاعنين أن يتجرّؤوا علينا وعلى ديننا وثوابتنا وحُرُماتنا.
الثاني: يجب على الدول أن تأخذ الأمر مأخذ الجِدّ، وأن تتدخل ـ حسب وسائلها السياسية وغيرها ـ تجاه هذه الانتهاكات، وأن تجعل من ثوابت الدِّين ومسلَّماته ما لا يسمح لأيِّ لأحد تحت أيِّ ظرف أو ادِّعاء أن ينتهكها. وكما قال أحد المفكرين الفضلاء: ينبغي أن نخاطب الغرب باللغة التي يفهمها فنبيّن له أن مثل هذه الانتهاكات هي عندنا بمثابة إعلان حرب.
الثالث: الغزو الإعلامي لكافة بلاد العالم، وبكافة اللغات؛ لنشر دين الإسلام وبيان صحة عقيدته وسماحة شريعته، وكمال أحكامه، وأساس ذلك حق الله بالتوحيد والعبودية، وحق رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ـ الذي هو خاتم النبيين ـ بالاتباع، وشرح سيرة هذا النبي الكريم لهم حتى يعرفوه.
ولا شك أن الأمة حين تتمسك حقيقةً بدينها وتلتزم بأحكامه وتحترم حدوده وتجعل ذلك منهاجها القائم على عبودية الله ـ تعالى ـ وإخلاص الدِّين له واتباع سُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فستكون عزيزة منصورة، قال ـ تعالى ـ: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ، وحينئذٍ سيحترمها الآخرون ويحترمون دينها ولن يجرؤوا على انتهاك ذلك.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(234/12)
حتى لا نظل عصا في يد (العم) سام ... !
د. عبد العزيز كامل
عندما يغفل المسلمون عن بدهيات الحقائق العقدية المختصة بعلاقتهم بغير المسلمين، كفاراً كانوا أو مرتدين أو منافقين، فإن ثمن تلك الغفلة يكون فادحاً، حيث يصيرون باستمرار ألعوبة في أيدي الأعداء الذين قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] .
وقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] .
وقال: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149] .
وقال: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36] .
وقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 68] .
وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] .
وقال: {إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] .
وقال: {وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران: 69] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] .
وقال: {إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} [النساء: 101] .
وقال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] .
إن هذه الآيات المذكورة وغيرها هي إيضاح مبين لأصول الدوافع التي تحكم مواقف الكفار منا ـ أو مواقف أكثرهم ـ من الزعماء والمتنفذين والمنتفعين؛ فمجرد الرغبة أو الرضى في وجود المسلمين على هدى أو غنى أو أمن أو استقرار أو صلاح أو فلاح لا توجد عندهم؛ ولهذا تكاثرت الآيات أيضاً في الوصية بقطع الولاية عنهم، وعدم إحسان الظن بهم، فضلاً عن اتخاذهم بطانة أو مستشارين أو مؤتمَنين على مصالح المسلمين؛ لأنّهم كما قال الله ـ تعالى ـ: {كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} [النساء: 101] .
لقد فسَّرَت أحداث وتفاعلات العقود الأخيرة لأجيالنا، الكثير من تلك الآيات عملياً، وأسفرت عن حقائق تلك المواقف تطبيقياً؛ ففي كل مرة يُحسن قطاعٌ من الأمة أو من المحسوبين عليها الظنَّ بغير المسلمين، فإنهم يُطعَنون منهم في الخلف، ثم يُساؤون في الوجه، بعد أن يُستخدموا أداة في إضعاف وإتلاف وحدة الأمة وقوتها. حدث ذلك مراراً خلال التاريخ الإسلامي. وفي العصور الأخيرة برز من ذلك ما حدث لأشهر حكام مصر في العصر الحديث: (محمد علي باشا) عندما أحسن الظنَّ بالأوروبيين، وسار في ركابهم، فركِبوه لضرب قوة المسلمين الأولى في ذلك الوقت ممثلة في الدولة العثمانية، فلما استنفدوا منه أغراضهم ونفّذوا أهدافهم، انقلبوا عليه، حتى لا يبرز قوةً بديلة ناهضة تسعى للقوة والتحديث، فاجتمعت عليه قوى أوروبا الاستعمارية، فمزقت قوته، وشتتت دولته، ودمّرت أسطوله في عُرْض البحر في معركة نفارين عام (1243هـ / 1827م) .
لقد استُخدمت فيما بعدُ الكثير من الأنظمة في العالم الإسلامي، لضرب عوامل القوة في الأمة من الداخل، وقد كان أغلب ذلك لا يحتاج إلى كثير خداع أو قناع، بل كان هؤلاء يقودون المعركة ضد الإسلام ذاته تحت مسمَّيات مختلفة: التصدي للرجعية، مواجهة التطرف، مكافحة الأصولية ... ، وأخيراً الحرب ضد الإرهاب!!
وكان المثال الأوضح في القرن الماضي استعمال زعماء الثورة المصرية عام 1952م في محاربة محاولات النهضة الإسلامية، لا في مصر وحدها، بل في البلدان حولها، حتى عُدّت تلك التجربة أنموذجاً مفضلاً ومرشحاً للتصدير إلى كل بلد يحاول الإسلاميون فيه النهوض بالدعوة الإسلامية، ولكن اللافت أن معظم الزعماء الذين استُعمِلوا في ضرب الإسلام في مصر أو غيرها، تخلى عنهم أولياؤهم، ولم يسمحوا لهم حتى بأن يموتوا أبطالاً في نظر شعوبهم؛ بل منهم من مات مهزوماً على يد أعدائه، ومنهم من اغتيل مُهْدَرَ الدم على يد شعبه، ومنهم من مات كمداً بسبب تآمر أصدقائه الذين ظهر له أنهم ألدُّ أعدائه!
وفي العقود والسنوات الأخيرة تكررت تجارب أكبر وأخطر، انتقلت من المستويات المحلية والإقليمية إلى المستويات المؤثرة على المعادلات الدولية.
- باكستان وأفغانستان وكسر القطب الثاني:
لمّا عزمت الولايات المتحدة أو (العم سام) (1) على إخضاع نِدِّها الأخطر، ومنافسها الأكبر في الاستقطاب الدولي؛ وهو الاتحاد السوفييتي الشيوعي، كانت أرض أفغانستان المسلمة ساحةً للحرب بالنيابة بينها وبين ذلك الاتحاد؛ لضربه هناك بأيدي المسلمين وأرواحهم وأموالهم. وقد استطاعت أمريكا أن تجيِّش غالبية العالم الإسلامي بحكوماته وشعوبه وجماعاته الإسلامية وعلمائه ومفكريه وحتى مجاهديه ضد الاتحاد السوفييتي؛ لأنه (احتل) أفغانستان، مع أن هذا الاتحاد ظل قائماً على أنقاض العديد من الجمهوريات الإسلامية (المحتلة) في آسيا الوسطى.
لقد كان احتلال أفغانستان بالفعل جريمة، أراد بها الروس أن يسبقوا الأمريكيين إلى الاستيلاء على منابع النفط حول المياه الدافئة في إيران والعراق ومنطقة الخليج؛ لكن العرب والمسلمين الذين استجابوا لدعوة التصدي لاحتلال أفغانستان، لم يستطيعوا أو لم يرغبوا أن يقفوا الموقف نفسه ضد احتلال فلسطين الذي سبق احتلال أفغانستان بنحو ثلاثين عاماً، ولم يستطيعوا أن يتكتلوا في مواجهة احتلال لبنان، الذي اجتيحت عاصمته بيروت في ذروة الانغماس في حرب أفغانستان!
لا شكَّ أنَّ العالم الإسلامي كان محقاً في الوقوف إلى جانب الشعب الأفغاني في ذلك الوقت، ولكن البُعد الغائب في تلك القضية آنذاك هو التفريق الحاصل بين الاحتلال المتوافق مع مصالح (الصديق) الأمريكي والاحتلال المتعارض مع مصالح ذلك الصديق، تماماً كما حدث عند احتلال الشيشان من قِبَل الروس أنفسهم، وكما حدث من قبل حين اعتُبِر احتلال العراق للكويت أمراً يحتاج إلى تجييش العالم الإسلامي ضده، بينما أصبح احتلال أمريكا للعراق ذاته أمراً يحتاج إلى حشد العالم الإسلامي معها!
المقصود من إيراد مَثَل الحرب في أفغانستان هو: أن الولايات المتحدة استخدمتنا ـ نحن المسلمين ـ في ضرب عدوها اللدود في ذلك الوقت ـ الاتحاد السوفييتي ـ وأوهمت العرب والمسلمين بأن القضية هي قضيتهم فقط وليست قضيتها، وذهب الأمريكيون في استخدامنا إلى حد دعم الفصائل المجاهدة في أفغانستان بالسلاح، وطَلبِ دعمها بالمال من الحكومات ـ ومن ثمَّ الشعوب ـ التي لها علاقات جيدة معها!
ثمَّ ماذا كان الأمر؟ لقد انقلب الأمريكيون على المجاهدين بعد أن استنفدوا أغراضهم منهم، وقلبوا عليهم حكوماتهم، حتى عُدّ (العائدون من أفغانستان) أشبه بمجرمي الحرب، وحتى أُضرمت الفتنة بين زعماء الفصائل الأفغانية إلى حدّ الاقتتال فيما بينهم على دخول العاصمة؛ لأنَّ الولاءات كانت قد تباعدت بسبب تحركات الاستخبارات العالمية بالفتن فيما بينهم.
وبالجملة: فقد كانت أفغانستان ومعها باكستان، ومن ورائهما بقية العالم الإسلامي، وسيلة أمريكية لضرب الاتحاد السوفييتي في مقتل. وهذا، وإن كان شرفاً قدرياً لأمة الإسلام في جعلها سبباً لكسر اتحاد الإلحاد؛ إلا أن اللافت أن ذلك كان ضمن أجندة أمريكية أكثر منها إسلامية؛ بدليل أن البديل المراد أمريكياً في أفغانستان لم يكن هو الإسلام.
مرة أخرى يتكرر اللعب بالإسلاميين، في صورة لا تظهر فيها مطلقاً أدوات اللعب؛ حيث أعطت أمريكا الضوء الأخضر لحكام باكستان أن يدعموا حركة طالبان، التي كانت محقة من طرفها في الخروج لإصلاح ما أفسدته الفصائل الجهادية المتنازعة، لكن الذي أُريد بطالبان هو أن تكون أداة لكسر ما تبقى من شوكة المجاهدين السابقين بعد أن انتصروا على الروس، ليبدوَ مشهد الإجهاز عليهم شأناً داخلياً وطبيعياً؛ لكن طالبان فهمت اللعبة مبكراً.
ثمَّ لمَّا جاء الدور عليها كانت الخطط قد أُعدّت بعد خمسة أعوام فقط من بدء نشاطها، وقبل هجمات سبتمبر 2001م بنحو عام؛ للإجهاز على أصحاب هذا الإنجاز؛ فبعد أن استُخدمت طالبان كعصا للتكسير، كُسِّرت بعد ذلك وقُلِبت عليها باكستان.
- ضرب القوميتين العربية والفارسية ببعضهما:
هذا مثال صارخ آخر؛ فقد تخلّت أمريكا عن نظام الشاه في إيران لمصلحة حركةٍ ناهضة على دعامتين من شأنهما أن يشيعا التوتر في بلاد العرب والمسلمين، وهما: النزعة الطائفية الشيعية، والنعرة القومية الفارسية، لتكون تلك العصبية المذهبية العنصرية مصادِمةً للنعرة الجاهلية الأخرى التي ارتفعت في بلاد العرب باسم (القومية العربية) والتي أثيرت من قبلُ لتقف في وجه القومية التركية (الطورانية) .
وقد تغاضى الغرب عن استفحال شأن الحركة الشيعية الإيرانية، التي تحوّلت إلى ثورة بقيادة (الخميني) حتى تحولت الثورة إلى دولة، ولمّا تطلعت إلى التوسّع والانتشار على حساب مصالح أمريكا والغرب، بحث هؤلاء عن عصا لتأديب هذه الثورة التي بدأت تشب عن الطوق، وإيقافها عند حدها المرسوم، فلم يجد الأمريكان أنسب من النفخ في بوق القومية العربية لحماية البوابة الشرقية للعالم العربي من الخطر الإيراني الفارسي، وهُيئت الساحة في العراق لأنْ يكون الجيش العراقي أداة الكسر وعصا التحطيم لثورة الفرس في (قادسية) جديدة لم يكن الهدف منها إطفاء نار المجوس، بقدر ما كان لإشعال نار الفتنة بين الشيعة والسُّنّة، بعد أن خمدت تلك النار عقوداً طويلة.
وأُهِّل العراق عسكرياً، ودُعم مالياً ولوجستياً من غالبية الدول العربية السُّنّية، في تحالف يبدو في الظاهر (سنّىاً أمريكياً) حتى استطاع ذلك التحالف أن يكسر كبرياء الفرس، ويُخضع أعناق الراغبين في تصدير الثورة بعد حرب الخليج الأولى التي استمرت زهاء ثماني سنوات.
ولمَّا بدا أن القومية العربية قد تلقّفت رايات النهوض من القومية الفارسية، دُبّرت المكيدة الأكيدة لقهر العراق الصاعد، وقبرِ تلك القومية العربية التي كان (صدام) قد تسلّم قيادتها، فكان غزو الكويت الذي تغاضت أمريكا عن خطته؛ تمهيداً لقضاء مبرم على القومية العربية وعلى قائدها المنتصر، وعلى ثمرة الانتصار على إيران الذي كلّف العرب مئات الآلاف من الأرواح، ومئات المليارات من الدولارات التي ذهبت إلى جيوب تجار السلاح في الغرب، والذين كانوا يمدّون الطرفين أثناء الحرب الطويلة بالسلاح والخبرة والمعلومات الاستخباراتية.
ثم أتى الدور على قوة (صدام) بعد أن استُخدمت عصا لكسر إيران، وحشدت أمريكا ضده جمهوراً غفيراً من العرب ـ شعوباً وحكومات ـ بعد أن كانوا معه ضد إيران، وأثمر هذا التجييش هزيمة مذهلة للعراقيين، بتدبير الأمريكيين وبأموال وأرواح المسلمين، وذلك في حرب الخليج الثانية عام 1991م، وكان واضحاً وقتها أن تلك الحرب لا تزال لها فصول باقية؛ لأن حكومة إيران هُزمت ولم تسقط، ولأن قوة (صدام) ضعفت ولم تمت، ولهذا جاءت حرب الخليج الثالثة ـ في أحد مراميها ـ لتعيد الصراع مرة أخرى بين السُّنّة والشيعة، أو بين العرب والفرس، وقد دُبّر ذلك بذكاء شيطاني مذهل من أبالسة الأمريكان؛ حيث أُغري المغفلون من شيعة العراق ـ علمانيين ودينيين ـ بركوب دبابة الغزو الأمريكي، لكي يشتعل الصراع داخلياً هذه المرة بين سُّنّة العراق وشيعته، ولكي تُفتح شهية الشيعة الإيرانيين للانتقام من صدام ومن كل من وقفوا معه في حرب الخليج الأولى، وجرى ما جرى من تسهيل الشيعة الإيرانيين والعراقيين للغزو الأمريكي المدعوم بتحالف غربي وعربي، لتستعر من جديد أجواء المواجهة الدامية بين السُّنّة والشيعة، وبين العرب والفرس، لا في العراق فحسب؛ بل في دول الجوار وما بعد الجوار.
- إعادة الكرَّات، وتكرار اللدغات:
تتهيأ الآن ـ فيما أرى ـ أجواء أجزاءٍ من المنطقة للدخول في مواجهة جديدة بإغراء وتغرير أمريكي وغربي، لا يقل وضوحاً عن ذلك الذي حدث مع الأطراف المختلفة في حرب أفغانستان، أو في حروب الخليج الثلاثة السابقة، وقد بدأت السُّحب الداكنة للمواجهة القادمة تتلبد في سماء المنطقة، بعد الإعلان الغامض عن تكوين ما أسمته (كوندوليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية بـ (تحالف الاعتدال) ! فيما يمكن أن يكون مقدمة لتجييش العالم الإسلامي مرة أخرى للحرب بالوكالة لمصلحة أمريكا، في مواجهة قد تبدو للشعوب حرباً ضرورية لقضايا مصيرية يقوم بها المعتدلون ضد المتطرفين الخارجين عن الشرعية الدولية.
إنَّ أمريكا ـ فيما تُظهر الشواهد ـ ستلجأ إلى تسعير الخلاف الديني بين فِرق المسلمين، وسوف تجد من مسوِّغات الاختلاف بينهم دينياً ودنيوياً ما يمكن أن يُنسي المختلفين اختلافهم معها.
إنه لا أحد من العقلاء ـ فضلاً عن أصحاب الدِّين ـ يمكن أن يدافع عن الجرائم التي تُرتكب باسم التشيع المزعوم لآل البيت، ولا يمكن لأحد أن يسوِّغ الخيانات العظمى التي ارتُكبت، ولا تزال ترتكب ضد أمة الإسلام، بزعم محاربة الوهابية السُّنّية! ولكن: أيكون هذا هو علة الحرب التي تدبّر لها أمريكا الآن وهل هذه المواجهة لنصرة السُّنّة على البدعة حتى ينشأ تحالف (سُّنّي أمريكي) ؟!
إن المطلوب هذه المرة ـ فيما يبدو ـ أن تُضرَب إيران لصالح الأمريكان بأرواح ومقدرات وأموال العرب السُّنّة، لتذهب تلك الأموال وتخلُص مرة أخرى إلى الخزائن الأمريكية ثمناً للسلاح المستخدم فيها، والذي ستتوالى صفقاته بمئات المليارات لتعويض الاقتصاد الأمريكي عن تعثراته، ولتكونَ هذه الحرب وقوداً لثأر جنوني شيعي ضد دول الجوار السُّنّي، حتى يُنهِك الطرفان بعضهما بعضاً ـ مثلما حدث في حرب الخليج الأولى ـ ريثما تتهيأ الأجواء لانفراد أمريكا ـ ربما في جولة لاحقة ـ بإيران المنهكة والمعزولة بعد استعمالها في إضعاف العرب السُّنّة، واستعمال العرب السُّنّة في إضعافها! ولكي لا تقوم قائمة بعد ذلك لإيران الطامعة في منافسة الغرب في خيرات بلاد العرب، والطامحة إلى مزاحمة دولة اليهود (إسرائيل) في الزعامة الإقليمية في المنطقة.
أقول: لو كان لنا نحن ـ العرب والمسلمين السُّنّة ـ قوة كافية وإرادة مستقلة لكان علينا، وفق حساباتنا المرسومة بحسب السياسة الشرعية، أن نتكتل ضد أي كيان ذي شوكة يقوم على البدع المغلظة التي تشوِّه دعوة الإسلام وتصد عن سبيل الله، في إيران أو غير إيران، ولكن وفق رؤيتنا وأجندتنا وأحكام شريعتنا. ولقد سئلت في حوار مع أحد المواقع إبان الحرب في لبنان، بين ما يسمى بـ (حزب الله) واليهود، عن رأيي في مساندة الشيعة في تلك الحرب، فقلت: إن محاربة اليهود من قِبَل حزب من لبنان أو حتى من اليابان أمر جيد، ولكن العمل لتمكين الشيعة في أي بقعة إسلامية أو تلميع صورتهم وتزكيتهم أمر غير جيد. ولو فرض أن ما يُسمى بـ (حزب الله) قاتل اليهود وانتصر عليهم وأخرجهم من فلسطين ليحل محلهم؛ لكان واجباً علينا ـ أهلَ السُّنّة ـ إذا توافرت لنا القدرة والاستقلال في القرار، أن نخرجه من فلسطين ولو بالقوة، حتى لا يشيع التشيّع في الأرض المقدَّسة ويُشتَم الصحابة وأمهات المؤمنين ويكفروا!
وإيران اليوم لا يجوز أن تكون لها هيمنة إقليمية تضر بدعوة الإسلام في أكثر أراضيه أهميةً وحساسيةً، ولو تمكنا نحن ـ أهل السُّنّة ـ من كف شرّها وإيقاف مدّها، دون أن يكون ذلك لحساب العدو الآخر الذي لا يقل خطورة عن الأمريكيين واليهود، ودون أن يكون ثمن إضعافها هو مزيداً من قوتهم ومزيداً من ضعفنا؛ فإن ذلك يكون من الواجبات التي لا يجوز تأخيرها.
لكن المقطوع به ـ في ضوء حقائق الدين والواقع ـ هو أن كفار أهل الكتاب يودّون لنا العَنَتَ، ولن يزيدونا إلا خبالاً إذا أطعناهم واتخذناهم خبراء أمناء، وأصدقاء أولياء في أيٍ من قضايانا المصيرية.
- السيناريو المتوقع:
من غير استبعاد نهائي لسيناريو (الصفقة) مع إيران ضد العرب، في حال عجز أمريكا عن خوض مواجهة نهائية وفاصلة معها في المرحلة الراهنة ـ كما بيّنتُ في مقال سابق ـ فإن أقرب السيناريوهات المتوقعة ـ في ظني ـ وبحسب سوابق أمريكا ونواياها الخبيثة بكل العرب والمسلمين، هو أن تقوم الولايات المتحدة بتوجيه ضربات لإيران في هجوم جزئي أو شامل، على مواقع استراتيجية في العمق الإيراني، بحيث يكون هذا الهجوم منطلِقاً من بعض دول الخليج، وربما بتأييد منها، لا لتأديب إيران الآن، بقدر ما هو لتأليب شيعتها وشيعة العالم كله ضد السُّنّة العرب، وبخاصة في منطقة الخليج، وعندها ـ والله أعلم ـ ستكون ساحة الحرب الإقليمية الطائفية في أوْج استعدادها للانفجار والانتشار، ليحقق الأمريكيون ـ لا أكسبهم الله ـ العديد من المكاسب التي من أبرزها:
- كسر العصا الإيرانية، بعد أن استُخدمت في كسر العصا العراقية.
- إشغال العرب جميعاً في صراع بديل لما كان يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) ليحل محله صراع جديد هو (الصراع العربي الفارسي) . وهذا ما سيُنسي هؤلاء العرب، أنه كانت هناك يوماً قضية اسمها القضية الفلسطينية؛ ظلت تُعدّ القضية المركزية الأولى للأمة العربية والإسلامية.
- إعادة الاعتبار (للعدو) الأمريكي في نظر شعوب المنطقة، بعد جرائمه وفظائعه ليعود صديقاً؛ بل منقذاً للعرب من نظام طهران، كما سبق أن (أنقذهم) من نظام صدام! وهو ما يمكن أن يسمح باستمرار الارتهان له والامتثال لأمره.
- دفع حركة تجارة السلاح إلى الرواج، عندما يصطف العرب لشراء الصفقات التسليحية التي ستوقد نار المعركة ضد الأطماع الفارسية؛ حيث سيُرفع كالعادة شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) ولو كان هذا الصوت هو صوت مصلحة الشعوب وحقوقها في الاستقرار والتنمية والتحديث.
- إعادة ترتيب أوراق المنطقة وسط دخان تلك الحرب، بما يسمح بقفز أولياء أمريكا إلى مقدمة كراسي المسؤولية، سُّنّية كانت أو شيعيّة.
- إجبار المقاومة السُّنية في العراق ـ وربما في غيرها ـ على تغيير وجهتها عن الأمريكيين إلى غيرهم، بعد أن أذاقت تلك المقاومة جيش أمريكا طعم الهزيمة، ولتتوجه كل جهود المجاهدين لقتال شيعة إيران والكف عن الأمريكيين وحلفائهم، وهو ما يمكن أن يوفر لهؤلاء الأمريكيين فرصة لالتقاط الأنفاس والعودة من جديد للتفرغ للمجاهدين.
- إلهاء إيران عن مواصلة برنامجها النووي، وتطويرِ التقنيات العسكرية والاقتصادية لبناء نفسها كقوة إقليمية، وتخويف غيرها من السلوك نفسه؛ حتى تبقى دولة اليهود هي القوة الإقليمية (الوحيدة) في المنطقة.
- توفير غطاء مقبول يحفظ ماء وجه أمريكا إذا أرادت أن تخرج من العراق، مدّعيةً أنها لم تُهْزم؛ وإنما فشلت مهمتها في بلد (لا يريد) الحرية والديمقراطية!
إن لهذا (السيناريو الكابوس) دلائل وعلامات، تدل على أنه أحد الاحتمالات الجادة، التي لا ينبغي الاستهانة بها وبفداحة خطرها على الجميع؛ حيث برزت، ولا تزال تبرز، في الآونة الأخيرة مؤشرات تدلُّ على أن أمريكا تتعمد تسعير أجواء الحرب بين السُّنّة والشيعة إقليمياً، بعد أن سخّنتها محلياً في العراق، بتفويض الشيعة في إدارة الشأن العراقي بشكل انتهازي واستفزازي للسُّنّة داخل بلاد الرافدين وخارجها.
ومن المؤشرات والعلامات الدالة على الدفع الأمريكي باتجاه مواجهة إقليمية سُّنّية شيعية، من خلال التحرش بإيران وتهييجها على دول الجوار، ما يلي:
1 ـ استراتيجية بوش الجديدة للعراق، ليست خاصة بالعراق فقط، بل هي رؤية وخطة لمواجهة كل القوى المناهضة لأمريكا في المنطقة، سُّنّية كانت أو شيعيِّة؛ فالخطة تغلق الأبواب أمام احتمالات إخلاء المنطقة من الوجود العسكري الأمريكي؛ بل تقرر زيادته في العراق وحدها بنحو (21 ألف جندي أمريكي) . كما تدل استراتيجية بوش الجديدة التي أُطلق عليها (استراتيجية الدفع) على توجُّهٍ نحو تأكيد ثلاثة خيارات استراتيجية أمريكية في التعامل مع الأطراف في المنطقة:
أولاً: الحفاظ على تماسك التحالف بين أمريكا وبين من تعدهم (قوى الاعتدال) في المنطقة؛ وهم مصر والأردن ودول الخليج وتركيا، وربما باكستان.
ثانياً: الثبات على اتخاذ موقف المواجهة مع إيران وسورية ومن يدور في فلكهما؛ خلافاً لتوصيات لجنة بيكر ـ هاملتون.
ثالثاً: تطوير استراتيجية المواجهة الشاملة للقوى السُّنِّية المقاومة في العراق.
فتلك الاستراتيجية تنطوي في خطوطها العريضة على توجُّه ٍنحو تحالف جديد ضد إيران وسورية، إضافة إلى المقاومة السُّنّية في العراق، وهو ما يعني توسيع جغرافيَّة المواجهة إلى ما هو خارج العراق.
وتأتي التحضيرات العسكرية الأمريكية المتصاعدة في منطقة الخليج مؤخراً نوعاً من التهيئة الفعلية لساحة العمليات؛ فالتحضيرات العسكرية ـ حتى الآن ـ شملت تعزيز القدرات البحرية الأمريكية في المنطقة، بزيادة مجموعات قتالية كبيرة، تضم حاملات طائرات وقطعاً مقاتلة، وغواصات وكاسحات ألغام، كما تضم دفاعات صاروخية من نوع (باتريوت) ، وتشمل تعزيز القدرات الاستخباراتية داخل إيران نفسها. وقد طلب الرئيس الأمريكي لتغطية استحقاقات المرحلة المقبلة من الكونجرس أن يوافق على الميزانية المطلوبة حالياً والتي تقدر بأكثر من (700) مليار دولار، وهو ما يعد أكبر من ضعف تكاليف عملية غزو العراق.
2 ـ توجُّه أمريكا نحو إضعاف القوى الشيعية الموالية لإيران داخل العراق، بعد استهلاكهم في إقصاء السُّنّة وإضعافهم، وبعد الفراغ من استعمالهم في الحرب ضد صدام، حتى لا يصيروا ظهيراً لإيران في حال مواجهة أمريكا لها، ومن ذلك دفع الحكومة الشيعية العميلة لمواجهة (عصابات مقتدى الصدر) الأداة الأكثر إجراماً في يد إيران، وكذلك حرق أوراق عصابة الغدر بزعامة (عبد العزيز الحكيم) وتهييجها ضد الصدريين وضد الشيعة العلمانيين، ويدخل في ذلك ـ أيضاً ـ ضرب الشيعة العرب بالشيعة الفرس عن طريق استغلال اختلاف المرجعيات.
3 ـ إصرار أمريكا في المحافل الدولية وفي أوساط التجمعات العربية على عزل إيران، وتضييق الخناق عليها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وهو ما تُرجِم مؤخراً باستصدار قرارات للعقوبات الدولية عليها، وهو السلوك الذي اعتادته الإدارة الأمريكية مع كل من تنوي له شراً؛ حيث تسير إلى خط الصِّدام عبر خطوات التصعيد الدبلوماسي، ثم العزل السياسي، ثم الحصار الاقتصادي، ثم جمع الحلفاء للحسم العسكري.
4 ـ محاولات استدعاء رموز قديمة من حزب البعث، ربما لاستخدامها كجزء من (قادسية جديدة) ضد إيران، باسم القومية العربية (البائدة) ضد القومية الفارسية الصاعدة.
5 ـ كانت عملية إعدام (صدام حسين) مليئة برموز الشحن الطائفي؛ حيث سمحت أمريكا للشيعة (وكانت قادرة على عدم السماح) بأن يختاروا التوقيت الأسوأ والكيفية الأسوأ في تنفيذ الإعدام؛ ليوصِِّل ذلك إلى أشد العواقب سوءاً على مشاعر السُّنّة ضد الشيعة في إيران والعراق. وكان لهذه الخطوة الأمريكية الماكرة آثار ظاهرة في إفقاد الشيعة كل أسهم الإعجاب والتعاطف الذي كان لدى شريحة كبيرة من المخدوعين بهم، وقد كان هذا فخاً لهم، وقعوا فيه بغباء خارق.
6 ـ هناك فيما يبدو (فوضى خلاّقة) ـ على مذهب (كوندوليزا رايس) ـ يجري الإعداد لها داخل العراق، قد تسمح بإحداث وضع جديد من بين ركامها، يمكن أن يُخرج إدارة جديدة للعراق غير موالية لإيران. فأمريكا حتماً ستلعن عملاءها هناك بعد أن انتعلتهم. وقد بدأت إشارات ذلك بتصريح بوش ـ رأس الفتنة ـ بأن حكومة المالكي (غير ناضجة) ! وفي هذا الصدد، قد تستعين أمريكا ببعض مغفلي أهل السُّنّة، وتدفع بهم إلى الوجهة الأمامية، ليقولوا أمام المسلمين: إننا الحاجز المنيع ضد الشيعة الإمامية! وليكون هؤلاء ـ في تلك الحال ـ جزءاً لا يتجزّأ من (تحالف الاعتدال) !
وقد تزايد اتِّهام إيران في الآونة الأخيرة، بأنها وراء الكثير من أعمال العنف وفِرَقِ الموت في العراق، واعتقلت الولايات المتحدة عملاء لإيران هناك. واتّهم الأدميرال (وليام فالون) المرشح لمنصب القيادة الأمريكية الوسطى، إيرانَ بالعمل على عرقلة استقرار النفوذ الأمريكي في الخليج، في تصريح له في أواخر يناير من عام 2007م. وهناك تصعيد واضح في لهجة القوى المعادية لإيران فيما يتعلق بضرورة حسم خطرها النووي قبل أن يخرج عن السيطرة، وقد قال الرئيس الأمريكي في 12/1/2007م: «إن كل الخيارات مطروحة في التعامل مع إيران» وهو يقول ذلك تجاوباً مع حملات التحذير الأخيرة من أن إيران على وشك تجاوز القنطرة فيما يتعلق بالتسلح النووي؛ حيث قال المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن في (30/1/2007م) : إن إيران قد تتمكن من إنتاج سلاح نووي في غضون سنتين. وقال المعهد في تقريره السنوي: «إن إيران واصلت تحقيق تقدُّم في إنتاج معدات التخصيب، وخزّنت 250 طناً من المواد اللازمة لتخصيب اليورانيوم، بما يكفي لإنتاج 30 إلى 50 قنبلة نووية. وحذّر المعهد من أن تخطي إيران للعقبات الفنية وانفتاح الطريق أمامها لإنتاج سلاح نووي؛ قد يعجل باحتمالات الخيار العسكري» .
وقد ذكر مسؤولون أمريكيون وخبراء مستقلون أن شنَّ هجوم سريع على إيران، سيعرقل برنامجها النووي لمدة لا تقل عن أربع سنوات.
وهنا يرتفع صراخ ونباح الدولة العبرية، مرة بالتهييج وأخرى بالتهديد، خوفاً أو تخويفاً من التلكؤ مع إيران حتى ينفلت الزمام، وقد قال (إفراييم سنيه) نائب وزير الدفاع الإسرائيلي: إنه لا يستبعد هجوماً وقائياً إسرائيلياً على إيران، على خلفية برنامجها النووي، وقال في (10/11/2006م) : «إن الهجوم على إيران سيكون الحل الأخير.. وربما يكون الحل الوحيد» !
وقال (عمير بيرتس) وزير الدفاع الإسرائيلي في (30/1/2007م) : «إن عام 2007م، سيكون عاماً حاسماً في مواجهة الخطر النووي الإيراني» !
لكل هذا استشعر الأمين العام للجامعة العربية (عمرو موسى) الخطر المحدق بالمنطقة ـ وهو في موقع يؤهله للشعور بذلك الخطر ـ حيث حذّر من التداعيات الخطيرة لأي هجوم أمريكي على إيران فقال في (24/1/2007م) : «إذا اندلعت الحرب، فسيخرج مردة آخرون من القمقم، ولا يمكننا أن نتخيل التأثير على دول الخليج ودول البحر المتوسط» .
- وهنا لا بد من وقفات وتساؤلات:
علماء الأمة وحكماؤها وأهل الرأي مدعوّون اليوم قبل الغد لتداول الرأي حول عدد من المسائل المتعلقة بالتصعيد الطائفي والعسكري الحاصل في المنطقة، والذي يُعدّ الجزء الأكبر منه صناعة أمريكية بصياغة صهيونية، تدبرها العقلية التي لا تزال تحكم أمريكا الآن، وهي عقلية المحافظين اليهود الجدد، ومن هذه الوقفات والتساؤلات:
أولاً: المعركة بين أهل السُّنّة والشيعة في جوهرها اعتقادية وليست عسكرية فليس مجرد أن الشيعة مبتدعة ـ مهما كان الغلو في بِدَعِهم ـ كافياً لأن يكونوا على قائمة الأولوية في الحرب العاجلة من أهل السُّنّة، وإلا كان كل صاحب اعتقاد فاسد محلاً لحرب المسلمين وجهادهم، وهو ما يجمع عليهم أمم الأرض جملة واحدة. ثم إن فساد اعتقاد الشيعة ليس جديداً كي يسوِّغ لنا الآن الدخول معهم في حرب طاحنة إلى جانب الأمريكان. وإذا كانت المعركة معهم عقدية في الأساس، فإن مجالها لا يزال هو البيان والحجة واللسان؛ فهذه وسيلة جهاد مَنْ لهم شَبَه بالمنافقين والزنادقة. ولكن التساؤل هنا هو: ألا توجد وسيلة لتفادي الصدام المدمر معهم الآن، في حرب لا يبدو أن أهل السُّنّة في كامل الجاهزية لها، وليس وارداً العزم على حسمها، وبخاصة أن الشيعة في العالم يُقَدَّرون بعشرات الملايين، ولا يمكن إفناؤهم إلا بأضعاف أعدادهم من أهل السُّنّة؟!
ثانياً: صحيح أن الخطر الشيعي على أمن المنطقة ـ وبخاصة منطقة الخليج ـ هو خطر صاعد إلى التنامي والتمدد، وهو ذاهب إلى اتجاه الصِّدام، لكن الجزء الأكبر منه هو قضية تخص أمريكا وإيران، فلماذا يُقحَم أهل السُّنّة فيه مبكراً؟! فلتحارب أمريكا من تشاء من أعدائها ومنافسيها على الثروة والنفوذ، ولكن أليس من حقنا أن لا يكون ذلك بأرواحنا وأموالنا وسلامة أراضينا؟ وهل من المحتّم على ساسة المنطقة أن يتحالفوا مع أمريكا في أي حرب تقرر خوضها في الزمان والمكان الذي تريده؟!
ثالثاً: الشحن المذهبي، والحقد الطائفي الذي أفرزه شعور الشيعة بنشوة الانتصار الكاذب، يجب ألاّ يجبرنا أو يجرنا إلى سلوك مشابِه؛ لأنَّ مآل ذلك هو إلى الصِدام الحتمي على المستوى الإقليمي، مثلما آلَ الأمر على المستوى المحلي في العراق على غِرَّةٍ من أهل السُّنّة، وإعدادٍ واستعدادٍ من الشيعة. أوَ ليست هناك وسيلة ـ من جانبنا على الأقل ـ إلى العودة إلى تسكين زوابع الاحتراب المذهبي المفضي إلى معركة لا حاجة لها ولا ضروره إليها ولا فائدة منها إلا للحريصين على إضرام نارها من اليهود والنصارى المتربصين بالطرفين؟! ألا يمكن التصبّر عن منازلة الشيعة، ريثما يكون عندنا ما عندهم (مثلما يقال دائماً عن المواجهة مع دولة اليهود) ؟! أليس من الأحرى بدول وشعوب أهل السُّنّة، وبخاصة دول الجوار، أن يتفادوا الصدام الآن، حتى يتملّكوا ما يمكن أن يكون سلاح ردع مكافئ، مثلما فعلت باكستان مع الهند، وروسيا وكوريا مع أمريكا؟!
رابعاً: قوة الشيعة وتغوّلهم ليس في صالح السواد الأعظم من الأمة بداهة، والمد الشيعي هو دائماً حسم من المدّ الإسلامي الصحيح، ولكن تَقَوِّي الشيعة وصعودهم ـ بما في ذلك البرنامج النووي ـ لا بد أن يُضارَع بقوة تُبنى على علم واقتدار قبل أن يُضارَع من موضع ضعف وانكسار. ولا يعني هذا الدعوة للتقارب معهم على دَخَنٍ منهم وتَقِيَّة، ولا للتهوين من خطرهم، على حساب سلامة المعتقَد وسلامة الأرض والعرض؛ ولكن الخوف كله من الاستجابة لداعي العجلة، التي كثيراً ما تكون من الشيطان.
خامساً: جزء مهم من المعركة مع التشيع المغالي، هو في الجانب السياسي، وساسة الشيعة الإيرانيون قد أظهروا حنكة وقدرة عالية على التعامل مع الموازنات والتطورات العالمية، وهم في غالبيتهم جماعة من الدينيين خريجي الحوزات والجامعات الدينية، ولم يمنعهم ذلك من تناول الشأن السياسي والتعاطي معه. فلِمَ تُترك قضايانا المصيرية نحن ـ أهل السُّنّة ـ بيد حفنة من الخبراء العلمانيين والساسة اللادينيين، الذين يُصرّون على فصل السياسة عن الدين إلى الأبد، مُضَحّين بالسياسة وبالدين معاً؟! ألم يحن الأوان أن يفرض الإسلاميون ـ نوابُ الأمة الحقيقيون ـ رؤيتهم في قضايا أمتهم، عبر الوسائل التي تفرضها إمكاناتهم وحجمهم الأكبر في الأمة؟ ولماذا يسوس الشيعةَ علماؤهم وحكماؤهم، بينما يساس السُّنّة بعكس ذلك؟!
سادساً: ألا توجد هناك طريقة لإقناع المتنفذين في بلاد العرب والمسلمين، بأن أمريكا لو عزمت على ضرب إيران ِلحِفْظِ مصالحها، فسوف تضربها سواء بهم أو بغيرهم؟ فلماذا تسوقنا نحن سَوْقاً ـ كما فعلت من قبل ـ إلى حرب ستستفيد هي منها في كل شيء، ولن يستفيد المسلمون منها بأي شيء؟! ألا توجد صيغة لتفادي تكرار اللدغ من الجُحر نفسه؟
وأخيراً: إن الولايات المتحدة على شفا سقوطٍ مدوٍّ إلى هاوية التراجع والانعزال، وربما التفكك والانحلال؛ فلماذا نقدم لها نحن طوق النجاة؟ ولماذا يتعامل بعض السياسيين معها وكأنها ستظل في كامل قوتها، مع أنها في أخطر منحنيات ضعفها؟!
إن الصبر على سقوط أو إسقاط الصنم الأمريكي المتمايل في العراق وغيره، أهون وأقل تكلفة وأعلى فائدة من المسارعة إلى اقتحام الفخ الإيراني الأمريكاني الملغم بالمواجهات والمفاجآت، وإن تمكين الأمريكان من اتخاذنا عصا مرة أخرى لضرب أعدائها سيقويها ويقوِّضنا. ولهذا فإن من واجب المسلمين جميعاً أن يرفضوا أن يكونوا عَصا بيد أولئك العُصاة المردة؛ بل من المفترض عليهم أن ينزعوا كل عصا بيد أمريكا أو غيرها، ليحرموها منها أو يضربوها بها؛ حتى تبتعد عن شؤون المسلمين وتخرج من بلادهم، وهذا ما فعله المجاهدون في العراق بهم، فيما نحسبه دفاعاً عن أنفسهم وأعراضهم ودينهم؛ وهو حق كفله الباري ـ جل وعلا ـ بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
فتحيةً لهم وهم يرفعون الإثم عن الأمة كافة! والله المستعان.(234/13)
استراتيجية بوش: استثمار عوامل الهزيمة
طلعت رميح
دون الغرق في تفاصيل الاستراتيجية الأمريكية «الجديدة» في العراق، فواقعُ الحال أنَّ ما أعلنه الرئيس الأمريكي في خطابه بشأن استراتيجيته «الجديدة» ، وكذا ما شرحه وزير دفاعه الجديد ورئيس أركانه أمام الكونجرس في أوقات تالية، قد دارت جميعاً حول تطبيق الاستراتيجية العسكرية «القديمة» لغزو العراق، التي أعدَّها العسكريون ورفضَها وزير الدفاع الأمريكي المهزوم (رامسفيلد) ، ذلك أنَّ الفارق الجوهري بين الخطة الأمريكية القديمة / الجديدة التي جرى الحديث عنها مؤخراً، والخطة التي طبَّقها (رامسفيلد) منذ بداية العدوان؛ يتمحور أساساً حول عدد القوات الأمريكية التي كان ينبغي أن تشترك في عملية غزو العراق، والسيطرة على سكانه، وهو عَيْن الفارق بين الخطة التي قُدِّمت لـ (رامسفيلد) عند خوض العدوان على العراق ورفَضَها.
لقد اعتمد (رامسفيلد) خطة عسكرية للغزو والاحتلال، تقتصد في حجم القوات العسكرية الأمريكية، بقصد خفّة الحركة في الهجوم، وتقليل مساحة انتشارها الأَرْضيِّ لتقليل خسائرها، باعتبار أنَّ الميزات الرئيسية ـ المتوقّعة وقتَها ـ للجيش العراقي وللمقاومة من بعد ـ في حال وجودها ـ هي ميزات عمل على الأرض لا في الجوّ. وفي ذلك اعتمد (رامسفيلد) وبعض من قادته العسكريين فكرةَ تشكيل ميليشيات عراقية موالية للاحتلال ـ تابعة للقيادات الشيعية المتعاونة مع الاحتلال، مع دعم ميليشيا البشمركة وتقويتها؛ للاعتماد عليها في حالات خاصة إضافة إلى تأمين المناطق الكردية ـ كبديلٍ لزيادة عدد القوات، وكأساسٍ لنجاح المواجهة مع المقاومة العراقية، وكبديلٍ للجيش العراقي بعد حلِّه. كما اعتمد على شركات الأمن الغربية الخاصة، للقيام بمهمات حراسة الشخصيات العراقية المتعاونة مع الاحتلال ورجال الأعمال الأمريكيين، وفي القيام بالعمليات الإرهابية المموّهة والأشدّ إجرامية تجاه الشخصيات العراقية الرافضة للاحتلال. ووقتها فإن بعضاً من القادة العسكريين الميدانيين وآخرين من المتقاعدين والمتواجدين في مؤسسات صنع القرار في الدولة الأمريكية؛ كان لهم رأي آخر أعلنوه في مختلف المناسبات، وحوّلوه إلى مطالبة في بعض الفترات ـ خاصة بعد تصاعد خسائر القوات الأمريكية، وثبوت عدم قدرتها على السيطرة على الأوضاع، وفشلها في إخضاع إرادة الشعب العراقي ـ بإقصاء (رامسفيلد) نفسه، إذ إنهم رأوا أنَّ الدخول في بلد بهذا الحجم من السكان وبهذه التكوينة الحضارية والمليء بالقدرات والطاقات العسكرية والعِلْمية، لا يمكن أن يكون ناجحاً إلا بتوافر حشد عددي كثيف من الجنود، يكفل السيطرة على السكان وإخضاعهم، ويمكِّن من إعادة تأسيس العراق وفق الخطة الأمريكية كعراقٍ قابل للاحتلال ومتعايش معه. وها هي الخطة الأمريكية الجديدة تعود إلى الخطة القديمة السابقة والتي رفضها (رامسفيلد) ؛ فترسل القوات الأمريكية أعداداً أكبر على الفور ـ تقرر زيادة عدد القوات بنحو 21 ألفاً ـ، كما سترسل قوات إضافية يبلغ تعدادها 92 ألفاً على مدار السنوات الخمس القادمة، كما أنها باتت تتحدث عن ضرورة نزع سلاح الميليشيات الموالية لإيران، التي سبق أن أسَّسها وموَّلها وأشرف عليها (بريمر) نفسه، وتعلن أول إجراءاتها بـ «خطة» جديدة للسيطرة على بغداد وإخضاعها. وهذا كله يأتي متعارضاً مع التوقُّعات التي أشارت بخطة جديدة في ضوء تقرير (بيكر هاملتون) ، واعتبر وقتها أن معيار جدّتها سيكون بجدولة الانسحاب، وبالتفاوض مع سوريا وإيران حول الأوضاع في العراق، ومع أطراف عراقية لتغيير النهج الراهن في حكم العراق.. إلخ.
الخطة ـ إذاً ـ ليست جديدة على الصعيد العسكري، وإقرارها ـ في حدِّ ذاته ـ هو إقرار بالهزيمة في المرحلة الماضية من العدوان على العراق، لكن ذلك ـ في حدِّ ذاته ـ لا يعني أنَّ الخطة الجديدة هي مجرد استعادة ملف قديم وإعادة قراءة أوراقه، حيث إنّ الخطة القديمة أفرزت وضعاً مختلفاً عن سابقه الذي وضُعت على أساسه تلك الخطة ذاتها.
- فيتنام.. ولعبة الخطط:
يبدو هنا أمرٌ التذكيرُ به مهمٌّ، في إطار ما أشرنا إليه من أن الخطة الجديدة ليست إلا الخطة القديمة، وهو أن الخطة الجديدة / القديمة هذه تذكِّر بما كان يجري في فيتنام؛ من تغيير الخطط بين القديم والجديد، ومن زيادة القوات وتقليلها، ومن اعتمادٍ على الطيران والقصف من بُعْد، إلى التركيز على العمل العسكري على الأرض، ومن العمل لتشكيل ميليشيات إلى حلِّها، ومن تشكيل جيش فيتنامي موالٍ ومساند لجيش الاحتلال، ثمَّ الإعلان عن فشله في إخضاع السكان وسوء تدريبه، وهو ما جعل المحلّلين والمؤرّخين يعلنون من بعد أن كل ما كان يجري لم يكن سوى محاولة الهروب من إعلان الهزيمة، إذ إن الخطط رغم تبدُّلاتها وتغييراتها لم تستطع إنقاذ الجيش الأمريكي من الهزيمة، ولم تكن تسير إلا في اتجاه واحد، هو زيادة الانغماس الأمريكي في الأزمة، واشتداد العنف الدموي ضد الشعب الفيتنامي والسير نحو هزيمة في غاية القسوة للقوات الأمريكية في تلك الحرب.
ومن المفيد هنا التذكير ـ أيضاً ـ بأنَّ فكرة عدد القوات الأمريكية على الأرض وتشكيل ميليشيات تابعة أو متعاونة مع الاحتلال من قِبَل بعض العرقيات في مواجهة عرقيات أخرى، وفق استراتيجية تفريق بين الفيتناميين بعضهم عن بعض، وإجراء انتخابات داخل فيتنام وفق عملية سياسية خاضعة للاحتلال؛ لإكساب السلطات العميلة شرعية داخلية وخارجية.. كلها إجراءات واستراتيجيات جرى التقلّب فيها حتى إعلان الهزيمة أو القبول بإعلان الهزيمة والإقرار بها من خلال المفاوضات التي جرت بين الفيتناميين والأمريكيين على الأرض الفرنسية.
والأهم ـ هنا ـ أن الولايات المتحدة حينما وضعت خطتها للتفاوض مع الفيتناميين؛ لإعلان القبول ضمنياً بالهزيمة والبدء في الانسحاب، وضعت إلى جوارها وبالتوازي معها خطةً عسكرية جديدة، قامت على تصعيد القصف الجوي إلى أعلى درجة من العدوانية ضد الفيتناميين، وعلى بدء هجمات عسكرية جديدة ضد الثوار الفيتكونج. وكان الارتباط بين الخطتين أنَّ التفاوض يجب أن يجري دوماً من موقع القوة لا الضعف، وأنَّ إعلان الهزيمة يجب أن يتمَّ وفق غطاء من مظاهر القوة، وهو ما لم يكن ليغيِّر من جوهر الأمور شيئاً.
فهل نحن أمام تكرار لنفس السيناريو في العراق؟ أي: هل نحن أمام حالة تصعيد عسكري للوصول إلى حالة انسحاب تحت غطاء من عوامل القوة؟ أم أننا ما زلنا نشاهد محاولة أمريكية للحصول على النصر على المقاومة الذي سمَّاه بوش (انجاز المهمة) ؟!
- احتمالان:
واقع الحال أننا أمام الاحتمالين تماماً في العراق ـ حيث الإعلانات السياسية من بوش وغيره لا تعطي فرصة للحكم باعتبارها جزءاً من الخداع الاستراتيجي في أيّة خطة عسكرية ـ، ذلك أنَّ هناك مؤشرات على أنَّ الاستراتيجية الجديدة هي استراتيجية الانسحاب تحت غطاء من عوامل القوة الظاهرة، كما أن هناك مؤشرات أخرى على أن الولايات المتحدة لم تقرر الانسحاب بعد، وأنها ما يزال أمامها مشوار قد يبلغ العامين حتى الإقرار بالهزيمة والانسحاب من العراق.
في الاحتمال الأول: فإن المؤشرات عديدة كما ذكرها (توم هايدن) (1) في مقالة له على موقع (كومون دريمز) ، وقد عدّد لهذه المؤشرات مظاهر وشواهد، أولها: ما قاله (جيمس بيكر) لأحد محامي (صدام حسين) أنّ (طارق عزيز) ـ نائب رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق ـ سوف يُطلق سراحه من السجن في نهاية هذا العام، على أمل أن يتفاوض مع الولايات المتحدة بالنيابة عن قيادة حزب البعث. وقد حدثت هذه المناقشة في الآونة الأخيرة في عمَّان، وفق صحيفة القدس العربي، وهو ما يعزِّزه ـ أيضاً ـ تواتر الحديث حول نقل (طارق عزيز) للعلاج في إيطاليا.
الشاهد الثاني: طلب وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندوليزا رايس) شخصياً من مجلس التعاون الخليجي في أكتوبر/ تشرين الأول، أن يتوسط المجلس بين الولايات المتحدة وجماعات المقاومة السُّنّية ـ من غير حركة القاعدة ـ، وأنَّها أعربت عن رغبة الولايات المتحدة في التفاوض معهم في أيِّ زمان أو مكان. وقالت مازحة ـ وهي تتحدث في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول ـ: «إنَّ وزير الدفاع ـ وقتئذٍ ـ (دونالد رامسفيلد) لو سمعني لشنّ عليَّ حرباً أشرس وأعنف من الحرب التي شنَّها على العراق» ، حسب ما قال دبلوماسي عربي مطّلع على الجلسة المغلقة.
والشاهد الثالث: هو ما جرى من عقد اجتماعات سرّية (غير مسبوقة) بين مسؤولين أمريكيين على مستوى رفيع وممثّلين عن (مكوّن رئيسي من مكوّنات المقاومة العراقية) ، ودامت ثلاثة أيام، ونتيجة ذلك وافق العراقيون على العودة إلى المحادثات فيما بعد.
والشاهد الرابع: هو ما تكشف من رسائل إلكترونية مفصَّلة ـ مؤرَّخة في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ـ تكشف جهداً أمريكياً نشيطاً من خلف الكواليس للتوسط في اتفاق سلام مع زعماء المقاومة العراقية، ضمن خطة قد تتضمن انقلاباً سياسياً ضد رئيس الوزراء (نوري المالكي) .
والشاهد الخامس: هو حملُ المستشار الأمني للرئيس بوش (ستيفن هادلي) رسالة إلى المسؤولين العراقيين لدى زيارته الأخيرة إلى بغداد، تتضمن ست نقاط، هي: اشملوا المقاومة والمعارضة العراقيتين في أيِّ مبادرة نحو المصالحة الوطنية، وأصدروا عفواً عامّاً عن مقاتلي المقاومة المسلَّحة، وحلّوا اللجنة العراقية المكلّفة بحظر حزب البعث، وابدؤوا حلَّ الميليشيات وفِرَق الموت، وألغوا أيَّ اقتراح للفيدرالية لتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، ووحّدوا السلطة المركزية للحكومة، مع حكم ذاتي أكبر للحكام المحليين.
ونضيف ـ نحن ـ المؤشر السادس وهو أن الهرولة في اغتيال الرئيس العراقي (صدام حسين) ، كان مؤشراً على فتح الطريق أمام المفاوضات وأمام تغيير في التوجُّه ـ وليس العكس ـ، إذ كان الرجل وهو في محبسه حاجزاً وسدّاً أمام كل من يفكر في التفاوض من البعثيين مع الأمريكان. كان الإعدام غير المتوقع في سرعته وهمجيته رغبة عاجلة في إنهاء حقبة الغرور الأمريكي بالاستناد إلى انتصار رخيص تمهيداً لإبداء حالة الضعف، تحت غطاء من الجرائم الدموية.
في الاحتمال الثاني: فإن الحجم الخطير لنتائج القبول بالهزيمة الأمريكية في العراق على صعيد المصالح الأمريكية في العراق، أو على صعيد الوضع الاستراتيجي الخطير الذي سيصبح عليه الكيان الصهيوني والمشروع الغربي في المنطقة برمّتها، جميعها عوامل تجعل الولايات المتحدة أشد تصلّباً في رفض الهزيمة. وكذلك فإن الشواهد المشار إليها في الاحتمال الأول ربما لا تخرج عن كونها أحد أشكال الخدعة أو أحد أساليب زرع الفتن داخل العراق. كما أننا أمام مؤشرات أخرى تشير إلى احتمال استمرار محاولات بوش والإدارة الأمريكية لإحراز النصر على المقاومة العراقية، مع إدراكنا بتغيير اللهجة واختفاء كثير من المصطلحات القديمة، ومن تلك المؤشرات: ما نشاهده على الأرض في العراق من تحرّكات أمريكية بالغة الضراوة، حيث مدنٌ بأكملها ـ سنّية لمن يتصورون العكس ـ تعيش محاصرة بسبب احتضانها المقاومة، وهناك أخرى بدأت القوات الأمريكية تشيد حولها أسواراً ترابية عازلة إلا من بوابة دخول وخروج. كما أن القوات الأمريكية ما تزال تواصل بناء قواعد عسكرية دائمة لها في العراق آخرها ما يجري تشييده حالياً في منطقة كردستان العراق، كما أن تلك القوات تزيد عددها وتعلن عن خطة لزيادة عدد قواتها خلال السنوات الخمس القادمة.
وكذا فإننا نشهد على الطرف الآخر أنَّ المقاومة الإسلامية العراقية تعلن بوضوح أن لا تفاوض بينها وبين الولايات المتحدة، وأنها تشترط مسبقاً إعلان جدول بالانسحاب قبل الدخول في التفاوض.
وهو ما يدعو إلى القول: إنَّ الولايات المتحدة إنما تعتمد سيناريو الحرب حتى الانتحار، إذ إن الهزيمة تساوي الانتحار الأكيد والنهائي، كما أن النصر يعني الحصول على كل شيء في المنطقة.
- كيف نرجّح أحد الاحتمالين؟
لفهم وترجيح أيٍّ من الاحتمالين، أو لفهم ما يجري؛ فإنًّ عدداً من العوامل يجب وضعها في الاعتبار:
أولها: ضرورة التفريق بين ما قاله الرئيس بوش وغيره من القيادات الأمريكية وبين أن تكون هناك استراتيجية أمريكية مختلفة. كما لا يجب أن يُقرأ من مثل هذا الكلام والتصريحات رؤيةٌ كلية للاستراتيجية بشكل عام ـ أية استراتيجية ـ، إذ إن ما يُكشف النقاب عنه في الأحاديث السياسية والإعلامية هو فقط ما يراد أن يُكشف عنه للرأي العام، كما أنَّ هذا الذي يُكشف النقاب عنه إنما يكون في أغلب الأحيان جانباً من جوانب التغطية الإعلامية الواردة ضمن مقوّمات إنجاح الخطة ـ أي: هناك جانب إعلامي لترويج الخطة لا للكشف عنها ـ.
ثاني تلك العوامل: التنبُّه إلى أننا أمام تطوّر جديد انتقل إليه تأثير المقاومة العراقية من الضغط في العراق على قوات الاحتلال لإيصال أوضاع بوش الداخلية إلى المأزق، إلى مرحلة وصل فيها بوش إلى المأزق فعلاً، وباتت الأزمة متجسدة في الداخل الأمريكي وفق قوى متضاربة المصالح والآراء حول الأوضاع في العراق، تصبح فيها المقاومة آلية تحريك وتفعيل الأزمة. وبمعنى آخر: يجب الوضع في الاعتبار أن ما أعلنه بوش بات تحت تأثير حالة جديدة لم تعد المقاومة ـ على أرض العراق ـ هي المؤثر فقط في تغيير اتجاهات الرأي العام، بل باتت هناك قوى ضاغطة في الداخل الأمريكي على الرئيس الأمريكي ومؤثِّرة على قدرته في التحرُّك والقول.
ثالث تلك العوامل: وجوب مراجعة ما يجري بين الولايات المتحدة وإيران، سواء على صعيد الشواهد المتعلِّقة بالعمليات التي جرت ضد أفراد وديبلوماسيين على الأرض العراقية، أو على صعيد الدخول المباشر للولايات المتحدة على خط التفكيك للتحالفات الشيعية المرتبطة بإيران مثل: ـ دفع المالكي إلى مواجهة الصدر، وإعلاء الحكيم في مواجهة الصدر والمالكي، وتقوية دور علاوي، وغير ذلك ـ، أو على صعيد تطوير آليات المواجهة الديبلوماسية في مجلس الأمن مع إيران.. إلخ.
رابع تلك العوامل: فهم الاستراتيجية الأمريكية من خلال قراءة التحرك الأمريكي في المنطقة بشكل عام ومحيط العراق بشكل خاص. وقبل هذا وذاك؛ فإن الساعي إلى فهم استراتيجية بوش «الجديدة» يجب أن يحقق تقديراً فعلياً للأوضاع في العراق.
وفي ضوء مراجعة الأوضاع القديمة والطارئة في معادلة اتخاذ القرار مما سبق الإشارة إليه ـ وغيرها بطبيعة الحال ـ ومع استبعاد مؤثرات الخداع السياسي والإعلامي، فإن معالم الخطة الأمريكية الحالية في خطوطها العامة يمكن تلخيصها في التالي:
1 ـ تطوير المعركة في العراق باتجاه المحيط (الهروب إلى الأمام) ، سواء لإرباك ترتيبات القوى التي نتجت عن المرحلة السابقة والتي باتت تسير بالولايات المتحدة نحو الهزيمة الكاملة، أو بإدخال قوى أخرى في الصراع عبر إخضاع دول أخرى في المنطقة للاستراتيجية الأمريكية وضروراتها، أو بنقل الصراع من داخل العراق إلى المحيط حيث إن الولايات المتحدة لديها في السيطرة على المحيط آلياتٌ أقوى من السيطرة على الأرض مباشرة في العراق (توسيع ساحة المعركة لتقليل قدرة القوى المحلية المناوئة) .
وفي ذلك؛ فإن الولايات المتحدة تعمل على استثمار عوامل هزيمتها لتحويلها إلى عوامل قوة، كما هو الحال في إخافة دول المحيط من النفوذ الإيراني في العراق، وفي تخويفها من انتشار المقاومة في المنطقة على حساب النُّظم القائمة.
2 ـ تحويل ساحة المعركة في العراق نحو الفوضى الشاملة على صعيد تحالفات القوى، وفي ذلك يجري الدفع إلى إعلان العديد من التحالفات والجبهات الجديدة، كما يجري فضّ التحالفات القائمة وإشاعة الشكوك بالجُملة، كما يجري تقديم محاور في الصراع على أخرى ـ تقديم مواجهة إيران على مواجهة الولايات المتحدة ـ، والضغط عن طريق المفاوضات تارةً والقوة تارةً أخرى لتفكيك كل عوامل التماسك الداخلي، وكل ذلك ظاهر في تفكيك التحالفات الشيعية، وفي فتح المجال لتقسيم أوسع داخل حزب البعث، وفي توسيع هوّة الخلافات بين التيارات المقاومة ذاتها.
3 ـ التركيز في العمل العسكري على تيارات هي الأشد وقوفاً ضد الاحتلال، وتنميط الخطط العسكرية لتحقيق أهداف سياسية وليس فقط لتحقيق حالة إضعاف لقوى مقاومة.
4 ـ استخدام لغة جديدة في التعامل الإعلامي والسياسي مع الحالة العراقية، سواء بإشغال الرأي العام الأمريكي بقضية أخرى كما هو الحال بالنسبة لإيران ولبنان، أو بإنهاء استخدام المصطلحات القديمة التي كانت أشدّ عجرفة من تلك المستخدمة في لغة الخطاب الأمريكي الآن.
5 ـ إعادة تأسيس العملية السياسية داخل العراق؛ لاستيعاب عدد أكبر من القوى، ولإحداث وضع جديد يمكِّن التقاط الأنفاس والتحرُّك باتجاهات جديدة لمحاصرة القوة الأشدّ راديكالية.(234/14)
العراق إلى أين؟
د. أحمد عبد الحكيم السعدي
في ظلّ ما نشهده من تصاعد للأحداث على الصعيد الأمني، ومن تخبُّط في المجال السياسي، وفي ظلّ التناقضات العديدة التي يعيشها العراق، وفي ظلّ تصاعد الاقتتال الطائفي وسطوع نجم فِرَق الموت، وتصاعد عمليات المقاومة ضد المحتلّ؛ تتبادر إلى الأذهان تساؤلات عديدة يلخصها التساؤل الذي كان عنواناً للمقال، وهو:
قد يبدو هذا التساؤل صعباً، وإجابته معقدة للكثيرين، ممن يتابعون الوضع في العراق. ولكن الإجابة عن هذا التساؤل تتأتّى من خلال فهم حقيقة ما يحدث في العراق، ودراسة المعطيات على الأرض والنتائج المحتملة لها.
إنني أشبِّه الوضع في العراق بالمسألة الرياضية المعقدة، التي يصعب حلّها ويطول، وتحتاج إلى معطيات كثيرة ليسهل ذلك الحلّ.
فالمعطيات على أرض العراق متضاربة ومتعاكسة في نتائجها المحتملة، ومن أهمِّ هذه المعطيات: معطى المقاومة والجهاد المسلّح؛ فنحن نرى انتصارات المجاهدين في العراق تتزايد كل يوم، وكلما حاول المحتلُّ إخماد نار المقاومة زادت في توهّجها، وكلما حققت هذه المقاومة الباسلة بجميع فصائلها هزيمة قاسية في صفوف المحتل يحاول الأخير تحويل هذه الهزيمة إلى «انتصار» ؛ عن طريق الانتقام من المدنيين والهجوم الكاسح على المدن، في إطار عمليات عسكرية فاشلة تسمى بمسميات أكبر من حجمها الحقيقي؛ فمرّةً يسمونها بـ (النهر الجارف) ، ومرّةً بـ (الخنجر المسموم) ، والكثير من العمليات بمثل هذه المسميات، وفي مختلف المناطق والمحافظات. ولكن المحصلة على أرض الواقع تتناقض مع الجهد العسكري المبذول من جانب المحتلّ وأعوانه. والملاحظ بعد كل عملية من هذه العمليات أن عمليات المقاومة تزداد، ونرى تطوراً في العمليات النوعية التي يقوم بها المجاهدون، حتى أنني ألاحظ أن هناك تنافساً بين الجماعات المسلَّحة في مجال العمليات النوعية، مما أدّى إلى تطور العمل الجهادي.. والنتيجة المحتملة لهذه المقاومة هي خروج المحتلّ وتحرير العراق والحفاظ على وحدته.
لكن المعطى الآخر على أرض الواقع لا يقلُّ أهمية ووقعاً على مسار الحياة اليومية في عموم العراق، وهو معطى الميليشيات وفِرَق الموت المدعومة خارجياً. ونحن نرى كيف أن هذه الميليشيات تتزايد، وكيف أن نطاق عملياتها يتّسع يوماً بعد يوم، وأن جرائمها في ازدياد. والمعضلة الكبرى أن هذه الميليشيات مدعومة من جهات تغري الكثيرين من أبناء جلدتنا بطابعها الديني وتوجّهها «المقاوم» ، ولكنها في الحقيقة وعلى أرض الواقع تسعى إلى تدمير حاضرة الخلافة الإسلامية، وكسر البوابة الشرقية للعرب؛ من خلال إنشاء الميليشيات الطائفية وتدريبها ودعمها.
لكن معطى الميليشيات ونتيجته المدمّرة ـ وللأسف الشديد ـ ترجح كفّته في وقتنا الحاضر على معطى المقاومة ونتيجته، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الميليشيات مدعومة وبشكل قوي وبتسليح وإمداد مستمر من إيران، أما المقاومة العراقية فإنها لا تجد دعماً عربياً أو إسلامياً يدعم توجّهها وأهدافها ونضالها لتحرير العراق ولحفظ وحدته، فضلاً عن محاربتها من قِبَل أغلب البلدان العربية والإسلامية.
وهنا تتحدد الإجابة عن التساؤل الأول: العراق إلى أين؟ فسيكون مصيرُ العراق مصيرَ خير وازدهار وقوة ووحدة إذا تكاتف المجاهدون في العراق، ووحّدوا صفوفهم، ونبذوا التحزّب والفئوية، وساروا على كلمة واحدة. هذا من الداخل، أما من الخارج فالمطلوب من الدول العربية والإسلامية أن تدعم المدافعين عن حاضرة خلافتهم وبوّابتهم الشرقية، وأن تقف معهم، ويجب أن يكون الدعم مادياً ومعنوياً وإعلامياً وعلى جميع الأصعدة؛ لأن الخطر في العراق لا ينوي الوقوف عند حدوده، وإنما سيتعاظم ويكبر لِيَلْتَهِم ما يستطيع من المنطقة. والدفاع عن العراق هو دفاع عن جميع البلدان العربية والإسلامية.
فإذا تحقق التكاتف بين المجاهدين، وتواجدَ الدعم الفعلي من الدول العربية والإسلامية عندئذ فقط سترجح كفّة المقاومة على كفّة الميليشيات وما يرتبط بها من أجندة خارجية.
أما إذا لم يحدث أي نوع من هذا الدعم والإسناد للمجاهدين في العراق فسترجح الكفّة للميليشيات وفِرَق الموت وللتدخّل الإيراني، وستكون الإجابة عن التساؤل الأول ـ العراق إلى أين؟ ـ إلى التفكك والتشرذم.
وعندها لن يبقى للعراق (المقطَّع) أملٌ إلا برحمة ربه.(234/15)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
من هنا وهناك
- قبل إعدام (صدام) ذهب وفد شيعي يضمُّ ضمن أعضائه (جواد المالكي) رئيس الوزراء، و (عبد العزيز الحكيم) رئيس المجلس الأعلى إلى (السيستاني) ، وحصلوا على فتوى منه تجيز إعدام (صدام) أيام العيد، ووقّع (المالكي) قرار إعدام (صدام) بقلم يحتفظ به منذ خرج من العراق قبل 30 عاماً؛ ليذكره بحكم صدام، وليلة الإعدام كانت ليلة زفاف ابن المالكي في الوقت نفسه. [مجلة الحوادث 12/1/2007م]
- قالت وزيرة الخارجية الإسرائيلية (تسيبي ليفني) : «إن الخريطة السياسية تشهد تغيرات حالياً، وإن النزاع لم يعد قومياً يدور بين اليهود والعرب، إنما بين معسكرَيْ المعتدلين والمتدينين المتطرفين» ، في إشارة إلى صراع فتح وحماس. [وكالات، 11/1/2007م]
- حسب تصريحات رئيس لجنة الشؤون العسكرية في مجلس النواب الأمريكي فإن (40%) من المعدات العسكرية الأمريكية العاملة موجودة الآن في كلٍّ من العراق وأفغانستان، ويعني هذا أن زيادة عدد القوات العاملة في العراق ستُضْعِف قدرة الجيش الأمريكي في التدخل في أماكن أخرى في الحالات الطارئة. [مجلة المجلة، العدد 1405]
- قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية (محمد علي الحسيني) : «إن إيران وصلت إلى المستوى اللازم من الإمكانات من أجل القيام بالنشاطات النووية، وستعلن نهاية العام عن إيران النووية» . [وكالات، ذو الحجة 1427هـ]
- دعت هيئة علماء المسلمين العراقية قيادات الجيش العراقي السابق إلى العمل على إعادة تنظيم وحدات الجيش وانتظار الفرصة لتحرير العراقيين، وقالت الهيئة ـ في بيان لها بمناسبة عيد الجيش العراقي في 6 يناير ـ: إن ذكرى تأسيس الجيش تمرُّ بعد أربع سنوات من تآمر الاحتلال عليه؛ من خلال حلِّ مؤسساته وتسريح منتسبيه، والعراق ينحدر إلى واقع مؤلم تلعب الدول بمقدراته ويُذِلُّ الاحتلال شعبه. [وكالة رويترز 8/1/2007م]
- تبلغ الميزانية الأمريكية للعام الجديد ـ والتي قدَّمها البيت الأبيض إلى الكونجرس ـ 2.9 تريليون دولار؛ منها قرابة 700 مليار دولار مخصصة للإنفاق العسكري، ويخصص مشروع الميزانية حوالي 200 مليار دولار للإنفاق على العمليات العسكرية في العراق وأفغانستان. [موقع بي بي سي 6/2/2007م]
علامة تعجب
وما تخفي صدورهم أكبر:
قالت وزيرة الخارجية الأمريكية لوزير الشؤون الاستراتيجية الصهيوني (أفيغدور ليبرمان) : «يجب خنق حماس» ! [مجلة الحوادث 12/1/2007م]
الرؤية البريطانية للهلال الشيعي:
صرَّح مسؤول بريطاني له علاقة بالملف العراقي أن بلاده ليس لديها مشكلة في أن يكون لإيران دور في العراق: «على العكس نحن نشجِّع علاقة مقربة وإيجابية بين البلدين، هذا ليس ما يقلقنا، ما يقلقنا هو وجود عناصر تعمل على إضعاف الدولة العراقية» . [الشرق الأوسط 8/1/2007م]
حان الوقت لإسدال الستار:
أرسل زعيما الكونجرس الأمريكي الديمقراطيان (هاري ريد) و (نانسي بيلوسي) رسالةً إلى الرئيس الأمريكي (جورج بوش) يدعوانه فيها إلى سحب القوات الأمريكية من العراق، وقالا في رسالتهما: «بعد نحو أربع سنوات من القتال وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى وأكثر من 300 بليون دولار؛ حان الوقت لإسدال الستار على هذه الحرب» . وقالا ـ أيضاً ـ: «إن الشعب الأمريكي أعرب في انتخابات نوفمبر عن شكوكه حيال إمكانية أن تقود السياسة الأمريكية الحالية الأمور إلى النجاح» . [السياسة الكويتية 7/1/2007م]
بين الصورة والحقيقة:
في برنامج (الاتجاه المعاكس) على قناة الجزيرة اعترف أحد الضيوف المدعو (صادق الموسوي) ـ شيعي ـ بأن اسمه (طارق هاشم مطر) ، وكما هو معروف فإن (موفق الربيعي) اسمه الحقيقي (كريم شاه بور) ، ورئيس الوزراء العراقي (نوري المالكي) اسمه (جواد) ، وكلمة (المالكي) طرأت عليه حديثاً، والمسؤول العراقي (علي الأديب) الذي حضر إعدام صدام اسمه الحقيقي (علي يزدي) . [مجلة الوطن العربي 10/1/2007م]
رشوة أم مساعدات!
تشير التقارير الصحفية من أفغانستان إلى أن الشرطة الفاسدة والقادة القبليين يقدمون على سرقة المساعدات الدولية التي تُقدَّم من أجل إعادة التعمير، وفي معظم الحالات انتهت المساعدات التي قُدِّمت في الأيدي الخطأ، ويقدِّر مسؤولو الدفاع في الولايات المتحدة وبريطانيا أن حوالي نصف المساعدات المقدَّمة إلى أفغانستان تفشل في الوصول إلى من هم في أمسِّ الحاجة إليها، وذكر مسؤول في البنتاغون أن ضباط في الشرطة الأفغانية سرقوا وباعوا ما لا يقل عن نصف المعدات والإمدادات التي قدَّمتها الولايات المتحدة، ومن ضمنها: آلاف السيارات والشاحنات. [الصنداي تليجراف ـ الوطن القطرية 5/1/2007م]
مرصد الأخبار
الدولة الصهيونية وفرنسا: لا خوف من القنبلة النوويةالإيرانية!
نقلت صحيفة هآارتس (4-2-2007م) محتويات تقرير صادر عن مركز الأبحاث حول الأمن القومي في جامعة تل أبيب، هذا التقرير أعدّه باحثون في ذلك المركز حول الملف النووي الإيراني؛ حيث قال الباحثون: إنه في حال تمكّنت إيران من امتلاك القنبلة النووية فمن المرجح أنها لن تستخدمها لتدمير إسرائيل. ولفت التقرير إلى أن إيران تريد امتلاك السلاح الذري لأهداف دفاعية من أجل ضمان هيمنة إقليمية لها وتعزيز نظامها. وتابع: إنه في حال توصلت إيران إلى امتلاك القنبلة النووية من المفترض أن تتصرف بعقلانية وليس تبعاً لدوافع دينية أو عقائدية. واعتبر واضعو التقرير أن المنطق يبعث على الاعتقاد بأن إيران ستستخدم السلاح الذري فقط لمواجهة خطر كبير، وأن تدمير الدولة الصهيونية ليس من المصالح التي تبرر مثل هذه الوسيلة. كما رأى الخبراء الصهاينة أنه من غير المرجح أن تنقل إيران السلاح النووي إلى منظمات إرهابية. لكنهم اعتبروا ـ رغم ذلك ـ أن امتلاك إيران سلاحاً نووياً سيكون خطيراً بالنسبة إلى الدولة الصهيونية؛ لأنها ستواجه ـ للمرة الأولى ـ تهديد دولة قادرة على تسديد ضربة قاسية إليها.
في سياق متصل؛ اعتبر وزير الخارجية الفرنسي السابق (رولان دوما) أن امتلاك إيران القنبلة الذرية سيكون بمثابة عامل توازن في المنطقة، وأعرب عن تمنِّيه في أن تبدأ بسرعة كبيرة مفاوضات عامة مع إيران.
وكان الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) قد أدلى بحديث أثار الجدل لصحيفتَيْ (نيويورك تايمز) و (إنترناشيونال هيرالد تريبيون) ومجلة (نوفيل أوبسرفاتور) ؛ حيث قال: «إن امتلاك طهران قنبلة أو اثنتين ليس بالأمر الخطير جداً» ، قبل أن يعود ويطلب تصحيح تصريحاته. [الرأي العام 5/2/2007م]
عصابات أمريكا تحرس الديمقراطية في بغداد
كشفت وكالة (إف بي آي) الأمريكية أن أعضاء عصابات الإجرام المنظَّم في الطرقات وكذلك عصابات الدراجات النارية قد انضموا فعلاً إلى صفوف الجيش الأمريكي، والعديد منهم قد وصل إلى العراق.
وذكر تقرير أصدرته الوكالة بهذا الخصوص أن وجود أعضاء هذه العصابات داخل الجيش يُعدّ أمراً خطيراً، إذ إنه سيقود نهاية الأمر إلى انتشار العصابات الأمريكية حول العالم.
ولا تقوم وزارة الدفاع الأمريكية عادةً بالتدقيق في الخلفيات الإجرامية للملتحقين الجُدد بقوات الجيش، حيث إن انخفاض أعداد المتقدمين للانتساب إلى الجيش تراجع بدرجة ملحوظة نتيجة الحرب في العراق، في الوقت نفسه الذي تزايدت فيه أعداد المجرمين الملتحقين بالقوات المسلحة.
وذكر تقرير الـ (إف بي آي) أن المسؤولين عن قبول طلبات الالتحاق بالجيش ليسوا مؤهلين للتعرف على خلفيات المتقدمين الإجرامية. كما ذكر أن العصابات تقوم بتوظيف عدد من الضباط والجنود السابقين في أعمال التدريب على السلاح والقتال. [الشرق الأوسط 22/1/2007م]
ثورة العبيد
أحدثت عمليات الفرز الطائفي في بغداد ـ التي تمارسها فِرَق الموت المدعومة حكومياً وإيرانياً ـ نتائج خطيرة؛ فقد أصبحت عشرة أحياء كاملة في شرق بغداد شيعية بعد أن كانت مختلطة بين السُّنّة والشيعة قبل عام واحد فقط، وفي مجلس محافظة بغداد من بين 51 عضواً لم يعد هناك غير عضو سُنّي واحد.
ويقول (هادي العامري) ـ النائب في البرلمان العراقي، وأحد منفذي المذابح ضد سُنّة العراق ـ: إن ما يجري هو بناء معادلة جديدة لإعطاء (الأكثرية) الشيعية حقوقها، بعد أن كان الآخرون من قبل ضباطاً، بينما الشيعة مجرد جنود وعبيد. [مجلة الحوادث، العدد 2619]
واتّهم مقتدى الصدر ما وصفه بحوار أمريكي سُنّي بأنه محاولة لإنهاء وجود الشيعة، واعتبر أن عودة بعض البعثيين السابقين إلى الحكومة أمر مرفوض، وأصدر فتاوى يساوي فيها بين الاحتلال والبعثيين، واتهم النواصب [أهل السُّنّة والجماعة] والبعثيين: بأنهم ينسقون مواقفهم مع الاحتلال، وحثَّ جماعته على القتال قائلاً: إن «القتال في سبيل الخط المحمدي الصحيح مأذون من الله ورسوله» !!
كوسوفا.. هل يعيد التاريخ نفسه؟
دعا رئيس الوزراء الصربي (فوغيسلاف كوستونيتشا) الشعب الصربي للدفاع عن إقليم كوسوفا، وقال رئيس الوزراء ـ في إعلان نُشر في صفحتين بصحيفة بولوتيكا الصادرة في بلغراد ـ: «لن نسلِّم كوسوفا، ولا يوجد صربيٌّ حيٌّ يوافق على تسليم كوسوفا» ، وقال أيضاً: «يا مواطني صربيا! لا يمكن للمرء أن يكون له عقل عندما يفكِّر في كوسوفا، وطالما وُجِدَتْ صربيا ستبقى كوسوفا جزءاً من صربيا» .
وقال رئيس الوزراء في إعلانه التعبوي: إن كوسوفا «هي الحرف الأول في الأبجدية الروحية للشعب الصربي» . وقال ـ في استعداء واضح ضد مواطني إقليم كوسوفا ذي الأغلبية المسلمة ـ: «علينا أن ندافع عن كوسوفا معاً، وأن يشارك في ذلك كل مواطن، وإلا فإننا لن نفقد كوسوفا فقط، بل وصربيا أيضاً والهوية الصربية» .
ويُذكر أن إقليم الجبل الأسود قد مُنِح حق الانفصال عن صربيا العام الماضي، وأصبح جمهوريةً مستقلة وسط تأييد دولي أوروبي، بينما لا يزال وضع كوسوفا المسلمة محلَّ جدال ونزاع.
وكانت حرب التطهير العرقية قد طالت كوسوفا بعد البوسنة، مما أدّى إلى عشرات الألوف من المسلمين ذوي الأصول الألبانية في الإقليم ضحية ذلك التطهير.
[بتصرّف عن صحيفة السياسة الكويتية 18/12/1427هـ]
مرصد الأخبار
الأخطبوط الإيراني يصل الجزائر
نشرت صحيفة (الخبر) الجزائرية أن الأجهزة الأمنية تجري تحقيقاً حول وجود نشاط شيعي في منطقتين غربي الجزائر.
وقالت الصحيفة: إن النشاط المذكور يتمّ في ولاية (معسكر) على مسافة 400 كم غرب العاصمة، وإن أجهزة الأمن فتحت تحقيقاً بشأن وجود مجموعات شيعية تمارس أنشطة لنشر التشيُّع الموالي لإيران. وتشير المعلومات المتوفرة إلى وجود مجموعتين؛ تنشط الأولى في مدينة (معسكر) ، والثانية: في بلدية (المأمونية) ، وتقومان باستقطاب الشباب والجامعيين لتبنِّي المعتقد الاثني عشري؛ حيث يتم عقد حلقات نقاش في المنازل والأماكن العامة، استناداً إلى أصداء التصريحات الثورية التي يدلي بها الرئيس الإيراني (أحمدي نجاد) بخصوص إسرائيل والملف النووي، وأيضاً إلى شخصية (حسن نصر الله) زعيم حزب الله اللبناني وتداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان.
وقد أنشأ دعاة التشيُّع جمعية محلِّية كغطاء لتحركاتهم، وعقدوا فيها لقاءات ثقافية، وأصدروا نشرة تحمل أسماء رموز التشيُّع في المنطقة. كما يشكك دعاة التشيُّع في التاريخ الإسلامي، ويطعنون في صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخاصة أبا بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ. [بتصرّف عن وكالة (يو بي آي) 7/1/2007م]
نصر الله يتجهز للقوات الدولية
\ بدأ حزب الله ـ كما هو متوقع ـ مرحلة الاستعداء واستنفار أتباعه ضد القوات الدولية المنتشرة في جنوب لبنان وفقاً للقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن والذي وافق عليه الحزب لإنهاء الحرب الأخيرة.
وصرَّح (نصر الله) في خطابٍ ألقاه ضمن احتفالات الشيعة في لبنان بعاشوراء: أن القوات الدولية تقوم بتحركات مريبة.
وتحدث نائب الأمين العام للحزب (نعيم قاسم) عن دور (مشبوه) تقوم به بعض وحدات اليونيفيل في الجنوب لمصلحة إسرائيل، متخطية بذلك المهمة الموكلة إليها ـ حسب قوله.
وبعد ذلك أشار (حسن نصر الله) في حديث صحافي إلى (جديّة تحذيرات حزب الله إلى قوات اليونيفيل) ، وتتركز تحذيرات الحزب على معلومات قال إنه تلقاها - ونفاها الفرنسيّون - حول فكرة قيام طائرات استطلاع فرنسيّة بالتحليق في الأجواء اللبنانيّة كبديل عن تحليق طائرات الاستطلاع الإسرائيليّة، وقال (نصر الله) : «إذا كان هذا الأمر جديّاً فهو خطير، وله مضاعفات خطيرة» .
ويتهم الحزب القوة الفرنسيّة ـ أيضاً ـ بأنها تقوم بأعمال تثير الشكوك؛ من قبيل تصوير أماكن ومنازل، وتجميع معلومات تتعلّق بالحزب، وتثير استفزاز المواطنين؛ من خلال حالة الاستنفار والتوجس التي تثيرها الدوريات داخل الأحياء السكنية في ساعات متأخرة من الليل.
وبالمقابل تفيد أوساط مقرَّبة من اليونيفيل أن حزب الله يقوم في شكل غير معلن بتعزيز حالة (اللاثقة) لدى المواطنين تجاه الفرنسيين، ووصل الأمر إلى حدّ تشجيع رؤساء البلديات ووجهاء القرى والبلدات على عدم لقاء قيادة القوة الفرنسيّة، الأمر الذي انعكس سلباً، وحدَّ من طموحات الفرنسيين في توسيع دائرة نفوذهم الأمني والاجتماعي في المنطقة التي ينتشرون فيها.
وكانت ألمانيا ـ التي ترأس الاتحاد الأوروبي حاليّاً ـ قد اهتمت بتحذيرات حزب الله، وسارعت إلى تحذير رعاياها من التوجه إلى لبنان. وأوردت مجلة (دير شبيغل) الألمانية نقلاً عن رسالة دوريّة أصدرتها السفارة الألمانية في بيروت: أنه من غير المستبعد أن تقع أحداث فرديّة أو حتى أعمال عنف ضدّ الألمان في لبنان، رابطة ذلك بالدور الذي تضطلع به القوة البحرية الألمانية التي تنتشر أمام السواحل اللبنانية من أجل منع وصول أسلحة إلى حزب الله. [بتصرّف نقلاً عن صحيفة السفير 5/2/2007م]
التشيّع.. حتى بعد الموت
اتهمت هيئة علماء المسلمين في بيان لها الحكومة ـ العراقية بخداع الرأي العام فيما يتعلق بدفن القتلى في النجف وكربلاء. وقالت الهيئة: إن عمليات دفن الجثث المجهولة الهوية في مدينتَيْ النجف وكربلاء تهدف إلى الإيحاء بأن القتلى من الشيعة ـ بينما هم من السُّنّة العراقيين ـ ولطَمْس العدد الحقيقي للقتلى.
وذكرت (الهيئة) في بيانها هذا: أن معظم هذه الجثث من أهل السُّنّة الأبرياء، وطالبت بأن «تخصص الحكومة قطعة أرض لهم في بغداد يُدفنون فيها؛ ليكونوا شاهد عدل على حقبة زمنية بائسة» .
واعتبرت (الهيئة) عملية دفن الجثث في النجف وكربلاء إنما هي استغلال للضحايا مجهولي الهوية، وأن عدد الجثث يفوق كثيراً الأعداد التي تعلن عنها الحكومة؛ فهو يتراوح ما بين 100 و300 جثة يومياً. وأشارت إلى أنه منذ أمدٍ ليس بالقصير تقوم جهات معينة بدفن هذه الجثث على نحو متواصل في مدينتَيْ كربلاء والنجف، وأحياناً تسهل لهم طائرات لنقل المغدورين في خطوة ظاهرُها فعل الخير وحقيقتها استغلال هؤلاء الموتى؛ لتزوير التاريخ والتظلم بهتاناً؛ من خلال الزعم بأن هؤلاء ضحايا من الشيعة قتلهم سُنّة متطرفون. [أ. ف. ب 5/2/2007م]
س وج
س: هل يصبح مستشار الأمن القومي العراقي (موفق الربيعي) رئيس الوزراء القادم؟
ج: (موفق الربيعي) أحد الشخصيات المثيرة للجدل في العراق؛ نظراً لدوره الغامض وتشعّب علاقاته وحصوله على الرضى الأمريكي الإيراني في آنٍ واحد؛ ما جعله يستمر في منصب مستشار الأمن القومي العراقي رغم تغير الحكومات. وقد أثار (الربيعي) حنق العرب السُّنّة داخل العراق وخارجها - عن عمد - مؤخراً بسبب طريقة إعلانه وفاة (صدام حسين) .
ويسعى (الربيعي) في الفترة الأخيرة إلى تشكيل ائتلاف شيعي كبير في العراق. ويقوم في الظرف الراهن بوساطة ما بين (مقتدى الصدر) و (عبد العزيز الحكيم) ، ويرجح خبراء عراقيون أن (الربيعي) يعدّ العدّة من الآن للسيطرة على منصب رئاسة الوزراء، ولذلك كان ظهوره في سياق إعلان نبأ إعدام (صدام) من أجل الحصول على تأييد واسع النطاق في الأوساط الشيعية العراقية.
و (موفق الربيعي) ليس موفّقاً وليس ربيعياً؛ فاسمه (كريم شاه بور) وهو إيراني فارسي، ويتقن الفارسية أفضل من العربية، كما أنه لا ينتسب إلى قبيلة (ربيعة) ، والتي كذَّبَ شيخُها (ربيعة محمد الحبيب) هذا النسب المزعوم. ويعتبر (كريم شاه بور) من أبرز الشخصيات المحورية التي تلعب دور نقطة الالتقاء بين طهران وواشنطن فيما يتعلق بالعراق؛ فهو هرب من العراق إلى إيران حيث تلقَّى تدريبات أمنية مكثفة، ثم هاجر إلى بريطانيا وكان نقطة تجمّع للمعارضين العراقيين ـ أو هكذا كان يحاول ـ، وأقام علاقات وثيقة مع المخابرات الأمريكية والبريطانية والإيرانية في آنٍ واحد، وبلغت علاقته بالأمريكيين من القوة أن السفير الأمريكي في لندن (ريتشارد وني) كان ينام في بيته أحياناً.
وكان (كريم شاه بور) قد افتتح في لندن مكتباً لتشغيل الأطباء في المستشفيات مقابل عمولة ـ بوصفه طبيباً ـ، ولكنَّ المكتب كان يعمل كستار لأنشطته المخابراتية؛ حيث تمكن من استقطاب شخصيات عراقية شيعية كانت معارضة لـ (صدام حسين) في الخارج؛ من أجل الاستعانة بها في إدارة العمليات الأمنية بعد إسقاط نظام (صدام) .
ويعتبر محلِّلون أن (موفق الربيعي) هو أحد أهمِّ خمسة أسماء في العراق ـ الآن ـ بسبب احتفاظه بعلاقات قوية مع واشنطن وطهران، ويتردّد أنه الرجل الأول الذي سُمح له بالدخول إلى القاعدة الرئيسية للاستخبارات الأمريكية والموساد في فندق بغداد، كما يعتقد أنه مكلَّف بالترويج لقضية تقسيم العراق إلى خمسة أقاليم؛ كونه يكثر من الحديث عن هذا السيناريو.
ويحتفظ (الربيعي) بعلاقات قوية مع (مقتدى الصدر) ومع (الحكيم) في الوقت نفسه، ويرتبط مع الحرس الثوري من خلال (قاسم سليماني) قائد فيلق القدس، وقد اجتمع عقب إعدام (صدام) مع ضباط استخبارات إيرانيين في قيادة المخابرات الإيرانية على الحدود؛ من أجل التخطيط لمرحلة ما بعد إعدام (صدام) وكيفية التعامل مع سُنّة العراق؛ فـ (الربيعي) معروف بعداوته الشديدة للسُّنّة، وكان حريصاً كل الحرص على تكبيدهم خسائر فادحة في بداية الغزو الأمريكي للعراق، وصرَّح بقوله: «لننقل المعارك شمال بغداد، وللمثلث السُّنّي» ، وتجلّت عداوته للسُّنّة ورغبته في النكاية بهم ما كان من طريقة إعلانه إعدامَ (صدام) وتأكيده على رعشته واضطرابه قبل التنفيذ. [بتصرف عن مجلة المجلة 24/12/1427هـ]
س: ما آخر المعلومات المتوفرة حول هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة؟
ج: ذكرت وكالة صهيونية شبه رسمية مختصة بشؤون الهجرة: أن أعداد المهاجرين في العام 2006م تعتبر الأقل منذ (18) عاماً؛ حيث بلغت 21 ألف مهاجر تقريباً، وكانت منذ 18 عاماً 130340 مهاجراً.
وبحسب أرقام الوكالة اليهودية فإن أعداد المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفييتي السابق قد تراجعت بشكل ملحوظ؛ حيث بلغت في العام السابق 2006م 9378، وهي أقل بنسبة (23%) عن العام الذي قبله 2005م؛ حيث وبلغ عدد المهاجرين فيه 22657.
وقد هاجر إلى فلسطين المحتلة من دول الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية قرابة مليون شخص منذ عام 1989م، ويبلغ عدد سكان الكيان الصهيوني حالياً سبعة ملايين نسمة.
وقد بلغ عدد المهاجرين من أمريكا الشمالية في العام الماضي 2006م 3200 مهاجر، وهي الجهة الوحيدة التي شهدت ارتفاعاً في عدد المهاجرين؛ حيث بلغت نسبة الزيادة في العام الماضي 2006م عن الذي قبله (7%) .
وتشير المعلومات إلى تراجع أعداد اليهود القادمين من الاتحاد السوفييتي؛ بسبب نضوب اليهود هناك، وهو ما يعني أن نسبة المهاجرين ستظل في تناقص بعد انتهاء فترة الازدهار التي بدأت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. [وكالات، يناير 2007م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
كشف تقرير رُفع أمام لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست الصهيوني: أن نسبة المغادرين من اليهود القادمين الجدد تبلغ خمسة أضعاف اليهود القدامى من كبار السّن الذين يغادرون الدولة الصهيونية، وتبين المعلومات الواردة في التقرير عن العام الحالي 2006م أن مئات الطلبة الذين أنهوا دراستهم الثانوية في الدولة الصهيونية يغادرونها؛ لاستكمال دراستهم في روسيا وأوكرانيا؛ مما يزيد من صعوبة اندماجهم في المجتمع الصهيوني. [هآارتس 14/11/2006م]
«الدولة الصهيونية تقوم بصورة منهجية وخبيثة بقَضْمِ حقوق الفلسطينيين، وتتصنَّع النوايا الحسنة عندما تُفتضح هذه السياسة» . [هآارتس 13/11/2006م]
«شيء مخجل لليهود أن يكون (عمير بيرتس) هو المسؤول عن الأمن. وإذا لم يكن في الحكومة؛ فماذا يعرف أن يكون؟ على الأكثر سائق سيارة أجرة» .
[الملياردير اليهودي من أصل روسي (أركادي غيداماك) 19/11/2006م]
«اتحاد مراكز الدعم الاجتماعي والنفسي في الدولة الصهيونية تلقَّى منذ شهر يناير وحتى شهر أكتوبر أكثر من 28 ألف شكوى حول الاغتصاب والتحرّش الجنسي؛ منها 6270 شكوى جديدة، مقابل 5230 شكوى جرت أحداثها في نفس الفترة الزمنية من العام 2005م» . [معاريف 22/11/2006م]
«سوريا استخلصت العبر من حرب لبنان الأخيرة والتي تقضي بأن منظومة الصواريخ والمقذوفات الصاروخية هي المنظومة الأهم في المواجهة مع الدولة الصهيونية» . [هآارتس 26/11/2006م]
ترجمات
«إن حرب إسرائيل لم تنتهِ بالمعركة في لبنان؛ فأمامها مخاطر كبيرة، وهناك حاجة حقيقية للبحث عن مسارات سلام. ويبدو أن هذه المهمة أكبر من قدرة (أولمرت) و (بيرتس) » . [ (شلومو جازيت) عميد احتياط، لمعاريف 24/11/2006] م
«إن الفلسطينيين يحاولون خلق معادلة جديدة على الأرض مع الإسرائيليين، والذين يعتبرون أن أيَّ عملية عسكرية في الضفة الغربية ستدفعهم للردِّ عليها من قطاع غزة؛ بإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل» . [عضو الكنيست (داني ياتوم) ، ليديعوت أحرنوت 28/11/2006م]
«نخشى أن يتدهور الوضع بسرعة في المنطقة في أشكال مختلفة؛ بسبب الأعمال التي يمكن أن تتم انطلاقاً من هذه المنطقة في اتجاه إسرائيل» .
[قائد قوة الأمم المتحدة العاملة في لبنان «يونيفيل» الجنرال الفرنسي (ألن بيلليغريني) ، لمعاريف 17/11/2006م]
أخبار التنصير
أمريكا: لن نمنع التبشير في العراق:
ذكرت (نيوزويك) الأمريكية أن البيت الأبيض أعلن أنه لن يمنع ما أسماه (الجمعيات الخيرية المسيحية) من ممارسة مهامها التنصيرية داخل العراق. وقالت المجلة: إن جمعية (الكتاب المقدس الدولي) أرسلت إلى العراق 10 آلاف نسخة من كتيبات باللغة العربية تحمل عنوان (المسيح جاء بالسلام) ، وأضافت: إن الجمعية تعتزم إنتاج ما يقرب من 40 ألف نسخة أخرى في شهر مايو الجاري. ويقول (روبرت فيزرلين) ـ المتحدث باسم التحالف المسيحي المبشر إحدى الجمعيات المسيحية التي ستقدم على الخطوة نفسها ـ: «سنكون حذرين إزاء هذه المسألة» . [المشاهير الكنسية ـ القاهرة 12/12/2006م]
الشباب اللّيبي بين مطرقة عصر الجماهير وسندان التنصير:
كشفت تقارير أن عدداً من الشباب اللِّيبي ـ الذين انتقلوا إلى مالطا بحثاً عن عمل ـ قد تنصروا تحت تأثير الحاجة، ويعمل عدد كبير منهم في مهنٍ سيئة، ومثال ذلك: شاب ليبي كُلِّف بدقِّ جرس كنيسة منطقة موستا المالطية، وهي إحدى أكبر الكنائس المالطية. وشاب آخر يعلِّق صليباً كبيراً في عنقه، ويعمل في تنظيف ومسح الكراسي والصلبان والبيانو والأرضية في كنيسة فاليتا.
وأفاد مصدر خاص أن فتيات كثيرات وأطفالاً صغاراً كان يتم ترحيلهم من مالطا أولاً بأول إلى دول أوروبية؛ كاليونان وإيطاليا، تحت إشراف امرأة كورية متمرّسة في التنصير الفردي.
وأضاف المصدر أن النشاط التمريضي والعلاجي للنساء والفتيات المسيحيات أصبح ستاراً لارتكاب كل أشكال الجرائم غير الأخلاقية مع الشباب اللِّيبي في مالطا؛ تحقيقاً لهدف التنصير. [الشريف الليبي ـ مدوّنة ليبيا الحرة ـ 22/12/2006م]
مكتب اللاجئين بالقاهرة ينصّر عشرة آلاف مسلم:
كشفت أوراق ثبوتية حصلت عليها شبكة (بلدي) الإلكترونية صادرة عن مكتب اللاجئين بهيئة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة في القاهرة: أن المكتب ينسق مع الكنائس المصرية؛ لاستيعاب اللاجئين الأفارقة إلى مصر بسبب الكوارث والحروب، ومنحهم بطاقات ملونة تدل على ديانة كل لاجئ، والذي بناءً عليه تتحدد الكنيسة التي يتم إرسال اللاجئ إليها وكذا حجم ونوع المعونات التي يسمح بتقديمها إليه، وأسلوب الإعالة، وحقه في التعليم والعلاج من عدمه.
ووضعت الكنائس شروطاً مجحفة لإعالة المسلمين؛ بربط الدعم المقدَّم لهم بعدد مرات حضور صلوات الكنيسة والخضوع لأوامر الكهنة فيها. كما يمنح لأولاد المسلمين مكافآت تتراوح بين الخمسة جنيهات والعشرين جنيهاً لمن يحفظ نصوصاً كتابية أو ترانيم من التي يرتّلونها في صلواتهم. [شبكة بلدي ـ خاص ـ 28 نوفمبر 2006م](234/16)
صمود!!
جمال الحوشبي
من عناقيد الغضب، إلى أمطار الصيف.. يجدّد اليهود منهج الصليبية الأمريكية في العمليات العسكرية التي يقومون بها، لا في المسميات فحسب، ولكن في الروح الحاقدة على الإسلام، وأهدافِها الداعية إلى إبادة أهله. ويبقى ذلك الصامد على ثغر الأرض المقدسة درعاً للأمة في وجه العدو الغاصب.
(1)
ستعلو.. رُغمَ من يركعْ
وتسلو.. بعد أن تدمعْ
وتحيا شامخاً أبداً..
وإن رُكّعت.. لن تركعْ
(2)
ستُضرَبُ مرةً أخرى..
ستُحملُ فوق أكتافِ الـ
عزيمة.. جُثّةٌ أخرى
وتشكو..
ثم لن تَلقى..
خليلاً ثَمَّ كي ينفعْ.
(3)
سَتَدْفِنُ مرةً.. طفلاً
وتُبصرُ تارةً ثَكلى
وتشكو..
ثُمّ لن يبقى..
سوى الرشاشُ والمدفعْ.
(4)
سلامٌ.. أين من يرجو؟
سلاماً من يهوديٍّ؟!
وأين سلامُ من أضحى
يدمِّرُ كلَّ ما ترفعْ
ويسرقُ..
ثم لا يرضى..
ويقتلُ..
ثم لا يقْنَعْ؟!
(5)
لَكم ناديتَ مُعتصِماً..
فما ثَمَّ.
وقُلتَ: النَّكبةُ الأخرى..
ستوقِظُهُ..
فلم يسمع.
لأنَّ المال أشغَلَهُ..
وصوتُ الدّانِ أسكرَهُ..
وأطْرَبَهُ.. رغيدُ العيشِ..
والمهجَع.
وإن ناديت.. لن يسعى
وهل من ميِّتٍ يَسمَعْ؟
(6)
سيحذَرُ منكَ من أمسى..
خليلاً.. لست تُنكِرهُ
قريبٌ.. كنتَ ترجوهُ..
لكي يحمي..
وكي ينفع.
يبيعُ الأرضَ..
بعد الدِّينِ..
كي يحيا..
وما للموتِ من مَدفَعْ.
(7)
ستُلهِبُ أمّةً كُبرى..
وتحملها.
إلى المسرى.
ستعلو ثَمَّ كي ترفَع
بحيفا رايةً أخرى..
ومهما زمجَر الباغي..
فأنت إلى الردى أسرعْ
ستُفني قبل أن تُفنَى
وتقطَعُ قبل أن تُقطَع.
(8)
عدوّك سوف لن يبقى
قوياً.. بعد أن تحيا
ستُبصرُ أنه أمسى..
جباناً رُغم ما يصنَعْ
يخاف الموتَ.. يحذَرُهُ
ليحيا..
والذي يحيا
ضعيفٌ رُغمَ ما يجمعْ
(9)
سيعلو صوتُ أمريكا..
فلا تسمعْ
وما من عاقل يُرجى بـ (أوروبا)
فلا شَجبٌ..
ولا حتى..
قرارُ إدانةٍ يُرفَعْ.
وهل ترجو سوى رَبٍّ..
عظيمٍ لا يُغالِبُهُ..
شديدُ الهَولِ والمطلعْ
عَزيزٍ.. في يديه الأمرُ
مَن يهدي.. ومن يدفَعْ(234/17)
جدلية العقل والدين بين الفكر الغربي والدين الإسلامي
عبد الله بن نافع الدعجاني
لعلّ أهمَّ ما يميز الفكر الغربي الحديث والمعاصر من غيره هو اصطباغه بفلسفة التفكيك، تلك الفلسفة التي ترفض المرجعية الفكرية والأخلاقية، هادفةً من ذلك نسفَ أيّ أساس للحقيقة، وإلى تقويض ظاهرة الإنسان، فليس هناك ـ في فلسفة التفكيك ـ حقيقة واحدة، بل مجموعة من الحقائق المتناثرة النسبية، وليس في الإنسان إلا بُعْدٌ واحد، وهو البُعْدُ المادي المجرَّد من القيم الأخلاقية والجمالية والروحية، تسيطر عليه العقلانية المادية وتطبّق عليه معايير العلوم الطبيعية والرياضية الكمّية.
لم تولد تلك الفلسفة في عصرنا الحاضر، وإن كان يتزعمها اليوم الفيلسوف (جاك دريدا) ، بل كانت بذرة كامنة في بنية العقل الغربي بشقّيه الفلسفي والدِّيني، وما زالت تكبر وتزداد تضخُّماً حتى أوصلت المشروع الفكري الغربي إلى العدميّة المحضة.
فالفكر الغربي بعد أن فكَّك الإنسانَ وجعله كائناً آلياً تحرِّكه غرائزه الوحشية المظلمة القابعة داخله كما يصوّره (دارون) ، أو تدفعه القوانين الآلية التي لا يمكن تجاوزها كما تصوّره الفلسفة المادية، بعد أن فعل ما فعل بهذا المخلوق الكريم قوَّض علاقته بخالقه، وجعلها علاقةَ تناقضٍ لا علاقةَ انسجامٍ، وعلاقةَ صراعٍ لا علاقةَ عبوديةٍ.
بسبب هذه الثقافة التفكيكية استشكل الفكر الغربي الحديث والمعاصر علاقةَ العقل الإنساني بالدِّين الإلهي، ووصل بذلك إلى وصف تلك العلاقة بالتنافر والتضادّ، بل والتناقض، لكنه انقسم في محاولة حلّه هذه المشكلة المفتعلة إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: اتجاه متطرِّف غالٍ، يهدف إلى القضاء على الدِّين ومصدره جملةً وتفصيلاً، مع تأليهه العقل الإنساني. وهذا الاتجاه وإن كان قد ضعف تأثيره الفكري في فكر السواد الأعظم للشعوب الغربية، إلا أنه قد مثله لفيف من مشاهير الفلسفة الغربية باختلاف اتجاهاتهم الفلسفية من وضعية ومادية تقليدية وماركسية، فمنهم على سبيل المثال:
1 ـ (دولباخ) : وهو فيلسوف مادي من القرن الثامن عشر، رفض كل الأدلة على وجود الله، بناءً على أن الطبيعة في الكون كله ـ في نظره ـ كُلٌّ واحد بذاته لا يحتاج إلى غيره في تفسيره، ولهذا أنكر الإلهَ، حتى أنه (كان يتباهى بأنه العدو الشخصي للإله) (1) .
2 ـ (نيتشه) : صاحب فلسفة القوة، فقد تمادى في نزعته الإلحادية، وقرّر أن: (الإنسان في لحظة تعسه من حياته اخترع ـ والعياذ بالله ـ خرافةً أسماها (الله) ، وظلَّ منذ ذلك الحين مكبّلاً بقصة من خلقه هو، إلا أنه ليس من إله غير الإنسان لو واتته الشجاعة على أن يعرف قدره..) (2) ، ولذلك أعلن في كتابه (هكذا تكلَّم زرادشت) موتَ الإله، إذ يقول: (جميع الآلهة قد ماتت، أو بأن الله قد مات God is dead) (3) .
وقد مثل هذا الاتجاهَ فلاسفةٌ كُثر غير ما ذكرت، أمثال: (ماركس ولينين وكونت وغيرهم) ، إلا أن هذا الاتجاه أخفق إخفاقاً ذريعاً في محاولته حلَّ ذلك الإشكال الذي استشكله؛ لأنه هرب من المشكلة ولم يعترف بطرفها الآخر وهو الدِّين، وصادم الفطرة البشرية، ولذلك لم يكن مقنعاً لا فلسفياً ولا منطقياً، فلم يكن أثره الفكري بقدر أثر الاتجاه الثاني؛ لأنه اتجاه لا يملك إلا لغة الرفض والإقصاء والتطرُّف.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه التوفيقي الذي اعترف بطرفَيْ المشكلة التي استشكلها، لكنه أقصى الطرف الثاني وهو الدِّين من ميدان المعرفة البشرية، وربطه بالوجدان القلبي المجرد من معنى العقل والتعقُّل.
وقد بلور هذا الاتجاه الموقف العام للفكر الغربي المعاصر من الدِّين والوحي، فقد أصبح مفهوم الدِّين عند الغربيين مثل مفهوم الأدب والفن القائم على معايير ذاتية ترفض إقامة البراهين العقلية على صِدْقها، ويستحيل الإقناع بصِدْقها إقناعاً عقلياً.
وقد ذهب إلى هذا الاتجاه كثير من الفلاسفة الغربيين على اختلاف اتجاهاتهم الفلسفية، فمنهم على سبيل المثال:
1 ـ (بسكال) : فقد كان يرى أن الإيمان الدِّيني لا يخضع للعقل، بل يتعلّق بالوجدان القلبي؛ إذ يقول: (إن القلب هو الذي يستشعر الله لا العقل، هذا هو الإيمان، الله محسوس للقلب لا للعقل) (1) .
2 ـ (إيمانويل كانت) : إذ تهدف فلسفته النقدية وتتمحور حول تأكيد عجز العقل عن إثبات الميتافيزيقيا ـ أي: الغيوب ـ وأعظم تلك الغيوب ـ في نظره ـ مسألة «وجود الله» و «حرية الإرادة» و «خلود النفس» ، لكن (كانت) يعود ويؤكد ثبوت هذه المسائل الميتافيزيقية، لكن من طريق آخر، وهو الأخلاق أي: الوجدان الداخلي، أو كما يسميه «العقل العملي» (2) .
3 ـ (برتراند رسل) : فعلى الرغم من كونه ملحداً لا يدين بدين إلا أنه كان يؤكد على أن «الدِّين» لا يأتي بحلول مقنعة عقلية للمشكلات، وإنما هو قائم على الإرغام لا الإقناع العقلي، ففي سياق وصفه الفلسفة يقول: ( ... لكنها ـ أي: الفلسفة ـ كذلك تشبه العلم في أنها تخاطب العقل أكثر مما تستند إلى الإرغام، سواءً كان ذلك الإرغام صادراً عن قوة التقاليد أو قوة الوحي ... ) (3) .
4 ـ (جورج سنتيانا) : الذي يقول عن الإيمان الدِّيني إنه (غلطة جميلة أكثر ملاءمة لنوازع النفس ومن الحياة نفسها) (4) ، فقد كان يميل إلى الدِّين شعورياً، لكن يكفر به عقلياً، هذه المشكلة أرَّقته فدفعته إلى تأليف كتابه الشهير (العقل في الدِّين) ، انتهى فيه إلى اللاأدرية المظلمة ممتزجة بميل عاطفي إلى الدِّين.
ولا ريب أن من أعظم أسباب تبنِّي الفكر الغربي الحديث معاداةَ الدِّين أو إقصاءه من ميدان المعرفة البشرية، هو التأثر السلبي بالدِّين الكنسي الذي أقام أصوله على الخصومة بين الدِّين والعقل، يشهد لذلك تاريخه الأسود في حربه الشعواء وظلمه الفادح للعلم والعلماء، فالمقالات التي تدعو إلى فصل الدِّين عن العقل كانت ردّة فعل لانحدار الفكر الكنسي الذي صادر العقل، واحتكر مجالات المعرفة، وأقام اعتقاده على تفكيك الوحي عن العقل، حتى أصبحت كلمة «الدِّين» ـ بسبب هذا الشؤم الكنسي ـ في عصور الغرب الحديثة تعني: عداوة كل تفكير. لكن فلاسفة الغرب المعادين والمهمّشين للدِّين وقعوا في خطأ منهجي فادح، ذلك بتعميمهم الموقف الكنسي على كل الأديان، وهم لم يَخبروا من الأديان إلا النصرانية، ولم يعرفوا الدِّين النصراني إلا من رجال الكنيسة، لكن أعجب منهم خطأ من يجترّ تلك المقالات الغربية ليغرسها في غير أرضها، ويطبِّقها على الدِّين الإسلامي، وهذا ما فعله بعض مفكِّري العرب، وعلى رأسهم الدكتور (زكي نجيب محمود) ؛ ففي سياق شرحه حقيقة الدِّين ـ عنده ـ يقول: ( ... ففي الدِّين، الإدراك إيماني وليس برهانياً، إذا قيل لك هنا: إن الله موجود ففي إمكانك أن تصدق وتؤمن من غير أن تطلب برهاناً على ذلك، هذا إيمان، هكذا أيضاً في الفن أو الأدب: تعطي لوحة أو قصيدة، ففي لمعة البرق تتعلّق بها أو تنفر منها ... ) (5) .
- موقف الإسلام ـ إجمالاً ـ من علاقةَ العقل بالدّين:
التصوُّر الإسلامي للكون قائم على ثنائية مترابطة مؤتلفة، ألا وهي ثنائية الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والعابد والمعبود، من هذه الثنائية العامة تتفرَّع ثنائيات متعددة كلها متّسقة بعضها مع بعض، مثل: ثنائية الروح والمادة، والعلم والدِّين، والعقل والنقل، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة.
فالتصوّر الإسلامي ليس تصوّراً تحليلياً صِرْفاً، بحيث يفكِّك أجزاء الكون إلى جزئيات مبعثرة لا ائتلاف بينها ـ كما يفعله العقل الغربي ـ بل إن التصوّر الإسلامي يجمع إلى منهجه التحليلي منهجاً تركيبياً يربط أجزاء الكون في وحدة تصوّرية متكاملة، فيها من جمال التركيب والصورة ما يبهر العقول ويحيِّرها.
في هذا السياق تأتي العلاقة التكاملية المترابطة بين العقل والدِّين الصحيح؛ إذ لا يمكن أن تكون تلك العلاقة علاقةَ تنافر وتناقض؛ لأن مصدرهما واحد وهو «الله» سبحانه، فالعقل وما اكتسبه مخلوقٌ لله، والدِّين الصحيح وما شرعه من الله، والعقل يمثِّل إرادة الله الكونية ـ في هذا الباب ـ، والدِّين الصحيح يمثِّل إرادة الله الشرعية، ويستحيل أن تتناقض الإرادتان؛ لأن مصدرهما واحد، قال ـ تعالى ـ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] .
وبناءً عليه؛ فإنه يستحيل أن يتعارض قطعيٌّ من الدِّين بقطعيٍّ من العقل، لكن إن قُدِّر أن يتعارض ظنيٌّ من الدِّين بقطعيٍّ من العقل أو بالعكس، قُدِّر القطعيُّ سواءً كان عقلياً أو دينياً.
أما تقديم العقل مطلقاً على الدِّين فمنهج باطل؛ لأنه يتضمن القدح في العقل نفسه، إذ إن العقل شاهد على صحة الدِّين، ورفضُ المشهود له ـ وهو الدِّين ـ يستلزم القدح في صدق شهادة العقل، وهذا قدح في العقل (1) .
والمقصود أن «الإسلام» لا يجعل علاقةَ العقل بالدِّين موضعَ إشكال أصلاً؛ لأنهما في نظره متكاملان ومتّسقان ومؤتلفان، وذلك من وجهين:
الأول: أنَّ تكليف الإنسان الإيمانَ بأصول الدِّين ـ من وجهة نظر الإسلام ـ قائمٌ على إعمالٍ عقليٍّ؛ فمن لا عقل له لا تكليف عليه، بل إن قيام الحجّة الدِّينية لا يكفي فيه مجرّد بلوغها، بل لا بد مع ذلك من فهم تلك الحجّة ـ والفهم إعمالٌ عقليٌّ ـ لا سيما لمن عرضت له شبهة معتبرة تمنعه من اعتقاد ما هو مقتضى تلك الحجّة، وإلا كان معذوراً في تأوّل مخالفة الحجّة الدِّينية، ولذلك جعل الله مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومخالفة سبيل المؤمنين بعد العلم بالحجّة الدِّينية وتبيّنها، قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وهذا يبيّن أن الدِّين لم يقم على مجرد التسليم بلا براهين وفهم عقلي، بل إن مدار حجّة أدلة الدِّين قائمة على بلوغها وفهمها وإعمال العقل لإدراكها، فإذا كانت الغريزة العقلية والإعمال العقلي شرطاً في التكليف الدِّيني وبلوغ الحجّة الدِّينية امتنع أن تنافيَ وتناقضَ الدِّين؛ لأن ما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له.
الثاني: أن «الدِّين» أو «الوحي» ملازم للدلائل والبراهين العقلية، ومتضمِّن لها، ولذلك كان الدليل والبرهان العقلي قسماً من منظومة الأدلة الشرعية القائمة على الوحي الدِّيني، وليس قسيماً لها، وفي ذلك يقول ابن تيميّة: (الأدلة العقلية والسمعية متلازمة كل منهما مستلزم صحة الآخر، فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرُّسل ـ عليهم السلام ـ فيما أخبروا به، والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله وتوحيده وصفاته وصدق أنبيائه ... ) (2) .
ولذلك فقد تضمَّن «الوحي الدِّيني» أنواعاً كثيرة من الأدلة والبراهين العقلية التي تقتضي بيانَ الحق وترسيخ اليقين في القلوب، وهذه الأدلة العقلية هي البينات والتبيان الذي تضمّنه الوحي الدِّيني، قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، فإذا كانت الأدلة العقلية ملازمة للدِّين ومتضمنة فيه، فإنه يستحيل أن تناقض الدِّين أو تعارضه.
والمقصود ـ في هذا السياق ـ بيان العلاقة المنسجمة بين العقل والدِّين بياناً مُجْملاً؛ إذ يضيق المقام عن بسط تلك العلاقة، غير أني أؤكِّد على نتيجتين ضروريتين لفَهْمنا تلك العلاقة:
الأولى: أن الصراع بين العقل والوحي صراع مفتعل لا حقيقة له، وأن كل تصوّر قام على فكرة هذا الصراع تصوّر قائم على وَهْم، ومما يُؤسفُ له أن الفكر الغربي المعاصر لم يكن وحيداً في بناء تصوّراته الفكرية على فكرة هذا الصراع ـ وإن كان قد بالغ فيها شططاً بعيداً ـ إذ شاركه في هذا المنهج مناهج ومدارس فكرية قديمة داخل إطار الفكر الإسلامي؛ كالمعتزلة والأشاعرة، إلا أن مواقفهم ـ وإن لم تبلغ من الإلحاد ما بلغه الفكر الغربي المعاصر المكذب للوحي والمنكر حقيقته ـ كانت أشدَّ تناقضاً؛ لأنهم أقرّوا بصدق الوحي عقلاً، ومع ذلك ردّوا بعض ما جاء به بناءً على مناقضته العقل (3) .
الثانية: أن الصدق الدِّيني ليس قائماً على الإرغام والتسليم بلا برهان عقلي، بل هو قائم على وجدان باطني وأدلة وبراهين عقلية تفيد العلم واليقين؛ فمن خالف الوحي الدِّيني فقد خالف الضرورة العقلية، ولذلك يقول الله ـ سبحانه ـ عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] .
__________
(1) مدخل إلى الميتافيزيقيا، عزمي إسلام، مكتبة سعيد رأفت، عام 1977م، ص 113.
(2) قضية العناية والمصادفة في الفكر الغربي المعاصر، دراسة نقدية في ضوء الإسلام، سارة بنت عبد المحسن آل سعود، مكتبة العبيكان، ط الأولى، 1415هـ ـ 1995م، ص 115.
(3) مدخل إلى الميتافيزيقيا، عزمي إسلام، ص 114.
(1) مدخل جديد إلى الفلسفة، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط الثانية، 1979م، ص 214.
(2) انظر: الميتافيزيقيا عند الفلاسفة المعاصرين، محمود رجب، ط الثالثة، 1998م، ص 21 ـ 29.
(3) تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند رسل، ترجمة: محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977م، 1/4.
(4) قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمين، وزكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1967م، 1/402.
(5) طريقنا إلى الحرية، محاورة زكي نجيب محمود، أحمد أمين، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط الأولى، 1994م، ص 134.
(1) انظر في ذلك: دَرْء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، محمد رشاد سالم، 1/40 ـ80 ـ 170.
(2) دَرْء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، 8/24 ـ 25.
(3) انظر: دَرْء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، 1/181 ـ 182 ـ 189.(234/18)
كيف تستمع إلى خطبة الجمعة
جمال نادر الفرّا
الحدث الأهم في يوم الجمعة بالنسبة للمسلم هو خطبة الجمعة، وهي عبادة لها أهدافها، يتعاون الخطيب والمستمعون لتحقيقها، وكما أن أداء الخطيب لخطبة الجمعة فنٌّ، كذلك طريقة استماع الحاضرين للخطبة فنٌّ آخر.
ويرتبط هذا الفنّ بالأحكام والآداب الشرعية المتعلقة بالحضور، وحتى تؤتي الخطبة أُكُلَها وتؤدي دورها ويكون لها أثرها لا بد من تكامل طرفَيْ المعادلة (الخطيب والمستمع) في الوصول إلى الأهداف الموضوعة للخطبة. وكثيراً ما يتم توجيه النقد إلى الخطيب باعتباره الجانب الأهم في المعادلة، بينما يتم إغفال الدور الهام للمستمع، حتى ظنَّ بعض الناس أن على الخطيب إمتاع المستمع، وتشنيف آذانه بما لم يسمع به من قبل، بل أن يعطي أكثر مما يستطيع، كأنه ليس ابن مجتمعه ويسري عليه ما يسري على المستمع من عوامل البيئة الاجتماعية وقد تمَّ تكوين تفكيرهما بنفس الطريقة. إلا أن الخطيب له رسالة عليه أن يؤدِّيها تختلف عن رسالة المستمع.
ونلاحظ أن الآيات والأحاديث الواردة المتعلقة بخطبة الجمعة موجّهة ـ في الغالب ـ إلى الجمهور الحاضرين، باعتبارهم الجهة الأكثر عدداً في طبيعة الحال.
إن للخطاب القرآني والتوجيه النبوي أهدافاً شرعية وحِكماً متوخاة من خلال أحكام وآداب الجمعة المستنبطة؛ كالأمر بالسعي وترك البيع ووجوب الإنصات، تُخرجها عن الصورة الشكلية التي اعتادها الناس إلى حقيقة أهداف هذه الأحكام بالتفاعل الحقيقي مع خطبة الجمعة تعلُّماً وفهماً وتعليماً وتطبيقاً.
وقد يكون للخطيب دور فيما يظهر من الخلل في إقصاء الخطبة عن دورها، إلا أن للمستمع دوراً في ذلك لا يقل أهمية عن دور الخطيب.
ونظراً إلى أن المستمع لا يقيم لخطبة الجمعة تلك الأهمية المطلوبة ويجهل دوره فيها فإنه يتحمّل المسؤولية في بعض مظاهر الخلل، فترى البعض يجعل وقتها فرصة للاسترخاء أو النوم، أو يجعل أكبر همّه إحصاء أخطاء الخطيب؛ للحديث عنها بعد الانتشار في الأرض، وترى آخرين يصدرون حُكْماً مسبقاً على الخطبة بناء على معرفتهم بتوجّهات الخطيب أو أدائه السابق فلا يجدون فائدة في حكمة يتلقّونها أو فكرة يستمعون لها وإن كانت جديدة عليهم.
- معيار نجاح خطبة الجمعة:
معيار نجاح الخطبة هو أداء العبادة على وجهها الصحيح. ولأدائها على وجهها الصحيح لا بد من تحقيق أهدافها، وأهمها: ما تتركه من أثر في حياة المجتمع من زيادة علم أو تجديد فكر أو أمر عملي؛ كإحياء سُنَّة أو إحداث توبة أو تغيير في جانب من جوانب الحياة، وبمقدار تحقيق أهدافها يكون نجاحها. وأما حسن أداء الخطيب واستمتاع الحضور بالخطبة فهو من عوامل نجاح الخطبة لا من معياره. وفن استماع الخطبة يحيط بعمل المستمع قبل التوجُّه إلى الجمعة وأثناء حضوره وبعد خروجه وانتشاره في الأرض، كما يشمل الجانب الجسدي للإنسان والنفسي والفكري:
- ففي الجانب الجسدي يستعدُّ المستمع للخطبة بأمور عدّة، منها:
أولاً: أخذ قسط معتدل من النوم ليلة الجمعة؛ حتى لا يغلبه النعاس أثناء الخطبة، وذلك باتخاذ الأسباب المؤدية إلى ذلك؛ كالنوم المبكر وترك السهر ـ الذي اعتاده الناس اليوم ـ فقد ورد النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام ـ وهو عبادة ـ فكيف بمن يفعل محرَّماً أو مكروهاً، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (1) .
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ: (والحكمة في النهي عنه أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة.. فاستحبّ الفطر فيه، فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة، وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة) (2) .
ثانياً: الاعتدال في الطعام والشراب؛ فلا يخصص يوم الجمعة بصيام، ولا يثقل معدته قبلها بأنواع الطعام، ويجعل وقتاً بين تناول الطعام ورواحه إلى الصلاة، ويجعل للطعام بعد الصلاة نصيباً؛ فعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاءَ في مزرعة لها سِلْقاً، فكانت إذا كان يوم جمعة تنزع أصول السِّلْق فتجعله في قِدْر، ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها، فتكون أصول السِّلْق عَرْقَهُ، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلِّم عليها، فتقرِّب ذلك الطعام إلينا فنلْعَقُه، وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك» . وقال في رواية أخرى في البخاري: «ما كنا نقيل، ولا نتغذى إلا بعد الجمعة» (3) .
قال الحافظ ابن حجر: (فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيّؤ للجمعة ثم بالصلاة، وينصرفون فيتداركون ذلك) (4) .
ثالثاً: العمل بالسنن الواردة؛ كالغسل ـ وهو من آكد السّنن ـ والطيب، والسواك، ولبس الحسن من الثياب المناسب لطبيعة المكان ودرجة الحرارة، فإنها أمور مساعدة على الاستيعاب وتفتّح الذهن وحُسن الاستماع وعدم الانشغال عن الخطبة، وتمنع النعاس أو النوم؛ فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: «أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستنّ، وأن يمسّ طيباً إن وجد» (5) .
وعن عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ عند أبي داود وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما على أحدكم إن وجد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» (6) ، وبوّب البخاري (باب: يلبس أحسن ما يجد) (7) .
رابعاً: عدم التشاغل قبل الجمعة بأمور الدنيا التي تشغل الفكر؛ كالبيع والشراء وأنواع العقود واللهو، وقد جاء النهي عن البيع بعد النداء ويلحق به أنواع العقود، ولعل الأذان الذي يسبق أذان الجمعة في السوق للتذكير بهذا الأمر. كما جاء الأمر بالتبكير إلى الجمعة، والانشغال بأمور الآخرة؛ كقراءة سورة الكهف والصلاة قبلها تطوّعاً، قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] . وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «يحرم البيع حينئذ» . وقال عطاء: (تحرم الصناعات كلها) (8) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشاً أَقْرَن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (1) .
خامساً: اختيار المكان المناسب في المسجد بحيث يدنو من الإمام، ولا يستند إلى سواري المسجد وجدرانه إلا لعذر؛ ليكون شديد الانتباه متيقظاً مشدوداً لكلام الخطيب، وعليه أن لا يتخطى الرّقاب فيشغل غيره ويؤذيه، ولا يقيم أحداً ليجلس مكانه، ولا يجلس مقابلاً بوجهه الناس فينشغل بالاهتمام بهم ويشغلهم؛ فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحوّل من مجلسه ذلك» (2) .
وعن أوس بن أوس الثقفي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثمّ بكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغُ، كان له بكل خطوة عمل سَنَة أجر صيامها وقيامها» (3) .
ولقوله -صلى الله عليه وسلم- للذي جاء يتخطّى رقاب الناس يوم الجمعة: «اجلس فقد آذيت وآنيت» (4) .
ـ آداب أثناء الخطبة:
أولاً: ينصت للخطبة ولا يلغو بالكلام مع غيره أو حتى بالإشارة؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصتْ، يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت» (5) .
ثانياً: يتوجّه بوجهه إلى الخطيب؛ فإنه أدعى للاستيعاب والفهم؛ لاشتراك أكثر من حاسّة في الإصغاء.
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا» (6) .
ثالثاً: يجلس المستمع بشكل مناسب فلا يضطجع أو يحتبي أو يمدّ رجليه إلا لعذر، فقد ورد النهي عن الاحتباء يوم الجمعة؛ فعن سهل بن معاذ ـ رضي الله عنهما ـ عن أبيه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب» (7) .
رابعاً: لا يتلهى عن الخطبة بما حوله؛ كالعبث بالأشياء مثل: الحصى والملابس والأظافر وفرقعة الأصابع؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا» (8) .
ـ وأما بعد الخطبة:
أولاً: الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله لتتحول المعاني إلى تطبيق ـ {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]ـ إتماماً للعبودية لله.
ثانياً: الإكثار من ذكر الله والصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتحرّي ساعة الإجابة؛ حتى يبقى المنصرف من الصلاة على صلة بما أفاد من خطبة الجمعة.
- وفي الجانب النفسي:
أولاً: تعظيم شأن الخطبة في نفسه؛ فهي أمر من أوامر الله، وعدم الاستخفاف بها أو التهوين من دورها في حياته، تبعاً لواقع معين عند الناس ألفوه، حتى تتحول من عادة إلى عبادة.
ثانياً: بذل الجهد للاهتمام بها بما يستطيع؛ بالتعاون مع الناس والخطيب والحثّ على حضورها وإظهار أهميتها، وتعلّم وتعليم أحكامها، وتهيئة الظروف في البيوت لهذا الحدث؛ ليظهر له هيبة في بيئته الإسلامية.
ثالثاً: عدم إصدار حكم مسبق على الخطبة بفشلها من خلال تصور مسبق أو معلومة عن توجّهات الخطيب الفكرية أو العلمية.
رابعاً: أن لا يوجّه اهتمامه إلى جانب معين يخصّه في الخطبة دون الجوانب الأخرى؛ لتحقيق غاياته النفسية، أو تغطية لنقص معين في علمه، فإن كان يعاني من مشكلة اجتماعية أو كان على خلاف مع أحد ـ كالجارّ ونحوه ـ فلا يتصور أن الخطيب سيطرح مشكلته دون غيرها، حتى إذا لم يجد اهتمامه أعرض عن الخطبة وقلّل من شأن ما يطرحه الخطيب وإن كان مفيداً لغيره.
خامساً: عدم التقليل من دوره في إنجاح الخطبة، أو التقليل من شأن الخطيب وإن كان أقل منه علماً، بل يجعل من نفسه قدوة للآخرين.
سادساً: إغفال أيّ علاقة سلبية بالخطيب، كونه يخالفه في بعض الفروع أو التوجهات الاجتهادية أو الفكرية؛ لأن هذا من شأنه حرمانه من الفائدة.
سابعاً: أن يكون تقييمه المباشر للخطبة موضوعياً وبنّاءً لا سلبياً؛ كأن يتلقط الهفوات، ويتسقط الزلات.
- أما في الجانب الفكري:
أولاً: استقبال الأفكار بتمعّن وإيجابية وإنزالها على الواقع، فإذا سمع الآيات القرآنية والأحاديث وهو يحفظها أو يسمعها دائماً فلا يعرض عن الإصغاء لها والتفكّر في معانيها، فإنه سيجد فيها معاني لا تنضب.
ثانياً: اتهام نفسه بالتقصير؛ لتدارك أخطائه، فإن من الملاحظ أن بعض المستمعين إذا سمع توجيهاً في نقص معين قال في نفسه: هذا فلان يفعل وفلان.. ويبرِّئ نفسه من التقصير.
ثالثاً: محاولة التركيز على المفاهيم والمعاني المطروحة وفهم مقاصد الخطيب حتى وإن كان الأسلوب ـ أحياناً ـ ضعيفاً، ولا يجعل خطأ الخطيب في الأسلوب أو طول خطبته مانعاً من الفهم.
رابعاً: نقل مضمون الخطبة إلى غيره ممن حضر في مسجد آخر، وللنساء في البيوت، وكذا أهل الأعذار، أو تسجيل الخطبة وتداولها؛ لتعميم الفائدة.
خامساً: مناقشة الخطبة مع بعض من حضر؛ للاستفادة منها، والبحث عن كيفية التطبيق العملي للخطبة، وإبراز الإيجابيات والتناصح مع الخطيب في شأن السلبيات.
وأخيراً: فإن خطبة الجمعة أمرُها جِدّ وليس بالهزل، وهي وسيلة تغيير وتجديد، وهي من عوامل حياة هذه الأمة، فالاهتمام بها من الخطيب والحضور جزء من إحياء الأمة ومن ثم واجب على المكلف بأدائها.
__________
(*) ماجستير في الفقه وأصوله.
(1) أخرجه مسلم، كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً (3/154) .
(2) شرح صحيح مسلم (8/19) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: قوله ـ تعالى ـ: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] .
(4) فتح الباري (2/427) .
(5) أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: الطيب للجمعة (1/880) .
(6) أخرجه أبو داود (1/282) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5635) .
(7) أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة (7) .
(8) أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: المشي إلى الجمعة (18) .
(1) أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: فضل الجمعة (4/881) .
(2) أخرجه أبو داود (1/292) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (809) .
(3) أخرجه أبو داود (1/95) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6405) .
(4) أخرجه أبو داود (1/292) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (155) .
(5) أخرجه مسلم، باب: في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة (3/504) .
(6) أخرجه الترمذي (2/383) وضعّفه. ووافقه الألباني في مشكاة المصابيح (1414) .
وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم يستحبون استقبال الإمام إذا خطب. وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله جميعاً.
(7) أخرجه الترمذي (2/390) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6876) .
وقال الترمذي: وقد كره قوم من أهل العلم الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب، ورخص في ذلك بعضهم، منهم: عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وغيره. وبه يقول أحمد وإسحاق: لا يريان بالحبوة والإمام يخطب بأساً.
(8) أخرجه مسلم، كتاب: الجمعة، باب: فضل من استمع وأنصت للخطبة (3/8) .(234/19)
وباء التثاؤب مهلاً ...
أ. سارة بنت عبد الرحمن السويعد
هل أنتما موبوآن بالتثاؤب؟
من البداهة عقلاً أن النشيط المشغول ذهنياً وجسدياًَ قلّ أن يتثاءب؛ بل هو في حركة دؤوب للبحث عما يريد؛ فما ظنك حينما تُسأل هذا السؤال: هل أنت موبوء بالتثاؤب؟!
وباء غريب؛ أليس كذلك؟ لربما الكثيرون منا يتلذذون بالتثاؤب، خاصة عند نداء أجسادهم للنوم!
ولكن ما أعني هنا ليست اللذة هذه؛ باستحسان واستدامة التثاؤب بلا عمل إيجابي مفيد.
إن التثاؤب داءٌ يكشفُ عن شخصيةٍ كسولة تركنُ إلى جدث الأحلام، حتى جمالُ الطبيعة لا يشُدها للتسبيح!
واهاً لهذا الحال؟!
وحين نستنكر وجود أشخاص متثائبين؛ رغم حاجتنا لليقظة والإشادة، ومتابعة المستجدات بوعي وإدارك وطرح للتجديد ونقض للمغالطات، نجدُ القليل ممن يُلزم نفسه باليقظةِ وإغلاق الفم منعاً للتثاؤب..
فما بالنا متثائبين؟!
أفواهٌ متثائبة من هنا وهناك.. ما السبب يا تُرى؟!
لا أخفيكم؛ بِتُّ ليالي أبحث عن الأسباب..
في السياسة وأنظمة الحكومات نُشاهد المتثائبين!
في الاقتصاد وإدارة المال نُدرك أن ثمة متثائبون!
في الطموحات والمطالبات ينام المتثائبُون عن التنفيذ!
حتى في المنزل التثاؤب فنٌ مطبق ودرسٌ يومي، وتجربةُ فيزيائية تُجرِيهَا الأُسر مع أبنائها.. لا تسألوني كيف ذلك؟!
لأنني وإياكم سوف نصاب بالذهول لضعف مستوى التقدم المنبعث من الأسر؛ الزوج والزوجة والأبناء، الكل متثابؤون!
ولأننا متَّهمون بالتخمة في البلاد العربية تجد الأفواه المفتوحة في كل مكان.. بكل أسف!!
وبرغم سعي مراكز التخسيس واللياقة البدنية في طرح الحلول التي ربما تُنقذ الأفراد من التخمة المزعجة، لا نزال نعاني من هوس التثاؤب!
ومن المهم حقاً أن نبحث عن سبب تثاؤب الشعوب المسلمة في واقعٍ هم أفراده.
مهلاً أيُّها القُراء! أمسيت بِالهمِّ ليالي وأنا أبحث عن أسباب وباء التثاؤب.
أيُّها الرجل: هل أنت بحق متثائب؟!
أيتها المرأة: هل أنت بحق متثائبة؟!
أرجوكما! أجيبا بلا تأخير.
هيا انفضَا عنكما غبار الكسل والرضا بالواقع المتقلب! يكفيكما الخمول والرتابة والعشوائية.
يكفيكما التخبط والبعثرة حيال متطلبات دينكما ودنياكما.
المصائب سُنَّة الله في كونه، والأحداث المؤلمة تمحيص للعباد واقعهم، والتثاؤب حينها شعور بالاستسلام السقيم.. أتدرون لِمَ؟
لأن شعورنا بالتثاؤب وعدم جدوى أهمية التغيير هي النتيجة دائماً، بَيْدَ أن الكثيرين منا أوكلوا المهمة للذين رضوا بأن نكون مع الخوالف بكل ارتجالية؛ ليغيّروا منهج تثاؤبهم، ولن يفلحوا أبداً.
إن عالماً موبوءاً بالتثاؤب تجاه كل المستجدات نرتع في أحضانه بائسين لا مفر لنا إلا فتح الأفواه أداءً للتثاؤب.
مواجهة هذا العالم وفق هيئة مبتغاة صعبٌ، مع العلم أن البلهاء المتثائبين هم الأقوى..
عجباً! هم الأقوى؛ كيف؟!
سياسة البلاهة والتثاؤب سياسة أجادها الكثيرون وفرضوها؛ لإخماد جذوة الخيرية والفطرة السليمة في النفوس المسلمة في كل اتجاه.
وحياة الرتابة والتثاؤب مملة؛ بل قاتلة حين يظل طلب النفيس مفقوداً وحين يعيش كل واحد منا كالهمج الرعاع، يكفيه من الدنيا ملبس ومطعم.
أعتقد أننا قسمان تجاه مغالطات الواقع: قسم ابتلاه الله بهَمِّ وسقم، فهو في فلكهما ليس له من الإحساس والتفاعل بالواقع شيء؛ وهذا لا يُعذر أبداً..
وقسم لا يؤمن بالتجديد، ويُوكِل المهمة لغيره؛ وإن كان أسوأ سريرة؛ وهم كثر والله المستعان.
وحتى نرقى بواقعنا ونرسم مستقبلنا لا بد من طرح الأفكار والمطالبة بالتجديد بصوت مسموع وقلم مسنون، ليس لشنِّ حرب؛ بل لطرح فكرة وتوضيح هدف.
لفتة:
عن عبد الرحمن بن سمره قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في صفّة المدينة فقال: «إني رأيت البارحة عجباً! رأيت رجلاً من أمتي هوى في النار، فجاءته دموعه التي بكى بها في الدنيا من خشية الله؛ فأخرجته من النار!» .
قلت: خشيةٌ تتبعها دمعات نفعت صاحبها! فكيف لو كان متثائباً؟ هل سينفعه تثاؤبه وينقذه؟ ما أبأس المتثائبين!
- حتى ندفع التثاؤب:
عدة نقاط، تطبيقها مهم جداً يا أنتما:
1 ـ نحن متثائبون أحياناً، وغيرنا يدعو للتثاؤب، وبيديه يستحث الفم على التثاؤب بطريقته الخاصة!
2 ـ الوعي الإنساني في ترسيخ مصداقية تطوير الذات ودفعها نحو الطرح الفعلي لا المفتعل؛ مهمٌ للغاية.
3 ـ زيادة مستوى التثاؤب دليل على الأمن والسلامة، وهذا لا يصح أبداً. قال ـ جل وعلا ـ: «وعزتي! لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين؛ إن أَمِنَنِي في الدنيا أخفته في الآخرة» .
4 ـ تقبُّل الواقع بكل تراكماته ومغالطاته مُلزم للتثاؤب اللاشعوري أيضاً، وانعدام الاستراتيجية الدقيقة في مكاشفة أسباب التثاؤب خطرٌ!
5 ـ حين تزداد بواعث التثاؤب وتستجيب الأركان للخمول؛ حينها، حتماً، لا بد أن سيكون قلبك نائماً ولن يستيقظ أبداً.. والويل له!
6 ـ التثاؤب وباء، وبه يفقد المرء الإحساس إلا بفتح فمه بشراهة، فإياك أن تفقد الإحساس إلا بذلك!
7 ـ الرؤية الأُحادية في دفع التثاؤب في نطاق الأسرة الصغير مؤشر خطير، وكل مسؤول محاسب.
8 ـ التهور والعمق الأحمق في التثاؤب نتائجه وخيمة ومخرجاته بئيسة، والتعامل الخشن في قمع التثاؤب سبب رئيس في الأذيَّة.. وأنت خصم نفسك.
9 ـ إن كان لا بد من التثاؤب فحدِّد أوقات تثاؤبك، وانتبه أن يكون وقتك كله وفوك مفتوح.
10 ـ زماننا هذا حاجته قوية في نبذ التثاؤب وإغلاق الأفواه ولو بالأيدي كلها، أقول: بالأيدي كلها؛ لأن ذلك يدل على أن الجسد كله يقاوم ويدافع هذا التثاؤب.
11 ـ الرعيل الأول كانوا أشد حرصاً على النشاط ونبذ التثاؤب. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لربيعة بن كعب: «سلني!» فما وجد أنفس من: «أسألك مرافقتك بالجنة» ، فقال له: «فأعِنِّي على نفسك بكثرة السجود» رواه مسلم.
12 ـ ندب الحظ والتولول على النفس طريقة قديمة يتقنها المتثائبون بكل احتراف. فلا بد إذن من صياغة النفس لمقاومة التثاؤب ودمغه، أو الشعور به.
13 ـ أعتقد أن المتثائبين قد استعذبوا الأذى حين يكون أداءهم للتثاؤب تلقائية في كل اللحظات. فتخيُّلُ أفواه الناس مفتوحة كلَّ دقيقة حدث مؤسف مشمئز، وحينها بلهجتنا المحلية: «الله يخلف» .
14 ـ الشفافية ومراجعة النفس ومتابعة التطورات في الحياة جهدٌ مهمٌ، لا بد أن ينال فاعله عظيم المثوبة.
15 ـ اجعل قلبك دائم الثأر من عدوه ومَنْ يستحثُّه على التثاؤب، اخلق في جوفك نداء اليقظة والنشاط ولا تتنازل عن تثبيت دعائمه، وإياك أن تُبقي خزانة أعمالك وإنجازاتك فارغة!
16 ـ قوِّ صلتك بالله، واستعن على كلب الغنم بسيدها {وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
[فصلت: 36]
17 ـ العزيمة الصادقة والإرادة الناقدة قيد للخواطر، ثمرتُها روعةُ الإنجازات، وهنا فقط يموت التثاؤب.
18 ـ حذاري أن يكون بيننا من هو مهزوم أمام نداء تثاؤبه، ينقاد للأداء به انقياد الشاة للذئب! فإن كنت كذلك فواهاً لك!
19 ـ إياك أن تكون خارج السيطرة على نفسك! فالتحدي كبير وليس سهلاً أيها الفطن. وامتلاك الحكمة في دفع التثاؤب دليلٌ على النجابة والنبوغ والإقدام.
20 ـ ثِقْ أن الشيطان يضحك ويبول فيمن يتثاءب بين يدي الله «ذاك بَالَ الشيطان في فمه» .
21 ـ أصحاب العزم الفتِيِّ والقلوب السبّاقة هم أَنْفَس من في الوجود، وهم الأقرب لله ـ جل وعلا ـ والناجون من التثاؤب. قال -صلى الله عليه وسلم-: «من أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءه» رواه الشيخان.
22 ـ قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لا يغرّنَّك قول: «يُحشر المرء مع من أحب» فإن اليهود والنصارى يحِبّون أنبياءهم وليسوا معهم» . هذا نداء لجوارك؛ فهل تفهمه؟!
23 ـ لكل نفس آلية خاصة لإدارة ذاتها؛ فابحث لنفسك عن آلية تجابه تثاؤبك. وبإدارتك لنفسك تكون قادراً على تخطي كثير من الآثار المبدئية لقمع التثاؤب، وهنيئاً لك!
24 ـ لم تتبنَّ مدارسنا وجامعاتنا ومستشفياتنا ودوائرنا الحكومية والأهلية دراسة هذا الوباء وكيفية القضاء النهائي عليه؛ لذا أجد أن النفس هي المؤملة في ذلك واللهِ، ولا تتوقع أن تشاطرك المؤسسات المالية مسؤولية دفع التثاؤب؛ فالمسؤول فقط (نفسك) و (عقلك) و (قلبك) و (مشاعرك) فقط.
25 ـ أورد ابن تيمية ـ رحمه الله ـ دعاءً عن موسى ـ عليه السلام ـ: «اللهم لك الحمد، إليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التُّكلان» ردده دائماً، وأَقْبِل متفائلاً بالإنجاز والسموِّ ومرضاة الله تعالى.
26 ـ قال قتادة ـ رضي الله عنه ـ: «إن الله يسأل كل عبد عمّا استودعه من نِعَمِهِ وحقه» فارعَ نعمَ الله، وعالج تثاؤبك!
27 ـ متى يستيقظ قلبك ويبدأ مشوار البذل لا التثاؤب؟ {وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
[فصلت: 35]
28 ـ نحن من نصنع المستقبل، ونحن من نرضى بتخبط الواقع؛ فهل ترضى أن تكون متثائباً بعد هذا؟ حينها ـ معذرة ـ سأقول بملء فمي:
عجباً لك!
عجباً لعبوديتك لله!
عجباً لقلبك الذي لم يُسقَ الحب والولاء لله!
وهل تستعد بعد هذا للمقاومة ودمغ التثاؤب بالقوة؟
ختاماً:
مضمون هذه الكلمات يفهمها اللبيبان الأريبان؛ فهل
__________
(*) معلمة علوم شرعية، وكاتبة في موقع: لها أون لاين.(234/20)
باسم رب الغلام
د. يوسف بن صالح الصغير
لا يمكن لأيِّ إنسان أن يمنع نفسه من التفاعل مع محيطه الذي اتّسع مع ثورة الاتصالات ليشمل الكون؛ فلا بد له من التأثر والتأثير. ولم يعد بمقدور الإنسان التفاعل مع كل مفردات المحيط؛ فاختصت كل فئة بمؤثر؛ فمن يتابع الفنَّ والرياضة أغرق نفسه بالكمِّ الهائل من الأحداث والمناسبات والرموز المحلية والعالمية، وملكت قيادَه القنواتُ المرئية والمسموعة والمطبوعات المتخصصة، ولا يعدم أحدهم أن يجد له رمزاً ومثلاً أعلى يشدّ الرحال إليه، ويسعد بالنظر إليه، ويطير فرحاً لو وقَّع له على كرة أو ورقة، كل هذا مع كون الرمز لا يبادله الشعور، ولا يتفق معه، بل غالباً يخالفه في المعتقد واللسان والجنس؛ فكم من الناس مات إثر هزيمة فريق، أو موت مطرب! وكم من الناس لا يمدّ يده بمال إلا لدعم فريق رياضي، أو لسدِّ خلة لمطربة عجوز! إنها مظاهر تدلُّ على حالة من التعطش للبحث عن الذات، وإرضاء النفس بالانتماء.
إننا أمة يوجد فيها من يُعجب بـ (مايكل جاكسون) و (ريفيلينو) لإبداع يراه مع شدة الاختلاف الثقافي والديني، فلا غرابة ـ إذاً ـ أن نجد أن كثيراً من الأمة يتخذ موقفه من (أحمدي نجاد) بناءً على تصريحات حول المحرقة اليهودية المزعومة، ويمجّد (حسن نصر الله) ويرفع صوره لمعركة خاضها مع اليهود نحن فيها ضمن الغنائم والأسلاب وضحية لكل منتصر؛ فلا ننسى أن تحالفهم يكون علينا، واختلافهم من أجلنا.
ولأن الأمة متعطشة للرموز؛ فهي تبحث عن كل من يمكن أن يكون رمزاً لها، بل وتتبنَّى كل من يستهدفه العدو؛ باعتباره رمزاً لها، وعلى هذا الأساس تفاعلت الأمة مع محاكمة ومن ثمَّ تصفية أو اغتيال أو إعدام الرئيس السابق (صدام حسين) ، وسأحاول في هذه العجالة فَهْم دوافع الأمة الفطرية لترميز (صدام حسين) .
إذا كانت حياة صدام مليئة بالمواقف والأحداث؛ فإن مرحلة حكمه تميزت باختزال العراق وحزب البعث بشخص (صدام حسين) ؛ فهو الذي قرَّر بالتنسيق مع الغرب محاربة إيران (الخميني) ، وهو الذي قرَّر بضوء أخضر من أمريكا دخول الكويت، وهو الذي قرَّر إعادة هيكلة الحزب، وأطلق ما يسمى بـ (الحملة الإيمانية) وفرض على البعثيين حفظ آيات وأحاديث، وهو الذي أضاف (الله أكبر) للعلم العراقي، وهو الذي أصرَّ على تصفية قيادات الحزب من الشيعة الذين خططوا لانقلاب بالتنسيق مع الأسد، وهو الذي أعدم كلَّ من تمرد على سلطته، ولم يتسامح حتى مع أزواج بناته.
والسؤال المهم: أنَّ البلد تعرَّض لغزو خارجي، تدعمه قوى إقليمية وداخلية، اتفقت على تحطيم العراق القديم، وبناء عراق جديد، يمثِّل فيه السُّنّة دور الهنود الحُمر، وتمَّ تسريح الجيش والأمن، وفُصل الموظفون السُّنّة بدعوى اجتثاث البعث، ومن بقيَ تكفّلت به فِرَق الاختطاف والتصفية شبه الرسمية، وتدمير مدن الفلوجة، وتلعفر، وعمليات الحصار، والتفتيش، والاعتقال، والتصفية المستمرة في المناطق السُّنّية، كل هذا والخبر الأول غالباً هو عن جلسات محاكمة صدام ورفاقه، والتهمة هي إعدام مجموعة من الشيعة الأكراد في الدجيل، اتهموا بمحاولة اغتيال رئيس الدولة لحساب إيران.
ويمكن وصف المحكمة أنها أمريكية؛ فهو في سجنهم وعهدتهم، ولكن القاضي فيها كردي، والادِّعاء شيعي، أما الدفاع فسُّنّة؛ تَعَرض بعضهم للاغتيال أثناء المحاكمة، وفي كل يوم يقتل الحكام الجدد أكثر ممن نُصبت المحاكمة من أجله، وكان عنوان العدالة الوحيد هو طول المحاكمة، ومجيء وزير العدل الأمريكي السابق ليمثل دور الدفاع عن صدام، وبين ذلك تعرّض صدام للطرد والضرب ومحاولة الإذلال بنشر صورة في زنزانته وهو بملابسه الداخلية يغسل ملابسه بنفسه، وباختصار كانت المحاكمة تمثِّل صورة مصغرة للعراق؛ السجّانُ فيها أمريكي، والسجين فيها سُنّي، والأدوات أكراد وشيعة، أما السُّنّة فهم يمثلون الدفاع الصوري؛ سواء في قاعة المحكمة أو في البرلمان والحكومة.
وأخيراً: صدر الحكم المسبق بإعدام صدام مع الحديث المحموم عن الخطة الأمنية الجديدة، وبتسارع عجيب بدأت مسرحية الإعدام من تسريب الاحتمال إلى نبأ التنفيذ، في مسرحية غابت عنها الدولة المزعومة، فلم يوقِّع الرئيس، ولا نائبه، ولم يتم التنفيذ على يد أجهزة الدولة، لقد تفرّد الشيعة بالتوقيع والحضور والتنفيذ، وكان الدور الأمريكي تسليم الضحية، واستلام الجثة.
لقد ضُحِّي به في صباح عيد الأضحى، وكانت مشاهد الإعدام التي سُرِّبت تكشف أنه لم يُقتل من أجل الدجيل؛ فالقتلة كانوا يردِّدون اسم (محمد باقر الصدر) ، وكان هو يردِّد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، وكان كاشفاً وجهه وهم مقنَّعون، وبينما أحضر معه مصحفه أحضروا معهم الكاميرات، لقد فهم السُّنّة أنها رسالة لهم تبين ملامح الخطة الأمنية التي يبدو أنها ستكون تكراراً لمسرحية صباح يوم العيد، لقد أرادوا احتقار السُّنّة وتخويفهم، وأراد الله إفهامهم واستنهاضهم، وبغض النظر عن تقويم صدام والحكم عليه، لكنني لا أكتمكم أنني لما رأيت مشاهد الإعدام تذكرت (باسم ربِّ الغلام) .
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(234/21)
235 - ربيع الأول - 1428 هـ
(السنة: 22)(235/)
حقوق الإنسان والكيل بمكيالين
كرَّم الله الإنسان وشرَّع له حقوقاً كبرى، منها: حق الحياة والحرية والمساواة والعدالة، قبل ما يسمى بحقوق الإنسان التي صدرت عام 1948م، وسبقها الإسلام بأربعة عشر قرناً؛ حينما أنزل الله تلك الحقوق في القرآن والسنة، وكانت محل إعجاب كل المنصفين حتى من الغربيين أنفسهم.
ومع مطالبة الغرب بتلك الحقوق وأهمية تطبيقها أصبح يكيل بمكيالين، متساهلاً بتلك الحقوق؛ فالمسلمون يتعرضون لمآسٍ ونكبات، وبخاصة في فلسطين والبوسنة والعراق وأفغانستان، وتجري المذابح لمجرد الظن والشكوك والأوهام، ولا يسمحون لأحد أن يسائلهم: لماذا قامت تلك الحروب؛ وما مدى صحتها؟ فأين حقوق الإنسان التي تداس بالأقدام دون أي سبب وجيه؟!
ومما يؤسف له أن تقوم بعض المنظمات الحقوقية الدولية بشن تهجمات رعناء استنكاراً لتطبيق الحدود الشرعية، مثل القصاص؛ بدعوى أن هذه العقوبة غير إنسانية! ويدعون بكل صفاقة إلى تعطيلها في السعودية ـ على سبيل المثال ـ غير آبهين بالجرائم التي يقوم بها أولئك المجرمون؛ من قتل وإخافة وترويع، وكأنه ليس للمغدورين أدنى حقوق. وسمعنا الاستفتاء على تعطيل هذه العقوبة والدعوة إلى إلغائها من إذاعة لندن، الذي شارك فيه بعض الجهلة والسُذَّج من المسلمين، مؤيدين الدعوة كذلك. ويأبى الله إلا أن تنفضح العدالة الغربية؛ إذ تزامن مع هجومهم على الحدود الشرعية، بزعم أنها غير إنسانية، أن أذاع التلفاز الصهيوني برنامجاً وثائقياً يعترف فيه الصهاينة بقتل 250 أسيراً مصرياً وفلسطينياً على يد فرقة صهيونية في حرب 1967م؛ بقيادة السفاح الصهيوني (بنيامين بن إليعيزر) الذي تولى وزارة الدفاع الصهيوني سابقاً. وكان المذكور يُعِدُّ لزيارة مصر غير أنه أحجم عن ذلك بعد تحذيره من القبض عليه في مصر ومحاكمته؛ فألغى الزيارة، وهذا اعتراف منه بالجريمة، وإن أنكرها؛ فقد أكدها المؤرخ الصهيوني (أوري ملشتاين) في كتاب موثِّق للحادثة عام 1994م، والتي أكدها البرنامج الوثائقي آنف الذكر؛ فهل تجرؤ تلك المنظمات الدولية المزعومة أمثال (هيومن رايتس ووتش) و (إمنسي إنترناشيونال) على تجريم الصهاينة في حروبهم المتوالية منذ عام 1948م إلى الآن؟ هل يجرؤون على طلب إيقاف أولئك المجرمين السفاحين ومحاكمتهم؟ أم أنهم سيلجؤون إلى أعذار معروفة سلفاً؛ كسقوط الدعوى بالتقادم مثلاً، أو بدعوى الحرب على الإرهاب؟!
إن حقوق الإنسان أصبحت خرافة؛ لأنها دائماً ما تكون لصالح ذوي الدماء الزرقاء من الغربيين وإخوانهم الصهاينة. أما إن كانت الدعاوى ضد المسلمين ودول العالم الثالث فإنها ستقام المحاكم، وسيتم القبض على المتهمين بالقوة؛ بدعوى تطبيق حقوق الإنسان، ومخالفة الأنظمة الدولية المرعيّة في السلم والحرب، كما يلمحون في محاكمات دارفور بالسودان.
العجيب أن آخر الأخبار تؤكد أن محكمة الاستئناف الأمريكية أيَّدت قانوناً رئاسياً جديداً يرفض حق سجناء غوانتنامو في الاعتراض على قرارات احتجازهم! هذه هي الديمقراطية التي يطالب بها المغفلون! إنها تمثّل وصمة عار ليس على الحضارة الغربية فقط؛ وإنما على الإنسانية جمعاء؛ فإلى الله المشتكى!(235/1)
رسالة إلى الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي شرفنا الله ـ تعالى ـ فجعلنا من أمته، وبعد:
فمنذ عدة سنوات ازداد زخم التعدي على الإسلام ورموزه وثوابته؛ فقد علم المسلمون بالهجوم الذي يشنه كثير من القادة: الساسة والمفكرين في العالم الغربي على الإسلام ووصفه بصفات جائرة غير حقيقية وغير لائقة، ثم مشاركة العسكريين بالعدوان على بلاد المسلمين، ثم العدوان على المصحف وهو كلام رب العالمين، ثم السخرية من رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم -. وانتشر ذلك وشاع في العديد من الصحف والمجلات حتى وصل الأمر أن يتطاول كبير النصارى علناً على الإسلام وعلى الرسول الكريم في سابقة غير معهودة في العصر الحديث. وقد قامت الشعوب المسلمة بجهود في التصدي لذلك العدوان ما بين مقاطعات اقتصادية، ومؤتمرات دولية تعلن مناصرتها للإسلام والقرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - والانحياز إلى ذلك انحيازاً تاماً من غير استثناء أو تحفظ، وكل ذلك معلوم للقارئ، ولا جديد فيه، لكن الذي ينبغي أن نفكر فيه وأن نبحث له عن إجابة: ما الذي جرأهم على هذه النقلة في التعامل مع العالم الإسلامي، وإظهارهم للطعن في كل ما يعظمه المسلم ويفتديه بنفسه وماله وولده؟ إنه يهمنا بشكل كبير جداً أن تقف هذه الحملات الغربية الظالمة الجائرة على ديننا الحنيف، وما لم تكن لدينا القدرة على معرفة السبب الحقيقي الذي جرأهم على إظهار ما كانوا يخفونه، والعمل على تلافي ذلك السبب فلن نكون قادرين على وقف تعدياتهم.
ربما يقول البعض: إن السبب في ذلك هو كفرهم وضلالهم وكرههم للإسلام والمسلمين. لكن هذا ليس هو السبب؛ فإن كفرهم وضلالهم وعداوتهم للإسلام أمر قديم ليس بالجديد. وقد يقال: إن السبب راجع إلى تلك الفترات التي غلبت فيها جنودُ الرحمن جنودَ الشيطان واستطاعت أن تنتشل من بين براثن الكفر والضلال شعوباً ودولاً وتُدخِلها في رحمة الله بدخولها في الإسلام، لكن هذا أيضاً أمر قديم.
وقد يكون السبب في ذلك هو قدرة الإسلام على الانتشار في أوساط النصارى في الغرب؛ فهناك دراسات وإشارات واضحة إلى أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً، وخوف النصارى قادةً وساسةً ومفكرين أن يصير الإسلام قوة رئيسة في الغرب في القريب المنظور مما يُؤْذِن بانهيار الغرب النصراني، يجعلهم يسلكون هذا المسلك، وقد يكون هذا سبباً حقيقياً للقلق الذي ينتاب الغرب من ظاهرة الإقبال على الإسلام، ومحاولة الحد منه وفرض القوانين التي تضيِّق على المسلمين هناك؛ إلى جانب التعديات المتكررة من أفراد المجتمع النصراني الغربي، لكنه يبقى مع ذلك سبباً قاصراً عن تفسير انتشار ظاهرة التطاول والجرأة الشديدة التي بدأت تظهر بشكل يلفت الأنظار إليه؛ بحيث صار هذا من الأمور المتكررة وبأكثر من أسلوب وفي دول متعددة وفي مستويات متفاوتة من طبقات المجتمع.
ويتلفت المؤمن يميناً وشمالاً يبحث عن مخرج من هذا المأزق؛ فمنهم من يدعو للقيام بمسيرات سلمية، ومنهم من يطالب بسحب السفراء، ومنهم من يدعو إلى المقاطعة الاقتصادية، ومنهم من يطالب بالاعتذار، ومنهم من ينادي بتعميق الحوار، لكنَّ هناك خياراً مهمّاً أغفله أكثر الناس ولم يتطرقوا إليه.
إن من أعظم الأسباب التي جرأت اليهود والنصارى على إظهار التطاول على ديننا هو ذلكم الضعف الشديد والتخاذل الكبير ـ الناتج من ذلكم الضعف ـ الذي تصر جهات متعددة من الأمة على البقاء عليه والتمسك به بقوة في كثير من المواقف الفاصلة، ويبدو من ذلك واضحاً أن البحث عن مخرج من هذا المأزق مع إهمال التفكير في خيار امتلاك القوة الرادعة والبحث عنها وتملكها فعلاً ـ التي تكون سبباً في مهابة العدو المتربص، وإجباره على الاعتدال في مواقفه من هذا الدين ـ هو من قبيل إضاعة الأمانة.
إن العالم من حولنا بشتى دياناته وعقائده وإمكاناته يبحث عن القوة الرادعة التي تؤمِّن له حريته وقدرته على اتخاذ القرار والحفاظ على خصوصياته، وينفق في سبيلها كرائم الأموال ونفيسها، بل منهم من يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يحتكرها لنفسه ويمنع الآخرين من تملكها أو الوصول إلى أسرار صناعتها، حتى يظل متفرداً بالقدرة على مهاجمة الآخرين وإرهابهم، ومن ثم ابتزازهم.
إنه لا ينبغي لنا ـ معاشرَ المسلمين ـ ساسةً وقادةً وعلماءَ ومثقفين، أن يقتصر دورنا ـ في مواجهة الهجمة الصليبية ـ على البحث عما يسمونه (الحلول السلمية) التي تخفي في طياتها ضعفاً واستسلاماً للواقع الأليم؛ فإن هذا وحده لن يؤدي إلا إلى مزيد من التطاول والعنجهية والهمجية.
ولنا أن نتساءل بموضوعية: أكان عُبَّاد الأوثان ـ من الساسة والقادة والأحبار ـ قادرين على التطاول على ديننا لو علم هؤلاء أن للمسلمين قدرة على معاقبتهم وتأديبهم التأديب الموجع؟
إن المجتمع الدولي اليوم لم يعد يهتم بالضعفاء حتى ولو كانوا أصحاب حق، ولا يقيم لهم وزناً ولا يلتفت إلى أنينهم وعذاباتهم، وإذا كنا نريد تعظيم حرمات الإسلام حقاً وكف أيدي العابثين فلا مناص من الدعوة إلى امتلاك القوة الرادعة التي ترهب العدو، والعمل على ذلك، وهذا ما أمر الله ـ تعالى ـ به فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] ؛ فإن من الناس من لا يزيدهم العفو إلا طغياناً وكِبْراً، فإذا ظهرت قوة الحق رجعت إليهم عقولهم.
ولهذا قال الشاعر في هذا الصنف، وينسب لحسان ـ رضي الله عنه ـ:
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يُجَبْ وقد لان منه جانب وخطابُ
فلما دعا والسيفُ صَلْتٌ بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ولا شك أن تحصيل القوة الرادعة لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، وإنما هي في حاجة إلى إعداد جاد وطويل، بعيداً عن الاستعجال والتهور في اتخاذ المواقف التي قد تجر إلى كوارث، وبعيداً أيضاً عن الإهمال والتكاسل والتهاون الذي يجر إلى كوارث أشد.
إنه من غير الممكن الدعوة إلى شن حرب على تلك القوى المجرمة؛ فذلك فوق القدرات المتاحة، ولكن ينبغي الدعوة إلى العمل على امتلاك القوة الرادعة التي تعيد لهم صوابهم، وذلك أمر في الوسع والطاقة إذا صدقت النيات وتكاتفت الأيدي.
إن الجري أمام القوى الظالمة وتلبية طلباتها ومعاونتها في مشاريعها والتلطف معها في القول والعمل، لن يدْعوها إلى مراجعة نفسها والندم على جرائمها وأخطائها في حق أمتنا، بل يدعوها ذلك إلى مزيد من الظلم والغطرسة والطغيان.
وقد يلوح المخرج من هذا المأزق في عدة أمور:
الأول: العناية التامة بالإسلام عقيدة وشريعة، تعلماً وتعليماً والتزاماً على جميع المستويات، والجد في ذلك وعدم التهاون أو التقصير.
الثاني: امتلاك القوة الرادعة والقدرة على استعمالها بكفاءة.
الثالث: الإرادة الجازمة والعزم على استخدامها عند الحاجة إليها.
ولا شك أن هذا المخرج يحتاج إلى صبر ووقت، لكن صواب البدايات يؤدي إلى تحقيق النتائج المرجوة في النهايات.
فمتى نجدُّ ونجتهد ويقوم كل صاحب ولاية بما هو مطالب به في ولايته؟ ومتى تتحول مجتمعاتنا من مجتمعات لاهية عابثة يُستغرَق جل وقتها في البحث عن شهوات البطون والفروج، إلى مجتمعات عاملة جادة تسعى لكي تقوم بدورها المناط بها باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، وتحقق مكانتها التي جعلها الله لها؟ لقد حان الوقت؛ فهل من مشمر؟!(235/2)
قراءة في بردة البوصيري وشعره
د. علوي بن عبد القادر السَّقَّاف
قصيدة البردة من القصائد الشهيرة في المديح النبوي، هامَ فيها أهل التصوف فشرحوها عشرات المرات وبلغات مختلفة (1) ، وشطَّروها، وخمَّسوها، وسبَّعوها، وعارَضوها، ونظموا على نهجها (2) ، وغَلَوْا فيها حتى جعل بعضهم لأبياتها بركة خاصة وشفاء من الأمراض (3) ، بل إن من كَتَبَةِ الأحجبةِ والتمائم من يستخدم لكل مرض أو حاجة بيتاً خاصاً: فبيتٌ لمرض الصرع، وبيتٌ للحفظ من الحريق، وآخر للتوفيق بين الزوجين، وهكذا (4) .
وكانت البردة وما تزال عند بعض الناس من الأوراد التي تُقرأ في الصباح والمساء في هيبة وخشوع (5) ، وأبياتها تُستعمل إلى اليوم في الرُّقَى وتتلى عند الدفن (6) ، وقد وضعوا لها شروطاً عند قراءتها كالوضوء واستقبال القبلة، وغير ذلك (7) . وزعموا أن سبب تسميتها بالبردة أنَّ صاحبها ألقاها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فألقى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بردته كما ألقاها على كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ يقظة، مع أن قصة كعب بن زهير هذه لم تثبت بإسناد صحيح. وزعموا أنه كان مريضاً بالفالج فشفي بها ولذلك سميت بالبُرْأة (8) ، وبلغ غلوُّهم فيها أن زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاركه في نظمها وأنه كان يتمايل عند سماعها؛ فلما انتهى الناظم إلى قوله:
(فمبلغُ العلمِ فيه أنه بشرٌ) ... توقف، فأضاف النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأنه خيرُ خلقِ الله كلهمِ) (9) .
هذه القصيدة انتقدها كثيرٌ من أهل العلم (10) في أبيات معينة تعدُّ من أكثر الأبيات غُلُوّاً عندهم، ودافع عنها آخرون وردُّوا ما وُجِّه إليها من نقد، معلِّلين كل بيت منتَقَد فيها بما ينفي علة النقد. ومن هذه الأبيات المنتقَدة التي دافع عنها أتباع البوصيري وزعموا أن منتقديها لم يدركوا مراده، في قوله:
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلَّةَ القدمِ
وقوله:
يا أكرمَ الخلق ما لي من ألوذُ به سواكَ عند حلولِ الحادثِ العَمِمِ
وقوله:
فإنَّ من جودك الدنيا وضرَّتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ
فأصبح كثير من الناس لا يعرفون غلوَّ البوصيري إلا من قصيدته البردة، ولا يعرفون ما في البردة من غلوٍّ إلا من هذه الأبيات؛ فإذا كانت هذه الأبيات مفسَّرة ومبرَّرة، سلِمتِ البردة وسلِم البوصيري، فينتقل اللوم إذاً إلى منتقديه المتشددين!
والرجل ـ كما يزعمون ـ إمامٌ عالمٌ عاملٌ صالحٌ زاهدٌ ... ، وقصيدته البردة زهراء غراء يتبرك بها الناس، وفيها شفاء لأمراضهم إلى آخره، وهذه الأوصاف مذكورة في كتبهم (1) .
فهل صحيح أن بردة البوصيري ليس فيها من الغلو إلا هذه الأبيات؟ بل هل صحيح أن البوصيري إمامٌ عالمٌ عاملٌ، وقصائده، سواء البردة أو غيرها، تخلو من الغلو؟! هذا ما أردت بيانه في هذه المقالة.
أما البوصيري فهو أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري، مصري النشأة، مغربي الأصل، شاذلي الطريقة (2) .
ولد سنة 608 هـ وتوفي سنة 696 هـ، والرجل لم يكن عالماً قط، ولم يعدَّه أحدٌ من المترجمين له في عداد العلماء، بل عدُّوه من الشعراء (3) ، ومن عدَّه كذلك من المعاصرين لم يستطع أن يثبت ذلك، وإنما هي ألقاب تكال كيلاً كما هي عادة القوم (4) .
والبوصيري كان ممقوتاً لإطلاق لسانه في الناس بكل قبيح، وذكره لهم بالسوء في مجالس الأمراء والوزراء (5) ، سيئ الخُلُق مع زوجته وغيرها، شحَّاذاً، مضطرباً في شخصيته، فتارة يمدحُ النصارى ويذُمُّ اليهود، وتارة يمدح اليهود إرضاءً للنصارى، وتارة يذم الاثنين معاً (6) ، وكان كثير المدح للسلاطين طمعاً فيما عندهم؛ وهذا ليس غريباً على الشعراء لكنه ليس من صنيع العلماء، أضف إلى ذلك أنَّ له أبياتاً كثيرة في البردة والهمزية وبقية قصائده الواردة في ديوانه، فيها من الغلو ما يصدِّق قول منتقديه فيه، وإليك جوانب مما ذُكر:
أما سوء خلقه مع زوجته فقد ذمَّها وأشار إلى اتهامها بالفاحشة في قصيدة طويلة، وفي القصيدة من الفحش والفجور والفسق ما فيها، نسأل الله السلامة:
وَبَليَّتي عرسٌ بُليت بمقتها والبعل ممقوت بغير قيامِ
جعلت بإفلاسي وشيبي حجة إذ صرت لا خلفي ولا قدامي
بلغت من الكبر العِتيِّ ونُكِّست في الخلق وهي صبية الأرحامِ
إن زرتُها في العام يوماً أنتجت وأتت بستة أشهر بغلامِ
أوَ هذه الأولاد جاءت كلها من فعلِ شيخٍ ليس بالقوَّام؟!
وأظن أنهمُ لعظم بليتي حملت بهم لا ش في الأحلامِ
أوَ كلَّ ما حَلِمت به حَمَلت به؟ من لي بأن الناس غير نيامِ؟
يا ليتها كانت عقيماً آيساً أوْ ليتني من جملة الخدامِ
أوْ ليتني من قبل تزويجي بها لو كنت بعت حلالها بحرام!
أوْ ليتني بعض الذين عرفتهم ممن يحصِّن دينه بغلام! (1)
والبوصيري كان شحَّاذاً يستخدم شِعره في استجداء ما عند الناس ـ وهذا ليس من صنيع العلماء ـ فها هو يشكو للصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن حنا حاله وكثرة عياله بقوله:
أيها الصاحب المؤمل أدعو كَ دعاء استغاثة واستجارهْ
أثقلتْ ظهري العيال وقد كنتُ زماناً بهم خفيف الكارهْ
ولو أنني وحدي لكنت مريداً في رباطٍ أو عابداً في مغارهْ
أحسب الزهد هيِّناً وهو حربٌ لست فيه ولا من النَّظَّارهْ
لا تكلْني إلى سواكَ فأخيارُ زماني لا يمنحون خيارهْ
ووجوهُ القُصَّاد فيه حديد وقلوبُ الأجوادِ فيه حجارهْ
فإذا فازت كفُّ حرٍّ بِبُرٍّ فهو إما بنقضةٍ أو نشارهْ
إن بيتي يقول قد طال عهدي بدخول التِّلِّيس لي والشكارهْ
وطعامٌ قد كان يعهده النا سُ متاعاً لهم وللسيارهْ
فالكوانين ما تعابُ من البردِ بطباخةٍ ولا شَكَّارهْ
لا بساطٍ ولا حصيرٍ بدهليزٍ ولا مجلسٍ ولا طيارهْ (2)
ويطلب من غيره كنافة في شهر الصوم فيقول:
ما أكلنا في ذا الصيام كنافهْ آه وا بُعدها علينا مسافهْ
قال قوم إنَّ العماد كريم قلت هذا عندي حديث خرافهْ
أنا ضيفٌ له وقد مت جوعاً ليت شعري لِمَ لا تعد الضيافهْ
وهو يطعم الطعام فما يُطْعِمُه إلا بسمعةٍ أو مخافهْ (3)
وقال يهجو أناساً سرقوا حمارته، وبالغ في ذلك جداً من أجل حمارة! فقال:
أرى المستخدمين مشوا جميعاً على غير الصراط المستقيمِ
معاشر لو وُلوا جناتِ عدن لصارت منهمُ نار الجحيمِ
فما من بلدة إلا ومنهم عليها كل شيطان رجيمِ
فلو كان النجوم لهم رجوماً لقد خلتِ السماءُ من النجوم (4)
وكان مضطرب الشخصية يسير مع هوى نفسه وطمعها؛ فلما لم يهدِ له النصارى طعاماً في عيدهم عيد المسيح هجاهم ومدح اليهود نكاية فيهم، فقال:
يهود بلبيس كلَّ عيدٍ أفضل عندي من النصارى
أما ترى البغل وهو بغلٌ في فضله يفضل الحمارا (5)
فلما هدَّده النصارى تراجع ومدحهم وذم اليهود، فقال:
ما للنصارى إليَّ ذنبٌ وإنما الذنب لليهودِ
وكيف تفضيلهم وفيهم سرُّ الخنازير والقرودِ (6)
أما مدحه لسلاطين زمانه مستجدياً ما عندهم، فحدِّث ولا حرج، وديوانه مليءٌ بذلك (7) ، ولا تخلو كثيرٌ من قصائده من الغلو في الممدوح، وإليك نزراً يسيراً منها:
فمن ذلك قوله يمدح الوزير زين الدين الصاحبي بقوله:
أهل التقى والعلم أهل السؤددِ فأخو السيادة أحمد بن محمدِ
الصاحب بن الصاحب بن الصاحب الحبر الهمام السَّيِّدِ ابن السَّيِّدِ
لا تشركن به امرأً في وصفه فتكون قد خالفت كلَّ موحدِ (1)
ويقول مادحاً الصاحب بهاء الدين ويطلبه حمارةً، ويذم آخرَ مقرباً من الصاحب حسداً له:
صاحبٌ لا يزال بالجود والأفضال طلق اليدين حلو العبارهْ
كم هدانا من فضله بكتاب معجز من علومه بأثارهْ
إنما يذكر العطية من كانت عطاياه تارة بعد تارهْ
سيدي! أنت نصرتي كلما شن عليَّ الزمان بالفقر غارهْ
شابَ رأس وما رأست كأني زامر الحي أو صغير الحارهْ
وابن عمران وهو شرُّ متاع للورى في بطانة وظهارهْ
حسَّن القربُ منكم قبحَ ذكراه كتحسين المسكِ ذكر الفارهْ
فهو في المدح قطرةٌ من سحابي وهو في الهجو من زنادي شرارهْ
ما له ميزةٌ عليَّ سوى أنَّ له بغلة وما لي حمارهْ (2)
ويمدحه مرة أخرى ويشكو له حاله، فيقول:
يا أيها المولى الوزير الذي أيامه طائعة أمرهْ!
ومن له منزلة في العلا تكلُّ عن أوصافها الفكرهْ
أخلاقك الغرُّ دعتنا إلى الإدلاء في القول على غرهْ
إليك نشكو حالنا إننا عائلة في غاية الكثرهْ
صاموا مع الناس ولكنهم كانوا لمن يبصرهم عبرهْ
فارحمهمُ إن أبصروا كعكةً في يد طفلٍ أو رأوا تمرهْ
تشخص أبصارُهم نحوها بشهقةٍ تتبعها زفرهْ
والبوصيري اشتهر عنه شعره في المدائح النبوية وهو من أرقى الشعر وأجوده لولا غلوٌّ فيه، ومن قرأ قصائده كما في البردة الميمية والقصيدة الهمزية وبقية قصائده في ديوانه ظهر له اطِّراد الرجل في غلوِّه، وأبياته المجملة المحتملة لأكثر من معنى في قصيدةٍ، تفسرها أبياتٌ أخرى في قصيدة أخرى فلا مجال لتبرئته منه، وهاكم بعض الأمثلة:
قوله في البردة:
فإنَّ من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ (3)
يؤيده البيت الخامس من الهمزية:
لك ذات العلوم من عالم الغيب ومنها لآدم الأسماءُ
لذلك قال الهيتمي في شرح هذا البيت:
(إن آدم لم يحصل له من العلوم إلا مجرد العلم من أسمائها، وأن الحاصل لنبينا هو العلم بحقائقها، ومسمياتها، ولا ريب أن العلم بهذا أعلى وأجل من العلم بمجرد أسمائها؛ لأنها إنما يؤتى بها لتبيين المسميات؛ فهي المقصودة بالذات، وتلك بالوسيلة، وشتان ما بينهما، ونظير ذلك أن المقصود من خلق آدم إنما هو خلق نبينا - صلى الله عليه وسلم - من صلبه؛ فهو المقصود بطريق الذات، وآدم بطريق الوسيلة. ومن ثم قال بعض المحققين: إنما سجد الملائكة لأجل نور محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي في جبينه (4) .
والبوصيري كغيره من غلاة الصوفية الذين يعتقدون أن الدنيا بمن فيها لم تُخلق إلا من أجل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونور محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ذكره في البردة وغيرها. قال في البردة:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورةُ منْ لولاه لم تخرجِ الدنيا من العدمِ
وقال:
وكل آيٍ أتى الرُّسْلُ الكرامُ بها فإنما اتصلت من نوره بِهِمِ
وقال:
فاق النبيين في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كرمِ
وكلُّهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ
وقال في الهمزية مؤكداً هذا المعنى:
كلُّ فضلٍ في العالمين فمِنْ فضلِ النبي استعاره الفضلاءُ
قال الهيتمي في شرح البردة: (فإنما اتصلت من نوره بهم: أي وصلت منه إليهم بطريق الاستمداد؛ وذلك لأن نوره - صلى الله عليه وسلم - كان مخلوقاً قبل آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بل قبل سائر المخلوقات من السموات وما فيها والأرض وما عليها، وغير ذلك) (1) وهذا من خرافات الصوفية؛ فالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ولدُ آدم وخُلِق بعد آدم؛ فكيف يكون نوره خلق قبله؟! عليه صلوات ربي وسلامه.
وقال في شرح الهمزية: (لأنه - صلى الله عليه وسلم - الممد لهم؛ إذ هو الوارث للحضرة الإلهية، والمستمد منها بلا واسطة دون غيره؛ فإنه لا يستمد منها إلا بواسطته - صلى الله عليه وسلم -، فلا يصل لكامل شيء إلا وهو من بعض مدده وعلى يديه؛ فآيات كل نبي إنما هي مقتبسة من نوره؛ لأنه كالشمس، وهم كالكواكب؛ فهي غير مضيئة بذاتها وإنما هي مستمدة من نور الشمس؛ فإذا غابت أظهرت أنوارها فهم قبل وجوده - صلى الله عليه وسلم - إنما كانوا يظهرون فضله، وأنوارهم مستمدة من نوره الفائض ومدده الواسع) (2) . كلام لا دليل عليه لا عقلياً ولا نقلياً، إنما هو كلام في كلام، لا زمام له ولا خطام.
وفي البردة الاستجارة والاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك عند قوله:
ما سامني الدهرُ ضيماً واستجرت به إلا ونلتُ جواراً منه لم يضمِ
ولا التمستُ غنى الدارين من يده إلا التمستُ الندى من خير مستلمِ
ومعنى ذلك: أي ما ظلمني أهل الدهر في وقت من الأوقات وطلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلني في جواره ليحميني من ضيم الدهر إلا وقربني منه (3) .
والاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة في شعر البوصيري ـ وهي أشنع من التوسُّل، وإن خلط بينهما بعضُ الناس جهلاً أو تلبيساً ـ ولم تقتصر على البردة فقط، بل هي في غيرها أكثر غلواً، ومن ذلك قوله كما في (الديوان) :
يا نبي الهدى استغاثةُ مَلْهُوفٍ أضرتْ بحاله الحوباءُ
يدَّعي الحب وهو يأمر بالسوءِ ومن لي أن تصدق الرغباءُ
إلى أن قال:
هذه عِلَّتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داءُ
ومن الفوز أن أبثك شكوى هي شكوى إليك وهي اقتضاءُ (4)
وأشد من ذلك دعاؤه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصفح عنه وأن يقبل عذره بقوله:
يا من خزائنُ جودهِ مملوءةٌ كرماً وبابُ عطائه مفتوحُ
ندعوك عن فقرٍ إليك وحاجةٍ ومجالُ فضلك للعُفَاة فسيحُ
فاصفح عن العبد المسيء تكرماً إن الكريمَ عن المسيء صفوحُ
واقبل رسولَ الله عذرَ مقصِّرٍ! هو إن قبلت بمدحك الممدوحُ
في كلِّ وادٍ من صفاتك هائمٌ وبكلِّ سرٍّ من نداك سبوحُ (5)
وأقبح منه غلوُّه في الشريفة نفيسة بنت الحسن بن زيد ابن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهم ـ بقوله:
سليلة خير العالمين «نفيسة» سمت بك أعراقٌ وطابت محاتدُ
إذا جحدت شمسُ النهار ضياءها ففضلك لم يجحده في الناس جاحدُ
بآبائك الأطهار زينت العلا فحبات عقد المجد منهم فرائدُ
ورثتِ صفاتِ المصطفى وعلومَه ففضلُكما لولا النبوةُ واحدُ! (6)
وفي البردة أخطاء أخرى نمر عليها مروراً سريعاً حتى لا يظن ظان أنها مقصورة على بيتين أو ثلاثة؛ فمن ذلك:
قوله:
أقسمتُ بالقمرِ المنشقِّ إنًّ له
من قلبه نسبةً مبرورةَ القسمِ
وهذا قسم بغير الله لا يجوز.
وقوله:
دَع ما ادَّعَتهُ النصارى في نَبِيِّهِمِ واحكُم بما شئتَ مَدحاً فيه واحتَكِمِ
وكأن الناظم يقول: امدحه بما شئت من المدح لكن لا يصل بك المدح إلى تأليهه كما فعلت النصارى مع عيسى عليه الصلاة والسلام؛ وهذا باطل، وليس معنى حديث: «لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» أي أطروني لكن لا يصل إطراؤكم إلى ما وصل إليه النصارى من أنه ابن الله وثالث ثلاثة! بل معناه: لا تبالغوا في إطرائي كما بالغ النصارى في إطراء نبيهم حتى أداهم ذلك إلى تأليهه.
ومن ذلك قوله:
فإنَّ لي ذِمَّةً منه بتَسمِيَتِي مُحمَّداً وهُوَ أوفَى الخلقِ بالذِّمَمِ
وهذا غير صحيح، فليس كل من تسمى بمحمد صارت له ذمة بهذه التسمية؛ فما أكثر من تسمى بمحمد وهو في عداد الفسقة، ولكن للأسف تجد كثيراً منهم يرددون هذا البيت وغيره وهم لا يفهمون معناه.
وقوله أيضاً:
لا طيبَ يَعدِلُ تُرْباً ضَمَّ أعظُمَهُ طوبى لمُنتَشِقٍ منه وملتَثِمِ
الانتشاق: الشم، والالتثام: التعفر أو التقبيل، والناظم يدعو لأن ننتشق ونلتثم تراب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من الغلو أيضاً.
وقوله:
لعَلَّ رَحمَةَ رَبِّي حينَ يَقسِمُهَا تَأتِي على حَسَبِ العِصيَانِ في القِسَمِ
وهذا خطأ أيضاً، ورحمة الله تأتي على حسب الطاعة لا المعصية ـ كما يرجو البوصيري ـ وإلا لاستكثر الناس من المعاصي.
والحاصل أن البوصيري كان من غلاة الصوفية الشاذلية، ولا ينفع الذين دافعوا عنه التماسهم العذر له في بعض الأبيات أو توجيهها وجهة حسنة؛ فهذا إنما يقال لمن كان سليم المعتقد سليم المنهج والطريقة ثم تزلُّ قدمُه في مسألة أو مسألتين؛ فهذا يُلتمَس له العذر فيها، أمَّا من كانت هذه طريقته، وهذا معتقده، وهذا ديدنه، فمهما التمسنا له العذر في بيت أو بيتين؛ فماذا عن الباقي؟! وماذا عن شرَّاح هذه القصائد الذين يؤكدون هذه المعاني ويتتابعون عليها في شرح قصائده؟!
وهذا كله لا يمنعنا أن نشيد بقوةِ شِعْره وجزالته، سواء كان من شعر مديح المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أو ما فيه من حِكَمٍ ودُرَرٍ، فمن مليح المديح قوله في البردة:
أكرِمْ بخَلْقِ نبيٍّ زانَهُ خُلُقٌ بالحُسنِ مشتَمِلٌ بالبِشْرِ مُتَّسِمِ
كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبدرِ في شَرَفٍ والبحرِ في كَرَمٍ والدهرِ في هِمَمِ
وقوله واصفاً الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ:
هُمُ الجبالُ فَسَلْ عنهُم مُصَادِمَهُم ماذا لَقِي منهمُ في كُلِّ مُصطَدَمِ
وَسَلْ حُنَيْناً وَسَلْ بَدْراً وَسَلْ أُحُداً فُصولُ حَتْفٍ لَهم أدهى مِنَ الوَخَمِ
كأنَّهُم في ظُهورِ الخَيْلِ نَبْتُ رُبىً مِن شِدَّةِ الحَزْمِ لا مِن شَدَّةِ الحُزُمِ
وفيها من الحكم الكثير، كمثل قوله:
والنفسُ كالطفلِ إن تهمله شبَّ على حبِّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يُصْمِ أو يَصِمِ
وراعِها وهي في الأعمالِ سائمةٌ وإن هي استحلتِ المرعى فلا تَسِمِ
كم حسَّنَتْ لذةً للمرءِ قاتلةً من حيثُ لم يَدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ
قد تُنكر العينُ ضوءَ الشَّمس من رمَدٍ ويُنكر الفمُ طعمَ الماءِ من سقمِ
وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِما وإن هما محَّضاك النُّصْحَ فاتهمِ
ولا تُطِعْ منهما خَصْماً ولا حَكَماً فأنت تعرفُ كيدَ الخصمِ والحَكَمِ
ومن بديع شعره:
ذهبَ الشبابُ وسوف أذهبُ مثلما ذهبَ الشبابُ وما امرؤ بمخلَّدِ
إنَّ الفناء لكلِّ حيٍّ غايةٌ محتومةٌ إن لم يكن فكأنْ قَدِ (1)
هذا، وأسأل الله ـ عز وجل ـ أن يهدي ضال المؤمنين، وأن يردَّه إلى الحق رداً جميلاً.
وصلى الله وسلم على حبيبنا وسيدنا ونبينا محمدٍ عبدِ الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) المشرف على موقع الدرر السنية.
(1) فاق عددُ شروح البردة كثيراً من كتب السنة كصحيح مسلم والكتب الأربعة، فضلاً عن غيرها!
(2) انظر: المدائح النبوية) لمحمود علي مكي (ص 119) ، و (العمدة شرح البردة) للهيتمي، ص 53.
(3) انظر: العمدة شرح البردة، ص 41، قال محققه: (ولا يزال الناس يتبركون بها في أقطاب الأرض، فكم ظهر لها من أثر في إبراء المرضى من الذين اعتقدوا شرفها وقدروها قدرها فكانت سبباً في شفائهم ونيل الخيرات والبركات في قراءتها) .
(4) انظر: (العمدة في إعراب البردة) لعبد الله جاجة، ص 17، و (المدائح النبوية في الأدب العربي) لزكي مبارك (142) .
(5) انظر: المدائح النبوية في الأدب العربي، 142.
(6) انظر: دائرة المعارف الإسلامية) (3/528)
(7) انظر: ديوان البوصيري، لسيد كيلاني، ص 29.
(8) انظر (حاشية الباجوري على البردة) ص 4 وغيرها، وهذا مما أطبقت عليه كتبهم، لكن منهم من يقول لفه ببردته، ومنهم من يقول ألقاها عليه.
(9) انظر لذلك: مقدمة بردة المديح المباركة، ص 15، و (العمدة في إعراب البردة) ص 19.
(10) من هؤلاء: علاَّمة اليمن محمد بن علي الشوكاني في الدر النضيد في (إخلاص كلمة التوحيد) ص 59، وعلاَّمة العراق محمود شكري الآلوسي في (غاية الأماني في الرد على النبهاني) (2/349) ، وعدد من علماء نجد، وكثير من المعاصرين.
(1) انظر على سبيل المثال: بردة المديح المباركة، ص 9، و (العمدة شرح البردة، ص 41.
(2) كان على صلة بأبي الحسن الشاذلي صاحب الطريقة المشهورة عند الصوفية ولما مات لازم تلميذه ووارث طريقته أبا العباس المرسي. يقول مادحاً الشاذلي وطريقته كما في ديوان البوصيري، للطباع، ص 105:
ويقول مادحاً أبا العباس المرسي كما في ديوان البوصيري، للطباع، ص 108:
(3) انظر: شذرات الذهب، لابن العماد (5/432) ، الوافي بالوفيات، للصفدي (3/105) ، فوات الوفيات، للكتبي (3/362) ، المقفى الكبير، للمقريزي (5/661) ، (حسن المحاضرة، للسيوطي) (1/570) .
(4) تفاجأ وأنت تقرأ لبعض المعاصرين الألقاب التي تُطلق عليه من مثل: الإمام العالم العامل، وبالغ الهيتمي في مقدمة شرحه للهمزية (1/105) في مدحه فقال: (الشيخ الإمام، العارف الكامل! الهمام، المفنن المحقق، البليغ، الأديب، المدقق، إمام الشعراء، وأشعر العلماء، وبليغ الفصحاء، وأفصح الحكماء.....! وقال فيه الحسن بن محمد الفاسي ـ وهو من المعاصرين ـ عند ترجمته في (طبقات الشاذلية الكبرى، ص 99: (الإمام الرباني، والعارف الصمداني، الأستاذ الفاضل، والملاذ الكامل، شمس الملة، وبرهان الأمة، شيخ المحققين، وملاذ أهل التمكين ... بلغ ـ رضي الله عنه ـ الغوثية الكبرى، ودام له الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة والمنام.
(5) ذكر ذلك المقريزي في المقفى الكبير (5/664) عن اليعمري في مسالك الأبصار، وقال أيضاً (5/669) : وحكي أنه كان قليل المعرفة بصناعة الكتابة.
(6) له قصيدة طويلة رائعة سماها المخرج والمردود على النصارى واليهود تدل على أنه كان خبيراً بهم وبمعتقداتهم. انظر: ديوان البوصيري، للطباع، 158.
(1) انظر: ديوان البوصيري للطباع، ص 226. في البيت الخامس يشكك أن يكون أولاده من كثرتهم أتت بهم زوجته منه وهو شيخ ليس بالقوَّام! وفي البيت التاسع تمنى لو استبدل حلالها وهو الزواج بحرام حتى لا يتحمل تبعة الأبناء، وفي البيت العاشر تمنى لو أنه حصَّن دينه بغلام بدلاً عن زوجة كبعض الذين يعرفهم! والعياذ بالله.
(2) انظر: ديوان البوصيري، ص 1119.
(3) انظر: ديوان البوصيري، ص 156.
(4) انظر: ديوان البوصيري، ص 227.
(5) انظر: ديوان البوصيري، ص 149.
(6) انظر: ديوان البوصيري، ص 115.
(7) انظر الصفحات: 81، 84، 112، 116، 120، 128، 140، 147، 150، 228، وغيرها من ديوان البوصيري، للطباع.
(1) انظر: ديوان البوصيري، ص 112.
(2) انظر: ديوان البوصيري، ص 117.
(3) هناك من أمور الغيب ما أطلعه الله على من ارتضاهم من رسله ومنهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لكن البوصيري يزعم أن ما في اللوح المحفوظ بعضٌ مما عنده - صلى الله عليه وسلم - فقوله: (ومن علومك) من هنا: للتبعيض، ولذلك يقول الهيتمي شارحاً هذا البيت: «ووجه كون علم اللوح المحفوظ من بعض علومه - صلى الله عليه وسلم - أن الله أطلعه ليلة الإسراء على جميع ما في اللوح المحفوظ وزاده علوماً أخر كالأسرار المتعلقة بذاته ـ سبحانه وتعالى ـ وصفاته» انظر: (العمدة شرح البردة) ، ص 699، ولما حارَ بعضهم وأراد أن يخرج من هذا المأزق أتى بما يُضحك فقال: (قال الشُّراح: المراد باللوح ما يكتب الناس عليه، وبالقلم: ما يكتبون به، فكأنه قال: ومن علومك علم الناس الذي يكتبونه بأقلامهم في ألواحهم. انظر: نحت حديد الباطل وبرده) لداود النقشبندي، ص 39، (البلسم المريح من شفاء القلب الجريح) لعمر كامل، ص 14.
(4) انظر: المنح المكية شرح الهمزية للهيتمي (1/146) .
(1) انظر: العمدة شرح البردة للهيتمي، ص 289.
(2) انظر: المنح المكية شرح الهمزية) (2/652) .
(3) انظر: العمدة شرح البردة، ص 411 ـ 413.
(4) انظر: ديوان البوصيري، ص 60.
(5) انظر: ديوان البوصيري، ص 90.
(6) انظر: ديوان البوصيري، ص 92.
(1) انظر: ديوان البوصيري، ص 103.(235/3)
أحاديث القرآن والسنة عن القادة
أنور قاسم الخضري
في المراحل الصعبة والأحوال القاسية والظروف المظلمة للأمة تنبثق القيادة الربانية الرشيدة؛ لأنّ من سنن الله ـ تعالى ـ أن يبعث عبر التاريخ عموماً، وفي هذه الأمة خصوصاً، قيادة ربانية راشدة تقوم بوظيفة الأنبياء المتعلقة بسياسة الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك والظلم والجهل إلى نور الإسلام والعدل والمعرفة.
كتبت هذا الموضوع بعيداً عن الصياغة البحثية والأسلوب النمطي للمواضيع؛ فهي خواطر ثارت في ذهني أحببت أن أسجلها وأبثها للدعاة ليثروها بأفكارهم وآرائهم وتعليقاتهم وملاحظاتهم.
والقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تُجَلِّي للناس عموماً والمؤمنين خصوصاً صفات تلك القيادة وخصائصها، وطبيعة تكوينها وملامح شخصيتها، كيف لا؛ والناس بحاجة إلى تجلية حقيقة الصحيح من الدعي؟ كيف لا؛ والمؤمنون مطالبون بالالتفاف حول هؤلاء المجددين ليقوموا بمهمتهم الشاقة؟ ألم يخبر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنهم بالقول: «أناسٌ صالحون في أناسِ سوءٍ كثيرٍ، من يعصيهم أكثرُ ممّن يطيعهم» (1) وفي هذا إشارة إلى مكانة من يطيعهم.
الحديث عن القادة والاهتمام بهم همُّ الكبار من الرجال؛ بل همُّ العظماء من القادة؛ فالإداريون يحدثونك عن المشاريع الناجحة وعن المواقع الحساسة وعن السلع الرائجة ... هذا أكبر همهم للنجاح. أما القادة فيبحثون عن القادة لتستمر المسيرة ويتواصل العطاء. وصدق عمر (الملهَم) عندما قال: «لوددتُ أنَّ لي ملء هذا المسجد رجالاً من أمثال أبي عبيدة أستعملهم في الإسلام» (2) رضي الله عنك يا عمر!
إن أحاديث القرآن الكريم والسنة المطهرة عن القيادة لا تأتي في سياق النظرية المجردة أبداً؛ بل هي مبثوثة في ثنايا الحديث عن القيادات البارزة في مسيرة البشرية، تجلِّي لنا بيئتهم، وظروف معيشتهم، وأسلوب تفكيرهم وسلوكهم، ومواقفهم الحية والمباشرة، ونظرة الناس لهم، والأدوار التي تُبرزهم، والمنعطفات التي تدفع بهم للمقدمة ... إلى غير ذلك من الدروس والعبر.
فالقيادة لا تتخرج من «المقاعد» المشلولة و «الأسوار» المقيدة و «المناهج» الرتيبة.. إنهم صنعة الحياة، ونتاج المجتمع، وبذور التاريخ، ومُخْرَجات الأزمات، ومنحة الله ـ قبل كل شيء ـ للناس. فليس لأحد بعد ذلك أن يتعلل بالقَدَر أو أن يركن للناس. إنهم جزء من البشرية، وعنصر في مجتمعهم، لكن شخصيتهم تفرض وجودها بقوة متسللة من خلال المواقف والأفكار والتأثير.
- التأثر والتأثير والاستجابة والتغيير:
من أهم خصائص هؤلاء القادة التأثر والتأثير والاستجابة والتغيير: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مَوَسَى إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إن تُرِيدُ إلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 15 - 19] .
إنهم يحملون قِيَماً، ويمتلكون إرادة، ويسجلون موقفاً؛ فهم ليسوا خواء من القيم العادلة والخيرة المعطاء، كما أن القيم لديهم ليست نظرية فكرية لا تمتلك وجوداً ولا يُسعى لتحقيقها ... كلاَّ!
- خصائص جسدية وعقلية ووجدانية ونفسية:
إن القرآن يخبرنا أن هؤلاء القادة يمتلكون خصائص جسدية وعقلية ووجدانية ونفسية تميزهم عن غيرهم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] .
{فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
{قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16] .
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} . [يوسف: 55]
إنهم يتمتعون بكمال أجسامهم وقوتها، وهذا لا يخص عالم البشر فحسب، بل هو قانون إلهي في سائر المخلوقات، أن يتميز القياديون بملامح القوة.. لكي يستطيعوا دعم الحق الذي يحملونه، والعدل الذي يفرضونه، والخير الذي ينشرونه. وفي جميع العوالم ترتكز القيادة في العناصر الأقوى جسداً، فجبريل أقوى الملائكة، وإبليس ومردة العفاريت أقوى الجن، وهكذا الحال في عالم الحيوانات.
وضعف الجسد يتبعه غالباً ضعف في الشجاعة الأدبية، والعزيمة الفاعلة، والإرادة الصلبة، والنَفَس الطويل لدى المشاق. لكن البعض يقف عند هذا الحد من خصائص القيادة، ويختزل القيادة في ملمح واحد من ملامح الشخصية وتجلياتها ... وهذا خطأ؛ فليست القوة المادية كل شيء؛ فمن خصائص القيادة أيضاً قوة العقل في جميع مكوناته ووظائفه، وهو ما يعبر عنه القرآن بـ «بسطة في العلم» . ولا شك في أن البسطة في العلم لا تكون إلا مع ما يمنحه الله للعبد من ذاكرة نشطة، وفهم دقيق، وإدراك سريع، وذكاء وقَّاد.. فكلما اتسع الوعاء اتسع مضمونه.
إن من اللفتات الجميلة للسؤال الرباني لموسى ـ عليه السلام ـ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] ؟ إظهارُ المدارك العقلية في توظيف الوسائل لأكثر من مهمة وعمل لمن اختير لمهمة ضخمة: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] ، فلم يتوقف موسى في الإخبار عن عصاه بوظيفتين، بل ترك المجال خصباً للخيال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ! وقد وقفت على بعض هذه المآرب فعددت أربعين منها.
- تقدير الذات ومتطلبات المهمة وتكاملها مع الغير:
ومن خصائص القيادة تقديرها للذات ولمتطلبات المهمة وتكاملها مع الغير وتوظيف الطاقات من حولها دون أن تجد في النفس مضاضة من ذلك: {قَالَ رَبِّ إنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 33 - 35] . {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَرُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه: 25 - 35] .
إنها تمتلك الشجاعة الأدبية مع الذات قبل أن تمتلكها مع الغير، لذلك فليس بينها وبين النظر للحق ستار كاذب أو سراب خادع، ولا مانع لديها أن تتراجع ذاتياً لتكون في موطن «المَقُود» لا «القائد» إذا شعرت بتخلفها: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 65 - 66] .
إنها لا تلغي تجارب الآخرين وتحتفظ بها في «الأرشيف» كما أنها تسجل تجاربها للآخرين وتستخلص لهم التجارب والعبر. وما أغرب أن تقف بين محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حوار بشأن فريضة من أعظم الفرائض.. ألا وهي الصلاة، وتستمع للحديث (1) الذي دار بين قيادتين: إحداهما: تمتلك الرصيد من الخبرة، والأخرى: تمتلك التزكية «المطلقة» !
إن الشخصية القيادية شخصية غير مغرورة، تؤمن بأن مِنَحَ الله موزعة بين العباد حتى البهائم منها، فلا غضاضة لديها أن تخاطَب بالقول: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] ! وهي تملك «ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدها» .
وهي تتطلع إلى أن تُعطى من فضل الله الشيء الكثير: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 83 - 87] . {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] .
فهي متطلعة إلى ما عند الله ـ تعالى ـ تبذل ما في مقدورها أن تبذل له، وتأمل فضل الله فيما لا تطيقه، دأبها: {رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] !
ومما يستوقفنا عند تأمُّل الشخصيات القيادية في القرآن والسنة حدتها وشدتها؛ يتجلى ذلك في مَثَلين هما: موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
ولا أقصد بالشدة هنا الغلظة التي نفاها الله ـ تعالى ـ عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] ، بل الشدة المحمودة في الحق التي أثنى الله بها على رسوله وأتباعه: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ، فكان لعمر منها أوفر الحظ والنصيب؛ عمر الذي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه: لو كان بعده نبي لكان هو (2) .
فالشدة، بين الضعف المفرط والغلظة المفرطة، ضرورة في أَطْرِ الناس على الحق والدفاع عنه، والقيام بالعدل والقصاص من الظالم ورد العدوان، وكل هذه الأمور متعدية النفع بخلاف اللين.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بينَا أنا نائم رأيتُني على قَلِيب عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثم أخذها ابنُ أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوباً أو ذَنوبين، وفي نزعه ضعفٌ، واللهُ يغفرُ له ضعفه، ثم استحالت غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أرَ عبقرياً من الناس ينزع نزع عُمر حتى ضرب الناس بعطن» رواه البخاري. وفي رواية لمسلم: «بينا أنا نائمٌ أُرِيتُ أني أنزعُ على حوضي أسقي الناس، فجاءني أبو بكر، فأخذ الدلْوَ من يدي؛ ليروِّحني، فنزع دلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب فأخذ منه، فلم أرَ نزع رجلٍ قطُّ أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجَّر» .
وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضربَ بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذرٍّ! إنك ضعيف وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ إلا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها» رواه مسلم.
- الإلهام:
ومن خصائص القيادة الإلهام الذي يقوم على ثلاثة أمور:
أولها: الرؤيا الصادقة التي أخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بها. فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» رواه البخاري. وعند أبي داوود عن أبي هريرة أن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة» .
وثانيها: الفِراسة والتوسُّم في الأمور: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قال مجاهد في تفسير المتوسمين: أي: «المتفرِّسين» ، كما أورده ابن كثير، وأورد عن ابن أبي حاتم حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا فِرَاسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله» ، ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} (والحديث عند الترمذي) .
وثالثها: الحَدْس: والفارق بين التفرس والحدس أن الأول: استنتاج من المعطيات الملموسة والواقع المشاهد، أما الحَدْس: فهو شيء ينبثق في النفس، وشعور لا دليل على صدقه، كونه يسبق الحدث وينطق بذاته، فيوافق الحق ويطابق الحقيقة.
جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: «إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحَدَّثون؛ وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب» رواه البخاري. وفي مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن رسول الله كان يقول: «قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحدٌ فإن عمر بن الخطاب منهم» .
قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في (فتح الباري) : (قوله: مُحَدَّثون، بفتح الدَّال جمع محدَّث، واختُلِف في تأويله فقيل: مُلْهَم، قَالَهُ الأكثر. قالوا: الْمُحَدَّث بِالْفتح هو الرَّجُل الصَّادِق الظَّنّ، وهو من أُلْقِيَ فِي رُوعه شيء من قِبَل الملأ الأعْلَى فيكون كالذي حدَّثَه غيره به، وبهذا جزم (أبو أحمد العسكري) . وقيل: من يجرِي الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مُكَلَّم، أي: تكلمه الملائكة بغير نُبُوَّة، وهذا ورد من حدِيث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ولفظه: «قِيل: يا رسول الله! وكيف يُحَدَّث؟ قال: تتكلم الملائكة على لِسانه» . رويناه في «فوائد الجوهري» ، وحكاه القابِسِي وآخرون، ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلَّقة. ويحتمل رَدّه إلى المعنى الأول أي: تُكلِّمهُ فِي نَفْسه، وإِن لم يَرَ مُكَلِّماً فِي الحقيقة فيرجِع إلى الإلهام، وفسره (ابن التِّين) بِالتَّفَرُّس، ووقع فِي مسند (الحُمَيْدِيّ) عَقِب حدِيث عَائِشة «المحدَّث: الْمُلْهَم بالصواب الذي يُلْقَى على فِيهِ» وعند مسلم من رواية (ابن وهب) : «مُلْهَمونَ، وهي الإصابة بِغيرِ نُبوَّة» ، وفي رواية التِّرْمذيّ عن بعض أصحاب ابن عُيينةَ: «مُحَدَّثُونَ، يعني: مُفَهَّمُونَ» وفي رواية الإسماعيليّ: «قال إبراهيم ـ يعني ابن سعد ـ: قوله: مُحَدَّث أي: يُلقى في رُوعه» انتهى، ويؤيده حديث: «إِنَّ الله جعل الحقّ عَلَى لِسان عمر وقلبه» أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وأحمد من حَدِيث أبي هريرة، والطَّبراني من حدِيث بلال، وَأَخْرَجَهُ فِي «الأوْسَط» من حديث معاوِية، وفِي حديث أبِي ذَرّ عند أحمد وأبي داود «يقول به» بدل قَوْله: «وقلبه» وصححه الحاكم، وكذا أخرجه الطَّبراني فِي «الأوسط» من حديث عمر نفسه) .
ثم قال ابن حجر: «والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها، ووقع له بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة إصابات» .
- الشخصيات القيادية ميالة لإبداء آرائها:
إن الشخصيات القيادية ميالة لإبداء آرائها؛ وآراؤها لا تأتي من فراغ، بل هي حصيلة موهبة إلهية وكسب ذاتي، وكذلك طرح اجتهاداتها للآخرين؛ فهي معطاءة في فكرها، كما أنها معطاءة في أدائها ووجدانها، فاعتراضات موسى ـ عليه السلام ـ على الخضر لم تأتِ من فراغ وخواء؛ بل هي من طبيعة موسى وتكوينه الشخصي الذي لا يرتضي أن يغلق باب التعبير عن الرأي على نفسه.
إن الشخصية القيادية بطبيعتها متمردة على الاستسلام للآخرين ما لم تقتنع وتتيقن من الآراء والأفكار المطروحة عليها، لكنها في المقابل إذا اقتنعت تنطلق غير مولية على شيء.
وجاء عند (ابن إسحق) عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أيُّ قريش أَنْقَلُ للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه، قال: وغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت. حتى جاءه، فقال له: أعلِمتَ يا جميل! أني أسلمت، ودخلت في دين محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فواللهِ ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتَّبعه عمر واتبعته أنا، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش ـ وهم في أنديتهم حول الكعبة ـ: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.
ويروى أن عبد الله بن مسعود كان يقول: كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر؛ فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.
عمر بن الخطاب هذا هو نفسه الذي قال عنه عامر بن ربيعة ـ وقد ذكرت له زوجته رقة عمر في هجرتهم إلى الحبشة ـ: أَطَمِعتِ في إسلامه؟ فقالت: نعم! فقال لها: «فلا يُسْلِمُ الذي رأيتِ حتى يُسْلِمَ حمارُ الخطاب» ! قال ذلك يأساً منه لِمَا كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام.
ورغم الآية الكريمة التي كانت تنهى المؤمنين عن أن يقدِّموا بين يدي الله ورسوله، إلا أن طبيعة عمر بن الخطاب ظلت بطابَعها السباق تقدم الآراء وتقترح الحلول وتطرح اجتهاداتها، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتفهم هذه الطبيعة في عمر ويشهد لها، بل ولتفوقها؛ فعند الترمذي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» . وقال ابن عمر: «ما نزل بالناس أمرٌ قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزلَ فيه القرآن على نحو ما قال عمر» .
- الشخصية القيادية شخصية جاذبة، تألف وتُؤلف:
إن الشخصية القيادية شخصية جاذبة، تَأْلَفُ وتُؤْلَف، تؤثر في الخلق بسلوكها وقيمها ومبادئها وشخصيتها الفذة، وهي في الوقت ذاته شخصية بليغة ذات بيان وتذوُّق للمعاني والصور والعبارات. وهي تستطيع محاورة الآخرين وإقناعهم وإيصال الأفكار إليهم، وهي ببساطة: تقدم للناس مشروعاً مشتركاً، وترسم لهم منهجاً واضحاً، وتبرز لهم معالم الطريق، وتحدد لهم الهدف دون تعقيد أو تمويه.
إنها تسهّل الأفكار وتبسط المعاني ليكون الجميع عارفاً مقتنعاً مشاركاً ... لذلك أُعطي الأنبياء الفصاحة والبلاغة، وأعُطي نبينا الخاتم «جوامع الكَلِم» فإن أغلب ما يؤثِّر في الناس الرسالة الخطابية المناسبة الصحيحة.
لكن الأبلغ في هذا الجانب، هو ذلك الفيض من الوجدان وتلك المشاعر الفيَّاضة والروحانية العذبة التي تنبثق العبارات البليغة منها. فالقادة المؤمنون يحملون أسمى الروحانيات؛ فرجاؤهم بالله عظيم جداً، حتى في أصعب اللحظات يفجِّرون ينابيع الأمل.
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ} . [الشعراء: 61]
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] .
{إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] .
إنهم لا يتركون مدخلاً لليأس والقنوط والعجز والانهيار عليهم أو على من تبعهم؛ بل يبذرون دائماً الأمل والفأل الحسن، ويبشرون بالخير، ويعززون الطموح، ويزرعون الثقة.
والقيادة بهذه المعطيات تمتلك الصلاحيات التالية: توقع الاحتمالات، إعادة ترتيب الأولويات، تغيير الخطة، وضع الحلول البديلة، توسيع دائرة الوسائل، تقدير المخاطر، اختيار الصف القيادي الثاني، وغير ذلك من القضايا، وفي ذلك توظيف لطاقاتهم الكبيرة واستغلال لمواهبهم المتعددة.
ربما يوصفون بالمغامرة؛ لكن هذا نابع عن شجاعتهم وميزة الريادة لديهم، ومهما كلفت مغامراتهم الأمة فإنها تترك في الأجيال القادمة روحاً متوقدة تردد:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قَدْرِ الكرامِ المكارمُ
وتقول:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسادُ
إن مغامرات القادة محاولات في البناء يجب ألاَّ يلاموا عليها بقدر ما يجب تشجيعهم ونصحهم، واستدراك الخطأ لديهم. والذي يعرف سيرة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع القادة من صحابته يدرك هذا؛ والشواهد كثيرة، منها: محاولة تفسير أبي بكر لرؤيا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وموقف عمر من ابن صياد، وحادثة خالد بن الوليد مع بني جذيمة، وغير ذلك الكثير.
إن هذا الأسلوب في التشجيع والاهتمام هو ما أدركه الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في سيرة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - حتى في تعاملهم مع أبنائهم؛ فعن ابن عمر قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وإنها مثلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييتُ، ثم قالوا: حدِّثْنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة» .
وفي رواية: «فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتَها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا» .
ومن مشكلاتنا التي نعاني اليوم منها إغفالنا لهذه المعاني في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، على صاحبها أتم الصلاة والتسليم، وذهبنا نحشو مكتباتنا من كتب الغرب وعاداتهم في القيادة، وكأننا لم نُترَك على المحجة، ولم تأتنا كاملة ثرية، ولم يكن لنا سلف ولا تاريخ.
ولو أننا عدنا إلى الوحي المنزل وإلى الرعيل الأول وأئمة الهدى من بعدهم لوجدنا الكنوز في ذلك.
وختاماً: فإنّ من واجبات المرحلة اليوم إخراج القادة وبعثهم وإطلاقهم، هذا واجب الأمة وعلمائها بالدرجة الأولى، حتى لا يتخذ الناس رؤوساً جهالاً وأئمة ضلال، ويعبث بالأمة «السادة» و «الكبراء» الذين لا يملكون من خصائص وملامح القيادة الراشدة شيئاً ... وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل.
__________
(1) مسند أحمد رقم 6613.
(2) الحاكم في المستدرك رقم 2415، 4994.
(1) راجع: حديث فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج، في البخاري ومسلم.
(2) انظر الحديث في سنن الترمذي، في مناقب عمر.(235/4)
الأوائل
منصور بن محمد المقرن
يقوم عدد من المراكز العلمية والباحثين بتقليب صفحات التاريخ ومتابعة الأخبار اليومية لمعرفة الأشخاص الأوائل في كل علم وفن؛ فيحرصون على معرفة مَنْ أول من اكتشف كذا، وأول من قال كذا، وأول من فعل كذا، ونحو ذلك.
والناس عموماً مشغوفون بالتقارير والكتب والأبحاث التي تتحدث عن الأوائل، فلا يكادون يعرفون شيئاً عنهم حتى يبادروا إلى الحديث عنهم في مجالسهم وملتقياتهم. إلا أن الغريب والعجيب في الأمر هو ندرة من يسعى ويجتهد لأن يكون من الأوائل أنفسهم؛ فيبادر إلى أمر صالح لم يسبقه إليه أحد، أو يسارع إلى إنجازٍ لم يبلغه غيره، أو يأتي بفكرة جديدة ينتفع بها خلق كثير.
وفي الشرع الحنيف نصوص كثيرة تحثُّ على ذلك وتشوق النفوس إليه:
منها: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من سنَّ في الإسلام سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء» (1) ، وهذا الحديث بشارة نبوية ومنحة ربّانية لمن بادر إلى الأعمال النافعة غير المسبوقة. وسبب هذا القول النبوي أن قوماً من مُضر جاؤوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد بلغ بهم الفقر والجهد مبلغه، فسألوه العون، فقام ـ عليه الصلاة والسلام ـ خطيباً يدعو الناس للصّدقة، فكان أول من قام رجل يحمل بين يديه صرّةً كادت كفّه تعجز عن حملها، ثم تتابع الناس على أثر ذلك المشهد المحفّز.
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ عند شرحه هذا الحديث: «فيه الحثُّ على الابتداء بالخيرات وسنِّ السُّنن الحسنات.. وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: فجاء رجل بصرّة كادت كفّه تعجز عنها فتتابع الناس. وكان الفضل العظيم للبادئ بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان» (2) .
ومنها: ما ورد عن بعض الأنبياء ـ عليهم السلام ـ من سرورهم واغتباطهم بأن جعلهم الله ـ تعالى ـ من الأوائل، فهذا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أنا أول من يُؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يُؤذن له أن يرفع رأسه..» الحديث (3) . وقال ـ أيضاً ـ: «أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشقُّ عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» (4) .
ومنها: توسُّل الصالحين إلى الله ـ تعالى ـ بكونهم من الأوائل، فهؤلاء سحرة فرعون لما أسلموا وتوعّدهم فرعون بالقتل قالوا: {لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 50 - 51] ، فهم ـ رضي الله عنهم ـ لما فعلوا ما فعلوا ـ من ممارسة السحر، وتسخيره في دعم طغيان فرعون ـ طمعوا أن يغفر الله لهم ذلك كله بكونهم أول من آمن بموسى عليه السلام.
ومنها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رتّب أجراً أكثر لمن يعمل عملاً ينجح فيه من أول مرة عمّن ينجح فيه في المرة الثانية وما بعدها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل وَزَغَةً في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة ـ لدون الأولى ـ وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة ـ لدون الثانية» (5) .
قال النووي ـ رحمه الله ـ: «وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربة ثم ما يليها فالمقصود به الحثُّ على المبادرة بقتله والاعتناء به، وتحريض قاتله على أن يقتله بأول ضربة؛ فإنه إن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله» (6) .
فإذا كانت المبادرة إلى قتل حيوان حقير بسرعة ـ حتى لا يفوت ـ عليها أجر، فكم فات الدعاة من الأجور بضعف المبادرة إلى المشاريع والأعمال الخيرية (1) ؟
ومنها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوجب الجنة لأول من يغزو في البحر، وكذلك لأول من يغزو مدينة قيصر، فقال في الحديث الصحيح: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أَوْجَبوا. ثم قال: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» (2) . ويظهر ـ والله أعلم ـ أن من الأسباب التي أوجبت لهم الجنة ما في مبادرتهم من تضحية عظيمة ومخاطرة جسيمة، حيث لم يسبق لأحد من المسلمين أن ركب البحر للغزو، وأهوال البحر ووحشته معلومةٌ لمن ركبه مسافراً آمناً، فكيف بمن ركبه ليحارب عدوّه فيه؟ كذلك لم يسبق لأحد من المسلمين أن غزا الروم في عقر دارهم، ولا يخفى قوة الروم آنذاك عند قتالهم في أطراف ثغورهم، فكيف بمن يقاتلهم عند عاصمتهم؟
ولذلك فالفارق كبير جداً بين من يبادر إلى عمل غير مسبوق كثير الأعباء والتبعات، وبين من ينتظر نتائج تلك المبادرة؛ فإذا رأى نجاحها لحق بأهلها ليشاركهم الأجر، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] .
وهنا تعليق جميل لسيد قطب ـ رحمه الله ـ يحسن ذكره، حيث يقول: (إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدةُ مطاردةٌ، والأنصارُ قلّة، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء.. غيرُ الذي ينفق ويقاتل والعقيدةُ آمنةٌ، والأنصار كثرة، والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال. ذلك متعلّقٌ مباشرة بالله، متجرد تجرّداً كاملاً لا شبهة فيه، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده، بعيد عن كل سبب ظاهر وكل واقع قريب، لا يجد على الخير عوناً إلا ما يستمدّ مباشرة من عقيدته) (3) (4) .
ومنها: إظهار تعظيم الله ـ تعالى ـ لأماكن مخصوصة بكونها أول ما بُني للعبادة، فقد قال ـ تعالى ـ عن الكعبة المشرفة: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] . وذكر ـ سبحانه ـ أن أحقَّ المساجد أن يقوم فيه نبيه - صلى الله عليه وسلم - هو أول مسجد أسّسه عند دخوله المدينة، فقال ـ سبحانه ـ: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] . فسبحان الله! حتى البقاع يزداد شرفها بكونها من الأوائل.
ولما كان هذا فضل المبادرة إلى الأعمال غير المسبوقة؛ كان للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ النصيب الأوفر من ذلك؛ فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أول من أسلم من الرجال، وأول خطيب دعا إلى الله ـ تعالى ـ جهاراً في مكة، وأول من جمع القرآن. وعمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ أول من أرَّخ من الهجرة، وأول من وضع الديوان. وعثمان ذو النورين ـ رضي الله عنه ـ أول من هاجر بأهله من المسلمين. وغيرهم كثير.
بل قد كان بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفرح أنه من الأوائل ويُحدِّث بذلك؛ فهذا أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ يقول في قصة إسلامه: «فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فكنت أول من حيَّاه بتحية الإسلام» (5) .
وهذا عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ يقول: «أنا أول من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبول أحدكم مستقبل القبلة، وأنا أول من حدَّث الناس بذلك» (6) .
وأخيراً: فإن من أعظم ما يدفع للمبادرة إلى الأعمال النافعة غير المسبوقة العلمَ بفضلها وأجرها وأثرها ـ وقد سبقت الإشارة إلى طرف من ذلك ـ ثم عدم احتقار النفس باعتقاد أنها لا تقدر، أو احتقار العمل المراد إنجازه وأنه لا يستحق أن يُبادر إليه.
فأما احتقار النفس فلنا في حَبْر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أسوة حسنة، حيث لم يمنعه قِصَرُ صحبته الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - ولا صغر سنّه أن يدلي برأيه في مجلس فيه أكابر الصحابة رضي الله عنهم (7) .
وأما عدم احتقار العمل المراد إنجازه ففي توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفاية عندما قال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً» (8) ، وفي رواية لأحمد: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شِسْع النعل، ولو أن تنزع من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحّي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك فتسلِّم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض» (9) .
فأيُّ شيء من أعمال الخير النافعة للمسلم أو لمجتمعه مهما كانت صغيرة ينبغي المبادرة إليها.
وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أخرجه مسلم: 1017.
(2) شرح صحيح مسلم: 7/105 ـ 106.
(3) أخرجه أحمد: 20744.
(4) أخرجه أبو داود: 4053.
(5) أخرجه مسلم: 2240.
(6) شرح صحيح مسلم: 14/455 ـ 456.
(1) ويستفاد من الحديث أيضاً: أن لا ييأس المبادر عند إخفاقه في المرة الأولى، بل يكرر المحاولة إلى أن ينجح.
(2) أخرجه البخاري: 2707.
(3) في ظلال القرآن: 3484.
(4) ويدخل في هذا الفضل من أحيا سُنّة قد اندثرت، أو أتمَّ أعمالاً ومشاريعَ خير قد تُركت وهُجرت.
(5) أخرجه مسلم: 4520.
(6) أخرجه أحمد: 17047.
(7) مع التنبّه لحظوظ النفس ومقاصدها بألا يكون مرادها المدح والثناء. كما أن في سيرة ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ملحظاً للآباء لتحفيز أبنائهم وتربيتهم على عدم انتقاص أنفسهم والمبادرة إلى ما يحسنون.
(8) أخرجه مسلم: 4760.
(9) أخرجه أحمد: 15389.(235/5)
أضواء على تربية الأولاد منذ الصغر
عبير العقاد
تزفّ الدنيا كل يوم بشرى لامرأة باحتواء أحشائها جنيناً لطالما انتظرته ليداعب روحها المتعطشة إليه، ويروي ظمأ حضنها المتلهف لابن تقرّ عيناها بطفولته المتوقدة وشبابه المنتظر.
ويبدأ شجن كلمة (أمي) يطرب مسامعها مع كل يوم ينمو فيه جنينها في بطنها الذي يحمل أثمن مشروع حلمتْ به لدخول الجنة؛ كيف لا والجنة تحت أقدام الأمهات؟!
يا لهذه المسؤولية العظيمة! ابنٌ ستشرفُ على تربيته على الأقل خمسة عشر عاماً بإذن الله، ليكمل حياته بعدها لا رقيب عليه إلا الله؛ فإما أن تفلح في غرس أساسيات القِيَم السامية في عقله وقلبه ليحملها معه طوال الحياة كألماسةٍ ثمينة لا يسمح لأحد بمسّها أو تشويه حقيقتها، وإما أن تفشل كأم صانعةٍ للمجتمعات الشريفة بإنتاجها للنسل الصالح.
ونظراً لكبر حجم المسؤولية وعظمة الوارد والحصيلة؛ يتوجب على كل أم أن تتزود بزاد المعرفة لتنير عقلها في مهمتها القادمة المتمثلة بتربية جيل المستقبل.
تربية؟! نعم! تربية، خمسة حروف من شأنها تقدم المجتمع أو تراجعه بإذن الله.
وتحتاج التربية لرؤية مرسومة وسياسة مضبوطة من قبل كلٍّ من الأب والأم على حدّ سواء، لتمشي بسلام وتسلك الطريق الصائب المؤدّي إلى كل المنافذ الخيّرة.
وعلى مشرِفَيْ هذه السياسة - الأب والأم - أن يعملا لخطتهما التربوية قبل أن يرى ابنهما عالم النور، وعليهما أن يستفيدا من توجيهات الدين الحنيف ومن نصائح الأجداد، وكذا خبرات الآباء والأمهات من حولهم. وعليهما أن يعودا للكتب والمجلات التربوية، وأن يتمسكا بكل خيط يمكن أن يرشدهما إلى سياسة قويمة في تربية الأولاد.
ومن بعض المبادئ التي تحيك مع بعضها سياسةً تربوية سليمة، نذكر منها الآتي:
1- التشاور الدائم بين الأب والأم واتفاقهما على خطة موحدة:
على كلٍّ من الأب والأم أن يلملِما من هنا وهناك الأساليب التربوية التي حققتْ نجاحاً عظيماً في إنشاء جيلٍ بنّاء، وعليهما أن يلتزما الحوار الدائم حول كل مسلكٍ تربوي، ومناقشة مزاياه وسلبياته، ومدى مناسبته لبيئتهما، ومن ثم اعتماده أو استبعاده. فيقرّان ما حلا لهما من هذه المسالك، ويحدِّدان أولوياتها، ويخططان لكل الوسائل والإمكانيات التي يمكن أن تساعدهما في تعميق هذا المبدأ التربوي وتشرّبه في نفوس أولادهما على أحسن وجه.
فعلينا مثلاً أن نربي أولادنا على الاحترام، والطاعة، والتعاضد، والمحبة، والشعور بالمسؤولية ... إلخ. وعلينا أن نلتزم بالطرق القويمة التي تناسب بيئتنا وديننا لترسيخ هذه الأمور في نفوس أولادنا، مستعينين بوحدة كلمة الأب والأم.
2- بثّ أجواء المحبة في أرجاء المنزل:
إنّ المحبة هي الغذاء الأساسي الذي يسهم في تنمية الأبناء تنميةً سليمةً وبنّاءةً نفسياً واجتماعياً.
وبناءً على ذلك يتوجب على كل من الأبوين العمل َ بجدّ كي يصل ذلك الشعور بالحب لأولادهما الصغار وذلك بكافة الطرق الممكنة؛ مثل: تقبيلهم، وحضنهم، والتبسّم لهم، والتربيت على رؤوسهم ... إلخ؛ بحيث يشعر الأولاد دائماً أن أبويهم يكنّان لهم كل الحب، ولا يمكن أن يكرهانهم أبداً.
وهذا لا يمنع معاقبتهم إن أخطؤوا، والغضب عند تصرّفهم بطرق غير لائقة، إلا أنّ العقاب والغضب يجب أن يترافقا مع إيضاح السبب الكامن وراء العقاب كي يؤتي ثماره؛ وما السبب إلا الوصول بالأولاد إلى أعلى المستويات وتخليصهم من كل الأخطاء الممكنة؛ وما الدافع نحو ذلك إلاّ الحب الدائم.
والحب ليس تجاه الأولاد فحسب؛ بل بين الأبوين نفسيهما أيضاً؛ إذ لا يتشرب الأولاد الحب إلا إذا ذاقوا حلاوته من خلال الشعور بأَلَقِه وتوهّجه بين الأبوين.
وهنا ندعو الآباء إلى حصر مناقشاتهم الحادة وشجاراتهم بين جدران غرفة النوم؛ حيث لا يسمع غضبَهم سامع، ولا يشعر به أولادهم؛ حتى لا ينعكس سلباً على الأبناء والبنات.
الحبّ يولد الحب، والآباء الحريصون على توريث أولادهم المحبة عليهم أن يتحلوا به قبل؛ إذ إنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
3 - الاتفاق بين الأبوين على إيكال المسؤولية المباشرة المتعلقة بتربية الأولاد للأم:
كونُ الأم بكل مكوناتها الجسمانية والمعنوية قادرةً على الصبر ومنح الحب والحنان بلا حدود لأولادها، وكونها الجليس الذي يقضي الوقت الأطول مع الأولاد غالباً أكثر من الأب؛ لذا فالجدير أن نمنحها المسؤولية المباشرة تجاه تربية أولادها. وهنا نقول: منحها المسؤولية المباشرة، وليس المسؤولية الوحيدة؛ فالأم والأب شريكان في المسؤولية؛ إلا أنّ الأب الغائب في عمله غالباً طوال النهار لا يمكن تنصيبه لهذه المهمة.
إنه مسؤول عن تربية أولاده بلا ريب، لكن عليه أن يصادق على كون زوجته صاحبة المسؤولية المباشرة عليهم؛ فإن أراد أحد الأولاد أمراً مّا عليه التوجه لأمه الحاضرة أمام عينيه ـ غالباً ـ بهذا الأمر؛ فإن رأتْ أنها تستطيع البتّ به مباشرة فعلتْ؛ وإلا قالت للابن بأنها ستفكر، وتستغل ذلك الوقت في مناقشة الأمر مع زوجها والاتفاق على تلبية ذلك الطلب أو رفضه، والإجراءات المتوجبة حيال ذلك.
وعلى الأبوين أن يتفقا على هذه السياسة مع بعضهما؛ إذ قد يحاول بعض الأولاد التحايل عندما ترفض أمهاتهم الاستجابة لرغباتهم وتلبيتها، فيلجؤون إلى الأب ليحصلوا منه على الضوء الأخضر. وفي هذه الحالة، يجب أن يحبط الأب خطتهم بقوله: هل وافقتْ والدتكم على هذا الأمر؟
إلا أنه مع تقدم سنّ الأولاد ودخولهم مراحل عمرية حرجة، كالمراهقة مثلاً؛ قد تخرج الأمور من سيطرة الأم، خصوصاً مع الابنة المراهقة والابن العنيد، وهنا يتوجب إبراز الأب كقوة حاسمة لها هيبتها، وكصديق ذي صدر رحب وعقل راجح لا يتردد الأولاد باللجوء إليه أبداً، دون نسيان دور الأم؛ الصديقة، والحازمة، وذات الصدر الحنون أيضاً.
4- تحفيز الحواس والإدراكات العقلية وتطويرها في السنين الأولى من عمر الأولاد:
الحواس هي النعمة التي منّ الله علينا بها لتلمّس هذا العالم وإدراكه وخوض غماره، إذاً هي مفتاح البشر لولوج الكون واستيضاح غوامضه.
وتنمو الحواس بشكل فعّال ومهم في الفترة الزمنية الأولى من عمر الطفل؛ هذه الفترة التي على الأبوين استغلالها لتطوير تلك الحواس وتنشيطها على أحسن وجه.
فعلى العين أن تميّز هذا العالم بألوانه وأشكاله المختلفة، وعلى الأذن أن تبدأ بالتفريق بين أصوات الأشخاص والتعرف على أصوات الحيوانات؛ وكذا أصوات الملامح الكونية من حولنا؛ كهدير الماء، ورعد السماء ... إلخ.
وكذا حواس اللمس والذوق والشمّ التي يجب على الآباء تحفيزها وتقويتها عند أولادهم وجعلها قادرة على التفريق بين غير المتشابهات.
أما خيال الطفل فيجب مدّه بالعون والمساعدة ليصبح فسيحاً وخصباً يسع العالم بأسره.
ومن وسائل التحفيز والتنشيط لهذه الحواس اصطحابُ الأطفال إلى الحدائق الملأى ذات البهجة، التي بإمكانها تنشيط حاسة البصر بما تحويه شتى الألوان؛ كما من شأنها تحفيز قدرة الأطفال على التمييز بين الألوان والكائنات المتنوعة.
كما لا يمكن إنكار أهمية ألعاب الأطفال من مكعبات ومجسمات ودمى ... ، وغيرها مما يحفز حواس البصر واللمس والذاكرة والتحليل؛ خصوصاً بين عمر السنة والنصف والخمس سنوات.
ويتوجب على الآباء التخطيطُ لشراء لعبة تحمل بين طيّاتها هدفاً تربوياً معيناً جنباً إلى جنب مع التسلية؛ إذ لا ضرورة لمزيد من المصاريف على ألعاب لا تجدي نفعاً مع الأولاد.
وعلى الآباء أن يشاركوا أولادهم في اللعب؛ خصوصاً عند اقتناء اللعبة للمرة الأولى؛ إذ يسهمون بذلك في تعليمهم الطريقة المثلى للعب قبل أن يبدؤوا اللعب بمفردهم بعدئذٍ.
وعلى الآباء أن يطلقوا العنان لخيال أولادهم لينمو على أوسع وجه، وذلك برواية القصص الشيّقة وفسح المجال لأولادهم لتخيّل أحداثها، أو منحهم المجال للعب مع من في أعمارهم ألعاباً تستلزم خيالاً خصباً؛ كأن يلعبوا لعبة الأم والأولاد، أو الضيف والمضيف، أو الطبيب والمريض ... إلخ.
وتتوافر في بعض الدول أماكن خاصة للأطفال تدعى (مدن الخيال) ؛ حيث الثياب المزركشة التي يتحول الأطفال بارتدائهم إياها إلى أمراء أو طلبة كبار ... إلخ. ويبدؤون بنسج القصص الخيالية وتمثيلها والعيش معها، إلى جانب العديد من الوسائل والتقنيات الأخرى التي تسمح بتطوير حسّ الخيال عندهم.
إذاً؛ كل هذا من شأنه تنمية خيالهم الذي يدفعهم رويداً رويداً إلى الإبداع والتميّز.
5- على الأبوين الشروع في تعليم أولادهم الأمور الأساسية قبل دخولهم المدرسة:
البيت هو أساس تربية الطفل وتعليمه وتقويمه، ومنه تبدأ التربية وتترسخ الأخلاق الفاضلة والمعلومات الأساسية والسلوكيات الفاضلة؛ كما بين جدرانه ترتسم شخصية الطفل بكل أبعادها وتتوطد دعائم بنائها، بينما تأتي المدرسة كمكمّل لهذا البناء ومرَسِّخ له.
إذاً؛ على الأبوين تعليم أولادهم أساسيات الأمور قبل المدرسة، مثل: الألوان، والأشكال، وبعض الأسماء، وكذلك بعض السلوكيات: كاحترام الكبير، والعطف على الصغير، والحفاظ على النظافة برمي النفايات في سلة المهملات لا على الأرض ... إلخ.
6- التدرج في تربية الأولاد ومعاملتهم:
على الأبوين الانتقال من مرحلة تربوية إلى أخرى بتأنٍّ وتدرّج وصبر ونَفَس طويل. وعليهما ألاّ ييأسا إن فشلا في تعليم أولادهم سلوكاً تربوياً معيناً من أول مرة؛ بل عليهما المثابرة والتكرار والتدرج؛ إذ يأتي اللين أولاً في تربية الأولاد، ثم المثابرة والصبر؛ فإن لم يفلحا يمكن أن ينتقل الأبوان إلى العقوبات، لكن بعد إعطاء كل مرحلة حقها.
إذاً؛ لا يجب أن نعاقب الأولاد على سلوك خاطئ قبل أن نحاول معهم باللين والرفق ومدح السلوك الصحيح والترغيب به بالمكافآت المناسبة. بعدها إن لم يتمّ الأمر يمكن أن نلجأ إلى التنبيه بطريقة لطيفة؛ فإن لم نفلح أيضاً نلجأ بعد ذلك إلى العقاب المناسب غير الحادّ؛ مع مناقشة أسبابه وتبيان ضرورته. ويجب تَوخّي الحزم عند العقاب؛ فإن قررنا معاقبة الابن مثلاً بحرمانه من مشاهدة الرسوم المتحركة لمدة يوم علينا التقيّد بالعقوبة المفروضة؛ لأن فرض العقوبات مع عدم التقيّد بها يفقد العقاب هدفه، ويعود الابن لتكرار نفس الخطأ مستهيناً بقرارات أبويه اللاسارية، غير آبهٍ بها.
7- مراعاة الفروق الفردية بين الأولاد:
ينفرد كل ابن من أولادنا بشخصية مميزة لا تشبه شخصية أخيه، لذا يجب تنويع الأساليب التربوية مع الأولاد؛ فالأسلوب الناجع مع ذلك الابن يمكن أن يفشل مع أخيه. فهناك أولاد تكفيهم نظرة العتاب، في حين يحتاج آخرون لكلام حازم، وهناك أيضاً من يحتاح لعقاب قاسٍ.
لذا يتوجب على كل من الأبوين التعرف على خصائص نفسيات أولادهما والتعامل مع كل منهم بما يتلاءم وشخصيته وفكره.
8- المساواة بين الأولاد:
هذا الأمر لا يلغي أبداً أهمية مراعاة الفروق الفردية بين الأولاد؛ إذ إن المساواة تعني العدل مادياً ومعنوياً في المعاملة بين الأولاد في الأمور اليومية.
وهذا ما أمرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «اعدلوا بين أبنائكم» وكررها ثلاثاً.
فالعاطفة يجب أن ُتمنح للأولاد بشكل متساوٍ؛ مثلها مثل الطعام، واللباس، والهدايا، والألعاب، ... إلخ.
كما يجب عدم تفضيل الذكر على الأنثى في المعاملة؛ ممَّا قد يؤدي إلى زرع بذور الحسد والحقد بينهم.
9 - عدم تأنيب الأولاد أمام الآخرين وعدم إهانتهم بتاتاً:
يجب أن يؤنَّب الطفل على انفراد، وأن تتاح له أكثر من فرصة ليقوِّم خطأه ويعتذر عنه.
وفي حال كرر الطفل هذا الخطأ ولم يُحدث تغييراً في سلوكه؛ يمكن حينئذٍ اللجوء إلى تأنيبه علنياً؛ لكن بصورة لطيفة، دون أن يدفعه هذا التأنيب العلني إلى عيش عقدة نفسية مستقبلاً، ودون أن يدفعه إلى التمادي بالخطأ.
أما إهانة الأولاد فهو من الأساليب التربوية الخاطئة قطعاً ويتوجب عدم اللجوء إليها أبداً. ومن الإهانات التي يلجأ إليها الآباء والتي تؤثر سلباً على نفسيات أولادهم السخريةُ من العيوب الموجودة أو النقائص الجسدية والعقلية التي يعاني منها أولادهم، وتوجيهُ شتائم لهم، وتشبيههم ببعض الحيوانات. وهذه الإهانات يصعب على الطفل أن ينساها؛ إذ إنها تحفر في نفسه أثراً عميقاً وتؤلمه بشكل كبير؛ بل إن بعض الأولاد الذين لا يستطيعون المواجهة يحاولون أن يتصفوا بهذه النعوت وأن يتشبهوا بالصفات التي أطلقت عليهم مثل: (غبي ـ أحمق) ، أو (أنت حمار لا تفهم) ، وغير ذلك من الأساليب الرديئة التي لا تحترم شخصية الابن ولا تحثه على تمثُّل السلوك الحسن مستقبلَ أيامه.
ويمكن أن تبدأ علامات الانطواء بالظهور عند الأولاد عند استخدام آبائهم ألفاظاً رديئة معهم. ويمكن أن يساعد ذلك في فقدان ثقتهم بأنفسهم وشعورهم بالإحباط الذي يمكن أن يرافقهم في كل مراحلهم العُمُرية القادمة.
10- اللجوء إلى أسلوب الثواب قبل أسلوب العقاب:
الثواب هو الأسلوب التربوي الأجدى والأنفع مع الأولاد. لكن ذلك لا يمنع من أهمية اللجوء إلى العقاب مع الأولاد الذين لا ينتفعون بالثواب ولا يحيدون عن خطئهم به؛ لكن يجب أن يكون العقاب متدرجاً وملائماً للسلوك الخاطئ؛ كأن نحرم الطفل أولاً من اللعب باللعبة التي يفضلها، أو حرمانه من مشاهدة التلفاز؛ ولكن لفترات معقولة ومقبولة؛ فإن لم يُجدِ معه هذا العقاب ننتقل إلى عقاب أقسى نوعاً ما. وآخر ما نلجأ إليه الضرب؛ على ألاّ يكون الضرب مبرحاً ولا متكرراً ولا يطال الجزء العلوي من الجسد. ويجب عدم ضرب الأولاد أثناء انفعالنا حتى لا يتحول الضرب إلى ضرب وحشي غير محسوس به من قبلنا. ومن الأجدر بالآباء أن يمتنعوا عن الضرب بتاتاً وأن يلجؤوا إلى وسائل وأساليب أكثر نفعاً.
ويجب أن يكون الثواب والعقاب بالتساوي بين كل الأولاد. لا أن يحاسب الكبير أكثر من الصغير؛ فقط لأنه أكبر سناً! ولا أن تعاقب البنت لأخطاء ترتكبها لا يُعاقَب على مثلها أخوها؛ فقط كونه ذكراً وهي أنثى.
11- ألا يسخّر الوالدان الوسائل التربوية لإيجاد نسخة ثانية عنهما من الأولاد:
هذا السلوك نابع عن أنانية وغرور عظيم؛ حيث يظن الأبوان نفسيهما الأفضل في هذا العالم؛ فيكَرِّسان وقتهما لتربية أولادهما على صورتيهما.
وما هذا إلا مهمة شبه مستحيلة لن تسمح إلا بإضاعة الوقت؛ إذ إن الله عندما خلق الإنسان خلق معه رغبة التحدي والاقتحام وإثبات جدارة الذات، ومنحه فرصة اختيار ما يريد أن يكون.
إذاً؛ على الآباء عدم محاولة استنساخ أنفسهم عبر أولادهم، وعليهم أن يتركوا لعوامل الوراثة أن تقوم بجزء من هذه المهمة، أما هم.. فلا.
ليكن أولادنا شخصيات فريدة تضيف للعالم الجديد وتثريه، ولتختار هي نفسها أن تكون ذاتها أو أن تكون آباءها.
12- على الآباء تنمية أداة الحوار مع الأولاد منذ الصغر:
الحوار هو الوسيلة المثلى لتحقيق الغايات وتنمية الثقافة بشكل راقٍ ومهذب.
لا للصراع ولا للشجار، ونعم للحوار الهادئ المتزن المقرون بالموضوعية والصراحة والأدب والاحترام.
فليمتنع الآباء عن اللجوء إلى العقاب مباشرة عند خطأ أولادهم، وليستبدلوا الأمر بحوار ونقاش طويل حول الخطأ الذي ارتكبه صغيرهم، وليتزودوا بالجَلَد والصبر وطول البال أثناء الحوار، وليعيروا انتباهاً لأسئلة أولادهم، وليحاوروهم ليُكسِبوهم هذه المهارة عند الكبر.
ولا يترسخ أهمية الحوار عند الأطفال إلا عند معايشتهم لهذا الأسلوب بشكل واقعي بين أبويهم؛ فالأولاد الذين يرون أن أبويهم يتحاوران بشكل دائم ويعتمدان الحوار لحلّ كافة المشاكل التي تعترض طريقهما؛ يرث هؤلاء الأولاد بدورهم هذه المهارة ـ الحوار ـ ويحملونها معهم في حياتهم؛ متسلحين بوسيلة عظيمة للشورى، وتبادل الأفكار، والتزود بالمعلومات وحلّ المشاكل ... إلخ.
13- على الآباء حماية أولادهم دون إفراط:
قد تظهر الحماية الزائدة للطفل من قبل الأم على سبيل المثال؛ خوفاً من أن يصيبه مكروه أو عدوان أو حتى عدوى ما؛ فتقوم مثلاً بحجبه عن البشر ومنعه عنهم؛ فلا مجال لتقبيله من قبل الآخرين، ولا مداعبته وتقديم الحلوى له، أو عدم السماح له باللعب مع الأطفال إلا تحت رقابة شديدة وصارمة.
إن هذا الأسلوب من شأنه إيجاد طفل مدلل عنيد وغير اجتماعي، ولا بد أن يعاني عدم التوازن في المعاملة التي يتلقاها بين المنزل والمدرسة، ومن ثم بين المنزل والحياة بشكل عام عندما يكبر.
كما يصبح مع مرور الزمن اتّكالياً بوجود أمه التي تؤمّن له كل شيء ولا تسمح له بالقيام بأي أمر بذاته.
14- على الآباء الاستفادة من خبرات الآخرين في تربية أولادهم:
وفي هذا المجال نورد الآيات القرآنية التالية:
{وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 13 - 19] .
إنها آيات كريمات تضع منهجاً لتربية النشء؛ ما أجدرنا بتطبيقها على الأولاد بالأساليب النبوية والتربية والتعليم!
وبعد؛ إذا كان الأولاد هم بناة المجتمع ومطوروه؛ فإن الآباء هم الأدوات الفعالة لتربية هؤلاء الأولاد ليقوموا بدورهم المرجوّ منهم على أحسن وجه.
فساهم في تربية أولادك التربية المثلى الملائمة لإنشاء مجتمع راقٍ كالذي تحلم وتطمح للعيش في أرجائه، وابدأ بهذه التربية القويمة منذ الصغر؛ فالتربية في الصغر كالنقش على الحجر.(235/6)
بين التعليم الشرعي والعلم الشرعي
محمد بن عبد الله الدويش
ينتمي العلم الشرعي للكتاب والسنة، ويستمد من هذا الانتماء قدسية خاصة؛ فمحتواه هو كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهما حق لا يتطرق إليهما الشك أو الريبة، ولا يختلف حولهما. ودائرة الخلاف إنما هي منحصرة في دلالة النص وفهمه؛ وما يتصل بذلك من عموم وخصوص، أو إطلاق وتقييد، أو إحكام ونسخ، أو في ثبوت نص السنة من جهة الرواية.
ولقد كان الخلل في التعامل مع النص الشرعي المتمثل بنصوص الوحي من أهم مداخل انحراف الفرق الضالة؛ ممّا ولّد مساحة واسعة في النقاش والحوار حول منهجية التعامل مع النص الشرعي.
ومن هنا ارتبط الحديث عن التعليم الشرعي لدى فئة من المهتمين به بالحديث عن محتوى العلم الشرعي نفسه، أو عن النص الشرعي، وأثارت القلقَ كثيرٌ من الدعوات المعاصرة التي نادت بتطوير مناهج العلوم الشرعية في التعليم، وتطوير أدوات التعليم الشرعي.
والقلق من الدعوات التطويرية له ما يبرره؛ بالنظر إلى مصادر تلك الدعوات والسياق الذي صدرت فيه، وبالنظر إلى أن كثيراً منها لم يكن موضوعياً، بل إن كثيراً من تلك الدعوات لم تَخلُ من نية سيئة، ولم تَخلُ من كونها تنطلق من أهداف تسعى إلى تقويض العلم الشرعي وتحجيمه.
لكن القلق لا ينبغي أن يمتد إلى عملية التطوير نفسها، ولا ينبغي أن يقود إلى إغلاق باب التفكير والتقويم.
وهذا يقودنا إلى أهمية الفصل بين محتوى العلم الشرعي وبين التعليم الشرعي؛ فمحتوى العلم الشرعي يتعلق بالنصوص الشرعية وما يتصل بها، أما التعليم الشرعي فهو عمل بشري.
ويستمد هذا العمل البشري قيمته من انتمائه للعلم الشرعي واتصاله به، لكن ذلك كله لا يخرجه عن كونه عملاً بشرياً، وهذا يتطلب مراعاة ما يلي:
3 الاعتناء بتقويم عملية التعليم ومراجعتها وقتاً بعد آخر.
3 التعامل مع النقد الموجّه للتعليم الشرعي بعدل وموضوعية؛ فبالرغم من وجود نوايا سيئة حول بعض الأعمال النقدية، ومن وجود بعض التطرف في أخرى، إلا أن هذا لا يعفينا من النظر بموضوعية، ومن الفصل بين النظر إلى النوايا والأهداف وبين الاستفادة مما يثار من انتقادات.
3 مسؤوليتنا عن بذل الجهد في تطوير التعليم الشرعي ومناهجه وأدواته، وألاّ نكتفي بتكرار التجارب والأساليب الموروثة.
3 فتح الآفاق أمام الأفكار والأساليب الجديدة التي تسعى لتطوير التعليم الشرعي، والبعد عن القلق والحساسية المفرطة، أو الشعور بأن انتماء هذا التعليم للعلم الشرعي يلغي حاجته للتطوير والارتقاء.
إن تطورات الواقع وتحدِّياته، وتسارع وتيرة التغيير تتطلب مخرجات قادرة على التعامل مع هذه التغيرات، وعلى تقديم الحلول لمشكلات الأمة، وعلى تقديم برامج إصلاحية، وذلك كله لن يتحقق إلا مع مزيد من المراجعة والتقويم والتطوير لمناهج التعليم الشرعي وأدواته.(235/7)
مفهوم اليُسْر في الدين
أ. د. جعفر شيخ إدريس
اليُسْر مقصد من مقاصد الدِّين الكبرى، جعله الله ـ تعالى ـ أساساً لكل ما أمر به ونهى عنه في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأمرنا أن نلتزمه في فهمنا للدين والعمل به والدعوة إليه؛ فقال ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره» وفي لفظٍ: «إنكم أمة أُريد بكم اليُسْر» . أخرجه الإمام أحمد بسندٍ صحيح.
ولكن ما معنى أن يكون الدِّين يسراً؟ إن آية اليُسْر نزلت تعليلاً لأمره ـ تعالى ـ بالفطر للمريض والمسافر. ولكن هل الصيام نفسه الذي وردت بمناسبته قاعدة التيسير شيء لا مشقة فيه؟ ماذا لو قال إنسان: لو كان الصيام نصف شهر لكان أيسر، ولو كان أقل من ذلك لكان أكثر يُسْراً، بل لو لم نُؤمر بالصيام لكان اليُسْر كله؟!
وما يُقال عن الصيام يُقال عن سائر ما أمر الله ـ تعالى ـ به من صلاة وصيام وحج وزكاة وجهاد بالمال والنفس؛ إنها كلها تكاليف فيها شيء من مشقة؟ فلو كان معنى التيسير: أن لا يُؤمر الناس بشيء فيه أدنى مشقة؛ لما كان هنالك تكليف بصلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد؛ لأن فعل ما لا مشقة فيه البتة أَيْسر ـ فيما يبدو لأول وَهْلَة ـ مما في فعله أدنى مشقة.
فما المقصود باليُسْر إذاً؟ معناه فيما يبدو لي: فعل ما يحقق الغاية بأدنى قدر من المشقة، مثلاً: إذا كان لا بد لك من وسيلة للكسب تحفظ لك ماء وجهك وتغنيك عن السؤال وتوفر لك ما تحتاج إليه من طعام ولباس وسكن وزيادة توفر بعضها وتتصدق ببعض؛ فإن خير وسيلة هي عمل يحقق لك كل هذا بأدنى قدر من المشقة. فإذا قال لك الشيطان: لكن عدم الكسب أَيْسر من أية وسيلة فيها شيء من مشقة، ولذلك فإن الأفضل لك أن لا تعمل إطلاقاً.. ستقول له ـ إن كنتَ عاقلاً ـ: هذا صحيح بادئ الرأي أيها الخبيث! لكن انظر ماذا سيترتب على البطالة، إنها ستجعل حياتي أعسر نفسياً وربما جسدياً؛ فعملي رغم ما فيه من مشقة هو في النهاية أَيْسر من البطالة التي يبدو أنه لا مشقة فيها.
وكذلك الأمر بالنسبة للدِّين؛ فما يأمرنا الله ـ تعالى ـ به هو أعمال تحقق غايات ضرورية لنا، غايات لا تكون لنا سعادة إلا بها، ولكنها باعتبارها أعمالاً فلا بد أن تتضمن شيئاً من الجهد والمشقة، لكن الله ـ تعالى ـ الخالق لكل شيء، المحيط علماً بالوسائل والغايات، الرحيم بعباده، يختار لنا أسمى الغايات، ثم يدلُّنا إلى أحسن الوسائل التي تحققها بأدنى مشقة، كما قال الله ـ تعالى ـ في أول آية علّل بها أمره بالصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] .
فالغاية المطلوب الوصول إليها هي التقوى، والوسيلة إليها التي لا وسيلة غيرها لتحقيق هذا النوع من التقوى هو صيام شهر رمضان.
وعليه؛ فيمكن تقسيم الأعمال بالنسبة لغاياتها ووسائلها إلى أربعة أنواع:
أحسنها: غاية حسنة ووسيلة ميسرة، وهذا هو الذي اختاره الله ـ تعالى ـ لعباده.
وأسوؤها: غاية سيئة ووسيلة شاقة، من أمثلتها: محاربة الكفار للمسلمين، وبذلهم أموالهم وأنفسهم في سبيل ذلك. ومنها: ما يتظاهر به المنافق من صلاة وصوم وحج وزكاة وربما جهاد.
في مثل هذا العمل قالت العرب: لحم جمل غَثٌّ، على رأس جبل وَعْرٍ، لا سمين فيُشْتَهى، ولا سهل فيُرْتَقى.
وأقل منه سوءاً: غاية سيئة ووسيلة سهلة.
وأحسن من هذا: غاية حسنة ووسيلة عسرة. وهذا يشمل كل ما خالف السُّنّة من أنواع الأعمال الصالحة.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ: مَا زِلْتِ عَلَى الحال الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ! قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» . (صحيح مسلم: 13 / 258) .
فالحديث يدل على أنه بالاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادته يحصل الإنسان بالعمل القليل في الوقت القصير على الأجر الكبير. فيا خسارة الذين يستبدلون بأذكار النبي - صلى الله عليه وسلم - أذكاراً اخترعوها أو اخترعها لهم سادتهم، إنها في أحسن أحوالها جهد كبير وأجر قليل. ولذلك كان عدد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يقول: اقتصاد في سُنّة خير من اجتهاد في بدعة. أما إذا كانت تتضمّن شركاً أو شيئاً حراماً فإنها قد تكون من النوع الذي قال الله ـ تعالى ـ فيه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 1 - 4] .
وقوله ـ تعالى ـ: {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] .
وإذاً؛ فالدِّين كله يُسْر بهذا المعنى الذي ذكرناه. قال سماحة الشيخ صالح بن حميد في خطبة له جامعة عن اليُسْر (1) : والتيسير مقصد من مقاصد هذا الدِّين، وصفة عامة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها؛ فربُّنا بمنِّه وكرمه لم يكلِّف عباده بالمشاقّ، ولم يردعنا كالناس، بل أنزل دينه على قصد الرِّفق والتيسير.
شريعة الله حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، فلله الحمد والمنّة.. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ، {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] .
والتيسير له معانٍ أخرى، منها: أن الله ـ تعالى ـ لا يكلِّف الناس بما يطيقون، بل بما هو في وُسْعهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وتأمَّل قوله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {إلاَّ وُسْعَهَا} ، كيف تجد تحته أنهم في سِعَة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوُسْع يقتضي ذلك؛ فاقتضت الآية أن ما كلَّفهم به من غير عُسْر لهم ولا ضيق ولا حرج، بخلاف ما يقدر عليه الشخص؛ فإنه قد يكون مقدوراً له ولكن فيه ضيق وحرج عليه. وأما وُسْعه الذي هو منه في سِعَة فهو دون مدى الطاقة والمجهود، بل لنفسه فيه مجال ومتّسع) . (الفتاوى: ج14، التفسير الجزء الأول، ص 137ـ 138) .
ومنها: أن العمل وإن كان فيه مشقة إلا أن الله ـ تعالى ـ يجعله سهلاً بطرائق كثيرة، منها: أنه يغير طبيعته الشاقة فيجعلها سهلة، كما ذكر الشيخ بالنسبة للقرآن الكريم ذكراً وتدبُّراً وفهماً.
ومنها: أن يجد المؤمن في العمل لذّة روحية، حتى إنه ليكاد ينسى ما فيه من مشقة.
وإذا حلَّت الهداية قلباً
نشطت للعبادة الأعضاءُ
ومنها: أن يريد المؤمن تحقيق غاية يحبها لكنه يعلم أنها لا تتحقق إلا بعبادة معينة فيحرص عليها طلباً لتلك الغاية المحبوبة فتهون عليه؛ كما في قوله ـ تعالى ـ عن الصلاة:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46] . وقوله ـ تعالى ـ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45] .
«وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ! فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ! أَفَلا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً» (أخرجه مسلم) .
فحرصه - صلى الله عليه وسلم - على شكر ربه ـ وهو شعور له لذّة لا تعدلها لذّة ـ هو الذي يسَّر له هذا العمل الذي يبدو شاقّاً.
ومنها: أن الله ـ تعالى ـ قد يزيل مشقات العمل حتى لا يكاد يبقى منها شيء؛ فأشق شيء على الإنسان أن يُقْتل لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما يجد الشهيد من مسِّ القتال إلا كما يجد أحدكم من مسِّ القرصة» (أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وقال: حديث حسن صحيح) .
وعليه؛ فإذا كان الله ـ تعالى ـ قد تكفَّل بتسهيل العمل بما أنزل من أمر ونهي؛ فكذلك يجب أن نفهمه ـ نحن ـ في ممارستنا له. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح مشيراً إلى هذه الممارسة: «إن هذا الدِّين متين؛ فأوغلوا فيه برفق» . وقال: «إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره» ، فعبارة «خير دينكم» هي إشارة إلى الدِّين الممارس لا الذي أنزله الله ـ تعالى ـ، فإن ذلك ميسّر في أصله لا يحتاج إلى أن ييسّره إنسان.
ومن أحسن ما قرأت تطبيقاً لهذه الأحاديث ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه قال: حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن الأزرق بن قيس قال: (كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلّى وخلّى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها، فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنّفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إن منزلي متراخٍ، فلو صليت وتركت لم آتِ أهلي إلى الليل، وذكر أنه صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى من تيسيره) .
لكنَّ فعل (أبي برزة) يختلف عما يفعله بعض الناس الآن في اختيارهم لما يختارون من الأقوال التي اختلف فيها العلماء. يقول أحدهم لنفسه: ما دام الدِّين يسراً فإنني سأختار ما أراه أسهل عليّ أو على الناس، ثم يبدأ ينظر في الأقوال بهذا المعيار فيقول ـ مثلاً ـ: قول الحنفية هذا صعب، لكن قول الحنابلة أصعب، أما قول المالكية فسهل، وأسهل منه قول الشافعية، وأسهل من هذا كله قول العالم الفلاني الذي خالفهم جميعاً، فأنا آخذ به.
إن المنهج الصحيح هو أن يقول الإنسان لنفسه: ما دام دين الله كله يُسْراً فسأختار ما أراه بأدلّته أقرب إلى الشرع؛ لأن الأقرب إلى الشرع هو الأقرب لتحقيق الغاية بأدني مشقة.
قد يقول قائل: أليس هذا الذي انتقدتَ منهجه متأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أَيْسرهما؟ يقال له: نعم إذا خُيِّر كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} .
[البقرة: 196]
والتخيير معناه أن كل واحد من الأمور المخيّر فيها يؤدي الغرض المطلوب، لكن بعضها قد يكون أَيْسر على الإنسان من بعض، فيختاره. لكن ما نحن في صدده لا علاقة له بالتخيير، بل المطلوب فيه معرفة حكم الله ـ تعالى ـ في الأمر الذي اختلفت فيه الأقوال أو الاجتهادات؛ لأنها إذا تناقضت فلا يمكن أن يكون كل واحد منها صحيحاً مؤدّياً الغرض. نعم؛ إذا استوت الأدلة ولم يمكن ترجيح بعض الأقوال على بعض، فإن الأخذ بالأَيْسر يكون منهجاً صحيحاً.
لكن رغم هذا فقد يحدث التعسير في الدِّين شرعاً أو قدراً، ويكون عقاباً من الله ـ تعالى ـ لبعض الناس. مثال التعسير شرعاً: ما قال الله ـ تعالى ـ فيه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] .
وأما التعسير القدري فيكون بسبب سوء فهم بعض الناس للدِّين وإلزامهم أنفسهم بما لم يلزمهم به الله ـ تعالى ـ من أنواع العنت. وهذا هو الذي يحدث لأناس من هذه الأمة التي اختار الله لها الحنيفية السمحة والتي قال الله ـ تعالى ـ عن رسولها: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . [الأعراف: 157]
هذا العنت القدري العقابي هو الذي يدعو المسلمُ ربَّه أن يعيذه منه: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] .(235/8)
إستراتيجية ناجحة في جمع التبرعات
إبراهيم بن سليمان الحيدري
في سوق مكتظ بالمتنافسين، يسيطر على 80 % منه ثلاث شركات رئيسية، ويتنافس المئات من الشركات على بقية العشرين بالمئة. استطاعت «واحد» للمياه المعبأة أن تدخل سوق الماء البريطاني وتحتل مكانة وسمعة مرموقة بين شريحة كبيرة من الناس. لم تكن الرحلة سهلة؛ فقد عانى أصحابها من تصريف 12.000 عبوة خلال الأشهر الستة الأولى، لكنهم الآن يبيعون 200.000 عبوة يومياً.
الجميل في هذه التجربة أن تعرف ـ أخي القارئ الكريم ـ أن «واحد» هذه هي منظمة خيرية بريطانية كان لنجاحها أسرار بعد مشيئة الله؛ وأبرز أسباب نجاحها أنها سوَّقت لمنتجها بفكرة جوهرية جذابة؛ فهي لم تطلب من الناس التبرع لها كما تفعل كثير من المنظمات الخيرية، بل لبت من خلال منتجها الذي تقدمه حاجة فعلية لدى الناس وهي الحاجة لشرب الماء، لكنها تميزت عن بقية الشركات التجارية التي تقدم المنتج ذاته بأنها تقيم مشاريع لتوفير المياه النقية في مناطق فقيرة متعددة من العالم؛ وذلك من كامل قيمة علب المياه التي تبيعها للناس، ملبية بذلك حاجة أخرى لدى الناس وهي الرغبة في مساعدة الآخرين والمشاركة في تغيير مستوى معيشة المحتاجين. كان المشتري يدرك أن لا فرق كبيراً بين الشركات المنتجة للماء، لكنه يدرك أن شراءه من «واحد» سوف يساعد أناساً محرومين وفقراء.
إن ارتباط المنتَج المسوَّق تجارياً بمجال المشروع الخيري نفسه وهو في هذا المثال: الماء ـ هذا الارتباط سرٌّ آخر في نجاح المشروع ورواجه بين الناس، والذي يدور في خلد المستهلكين أن حاجتهم للماء لا تزيد عن حاجة الفقراء للماء النقي، وأن شربهم من ماء هذه المنظمة سيسهم بشكل مباشر في توفير ماء نقي للمحتاجين.
ليس المستهلكون الأفراد مَنْ تستهويهم فكرة شراء منتج «واحد» فحسب، بل حتى الشركات التجارية والجهات الحكومية وجدت في شراء هذا المنتَج تحسيناً لسمعتها وتعزيزاً لمكانتها في أذهان الناس.
حالة هذه المنظمة، هي مثال على قدرة المنظمات الخيرية على تطوير منتجاتها ومشاريعها في جمع التبرعات والانتقال من السؤال التقليدي المباشر في الدعوة إلى التبرع إلى منافسة الشركات التجارية في تلبية حاجات ورغبات الناس غير الخيرية كالأكل والشرب واللبس وغيرها من الحاجات المتنوعة والمتجددة.
لقد ضربَتْ «واحد» بمشروعها هذا عصفورين بحجر (واحد) لكني لا أظن أن هذا سبب تسميتها!
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(235/9)
الرؤية المركَّبة
(1 - 2)
د. عبد الكريم بكار
في هذا الكون عدد كبير من الثنائيات، حيث نلمس في حياتنا المعنويَّ والمادي، والقريبَ والبعيد، والمباشرَ وغير المباشر، والمرئيَّ والخفي، والذاتيَّ والغيري، وقويَّ التأثير وضعيفه، والمرادَ وغير المراد، والمقصودَ والعفوي ... وهذه كلها تؤثر في حياتنا وقراراتنا ونجاحاتنا على درجات متفاوتة. ويمكنني أن أتشجَّع وأقول: إننا إذا دقَّقنا النظر في كل ما يحيط بنا، فإننا لن نجد أي شيء يمكن أن نصفه بأنه بسيط أو أحادي، حيث إن الأسباب والظروف والمعطيات التي تكتنف حياتنا ليست معزولة، وإنما هي ذات علاقات وامتدادات كثيرة وطويلة؛ وهذا كله يفرض علينا ألا نركن إلى الفهم الجزئي السريع، وأن نحاول دائماً توسيع الرؤية حتى نتمكن من إدراك كل أبعاد الظواهر التي نعايشها. إن من سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق احتياج الظواهر الإنسانية الكبرى إلى تفسير معقد يشتمل على عدد من العوامل والأسباب، وإن من الابتسار ومجانبة الصواب اللجوء إلى الاقتصاد في اكتشاف العوامل المؤثرة في وجود الأشياء وتطورها. وقد تعوَّد كثير من الناس الاختزال، والمسارعة إلى التفسيرات الغريبة لما يرون ويسمعون من أحداث وأوضاع، وهذا دفع بهم في اتجاه اللجوء إلى المعالجات الجزئية لمشكلات ذات أسباب مركَّبة ومعقدة، ومن الطبيعي حينئذ أن يكون الإخفاق أعظم من النجاح. ولعلِّي أسوق بعض الأمثلة الموضحة لما أقول:
1 ـ الفقر:
الفقر ظاهرة عامة واسعة الانتشار، وهو فعلاً من الظواهر الكبرى التي يعاني منها أعداد كبيرة من الناس، وثمَّة مساعٍ عالمية كبيرة جداً من أجل الحدِّ من انتشاره. وأعتقد أن المدخل للعلاج على المستوى العام وعلى المستوى الشخصي يكون بتكوين رؤية مركّبة للأسباب التي تجعل الناس عاجزين عن الوصول إلى إشباع حاجاتهم الأساسية، ولعلَّ من هذه الأسباب الآتي:
ـ العيش في بلد شحيح الموارد، حيث لا تكون هناك معادن يمكن تسويقها، ولا أراضٍ خصبة أو مياه كافية لزراعة المحاصيل بكميات كبيرة..
ـ وجود نظام سياسي وإداري فاسد وغير كفء، ينشر التحايل بين الناس على كسب الرزق، ولا يهيِّئ الحد الأدنى من تكافؤ الفرص.
ـ عدم توفر الحد الأدنى من البنية التحتية المطلوبة لإنعاش الاقتصاد، مثل: الطرق والمطارات والموانئ والسوق المالية المنظمة والمدارس الجيدة والجامعات المتميزة ...
ـ وجود عقيدة جبرية مستبطَنة، تدفع الناس نحو القعود عن طلب الرزق وبذل الجهد، وذلك كاعتقاد أن الرزق مقسوم مع التقاعس عن الأخذ بالأسباب وبذل المساعي في تحقيق الغايات.
ـ النشوء في أسرة محطمة تربِّي على اليأس والاحتجاج عوضاً عن التفاؤل والإيجابية.
ـ السكنى في موقع جغرافي أو معزول عن التواصل مع العالم الخارجي.
ـ وجود عادات وتقاليد تدفع إلى الإسراف وسوء التدبير.
ـ مؤسسات تعليمية مهترئة لا تخرِّج الكفاءات المطلوبة لسوق العمل.
ـ الجهل بالأصول والآليات التي تساعد على إدارة الموارد الشحيحة والإمكانات المحدودة.
ـ وجود حروب أهلية أو نزاعات قبلية أو طائفية، مما يؤدي إلى إنفاق المتوفر من المال على التسليح ومتطلبات الفوز في الصراع.
هذه العوامل العشرة هي العوامل الأساسية في انتشار الفقر، وإن كان لا بد من ملاحظة أنه لا يكاد يخلو بلد مسلم من العديد منها، كما لا بد من ملاحظة أنها موجودة بنسب متفاوتة بين بلد وآخر، كما أنها تتفاوت أيضاً على مستوى الأشخاص. وإن التحدي الذي يواجه كل من يريد معالجة ظاهرة الفقر هو محاولة الاقتراب من معرفة الوزن النسبي لكل سبب من الأسباب السابقة؛ لأن هذه المعرفة ضرورية جداً لمعرفة المجالات التي ينبغي تركيز الجهد فيها؛ بسبب حيوية تأثيرها في إصابة الناس بالفقر والعَوَز. وقد تكون الدراسات الإحصائية والمسحية هي السبيل الأمثل لتحصيل تلك المعرفة.
إن من الطبيعي أن يؤدي التركيب في رؤية الأسباب إلى توليد رؤية مركّبة على مستوى الحلول والمعالجات، وفي هذا الإطار فإننا لم نتمكن إلى اليوم من بلورة خطة شاملة لمعالجة الفقر في أي بلد إسلامي ـ فيما نعلم ـ يأخذ القائمون عليها بعين الاعتبار كل العوامل التي أشرنا إليها، وهذا بسبب عدم الاهتمام وبسبب ما ألفناه من تبسيط الأمور.
\ ملامح الرؤية المركَّبة لعلاج الفقر:
أـ القيام بتعريف الفقر ودراسة توصيف أوضاع من هم تحت خط الفقر.
ب ـ تحسين وعي الناس بالعلل والأدواء المترتبة على انتشار الفقر.
جـ ـ القيام بحملة واسعة لمكافحة الفساد الإداري بوصفه أداة لنشر الظلم والفقر.
د ـ في حالة شحِّ الموارد الطبيعية يتم التركيز في خطط التنمية على الاستثمار في المعلوماتية والتقنية والصناعات الإلكترونية والدقيقة والمتطورة بسبب قلّة ما تحتاجه من المواد الخام.
هـ ـ التركيز في التربية الأسرية على أخلاق العمل، مثل: الجِدّية والأمانة والدقّة والإنجاز والتعاون.. كما يتم الاهتمام ببثِّ روح التفاؤل والاستبشار والثقة بسعة فضل الله ـ تعالى ـ وكرمه.
وـ إيجاد بيئة قانونية ونظمية تحفز على تدفق الاستثمارية الأجنبية بوصفها أدوات جيدة لتوفير فرص العمل للمواطنين.
ز ـ إصلاح التعليم، ومساعدة التعليم الأهلي بسخاء، وممارسة رقابة صارمة عليه.
ح ـ مساعدة الشباب على إقامة مشروعات صغيرة ذات تكلفة منخفضة.
ط ـ نشر حب الخير، وتشجيع العمل الإغاثي والتطوعي، وتشجيع كل المؤسسات التي لا تهدف إلى الربح.
ي ـ توفير أكبر عدد ممكن من مراكز التدريب التي تمكِّن الفقراء من اكتساب المهارات المطلوبة للانخراط في سوق العمل.
ك ـ إثراء الجانب الروحي في حياة المسلمين بوصفه مطلباً شرعياً، وبوصفه مصدراً للمسرَّات المجانية، وبوصفه باعثاً على التقليل من الاستهلاك. وهناك لا شك العديد من التدابير الأخرى.. وسأعرض في المقال القادم ـ بإذن الله ـ لذكر مثال آخر على بلورة الرؤية المركبة، ومن الله ـ تعالى ـ الحول والطول.(235/10)
الشيخ الدكتور همَّام سعيد للبيان
العلم الشرعي هو الشرط الأوَّل للنهضة
حاوره في الكويت: خباب بن مروان الحمد
تجلِسُ معه فتجد الأدب والهَدْيَ الحسن ... خُلُقٌ كريمٌ وكلامٌ طيِبُ ... ذلك هو فضيلة الشيخ الدكتور همَّام عبد الرحمن سعيد ـ حفظه الله تعالى ـ الذي نذر نفسه لخدمة الدعوة الإسلاميَّة والعلم الشرعي، فيما نحسب، وهو منذ نعومة أظفاره قد حُبِّب إليه العلم، وصار مطلبه الذي يسعى له، وعبر لقاء لمجلَّة البيان معه كان هذا الحوار، حول مشاريعه العلميَّة التي أسَّس منها ما أسس، ويطمح لمشاريع أخرى نرجو الله له تحقيقها.
والشيخ الدكتور همَّام، من مواليد (كفر راعي) بفلسطين، حيث وُلِدَ عام 1944م، وكان والده الشيخ عبد الرحيم بن سعيد من أوائل الذين اهتموا بعلم الحديث ونشره في فلسطين بعد تلقي العلم بصحبة العلاَّمة الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله.
وقد تلقى الشيخ همَّام العلم عن والده منذ نعومة أظفاره، وتخصَّص في الحديث الشريف وعلله، وحصل على الدكتوراه من جامعة الأزهر عام 1977م.
عَمِلَ بعدها في التدريس الجامعي في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية حتى عام 1988م. وشَغَلَ رئاسة عدد من الأقسام في الكلية إلى أن تم فصله من الجامعة بسبب خطبة جمعة في أحد الموضوعات المهمة والحساسة!!
ثمَّ رُشِّحَ بعدها في الانتخابات النيابية سنة 1989م، وكان نائباً عن محافظة العاصمة (عمَّان) حتى سنة 1997م. ثم عمل مستشاراً شرعياً في المستشفى الإسلامي بعمان، ويعمل الآن مديراً لمركز دراسات السنة النبوية الذي يقوم بإصدار موسوعة التصنيف الموضوعي للسنة النبوية.
وأترك القارئ الكريم ليقرأ الحوار الذي دار بيني وبين فضيلته في دولة الكويت، على هامش (مؤتمر تعظيم حرمات الإسلام) الذي أقامته (مجلَّة البيان الإسلاميَّة) بالتعاون مع (مبرَّة الأعمال الخيريَّة الكويتيَّة) في دولة الكويت، حيث رحَّب الشيخ بالحوار، وكان هذا اللقاء وهذا الحديث ... فإلى محاور الحوار:
العلم والعلماء ... ونهضة الأمَّة:
البيان: فضيلة الشيخ همَّام! نرحِّب بكم في مطلع هذا اللقاء ... ونود أن تحدثونا عن أهميَّة العلم الشرعي، وضرورة أن يكون للعلماء دورهم القيادي في الأمة؟
3 بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
في بداية هذا اللقاء أشكر مجلَّة البيان على كريم استضافتها لي بإجراء هذا الحوار.
جواباً أقول، وبالله التوفيق: كما أن أول هذه الأمة نبوة ورحمة؛ فإن بقاءها واستمرارها ببقاء آثار النبوة فيها، والعلماء هم الحافظون لها، وهم ورثة الأنبياء، وبذلك يكون العلم الشرعي أول شرط من شروط نهضة هذه الأمة؛ فإن قيادة الأمة الراشدة بيد علمائها، وهم نصحاؤها ومقدمة ركبها، وهذا ما شهدت به آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وشواهد التاريخ الإسلامي.
وأمَّا العالم الرباني فتظهر كفاءته وتبرز قيادته وتلجأ الأمة إليه وتستجيب لقوله، وعلمه كفيل بإظهاره وإعطائه المكان اللائق في المجتمع، وها نحن نرى في كثير من مجتمعاتنا ظهور علماء ربانيين يتمتعون بالقدرة القيادية كما يتمتعون بحب الناس وتقديرهم.
البيان: بعض الحركات الإسلامية يوجد لديها تقصير في الأخذ بالعلم الشرعي، مع نوع من الامتلاء في النواحي الثقافية والفكرية الأخرى على الرغم من أهمية العلم الشرعي؛ فما الأسباب في ذلك؟
3 الحركات الإسلامية قامت بدور عظيم في توعية الأمة ووضعها على سكة النهضة، وهي أشبه ما تكون بصوت الصارخ الذي أيقظ النيام ونفض عن رؤوسهم الغبار، ولكن رسوخ العلم الشرعي وتأسيسه وبناء معالمه يحتاج إلى تكوين عميق وعمل دائب؛ إذ إن وجود العلماء لا يأتي بين عشية وضحاها، ولا سيما بعد تلك العهود من الغفلة وتراكم الجهل وعودة الأمية مرة أخرى، كما كانت قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما أفادته سورة الجمعة في قوله ـ تبارك وتعالى ـ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2] ثم قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 3 - 4] .
ففي هذه الآيات بيان لدورتين من دورات التاريخ الإسلامي: الأولى: نبوة بعد جاهلية وأُمِّية. والثانية: علم بعد جاهلية وأمية. وبالرغم من الجهد الكبير الذي بذله الدعاة حتى أصبح الإسلام معروفاً بعد أن كانت أحكامه مجهولة ومنكرة عند كثير من الناس، إلا أن هذه الحركات لم تعطِ الاهتمام الكافي لتأسيس العلم على قواعده، وإيجاد العلماء الربانيين المؤهلين لحمل العلم وتعليمه والاجتهاد فيه، بل نرى الكثير من هذه الحركات اكتفت بالعمل السياسي، ويتولى قيادتها من ليس له باع في العلم الشرعي؛ وذلك لندرة هؤلاء العلماء، ونشأت حالة من الزهد بالعلم الشرعي، ولم يعد هذا العلم على رأس الأولويات الحركية، علماً بأن شرطَ تولي الولايات الشرعية في النظام السياسي الإسلامي بلوغُ من يتولون هذه الولايات درجة الاجتهاد، وأن يحصِّلوا من علوم الشريعة ما يجعلهم قادرين على معرفة الأحكام وعلى الترجيح والاختيار.
مشروع إعداد العلماء ... آمال بحاجة إلى سواعد للبناء:
البيان: لكم مشروع رائد نال كثيراً من اهتمامكم حول إعداد العلماء، ونود أن يطَّلع عليه قرَّاء مجلة البيان، حدِّثونا عن هذا المشروع، وما مقصدكم منه وآمالكم من خلاله؟
3 إن هذا الأمر ـ وهو إعداد العلماء على هدي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وسلف الأمة في القرون الثلاثة الأولى ـ هو ما يشغل همي وفكري؛ فلا أكاد أجد في المناهج القائمة ولا في السلوك العملي لطلبة العلم ولا في البيئة العلمية ما يحقق هذه الحاجة؛ فطلبة العلم يتلقون شذرات من العلوم عبر العديد من السنوات مع ضعف التركيز وقلة الجهد المبذول في طلب العلم، وقلَّ أن يكون طالب العلم ذا ذهن موسوعي يتلقى علوم الشريعة وفق منهج متكامل؛ حيث لا يكفي أن يكون عالماً باللغة غير عالم بالتفسير، أو عالماً بالحديث غير عالم بالفقه، ثم يواصل التخصص في فرع من فروع العلوم الشرعية دون أن يبني تخصصه على قاعدة موسوعية. ويضاف إلى هذا أن طالب العلم ـ الذي نرجو أن يصل إلى رتبة العالم الرباني ـ يبدأ رحلته العلمية بانشغاله بمطالب الحياة، ولا يعطي علمه الذي تعلمه الاهتمام الأكبر الغالب في شؤونه الحياتية. أما البيئة العلمية التي توفر للعالم فرص التزود من العلم وتساعده على تحقيق وظيفته، وتتوافر من خلالها حالة من تقدير عامة الناس له وشعورهم بالحاجة إليه، كما يحتاجون إلى الطبيب إذا مرضوا؛ فهذه البيئة تكاد تكون نادرة أو معدومة.
البيان: ما ملامح مشروعكم الذي يطمح إليه فضيلتكم؟
3 ملامح المشروع الذي أطمح إليه أن يتم إنشاء مؤسسة لتكوين العلماء ورعايتهم يجتمع لها عدد من علماء الأمة لوضع برنامجها العلمي الذي يتم فيه اختيار عدد قليل من طلبة العلم الشرعي الجادين؛ وقد يكونون من حملة الشهادات العالية، ويتم تفريغ هؤلاء الطلبة تحت إشراف أحد العلماء الذي يتفرغ لرعايتهم وتنفيذ البرنامج العلمي المطلوب، ويقوم هذا البرنامج على شعبتين: الشعبة الأولى: يكون تلقِّي العلوم الشرعية فيها بطريقة موسوعية في اللغة والتفسير والحديث والفقه والأصول؛ إلى جانب بعض علوم العصر وإحدى اللغات الأجنبية الحية ووسائل الاتصال، ويكون هذا البرنامج عامّاً لهذه المجموعة؛ والشعبة الثانية: التخصص في علم من علوم الشريعة، وقبل هذا وبعده يتلقى هؤلاء الطلاب تربية إسلامية متكاملة، فيها التهذيب النفسي والخلق الإسلامي والمحافظة على النوافل والأذكار لصياغة العالم الرباني الذاكر الشاكر. ويكون لهؤلاء الطلبة كفايتهم المعيشية ولا يكلَّفون بشيء من الأعباء، بل يتفرغون للعلم أخذاً وعطاءً ودرساً وبحثاً؛ ولا يتحقق هذا الأمر إلا بقيام المحسنين بتحمل مسؤولياتهم في هذا الميدان المهم الذي يترتب عليه عودة العلماء مرة أخرى إلى القيادة والصدارة.
البيان: ما المدة التي ترون أنَّها مناسبة لهذا الإعداد للعالم؟ وما احتياجات هذا المشروع برأي فضيلتكم؟
3 إذا تم اختيار طلبة من الحاصلين على شهادات الدراسات العليا؛ فقد يحتاج هذا الأمر ـ فيما أحسب ـ ما بين سبع سنوات إلى عشر.
وكما سبق فإن هذا المشروع يحتاج إلى هيئة من العلماء لإكمال تفاصيله ثم التفرغ له، ويحتاج إلى اختيار مجموعات منتقاة من الطلبة، ويحتاج إلى مراكز متخصصة وإلى تمويل كافٍ لتحقيق هذه الأهداف.
البيان: ولكنْ، شيخنا الكريم: ما مدى استفادتكم من المشروعات الأخرى مثلاً في جامعة الإيمان في اليمن؛ فإن لها مشروعاً قريباً من ذلك مدة الدراسة فيه عشر سنوات، وكذلك المشروعات التي تقام في بلاد الحرمين كحفظ الصحيحين أو الدورات العلمية، هل ترون الاستفادة من ذلك؟
3 في هذه المشروعات خير كثير؛ إلا أن المشروع المقترح فيه تفصيل وتوسع وتخيُّر في المشرف على هذا المشروع، والطالب الذي يتلقى، والتفرغ، والتمويل. وينبغي أن يُبنى على جهود المؤسسات القائمة والجادة، واختيار الطلبة من هذه المؤسسات يختصر المسافة. بلا شك إن الأمر صعب ويحتاج إلى برنامج يذلل ما يعترضه من صعوبات.
الموسوعة العصريَّة الكبرى لتصنيف السُّنة:
البيان: أنتم ـ حفظكم الله ـ تديرون مركزاً لدراسات السنَّة، حدثونا عن هذا المشروع، وما أهدافكم منه؟
3 مشروعنا في تصنيف السنة النبوية يتطابق مع المشروع السابق لإعداد العلماء؛ وخلاصة هذا المشروع أن السنَّة النبوية التي تقوم عليها الحياة الإنسانية وتعالج شؤون الدنيا والآخرة ولا تذر صغيرة ولا كبيرة؛ إما بالنص وإما بالتبع والاستنباط والاجتهاد؛ فإن هذه السنَّة وجدت ألوفاً من العلماء السابقين الذين اشتغلوا بتصنيفها وترتيبها وتمييز صحيحها من سقيمها والتعريف برجالها وتيسيرها للفقهاء والأصوليين والمجتهدين، وقد تُوِّجت هذه الأعمال العظيمة بما توصل إليه الإمام البخاري والإمام مسلم وأصحاب السنن والمسانيد، وقد أخرج كل عالم من هؤلاء العلماء تصنيفاً يراعي حاجات زمانه ويقرِّب السنن لمعاصريه، وكانت هذه الجهود ثمرة القرون الثلاثة الفاضلة. ثم جاءت بعد هذه المرحلة مرحلة التقليد وتوقف التطوير والاجتهاد والاكتفاء بما توصل إليه السابقون.
لقد وجدت من خلال بحثي في السنَّة النبوية وتدريسي لها ما يقارب الثلاثين سنة أن هذه السنَّة أشبه ما تكون بالكنوز المخفية المبعثرة هنا وهناك والمفرَّقة؛ حتى أصبح طلبها عند العلماء والباحثين في غاية الصعوبة؛ فإذا أرادوا الموضوع وجدوه مفرقاً في بطون الكتب وعشرات العناوين، وإذا وصلوا إلى الموضوع فإنهم يجدون العناء في البحث في الصحيح والسقيم والعلل، ناهيك عن طلب موضوعات جديدة لم يسبق للعلماء أن صنفوها ولا بد أن يكون للسنة قول فصل فيها؛ فعلماء الطب والإدارة والغذاء والسكان والسياسة والاجتماع والاقتصاد، إلى آخر هذه الفروع الكثيرة والمتوالدة مع مرور الزمان وتنوع المكان؛ كلها تحتاج إلى تصنيف السنَّة في عناوينها وتقريب السنة لأرباب هذه العلوم، بل نحن بحاجة إلى تقديم السنَّة في إطار عالمي تفتح نوافذها على العالم أجمع، وتكون وفق تصنيف عالمي، وتُقَدَّم لأصحاب اللغات والثقافات ليروا فيها أنوار النبوة.
البيان: هل لفضيلتكم أن تحدثونا ـ جزاكم الله خيراً ـ عن بداية مشروعكم هذا، وكم عدد من شارككم فيه، وهل أنجزتموه كاملاً؟
3 لقد بدأنا مشروعنا هذا بالاستعانة بأكثر من سبعين أستاذاً جامعياً عملوا على إيجاد تصنيف لهذه العلوم، وقد استغرق عملهم مدة عامين، وظهرت ثمرته في كتاب الدليل التصنيفي لموسوعة الحديث النبوي الذي قام بنشره المعهد العالمي للفكر الإسلامي وجمعية الدراسات الإسلامية. وقد بدأنا باعتماد الكتب الستة ومسند أحمد كخطوة أولى في هذا المشروع.
والمشروع متواصل لجمع كتب السنة جميعها إن شاء الله، وهو ـ بعون الله ـ وفق منهج حديثي يقوم أولاً على إيجاد بطاقة لكل حديث نبوي تجمع رواياته من الكتب السبعة وغيرها حتى تضم هذه البطاقة جميع الروايات بأسانيدها ومتونها. ثم تتم دراسة هذه البطاقة وتحليلها وتنزيلها على العناوين المناسبة في مختلف ميادين التصنيف؛ فحديث أبي سفيان المشهور مع هرقل تم تنزيله على قرابة مائة وخمسين موضوعاً.
البيان: تقول فضيلتكم: السنَّة غير مقدَّمة للعالم؛ فما المنهج الأمثل لتقديمها للناس وخصوصاً في هذا العصر؟
3 إن المنهج الأمثل لتقديم السنَّة هو التصنيف الموضوعي الشامل الذي يقدمها لأصحاب الاختصاص في جميع الميادين. فنحن نعاني الآن من توزيع موضوعات السنة والقصور في تصنيفها وعناوينها؛ وهذا يؤدي إلى ضعف التعامل معها وعدم التعمق في كنوزها وأسرارها.
البيان: هناك مشروع تقريب السنَّة بين يدي الأمة للشيخ الألباني رحمه الله؛ فما الفرق بين المشروعين؟ ونود لو أعطيتمونا أمثلة على جديد مشروعكم من ناحية التصنيف؟
3 جهد الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ جهد مبارك قدم خدمات جليلة للعلم وأهله، ولكن المشروع الذي نتحدث عنه يتصف بالرؤية الموسوعية في التصنيف، ويستفيد من جميع الجهود السابقة.
وأمَّا عن جديد مشروعنا من ناحية التصنيف؛ فإنَّ لدينا تصنيفاً جديداً للتربية والتعليم يقع تحت ثلاثمائة عنوان، وقد أنزلنا تحت هذه العناوين نصوص الأحاديث النبوية في الكتب الستة، فبلغت هذه النصوص قرابة ثلاثة وثلاثين ألف نص من السنة، فيها الكثير من الغَناء لأهل التربية والتعليم عن الكثير من النظريات التربوية والمناهج الأرضية.
ولهذا فنحن حين نقدِّم السنَّة للمتخصصين في العلوم الأخرى؛ فإننا نُشرك أصحاب هذه العلوم مع علماء الحديث والفقه في التصنيف والدراسة، وذلك لمعرفة منطق علومهم ولتقديم السنَّة لهم.
البيان: وما منهج مركزكم في نقد الأحاديث والحكم عليها من ناحية الصحَّة أو الضعف؟
3 نقوم بجهد واسع في دراسة الحديث سنداً ومتناً بناء على تكامل الروايات التي جمعناها، والإفادة من كلام علماء الجرح والتعديل والعلل، والتزام منهج في التصحيح والتضعيف نحرص على التقيد به. ونحن في مشروعنا هذا نذكر الصحيح والضعيف والموضوع لإيقاف العلماء والباحثين على هذه الأحاديث ما صح منها وما لم يصح، وقد نوافق بعض علماء هذا العصر في الحكم وقد نخالفهم، ولكن نؤيد مخالفتنا بالأدلة وجمع الأقوال واستخلاص الأحكام منها.
البيان: هل تعتمدون منهج الإمام البخاري في تقطيع الحديث وذكر الشاهد فقط، أم منهجية الإمام مسلم في ذكر الحديث كاملاً؟
3 نورد الحديث كاملاً بسنده ومتنه ورقمه ورقم بطاقته، ونميز الشواهد التي تقع تحت التصنيف بلون خاص حتى تقع العين مباشرة على جزء الحديث الذي يتضمن هذه الدلالة التصنيفية؛ ولهذا فإذا كان الحديث ـ مثلاً ـ في السطر الأوَّل في الإدارة، والثاني في التغذية فنورد الحديث تحت موضوع الإدارة مميَّزاً فيه السطر المتعلق بالإدارة، ونورده مرة أخرى تحت عنوان من عناوين التغذية مع تمييز السطر بلون مميز.
البيان: وهل أخرجتم شيئاً من الكتب هذه؟ وكم تتوقع أن يكون عدد هذه الكتب؟
3 أنجزنا ـ ولله الحمد ـ هذه الموسوعة في مرحلتها الأولى على الحاسوب، وسنقوم بإصدار موضوعاتها موضوعاً إثر موضوع، وراعينا الحاجات الملحة، فبدأنا بإصدار أحاديث الفتن وأشراط الساعة، ويتلوها أحاديث المعاملات، ثم أحاديث العقائد، ونرجو أن يصدر من هذا المشروع عشرات الإصدارات؛ حيث إن الموضوعات المعدة تربو على مائة موضوع.
البيان: أتوقع ـ كما ألاحظ ـ أن بداية طباعتكم لهذه الموسوعة ستكون مشروع الفتن؟ فلِمَ يكون هذا الاختيار؟
3 اخترنا البدء بإخراج موضوع أحاديث الفتن وأشراط الساعة من سلسلة العقائد؛ لأهمية هذا الموضوع في تبصير المسلم بأحداث حاضره ومستقبله، كما تفيده في استخلاص العبر من أحداث الماضي، وهذه البصيرة التي تنشأ عن الإيمان بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر من أخبار الغيب والمستقبل، تؤدي إلى أن ينظر المسلم إلى الأحداث بمنظار النبوة، فيكتسب العلم بهذه الفتن، ويحذر منها، ويستعد لمواجهتها، ويعلم كيف يتصرف عند وقوعها.
وتتأكد أهمية معالجة موضوع الفتن في هذا العصر خصوصاً، لعدد من الأسباب: منها كثرة الخلط بين الصحيح والضعيف والموضوع من هذه الأخبار، وعدم التمييز بينها؛ بحيث نشأ عن ذلك اختلال في الرؤى أدى إلى دخول كثير من الخرافات والأباطيل إلى عقول العوام. ومن الأسباب أيضاً خوض بعض الناس في تفسير أحاديث الفتن وتأويلها بغير علم، وحملها على وقائع جزئية معينة، لا يسوغ حمل هذه الأحاديث الشريفة عليها؛ وهذا مسلك خطير في التعامل مع أحاديث الفتن يؤدي إلى فتنة الناس وتشكيكهم بصدق هذه الأحاديث؛ وذلك عندما لا يصدِّق الواقعُ هذه التأويلات والتفسيرات والإسقاطات.
البيان: سمعنا أنكم تريدون ترجمة المشروع إلى لغات أخرى غير العربية؟
3 سنقوم ـ بإذن الله ـ بترجمة هذا المشروع إلى اللغات الأجنبية لنمكِّن المسلمين وغير المسلمين من غير الناطقين بالعربية من التعرف على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
البيان: نسأل الله أن يبارك في جهودكم وأعمالكم. هل من كلمة أخيرة لمجلة البيان؟!
3 إن مجلة البيان تأتي في سياق المبادرات المهمة لإحداث نهضة الأمة وصحوتها وتوجيهها نحو دورة الإسلام الثانية واستئناف نهضة هذا الدين، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، وقد جعل الله من هذه المجلة منبراً لكلمات الخير ومشاريع الخير، فبارك الله بالقائمين عليها، وسلك بهم سبل الرشاد؛ إنه سميع قريب مجيب الدعاء. والحمد لله رب العالمين.(235/11)
حجة الذئب
عبد الجواد الحمزاوي
كان كل شيء في الغابة يدعو للتفاؤل والبهجة؛ شمس ساطعة، ونسيم جميل، وأشجار قد اكتست بزينتها، والأهم من ذلك أن ميثاق حقوق الحيوانات قد أُعلن، وأن الذئب ـ كبير الغابة بعد أن انقرض الأسد والنمر ـ أعلن أنه شخصياً معنيٌّ بالحفاظ على هذا الميثاق وتطبيقه، إذاً؛ ممَّ يخاف ذلك الكبش؟! لماذا لا يذهب إلى الغدير الكبير ليشرب؟! ولماذا لا يعلن رضاءه لكل الكائنات عن هذا القرار الحكيم؛ الذي جعل غدران الغابة كلها غديراً واحداً؟!
نعم؛ هو حرٌّ في قراره، ويمكنه أن يصبر أكثر، وأن يبحث عن الماء في المرتفعات؛ ليشرب بعيداً عن هذا الغدير الكبير الذي تشرب منه كل الحيوانات وكل الوحوش. ولكن؛ لماذا لا يجرّب؟ سيذهب اليوم إلى الغدير ليشرب في وضح النهار، أمام أعين كل الحيوانات وكل الطيور، لا يمكن ـ حينئذ ـ أن يغدر الذئب، وساعتها إن غدر سوف يعلم الجميع أنه كاذب، وسيهبّون لمقاومته، وسيسقط ميثاق حقوق الحيوانات.
أخيراً؛ ارتفع صوت الكبش بالثغاء.. ماء.. ماء..
أخذ يجري خارجاً من مكمنه إلى الغدير، لم يراعِ اتجاه الريح في جريانه كما كان يفعل من قبل، لم يعدْ يهتم أن تحمل الريح رائحته إلى الوحوش، هو كبش محترم، ملتزم بكل القوانين، وهو ذاهب ليشرب من غدير الحيوانات الجديد، ولكن؛ لماذا توقف كبشنا عن الثغاء وعن الجريان؟! لماذا انبهرت نفسه وارتعشت مفاصله وازدادت دقات قلبه؟! هل يكون هذا لأنه رأى الذئب نفسه يشرب من الغدير؟ نعم؛ هذا هو السبب، الذئب يبدو جائعاً، ولا أحد بجانبه يشرب من كل الحيوانات، هل يعود أدراجه إلى حيث كان؟ لم يعدْ يفيد، لقد رآه الذئب وسمع صوته، لا بد أن يذهب رابط الجأش ويخفي كل مشاعره، لو جرى فسيعتبر الذئب ـ سيد الغابة الجديد ـ أن هذا سوء أدب منه، وسيعتبره مروّجاً للإشاعات التي تقول: إن الذئب لا يحترم وعوده وعهوده، ولا يحترم ميثاق الحيوانات الجديد، كما فعل من قبل مع تلك الغزلان التي لم تكن تملك نفسها حين تراه فتجري خائفة منه، لم يكن يُؤْويها عندئذ مكان، ولم يكن يساعدها حيوان، وفي النهاية تكون طعاماً للذئب؛ عقاباً لها على عدم تصديقها لوعود الذئب وإيمانه بالنظام الحيواني الجديد.
لا يدري هذا الكبش نفسه كيف قاوم مشاعر الخوف فيه؟ سيطر على كل جوارحه ومشى بخطى وئيدة، كان يرسم على وجهه ابتسامة كبيرة، ثم قال وهو ينطلق نحو الغدير: طاب صباحك يا سيد الغابة!
لم يردّ الذئب على تحية الكبش، نظر إليه فقط ثم أقبل على شرب المياه وهو يقول في نفسه: (أيها الخروف! ستكون فطوري اليوم لا محالة، سوف أجد حجة لآكلك بها، لو لم تكن هذه الطيور على هذه الأشجار تشهد ما يحدث لأكلتك على الفور، دون أن أكلِّف نفسي عناء البحث عن حجة سخيفة، ولكني سأصبر، وسوف أجد الحجة السخيفة أو المقنعة لا فرق، وفي النهاية سآكلك.. ها.. ها.. ها..) .
واصل الكبش سيره، لم يستطع أن يسير كثيراً، هو خائف ومرتعد، وهو يبذل قصارى جهده للسيطرة على نفسه، كان يريد أن يبتعد أكثر وأكثر لكنه لم يستطع، وقف ليشرب، فجأة صكَّ سمع كبشنا صوت الذئب يقول: أيها الخروف! ألم تكن تستطيع أن تنتظر حتى أنتهي أنا من شربي؟ ألا تعلم أنك بصنيعك هذا قد عكرت عليَّ الماء؟
تسمَّر الكبش مكانه، وازداد خفقان قلبه، اقترب الذئب وعيناه ترسلان شواظاً وبريقاً، ولكن الكبش قال: يا سيد الحيوانات! إن الماء يجري من ناحيتك، فكيف أعكّره أنا عليك؟
من فوق الأشجار ارتفع صوت عدد من الطيور؛ ترفرف وتقول: نعم أيها الذئب؛ كلام الخروف صحيح، لو كان هناك تعكير للماء فيجب أن يكون منك أنت؛ لا منه هو!
رغماً عنه توقف الذئب، نظر إلى أعلى الأشجار فوجد الأطيار واقفة تترقب، نظر إليها وضحك، ترك الكبش وأقعى مكانه، ينظر للكبش وهو يشرب ويقول في نفسه: (أنا معجب جداً بشجاعتك ـ أيها الخروف ـ وبثبات فؤادك، وهذا يزيدني رغبة في التهام لحمك، الذي يبدو ألذّ من لحم كل الخراف التي أكلتها، لا بأس؛ سأجد حجة أخرى آكلك بها..) .
وقتها؛ كان الكبش قد شرب وقرَّر الرجوع، لم يكن قد روى ظمأه تماماً، ولكنه رأى أن يبتعد عن الذئب. لم يتركه الذئب يمشي، أمسكه وهو يقول: ألستَ الذي شتمتني العام قبل الماضي؛ دون إساءة مني إليك؟ سأقتلك وأجعلك عبرة لكل من تسوّل له نفسه إهانة الناس بدون ذنب.
ثانيةً ضحك الكبش وهو يقول: إن عمري أيها الذئب لا يتجاوز العام إلا قليلاً؛ فلا يمكن أبداً أن يكون الذي شتمك هو أنا.
لم يترك الذئب الخروف من يده، ظل ممسكاً به ولكنه كان ساهماً يفكر (نعم أيها الخروف الشجاع؛ غلبتني هذه المرة أيضاً، كل من يراك يعرف أنك صغير السن، لماذا تسرعت أنا وقلت أن ذلك كان العام قبل الماضي؟ ولكن الحجج لا تفنى، وسآكلك) !
قال الذئب بصوت يُسْمع الأطيار فوق الأشجار: كلامك صحيح أيها الخروف؛ فأنت صغير السن، ولكن إذا لم تكن أنت الذي شتمتني فلا بد أنه أحد أقاربك؛ لأن شكله يشبهك تماماً؛ له قرون، وعلى ظهره صوف.
لم يستطع الكبش حينئذ إلا أن يجمع قوته في ساقَيْه الأماميتين، ثم يضرب بكل خوفه وجه الذئب وهو يقول: سأموت بكرامة أيها الذئب!
كانت المفاجأة على الذئب شديدة، ظل برهة مدهوشاً لا يصدق، كسر الكبش له سنّاً وجرحه في وجهه، وكانت الأطيار واقفة فوق الأشجار منقسمة على نفسها؛ فريق يرى الحق مع الذئب، وفريق يرى الكبش هو صاحب الحق، وفي النهاية مات الكبش، وحمله الذئب ومشى.(235/12)
صرخة الأقصى
د. عبد الغني التميمي
(1)
ربط القرآن بين البيت والأقصى رباطاً أبديّا
لم يكن ربط مناخ بمناخ.. بل رباطاً عقديّا
لم يكن ذاك خياراً أو قراراً عربيّا
أو شعاراً مستعاراً ثانويّا
كل من فرّق بين البيت والأقصى فقد
كذّب القرآن أو خان النبيّا
(2)
يا أخي المسلم، هذا المسجد الأقصى الجريحْ
في سكون الليل لو يُسمع كالطفل يصيحْ
جرحه الغائر لا تشبهه كل الجروحْ
إنه جرح أليم داخل القلب يقيحْ
مزّقته آلة المحتلِّ بالحفر المذلّ المستبيحْ
إنهم أعداء إبراهيم من قبلُ وموسى والمسيحْ
(3)
أمة التوحيد يا مستَقْبَلي الآتي ويا يومي وأمسي:
كيف أصبحتِ جموعاً بين عميانٍ وطرشانٍ وخُرْسِ
ما لديها غير شكوى، جعجعاتٍ دونما طِحْنٍ، وهمسِ
لست أدعوكم لعجزٍ أو لإحباطٍ ويأسِ
أو لترثوا بدموع منتهى ذُلّي وبؤسي
إنني أصرخ والهيكل يُبنى فوق رأسي:
قطّع الحفرُ شراييني وأنفاسي وحسّي
أترجّى منكم النخوة في حرقي وطمسي
أم تُرى أنعى لكم نفسي بنفسي؟!
ربما أصبح؛ لكن رغم أنفي لست أمسي
(4)
أرسل الأقصى خطاباً فيه لومٌ واشتياقْ
قال لي وهو يعاني من هوانٍ لا يُطاقْ:
بلِّغ الأمة أني عِيلَ صبري بين حفرٍ واحتراقْ
هتك العهر اليهوديّ خشوعي من رُواق لرواقْ
أشعلوا أرضي وساحاتي فجورا
وصفيراً وسفورا!
دنّسوا ركني ومحرابي الطهورا
فأنا اليوم أعاني بل أعاني منذ دهرٍ
ألمَ القهر أسيرا
لم يزل قيديَ مشدود الوَثاقْ
لم تفدني الخطب الجوفاء شيئاً
أو شعارات الرّفاقْ
أوَ ما يكفي نفاقاً؟ ضقت من هذا النفاقْ
أرسلوا من صلاح الدين خيلاً
أرسلوها من حمى الشام ونجدٍ
من سرايا جيش مصرٍ، وصناديد العراقْ
من ثرى المغرب والمشرق للمجد تُساقْ
تنشر الهيبة للإسلام بالدّم المراقْ
منذ دهرٍ لم تزرني هذه الخيل العِتاقْ
(5)
قال لي الأقصى: سلاماً من مقامي
بلغ الأمة ـ بالله ـ سلامي
من معاني سورة الإسراءِ، قُدسيّ الهيامِ
سلفيّ الوجد سنيّ العناقْ
لا سلاماً خائن النشأة عِبريّ المذاقْ
قل لهم: يا أهلُ، قد طال الفراق
وأنا أُشوى على جمر المشاق
أأنا أغدو مكاناً أثرياً بصنوف الحفر ضاق؟!
أأنا أنضم للحمراء من أندلسٍ
وأعيش الذل في ذات السياقْ؟!
وأعيش الأمل المقتول في ذاك النّطاقْ؟
يا بني الإسلام! ما حلّ بكم؟!
هل نسيتم أنني بوابة السبع الطِّباقْ؟
من رحابي وَاصَلَ الرحلةَ في الكون البُراقْ
(6)
صرخ الأقصى حزيناً، خافض الرأس بئيسا:
هل أقضي العمر ـ كالسارق ـ في السجن حبيسا؟
ضقت من صحبة قومٍ أضجروا من قبلُ موسى
صادروا كل دروس العلم في ظلّي.. فمن يُحيي الدروسا؟
سرقوا قرآن فجري ومَحوا أول صفّي
مزّقت آلاتهم بالحفر أحشائي وجوفي
وأشاعوا أن موتي حتف أنفي
هذه الأنفاق تحتي تزرع الأرض كهوفا
كل كهفٍ فاغرٌ فاه لكهفِ
فمتى يَبْلغُ عني لبني الإسلام في العالم خوفي؟
أم تراهم يرقبون اليوم ميعاداً لنسفي؟!
هل يغارون إذا أضحيت كالأطلال مهجوراً دريسا،
وإذا بُدّلت للتهويد بوقاً وطقوساً؟
أئذا أصبح محرابيَ يوماً ومصلاّيَ كنيسا؟!
(7)
وأخيراً صرخ الأقصى يقولْ:
فهِّموني كيف أهوى طاعِني في مقتلي؟
كيف أهديه دمي مع قُبَلي!
وأحيّي سارقي، بل أدّعي أن ما يسرق مني ليس لي؟!
لغة للذلّ لا أفهمها كدت أنهارُ لها من خجلي!
(8)
آهٍ ما آلم جرح الكبرياءْ!
آهٍ ما أوجع مكتوم البكاءْ!
حينما نُطعَن في عزّتنا
حينما نبكي كما تبكي ضعيفات النساءْ
نحن لا نملك من نخوتنا
غير صرخاتٍ وشجبٍ ودعاءْ
حرّم السَّيفَ علينا الزعماءْ
هل ترى فرقاً كبيراً بيننا اليوم
وما بين الجواري والإماءْ؟!
كلنا في ساحة العجز سواءْ
(9)
كانت الحرب شعاراً
وجهاد المعتدي كان فخاراً
ثم أضحت لغة الحرب فراراً
وغدا التفكير بالحرب أو
النطق بذكر الحرب عارا!
سُحِب الجندي من عزّ الصناديد الغيارى
وغدا حارس رملٍ وصحارى
آلة يزجي التحيات لأنذال يهود أو نصارى
وترى الناس سكارى
من رضا الذلّ وما هم بسكارى!
(10)
اعذرونا إن صرخنا
إن في أعماقنا الموت الزؤامْ
لا نظنّ الصارخ المذبوح ـ إن صاح ـ يلامْ
اعذرونا إن فتحنا مرةً أفواهنا
أنْتَنَتْ ألفاظنا في الحلق من شدّ اللثامْ
كِلْمَة المعروف شاخت وهي تحيا في الظلامْ
أهْو ظلم أن يقال الحق جهراً، أهو عيب واختراق للنظام؟!
قبّح الله لساناً يألف الصمت الحرام!
* * *(235/13)
الاختطاف الجماعي في العراق بين الحقيقة والخيال
حسين الدليمي
منذ أن ابتُلي بلاد الرافدين بالاحتلال الهمجي البغيض، الذي شنّته رأس الشر والرذيلة «الولايات المتحدة الأمريكية» بتحالف صهيوني همجي مع قوى الكفر والإلحاد عام 2003م ميلادية.. منذ ذلك الحين ابتُلي هذا البلد بعادات غريبة على مجتمعه، مما لم يعرفه من قبل.
ومنها: «ظاهرة الاختطاف الجماعي» الذي كثُر في السنتين الأخيرتين، بعد أن شهدت الساحة العراقية تجاذبات سياسية حادة، يُبتغى من خلالها التنافس البغيض على السلطة والحكم، بغيةَ الوصول إلى سُدَّة العروش والكراسي الزائلة.
ولعلَّ هذا يكشف لنا السرَّ الذي يكمن وراء حدوث مثل هذه العمليات المتكررة؛ ليتضح لنا ـ بما لا يقبل الشك ـ أن السياسة وتداعياتها، والتجاذب الحادَّ بين المكونات السياسية هي سبب هذه الظاهرة الغريبة.
وإن من يتابع هذه الظواهر وما يترتَّب عليها يجد أن هناك تورُّطاً كبيراً للأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة، خاصة تلك التي تتمتَّع بميليشيات القتل وإزهاق الأنفس، وأهمها: الكتلة الصدرية التي يتزعمها (مقتدى الصدر) ، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي يتزعمه (عبد العزيز الحكيم) ، وحزب الدعوة الذي يتزعمه (الجعفري) !
ومعلوم لدى الجميع أن هذه الأحزاب مدعومة دعماً كاملاً من الحكومة الإيرانية، وولاءُ زعمائها معلنٌ لهذه الدولة الجارة، التي تتدخل تدخلاً مفضوحاً في شؤون العراق الداخلية، بل إنها تتدخل في القضايا المصيرية لهذا البلد الجريح؛ فهي التي تصدر قوائم الإعدام والاغتيال بحقِّ الشرفاء والمخلصين من العلماء والمفكرين والأطباء والدعاة وأصحاب الاختصاص وشيوخ العشائر وضباط الجيش العراقي السابق وكل من له موقف واضح تجاهها.
ولمّا كانت هذه السطور ستكون جزءاً من التاريخ ومن صفحات الماضي الذي تقلِّب أوراقه الأجيال اللاحقة، أودُّ الإشارة إلى أبرز عمليات الخطف الجماعي مما حدث في بغداد وحسب دون غيرها؛ ليطّلع القارىء الكريم على ما يدور من أحداث مؤسفة في بلد شاء الله ـ تعالى ـ إلا أن يتعرَّض للنكبات تلو النكبات. وسأضرب للدلالة على ذلك بعضَ الأمثلة الحقيقية، مع الإشارة إلى تداعياتها المؤلمة في حياة الناس، وهي مرتّبة ترتيباً تنازلياً، حسب التالي:
3 أولاً: اختطاف موظفي الهلال الأحمر العراقي في بغداد:
الهلال الأحمر العراقي من المؤسسات الخدمية والاجتماعية والصحية، التي تقدِّم خدماتها لكل أبناء المجتمع العراقي، دونما تفريق بين طائفة وأخرى، أو منطقة دون أخرى.. وهي تعمل على تقديم المعونات الغذائية والصحية وغيرها من اللوازم المعيشية للعوائل المنكوبة والمهجَّرة، أو تلك التي تتعرَّض مناطقها لعمليات الخراب والدمار التي تقوم بها قوات الاحتلال، أو ما يسمى بقوات الجيش العراقي الحكومي!
وبدل أن تُكافأ هذه المؤسسة؛ تكريماً للجهود الخدمية التي تقوم بها نجدُ أنها تتعرض لأبشع صور الاضطهاد والابتزاز؛ فقد قام المتاجرون بدماء العراقيين ـ من أولئك الذين يرتدون زيَّ مغاوير الداخلية العراقية، وممن يستقلون سياراتهم ـ بالهجوم على هذه المؤسسة وخطف العشرات من موظفيها وحراسها وبعض المراجعين.
فقد تحدثت التقارير عن أن مسلَّحين اختطفوا في الـ 18/12/2006م ما يقرب من أربعين موظفاً وحارساً ومراجعاً من مقرِّ الهلال الأحمر في الكرَّادة وسط العاصمة العراقية بغداد، ليتمَّ بعد يوم واحد إطلاق سراح (17) مختطَفاً منهم معظمهم من العمال والحراس وكبار السِّنّ.
وفي تصريحات لـ (مازن عبد الله سلوم) الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر العراقي تحدث فيها عن فقدان (19) مختطَفاً آخرين لا يزال الخاطفون يحتفظون بهم.. مضيفاً: إن موظفي فروع الجمعية ينتسبون إلى جميع الطوائف والأعراق، وأن الجمعية أصدرت تعليماتها إلى العاملين قبل أشهر بمنع الإشارة إلى ألقاب عائلاتهم وعشائرهم؛ من أجل أن لا يُعرف انتماؤهم المذهبي.
هذه القصة إذاً!!
وبعد كل ذلك نأتي لنقرأ الديباجة المملّة لحكومة المالكي ليظهر المتحدِّث باسم وزارة الدفاع (العسكري) قائلاً: إن الوزارة استطاعت تحديد الجهات التي تقف وراء عمليات الخطف! موضحاً أنها (مجموعات بعينها، غايتها وقف الحياة والعمل في المؤسسات والدوائر العلمية والإنسانية) .
هكذا تحدث (العسكري) بصيغة العموم، وكأنه يجهل أو يتجاهل الفاعلين، الذين يقفون وراء هذه العملية المريبة.
إنَّ ما يدور في خاطر المتلقِّي لهذا الخبر أمران أساسيان، هما:
ـ سكوت الحكومة العجيب تجاه هذه العمليات الجبانة، في الوقت الذي نجدها تُقيم الدنيا ولا تقعدها لأجل عمليات أقل منها بكثير.
ـ السبب الذي يُخطَف من أجله موظفون يعملون في هكذا مؤسسة إنسانية.. وكأن المختطِفين يريدون تعطيل حتى الحياة الضرورية في بلدٍ أُثخن أهله بالجراح بسبب أفعال قوات الاحتلال والحكومة.
وفعلاً حدث هذا؛ فقد اضطرت الجمعية إلى إيقاف نشاطاتها وتعليق أعمالها؛ استنكاراً لما تعرَّض له منتسبوها. فليحملِ الخاطفون أوزارهم على ظهورهم! وليحملْها ـ أيضاً ـ من يقف وراءهم من كتل سياسة الديمقراطية الجديدة!
3 ثانياً: اختطاف عشرات التجار والباعة في سوق السنك في بغداد:
أما التجار والمتبضِّعون فإن نصيبهم عند عصابات الخطف والاغتيال وافر ومحفوظ، فهم في خلدهم وفكرهم، ولا بد أن يذوقوا حلاوة الخطف والإرهاب على أيديهم!
وهذا ما حدث فعلاً قبل أيام عندما قام ما يقرب من (100) مسلَّح يرتدون زيَّ مغاوير الداخلية، ليسوموا سوء عذابهم هذه المرة على منطقة السنك التجارية المليئة بالتجار والمتبضِّعين ليخطفوا من بينهم نحو (50) شخصاً.
تقول الرواية: إن حوالي (100) مسلَّح يستقلّون (20) سيارة على الأقل تابعةً لقوات الأمن، ترافقها سيارات إسعاف حاصرت السوق وتوزعوا قائلين: (لدينا مهمة هنا) ، وقاموا بعدها بخطف الناس بشكل عشوائي.
والغريب في الموضوع أن الشرطة العراقية كانت قريبة من موقع الحادث، ومع مناشدة الناس لها، ولكنها لم تتدخل كالعادة!
فأيُّ شرطةٍ تلك التي ترفع شعار: (الشرطة في خدمة الشعب) ! إنَّ الأَوْلى بها أن تحوِّل شعارها إلى: (الشرطة في خدمة الشغب) ! بل هي في خدمة الخطف والسلب والنهب.
3 ثالثاً: اختطاف موظفي ومراجعي وزارة التعليم العالي في بغداد:
يقول المراقبون: إنَّ هذه العملية هي أكبر عملية اختطافٍ منذ أن احتلَّت القوات الأمريكية العراق عام 2003 ميلادية، وهي عملية مكشوفة تُعدُّ حلقة جديدة في مسلسل التصفية المذهبية، تشارك فيها ميليشيات المهدي، بالتعاون مع قوات الأمن الحكومية.
ففي الساعة العاشرة من صباح الثلاثاء 14/11/2006م دخلت إلى منطقة الكرَّادة في بغداد ما يقرب من (50) سيارة من نوعَيْ «مونيكا» و «لاندروفر» ، ووجْهتُها هذه المرة «دائرة البعثات العلمية» التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ليُختطف عدد كبير يزيد على (100) موظفٍ ومراجعٍ، أغلبهم من أهل السُّنّة، بعد أن عزلوا النساء عن الرجال، واستولوا على كافة أجهزة الهاتف النقال، لتتجه هذه السيارات فيما بعد صوبَ شارع فلسطين الذي ينتهي إلى جسر القناة حيث منطقة (الصدر!!) أو مدينة «الثورة المنورة» ! معقل جيش المهدي!
ومن يقرأ التقارير التي تحدثت بإسهابٍ عن هذه العملية وتداعياتها يتحصل لديه ـ بما لا يقبل الشك ـ الجهة التي تقف وراء هذه العملية الغادرة، وأسبابها وغاياتها؛ فقد تحدث أحد المختطَفين المفرج عنهم (أن الخاطفين كانوا من جيش المهدي؛ لأنَّ أحدهم خاطبني عندما تأكد من كوني شيعياً بقوله: نحن جيش الإمام المهدي لا نؤذي شيعة أهل البيت، فنحن نحميكم، أما النواصب فهذا قليل بحقِّهم) .
وقد تحدثت بعض الوسائل الإعلامية أن أحد المختطَفين الذين أُفرج عنهم ـ وهو شيعي طبعاً ـ تحدث قائلاً: إن الخاطفين أطلقوا سراحي في شارع فلسطين مع تسعة آخرين، وكانت نقاط التفتيش التي نمرُّ بها ـ التابعة للجيش العراقي والمغاوير ـ نسمعهم يخاطبون سيارات العصابة قائلين لهم: (ها عمِّي، خوش صيده، لا تنسون إخوانكم بالخير) !
إنَّ المتفحص لهذه العملية وتداعياتها تقف أمامه تساؤلات عديدة؛ فمَن ـ يا ترى ـ الجهة التي تقف وراء هذه العملية الكبيرة التي وقعت وسط عاصمة تعجُّ بالسكان وفي وضح النهار؟! ومَن هم أولئك الضحايا الذين وقعوا مغدورين نتيجةَ هذه العملية؟! ولماذا في هذا الوقت، وتحديداً في ذلك اليوم؟! وأين ردّة فعل الحكومة أو المشاركين في حكومة المنطقة الخضراء؟!
ولا تحتاج تلك التساؤلات إلى مزيدٍ من العناء والجهد للإجابة عنها! فقد تحدث أهالي بعض المختطَفين أن أصابع الاتِّهام تتجه صوب جيش المهدي؛ حيث تأتي العملية تجسيداً للحقد الطائفي والتصفية المذهبية لأهل السُّنّة في العراق، الذين يُوصفون ـ اليوم ـ بأوصاف الزور والبهتان، يُراد منها النيل منهم، أو التحريض على قتلهم، فتارةً يطلق عليهم «الصدّاميون» وتارةً «البعثيون» وأخرى «النواصب» و «التكفيريون» و «والإرهابيون» .. ومن ثمَّ فالعملية المشينة جزء من سيناريو الصراع السياسي، وهو استعراض عضلاتٍ للميليشيات الطائفية، التي أخذت على عاتقها صبَّ جحيمها فوق رؤوس الأبرياء من أهل السُّنّة في العراق الجريح.
ولعلَّ بهذا يتّضح الجواب عن التساؤل الثاني، ويتأكد عندها القول: إن أغلب المختطَفين في هذه العملية هم من أهل السُّنّة، وأنَّ من تمَّ الإفراج عنهم هم من الشيعة فحسب، فقد أوضح عدد كبير من العاملين في هذه الدائرة وأهالي المختطَفين أن كثيراً من موظفي هذه الدائرة ينتمون إلى الطائفة السُّنّية، وهذا ما دفع هذه الميليشيات لتنفيذ عمليتها، ومن ثمَّ الإيقاع بأكبر عدد من الرهائن السُّنّة.
هذا في الوقت الذي أشارت فيه مصادر مطّلعة أن ذلك اليوم بذاته مخصص لمراجعة مدرّسي وموظفي محافظات «الأنبار» و «صلاح الدين» و «الموصل» وكلها محافظات سُنّية؛ حيث أعلنت كل من روسيا وفرنسا والصين عن بعثات دراسية للكوادر العلمية العراقية، وكان كل المتقدمين يقفون في طابور طويل جداً.
وهذا يدل على مدى الاختراق الحاصل في مؤسسات الدولة وأجهزتها من قِبَل ميليشيات القتل والغدر!
فماذا كانت ردّة فعل المكونات السياسية؟! أو بالأحرى: ماذا كانت ردّة فعل الحكومة التي من أهمِّ مهامها توفير الأمن والسلام للمواطن؟!
لقد جاءت ردّة فعل الحكومة على لسان زعيمها (المالكي) ليقلِّل من شأن الحادثة، ويعتبرها ليست إرهاباً، وإنما أتت نتيجة خلافات ونزاعات بين ميليشيات تنتمي لهذا الجانب أو ذاك!
لا تتعجب ـ أيها القارىء الكريم ـ من هذا التصريح، ولا تتفاجأ عندما تسمع (المالكي) يقول: إنها ليست «إرهاباً» ؟! لأن العمل الإرهابي في العراق الجديد في نظر الحكومة وزعيمها هو ما يفعله من يسمِّيهم (المالكي) وأتباعه بـ «الصدّاميين» أو «البعثيين» أو «الوهابيين» أو «النواصب» !
أما ما يفعله جيش المهدي فهو انتصار لشيعة أهل البيت المظلومين! فليس إرهاباً! هكذا هي المقاييس في عراق الحرية والديمقراطية الجديد.
مواقفُ ومواقفُ أخرى مخجلة؛ كمواقف الأحزاب ـ خاصة السُّنّية ـ المشاركة بالبرلمان والحكومة، فقد عدَّ بعض تلك الأحزاب السُّنّية العملية بـ (أنها مهزلة سياسية كبرى) !
ـنعم؛ إنها لمهزلة أبتْ تلك الأحزاب إلا أن تشارك فيها، بل تكون جزءاً أساسياً منها! لتتوّج تلك المواقف بموقف وزير التعليم العالي نفسه الذي أعلن تعليق عضويته في الحكومة وإيقاف الدراسة في الجامعات والكليات في بغداد حتى إطلاق سراح المختطَفين! ليعود مشاركاً في حكومة صعُب عليه مفارقتها أو الابتعاد عنها.. «كان الله في عونك أيها الشعب المسكين!» .
3 رابعاً: اختطاف أعضاء اللجنة الأولمبية ورئيسها:
أما هذه الحادثة التي تنال هذه المرّة الرياضيين، كغيرهم من أبناء العراق، فقد حدثت في الكرَّادة في بغداد أيضاً، في مكان يقرب كثيراً من دائرة البعثات التابعة لوزارة التعليم العالي.
ففي ظهيرة من الظهيرات التي يتقلَّب فيها المواطن العراقي على جمر اللّظى من شدة ما يلاقيه من مآسٍ وفتن وغلاء في المعيشة وفقدان للأمن وكثير مما ابتُلي به.. في ذلك الوقت قام ما يزيد على خمسين مسلَّحاً يرتدون ملابس عسكرية باقتحام المركز الثقافي النفطي، حيث يُعقد فيه مؤتمر للجمعية العمومية للجنة الأولمبية العراقية، بعد أن تمكَّن المسلَّحون من السيطرة على رجال الحرس من حماية المنشآت الرياضية، عندما طلب المسلَّحون من الحاضرين في القاعة الجلوسَ على الأرض والتزام أماكنهم! ثم قاموا بتقييد أيدي رئيس اللجنة الأولمبية العراقية (أحمد الحجية) من أصل سامرائي سُنّي، وكذلك الأمين العام وبعض المسؤولين الآخرين.. وتمَّ اختطاف ما يزيد على ثلاثين شخصاً في هذه المسرحية الغادرة.
إن الناظر إلى هذا المشهد المسرحي الغريب قد يتبادر إلى ذهنه أن تكون هذه العملية تمَّت على أساس اعتقال (الحجية) ومن معه بأمر قضائي أو غيره! ولكن هذا الشك يزول عندما تسمع تصريح وزير داخلية الحكومة العراقية (البولاني) أن وزارته لم تصدر أيَّ أمر باعتقال رئيس اللجنة الأولمبية، مؤكداً أن ما حصل هو حادث اختطاف نفّذته جهة مجهولة!
هذه «الجهة المجهولة» هي الشمّاعة التي لا تفتأ أن تعلِّق عليها الحكومة كل أعمال الخطف والدمار وحرق المساجد والقتل والتهجير لأبناء السُّنّة خاصة! فهل صحيح أنها «مجهولة» ؟! لا والله؛ إنها معلومة عندهم! ولكنَّ الكراسيَ والعروش تشلُّ الأبدان، أو بالأحرى تُخرِسُ اللسان عن أن يتلفظها أو يفصح عنها!
3 خامساً: اختطاف موظفي «شركة الراوي التجارية» في بغداد:
وقصة هذه الحلقة من مسلسل الاختطاف تتجه صوب منطقة العرصات في بغداد لتطال موظفي «شركة الراوي للهواتف النقالة» ، والرواية تشير إلى أن عدداً كبيراً من المسلَّحين الذين يرتدون زيَّ مغاوير الشرطة العراقية يستقلون (15) آلية من طراز (gmc) أمريكية الصنع مطلية باللون العسكري، اقتحموا «شركة الراوي» لبيع الهواتف النقالة في بغداد في منطقة العرصات، واختطفوا (25) موظفاً واقتادوهم إلى جهة مجهولة.
ولم يكتفِ المختطِفون بتلك الغنيمة، بل اقتحموا مقرَّ «غرفة التجارة والصناعة العراقية الأمريكية» القريبة من شركة الراوي ليضيفوا (12) مختطَفاًً آخرين إلى العدد السابق، ولكن الذي حدث أن أُطلق سراح موظفي غرفة التجارة والصناعة، وأُبقي على موظفي «شركة الراوي» ! والله وحده يعلم في أي منطقة خاوية أُلقيت جثثهم بعد التمثيل بها طبعاً كالعادة! وإن كانت معرفة هذه المنطقة لا تحتاج إلى مزيد من إعمال الفكر؛ لأن مناطق التمثيل والقتل معروفة في ضواحي بغداد لكل متابع للمشهد العراقي المؤلم.
كل هذه الأمثلة وغيرُها كثيرٌ من عمليات الخطف؛ كتلك التي وقعت في الصالحية في مكاتب السفر والنقليات، أو تلك التي طالت عشرات الموظفين في «شركة النصر» في منطقة التاجي شمال بغداد! كل ذلك يدعو إلى طرح سؤال هام جداً:
أين الحكومة مما يحدث؟! فالخطف بمجرّده لفرد من أفراد المجتمع يُعدّ خطوة خطيرة، أما أن يحصل وسط عاصمة يبلغ عدد رجال الأمن والشرطة والجيش فيها ما يربو على مائة ألف فرد، فالمسألة مخيفة للغاية! ولأن المنطقة محاطة بالأجهزة الأمنية، فالقضية تحتاج إلى أكثر من وقفة، ولأن المستهدَفين من العلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والموظفين والفقراء والمساكين فلا بد من مراجعةٍ حقيقةٍ لما يجري.
وعدم تدخُّل الحكومة في أغلب عمليات الخطف يضع أمام مصداقيتها مائة علامة استفهام وتعجب؟! وعندها تكون الحكومة ملزمة بفضح هؤلاء وملاحقتهم والاقتصاص منهم، أو أنها تكون أمام خيارين لا ثالث لهما:
فهي إما أن تكون على معرفة بهؤلاء وتتستّر عليهم، وعليها عندئذ أن تتنحَّى عن كراسيها وتعلن هزيمتها أمام هذه القوى الطاغية. أو أنها تكون متواطئة معهم، وتكون شريكة لتدمير العراق وأهله.
إن العراق يمرُّ اليوم في هذه السنوات النحسات العجاف بأزمة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فالخطف والقتل والغدر والاعتقال والخراب والدمار أصبحت لازماً من لوازم العيش في بلاد الرافدين، بل أصبحت جزءاً من حياة الفرد الذي أراد السلام من خلال انتمائه إلى «دار السلام» .
إن بغداد السلام التي كانت في يوم من الأيام عاصمة العلم ومهد الثقافة وأمَّ الدنيا، تتحول أزقّتها وشوارعها إلى جحور للقتل والخطف والدمار.
أُبدلت الأشجار التي كانت تزيّن شوارعها بجثث تلقى على قوارعها نتيجةَ الغدر والخيانة.
فالله في عون الأمهات اللواتي نُكِبن بأبنائهن، والله في عون الزوجات اللواتي نُكِبن بأزواجهن، والله في عون الأخوات اللواتي نُكِبن بإخوانهن.
سائلين الله ـ تعالى ـ أن يمنَّ علينا بالأمن والإيمان والسلامة والسلام، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.(235/14)
الترسانة النووية الصهيونية
بين سياسة الردع بالشك والغموض النووي
. د. لواء. زكريا حسين
عكست تصريحات رئيس الوزراء الصهيوني (إيهود أولمرت) ، التي أعلنها خلال مقابلة مع شبكة تلفزيونية ألمانية أثناء جولته الأوروبية التي تمت في الأسبوع الثاني من ديسمبر 2006م، بشأن امتلاك الدولة العبرية للترسانة النووية ـ عكست ردود فعل واسعة إقليمياً وعالمياً؛ حيث انتهجت كلها سبيلاً واحداً وهو تخلّي الدولة الصهيونية عن سياسة الغموض النووي بشأن ترسانتها النووية. كما عُقدت الندوات في المراكز البحثية المتخصصة لتقييم هذا الإعلان وأهدافه؛ بل أصبحت هذه التصريحات مثار اهتمام أجهزة الإعلام العربية والعالمية. في الوقت الذي حاول فيه المسؤولون الصهاينة احتواء الضرر الذي ألحقته هذه التصريحات بالسياسة النووية الصهيونية.
فماذا عن حقيقة هذا الإعلان من جانب رئيس الوزراء الصهيوني؟ وهل يعتبر هذا الإعلان البداية الحقيقية لكشف سياسة الغموض النووي الصهيوني؛ كما زعمت كل التحليلات التي انطلقت من هنا أو هناك؟ أم أنَّ هناك ضعفاً في الذاكرة العربية؛ بشأن تأكيد كبار المسؤولين الصهاينة لحقيقة امتلاكهم للقنبلة النووية باعتبارها رادعاً استراتيجياً؛ والتي سبق أن تأكد أن الدولة الصهيونية تمتلكها منذ أكثر من ثلاثة عقود ماضية؟ حيث كشف (شمعون بيريز) أنه قد عبّر شخصياً (ولأول مرة) خلال تولّيه وزارة الدفاع عام 1963م عن سياسة الغموض النووي الصهيوني خلال لقاء مع الرئيس الأمريكي الأسبق (جون كيندي) .
وتهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على حقيقة امتلاك الدولة الصهيونية لترسانتها النووية؛ من خلال التعرف على كيفية بناء هذه الترسانة، وسياستها من الردع بالشك والغموض النووي، وقراراتها بتخلّيها عنها.
أولاً: بناء الترسانة النووية الصهيونية:
لقد أدرك الصهاينة منذ قيام الدولة الصهيونية في 15 مايو 1948م أهمية امتلاك السلاح النووي. ومن هنا وبعد ثلاثة أشهر فقط من قيام الدولة أصبحت مؤسسة الطاقة النووية حقيقة واقعة؛ ففي أغسطس 1948م (1) بدأ نشاطها تحت إشراف وزارة الدفاع الصهيونية، وفي أواخر الخمسينيات تمكنت الدولة الصهيونية من ابتكار طريقة لاستخراج اليورانيوم من خامات الفوسفات، كما أقامت وحدة لإنتاج الماء الثقيل. ومثّلت هاتان الخطوتان نواة مؤسسة الطاقة النووية الصهيونية (2) . وفي 16 يونيو 1960م وافقت الولايات المتحدة على بناء مفاعل ذري صهيوني قُدرته خمسة ميجاوات في منطقة (ناحال سورك) ؛ حيث قدّر الباحثون أن الدولة الصهيونية أمكنها تصنيع من 3 ـ 4 رؤوس نووية عيار 20 كيلو طناً من هذا المفاعل. وخلال الفترة من عام 1960م إلى عام 1966م وافقت الولايات المتحدة على تزويد الدولة الصهيونية بـ 50 كيلو جراماً من اليورانيوم بدرجة نقاء 90% لتغذية مفاعل (سورك) بما يمكنها من صنع عدة قنابل ذرية (3) ، رغم قيود الاتفاقية الأمريكية التي تمنع استخدام المفاعل للأغراض العسكرية. وخلال الفترة من عام 1953م إلى 1967م، وعلى امتداد أربعة عشر عاماً، تعاونت فرنسا مع الصهاينة؛ حيث أثمر هذا التعاون عن تصميم وبناء (مفاعل ديمونة) النووي بقوة 26 ميجاوات.
ثانياً: سياسة الردع بالشك والغموض النووي:
يرتبط تأكيد تبنّي سياسة الردع بالشك والغموض النووي الصهيوني بعدة حقائق، أهمها:
الحقيقة الأولى:
أنه قد أكد مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (ريتشارد هيلز) أمام لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس الأمريكي في 10 يوليو 1970م بأن الدولة العبرية تمتلك مقومات إنتاج القنبلة النووية، معلناً بذلك انتهاء سياسة الردع بالشك التي كانت تتمسك بها الحكومات الصهيونية المتعاقبة.
الحقيقة الثانية:
أن الدولة العبرية كانت لديها ثلاث عشرة قنبلة نووية عام 1973م (4) . وطبقاً لتقرير نُشر في مجلة (تايم) الأمريكية أنه في المراحل الأولى لعمليات أكتوبر 1973م، ومع تدمير الدفاعات الصهيونية الحصينة، سواءً على الجبهة المصرية المتمثله في خط بارليف، أو تحصينات هضبة الجولان على الجبهة السورية ـ أعطت (جولدا مائير) رئيسة الحكومة الصهيونية في ذلك الوقت الإذنَ إلى (موشي ديان) وزير الدفاع الصهيوني بتجهيز (أسلحة يوم القيامة) ، وهو الاسم الرمزي للأسلحة النووية. وبدأت فعلاً الخطوات التنفيذية لذلك، وقبل أن تتم آخر خطوة تحوّل التوازنُ العسكري لصالح الدولة الصهيونية بفضل الجسر الجوي الأمريكي؛ حيث كان قرار الرئيس (نيكسون) بإمداد الدولة الصهيونية بكل احتياجاتها؛ حتى لو كان ذلك يعني استنفاد احتياطي الحرب في الولايات المتحدة!
وقد وصل إجمالي الإمدادات الأمريكية إلى الصهاينة (5) 22.400 طن معدات قتال نقلت بطائرات نقل أمريكية، 5.500 طن نقلت بطائرات صهيونية، وذلك خلال الفترة من 9 إلى 24 أكتوبر 1973م.
الحقيقة الثالثة:
أن النصف الأول من القرن العشرين قد شهد استمراراً للتعاون الاستراتيجي في المجال النووي بين كل من الولايات المتحدة والدولة الصهيونية من جهة وألمانيا من جهة أخرى؛ فقد وقع وزير الطاقة الأمريكي (بيل ريتشاردسون) على (رسالة نوايا) مع رئيس الوكالة الصهيونية للطاقة الذرية في 22 فبراير 2000م؛ تتعلق بتوسيع نطاق التعاون الثنائي بين الدولتين في مجال حظر الانتشار النووي ومراقبة التسلح، ينص على:
ـ تعزيز التعاون في مجال تقنية (تكنولوجيا) الرصد والمراقبة لتطوير التحقق في مجال معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
ـ توسيع نطاق التعاون الثنائي في مجال الطاقة والعلوم التقنية بما فيها الطاقة الشمسية المتطورة، وتبادل نتائج الأبحاث وتطوير المنتجات. كما يسمح للعلماء الصهاينة بالاطّلاع على بعض أنماط التقنية النووية الأمريكية.
ـ السماح للعلماء الأمريكيين بتفقّد المنشآت النووية الصهيونية، وإجراء تفتيش لمفاعل (ديمونة) التي تحتفظ فيه الدولة الصهيونية بترسانتها النووية.
ـ زيادة مجال التعاون في أشكال الطاقة الأخرى، مثل: الغاز الطبيعي، والفحم، وإنتاج الكهرباء.
ويركّز هذا الاتفاق على إقامة نظامٍ تفتيشيٍّ خاصٍّ بعيداً عن هيئة الطاقة الذرية، والتي تعتبر جهة الاختصاص حسب معاهدة حظر الانتشار النووي، ليكون للدولة الصهيونية وحدها نظام تفتيشي تكون فيه المفتشَ والحَكَمَ على قدرتها النووية، وبذلك تحصل الدولة الصهيونية على ميزة غير متاحة لباقي دول العالم.
هذا وقد تسلمت الدولة الصهيونية (1) ثلاث غواصات نووية من ألمانيا من طراز (دولفين) نهاية عام 1999م، وتُستخدم هذه الغواصات من مواقع أمامية في منطقة القرن الأفريقي؛ وأهمها (جزر دهلك) المواجِهة لميناء أريتيريا الأول مصوع، وجزر حنيش اليمنية، وهي محملة بصواريخ (كروز) بما يسمح للعدو توجيه ضربة ثانية من خلال إطلاق صواريخ (كروز) المحملة برؤوس نووية من البحر.
الحقيقة الرابعة:
أن الحجم الحالي للترسانة النووية الصهيونية، والذي استند إلى تقرير نُشِر في 8 أكتوبر 1999م (2) أعدّه المجلس الدفاعي للموارد الطبيعية، استناداً إلى وثائق سرية من وزارة الطاقة الأمريكية ـ يؤكد أن الدولة الصهيونية تحتل المرتبة السادسة بين القوى النووية من حيث مخزونها من (البلوتونيوم) الصالح للاستخدام العسكري، ولديها ما بين (ثمانيمئة إلى خمسمئة كيلوجرام) منه، متقدمة بذلك على الهند التي لديها ما بين (مئة وخمسين إلى مئتين وخمسين كيلوجرام) .
كما أوضح التقرير أن (مئتين وستين طناً) من مادة (البلوتونيوم) المشار إلىها قادرةٌ على إنتاج (خمسة وثمانين ألفاً) من الرؤوس النووية، مما يؤكد انتهاء سياسة الغموض النووي الصهيوني، وخاصة أن الإدارة الصهيونية لم تنفِ هذا التأكيد من جانب حليفتها الاستراتيجية!
الحقيقة الخامسة:
يتوقع أن تستمر الدولة الصهيونية في تطوير ترسانتها النووية في العقد القادم؛ حيث تسعى إلى بناء ما بين مفاعل إلى مفاعلين من طراز (ISDU) لا تخضع لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما ينتظر أن تعمل على زيادة قدرتها في مجال امتلاك الأسلحة النووية الاستراتيجية؛ استناداً إلى دعوى قادتها بأهمية وحيوية هذه الأسلحة لتحقيق أمن الدولة الصهيونية.
أضِف إلى هذا أن الدولة الصهيونية تواصل سعيها لدخول مجال إنتاج القنابل الهيدروجينية، والقنابل النيوترونية؛ حيث عملت على اكتساب الخبرة في هذا المجال منذ عام 1983م (3) . وقد تعددت تصريحات الخبراء والكتاب الصهاينة بأنه يجب على دولتهم عدم الاكتفاء بامتلاك قوة ردع نووية تعتمد على السلاح النووي الاستراتيجي (أي القنابل الذرية والهيدروجينية) فحسب؛ بل يجب أن تعتمد على السلاح النووي التكتيكي، (أي قنابل النيوترون) (1) . وتستند الدعوة لدى الصهاينة لإنتاج قنابل (النيوترون) إلى أن وجود مثل هذا السلاح يغطي الثغرات في السلاح النووي الاستراتيجي، إضافة إلى إنها تقتل الأفراد دون تأثيرات تدميرية كبيرة بفعل موجة الضغط أو موجة الحرارة الشديدة، إلى جانب أنها لا تخلّف تلوثاً إشعاعياً مستمراً، كما يمكن التركيز بهذا السلاح على قتل العسكريين دون قتل المدنيين، خصوصاً في المعارك التي تدور بالقرب من المدن والمناطق الآهلة بالسكان.
وعن السياسة النووية الصهيونية فإنه في ضوء ما سبق، وحقيقة امتلاك الصهاينة للقنبلة الذرية، ومن خلال ما أعلنته الحكومة الصهيونية فإن سياسة الدولة العبرية النووية (2) لها أربعة أبعاد رئيسية: أولها: أن الدولة العبرية سوف تستخدم القنبلة الذرية كسلاح للردع، وليس كأداة لتوجيه الضربة الأولى المستقبلية. وثانيها: أن الدولة العبرية سوف تستخدمها للانتقام متى رأت ذلك ضرورياً. وثالثها: أن الدولة العبرية تنكر رسمياً قيامها بتصنيع أسلحة ذرية. ولكنها ألمحت إلى وجودها عن طريق القنوات الرسمية وغير الرسمية. ورابعها: أنها ستعمل على منع الدول العربية من امتلاك أسلحة نووية؛ حتى لو تطلّب ذلك أن تقوم بعملية عسكرية؛ كما حدث حين دمرت المفاعل النووي العراقي في 12 يونيو 1981م.
أما عن المزايا الاستراتيجية التي يوفرها امتلاك السلاح النووي للعدو الصهيوني؛ فإن مفهوم الأمن الصهيوني يرتكز على ضمان توفير القدرة الشاملة لما تراه ضرورياً لتأمين كيان الدولة وحماية مصالحها الحيوية، وبصفة خاصة من خلال القدرات العسكرية المتطورة والمعتمدة على أوجه التقدم التقني المعاصر. ويمثل هذا المفهوم من وجهة نظر العدو خياراً رئيسياً لدعم كيانها وبقائها وعناصر استقرارها في مواجهة أية مخاطر وتهديدات في أي شكل، وفي أي اتجاه، وفي أي وقت. وعلى ذلك يحقق امتلاكها للرادع الاستراتيجي مجموعة من المزايا الاستراتيجية نذكر منها أربعاً. أولها: الإخلال بالتوازن الاستراتيجي مع دول المنطقة على المدى البعيد لصالحها، بما يتيح لها فرصة فرض بعض مفاهيمها ووجهات نظرها في مواجهة الجانب العربي. وثانيها: دعم مواقفها السياسية والتفاوضية باستغلال ما يمثّله رصيد قوتها العسكرية من تقدم تقني. وثالثها: استخدام الخيار التقني كأحد الأدوات الفعّالة في مجال استراتيجية الردع على المستوى العسكري. ورابعها: دفع الجانب العربي لإعادة حساباته إزاء حجم الضرر الذي قد يتحقق من جرّاء التقدم العسكري الصهيوني في حالة وجود نوايا هجومية.
وتتزايد هذه المزايا الاستراتيجية التي تعود على العدو من خلال استثمارها لعلاقة التعاون الاستراتيجي الأمريكي/الصهيوني؛ والذي أُعيد تقنينه، خاصة في المجالات الحيوية، من خلال التوقيع على اتفاقية 23 أبريل 1988م (3) ، التي تسمح للدولة الصهيونية بالمشاركة في برنامج حرب الكواكب، والدخول في مجال الفضاء، والحصول على التقنية الأحدث في هذا المجال. كما قامت الولايات المتحدة بإمداد الدولة العبرية بالقنابل العنقودية، وطائرات القتال التي يمكنها حمل قنبلة نووية زِنة 750 ـ 1000 كيلوجرام، إضافة إلى نوعيات متقدمه من صواريخ (لانس وبيرشنج) ، والمدفعية بعيدة المدى القادرة على إطلاق قذائف نووية.
وعن الشروط التي تضعها الدولة الصهيونية لإزالة سلاحها النووي؛ فالعدو يضع ثلاثة شروط لقبول ترتيبات إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. أولها: التفاوض المباشر الذي لا يخضع لأي شروط مسبقة بينها وبين الدول العربية. وثانيها: اتخاذ ما يلزم من ترتيبات ضرورية لدعم الثقة المتبادلة بينها وبين دول المنطقة. وثالثها: أن يتم التصديق على الاتفاقية المنشئة للمنطقة الخالية من أسلحة الدمار الشامل من قبل جميع الدول المعنيّة.
ولقد أوضح الجنرال (مردخاي جور) ، نائب وزير الدفاع الصهيوني، ثلاثة شروط للدخول في إطار متبادل من الأمن وضبط التسليح، برزت خلال مناقشات لجنة ضبط التسليح والأمن الإقليمي المنبثقة عن المحادثات المتعددة الأطراف الجارية في إطار صيغة مدريد للسلام (1) ؛ والتي نشرتها جريدة الأهرام القاهرية في نوفمبر 1994م: أولها: مرور عدة سنوات يترسخ فيها التعايش بين الدولة العبرية وجيرانها من العرب. وثانيها: قيام الدول العربية، وخاصة سورية، بتخفيض مستويات قواتها المسلحة وإنفاقها العسكري. وثالثها: تأكُّد الدولة العبرية من أن دولاً، مثل: العراق (قبل الغزو) وإيران، لن تتمكن من تطوير قدرات نووية خاصة بها، ولم تعد تشكل تهديداً إقليمياً على جيرانها. واستطرد قائلاً: «عند ذلك يصبح في إمكان أي حكومة (عبرية) التفكير جدياً في تخفيض قواتنا المسلحة وإنفاقنا العسكري بشكل ملموس، والتوجّه في استراتيجيتنا بعيداً عن توازن الردع القائم حالياً نحو توازن قائم على الأمن والمصالح المتبادلة بينها وبين جيرانها العرب» .
وهكذا يتضح أن دولة العدو قد أكدت امتلاكها للأسلحة النووية. وفي هذا الإطار يقول (زائيف تشيف) (2) كبير المحللين الصهاينة في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، في تصريحات له في جريدة (هارتس) الصهيونية في 15 نوفمبر 1994م؛ حيث أعلن: «إننا نحتفظ دائماً بالتفوق التقني والنوعي؛ حيث علينا أن نتذكر دائماً أن هزيمة واحدة تلحق بالدولة العبرية ستكون كافيةً للقضاء عليها، بينما الأمر ليس كذلك إطلاقاً بالنسبة للعرب؛ فالدولة العبرية لا تستطيع تهديد وجود سورية أو مصر أو السعودية أو أي دولة عربية أخرى؛ بينما قد يكون صحيحاً بالنسبة للدولة العبرية إذا ما أراد أي طرف عربي ذلك. ومن هنا علينا الاحتفاظ بسلاحنا النووي الذي يمثل رادعنا الاستراتيجي المستقل. وأقول صراحة: إن من يعتقد أن الدولة العبرية ستتخلى عن رادعها الاستراتيجي مجاناً ودون مقابل هو من الحالمين. أما إذا تم إحلال السلام الدائم والشامل في المنطقة فإن جميع الأبواب تصبح مفتوحة، وجميع الاحتمالات تصبح واردة» .
وعلى ذلك يمكن القول: إن حقيقة امتلاك العدو للسلاح النووي تكتمل بالنظر إلى ما تملكه من وسائل حمل متنوعة، ومن ذلك على سبيل المثال: صواريخ (أريحا ـ 1) عابرة القارات؛ والتي يصل مداها إلى 1450 كيلومتراً، وصواريخ (لانس) التي يبلغ مداها 130 كيلومتراً، والصواريخ قصيرة المدى حتى 30 كيلومتراً، إضافة إلى المقاتلات القاذفة (F - 16) ، (F - 4) القادرة على التزويد بالوقود في الجو، أو حمل قنابل نووية وكيماوية، وغير ذلك من القاذفات وطائرات النقل والهيلوكوبترات بأنواعها.
هذا وتسعى الدولة الصهيونية في مجال تطوير وتنمية قدراتها المسلحة خلال نصف القرن الحادي والعشرين لتطوير منظوماتها الدفاعية ضد الصواريخ البلاستيكية متوسطة المدى، وزيادة تحسين طاقة الإنذار المبكر، والتعاون الأمريكي في مجال المخابرات، ومشاركة القوة الأمريكية في أي ترتيبات أمنية يتفق عليها في معاهدات سلام مع العرب، مع المحافظة على حجم المساعدات الأمريكية؛ خاصة العسكرية منها للدولة الصهيونية.
وقد كان لميثاق التعاون الاستراتيجي والأمني المتبادل (1) الذي وقعه الجانبان الأمريكي والصهيوني في مارس 1996م، والذي أعطى مظلة وقائية حقيقية لأمن العدو؛ حيث تقدم واشنطن بموجبه كل ما تملك من تقنية حديثة من المعلومات السرية جداً، إلى جانب اتفاقية تحالف حقيقي تصل إلى اعترافٍ أمريكي كامل بالرادع الاستراتيجي الصهيوني (أي الترسانة النووية) ، وإقامة محطة أرضية أمريكية في الدولة الصهيونية للتجسس بالأقمار الصناعية الأمريكية بالقدر الذي علّق عليه الكثيرون في الدولة العبرية بأن كل هذه الاتفاقيات الاستراتيجية تجعل من الدولة العبرية الولاية رقم 51 للولايات المتحدة.
كما تُركّز دولة العدو على مبدأ (الاعتماد على الذات) حتى لا يُفرض عليها قرارات سياسية، أو يكون هناك أي قيود على حرية إرادتها السياسية؛ وذلك بالتوسع في الصناعات الحربية، التي امتدت لتشمل قاعدة صناعية ضخمة تضم ثماني وثلاثين شركة ومصنعاً ومؤسسة للصناعات: الحربية، والجوية، والإلكترونية منها.
في النهاية:
إن الحقيقة المؤكدة تشير إلى أن هناك ضعفاً شديداً في الذاكرة العربية؛ حيث تم تأكيد امتلاك العدو للسلاح النووي منذ أن أعلن مدير وكالة المخابرات المركزية (ريتشارد هيلز) أمام لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس الأمريكي في 7 يوليو 1970م؛ أن الدولة العبرية تمتلك مقومات إنتاج القنبلة النووية.
كما أكد تقرير لمجلة (تايم الأمريكية) أنه في المراحل الأولى لعمليات أكتوبر 1973م، التي قامت بها مصر بالتنسيق مع الجمهورية السورية، أعطت (جولدا مائير) رئيسة الوزراء الصهيوني في ذلك الوقت، الإذنَ إلى (موشي ديان) وزير دفاعهم بتجهيز (أسلحة يوم القيامة) وهو الاسم الرمزي للأسلحة النووية، وبدأت فعلاً الخطوات التنفيذية لذلك، وقبل أن تتم آخر خطوة تَحوّل التوازنُ العسكري لصالح العدو بفضل الجسر الجوي الأمريكي؛ حيث قرر الرئيس الأمريكي (نيكسون) إمداد الدولة الصهيونية بكل احتياجاتها التسليحية، حتى لو كان ذلك يعني استنفاد احتياطي الحرب في الولايات المتحدة!
ومن ثم فإنه من الثابت تاريخياً انتهاء سياسة الردع بالشك منذ حوالي ثلاثة عقود مع بداية السبعينيات.
أما سياسة الغموض النووي فقد تناسى العرب وفقدت الذاكرة العربية المحادثاتِ المتعددة الأطراف (الصهيونية العربية) ، والتي كانت ثمرة مؤتمر مدريد للسلام؛ حيث تمت عدة لقاءات بين الجانب الصهيوني والعربي في اجتماع لجنة ضبط التسليح والأمن الإقليمي، والتي نُشرت نتائجها في جريدة الأهرام القاهرية في نوفمبر 1994م؛ حيث أعلنت الدولة الصهيونية شروطها لإزالة ترسانتها النووية ممّا اعتُبِر إعلاناً صريحاً عن انتهاء سياسة الغموض النووي الصهيوني؛ والتي تأكدت بإعلان (زائيف تشيف) كبير المحللين الصهاينة في الشؤون العسكرية والاستراتيجية في جريدة (هارتس) الصهيونية في 15 نوفمبر 1994م؛ عن تأكيد امتلاك الدولة العبرية للسلاح النووي.
تلك هي حقيقة الزوبعة المفتعلة التي تسود أجهزة الإعلام والأجهزة البحثية إقليمياً وعالمياً عن سياسة الردع بالشك، والغموض النووي لدى القوم، والتي سبق إعلانها منذ أكثر من ثلاثة عقود ماضية.
__________
(*) المدير الأسبق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا، ومستشار رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا.
(1) بينر براي: ترسانة إسرائيل النووية، يونيو 1987م، ص 10.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) اللواء الدكتور. زكريا حسين: العرب إلى أين؟ المكتب المصري الحديث، القاهرة 1995م، ص 201.
(5) المرجع السابق
(1) المجلس الدفاعي للموارد الطبيعية، تقرير من وزارة الطاقة الأمريكية، 8 أكتوبر 1999م.
(2) الخيار النووي في الشرق الأوسط: ندوة لمركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط لمجموعة باحثين، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ لبنان، نوفمبر 2000م.
(3) بنية إسرائيل النووية: سبق ذكره، ص 113.
(1) بنية إسرائيل النووية: سبق ذكره، ص 107.
(2) اللواء الدكتور زكريا حسين: التكنولوجيا وتنمية القوة المسلحة، مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، المجلد 3، العدد 1، أكتوبر 1994، ص 27.
(3) اللواء الدكتور زكريا حسين: التكنولوجيا وتنمية القوة المسلحة، سبق ذكره.
(1) ما تم: نشرةٌ من اجتماع لجنة ضبط التسلح والأمن الإقليمي، في جريدة الأهرام، القاهرة، نوفمبر 1994م.
(2) زائيف تشيف كبير المحللين الصهاينة في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، جريدة هارتس الصهيونية، 15 نوفمبر 1994م.
(1) الخيار النووي في الشرق الأوسط: سبق ذكره.(235/15)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
من هنا وهناك
علامة تعجب
من هنا وهناك
أوضحت مصادر طبية فلسطينية أن المصانع التي أقامتها سلطات الاحتلال الصهيوني في محافظة سلفيت شمال الضفة تسببت في ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان نتيجةَ تلويثها للهواء والتربة ومياه الشرب، وكان الاحتلال قد نقل تلك المصانع من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948م إلى سلفيت؛ لإبعاد خطرها عن اليهود بعد أن ثبتت خطورتها على الصحة العامة. [صحيفة الرياض] تسببت أزمة أسواق المال الخليجية التي تفجرت منذ عام تقريباً في خسارة 60% من قيمة الأسواق، كما خسر ملايين المساهمين ما لا يقل عن 60% من مدّخراتهم، ولا تزال في الأسواق 6 تريليون ريال سعودي، وبلغت الخسائر نحو 3 تريليون ريال على مستوى دول الخليج، مما أدَّى إلى أضرار مادية واقتصادية واجتماعية كبيرة، تضرر من جرّائها ما يُقدَّر بعشرة ملايين عائلة خليجية.
[جريدة أخبار اليوم، 3/3/2007م]
تسعى الدولة الصهيونية للحصول على أقصى مكاسب من الإدارة الأمريكية قبل مغادرة الرئيس جورج بوش منصبَه بعد أقل من عامين، باعتبار تلك الإدارة أقرب إلى تفهُّم احتياجات الدولة الصهيونية والأقرب إليها بين الإدارات الأمريكية المعاصرة، وأرسلت الحكومة وفداً برئاسة حاكم المصرف المركزي في إطار جولة المفاوضات حول إعادة صياغة إطار التعاون الاستراتيجي ـ الاقتصادي بين الجانبين، ويسعى الوفد الصهيوني إلى طلب 600 مليون دولار إضافية توزع على 12 سنة وتضاف إلى المعونة العسكرية التي تتلقاها والتي تبلغ 2.4 مليار دولار سنوياً، كما يسعى الصهاينة إلى تعميق الدعم الأمريكي لجهودهم في تطوير الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ الموجهة متوسطة وقصيرة المدى. [الوطن، 15/2/1428هـ]
ذكرت صحيفة صنداي تليجراف البريطانية نقلاً عن الدبلوماسي الإيراني المنشقّ (عادل أسادينيا) أن طهران درَّبت شبكات سرية من عملائها لضرب المصالح الغربية وإثارة القلاقل الأهلية في حال تعرُّض إيران لهجوم، وأشار (أسادينيا) إلى أن هؤلاء العملاء يعملون في مؤسسات مهنية مملوكة لإيرانيين، وأنهم يشكلون خلايا نائمة مستعدة للتحرك عند أول إشارة لأيِّ تهديد جدّي ضد إيران، ويشير تقرير التليجراف إلى أن تلك الخلايا تلقت تدريبات على أيدي الاستخبارات الإيرانية.
[صحيفة الأهرام، 5/3/2007م]
علامة تعجب
غصن الزيتون متعدد الطلقات:
في مؤتمر صحفي هدَّد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بحملة أمنية ستشمل كل شبر في أرض العراق إذا لم يقبل المسلَّحون غصن الزيتون الذي يقدِّمه لهم! [صحيفة الوطن السعودية]
لدى العرب طيارون بدون طائرات:
ذكرت صحيفة جيروزاليم بوست الصهيونية أن صناعات الطيران الصهيونية تعكف على تطوير ثلاث طائرات عسكرية ومدنية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي وعدد من شركات الطيران العالمية، ومن بين هذه الطائرات الثلاث طائرة نقل بدون طيار بوسعها أن تحمل ما يصل إلى 30 طناً، وطائرة استطلاع بدون طيار قادرة على القيام بعمليات استطلاعية طويلة المدى، وطائرة ركاب بين المدن صديقة للبيئة تُدار بخلايا مبتكرة للطاقة، وأشارت الصحيفة إلى أن الطائرات الثلاث من أفكار مدير الأبحاث والتطوير في قسم الهندسة لصناعات الطيران الصهيونية، ويُذكر أن كلاً من إيران والدولة الصهيونية تصنعان تلك الطائرات مع اختلاف المستوى التقني، بينما لا تمتلك أي دولة عربية تقنية مماثلة!
[بتصرف عن الأهرام، 5/3/2007م]
الورع الأمريكي في اتهام طهران:
في شهادته التي أدلى بها في إحدى جلسات المحاكمة فيما يسمى «قضية الأنفال» قال طارق عزيز ـ نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية العراقي الأسبق ـ: إن «إيران هي التي أطلقت الأسلحة الكيميائية على حلبجة أثناء حربها مع العراق» ، ودعم عزيز كلامه بما سبق أن نشره معهد دراسات متخصص تابع للبنتاجون وأكَّد على الحقيقة نفسها، ويُذكر أن الاحتلال الأمريكي يتبع سياسة انتقائية في كشف الأدلة التي تدين تدخل إيران في العراق دون التوسع في تتبُّع كافة الخيوط عن قصد، ومنها التورط الإيراني في حلبجة!
[بتصرف عن قناة المجد، نشرة الأخبار، 15/2/1428هـ]
رجسٌ من قلم الكُتَّاب:
(في ظلِّ الجدل القائم حول المادة الثانية من الدستور بدا ذكر العلمانية وكأنها رجس من عمل الشيطان، وعلى أية حال ونحن بصدد تدشين حوار حقيقي مع وريثة الإمبراطورية العثمانية لماذا لا نطرح على أنفسنا هذا السؤال: تركيا العلمانية ماذا حققت؟ وإلى أين صارت؟ ونحن بالشريعة الإسلامية علامَ أصبحنا؟) !
حارث الضاري بعيون إيرانية
نشرت مجلة (المجلة) صورة من وثيقة صادرة من السفارة الإيرانية في العراق فرع البصرة، ومؤشر عليها بعبارة «سري جداً» وموجهة إلى كل من عبد العزيز الحكيم وصادق الموسوي، وجاء في الوثيقة: (تثمن جمهورية إيران الإسلامية ما قمتم به من جهود استثنائية للقضاء على زمرة النواصب التكفيريين والذين حاولوا دوماً القضاء على إمامة الإمام علي بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم وكرم الله وجهه) .
وقالت الوثيقة السرية: (نودُّ أن نلفت عنايتكم بأن هناك من يحاول دعم هذه الحملة مادياً وعملياً من خلال تأييده المطلق والكامل لما يقوم به هؤلاء التكفيريون النواصب) .
واتهمت الوثيقة الشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين في العراق بأنه يقف وراء هذه الخطة، فقالت: (نحن نبين بأن ما يُسمَّى بالناصب التكفيري حارث الضاري ما يزال يطلق سمَّه المعهود تجاه أهلنا الشيعة بالعراق، وتبين لنا من معلومات دقيقة وأكيدة عن نيته بالذهاب إلى أرض التكفيريين من أجل لقاء النواصب هناك والحصول على الدعم المطلوب، وعلى هذا الأساس نودُّ أن تساعد الحكومة العراقية الموقرة فتكمل مشوارها في القضاء على هذه الزّمر وتقطع شوكة هذا الكافر والقضاء على كل من يحاول دعمه» ، وأُرّخت الوثيقة بتاريخ 5/11/2006م. [مجلة المجلة، 8/1/1428هـ]
بلير يُؤمّن مستقبله
نشرت صحيفة صنداي تايمز أن رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) يتودد إلى المليارديرات البارزين في الولايات المتحدة، ومن بينهم: رجل الأعمال القوي (رونالد بيركل) مالك سلسلة مخازن تجزئة والذي وظف الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون لديه كمستشار مقابل ملايين الدولارات.
ويعتزم بلير إقامة حفل استقبال على شرف المليارديرات في مقرِّه بداوننج ستريت في الأيام الأخيرة له في السلطة، هذا التجمع المختار والذي سيحضره سبعة مليارديرات أمريكيين على الأقل تصل ثرواتهم مجتمعة إلى أكثر من 25 مليار جنيه إسترليني.
وأضافت الصحيفة أن الدعوات جرى توزيعها سراً في مجتمع الأثرياء في نيويورك؛ بحيث سيتم دعوة كل ثري تبرَّع بمبلغ 25 ألف دولار لصالح متحف (بيت) في لندن بشكل أتوماتيكي للقاء بلير وزوجته شيري في داوننج ستريت في حفل استقبال سيقام يوم السادس عشر من يونيو المقبل، وكانت شائعات تحدثت عن اعتزام بلير الهجرةَ إلى أمريكا بعد تركه منصبه إلا أنه نفى ذلك. [صحيفة الرياض] [الصحفي سيد عبد المجيد، الأهرام، 5/3/2007م] نواب أمريكيون يدعون إلى تقسيم العراق
كتب السيناتور الأمريكي (كاي بايلي هاتشسون) مقالاً يدعو فيه إلى تقسيم العراق مع بقاء حكومة مركزية تحظى بسلطات محدودة تتركز أساساً في توزيع الثروة البترولية.
وقال هاتشسون: إنه (يجب أن نستغل هذه الفرصة ونتقدم بمبادرة جديدة تشارك فيها السلطة والحكومة العراقية، وهذه الخطة تنطوي على جعل ثلاث مناطق منفصلة ومستقلة بذاتها على الأقل، والتي يكون فيها تطبيق القانون والتجارة والأمن والتعليم تحت إدارة السلطات المحلية وسيطرتها، وسوف تكون هناك حكومة مركزية محدودة مسؤولة عن تأمين الثروات البترولية وتقسيمها، وأن تعتمد مسودة تشريع وقانون جديد يسمح بتوزيع البترول للمناطق على أساس السكان) .
واستشهد السيناتور الأمريكي بوزير الخارجية الأمريكي الأسبق (هنري كيسنجر) ، الذي قال (في حديث له أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ: إنه متوافق ومتعاطف مع فكرة إقامة ثلاث مناطق إقليمية، وأن ذلك بإمكانه أن يحدَّ من العنف والصراع الدائر والموجود حالياً في العراق) .
ولكن اللجنة التي كانت مشكّلة لتقييم الوضع في العراق رفضت هذه الخطة؛ حيث أشارت إلى أن تقسيم العراق لعدة مناطق سوف يؤدي إلى نتائج غير جيدة وزيادة في عدم استقرار الأوضاع في البلاد.
ويقول هاتشسون: (زميلي السيناتور جوزيف بيدن يوافق على هذه الخطة، ولكن اشترط أن تكون هذه الخطة مقرونة ومرتبطة بانسحاب القوات الأمريكية جميعها بنهاية العام الحالي، وإن لم يكن كلها فمعظمها، وهي الخطوة التي أراها سوف تقود إلى إعادة العنف ووجود مزيد من حمامات الدم) .
ويشير هاتشسون إلى منحى خطير وهو تعميق الانقسامات القبلية والعشائرية داخل العراق كأساس للتعامل المستقبلي: (أرى أن الخطوة الأولى والمهمة جداً في دعم الفترة الأولى من الاستقرار هي تمييز الانقسامات الثقافية والطائفية والموجودة منذ نحو 14 قرناً؛ فمن الواضح أن الانتماء إلى الأقاليم والقبائل والدِّين سوف يكون له الغلبة أمام الانتماء للحكومة المركزية، وحتى لو استمرت لسنوات، لماذا لا نقبل بهذه الفكرة ونعرض خطة لا تحاول تغيير الثقافة والدِّين والقيم، فإن هذه الفكرة سوف تنقذ أمة على وشك الانهيار) .
[بتصرف عن صحيفة الأخبار المصرية، 5/3/2007م] التيار العوني يتململ من حزب الله
برز موقف لافت لـ «تكتل التغيير والإصلاح» النيابي بزعامة العماد ميشيل عون الحليف الأساس لحزب الله اللبناني في تمرُّده على حكومة فؤاد السنيورة، فقد قال النائب نعمة الله أبي نصر العضو في التيار أن الاعتصام طال، وأن العصيان المدني الذي تهدد به المعارضة انتحار.
وقال أبو نصر: إن (الاعتصام في وسط بيروت لم يحقق النتائج المرجوة، وقد طال وتسبب بأضرار ولا سيما للتجار وأصحاب المصالح في هذه المنطقة) ، وأضاف: (لا يمكن لأي فئة من اللبنانيين مهما عظم شأنها أن تنفرد بالقرار اللبناني؛ لذلك كان ينبغي أن تحل مسألة الاعتصامات والتظاهرات بموقف من الحكومة يقضي بتوسيعها) .
واتهم النائب سوريا بتعطيل الاتفاقات، وقال: إن (عون أنجز ورقة تفاهم معينة وواضحة مع حزب الله وهي النقاط التي أقرَّتها طاولة الحوار، ولكن وبكل أسف تنفيذها متعلق بفريق ثالث هو سوريا) .
[السياسة الكويتية، 4/3/2007م] نظام الاعتصام «المدفوع مسبقاً» في منطقة «نيو جديدة» ـ التي يسيطر على الجزء الشيعي منها حزب الله وحركة أمل بشكل مطلق تقريباً ـ أفادت بعض العائلات أن شبابهم موجودون في الاعتصام الذي ينظمه حزب الله ضد حكومة السنيورة، وأكد كثير من سكان الحي أن الاعتصام ساعد على جذب العاطلين عن العمل إلى خارج الحي، إذ إن الشوارع كانت في السابق أشبه ما تكون بالمقاهي، أما الآن فالجميع هناك أمام السراي الحكومي.
وأكد بعض الشباب الذين كانوا لا يزالون في الحي أن أصدقاءهم يشاركون في الاعتصام وبعضهم لا يهتم بما يقال سياسياً، ولكن هناك مساعدات تُعطى للمعتصمين بدايةً بالمال وانتهاءً بالملابس، وأضافوا أن كثيراً منهم ينشد بناء علاقات مع مسؤولي حزب الله؛ لتوفير بعض المساعدات اللاحقة، مستدلين بأن شاباً له خمسة إخوة يشاركون في الاحتجاجات تكفَّل الحزب بنفقات زواجهم كافة؛ تعبيراً عن دور عائلته في مساندة الحزب.
هذه الأقوال أكّدها طلاب شيعة في الجامعة الأمريكية في بيروت، ممن ينتمون لحركة اليسار الديمقراطي، ويفيدون أن عروضاً مالية عُرضت عليهم مباشرة أو على زملاء لهم، مقدّرين أن الفرد الواحد يتقاضى نحو 20 دولاراً في اليوم الواحد، بما مجموعه 600 دولار شهرياً، بينما نصيب غير اللبنانيين نحو 10 دولارات يومياً، وينفي مسؤولون في الحزب دفع أموال للمحتجين.
[مجلة المجلة، العدد 1406] تصفية القيادات السُّنية
تسعى الحكومة العراقية إلى إعادة تشكيل القيادات والرموز السُّنية، وتتبع في سبيل ذلك عدة أساليب، من بينها: ما أُعلن عنه من إصدار قائمة مطلوبين تعتزم الحكومة الإعلان عنها، وتضم شخصيات سياسية وأعضاء في مجلس النواب بدعوى تعاونهم مع فصائل المقاومة.
وقال القيادي في الحزب الإسلامي العراقي النائب عن جبهة التوافق علاء مكي: (طالبنا بإجراء مراجعة للقائمة؛ للتأكد من ادعاءات الحكومة بخصوص تورّط شخصيات سياسية وبرلمانية في دعم جماعات مسلَّحة وتمويلها، ونحن في الحزب الإسلامي وجبهة التوافق شددنا على ضرورة استدعاء المطلوبين أمام لجنة تحقيق مستقلة؛ تفادياً لأزمة سياسية وأمنية) .
وكشف مصدر مقرَّب من الحكومة أن رئيس الوزراء عرض في اجتماع مع وزيرَيْ الدفاع والداخلية والنائب عدنان الباجه جي وممثل عن الحزب الإسلامي العراقي «ملفَّ شخصية سياسية مهمة في العراق على صلة بجماعات إرهابية» . [الوطن السعودية]
«جحا» الأمريكي و «المسمار» الباكستاني
رفضت باكستان البيانات التي صدرت عن مجلس الشيوخ الأمريكي في واشنطن والتي تقول: إن القوات الأمريكية في أفغانستان مخولة بمطاردة عناصر تنظيم القاعدة وحركة طالبان داخل أراضيها، وزعمت تسنيم إسلام المتحدثة باسم وزارة الخارجية رداً على تصريحات الجنرال دوجلاس لوت حول أن القوات الأمريكية قد تستهدف المواقع الإرهابية داخل باكستان أنه (غير مسموح لأيِّ أحد بعبور حدودنا) .
ولكن دوجلاس لوت كان محدداً في الإشارة إلى أن قواعد الاشتباك تسمح للقوات الأمريكية بتعقب المقاتلين وأي شخص (يبدي نوايا عدائية) داخل باكستان في ظروف معينة، وقال لوت للجنة الخدمات المسلَّحة في مجلس الشيوخ في واشنطن: (لدينا كل السلطات التي نحتاجها للملاحقة؛ سواء بنيران المدفعية أو على الأرض عبر الحدود) . [وكالات] العملة الذرية
تستعد إيران لإصدار ورقة نقدية جديدة قيمتها خمسون ألف ريال وتحمل إشارة إلى برنامجها النووي، وتقل قيمتها عن خمسة يورو، وهي أكبر فئة نقدية منذ إصدار ورقة العشرين ألف ريال في فبراير 2004م.
وأفادت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية أن الورقة التي تحمل رسماً لذرّة تدور حولها إليكترونات إضافة إلى صورة الخميني مؤسس الجمهورية على غرار بقية الأوراق النقدية.
ويساوي الدولار الأمريكي حالياً9300 ريال إيراني، وكان يساوي (70) ريالاً قبل الثورة الإسلامية عام 1979م. [السياسة الكويتية، 4/3/2007م]
س وجس: من هو البروفيسور فؤاد
عجمي؟ وما خلفياته الطائفية؟
ج: هو ضيف دائم في البرامج الإخبارية بشبكة سي بي إس نيوز، وكاتب تتصدر مقالاته الصفحات الأولى في وول استريت جورنال، ونيويورك تايمز، وتُقتبس أفكاره من قِبَل كُتّاب كبار، مثل: توماس فريدمان وجوديث ميلر.
وُلد فؤاد عجمي في 9/9/1945م في بلدة أرنون الجنوبية اللبنانية من عائلة شيعية من أصل إيراني فارسي يعود إلى مدينة تبريز، وربما استمدت عائلته لقبها من هذا الأصل، وقد هاجر إلى أمريكا وهو في الثامنة عشرة من عمره، حيث أكمل دراسته وتخصص في العلاقات الدولية وأصبح أستاذاً معروفاً في الجامعات الأمريكية.
استطاع بإصرار عجيب أن يُطوع كل منجزاته الأكاديمية وعلاقاته بالسياسيين لخدمة معتقداته الشيعية، وقد تراوح هذا الاهتمام بقضايا الشيعة من شكله السافر في كتابه «الإمام المختفي موسى الصدر وشيعة لبنان» الصادر عام 1986م.. إلى اهتمام يتوارى شيئاً فشيئاً خلف الأفكار السياسية البراقة في كتابَيْ «بيروت مدينة الندم» الصادر عام 1988م، و «قصر أحلام العرب» الصادر عام 1998م، وهو الكتاب الذي وصف فيه فكرة القومية العربية بأنها مجرد دعوة للسيطرة السُّنية على المنطقة تتخفى في رداء علماني.
ويعمل عجمي الآن أستاذاً في الجامعة الأمريكية، ويشغل منصب مدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في كلية باول نايتز للدراسات الدولية المتقدمة والمعروفة اختصاراً بـ «sais» ، والتي تتبع جامعة جون هوبكنز الأمريكية المرموقة، وقد أضحى بالفعل واحداً ممن يرسمون سياسة الولايات المتحدة الخارجية باختياره مستشاراً لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وهو أحد أعضاء هيئة المديرين في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.
وهو صديق شخصي لـ (بول وولفويتز) أحد المحافظين الجدد والمسؤول البارز السابق في البنتاجون ورئيس البنك الدولي حالياً، وكان عجمي زميل دراسته.
ومنذ عدة سنوات بدأ عجمي في الظهور المكثف في القنوات الفضائية كمحلل سياسي وخبير في العلاقات الأمريكية بدول الشرق الأوسط، وقد تركزت آراؤه على الدعم الصريح لسياسات الإدارة الأمريكية في العراق.
كتابه الأخير الصادر عام 2006م بعنوان «هدية الأجنبي» يُعتبر قصيدة مديح للاحتلال الأمريكي للعراق، من خلال تخليصهم العراقيين «الشيعة» من حكم النظام البعثي، وأكد فيه أن كل المشكلات الطائفية التي تعصف بالعراق الآن ما هي إلا نتاج صراع تاريخي لا دخل للأمريكيين به، حيث لم يستوعب السُّنة العراقيون الواقع الجديد الذي يقزّم وجودهم السياسي ويعيدهم إلى حجمهم الطبيعي كأقلية سكانية وسياسية كما يزعم.
ويقول منتقدوه من الباحثين الأمريكيين: إنه مروج دعايات يحرص على التأنّق وحب الظهور في وسائل الإعلام، ويستطيع أن يبرهن على ما يذهب إليه المسؤولون بالنظريات السياسية والبراهين العلمية فوراً، وهو الخبير الجاهز لتبرير أي سياسات تريد واشنطن إقناع الرأي العام بها فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط.
آدم شاتز الكاتب والناقد الأمريكي في دورية ذا نيشن، كتب عن عجمي ناصحاً هوليود بالرجوع إليه إذا أرادت إنتاج فيلم عن حرب الخليج الثانية.
[مجلة المجلة، العدد 1427]
ترجمات:
(بحسب المعطيات الرسمية التي عُرضت في لجنة المعارف التابعة للكنيست الصهيوني؛ بلغت نسبة التسرب من الصفوف الحادية عشرة في مدارس الدولة الصهيونية 6%، وفي الصفوف الثانية عشرة 2%، فيما بلغت نسبة التسرب من كافة المراحل الدراسية 30%) .
[موقع معهد «برانكو ـ فايس» المتخصص في محاربة التسرب من المدارس في الدولة الصهيونية]
(هناك بقايا آثار مسجد إسلامي مدفونة تحت أكوام التراب الملاصقة لباب المغاربة، وعُثر على هذا المسجد بعد انهيارات ترابية حدثت في المكان عام 2004م في حائط المبكى. وكتمت الدولة الصهيونية على هذا الأمر وأبقته طيَّ الكتمان حتى يومنا هذا) .
[صحيفة يديعوت أحرونوت، 12/2/2007م]
(ركبت إسرائيل آلات تصوير تمَّ ربطها بشبكة الإنترنت بالقرب من موقع الحفريات الأثرية المتاخمة للمسجد الأقصى والتي أثارت احتجاجات المسلمين في محاولة لإظهار أن الحفريات لا تضر المسجد) . [معاريف، 15/2/2007م]
(انخفض العجز التجاري في الدولة الصهيونية إلى 383.7 مليون دولار في يناير كانون الثاني من 908.4 مليون دولار قبل عام، ومن 968.6 مليون دولار في ديسمبر كانون الأول الماضي) . [مجلة زي ماركر الاقتصادية، 17/2/2007م]
تصريحات:
(يكفي أن نكون نحن من غيَّر الواقع في جنوب لبنان، وأجبر الحكومة اللبنانية على نشر جيشها بدلاً من حزب الله، إضافة إلى نشر قوات دولية، وهذا الأمر لم يكن موجوداً من قبل) .
[وزير الدفاع الصهيوني عمير بيرتس، معاريف، 29/1/2007م]
(مدين بجزيل الشكر للأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، وذلك لأنه قال: إن إسرائيل تحسن استخلاص العبارة، ففي هذه التصريحات إشادة واضحة بإسرائيل وقدراتها وشعبها) .
[شيمون بيريز النائب الأول لرئيس الوزراء الصهيوني، صحيفة هاآرتس، 5/2/2007م]
(كل الشكر للرئيس الإيراني محمد أحمدي نجاد، فهو من استطاع أن يوحد العالم لمواجهة الإرهاب، فهو يقوم بعمل ممتاز لصالح إسرائيل) .
[شيمون بيريز أمام مؤتمر معهد السياسات الاستراتيجية، 22/1/2007م]
(لدينا موقف واضح: إذا كانت هناك حكومة فلسطينية لا تقبل مبادئ الرباعية الدولية، فإنها لن تحظى باعتراف أو تعاون من قِبَل حكومة إسرائيل) .
[رئيس الوزراء الصهيوني إيهود أولمرت، 18/2/2007م]
(نحن نزود الشيخ رائد صلاح بمزيد من الذخيرة بدون قصد، لماذا أبقت سلطة الآثار الإسرائيلية موضوع وجود بقايا آثار إسلامية في محيط الأقصى طيَّ الكتمان لمدة طويلة؟! وكيف يمكن الادعاء أنه لا يوجد أيّ آثار إسلامية في المكان بعد الآن؟!) .
[مائير بن دوف عالم الآثار والباحث في القدس لموقع سلطة الآثار]
25 مليار دولار لتنصير المسلمين:
كشف موقع النبأ الإخباري عن رصد مجلس الكنائس العالمي 25 مليار دولار لتنصير المسلمين في مختلف أنحاء العالم، ووضع في أولوية اهتماماته دول مناطق الصراع والدول الفقيرة، وذكر التقرير وجود عمليات تنصير بمصر، رصد لها مجمع الكنائس العالمي ميزانية خاصة تُقدَّر بحوالي مليار دولار؛ لفشلها في تنصير العدد المخطط له منذ سنوات طويلة. [النبأ، 6 فبراير 2007م]
التنصير بأفلام الكرتون:
راجت بالشوارع المصرية واليمنية والمغربية في الشهور الثلاثة الأولى من هذا العام مجموعة متنوعة من أقراص (CD) الحاسوب (الكومبيوتر) التي تحوي ألعاباً وأفلاماً إلكترونية، تحمل معتقدات وأفكار تنصيرية واضحة، تمَّ توزيعها مباشرة في المواصلات العامة وعلى سبيل الهدايا للأطفال المسلمين، أو بيعاً في بعض المكتبات المسيحية بأسعار زهيدة للغاية، وتأتي بدعة ترويج هذه الأقراص ـ التي انتشرت في الأسواق ـ في إطار حملة مشبوهة؛ لمحاولة تنصير المسلمين والهجوم على عقائدهم والترويج للفِرَق النصرانية المختلفة، مثل: البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية وغيرها، بتمويل يفوق قدرات الكنائس في الدول الثلاث، وبمشاركة وتنسيق مع عدد من الكنائس الغربية المنتشرة في بلاد المسلمين.
وأكدت مصادر مطلعة أن هذه الإسطوانات المدمجة التي تعرض في أسواق المغرب ومصر واليمن ذات تصميمات متميزة، وتحمل اسم لعبة الكنز، وتسلية ولقطات مثيرة، كما تحمل نصوصاً كتابية متفرقة مصحوبة بالموسيقى والحكايات المسيحية، وهي في الحقيقة عبارة عن مواد تنصيرية واضحة.
شاب والده سوداني وأمه سعودية يصبح كاثوليكياً!
تبدو قصة (جمال. ع. ح) ـ وهو شاب سوداني من أم سعودية ـ متشابهة مع قصص أخرى تحدث حالياً في العاصمة السودانية الخرطوم، فقد تنصَّر جمال وارتدَّ عن الإسلام.
وفي حديثه لـ «العربية. نت» راح جمال يؤكد بأنه يعرف 6 على الأقل تحولوا من الإسلام إلى النصرانية، فضلاً عن أسرة بكاملها نحت المنحى ذاته، وقال: إنه تعامل مع أناس من النصارى (أرثوذكس) في العاصمة السودانية، فيما يتعلق ببيع سيارات وشرائها، وبعض الأعمال التجارية الأخرى، فوجد تعاملهم ذاك ليناً ومثالياً فمالَ إليهم.(235/16)
تضربها.. لن تضربها.. تضربها..
أحمد فهمي
تقصر قامة إيران عن بلوغ حافة طموحها السياسي في المنطقة؛ فهي لا تملك القدرات الكافية، كما أنها تعاني من معوقات سكانية واقتصادية وسياسية كثيرة، ودائماً احتاجت إيران إلى حليف خارجي يدعم خطواتها ويعضد طموحها.
وكان شاه إيران يعاقب الأمريكان بانفتاح على السوفييت، ويعاقب السوفييت بانفتاح على الأمريكان.
إلا أنه لم يصل إلى درجة الاستغناء عن كليهما في آنٍ واحد، وتظل تلك هي عقدة إيران بعد الثورة، البحث عن حلفاء يدعمون المسيرة الهلالية ويعوضون النقص الذاتي.
لكن هناك فرقاً بين الحليف الإستراتيجي والحليف التكتيكي؛ فالأول يدوم تحالفه، والثاني تحالفه مؤقّت بالمصلحة المترتبة عليه، ومثال الأول: حزب الله في لبنان، ومثال الثاني: الولايات المتحدة.
منذ قيام الثورة الخمينية عام 1979م لم يُعرف عن واشنطن قيامها بجهد مركّز وفعّال من أجل إسقاط النظام في طهران، ورغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ عام 1980م إلا أنَّ التعاون بينهما والتفاوض السرّي مستمران، وحتى الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت قرابة تسع سنوات لم تقدِّم أثناءها أمريكا ومن ورائها الدول الأوروبية للعراق الدعمَ الذي يكفي لتحقيق انتصار حاسم على إيران، وعندما قصفت طهران ناقلات النفط في الخليج العربي ردَّ الأسطول الأمريكي ردوداً عقابية محسوبة بدقّة ولا تؤثر على سير المعركة.
وقد توترت العلاقات الظاهرية بينهما في السنوات الأخيرة لتصل إلى مستوى توقُّع هجمة أمريكية نحو ثلاث مرات في رئاسة جورج بوش الابن فقط، لكن لم تنفذ هجمات في أيٍّ منها، بل كانت الاتصالات الأمريكية الإيرانية السرية متواصلة رغم ذلك.
إنَّ اختزال العلاقة بين طهران وواشنطن في ضربة عسكرية محتملة تحولت إلى أحجية يتضخم فيها المكون الإعلامي أكثر من السياسي، هذا الاختزال يشتِّت الأذهان عن ثوابت العلاقة، وأبرزها: أن واشنطن أكثر حرصاً على تماسك إيران الدولة ـ وليس النظام بالضرورة ـ باعتبارها (محوراً جيوبوليتيكاً مهماً) حسب تعبير مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق (زبجنيو بريجينسكي) ، بمعنى: أنها تمثل محور أطماع دولية ومعبراً إستراتيجياً إلى منطقة أكثر أهمية هي الخليج العربي، ودولة كهذه ليس من السهل الحديث عن إسقاطها أو تفكيكها، وخاصة أنه منذ ستين عاماً ـ تقريباً ـ كانت إيران لا تزال ممزقة بين سيطرة سوفييتية على شمالها، وهيمنة بريطانية على جنوبها، ولم يخلِّص طهران من هذه القسمة إلا استنجاد الشاه بالرئيس الأمريكي (روزفلت) الذي أزاح تأثير الدولتين لحساب الولايات المتحدة.
وتمضي العلاقة بين البلدين في مسارات بالغة التعقيد، فـ (شاهُ إيران) كان حليفاً مميزاً لواشنطن إلا أن خطط قلب نظامه كانت تُعدّ في أروقة البيت الأبيض في الوقت الذي كانت صفقات السلاح «المليارية» يوافق عليها البنتاجون وتُشحن إلى طهران، ومع أن الدلائل على الدور الأمريكي في الثورة الخمينية أكثر من أن تُحصى أو تنكر، فإن العلاقات بينهما مقطوعة منذ 27 عاماً.
ويمكن تحديد مستويات العلاقة بين طهران وواشنطن في ثلاثة مستويات، أولها: المستوى العلني الدعائي، وهو للاستهلاك المحلي والدعائي ويتبدَّى في مصطلحات مثل: «محور الشر» و «الشيطان الأكبر» .
والمستوى الثاني: نصف معلن، ويتمثل في جهود غير منتظمة ووساطات وتطمينات، ومن ذلك إعلان جلال طالباني الزعيم الكردي عن قيامه بوساطة بين إيران وأمريكا قبل غزو العراق عام 2003م، ونقله للمسؤولين الإيرانيين أن أمريكا (لن تُقْدِم على أي عملية ضد إيران أثناء الأزمة) .
والمستوى الثالث: سرِّي غير معلن، ويتضمن تنسيقات ومصالح مشتركة ومساومات، كانت قمة تنسيق المصالح بين الطرفين إبّان غزو أفغانستان والعراق. وبعيداً عن حكومة خاتمي ووزرائه كان ممثلو خامنئي ورفسنجاني يعقدون مباحثات ومفاوضات مع المسؤولين الأمريكيين في عواصم أوروبية، مثل: لندن وأثينا. وتعلم طهران جيداً أن صراعها مع واشنطن ليس صراع وجود بل مصالح، ولذلك يقول رفسنجاني: (الولايات المتحدة هي البلد الأهم في العالم، وإيران هي البلد الأهم في المنطقة، ومن المنطقي أن يسويا مشاكلهما) .
عوداً إلى أحجية «الضربة العسكرية» ؛ إذ يقدم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق (هنري كيسنجر) تلميحاً مفيداً فيقول: (تضطر عملياً لاستخدام القوة مرة واحدة من كل عشر تلوِّح فيها باستخدام القوة، ولكن التهديد يجب أن يبدو دائماً حقيقياً وذا مصداقية) .
لكن أبا الحسن بني صدر ـ الرئيس الإيراني الأسبق ـ يزيد الوضع تعقيداً باعتباره أن طهران نفسها بحاجة إلى ضربة عسكرية لتجمع شتاتها، فيقول: (الحكومة الإيرانية التي تعاني من أزمات عديدة تحتاج إلى تعزيز وضعها من خلال تلقِّي ضربة عسكرية؛ لكي تستمر وتعزز وضعها الداخلي ومصداقيته) ، فهل توجه أمريكا ضربة عسكرية لإيران؟ أم أنها لن تضربها؟!(235/17)
واقع الخطَّة الأمنيَّة الجديدة في العراق
عبد السلام الكبيسي، عدنان الدليمي
أعلن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن خطَّة أمنيَّة جديدة في العراق، بالتعاون مع أصدقائه الأمريكان، والتي يُظهِر فيها تواطؤاً كبيراً مع الأمريكان ضدَّ فصائل المقاومة الجهاديَّة في العراق بشتَّى أشكالها وأطيافها، ومن هذا المنطلق أحببنا أن نستطلع رأي عضو مهمّ في هيئة علماء المسلمين في العراق، وأحد قادة جبهة التوافق العراقيَّة فكان معنا: الدكتور عبد السلام الكبيسي (عضو الأمانة العامة لهيئة علماء المسلمين في العراق) ، والدكتور عدنان الدليمي (رئيس جبهة التوافق العراقيَّة) ، حيث أدليا برأييهما تجاه هذه الخطَّة الأمنيَّة الجديدة في العراق، فقال الشيخ الدكتور عبد السلام الكبيسي:
إذا ما أردنا أن نقوِّم الخطة الأمنية نجاحاً أو فشلاً فلا بد من أن نبحث عن مفهوم النجاح في ذهن القائمين عليها، وهنا لا بد من الوقوف على المعادلة في طرفيها: (المقاومة، والاحتلال) فإن السجال الحقيقي هو بين الطرفين؛ غير أن الفرق في هذا السجال أن المقاومة صادقة في توجهاتها وفي بيان أهدافها؛ فهي لا تبتغي مكسباً غير شرعي لها، ولا تسلك إلا الوسيلة الشريفة لتحقيق غايتها المشروعة. أما الاحتلال فهو مراوغ في بيان أهدافه الحقيقية من غزوه لبلدنا وسلاحه، وذلك لعدَّة أمور، منها:
أولاً: قوته الغاشمة التي تجسد أطماعه بحيث تفرض أجندة شريعة الغاب. وثانياً: المتعاونون معه مع الاختلاف في نسب كبيرة بين هدف المحتل وهدف المتعاونين معه؛ فهدف الأول بسط نفوذه كاملاً بعد ترميم منصة الإطلاق لعولمته الاستعمارية التي قضمتها المقاومة عبر الخطة الأمنية لينفرد بالحرث والنسل العراقيين. أما المتعاونون معه فيقايضون هذا التعاون لفرض واقع طائفي عجزوا عنه طوال المدة المنصرمة من زمن الاحتلال مع كل ما اقترفوه من مجازر على الهوية وتهجير وتغيير في المناهج وإقصاء من الحياة العامة والخاصة؛ وهنا لا بد من أن نوضح الآتي:
أولاً: لم تعترف الحكومات المتعاقبة في زمن الاحتلال بوجود مقاومة في العراق، وما اعترفت به أخيراً هو وجود مسلحين يحاربون الحكومة، وفي الوقت ذاته سمحت حكومة الجعفري والمالكي للميليشيات بتنفيذ كل ما تريده من أعمال إجرامية من قتل وتمثيل لم يشهد له التأريخ مثيلاً دون أن تعلن عن إلقاء القبض على فرد واحد من هؤلاء القتلة مع أنهم يفعلون هذا آناء الليل وأطراف النهار. وبالنسبة للتيار الصدري فقد منحته في السابق السلاح والأرض لتحقيق الأهداف الطائفية المشتركة أولاً؛ ولمحاصرته بما يفعله من جرائم من خلال رفع كل القيود عن تحركاته ليلاً ونهاراً دون توجيه أي نصيحة له ثانياً؛ لتتسلم في الخطوة الثالثة قياده وليس القضاء عليه ومن ثم يكون احتواؤه ليبقى بمثابة بندقية للإيجار لصالح أطراف داخلية وخارجية؛ وهذا ما يفسر إخفاء قادة الميليشيات من قِبَل أطراف معلومة في الحكومة.
وفي الجانب الأمريكي فإن الذي أفشل مشروعه الاستعماري في المنطقة والعالم ونقل المعركة إلى داخل البيت الأبيض والشارع الأمريكي هي المقاومة وليس جيش المهدي؛ وما زُوِّد به من سلاح تقليدي فهو موجه ضد الرافضين للاحتلال وحاضنهم؛ وذلك يصب في نجاح المشروع الأمريكي. وحديث السلاح المتطور يأتي من قناعة المحتل بأن هذا السلاح سيوجه ضده في حالة حدوث صِدام مع إيران لكي لا يتكرر الدرس اللبناني في العراق.
ثانياً: لا يمكن أن نفصل بين الأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي والأمن العسكري؛ فهي حلقات متصلة واجبة الترتيب والموالاة؛ فالأمن الاقتصادي والعسكري يجب أن يحتل المرتبة الأولى؛ فبدون أمن اقتصادي وعسكري لا ينبغي لأحد أن يحلم بأمن اجتماعي. وبالنسبة للأمن الاقتصادي اليوم لا وجود له؛ فثروات البلد منهوبة بالكامل، فضاع الأمر، ولك أن تعلم أنه في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن الخطة الأمنية تحيل فيه ما يسمى قانون النفط إلى ما يسمى بمجلس النواب لكي يقر في 15/3 في محاولة لذبح صِمَام الأمن الاقتصادي وهو النفط العراقي. وأما بالنسبة للأمن العسكري فإن المفاصل الرئيسة لعسكرة اليوم في جانبيها: الجيش، والقوى الأمنية؛ قد صُنعت على عين المحتل وعين المكونات السياسية الحاكمة بأمر المحتل وهي تحمل كل بذور الحقد والدرن الطائفي، وهل يصح فرض حالة أمنية بأدوات هي ذاتها التي مارست التعذيب الوحشي والقتل على الهوية؟ وكيف يتصور عاقل أن هذه الأدوات قادرة على فرض قانون عدل؟ ثم هل من القانون في شيء أن يوكل لمسؤولي المناطق حرية ذبح من يشاؤون دون أي مساءلة؟ وهذا ما جرى في شارع حيفا والعامرية ومناطق أخرى وما يجري الآن في عرب جبور والدورة. أما بالنسبة للأمن الاجتماعي فقد أُسِّس على لَبِنات لا تصلح لبناء أمن اجتماعي بدءاً من قانون الدولة المؤقت، ومروراً بالانتخابات ونسبها المزورة، وبالدستور الذي هو عبارة عن ألغام قابلة للتفجر والتفجير في أية لحظة؛ لذلك فإن الحديث عن الأمن عبارة عن شبكة صيادين يختبئ أصحابها خلف مسميات قد تنطلي على من يُؤْثرون سلامتهم على سلامة الوطن من الكيانات الحاكمة ليكون الانقضاض أسهل والغنيمة أكبر، وما حدث من اعتقال وقتل لأهلنا في شارع حيفا بعد أن غُرِّر بهم ورجعوا مثال مبسط لذلك، وما قد يحدث من دعوة من بقي حياً على قيد الحياة من الجيش العراقي البطل للرجوع إلى أماكن معلومة بعد أن منَّ الله عليهم بالنجاة من بطش الحكومة والاحتلال قتلاً أو اعتقالاً، ولأن قوام نجاح الخطة أن تقدم الورود للمحتلين ولو بعد فوات الأوان، ويهتف الحجر والمدر بحياة الاحتلال والمؤازرين لهم. ولكن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .
أما الدكتور عدنان الدليمي (رئيس جبهة التوافق العراقيَّة) و (رئيس مؤتمر أهل السنَّة في العراق) فقد تحدَّث إلينا موضحاً وجهة نظره في هذه الخطَّة بقوله: جبهة التوافق العراقية حريصة على استتباب الأمن؛ لأن ذلك من مصلحة أهل السنة؛ فالقتل والتهجير والخطف قد وقع عليهم بصور كارثية؛ فآلاف العراقيين السنة قد نالهم القتل، وعشرات آلاف من الأسر السنية قد نالها التهجير، وما يزيد عن المليونين من النخب المختارة منهم قد هَجروا العراق إلى دول الجوار وهذا يؤثر تأثيراً مباشراً على التركيبة السكانية للبلاد وهو أمر خطير؛ لهذه الأسباب وافقنا على المبادئ العامة التي تضمنتها الخطة، ولما بدئ بتنفيذ هذه الخطة صاحبها اختراق كبير من عناصر الشرطة والجيش التي بيدها تطبيق هذه الخطة، وهذا أمر يخلق الفزع والخوف في أبناء السنة، وبدأنا نتابع هذه الخروقات ونخبر الحكومة عن طريق ممثلينا في غرفة العمليات التي تدير الخطة. نعم! إنَّ الشارع قد هدأ وقل فيه قتل المواطنين أو خطفهم أو سرقة أموالهم أو السطو على البنوك، وهذا جرى بسبب غير مباشر؛ وذلك لهروب قيادات الميليشيات إلى مناطق الجنوب وإلى إيران حسب المصادر الحكومية وغير الحكومية. إن من مصلحة السنَّة نجاح الخطة الأمنية؛ لأنها إن كانت صادقة فستصون دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ومن هذا الجانب نحن في جبهة التوافق نرغب في نجاحها، ونحن على صلة بالحكومة ونضغط عليها لتوقف كل الخروقات التي يقع أذاها وضررها على أبناء السنة والمتمثلة بالاستفزازات الطائفية الصادرة من العناصر التي تنفذ هذه الخطة، وبالاعتقالات العشوائية والمداهمات التي تستهدف أبناء السنة وبالعقاب الجماعي وباستخدام القوة المفرطة وسنعمل بكل ما أوتينا من شجاعة وحكمة وعقل لنتدارك ذلك كله ونعمل على استقرار الأمن، ولنحافظ على وجود أهل السنة وحمايتهم والحفاظ على كيانهم والعمل على إطلاق سراح المعتقلين منهم سواء أكانوا عند الحكومة أو عند الأمريكيين. إن الوضع المتردي قد أثَّر على الأعمال التجارية لا سيما في المناطق السنية، فأغلقت المحلات التجارية، وتوقف العمل؛ أضف إلى ذلك ما قامت به الميليشيات من استهداف تجار السنة ورجال الأعمال وأساتذة الجامعات والأطباء، وهذا كله سنعمل على إيقافه وردعه والحيلولة دون وقوعه؛ فضلاً عن سعينا الحثيث إلى إعادة المساجد المغتصبة وفتح المساجد المغلقة وإعادتها إلى ممارسة عملها في توعية الناس وتربيتهم، وقد تجاوز عدد هذه المساجد المئات في جميع أنحاء العراق. لقد عاهدنا الله على خدمة العراقيين عامة وأبناء السنة خاصة؛ والله يتولانا برحمته وتأييده.(235/18)
إشكالية العلاقة بين الفقر والتخلف الاقتصادي في المفهوم الإسلامي
مصطفى محمود محمد عبد العال عبد السلام
الكثير من الكُتَّاب لا يفرق بين الفقر والتخلف رغم وجود فوارق جوهرية بينهما؛ إذ إن هناك بعض الدول المتقدمة يوجد فيها فقراء وهو ما يعتبر دليلاً هاماً على سوء توزيع الدخل القومي. ورغم هذا لا توصف بأنها دولة فقيرة أو دولة متخلفة. وبالمثل هناك دول الجنوب يوجد فيها أغنياء كثيرون غير أن ذلك لا ينفي حقيقة كونها دولاً فقيرة أيضاً. إن وجود فقر في دولة غنية لا يجعلنا نعتبر هذه الدولة متخلفة؛ والعكس صحيح.
ويهتم هذا البحث بدراسة الفَرْق بين الفقر والتخلف؛ مع التركيز على مقاييس التخلف غير متجاهلين لمقاييس الفقر في الفكر الاقتصادي التقليدي، ثم معرفة الفروق الجوهرية بين الفقر والتخلف ومقاييس التخلف في الاقتصاد التقليدي. ويتعرض البحث أخيراً لمعرفة الفرق بين الفقر والتخلف في المفهوم الإسلامي.
أولاً: الفرق بين الفقر والتخلف، وكيفية قياس التخلف في الاقتصاد التقليدي:
التخلف الاقتصادي ـ مفهومه ـ كيفية قياسه:
في البداية يجب أن نشير إلى أن التخلف الاقتصادي ظاهرة مركبة متعددة الأبعاد؛ ومعنى ذلك أنها ظاهرة تتفاعل في إيجادها جميع جوانب المجتمع بدرجة أو بأخرى حيث إن التخلف الاقتصادي لا يوجد في مجتمعٍ ما بمفرده متعايشاً مع تقدم سياسي واجتماعي، وإنما يوجد التخلف الاقتصادي وسط تخلف سياسي واجتماعي وثقافي؛ ومن ثم فإن توفير نظام سياسي واجتماعي وثقافي رشيد يمكن أن يحقق مستوىً اقتصادياً متقدماً.
والتنمية الاقتصادية، وهي مطلب غالب الدول النامية، لا تتم في صورة أحادية؛ حيث إنها عملية إنسانية شاملة تتطلب متغيرات اقتصادية وكذلك عوامل نفسية واجتماعية (1) .
ومن ثَمَّ فإن الانصراف نحو التركيز على المتغيرات الاقتصادية وحدها دون أن نضع في الاعتبار الأهمية النسبية لباقي المتغيرات الأخرى الثقافية والاجتماعية والسياسية هو تشويه لحقيقة ومعنى التخلف الاقتصادي.
1 ـ مفهوم التخلف الاقتصادي:
لفظ (العالم الثالث) يطلق على الدول المتخلفة والتي تتمثل في الدول التي يقل متوسط الاستهلاك والرفاهية المادية لسكانها عن البلاد المتقدمة؛ وذلك على الرغم من إمكان تحسين الأوضاع الاقتصادية فيها بوسائل معروفة وواضحة (1) .
ومن خلال هذا التعريف فإن مفهوم التخلف الاقتصادي يفترض وجود موارد كافية يمكن استغلالها والاستفادة بها، ولكن لا يتم استغلالها؛ ومن ثم فهذا التعريف يميز بين الدول الفقيرة التي تقل فيها الموارد والثروات. وقد تكون هذه الدول الفقيرة راغبة في التقدم، ولكن فقر إمكانياتها المادية يقعدها عن النمو. أما الدول المتخلفة فسبب تخلفها لا يرجع إلى محدودية الموارد الإنتاجية كما هو في الدول الفقيرة بقدر ما يرجع إلى الاستخدام الرديء للموارد الاقتصادية؛ وهذا الاستخدام الرديء قد يأتي في صورة إهمال الموارد تماماً أو الاستخدام الجزئي لها أو سوء استخدامها؛ كأن تستخدم في نشاط صحيح بنسبة مخطئة أو تستخدم في نشاط خاطئ من الأصل؛ هذا إلى جانب أسباب أخرى قد تأتي من خارج العملية الإنتاجية كالبيئة المحيطة بالعملية الإنتاجية وآثار خصائصها السلبية عليها، وكذلك الآثار السلبية للعلاقات الاقتصادية الدولية كالاستثمارات الأجنبية وطبيعة المنتجات المتبادلة.
والتخلف الاقتصادي ينشأ في بيئة مختلة اجتماعياً وحضارياً؛ حيث إن الدول المتخلفة اقتصادياً متخلفة حضارياً أيضاً.
ومما سبق نخلُص إلى أن التخلف الاقتصادي ليس مرادفاً للفقر، وإنما هو خلل اقتصادي وحضاري واجتماعي ساعدت على نشوئه عوامل عديدة. وتتميز الدول المتخلفة بوجود موارد ضخمة مع توفر إمكانيات بشرية ومادية لازمة للارتفاع بمستوى المعيشة؛ يرافق ذلك تخلف في طرائق الإنتاج والتنظيم الاجتماعي والتطبيقات الاقتصادية لاستغلال هذه الموارد ومن ثم النهوض بالدولة المتخلفة والوصول بها إلى درجات عالية من النمو الاقتصادي.
2 ـ مقاييس التخلف الاقتصادي:
استُخدمت في قياس ظاهرة التخلف الاقتصادي وتحديد مداها ومستوى أو درجة التقدم أو التخلف بين الدول المختلفة معايير متعددة.
فمثلاً: معيار مستوى متوسط نصيب الفرد من الدخل العام للدولة اتُّخِذ معياراً مناسباً للتفرقة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة وترتيب الدول المتخلفة بنسبة بعضها لبعض، ويعتبر بعض الباحثين أن الدول المتخلفة هي التي يقل فيها متوسط دخل الفرد في السنة عن مقدار معين من الدولارات، أو أن الدول النامية لا يتجاوز فيها دخل الفرد في السنة عن رُبع متوسط دخل الفرد الأمريكي (2) .
كما تقسَّم دول العالم المختلفة إلى مجموعات تبعاً لمستويات متوسطات الدخل، هذه المجموعات هي: الدول الشديدة التخلف، والمتخلفة نوعاً ما، والدول المتقدمة نسبياً، والدول المتقدمة.
ويعتري هذا المقياسَ قصور واضح؛ حيث لا يكفي وحده كمعيار دقيق للدلالة على الأوضاع الاقتصادية ومستويات المعيشة في الدول المتخلفة وطرق التوزيع فيها، كما أنه على الرغم من انخفاض مستويات الدخول الفردية في الدول النامية بصفة عامة إلا أن هناك من هذه الدول دولاً نفطية يزيد فيها متوسط دخل الفرد عن متوسط الدخل الفردي السائد في كثير من دول العالم تقدماً.
ولتلافي القصور في هذا المقياس فإن بعض الاقتصاديين يرى أن يضاف إلى هذا المقياس بعض المقاييس الأخرى التي تعبر عن مستوى الاستهلاك في سلع أساسية وبعض سلع الرفاهية الاجتماعية كالمياه والكهرباء والتلفزيون والمستوى التعليمي للسكان، ومستوى الرعاية الصحية المتوفرة لهم (3) .
وهذه جوانب هامة توضح نواحيَ من معيشة السكان؛ إلا أنها لا تعبر عن كافة النواحي التي يتعين التعرف عليها للحكم على مدى تقدم دولة أو تخلفها كإهماله لنواحي هامة كالإنتاجية والعمالة، ومستوى الأداء الإنتاجي والادخار والاستثمار، ومدى توفر الموارد الإنتاجية للاقتصاد، وطبيعة استغلال الموارد المتاحة، ومدى التناسق بين قطاعات ومؤسسات الاقتصاد المختلفة.
وقد أدى ذلك إلى وضع أكثر شمولية للتفرقة بين الدول النامية والدول المتقدمة وهو مدى قدرة الدولة على توفير احتياجات السكان الاقتصادية والاجتماعية والبيولوجية والنفسية وغيرها من سائر الاحتياجات الإنسانية. ووفق هذا المعيار فإن «الدولة المتخلفة هي التي توفر لسكانها من احتياجاتهم قَدْراً أقل مما توفره الدول المتقدمة» (1) .
إلا أنه معيار غير قابل للقياس في حد ذاته، ولا يوجد هناك طريقة لترجمته إلى مقياس عملي لتقدير مدى إشباع هذه الحاجات، ولعدم وجود معايير موضوعية لتقدير هذه الاحتياجات والتي تختلف باختلاف الأفراد والبيئات والفترات الزمنية وغيرها من عوامل أخرى عديدة، ولأنه أيضاً لا يبين الموارد المتاحة للمجتمع ومدى استغلال هذه الموارد وأساليب هذا الاستغلال أو تكلفته.
ونخلُص مما سبق إلى أنه من الصعب الوصول إلى تعريف جامع مانع لا يعتريه القصور لمقياس التخلف الاقتصادي، وليس معنى ذلك إسقاط أدلة هذه المعايير التي أبرزت درجات التخلف. ولكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن هذه المعايير تتبع مدارس فكرية تختلف عن واقع الدول المتخلفة، ولذا فإن هذه الدراسات التي تنبع من تلك المدارس عادة ما توصي بعلاج لهذه المشاكل من خلال سياسات وإستراتيجيات إنمائية قد لا تناسب ظروف هذه الدول النامية وحاجتها إلى وسائل معينة للعلاج، أو أنها تفرض عليها من خلال مؤسساتها الاقتصادية طرقاً لا تتناسب مع بيئتها الاقتصادية، ولا تتفق مع قوميتها الاقتصادية، ومن ثَم تقع فريسة لحالة من التبعية الفكرية والاقتصادية.
ثانياً: الفرق بين الفقر والتخلف في المفهوم الإسلامي:
1 ـ المفهوم الإسلامي للفقر:
الإسلام يرى أن الفقر هو: «عدم القدرة على الحصول على الاحتياجات الضرورية لعدم توفر أسباب العيش الكريم الرغد، وهو ما يعني العِوَز والتعرض للجوع والحرمان والإملاق» (2) .
ومن ثَم فجهود التنمية وعمارة الأرض في الإسلام تهدف إلى رفع مستوى المعيشة وتحسينه بانتظام بما يكفل توفير حد الكفاية لجميع الأفراد، أي إغناء كل فرد بحيث يكون قادراً على الإنفاق على نفسه وعلى من يعول؛ وذلك تمييزاً له عن حد الكفاف الذي يعد الحد الأدنى للمعيشة.
ولا يقتصر توفير حد الكفاية على ضرورات الحياة اليومية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، بل يمتد إلى ما يلزم لتهيئة حياة كريمة للفرد مثل توفير الرعاية الطبية والتعليم الأساسي وسبل الزواج، أي كل ما يجعل الفرد يلحق بالمستوى المعيشي السائد في المجتمع.
والفقير في المفهوم الإسلامي هو من لا يملك قوت يوم وليلة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل وعنده ما يغنيه؛ فإنما يستكثر من النار، فقيل: وما حد الغنى يا رسول الله؟ قال: شِبَعُ يوم وليلة» رواه أبو داوود (3) .
2 ـ المفهوم الإسلامي للتخلف الاقتصادي:
إن الناظر في القرآن الكريم والسنة النبوية وأفعال الصحابة ليدرك أن الإسلام ينظر إلى التخلف على أنه تراخٍ عن العمل، وتراخٍ في السعي في طلب الرزق وعمارة الأرض بشكل فعال؛ فإن الله قد أعطى للإنسان العديد من الثروات والنعم التي لا تحصى، وطالبه بعمارة الأرض. يقول ـ تعالى ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] ، وإن الإسلام يساعد الفقراء من مال الصدقة، ولا يساعد المتخلفين أو القاعدين عن العمل بغير عذر.
وهكذا فرق الإسلام بين الفقر والتخلف، واعتبر أن للفقير حقاً معلوماً في الزكاة وموارد بيت المال.
وعمارة الأرض ـ وهي مطلب شرعي ـ غير مقصورة على البعد المادي المتمثل في إنتاجٍ ما من المنتجات، بل يشمل أبعاداً أخرى اجتماعية وثقافية وأخلاقية؛ حيث تهدف عمارة الأرض إلى إقامة مجتمع المتقين الذي يتمتع بمستوى معيشي طيب يصل إليه بزيادة الإنتاج إلى أقصى حد مع استشعار تقوى الله في ذلك. فإذا أصيب المجتمع بمصيبة التخلف؛ فإن هناك ثلاثة معايير يمكن النظر إليها على أنها تفرقة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة؛ وذلك في المفهوم الإسلامي:
1 ـ وجود الموارد الطبيعية الملائمة.
2 ـ وجود الجهد البشري الفعال الذي يتعامل مع تلك الموارد أو يحيلها إلى منتجات نافعة.
3 ـ وجود القيم التي تضمن بصفة مستمرة تفاعل الجهد البشري مع الموارد، ومن ثم دوام عملية الإشباع المتزايد للحاجات.
إذا وجدت تلك العناصر مجتمعة فإن المجتمع يعتبر مجتمعاً متقدماً، أو بالتعبير القرآني: مجتمعاً يحيا حياة طيبة تجمع بين رغد العيش واطمئنان النفس. يقول ـ تعالى ـ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] .
وتعد عمارة الأرض من أهم الأعمال الصالحة.
وإذا تخلف عنصر من العناصر السابقة فَقَدَ المجتمع طيب الحياة؛ فإذا خلا من الموارد الطبيعية المناسبة فعليه أن يبذل قصارى جهده في تعويضها وإلا كان فقيراً وليس متخلفاً ما دامت بقية العناصر قائمة.
وإذا فُقِدَ الجهد البشري في عمليات الإنتاج مع توفر الموارد فإنه في تلك الحالة يعتبر متخلفاً؛ إذ كان في إمكانه التقدم ولم يفعله، وإذا فقد مجموعة القيم الصالحة التي تضمن دوام التلاحم ونمو الإنتاج وعدالة توزيعه فإن ضخامة إنتاجه الاقتصادي لن تستمر طويلاً، وإذا كان متقدماً فهو تقدم وقتي سرعان ما يزول. يقول ـ تعالى ـ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .
ومما سبق نخلُص إلى أن الإسلام ربط المشكلة بالإنسان وبما هو عليه من قيم، أي ربط المشكلة بجذورها الثقافية والاجتماعية العميقة مع عدم تجاهل عنصر المال ولا عنصر النشاط الاقتصادي للإنسان، أي العنصر المادي في التقدم.
3 ـ ظاهرة التخلف الاقتصادي في المجتمعات الإسلامية وكيفية قياسها:
إن جميع البلدان الإسلامية تعاني اليوم من التخلف الاقتصادي؛ فهذا لا خلاف حوله؛ حيث وقعت هذه الدول في حالة من التخلف الاقتصادي، كما أن معظم تلك البلدان قد أخفقت في أن تكون لها آلية نمو ذاتية نابعة من داخلها؛ فقد نتج التخلف الاقتصادي من تمزق النظام الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية بسبب الهيمنة الأجنبية الطويلة، وأدى شلل المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى عجزها عن الوفاء بحاجات الناس وإحداث تطور حقيقي؛ حيث ربط الاستعمار اقتصاده باقتصاديات الدول الإسلامية كتكملة له كارتباط التابع بالمتبوع؛ حيث حرص الاستعمار على عدم السماح للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية أن تلعب دوراً في إحداث عملية نمو ذات جذور محلية، بل على العكس؛ فقد حرص على أن تحدث التنمية الاقتصادية على يد أنواع من المؤسسات الغربية.
وترتبط ظاهرة التخلف الاقتصادي بالقيم والمعتقدات؛ وذلك أن سبب التخلف الاقتصادي هو انحراف قيم ومعتقدات المجتمع الإسلامي وضعف بنيانه الاجتماعي، ولو أن المجتمعات صححت معتقداتها والتزمت بالقيم السليمة لأعطاهم الله بركات السماء والأرض على شكل ثروات مائية ومعدنية ومنتجات ودخول مباركة (1) .
ومن ثَم فهذا التخلف الاقتصادي الحادث في العالم الإسلامي هو بسبب الإعراض عن تعاليم وأوامر الله؛ فالأرض هي الأرض، والموارد هي الموارد، والإنسان هو الإنسان، ولكن السبب هو زوال القيم الصالحة التي يريدها الله أن تسود فترتقي الحياة وتتقدم (1) .
4 ـ قياس التخلف الاقتصادي في المفهوم الإسلامي:
ركز المنهج التقليدي على معدل تزايد الدخل الفردي الحقيقي كمقياس للتنمية والتخلف الاقتصادي، وزاد عليه مؤشرات أخرى مثل معدل البطالة والعدالة في توزيع الدخل وغيرها، إلا أن هذا المقياس لا يصلح وحده لقياس التخلف في المفهوم الإسلامي؛ حيث يرى أحد الباحثين أن المقياس الصحيح يجب أن يتعدى استخدام كل نماذج النمو الإجمالية المبسطة والتي تهتم بالتركيز على الحد الأقصى لمعدل النمو على أنه المؤشر الوحيد للتنمية، وأن عدم تحقيقه يمثل صورة للتخلف؛ إذ إن هناك المقياس الاجتماعي ومدى توزيع ناتج التنمية على مستحقيها (2) .
ويقترح بعضهم مقياساً آخر للتخلف الاقتصادي بعد رفض مقياس دخل الفرد في المتوسط، ويسمى (المقياس الإسلامي) وهو الوضع الحقيقي لكل فرد في المجتمع في صورته الحقيقية المتمثلة في السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها (3) ؛ على أنه لم يتضح الفرق بين هذا المقياس ومعدل الدخل الفردي الحقيقي الذي بسطته كتابات التنمية الاقتصادية في المنهج التقليدي.
ويقترح آخرون مقياساً للتخلف والتقدم من خلال مدى الالتزام بالإسلام عقيدةً أو شريعةً، ويمكن في ذلك استخدام مؤشرات معينة مثل مدى الأخذ بالأصول والمبادئ الدستورية في نظام الدولة، ومدى إقامة المؤسسات الإسلامية، ونشر الدعوة، وتوفير المساجد، وأجهزة البر وجهاز الحسبة، وما إلى ذلك (4) .
ومما سبق نخلُص إلى أن محاولة تفسير ظاهرة التخلف التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية من منظور إسلامي تحتاج منا إلى وقفة للتعرف على ماهية هذه المجتمعات؛ وذلك لأن ظاهرة التخلف لها سمات عامة تشترك فيها الدول المختلفة بغض النظر عن الدين. والذي يجعل لظاهرة التخلف في الدول الإسلامية سمات خاصة بها هو أن كثيراً من المجتمعات الإسلامية في زمننا قد ورثت الإسلام كدين تؤدي فرائضه الدينية على أحسن تقدير؛ أما ما يتعلق بما يتطلبه الدين الإسلامي من ممارسات يومية وأنظمة وغيرها فلا وجود له؛ ولهذا فإن تفسير ظاهرة التخلف التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية الحالية لا تختلف عن ظاهرة التخلف التي تعاني منها الدول غير الإسلامية بما تشتمل عليه من سمات، ولكن تزيد في حدة العقاب الذي ينزله الله ـ عز وجل ـ على شعوبها لبعدها عن تعاليم الإسلام وانبهارهم بالتقدم المادي للآخر ومحاولاتهم اليائسة والفاشلة للحاق بركب الآخر كمبتغى لأهدافه التنموية.
والمسألة لم تعد مسألة انتقال الجنوب من حالة التخلف إلى مصاف الشمال المتقدم؛ على الرغم من أن هذا الانتقال شبه مستحيل، بل إن المسألة هي: كيف يمكن تحقيق نموذج عالمي بديل يتجاوز الأزمة الحضارية التي بلغتها تجارب الدول المتقدمة نفسها؟ وهي تجارب قامت على مفهوم للسيطرة ذي حدين: سيطرة الإنسان على الإنسان، وسيطرة الإنسان على الطبيعة، وهو مفهوم كانت نتيجته تفاوتاً في المشهد بين بلدان أو طبقات غنية تتمتع بمستوى معيشي واستهلاكي مرتفع، وبين بلدان أو طبقات ما زالت تشكو من الجوع والحرمان والفقر والجهل والبؤس والتخلف من جهة، وإخلال رهيب في النظام الطبيعي إلى حد بات يهدد مستقبل الحياة على الأرض من جهة أخرى.
ومن هنا تبقى الحاجة إلى نموذج بديل يتجاوز هذه النماذج، ومنظومة أخرى تحقق المصالحة بين الإنسان والإنسان من جهة، والإنسان والطبيعة من جهة أخرى؛ وكله لا يأتي إلا من خلال العودة إلى تعاليم الله وشريعة السماء، وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]
__________
(*) باحث في شؤون الاقتصاد الدولي ـ بنك التمويل المصري السعودي.
(1) موسوعة المحدث، الأسطوانة الليزرية، الإصدار 8.3، 1999م.
(1) د. صلاح الدين نامق، الجوانب الأخلاقية في التنمية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1993 ـ ص 18.
(2) د. محمد زكي شافعي، التنمية الاقتصادية، الجزء الأول، دار النهضة العربية، القاهرة، ص 19.
(3) المرجع السابق، ص 20.
(1) أميرة عبد اللطيف مشهور، الصناعات البيئية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، القاهرة، 1976، ص 30.
(2) د. حمدي عبد العظيم، مرجع سابق، ص 20.
(3) الإمام ابن حزم، المحلَّى، الجزء السادس، دار التراث، القاهرة، بدون تاريخ، ص 152.
(1) د. عبد المنعم عفر، التخطيط والتنمية في الإسلام، دار البيان العربي، القاهرة، 1985، ص 21.
1) د. شوقي دنيا، تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1984، ص 35.
(2) خورشيد أحمد، التنمية الاقتصادية في إطار إسلامي، ترجمة الدكتور رفيق المصري، مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العدد 2 مجلد 2 ـ السعودية، عام 1985، ص 45.
(3) د. شوقي دنيا، الإسلام والتنمية الاقتصادية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1979، ص 80.
(4) د. عبد المنعم عفر، مشكلة التخلف، مرجع سابق، ص 30.(235/19)
عوامل الاستقرار
أ. د. عبد الوهاب بن لطف الديلمي
إن الأمن والاستقرار من أهمِّ مطالب الحياة؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بالعبادة على الوجه المطلوب، ولا أن يمارس أي عمل من شؤون الحياة اليومية ما دام الخوف مخيماً، والقلق والاضطراب يسيطر على الأفراد والجماعات، ذلك أن الإنسان في ظل فقدان الأمن يصبح مستهدَفاً في ماله ودمه وعرضه يترقب متى تنزل به مصيبة.. ومن هنا ندرك أهمية الحاكم المسلم الذي يحفظ على الناس حقوقهم العامة والخاصة. وإذا كان هذا يعني: ضرورة إقامة السلطان؛ فإن من أهمِّ الأمور أيضاً ـ بعد وجود الحاكم ـ ضرورة حسن العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا بالتعاون بينهما؛ فالإسلام قد أوجب على الحاكم واجبات بمقتضى ولايته، كما ألزم المحكومين بواجبات نحو المحاكم، فإذا ما قام كل منهما بواجبه استقامت الحياة واستقرت. ومن أهمِّ واجبات الحاكم أمران:
1 ـ إقامة العدل الذي لا يعرف المحاباة، ولا المداهنة، بحيث يستوي في إقامته الغني والفقير، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، والحاكم والمحكوم؛ حتى يشعر الناس بعدم التمييز بين الأفراد والطبقات، وأنهم يعيشون في ظل الإسلام الذي بعث الله به رسوله رحمةً للعالمين، وبهذا يتحقق قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا ... } الآية [النساء: 135] .
2 ـ الاهتمام البالغ من ولاة الأمور، وأهل العلم بالدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وبذل الجهد في تربية الفرد والأسرة والمجتمع، بحيث تتكاتف جهود الجميع بالقيام بهذه الفريضة التي كادت تغيب من مجتمعات المسلمين، فإن نوازع الشر الكامنة عند كثير من الناس لا يمكن كبحها وإطفاء جذوتها، إلا بغلبة جانب الخير عند المرء وبقوة الإيمان، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعاهد أصحابه بالمواعظ، وهم السابقون إلى الإسلام، الذي عاصروا نزول الوحي، وعاش بين أظهرهم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ فالانحراف في حقهم مستبعد، ولذا يقول الله ـ تعالى ـ في شأنهم: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ... } الآية [آل عمران: 101] . ومع ذلك لم يكونوا في غنى عن التذكير بصورة دائمة والتربية والموعظة، وهذه كانت إحدى مهمات الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي بعثه الله ـ تعالى ـ لتحقيقها، قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ... } الآية [آل عمران: 164] .
وفي الصحيح عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوّلنا بالموعظة في الأيام، مخافة السّآمة علينا» متفق عليه.
وفي هذا دليل على تعاهده ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأصحابه بالموعظة في غير ما إفراط ولا تفريط.
والوصول إلى هذه الغاية ـ أعني: التأسِّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر ـ لا يمكن تحقيقه إلا من خلال دوام التذكير، والتربية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتأتَّى كل هذا إلا بالأمور التالية:
أـ أن تتوجه وسائل الإعلام بجميع أشكالها إلى خدمة هذا الهدف العظيم، بحيث لا تنشر شيئاً مناقضاً ولا مصادماً لما يراد الوصول إليه من بناء المسلم السوي في تصوراته، وسلوكه، وأخلاقه، ومعاملاته، ومن باب أَوْلى عقيدته وعبادته.
ب ـ أن تتاح الفرصة للعلماء والدعاة بالمشاركة الواسعة في هذا المجال.
جـ ـ أن تنظم ندوات ومحاضرات علمية للدعاة في أماكن عامة، يُدعى إلى حضورها عامة الناس، على أن يتم اختيار موضوعات معينة، تعالج بعض الظواهر السلبية.
د ـ تشجيع كل من يساهم في هذا العطاء، مثل: خطباء المساجد وأئمتها، والكُتّاب، ودور التسجيلات الإسلامية، والعاملين في الجامعات والمعاهد والمدارس، ودور القرآن الكريم، والمدرسين فيها، وكذا تشجيع العاملين في المؤسسات الخيرية، التي تسعى إلى رفع المعاناة عن كاهل الشرائح المحرومة كلها، وتمثل همزة الوصل بين الأغنياء والفقراء، وتحيي روح الأخوة الإيمانية من خلال التكافل، وبذلك يسهل تربيتهم وتوجيههم وتحصينهم من الأفكار والدعوات الدخيلة.
هـ ـ القضاء على كل مظاهر الفساد والإفساد، بحيث لا يرى المسلم ولا يسمع في مجتمعه وبيئته أينما اتجه إلا ما يساعد على استقامته على الحق، ويحيي في نفسه معاني الفضيلة والخير، ويقوي عنده دوافع الخير، ويجعله شديد الرغبة في الاستمساك بدين الله ـ عز وجل ـ في جميع شؤونه.
وـ إسناد وظيفة الحسبة إلى جماعة من أهل العلم ممن منحهم الله ـ سبحانه ـ القدرة على حسن التعامل مع الناس بالحكمة، وسداد القول، وحسن التوجيه؛ حتى يقوموا بواجبهم في إنكار المنكر، ومعرفة جوانب الخلل والانحراف الذي قد يظهر في المجتمع، على أن يكونوا قدوة صالحة في إبراز أخلاق الإسلام، وفضائله، بحيث يتمثل فيهم قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ... } الآية [آل عمران: 159] .
فإن تقويم سلوك الناس وحملهم على الحق لا يأتي عن طريق الغلظة والفظاظة، ولا تُغرَس الفضيلة في النفوس برفع السياط على الأظهر، فإن القسوة في التعامل قد تحدث سلوكاً متكلَّفاً مفتعلاً، يتحلل الإنسان منه كلما غابت عنه رقابة البشر وسطوته، وهذا أمر غير مطلوب؛ لأنه لا يعطي النتيجة المرجوة، بل المطلوب هو تقوية الإيمان، وغرس القناعة التامة بالسلوك السويّ، وأن يغلب على الداعية صفة الرحمة والرفق واللين والحلم؛ فقد كانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى ومعاذ ـ رضي الله عنهما ـ حيث بعثهما إلى اليمن أن قال لهما: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تُنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» متفق عليه.
والتيسير ـ في إطار الشرع ـ مطلوب، خاصة مع كثرة الفتن اليوم، وشيوع الدعوات الهدامة، وانفراط عقد الأمة، وغياب هيبة السلطان، وهيبة العلماء.
ولا ينبغي أن تنحصر محاولة إقامة الناس على الحق في تتبُّع زلاتهم، وإنزال العقوبات والحدود على من يتجاوز حدود الشرع بالوقوع في المعاصي، فإن الإسلام لم يشرع إقامة الحدود من أجل إنزال العقوبات بالناس، وإنما شرعها بعد أن ضرب سياجاً قوياً على الفرد والأسرة والمجتمع من الإيمان والأخلاق، وقضى على مظاهر الفساد، ويسّر مجالات الكسب والعمل، ودعا إلى تيسير الزواج وحارب الأغلال التي تحول دون تحصن الشباب والشابات من وقت مبكر، ونشر التوعية في الأمة، وأقام العدل، وتعاهد العاجزين عن العمل والعاطلين عنه، وأحسن توزيع ثروة بيت مال المسلمين؛ إلى غير ذلك من الضمانات التي تحول دون الوقوع في الجريمة، ثم بعد ذلك إذا وُجِدَ في المجتمع أصحاب الشذوذ في أخلاقهم وسلوكهم يقام عليهم الحدّ عند وجود موجبه.
وهذا الأمر بهذه الصفة لا يكاد يوجد اليوم في أي مجتمع من المجتمعات المسلمة، وإن ادّعت بعضها لنفسها أنها تحتكم إلى الإسلام، وتحكم به، وتقيم حدوده.
والسير على غير هذا المنهج انحراف عن مسار الإسلام الصحيح، وتشويه لحقيقته ومقاصده، وإساءة إليه بفتح ثغرات ينفذ منها أعداء الإسلام للطعن فيه والتشكيك في أهدافه ومقاصده وحقيقته، ويبوء بالإثم كل من كان سبباً في ذلك.
ولا ننسى ما للسلطان من تأثير طيب بالغ في زجر الناس عن اقتراف المعاصي، إذا ما كان قدوة حَسَنةً في سلوكه، مُمَكِّناً للإسلام في سلطانه، وما أصدق قول عثمان ـ رضي الله عنه ـ: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» .
وإذا أصبح الناس يمارسون السلوك القويم، والأخلاق الحسنة؛ طواعيةً دون رهبة من السلطان، ولا خوف من رقابة الناس، فهذا دليل على نجاح الدولة التي استطاعت أن ترتقي برعاياها إلى هذا المستوى الرفيع، وأراحت نفسها من عناء ملاحقة المنحرفين، ورصد الأموال والرجال لتتبُّع أحوال الناس وسلوكهم وجعل الحياة مشحونة بالتوتر والقلق والريبة.
أما إذا كان الفرد في المجتمع لا يمارس السلوك السوي إلا تحت قهر السلطان، ومراقبة القانون، فهذا دليل على فشل الدولة في تربية أبنائها وحملِهم على مزاولة الحق رغبةً فيما عند الله ـ سبحانه ـ، وخضوعاً وانقياداً لأمره ونهيه.
وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض العوامل التي تحمل على الانفلات والتحلل من الواجبات الشرعية، والوقوع في المنكرات، وغياب الوازع الإيماني؛ حتى يقوم العقلاء بتحاشيها، والتحذير منها، وإغلاق منافذها:
من هذه العوامل:
1 ـ إشاعة وسائل الفتنة في المجتمع وتيسير الوقوع في الفاحشة.
2 ـ عدم التزام وسائل الإعلام بنشر الفضيلة، وترك الحبل على الغالب في الدعوة إلى ما يثير الشهوات أو يُعلِّم طرق ممارسة الجريمة، أو يروّج للكذب، أو يشوه تاريخ المسلمين، أو يرفع من شأن العابثين بالأخلاق أو بمقدرات الأمة، ويرفع كذلك من شأن سقط المتاع.
3 ـ الاكتفاء بمجرد إقامة الحدود من قِبَل الحاكم ـ إن أقامها ـ، وقد يقيمها على طائفة دون أخرى، دون محاربة ما يدعو إلى الوقوع في الجريمة.
4 ـ غياب رقابة ولي أمر الأسرة وملاحظةِ سلوك من ولاّه الله عليهم: من زوجة وولد وغيرهما، أخْذاً بحديث: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته..» .
5 ـ وجود طبقات مترفة، لا تعبأ بأخلاق الإسلام، ولا تلتزم بآدابه، ولا تحسن التعامل مع سائر الطبقات الأخرى، مما يوجد الانفصام داخل المجتمع الواحد، ويغرس الضغائن والأحقاد.
6 ـ التناقض الواضح في سلوك بعض من يدّعي الإسلام، مثل: التعامل بالربا وإشاعته والترويج له، والتشجيع على لعب الكرة دون ضوابط تجنّب سلبياتها التي تؤدي إلى ضياع الأوقات والأموال، وإثارة الأحقاد، وكشف العورات، ودون أن يكون هناك هدف شرعي يحقق مصلحة عامة للأمة من وراء ذلك. إلى غير ذلك من الأعمال المصادمة للشرع.
7 ـ فتح الباب على مصراعيه لاستقدام العمالة، وخاصة الذي يعملون في البيوت داخل الأسر، مما أدّى إلى الدمار والخراب وهدم البيوت الذي لا ينكره أحد، خاصة من قِبَل الذي لا يدينون بالإسلام، بل الذين قد يكون لهم أهداف في تقويض مجتمعات المسلمين ونشر الفساد فيها.
8 ـ مزاحمة أصحاب النفوذ لعامة الناس في معاشهم، والتحكم في مصادر العيش إلى حدِّ تضييق الخناق على كثير ممن يمارس الأعمال الحرة، مما يضطر الكثير إلى المهاجرة بأموالهم لاستثمارها خارج ديار المسلمين، هذا إذا لم يتعرض بعضهم للإفلاس مما يسبب كارثة على المسلمين.
9 ـ تحجيم رسالة المسجد والتضييق على الدعاة.
10 ـ عدم الرجوع إلى العلماء عند النوازل، وعدم الأخذ برأي أهل الرأي من خلال إحياء الشورى بصورتها الصحيحة في شرعة الإسلام.
وفي الختام أسأل الله ـ تعالى ـ أن يبصِّرنا جميعاً عيوبنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يوفقنا إلى خدمة ديننا وأمتنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير (آمين) .
__________
(*) وزير عدل سابق، ونائب رئيس جامعة الإيمان في صنعاء حالياً.(235/20)
مؤسسات القطاع الخاص وتحديات المستقبل
عبد الله بن عبد اللطيف العقيل
يواجه الكثير من مؤسسات القطاع الخاص، على اختلاف أنشطتها وتخصصاتها، مشكلات متنوعة وتحديات كبيرة، تجعلها على مفترق طرق مجهولة ومليئة بالمخاطر، كما يواجه الكثير من المديرين صعوبات عديدة في تحقيق النجاح الحقيقي والتنمية المستقرة لمؤسساتهم، وصعوبات أكثر في مواجهة التحديات المختلفة.
وسنحاول باختصار من خلال النقاط التالية إلقاء الضوء على أبرز هذه التحديات.
أولاً: تشوُّش الأهداف وضعف الرؤية:
من المشاهَد أنّ كثيراً من المؤسسات تستجيب استجابة غير متوازنة وغير واضحة لما يدور فيها وحولها من أحداث ومتغيرات؛ بسبب عدم وضوح الأهداف وغياب الرؤية الاستراتيجية التي تستند إليها في اتخاذ القرارات الهامة، حتى إن الأسئلة الكبيرة أمثال: لماذا أنتم هنا؟ إلى أين تتجهون؟ ماذا تريدون الوصول إليه؟ يصعب أن يجيب عنها معظم العاملين في كثير من المؤسسات بمن فيهم مديرو العموم ومديرو الإدارات. ويعتبر وضع الأهداف الواضحة العملية والواقعية وتحديدها، سواء منها البعيدة أو المتوسطة أو القصيرة، وما يتبعها من وضع خطط تنفيذية مدروسة بعناية، من أصعب المهمات على مديري العموم ورؤساء مجالس إدارة المؤسسات، ومن أوجب واجباتهم، وأهم مهماتهم، وأولى أولوياتهم.
ثانياً: الكفاءات البشرية:
برغم أن العنصر البشري، أو المورد البشري، هو أهم موارد أية مؤسسة تبحث عن النجاح، وهو سر تميزها ونجاحها أو إخفاقها؛ إلا أن كثيراً من المؤسسات لا تتعامل مع ما يتعلق بهذا المورد بالمستوى الذي يستحقه، اختياراً وتنمية ودعماً. وتواجه الكثير من المؤسسات تحدياً حقيقياً بخصوص الاختيار الصحيح للمكان الصحيح مع التنمية الصحيحة المستمرة للموارد البشرية، وإن المؤسسات الناجحة والرائدة والتي تبحث عن النجاح والريادة والثبات في عالم الأعمال المضطرب وسريع التغير هي التي تستثمر استثماراً حقيقياً مدروساً ومنظماً في الموارد البشرية، ابتداءً من الجهد الكامل في تحقيق حسن الاختيار بوسائل دقيقة وموضوعية، ثم بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب ومنحه الحقوق والميزات المناسبة، ثم بالتحفيز المستمر والتنمية المستمرة لهذه الموارد البشرية بمختلف الوسائل، فضلاً عن التعامل السليم مع مشاكل هذه الموارد البشرية وقصورها.
ثالثاً: ضعف التنظيم وخلل البنيان الداخلي:
يؤدي ضعف التنظيم إلى خلخلة موقع المؤسسة وإضعاف قدرتها على الصمود والاستقرار أمام المتغيرات المتسارعة والتحديات المستمرة، كما يؤدي إلى إحباط العاملين، ومن ثَم قد تفقد الكثير من المؤسسات المصداقية والاعتمادية والثقة أمام العاملين فيها والمتعاملين معها وعملائها. ويُقصد بالتنظيم: اللوائح الداخلية الشاملة المدروسة، وأنظمة التقييم الموضوعية للعاملين ولأقسام المؤسسة، كما يُقصد بالتنظيم: السياسات والإجراءات والنماذج وبرامج الحاسب الآلي الشاملة التي تساهم في تحقيق جَوْدة الأداء وكفاءته، وتوفير الوقت والجهد والمال، مع الخدمة الممتازة للعملاء. ويحتاج بناء التنظيم السليم وتحقيقه في أي مؤسسة إلى جهود مهنية وعملية ودراسة واقعية، وإلى مشاركة فاعلة من جميع العاملين في المؤسسة وعملائها.
رابعاً: تحدي الجودة:
إن تحقيق الجَوْدة الشاملة في المنتجات والخدمات وفي مختلف أعمال وأنشطة أية مؤسسة يحتاج إلى جهد متواصل وعميق، مع تطوير وفحص مستمر للمنتجات والخدمات ومختلف الأعمال والأنشطة. وإذا كان تحقيق الجودة الجزئية في المنتج ذاته أو الخدمة قد أصبح متوفراً في كثير من المؤسسات الخدمية والصناعية؛ فإن تحقيق الجودة الشاملة والمستمرة لا يزال تحدياً كبيراً؛ لما يتطلبه من جهود جادة وشاملة ومثابرة مستمرة لا تتوقف.
إن معاني الجودة العالية الشاملة المستمرة لا تتحقق إلا من خلال مجموعة متكاملة من الأمور، ومن أهمها: حسن اختيار ثم تنمية الموارد البشرية، تحقيق مبدأ (الجودة والتميز مسؤولية الجميع) ، السياسات والإجراءات والآليات العملية السهلة والمُحكَمة، إشراك العاملين بشكل فاعل في التطوير وفي علاج المشاكل ومواجهة الصعوبات، وضع فرق العمل وعمل الاجتماعات الدورية المنظمة، المراجعة العميقة والمنتظمة لبيانات وتقارير الأداء والإنتاج وشكاوى العملاء، الاستخدام الأمثل لمختلف موارد المؤسسة، المتابعة المستمرة لمقترحات العاملين والعملاء، قوائم ونماذج وآليات فحص الجودة، اختيار المواد والأدوات الأجود والأفضل نوعاً واعتمادية وسعراً، وأخيراً رفع حسِّ الجودة ومعانيها ومفاهيمها في المؤسسة ولدى العاملين فيها باستمرار.
خامساً: الصعوبات المالية:
وهي نتاج طبيعي للتحديات الأربعة السابق ذكرها، مضافاً إليها ما يلي:
ـ ضعف أو قصور آليات التسويق بمعناه الشامل، مع زيادة مصاريف التسويق غير المنظم وغير المدروس بعناية، فضلاً عن غياب استراتيجية مركَّزة وواضحة للتسويق.
ـ زيادة الوظائف والوحدات والأقسام، وعشوائية التنظيم، وتداخل وازدواجية المهام والأعمال.
ـ المصروفات العشوائية.
ـ ضعف أو عدم سلامة آليات احتواء التكاليف.
ـ غياب التخطيط السليم.
ـ ضعف أنظمة الحاسب الآلي المتكاملة التي تحقق الدقة والسرعة والضبط وتوفير الوقت والجهد والموارد المختلفة.
ـ انخفاض حسِّ التكلفة وغياب مبدأ (موازنة المنفعة مع التكلفة) لكل قرار مالي أو استثماري.
سادساً: المنافسة والعولمة:
لا شك أن دخول أي بلد لمنظمة التجارة العالمية يفرض على المؤسسات فيه استحقاقات كبيرة وعاجلة، وهو بلا شك امتحان كبير لقوة وصلابة أنظمة المؤسسات وبنيتها الداخلية وجودة خدماتها ومنتجاتها، هذا فضلاً عمّا تواجهه المؤسسات أصلاً من منافسة داخلية في البلد الواحد ومنافسة مع الخدمات والمنتجات المستوردة، وبرغم قوة هذا التحدي وأولوية التعامل معه، خاصة في ضوء انضمام الدول واحدة تلو الأخرى إلى هذه المنظمة، وآخرها دخول المملكة العربية السعودية؛ غير أننا جعلنا هذا التحدي في آخر الترتيب في الكتابة لنقول: إن أي مؤسسة تتغلب على تلك التحديات السابقة، وتواجهها بإرادة قوية ورؤية واضحة وقرارات شجاعة، لا خوف عليها ـ إن شاء الله ـ من المنافسة الداخلية والخارجية، ومن نتائج الانضمام لمنظمة التجارة العالمية.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) المستشار في الإدارة، ومؤلف كتاب: (الإدارة القيادية الشاملة) ، ومدير عام مركز الإدارة القيادية الشاملة للاستشارات.(235/21)
شروط العلمانية
د. محمد يحيى
من الأفكار التي يدأب العلمانيون في العالم العربي على ترديدها على خلاف الدعاوى التي يعملون في إطارها من إقامة دولة مدنية ... إلى إعمال العقل؛ أنهم يريدون إحلال المساواة، وإقرار حقوق المواطنة، وفتح الباب واسعاً للحريات. وحسب هذه الدعاوى وعلى قوّتها يطالب العلمانيون بإقامة الدولة المدنية أو العلمانية بعد إقصاء الإسلام عن الدساتير والقوانين ومجالات الدولة ومؤسساتها.
لكن هؤلاء يمارسون هنا خدعة غريبة، ويعملون في إطار ازدواجية غير مسبوقة، اللهم إلا في ممارسات أعداء الإسلام من الصهاينة والغربيين، فهم إذ يدعون إلى فصل الدين عن الدولة والسياسة والحكم والقوانين وشتى مؤسسات البلاد؛ لكي ينفتح الباب أمام إعمال المساواة والمواطنة والمدنية ـ كما يزعمون ـ لا يقطعون الشوط ـ الذي يدّعون ـ إلى آخره، ولا يطالبون في الوقت نفسه بفكِّ القيود والسدود المفروضة على كل النشاطات الدينية الإسلامية ـ بما في ذلك الدعوية ـ في معظم البلاد العربية تحت مسميات مكافحة التطرف والإرهاب والتشدد.
إن العلمانيين يروّجون لفكرة إقصاء الدين عن الحكم والسياسة والحياة تحت مسمى إتاحة الفرصة لإعمال مبادئ المساواة والمواطنة والدولة المدنية، لكنهم في الوقت نفسه لا ينسبون هذه المبادئ إلى الدين الذي أقصوه عن الحياة، ولا يعملون على مدِّ المساواة والحرية إليه؛ فيستمرون في الدعوة إلى إبقاء القيود الراهنة، بل والاضطهاد المحيط بهذا الدين، بحجة أنه لا يمكن السماح للإرهاب بالنمو والانتشار، أو بحجة أن إعطاء النشاطات الدينية الإسلامية الحقَّ في العمل بحرّية في ظل الدولة المدنية سوف يهدد أسس تلك الدولة ويعرّضها دائماً لخطر تسلُّط أعدائها الدينيين.
والأمر هنا لا يقتصر على مسألة ازدواجية المعايير، بل إن العلمانيين في هذا التصور يناقضون أسس العلمانية ذاتها كما تعرّفها أو تبشر بها بعض الدول الغربية التي يحذون حذوها؛ فالعلمانية إذا كانت هي فصل الدين عن الدولة ـ أياً كان مضمون هذا الفصل وأبعاده، وأياً كان الواقع الفعلي لممارسته ـ لا يعني ذلك المفهوم الاستمرارَ في هذا الإبعاد والملاحقة والإقصاء والفصل إلى أقاصي أركان الحياة الاجتماعية، ولا يعني الإيغال في هذه الأمور إلى مستوى الدين الأمريكاني! حيث الشعائر والعبادة والأفكار العقيدية وحق المؤمنين وحريتهم في المجتمع لممارسة شعائرهم والدعوة لها والتفكير في شؤون دينهم والعمل على دعم طائفتهم.. إلخ.
ولو نظرنا إلى فرنسا ـ مثلاً ـ حيث تدعي الدولة أنها علمانية، وتبالغ في إظهار ذلك كفكر مرجعي لها، لا يؤدي فصل الدين عن الدولة المرفوع كشعار لازم في كل المؤسسات إلى ملاحقة الناس والمذاهب النصرانية واليهودية أو التضييق عليها في أي مجال خارج مجال الحكم المباشر بأضيق معانيه. صحيح أن الوضع في فرنسا يختلف ـ كما هو معروف ـ بالنسبة للمسلمين حيث تفسر العلمانية على طول الخط بأنها تعني: حرمانهم من أبسط الحريات ـ وليست قضية الحجاب ببعيدة ـ، وأنها تعني أيضاً: تدخل الدولة في إدارة مساجدهم، وإملاء مضامين خطب الجمعة والدروس الدينية، ومراقبة كتاباتهم الدينية، والتدخل لمنع ما تراه الدولة مهدّداً لها. كل هذا صحيح لكنه ينطبق على المسلمين وليس على أي ملّة ونحلة أخرى؛ سواء الموصوفة بالسماوية أو الوضعية، مثل: الهندوسية والبوذية. لكنه لا ينطبق بكل تأكيد على النصرانية واليهودية.
وصحيح أن هذا يُعدّ نموذجاً مثالياً لحكاية ازدواجية المعايير، لكنه يدل على أن العلمانية في بلادها لها شروط للانطباق، وهي حتى في الحالة المتشددة ـ كما في فرنسا ـ لا تصل إلى الحدِّ الذي يقول به العلمانيون العرب ضد الإسلام الذي يحلو لبعضهم على سبيل الدعاية أن يقول: إنه يؤمن به، والمحصلة هي أن العلمانيين العرب لا يريدون ـ وهم يبشّرون بالعلمانية ويعلنون عن مزاياها في المساواة والحرية والمواطنة ـ أن يلتزموا بأبسط شروطها وأولها المعمول بها في البلاد التي قدمت منها، والتي يتطلّعون إليها للهداية والإرشاد والقدوة.
إن العلمانيين العرب يعملون وسط بيئة فكرية وسياسية بل وأمنية سِمَتها الأولى ـ وربما الوحيدة ـ ضربُ الحركات والتيارات الإسلامية وإقصائها عن شتى نواحي الحياة ومعها الدين نفسه؛ حيث تحفل الساحة بمفردات من طراز: تجفيف الينابيع، واستئصال التطرف، وفرض ما يسمى بالاعتدال ولو بالإفراط في استعمال القوة المسلحة، بل إن هؤلاء العلمانيين يعملون بالتحديد كجزء من هذه البيئة وكقوة لها دورها المحدد الذي تؤديه في عملية ضرب الحركات والأفكار الإسلامية ومعها أركان الإسلام نفسه. وهم من هذه الزاوية يؤدون واجبهم على النحو الأكمل وبمنطقية وتفانٍ يحسدون عليها جميعاً. ويذهب هذا بهم إلى حدِّ ارتكاب الازدواجية والنفاق الصريحين.
فوسط دعاوى الحرص على الحرية والمساواة والعدالة في المعاملة.. إلخ ـ والتي تصدر أساساً لأغراض الدعاية، ولأغراض استمالة الأقليات غير المسلمة إلى مشروع ضرب الإسلام والمسلمين ـ لا يجد العلمانيون أية غضاضة أو غرابة أو تناقض في أن يعلنوا في الوقت نفسه ـ وهذا هو دورهم الأصيل ومهمتهم المحددة ـ عن ضرورة أن تظل القيود والحصار بل والاستئصال على أبسط النشاطات الإسلامية، بل وأن تتضاعف عما هي عليه الآن تحت حجة الحفاظ على الدولة المدنية من أعدائها. ويقال هذا في الوقت نفسه الذي يطالب فيه العلمانيون بأوسع الحريات، بل وبإقامة كيانات مستقلة وشبه حكومية للطوائف المدنية والعرقية الواقعة داخل بعض الدول العربية. إن تجاهل دعاية العلمانيين العرب لأول شروط التطبيق العلماني ـ كما عرفها الفكر الغربي ـ والممارسة هناك في أحيان كثيرة؛ يشير إلى طبيعة الدور المناط بهم في عملية الهجوم على الإسلام الجارية الآن.(235/22)
فلسطين ومقدساتها على مفترق طرق
كم تحتاج قضية فلسطين من عقود أخرى وأعوام، حتى تأخذ مكانها اللائق بها في اهتمامات الأمة شعوباً وحكومات وتجمعات؟ وكم تحتاج من الجهد حتى يصحَّح مسارها في اتجاه الانتصار بالخروج من (الحصار) الحقيقي المفروض عليها منذ ما يقرب من ستين عاماً، الحصار على الحدود بفرض القيود التي تحمي اليهود، بل تقدم لهم أسباب القوة والتوسع على أطباق من الهوان والخذلان.
الأمة في حاجة إلى من يعيد إلى قضية فلسطين وهجها، حتى تلتف القلوب من جديد حول نداءات شعبها ومقدساتها؛ فمؤخراً بدأت فصول مرحلة جديدة من التآمر على القضية الفلسطينية، لا يدري أحد إلى أين تصل؟
فالمشروع الإسلامي الذي حاولت حركة حماس إقامته على ما بقي من أرض فلسطين سلمياً، قامت الدنيا ولم تقعد من أجل إحباطه سياسياً أو حتى عسكرياً، وثوابت القضية الفلسطينية التي لا تحتمل الجدال وفق مقررات الدين والعقل، تتعرض للنقض عروة عروة؛ فكلما انحلت عقدة، تطلَّع الأعداء إلى التي تليها!
والمسجد الأقصى الذي خطط اليهود لهدمه نحو أربعين عاماً بعد احتلال القدس، يبدو أنهم قد قرروا الآن هدمه على مراحل، أو على طريقة السياسي اليهودي الأمريكي «هنري كيسنجر» : (طريقة الخطوة خطوة) ، وهي الطريقة ذاتها التي ظلت تنقل القضية برمتها (خطوة خطوة) إلى حافة التفكك والانهيار.
ونحن إذ نتساءل: متى تصل نداءات القدس إلى المسامع، وصرخات المسجد الأقصى إلى القلوب، وأنَّات «فلسطين التاريخية» إلى العقول؟
نفتح هذا الملف، في هذا العدد والذي بعده، لعل نداءات المآذن وصرخات الأقصى وأنّات فلسطين تجد آذاناً تسمع وقلوباً تعي وعقولاً تفهم، قبل أن تتغير الأحوال، وتحل بنا جميعاً سنن الاستبدال.(235/23)
فلسطين بين ثوابتنا وثوابتهم
د. عبد العزيز كامل
الحديث عن (الثوابت) في قضية فلسطين، يمارسه كل الناس: أنصار الشعب الفلسطيني وأعداؤه، الصادقون في النصح وأدعياؤه، الراغبون في الحل والراغبون عنه والزاهدون فيه. كل هذا قد يكون طبيعياً باعتبار اختلاف وجهات النظر ومكونات الفكر والمصالح، أما ما ليس طبيعياً، فهو أن يُراد سَوْق الجميع سَوْقاً، طوعاً أو كرهاً إلى السير وفق منهج من «الثوابت» الإسرائيلية، المسنود بمصالح ورؤى غربية يُطلق على مجموعها: (الشرعية الدولية) !
والأعجب من ذلك أن ينتدب إلى الدفع في هذا الاتجاه أقوام من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا في داخل الأرض المقدسة وخارجها، لتكون السيادة في النهاية لتلك «الشرعية الدولية» الغربية الصهيونية ـ على (الشرعية الإسلامية) التي هي أساس الأسس ومنطلق الحلول الحقة العادلة في هذه القضية؛ فالإصرار يزداد على استبعاد الثوابت الإسلامية عنها كلما ازداد اتضاح الحق من جانبنا، وانفضاح الباطل من جانب أعدائنا.
لقد كانت قضية فلسطين، ولا تزال وستظل «قضيةً شرعية» بالمعنى الإسلامي؛ بمعنى أنها نازلة تحتاج دائماً لنظر وعلاج شرعي من قِبَل المسلمين، باعتبار أن العوامل والمسائل التي تحيط بها؛ أكثرها ذات طبيعة دينية، إما من ناحية العرب والمسلمين، أو من ناحية أعدائهم من صهاينة اليهود والنصارى المعتدين. فحقيقة الصراع على أرض فلسطين تحكي قصة المغالبة والنزال بين مقتضيات الحق الإسلامي عقيدة وشريعة، وبين أهداف وغايات أعدائه، القائمة على الباطل ديناً ودنيا. ولهذا فلا بد أن يكون البُعد الشرعي حاضراً ـ وبقوة ـ في كل جولات تلك المغالبة، مع من يمثلون الأبعاد الدينية الكتابية، يهودية كانت أو نصرانية. فلا يصلح أن يظل هؤلاء الأعداء متشبثين وحدهم بمفردات الخطاب العقائدي؛ بينما نظل نحن متراجعين ومطالبين بمزيد من التراجع تحت دعوى المطالبة بـ (تجديد الخطاب الديني) في لهجتنا الإسلامية أو تحديث حديثنا باتجاه «العقلانية» و «الواقعية» الاستسلامية.
إن المفردات الدينية عند أتباع الديانتين اليهودية والنصرانية؛ لا تزال تُصنَّع من مجموعها كل حين (ثوابت) يهتدي بها الساسة، وتوجه في مساربها مسارات السياسة، ولقد كانت ـ وستظل ـ الظِل المخيم في خلفية الأفكار والخطوات والمخططات التي تنطلق منها مشاريعهم فيما يتعلق بقضية فلسطين على وجه الخصوص، وقضية الشرق الأوسط ـ القديم أو الجديد ـ على وجه العموم. ولعل أحداث السنوات الأخيرة من الألفية الثانية، والسنوات الأولى من الألفية الثالثة تثبت أن تلك (الثوابت) لا تزال تعشش في أدمغة الفريقين، حتى وإن سترتها ظاهرياً القبعات أو الخوذات؛ فالاعتقاد بأحقية اليهود والنصارى الدينية في أرض فلسطين، وملكيتهم لما يسمونه بـ (جبل الهيكل) المقام عليه المسجد الأقصى، بل ووراثة هؤلاء للأرض الممتدة من النيل إلى الفرات كبداية للحرب ضد (محور الشر) وأوهام الاختيار الإلهي لهم كمحور للخير، ونحو ذلك؛ كلها تمثل ثوابت إجمالية نظرية عندهم، تتفرع عنها ثوابت تفصيلية عملية، يحرصون على تنفيذها على أرض الواقع.
وتترجم هذا أحداث السنوات القليلة الماضية، مثل: خلفيات أحداث انتفاضة الأقصى، وملابسات افتعال الحرب العالمية على الإسلام بزعم محاربة الإرهاب، وتضاعيف الحملة المدبرة منذ عقود لإسقاط «بابل» للوصول إلى الفرات، وكذلك التربص العنيد باليقظة الإسلامية في فلسطين، والتوجه المنظم لحصار الشام بعد حصار العراق، والتهديدات المبطنة والمعلنة لإغراق مصر وخنق السودان وحرق إيران ولبنان، وإطلاق «الفوضى الخلاَّقة» في غيرها من البلدان ... كل ذلك بتداعياته، وما قد يأتي بعده، يمثل دلالة على أن القوم لا يزالون على العهد ـ القديم والجديد ـ ضد أمة القرآن المجيد!
\ تشريع الظلم وتقنين الجنون:
مع ما يظهر من غياب مقتضيات العدل والعقل في تلك الأفكار؛ غير أنها تجد مساندة مما يسمى بـ (الشرعية الدولية) . فجنون اليهود يتحول إلى «قانون» في شرعة الأمم المتحدة علينا، وظلامات النصارى الغربيين؛ تصير بعد حين «شرائع دولية» ، هذا ما شهدناه وشهده آباؤنا وأجدادنا على مدى ما مضى من عقود تداعي الأمم على قصعتنا المكشوفة! فتقسيم العالم الإسلامي بعد إسقاط كيانه الجامع تحت مظلة «عصبة الأمم» وإعطاء إنجلترا «حق الانتداب» على الأرض المقدسة، ريثما تتم تهيئتها لليهود عبر ثلاثة عقود، ثم صدور قرار التقسيم «العادل» بين المغتصِب والمغتصَب، وتزايد قرارات فرض السلام مع هذا المغتصِب ... كل ذلك يجري باسم «الشرعية الدولية» التي تتخذ كل حين آليات جديدة لزيادة الضغط وتفجير المواقف الثابتة للعرب والمسلمين.
ففي ما يتعلق بقضية فلسطين، كُونت في السنوات الأخيرة لجنة منبثقة عن الجهات المتحكمة في تلك الشرعية، هي التي أُطلق عليها (اللجنة الرباعية) والتي تضم الولايات «المتحدة» والأمم «المتحدة» و «الاتحاد» الأوروبي» ، و «الاتحاد» الروسي! وكل هذه الأطراف (المتحدة) قد توافقت على «ثوابت» فيما يخص القضية الفلسطينية في ظل الفُرقة التي تجمعنا. هذه الثوابت، التي يطلق عليها «مطالب الرباعية» تتمثل في: ضرورة أن يلتزم الفلسطينيون ـ والعرب والمسلمون من ورائهم ـ بـ (الاعتراف) بحق دولة اليهود في الوجود على أرض فلسطين؛ أي بمعنى أحقيتها في كل ما اغتصبته ولا تزال تغتصبه من أراضٍ ومقدرات ومقدسات هناك، هذا أولاً. أما ثانياً: أن يلتزم الفلسطينيون ـ والعرب والمسلمون معهم ـ بـ (نبذ العنف) أي عدم تحريك ساكن ضد جرائم اليهود القائمة كلها من أولها لآخرها على مسلسل من العنف الدموي الإجرامي من خلال الحروب والمعارك المتتابعة والتي وصلت الآن لست حروب في ستة عقود، بخلاف «حروب الحواشي» التي أُقحِم فيها العرب والمسلمون من أجل سواد عيون أبناء صهيون. أما الأمر الثالث من مطالب الرباعية أو ثوابتها، فهو «التزام» كل الاتفاقات السابقة بين العلمانيين العرب، والعقائديين اليهود، ابتداء من اتفاقات (كامب ديفيد) عام 1978م، ومروراً باتفاقية (أوسلو) عام 1993، و (وادي عربة) عام 1994م، وواي ريفر عام 1998م ووصولاً إلى «خارطة الطريق» عام 2002م؛ وهي كلها تركز على ثابتين: الاعتراف بدولة اليهود، وتجريم أي مقاومة ضدها.
لكن اتفاقية أوسلو ـ على وجه الخصوص ـ هي الثابت الأول الذي يصرّ الأمريكيون والإسرائيليون والأمم المتحدة والروس على أن تكون أساساً لأي بناء يقام فيه أي كيان فلسطيني محتمل، سواء كان ذا وجهة علمانية أو صبغة إسلامية، أو هجيناً من هذا وذاك في شكل حكومة (وحدة وطنية) .
وهذه حقيقة المعركة التي تخوضها حماس الآن؛ فلقد كنت مقتنعاً منذ نجاحها في الانتخابات ـ ولا زلت ـ بأن تلك المطالب أو الثوابت (الرباعية) سيظل أصحابها يصرون على جر المسلمين والعرب والفلسطينيين إليها رويداً رويداً، مرة بإشعال النار في معارك ومداهمات ومؤامرات، ومرة بإحكام الحصار السياسي والاقتصادي، ومرة بإسقاط الخيارات وإفشال الحكومات التي يمكن أن تنشأ على غير تلك «الثوابت» الثلاثة التي استقرت عليها «الشرعية» الدولية، وتبعتها عليها «الشرعية» العربية.
\ «أوسلو» التي يحتكمون إليها:
هذه الاتفاقية التي أُبرمت عام 1991م في البيت الأبيض بين الطرف الفلسطيني الذي مثله (عرفات) والإسرائيلي الذي مثله (إسحاق رابين) رئيس الوزراء الأسبق، برعاية الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون) كانت منعطفاً حاداً في خط سير القضية الفلسطينية؛ إذ إنها مثَّلت الركن الذي يرتكز عليه كل المبطلين للحق الإسلامي في فلسطين، بدءاً من اليهود وأعوانهم من الأوروبيين والأمريكيين والروس، وانتهاءً بالعلمانيين العرب الذين لم يَثبُتوا على أي مبدأ خلال الستين عاماً الماضية من عمر القضية، والذين يلحّون الآن على التمسك فقط ببنود تلك الاتفاقية، مع أن المفاوضات السرية التي سبقتها وقادت إليها لم يُحط بها علماً أي زعيم عربي، حتى الذين سبقوا إلى إبرام معاهدات (سلام) مع اليهود!!
ـ نصت الاتفاقية في وثيقة (إعلان المبادئ) على انسحاب اليهود من منطقتي قطاع غزة والضفة الغربية اللتين احتُلتا عام 1967م، بحيث تترك إدراتهما لسلطة فلسطينية تُجرى انتخابات بشأن تكوينها، على أن يكون من مهام تلك السلطة الرئيسية (حفظ الأمن) في الضفة والقطاع بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية، من خلال لجنة للتعاون الأمني المشترك! وكان المعنى العملي لهذا البند من الاتفاقية، أن يتخندق الفلسطينيون العلمانيون من السُلطة إلى جانب الصهيونيين المحتلين لعموم فلسطين، ضد بقية الفلسطينيين ـ الإسلاميين ـ الذين (يعكرون) أمن اليهود!!
وهذا تماماً ما حصل خلال السنوات الأولى من قيام السلطة في عهد عرفات، حيث قام العميل (دحلان) بتأدية المهمة شر قيام.
ـ ونصت الاتفاقية على أن الجانب الفلسطيني لن يتلقى أي معونات اقتصادية من الخارج إلا من خلال لجنة مشتركة مع الإسرائيليين، تحدد معايير القبول أو الرفض، ومسارات الإنفاق أو الاستثمار لتلك الأموال، وهو ما فرض منذ وقت مبكر آلية رسمية صهيونية لفرض الحصار الإسرائيلي على الفلسطينيين في أي وقت يريده اليهود.
ـ حددت الاتفاقية مجالات الولاية المسموح بها إسرائيلياً لهذه السلطة على الأرض التي ينسحب منها اليهود «تكتيكاً» وهي مجالات: (الصحة ـ التربية ـ الثقافة ـ الشؤون الاجتماعية ـ الضرائب ـ السياحة ـ الأمن الداخلي) وهو ما يعني إراحة اليهود من تبعة إدارة شؤون شعب معادٍ لهم، ريثما تكمل مخططات (الترانسفير) أو التهجير. أما القضايا الكبرى مثل: القدس والأقصى والمستوطنات والقواعد العسكرية في الأراضي المحتلة، والحدود واللاجئين وغير ذلك؛ فإن اتفاق أوسلو أرجأ البت فيها إلى ما بعد مرور ثلاث سنوات من إبرام الاتفاقية، حتى يتسنى التأكد من (حسن السير والسلوك) لدى السلطة التي ستنشأ عن اتفاق أوسلو؛ حيث تنص الاتفاقية على البدء بعد تلك السنوات الثلاث في مفاوضات بشأن (الحل النهائي) للقضايا الكبرى.
وقد مرت السنوات الثلاث، وبعدها ثلاث وثلاث وثلاث، في اثني عشر عاماً، ولم يتأكد الإسرائيليون بعدُ من (حُسن النوايا) الفلسطينية في سُلطة عرفات، ومن بعدها سُلطة محمود عباس؛ لكي يبدؤوا بداية جدية في تلك المفاوضات النهائية التي جرت منها فقط مرحلة هزلية في نهاية أيام بيل كلينتون، أُطلق عليها (كامب ديفيد الثانية) عام 1999، ثم سرعان ما فشلت بعدما اكتشف عرفات أنها ما بُدئت إلا من أجل تسليم كلينتون للإسرائيليين مفاتيح مدينة القدس والمسجد الأقصى بشكل رسمي قبل أن يغادر البيت الأبيض، لكي يفعلوا فيه أو في أرضه بعد هدمه ما يشاؤون، تنفيذاً للمبادرة المشهورة بمبادرة (مازن ـ بيلين) التي يعترف فيها محمود عباس (أبو مازن) في اتفاقه مع يوسي بيلين (وزير العدل) الإسرائيلي السابق، بأن تكون القدس لليهود، وللفلسطينيين منطقة خارجها هي (أبو ديس) يتخذونها عاصمة بعد أن يُطلق عليها اسم (القدس) !!
\ الحل النهائي للتفاوض، والأقصى هو الهدف:
بعدما فشلت مباحثات (كامب ديفيد الثانية) عام 2000م، وبعدما أدرك اليهود والأمريكيون أن استلام الأقصى سلمياً ورسمياً، ليس من السهولة بمكان، وكذلك التسليم بأن القدس يهودية؛ شرع شارون في تهييج اليهود ضد الفلسطينيين، إسلاميين وعلمانيين، وهو ما أشعل انتفاضة الأقصى التي استمرت نحو أربع سنوات؛ ومن يومها؛ والضغوط تتوالى على الفلسطينيين بكافة توجهاتهم من أجل إنشاء ظروف جديدة، تسمح بمعطيات أكثر حظاً لليهود عند أي دخول في مفاوضات نهائية، وقد جرت أثناء مدة المأفون شارون عدة تطورات، تهدف كلها لكسر الإرادة الفلسطينية أو تليينها، حتى تذعن لثوابت اليهود، وترضى بثوابت ما يسمى بـ (الشرعية الدولية) !! وفي ظل تلك «الشرعية» جرى قتل وجرح واعتقال عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وقتل واغتيال العشرات من القادة والرموز، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، كما لم يسلم من غدر اليهود ياسر عرفات نفسه، حيث حاصروه في مقر السلطة التي منحوها له، وشاع أنهم تسببوا في قتله بالسُّم، حتى يُفسَح الطريق أمام قيادات جديدة، أكثر ليونة أو رعونة، ترضى ـ بعد كل ذلك ـ أن تُلتقَط لها الصور التذكارية في الاجتماعات (التشاورية) الودية، مع (شارون) ومن بعده (أولمرت) المتآمر القديم على القدس والأقصى أثناء تسلمه لمنصب بلدية القدس لعشر سنوات بدءاً من عام 1993م.
لا شك في أن ما جرى مؤخراً من فصول جديدة من التآمر ضد القدس والأقصى، يمثل مرحلة متقدمة من المشروع الهادف إلى إحكام سيطرة اليهود عليهما بشكل نهائي، حيث إن الأقصى يتوجب هدمه جذرياً، والقدس يتوجب ضمها نهائياً، حتى تكتمل معالم (الدولة اليهودية) التي أشار جورج بوش الابن إلى ضرورة توافق الجميع على استكمالها، في حضور العديد من الزعماء العرب ـ ومنهم محمود عباس ـ في مؤتمر خليج العقبة عام 2003م!
قناعتي أن الأقصى سيظل يختصر معالم الصراع الديني في قضية فلسطين، إسلامياً ويهودياً ونصرانياً، حيث يتوافق الجميع ـ بغير اتفاق ـ على أنه يبقى بؤرة صراع الأديان في المستقبل القريب والمستقبل البعيد، بعد أن كان محوراً لهذا الصراع منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، عندما بنى داود ـ عليه السلام ـ مدينة القدس وأعاد ابنه سليمان بناء المسجد الأقصى فيها.
ü هذه ثوابتنا:
الأقصى هو المركز في قصة صراع الحق والباطل بين أتباع الديانات الثلاث؛ ولذلك فمنه ابتدئ سرد ثوابتنا الإسلامية؛ التي يُراد التصدي لها، أو القفز من فوقها إلى حيث ثوابت المغضوب عليهم والضالين، ومن دار في فلكهم من المنافقين:
أعرف أن هناك من سيقول: أين نحن مما تتحدثون عنه، في زمن هوان المسلمين، وظروف تمكن الأعداء، ومناخ المعادلات الدولية والنظرات الواقعية لموازين القوى المؤثرة في طبائع الأحداث؟! فأقول: الواقع ليس حُكماً على الشريعة والعقيدة، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية: فإن هذا الواقع يتغير بسرعة لصالحنا كلما غيَّرنا ما بأنفسنا، كما تشهد بذلك ساحات الانتصارات الأخرى. ومن ناحية ثالثة: فإن في مقابل تلك الثوابت الإسلامية، هناك ثوابت (دينية) صهيونية، نصرانية تقابل كل بند فيها، ولعلِّي أترك للقارئ إجراء تلك المقابلة والمقارنة، التي لم تحجزهم عنها أوهام الواقعية أو العصرانية.
ومن جهة رابعة: فإن الأجيال الإسلامية، لا بد أن تنشأ على المفاهيم والثوابت الإسلامية في قضاياها، حتى إذا عجزنا نحن، لم نورِّثهم ذلك العجز، أو نسلِّمهم لمسلَّمات وثوابت المبطلين، من العلمانيين وأشياعهم.
إن العلمانية العربية هي أكثر الأطراف حديثاً عن «الثوابت» ولكنها ثوابت تختلف عن ثوابتنا الإسلامية؛ ومع هذا فإنها كانت ولا تزال الأكثر تفريطاً فيها وتجاوزاً لها؛ فمن الذي لا يذكر ممنوعات عبد الناصر، ولاءات السادات، ومحرمات عرفات، واحتجاجات وتحفظات جبهات (الصمود والتصدي) و (البعث العربي) و (الجامعة العربية) بمؤتمراتها ومقرراتها التي تذهب تباعاً أدراج الرياح؟ إن تلك الثوابت لم يبق منها الآن إلا بعض أشكال الممانعة التي تتشبث بها فصائل المقاومة، مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما؛ ومع هذا يراودها الأكثرون عليها، ويحاولون إبعادها عنها!
وبعدُ: فما الذي أوصل إلى كل هذا التراجع من طرفنا ... مع ازدياد العناد والمزايدة من أطراف أعدائنا..؟!
\ السؤال الكبير:
في النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن الهجري، أي ما يوازي منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الفائت، كان هناك سؤال يثور في الأذهان، ويدور على الألسنة، مؤدّاه: «لماذا أفغانستان وليس فلسطين؟!» حيث كان الجهاد لتحرير أفغانستان من الغزو الروسي يكتسب وقتها زخماً إسلامياً عالمياً، بعد أن أخذت القضية الأفغانية بُعداً اعتقادياً، جمع حولها قلوب المسلمين أفراداً وجماعات ومجتمعات، بينما كانت قضية فلسطين ـ الأكبر والأخطر والأقدم ـ تعاني إهمالاً واضحاً، وضموراً لافتاً في الضمائر، انعكس على ما تترجمه السرائر والظواهر..!
لم يكن على الساحة الفلسطينية ـ حتى ذلك الوقت ـ بروز يُذكر لأي تجمع إسلامي شعبي يجاهد لأجل تحرير فلسطين، بالرغم من مضي زمان يزيد على زمن التيه من احتلالها، بينما وُجد في أفغانستان في غضون سنوات قلائل، جمع من المنظمات الجهادية، ظلت تنازل أكبر جيش في العالم في ذلك الوقت حتى أخضعته وأخرجته صاغراً من الأرض الأفغانية! لقد كان الجزء الأكبر من الإجابة على ذلك السؤال: «لماذا أفغانستان وليس فلسطين؟!» يكمن في وصف الحال هنا ووصفه هناك؛ حيث كان الفرق الكبير هو أن القضية الأفغانية أخذت بُعدها الإسلامي الاعتقادي إعلامياً وسياسياً بشكلٍ كافٍ؛ بينما كان أسر الإسرائيليين لفلسطين يكتسب الضمانات والحصانات من العلمانية العربية والفلسطينية التي ميَّعت القضية بخطاب بارد جاف، منزوع العقيدة، فاقد التأثير في قلوب المسلمين وعقولهم.
إن هذه الأمة مهما اعتورها من دَخَن أو دَخَل خارجي، هي في جوهرها الداخلي إسلامية القلب، إيمانية الوجهة، ولا يستطيع أن يؤثر فيها أو يأسر قلبها إلا من خاطبها بلسان الإسلام والإيمان، حتى ولو كان ذلك بالمظاهر والشعارات؛ فهي قد تُخدَع لمن خدعها بالإسلام، ولكنها تصدُق مع من صَدَقها في خطاب الإيمان. وقد فهم أعداء الأمة هذا جيداً، فكانوا حريصين كل الحرص على ألاَّ يخاطبها أحد بذلك الخطاب الإسلامي إلا فيما يتقاطع مع مصالحهم، في حين لا يزعجهم كثيراً خطاب الشعارات المائعة، قومية أو وطنية، ثورية أو ليبرالية؛ فهي وإن علا صوتها وتزاحم ضجيجها، فإنها لا تعدو أن تكون قعقعة في بطن جوعان أو زوبعة في قعر فنجان!! وهذا ما حدث عندما خاض العرب تحت تلك الرايات والشعارات حروب الهزائم الكبرى، مستبعدين الإسلام، متجاهلين المسلمين غير العرب، لتظل هذه القضية، قضية (قومية عربية) علمانية.. لم تلبث أن تحولت إلى قضية (وطنية فلسطينية) علمانية أيضاً. لكن لما ظهرت التوجهات الإسلامية في فلسطين على يد حماس والجهاد الإسلامي، كان واضحاً أن هناك تغيراً طرأ على الساحة الفلسطينية، وهو قابل للتطور باتجاه (أسلمة القضية) وهنا قال العلمانيون.. وقال الإسرائيليون والأمريكيون قبلهم: لا ... ! ولهذا كانت (مدريد) وكانت (أوسلو) التي تعد الوليد ـ أقصد اللقيط ـ الأول للعلاقة الجديدة الناشئة بين العلمانية الفلسطينية والكيان الصهيوني.
لقد أطاحت (أوسلو) وأخواتها بأهم الثوابت المتعلقة بالصراع مع اليهود المغتصبين، بعد أن أغلقت فتح ملف الثوابت الفلسطينية، ولم تُبْقِ منها إلا مسألة الدولة الفلسطينية بزعامة علمانية «صديقة» لليهود، ومع ذلك ظل أصحابها يتحدثون أكثر من غيرهم عن (الثوابت الفلسطينية) التي لا تختلف الآن كثيراً عن الثوابت الإسرائيلية التي تنافح عنها (اللجنة الرباعية) وكان آخر ذلك تصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مع حركة حماس؛ حيث قال في لقائه مع كونداليزا رايس وإيهود أولمرت: «كل الوزراء في الحكومة سيلتزمون بثوابت الرباعية، ولن يلتزموا بإملاءات الجهة التي جاؤوا منها» (يقصد حماس بالطبع) !
إننا أمام معادلة تقول: كلما انخفض سقف الخطاب العربي والإسلامي في القضية الفلسطينية، ارتفع سقف الطمع في التنازلات والتراجعات على الجانب المعادي، إسرائيلياً كان أو أمريكياً أو أوروبياً؛ ولهذا أقول: إن هذا هو التحدي الكبير الذي يواجه الإسلاميين الفلسطينيين في حماس وغيرها.
ü السؤال الأكبر:
بعد عام تقريباً من الآن، يكون الاحتلال اليهودي لفلسطين عام 1948م قد مضى عليه ستون عاماً، وإذا أرَّخنا لضياع فلسطين باحتلال الإنجليز لها عام 1918م، والذي تواصَل حتى الاحتلال الإسرائيلي، يكون قد مضى في العام القادم على القضية الفلسطينية تسعون عاماً!
خلال الستين عاماً ... أو التسعين عاماً، أضاع العرب والمسلمون الكثير والكثير من الفرص لتحرير فلسطين، وما ذلك ـ في رأيي ـ إلا بسبب التخبط والتردد والتخليط في اختيار الرايات التي ستُحرَّر تحت ألويتها الأرض المقدسة المغصوبة، حيث أكثرَ ساستنا التنقل بين الليبرالية والاشتراكية والقومية والوطنية، مستعينين تارة بالشرق، ومرتمين تارة في أحضان الغرب، وهو ما جعل «ثوابت» القضية الفلسطينية لا تكاد تثبت على حال.
تراودني كثيراً في الآونة الأخيرة تساؤلات، تنطوي على مقارنات، بين أوضاع قضية (احتلال فلسطين) التي مضى عليها ما يقرب من ستين عاماً أو تسعين عاماً، وبين قضية (احتلال العراق) التي مضى عليها نحو أربع سنوات فقط!!
وتبرز في تلك التساؤلات الكثير من الفروق والمفارقات:
سنجد بعد الإجابة الموضوعية عن تلك الأسئلة ـ أن الفارق كبير جداً بين مؤهلات الانتصار الأسهل في فلسطين (افتراضاً) ومسببات الانتصار الأصعب في العراق (واقعاً) !
وهنا نعيد السؤال القديم ـ بصيغة جديدة ـ: «لماذا العراق.. وليس فلسطين؟!» لا تقليلاً من قدر العراق أو تهويناً من خطر الأمريكان، ولكن، لنطرح ذلك التساؤل الأصعب: كيف حققت المقاومة العراقية تلك الانتصارات المذهلة في ذلك الوقت القياسي القليل جداً، مع تلك الإمكانات المحدودة جداً وفي تلك الظروف الأصعب جداً؟! في حين أنها تقاتل في وقت واحد عدوين كبيرين: علوج الأمريكان الهائجة وجُعلان إيران الهمجية؛ إضافة إلى قوات التحالف المجموعة من حثالات الأمم!
إن المقاومة في العراق لم تحرز انتصارات كبيرة على أمريكا وحلفائها فحسب، في ظروف استضعاف وتنكُّر وخذلان وإعراض من الأكثرين؛ بل إن أداءها الأسطوري المرعب لأعداء الله، كان سبباً ـ بفضل الله ـ في حماية بقية دول الجوار من بقية مسلسل الجور الأمريكي الذي كان مخططاً لما بعد نجاح الغزو في العراق.
ونعود إلى فلسطين.. حيث السؤال الذي لا يزال يفرض نفسه: متى نرى في اليهود هناك، مثل ما نرى في الأمريكيين وحلفائهم في العراق..؟! إن الجواب يمكن التفصيل فيه، ولكنه يكمن في كلمات محددوة: تنقية الراية، وتصفية وتقوية الثوابت الفلسطينية إسلامياً لتكون خالصة من شوائب «الثوابت» العلمانية، ومصادرها الرئيسية المستمدة من مبادئ الظلم الكامنة في «الشرعية الدولية» ذات الوجهة الصهيونية.
إن الشعب الفلسطيني ـ من حيث هو ـ شعب أبيٌّ صابر ومجاهد ومرابط، ولا يمكن المزايدة على تضحياته بتضحيات أخرى، ولكن تسلط بعض زعاماته بفرض قناعات بعيدة عن المنهج السوي، هو ما قلل من قطف ثمرات تلك التضحيات، وإن ما نشهده من تضييق (الحصار المنهجي) على حركة حماس لتتخلى عن الثوابت الإسلامية، لهو أخطر من الحصار الاقتصادي المفروض على بقية الشعب؛ لأن حصار البطون سيهون وينتهي، ولكن حصار العقول والقلوب لو نجح ـ عياذاً بالله ـ فسوف يباعد أكثر من النصر، ويمكِّن أكثر للعدو، ويفتح المجال لسنن الاستبدال.
إن فلسطين في حاجة إلى مزيد من التشبث بتحرير الولاء لله، لتحرير المقدسات والأراضي والمقدرات من أعداء الله، وهذا ما سوف يحدث قطعاً، عندما تكون الرايةُ الإسلامَ، والغاية العبودية؛ فبهذين الوصفين، سيلتفت العرب وسيتضامن المسلمون، بل سينطق الحجر والشجر لنصرة المظلومين ضد اليهود الظالمين، مصداقاً لقول النبي #: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله!» (1) فالنداء هنا بوصف الإسلام ووصف العبودية وليس بالقومية أو الوطنية العلمانية التي أضاعت الأرض والعرض في فلسطين لنحو تسعين عاماً.(235/24)
حفريات باب المغاربة وهدم الأقصى
د. يوسف كامل إبراهيم
تهويد القدس أولاً وأخيراً، ذلك هو الحُلُم الصهيوني والهدف الاستراتيجي الذي لا تراجُع عنه، مهما تكن الأسباب والظروف. في القدس بدأ المشروع الاستيطاني اليهودي، وفي القدس تُستكمل حلقاته الأهم. والقدس هي كما يقولون: قلب الصهيونية، أو هي جوهر المشروع الصهيوني ومآله الأخير: الديني، والسياسي.
فالحديث عن القدس والأقصى المبارك حديث ذو شجون ومليء بالأحزان على ما يحصل لأولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين؛ فقد واصلت الجرافات الإسرائيلية يوم الأربعاء 7/2/2007م هدمها لطريق «باب المغاربة» بهدف الوصول إلى هدم غرفتين من المسجد الأقصى المبارك ملاصقتين للجدار الغربي للمسجد الأقصى المبارك في القدس المحتلة. فالمؤامرات التي تحاك للأقصى برمته (صورة رقم 1) لم تكن وليدة اليوم، وإنما على مدى سنوات الاحتلال الذي شمل فلسطين التاريخية، ولعل آخرها بناء جسر علوي جديد محاذٍ للجدار الغربي للمسجد الأقصى، يوصل إلى باب المغاربة الذي يشكل المدخل الرئيسي لاقتحامات القوات «الإسرائيلية» والجماعات اليهودية الدينية المتطرفة للمسجد الأقصى.
وفي الأشهر الأخيرة كشفت (مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية) في تقرير لها عن خطط صهيونية فعلية مستمرة لبناء كنيس يهودي جديد ملاصق للأقصى، وغرف لصلاة اليهود أسفل ساحته الشريفة. والجدير بالملاحظة أن الحفريات المتواصلة التي كانت تتم بعيداً نسبياً عن ساحة الأقصى أصبحت الآن تحت المسجد الأقصى، وتشير الوثيقة إلى أن مصممين معماريين يهوداً قاموا بالفعل بإنشاء ما سمي «متحف الأجيال» أو «قافلة الأجيال» أسفل المسجد الأقصى في مناطق الحفريات عند الجدار الغربي للأقصى «ساحة البراق» وأن هذا المتحف يضم سبع غرف أسفل محيط المسجد الأقصى المبارك تشرح للأجيال اليهودية ـ حسب زعمهم ـ تاريخ شعب «إسرائيل» . والحقيقة أن ما يجري أسفل الأقصى إنما هو حلقة من سلسلة حلقات تهدف إلى تدمير الأقصى لا سيما أن آخر ما جرى الكشف عنه بالدليل القاطع هو وجود كنيس مستحدَث تحت المسجد الأقصى المبارك، وأن هذا الكنيس يؤمه المصلون اليهود، كما تم الكشف عن سبع غرف بناها أحد المصممين اليهود ويدعى «ألوف نحليئيلي» كما تم الكشف عن سراديب وأنفاق وبوابات حديدية مقفلة وخلفها تجري الحفريات التي لا يُعلَم لها طول ولا عرض ولا عمق، وقد جرى تصوير ما يحصل أسفل الأقصى بصورة حية.. والتساؤل هنا: هل الأمر مقصور على باب المغاربة، أم أنه حلقة ضمن حلقات مؤامرة أوسع وأكبر تهدف لوضع أسس وركائز إعادة بناء الهيكل المزعوم تسبق عملية هدم الأقصى؟
فالمقطوع به أن قضية بناء الهيكل هي القضية الجوهرية في حياة اليهود وعقيدتهم؛ والدليل على ذلك ما قاله زعيمهم (دافيد بن جوريون) أول رئيس وزراء لدولة «إسرائيل» من أنه «لا معنى لقيام دولة (إسرائيل) دون القدس، ولا وجود للقدس من دون الهيكل» . فقد أكدت مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية، بعد جولة ميدانية وثَّقتها بالصور الفوتوغرافية للمنطقة الوسطى للجدار الجنوبي للمسجد الأقصى الواقعة حيث الحائط الخارجي للمدرسة الخنثنية (صورة رقم 2 تشقق 1+2) وجود تشققات خطيرة في الجدار الجنوبي، وهو الأمر الذي يستدعي الترميم والإصلاح الفوري، ورصدت المؤسسة، في جولتها الميدانية، وجود تشققات عدة وفي مواقع متفرقة في الجانب الغربي والشرقي للحائط الخارجي للمدرسة الخنثنية في أوسط الجدار الجنوبي للمسجد، كما رصدت بدايات لانهيار ترابي في أسفل المنطقة الوسطى للجدار، وشددت من خلال رصدها على خطورة الوضع وخاصة أنّ الاحتلال الذي يسيطر على الموقع قام بنصب سياج حديدي في المنطقة، ونصب لافتة يحذّر فيها من الاقتراب من الموقع لخطورته، كما رصدت المؤسسة أن الموقع مهمل بالكامل؛ حيث تعتليه الأشجار وتتناثر فيه الحجارة، وحذرت من خطورة الوضع الحالي في المنطقة الوسطى للجدار الجنوبي للمسجد، بعد عدة تشققات في جانبي الحائط الجنوبي الخارجي للمدرسة الخنثنية وبدايات انهيار ترابي في موقع منه.
ü الاحتلال يمنع من ترميم الجدار:
أكد (الشيخ محمد حسين) خطيب المسجد الأقصى أنّ الاحتلال يمنع منذ سنوات عديدة دائرة الأوقاف من ترميم الموقع المذكور؛ لأنّ ترميمه يقتضي نصب سلالم (صقائل) في الجهة الخارجية. ومع الأسف فإن العدو الصهيوني يمنع الأوقاف من أن تنصب هذه (الصقائل) على هذا الجدار لإجراء الترميمات اللازمة، مع أنّ هناك خطورة نتيجة العوامل الطبيعية، وأن الاحتلال يتحمّل كافة النتائج المترتبة على انهيار هذا الجدار، لا سمح الله. وقد حذر رئيس الهيئة الإسلامية العليا خطيب المسجد الأقصى المبارك (الدكتور عكرمة صبري) من عواقب الحفريات في الجدار الجنوبي الخارجي للأقصى وما فيه من تصدعات وشقوق، وقال: «إنّ سبب التصدعات هي الحفريات التي يقوم بها العدو الصهيوني المحتل حول السور وأسفل المسجد الأقصى؛ وفي الوقت نفسه، يمنع الاحتلال دائرة الأوقاف الإسلامية من ممارسة حقها في الترميم والصيانة لهذا الجدار وللجدار الشرقي وللمدرسة الخنثنية» (صورة رقم 3) محملاً هذه السلطات المسؤولية عن أي أضرار تلحق المسجد الأقصى ومرافقه وأسواره.
\ هل الأقصى حقاً في خطر؟
مع تصاعد المد الديني الأصولي الأمريكي المؤيد لليهود والداعم لفكرة هدم الأقصى وإقامة الهيكل وتحقيق الحلم الصهيوني، والإجراءات التي تتخذها السلطات الصهيونية من أجل تغيير المعالم الجغرافية والديموغرافية للقدس، وتغيير المعالم الأثرية والدينية للمسجد الأقصى لم يجد اليهود ومَنْ وراءهم أن يفصحوا عن أهدافهم؛ ففي أوائل العام 1989 نشرت مجلة التايم الأمريكية تحقيقاً تحت عنوان: «هل آن أوان بناء هيكل جديد؟» وكما هو واضح فالعنوان اللئيم يحمل على الغيظ والحنق الشديدين خاصة أن عنواناً فرعياً آخر جاء تحت العنوان الرئيسي يضيف: «إن اليهود التقليديين يأملون في تشييد بنائهم المقدس؛ لكنَّ مسجداً وقروناً من العداء تقف في طريقهم» . وقد قالت المجلة: «إن إعادة بناء الهيكل لم تكن قضية مثارة إلى أن استولت «إسرائيل» في عام 1967م على ـ ما أسمته المجلة ـ: «جبل الهيكل» وإن «إسرائيل» نظراً لحرصها على صون السلام واصلت السماح للمسلمين بإدارة الموقع، غير أن المسلمين لا يسمحون ـ كما تقول المجلة ـ ليهودي أو مسيحي بإقامة شعائر الصلاة علناً على الأرض المقدسة في جبل الهيكل، ولم يُبْدوا أدنى استعداد للسماح ببناء أبسط معبد يهودي أو كنيسة؛ فأقل إشارة إلى موضوع إعادة بناء الهيكل تثير استفظاع «أتباع النبي» الذين عقدوا العزم على الدفاع عن المقدسات الإسلامية إلى آخر قطرة من دمائهم.
فكل ما سبق من مؤشرات يجعلنا نجزم بكل تأكيد أن الأقصى في خطر، وأن ساعة العمل قد دقت لتكوين جبهة عربية إسلامية مسيحية للتصدي للدسائس «الإسرائيلية» وإلا فإن الأسوأ قادم لا ريب فيه.
__________
(*) أستاذ الجغرافيا، جامعة الأقصى، فلسطين، غزة.(235/25)
هل بدأ العد التنازلي لهدم المسجد الأقصى
ليقام مكانه هيكل سليمان المزعوم؟
د. محمد مورو
هدْمُ الأقصى وإقامةُ هيكل سليمان المزعوم عقيدة صهيونية ونصرانية بروتستانتية في إحدى تفسيراتها التي تسمى (النصرانية الصهيونية) ، وهي تقوم على خرافة معينة ترى أن إقامة (إسرائيل الكبرى!) وهدم المسجد الأقصى، وإقامة هيكل سليمان المزعوم هو مقدمة ضرورية لظهور السيد المسيح ـ عليه السلام ـ ليبدأ ما يسمى لديهم بـ (الألفية السعيدة) ؛ فيخوض معركة (هرمجدون) ضد الأشرار، ويقضي على المسلمين واليهود (نعم! اليهود أيضاًً) ؛ ومن ثم فإن دعم إقامة ما يسمى بـ (إسرائيل) والتمكين لها هو جزء من إرادة الرب لدى هؤلاء. وقد استفادت الدولة الصهيونية كثيراً من تلك الأسطورة الخرافية، واستغلتها تماماً في الحصول على الدعم النصراني البروتستانتي، وخاصة أن التابعين لتلك الأسطورة لديهم نفوذ كبير، ومنهم كثير ممن يُسمَّون بالمحافظين الجدد، ولهم تأثير على الرؤساء الأمريكيين والكونجرس، كما أن لهم وسائل إعلام قوية ونفوذاً سياسياً واقتصادياً كبيراً جداً داخل الولايات المتحدة. وهكذا يجب أخذ الموضوع بجدية، خاصة أن هذه ليست المحاولة الأولى للمتطرفين اليهود لمحاولة الإعداد لهدم المسجد الأقصى؛ فقد تمت من قبل حفريات تحت أساسات المسجد بهدف خلخلته. وآخر ما يمكن رصده في هذا الصدد؛ هو قيام الجرافات الصهيونية بهدم سور خشبي وغرفتين قرب حائط البراق، وذلك بعد أيام من الكشف عن نفق جديد يجري حفره أسفل ساحة الأقصى. وقد تراوحت ردود الفعل العربية والإسلامية والفلسطينية بين ضعيف ومتوسط، وصدرت بيانات استنكار، دون أن يكون هناك موقف عربي إسلامي واضح وقوي لوقف هذه العملية الخطيرة، ولا يمكن بداهةً الاعتمادُ في هذا الصدد على جهود الشعب الفلسطيني، الذي يهبُّ دائماً لنصرة الأقصى ومنع المخطط الصهيوني رغم أنه أعزل من السلاح والإمكانيات. وكانت العديد من الانتفاضات الفلسطينية قد اندلعت بسبب موضوع المسجد الأقصى وحائط البراق؛ بدءاً من عام 1929م (هبَّة حائط البراق) ، وانتهاءً بالانتفاضة الأخيرة. وفي الحقيقة إن موضوع هدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان (المزعوم) يحتوي على الكثير من التفاصيل والأحداث، والفعل وردود الفعل التي تستحق الرصد والاهتمام.
\ هدم الأقصى عقيدة صهيونية نصرانية:
التخطيط لهدم المسجد الأقصى ليس وليد هذه اللّحظة؛ بل هو عمليّة قديمة جديدة تتكرّر وسوف تتكرّر؛ لأنّها جزءٌ لا يتجزّأ من العقيدة الصّهيونيّة، وهي عقيدة لا تخصّ اليهود الصّهاينة وحدهم؛ بل تخصّ قطاعاً كبيراً من المسيحيّة البروتستانتية (النصرانية الصّهيونيّة) ؛ ذلك أنّ تلك العقيدة المزعومة يؤمن أتباعها أنّ من شروط عودة المسيح ووقوع معركة (هرمجدون) للقضاء على الأشرار (المسلمين تحديداً، واليهود أيضاً) ، وبداية ما يسمّى الألفية السعيدة..، إنّ من شروط ذلك هدم المسجد الأقصى، وإقامة هيكل سليمان في مكانه؛ حيث يعتقد هؤلاء أنّ أساسات هيكل سليمان تقع تحت المسجد الأقصى. وهكذا فنحن أمام قوى يهوديّة صهيونيّة، ونصرانية بروتستانتيّة متصهينة، والأخيرة لها أتباع كثيرون في الدول البروتستانتية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكيّة، وبريطانيا، وأستراليا. وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فإنّ هناك داخل الولايات المتحدة نفوذاً قويّاً لتلك العقيدة، وهناك كنائس تنصير بذلك، وتدعو إليه، وتجمع من رعاياها المال اللازم لتمويل عمليّة هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل، ودعم دولة العدو الصهيوني سياسيّاً وإعلاميّاً كجزءٍ من تحقيق شروط عودة المسيح المزعومة؛ كما تتمتع هذه الجماعة بنفوذٍ قويّ داخل الحزب الجمهوريّ في الولايات المتحدة، ويتعاطف معها بصورة ضخمة رموز اليمين الأمريكي المحافظ من (ديك تشيني) إلى (دونالد رامسفيلد) إلى الرئيس (بوش) ذاته، وكان الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريجان) يؤمن مباشرة بتلك العقيدة المزعومة. كما تمتلك تلك الجماعة قنوات تلفزيونيّة وإذاعيّة وصحفاً، ويتبعها عددٌ كبير من القساوسة أمثال: (باث روبرتسون) والمدعو الأب (جراهام) وغيرهما.
وهكذا فنحن أمام تهديد جديٍّ مهما كان غريباً ومتطرّفاً لهدم المسجد الأقصى، الأمر الذي يستدعي تحرّكاً شعبيّاً وحكوميّاً، عربيّاً وإسلاميّاً.
محاولات هدم المسجد الأقصى بدأت منذ عام 1969م، أي بعد عامين فقط من الاحتلال الصهيوني لمدينة القدس؛ مما يؤكّد مدى تغلغل هذه الفكرة في العقل الصهيونيّ النصراني واليهوديّ على حدٍّ سواء، وقد كانت المحاولة الأولى لحرق المسجد الأقصى عن طريق البروتستانتي الأسترالي (مايكل روهان) في 21/8/1969م، ونلاحظ هنا أنّ ذلك الشخص ليس يهوديّاً ولا صهيونياً؛ بل كان نصرانياً بروتستانتيّاً أسترالياً، وقد تمّ القبض عليه واعترف بالجريمة إلا أنّ المحكمة الصهيونية أصدرت أمراً بإطلاق سراحه بدعوى أنّه مصابٌ بنوعٍ من الجنون المتقطع، وأنّه أثناء المحاولة كان واقعاً تحت سطوة إحدى نوبات الجنون هذه. وقد تكرّرت المؤامرات لحرق أو هدم المسجد الأقصى بعد ذلك مرات كثيرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر: تآمر عدد من أتباع (عُصبة الدّفاع اليهوديّة) عام 1980م بقيادة (مائير كاهانا) و (باروخ جرين) وخطّطوا لنسف المسجد الأقصى، وفي عام 1982م خطّطت جماعة سريّة صهيونيّة مكوّنة من (27) شخصاً بقيادة (يهودا عتسيون) لنسف المسجد الأقصى، وعددٍ آخرَ من المساجد في القدس المحتلة، وقد أُلقي القبض على هؤلاء وسرعان ما تمّ إطلاق سراحهم. ولا يزال (يهودا عتسيون) حتى اليوم يحرّض علناً على نسف المسجد الأقصى. وفي عام 1989م قامت مجموعة من جماعة (غوش أمونيم) باقتحام المسجد الأقصى. وهذه المحاولات (محاولات اقتحام المسجد الأقصى) تتمّ سنويّاً، وخاصة في الذكرى السنويّة لهدم هيكل سليمان المزعوم. كما قام في الإطار ذاته (أرييل شارون) قبل أنْ يصبح رئيساً للوزراء، بدخول المسجد الأقصى عام 2000م، وقد قامت الحكومة الصهيونية وقتها بحراسته بِـ (300) جندي صهيوني، وقد كانت هذه المحاولة سبباً في اندلاع انتفاضة الأقصى الفلسطينيّة المباركة.
ونلاحظ هنا أنّ المؤسّسة الرسميّة الصهيونية، والتي لم تطلق بعدُ إشارة البدء في هدم المسجد الأقصى؛ على أساس أنّ الظروف لم يتمّ إعدادها بعد في إطار حسابات معيّنة؛ إلا أنّ تلك المؤسّسة تطرح حالياً فتح المسجد الأقصى لزيارة اليهود والصلاة فيه لليهود، على غرار ما يحدث في الحرم الإبراهيمي بالخليل، الذي فُرض عليه التقسيم الوظيفي؛ فتحول إلى جامع وكنيس معاً، أي تجرى فيه الصلاة للمسلمين واليهود على حدٍّ سواء. كما أنّ المؤسّسة الرسميّة الصّهيونيّة تقوم من وقت لآخر بعمل ضربات وأنفاق ومشروعات مشبوهة حول المسجد الأقصى وتحته؛ بهدف زعزعة أساساته؛ تمهيداً لهدمه أو سقوطه من تلقاء نفسه، كما أنّ تلك المؤسّسة الرسميّة قد قامت بضمّ القدس رسميّاً بكاملها إلى دولة (العدو الصهيوني) عقب احتلالها مباشرة. كما كثّفت عمليّات الاستيطان الصهيوني فيها وحولها لإنشاءِ مستعمراتٍ، وهدم بيوت الفلسطينيّين فيها، ومضايقتهم، ودفعهم إلى ترك القدس، وتغيير الطبيعة السكانيّة للمدينة، وطمس المعالم الإسلاميّة والنصرانية فيها بهدف تحويلها إلى الطابع اليهودي، وهذا كله في إطار هدم المسجد كمحصِّلة ونتيجة، ومن ثم بناء الهيكل المزعوم!
ويعترف الصهيوني (شاحر زليغر) أنّه يوجد حاليّاً عدد من المنظّمات الصهيونية متفقة فيما بينها على تدمير كل مساجد القدس بما فيها المسجد الأقصى، وذلك بهدف تدمير المساجد، وقتل أكبر عدد من المصلّين في الوقت نفسه.
وفي الإطار ذاته تأسّست ما يسمى بِـ (جماعة أبناء الهيكل) عام 1988م، وحصلت على ترخيص رسميّ صهيوني بممارسة نشاطها تحت مسمى (مؤسّسة العلوم والأبحاث وبناء الهيكل) ، وكان مؤسّسها هو (يسرائيل أرييل) . ويقوم أعضاء هذه الجماعة المشبوهة حالياً بجمع وإعداد المواد اللازمة الخاصّة ببناء الهيكل، وقد أعدّت الجماعة رسماً تخطيطيّاً للهيكل المزمع إقامته مكان المسجد الأقصى. ويرى هؤلاء ضرورة هدم المسجد الأقصى عاجلاً أو آجلاً؛ لأنّ هيكل سليمان ـ حسب زعمهم ـ يقع تحته مباشرة، ويقول زعيم تلك الجماعة الحاخام (مناحم مكوبر) : «إنّه في كل الأحوال وتحت أي ظروف سوف يتمّ بناء الهيكل، وسوف يتمّ هدم المسجد الأقصى. وإنّه في الوقت الذي سنحصل فيه على الضّوء الأخضر سيتمّ بناء الهيكل خلال بضعة أشهر فقط باستخدام أحدث الوسائل التقنية، وأنّ المساجد الموجودة في تلك المنطقة ـ بما فيها المسجد الأقصى، وقُبّة الصخرة ـ هي مجرّد مجموعة من الأحجار يجب إزالتها» !(235/26)
الشيخ رائد صلاح للبيان
الاعتداءات على المسجد الأقصى بدأت منذ 1967م واستمرت حتى اليوم
الكيان هدم 1200 مسجد في فلسطين
حوار: نائل نخلة
أكد الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948م في حوار مع مجلة البيان أن الكيان الصهيوني يخطط لتدمير المسجد الأقصى المبارك بعد تفريغه من الداخل.
وأضاف فضيلته وهو من يعرفه أهل فلسطين بـ «رجل الأقصى» قائلاً: إن دولة الكيان الصهيوني دمرت منذ عام 1948م أكثر من 1200 مسجد في فلسطين التاريخية.
ويعتبر الشيخ رائد صلاح عمليات الحفر الصهيونية المستمرة أسفل أساسات المسجد الأقصى بشكل عام والحفريات الحالية في باب المغاربة بشكل خاص تمثل حلقة من مسلسل طويل يستهدف التاريخ والعقيدة الإسلامية.
وفي حديث للشيخ رائد صلاح أمام المعتصمين والمتضامنين في وادي الجوز قال: «إننا رصدنا تحركات المؤسسة الصهيونية في منطقة باب المغاربة، لنكشف وبشهود عيان كُثر أن المؤسسة الصهيونية باتت تُدخل في بعض الليالي الجرافات الكبيرة التي تهدم وتدمّر طريق باب المغاربة في الليل ثم تنسحب قبيل ساعات الفجر، كما حدث منذ أيام حيث دخلت جرافة كبيرة وشاركت في هدم طريق باب المغاربة في ساعات الليل وانسحبت قبيل الفجر، إنهم يعملون كخفافيش الليل، ويضيفون دماراً على دمار» .
وفيما يلي الحوار الذي أجرته مجلة البيان مع الشيخ رائد صلاح حفظه الله:
^: الحفريات التي تقوم بها سلطات الاحتلال مؤخراً في باب المغاربه، ما هي خطورتها؟
| الذي يحدث في طريق باب المغاربة ليس حفريات أبداً، إنما هي عملية هدم ممنهجة، في جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك يسمى الطريق الموصل إلى باب المغاربة، ويشمل هذا الاعتداء هدم غرف تاريخية حضارية تعود إلى العهود الأموية والأيوبية والمملوكية، إلى جانب هدم غرفتين من المسجد الأقصى في منطقة حائط البراق، ويخطط الاحتلال أيضاً في هذا السياق إلى تحويل مسجد البراق إلى كنيس يهودي، وكل هذه المخططات موثقة لدينا بواسطة خرائط كشفناها ووصلت إلينا.
إن ادعاء سلطات الاحتلال الصهيوني بأن ما يجري في باب المغاربة مجرد عمليات ترميم، هو قول وقح وكاذب ومضلل، وهو سياسة إعلامية دأبت عليها المؤسسة الاحتلالية للتغطية على جرائمها الطويلة؛ فبعد كل جريمة تصطنع رواية كاذبة وهو ما يتم الآن.
^: صحيفة هآرتس نشرت خبراً مفاده أن سلطات الاحتلال أزالت آثار مسجد اكتشفته اثناء الحفريات في باب المغاربة، لماذا كان ذلك برأيك؟
| هذا المسجد يعود للعهد الأيوبي، وقد كان جزءاً من مدرسة إسلامية تدرِّس الشريعة تسمى «المدرسة الأفضلية» وبقيت محفوظة بسبب موقعها تحت الطريق المؤدي إلى باب المغاربة، ووجودها موثق لدى هيئة الأوقاف الإسلامية، إلا أنه لم يتم الكشف عن مكان وجودها بالتحديد إلا بعد ظهور عمليات الهدم الأخيرة.
وتأكيد سلطات الاحتلال وأحد المؤرخين الصهاينة أن هذا المصلى سيكون ضمن دائرة الهدم التي شرعت بها سلطات الاحتلال يعزز من مطلبنا بوقف جرائم الهدم المتواصلة، والتي لم نعد نعلم إلى أي مرحلة وصلت بالتحديد بسبب الحظر المفروض على المنطقة ومنعنا من الوصول إليها أو الاطلاع على ما يجري هناك.
^: ما هو السيناريو الذي يخطط له الصهاينة من وراء هذه الحفريات في منطقة المغاربة برأيك؟
| تبعاً للمعلومات المتوفرة لدى مؤسسة الأقصى، فإن سلطات الاحتلال لديها مخطط يقوم على بناء جسر ضخم يسمح بمرور سيارات عسكرية وشاحنات وجرافات إلى باحات المسجد الأقصى مباشرة، كما ينفذ بناء هذا الجسر بشكل يسمح بدخول 300 جندي صهيوني دفعة واحدة وفي آن واحد معاً إلى المسجد الأقصى.
وهذا يعني أن هناك خطة مبيتة وخطيرة للهجوم على الأقصى من الداخل، وتمكين جيش الاحتلال والمستوطنين من اقتحامه بصورة سهلة.
وأود أن أقول لك: إن الجرافات الصهيونية تقوم بهدم طريق باب المغاربة في ساعات الليل المتأخرة بعيداً عن الأعين وتنسحب قبيل الفجر خلسةً، على حين تزيد كل يوم من أعداد العاملين الذين يقومون بهدم طريق باب المغاربة بالأدوات الخفيفة، ويُخرِجون مئات أكياس الأتربة والأحجار الأثرية التي تضمّها طريق باب المغاربة، يأتي هذا الكشف في ظل مواصلة المؤسسة الصهيونية وعلى مدار 19 يوماً بهدم جزء من المسجد الأقصى المبارك المتمثل في هدم طريق باب المغاربة وغرفتين من المسجد الأقصى المبارك.
^: أين تنقل سلطات الاحتلال الآثار التي تستخرجها من طلعة باب المغاربة، وماذا تفعل بها؟
| نقوم حالياً بالبحث في موضوع سرقة الآثار الإسلامية والأحجار التاريخية التي يتم هدمها في باب المغاربة، ونعد بالكشف عن أي محاولة من هذا النوع في حال التثبت من حدوثها، ولكننا نؤكد أننا حتى اليوم لا نعرف إلى أين يتم نقل الآثار والحجارة والأتربة المهدومة.
^: الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني في غزة وبدء الحفريات كانا بشكل متزامن؛ فهل من رابط برأيك بينهما؟
| الاعتداء على المسجد الأقصى ليس جديداً؛ وهذا أمر من المهم أن يفهمه العالم، بل بدأ منذ الاحتلال الصهيوني للقدس عام 1967م واستمر حتى اليوم ولكن بوتيرة وأساليب أشد، ولكن الفتنة الفلسطينية الداخلية بلا شك جرأت المؤسسة الاحتلالية على مضاعفة هجمتها في تهويد القدس والمقدسات فيها، وضاعفت أساليب تدمير مباني المسجد الأقصى. ونحمد الله أن الفتنة انتهت؛ كما نبارك اتفاق مكة وندعو إلى تمتينه واعتماد أسلوب الحوار على الدوام لتفويت الفرصة على الاحتلال كي يمرر مخططاته الإجرامية.
^: الرد العربي والإسلامي كان ضعيفاً على هذه الحفريات على الرغم من خطورتها، هل يقدم هذا إشارة قوية لسلطات الاحتلال للمضي قُدُماً في مخططاتها؟
| إن الذي يقع في الأقصى هو كارثة بكل معنى الكلمة، وقد كنا نطمح أن يكون رد الفعل الإسلامي والعربي على مستوى هذه الكارثة التي يمر بها المسجد الأقصى، لكننا حتى اليوم لم نيأس، ولا نزال متفائلين بتحرك إسلامي عربي، وعلى كافة الصعد الرسمية والشعبية والإعلامية.
أما عن سبب ضعف التجاوب مع نداء النفير الأخير من أجل الأقصى؛ فليس سراً أن الحاضر العربي والإسلامي يعاني من حالة «وهن مؤقت» انعكس في صورة ضعف الموقف السياسي والعسكري، وأدى إلى أن حقوق العرب والمسلمين عامة، وخاصة في المسجد الأقصى باتت مهددة ومعتدى عليها ومحاصَرة.
لكن هذه الحالة الراهنة التي يمر بها العرب والمسلمون ليست سوى حالة مؤقتة، ولا بد أنها ستزول وتستبدل بالموقف العربي والإسلامي الأصيل المطلوب لنصرة القدس والمسجد الأقصى.
^: واضح أن سلطات الاحتلال تسعى إلى الحد من دوركم وتأثيركم في فضح ممارساتها بحق المسجد الأقصى سواء باعتقالكم أو إبعادكم عنه مئات الأمتار، كيف ستواجهون هذه المخاطر مستقبلاً؟
| لقد أكدنا منذ بداية عمليات الهدم في 6/2/2007م، أننا لن نبرح القدس، ولن نوقف اعتصاماتنا ضد الهجمة عليها مهما حاولت سلطات الاحتلال ومهما نفذت من إبعاد أو اعتقال ضدنا حتى لو وصل الأمر إلى النفي. ولا زال أمام الحركة الإسلامية طريق طويل للتصدي لجرائم الاحتلال؛ وخاصة أننا نعلم أن الأصل في جهودنا منصبٌّ على نصرة المسجد الأقصى في كل الظروف.
ومن أوجُه هذا البرنامج سلسلة من الفعاليات المحلية من اعتصامات في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 48، والمسيرات والمؤتمرات واللقاءات لحشد أكبر حماية ممكنة للأقصى، والاستمرار في تسيير القوافل للقدس، بالإضافة إلى تنفيذ سلسلة فعاليات على مستوى إقليمي ودولي، ومن المقرر أن نبدأ قريباً بزيارة عدة حكومات إسلامية وغربية لعرض مأساة المسجد الأقصى والقدس. كما أعددنا برنامج عمل للتواصل مع عدة أحزاب ومؤسسات أهلية عالمية وعربية أيضاً.
أما على صعيد أوسع، فنحن نجري اتصالات مع مؤسسات عالمية منبثقة عن الأمم المتحدة، وبخاصة منظمة اليونيسكو، ونطالبها على الدوام بالتدخل لحماية التاريخ الإسلامي في القدس، ونحثها على الضغط باتجاه وقف الاعتداءات في هذه المنطقة.
^: هل تكشف لنا عن المضايقات التي تعرضتَ لها منذ بدء الحفريات من قِبَل الكيان الصهيوني؟
| هذه الحملة ليست الأولى ضدي شخصياً أو ضد الحركة الإسلامية بعامة، وإنما تأتي ضمن سلسلة متواصلة لمحاولة كتم الأصوات المدافعة عن الأقصى والقدس؛ حيث تظن سلطات الاحتلال أن الإنسان الفلسطيني مجرد من حقه في الوقوف بوجه الظلم ونبذ سرقة تاريخه، ونحن نقول: إن هذا واجبنا بأن نُظهِر الحق ولو بكلمة، ونحن ماضون في نصرة الأقصى رغم كل التحريض الموجه ضدنا.
وبالنسبة لملاحقاتي القضائية الأخيرة، فقد صمم الاحتلال مشهداً هزلياً في محاكمة لي قررت منعي من الاقتراب أكثر من 150 متراً من أسوار البلدة القديمة في القدس لمدة 60 يوماً؛ بينما لا يزال عدد كبير من قيادات وأبناء الحركة الإسلامية يتعرضون لملاحقات قانونية بسبب اعتصامهم ضد عمليات الهدم في المسجد الأقصى.
^: هل حقاً تستخدم سلطات الاحتلال مواد كيماوية في عمليات الحفر تحت أساسات المسجد الأقصى المبارك، وما هي تأثيراتها؟
| لقد توافرت لدينا معلومات رسمية من منظمة اليونيسكو تفيد بأن الاحتلال يستخدم حوامض كيميائية أثناء حفره للأنفاق في منطقة المسجد الأقصى المبارك، ومؤخراً اكتشفنا أن الصخور التي يتم تدميرها في منطقة باب المغاربة تتم بالطريقة ذاتها، ويتم نقلها إلى منطقة الصوانة القريبة، وهناك يتم فحصها وتخضع لدراسات، في محاولة خاسرة لإيهام أنفسهم بأنهم قد يجدون ما يدعم روايتهم الكاذبة بوجود آثار لهم تحت المسجد الأقصى.
^: ما هي صورة الاعتداءات الصهيونية على الأوقاف والتاريخ الإسلامي في فلسطين التاريخية، بحسب ما وثَّقته مؤسستكم؟
| هذه اعتداءات ليست جديدة، ومستمرة منذ نكبة فلسطين الكبرى عام 1948م، ولا تزال المؤسسة الصهيونية تصادر منذ ذلك الحين الأوقاف الإسلامية التي تشكل نسبتها 1/16من مساحة فلسطين التاريخية.
ومنذ بدء العدوان عام 48 هدمت سلطات الاحتلال أكثر من 1200 مسجد في أراضي الداخل الفلسطيني فقط، وما بقي منها قامت سلطات الاحتلال بتحويلها إلى مطاعم وخمارات وحظائر لتربية المواشي، إلى جانب تجريف آلاف المقابر الإسلامية وإقامة الفنادق والشوارع والمجمعات الإسكانية لإيواء اليهود القادمين من شتى أنحاء العالم.
وفي مواجهة هذه الاعتداءات، نقوم من خلال (مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية) بإعادة بناء وتعمير عشرات المساجد التي دمرها الاحتلال، إلى جانب إنقاذ عدد كبير من المقابر وترميمها وصيانتها، بعد أن كادت تزول بفعل الاعتداءات عليها وإهمالها. كما تنفذ مؤسسة الأقصى مسحاً شاملاً لكافة المعالم الإسلامية المقدسة في فلسطين، والتعرف على ما بقي منه من النكبة، وتقوم بإصدار نشرات دورية عنها وأفلام وثائقية للتعريف بمأساتها.
وعلى الرغم من أن مجهود هذه المؤسسة ودعمها يأتي من الداخل الفلسطيني، غير أن بعض الدعم حصلت عليه في حين من الأحيان من مؤسسات عربية وإسلامية مثل البنك الإسلامي للتنمية، ولا زلنا نرحب بأي مبادرة لدعم هذا التاريخ في مواجهة الحملة الصهيونية المسعورة لطمسه.
^: ماذا يقترح الشيخ رائد صلاح لمواجهة المخططات الصهيونية ضد التاريخ الإسلامي في فلسطين بشكل عام والحفريات تحت المسجد الأقصى بشكل خاص؟
| هذا أمر هام جداً، يجب اعتماد وسيلة لملاحقة وملاحظة كافة الاعتداءات التي تجري في القدس من قِبَل سلطات الاحتلال، ولذلك طالبنا نحن في الحركة الإسلامية بتشكيل فريق أو هيئة إعلامية تحت مسمى «إعلاميون من أجل القدس» تختص بمتابعة كافة المجريات في المدينة المقدسة، وكشف الممارسات الاحتلالية والاعتداءات المستمرة عليها، ونقل كل ذلك إلى العالم، ونحن في مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية وفي الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني على أتم الاستعداد لدعم هذه الهيئة بكافة السبل.(235/27)
236 - ربيع الآخر - 1428 هـ
(السنة: 22)(236/)
مسارات فضائية
صالح عبد الله الجيتاوي
الإعلام الفضائي العربي يتضخم بصورة متصاعدة عاماً بعد عام، ومع انخفاض تكاليف البث والإنتاج أصبحت الفضائيات تتجاوز المئات، وفي قائمة الانتظار سلسلة طويلة منها!
والسؤال الجدير بالمناقشة: ما الرسالة الإعلامية التي تحملها هذه الفضائيات؟
ما الرصيد الفكري والثقافي الذي تسعى لنشره؟
لا نجافي الحقيقة ـ مع الأسف الشديد ـ إذا جزمنا أن أغلب تلك القنوات تحمل رسالة وضيعة لا تتجاوز الغناء والرقص، وإشاعة الرذيلة الأخلاقية، والفجور الفكري؛ لكن الجديد في هذا الغثاء الفضائي انطلاق فضائيات متخصصة في ألوان جديدة من الإفساد والتحريف، منها:
أولاً: الفضائيات التنصيرية: وقد أصدرت البيان مؤخراً كتاباً بعنوان: (الفضائيات العربية التنصيرية) درس بعض القنوات، ورصد أساليبها، وحلل خطابها بموضوعية علمية.
ثانياً: الفضائيات الشيعية: التي ارتفع صوتها الطائفي في العراق خصوصاً، وأسقطت بعضُها عقيدة (التَّقِيَّة) وراحت تجهر بعدائها وسقوطها العقدي.
ثالثاً: قنوات السحر والشعوذة والدجل: والغريب كل الغرابة أن هذه القنوات تعبث بالدين وتهزأ بالعقل، وتستغل الجهلة والسُّذَّج، ومع ذلك تجد الدعم والتسهيل!
رابعاً: قنوات ما يسمونه بالإسلام (الوسطي!) أو إن شئت سمِّه (الفكر العصراني المتأمرك) الذي يسعى إلى مسخ الهوية، وتجريدها من القيود والحدود الشرعية.
وفي ظل هذه الغياهب المظلمة بدأت تظهر ـ ولله الحمد والمنة ـ عدد من القنوات الإسلامية الأصيلة التي ترعى حرمات الشريعة، وتذبُّ عن الدين وتعرِّف به، لكنها أحوج ما تكون إلى التسديد الفكري والعون المادي والفني.
وها هنا يزداد الإلحاح على ضرورة التخطيط الإعلامي، وصناعة رؤية إعلامية ناضجة تواجه ذلك الركام المتهالك من الفضائيات الرخيصة، والحرص على دعم المبادرات الفضائية(236/1)
قمة الانحطاط آخر صيحات الهذيان الأمريكي
صالح عبد الله الجيتاوي
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لا يزال كفار أهل الكتاب، ومن شايعهم من المنافقين والمرتدين، في حيرة من أمر هذا الدين؛ فهم إذ يعجزون عن فهم خاصية البقاء والخلود والحفظ فيه؛ يظنون أنه قابل للتحويل والعبث والتحريف مثلما أحدث اليهود والنصارى في دينهم.
وفي محاولات أعداء الإسلام الدائبة لتغيير جوهره ومخبره، لم يُغفِلوا السعي أيضاً لتغيير اسمه ووصفه ومظهره. وهؤلاء الذين ارتابوا في دينهم، حتى لم يُبقوا فيه على شيء من الثوابت، أرادوا أن ينقلوا ريبتهم وشكَّهم إلى دين الإسلام؛ دين اليقين والحق المبين: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] ، وبدلاً من أن ينظروا فيه نظرة إنصاف وتعقُّل، لعلهم يتقون أو يُحدِث لهم ذكراً، نراهم في غيِّهم يترددون: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55] . إنهم، من أجل أن يهيئوا الإسلام لإجراء عمليات التغيير والتحوير، يجردونه من كل أوصاف القدسية والتعظيم، عدا صفة واحدة يحافظون على وصفه بها تحايلاً ومكراً، وهي صفة (التسامح) ..!
ولأن الإسلام دين التسامح؛ فلا بد أن يتسامح مع كل وصف وكل صنف من الأفكار والأقوال والأفعال. أما الأقوال والأفعال فلا بد أن يتسامح الإسلام مع كل قول مهما كان منكراً، ومع كل فعل مهما كان شاذاً. وأما الأفكار؛ فالإسلام (المتسامح) كان مطلوباً منه أن يكون (سمحاً) حتى مع أفكار اليسار الشيوعية الملحدة؛ ليكوِّن معها هجيناً لعيناً اسمه (اليسار الإسلامي) ، وكذا لا بد أن تتسع سماحته اليوم لتتآخى مع رأسمالية الغرب الليبرالي الفاجرة، ليخرج علينا أقوام بمسمى (الإسلام الليبرالي) الذي يدعو إلى (الإسلام المدني الديمقراطي) أو (الإسلام العصري) .
كثيراً ما سمعنا في السنوات الأخيرة عن أُطروحات مثل (الإسلام الحضاري) .. (الإسلام التنويري) .. (الإسلام الإصلاحي) .. (الإسلام الوسطي) .. إلخ، ولكن أكثر ما يثير خليطاً من مشاعر الازدراء والغيظ والغثيان في آن، هو إطلاق الأمريكيين لما أسموه: تيار (الإسلام العلماني) !
إنها حقاً آخر صيحات هذيان الأمريكان.. إسلام علماني!
إننا نعلم أن العلمانية ترادف اللادينية؛ فهل يريد الأمريكيون إسلاماً لا دينياً..؟ نعم! وهل يمكن أن يجدوا من يوافقهم على هذا..؟ نعم!
لقد تبنّت جهات متنفذة في الإدارة الأمريكية الحالية الدعوةَ لعقد مؤتمر (قمة) بغرض (إصلاح) الإسلام وعلمنته! وإطلاق حركةٍ أو ثورة مشابهة لحركة (الإصلاح الديني) التي ثار فيها القس (مارتن لوثر) ضد الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، ليشقها وينشئ مذهباً جديداً أقرب لليهودية منه للنصرانية؛ وهو المذهب البروتستانتي. ويبدو أن هؤلاء المتنفذين في الإدارة المهزومة عسكرياً، يريدون إحراز اختراقات فكرية، وإنشاء (بروتستانتية إسلامية) تكون أيضاً أقرب لليهودية منها للإسلام، ويدل على ذلك أن تيار المحافظين الجُدد المشهور بغالبيته اليهودية، والشريك الحليف للإدارة اليمينية الإنجيلية، يمثِّلون الجهة التي تقف وراء عقد ذلك المؤتمر المشبوه.
لقد عُقد المؤتمر بالفعل في يومي 5 ـ 6 مارس/ آذار 2007م في مدينة بطرسبرج بولاية فلوريدا الأمريكية تحت اسم (القمة الإسلامية الإصلاحية) . أما هدفة المعلن فهو: (تفسير القرآن وصياغة الإسلام من منظور علماني) . وقد نظَّم المؤتمر وموَّله معهد (إنترابرايز) الذي يُعدّ معقلاً فكرياً لتيار المحافظين اليهود الجدد، بالاشتراك مع فرعه في أوروبا المعروف بـ (المعهد الأوروبي الديمقراطي) . أما الحضور فهم خليط من الطوائف الصهيونية الثلاثة: صهاينة اليهود، صهاينة النصارى، وصهاينة العرب، وبعض أولياء اليهود المتسمّين بأسماء المسلمين، وقد اعتبر هؤلاء أنهم يمثلون (القمة) التي ستتولى (إصلاح الإسلام) ، وتحويله إلى دين عقلانيٍّ يلائم العصر؛ عصر الأمركة أو المهلكة الأمريكية. فمن المضيفون والمستضافون في مؤتمر القمامة هذا؟
3 حضر المؤتمر لفيف من عتاة رموز اليهود في تيار المحافظين الجدد، أبرزهم:
ـ (وليام كريستول) ابن (أرفنج كريستول) أبرز مؤسسي تيار المحافظين الجدد. أما ابنه وليام فهو المسؤول الحالي عن هذا التيار، وهو يشغل رئاسة تحرير مجلة (ويكلي ستاندرد) الأسبوعية، لسان حال تحالف المحافظين الجدد مع تيار اليمين النصراني الإنجيلي، والتي يمولها الإعلامي اليهودي (روبرت ميردوخ) .
ويعد وليام كريستول واضع السياسة التي أوصلت الجمهوريين إلى السيطرة على الكونجرس الأمريكي عام 1994م، وأبرز المحرضين على غزو العراق، باعتباره المحطة الأهم في مشروع القرن الأمريكي، ويليه إيران.
ـ وشارك أيضاً (مايكل ليدين) أحد الأعضاء البارزين في المعهد اليهودي للأمن القومي، وأبرز ناشطي اللوبي الصهيوني (إيباك) ، وقد تولى منصب مستشار ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي، ويُنظر إليه على أنه مرجع دولي في شؤون الاستخبارات.
ـ وممن شاركوا في المؤتمر (فرانك جافني) وهو رمز آخر من رموز تيار المحافظين اليهود، وهو يشغل منصب رئيس مركز الدراسات الأمنية.
وهذه المشاركة الاستخباراتية في مؤتمر علمنة الإسلام، تُوِّجت بـ (قمة استخباراتية) شبه دولية، عُقدت على هامش المؤتمر المذكور، وكان الهدف المعلن منها: العمل على إنشاء تيارات مناهضة للإسلاميين من داخل البلاد الإسلامية، وهذه القمة هي القمة الاستخباراتية الثانية من نوعها التي ينظمها يهود أمريكا لذلك الغرض.
أما على الجانب الأوروبي فقد اشتركت في تنظيم المؤتمر (المؤسسة الأوروبية للديمقراطية) ؛ وهي الفرع النشط لعمل المحافظين الجدد في أوروبا.
أما (الممثِّلون) للعالمين العربي والإسلامي في تلك (الغُمَّة) فقد كانوا فريقاً متجانساً من المرتدين والزنادقة معلومي النفاق، ومنهم وعلى رأسهم:
ـ شاكر النابلسي: لسان حال ما يُعرف بتيار (الليبراليين الجدد) في العالم العربي، ذلك المناضل (الوقح) في محاربة الله ورسوله، والذي لم يترك نقيصة إلا ألصقها بالإسلام وأهله، وقد جاء مع من جاؤوا بزعم (تصحيح الإسلام) والترتيب لإصدار (تفسير علماني) للقرآن؛ حيث سوَّغ ذلك بأن أنواع التفاسير تعددت خلال التاريخ الإسلامي، ولا يوجد ما يمنع من وضع تفسير (لا ديني) أيضاً، تستخرج فيه دلالات النصوص القرآنية التي تحض على ضرورة فصل الدين عن الدولة!
وقد استغل (شاكر) ذلك المؤتمر للدعوة إلى مساندة من أسماهم بـ (دعاة الإسلام العصري) الذي يقوم على طرح واستبعاد تراث الفقهاء واستبداله بأقوال (العقلاء) ، موافقاً في ذلك زميله في الزيغ (جمال البنا) ! وكان النابلسي قد سبق المؤتمر أيضاً بإصدار كتاب عن (الليبرالية الجديدة) أورد فيه ما يراه من أوجه (التجديد) المتمثِّلة في تجريد الدين عن العقيدة والشريعة.
ـ واستضاف المؤتمر الكاتب الإيراني الأصل، المتقلب الأحوال والولاءات (أمير طاهري) وهو كاتب مكثر في جريدة الجيروزليم بوست الصهيونية، والشرق الأوسط اللندنية.
ـ ومِمَّن شاركوا في المؤتمر أيضاً المراسل الصحفي الأردني (سلامة نعمات) داعية ما يسمى بـ (ثقافة السلام) ، وكذلك (وليد فارسي) الباحث اللبناني، والعضو النشط في عدد من المؤسسات البحثية المشبوهة في أمريكا.
3 وقد شارك في المؤتمر أيضاً عدد من النسوة اللاتي قَرَّضن أصابعهن من كثرة العض عليها؛ غيظاً من الإسلام، مع أنَّهنَّ يحملن أسماء إسلامية، ومن هؤلاء:
ـ امرأة متحولة إلى النصرانية، متعاطفة مع الصهيونية، تُجري بعض الفضائيات تلميعاً لها منذ فترة، واسمها (نوني درويش) ، وهي ابنة ضابط مخابرات مصري عمل في غزة أيام الإدارة المصرية لها قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهي تتحدث علناً بأنها تفضِّل ارتياد الكنائس بعد أن كرهت المساجد، وقد أطلقت مشروعاً أسمته (عرب من أجل إسرائيل) تدعو فيه إلى إنصاف اليهود من ظلم العرب! وقد استضافتها قناة العربية لتشرح وجهة نظرها، وعندما سئلت: لماذا تركتِ الإسلام؟ قالت: «الإسلام هو الذي تركني» !
ـ استضاف المؤتمر أيضاً امرأة علمانية أخرى من سورية هي (وفاء سلطان) التي ظهرت منذ فترة على قناة الجزيرة في برنامج الاتجاه المعاكس، وقالت إنها لا تعتنق أي دين، ومع ذلك استضيفت في ذلك المؤتمر كي تشارك في (إصلاح الإسلام) .
ـ ومن النساء الداعيات إلى (إصلاح الإسلام) المرأة (إرشاد مانجي) ، التي ألّفت كتاباً بعنوان (المشكلة هي في الإسلام) ! وهي معروفة أيضاً بآرائها المعلنة في تشجيع حرية الشذوذ الجنسي.
ـ واستضاف المؤتمر أيضاً المرأة الإيرانية، الجامعة بين الأصول الرافضية والميول اليهودية (نبراس كاظمي) وهي إحدى الناشطات في مؤسسة (هدسن) الصهيونية التابعة للإنجيليين في أمريكا. وكذلك الناشطة الأمريكية من أصل إيراني (زاند بونازي) التي دعت إلى إيجاد حركة علمانية عالمية؛ لتشجيع فكرة (الإسلام العلماني) . وكذلك استضاف المؤتمر (مي أبو سنة) رئيسة قسم اللغة الإنجليزية بكلية التربية بجامعة عين شمس بمصر، المعروفة بآرائها المناهضة للدين.
وهكذا نجد أن المؤتمر قد جمع الشواذ فكرياً وأخلاقياً، مِمَّن وُصِفوا في المؤتمر بـ (المتحولين دينياً) !
فما الذي قرره هؤلاء (المتحولون دينياً) في اجتماعاتهم مع اليهود (المتجولين) للإفساد عالمياً؟
إن المؤتمرين المتآمرين خلصوا إلى نتائج حول فكرة (الإسلام العلماني) ، صاغوها في مقررات تحت اسم (إعلان بطرسبرج لإصلاح الإسلام) ، وأهمها:
1 ـ دعوة الحكومات في العالم الإسلامي إلى عدم التساهل في رفض فكرة تطبيق الشريعة؛ لأن ذلك أهم ما يناقض فكرة (الإسلام العلماني) . كما دعا هذه الحكومات إلى عدم تحريم الردة عن الإسلام؛ باعتبارها حرية شخصية.
2 ـ دعوة تلك الحكومات إلى إلغاء (كل القيود) الاجتماعية المأخوذة من الشريعة الإسلامية، وإطلاق الحرية الجنسية، ومنع العقوبات على (جرائم الشرف) ، وترك الحرية الكاملة للمرأة في ارتداء ما تشاء من الملابس، وإقامة ما تشاء من العلاقات. وطالب الحكومات بشرعنة الزواج المدني الذي لا يتقيد بأي قيد ديني، وطالبها بالمساواة التامة بين الرجال والنساء في كافة المجالات.
3 ـ دعا المؤتمر إلى توفير الحماية للشاذين جنسيّاً، وإعطائهم من الحقوق ما يُعطَى لكل أقلية، وشدد على تغيير مناهج التعليم بحيث تُلغى كل الفقرات التي تميز المسلم عن غير المسلم، وطالب بتضمين المناهج تقبيحاً لفكرة ربط الدين بالسياسة.
4 ـ الدعوة إلى إطلاق وتشجيع حركة بحثية، أكاديمية وفكرية، تملك (الشجاعة) في نقد أصول الإسلام ومصادره المعرفية.
وفي سياق الهذيان المدفوع بالهيجان ضد الدين الحق، أصدر (معهد راند) التابع للمحافظين اليهود الجدد مؤخراً، تقريراً يقترح فيه الخطوات (الواجب) اتباعها؛ للوصول إلى (الإسلام المعتدل) . وقد حوى هذا العدد من مجلة البيان عرضاً لهذا التقرير، الذي يُعد تفصيلاً لخطة (علمنة الإسلام) .
الخلاصة من هذه المؤتمرات والقرارات هي إعادة تشكيل الفكر الإسلامي؛ ليقترب أو يتطابق مع الفكر العلماني من خلال تفسير القرآن والسنَّة من منظور العلمانية ليبقى ـ كما قال المفكر العلماني محمد أركون ـ فكراً يخرج من خصوصيته ليصبح ضمن إطار نزعة إنسانية شمولية؛ وذلك عندما سئل في حوار مع موقع (الزمان الجديد) : «كيف نصل إلى الإسلام العلماني؟) وهو ما يرشح الأجواء للمزيد مما أسماه الأمريكيون (حرب الأفكار) .
إن العلمانية كفر بواح كما أجمع علماء الأمة الأثبات، وكلما قصَّر الدعاة في تقرير ذلك ونشره، سيظل العلمانيون المارقون المتأمركون ينزون كل حين كالقردة، ليقولوا: تعالوا نصلح لكم إسلامكم.. ونفسر لكم قرآنكم! قائلين: {إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فنحن الإصلاحيون الليبراليون المتنورون، وكذبوا: {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] .(236/2)
المبتدعة كيف نعرفهم.. كيف نتعامل معهم؟
د. هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
إن الله ـ تعالى ـ أرسل رسله بالبينات والهُدَى ليتبع الناس منهاجهم، ويقتفوا آثارهم، ويسلكوا طريقهم؛ وذلك أنّ هذا الدين دينٌ مبنيٌّ على الاتباع والاقتداء والتأسِّي: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] .
فمن تعبَّد لله بغير ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو مُسيء الظن به، كيف وقد كمّل الله لنا الدين، وأتمّ النعمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وإذا كَمُل الدين فكل مُحْدَثٍ فيه بعد ذلك فليس منه.
وهذا الإحداث ـ أيضاً ـ تشويه لجمال الدين وطَمْسٌ لمعالم السُّنَن، وحيلولة بين الناس وبين دينهم الصحيح، وتعرّض للفتنة والعذاب الأليم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .
وإنما سداد المنهج فيكون بالوقوف عند ما جاءت به السُّنَّة، واتباع ما أمر به نبيّنا عليه الصلاة والسلام؛ امتثالاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] ، وتأويلاً لقوله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] . والسير على هذا السبيل ابتغاء موعد الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] . وهذا هو الواجب على العبد في دينه؛ أن يتبع ما قاله الله، وما قاله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدون من بعده؛ عن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال: «وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! كأنّها موعظة مودّع، فأوصنا. فقال: اتقوا الله، وعليكم بالسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبدٌ حبشيّ، وإنّه من يعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنّ كل مدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (1) .
وإنه (من المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به النَّاس من الظُّلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردّوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بُعِث به من الكتاب والحكمة، وقد أخبر الله بأنّه أكمل له ولأمته دينهم وأتمَّ عليهم نعمته) (1) . محال أن يترك تعليمهم شيئاً مما يقرّبهم إلى ربهم وينفعهم في دينهم ـ وإن دَقّ ـ! كيف وقد عَلّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته كل شيء كما قال عليه الصلاة والسلام: «ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئاً مما نهاكم عنهُ إلا وقد نهيتكم عنه» (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على مثل البيضاءِ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» (3) .
وفي هذه الأوراق القليلة عرضٌ وبيان لمسائل متعلّقة بهذا الأصل من أصول الاعتقاد نستعرضها بشكل موجز من خلال ست فقرات أساسيّة:
أولاً: تعريف البدعة:
البدعة: اسم هيئة من: بَدَع، وهو ابتداء الشيء وصُنْعُهُ لا عن مثالٍ سابق (4) . وفي أسماء الله ـ تعالى ـ: البديع، وهو: الخالق المخترع (5) .
والعرب تقول: ابتدع فلانٌ الرَّكيّ: إذا استنبطه (6) .
قال ـ تعالى ـ: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] . أي: ما كُنت أوّل المرسلين.
والبدعة في الاصطلاح العامّ: خلاف السُّنة (7) .
وتطلق على الحدث في الدين بعد الإكمال، وما استحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأهواء والأعمال (8) .
وعلى هذا؛ فإنّ البدعة قد تكون لغويّة فحسب، فتطلق على كل مستحدث؛ كالمخترعات الحديثة مثلاً، وقد تكون في الاصطلاح العام فتطلق على كل ما خالف السُّنّة، ولو لم يكن بدعة ضلالة محرّمة؛ كمن ترك سُنّة من سنن الوضوء، فهذا يصح أن يقال عن صفة وضوئه أنه بدعة بمعنى: أنّه خلاف السُّنة وإن لم يكن مبتدعاً بالمعنى الاصطلاحي الخاص.
قال ابن الأثير: (وأكثر ما يُستعمل المبتَدَع عُرْفاً في الذمّ، أي: أنّه إذا أطلق لفظ البدعة فإنّه يراد به المذموم شرعاً) (9) .
والبدعة بالمعنى الاصطلاحي عُرّفت بعده تعريفات، منها:
ـ تعريف شيخ الإسلام ابن تيميّة ـ رحمه الله تعالى ـ بأنّها: ما خالف الكتاب والسُّنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات (10) .
ـ وتعريف الشاطبي بأنها: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعيّة، يقصد من السلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى (11) .
ومراده بتضاهي الطريقة الشرعية يعني: تشابهها.
ـ وعَرّفها ابن رجب بأنّها: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه (12) .
ـ وعُرّفت بأنها: كل تعبُّد لله على خلاف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قولاً وعملاً واعتقاداً (13) .
ـ وبأنّها: العبادة التي لم يشرعها الله سبحانه وتعالى (14) .
والجامع لكل التعريفات السابقة أن البدعة محدَثٌ ـ لا دليل عليه ـ مضاف للدين؛ سواء كان فعلاً أو قولاً أو اعتقاداً (15) .
ثانياً: حكم البدعة:
البدعة ـ بالتعريف المتقدّم ـ محرمة، قال الله ـ تعالى ـ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . فقد أخبر الله ـ تعالى ـ أن المشركين أحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله، فلم يفردوه بالتشريع: (وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صَيّر نفسه نظيراً مضاهياً لله، حيث شَرع مع الشارع، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع) (1) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ» (2) .
وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (3) .
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشَرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة» (4) . وفي رواية: «وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (5) .
قال ابن رجب: (فقوله: كل بدعة ضلالة من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين.. فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة) (6) .
وعن أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة» (7) .
وقد وردت عن الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة نصوص متكاثرة في النهي عن الابتداع وذم البدع وأهلها، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم» (8) .
وقال حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ: «اتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من قبلكم، فو الله لئن سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن تركتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً» (9) .
وقال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة» (10) .
وقال أبو إدريس الخولاني: (لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها، أحبّ إليّ من أن أرى فيه بدعةً لا أستطيع تغييرها) (11) .
في نصوص متكاثرة تفيد قاعدة شرعية وتقررها على أتمِّ وجه، وهي أنّ الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يرد الدليل الشرعيُّ عليها، فلا يُتعبَّد لله ـ تعالى ـ إلا بعبادة دَلّ الدليل عليها سواء من أصلها أو من جهة عددها أو هيئتها (12) .
قال ابن تيمية: (البدعة هي مبادئ الكفر، ومظانّ الكفر، كما أنّ السُّنن المشروعة هي مظاهر الإيمان) (13) .
ومع أن البدعة محرمة فقد تبلغ بصاحبها الكفر، فمن البدع المكفرة: اعتقاد بعض المبادئ الكفرية؛ كمقالات الفلاسفة مثلاً وكالطواف حول القبور بقصد التقرب لأصحابها ونحو ذلك، فليست البدع مع تحريمها على رتبة واحدة (14) .
ـ أما البدعة بالمعنى اللغوي وهو كل مستحدث، وبالمعنى الاصطلاحي العام وهو ما خالف السُّنة، فهذا قد يكون جائزاً، لا يترتب الإثم عليه، وقد يكون مكروهاً أو محرَّماً.
فمن أمثلة الجائز ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن الجمع بين أنواع الأدعية الواردة على صفات متنوعة وأنّ بعضهم لَفّق لفظ الدعاء الذي عَلّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لما قال له: «قُل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً ـ وفي رواية كثيراً ـ ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنّك أنت الغفور الرحيم» .
فقال: يستحب أن يقول: كثيراً، كبيراً. قال: (هذا ضعيف؛ فإن هذا ليس بسُنّة، بل خلاف المسنون، فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَقُل ذلك جميعه جميعاً، وإنما كان يقول هذا تارةً، وهذا تارةً ـ إن كان الأمران ثابتين عنه ـ فالجمع بينهما ليس سُنّة، بل بدعة، وإن كان جائزاً) (1) .
ومن استعمال المعنى اللغوي للبدعة قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما جمع الناس لصلاة التراويح: «نعمت البدعة هذه» (2) .
قال ابن رجب: (ما وقع في كلام السلف من استحباب بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغويّة لا الشرعيّة) (3) .
ومن استعمال الاصطلاح العام بمعنى مخالفة السُّنة قول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لَمّا سُئِل عن صلاة الناس الضُّحى قال: «بدعة» (4) .
قال الحافظ ابن حجر: (إنما أنكر ابن عمر ملازمتها، وإظهارها في المساجد، وصلاتها جماعة؛ لأنّها مخالفة للسُّنّة) (5) .
وكذلك قول عمر بن عبد العزيز: (إظهار المعازف والمزمار بدعة في الإسلام) (6) .
فالحاصل أن البدع كلها محرمة؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» ، وما سُمّي بدعة ولم يطلق عليه وصف الذم والتحريم فهو ليس بدعة في الدين.
ثالثاً: دخول البدعة في الاعتقاد والعمل:
الإحداث في دين الله ـ تعالى ـ يكون في الاعتقادات في الأعمال.
فالبدعة الاعتقادية: اعتقاد خلاف ما أخبر الله ـ تعالى ـ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (7) ، فالصحابة قد تلقّوا المسائل الاعتقادية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلقّاها عنهم التابعون، حتى صارت جملة المسائل الخبريّة محفوظة، فمن خالف اعتقادهم فهو مبتدع.
ومثال ذلك: أن السلف أجمعوا على أنّ الإيمان قول وعَمَل، وأنّه يزيد وينقص، وخالف في ذلك بعض النَّاس، فأخرجوا الأعمال عن مسمّى الإيمان فهذه بدعة اعتقادية.
وأما البدعة العملية فهي التقرّب إلى الله ـ تعالى ـ بما لم يشرعه الله ـ تعالى ـ ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ كتخصيص يوم بعبادة معينة كليلة السابع والعشرين من رجب، أو الثاني عشر من ربيع الأول، أو نحو ذلك.
والبدعة سواء كانت عملية أو اعتقادية قد تكون في أمر كلي في الدين، وقد تكون دون ذلك، وبهذا تخرج من الفرق الناجية أو لا تخرج، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (8) .
قال الشاطبي: (هذه الفِرَق إنّما تصير فِرَقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذّ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرّق شيعاً.
وإنما ينشأ التفرّق عند وقوع المخالفة في الأمور الكليّة.. ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإنّ المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة، عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكليّة معارضة أيضاً، وأمّا الجزئي فبخلاف ذلك، بل يُعدّ وقوع ذلك من المبتدع كالزلّة والفلتة) (1) .
رابعاً: انقسام البدعة إلى حقيقيّة وإضافيّة:
الإحداث في الدين قد يكون باختراع شيء جديد مطلقاً وإدخاله في الدين، فيكون العمل كله بدعة لا دليل عليها، لا في الجملة ولا في التفصيل، ومثالها: التقرّب إلى الله ـ تعالى ـ بالرهبانية، ونحو تحكيم العقل ورفض النصوص في دين الله ـ تعالى ـ، فهذه تُسَمّى: بدعة حقيقية.
وقد يكون للبدعة شائبة من الأدلّة، لكن أضيف لها وألصق بها ما ليس عليه دليل؛ فمن جهة الأصل عليها دليل، ومن جهة ما أضيف إليها ـ من كيفيّة أو صفة أو تفاصيل ـ لا دليل عليها، فهذه تُسَمّى: بدعة إضافيّة.
ومثالها: تخصيص يوم ـ لم يخصّه الشارع ـ بصوم، فإن أصل الصوم في ذاته مشروع، وتخصيصه بيوم مخصوص ـ لم يخصّه الشارع به ـ بدعة.
(فصاحب البدعة الإضافية يتقرّب إلى الله ـ تعالى ـ بمشروع وغير مشروع. والتقرّب إلى الله يجب أن يكون بمحض المشروع) (2) .
قال ابن تيميّة: (البدعة لا تكون حَقّاً محضاً؛ إذ لو كانت كذلك لكانت مشروعة، ولا تكون مصلحتها راجحة على مفسدتها؛ إذ لو كانت كذلك، لما اشتبهت على أحد، وإنّما يكون فيها بعض الحق وبعض الباطل) (3) .
خامساً: قواعد في معرفة البدع:
التعرّف على البدع أصلٌ للحذر منها، فإنّ تمييز البدعة وضبطها بضوابط عامة يعين على التعرّف على أفراد البدع؛ ليتأتّى الحكم عليها، ويمنع من أن يدخل فيها ما ليس منها، وقد حاول عدد من الباحثين تقصّي ضوابط التعرّف على البدع؛ فمقلّ ومكثر (4) ، وقد انتقيت مما ذكره أهل العلم جملة قواعد حسبت أنها أحق ما يُحتاج لمعرفته.
1 ـ العادة المحضة لا يدخلها الابتداع:
من مقررات اعتقاد أهل السُّنّة اعتقادهم الحكمة في أفعال الله ـ تعالى ـ، فربنا ـ سبحانه ـ حكيم عليم بمصالح خلقه، لا يأمر بشيء إلا لحكمة قد يعرفها العباد وقد يجهلونها.
فالأحكام الشرعيّة الواضحة العلة والحكمة ـ كالبيع والنكاح ونحوها ـ تسمّى: عادات، أو أموراً عاديّة. وأما المجهولة العلة التي شرعت من أجلها ـ وإن علمنا شيئاً من مصالحها ـ فهذه هي التعبديات أو الأمور التعبديّة.
فالعبادات لا إشكال أنّ الإحداث فيها ابتداع مذموم كما تقدّم.
وأما العادات فإنها إن تمحّضت عادة، ولم يكن فيها شائبة تعبّد لم يدخلها الابتداع، وإن كان فيها شائبة تعبّد فقد يدخلها الابتداع في هذه الشائبة. ومثال ذلك: النكاح، فإنه من العادات، فإن أحدث في الذي ليس فيه شائبة تعبّد منه؛ لم يكن بدعة مذمومة، مثل: إقامة الزواجات في أماكن معينة، وكالتوسّع في التكاليف، أو اتخاذ عادة في الاجتماع له ونحو ذلك.
وأمّا إن حصل الإحداث في الذي فيه شائبة التعبّد منه؛ فهو بدعة، كما لو ألغى المهر عن الزوج، وأُلزمت به المرأة؛ لأن الشرع قيّد النكاح بمثل هذا القيد، فلم يكن للمكلّف اختيار فيه، بخلاف الأوّل، فالعادة من حيث هي عادة لا بدعة فيها، ومن حيث التعبّد بها أو وضعها وضع التعبّد تدخلها البدعة (5) .
2 ـ كل عبادة وردت مطلقة فتقييدها بدعة:
فالشرع قد حَثَّ على عبادات وأطلق وقت أدائها؛ فصلاة الليل عبادة مشروعة في كل ليلة، وصيام النفل المطلق مندوب إليه كل يوم، فمتى قيّدت هذه العبادة؛ كأن خُصّ القيام بليلة الجمعة مثلاً، أو الصيام بيوم كالجمعة من كل أسبوع، دون معنىً يخصه فإنّ تخصيصه بذلك بدعة إضافية.
قال أبو شامة: (لا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضّله الشرع وخصّه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها كصوم يوم عرفة وعاشوراء) (1) .
وقال ابن تيميّة: (من أحدث عملاً في يومٍ كإحداث صوم أول خميس من رجب والصلاة في ليلة تلك الجمعة.. فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد القلب؛ وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله، وأن الصوم فيه مستحب استحباباً زائداً.. إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة) إلى أن قال: (ومن قال: إن الصلاة أو الصوم في هذه الليلة كغيرها، هذا اعتقادي، ومع ذلك فأنا أخصّها، فلا بد أن يكون باعثه إما موافقة غيره، وإمّا اتباع العادة، وإما خوف اللوم له، ونحو ذلك، وإلا فهو كاذب ... فعلمت أن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاؤوا به عن الله) (2) .
أما لو استند التقييد إلى سبب معقول؛ كجعل قراءة القرآن في وقت معين لكونه أفرغ من الأعمال، أو أهدأ من الأوقات، بحيث لو زال هذا السبب لزال التقييد، فإنه لا بأس به ولا يكون من تقييد العبادة الذي يجعلها بدعة.
3 ـ كل عبادة وردت مقيّدة فإطلاقها بدعة:
تأتي بعض العبادات مقيّدة بسبب معين، أو بمحلٍّ معين، فإذا أطلقها البعض دائماً، أو في محل غير ما قيدت به، صارت بدعة من هذا الوجه.
مثال ذلك: أن الطواف لم يشرع إلا حول الكعبة، ولم يشرع السعي بين جبلين سوى الصفا والمروة، فلو طاف أحد حول غير الكعبة، أو سعى بين جبلين آخرين فهذه بدعة.
قال ابن رجب: (وليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقاً، فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً قائماً في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنّه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل، وأن يصوم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد ويستظل وأن يتم صومه (3) ، فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرهما ... مع أنّ القيام عبادة في مواضع أخرى كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم فدلّ على أنّه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنّما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها) (4) .
4 ـ تغيير الحدود الشرعيّة المقدّرة بدعة:
الأحكام الشرعيّة الثابتة المقدرة ـ كأنصبة المواريث، وعقوبات ارتكاب موجبات الحدود ـ جعلها الشارع أحكاماً ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل، فالتغيير فيها ابتداع في الدين؛ كمن زاد الصلاة المفروضة، أو نقص منها، أو غيَّر أنصبة الزكاة مثلاً.
5 ـ دلالة أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست نوعاً واحداً، بل هي أنواع، فمنها: ما يدل على الندب فيسنّ التأسِّي به فيها، ومنها: ما يدل على إباحة الفعل فقط.
فأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لم يظهر منها قصد التقرّب إلى الله، وليست بياناً لأمر وارد في القرآن، قد اختلف أهل العلم في دلالتها؛ فذهب جمهور أهل العلم إلى أنها تدلّ على رفع الحرج والإباحة فقط (5) . وهذا هو الراجح (فإنّ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهم أعلم الناس بالدين وأحرص الناس على اتباع الرسول في كل ما يقرب إلى الله ـ تعالى ـ كانوا يشاهدون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أفعالاً ولما لم يظهر لهم فيها قصد التقرّب لم يتخذوها ديناً يتعبدون به ويدعون الناس إليه) (6) .
وعليه؛ فقصد التأسِّي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأفعال ليس مندوباً ولا مطلوباً. قال ابن تيميّة: (تنازع العلماء فيما إذا فعل - صلى الله عليه وسلم - فعلاً من المباحات لسبب وفعلناه نحن تشبّهاً به مع انتفاء ذلك السبب، فمنهم من يستحب ذلك، ومنهم من لا يستحبّه، وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي في تلك البقاع التي في طريقه لأنها كانت منزله، لم يتحرّ الصلاة فيها لمعنى في البقعة) (7) .
6 ـ سُنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - فعليّة وتركيّة:
(سنّة النبي كما تكون بالفعل، تكون بالترك، فكما كلّفنا الله ـ تعالى ـ باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله الذي يتقرّب به كذلك طالبنا باتباعه في تركه، فيكون الترك سُنّة، والفعل سُنّة، وكما لا نتقرّب إلى الله ـ تعالى ـ بترك ما فعل لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فالفاعل لما ترك كالتارك لما فعل، ولا فرق بينهما) (1) .
وكذلك قد يقع الابتداع بالترك؛ كمن يحرّم على نفسه شيئاً، أو يقصد تركه تديّناً، أو يتدين بضدِّ ما شرع الله تعالى؛ لأن هذا معارضة للشارع، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] ، ففي الآية أن تحريم الحلال اعتداء لا يحبّه الله تعالى (2) .
سادساً: معاملة المبتدع:
أمر الله ـ تعالى ـ بالعدل مع العدو المخالف فقال ـ سبحانه ـ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . وحرّم الله ـ تعالى ـ إيذاء المؤمنين أو الإساءة إليهم فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} . [الأحزاب: 58]
فالكلام على الناس، والحكم على أقوالهم وأفعالهم، وتقرير طريقة التعامل معهم، أو الموقف منهم؛ مبناه العدل، والتزام أُصول منهج أهل السُّنّة وقواعده.
قال ابن تيميّة: (ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسُّنة مع الكفار وأهل البدع بالعلم والعدل، لا بالظن وما تهوى الأنفس) (3) .
وقال: (وأئمة السُّنّة والجماعة، وأهل العلم والإيمان، فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسُّنّة سالمين من البدعة ... ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشرّ لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبيّنوا خطأهم كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق) (4) .
ويمكننا من خلال تلمّس مواقف أهل العلم وأقوالهم أن نتبيّن معالم أساسيّة لطريقة التعامل مع المبتدع والموقف منه.
1 ـ فأول هذه القواعد أن البدع متفاوتة وليست مرتبة واحدة، وهذا سبق بيانه، وأصحاب البدع الذين خالفوا السُّنة في أصول عظيمة ليسوا كمن خالفها في أمور دقيقة، وبناء علىه يراعى في التعامل مع صاحب البدعة مدى مخالفة بدعته السُّنةَ.
قال ابن تيمية: (وأصحاب ابن كُلاّب كالحارث المحاسبي، والقلاني ونحوهما خير من الأشعريّة، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل) (5) . وقال: (متكلّمة أهل الإثبات من الكلابيّة والكراميّة والأشعريّة ... فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن من كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم، وله أتبع، وإنّما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها وقلّة ابتداعها) (6) .
2 ـ إقامة الحجّة شرط في التبديع:
فمن أتى ببدعة سواء كانت مكفرة أو دونها، فإنّه لا يحكم عليه بمقتضى هذه البدعة، حتى تقام عليه الحجّة، يقول ابن تيميّة: (إنّي من أعظم الناس نهياً أن يُنسب معيّن إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا أعلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارةً، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى. وإني أقرر أن الله غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبريّة القولية، والمسائل العمليّة، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية) (7) .
3 ـ لا يلزم أن يكون غير المبتدع أفضل منه:
فالتفاوت في درجات العباد، والتفاضل بينهم يكون بحسب تفاضلهم في الأعمال الصالحة، وما يقوم بقلوبهم من إيمان وصدق وإخلاص.
والمبتدع مع أنه قد لا يأثم ببدعته إذا كان متأوّلاً مجتهداً أو لم تقم عليه الحجة مثلاً؛ فإنه لو كان آثماً ببدعته فإن إثمه فيها كسائر المعاصي التي تقع من العباد.
يقول ابن تيميّة: (ليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإنّ المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته) (1) .
فليس مجرد عدم الابتداع معياراً للتفضيل، وإن كان من أسباب الفضل؛ لأن الشخص الواحد قد يجتمع فيه ما يثاب عليه وما يعاقب عليه، والعبرة بالراجح منها. يقول ابن تيميّة: (إذا اجتمع في شخص واحد خير وشر، وطاعة وفجور، وسُنّة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة) (2) .
وهذا باب من العدل والإنصاف عظيم يمتاز به أهل السُّنّة.
4 ـ لا يلزم من وقوع الشخص في بدعة، ولا من انتسابه لطريقة مبتدعة أن يخرج عن أهل السُّنّة:
إذ ارتكابه للبدعة متى كان عن اجتهاد وتأوّل لا يجعله مبتدعاً آثماً، مع أنه يُنكر عليه ويُبيّن خطؤه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (3) .
وقد قرَّر ابن تيميّة أن كثيراً من مجتهدي السلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة لسبب من الأسباب وهذا جعلهم معذورين (4) يشملهم قول الله ـ تعالى ـ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] .
والبدع غير المغلّظة لا يكون مرتكبها خارجاً عن أهل السُّنة وعن الفرقة الناجية ولو كان آثماً ببدعته قال ابن تيميّة: (وأمّا المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلّظة، بل دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يُعَدّون إلا من أهل السُّنّة، حتى تغلّظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلّظة) (5) .
ووقع بين برهان الدين ابن العلامة ابن القيم وبين ابن كثير ـ رحمهم الله تعالى جميعاً ـ منازعة، فقال له ابن كثير: أنت تكرهني لأنني أشعري. فقال له: لو كان من رأسك إلى قدميك شَعْر ما صَدّقك الناس في قولك أنك أشعري وشيخك ابن تيميّة! (6) .
فمن كان في قوله واعتقاده موافقاً لمنهج أهل السُّنّة فإنه لا يخرج عنه بمجرّد انتسابه لطائفة معينة تخالف أهل السُّنة، إذ العبرة بالحقائق والمعاني لا بمجرد الانتسابات والألقاب.
5 ـ مراعاة المصالح والمفاسد:
الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، وهي ترجح خير الخيرين وتدفع شر الشرَّين.
ولا يسوغ في هذه الشريعة دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع الضرر الخفيف بتحصيل ضرر عظيم.
وهذا الضابط يراعى ـ مع ما سبق ـ في طريقة الإنكار والاحتساب وفي الاجتماع أو الاتفاق على شيء مخصوص، ولهذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يصلون خلف الحجاج بن يوسف، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما؛ لأن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء بإمام فاجر أو مبتدع (7) .
وعلى كل حال فالنظر للمصالح والمفاسد من أصول التعامل مع المبتدع، فينظر في العمل هل مصلحته راجحة بحيث يفضي إلى ضعف الشر، فيكون مشروعاً، أو أنّه يزيد الشر، فلا يكون مشروعاً، وهذا بلا شك يتفاوت بتفاوت الأحوال والمصالح.
وبعد: فهنا وقف القلم، وفي كل مسألة مما تقدّم مجال للقائلين، وموضع بسط للمتناولين، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعُنُق.
__________
(1) سنن أبي داود (4607) ، وسنن الترمذي (2676) ، وسنن ابن ماجه (44) ، وسنن الدارمي (1/44) ، ومسند أحمد (4/126) ، والمستدرك للحاكم (1/95) ، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/361) .
(1) تضمين من الفتوى الحمويّة الكبرى، ص 2.
(2) الرسالة للشافعي، ص 87، والسنن الكبرى للبيهقي (7/86) ، والفقيه المتفقّه (1/270) ، عن المطّلب بن حنطب، وله شواهد عن ابن مسعود وجابر والحسن وحذيفة، انظر: مجمع الزوائد (4/71) ، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/416) بمجموع طرقه.
(3) سنن ابن ماجه (43) ، ومسند أحمد (4/126) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وله شاهد من حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ عند ابن ماجه (5) ، وابن أبي عاصم (47) .
(4) معجم مقاييس اللغة (1/209) .
(5) النهاية في غريب الحديث، ص 67.
(6) القاموس المحيط، ص 906، والرَّكِي: هي البئر.
(7) التعريفات للجرجاني، ص 5. وبصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي (2/231) .
(8) القاموس المحيط، ص 906.
(9) النهاية في غريب الحديث، ص 67، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا المعنى عندما نتناول حكم البدعة.
(10) مجموع الفتاوى (18/346) .
(11) الاعتصام (1/37) .
(12) جامع العلوم والحكم، ص 260.
(13) هو تعريف الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى.
(14) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية (2/324) .
(15) قواعد معرفة البدع، محمد بن حسين الجيزاني، ص 18.
(1) الاعتصام (1/51) .
(2) صحيح البخاري (5/301) ، وصحيح مسلم (12/16) .
(3) صحيح مسلم (12/16) .
(4) صحيح مسلم (6/153) .
(5) سنن النسائي (3/188) بإسناد صحيح.
(6) جامع العلوم والحكم، ص 265.
(7) السنة لابن أبي عاصم (37) ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (1/86) ، وقال: رواه الطبراني بإسناد حسن، وقال الهيثمي في المجمع (10/189) : رجاله رجال الصحيح، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1620) .
(8) شرح السنة للالكائي (104) ، والبدع والنهي عنها لابن وضاح (10) ، والعلم لأبي خثيمة (54) ، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح؛ مجمع الزوائد (1/181) .
(9) صحيح البخاري (7282) .
(10) شرح أصول اعتقاد أهل السنة، اللالكائي (126) .
(11) الاعتصام (1/82) .
(12) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (2/334) .
(13) مجموع الفتاوى (10/565) ، (4/87) .
(14) الاعتصام (2/49) .
(1) مجموع الفتاوى (24/242) .
(2) صحيح البخاري (2/252) .
(3) جامع العلوم والحكم، ص 252.
(4) صحيح البخاري (1775) ، صحيح مسلم (1255) .
(5) فتح الباري (3/53) .
(6) سنن النسائي (7/129) ، وصححه الألباني.
(7) أهم المهمات لابن سعدي، ص 23.
(8) سنن الترمذي (2641) ، والمستدرك للحاكم (1/128) ، عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، وقد حَسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/334) .
(1) الاعتصام (2/200) .
(2) أصول في البدع والسنن، محمد العدوي، ص 28.
(3) مجموع الفتاوى (27/172) .
(4) انظر مثلاً: قواعد معرفة البدع لمحمد بن حسين الجيزاني، فقد ذكر ـ وفّقه الله ـ ثلاثاً وعشرين قاعدة. والدربة على الملكة لعمرو عبد المنعم سليم، فقد ذكر سبع عشر قاعدةً. وأصول في البدع والسنن، لمحمد أحمد العدوي. وحقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد بن ناصر الغامدي.
(5) انظر: الاعتصام (2/79) . ومختصره للسقاف، ص 95. وأصول في البدع والسنن، ص 29.
(1) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 51.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (2/107ـ 114) .
(3) صحيح البخاري (6704) .
(4) جامع العلوم والحكم (1/178) .
(5) انظر في دلالة الأفعال: الموافقات للشاطبي (2/108) ، والفقيه والمتفقه (1/349) ، والإحكام للآمدي (1/228) .
(6) أصول في السنن والبدع، ص 50.
(7) اقتضاء الصراط المستقيم (2/755) ، وبقية كلامه مهم.
(1) أصول في السنن والبدع، ص 60.
(2) انظر: الاعتصام (1/40) .
(3) الجواب الصحيح لمن بَدّل دين المسيح (1/22) .
(4) الرد على البكري، ص 256.
(5) الرسالة التدمريّة، ص 192.
(6) مجموع الفتاوى (4/156) .
(7) مجموع الفتاوى (3/229) .
(1) مجموع الفتاوى (3/179) .
(2) مجموع الفتاوى (28/209) .
(3) صحيح البخاري (9/193) ، صحيح مسلم (1342) .
(4) مجموع الفتاوى (19/191) .
(5) مجموع الفتاوى (3/357) .
(6) الدار الكامنة لابن حجر (1/60) .
(7) انظر: مجموع الفتاوى (28/206) ، المسائل الماردينيّة، ص 63.(236/3)
المحادثة بين الرجال والنساء من أجل التعارف
محمد بن شاكر الشريف
مع التقدم الكبير في وسائل الاتصال تظهر كثير من الطرق التي لم تكن معهودة في ما مضى من إمكان محادثة الرجال والنساء بعضهم بعضاً، ولم تزل هذه الطرق بمرور الأيام تتطور وتنتقل من طور إلى طور متقدم في تلك الإمكانيات، حتى وصلت إلى ما يُعرف بـ (الشات) و (غرف الدردشة) عن طريق الإنترنت الذي تغري تكلفته الزهيدة بالانسياق في هذا الأمر.
والإسلام يحرص حرصاً شديداً على نقاء المجتمع وسلامته من كل أسباب الشرور ومظاهرها، وخاصة في جانب الأعراض؛ فما من سبيل يضمن ذلك إلا وقد سلكه وأمر بسلوكه، وما من سبيل يعارض ذلك إلا وقد نهى عنه، وحذر منه، فنهى عن الخلوة بين الرجل والمرأة وإن كانا قريبين ـ ما لم يكونا من المحارم ـ ومنع المرأة أن تسافر من غير محرم، أو أن تسافر مع غير محرم، وأمر المرأة بارتداء الحجاب، ومنع من الاختلاط بين الجنسين، ونهى المرأة عن الخضوع بالقول (1) ، كما جعل على مخالفة ذلك عقوبات زاجرة، تزجر من تسوِّل له نفسه تجاوز ما شرعه الله تعالى.
وقد يكون في استخدام (الشات) سواء كان كتابة باليد أو تكلماً بالصوت بين أفراد الجنس الواحد أي بين رجل يخاطب رجلاً، أو امرأة تخاطب امرأة، نوع من التعارف الذي قد تترتب عليه بعض المصالح، وهذا في دائرة المباح؛ وإن كان هناك احتمال عدم صدق البيانات؛ فقد يكتب بعض الناس بيانات مخالفة لبياناته الحقيقية، وخاصة في خانة الجنس ليوقع الجنس الآخر في مخاطبته.
وأما مخاطبة الرجل للمرأة، أو المرأة للرجل تكلماً أو كتابة من أجل التعارف بينهما، فالذي يظهر من توجيهات الشرع التي مرت أن هذا لا يجوز، ولو كان كلاماً بريئاً خالياً مما يخدش الحياء أو نحو ذلك؛ فلم تجرِ بذلك عادة بين المسلمين من قديم الزمن، وإنما كان الحديث الذي يمكن أن يحدث بينهما للحاجة وليس للتعارف؛ على أن يكون ذلك وفق ضوابطه كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] .
ولم يظهر شيء من ذلك بين المسلمين إلا بفعل تقليد الأمم الغربية، وهذا النوع من المخاطبة فيه ـ عندي ـ بعض معاني الخلوة الممنوعة، وإن لم يكن خلوة كاملة؛ حيث يجلس الرجل والمرأة كلاهما إلى جهاز الحاسب، فيكتبان ما يشاءان من غير أن يدري أحد غيرهما بما هو مكتوب؛ فهذا وإن لم يكن خلوة جسدية فهو خلوة معنوية، فإذا اختلى الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل على (الشات) ؛ فإذا قُدِّر أن أحداً من أوليائهما اطَّلع على ذلك فإنهما يشعران بقريب من الحرج الذي يحدث لهما عندما تكون الخلوة جسدية، مما يدل على أن هذه الخلوة فيها من معاني الخلوة الجسدية، وهذه الخلوة المعنوية قد تورث تعلُّق القلوب بعضها ببعض، وربما تقود مع مرور الوقت وتكررها إلى الخلوة الجسدية.
أما المخاطبة من أجل تحقيق مصلحة دنيوية كأن تخاطب امرأةٌ طبيباً مثلاً، أو يخاطب رجل طبيبة للسؤال والاستفسار عما فيه مصلحة من ذلك، فهذا لا حرج فيه، ولكن ينبغي أن يكون الكلام من أجل ذلك الغرض حقاً، وأن لا يسترسل أحد المتخاطبين في كلام خارج عن المطلوب، حتى لو لم يكن فيه كلمات غير مناسبة.
وأما المخاطبة من أجل تحقيق مصلحة دينية كالاستفسار مثلاً عن تفسير آية أو حديث أو السؤال عن حكم فقهي فهو جائز أيضاً، إذا كان المسؤول ممن يقدر على ذلك، وينبغي أيضاً الانتباه إلى عدم الاسترسال في الكلام الخارج عن موضوع السؤال حتى لو لم يكن فيه شيء؛ والشيطان هنا قد يضحك على كل منهما فيمنيهما بأنهما صالحان طيبان وأنه لا خوف عليهما من الاسترسال في الكلام؛ فهما ليسا بمنزلة الأشرار؛ وهذا من مخادعة الشيطان لهما. فليحذر المتخاطبون من هذا المنزلق الذي قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه!
لكن الرجل الصالح والمرأة الصالحة إذا استزلهما الشيطان في لحظة الضعف البشري التي قلما ينجو منها أحد، فجعلهما يسترسلان في الحديث فيما لا تدعو إليه الحاجة ـ وإن لم يكن محرماً ـ يدركان سريعاً بفضل الله خطأهما، وأنهما قد استرسلا أكثر مما ينبغي فيما لا تدعو إليه حاجة، فيستغفران الله ويتوبان إليه، والله غفور رحيم.
ولو أردنا أن نضع ضابطاً لما يمكن أن يكون استرسالاً فيما لا تدعو إليه حاجة، لقلنا: لو كان الرجل الصالح والمرأة الصالحة يستحيان أن يطلع على هذه المخاطبة أحد من الناس، لكان هذا استرسالاً غير محمود، لكن هذه ليست قاعدة كلية مطلقة، بل هي قضية أغلبية، وإنما قيَّدنا القول بالصالح والصالحة؛ لأن غير الصالح وغير الصالحة منهم من لا يستحي من أن يطلع غيرهما على المخاطبة، بل ربما سعيا ذاتهما إلى إطلاع الآخرين.
وفي كِلا الأمرين (المصلحة الدينية، أو المصلحة الدنيوية) إذا أمكن أن تكون المخاطبة عن طريق الكتابة بغير عَنَتٍ أو مشقة فلا ينبغي العدول عنها، ولا ينبغي أن تكون عن طريق الصوت وخاصة من المرأة، إلا إذا تعذر ذلك، أو كان فيه مشقة، وعلى المرأة حينها ألاَّ تخضع بالقول، على أن الخضوع بالقول ليس قاصراً ـ من وجهة نظري ـ على ليونة الصوت فقط، فقد يكون في الكتابة أيضاً؛ وذلك إذا كتبت المرأة ألفاظاً وتعبيرات تدل على ضعفها، كأن تكتب المرأة عندما يأمرها الرجل بما فيه المصلحة: أنا تحت أمرك أو ما شابه ذلك من العبارات، وقد تظن بعض النساء ـ هداهن الله ـ أن هذا من قبيل الأدب في الحديث، وهو لا أدب فيه، بل الأدب في اختصار العبارة ووَجازتها والبعد عن مثل هذه الألفاظ والتعبيرات. ومما يلبِّس على الناس في مثل هذا المجال تفاوت العمر بين الرجل والمرأة، فيظنون الأمن مع التفاوت في الأعمار بين المتخاطبين وهذا غير صحيح. ومن المهم في هذا المجال أن يعلم الرجل أن المرأة مرأة، وأن تعلم المرأة أن الرجل رجل، وإن كان بينهما فرق كبير في العمر.
وهناك مشكلة أخرى في هذا (الشات) وهي أن المتخاطِبَيْن يكونان في أغلب الأحيان بأسماء وهمية غير حقيقية، وهذا يرفع عنهما الحياء مما يتيح للبعض أن يتوسع في الكلام وهو آمن من العقوبة أو المساءلة.
ومن الأشياء التي ربما توسع فيها البعض في هذا (الشات) هو البحث عن زوجة بالنسبة للرجل أو البحث عن زوج بالنسبة للمرأة، وكل منهما يحدِّث نفسه بأنه لا غبار عليه وأنه يبحث عن الحلال، وقد يكون هذا من استدراج الشيطان له أو لها، وهذا المسلك في نظري غير سليم، فلا ينبغي للرجل أن يختار زوجته عن هذا الطريق، كما لا ينبغي للمرأة أن تختار زوجها عن هذا الطريق أيضاً؛ فكم من رجل يقول: أريد من وراء ذلك اختيار زوجة وهو يعلم من نفسه أنه كاذب، وكم من امرأة تقول: أريد من وراء ذلك اختيار زوج وهي تعلم من نفسها أنها كاذبة، وإن كان الكذب في جانب الرجال في هذه المسألة أكثر، وقد يسألها عدة أسئلة مثل اسمها وأين تقيم، وكم عمرها، وهل تقيم مع أهلها؟ ونحو هذه الأسئلة وهي تجيبه عن كل ذلك بزعم أو رغبة في الزواج، ثم هو يستغل كل هذه المعلومات فيما لا يعود على الطرفين إلا بالشرور
وربما يكون هذا الاتصال في بعض الأحيان أو أكثرها وسيلة من البعض للتسلي وقطع الأوقات؛ مع أن الأوقات أغلى من الأموال، أو لمحاولة الحصول على ما لا يمكن الحصول عليه.
ألا فليكفَّ الرجال والنساء عن البحث عن زوجات أو أزواج عن هذا الطريق، لكن هذا لا يعني أن كل من يسلك هذا الطريق فاسدون أو فاسدات، غير أن المشكلة أننا لا نستطيع التحقق من ذلك وخاصة في ظل الأسماء غير الحقيقية، والإسلام، كما ذكرت، يحرص دائماً على نقاء المجتمع، ولا يمكن أن نغامر بسمعة بيوت المسلمين من أجل مصلحة متوهمة.
هذا والله أعلم، وصلى الله ـ تعالى ـ وسلم على عبده ورسوله محمد.
__________
(1) الخضوع بالقول: إلانة الكلام.(236/4)
ادارة العمل الخيري
مصطفى محمود عبد السلام
العمل الخيري الإسلامي، أو مؤسسات ومنظمات العمل الخيري الإسلامية، هي تجمُّع لجهود مجتمعية تضم متطوعين مؤمنين بمجتمعاتهم المسلمة وبالقضايا الإنسانية، عكفوا على درس احتياجات المجتمع، ووجّهوا جهودهم وأموالهم للعمل الخيري.
إن المتصدي للعمل الخيري الإسلامي والدارس له يجد تاريخاً طويلاً بجذوره الممتدة سواء كان منشؤها الطبيعي البعد الديني وفكرة الإحسان ومفهوم الزكاة في الإسلام، أو مساعدة الضعفاء والفقراء في كافة الأديان. إن تقديم الرعاية للعاجز والمعوز وصاحب الحاجة كانت من المبادرات الفردية في الأساس، ويقوم جانب منها على مؤازرة السلطات الرسمية في شكل بيت المال، وحديثاً في شكل الوزارات المعنية بالمجتمع وبمشكلات المواطنين واحتياجاتهم للخدمات، وظل الجانب الآخر والأهم يقوم به نفر من المتطوعين، ومع الوقت انتظموا في جمعيات أو منظمات اجتماعية لتقديم الخدمات.
المتأمل والدارس يجد مراحل عدة مر بها العمل الخيري حتى وصل إلى شكله الحالي، وهو مجموعة الجمعيات والمنظمات الخيرية التي نظمت أعمالها وفق التشريعات الوطنية والتي أخذت بالجديد وحاولت أن تواكب العصر.
وبرزت مفاهيم عدة تحكم العمل وتُدخله إلى مجال الحِرْفية مع الحفاظ على معانيه الإنسانية وأصوله الخيرية.
ومع تطور عمل الجمعيات الخيري برزت في المجتمعات أشكال تنظيمية أخرى ذات بعد طائفي أو مهني، أو ذات توجهات سياسية وقضايا تتعلق بالحرية وحقوق الإنسان.
فكان ظهور الروابط للفئات المختلفة: التشكيلات العمالية ونقاباتها - والنقابات المهنية وتوجهاتها - الهيئات والنوادي - الأحزاب السياسية وما يتبعها من تنظيمات ـ جمعيات حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات ... وغير ذلك من التنظيمات الاجتماعية والخيرية.
كما برز للوجود منظمات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة التي بدأت بالعمل مع الحكومات، وامتدت إلى العمل مع التنظيمات الأهلية بصفتها وثيقة الصلة بالمجتمع، وظهرت أيضاً التنظيمات والاتحادات العالمية التي أنشئت لها فروع بالدول. ناهيك عن الجمعيات المصنوعة التي شُكلت خصوصاً حول توجه معين أو بغرض تنفيذ مشروعات معينة أو الترويج لقضايا بعينها تهم المواطنين أو بافتراض ذلك.
وبدأت سفارات بعض الدول وخصوصاً الغربية منها تتبنى أيضاً مشروعات في شكل برامج دعائية للمساعدة ومجابهة الاحتياجات. وشكلت وكالات للتنمية بصفة عامة كوكالة التنمية الأميركية والكندية أو أخرى متخصصة سواء بقضايا المرأة أو الطفولة أو غيرها.
ومع ثورة الاتصالات وتعدد نواحي الحياة برز إلى الوجود ما سمي بـ (القطاع المدني) ليشمل كل تلك التنظيمات والأعمال. وتنامى القطاع أو قُلْ: (المجتمع المدني) بكل تشكيلاته، وأصبح له صوت محلي وآخر عالمي، وله من المنظمات والأصوات ما يدافع عنه؛ وقد يكون لذلك جانبه الإيجابي، لكن الجمعيات الأهلية ذات الجذور الأصيلة التي شكلت البدايات والتي اتسمت أعمالها بالخيرية وصالح الإنسان بلا طائفية أو تحزب أو توجه مصنوع أو غايات خفية أصبحت جزءاً من المجتمع المدني، وكادت تذوب فيه.
وتحقق لها من جراء ذلك أمور مفيدة، منها:
1 ـ الانفتاح محلياً ودولياً.
2 ـ تنوع مجالات العمل ليواكب قضايا أخرى لم تكن مرئية.
3 ـ وصول العمل الخيري نتيجة الاحتكاك إلى نوع من الحرفية والأخذ بالجديد، وتنظيم الأعمال بشكل علمي عصري، وليس بشكل تلقائي.
4 ـ بروز مؤسسات مانحة وأخرى متلقية، وإشغال الجميع بنوعية العلاقة.
وبرزت أيضاً مجموعة من السلبيات؛ منها:
1 ـ وفود المال والمساعدات في شكل لا ندري ما وراءه؟
2 ـ اضطرار بعض الجمعيات إلى تغيير توجهاتها لتلائم توجهات الممول وأهدافه من أجل الحصول على المال والدعم.
3 ـ ظهور الفساد في بعض الجمعيات نتيجة أساليب العمل غير الواضحة.
4 ـ التسلل إلى مجتمع الجمعيات للتأثير على توجهاتها والانحراف أحياناً بغاياتها.
5 ـ تحملها لسلبيات القطاع أو قل تعميم المشكلات والشوائب بجانب اختلاط المفاهيم.
وبتعبير آخر: فقدت بعض الجمعيات استقلاليتها وربما اختلطت بعض الأوراق ببعضها الآخر.
ü ماذا حدث مؤخراً؟
في 11 سبتمبر 2001م وقع حادث مأساوي استهدف الولايات المتحدة الأميركية، وأدى إلى تحطيم برجي مركز التجارة العالمية وجانب من مبنى البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) وألصقت التهمة بالقاعدة، وادُّعي على جمعيات دينية أو جماعات ذات صفة أخرى. وأياً كانت حقيقة الأمر فإن التداعيات استقرت على ما يلي:
1 ـ النظر بريبة إلى الجمعيات الخيرية ذات التوجه الإسلامي.
2 ـ تجميد أموال بعض الجمعيات بحجة الاشتباه أو احتمال تمويلها لهذه الجماعات.
3 ـ إلصاق التهمة بالإسلام والمسلمين، وتحوُّل الأموال إلى ما يشبه صراع الحضارات.
4 ـ ما نشأ من جرَّاء ذلك من قلق يسود القائمين على العمل الخيري الإسلامي؛ في مقابل فتح الأبواب والتدعيم القوي للعمل التنصيري.
5 ـ انحسار في التبرعات خشية أن تنال المتبرع تهمة تعزز أية توجهات.
وأصبح ذلك يهدد ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ العمل الخيري والسعي لتقويضه والنيل منه رغم أن هذا يتوجه في غالب الأمر إلى أفقر الفقراء وإلى جمهور المحتاجين للخدمات، أي أن العمل الخيري الإسلامي يسعى لتوقيف القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر وتقوض مجتمعات وحضارات.
الأمر إذن أضحى دائرة مفرغة تهدد الكيان المجتمعي، ليس في الدول النامية فحسب، ولكن في كافة المجتمعات؛ حيث تلعب الجهات الخيرية دوراً متنامياً لخدمة الإنسان وتشكيل ضمير المجتمع الذي يعبر عن الاحتياجات، وتسهم مع الحكومات والجهات الرسمية في سد الثغرات.
ü ما الحل؟
إن هناك عدة توصيات تعكس الروح الخيرية التي ترمي إلى تنقية ذلك العمل الإنساني وإبراز روحه الوثابة. ولْنتأمل في مجموعة التوصيات التالية التي يمكن أن تدعم هذا العمل الخيري وإدارته، ويمكن من ثم تبنِّيها، وهي:
- الشفافية، وأن تكون كافة الأعمال والأموال معلنة وواضحة.
- إصدار التقارير المعبرة عن طبيعة العمل الخيري ونشرها.
- تنقية العمل الخيري من أية شائبة.
- الاعتماد على الذات كلما أمكن ذلك.
- أن يكون التمويل الخارجي غير مشروط ووفق الثوابت المعتمدة.
- أن تكون الجمعية الخيرية ذات قاعدة عريضة في المجتمع وليست حكراً على مؤسسين؛ بمعنى أنه ينبغي زيادة قاعدة التطوع.
- أن يحكم العمل ميثاق شرف للعمل التطوعي الخيري.
- شرعية العمل وعلنيته.
- الابتعاد عن السياسة والتحزب والطائفية.
- الاستقلالية.
- التوجه إلى أفقر الفقراء وأصحاب الحاجة.
- القيام بالتوعية المجتمعية.
- تقوية الصلات بالجهات الرسمية والحكومية.
- اعتماد استراتيجيات واضحة وأهداف محددة.
هذه التوصيات التي يمكن تبنِّيها توضح أهمية التجربة الثرية والفريدة التي تحمل في ثناياها الحل، وتدعونا للقول: إن هذا الحل يكمن في أعمالها ونشرها وتنفيذها. وها نحن نعرضها في شكل مجموعة من الوصايا والتوجهات لحماية العمل الخيري.
ü وصايا وتوجهات لحماية العمل الخيري:
إن الجمعيات والهيئات الأهلية مدعوة وبقوة للعمل باستمرار؛ فهي ركيزة أساسية في منظمات المجتمع المدني؛ حيث تشكل قطاعاً من قطاعات المجتمع مطلوب تكامل أدواره مع أدوار القطاع الخاص والقطاع الحكومي. وكي يظل العمل الأهلي الخيري هو نبض المجتمع وضميره والمعبر عن آلامه وآماله والساعي مع الشركاء لتلبية احتياجاته، يجب أن يصان ويظل بمنأى عن أية تنظيمات أو صراعات، ومن ثَم نوصي القائمين بالعمل الخيري بالسعي إلى حمايته من خلال الأخذ بالأمور التالية:
1 ـ العمل وفق القوانين والأنظمة:
تنظم الدول العمل الأهلي من خلال عدد من الأنظمة أو بإقرار قوانين خاصة يعمل في إطارها وعلى هدي أحكامها. وبقدر ما يعتقد البعض أن القوانين قد تكون معوِّقة لحرية الجمعيات والهيئات أو داعية للتدخل في شؤونها بقدر ما تكون في غالب الأمر حامية للعاملين عليها أو المتبرعين الذين يضعون أموالهم بين أيدٍ أمينة تُحسِن التصرف.
إن حصول الجمعيات والهيئات على الشرعية والتسجيل لدى وزارات الشؤون الاجتماعية أو الداخلية أو وفق ما تحدده القوانين المعمول بها في البلاد التي تمارس فيها نشاطها أمرٌ ضروري لاكتساب الشرعية والعمل في العلن.
حب الخير وحده لا يكفي، والنوايا الطيبة ليست سياجاً للحماية، ولكن العمل في النور هو الضمان؛ ومن ثَم فأولويات الأمور هي الحصول على التصريح والتسجيل ووجود مقر لمباشرة العمل؛ فالعمل ينبغي أن يكون علنياً وليس سرياً، وتنظيمات المجتمع هي من أجل المجتمع والعمل لصالحه.
2 ـ تنظيم العضوية:
بعد الحصول على التصاريح اللازمة هناك أمور النظام الأساسي واللائحة الداخلية التي تنظم عمل الجمعية، ومن أبرزها شروط العضوية. وتعتبر عملية العضوية وإمساك سجلاتها والحصول على البيانات الكاملة للأعضاء، والالتزام بشروط العضوية أمراً هاماً، والجمعيات لا تقبل غالباً في عضويتها من عليهم أية شبهات أو صدرت ضدهم أحكام أو سبق أن صدرت ضدهم أحكام مخلة بالشرف. ولا بد أن تطبق شروط قبول العضوية أو إسقاطها حسب الأنظمة.
إن تنظيم العضوية عملية حيوية، ويجب أن تظل مستمرة، كما أن البيانات الخاصة بالأعضاء يجب تحديثها؛ ناهيك عن عملية التواصل مع الأعضاء لإطلاعهم على الأعمال وإشراكهم في النشاطات والمؤتمرات العامة إن عقدت.
إن الأعضاء هم جمهور المتطوعين؛ والمطلوب الحفاظ عليهم وتدريبهم وتحفيزهم؛ فهم الزاد لمسيرة العمل الأهلي وتطويره. ومن ثم فالتخلص من بعض العناصر أمر مطلوب إذا حادوا عن الطريق والأهداف؛ وذلك وفق الاشتراطات واللوائح المنظمة للعمل. والعناصر النشطة التي تبني وتؤازر العمل مطلوب تشجيعها وتحفيزها بل تكريمها.
إن العضوية وتنظيمها تظل مشكلة في معظم الجمعيات والمنظمات الأهلية؛ ولذلك يجب أن تولَى الاهتمام، فيمكن من خلالها البقاء والتقدم البنّاء، وفي انسيابها وعدم ضبطها يكون الخلل ووضع علامات استفهام على الأعمال.
3 ـ التنظيم الإداري الجيد:
إن العمل الأهلي الخيري لم يعد عملاً تلقائياً، ولكنه دخل مرحلة الاحتراف، ومن ثم فالأخذ بالأسلوب العلمي في الإدارة والاستعانة بالكفاءات الإدارية أضحى أمراً أساسياً.
إن التنظيم الإداري يعني تنظيماً إدارياً للأعمال التطوعية والهيئات الإدارية، وكيفية اتخاذ القرار وانتظام الجلسات واللجان، ورسم السياسات ووضع الخطط والبرامج. وعلى صعيد العاملين يعني عناصر قادرة لها رؤية وتقوم بالعملية التنفيذية باتباع الأساليب الإدارية الحديثة في التخطيط والتنظيم والإدارة، وأداء الأعمال من ناحية إعداد المشاريع وتنفيذها، وما يتعلق بالمتابعة والتقييم وإعداد التقارير، والقيام بأعمال الدعوة والإعلام، وربط الصِّلات مع المنظمات الأهلية والأطر الرسمية في داخل المجتمع، ودعوتها للمشاركة في الأعمال؛ إلى جانب المحافظة على الجودة الشاملة في تنفيذ البرامج والمشروعات. كل ذلك يحسب للعمل الأهلي ويرفع من شأنه ويضعه في مصاف الأعمال الجديرة بالتقدير.
4 ـ الاستقلالية:
الاستقلالية لا تعني التقوقع أو الانغلاق على النفس، بل تعني الانفتاح ولكن باستقلالية في رسم السياسات وفي أخد القرار. وهذه الاستقلالية تنبع من الشعور بالمسؤولية تجاه احتياجات المجتمع والجماهير المستفيدة.
الاستقلالية تعني عدم الارتباط بحزب معين أو توجه سياسي يطغى على العمل الخيري ويصبح محسوباً على فئة دون أخرى، فيكون الولاء ليس للخير وحده والمصلحة العامة، ولكن للطائفة أو الحزب، فتعلو وتهبط وتتلون حسب توجهات الطائفة أو الحزب، ويُفقدها ذلك الموضوعية في رسم البرامج واتخاذ القرارات.
الاستقلالية تعني التحرر من فرض توجهات معينة تتعارض مع أهداف الجمعية أو الهيئة، فتكون أعمالها خالصة لتحقيق الصالح العام وخدمة أفراد المجتمع الذين تستهدف المؤسسة خدمتهم.
5 ـ وضوح الأهداف:
العمل الأهلي أو القطاع الخيري، كما سبق الإشارة إليه، لم يعد عملاً تلقائياً تحدوه النوايا الحسنة فحسب، بل هو عمل علمي لا بد أن تكون له مجموعة من الأهداف العليا أو قل الاستراتيجيات التي يسعى إلى تحقيقها والسير في فلكها. وهذه الأهداف العامة لا بد أن تكون محددة وواضحة السمات، بحيث لا يكون هناك أهداف خفية أو غير مرئية أو مستترة.
وفي العمل لا بد من ترجمة الأهداف العليا أو الاستراتيجيات إلى أهداف عملية؛ وللتعامل مع هذه العملية تكون البرامج والمشاريع.
وأخيراً يكون تحديد الجمهور المستهدف وغايات هذه البرامج والمشاريع، ولا بد لأهداف العملية أو الأهداف الخاصة بالبرامج والمشاريع أن تكون واضحة ومحددة وسهلة القياس.
إن عملية وضوح الأهداف سمة علمية، ولا تكون مجرد أهداف مكتوبة، ولكن تكون معلنة يتشربها جمهور المتطوعين والعاملين كي يسعى الجميع لتحقيقها، وليتسنى للشركاء أو منظمات المجتمع الأخرى التعاون والتنسيق معها في تحقيقها.
6 ـ المشروعات المجتمعية:
الأصل في العمل الخيري وأعمال الجمعيات أن تكون موجهة لخدمة المجتمع وتلبية الاحتياجات؛ فالجمعيات الخيرية وإن كان بعض منها موجهاً لفئات خاصة بالمجتمع إلاّ أنها في النهاية موجهة للمجتمع وشرائحه؛ ومن ثم فإن ترجمة الأهداف إلى برامج ومشروعات يجب أن تستهدف في الأساس نهضته وتقدمه. وكلما كانت المشروعات مخططة ومصممة بشكل يتناغم مع الاحتياجات كانت أكثر قبولاً وتعاطفاً بين فئات المجتمع. وهناك شريحة من الجمعيات قد تكون موجهة لمجتمعات أخرى أكثر حاجة؛ فهي تخاطب بالأساس الآخَر وتنبع من شعور بالتعاطف بين الدول والمجتمعات والإنسان أياً كان موطنه، وهنا تنبع الحساسية والتخوف، وعليها مراعاة ظروف تلك الفئات والمناخ السياسي والمجتمعي الذي تعيش فيه ومدى تقبل ذلك، وتحاول التوصل إلى الصيغ الملائمة للعمل دونما مخاطر أو تخوفات أو شبهات.
إن العمل الخيري سيظل مطلوباً ما وجدت الحياة، وحري بنا أن ننأى به عن أية مؤثرات أو تلوينات.
7 ـ الشفافية:
وهي محصلة لما سبق ذكره من أمور وضوابط. فالشفافية مطلوبة في كل شيء بداية من تبيان الأهداف ونبل المقصد ووصولاً إلى تنفيد المشروعات على الأرض. إن الأمر الهام الذي قد يثير قلق المتبرعين أو المانحين هو: إلى أين نوجه الأموال أو كيف توظّف؟ وهل تحقق الغرض منها أم لم يتحقق؟
وهنا يأتي دور التقارير الخاصة بالإنجازات سواء كانت تقارير عن مشروعات بعينها أو تقارير عامة فئوية كانت أم سنوية، التي يجب أن تعكس النشاطات والأعمال. إن عملية التواصل مع الجهات المانحة وجمهور المتبرعين عملية هامة لكسب المصداقية.
وقد يفسر البعض الشفافية بمفهوم سطحي؛ بمعنى تدخل الآخر في الأعمال أو تدخل كل من له مصلحة أو غيره في تفاصيل الأشياء. إن ذلك الأمر مربك للعمل وللعاملين وكأنهم موضع اتهام مستمر. ولكن المقصود بالشفافية هو اطِّلاع من يهمهم الأمر على طبيعة الأعمال بجانب نشر التقارير المعبرة.
8 ـ البعد عن الصراعات:
إن القائمين على العمل الخيري أو الجمعيات هم في الأساس متطوعون أو أناس آلَوْا على أنفسهم العمل الخيري من أجل خدمة مجتمعاتهم أو الفئات المستهدفة بالخدمة. كما أن العاملين هم عنصر فاعل في أداء الأعمال. ومن ثَم فإن جمهور المتطوعين الذين رسموا السياسات والأهداف حري بهم الاتفاق والبعد عن الصراعات. وقد تكون الصراعات على بعض المناصب من هياكل الإدارة أو من موقع اتخاذ القرار. هذه الصراعات قاتلة ومدمرة للعمل، وتبعد عن نبل المقصد؛ وحلُّ ذلك يكمن في إعمال الشورى وتعميق أسلوب الحوار للاتفاق ودحض كل ما من شأنه بعث الفرقة والاختلاف. النقاش الحر واتباع الأسلوب الأمثل في الإدارة ينأى بالعمل ومؤسساته عن مغبة الصراع. قد يكون بين العناصر في الإدارة من قد يشوِّه الصورة أو يبتعد عن قصد عن الهدف المرجو؛ فالحوار هنا والمصداقية تلفظ تلك العناصر وتنقي العمل من الشوائب. إن العناصر العاملة تعتبر في الأساس عناصر متطوعة؛ فالمتطوع العامل أصبح سمة لجمهور العاملين في الجمعيات والمؤسسات الخيرية. وبالرغم من حصول العامل على أجر واعتباره متفرغاً لأداء الأعمال، غير أن سمة التطوع هي عنصر النجاح في أداء الأعمال؛ حيث يتحلى العامل بروح التطوع، ويتفاعل مع الأعمال، ليس بمنظور الموظف، ولكن بمنظور القانع بأداء الخدمات والعامل على تحقيق الأهداف.
وتجدر الإشارة إلى أنه قد تكون أو توجد بين جمهور العاملين بعض الصراعات الوظيفية أو اختلاف في الرؤية، وهنا تأتي مهمة الإدارة؛ فبجانب إعمال الشورى والاستماع للرأي الآخَر تكون مسألة العمل في فريق وجماعية العمل؛ مع وضع الأهداف نُصْبَ الأعين ليتم الابتعاد عن المسائل الشخصية وجوانب الصراع المختلفة التي تعد أسوأ الأشكال المدمرة. والمطلوب أن يكون هناك تنافس شريف من أجل إعمال المصلحة العامة، وليس التنافس الذي يؤدي إلى صراع يدمر ولا يبني.
9 ـ التكامل مع القطاعات الأخرى:
العمل الخيري التطوعي أضحى عملاً مخططاً حتى يؤتي الثمار المرجوة، ومن ثَمَّ فإن قوَّته في تلبيته للحاجات الفعلية للجماهير والمجتمع، وأيضاً في تكامله مع القطاعات الأخرى في المجتمع، أي الجمعيات الشبيهة. فلا توجد مؤسسة أو جمعية تلبي كافة الحاجيات التي يحتاجها الإنسان؛ فهناك مؤسسات متخصصة في أنواع من الرعاية، وبعضها في العمل التنموي؛ ناهيك عن الإطارات والإدارات الرسمية التي تقدم الخدمات الاجتماعية المناسبة. فالعمل الأهلي والجمعيات هو عمل مكمل لها أو مبادر لتقديم نوعية الخدمات التي يحتاجها المواطنون.
والامر المهم الذي نريد إبرازه هو فكرة التكامل بين المؤسسات وفكرة الاستفادة من مصادر الخدمات المتوفرة في المجتمع حكومية كانت أم أهلية. وعملية التكامل تدفع بنا إلى إدراك أهمية الشفافية التي أشرنا إليها والمصداقية وكسب ثقة المجتمع؛ فالعمل الخيري ليس عملاً سرياً، ولكنه عمل علني شفاف لخدمة المجتمع؛ وبتكامله مع الخدمات الأخرى تتجسد صور الرعاية والتنمية؛ بل إن العمل الناجح والصادق والمفيد «مُعدٍ» إذا جاز التعبير، وابتكار الجديد في أساليب الخدمة يدفع بالآخرين إلى التقليد ويحفزهم على الإجادة.
10 ـ التقارير:
إصدار التقارير دائماً هو نوع من المتابعة. والتقييم له أبعاد مختلفة؛ فهو تسجيل حي لما ينجز، وفرصة للدعوة والإعلام عما يتم، بجانب كون ذلك فرصة لمحاسبة النفس: ماذا تم، وماذا تحقق من نجاحات؟ أيضاً: ما حدث من عقبات أو إخفاقات؟ واستخلاص الدروس المستفادة في محاولة لتجاوز العقبات والمشكلات.
والتقارير أنواع: فهناك تقارير خاصة عن المناسبات المختلفة أو المشروعات المنفدة، وهناك تقارير عامة سواء كانت شهرية أم دورية أم سنوية. ومن ثَم فالتقارير وسيلة لتحقيق الشفافية والمصداقية والتعبير عما يتم من أعمال ونشرها في المجتمع.
11 ـ ميثاق الشرف:
كثر الحديث عن ميثاق الشرف في أعمال مختلفة؛ فهناك ميثاق الشرف الصحفي، وميثاق الشرف الطبي على سبيل المثال ... وبمناسبة عام التطوع العالمي هناك ميثاق الشرف التطوعي. وأشار مؤتمر الخير العربي إلى ميثاق الشرف الخيري. والمقصود بميثاق الشرف، أياً كان، هو نوع من القواعد أو المبادئ أو الأسس التي يرتضيها العاملون بالمجال ويلتزمون بها، وتحدد فيما بينهم أخلاقيات العمل ومجموعة القيم التي تربط بينهم. وهذا الميثاق هو معانٍ ليست بالضرورة أن تكون منصوصاً عليها في النظم الأساسية واللوائح، ولكنها التزام مشترك للعاملين والمتعاملين في المجال.
وبصدور مثل هذا الميثاق ما يعزز القيم السابقة ويبرز المعاني السامية وراء العمل الخيري، وينقيه دائماً من الشوائب والشبهات، ويدفع به قُدُماً لمزيد من الخير والعمل الإنساني.
12 ـ الاعتماد على الذات:
رغم أن العمل الخيري يعتمد في الأساس على عطاء المتبرعين وأهل الخير لدعم هذا العمل سواء كان هذا الدعم مؤقتاً أم دائماً في شكل وقف أو زكاة متواصلة؛ فإن التوجه المرئي يشير إلى انحسار التبرعات وتعرضها لتقلبات سواء كانت مؤقتة أو نتيجة أزمات اقتصادية معينة. ولما كان وجود مصادر للتمويل يعتبر عاملاً أساسياً في تحقيق الاستقرار ورسم الخطط والأعمال المتواصلة؛ لذلك وجب وجود مصادر ثابتة أو شبه ثابتة للتمويل وضمانة الاستمرارية.
ومن هنا وُضع شعار الاعتماد على الذات هدفاً أسمى للمؤسسات الخيرية، وابتكر من الوسائل ما يساعد في هذا الاتجاه. والحديث يطول عن أساليب تنمية الموارد وترشيد الإنفاق والجدوى الاقتصادية وتبنِّي المشروعات التنموية المدرة للدخل، والانتقال من مفهوم الرعاية الخالصة إلى المفاهيم التنموية، ومساعدة الناس كي يساعدوا أنفسهم كما يقول المبدأ الأساسي في الخدمة الاجتماعية.
13 ـ عدم قبول تبرعات مجهولة المصدر:
الحديث عن تنمية الموارد تجعلنا نذكر تحفُّظاً على قبول تبرعات مجهولة المصدر أو تبرعات مشروطة تجعل الجمعية أو المؤسسة تحيد عن أهدافها ومبادئها. وهذا موضوع حيوي يجب التنبه له؛ فليس من المفروض قبول أية أموال، بل يجب التأكد من هوية المتبرع والمقصد؛ بجانب النظر في الشروط التي قد يفرضها المتبرع أو صاحب المال. فالأضرار التي تحيق بالعمل الخيري في حالة عدم نُبل المقصد ضارة بالعمل بمجمله، ومن ثَم وجب التنبيه إلى ذلك والنص في لوائح الجمعيات الخيرية على الموارد المالية وقبولها وتنظيم ذلك.(236/5)
المنهج الخفي
محمد بن عبد الله الدويش
المنهج الخفي أو المستتر مصطلح تربوي له دلالته الواضحة لدى المختصين في التربية، وقد زاد تداوله في الآونة الأخيرة من قِبَل عدد من غير المختصين، وتم استعماله في غير دلالته الاصطلاحية؛ مما حدا بغيرهم إلى إنكار هذا المصطلح أصلاً والادعاء بأنه اختراع من هؤلاء.
وبغض النظر عن توظيف المصطلح في غير دلالته؛ فهو مصطلح تربوي لا ينبغي أن يخفى مفهومه على المهتمين بالشأن التربوي.
ويُعنى بالمنهج الخفي - ويسمى أحياناً المنهج المستتر أو الكامن -: كل ما يمكن تعلُّمه في المؤسسة التربوية من تعلُّم غير مقصود وغير موجود في المنهج الرسمي.
ويمكن استنباط المنهج الخفي من خلال أمور عدة:
ـ من القوانين واللوائح الداخلية والقواعد والتنظيمات العامة الموجودة في المؤسسة التربوية.
ـ ومن العلاقات العامة الموجودة داخل المؤسسة التربوية؛ كعلاقة الناظر بالمعلمين، وعلاقته بالطلاب، وعلاقة الأب بأبنائه والشيخ بطلابه، وعلاقتهم به.
ـ ومن خلفيات هذه الفئات المختلفة: الطبقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية.
ـ ومن طبيعة بنيان المؤسسة التربوية والأثاث المستخدم للطلاب والعاملين، وطبيعة المنافع والمرافق العامة.
ـ ومن شكل المعرفة داخل المؤسسة التربوية وليس مضمونها (1) .
إن الموقف التربوي يحوي عناصر مخططاً لها ومقصودة من قِبَل المربي، كما يحوي عناصر عدة غير مقصودة وغير مخطط لها، هذه الأخيرة - المنهج الخفي - ربما تركت آثاراً سلبية تفوق ما هو مخطط له وما هو مقصود.
حين يسود في البيئة التربوية حماس المربي لآرائه، ويسعى دائماً للمبالغة في إقناع المتربين باختياره الشخصي، ويحشد الأدلة العديدة لتأييدها وإثباتها، فإن المعنى المقصود والمخطط له هو هذه الآراء وتلقيهم لها، لكنهم يتعلمون مع ذلك التطرف في التفكير، والموقف الحاد في تشكيل الآراء والمواقف.
وحين تسود في البيئة التربوية اللغة الحادة في انتقاد المخالفين، والسعي لربط كل رأي مخالف بأصل لا يُختَلَف حوله حتى يثبت أنه مختلف في الأصول ـ حين تسود هذه السمة فإنها تربي في الأفراد التعصب والبغي على المخالف وتتبع العثرات والزلات.
وحين يعيش المتربي في بيئة تتعامل تعاملاً هادئاً مع المواقف، وتمارس التفكير والتحليل للآراء، ويعتاد أن يتلقى الأفكار مبررة بأدلة موضوعية؛ فإنه يتعلم - بالإضافة لما يتلقاه من محتوى بشكل مباشر - ممارسة التفكير في التعامل مع المواقف الجديدة.
ثمة أهداف عدة يسعى المربون إلى تحقيقها، لكن اختزالهم للموقف التربوي في المنهج المعلن والمخطط له يعوقهم عن اكتشاف جوانب الإخفاق لدى المتربين، ويقودهم في حالات كثيرة إلى معالجة هذه المواقف بصورة مباشرة من خلال عنصر المحتوى وحده، وربما قُدِّم المحتوى بطريقة تعوق عن تحقيق أهدافه، كمن يتحدث عن العمق وبُعد النظر بطريقة سطحية.
كما أن الوعي بذلك يفسر كثيراً من حالات القصور، أو حالات التميز التربوي لدى المتربين.
وهو أيضاً يزيد من قدرة المربين على التحكم في الموقف التربوي، وينقل كثيراً من عناصر المنهج الخفي إلى دائرة المنهج المعلن نظراً لأنها قد أصبحت مقصودة ومخططاً لها.
ولن يصل المربي مهما بلغ إلى التحكم بكل صغيرة وكبيرة، والتخطيط الدقيق لكل موقف، لكن المطلوب منه الارتقاء بأدائه، وزيادة دائرة تحكمه في المنتج التربوي.
__________
(1) انظر: المجلة التربوية. جامعة الكويت. عدد 39 ص (82 - 83) .(236/6)
استراتيجية تقزيم الهزيمة
د. حنان فاروق
يقول علماء تنمية وتطوير الذات في العصر الحديث: إن الفشل أو الهزيمة ليسا المشكلة الحقيقية لمن يُمنَى بهما، لكن المشكلة الرئيسة هي الاستسلام لهما والرضا بهما.
إن الإنسان المهزوم هو الذي يسلم قياده لهزيمته ويرتاح بطريقة أو بأخرى في كنف (عدم استطاعة) وفي أغلال (فقدان المقدرة) على تغيير الواقع والعمل على خلق غدٍ أفضل بإذن الله؛ وهو الذي يركز على الجانب السلبي للفشل ولا ينظر إليه بمنظار مختلف وناحية مغايرة للانكسارية والتيه والضياع.
لقد أدرك الغرب المناوئ للإسلام وأمريكا سيدة مشروع (القرن الأمريكي الجديد) هذا الأمر، وفهمت أن سحق أي أمة لا يأتي إلا من داخل قلوب أبنائها وعقولهم قبل أن يكون جهاداً بالسلاح، ومن ثَم فقد عملت على تأكيد هذا السحق وتعميقه حتى تبدد أي أمل في النصر القادم الذي وعدنا به رب العزة تبارك وتعالى، وكذلك حتى تنسى الأمة نهج رسولها - صلى الله عليه وسلم - واستراتيجياته في معالجة الهزائم وتحويلها إلى بدايات لانتصارات جديدة حين يتكالب الطغاة والبغاة على الأمة تكالب الأكلة على قصعتها. وها هو - صلى الله عليه وسلم -، في بداية رسالته ونزول الوحي، عندما أتاه خبَّاب بن الأرتّ ـ رضي الله عنه ـ وهو متوسد بُرْدَه في ظل الكعبة وقال له: ألا تدعو الله؟! فقعد - صلى الله عليه وسلم - وهو محمرُّ الوجه، ثم قال: «لقد كان مَنْ قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوي ـ: والذئب على غنمه» وفي رواية: «ولكنكم تستعجلون» .
كان المسلمون آنذاك في أوج هزيمتهم النفسية، يسامون سوء العذاب ليل نهار، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشرهم بالنصر والتمكين؛ بيد أنه حين رأى أن نفوسهم قد دخلت إلى منعطف الاستسلام لانكسارهم واليأس من حاضرهم أمدهم بجرعة أمل منبعثة من أعماق الإيمان برسالته؛ وكأنه يقول لهم قول الله ـ تعالى ـ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} . فالضعف لا يزيد الإنسان إلا خساراً وترهلاً نفسياً لا يؤهله لأن تقوم له قائمة، أو تبزغ له شمس.
وحين ذهب - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ولقي ما لقي من الأذى والعنت والسخرية اضطر للعودة إلى مكة مرة أخرى واستئناف ما بدأه هناك، فقال له زيد بن حارثة الذي كان يصحبه في رحلته تلك: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك (يعني قريشاً) ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا زيد! إن الله جاعلٌ لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصرٌ دينه ومظهرٌ نبيه» فبدل بقوله هذا ما أحسه زيد من انكسار وقلة حيلة وهو يرى نبي الله وأباه بالتبني ـ قبل أن يحرّم ـ يُسَبُّ ويرمى بالحجارة، إلى أمل وإيمان بنصر عزيز من لدن حكيم خبير. وحين هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة تاركين وراءهم أموالهم وديارهم وحياتهم بجوار بيت الله الحرام بعد أن سلبتهم قريش كل شيء مقابل خروجهم سالمين؛ كانوا وقتها يشعرون بالظلم القاهر لما اضطروا إليه فراراً من أذى قريش الذي أرهق أرواحهم قبل أجسادهم، وكانوا موقنين أنهم على الحق، لكنَّ تأخُّر النصر يؤلمهم ويقض مضجعهم. كانوا يتحرقون شوقاً لأن يسترجعوا حقوقهم المسلوبة وكرامتهم المنهوبة؛ فلم يتركهم الله ورسوله لهذا الشعور لكي يتغذى على نفوسهم وإيمانهم فيستسلموا له، بل نزلت الآيات الكريمة بالإذن بالقتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَي نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] .
فكانت السرايا والغزوات التي أعطتهم الدفعة نحو الأمام والثقة بأنهم قادرون على الانتصار بإذن الله؛ لا يفت في عضدهم قصور في العدة أو العدد؛ مثل سرية سِيف البحر ورابغ والحزار، وغزوة الأبواء وبواط وسفوان، وغزوة ذي العشيرة، وسرية نخلة.. تلك السرايا والغزوات لم تكن إلا لرد كرامة المسلمين الذين لم يقترفوا ما يدعو إلى إيذائهم والاعتداء عليهم إلا أنهم اختاروا الله الواحد الأحد، فباعوا له أموالهم وأنفسهم، ونصروه ولم يستسلموا للتخذيل الهدام الذي كان يبثه المنافقون في نفوسهم؛ فلما أبوا الاستسلام ونصروا ربهم نصرَهم نصراً عزيزاً مؤزراً بعد سنوات من العذاب والصبر والتحمل.
أما ما حدث بعد الهزيمة النفسية المؤلمة التي تعرض لها المسلمون في أُحُد فهو الدرس الواضح الصريح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في استراتيجية مقاومة وتقزيم الهزيمة؛ فقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين الذين شهدوا معركة أحد والمثخنين بالجراح والأحزان صباح الغد من الهزيمة بالخروج ليطاردوا فلول الكفار العائدين بنصرهم المؤقت؛ فرحين يخططون لإعادة الكرَّة للإغارة على المدينة المنورة ليفتكوا بالمسلمين وهم بعدُ لم يخرجوا من روح هزيمتهم، فهبُّوا سمعاً وطاعة لرسولهم الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم -، وعسكروا بحمراء الأسد على بُعد أميال من جيوش الكفار؛ مما جعل المشركين يفرون خوفاً منهم ومن سرعة قيام قائمتهم، وخاصة بعد أن خذّلهم معبد بن أبي معبد الخزاعي بإيعاز من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن اسلم وأدى واجبه في إكمال الحرب النفسية على الكفار والمشركين، وعاد المسلمون دون أن يمس أحدَهم سوء؛ وشعورُ النصر والقوة يملؤهم ويدفعهم دفعة جديدة بعد أن كادوا يركنون إلى إحساس الفشل والألم والحسرة.
هذا ما علَّمناه رسولنا الأمين - صلى الله عليه وسلم -. وإننا نرى اليوم الحرب النفسية على المسلمين؛ فحين تتوالى الأخبار عن هزيمة العدوان في العراق وأفغانستان أو غيرهما من بلاد المسلمين ومقتل عدد لا يحصى من أفراد القوات المحتلة.. نراهم يسمحون بتسريب أخبار عن تعذيب المسلمين في جوانتانامو وأبي غريب بأساليب تتدنى عن أحط الأخلاق الحيوانية، بل ينشرون صور ذلك الإذلال على الملأ في نشرات أخبارهم وبرامجهم السياسية والحوارية وجرائدهم المحلية والعالمية ليعمقوا إحساس المهانة لدى المسلم المتابع لقضايا مجتمعه في جميع أنحاء العالم بالصوت والصورة والشعور حتى يتغلغل داخله ويقيده فلا يستطيع منه فكاكاً.
ثم يعود العدو فينشر أخباراً عن إهانة المصحف وتدنيسه المتعمد في السجون والمعتقلات نفسها التي أُعدت خصيصاً للمسلمين القابضين على الجمر الذين جُرِّدوا من كرامتهم قبل ملابسهم تحت تهديد السلاح، ثم تعرض الصحف الأجنبية رسوماً مسيئة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترفض الاعتذار بدعوى أننا ـ أعني المسلمين ـ لا نفهم معنى الحرية الحقة، فيحمِّلوننا الإساءة والتخلف معاً.
ويعاود رأس الكاثوليك الكرَّة فيسيء للإسلام، ثم يقول: لم أقصد.. وهو الذي يعد رئيس دولة؛ فهو ليس زعيماً دينياً فحسب، ولكنه أيضاً يضطلع بالعمل السياسي مثل رؤساء الدول وملوك الممالك وسلاطينها ومن شابههم؛ وعليه فلا يمكن إدراج إساءاته تحت النقل أو زلات اللسان أو الهفوات الفكرية؛ لأنها بالقطع مقصودة، وتضيف لسابقاتها المتكررة المعلنة وغير المعلنة أرصدة جديدة من الألم النابض في قلوب المسلمين وعقولهم. ثم يعود الإعلام فينشر صور حاكم عربي كبير، مهما اختُلف عليه فهو مسلم، وهو بملابسه الداخلية في المعتقل الخاص المعد له دون إذن منه وكأنه يمعن في فضحه والنيل منه.
ثم يعود فينشر فيلماًَ لإعدامه صبيحة عيد الأضحى المبارك والمسلمون في أوج عزتهم وتوحدهم الذي يستشعرونه كل عام من كل فج عميق خلال رحلتهم لبيت الله الحرام عبر القنوات الفضائية العربية وغير العربية والإنترنت ورسائل الوسائط للهواتف المحمولة التي استكملت المشهد التلفزيوني الذي رفض إعلاميوه عرض أواخره، فقامت الشبكة العنكبوتية وأجهزة المحمول بالغرض وبالمهمة عنهم ليضرب مشاعر المسلمين في مقتل وائد لفرحتهم قبل أن تكتمل، وسعادتهم قبل أن تتم.
إنها الحرب النفسية واللعب على وتر التحطيم الداخلي قبل الخارجي، وإرساء حالة من الاكتئاب واليأس العام قبل تنفيذ أي مخطط بفترة كافية كي تتسنى التهيئة التامة لركوع المغتصَبين لغاصبيهم، بانتزاع كل أمل في النصر والتمكين من قلب الفريسة لتتبدد مقاومتها قبل أن تولد، ويشل تفكيرها قبل أن يتأجج، ويموت الحلم حتى في الخيال، فيدخل المحتل إلى حيث يريد، ويأخذ ما يريد في الوقت الذي يريد، ويجعل فريسته إما صورة في مرآته، أو كمّاً مهمَلاً في سلة قاذوراته.
إن هذا هو مفتاح الانتصار الذي يعتمد عليه الآخر في حروبه معنا، معنويةً كانت أو ماديةً؛ وبغير هذا المفتاح لا يهنأ لغاصب قلب ولا يغمض له جفن، ولا يفرح مهما حقق من نجاحات ومهما نفذ من مخططات؛ ولهذا فنحن مطالبون بقمع هزائمنا النفسية والفعلية، والعمل على الخروج من قوقعة اليأس، وزنزانة التكبيل الفكري، ودائرة الإحباط المفرغة التي ندور فيها بلا هدف غير البكاء والتباكي على حالنا بكل طريقة ممكنة ومتيسرة: بالكلمة والفعل وتعلُّم وإرساء مهارات العمل الجماعي، ونبذ ثقافة الحزن على اللبن المسكوب في مقالاتنا وفكرنا، ودراسة تاريخنا الحقيقي لا ذلك الذي لُقِّنَّاه في مدارسنا وجامعاتنا.. وأولاً وأخيراً: بالثقة بوعد الله ـ تعالى ـ لنا: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] .(236/7)
الرؤية المركبة (2 ـ 3)
د. عبد الكريم بكار
تحدثتُ في المقال السابق عن (الفقر) بوصفه نموذجاً، نرى من خلاله أسباب هذه الظاهرة، وما يمكن أن يُطرح من حلول لمعالجتها، ووعدتُ بتقديم نموذج آخر لما نريد تقريره في شأن التفكير المعقَّد، وقد رأيت أن أتحدث اليوم عن (التعليم) عبر المفردات الآتية:
1 ـ تتخذ أمم كثيرة من التعليم اليوم مدخلاً رئيساً للتقدم والازدهار، والتخلص من الكثير من مظاهر التخلف. وهناك اعتقاد عالمي قوي بضرورة تطوير التعليم، كما أن هناك شكوى عالمية عامة من قصور المؤسسات التعليمية.
2 ـ لدينا ميل شديد إلى التفسير الأحادي والرؤية البسيطة لما نراه من ضعف مؤسساتنا التعليمية على اختلاف مراحلها، والحقيقة أن معظم الناس يتحدثون عمَّا أدركوه إدراكاً فطرياً، أو ما انطبع في أذهانهم عن التعليم بسبب تجربتهم الفردية المحدودة. وقد أشرتُ في المقال السابق إلى أنه لا يصح تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد، وأنه لا بد من البحث عن العديد من العوامل التي تؤدي إلى ولادة الظاهرة الواحدة.
3 ـ في تاريخنا الإسلامي تركيز شديد على نوعية الشيوخ والمعلمين الذين يمكن للمرء أن يأخذ عنهم، فإذا كان الشيخ عَلَماً في علم من العلوم، فإن الأخذ عنه يشكل فوزاً عظيماً لمن يتمكن من ذلك؛ وتزداد قيمة القراءة على الأعلام حين يقتضي ذلك السفر والرحلة من بلد إلى بلد.
4 ـ لم يكن الارتباط بين المقدار الذي يحصِّله الطالب من المعرفة وبين الحصول على عمل أو على المال أو الرزق؛ واضحاً كالذي نراه اليوم، وهذا يؤثر في نظرة الناس إلى أهمية (العلم) في حياتهم.
5 ـ لو تساءلنا عن أوضاع المؤسسات التعليمية لدينا مقارنةً بالمؤسسات التعليمية في البلدان الصناعية؛ فإننا سنجد عدداً من الفوارق التي يمكن أن نتحدث عنها على نحو من الظن والتخمين وعلى مقدار خبرتنا المحدودة، مع التنويه بأن ما سنذكره قد لا يكون موجوداً في كل مدارسهم وكل مدارسنا، فنحن هنا نتحدث عن عموميات، وليس عن مؤسسات بعينها. ومن تلك الفوارق الآتي:
ـ لدينا في قاعات الدراسة عدد أكبر من الطلاب، مما يجعل قدرة المدرِّس على التواصل مع جميع الطلاب دون قدرة المدرِّس لديهم.
ـ مدارسهم أغنى من مدارسنا بوسائل الإيضاح وبالمعامل والمختبرات وبالورش والمعدات ... كما أن نسبة المدارس المستأجرة لديهم إلى المدارس المملوكة للحكومة أقل.
ـ بداعٍ من قلة التجهيزات والإمكانات المادية يميل التدريس لدينا إلى الشرح النظري، على حين يميل التعليم لديهم إلى الاعتماد على التجربة والتطبيق، مما يجعل دور الطالب في العملية التعليمية أكبر، ويجعل ـ من ثم ـ استفادته من الدروس أعظم.
ـ يلاحظ في السنوات الأخيرة تراجع سوية الحماسة للتعليم لدى كثير من المعلمين لدينا، وتراجع سوية الحماسة للتعلُّم لدى كثير من أبنائنا، ولا أعرف أسباب ذلك على وجه التحديد، كما أنني لا أعرف الوضع الآن في الدول الصناعية بالنسبة إلى هذه المسألة.
ـ كثير من المعلمين العرب والمسلمين لا يحصلون على مرتبات كافية، مما يجعلهم مضطرين إلى القيام بعمل إضافي في المساء؛ كإعطاء الدروس الخاصة وغير ذلك.
ـ لم تعد مهنة التعليم لدينا جذّابة كما كان الوضع في السابق؛ بسبب ضعف عوائدها المادية، وبسبب تدنِّي المكانة الاجتماعية للمعلِّم في العقود الثلاثة الأخيرة، وهذا يعني أن أصحاب أفضل العقول وأفضل المواهب لا يجدون في مهنة التعليم خيارهم الأول!
ـ لدينا أعراف وتقاليد ثقافية موروثة لا تحبِّذ منح الطالب حقَّ تقويم أساتذته والحكم على أدائهم، ولا تحبِّذ فصل بعض المعلمين من الخدمة بسبب آراء طلابهم فيهم، وهذا جعل بعض المعلمين يتمتع بحماية، لا يحظى بها نظراؤه في بعض الدول المتقدمة.
ـ يأتي الطلاب في الدول المتقدمة من أُسر أفضل تعليماً من كثير من الأُسر لدينا، وهذا يجعل الدعم الذي يتلقاه الطالب لديهم للتفوق والاستمرار في التعليم أكبر من الدعم الذي يتلقاه الطالب لدينا.
ـ التعليم الحكومي ـ في معظم الأحيان ـ مرتبك في تطوير نفسه. أما التعليم الخاص، فلدينا عدد قليل نسبياً من المدارس الجيدة، وعدد كبير من المدارس التي لا نستطيع عدَّها بين المدارس الجيدة أو المقبولة.
والمشكل هو الطالب الفقير الذي يملك الموهبة ويملك الطموح، لكن لا يجد المدرسة الحكومية أو الأهلية التي تنمِّي مواهبه، وتحقق طموحاته. والتعليم في كل دول العالم يمتلك بعض المؤسسات الرديئة وبعض المؤسسات الجيدة، وإن كانت النسبة تختلف من دولة إلى أخرى، لكن الذي يميز الدول المتقدمة في هذا الإطار شيئان:
الأول: وجود تنوُّع هائل في التخصصات؛ بدءاً من المرحلة المتوسطة، حيث يجد الطالب بيُسْر التخصّصَ الذي يرغب إكمال دراسته فيه، على حين أن هذا قليل جداً في الدول النامية والتي تكافح لتوفير الحد الأدنى من المؤسسات والتخصصات في مجال التعليم.
الثاني: وجود مدارس وجامعات ومعاهد على مستوى عالٍ جداً من الجودة، وفي تلك المدارس والجامعات تتخرج الكفاءات التي تقود الشعوب، وتقدم نماذج عالية للأجيال الجديدة.
ـ لدى الدول المتقدمة جمعيات ومؤسسات وهيئات ومجالس خيرية تقدم الدعم للتعليم، وتقدم القروض والمنح للطلاب مما يسهم في حل المشكلات المالية لكثير من المؤسسات التعليمية؛ وهذا لدينا ضعيف للغاية.
خلاصة هذه المقارنة هي: أن لدينا تعليماً ضعيفاً بل رديئاً أحياناً، وبعض مشكلاته لا يُحل إلا عن طريق المال، وبعضها لا يحتاج إلى أيِّ مال. وهذا الكلام الذي ذكرناه لا يصح أخذه على عمومه، فقد يكون لدينا مدارس نموذجية راقية جداً، وقد يكون في الدول المتقدمة بعض المؤسسات التعليمية القائمة على الغش والتزوير والرّشوة، إذاً؛ نحن نتحدث عن الطابع العام، وليس عن حالات بعينها. ومن وجه آخر فإنني لم أتحدث عن بعض ما يميز التعليم لدينا، ولا عن بعض المشكلات التي يواجهها التعليم في الغرب؛ لأن الهدف هو تكوين رؤية مركبة لحال التعليم لدينا ليس أكثر.
في المقال القادم سأحاول ـ بإذن الله تعالى ـ طرح رؤية مركبة لمعالجة مشكلات التعليم على نحو مقارب.
والله الموفق.(236/8)
دماء على ثرى الفلوجة
عبد الهادي الزيدي
كان يدرك تماماً أنه لن يصل إلى قرار ذاكرته الأخير مع هذه الانفجارات التي تخلفها بين لحظة وأخرى طائرات أمريكية لوثت بضجيجها سماء الفلوجة الوادع. نظر يميناً إلى (فراس) صديق طفولته الذي بادله النظر هو أيضاً، ورأى شفتيه تتحركان حركات منتظمة بإيقاع أدرك من خلاله أنه كان يقرأ آيات من القرآن مُدركاً أن هذا الحضور المزعج الكثيف لقصف الطائرات الغازية منعه من تحديد السورة التي كان يقرأ منها رفيقه. وبضجر من بقاء الحال على ما هو عليه.. نظر يساراً إلى (أحمد) المقاتل الآخر الذي كان قد انشغل بإعادة لثام (شماغه) الأحمر على رأسه ووجهه، مُظْهِراً عينين تومضان تحت أشعة شمس ستبدأ بعد قليل تلويحة الوداع تاركة هؤلاء الثلاثة مقيدين بوطأة القصف الشديد وشظاياه التي تزرع المكان كله بالموت والدمار، مختبئين بانتظار اللحظة المناسبة للهجوم خلف ساتر ترابي ربما لن يصمد أكثر من دقائق إذا استمر الموت الأمريكي يتناسل في المكان. على حين غفلة من الوقت أو ربما الموت أشار (فراس) إلى قائد مجموعتهم هناك رابضاً على بُعد عشرات الأمتار بين أنقاض بيت أسرة فلوجية حطمتها وحشية الطائرات فاستشهد بعضهم ونجا آخرون، واستمرت الإشارات باليد لثوان أضاعت لديه المعنى كله، وأعادت إليه خطورة الموقف الذي يلفهم الآن، وصرخ بصديقه مستغلاً لحظة الصمت بين انفجار وآخر.
- ماذا يقول؟
تجاهله (فراس) وهو يربِّت على سلاحه مطلقاً العنان لبصره باتجاه الأفق الممتد إلى الأمام. ومن خلال الغبار المتطاير ودخان الحرائق الذي يخلفه القصف العشوائي رأوا مجاميع (المارينز) يواصلون التقدم باتجاههم، وأدركوا جميعاً حجم الكارثة إذا ما بقي الحال على ما هو عليه.
كانت هذه بالطبع إحدى خطط الهجومات الأمريكية على أحياء الفلوجة، التي خلت من ساكنيها مع اشتداد المعركة وهذا بالضبط ما تمناه المجاهدون؛ فحين يأمنون على سلامة الأسر تتزاحم لديهم ثنائية النصر والشهادة، بشكل ليس له خيار ثالث.
ارتعد جسده فجأة كمن يُلقى في بركة ماء مثلج، وكاد قلبه يفر من بين أضلاعه هلعاً لانفجار قريب جداً في مخبئهم، ونظر إلى رفيقيه.. كانا مثله تماماً قد جمعهما الخوف في عباءته المخادعة؛ ومن بين ثقوب العباءة تلك كان أحمد يتنحنح؛ بينما يواصل (فراس) بصق ما دخل من جوفه من تراب تناثر مع شظايا الانفجار القريب.
كانت الخطة المعادية التي ألفوها أكثر من مرة قتل كُلّ متحرك أو مشكوك في أنه يتحرك على أرض المعركة، وكانت طائرات الهليكوبتر تحلق غير بعيدة عن مخابئ المجاهدين، بعضها يقصف ويدمر، وبعضها الآخر يراقب ويرصد أي أمل في الحياة، ناقلة المعلومات إلى طبقة أخرى تعلوها ارتفاعاً من طائرات مقاتلة ملأت سماء الفلوجة وزرعت الأجواء كلها بأصوات مخيفة وبانفجارات مروعة.
- إنه يقول: علينا بالصبر والدعاء حتى يقترب الغزاة، وحين ذاك نقاتلهم عن قرب. كسر (فراس) حاجز الرتابة الملغوم بالترقب أخيراً، ثم رفع كفيه للسماء يدعو. أدرك أن خطتهم هذه ليس لها خيار آخر رغم خطورتها، حين يقترب جنود العدو الذين ما زالوا يواصلون تقدمهم الحذر باتجاههم عبر الأنقاض والحفر التي خلفها قصف طائراتهم التي تحميهم. وصوّب بصره إلى الأمام حيث الموت يتقدم، وبمزيج مما خلَّفته الذاكرة ومن حقائق معايشة مثل هذه الظروف الحالكة أدرك ارتجاف جنود الغزاة وخوفهم الشديد حتى من حجارة الفلوجة الصامتة؛ فهم يطلقون النار على الهواء والنبات وأشلاء الشهداء الممزقة والحجارة الصماء. لقد أعماهم الخوف من المجاهدين عن التمييز بين الحق والباطل، فأصبح كل شيء يستحق الموت ما دام يصر على انتمائه إلى هذا المكان.
«اللهم إنا في سبيلك نجاهد فانصرنا» قال هذه العبارة ثم انعقد لسانه وثقل، وبقي القلب وحيداً يردد هذه الكلمات معجونة بالتوجس من موقف لا يدري كيف سينتهي وبإصرار على الشهادة على ما يحب، بين الشظايا التي لا ترحم.
بحذر أكثر من السابق رفع رأسه قليلاً عن الساتر الذي أختبؤوا خلفه؛ إذ أحس بشيء مّا يتغير في سماء المعركة، كان معظم من وقع نظره عليه في مجاميع المجاهدين القريبة يواصلون الدعاء، ونشج هو بصمت مختلط بالقلق والارتباك، لقد كان بعضهم يبكي، كان التضرع إلى الله ـ تعالى ـ قد بلغ مداه، وبلغت القلوب الحناجر، بل كادت أن تفر منها إلى المجهول، ولا يدري كيف أستعاد الآن كلمات شيخه الشهيد في معركة سابقة على ثرى الفلوجة: «إن نصر الله يأتي في اللحظة التي تتساقط فيها ممكنات النصر البشرية، ويسلمك الله لنصره المجيد حين توشك أن تسلم نفسك لقدرك المحتوم» .
فجأة أحس بيد قوية تربِّت على كتفه، ونظر مرتبكاً في وجه (فراس) الذي أتاه زحفاً مشيراً إلى جهةٍ مّا في السماء البعيدة، وحين تابع إشارته هناك اصطدمت عيناه بمرأى غيوم ترابية تتكاثف عن بُعد ثم تقترب من سماء المعركة، وأعاد النظر ثانية إلى وجه صديقه.. تمعن فيه جيداً كأنه يقرأ ما تحت سطور قسماته، كانت لحية فراس السوداء قد امتزجت بالغبار وعيناه تذرفان الدمع؛ بينما كان بقية الوجه ضاحكاً مستبشراً كمن ينتظر خبراً سعيداً سيزف إليه الآن فأحتضنه. كان جسد (فراس) يرتجف وفرحٌ مَّا يشع من قسماته كلها، ولأول مرة يستنشق منه رائحة عطر غريب ملأت قلبه وسدت عليه منافذ المكان كلها، مستغرباً أيما استغراب، من أين (لفراس) رائحة المسك كلها تلك؟!
بخطى سريعة عاد (فراس) إلى مكانه السابق وتابع بقية رفاقه وهم يصوبون بنادقهم بهمة إلى أهداف بدت الآن في دائرة رميهم المميت، أما الطائرات فقد منعتها عنهم عاصفة التراب غير المتوقعة تماماً.
إنهم الآن وجهاً لوجه: شراذم من النمل الأسود تتقدم مخلفة الدمار، محملة بتأريخ من القتل والزيف وإذلال الشعوب، ومجاميع نذرت نفسها للشهادة دفاعاً عن أرض حبيبة لا بديل لها، وتأريخ يحفل بالحب والفداء ونصر الله الذي لا يدانيه نصر.
قفز (فراس) إلى مكان أقرب إلى الأعداء وهو يطلق الرصاص بغزارة، وامتطى (أحمد) ظهر ما بقي من جدار قريب وهو يفعل الشيء نفسه، ووجد هو نفسه ـ أيضاً ـ بطلق الرصاص على أجساد بلا روح تخبطت في ركضها العشوائي يميناً ويساراً باتجاه مفر أو مأوى، وعلى مسافة قريبة منه كان أحد المجاهدين يرمي أكثر من مرة قنابل يدوية سقط على أثرها عدد من جند الأعداء، وزحف هو باتجاه مكان أكثر حصانة، أبدل مخزن بندقيته بسرعة متناهية وأنفاسه تكاد تنقطع، ثم واصل إطلاق رصاصه باتجاه من بقي من الغزاة ناظراً إلى الأفق البعيد. كان المجاهدون في الأطراف قد أكملوا التفافهم بنجاح، فوقع الاعداء في دائرة كبيرة من النيران وخلفهم تماماً على مشارف الأزقة الضيقة أرتفعت نيران الآليات الأمريكية المحترقة، ونزل منها من كان يحتمي بها من الأعداء رافعين الأكف المرتجفة والرايات البيضاء.
أطلق رصاصة على أقصى اليسار كمن شك في حركة معادية، وحين التفت إلى الجهة الأخرى تسمَّر نظره على جسد رفيق دربه (فراس) وهو يتهاوى محتضناً أرض الفلوجة الطاهرة، فركض باتجاهه.. كانت الدماء الزكية تشخب من صدره وبطنه، وهو يتمدد على الأرض مستسلماً لابتسامة عريضة ورائحة المسك الطيبة تعطر المكان.. احتضنه ثانية في تلك المعركة، كان جسده دافئاً يطلق ارتجافات أخيرة وأمواج من العطر لا تُمحى من الذاكرة؛ بينما اقتحمت أذنيه بتواصل تكبيرات المجاهدين المختلطة بالبكاء والدعاء، فصاح معهم بلا وعي كامل: الله أكبر.(236/9)
مستقبل أفغانستان في حوار مع رئيس تحرير مجلة (عزم) الأفغانية
حاوره: عبد الكريم الأفغان ي
الأستاذ (إكرام ميونرى) رئيس تحرير مجلة (عزم الأفغانية) ، وهو من الصحفيين المتابعين للشأن الأفغاني عن كثب، كان لنا معه هذا الحوار.
البيان: كيف ترى الأحوال في أفغانستان بعد خمس سنوات من الاحتلال الأمريكي الذي ادعى تحريرها؟
3 من وجهة نظري كمتابع أرى الأمور رجعت مثلما كانت عليه قبل ظهور حركة طالبان. الناس يعيشون الآن في فوضى وفي حالة لا يعرفها إلا من يعيش هناك داخل أفغانسان، الفوضى عادت والحكومة ليس لها سلطة حتى في المدن الرئيسية، وهي غير موجودة إطلاقاً لا إدارةً ولا أمناً ولا شرطة.
فغير المدن الكبرى التي من المفترض أن تتبع الحكومة، لطالبان فيها شيء من السيطرة، أما ما يسمى بعملية ترتيب الأمن في المدن الكبرى فالسيطرة للقوات المحتلة من حلف الناتو أو القوات الأمريكية، وقوات حلف الناتو يشارك فيها أكثر من 35 دولة وكلهم مشاركون سواء بالقليل أو الكثير من بريطانيا إلى فرنسا إلى ألمانيا إلى بولندا إلى كندا ... إلخ، لكنهم ـ مع ذلك ـ كلهم لم يستطيعوا أن يوفروا العيش للناس في داخل المدن أو في خارجها بخلاف الأماكن التي لطالبان فيها حضور، إذ رغم عدم سيطرتها الكاملة؛ فهي آمنة بنسبة عالية والناس يعيشون حياة هادئة.
ولذا فإن الناس لما رأوا مثل هذه الحال، ووجدوا أنهم فقدوا الأمن ولم يحصلوا بالمقابل على شيء من الوعود التي وُعِدوا بها من تطوير اقتصادي وعمراني ونحوه، كان من الطبيعي أن يحنُّوا لأيام الأمن قبل دخول القوات الخارجية والغازية. لقد انتظروا كثيراً، انتظروا سنة، سنتين، ثلاث سنوات، أربع سنوات، خمس سنوات، ويبدو أن قادة طالبان تركوا الوقت يمر حتى تسفر الأوضاع عن كذب هذه المواعيد والإعلانات، حتى إن الناس أنفسهم بدؤوا يبحثون عنهم، بعد أن ذهبت الوعود أدراج الرياح؛ ومؤتمر اليابان الذي انعقد وأعلن عن تقديم ثمانية مليارات دولار دعماً للحكومة الأفغانية لم يأتِ منها إلا الدفعة الأولى، جاءت أربعة مليارات، لكن بعد سنتين لما طُرِح السؤال: أين ذهبت المنح الخارجية من الدول المانحة؟ لم يجدوا شيئاً؛ سواء في البنك المركزي أو في وزارة المالية، ولما رجعوا إلى بعض الوزراء ليعرفوا أين أنفقت هذه الأموال، وأين صرفت لم يجدوا جواباً.
ومن النواحي الاقتصادية؛ الناس الذين تمنوا أن تفتح الأبواب الخارجية التجارية عبر الجمهوريات المحيطة، وبخاصة تركمانستان لتصدير الغاز الطبيعي إلى دول أخرى؛ لم يجدوا شيئاً، فرجعوا إلى زراعة الأفيون، والحكومة تعرف ذلك ولكنها تغاضت وتركتهم؛ بخلاف الموقف أيام طالبان في السنتين الأخيرتين؛ حيث إنها لما أعلنت حظر زراعة الأفيون امتنع عامة الناس عن زراعته من تلقاء أنفسهم، واليوم فُتِحَ لهم المجال، بل قالت الحكومة: افعلوا ما تشاؤون!! فتفاقمت زراعة الأفيون، وحسب تقرير الأمم المتحدة في العام الماضي؛ وصل إنتاج الأفيون في أفغانستان إلى 6000 طن تمثل80% من زراعة الأفيون على المستوى الدولي؛ وهذه الإحصائيات تدل على أن أفغانستان أصبحت أكبر منتج للأفيون في العالم.
البيان: ما هي تأثيرات الغزو على هوية الشعب الأفغاني من الناحية الدينية والفكرية والثقافية؟
3 لا شك أنه كان للغزاة رهان من أول يوم للأحتلال، وبدلاً من أن يبحثوا للناس عن العمل أو التعليم أو العلاج ونحو ذلك من الأشياء الرئيسية، بدؤوا بفتح ما يسمى بمعاهد الفن، لتعليم الموسيقى والغناء والرقص، وأصبح ذلك يبث على القنوات الفضائية الأهلية والحكومية، وهي الأشياء التي لم يعرفها الشعب الأفغاني، وبخاصة الجيل الجديد الذي عاش جو الجهاد وتربى فيه من ثلاثين سنة.
إن رهانهم الأكبر الآن: أن يفسدوا جيل الشباب، وأن يتمكنوا من تنشئة نخب مستغربة؛ ولذا أقاموا للشباب دورات في تعلُّم اللغة الإنجليزية والكمبيوتر، وأرسلوهم للخارج للتعلُّم في أمريكا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا في بعثات مجانية بغرض الإفساد، كما توزع الصحون الفضائية في بعض المناطق مجاناً؛ فبعض المؤسسات الأوروبية التي تسمى (خيرية) توزعها، وكنا نفرح أحياناً؛ لأنه لا يوجد كهرباء يستمر بها بث الفساد، لكن هذه المؤسسات كانت تصنع محركات صغيرة لتشغيل التلفزيونات فقط، ووزعوها على الناس بمبالغ زهيدة 50 أو 60 دولاراً فقط، وهذا يعتبر ربع أو ثلث قيمتها الحقيقية، وذلك كله باسم الخير وباسم الثقافة وكلها للإفساد. والآن يُجَهز للعام الدراسي الذي سيبدأ قريباً خمس وعشرون مليون مطوية لتوزع على الطلاب في المدارس وعلى أهاليهم كي يأخذوها لبيوتهم وتصل لكل فرد من أفراد الشعب الأفغاني، وهي مطويات تحمل محتوى الغزو الفكري والثقافي والعقدي، ويقف وراءها ما يسمى بالمؤسسات الخيرية الأوروبية وما هي إلا مؤسسات تنصيرية.
في المقابل لا يوجد من حلقات تحفيظ القرآن الكريم إلا القليل، وبعض حلقات العلماء في المساجد على الطريقة القديمة التقليدية، ولا يوجد ما يواجه هذا الغزو من جهود رسمية، ولا جهود أهلية بل من يحاول مواجهة الغزو فإنه يحارَب. وأحب أن أنبه هنا إلى أن الشيعة انتهزوا الفرصة، ولهم الآن حوزة افتتحوها ويتولاها محمد آصف محسني الذي يعتبر مرجعاً للشيعة في أفغانستان، وكان يرأس حزب (حركة إسلامي) وقت الجهاد، والآن وبالتنسيق مع الأمريكان دخل إلى كابل، واشتُريت للحوزة الأرض، وخُصص لهم مكان لإقامة الجامعة الشيعية بـ 90 مليون دولار، وكلها تنفق باسم الحوزة المرجعية في إيران، والعمل بدأ بقوة، والآن يدرس 12 ألف طالب وطالبة من الشيعة في هذه الحوزة المعروفة باسم (خاتم النبيين) في وسط كابل. وهذه بداية لتغلغل الرافضة داخل كابل، وهي تتم بمباركة أمريكية وبمساعدة مؤسسات أوروبية وطبعاً إيرانية. ومدينة (باميان) الشيعية التي كانت منطقة جبلية صحراوية يعسر الوصول إليها إلا بشق الأنفس، عُبِّدت لها الآن طرق، وبُنيت هناك مستشفيات ومدارس ومطار عن طريق أموال من إيران، وقد أصبحت الآن تنافس العاصمة كابل، واشتُريت أراضٍ داخل كابل لبناء أحياء شيعية، وقد بنوا بيوتهم في هذه المناطق وبدؤوا التغلغل في الحكومة حتى أصبح لهم اثنان من أربعة ممثلين في البرلمان عن مدينة كابل. ويمكن أن يكون بناء هذه الحوزة تمهيداً لإدخال السنَّة للتعلُّم فيها، وهم إلى الآن لم يفتحوا لهم الباب. وهكذا يأتي هذا التغلغل مع أنهم قبل عشر سنوات ما كان أحد منهم يملك بيتاً في كابل إلا قليل منهم على استحياء وتخفٍّ.
البيان: ماذا عن قضية المرأة في أفغانستان، وهي التي اعتبر الغزاة (تحريرها) هدفاً من أهدافهم الرئيسية..؟
3 من ناحية قضية المرأة فإن مشاركتها في البرلمان والدعاية لها وخروجها عن التقاليد الإسلامية؛ هذه أيضاً تعتبر من أهدافهم الرئيسية، وكذلك إخراجها للعمل الذي لا يناسبها كعاملات وخادمات في الفنادق. لكن هذه المحاولات لا تجد لها مكاناً إلا في العاصمة كابل التي يسيطر عليها الحكوميون والغزاة، لكن ـ ولله الحمد ـ في خارج كابل لا تجد شيئاً من ذلك، وكل مظهر من تلك المظاهر التغريبية يقاوَم. أما في كابل فكل تركيزهم الآن على الإفساد الثقافي والغزو الفكري فيها، وتحريض المرأة على السفور والتبرج، وقد نجحوا إلى حد خطير فيها، حتى أصبح مظهر كابل كمظهر أي مدينة غير إسلامية.
البيان: من وجهة نظرك كيف أعادت طالبان صفوفها من الناحية العسكرية، واستعادت سيطرتها على بعض المدن؟
3 أعتقد بالنسبة لطالبان أن أتباعها اختفوا في المظهر لكنهم موجودون ولم يتفرقوا، وأحسب أنه كانت هناك قنوات للاتصال فيما بينهم، هم موجودون ولم يتشتتوا، لكنهم عملياً كانوا ينتظرون فرصة لبدء أعمال المقاومة؛ وذلك عندما يطلبهم الناس، ويشعرون بالاحتياج إليهم.
وزراؤهم وقادتهم وأفرادهم، كلهم كانوا معروفين وموجودين في الداخل والخارج، ويتحركون ويتصل بعضهم ببعض. نعم! كان هناك نوع من التخفي ومن التحرك من مكان إلى مكان، لكني أعتقد أنهم لم يتأثروا بذلك كثيراً، ولم يخضعوا، صحيح أن بعضهم لم يرَ أهله منذ ثلاث سنوات أو أكثر، ويبدو أن جهدهم الآن منصبٌّ على تنسيق العمل لتحرير أفغانستان من الغزاة.
وفي خلال السنوات الخمس الماضية تكوَّن جيل جديد مقاوم، من الذين كانت أعمارهم ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة في وقت حكومة طالبان وصارت أعمارهم الآن عشرين سنة أو نحو ذلك، وقد بدؤوا الانخراط في قوات طالبان بمعنوية عالية، أقوى مما كانت عليه وقت غزو الروس ووقت حكم طالبان، ويدل على ذلك قيام كثير منهم بعمليات استشهادية، لم تكن معروفة في أفغانستان من قبل.
البيان: من وجهة نظرك كمتابع كيف تدير طالبان المناطق التي تسيطر عليها؟
3 أعتقد أنهم أعادوا ترتيب شؤونهم وتنسيقها، وبدؤوا بالمقاومة؛ مع وجود نقص كبير بالأسلحة والمعدات، لكن التضحية والمعنويات العالية غطت على كثير من نواحي النقص هذه.
أما من ناحية السيطرة على مناطق المحافظات، وبخاصة في الولايات الجنوبية والغربية والشرقية خارج المدن الكبرى، والتي قريباً أصبحت تحت هيمنة طالبان وإن لم يُقيموا إدارات حكومية هناك لكي لا تقصفهم الطائرات الأمريكية، وحتى لا يتضرر عامة الناس، وصار الناس من أهل المنطقة يديرون شؤونهم بالتنسيق مع طالبان، التي تترك الإدارة لهم وتبقي بيدها الشؤون العسكرية والأمنية، فطالبان موجودة كقيادة وإن صار غالب جيشها من الجيل الجديد الذي قد يبلغ عشرات الآلاف متى تهيأ له التجهيز.
البيان: ما هي حقيقة الموقف الباكستاني، وما تفسير تصريحات كرزاي ضد هذا الموقف؟
3 الخلافات بين كرزاي ومشرف هي طبعاً خلافات مصالح ليس إلا؛ لأن كرزاي يريد أن يساوي نفسه بمشرف، ومشرف ينظر إليه كأنه لاجئ من اللاجئين، وهكذا كان يعيش هو وأبواه وأهله كلهم في باكستان. مشرف ينظر إليه بهذه النظرة، وكرزاي يرى أن الأمور تغيرت، وقد صرح قبل مدة في تلفزيون كابل وقال: يا مشرف! أنت الآن تريد أن تستعبدني، وأي مكان تعلي فيه عَلَمَك أُعْلِي فيه علمي، وأي مكان لسفارتك موجودة فيه سفارتي، وأي قائد أو رئيس دولة يأتي المنطقة يأتيني قبلك. وبدأ يطلق تهديدات من هذا النوع، وعلى لسانه باللغة الأفغانية، وقال محتمياً بالأمريكان: بعد اليوم لن تستعبدني وتهددني. ومشرف الآن بقاؤه في الحكم بيد أمريكا، وهو يعرف هذا، وأنه إذا لم ينفذ ولم يعمل ما يقال له فسينتهي دوره. لكن المهم أن باكستان ليست عبارة عن مشرف؛ فهناك الجيش، وهناك استخبارات في الجيش، هناك الاستخبارات الخارجية التي تسمى (ASA) التي تعتبر اللجنه الحاكمة على سياسة الدولة والاتصالات الخارجية بصفة عامة؛ وهؤلاء إضافة إلى بعض الحكومة المدنية والوزراء والأحزاب والمنظمات الذين يعتبرون أعمدة النظام، هؤلاء معارضون له في انبطاحه لأمريكا، ويرون أن هذا الطريق خطأ، وأن أمريكا لن ترضى، ومعارضتهم له ليست باسم الدين أو العقيدة، بل من أجل بقائهم هم، وهم يرون أن مصالح باكستان ستذهب، بل ربما تتعرض باكستان للتشتت والتقسيم، وأفغانستان الآن تريد أراضي بيشاور وبلوشستان، وهي تقول إنها ملكها، وأعلنت أنها تريد أراضيها، بينما باكستان متمسكة بهذه الأراضي، وتبرر هذا الموقف بأنها تريد منع تسلل المجاهدين، وكرزاي يستعين بالهند على باكستان، والمخابرات الهندية ثقلها الآن كبير داخل أفغانستان، والانفجارات التي تحدث في إسلام أباد، وفي كويتا، وفي بيشاور، وفي وزيرستان؛ والتي يُحَمَّل المجاهدون عامتها هي من فعل المخابرات الهندية، والهند تريد إحداث قلاقل في باكستان من أجل أن تشغلها عن القضية الكشميرية وترتاح. فالحرب على مشرف قائمة من كل جهة: من الهند ومن أفغانستان ومن الداخل ومن الخارج، وباكستان تحت رئاسته متورطة وتريد مخرجاً بسرعة.
البيان: من وجهة نظرك هل حاولت طالبان القيام بشيء من الاتصالات مع الأطراف المتضررة من الوجود الغربي في أفغانستان، مثل الصين أو روسيا؟
3 يبدو أن طالبان عندها قناعة بأن أمريكا إذا عجزت عن مواجهة الوضع الحالي، ولم يستطع كرزاي أن يلبي طلباتها؛ فربما يبحثون عن بديل له؛ والبديل من الممكن أن يكون أحد قادة الجهاد السابقين ممن يملك ثقة به في الشارع أكثر من كرزاي وله ناس وتنظيم، وكرزاي ليس له أحد وليس له تنظيم، ويبدو أن الطالبان ما زالوا يحاولون إقامة تنسيق مع أي جهة لمساعدتهم، بشرط أن لا تفرض عليهم شروطاً بل تكون هذه المساعدة لردع أمريكا وحلفائها، ولكن رسمياً لا أظن أحداً استقبلهم أو اتصل بهم إلى الآن؛ إذ الجميع يخاف الاتصال بطالبان، والأخضر الإبراهيمي مندوب الأمين العام للأمم المتحدة لدى أفغانستان سابقاً، ذكر مؤخراً أن الخطأ الأكبر الذي يؤسفه له أنه عندما كان يشكل حكومة كرزاي، لم يلح على أن تشارك طالبان في الحكومة؛ لأن اشتراكها كان سينشئ فُرقة بين قياداتها. كما أن إيران وروسيا لا زالتا أكبر المعارضين لمشاركة طالبان في الحكم أو العودة للسلطة. أما الصين فهي لا تنظر إلا لمصالحها، وهي تنظر لطالبان نظرة إيجابية إذا لم تثر قلاقل عليها، وبخاصة في تركستان الشرقية؛ فالصين مستعدة أن يكون هناك تعامل مع طالبان، وبعض الأسلحة التي تأتي الآن، تأتي من جهة الصين ولكن بطريقة غير مباشرة وعن طريق السوق السوداء، وباكستان الآن متمثلة في مشرف ومن حوله لا تريد وجوداً لطالبان، لكن استخباراتهم تريد طالبان؛ لأن بقاءهم مرهون بوجود طالبان، وتلتقي مصالحهم مع بقاء طالبان، لكن الظاهر أن الاتصال المباشر غير موجود وأن دعمهم غير موجود، غير أن الرضى عنهم موجود. وبالنسبة للسلاح الذي تقاتل به طالبان أغلبه قديم، وحتى سلاح إسقاط الطائرات فهو سلاح روسي، والروس الآن يتحالفون مع تحالف الشمال، فيرسلون إليهم السلاح، وإيران ترسل السلاح للروافض وتخزنه عندهم. والعجيب أن طالبان تشتري من التحالف الشمالي، ومن الروافض، ومن الجيش الأفغاني، وسلاحهم أغلبه سلاح روسي، إضافة إلى بعض السلاح المورد عن طريق السوق السوداء من جهات أخرى.
البيان: بالنسبة لتحول القيادة العسكرية من الولايات المتحدة إلى الناتو ما أثر ذلك على الوضع في أفغانستان؟
3 هناك سوء تفاهم بين أمريكا وقوات الناتو، وأمريكا تريد تسليم بعض الأماكن للناتو؛ لأنها تريد التخفيف عن نفسها، وكل هؤلاء كانوا في كابل، وأمريكا كانت تُطالَبُ بأن تقوم القوات الأمريكية بالمحافظة على الولايات الأخرى، فما استطاعت تحمُّل كل العبء الذي عليها، فطلبت من حلف الناتو أن يشارك معها خارج كابل؛ لأن كابل شبه آمنة، لكن الأماكن خارج كابل مثل: قندهار، جلال آباد، وهلمند، وزابل وغيرها؛ ما استطاعت أمريكا حمايتها ولم تجد طريقاً آخر إلا أن تحمِّل الناتو هذه المسؤولية، وهؤلاء طلبوا أن يشاركوا في القيادة وقالوا: إن أمريكا تتحكم فينا وتأمرنا، وعلى هذا لا نستطيع التعامل معها، فيجب أن تكون القيادة بأيدينا. وأمريكا وافقت، ولما خرجت، كان لهؤلاء عملياتهم ولهؤلاء عملياتهم، ولم يعد لهم هناك تأثير كبير؛ فأمريكا رغم أنها سلَّمتهم القيادة فإنها لم تعطهم الثقة، ولا المعلومات التي عندها، ولا تخبرهم بمخططاتها؛ ولهذا فإن الأوروبيين في الناتو ناقمون على أمريكا. وقد حدثني بعض المجاهدين الذين عولجوا في المستشفى الألماني بكابل على أنهم مواطنون، بأن أفراداً في حلف الناتو شجعوهم على قتال الأمريكان، لما عرفوا أنهم من طالبان وأعطوهم هدايا؛ فالكل ناقم على أمريكا في أفغانستان حتى الأوروبيون شركاؤهم.
البيان: أين وصلت الأهداف الاستراتيجية الأمريكية للاستيلاء على البترول في بحر قزوين والتي كانت من أسباب غزو أفغانستان؟
3 لقد فشلوا في ذلك؛ لأن البترول في بحر قزوين لا يستأهل كل هذه النفقات التي تُنفق عليه؛ لكن هناك أهمية استراتيجية أخرى للبقاء في أفغانستان. فلا شك أن الأمريكان ما زالوا يريدون البقاء على الحدود الصينية من أجل مراقبة أجوائهم وتحركاتهم، وأيضاً قربهم من الهند ووجودهم هناك مطلوب لتحالفاتهم معهم، وأفغانستان مهمة أيضاً لمراقبة إيران من الشرق، إضافة إلى وجود أمريكا غرب إيران في العراق الذي أصبح الوجود فيه أكبر من الوجود في أفغانستان.
ولهذا فالظاهر أن موضوع الانسحاب ليس وارداً الآن، ومع هذا فالخوف يلاحقهم والعمليات كثُرت عليهم؛ فقضية الانسحاب بالنسبة لهم أقرب إلى الموت، والقوات الأمريكية أيضاً إن خرجت اليوم فحكومة كرزاي لن تبقى شهراً واحداً؛ فأول دفعة تخرجت في الجيش الأفغاني وهي عبارة عن 8000 جندي، هربوا بعد أن تسلموا السلاح وتقاضوا رواتب لمدة ثلاثة أشهر، 5000 جندي هربوا بسلاحهم والآن أرسلوا للباقين سلاحاً وسيارات، لاستقبال هجوم الربيع، أرسلوا 800 سيارة عسكرية وعدداً كبيراً من قطع السلاح، لكن هذه كلها إما ستُباع وإما ستُسرق؛ فليس هناك جيش يدافع أو يغطي على الحكومة إلا أمريكا وحلفاؤها.
البيان: من وجهة نظرك: كيف ترى توقع طالبان لزمن خروج القوات الأجنبية من أفغانستان؟
3 الظاهر أن قادة طالبان ليس عندهم توقع، وهم لا يريدون أن يتعجلوا الأمور، فهم يريدون مواصلة العمل واستنزاف العدو، وفيما يبدو الآن لا يريدون أن يقاتلوا قوات عدوهم وجهاً لوجه في معركة فاصلة؛ لأنهم سيخسرون أكثر، وعدوهم سيستفيد أكثر في المواجهة النظامية؛ فعملياتهم الآن فقط هي ما يسمى بحرب العصابات: تفجيرات وهجمات وكمائن؛ إضافة إلى العمليات الاستشهادية التي لم تكن موجودة في أفغانستان من قبل، ولكنها انتشرت بعد إنجازاتها في العراق؛ فالتدريب كثر الآن على العمليات الاستشهادية؛ فالفرد الواحد يدمر عدداً كبيراً من معدات العدو ويقتل من جنوده، ولكن فيما نرى أن تفجيرات طالبان لا تكون في الأماكن السكنية ولا في الأسواق كما هو حاصل في العراق؛ بل كلها موجهة للعدو.
والظاهر أن عمليات الاستنزاف العسكري التي تقوم بها طالبان هي أيضاً عبارة عن استنزاف اقتصادي واستنزاف نفسي، وهذا يضر بالقوات الأمريكية وحلفائها الغزاة أكثر مما يحدث في الحرب وجهاً لوجه في حرب نظامية قد يستفيدون منها أكثر؛ والذي يبدو أن طالبان غير مستعجلة لخروج أمريكا، ولكنها تريد استنزاف القوات الغازية.
البيان: ماذا عن هجوم الربيع لطالبان، وهل الأمريكان فيما ترى يريدون من طالبان أن تستعجل وتقوم بهجوم كبير ينقلهم إلى مواجهة نظامية؟
3 نعم! هم يريدون هذا الشيء؛ فهم يريدون أن تكون هناك حرب مواجهة وحرب جبهة ليعرفوا أماكن قوات طالبان، كما حدث في (زابل) حيث كان لقوات طالبان مراكز يتنقلون بينها، ولكن الآن تخلّوا عن هذه الفكرة، وهم يعيشون الآن بين الناس يشاركونهم في الأحياء، والمعلومات التي عندنا أن أعدادهم في أي عملية تتراوح بين خمسة إلى عشرة أفراد، وفي المبيت لا يزيد عددهم عن عشرين فرداً، فلا يجتمع 200 فرد أو 100 فرد أبداً، ولا يبيتون ليلتين في بيت واحد؛ والأمريكان لا يريدون هذا وإنما يريدون حرب المواجهة، وطالبان كما يلاحظ مدركون لهذا الأمر جيداً؛ ومن ثَم لن يُجَرُّوا لذلك؛ فخطتهم الآن ناجحة ومؤثرة، وهم يمشون على ما يريدون لا ما يريده الأمريكان وحلفاؤهم.(236/10)
حكومة الوحدة الفلسطينية هل تنجح في فك الحصار؟
فرج شلهوب
تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية كنتاج مهم لاتفاق مكة الذي جمع حماس وفتح برعاية سعودية؛ رفع سقف التوقعات الفلسطينية بإمكانية فتح ثغرة في جدار الحصار المالي والسياسي على الشعب الفلسطيني المفروض منذ فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي قبل نحو عام. بل إن هناك من المراقبين الصهاينة من ذهب إلى أبعد من ذلك، في أن نجاح الفلسطينيين في إنهاء حالة الاحتراب الداخلي وصولاً إلى تشكيل حكومة وحدة، هو نذير بخسارة الدولة العبرية ما راهنت عليه طوال الوقت: كسر حماس وإخراجها من المعادلة السياسية الفلسطينية عبر ضائقة الحصار المالي والسياسي، بعدما تعذَّر تطويعها للاعتراف بالدولة العبرية والقبول بشروط الرباعية، وهو ما عبَّر عنه رئيس الوزراء الصهيوني (إيهود أولمرت) في أول لقاء له مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بعد اتفاق مكة، بقوله له: (لقد خنتني) ، حيث كانت الجهود قبل الاتفاق (الفلسطيني ـ الفلسطيني) أمريكياً وصهيونياً وبمشاركة إقليمية ودولية وفلسطينية منصبّة على حشر حماس في خانة الاختيار بين الخروج من المعادلة السياسية أو القبول بشروط الرباعية، حتى لو اقتضى الأمر دفع الساحة الفلسطينية إلى حالة خطيرة من الجوع والإفقار والاقتتال الأهلي.
حكومة الوحدة إذاً وبتقديرات الكثيرين شكَّلت رافعة مهمة تسمح للفلسطينيين بمواجهة الضغوط الخارجية - وفي ذروتها الحصار المالي - من نقطة مختلفة، وعلى نحو انتقل فيه الطرف الفلسطيني من مربع ردِّ الفعل إلى مربع صناعة الفعل، فوحدة الموقف الفلسطيني أعطت ميزة مهمة وطاقة إضافية للفلسطينيين لمواجهة الضغوط الخارجية.
أولاً: باستجماع القوة الفلسطينية جميعاً للوقوف صفاً في مواجهة الحصار.
وثانياً: بإخراج طرف فلسطيني مهم ومؤثر من مربع الشراكة مع الصهاينة في فرض الحصار ونقله إلى مربع مقاومة الحصار.
وثالثاً: زيادة حجم الضغوط النفسية والعملية على الأطراف التي تقف وراء الحصار، فما يتم حصاره الآن ليس حكومة حماس، وإنما إجماع الشعب الفلسطيني.
دون أن نغفل أموراً أخرى أسهمت بفاعلية في بلورة القناعة بإمكانية كسر الحصار وتجاوز الفلسطينيين لما تفرضه عليهم الدولة العبرية من عقوبات، فوقوف المملكة العربية السعودية بكل ثقلها السياسي والاقتصادي والديني وراء اتفاق الفلسطينيين؛ أعطى هذا الاتفاق حصانة عربية وثقلاً دولياً، وهو ما ظهر جلياً في تردُّد الإدارة الأمريكية وتل أبيب في إعلان رفض اتفاق مكة، وارتباك أدائهما السياسي في التعاطي مع حكومة الوحدة الفلسطينية؛ قبولاً أو رفضاً.
وإذا كانت أطراف عربية قبل اتفاق مكة اختارت الوقوف في مربع فرض الحصار على حكومة الشعب الفلسطيني التي شكلتها حماس، فإن انحياز المملكة العربية السعودية إلى لعب دور أساس في إعادة ترتيب الأوضاع الفلسطينية، وعلى قاعدة الاعتراف بنتائج الانتخابات وتكريس الشراكة السياسية بين الفرقاء الفلسطينيين، أعاد صياغة الموقف العربي على القاعدة ذاتها اعترافاً وقبولاً بالشراكة، وهو ما عبرت عنه الأطراف العربية بقبول اتفاق مكة والانفتاح على حماس، بصورة أو أخرى.
والمراهنة الآن فلسطينياً على تقدم الموقف العربي خطوة عملية أخرى باتجاه كسر الحصار المالي، تنفيذاً لقرارات عربية سابقة تنتظر التفعيل، وتتوفر لها هذه الأيام فرصة للتحقق؛ فالإدارة الأمريكية تعيش أسوأ ظروفها في العراق وأفغانستان، وأزمتها مع إيران في تصاعد وتفاقم ولا تجد طريقها إلى الحل، فيما تزداد حاجة هذه الإدارة إلى دعم العواصم العربية الرئيسة؛ القاهرة والرياض، ما يعني أن خطوة عربية جادة لكسر الحصار لن تحظى بممانعة أمريكية قوية، فيما يتوفر للأطراف العربية ظروف عمل أكثر ملائمة للتقدم خطوة أكثر على هذا الصعيد وغيره، وما يجعل الأمر أكثر يسراً لا أخلاقية الموقف الأمريكي الصهيوني في فرض العقوبات على الشعب الفلسطيني على خلفية تصويته في الانتخابات بعكس ما تريد واشنطن وتل أبيب، وهو الموقف الذي بات يثقل دول الاتحاد الأوروبي ويدفع ببعضها للابتعاد عن التزام الموقف الأمريكي والصهيوني إزاء هذا الموضوع.
إن الموقف الرسمي العربي ـ وفي طليعته الموقف السعودي على خلفية رعايته للاتفاق الفلسطيني ـ بات ملزماً من الناحية الأخلاقية والسياسية فعل ما يستطيع لإنجاح الاتفاق الذي تم باحتضانه ورعايته، ولعل ما تستطيعه المملكة العربية السعودية والدول العربية من ورائها على هذا الصعيد شيء كثير، ودون الالتفات للموقف الأمريكي والأوروبي. وإذا ما قررت الرياض أن تتخذ خطوة عملية على صعيد كسر الحصار المالي، فإنه سيكون لموقفها هذا تداعيات مهمة، عربياً ودولياً، وربما شكَّل الخطوة الأهم في فرض الأمر الواقع على كل من الدولة العبرية والولايات المتحدة، في ظل حالة تفكك باتت واضحة في الموقف الدولي؛ أوروبا والأمم المتحدة، إزاء استمرار الحصار. ولن يمضي وقت طويل ليتم إقناع الأمريكيين والصهاينة بالكف عن عبثهم وضغطهم على الفلسطينيين، والمسألة هنا تعني شهوراً قليلة وليس سنوات، بل هناك من يراهن على أن الموقف الأوروبي ـ وتحديداً فيما يخص كسر الحصار المالي ـ قد بات محسوماً ولا يحتاج إلا إلى بعض الوقت لترجمته، وإن التلكؤ فقط يستهدف عدم الاصطدام مع الأمريكيين سريعاً. ومعلوم أن الاتحاد الأوروبي ـ وليس أمريكا ـ هو المانح الرئيس للمساعدات للفلسطينيين.
إن جملة من العوامل والمعطيات باتت تفرض نفسها على سياق الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني. وإمكانية أن تظل الدولة العبرية ـ وفق مزاج يخصها ـ ممسكة بزمام الأمر والنهي في هذه الجغرافيا المثقلة بالهموم والتوقعات؛ لم يعد أمراً ممكناً؛ فحكومة (أولمرت) ـ التي تجرعت قبل شهور قليلة هزيمة منكرة في لبنان ـ لا تستطيع أن تعيش على حد السيف، وهي في هذه الأيام تعيش أسوأ أوضاعها الداخلية ويتراجع التأييد لرئيسها إلى مستويات مفزعة، فيما استمرار أسر الفلسطينيين للجندي الصهيوني يضغط على أعصاب الحكومة الصهيونية، ويذكرها بخيباتها، وأن بوسع الفلسطينيين رغم ضعفهم:
أولاً: الاحتفاظ بالجندي الصهيوني الأسير تحت عين الدولة العبرية دون أن تكون قادرة على تحريره.
وثانياً: إن اعتراف كل الأمم لا يمنح الدولة العبرية الشرعية طالما أن الفلسطينيين لا يقرون هذا الاعتراف، وهو ما تفعله حماس التي ترأس حكومة الوحدة.
إن حكومة الدولة العبرية الآن أو بعد قليل من الوقت، باتفاق مع إدارة بوش أو بدفع وضغط منها ستقف أمام استحقاقين مهمين، ولا بد أن تدفع الثمن، بعدما دشَّن الفلسطينيون نهاية عصر التنازلات المجانية.. هذان الاستحقاقان هما:
الأول: صفقة تحرير (جلعاد شاليط) بعدما استحال عليها تحريره كل الوقت الماضي.
الثاني: توسيع التهدئة باتجاه الضفة الغربية بعد تعزيزها في غزة كشرط لدفع المسار السياسي ولو شكلياً، كما ترغب واشنطن وتخطط له.
فهل سيقبل الفلسطينيون أقل من تحرير أموال الضرائب الخاصة بهم والتي تحتجزها الدولة العبرية منذ نحو عام، والتي تجاوزت نصف المليار من الدولارات؟ وماذا بشأن استمرار الحصار وسياسات الإغلاق ومصادرة أموال الضرائب الفلسطينية مستقبلاً؟ لقد أظهرت اجتماعات الحكومة الصهيونية ـ التي انعقدت بعد تشكيل حكومة الوحدة الفلسطينية ـ تبايناً بين (أولمرت) وزعيم حزب العمل وزير الحرب الصهيوني (عمير بيرتس) ، ففي حين ضغط (بيرتس) لاتخاذ الحكومة الصهيونية قراراً بالتعامل مع وزراء الحكومة الفلسطينية الأعضاء في حركة فتح أو المستقلين، وتعزيز اللقاء مع (أبو مازن) لتنشيط العملية السياسية من أجل قطع الطريق على حماس، عارض رئيس الوزراء (إيهود أولمرت) فتحَ أي علاقة مع أيٍّ من وزراء الحكومة، وكانت حجته ـ التي من الممكن أن يكون فيها مقتله ـ أن (أبو مازن) ضعيف ولا يستطيع توفير البضاعة بالتعبير الصهيوني، وأن هنية وليس عباس هو الرجل القوي في غزة والضفة الغربية، ما يعني ـ حسب كلام (أولمرت) ـ أن طرح مبادرة سياسية مع عباس لا تقبل بها حماس، ويعجز (أبو مازن) عن تمريرها ستقود ـ حين يصبح الفلسطينيون أمام الجدار ـ إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة لا تريدها الدولة العبرية، وهو ما عايشته بعد فشل مفاوضات بارك - عرفات في (كامب ديفيد 2) باندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000م.
(أولمرت) وهو يقرأ هذا المسار يتجاهل أن استمرار الحصار وانسداد الأفق السياسي قد يدفع لما هو أسوأ مما يتوقع؛ فمن جهة: أي بديل يتوقعه الصهاينة إذا فشلت حكومة الوحدة الفلسطينية لهذا السبب أو ذاك؟ وهل ثمَّة ضمانة لاستمرار وجود سلطة فلسطينية من أي نوع في ظل تزايد الدعوات الفلسطينية لحل السلطة والعودة إلى معادلة (شعب في مواجهة احتلال) أو دعم خيار الدولة ثنائية القومية، بفعل الأمر الواقع وهو ما تخشاه الدولة العبرية أيضاً، المسكونة بإنجاز حلم الدولة اليهودية النقية من غير اليهود.. فيما الديمغرافيا الفلسطينية تنجز فعلياً على الأرض الأغلبية السكانية بين البحر والنهر العام القادم؟!
وحركة حماس كم يمكنها أن تنتظر لتتخذ قرارها إزاء استمرار الحصار ومحاولات شطبها من المعادلة السياسية، برغم كل المرونة التي أبدتها وتبديها للتعايش مع تعقيدات الوضع الفلسطيني؟ والأهم من ذلك هل يسع الدولة العبرية أن تغمض العين عما يجري داخلها وحولها وعلى مسافات ليست بعيدة عنها؟ وإذا ما قررت واشنطن أن تنسحب من العراق أو عجزت عن إيجاد حل لمعضلتها مع إيران؛ فماذا يمكن أن يحدث؟!
والواقع العربي هل يعيش في الفراغ خصوصاً بعد تردِّي القوة الردعية للدولة العبرية وتآكلها في لبنان وغزة؟ والحديث الصهيوني المتواصل عن استعدادات سورية وتزودها بالسلاح ودور إيراني محموم على تلك الجبهة؟ هل تقف المنطقة على شفير الحرب التي يمكن أن تندلع لأتفه الأسباب بفعل الاحتقانات الكثيرة وحجم التحشيد والاستعدادات؟ من الممكن أن تتجاهل حكومة الاحتلال كل هذا، إلا أنها لن تستطيع أن تتجاهل أن ثمّة شعباً مقهوراً تحتل أرضه وتفرض الوصاية على هوائه ومائه، بات ينزع للاستقلال مهما كلَّفه الثمن وهو في طور استجماع كل قدر من القوة ليفرض وجوده بخلاف ما يقرر الاحتلال ويرتب له، وأن الكثير من المعطيات الإقليمية والدولية تخدمه في هذا النزوع!!
والمحصلة من كل هذا أن إرادة الحصار بدأت تتراخى، وأن عوامل التآكل لاستمراره بدأت تفعل فعلها، وأنه لن يمضي وقت طويل حتى يقف الاحتلال الصهيوني أمام استحقاق: إما فك الحصار أو توقّع الأسوأ.
__________
(*) مدير تحرير صحيفة السبيل الأردنية.(236/11)
المخطط المرسوم للحركة الإسلامية في فلسطين أهداف وأبعاد
عدنان أبو عامر
كشفت الأحداث الأخيرة في الأقصى الشريف، وما قامت به السياسة الصهيونية من استهداف مكشوف للمسجد الأقصى، وتعد سافر على حرمته، ومحاولة النيل من أساساته وصولاً إلى هدمه كلياً ـ كشفت عن فئة جديدة من الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم منذ نكبة عام 1948م، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها وما زالت تبذلها الآلة الأمنية والاستخباراتية لاقتلاعهم من أرضهم وإلحاقهم بأشقائهم اللاجئين الفلسطينيين الذين توزعوا على بلاد الشتات ودول المهجر.
هذه الفئة تمثلت في الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948م، وزعيمها الشيخ رائد صلاح، الذي بات يشكل (كابوساً) للسياسة الصهيونية، ولا سيما في ظل الدور التاريخي والوطني الذي قامت به للذود عن المسجد الأقصى، وكشف المخططات الصهيونية التي تستهدف الأقصى، تاريخاً وتراثاً وديانة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
التحليل التالي يكشف النقاب عن نشأة الحركة الإسلامية، والعداء التاريخي الذي حدد علاقتها بالاحتلال الصهيوني، نظراً للدور الوطني والديني الذي لعبته في أوساط فلسطينيي الـ (48) ، فضلاً عن الإشارة إلى الجهود التي بذلتها - وما زالت - للدفاع عن الأقصى، وصولاً إلى تقديم قراءة للمستقبل المنظور للحركة في ضوء التهديدات الصهيونية الأخيرة.
3 أولاً: نشأة الحركة ودورها:
تعود الجذور الأولى لنشأة الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام (48) إلى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، عندما بدأ المد الإسلامي في العالم العربي وفلسطين، ومنها إلى أراضي عام الـ (48) ؛ حيث كان أبناؤها يدرسون في المعاهد والمدارس الدينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما ساعد على انتشار هذا المد الإسلامي تراجعُ الفكر اليساري في العالم العربي لصالح الصحوة الإسلامية، وتخوُّف أبناء (فلسطين 48) من الذوبان في المجتمع الصهيوني أو ما سمي بانتشار (تيار الأسرلة) حيث أقيمت أول نواة للحركة الإسلامية في بلدة كفر قاسم عام 1972م.
وهكذا فإن الحركة الإسلامية بالعموم ليست حركة حديثة، بل هي ذات عمق وبُنى قوية، وتعود في ظروف نشأتها إلى احتكاك أبنائها بأنصار الحركة الإسلامية في الضفة الغربية وقطاع غزة وتأثرهم بها، وأدت دراسة قياداتها في جامعات الضفة إلى تبلور البعد التنظيمي عندها، ثم قامت الحركة الإسلامية في بدايات انطلاقتها وحماستها بتشكيل خلية عسكرية أُطلق عليها اسم (أسرة الجهاد) نسب إليها العديد من أعمال المقاومة، وأدى اكتشافها إلى صاعقة في دولة الاحتلال، وعندما ألقي القبض على زعماء الحركة عام 1981، وحكمت المحكمة الصهيونية على عدد منهم بالسجن عدة سنوات بتهمة العلاقة مع تنظيم أسرة الجهاد المسلح السري الإسلامي، تأثرت نشأة الحركة وامتدادها بفعل الضربة الموجهة لقياداتها، غير أن خروج قادة الحركة فيما بعد أدى إلى التفاف جماهيري قوي حولها.
أما عن دورها الوطني، فإن هناك مجالات كثيرة خدمت من خلالها الحركة الإسلامية فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948م، وقد تجسد ذلك في أوضح صوره من خلال تأسيس ما أسماه الشيخ رائد صلاح بـ (المجتمع العصامي) ، والمقصود به بناء ما يشبه الدولة الإسلامية العربية في فلسطين الـ (48) داخل الدولة الصهيونية، بحيث يكون لهم مؤسساتهم الخاصة وتمويلهم الخاص وتجارتهم، ولا يعتمدون على الصهاينة في أمورهم المعيشية.
وقد أكدت الحركة أن تأسيسها لذلك المجتمع يأتي بسبب الظروف الصعبة التي مروا بها، والحصار الذي فرض عليهم عقب انتفاضة الأقصى، والاضطهاد الديني على أيدي الصهاينة، مشيراً إلى أن هدف المشروع هو اعتماد فلسطينيي (48) على الذات، وعدم وضع أنفسهم تحت رحمة الحكومة الصهيونية؛ بحيث نعتمد على أنفسنا. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى إنشاء هيئة الإغاثة العليا التي تشرف على العديد من المهام الصحية والاجتماعية والمرافق لفلسطينيي (48) ، والسعي القائم حالياً من قِبَل الحركة للبحث عن تمويل لمشروعات نابعة من الفكر الإسلامي، مثل إحياء الوقف الإسلامي، وباب الوصية وفكرة الثلث وغيرها.
ثم أخذت الحركة بعد ذلك مساراً اتسم بالحذر وممارسة الأبعاد الدعوية والاجتماعية، وممارسة خصوصية إستراتيجية بعدم العمل المقاوم ضد الاحتلال، وبالمقابل كان توجهها الاجتماعي ناجحاً وملفتاً؛ حيث استطاعت تأسيس الجمعيات الخيرية وإقامة العشرات من المخيمات الشبابية الصيفية، وبناء وإصلاح العشرات من المساجد، وافتتاح عدد من المعاهد والمستشفيات والمدارس، وإقامة العديد من المظاهرات والاعتصامات المواكبة لأحداث الضفة والقطاع، وخاصة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.
وهنا لا يستهان بالجهد الخيري والاجتماعي الذي مارسته الحركة في دعم وكفالة الأيتام وأبناء الشهداء والأسر الفقيرة في الضفة والقطاع، معتمدة في ذلك على التبرعات التي حصلت عليها من فلسطينيي (48) ، ورغم أن هذا العمل تمارسه الحركة بشكل علني وقانوني، فإنه كان مصدر اتهام وسبباً في إغلاق الجمعيات، واعتقال أبنائها تحت بند أن هذه الأموال تذهب للمقاومين بشكل أو بآخر. ويبدو أن ما لا تقوله المؤسسة الأمنية الصهيونية هو خوفها من استمرار تعزُّز المشاعر الوطنية والارتباط بالقضية الفلسطينية لدى فلسطينيي (48) ، عبر ربط أبناء الشهداء مثلاً بكفلاء ميسورين من فلسطينيي (48) .
كل ذلك أدى إلى استقطاب مطرد ومتسارع، وثقة عالية بأطروحات الحركة التي حاربت بقوة المفاسد الأخلاقية التي نُشرت بين شباب فلسطينيي الداخل، ووقفت بصلابة ضد كل مظاهر (الأسرلة) وعملت في المقابل على تقوية الشعور الديني والوطني. وهكذا نجحت الحركة في استعادة بناء هياكلها، مما أسفر عن نجاحها في الفوز برئاسة العديد من البلديات العربية عبر انتخابات محلية ضمن سعيها لتحسين أحوال فلسطينيي 1948م مثل مدن وبلدات أم الفحم، وكفر قاسم، وكفر برا، وجلجولية، ورهط، واقتسمت مجالس أخرى مع قوائم عربية أخرى منافسة.
وكان أكثر من ذلك؛ فقد اتسع نشاط الحركة الإسلامية ليشمل السعي لرعاية وتخفيف المعاناة عن أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل وصل نشاطها حتى مسلمي البوسنة وكوسوفا وغيرهم، عبر إنشاء عشرات اللجان والهيئات الإغاثية والخيرية والتربوية.
على الصعيد السياسي، أعلنت الحركة الإسلامية رفضها التام للمشاركة في انتخابات الكنيست الصهيوني لأسباب دينية، تتعلق برفضها إضفاء الشرعية من قِبَلها على دولة الاحتلال الصهيوني، وحتى عندما وقع انشقاق داخل الحركة بين مؤيد للمشاركة في الانتخابات بهدف التأثير في القرار الصهيوني ومعارض لها، بقيت الغالبية من أبناء الحركة الإسلامية تعارض المشاركة في هذه الانتخابات، مما أثار عداء المؤسسة الصهيونية لها، والتي بدأت حرباً لا هوادة فيها ضد الحركة وصلت لحد التحقيق مع كبار شيوخ الحركة، والتهديد باعتبارها خارجة على القانون، ومن ثَم مطاردة أعضائها، واعتقال بعض رموزها.
3 ثانياً: الشيخ رائد صلاح ... سيرة ذاتية:
يعد الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني من أشهر الشخصيات السياسية الإسلامية، ومن أكثرهم مواجهة للسياسات العدائية الصهيونية بحق الفلسطينيين ومقدساتهم، وبرز في مجال الدفاع عن المقدسات والأوقاف الإسلامية، وخاصة المسجد الأقصى المبارك؛ حيث ترأَّس مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية، التي تعمل على حماية وترميم المقدسات والأوقاف التي حولتها سلطات الاحتلال إلى حظائر وخمارات ودور للبغاء.
الشيخ رائد صلاح من مواليد مدينة أم الفحم شمال فلسطين، أب لسبعة أبناء، وينتمي لإحدى العائلات التي بقيت في أرضها، ولم تنجح العصابات اليهودية في حينها من تهجيرها عام 1948م.
تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في أم الفحم، وحصل على بكالوريوس في الشريعة الإسلامية من جامعة الخليل الإسلامية، وبدأ نشاطه الإسلامي مبكراً، حيث اعتنق أفكار الحركة الإسلامية، ونشط في مجال الدعوة داخل الخط الأخضر منذ المرحلة الثانوية، وكان من مؤسسي الحركة الإسلامية في الداخل في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، وغدا من كبار قادتها.
خاض الشيخ رائد الغمار السياسي من خلال ترشيح نفسه لانتخابات بلدية أم الفحم، كبرى المدن العربية في الداخل الفلسطيني، ونجح في رئاستها ثلاث مرات كان أولها في عام 1989. وبدأ نشاطه في إعمار المسجد الأقصى يتعاظم منذ عام 1996، واستطاع أن يُفشل المخططات الساعية لإفراغ الأقصى من عمارة المسلمين، عن طريق جلب عشرات الآلاف من عرب الداخل للصلاة فيه عبر مشروع (مسيرة البيارق) . كما تقيم الحركة بقيادة الشيخ رائد سنوياً مهرجاناً عالمياً في مدينة أم الفحم باسم (الأقصى في خطر) يحضره نحو 60 ألف فلسطيني، وقد رأت مصادر في جهاز الأمن الصهيوني أن إقامة هذا المهرجان خطراً ينبع من اعتقاد قادة الحركة بصورة راسخة بصحة نظرية المؤامرة الصهيونية الهادفة للمس بالمسجد الأقصى وتدميره.
بدأ الاستهداف الصهيوني للشيخ رائد منذ البدايات الأولى لنشأة الحركة الإسلامية؛ حيث اعتبرته مصادر أمنية أخطر قادة الحركة الإسلامية على الأمن الصهيوني، وفي الوقت نفسه أكثرهم شعبية في أوساط الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، ويعبترونه أكثر قادة الجمهور العربي (تطرفاً) . ووصل الأمر بالمؤسسة الأمنية لأن تصفه بأنه أكثر شخصية إسلامية في العالم بأسره (تحريضاً) على الدولة الصهيونية بسبب سياستها تجاه الأقصى، بعد نجاحه في أن يعيد الأضواء إلى المسجد الأقصى في كل مرة ينجح فيها العدو في إبعاد الأضواء عنه، ولا سيما أنه يعي ما تمثله قضية القدس للفلسطينيين والعرب والمسلمين؛ ولذا يحاول دوماً إثارتها.
وقد عمدت السلطات الصهيونية للتضييق على الشيخ رائد منذ فترة طويلة؛ ففي بداية أكتوبر 2002 أعلن أن جهاز الأمن العام (الشاباك) يرجح وجود أساس راسخ لتقديمه وعدد من قادة الحركة للمحاكمة، وتلقت وزارة القضاء توصية بهذا الصدد، في ضوء اتهامات موجهة له بإقامة علاقات مع تنظيمات معادية في داخل البلاد وخارجها، كما اعتقلته الشرطة الصهيونية عام 2003، مع 13 رجلاً من قادة الحركة بزعم أنهم قاموا بتبييض أموال لحساب حركة المقاومة الإسلامية (حماس) .
يشار إلى أن الشيخ رائد تعرض لمحاولة اغتيال على يد قوات الاحتلال خلال مواجهات انتفاضة الأقصى، وأصيب برصاصة في وجهه.
ومؤخراً أصدرت محكمة صهيونية قراراً بتمديد فترة بقائه بعيداً عن أسوار المدينة القديمة للقدس مسافة 150 متراً، بحجة تنظيمه مظاهرات ضد عمليات الحفر بالقرب من المسجد الأقصى.
ثالثاً: العداء التاريخي بين الحركة والاحتلال:
شكل العداء والتربص سمة واضحة لطبيعة علاقة دولة الاحتلال بالحركة الإسلامية، وهكذا وصل تصاعد المواجهة بين أجهزة مخابراتها والحركة إلى حد إغلاق العديد من المؤسسات الإغاثية والخيرية الإسلامية، ومنع الشيخ رائد صلاح من السفر للخارج، والتحقيق مع قادة الحركة عدة مرات بتهمة العداء للدولة الصهيونية، إلى أن وصلت العلاقة إلى حد اعتقال عدد من رموز الحركة وعلى رأسهم الشيخ رائد.
وتبدي أجهزة المخابرات الصهيونية تخوفاً واضحاً من أن البنية الصلبة للحركة الإسلامية توجد في مناطق المثلث والجليل، وهنا يكون التخوف كبيراً من نوازع انفصال فلسطيني ثقافي، أو أن تكون هذه المنطقة مثيرة للقلاقل الأمنية، أو أن تشكل بنية مساعدة لمقاومة الفلسطينيين في الضفة وغزة.
كما زاد من التخوف الصهيوني أن الكثير من خلايا المقاومة الفلسطينية استعانت بأبناء الحركة الإسلامية لتنفيذ عملياتها في العمق الصهيوني، ورغم أن أجهزة المخابرات لم تستطع أن تثبت توجه الحركة تجاه عسكرة النضال؛ فإنها اعتبرت تحريض الحركة ضدها كافياً لخلق نوعيات فلسطينية مرتبطة بالمقاومة، وهذا ما عبر عنه (كارمي غيلون) رئيس جهاز الشاباك السابق الذي قال: يجب ضرب عناصر الحركة الإسلامية حتى لو لم يكن لهم علاقة مباشرة بالعمل العسكري.
لقد وصل العداء الصهيوني للحركة إلى حد إصدار مكتب رئيس الوزراء الأسبق (إيهود باراك) من حزب العمل تقريراً بالغ الخطورة يصف فيه الحركة بأنها (خطر إستراتيجي على مستقبل الدولة؛ لأنها تسعى لاستغلال الديمقراطية لإقامة دولة إسلامية) وأكثر من ذلك؛ فقد صرح رئيس الوزراء الأسبق (بنيامين نتنياهو) عن حزب الليكود تصريحاً لافتاً اعتبر فيه (أن الحركة الإسلامية ورم سرطاني يجب استئصاله) .
وقد أخذ هذا العداء يتطور تطوراً ملحوظاً وتصاعدياً، من خلال عدد من الإجراءات، أهمها:
1 - تقديم جهاز المخابرات (الشاباك) توصية أمنية تعتبر الشيخ رائد صلاح محرضاً يستحق المحاكمة، وتعتبر مدينته (أم الفحم) التي يرأس مجلسها البلدي (حاضنة الإرهاب) .
2 - صدور قرار من وزارة الداخلية بمنع الشيخ رائد من السفر خارج البلاد.
3 - إغلاق صحيفة (صوت الحق والحرية) الناطقة باسم الحركة بزعم أنها بوق لحركة حماس.
4 - إغلاق مكاتب الإغاثة الإنسانية الذراع الاجتماعي للحركة.
5 - مطالبة الأجهزة الأمنية من المستشار القضائي اعتبار الحركة الإسلامية خارجة عن القانون.
6 - شن حملة اعتقالات استهدفت أكثر من 15 ناشطاً من الحركة على رأسهم رئيسها الشيخ رائد صلاح.
رابعاً: جهود الحركة للدفاع عن الأقصى:
أدى النشاط المتصاعد للحركة الإسلامية لحماية المسجد الأقصى إلى كشف المخططات الصهيونية الهادفة لهدمه والنيل منه، فعمدت الأجهزة الصهيونية إلى التحذير من (الخطر الإسلامي القادم) ، ومحاولات كثيرة للتذكير بأعمال الحركة العسكرية القديمة من جهة، وإطلاق تخوفات من إستراتيجية الحركة النهائية الهادفة - برأيهم - إلى القضاء على دولة الاحتلال؛ كل ذلك كان ضمن حدود لعبة الإعلام بالشكل العلني، والجهد الاستخباري بالشكل الباطني. غير أن التحولات الصهيونية المتسارعة والجديدة إزاء الحركة الإسلامية تحديداً، لها أسباب تتعلق بنشاط الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح في جهد مميز لربط الأقصى بالهم الوطني لفلسطينيي (48) ضمن حملة (الأقصى في خطر) هذه الحملة التي لم تقتصر على الجهد الإعلامي فحسب، بل قامت الحركة ببرنامج عملي لذلك تمثل في:
أ - تسيير حافلات مجانية لزيارة الأقصى كل يوم جمعة، مما جعل الأقصى عامراً بالوجود الإسلامي والفلسطيني، ومن ثم الارتباط الإيماني.
ب - عمارة وتشييد المصلى المرواني، وهو الأساس الذي منع تقدم الحفريات من جهة، وصعَّب على المفاوض الصهيوني طرح مسألةِ ما تحت الحرم، وكأنها مسلَّم بها كحق مثلما جرى في مفاوضات (كامب ديفيد) الثانية التي فشلت فعلياً بسبب تقسيم السيادة على الأقصى.
ت - ملاحقة الحفريات مما أدى للكشف عن الأنفاق والحفريات الأثرية الخطيرة التي تقوم بها دولة الاحتلال بغفلة من الفلسطينيين والمسلمين، مما أدى بشكل مباشر لاندلاع انتفاضة فلسطينية عام 1996، سقط فيها أكثر من 80 شهيداً وألف جريح.
ث - رعاية المسجد والقبة الشريفة بشكل دوري وفعلي، مما جعل المسجد الأقصى ملتقى علمياً وإيمانياً دائماً.
ج - إقامة مهرجان سنوي خاص بالأقصى أصبح مع مرور الوقت أكبر تجمع للفلسطينيين تحت ظل قضية القدس.
وخلال الفترة الأخيرة حين كشفت الحركة النقاب عن الحفريات الصهيونية، ودعا الشيخ رائد صلاح إلى انتفاضة جديدة لحماية المسجد الأقصى، احتجاجاً على الحفريات بالقرب من ساحة الحرم القدسي، متهماً دولة الاحتلال بمحاولة بناء هيكل سليمان في ساحة الحرم، قائلاً: إن أيديها ملطخة بدماء العرب.
\ خامساً: مستقبل المواجهة أمام الحركة:
وصل الأمر بالدولة الاحتلالية إلى أن تعلن مؤخراً أن هناك توجهاً لحظر الحركة الإسلامية، ووضعها خارج إطار القانون، على لسان عضو الكنيست من الليكود (يسرائيل كاتس) ، بعدما وقفت موقفاً صارماً أمام استهداف المسجد الأقصى، وحشد الرأي العام العربي والدولي ضد الممارسات الاحتلالية، وهو الأمر الذي دعا الحركة لأن تعلن أن هذا التوجه يعد استمراراً لحملة التحريض الدموي التي تشنها المؤسسة الصهيونية على الحركة ورئيسها.
ولم يكن هذا التوجه الخطوة الأولى تجاه الحركة الإسلامية؛ فقد سبق أن أعلن جهاز (الشاباك) أن الحركة بمثابة قنبلة موقوتة، وتمثل تهديداً على الأمن الصهيوني وتماسك جبهة الدولة الداخلية، وهو الأمر الذي يحتم على مؤسساتها إدراك حجم الخطر الذي يختفي خلف أنشطة هذه الحركة بأسرع وقت ممكن، قبل أن يكون من المتأخر جداً إصلاح نتائج إهمال هذا الملف، كما حمل رئيس جهاز المخابرات العامة السابق (آفي ديختر) بشدة على النظام التربوي المعمول به في المؤسسات التعليمية الخاصة بالحركة، محذراً بشدة من قوة الحركة الآخذة في التعاظم بشكل مقلق، متوقعاً أن تحقق إنجازات أكبر وأوسع في الانتخابات البلدية القادمة.
وهكذا فإن المعركة الدائرة بين الصهاينة والحركة، وفي حال اعتبارها غير شرعية وخارجة عن القانون، سيهدد كيان الدولة العبرية ذاتها؛ حيث قد تضطر الحركة في هذه الحالة لاتباع أساليب سرية، وخوض مواجهة داخلية مع الصهاينة تضاعف العبء الواقع عليهم، جراء المواجهة مع حركات المقاومة الفلسطينية، ولا سيما أن الناطق باسم الحركة أعلن أن الحركة ستدرس بدائلها إذا تم تصنيفها حركةً محظورة.
علماً بأن عدداً من المسؤولين الأمنيين الصهاينة أقروا مؤخراً بمحدودية الخيارات المتوفرة أمامهم لمعالجة مستقبل الحركة، رافضين الدعوات الصادرة من اليمين واليسار باعتبار الحركة خارجة عن القانون، وحظر أنشطتها؛ لأن ذلك سيعني انتقال حركتها إلى السر؛ وهو الأمر الذي يجعل من الصعب مراقبة أنشطتها، فضلاً عن أنه من غير الممكن حالياً تقديم أدلة للمحكمة تبرر إخراجها من نطاق القانون وحظر نشاطها.
ومع ذلك؛ فإن القراءة المستقبلية للصراع الدائر بين الطرفين يشير، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه لا يمكن لدولة الاحتلال أن تنتصر فيه، نظراً لكون الحركة تجاوزت الشكل النخبوي إلى التفاعل الجماهيري، كما أن الاعتقالات التي جرت قبل عامين باستعراض بوليسي وإعلامي كان واضحاً منها أنها تحذير ورسالة لكل فلسطينيي (48) ، وتذكيرهم بأن هناك عصا صهيونية غليظة لمن يتجاوز الخطوط الحمراء، ويحرض أو يفكر بتهديد أو يساعد مَنْ يهدد الأمن الصهيوني؛ لكن هذه الرسالة ستؤدي على الأغلب لنتائج عكسية؛ لأن الفلسطينيين ليس لديهم ما يخسرونه من ميزات.
إذاً؛ يبدو أن الصِّدام بين الحركة الإسلامية ومشروعها ودولة الاحتلال وسياساتها حتمي وقادم، وهو ما سيبقي سياسة القبضة الحديدية معلنة في وجه الحركة، مع إمكانية استمرارها وتصعيدها بين الحين والآخر وصولاً إلى نقطة الصدام النهائية دون أي أثر لخط الرجعة.
__________
(*) باحث فلسطيني في الشؤون الصهيونية.(236/12)
الحكومة الفلسطينية الجديدة.. والسقف المنخفض جداً
د. محمد مورو
تنفَّس الجميع الصعداء عقب نجاح كلٍّ من رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) في التوصل إلى اتفاق حول الحقائب الوزارية، ومن ثم ظهور حكومة الوحدة الوطنية القائمة على تقاسم السلطة بين كلٍّ من فتح وحماس، وهو الأمر الذي تأخر قرابة شهر كامل منذ توقيع اتفاق (مكة) وحتى تسوية الأمور والتراضي بوزير داخلية محدد والذي كان أكبر العقبات في هذا الصدد، ومن ثم إعلان الحكومة، ثم حصولها على ثقة البرلمان الفلسطيني في 17/3/2007م.
ومن الملاحظ هنا أن البرلمان ـ الذي يتكون من 132 عضو ـ لم يحضر منه سوى 89 عضواً؛ لأن الباقين ما زالوا خلف أسوار السجون الصهيونية؛ بعد اختطافهم لهم بمن فيهم رئيس المجلس الدكتور (عزيز دويك) . وهذه إحدى المفارقات والتحديات التي تواجهها الحكومة الجديدة!
على كل حال؛ فإن تلك الحكومة قد حصلت على أغلبية (83) صوتاً من (89) ؛ لأن أعضاء الجبهة الشعبية رفضوا التصويت لتلك الحكومة بدعوى أنها حكومة فتح وحماس فقط وليست حكومة الوحدة الوطنية، أما حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية فإنها أصلاً غير ممثَّلة في البرلمان الفلسطيني؛ لأنها رفضت أصلاً دخول الانتخابات البرلمانية، على أساس أن ذلك نوع من الاعتراف الضمني بمشروعية اتفاقية أوسلو، ومن ثم نوع من الاعتراف بالحكومة الصهيونية المحتلة.
ويرى بعضهم أننا الآن أمام ثلاثة اتجاهات في الواقع الفلسطيني: اتجاه يرى ضرورة التمسك بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر وعدم الاعتراف ـ من ثم ـ بأي اتفاقات موقعة؛ سواء كانت اتفاقات أوسلو أو قرارات ما يسمى بـ (الشرعية الدولية) أو (مقررات القمة العربية) .
والاتجاه الثاني يرى إقامة دولة فلسطينية على كل الأراضي المحتلة عام 1967م، أما الاتجاه الثالث فيرى الحصول على أي مكاسب حتى ولو كان إقامة الدولة على جزء من أراضي 1967م؛ لأن هذا هو الممكن والمتاح.
حصلت الحكومة الجديدة على ثقة البرلمان، وأصبحت أمراً واقعاً، وفي خطاب تكليف الحكومة قال الرئيس محمود عباس (أبو مازن) : إن الفلسطينيين ينبذون العنف بكل أشكاله، ودعا الدولة العبرية إلى استئناف مفاوضات السلام؛ للتوصل إلى حلٍّ يستند إلى الشرعية الدولية.
أما رئيس الوزراء إسماعيل هنية فأكَّد أن حكومته ستعمل على إقامة الدولة الفلسطينية دون الاعتراف بالدولة العبرية، وقال: إن حكومته تحترم جميع قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقَّعتها منظمة التحرير.
الملاحظة الأولى التي لاحظها المراقبون أن تلك الحكومة هي حكومة فتح وعباس أكثر منها حكومة حماس وهنية من زاوية الخطاب السياسي التي التزمت به، أو برنامجها الذي قدَّمته، ومن زاوية الحقائب الوزارية المسندة إلى كل طرف؛ فالحقائب الهامة والسيادية ذهبت إلى فتح، مثل: وزير الخارجية، ووزير المالية، وحتى وزير الداخلية إلى حدٍّ ما، مع الأخذ في الاعتبار هنا أن مجموعة الأجهزة الأمنية الموجودة على الأرض - ما عدا القوة التنفيذية - أصعبُ من أن ينجح أي وزير داخلية مهما كان انتماؤه من أن يطوعها خارج الولاء لفتح أو حتى لشخصيات داخل فتح لها أجندتها الشخصية وارتباطاتها الخارجية المعروفة، ومن ثم فإن التحدي الأكبر الذي ستواجهه هذه الحكومة، وسيكون الصراع في حقيقته حول بناء أجهزة أمنية حيادية لا تنتمي إلى تيار سياسي معين أو استمرار سيطرة فتح على تلك الأجهزة ومن ثم محاولة تذويب القوة التنفيذية التابعة لحماس في هذا الاتجاه.
3 هل فرَّطت حماس في ثوابتها؟
تنفَّس الناس الصعداء ليس أملاً في أن تصبح حكومة الوحدة الوطنية ـ التي تم تشكيلها ـ قادرةً على حل مشكلات الحصار والتردي الاقتصادي والحل السياسي وإنهاء الفلتان الأمني، ولكن على الأقل؛ لأن الفشل في ذلك يعني عودة الاقتتال الداخلي بين حماس وفتح، وهو أمر يدمي قلوب كل الناس بكل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني والعربي والإسلامي.
وهذا يدفعنا إلى تفهّم موقف حماس التي يرى بعضهم أنها فرَّطت في عدد من الثوابت أو أنها راوغت بالكلام المطاط حولها؛ لأن البديل كان صعباً ومروعاً، ولكن هذا الأمر يعني أن حماس تم استدراجها إلى الانتخابات أصلاً، ومن ثم تشكيل الحكومة من خلال خطة مبرمجة لدفعها تحت ضغط التلويح بالحرب الأهلية للقبول بما لا يمكن أن تقبله من قبل، ومن ثم فإن الحصار الأمريكي والصهيوني، والحرب التي شنَّتها قطاعات معينة داخل فتح لها ارتباطات أمريكية وصهيونية كان لدفعها دفعاً في هذا الاتجاه.
أيّاً كان الأمر فإن تمسك حماس بالثوابت أصبح أمراً عليه بعض الغبار، فلا يمكن ـ مثلاً ـ أن يقول إسماعيل هنية ـ رئيس الوزراء التابع لحماس ـ إن حكومته تحترم قرارات الشرعية الدولية! والاتفاقيات التي وقَّعتها منظمة التحرير الفلسطينية، مثل: أوسلو، وواي ريفر، والقاهرة، وخارطة الطريق، وقررات القمم العربية.. إلخ، ثم يقول بعدها أنه لا يعترف بالدولة الصهيونية.
وبديهي أن الكلمات المطاطة هذه لن تجدي شيئاً في المسألة، فلا يمكن في علم المنطق الجمع بين المتناقضات، وكل ما يأمله المحبّون لحماس أن يكون ذلك من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، وألا يستمر مسلسل النزول؛ من وثيقة الاتفاق الوطني، إلى برنامج حكومة الوحدة الوطنية، إلى القبول بقرارات الرباعية الدولية.. إلخ. وأما أن يكون القول حول أن ذلك يمثل الحكومة ولا يمثل حركة حماس ذاتها حتى ولو كانت مشاركة في الحكومة فهذا ـ فيما نحسب ـ كلام ليس له رصيد على أرض الواقع، خصوصاً وأن حركة حماس - وليست حكومة حماس - حتى الآن في تهدئة فعلية مع الكيان الصهيوني، رغم أن الجيش الصهيوني ـ مثلاً ـ قام باقتحام مدينة نابلس في اليوم نفسه الذي تم فيه أداء الحكومة لليمين الدستورية!
أكثر من هذا فإن وزير الخارجية زياد أبو عمرو ـ وهو من فتح طبعاً ـ ولكونه وزيراً ضمن وزارة يرأسها إسماعيل هنية طبعاً ويعبِّر عن الوزارة كلها وفقاً للأعراف الدستورية التقليدية؛ قد صرَّح عقب تشكيل الحكومة مباشرة لصحيفة (جيورزاليم بوست) الصهيونية أن برنامج الحكومة الجديدة ينطوي على اعتراف صريح بـ (الدولة الصهيونية) ، وأن هذا الاعتراف تضمّن في العديد من بنود هذا البرنامج الذي يتحدث عن احترام الاتفاقات الموقعة، ومن بينها: الاعتراف المتبادل بين الدولة العبرية ومنظمة التحرير، علاوةً على اتفاقية أوسلو.
ويبدو أن قيادات حماس كانت تدرك ذلك كله وتعرفه مسبقاً وأنها كانت بين خيارين أحلاهما مرّ؛ فإما الاستمرار في الحرب الأهلية، والانسحاب من الحكومة والسلطة والعودة إلى قواعدها، فتثبت أن خيارها كان فاشلاً من البداية، وأن خيار حركة الجهاد كان أصوب عندما قالت: إنه لا يمكن الجمع بين السلطة والمقاومة معاً؛ لأنهما نقيضان، ولأن للسلطة تحت قاعدة أوسلو ضروراتها الحتمية التي لا تتفق مع خيار المقاومة. وسيكون هذا الانسحاب بالنسبة لحماس يعني أنها فشلت في تحقيق ما وعدت به شعبها، ومن ثم فإنها تتخلى عن الشعب الفلسطيني لصالح عصابة ولصوص خطفوا قرار السلطة، وإما ـ وهو الخيار الثاني ـ أن تقبل بالهروب إلى الأمام وقبول حكومة وحدة وطنية مع تقديم تنازلات على المستويين السياسي والداخلي.. غير أنها قد اختارت الطريق الأخير على أساس أن الأيام ستضعف قبضة الذين خطفوا قرار فتح، وأن بالإمكان عدم التنازل أكثر منذ ذلك، وأن (الحكومة الصهيونية) لن تقدِّم شيئاً على المستوى السياسي يمكن قبوله، ومن ثم فهي لن تضطر إلى توقيع اتفاقات لا تقبلها، وأنها يمكنها ـ من ثم ـ تحقيق نجاح داخلي، دون التوسط في أمور وصفتها هي من قبل بالخيانة.
ولكن هل المسألة بمثل هذه البساطة، وهل حركة حماس بإمكاناتها وقدرتها على المناورة وذكائها الحمساوي تستطيع أن تحقق تلك المعادلة الصعبة.
3 سياسة العصا والجزرة:
الموقف الأمريكي والصهيوني يتّسم بالغطرسة ليس تجاه الحكومة الجديدة فقط، ولكن تجاه اتفاقية مكة كلها، ولا ترضى أمريكا والحكومة الصهيونية بغير تصفية حماس، تماماً، وإنهاء جناحها العسكري (كتائب عز الدين القسام) ، وكذلك الجناح المقاوم في فتح (كتائب شهداء الأقصى) ، وخضوع كلٍّ من فتح وحماس للتوجهات الأمريكية والصهيونية، بل إننا نكاد نقول: إن (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية جاءت إلى المنطقة عقب اتفاق مكة في محاولة أخيرة لإفشال الاتفاق ومنع تنفيذه وإقامة حكومة الوحدة الوطنية، وجاءت مرة أخرى بعد تشكيل الحكومة الجديدة للهدف نفسه، وتحاول كل من الولايات المتحدة والحكومة الصهيونية الضغطَ بأقصى درجة على الوضع الفلسطيني في اتجاه إما (الخضوع الكامل) من جانب حماس أو ما تسميه بالقبول بمبادئ الرباعية، وتحديداً إنهاء وجود كتائب عز الدين القسام، وتغيير كل ثوابت حماس، وإما استمرار الحصار والتجويع والاعتداءات الصهيونية العسكرية، وهذه السياسة تفسر الموقف الأمريكي الصهيوني من الحكومة الجديدة؛ فرئيس الوزراء الصهيوني دعا إلى مقاطعة الحكومة الجديدة، بل ووصل الأمر إلى حدِّ التهديد بمقاطعة وزراء من فتح في الحكومة حتى المعروفين بـ (الاعتدال) ؛ لأن هؤلاء على حد قول المصادر الصهيونية لا يمكن النظر إليهم بمنظور آخر؛ لأنها حكومة واحدة تستفيد جميع وزاراتها من الأموال المحولة إليها بما فيها الوزارات التي يتولاها أعضاء حركة حماس.
في الإطار نفسه قال المتحدث الرسمي باسم الحكومة الأمريكية: إن الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة على المساعدات للحكومة الفلسطينية سيظل قائماً. وعلى جانب موازٍ فإن المراقبين لمسوا تغيّراً طفيفاً من الدول الأوروبية تجاه موضوع الحصار بعد تشكيل الحكومة الجديدة، فوزير الخارجية النرويجي (ريموند يوهانسن) التقى رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية - وهو من حماس طبعاً - وهذا يعني: تخفيف المقاطعة الدبلوماسية الأوروبية للحكومة الفلسطينية، وهذا هو الاجتماع الأول بين هنية ودبلوماسي أوروبي رفيع المستوى منذ أن نجحت حماس في الانتخابات التشريعية. وفي الإطار ذاته قالت مجلة (ديرشبيجل) الألمانية: إن مسؤولاً رفيع المستوى في الخارجية الألمانية قال: (إن القيادات الفلسطينية بذلت مجهوداً كبيراً؛ فإذا تخلَّى الأوروبيون عنها بعد إعلان الحكومة الجديدة سيكون ذلك خطأ فادحاً) .
وبديهي أن تخفيف الحصار الأوروبي سيكون له مقابل سياسي سوف يطلب الأوروبيون دفعه في اتجاه تحقيق شروط الرباعية، فهل هي إذن عملية تقسيم أدوار حتى ولو بدون اتفاق مسبق بين أوروبا وأمريكا والحكومة الصهيونية؟!
3 على ماذا تراهن حماس؟
لا يمكننا بالطبع أن نتصور أن قيادة حماس من الغباء بحيث إنها مستعدة للتخلِّي عن الثوابت أو طريق المقاومة أو جناحها العسكري، فبديهي أن ذلك سيقتل حركة حماس فوراً وبالسكتة القلبية، ومهما كانت (براجماتية حماس) ومرونتها فإنها غير قادرة على ذلٍّ أبداً، وإلا لانتهت صدقيتها، بل وصدقية التيار الذي تمثله أو تنتمي إليه في العالم كله، وهو ثمن باهظ، ومن ثم فمن الضروري أن تبحث عن تفسير آخر، وأعتقد أن حماس تراهن على أن الحكومة الصهيونية لن تقدم شيئاً يمكن أن يقبله أحد، ولا حتى فتح، ومن ثم فالطريق هنا مسدود، وسوف يضيع الوقت حول هذا الأمر، ولن تغير تلك الحكومة وأمريكا سياستهما، حتى تنتهي فترة الحكومة والعودة إلى (انتخابات تشريعية جديدة) فإما أن يكون الواقع قد تغير داخلياً، وإما تنسحب حماس من دخول الانتخابات أصلاً تحت أي ذريعة.
وإن قبول حماس ـ من ثم ـ بشروط فتح في حكومة الوحدة الوطنية يعطيها الوقت والمناورة لتحسين أوضاعها الداخلية، ويقرب حماس من الحكومات العربية، ويحقق نوعاً من الدعم العربي - الحتمي في تلك الحالة حتى لو لم توافق أمريكا على ذلك - للشعب الفلسطيني؛ ومن ثم تحقق حماس شيئاً من تحسين ظروف الفلسطينيين؛ لأن الحكومات العربية ـ بعد أن وافقت حماس على القرارات العربية ـ لم يعد هناك مبرر لاستمرار قبولها الضغط الأمريكي بشأن حصار حماس، وهكذا فإن هذه الدول سواء أقبلت أمريكا أم رفضت ستقوم بدعم الحكومة الجديدة وإنهاء حالة الحصار المفروضة عليها.
تلك ـ طبعاً ـ مناورة صعبة تقوم بها حماس، والله نسأل التوفيق لكل من يريد الخير للأمة والشعب الفلسطيني، ونسأله ـ تعالى ـ أن يخذل من خذلهم وأن ينصر من نصرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي.(236/13)
الاستراتيجية الأمريكية ـ الصهيونية في تفتيت حماس
محمد مصطفى علوش
النجاح الذي حققته السياسة الأمريكية والصهيونية في تدجين (منظمة التحرير الفلسطينية) قد أصبح استراتيجية لهما في التعامل مع باقي الفصائل والحركات الفلسطينية بشكل عام. وها هما يحاولان تطبيق تلك السياسة مع حركة حماس إلاّ أنها لم تنجح حتى الآن.
وإذا ألقينا نظرة على الوضع الفلسطيني قبل أوسلو ومدريد في بداية التسعينيات من القرن الماضي، نجد أن لاءات (منظمة التحرير الفلسطينية) كانت: تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وعدم الاعتراف بالمحتلّ كدولة، واعتماد الكفاح المسلَّح السبيل الوحيد لتحرير كامل التراب الفلسطيني.
ثم جاء احتلال العراق للكويت ووقوف (ياسر عرفات) آنذاك إلى جانب (صدام حسين) الذي وجّه عدداً من صواريخ (سكود) الروسية الصنع إلى الدولة العبرية، إلاّ أن هزيمة العراق أمام قوات التحالف آنذاك ومحاصرة عرفات ومنظمته مالياً من قِبَل دول الخليج الذي وقف ضدها، إضافة إلى رغبة الولايات المتحدة بالتقريب بين العرب والصهاينة أدَّى بعرفات إلى قبول التفاوض مع الصهاينة، وكانت سلسلة اللقاءات التي بدأت منذ مدريد مروراً بأوسلو والتي لم تنتهِ حتى الآن.
وماذا كانت النتيجة؟
1 ـ الاعتراف بالدولة العبرية باعتبارها دولة!
2 ـ نبذ الكفاح المسلَّح وسيلة لإعادة الحق المسلوب.
3 ـ انشقاقات داخل منظمة التحرير، سلبتْها حصرية (المرجعية الوحيدة للحق الفلسطيني) أو الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.
4 ـ غرق في مفاوضات لا تنتهي، كلما تغيرت حكومة العدو الصهيوني عادت المفاوضات إلى الصفر من جديد.
5 ـ صراع داخلي بين التيارات والحركات الممثلة للشعب الفلسطيني.
6 ـ إنشاء قوى أمن فلسطينية دورها شرطي صهيوني ينظم المرور ويراقب المتطرفين ويعتقل المقاومين للعدو داخل السلطة الفلسطينية.
وبالمقابل لم يجنِ (عرفات) سوى وَهْم دولة فلسطينية مخنوقة محاصرة، ليس لها مقوّمات دولة حقيقية حتى تعيش وتحيا، حيث إن الدولة التي أعطيت لعرفات دُرست بعناية من قِبَل الصهاينة بحيث لا يمكن أن تستمر طويلاً، وأن تبقى عبارة عن مستوطنة صهيونية منبوذة وفي طريقها إلى الزوال، بل إن الدولة العبرية كانت تريد من (عرفات) كل شيء في مقابل لا شيء، ولم تسمح له ولا لغيره بمناقشة القضايا الأساسية والمصيرية، مثل: قضايا اللاجئين والقدس والاستيطان الذي لم يتوقف يوماً. ولما أراد أن يرفع الصوت قليلاً كانت النتيجة أن قامت بسمِّه كما أشار طبيبه الخاص.
3 الصهاينة وحماس والانتخابات:
نجاح الولايات المتحدة والصهاينة في تدجين (منظمة التحرير الفلسطينية) واستيعابها دفع بهما إلى اعتماد الاستراتيجية نفسها مع حركة حماس، مع بعض التعديلات، وبما أن جميع المؤشرات كانت تؤكد قدرة حماس على سحب البساط من تحت منظمة (فتح) لتصبح الحركة الأكثر شعبية ونفوذاً على الساحة السياسية الفلسطينية، وذلك بالتزامن مع تزايد نفوذ الإسلاميين في مصر، الأمر الذي سيؤثر فيما بعد على طبيعة التوازنات الإقليمية في المنطقة في حال وصل الإسلاميون إلى الحكم في لبنان ومصر والمغرب، وربما يقيمون حلفاً استراتيجياً ممتداً إلى خارج المنطقة العربية ليتصل بتركيا وإيران؛ فكان البديل حثّ حماس في فلسطين والإخوان في مصر للمشاركة بفاعلية في الانتخابات النيابية في كلا البلدين.
وكانت تقضي الاستراتيجية الأمريكية - الصهيونية أنه في حال لم تفز حماس بالأكثرية في المجلس التشريعي الفلسطيني فإنها لن تغير شيئاً من مسار الوضع القائم، ومن ثم فإن اللاءات التي كانت ترفعها في أيِّ حشد شعبي لها سيتلاشى، وسينقلب عليها مؤيدوها. وأما في حال حصدها للأكثرية النيابية التي تمكّنها من تشكيل الحكومة الفلسطينية فإن الاستراتيجية تقضي بتوريطها في الحكم، وعرقلتها داخلياً بعدم مشاركة (فتح) لها، وخارجياً بتجفيف التمويل المالي عن السلطة الفلسطينية، وبهذه الطريقة تتراجع شعبية حماس بعد أن تثبت ضعفها أمام الشعب الفلسطيني، فتُحلّ الحكومة ويُدعى إلى انتخابات برلمانية مبكرة، أو تستنجد بـ (فتح) لمشاركتها في السلطة مقابل التنازل عن كثير من الأمور التي تنازل عنها بالأمس (ياسر عرفات) ؛ من ضمنها: الاعتراف بالدولة العبرية.
وسار المخطط وفق هذه الاستراتيجية، فما إن حصلت حماس على الأكثرية، حتى حاولت (فتح) عرقلتها حين رفضت مشاركتها في تشكيل الحكومة، وتركت لها الجَمل بما حمل من حيث الظاهر، في الوقت الذي جمَّدت (اللجنة الرباعية) ـ التي يديرها حقيقةً الطرف الأمريكي دون غيره ـ مساعداتها المباشرة لحكومة السلطة الفلسطينية بقيادة (حماس) ، مشترطة لاستئنافها ثلاثة شروط، هي: الاعتراف بالدولة العبرية، وترك الكفاح المسلَّح، والالتزام بتنفيذ الاتفاقات الصهيونية ـ الفلسطينية المبرمة. ولتسريع القضاء على حماس أو ابتزازها سحبت الدولة العبرية تحويلات العوائد الضريبية التي جمعتها سلطات الجمارك الصهيونية وهيئات التأمين الوطنية لتصبح حماس مخنوقة من الداخل والخارج.
3 الحرب الأهلية وسيلة ضغط ليس إلا!
لكن الذي حدث هو استيعاب حماس للصدمة وفهمها المسبق للخطة، وقد حاولت فكَّ الحصار من خلال التمويل الذاتي أو من دول مثل: إيران، إلاّ أنها لم تنجح في فكِّ الحصار ولم تستسلم أيضاً كما كان مخطط له، حتى بدأت التظاهرات الشعبية تتزايد، ما أدّى إلى صراع مسلَّح علني بين حماس وفتح، الأمر الذي برّر من حيث الظاهر دعوة عباس ـ حين علم أن حماس لن تستقيل ولن تسلِّم لهم الحكم ـ إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة.
ومن المريب أن الصراع المسلَّح جاء عقب زيارة (رايس) للمنطقة وعقب مؤتمر (دافوس) الذي شهد لقاءات فلسطينية صهيونية أمريكية وراء الكواليس بين (محمود عباس) و (شيمون بيريز) ومسؤولين أمريكيين، وتردد أنه بحث أساليب دعم (الرئاسة) الفلسطينية على حساب الحكومة، سواء في صورة تسليم 100 مليون دولار من الدولة العبرية للرئيس (عباس) أو في صورة تقديم الرئيس (جورج بوش) دعماً محدداً للرئاسة الفلسطينية.
وكانت صحيفة (معاريف) كشفت في 6 فبراير 2007م عن ثلاث خطط وضعها الجيش الصهيوني لإشعال فتيل الاقتتال الداخلي، وهي:
1- الخطة الأولى: تنفيذ مذبحة كبرى بين الأطراف الفلسطينية المتنازعة على غرار مذبحة (صبرا وشاتيلا) يستطيع الاحتلال التدخل عسكرياً فيما يجري في مناطق السلطة الفلسطينية.
2- الخطة الثانية: تتضمَّن دعوة للدولة العبرية من حركة فتح للتدخل فيما يجري.
3- الخطة الثالثة: اندفاع آلاف أو عشرات الآلاف من الفلسطينيين نحو الحدود مع قطاع غزة هرباً إلى الضفة، في حالة نشوب معارك شديدة وحدوث قتل كثير وكارثة إنسانية كنتيجة لتفاقم الوضع في الشوارع مما سيدفع جيش الاحتلال إلى التدخل.
3 حماس تتفوق بالنقاط:
لم تخضع حماس للضغوط رغم أن الحرب الأهلية كانت تلوح بالأفق، الأمر الذي دفع فتح وبمساعدة سعودية للتفاوض مع حماس في مكة. وعلى الرغم من محاولة الدولة العبرية عرقلة اتفاق مكة من خلال إعادة العمل بالحفريات حول المسجد الأقصى إلا أن الاتفاق قد تمَّ، وعند التوقف أمام هذا الاتفاق نجد أنه حقق لحماس نصراً دبلوماسياً وسياسياً من خلال النقاط التالية:
1 ـ حقن دماء الفلسطينيين، وقضى على حالة الفلتان الأمني.
2 ـ أعاد البوصلة الفلسطينية إلى اتجاهها الصحيح في مقاومة المحتل.
3 ـ تفويت الفرصة على الصهيوني والأمريكي في تقسيم الفلسطينيين إلى معتدل ومتطرف.
4 ـ كسب حماس للشرعية الدولية بعد كسبها للشرعية الشعبية في الانتخابات.
5 ـ الحدّ من التدخلات الخارجية في الوضع الفلسطيني.
6 ـ هذه الحكومة ستتمكن من رفع الحصار الاقتصادي المفروض على الشعب الفلسطيني.
7 ـ الحدّ من مسلسل التنازلات السياسية المجانية لصالح إسرائيل.
8 ـ تدشين شراكة جديدة بين فتح وحماس قد تكون بداية لأي عمل مستقبلي في إطار الحفاظ على الحق الفلسطيني.
في المقابل؛ فإن اتفاق مكة وبحسب ما أوضح مسؤولو الحركتين ليس فيه ما يمكن تفسيره باعتباره يتناول أول شرطين من شروط اللجنة الرباعية: الاعتراف بالدولة العبرية وترك الكفاح المسلَّح. وإن أبدت حماس احترامها لقرارات الرباعية إلا أن ذلك لا يعني التزامها بها فهناك اختلاف كبير بين (احترام) قرارٍ ما و (الموافقة على الالتزام به) . وهذا ما أكّده المحرر السياسي في صحيفة (معاريف) بقوله: (لا يوجد في وثيقة الإجماع الوطني ولا اتفاق مكة المكرمة ولا كتاب تشكيل الحكومة ـ كما اتفق عليه ـ أيُّ اعتراف ضمني أو صريح بالدولة العبرية) .
3 لهذا يواجهون حكومة الوحدة:
لقد أدرك الصهاينة والأمريكيون أن ما حققته حماس من اتفاق مكة كان في الحقيقة نصراً على استراتيجيتهم القاضية إلى تفكيك حماس وعزلها، ومن ثم نصراً على التيار الانقلابي داخل فتح، بل وصل بهم الأمر إلى الحد الذي أقلق وزير الشؤون الاستراتيجية في الدولة العبرية (أفيجدور ليبرمان) في مقابلة مع مجلة (در شبيجل) الألمانية من أن تؤدي حكومة الوحدة الوطنية التي انبثقت عن اتفاق مكة (إلى منح حماس الشرعية الدولية التي افتقدتها حتى الآن، دون أن تعترف بـ «الدولة العبرية» أو تضع حداً لاستراتيجيتها «الإرهابية» ضدنا) .
هذا القلق الصهيوني هو الذي دفع (رايس) إلى زيارة المنطقة في محاولة لعرقلة قيام حكومة الوحدة، حين شككت ـ وبعد لقائها كلاً من أولمرت وعباس منفردين ـ بالتزام الحكومة المزمع تشكيلها بشروط اللجنة الرباعية، أو تخلِّي حماس عن سعيها لتدمير الدولة العبرية، قائلة: (لا يمكن أن تضع قدماً داخل هيئات منتخبة وأخرى في العنف عندما تحاول تدمير دولة أخرى) .
بل إن رئيس الوزراء الصهيوني (إيهود أولمرت) أكد أنه اتفق مع الرئيس الأمريكي (جورج بوش) على مقاطعة الحكومة الفلسطينية الجديدة؛ إذا لم تستجب لشروط اللجنة الرباعية الدولية القاضية باعتراف الفلسطينيين بحق الدولة العبرية في الوجود، وإنهاء المقاومة، والاعتراف بالاتفاقيات الحالية بينها وبين الفلسطينيين.
لقد بدا واضحاًَ أن الدولة العبرية لا تريد البحث في القضايا الأساسية المفضية إلى الحل الدائم للقضية الفلسطينية، وتتذرّع بضرورة التزام الفلسطينيين بقرارات اللجنة الرباعية في وقت لا تحترم فيه كياناً فلسطينياً بحدود الـ (67) ، ولا تلتزم بالقرارات الدولية المرتبطة بالمصلحة الفلسطينية.
ثم ماذا قدمت الولايات المتحدة الأمريكية للقضية الفلسطينية من دعم وهي تشترط مسبقاً على حماس قبولَ ما تعجز حماس عن القبول به أصلاً، في الوقت الذي قدمت فيه للدولة العبرية 100 مليار دولار على مدى ثلاثين سنة.
أليس ما صرَّحت به (رايس) من إمكانية تراجع واشنطن عن تقديم 86 مليون دولار المخصصة للمساعدة في تدريب قوات الأمن التابعة للرئاسة الفلسطينية وتجهيزها؛ إذا لم تلتزم الحكومة الجديدة بمبادئ الرباعية؛ هو من باب وضع العصي في الدواليب حتى لا ينجح أصلاً اتفاق مكة؛ لأن خطره على الدولة العبرية كبير حيث يدشن لِلُحْمة فلسطينية جامعة في مواجهة المحتل؟! وإلا كيف نفسر هذه العرقلة من جانب الولايات المتحدة والدولة العبرية وكلاهما يعلم يقيناً أن الذي يقود المفاوضات من الجانب الفلسطيني هو محمود عباس وفريقه؟!
__________
(*) كاتب ومحلل سياسي.(236/14)
خلاصات من فتاوى العلماء حول القضية الفلسطينية
خباب بن مروان الحمد
الناظر إلى جهود العلماء المعاصرين وتراثهم العلمي الزاخر؛ يجد عدداً من الفتاوى والبيانات الصادرة عنهم بخصوص الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينيَّة المسلمة، وقد أبدى علماء المسلمين من شتَّى أصقاع المعمورة من خلال تلك الفتاوى رؤاهم المستندة للشريعة الإسلاميَّة حول أحكام تتعلق بمسؤولية المسلمين تجاه احتلال اليهود الصهاينة للأرض المقدسة وتشريد أهلها وما يذيقونهم من ألوان الظلم والإذلال. النابع عن الكيد الظاهر والدفين تجاه أرض فلسطين ومقدَّساتها وأهلها.
ومن هذا المنطلق جاءت هذه المحاولة لجمع بعض الفتاوى لأُبْرِز دور علماء الأمَّة في نصرة القضيَّة الفلسطينيَّة المسلمة، وتذكيراً بأهميَّة هذه الأرض المباركة، وتنبيهاً للمسلمين الذين يهمهم أمر فلسطين بأنَّ القبول بالأمر الواقع ـ إن صحَّ ـ فهو لا ولن يعني التفريط بمسلَّمات الأمَّة المسلمة وثوابتها تجاه هذه القضيَّة، التي هي فعلاً قضيَّة المسلمين جميعاً، وكلُّ مسلم له فيها نصيب؛ فهي ليست قاصرة على أهل فلسطين فحسب، بل هي للأمَّة المسلمة جمعاء، ولن ترضى الأمَّة المسلمة أن تقزَّم هذه القضيَّة لتكون لأهل فلسطين وحدهم والبقيَّة من المسلمين يتفرَّجون وينظرون إلى مسرح الأحداث وكأنَّ الأمر لا يعنيهم؛ فإنَّ لهذه الأرض المقدَّسة بُعدها الإسلامي الواضح في نصوص الوحي كتاباً وسنّة، وقد بيَّن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنَّ هذه الأرض ستُفتح على أيدي المسلمين. وأخبر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنَّه ستكون بين المسلمين واليهود فيها صولات وجولات حتَّى قيام الساعة؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهودَ، فيقتلهم المسلمون؛ حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعالَ فاقتله إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود» [1] .
ومن هذا المنطلق يجدر بنا الاطلاع على خلاصات مما أفتى به العلماء المعاصرون حول القضية الفلسطينية وبخاصة في هذه الآونة التي يحتاج الجميع فيها إلى بصيرة وحكمة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً: فتوى علماء الأزهر عام 1947م: بوجوب الجهاد لإنقاذ فلسطين وحماية المسجد الأقصى؛ حيث قام علماء الأزهر بتوجيه ندائهم إلى أبناء الإسلام بوجوب الجهاد لإنقاذ فلسطين وحماية الأقصى، وذلك بعد قرار تقسيم فلسطين الذي وافقت عليه الجمعية العموميَّة للأمم المتحدة في 29 /11/ 1947م والذي يقضي بإقامة دولة يهوديَّة وأخرى فلسطينيَّة على أرض فلسطين، وهو القرار الذي يُعدُّ اليوم أساساً لما يسمى بقرارات (الشرعية الدولية) فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
وقد وقَّع على هذه الفتوى (26) عالماً من علماء الأزهر، كان منهم: الشيخ محمد حسنين مخلوف، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد دراز، وغيرهم من أهل العلم والفضل والدين.
وممَّا جاء في هذه الفتوى قول العلماء: (إنَّ قرار هيئة الأمم المتحدة قرار من هيئة لا تملكه، وهو قرار باطل جائر ليس له نصيب من الحق والعدالة؛ ففلسطين مُلك العرب والمسلمين بذلوا فيها النفوس الغالية والدماء الزكيَّة، وستبقى ـ إن شاء الله ـ مُلك العرب والمسلمين رغم تحالف المبطلين، وليس لأحد كائناً من كان أن ينازعهم فيها أو يمزقها) [2] .
ثانياً: انعقد في القدس يوم20/10/1353هـ اجتماع كبير لعلماء ودعاة فلسطين: من مفتين وقضاة ومدرسين وخطباء، وأصدروا بالإجماع فتوى بخصوص بيع الأراضي في فلسطين لليهود، وأنَّ ذلك البيع يحقق المقاصد الصهيونيَّة في تهويد هذه البلاد الإسلاميَّة المقدَّسة وإخراجها من أيدي أهلها وإجلائهم عنها وتعفية أثر الإسلام بخراب المساجد والمقدَّسات الإسلاميَّة كما وقع في القرى التي بيعت لليهود وأُخرج أهلها متشردين في الأرض؛ فقد اتَّفقوا على أنَّ البائع والسمسار والوسيط في بيع الأراضي بفلسطين لليهود عاملٌ ومظاهِرٌ على إخراج المسلمين من ديارهم، وأنَّه مانعٌ لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه وساعٍ في خرابها، وهو كذلك متخذ اليهود أولياء؛ لأنَّ عمله يعدُّ مساعدة ونصراً لهم على المسلمين ومؤذٍ لله ورسوله وللمؤمنين، وخائن لله ولرسوله وللأمانة) .
ثمَّ أوضحوا أنَّ أولئك الباعة والسماسرة والوسطاء في بيع أراضي فلسطين لليهود: (كل أولئك ينبغي ألاَّ يصلَّى عليهم ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم ومقاطعتهم واحتقار شأنهم وعدم التودد إليهم والتقرب منهم، ولو كانوا آباء أو أو أبناء أو إخواناً أو أزواجاً، وأنَّ السكوت عن أعمال هؤلاء والرضا بها مما يحرَّم قطعياً) [3] .
ثالثاً: البيان الصادر عن دائرة مجلس الإفتاء العام في عمَّان بالأردن: الذي صدر إبَّان خروج قرار من مجلس الكونغرس الأمريكي القاضي بجعل القدس عاصمة لـ (اليهود) ، وقد وقَّع على هذه الفتوى (11) عالماً من علماء الأردن، واستنكر المجلس استنكاراً شديداً هذا القرار الذي يتنافى مع حقوق الإنسان، وجاء فيه: (إنَّ قرار الكونغرس الأمريكي القاضي بضم القدس يشكل عدواناً صارخاً على عقيدة كل مسلم في الأرض، وتعتبر الولايات المتحدة شريكاً في الظلم والعدوان الذي تمارسه إسرائيل) .
وجاء فيه كذلك: (القدس الشريف جزء من عقيدة كل مسلم يحافظ عليها كما يحافظ على دينه) ثمَّ ذكروا الأسباب لهذه العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلمون.
وقد جاء في هذه الفتوى الأمر بجهاد اليهود، ومقاطعتهم في تجارتهم ومعاملاتهم [4] .
رابعاً: صدرت فتوى في الفترة الممتدَّة من (جمادى الأولى 1409هـ وحتَّى ربيع الآخرة 1410هـ) : وقد وقَّع عليها ثلاثة وستون عالماً وداعية ومفكراً، منهم: الشيخ محمد الغزالي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور همَّام سعيد، والدكتور المجاهد عبد الله عزَّام، والأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وصادق عبد الماجد، والدكتور عصام البشير، والشيخ حافظ سلامة، ومصطفى مشهور، وجمعٌ من رجالات العمل والدعوة الإسلاميَّة، وكانت بعنوان: (فتوى علماء المسلمين المحرِّمة للتنازل عن أي جزء من فلسطين) وبيَّنوا في بدايتها أنَّ اليهود أشد عداوة للذين آمنوا، وقالوا: (الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، ولا يجوز بحال من الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين، وليس لشخص أو جهة أن تقرَّ اليهود على أرض فلسطين أو تتنازل لهم عن أي جزء منها أو تعترف بأي حق لهم فيها، وإنَّ هذا الاعتراف خيانة لله ورسوله وللأمانة التي وُكّل إلى المسلمين المحافظة عليها) [5] .
خامساً: فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ـ رحمه الله ـ: حيث أفتى بوجوب الجهاد ضدَّ اليهود المعتدين على أرض فلسطين، وقال: (فالواجب عليهم الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم وإخراج عدوهم من أرضهم بكل ما استطاعوا من قوَّة) وقال: (فالواجب على الدول الإسلاميَّة وعلى بقية المسلمين تأييدهم ودعمهم ليتخلَّصوا من عدوهم، وليرجعوا إلى بلادهم) . [6]
سادساً: نبَّه جمع من علماء المسلمين إلى خطورة التعاون مع الصهاينة والعمالة الجاسوسيَّة لهم تجاه المسلمين، وبيَّنوا أنَّ الجاسوس الذي يرشد الأعداء على المجاهدين، ويسعى في الأرض فساداً، إن عُرِفَ هذا منه واشتهر به، فإنَّه يُقْتَل ويثاب قاتله، وأمَّا إذا لم يُعْرَف هذا عنه، فأمره موكول لحاكم المسلمين وأهل الحل والعقد؛ فإن رأوا قتله قُتِل، وإن رأوا تعزيره عُزِّر، فيتخيروا ما هو أصلح للمسلمين [7] .
هذا كلُّه في من يتعاون مع أعداء المسلمين كاليهود ضد إخوانه المسلمين والمجاهدين؛ فما البال إذاً بمن يتعاون مع اليهود عبر الطرق الدبلوماسيَّة والتلبيسات المصلحيَّة للتفريط بثوابت الأمة وأراضيها المقدَّسة والحقوق الشرعيَّة للأمَّة في فلسطين؟
سابعاً: صدر بيان وفتوى من الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: حول عقد معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وموقف المسلم منها، وتكلَّم فيها عن عداوة اليهود للمسلمين وكيدهم ومكرهم، ثمَّ ذكر خطورة هذه المعاهدات التي اتَّفق بعض المسؤولين عن السلطة مع اليهود في وقت سابق على أمور منها، وكان ملخَّص الفتوى: أن معاهدات الصلح الدائم مع اليهود تقوم على شروط باطلة منها:
وضع الحرب إلى الأبد بين المسلمين واليهود: هذا شرط باطل. إزالة أسباب العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود وإزالة كل نصوص التشريع التي تبقي هذه العداوة: وهذا شرط باطل لأنَّه مخالف لأصول الإيمان. وأنَّها أقرَّت اليهود على ما أخذوه من أرض الإسلام عنوة وغدراً: وهذا أمر لا يجوز. وأنَّ هذه المعاهدات أُبرمت عن غير مشورة من المسلمين: وكل عقد يهمُّ المسلمين إذا أُبرم عن غير رضى فهو عقد باطل. ثمَّ أكَّد الشيخ أنَّ هذه المعاهدات ستُفسد دنيا المسلمين وليس دينهم فقط، ثمَّ تطرَّق الشيخ ـ حفظه الله ـ إلى ذكر الخسائر التي تحيق بالمسلمين من وراء هذه المعاهدات، واختتم الفتوى بواجب المسلمين تجاه هذه المعاهدات، باعتقاد بطلانها، وأنَّ هذه المعاهدات لا تلزمهم، بل ينبغي العمل على إسقاطها، ووجوب تجميع الأمَّة على القضاء على علوِّ اليهود في الأرض [8] .
ثامناً: أصدرت رابطة علماء فلسطين بتاريخ 25/1/2007م فتوى بتحريم التنازل عن حق عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه فلسطين: معلِّلين ذلك بأنَّه يعني التنازل عن ملكية المسلمين للأرض وتبعيَّتها للوقف الإسلامي، وقالوا: (فإذا كان بيع الأراضي المقدسة في بلاد الشام لغير المسلمين لا يجوز، ويحرِّمه الشارع الحكيم، وقد سبق أن أفتى علماء المسلمين في جميع أنحاء المعمورة بتجريم من فعله وكفَّروا من اعتقد حِلّه؛ فكيف بمن تنازل عن الأرض عبر التنازل عن حق عودة شعبنا الفلسطيني المسلم إلى أرضه المقدَّسة؟ فلا يحق لأحد ـ مهما كان موقعه ـ أن يتنازل أو يبيع شيئاً منها، وإن فعله فهو مردود عليه) .
وخلصوا في نهاية الفتوى إلى عدَّة نقاط:
(أولاً: إن المتنازل عن حق العودة يلغي وقف أمير المؤمنين لأرض الشام على ذراري المسلمين.
ثانياً: إن المتنازل عن حق العودة عاملٌ ومُظاهِر على إخراج المسلمين من ديارهم، وخروج فلسطين من ملكية الوقف الإسلامي إلى غيره، ومُقر بحق ملكية اليهود لها.
ثالثاً: إنه ظالم ومانع لمساجد الله - وعلى رأسها الأقصى قبلة المسلمين الأولى - أن يذكر فيها اسمه وساعٍ في خرابها. قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] .
رابعاً: إنه متخذ اليهود أولياء؛ لأن عمله يعد مساعدة ونصراً لهم على المسلمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] .
خامساً: إنه مؤذٍ وخائن لله ولرسوله وللمؤمنين.
سادساً: إنه كافر ومرتد عن دين الله، وبذلك يصبح أحد الثلاثة الذين يحل دمهم.
واختتموا فتواهم بقولهم: (وعليه فإننا في رابطة علماء فلسطين ومن خلال هذا المؤتمر نؤكد على أن حق المسلمين في فلسطين التاريخية كاملة حق مقدس ثابت لا يملك أحد التنازل عنه، ولا تُسقطه معاهدة، ولا وثيقة، ولا وعد، ولا يجوز الصلح عليه، ولا على أي جزء منه. وإن حق العودة إلى فلسطين مقدس، لا ينبغي لفلسطيني أن يهاجر من بلاده مختاراً بدون حق ولا وجه شرعي، أو أن يتنازل عن هذا الحق، وأن يرضى بتعويض أو توطين في مكان آخر، ومن اعتقد حِل ذلك فهو كافر مرتد) [9] .
تاسعاً: أخرجت دار الإفتاء المصريَّة فتوى منذ فترة: أنَّه يجوز إخراج الزكاة لأهل فلسطين المجاهدين، لاندراجهم في سهم {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] ، ونصَّت الفتوى على أنَّ: (الإخوة الفلسطينيين أحوج ما يكونون إلى مثل هذه المساعدة التي تقوِّيهم على الوقوف في وجه هذا المعتدي الباغي الغادر المدجَّج بالعتاد والسلاح ونظم القتل الحديثة؛ فهم بلا شك داخلون في معنى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] والمعبَّر عنهم بالغزاة) .
عاشراً: صدر بيان من رابطة علماء فلسطين حول قضيَّة اللاجئين الفلسطينيين: وبيَّنوا فيه أنَّ عودة اللاجئين والنازحين والمهجَّرين حق شرعي وتاريخي، لا يجوز النيابة أو التفويض أو التنازل عنه في إطار أي اتفاق أو معاهدة، ثمَّ اختتمت الرابطة بيانها بتأكيدها على (أنَّ تحرير فلسطين والقدس وإعادة ملايين اللاجئين لا يتمّ عن طريق المفاوضات السلميّة الذليلة وإنما عن طريق الجهاد والمقاومة.. فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا يبطلُه جور جائر) [10] .
هذه بعض الفتاوى المهمَّة حول القضيَّة الفلسطينيَّة، وخلفها المئات من الفتاوى الصادرة عن أهل العلم والفضل ولها مكانتها وقيمتها، ونظراً لأنَّ صفحات التقرير لا تحتمل أكثر من هذا فقد ذكرنا ما يمكن أن يشير إلى أهمية الموضوع، والله ولي التوفيق.
[1] ) أخرجه البخاري في باب فضائل الجهاد 2926، ومسلم في كتاب الفتن (2922) .
[2] ) الهيئة العربية العليا (فلسطين) ، حكم الإسلام في قضية فلسطين: فتاوى شرعيَّة خطيرة لمناسبة معاهدة الصلح بين مصر والعدو الإسرائيلي، ص: 14 ـ 15.
[3] ) فتوى علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين:صـ66ــ75، توزيع:دار الفرقان.
[4] ) فتوى علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين: ص 17 ص 18، توزيع: دار الفرقان.
[5] ) فتوى علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين: ص 51 ـ ص60، توزيع: دار الفرقان.
[6] ) مجموع مقالات وفتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
[7] ) موسوعة المفاهيم لمجمع البحوث التابع للأزهر الشريف.
[8] ) مختصر لفتوى الشيخ التي جاوزت عشرين صفحة موقع الشبكة السلفيَّة على الشبكة العنكبوتيَّة التي يشرف عليها الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.
[9] ) http://www.rapeta.org/fatwadetails.asp?ID=71
[10] ) http://alarabnews.com/alshaab/GIF/05-12-2003/n4.htm(236/15)
بن جوريون يؤيد حركة حماس!
أحمد فهمي
في أحد الفواصل الدعائية التي تقدِّمها قناة الجزيرة، تظهر صخرة شديدة الصلابة تفشل كل محاولات كسرها بالدقِّ أو الحفر أو الطرق، ولكن تنجح قطرة ماء فيما عجزت عنه الأدوات القوية، وتتفتّت الصخرة، وهي في الإعلان ـ طبعاً ـ ترمز لقناة الجزيرة، أعني: قطرة الماء.
أعتقد أن هذا الإعلان ينطبق تماماً على حركة حماس، فهي تتمسك بخيار المقاومة وتعدّه خيارها الإستراتيجي، ولكنها في مقابل صلابتها تتعرض لضغوط هائلة من أغلب الأطراف الداخلية والخارجية، بحيث إن الجميع بات يترقَّب قطرة الماء التي يمكنها أن تفتِّت موقف حماس كونها حركة مقاومة فلسطينية.
كان الرهان الغربي أن حماس عندما تنغمس في العمل السياسي سوف يتآكل جانبها المقاوم الرافض للكيان الصهيوني، لكن حماس أثبتت إمكانية الجمع بين التمسك بالمقاومة وممارسة العمل السياسي. وإذا كان كثيرون يتحدثون عن نهر التناقضات الذي وقعت فيه حماس، فالأمر نفسه ينطبق على الكيان، فقد بات (إيهود أولمرت) أمام سلطة بُنيت على قاعدة الاعتراف بالدولة الصهيونية، ولكنها لا تعترف بها، وحكومة فلسطينية تؤيد المقاومة، ساهمت تل أبيب في وضع نظامها، وبدلاً من تفرغ الأجهزة الأمنية لحصار فصائل المقاومة، أصبح أحد قياديي حماس وزيراً للداخلية، وأعتقد أنه الإسلامي الوحيد في العالم العربي الذي شغل هذا المنصب.
بخلاف الضغط الصهيوني المعروف؛ فإن على حماس أن تواجه ضغوطاً أخرى من أطراف إقليمية، فهناك إيران وسورية وبقية الدول العربية، وكل من يؤيد حماس بكلمة يطلب منها موقفاً معيناً حتى وإن تمَّ ذلك بأسلوب غير مباشر. باختصار تحولت حماس إلى ورقة في أيدي العرب يساومون عليها وبها، بدلاً من أن تصبح رمحاً يواجهون به عدوهم.
هذه الإشكالية في التوصيف العربي لدور حماس - ورقة مساومة أم رمح مواجهة - تنقلنا إلى بُعْد أعمق للأزمة، وهو تصور المخرج الحقيقي للصراع العربي الصهيوني، فبالنسبة لليهود هم يعدّون بقاء الأزمة العنصرَ الأهم في إدارة العلاقات مع الدول العربية، بينما يعدُّ العرب إنهاء الأزمة العنصرَ الأهم في إقامة العلاقات مع إسرائيل، هذا التفاوت بين التصورين يعيق مقاربات الحل المطروحة، وإن كان تسبَّبَ من ناحية أخرى في أرجحة عقدة الأزمة بين أمرين: حل القضية الفلسطينية أم تحقيق الاستقرار السياسي في المنطقة.
في هذا الوضع المعقد تحاول حماس أن تقدم مقاربات لفظية أو تكتيكية للجمع بين المتناقضات والأطراف الفاعلة، هذه المقاربات تسبَّبت في حدوث لغط وضبابية لدى مؤيدي حماس في العالم العربي، حول تراجع الحركة عن مواقفها وثوابتها. والأمر الخطير هنا أن تنشأ لدى الرأي العام العربي بتأثير هذه الضبابية اتجاهات استسلامية ترضى بالأمر الواقع تأثراً بموقفٍ لم تتخذه الحركة وتنازلٍ لم يثبت عنها.
إن من أهم واجبات الإعلام الإسلامي في هذه المرحلة أن يخصص جزءاً من نشاطاته للحديث عن ثوابت حماس وثباتها؛ حتى لا يتحول الرأي العام العربي بدوره إلى قوة ضغط إضافية في اتجاه التنازل، ولا يبخل قادة الحركة بتقديم ما يثبت ويبين موقفهم الحقيقي ويجلي ضبابية التصريحات السياسية. وفي احتفال أُقيم في خان يونس بقطاع غزة قبل أيام قليلة قال (محمود الزهار) وزير الخارجية السابق بوضوح: (موقف حماس والحل النهائي والإستراتيجي بالنسبة لها هو تحرير فلسطين.. كل فلسطين) ، وقال: (هناك بشرى قرآنية لنا بأننا سندخل المسجد الأقصى. ودخول المسجد يعني دخول العنوان أي كل فلسطين، فهذه البشرى لا يستطيع أحد أن ينكرها، ومن ينكرها فليراجع إيمانه وإسلامه) . (الوطن السعودية، 6/3/1428هـ) .
هذا الموقف الواضح لحماس من أبرز قيادييها جاء على لسان (ديفيد بن جوريون) مؤسس دولة الكيان الصهيوني الذي عدَّ الموقف العربي الرافض للتصالح مع الدولة الصهيونية أمراً طبيعياً، فقال: (لماذا ينبغي للعرب التوصل إلى السلام؟ لو قدِّر لي أن أكون زعيماً عربياً لما تصالحت مع الدولة الصهيونية على الإطلاق.. هذا أمر طبيعي.. هم لا يرون إلا شيئاً واحداً، هو أننا جئنا إلى هنا وسرقنا بلادهم، فلماذا ينبغي عليهم قبول هذه الحقيقة؟!) فعلاً؛ لماذا ينبغي علينا قبول من سرق بلادنا؟!!(236/16)
التقشف وسيلة المرأة لمقاومة الحصار
رامي أبو سمرة
المرأة التي أتقنت رتْقَ ثياب أطفالها كانت تصارع الوقت والألم معاً، وكانت تدرك في سريرتها أن زمن (البطر) قد راح مع كل صاروخ تُدَكُّ به غزة، وحلّ وقت آخر هو خليط من اليأس والأمل والحصار والمعاناة؛ يأس السنوات الماضية وأمل السنوات القادمة، وفي الحالتين ثمة مفارقة ظلّت تكتنف المشهد الفلسطيني بِرمّته على مدار الحصار الطويل.
هذه المرأة وغيرها من النساء الفلسطينيات، ظللن يكافحن واقع الحال بصبر وثبات وانتظار، بدأ في كثير من الأوقات غامضاً وحرجاً، ولعل الرجال كانوا ـ وما زالوا ـ أكثر استعداداً لفهم المسؤولية المتنامية في تضييق فجوة الحصار وآثاره على الأسرة.
التقشُّف مفردة اقتصادية أخذت أهميّتها تتسع بين العائلة الفلسطينية خلال العام الجاري، دخلتْ إلى حياة الناس من أوسع الأبواب حقيقةً لا بد من الإقرار بها والتعامل معها كحل أخير في مواجهة الحياة الصعبة. وهكذا يكون التقشُّف وسيلة من وسائل التواصل مع الواقع المأساوي على حساب أشياء كثيرة، ولكن كان لا بد من ذلك؛ فالحياة ما عادت كبيرة جداً في عيون الناس، وزمان السعادة ينحسر بالتدريج.
ولقد رصدت طرق التقشُّف لدى العائلة الفلسطينية عبر الاستطلاع الميداني مع النساء في البيوت؛ لمعاينة الوسائل والطرق التي ابتدعها الناس هنا وهم يواجهون مستقبلاً غامضاً بطبيعة الحال.. فما الذي وجدناه؟
3 نجاح صبحي (ربّة بيت) : لم تكن امرأة كبيرة في السِّن؛ إنها أصغر مِمّا يعتقده المرء، لكنّ رعبَ السنوات جعل على وجهها تعباً صريحاً؛ فهي أم لسبعة أولادٍ أكبرُهم في العشرين. تقول نجاح عن تدبيرها المنزلي: أكثر ما يزعجني في هذه الظروف ثياب الأطفال؛ أربعة من أولادي صغار لا يفهمون ما الذي يجري بيننا من عذاب، إنهم يريدون دائماً..، ويستهلكون كثيراً..، وراتب زوجي لا يكفي أصلاً لمثل هذه المشكلة! أما بعد أزمة الرواتب فحدِّث ولا حرج، فكان لِزاماً علينا أن نحل هذه المشكلة بِاستثناء الأولاد الكبار؛ فالبقية يتناوبون في استبدال الثياب فيما بينهم حسب الأعمار والطول، ثم إن هذه الملابس تخضع للغسيل والترتيق المستمرَّيْن. وفي أكثر الحالات، بعد الاستهلاك الكلي لها، نستفيد منها كقطعٍ لمسح البيت وأثاثه، أو ألبسة داخلية للأطفال ... ، هكذا نصارع حالنا ونتنصر على الوقت إلى أجل لا نعرفه.
3 سميّة محسن (ربّة بيت) تواجه حالة الغذاء اليومية بشيء من الارتباك وتقول: إنها توازن بين الحصة التموينية التي توفّرها الدولة (لِكونها مسجلة كحالة اجتماعية) وبين المتطلبات الضرورية الأخرى؛ وهذه المتطلبات هي التي تستهلك الحال المتواضعة، مشيرة إلى راتب زوجها الموظف وبين احتياجات الفطور الصباحي بشكل يومي؛ إذ إن الحصة التموينية لا توفِّر البيض والأجبان واللحوم ومستلزمات أخرى مما تحتاجه الأسرة بشكل مستمر وملِّح، لا سيما بوجود أطفال يحتاجون إلى الأغذية الضرورية الكفيلة بالمحافظة على صحتهم ونموِّهم. وتضيف سمية: إننا نشتري البيض مرة واحدة في الأسبوع، وقد يتخلل أن نشتري الحليب؛ غير أنَّ معظم الأصباح يكون فطورنا الطماطم والبطاطاس والباذنجان، حتى الأطفال تعودوا على ذلك، وليست لدينا مشكلة ولله الحمد.
اللحوم مرة كل شهرين.. والأسماك في المناسبات
3 أم محمد (أم لتسعة أطفال) تقول: الواقع يعصف بنا جميعاً ويضعنا في دوامة كبيرة من الظنون والترقّب ومواجهة الاحتمالات القاسية، ونتطلع إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يزيح هذه المشكلة؛ لنعوّضَ أولادنا ما فاتهم من حاجات واحتياجات.
وتضيف قائلة: إن اللحوم أصبحت حلماً لدى أطفالي؛ فعملنا مع أزمة الرواتب وقلّة الحال أن نشتري اللحوم مرة كل شهرين. وبالنسبة للأسماك فأطفالي لم يتناولوه منذ تسعة شهور.
3 سماح السيد (موظفة) ترى في التقشُّف منفعة كبيرة وتقول: إنه عوّدنا على الصبر والكفاف والقناعة، ومواجهة الأيام الصعبة والقاسية. وتقول أيضاً: نتدبّر أمرنا بالمواد التموينية من أهل الخير وبعض الجمعيات الخيرية، وأما الباقي فنتدبر أمره ولله الحمد. أما بالنسبة للملابس وخصوصاً (ملابس المناسبات والمدارس) فأمرها في غاية الصعوبة؛ لِكون الحصار الظالم والأزمة المالية الخانقة وأزمة الرواتب جعلت مجراها صعباً، ولكني جعلتُ أولادي يتبادلون الملابس مع أقاربنا، وخضعنا للواقع.
وأضافت: بالنسبة للبنات فتبدو مشكلتهن أكثر صعوبة وتعقيداً؛ بسبب طبيعة المرأة التي تحب أن تلبس الثياب الجديدة دائماً، ولِكون بناتي في الجامعة؛ ولكن واقع الحصار الظالم الطويل ربما غيّر شيئاً قليلاً من الثوابت التي تعوّدنا عليها. وبالتدرّج أمام هذه الحقيقة اكتسبت البنات شيئاً مهمّاً في التعليم والتربية وقلة الطلبات.
الأدوات الكهربائية ليست ضرورية
3 أما (أم علاء) فترى التقشُّف نوعاً صريحاً من الصبر. وأمام مشكلة الحصار تقول: عالجْنا الأمرَ أولاً بمدّخرات بسيطة؛ غير أنها نفدت بعد شهور قليلة. وأمام الحالة الصعبة المتنامية كان علينا أن نتخلّص من عادات موروثة في التبذير والشراء الكيفي لبعض الحاجات المنزلية؛ لذلك كان أمامنا تخطيط آخر في التوقف، أو التقليل من بعض الالتزامات الاجتماعية غير المبررة في كثير من الأحيان. ومع هذا فقد كان الحصار يزحف علينا بشكل مخيف ويهدد وجودنا كأفراد وأسر، وكان لا بد من مواجهة موجودات المنزل ... وجدنا أن هناك ما هو فائض كنا قد اشتريناه في أيامٍ كانت الدنيا (حلوة) ! فقمنا ببيعها لنعيش بعض الشهور بلا منغِّصات، مع التقيّد الحازم بعدم التساهل في الصرف.
وقمنا ببيع جميع الأدوات الكهربائية لكي نستطيع توفير قُوْتِ أولادنا، ولم نعد نحتاج إلى الثلاجة لعدم تبقّي أي أكل يُحفظ فيها. أما الغسالة؛ فالغسيل اليدوي يكون أنقى (يضيّع وقتاً ويسلّي) . بهذه العبارة جعلت (أم علاء) الأساسيات مجرد كماليات للمنزل، رغم تعبها وألمها من كثرة العمل الذي توفّره الأجهزة الكهربائية.
تصمت لتقول: نحاول أن نلهمَ أنفسنا بعدم ضرورة الشيء. وإن شاء الله تُحلُّ الأزمة ويُفكُّ الحصار، ونعود لحياتنا وسأكون أحسن من أول..!
لم يبقَ سوى بيع أولادنا..!
(أم أشرف) ترسم ملامح الشقاء والبؤس على ملامحها، تقول وتطلق تنهيدة تكاد تفلق صدرها، وتصمت لِتذرف دمعاً يحاول غسل وجهها الذي بدّده الحصار والضياع والتشريد، تقول: ابني الكبير هاجر إلى الخارج لقلة الرواتب، والأزمة، وعدم وجود فرصة (أكل عيش له هنا) .
لم يتبقَّ لدي أي مصاغٍ أو أثاث في المنزل، قمنا ببيعه كله لنقتات بثمنه، ولم يبقَ في منزلي سوى المراتب والأغطية وملابس الأولاد، لم يبقَ غير بيع أولادنا في المزاد!(236/17)
الجذور التاريخية للتغلغل الشيعي في كردستان
د. فرست مرعي الدهوكي
3 تمهيد:
مما لا شك فيه أن أول اتصال جرى بين المسلمين الفاتحين والكرد كان في سنة 16هـ/637م في عهد الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وما بعدها؛ عندما استطاعت الجيوش الإسلامية الانتصار على الجيوش الفارسية الساسانية في معارك القادسية وجلولاء ونهاوند (فتح الفتوح) ؛ حيث كان من نتائجها وصول المسلمين الفاتحين إلى المنطقة الكردية، وحصل آنذاك أول احتكاك معهم؛ حيث كانوا يعتنقون آنذاك عدة ديانات ومذاهب: (المجوسية والمذاهب الملحقة بها ـ الزرادشتية والمانوية والميثرائية والمزدكية ـ، والنصرانية، واليهودية) ، ومن ذلك الوقت ولعدة سنوات بدأ الكرد يدخلون في دين الإسلام أفواجاً. وفي غضون عقود قليلة بدأت عملية أسلمة المجتمع الكردي تمشي على قدم وساق؛ لملائمة الإسلام فطرة الكرد، ولسهولته وسماحته عكس التعقيدات، وصعوبة الطقوس التعبّدية في دياناتهم القديمة التي أثقلت كاهل الكرد. ولم تمضِ سنوات حتى كان غالبية المجتمع الكردي قد أسلم. وأما الروايات والتقاليد الشفهية التي تؤكد وجود تجمّعات زرادشتية داخل المناطق الكردية بعد الفتح الإسلامي بعدّة قرون، وتحديداً في منطقة (هورامان) الواقعة حالياً على الحدود العراقية الإيرانية جنوب شرق مدينة السليمانية؛ فيبدو أن تلك التجمّعات كانت من القلّة بحيث لا تؤثر على مجمل التحولات الدينية والسياسية والاجتماعية التي سادت هذا الجزء القصيّ والوعر من بلاد الكرد.
3 انتشار التشيّع بين كرد (لورستان) :
يبدو أن اعتناق الكرد مذهب التشيّع قد حدث في القرون المتأخرة؛ حيث إن التشيّع لم يتحول إلى فرقة أو طائفة إلا بعد القرن الثالث الهجري، وأخذ شكله وطبيعته البنيوية الخاصة به في العصر البويهي وما تلاه؛ حيث كُتبت في هذه الفترة المصنفات الحديثية الأربعة لدهاقنة التشيّع، فضلاً أنّ الكُليني، صاحب كتاب (الكافي) ، رتّب مع آخرين ممن يُدعون (سفراء المهدي المنتظر) كالخلاني وغيره؛ الغيبَتين الصغرى والكبرى، التي كانت في سنة 329 هـ بعد وفاة الكليني بسنة واحدة؛ مما أدّى إلى بروز هذا الجانب الاعتقادي. وأخذت الإضافات تأتي عليه تترى من قِبَل ما يُسمَّون بعلماء القوم إلى أن اكتملت صورته في العصر الصفوي في القرن التاسع الهجري (السادس عشر الميلادي) ، وظهر إلى الوجود لأول مرة كيان شيعي في ظل دولة تطبِّقه تحت شعار (وكالة الإمام المهدي) . وفُرض اعتناق هذا المذهب على سكان الهضبة الإيرانية بالقوة والقسوة الشديدة باعتراف المؤرخين الإيرانيين، وتمَّ إضافة طقوس عديدة عليه؛ كالسجود على التربة الحسينية، وتعظيم الشاهات (الملوك الصفويين) بالسجود، فضلاً عن إضافة الشهادة الثالثة (أشهد أن علياً وليّ الله) ، إلى أن وصل الأمر وبعد تراكمات عديدة أن أصبح ديناً بالمفهوم التقليدي، وعلى خلاف تام في العديد من الاعتقادات والشعائر عن المذهب السّنّي السائد آنذاك في الدولة العثمانية والدولة المغولية في الجانبين الشرقي والغربي من الهضبة الإيرانية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن أحد الباحثين الكرد يعتقد أن تشيّع الكرد يرجع إلى أيام الإمارة الحسنوية التي كانت تحكم الأجزاء الجنوبية الشرقية من كردستان في الجانبين الإيراني والعراقي في العصر البويهي؛ وتحديداً ما بعد سنة 350 هـ. ويستنتج الباحث المذكور تشيّع الأمير بدر بن حسنويه البرزيكاني وقبيلته البرزيكان الكردية من أمرين اثنين: الأول: دفنه في ظاهر الكوفة (النجف حالياً) من قِبَل الزعيم الكردي المناوئ له الحسين بن مسعود الكردي (1) ، بعد أن قتله أتباعه الكرد من أبناء قبيلة الكوران (2) ؛ حيث يبدو واضحاً أن الأشخاص الذين يُدفنون في النجف بالقرب من المشهد المنسوب إلى الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب (3) ـ رضي الله عنه ـ يعتبرون من الشيعة؛ ولكن مع هذا توجد حالات تنسب إلى أشخاص دفنوا في النجف وهم ينتسبون إلى أهل السُّنّة (4) . علماً أن الأمير بدراً لم يدفن بناءً على طلبه أو طلب أسرته؛ بل دفن حسب أوامر خصمه حسين بن مسعود الكردي (5) !!
والأمر الثاني الذي استند إليه الباحث المذكور في تشيّع بدر بن حسنويه وعشيرته البرزيكان هو قوله: «إن قبيلة البرزيكان كانت تعتنق المذهب الشيعي، وخاصة أن سكان هذه القبيلة في إقليم لورستان الذي يعتنق معظم القاطنين فيه هذا المذهب (1) ، ثم إن البرزيكان كانوا يعيشون متجاورين ومتداخلين مع طوائف شيعية أخرى كاللورستان والكوران» (2) .
ويبدو أن الباحث لم يستند إلى مصادر بعينها، سواء أكانت عربية أو فارسية، في إثبات شيعيّة منطقة تمركز عشيرة البرزيكان والأنحاء المجاورة لها في إقليم الجبال ـ كردستان ولورستان حالياً ـ؛ وإنما اعتمد على الحدس والتخمين القائمَيْن على العاطفة، علماً أنه كان هناك بؤر شيعية متعددة في إقليم الجبال؛ ولكن لم يكن انتشارها واسعاً بحيث تغطي المنطقة؛ فقد ذكر ياقوت الحموي (3) في هذا الصدد أن التشيّع قد انتشر في مدينة (قم) في وقت مبكر (سنة 83 هـ/702م) . ويقول الأصطخري (4) : إن أهل (قم) كلهم شيعة. بينما يقول القزويني (5) : إن أهل بلدة (آبه) الواقعة على طريق بغداد ـ همدان ـ شيعة غلاة جداً، إلى جانب تمركزهم في الكوفة والجزء الغربي من بغداد (الكرخ) وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي (6) .
ومما يدل على أن الأمير الكردي بدراً ابن حسنويه لم يكن شيعياً أن المصادر السُّنّية المعروفة؛ كالمنتظم لابن الجوزي والبداية والنهاية لابن كثير الدمشقي، كانت تكيل المديح له، ولو كان شيعياً لكان الأمر عكس ذلك؛ ولعل ذلك نكاية بخصمه!
3 نشاط الدعاة العبيديين (المتقدمين) :
النشاط الذي بدأه دعاة المذهب الإسماعيلي اعتباراً من سنة 260هـ/ 873 م حسب رواية المسعودي (7) ، والجهود الحثيثة التي قام بها أئمة الشيعة الزيدية المعروفين بالدعاة لتأسيس كيان سياسي لهم في إقليم طبرستان جنوب بحر الخزر (قزوين) ابتداءً من سنة 250هـ/ 864 م وانتهاءً بسنة 316هـ/ 928م (8) ؛ كل ما سبق أدّى دون شك إلى حدوث خلل بنيوي في مرتكزات أهل السُّنّة والجماعة تمخّض عن إدخال مناطق عديدة ضمن النطاق الشيعي بعد أن كانت حكراً على المذاهب السنّية. وقد حرص القادة العبيديون (الفاطميون) في مصر على استثمار كل الجهود من أجل نشر أفكارهم عن طريق إرسال الدعاة؛ فها هو المعز العبيدي (ت: 365هـ/975م) (9) يقول في خطاب له إلى الحسن القرمطي: «ومع هذا فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج ودعاة إلينا يدلّون علينا بتصاريف الألسن، وفي كل جزيرة وإقليم رجالٌ؛ منهم يفقهون وعنهم يأخذون ... » (10) .
وقد أشار الوزير السلجوقي نظام الملك (11) إلى نشاط الباطنية وكيفية ظهورهم، بأن عبد الله بن ميمون كان يدعو الناس إلى هذا المذهب في قوهستان العراق (إقليم الجبال ـ كردستان ولورستان الحالية) ، وأنه استخلف رجلاً يدعى خلفاً (1) ، قال له: «امضِ إلى جانب الري ـ بالقرب من طهران الحالية ـ، وادعُ إلى الشيعة؛ فالناس في الري وقم وكاشان رافضة كلهم، وسيستجيبون لدعوتك بسرعة؛ فيعظم أمرك هناك ويعلو شأنك» (2) .
ومن جانب آخر فإن النفوذ العبيدي (الفاطمي) قد زاد في أقاليم الدولة العباسية؛ نتيجة تشجيع البويهيين المذهب الشيعي الذي يدينون به، وهذا ما سهل إلى حدٍّ كبير مهمة الداعية العبيدي (موسى بن عمران الشيرازي) والد المؤيد الذي كان حُجةَ فارس ـ سفيرٌ إسماعيليٌ سرّيٌّ ـ أيام الوزير أبي غالب الواسطي وزير بهاء الدولة وسلطان الدولة، وقد تمتّع هذا الداعية العبيدي بمكانة سامية، حتى إن الوزير (فخر الملك) زاره أكثر من مرة في منزله، وفيما بعد خلفه في منصبه حجة فارس ابنه (هبة الله الشيرازي) الذي اتخذ لقب المؤيد لدين الله (3) .
وقد تمكّن (هبة الله الشيرازي) من إدخال الأمير البويهي أبي كاليجار (415 ـ 440هـ/1024 ـ 1048م) في الدعوة الإسماعيلية (4) بعد أن لقّنه أصولها؛ نظراً للتقارب الأيديولوجي بين الجانبين؛ حيث يقول في هذا الصدد: «كنت كل ليلة جمعة أمكث عنده إلى أن يمضي هزيع الليل، وهو يسألني عما يهجس في نفسه، وكنت أجيب عنه جواباً يظهر أثر تباشير الفرح في وجهه، وأسأله: كيف وقع هذا الجواب منك؟ فربما حرك رأسه يعني أنه جيد، فلا أرضى دون أن أقرره بلسانه أنه ما دخل في مسامعه مثله» (5) .
والدليل على دخول أبي كاليجار في الإسماعيلية ما ذكره في رسالته الجوابية إلى هبة الله: «إني سلمت نفسي وديني إليك، إنني راضٍ بجملة ما أنت عليه» (6) .
وكان نشاط الدعاة العبيديين في العراق وفارس ـ جنوب إيران ـ، إلى جانب رسائل إخوان الصفا (7) في البصرة، والنشاط الصوفي المكثف الذي امتزج بالفلسفة (8) حتى سمّاهم الغزالي (الصوفية المتفلسفة) (9) وتقاربها مع الشيعة على أساس وجود مبادئ متشابهة؛ حيث تتقارب شخصية علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الشيعية والصوفية في موضوع التقديس الغالي للأشخاص فضلاً عن الأبوة العضوية والروحية للطرفين؛ كل ذلك قد مهّد الأرضية المناسبة لظهور حركات الغلو الباطنية الممزوجة بالتشيّع والتصوّف الفلسفي تحت مسميات متعددة، كـ: الحروفية (1) ، والبابية (2) ، والبكتاشية (3) ، والمشعشعية (4) ، ولا سيما أن قضاء المغول على الخلافة العباسية سمح للصوفية بتطوير عقائدهم والسير بها خطوات أخرى؛ حيث أعرضوا عن الحل الجزئي لتحلّ محلّه فكرة الاتحاد المطلق مع الله ـ جلّ جلاله ـ الذي يُعنى به (وحدة الوجود) .
أما الجانب الشيعي فتمَّ الاعتراف بهم كمذهب رسمي للدولة في عهد سلطانهم (أولجايتو خدابنده) سنة 709هـ/1309م، وهذا ما أدَّى إلى أن تكتسح أفكار هؤلاء مساحات واسعة من أقاليم المشرق الإسلامي؛ كـ: خوزستان (عربستان) ، وفارس، والجبال (كردستان ولورستان الحالية) ، وأذربيجان، وطبرستان. وهذا ما سهل مهمة الدعوة الصفوية (5) ؛ حيث ابتدع لها الأرضية المناسبة لانتشار مثل هذه الأفكار والأطروحات الغالية البعيدة عن أسس ومرتكزات الإسلام الصحيح الذي دعا إليه سيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ والتي قادها الشاه إسماعيل الصفوي (6) (893 ـ 931 هـ/1487 ـ 1524م) الذي فرض التشيّع بالقوة والقسوة الشديدة (7) ، حتى أصبحت غالبية أقاليم إيران شيعية ابتداءً من سنة 908هـ/1502م، وهذا ما انعكس على الأقاليم التي يسكنها الكرد؛ حيث دخل بعضهم في التشيّع (8) . وهم قلّة لا يتجاوزون خُمسَ عدد الكرد في الوقت الحاضر.
3 الدوافع غير المباشرة لتشيّع بعض الكرد:
مهما يكن من أمر؛ فإن هناك عدة دوافع أخرى حَدَتْ ببعض القبائل والتجمعات الكردية في الجزء الجنوبي الشرقي من كردستان إلى اعتناق التشيّع وجعله مذهباً لهم، وتوزعهم على عدة فرق تبعاً لانقسام التشيّع إلى مجموعات، كـ: التشيّع الإثني عشري (الجعفري) ـ في كردستان العراق وإيران ـ، والنصيري (العلوي) ـ في كردستان تركيا ـ، والعلي إلهية ـ في كردستان إيران ـ، وأهل الحق والكاكائية والصارلية ـ في كردستان العراق ـ، وغيرهم. ومن هذه الدوافع:
1 ـ الحملات العسكرية الغاشمة التي بدأها الشاه إسماعيل الصفوي (1502 ـ 1524م) عندما جعل نصب عينيه تشيّع سكان الهضبة الإيرانية بالقوة، وكان من نتائجها أن دخلت بعض هذه التجمّعات الكردية في التشيّع.
2 ـ وجود العديد من المعابد الزرادشتية والمذاهب المجوسية الأخرى في المنطقة وانعكاسها على العادات والتقاليد الكردية؛ مما أدَّى إلى ضعف الوازع الإسلامي عند هؤلاء الكرد الساكنين في هذه المناطق؛ فمجرد وصول فكرةٍ ما، لا سيما إذا كانت مشفوعة بقوة السلاح، فلا غرو أن يعتنق هؤلاء الفكرة الجديدة.
3 ـ وجود تركّز يهودي قديم في هذه المنطقة (محافظتي كرمنشاه وعيلام حالياً) وسط غرب إيران، يرجع إلى أيام السبي البابلي الذي قام به الملك الكلداني (نبوخذ نصّر) سنة 586 ق. م، وانتقال العديد من اليهود إلى هذه المنطقة بقصد التجارة وغيرها من أساليب العيش؛ مما ترك أثراً واضحاً في البنية الذهنية والاجتماعية لهذه التجمعات الكردية؛ حيث أشار إلى ذلك الرحالة المسلم (المقدسي) عندما ذكر وجود عدد كبير من اليهود في إقليم الجبال، وذكره أيضاً الرحالة والضابط البريطاني (راولنسون) في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي عندما تطرق إلى العديد من الأسماء اليهودية لكُرد هذه المنطقة، مثل: داود، وسليمان، وإسحاق، وبنيامين.
4 ـ وجود الإمارة المشعشعية في منطقة الأهوار (محافظتي العمارة والكوت في العراق حالياً) و (شمال الأهواز في إيران) المحاذية لإقليم لورستان الكردي، وقيام العديد من الدعاة العرب التابعين لهذه الإمارة بالدعاية للمذهب الشيعي بين أفراد القبائل الكردية، واستغلال مأساة أهل البيت للدعوة إلى التشيّع، وكيف أن هذه التراجيديا المصطنعة قد أثّرت في وجدان الكردي الذي عانى الظلم لقرون عديدة فوجد فيها عزاءً له من الجانب النفسي والديني، لا سيما أن المنطقة الكردية كانت قريبة من المراقد الشيعية، فضلاًً عن ذلك أن كتاب (بحار الأنوار) للعالم الشيعي (المجلسي الصفوي) كان له تأثير واضح في بناء ذهنية جديدة عند الفرس والكرد والعرب الذين تشيّعوا؛ حيث يحوي العديد من الأحاديث الموضوعة التي تؤكد على أن الحج إلى ما يسمى بِـ (العتبات المقدسة الشيعية) في النجف، وكربلاء، والوران أفضل بعشرات المرات من الحج إلى الديار المقدسة في الحجاز! كما أن زيارة قبر الحسين ابن علي ـ رضي الله عنهما ـ يعادل سبعين إلى مئة مرة من الحج إلى مكة المكرمة! فلا عجب أن كان لكل تلك الأمور تأثير كبير في دخول الكرد البسطاء ـ آنذاك ـ في التشيّع، فضلاًً عن سماعهم بالجانب البطولي في سيرة أئمة أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ وتحديداً الإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وسيفه البتّار (ذو الفقار) .
ونستطيع أن نلخِّص الموضوع برمّته في أن دعاة الشيعة كانوا من الذكاء بحيث استطاعوا تحويل مأساة أهل البيت إلى تراجيديا قفزت فوق التاريخ الحقيقي والواقعي إلى ما يسمى بالميثولوجيا ـ ما فوق الطبيعة البشرية ـ التي استنبطوها إلى حدٍّ كبير من مأساة عيسى المسيح ـ عليه السلام ـ، وكيف أن المدعوَّ بولس الرسول (شاؤول) ؛ مبتكر فكرة ألوهية المسيح، حوَّل المسيح التاريخي إلى أسطوري! فكان الأمر بالنسبة لدهاقنة الشيعة على الشاكلة نفسها؛ حيث تحول الحسين (التاريخي) إلى الحسين (الميثولوجي) ! صاحب المعجزات والكرامات الخارقة، والعصمة من الخطأ؛ بل الخطيئة! والتي تُعدّ في نظر العديد من الباحثين، ومنهم الفيلسوف الفرنسي (كوربان) ، استمراراً للنبوة الروحية، والتي تخالف في الكثير من مضامينها فكرة ختم النبوة والتوحيد الخالص؛ التي ترفض التقديس غير الموضوعي للرسل والأنبياء، فضلاً عن شخصية الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ سيد شباب أهل الجنة.
__________
(*) مدير مركز الدراسات الكردية، جامعة دهوك.
(1) لم أعثر على ترجمة له في كتب التراجم والطبقات المتوفرة لديّ.
(2) الكوران: أحد الأقسام الأربعة التي يتكون منها الشعب الكردي حسب رواية الشرفنامة، انظر: (البدليسي: الشرفنامة، 20) . بينما خرج أحد الباحثين الكرد من كلمة كوران بمعنيين، الأول: بمعنى الفلاح أو المزارع، والثاني: اسم لعشيرة تعيش في القسم الشرقي من زهاو على الجانب الإيراني المحاذي للحدود العراقية الشرقية.
(3) يذكر المقدسي أن الناس اختلفوا في مكان دفن الخليفة علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ على عدة أقوال. انظر: (المقدسي: المطهر بن طاهر: كتاب البدء والتاريخ، بيروت، دار صادر، عن نسخة مصورة صادرة عن باريس سنة 1899م، ج5، ص 233) .
(4) الفاروقي، أحمد بن يوسف بن علي بن الأزرق: تاريخ الفاروقي، تحقيق: بدوي عبد اللطيف، بيروت، 1974م، ص 139 ـ 140.
(5) خواندمير، غياث الدين بن هام الدين الحسني: تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر (باللغة الفارسية) ، تهران جابخانة، حيدري 1333 شمسي 1955م، 2/439. مجمل التواريخ والقصص، 401.
(1) هذا الادّعاء صحيح في الوقت الحاضر، فَجُلُّ سكان هذا الإقليم الإيراني من الشيعة الإثني عشرية والغلاة، ومنهم العلي إلهية الذين يعدون علياً ابن أبي طالب إلهاً لهم، مثلهم في ذلك مثل النصيرية (العلوية) والإسماعيلية والبهرة والآغاخانية، أما في القرنين الرابع والخامس الهجريين فكانوا من أهل السُّنّة بمذاهبهم المختلفة.
(2) النقشبندي: الكرد في الدينور، 168، هامش (1) .
(3) معجم البلدان: 4/397، 398.
(4) مسالك الممالك: 119، ابن حوقل: كتاب صورة الأرض.
(5) آثار البلاد، 283. وآبه: بلدة تقع قرب ساوة شرق مدينة همدان.
(6) النجاشي، أحمد بن علي بن أحمد: كتاب الرجال، 2/423. ومما يجدر ذكره أن أهل قاشان (كاشان) شيعة إمامية غلاة جداً، انظر: (القزويني: آثار البلاد، 432) .
(7) التنبيه والإشراف، 395.
(8) المقدسي: أحسن التقاسيم، 367.
(9) المعز العبيدي: رابع الخلفاء العبيديين، خلف أباه عام 341هـ/953م.
(10) المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي: اتعاظ الحنفا بأخبار الملوك الخلفا، القاهرة 1948م، تحقيق: الدكتور جمال الدين الشيال، ص260.
(11) نظام الملك: قوام الدين أبو علي الحسن بن إسحاق الطوسي، كان وزيراً للسلطان السلجوقي ألب أرسلان ثم لابنه ملك شاه، انظر: (الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/449) .
(1) هو خلف الحلاج الذي كان صاحب محلجة قطن. انظر: (جمال الدين، محمود السعيد: دولة الإسماعيلية في إيران، القاهرة، مؤسسة سجل العرب 1975، ص 44) .
(2) نظام الملك، الطوسي: سياسة نامة (سير الملوك) ، 233.
(3) وُلد المؤيد في شيراز سنة 390هـ/999م، وأخذ عن والده موسى علوم الدعوة العبيدية (الفاطمية) ، كما شاهد في صباه أحمد حميد الدين الكرماني كبير دعاة الخليفة العبيدي (الفاطمي) . انظر: (سرور: تاريخ الدولة الفاطمية، 324 هامش 4) .
(4) وفاء محمد علي: الخلافة العباسية في عهد تسلط البويهيين، الإسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 1991م، ص77، نقلاً عن محمد حلمي أحمد: الخلافة والدولة في العصر العباسي، ص182.
(5) هبة الله الشيرازي: مذكرات داعي دعاة الدولة الفاطمية، تحقيق: عارف تامر، بيروت، 1403هـ.
(6) هبة الله الشيرازي: المصدر السابق، ص 67.
(7) إخوان الصفا: لقب جماعة من المفكرين ذوي النزعة الفلسفية، يعتقد أنهم من الشيعة الإسماعيلية، كان فكرهم مزيجاً من الفلسفة اليونانية وتعليمات من الديانات اليهودية والنصرانية والإسلام، تركوا عدة رسائل. للمزيد انظر: (كتاب: إخوان الصفا، غالب مصطفى، بيروت، دار مكتبة الهلال، 1979م، ص15) .
(8) إن نظرية ابن عربي في وحدة الوجود لم تعتمد على مشرب صوفي، بقدر ما كانت نظرية فلسفية في الوجود، وقد أخذ ابن عربي نظريته من رسائل إخوان الصفا، انظر: (عفيفي، أبو العلاء: مقالة: من أين استقصى ابن عربي فلسفته الصوفية؟ مجلة كلية الآداب، مايو 1933م، ص22 ـ 27) .
(9) الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد: رسالة معراج السالكين من فرائد اللآلئ، القاهرة، 1343هـ/1924م، ص 76.
(1) الحروفية: فرقة صوفية تقوم على أن الأصل في معرفة الله ـ تعالى ـ هو اللفظ، ويعبر عن المعاني بالحروف، وتتخذ العقيدة أصولها من قيم الحروف العددية ثم التصرف بالأرقام. ومؤسس هذه الفرقة هو فضل الله الحروفي المولود في إستراباد سنة 704هـ/1304م. انظر: (الأمين: شريف يحيى: معجم الفرق الإسلامية، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الأولى، 1406هـ/1986م، ص95) .
(2) البابية: فرقة صوفية تنسب إلى بابا إسحاق الكفرسودي التركماني من القرن السابع الهجري، ادَّعى أتباعه أنه كان رسول الله وكانوا يسمونه بابا رسول، ويقولون: لا إله إلا الله البابا ولي الله. انظر: (الأمين: معجم الفرق الإسلامية، 47) .
(3) البكتاشية: طريقة صوفية من الغلاة تنسب إلى السيد محمد رضوي المشهور عند المؤرخين باسم: الحاج بكتاش الذي كان معاصراً للسلطان العثماني أورخان. واعتبرها بعضهم من فرق الشيعة، وأكثر أتباع طريقته ينتشرون في تركيا وألبانيا. انظر: (الأمين: معجم الفرق الإسلامية، 59) .
(4) المشعشعية: حركة تمزج بين التصوف والتشيّع تنسب إلى محمد بن فلاح المشعشعي الذي ولد في واسط في العراق، وتمكّن بواسطة ما يملكه من مخاريق وإرث شيعي أن يكسب القبائل المنقطعة في البطائح (الأهوار) ؛ حيث كان يسود الجهل آنذاك بينهم، بالإضافة إلى تضليل دعاة الشيعة بدعوى محبة آل البيت ـ رضي الله عنهم ـ ثم ادّعى المهدية والألوهية، قتل سنة 381هـ/1457م.
(5) الحركة الصفوية: حركة صوفية تنسب إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي سنة 733هـ/1334م الجد الأعلى للشاه إسماعيل الصفوي وعنه أخذت الحركة اسمها. وقد أحدثت هذه الحركة بُعْداً سياسياً أيام (جنيد) جد الشاه إسماعيل ودخل إليها التشيّع الغالي (من الغلو) ، وتمكن إسماعيل بواسطة أتباعه الصفويين في قتل الكثيرين من أهل السُّنَّة. للمزيد انظر: (تاريخ إيران بعد الإسلام، ترجمة: السباعي محمد) .
(6) إسماعيل الصفوي: مؤسس الدولة الشيعية في إيران، ابن حيدر بن جنيد، ولد في أردبيل التابعة لإقليم أذربيجان، استعان بقبائل الأتراك واستولى على أذربيجان، وجعل تبريز عاصمة له، وفرض التشيّع على إيران، وتلقب بالشاه. اقترن حكمه بإعلان طقوس شيعية جديدة على صورة صوفية ابتغاءَ تنشيط الدعوة الشيعية في إيران، ومن ذلك: تنظيم الاحتفال بذكرى استشهاد الحسين على النحو الذي يُتَّبع الآن، وأسهم بإضافة عبارة (أشهد أن علياً ولي الله) إلى نصِّ الأذان وشهادة الإسلام. انظر: (الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيّع، 372) .
(7) يذكر أحد المؤرخين الإيرانيين الشيعة (عباس إقبال) في هذا الصدد ما نصّه: «يُعدّ الشاه إسماعيل، بلا شبهة، أحد أشهر وأكبر ملوك إيران، وقد أدخل التشيّع على شعب إيران ـ وكان أغلبهم حتى ذلك الوقت من السُّنّة ـ وذلك بسفك دماء كثير من الأبرياء بقسوة» انظر: (عباس إقبال: تاريخ إيران بعد الإسلام، ترجمة: السباعي محمد، القاهرة) .
(8) فرست مرعي الدهوكي: التغلغل الإيراني في كردستان العراق، مجلة السُّنة، العدد الثاني والسبعون، كانون الثاني 1418هـ/1998م، مركز الدراسات الإسلامية، برمنجهام، ص 76 ـ 78.(236/18)