المفهوم التطبيقي لكلمة التوحيد
د. ماهر ياسين الفحل
إن أصل الرسالة المحمدية هي كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، وهي كما يقول ابن القيم: «لأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكافرين، والأبرار والفجار، وأسست الملة، ولأجلها جردت السيوف للجهاد، وهي حق الله على جميع العباد» . هذه الكلمة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول # علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبةً وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وكماله في الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله. والطريق إليه تجريد متابعة رسول الله # ظاهراً وباطناً. فإن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، وتحقيقهما في واقعنا هو المقياس السديد تجاه الناس بشتى أنواعهم، والحب في الله والبغض في الله هما الحصن لعقائد المسلمين وأخلاقهم أمام تيارات التذويب والمسخ كزَمالة الأديان، والنظام العالمي الجديد، والعولمة.
والحب والبغض في الله متفرعان عن حب الله، وهذا ما نسميه مختصراً بـ: (الولاء والبراء) . فالولاء والبراء من مفاهيم (لا إله إلا الله) ومقتضاها، وهما التطبيق الواقعي لهذه العقيدة، وهما مفهوم عظيم في حس المسلم بمقدار وعظمة هذه العقيدة.
فأصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة: كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال، ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلّا بتحقق الولاء لمن يستحق الولاء، والبراء ممن يستحق البراء. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] ، وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ #^80^#) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80 - 81] ، فالإنسان لا يستقيم إسلامه ولو وحّد الله وتَرَكَ الشرك إلاّ بعداوة المشركين، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] ، هذه الكلمة العظيمة بكل مفاهيمها ومقتضياتها قد غابت عن حس الناس اليوم إلا من رحم الله، وحسِبَ بعض الناس جهلاً أو قصداً أن هذا المفهوم العقدي الكبير يندرج ضمن القضايا الجزئية أو الثانوية، ولكن حقيقة الأمر بعكس ذلك. وفي وقتنا الراهن نجد أن لهذا المفهوم الجليل من مفاهيم (لا إله إلا الله) مناسبةً خاصةً يفرض علينا واجب الوقت الحتمي مضاعفة المجهود في ترسيخه لدى المسلمين، وتبيينه أشد البيان وأوضحه، فأمتنا الإسلامية تمر بأشد أوقاتها عسراً واستضعافاً، وقد تكالبت عليها الأمم الكافرة من كل حدب وصوب بمالم يسبق له نظير في سالف تاريخها، واجتالت بقضّها وقضيضها، وحدّها وحديدها الأخضر واليابس، ووطئت المدن والقرى والبوادي، واختلط أعداء الله بالمدنيين وغيرهم، ونشأ عن ذلك مصالح وتعاملات، وبدأت تبرز دعوات مشبوهة كثيرة تنادي بالإخاء، والمساواة، والاتحاد بين الأمم على اختلاف مشاربها وعقائدها وأهدافها، مع احتفاظ كل ذي دين بدينه، شريطة أن يكون ديناً (كهنوتياً) لا صلة له بالحياة، وللأسف الشديد انساق كثير من المسلمين وراء هذه الدعوات، وغاب عنهم المفهوم العقدي للولاء والبراء، وربما تعاون بعضهم مع المحتل، وسيّروا له أموره تحت شعارات «إننا نتعامل ... لا نتعاون» ، وهذه الدعوات تشبه دعوى المنافقين المذكورين في قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52] ، وقد انكشف للقاصي والداني زيف هذه الشعارات وعوارها؛ فهم بين مخدوع وضال نسي أو تناسى أن الأصل هو الاتباع لا الابتداع، وأنّ الفلاح والصلاح والرشاد إنما بسلوك خُطى من سلف، فضلاً عن أنه دين وعقيدة وتشريع.
مما تقدم عُلِمَ ضرورة هذا المفهوم من مفاهيم (لا إله إلا الله) ، فالإنسان لا يستقيم إسلامه ولو وحّد الله وتَرَكَ الشرك إلا بعداوة المشركين، و (لا إله إلا الله) معناها: لا معبود بحق إلا الله، وبذلك تنفي الألوهية عمّا سوى الله وتثبتها لله وحده، وليس للقلب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله، والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذه حقيقة (لا إله إلا الله) ، فـ (لا إله إلا الله) ولاء وبراء ونفي وإثبات، ولاء لله ولدينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين، وبراء من كل طاغوت عُبِدَ من دون الله، قال تعالى: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] ، ولما كان أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة: كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك؛ فإن الولاء والبراء من لوازم (لا إله إلا الله) . وأدلة ذلك كثيرة من الكتاب والسنة، قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] . وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جرير بن عبد الله البجلي: أن رسول الله # بايعه على أن: «تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر» (1) ، وقال النبي #: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» (2) ، وقال النبي #: «من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» (3) ، وقال رسول الله #: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي» (4) ، مما تقدم عُرِفَ أن الولاء والبراء عقيدة وأصل من أصول الدين، وأنه لا نصرة ولا موالاة مع الكفار البتة، وأنهما ليسا بالأمر الجزئي كما يصورهما بعضهم ويتهاون فيهما بأعذار شتى، فبعضهم حصل له تلبيس وقلب للمفاهيم، فتجد بعض الناس إذا تحدثت عن الحب في الله والبغض في الله، قال: هذا يؤدي إلى نفرة الناس، ويؤدي إلى كراهية الناس لدين الله ـ عزّ وجل ـ. وهذا الفهم مصيبة، ولهذا يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن مكائد النفس الأمارة بالسوء: «إن النفس الأمارة بالسوء تُري صاحبها صورة الصدق، وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم، وأنه يعرض نفسه للبلاء ما لا يطيق، وأنه يصير غرضاً لسهام الطاعنين، وأمثال ذلك من الشبه» وقد نسي هؤلاء قول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36] ، وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] ، فالناس يقعون في المداهنة والتنازلات في دين الله ـ عز وجل ـ باسم السماحة، ولا شك أن هذا من التلبيس، خاصة إذا عُلِمَ أن من لوازم هذا الأمر أن يظهر على جوارح المرء، فلا يستقيم لإنسان يدعي أنه يوالي في الله، ويحب في الله، ويبغض في الله، وتجده ينبسط وينصر ويؤيد من أبغضه الله، فبغض أعداء الله من النصارى واليهود وغيرهم محله القلب، لكن يظهر على الجوارح لا أن يمد يده للكفار من قريب أو بعيد؛ بل العكس عليه أن يجهر بمعاداة أعداء الله، وإظهار بغضهم ومنابذتهم بالسّنان واللسان والجنان ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعدم التعاون معهم، وعدم المشاركة في أعيادهم، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] ، والزور كما قال بعض المفسرين هو: أعياد المشركين. ولهذا تجد أهل العلم في غاية التحذير من هذا الأمر حتى إن بعض علماء الأحناف قال: «من أهدى لمجوسي بيضة في يوم النيروز فقد كفر» ؛ بل ولا يجوز بدؤهم بالسلام، قال رسول الله #: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام؛ فإذا لقيتم أحدهم في طريقٍ فاضطروه إلى أضيقه» (5) ، ولا التشبّه بهم فيما هو من خصائصهم من أمور الدنيا: كالأخلاق، والملبس، وطريقة الأكل والشرب، وعاداتهم الخاصة الأخرى أو أمور الدين: كالتشبه بشعائر دينهم وعبادتهم، أو ترجمة كتبهم وأخذ علومهم برمتها من غير تمحيص ومعرفة وتنقية، أو استعارة قوانينهم ومناهجهم في الحكم والتربية والعمل بها، وإلزام الناس عليها، ولا يجوز الترحم عليهم، ولا مداهنتهم ومجاملتهم ومداراتهم على حساب الدين، أو السكوت على ما هم عليه من المنكر والباطل، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ، وقال: {وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود: 113] ، ولا التحاكم إليهم، أو الرضى بحكمهم؛ لأن متابعتهم يعني ترك حكم الله تعالى، قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] ، ولا تعظيمهم ومخاطبتهم بالسيد والمولى، قال رسول الله #: «لا تقولوا للمنافق: سيد. فإنّه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل» . وهذا هو الأصل في التعامل مع أعداء الله، وقد بين أهل العلم أن المؤمن تجب محبته وإن أساء إليك، والكافر يجب بغضه وعداوته وإن أحسن إليك، وقد أوجب الله معاداة الكفار والمشركين، وحرم موالاتهم وشدد فيه، حتى أنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر وأبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده، ولا يستثنى من إظهار هذا البغض والكره والمعاداة إلا خشية فوت النفس أو تعاظم المفاسد، ومعلوم أن الضرورات تقدر بقدرها، وبضابط الشرع لا الهوى كما يحصل في كثير من بلاد المسلمين وخاصة المحتلة من الكفار، وما يجري الآن من تمييع لهذه العقيدة، وهذا الحد الفاصل بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان وبتنظيم شيطاني وأسلوب خبيث من محاولات لمحو هذا المفهوم من مناهج التعليم حتى وصل الأمر إلى المنابر، وعلى لسان أئمة السوء، أو من أطم الجهلُ عقلَه، أو من غُرر به فاغتر وسار بركب من عتى وتجبر، وبدأ يبث هذا الزيغ بغطاء الدعوى آنفة الذكر، ممرراً هذا المكر على بسطاء الناس ومن هم على شاكلته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال أبو الوفاء بن عقيل: «إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بـ: لبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة» . وقد كان الإمام أحمد رحمه الله إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه، فقيل له ذلك، فقال رحمه الله: «لا أستطيع أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه» ، فانظر أخي المسلم كيف كان الإمام أحمد يغار على الله من أن ينظر إلى من افترى وقال: إن لله ولداً ـ تعالى الله عمّا يقول علواً كبيراً ـ، وقارن بمن ذكرنا سابقاً ممن يتعامل ولا يتعاون على حد زعمه، وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في شأن النصارى: «أهينوهم ولا تظلموهم، فإنهم سبّوا الله تعالى أعظم المسبة» ، على ألاّ ننسى أن هذا الأمر لا يحملنا على الظلم؛ فقد أمرنا الله تعالى بالعدل؛ حيث قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] ، ويقول في الحديث القدسي: «ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا» ، كذلك من مقتضى الولاء والبراء الانضمام إلى جماعة المسلمين، وعدم التفرق عنهم، والتعاون معهم على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وكذلك من مقتضى الولاء والبراء عدم التجسس على المسلمين، أو نقل أخبارهم وأسرارهم إلى عدوهم، وكف الأذى عنهم، وإصلاح ذات بينهم، قال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] ، وكذلك نصرتهم، وأداء حقوقهم من عيادة مريض واتباع جنائز، والرفق بهم، واللين والرقة والذل وخفض الجناح معهم. وأهل السنة والجماعة يقسمون الناس في الموالاة إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: من يستحق الموالاة والحب المطلق؛ وهم المؤمنون الخلص الذين آمنوا بالله تعالى رباً، وبرسوله # نبياً، وقاموا بشعائر الدين علماً وعملاً واعتقاداً. قال الله تعالى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ #^55^#) } [المائدة: 55] ، وقال رسول الله #: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً» (1) ، وقال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» (2) .
ثانياً: من يستحق الموالاة والحب من جهة، والمعاداة والبغض من جهة أخرى؛ وهم عصاة المؤمنين: يُحَبون لما فيهم من الإيمان والطاعة، ويُبغَضون لما فيهم من المعصية والفجور التي هي دون الكفر والشرك.
ثالثاً: من يستحق المعاداة والبغض المطلق؛ وهم الكفار الخلّص الذين يظهر كفرهم وزندقتهم، وعلى اختلاف أجناسهم من اليهود والنصارى، والمشركين، والملحدين، والوثنين، والمجوس، والمنافقين، أو من تبعهم من أصحاب المذاهب الهدامة، والأحزاب العلمانية.
ختاماً: إخوة الإيمان نقول: عودة إلى فهم (لا إله إلا الله محمد رسول الله) الفهم الصحيح، كما فهمه رسول الله # وأصحابه الأخيار، تحكيماً لشريعة الله واتباعاً لما أنزله، وكفراً بكل طاغوت، وبكل عرف، وبكل هوى، وبكل عادة أو تقليد تشرع للناس ما لم ينزل الله، عند ذاك وحسب يكون صلاح الدين والدنيا، وخير الآخرة والأولى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله ـ عز وجل ـ، فيكون حبه لله ولما يحبه الله، وبغضه لله ولما يبغضه الله، وكذلك موالاته ومعاداته» هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(229/4)
الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمُحْكَمات الإسلامية
محمد بن شاكر الشريف
- مقدمة:
منذ عهد الاستعمار الحديث الذي حل في ربوع المسلمين، الذي سموه زوراً وبهتانا بـ (عصر التنوير) بدأت تطرق آذاننا ألفاظ لمسميات لم نسمع بها من قبل ذلك نحن ولا آباؤنا، من ذلك كلمة «الدولة المدنية» التي يبشر القائلون بها والداعون إليها، بأن كل أزمات المسلمين في العصر الحاضر من الاستبداد السياسي إلى التخلف التقني، إلى الفقر والبطالة وتدني الخدمات، أن كل ذلك سيزول بمجرد أن تتحول دولنا إلى دول مدنية. ولما كانت المنافع المعلقة على هذا التحول منافع كبيرة يحرص كل إنسان يريد الخير لأمته ومجتمعه على الحصول عليها، كان لا بد لنا من معرفة مدلول هذا اللفظ حقيقةً قبل قبوله والدعوة إليه، حتى لا نذهب إليه ثم يتبين لنا ما فيه من الفساد العريض، لكن بعد أن يكون قد فاتنا القطار. فماذا تعني الدولة المدنية؟
هل يراد بالدولة المدنية: التعليم الحديث واستخدام التقنية المعاصرة في شتى مناحي الحياة، والإدارة الحديثة، والتوسع في العمارة وإنشاء الطرق السريعة؟ قد يكون هذا بعض المطلوب، لكن هل هذا هو المطلوب أو كل المطلوب؟ وهل يكفي أم لا بد من شيء آخر؟ وهل الشيء الناقص يعد جوهرياً أو ثانوياً؟ ولما كان الحديث طويلاً متشعباً لكثرة المتكلمين في ذلك فقد لا نتمكن من إيراد كل ما قيل في الموضوع، لكننا نأمل أن تكشف لنا هذه الورقة عن حقيقة ذلك الأمر.
- الدولة المدنية في التراث الإسلامي:
بالتقليب في كتبنا السابقة التي تحدثت عن الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية لا نجد لهذا المصطلح وجوداً مع أن مفرداته: «الدولة» و «المدنية» هي من مفردات لغتنا، مما يتبين معه أن المصطلح مستورد من بيئة غير بيئتنا ـ وهذا في حد ذاته ليس عيباً، لو أنه كان لا يحمل مضموناً مخالفاً لما هو مقرر في ديننا ـ وعليه فإن محاولة البحث عنه في تراثنا لن تجدي شيئاً، وعلينا أن نبحث عن معناه في البيئة التي ورَّدته إلينا، ثم ننظر في معناه في تلك البيئة: هل يناسبنا فنقبله، أم يتعارض مع ديننا فنرفضه؟
ولعل هذا ما دعا بعض الكتاب إلى القول: «بما أن مصطلحات الدولة المدنية، والدينية (الثيوقراطية) ، و (الأوتوقراطية) مصطلحات نشأت في الغرب أساساً، فلا بد قبل أن نسعى إلى تطبيقها على واقعنا، أو نقرر رفضها وقبولها اجتماعياً ودينياً، أن نستوعب معانيها كما هي في الثقافة التي أنشأتها، وأي منها يتعارض مع الإسلام ويتفق معه» (1) .
لكن عدم وجود المصطلح نفسه في تراثنا، هل يعني أن المضمون الذي يحمله ـ سواء بالسلب أو الإيجاب ـ لم يكن موجوداً أيضاً؟
الدَّوْلة تعني في اللغة الغَلَبة، والغلبة يترتب عليها سلطان للغالب على المغلوب، ومن هنا يمكن القول إن العامل الأساس في تعريف الدَّولة هو السلطان أو السلطة، فإنه راجع إلى أصلها اللغوي، وفي كثير من كتب القانون الدستوري يعرِّفون الدولة عن طريق بيان أركانها دون الحديث عن ماهيتها، وأركان الدولة كما يجيء في هذه الكتب ثلاثة: ركن جغرافي يطلق عليه لفظ (إقليم) وهو متمثل في قطعة محددة من الأرض، وركن إنساني يطلق عليهم (شعب) وهو متمثل في مجموعة من الناس تعيش في هذا الإقليم، وركن معنوي يطلق عليه (السلطة العامة المستقلة ذات السيادة) وهو متمثل في الحكومة التي تملي إرادتها على ذلك الإقليم وما حواه من مخلوقات أو موجودات، وهذا الركن الأخير يتفق مع المعنى اللغوي في الدلالة على الدولة.
وإذا كان كثير ممن كتب في السياسة الشرعية يقتصرون في كلامهم على ما يتعلق بالدولة في ديار الإسلام، ولا يتعدون ذلك إلى تفسير تنوع الدول، فإننا نجد ابن خلدون ـ رحمه الله تعالى ـ يقدم تفسيراً في ذلك حيث يبين أنه نظراً لاختلاف الإرادات والمقاصد بين الناس وملوكهم؛ فقد يجر ذلك إلى هرج وتقاتل، فكان لا بد للتغلب على هذا الاحتمال من «أن يُرجَع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة، وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم، وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها، ولا يتم استيلاؤها {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} [الأحزاب: 62] » ثم يبين أنواع السلطة في الدولة فيقول: «فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبُصَرَائها كانت سياسة عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرِّعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة» . فهو يفرق هنا بين سياسة عقلية وهي الأشبه بما يدعونه الدولة المدنية، وبين سياسة دينية، ثم يقدم ـ رحمه الله تعالى ـ أصول التنوع الكامل للدول فيقول: «إن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغَرَض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأُخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة؛ فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» (1) فكانت الدولة عنده ثلاثة أنواع:
ـ دولة قائمة على حمل الناس على مقتضى الغرض والشهوة، وهي ما يمكن أن نطلق عليه: (الدولة المستبدة) أو (الديكتاتورية) .
ـ ودولة قائمة على حمل الناس على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، وهي ما يمكن أن نطلق عليه (الدولة المدنية) .
ـ ودولة قائمة على حمل الناس على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (الدولة الإسلامية) أو (الشرعية) .
- الدولة المدنية في الثقافة الغربية:
الدولة المدنية: «هذا مفهوم مترجم ومعرب من الثقافة الغربية الحديثة، ويقصد به الدولة التي تستقل بشؤونها عن هيمنة وتدخل الكنيسة؛ فالدولة المدنية هي التي تضع قوانينها حسب المصالح والانتخابات والأجهزة والتي في نفس الوقت لا تخضع لتدخلات الكنيسة» (2) . والكنيسة في الغرب كانت هي راعية الدين والممثلة له؛ فاستقلال الدولة المدنية عن تدخل الكنيسة ووضعها للقوانين حسب المصالح، معناه عند القوم استقلالها عن الدين (3) ، وهو ما يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.
ويقول كاتب آخر: «فمن الناحية التاريخية إذا رجعنا إلى أصل اصطلاحها الغربي، نجد أن للدولة المدنية مفهوماً فلسفياً ـ سياسياً، مناقضاً للدولة الدينية (الثيوقراطية) ، والتي يتأرجح مفهومها (نظرياً) بين حكم رجال الدين، وتحكيم الدين نفسه في السياسة؛ بغضِّ النظر عن طبيعة من يحكم به! ويتمثل مفهومها عملياً بتنحية الدين عن السياسة مطلقاً؛ باعتبار الدين هو مجموعة قوانين إلهية مميزة للدولة الدينية ... فكانت الدولة المدنية بمبدئها الرافض لتدخل الدين في السياسة دولة علمانية.. وأنها تمثل عبر التاريخ سواء في الشرق أو الغرب عند دعاتها إطاراً سياسياً للعلمانية قابلاً لتوظيف أي اتجاه فلسفي إيديولوجي في الحياة؛ بشرط تنحية الدين عن السياسة» (4) . «الحكومة المدنية في الفضاء المعرفي الغربي تعني تنظيم المجتمع وحكمه بالتوافق بين أبنائه بعيداً عن أي سلطة أخرى سواء دينية أو غيرها، أي إن شرط (العلمانية) أساسي في تلك الحكومات» (5) .
وإذا رجعنا إلى الوراء ثمانين سنة إلى أول من أدخل هذه المصطلحات إلى بيئتنا أو من يُعد من أولهم نجد الكلام نفسه حيث يقول: «طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية، وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة ولا قائماً على الدين، هو إذن نوع لا ديني، وإذا كانت الزعامة لا دينية فهي ليست شيئاً أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية، زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين، وهذا الذي قد كان» (1) ؛ فالدولة (الزعامة) المدنية عنده هي دولة (زعامة) لا دينية.
والمتابع لما يُكتَب هذه الأيام عن الدولة المدنية يمكنه رصد اتجاهات أربعة في بيان ما تعنيه الدولة المدنية، كلها تدور حول ما تقدم من معنى، سواء بالموافقة عليه أو المخالفة له.
الاتجاه الأول: وهو يمثل مَنْ قَبِل هذا المصطلح كما جاء من الغرب:
وهذا الاتجاه يمكن تقسيمه إلى فئتين:
فئة قبلت اللفظ ومفرداته لكن لم تصل به إلى غايته، أما الفئة الثانية فقد وصلت باللفظ إلى غايته وصرحت بأن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.
الفئة الأولى: فإذا ذهبنا إلى مَنْ قَبِل هذا المصلح في بيئتنا العربية لننظر كيف تلقوه عن الغرب وكيف يفهمونه، فإننا نجد من يقول مبيناً خصائص هذه الدولة: «والدولة المدنية هي الدولة التي تقوم على المواطنة وتعدد الأديان والمذاهب وسيادة القانون» (2) ، ومن يقول: «الدولة المدنية هي الدولة التي يحكم فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد ... إلخ، وليس علماء الدين بالتعبير الإسلامي أو (رجال الدين) بالتعبير المسيحي» (3) .
ومن يقول: «الدولة المدنية هي دولة المؤسسات التي تمثل الإنسان بمختلف أطيافه الفكرية والثقافية والأيديولوجية داخل محيط حر لا سيطرة فيه لفئة واحدة على بقية فئات المجتمع الأخرى، مهما اختلفت تلك الفئات في الفكر والثقافة والأيديولوجيا» (4) . لكن هذا الكلام إذا أُخذ مفصولاً عن لواحقه فقد لا يتبين منه شيء؛ فهو كلام محتمل يسهل التخلص من لوازمه، لذا لو رجعنا إلى تفصيلات الكلام فإنها تكشف كثيراً من هذا الإجمال أو الغموض؛ ففي تفصيلات الكاتب الأول، نجده يضع الدولة المدنية في مقابل ما يسمونه بالإسلام السياسي، وهو ما يعني أن علاقة هذا المصطلح بالإسلام ـ في فهمهم ـ ليست علاقة توافق، وإنما هي علاقة تعارض.
والحقيقة أنه ليس هناك ما يمكن أن يسمى إسلاماً سياسياً وإسلاماً غير سياسي؛ فتلك مسميات ما أنزل الله ـ تعالى ـ بها من سلطان؛ فالإسلام هو الدين الذي رضيه رب العباد للعباد، بما فيه من عقائد وعبادات وتشريعات ومعاملات، فتقسيم الإسلام إلى سياسي وغير سياسي ونحو ذلك من المصطلحات، وقبول ما يزعمون أنه إسلام غير سياسي وينعتونه بالإسلام المعتدل، ورفض ما يسمونه بالإسلام السياسي وينعتونه بالإسلام المتشدد، هو مُناظِر لفعل المشركين من قبل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] ، قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّؤوهُ أَجْزَاءً، فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ» (5) .
يقول الكاتب المذكور: «فالخوف على الدولة المدنية قائم، والسؤال عن مستقبلها مطروح، في عدد متزايد من الدول التي يتنامى فيها دور حركات الإسلام السياسي» (6) ، ويعلق على محاولة الملك فؤاد ملك مصر ـ بعد سقوط الخلافة في تركيا ـ أن يجعل من نفسه خليفة فيقول: «عندما أغرى سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 الملك الراحل فؤاد بأن يحمل اللقب الذي بات بلا صاحب، لم يكن واضحاً حينئذ لكثير من المصريين مدى التغيير الذي يمكن أن يحدث في طبيعة الدولة إذا نجح فؤاد في تنصيب نفسه خليفة، لم يدرك الخطر على الدولة المدنية إلا قسم في النخبة السياسية والثقافية. ولكن هذه النخبة في مجملها كانت مؤمنة بأن الخلط بين السياسة والدين هو نوع من الشعوذة التي تسيء إلى كليهما، على نحو ما أبلغه الزعيم الوطني الراحل مصطفى النحاس بعد ذلك بسنوات إلى مؤسس جماعة (الإخوان) حسن البنا» (7) ، ويقول أيضاً: «وسجل التاريخ لرجال مثل علي عبد الرازق وطه حسين وعبد العزيز فهمي وغيرهم، دورهم المقدر في حماية الدولة المدنية» (8) .
ومعروف ماذا كان دور (علي عبد الرازق) الذي يعد أول من أنكر علاقة الدين بالحكم أو السياسة، وأنكر أن تكون خلافة الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ خطة دينية، وكذلك دور طه حسين التغريبي وغيره ممن ذكرهم الكاتب أو أشار إليهم، وهذا الاعتراف يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية، وإن كان بعض الناس يفضل استخدام لفظ المدنية على العلمانية من أجل الخداع والمراوغة.
ويقول الكاتب الثاني: «نريد أن نتجاوز التسميات إلى المضامين، أي أن المضمون للفكرة هي: قيام الدولة على أساس مدني، وعلى دستور بشري أياً كان مصدره، وعلى احترام القانون، وعلى المساواة وحرية الاعتقاد» ويزيد الأمر تفصيلاً فيضيف: «نقبل وننادي وندعم الدولة المدنية الحديثة القائمة على سلطة الشعب في التشريع، وكما ورد بالنص في برنامج حزب الوسط الجديد في المحور السياسي (الشعب مصدر جميع السلطات التي يجب الفصل بينها واستقلال كل منها عن الأخرى في إطار من التوازن العام) وهذا المبدأ يتضمن حق الشعب في أن يشرِّع لنفسه وبنفسه القوانين التي تتفق ومصالحه.. ويؤمنون بأساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات بكافة أشكالها ومنها السياسية بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم على أساس المواطنة الكاملة، ويؤمنون بالتعددية الفكرية والدينية والسياسية والثقافية» (1) .
ويقول الكاتب الثالث: «في الدولة المدنية يضع الإنسان قوانينه التي تنظم حياته لكونه أعرف بأمور دنياه، ويستمد من قوانين دينه القوانين التي تنظم علاقته بربه، ليكون مؤمناً لا يمنح لنفسه الحق أن يكون مدعياً لامتلاك الحقيقة ومفسراً وحيداً لمفاهيم الدين، مما يجعل الدولة كهنوتية تخضع لحكم الكهنوت وليس لحكم القانون» (2) ، فالدولة المدنية في فهمه تعني استقلال الإنسان بوضع التشريعات التي تحكم أمور الحياة، وحصر الدين في المفهوم العلماني الذي يقصر الدين على الشعائر التعبدية في معناها الضيق (3) .
وإذا كان الكاتبان الأول والثاني من دولة، والثالث من دولة أخرى فإن هناك كاتباً آخر من دولة ثالثة يردد المقولة نفسها؛ فعلى بُعد ما بينهم من المسافات وافتراق الديار وحَّدت بينهم الأفكار، فيقول: «إن مصدر السلطة في الدولة المدنية هو الأمة والشعب؛ فالأمة باب الشرعية الوحيد لها ... وللسلطة في الدولة المدنية ثلاثة أنواع مستقلة عن بعضها تمام الاستقلال، ولكل منها مؤسساتها واختصاصاتها، وهي: السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية ... والمواطنة في الدولة المدنية حق لكل من توافرت فيه شروطها، بغض النظر عن دينه وعرقه، ومن حصل عليه كفلت حقوقه باسم القانون، فلا طبقية ولا طائفية ولا عنصرية» (4) .
وهناك من يقابل بين الدولة المدنية والدولة البوليسية فيزعم أن كل دولة ليست مدنية هي دولة بوليسية قائمة على القمع والظلم بغض النظر عن أي انتماء عقدي، وكلامه هنا يعني أن الدولة الإسلامية دولة بوليسية لا يمكن القبول بها؛ لأنها ـ من وجهة نظره ـ ليست دولة ديمقراطية، فيقول: «والدولة المدنية: نقيض الدولة العسكرية، وكل حكم سلطوي قمعي لا يقوم على الأسس الديمقراطية، هو حكم بوليسي سواء كان متسمياً باسم الدولة الدينية أو بغيره من الأسماء التي مهما تنوعت فإن السلطة التي تحتكر الحكم عن طريق فئة واحدة وفكر واحد هي سلطة لدولة بوليسية استبدادية متخلفة ... ليس هناك دولة دينية، وإنما دولة مدنية أو دولة بوليسية؛ لأن الدولة المدنية كفيلة باحتضان كل الأديان والأفكار، أما الدولة البوليسية فإنها دولة لا تقبل الآخر وتستعدي التعدد والتنوع مرة تحت مظلة الحكم العسكري المعلن ومرة تحت مظلة الحكم الديني، وكلاهما حكم بوليسي لا علاقة له بمبادئ الدين» (5) ، فكل حكم لا يقوم على الأسس الديمقراطية ـ عنده ـ هو حكم بوليسي استبدادي متخلف، سواء كان يستمد مرجعيته من الإسلام أو من غيره.
الفئة الثانية: وهناك من يصرح تصريحاً دون مواربة أو تلاعب بالألفاظ أن الدولة المدنية تعني الدولة العلمانية؛ فهذا كاتب يقول في مقال له بعنوان: لماذا ننادي بالدولة العلمانية؟: «ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة، وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة ... إن إقامة الدولة المدنية العلمانية وفق الصورة المنوه عنها، باتت ضرورة لإخراج مجتمعاتنا المتخلفة من شرنقة الجدل وحالة اللاحسم حول الكثير من القضايا الصغيرة والكبيرة التي لا تزال تراوح مكانها بسبب إقحام الدين فيها ومن ثَم الاختلاف المرير حولها» (6) ، وهذا كاتب آخر يقول: «لا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة المذهبية أو الدينية المجردة من العلمانية؛ لأن العقيدة، أية عقيدة كانت لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة طالما أن القانون الديني يميز بين العقائد. ومن هنا تبرز أهمية حرية العقيدة في المجتمع المدني ... إلى أن يقول: وأخيراً نؤكد أن الدولة المدنية العلمانية الليبرالية الدستورية ليست شكلاً مجرداً وإنما هي مضمون يساهم في تقدم المجتمع بكل مكوناته وقومياته وأديانه» (1) . وهذا كاتب آخر يضع الشروط الأساس لبناء الدولة المدنية فيقول: «استكمال بناء الدولة المدنية الحديثة بما يتطلب من خلو المجال العام من كل الإِشارات والرموز الدينية، حتى يصبح من الرحابة إلى الحد الذي يسع فيه كل المختلفين. وأن تجري السياسة على أساس المصلحة، وأن يكون التشريع تعبيراً عن تنوع الأمة» (2) .
- الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا:
يحلو لكثير من الكتاب في هذا الموضوع من أصحاب الاتجاه التغريبي المقابَلة بين ما يسمونه دولة مدنية، ودولة ثيوقراطية؛ أي الحكم بمقتضى التفويض الإلهي للحاكمين مما يضفي عليهم صفة العصمة والقداسة، ويذكرون ما في الدولة الثيوقراطية من المثالب والعيوب والآفات، ويُسقطون ذلك على الدولة الإسلامية، وهذا ليس من المنهج العلمي الذي يتبجح به هؤلاء؛ فإن هذا اللفظ (ثيوقراطية) ليس من الألفاظ العربية، وهو لم يأت في أي كتاب من كتب المسلمين؛ فكيف يحاسبوننا عليه؟ وهل هذا إلا كمثل من يتهم غيره بتهمة من عند نفسه ثم يحاسبه عليها وهو لا يعلم بها؟ فإذا كانت الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا أو مفرداتنا، لم يَجُز لأحد أن يحاكمنا إليها، ومن أراد فليلجأ إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا حتى يكون النقاش علمياً.
إن الدولة الثيوقراطية التي يتحدثون عنها بالصفات التي يذكرونها لا نعلم عن وجودها إلا ما كان في بلاد الغرب النصراني الذين نشأ فيهم هذا المصطلح؛ حيث تسلط علماء اللاهوت على كل شيء حتى على قلوب الناس بزعم تمثيلهم للإرادة الإلهية؛ فهذه خبرة نصرانية لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد؛ فما الذي يدعو هؤلاء إلى محاكمتنا إلى لفظ ليس من عندنا ولا يحاكموننا إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا الثابتة في كتب أعلام هذه الأمة؟ وهل هذا إلا دليل على أن هؤلاء يحاكمون تاريخنا وهم في الوقت نفسه ينظرون إلى تاريخ الغرب النصراني نظرة إكبار وإعجاب؟ وهو يعني اختزال الخبرة السياسية في العالم كله في الخبرة الغربية؟ وهذا في منتهى التبعية واحتقار الذات. يقول أحد الكتاب: «ثقافتنا الإسلامية لم تعرف دولة مدنية وأخرى دينية؛ فهذا التقسيم أفرزته حركة التنوير في الغرب المناهضة لسلطة الكنيسة المطلقة، والتي كانت تمثل نمط السلطة الدينية غير المرغوب فيها، وهو المعنى الذي يعنيه مصطلح (ثيوقراطية) الذي هو نظام حكم يستند على أفكار دينية في الأساس مستمدة من المسيحية واليهودية، وتعني حكماً بموجب الحق الإلهي المزعوم، وهو نظام كان له وجود في العصور الوسطى في أوروبا، نتجت عنه دول دينية مستبدة؛ ولكننا في الشرق الإسلامي لم نعرف هذا اللون من الحكم؛ فليس في الإسلام مؤسسة دينية كالكنيسة، التي فيها التراتيبية المعهودة بين رهبانها ولا يجب أن يسمح بقيامها (3) .
لقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب، ما يحاول هؤلاء بافتراء واضح أن يلصقوه بأمة المسلمين، فقال ـ تعالى ـ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] وقد بين أهل التفسير أن تلك الربوبية كانت في استقلال الأحبار والرهبان بالتشريع حتى إنهم ليُحِلُّون ما حرم الله ـ تعالى ـ ويحرِّمون ما أحل الله ـ تعالى ـ وهذا لم يكن بحمد الله ـ سبحانه ـ في أمة المسلمين.
الاتجاه الثاني: وهو يمثل من حاول المواءمة بين الدولة المدنية في مفهومها الغربي وبين الإسلام.
يرى هذا الاتجاه أن المسألة هينة وأنها مجرد اصطلاح، والاصطلاح لا مُشَاحَّةَ فيه كما يذكر أهل العلم، وعلى ذلك فهم يقررون أن الدولة في الإسلام مدنية ليست دينية، بينما دستورها من القرآن والسنة،: «إن الدولة مدنية لا دينية، أما مصدر الدستور والقانون فيها فحتماً هو الكتاب والسنة وموروث الأمة فقهاً وفكراً، والدولة المدنية في عصرنا هي دولة المؤسسات التي تحكم من خلالها» (4) . وهذا لا شك فيه محاولة للتوفيق بين الأفكار المعاصرة وبين ما هو مستقر في الشريعة بلا خلاف بين أحد من الأمة؛ إذ لم يدَّعِ أحد أن للأمة أن تشرِّع بمحض إرادتها وفق ما تراه مصلحة من دون التفات إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها، لكن هذا الكلام في الحقيقة يحمل التناقض في ثناياه؛ إذ كيف نقول عنها إنها لا دينية ثم نقول في الوقت نفسه إن دستورها هو الكتاب والسنة؟ فمعنى كونها لا دينية أنها لا ترتبط بالدين، وكون دستورها الكتاب والسنة أنها ترتبط بالدين، وهذا تناقض، وهذه المشكلة يقع فيها من يحاول التوفيق بين المختلفات في الظاهر، من غير إزالة أسباب الخلاف الحقيقية.
والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في التسمية أو الاصطلاح؛ فقد كان بالإمكان أن تُسمى الدولة في الإسلام دولة مدنية أو غير ذلك من الأسماء، لو لم تكن تلك المصطلحات ذات استعمال مستقر مناقض للشريعة، ومن ثَمَّ يصير استعمال هذا المصطلح لوصف الدولة في الإسلام سبباً في اللبس وخلط الأمور؛ لأن هذا الاصطلاح لم يعد اصطلاحاً مجرداً وإنما صار اصطلاحاً مُحَمَّلاً بالدلالات التي حَمَلَها من البيئة التي قدم منها.
فإذا كان بعض المتكلمين بهذا المصطلح والآخذين به يقولون بمرجعية الشريعة؛ فما الذي يحملهم على الإصرار على استعمال مصطلح أقل ما يقال فيه أنه مصطلح مشبوه، يدعو استعماله إلى تفرقة الأمة لا إلى جمعها، كما يمثل نوعاً من التبعية الثقافية للغرب، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مسوغ مقبول للإصرار على هذا الاستعمال.
ومما هو مقبول في العقل السليم أن الكلمة ذات المعنى الصحيح إذا كانت تحتمل معنى فاسداً فإنه يُعْدَلُ عنها إلى كلمة لا تحتمل ذلك المعنى الفاسد، وهذا الأمر المعقول قد أرشد إليه القرآن حينما قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] ، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص ـ عليهم لعائن الله ـ فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعنا. يُوَرُّون بالرعونة» (1) . وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «في هذه الآية دليلان: أحدهما ـ على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض ... الدليل الثاني ـ التمسك بسد الذرائع وحمايتها ... والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع» (2) .
الاتجاه الثالث: وهو يمثل من يرى أن الدولة المدنية هي جوهر الإسلام وحقيقته.
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن مصطلح الدولة المدنية تعبير عن حقيقة الإسلام وجوهره؛ «فالدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة مَدَنِيَّة، تقوم السلطة بها على البَيْعة والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة ـ مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد فيها ـ أن تُحاسبه وتُراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن أعوجَّ، وإلا عزلته، ومن حق كل مسلم، بل كل مواطن، أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكراً، أو ضيَّع معروفاً، بل على الشعب أن يُعلن الثورة عليه إذا رأى كفراً بَوَاحاً عنده من الله برهان» (3) . لكن أصحاب هذا الاتجاه لم يقدموا شيئاً يدعمون به تلك المقولة؛ فمن حيث اللفظ؛ فإن هذا المصطلح جديد، فلا يمكن البحث عنه في التراث الشرعي للتدليل على تلك الفرضية، ومن حيث المعنى فإن هذا المعنى المذكور لا يوافق عليه جميع القائلين بالدولة المدنية الموافقين عليها، فضلاً عن اشتمال هذا المصطلح لمضامين مناقضة للعقيدة والشريعة.
على أن هناك ممن يدعي هذه الدعوى لا يقدم مشاريع وأطروحات واضحة مفصلة تبين بها تلك المسألة، بعيداً عن الكلام المجمل الذي يمكن صرفه إلى عدة معانٍ محتملة غير قاطعة في المراد منها.
الاتجاه الرابع: رفض هذا المصطلح لما اشتمل عليه من مفاسد ولعدم الحاجة إليه:
يرى هذا الاتجاه أن الدولة المدنية التي يجري الحديث عنها هي دولة علمانية، «هذا الاصطلاح (الدولة المدنية) هو مطاطي ينكمش في أحسن حالاته ليحاكي الغرب في كثير من مناهجه السياسية في الحكم مع الحفاظ على بعض الخصوصيات، ويتمدد حتى يصل إلى أصل استعماله دولة علمانية صرفة» (4) ، «ومن وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية وقع في خطأ ... ذلك أن الدولة المدنية الحديثة تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس، وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل إن هذا يخرجها عن كونها إسلامية، ويُسمّى هذا النوع من الحكم في الإسلام بحكم الطاغوت. وكل حكم سوى حكم الله هو طاغوت» (5) .
وفي هذا الجانب يتفق هذا الاتجاه مع الاتجاه الأول ولكن بفارق جوهري كبير، وهو أن الاتجاه الأول لا يظهر منه رفض واضح لعلمانية الدولة المدنية، بل منهم من يصرح بعلمانيتها ويدعو إلى ذلك، وأما هذا الاتجاه فيظهر منه الرفض الواضح لعلمانية الدولة ويحذر منها، ويرى أن الدين والعلمانية نقيضان لا يجتمعان معاً. وأما الاتجاه الثاني فيحاول أن يوائم بين الأمرين فيقبل شيئاً من هؤلاء وشيئاً من هؤلاء، وأما الاتجاه الثالث فهو يجعل الدولة المدنية من صميم الإسلام.
ومن هنا يتبين أن القابلين لهذا المصطلح مختلفون فيما بينهم فيما يظهر من كلامهم، فإن كان اختلافهم هذا حقيقياً، فهو دليل منهم على غموض هذا المصطلح وعدم وضوحه، واشتماله على كثير من الأمور التي يناقض بعضها بعضاً؛ فهم مدعوون لتنقيته من تلك التناقضات، واللائق بمثل هذا المصطلح في هذه الحالة تركه وعدم التعويل عليه، والبحث ـ إن كان لا بد ـ عن مصطلح آخر بريء من هذه التناقضات والغموض الذي يحيط به.
__________
(1) مسفر بن صالح الوادعي، مقال على موقع العربية بعنوان: لا تثقرطوها ولا تؤقرطوها.
(1) مقدمة ابن خلدون، ص 169 ـ 170، ط دار الشعب.
(2) د: محمد عابد الجابري، جريدة الوطن الأحد 16/4/1427 العدد (2053) .
(3) الكنيسة في الغرب تجاوزت حدوها حيث تسلطت على قلوب الناس، وكانت تعاملهم وكأنها هي الإله أو الرب، فتُدخل في الرحمة من يطيعها، وتطرد من الرحمة من يتمرد على أوامرها، فكأنها المتصرفة في الجنة والنار تُدخل من تشاء الجنة، وتُدخل من تشاء النار.
(4) إدريس أبو الحسن، عضو منظمة كُتِّاب بلا حدود، موقع مجلة العصر.
(5) د: سليمان الضحيان، جريدة الوطن الإثنين 24 ربيع الآخر 1427هـ الموافق 22 مايو 2006م العدد (2061) السنة السادسة.
(1) الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، ص 90، الطبعة الأولى عام 1343هـ 1925م.
(2) وحيد عبد المجيد، موقع جريدة الغد 91666 http://www.alghad.jo/?news=.
(3) أبو العلا ماضي، وكيل مؤسسي حزب الوسط، مجلة الهلال بتاريخ 1/1/2005.
(4) سامي اليامي، موقع تنوير www.kwtanweer.com/articles/ readarticle.php?articleID=879.
(5) أخرجه البخاري، باب إتيان اليهود النبي، رقم (3651) .
(6) وحيد عبد المجيد، موقع جريدة الغد 91666 http://www.alghad.jo/?news=.
(7) المرجع السابق.
(8) المرجع السابق.
(1) أبو العلا ماضي، وكيل مؤسسي حزب الوسط، مجلة الهلال، بتاريخ 1/1/2005.
(2) سامي اليامي موقع تنويرwww.kwtanweer.com/articles/ readarticle.php?articleID=879.
(3) العبادة في المفهوم الشرعي هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه من الأقوال والأفعال والتصرفات، لكن هؤلاء ظنوا أن العبادة هي فقط العبادات المعلومة كالصلاة والصوم ونحوهما، لذلك أقروا بها، ولو علموا أن العبادة في المفهوم الشرعي تشمل حياة الإنسان كلها لما قالوا بذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] .
(4) مسفر بن صالح الوادعي، موقع العربية، الثلاثاء 30 مايو 2006م، 04 جمادى الأولى 1427هـ
http://64.233.167.104/search?q=cache:oDa--ISKjssJ:www.alarabiya.net/Articles/
(5) سامي اليامي، موقع تنويرwww.kwtanweer.com/articles/ readarticle.php?articleID=879.
(6) د عبد الله المدني، موقع جريدة المؤتمر http://www.inciraq.com/Al-Mutamar.
(1) خالد يونس خالد، موقع تنوير471http://www.kwtanweer.com/articles/readarticle.php?articleID=، ورقة قدمها الكاتب إلى مؤتمر الدولة المدنية ضمن سلسلة مؤتمرات دعم الديمقراطية في العراق التي عُقدت في لندن خلال الفترة 24 ـ 31 يوليو/تموز 2005 والمنظمة من قبل لجنة دعم الديمقراطية.
(2) سامح فوزي http://www.islamonline.net/Arabic/politics/2005/06/article20.shtml.
(3) عبد الله فراج الشريف، ملحق الرسالة بجريدة المدينة، السبت 6 من محرم 1424 هـ، وهو منشور على موقع الشيخ سعد البريك.
(4) عبد الله فراج الشريف، ملحق الرسالة بجريدة المدينة، السبت 6 من محرم 1424 هـ، وهو منشور على موقع الشيخ سعد البريك.
(1) تفسير ابن كثير (1/373) .
(2) تفسير القرطبي (2/57) .
(3) د: يوسف القرضاوي موقع الملتقى، وما ذكره من تفاصيل الحكم في الإسلام لا يُنازعَ فيه، لكن من الذي قال إن الدولة التي عرفها المسلمون في تاريخهم كانت دولة مدنية، وهم لم يسمعوا بهذا المصطلح ولا عرفوه؟
(4) الشيخ سعد البريك، على موقع الشيخ.
(5) د: عبد الله الصبيح، من مقال على موقع الإسلام اليوم، وانظر جريدة الوطن بتاريخ 25/4/1427 العدد (2062) .(229/5)
سُكْر الشهوات
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
«إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير! ونظرة إلى صحافتها، وأفلامها، ومعارض أزيائها، ومسابقات جمالها، ومراقصها، وحاناتها، وإذاعاتها، ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري، والأوضاع المثيرة، والإيحاءات المريضة، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها ... نظرة إلى هذا تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية، إن البشرية تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان، لتلحق بعالمه الهابط ... » (1) .
هذا ما قاله سيّد قطب ـ رحمه الله ـ منذ أكثر من خمسين عاماً، فكيف لو أدرك هذا الزمان بقنواته الفضائية المتهتكة، ومواقع الفجور في الإنترنت ونحوهما؟! أضف إلى ذلك قرارات ومؤتمرات المنظمات الدولية التي تبيح ما حرّم الله تعالى ورسوله # من الفواحش والخنا: كالزنى، واللواط والسحاق، بل تسن هذه المنظماتُ القوانينَ في سبيل حماية ورعاية الفجور وأهله!
ويقول سيّد في موطن آخر: «وكثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله، وبخاصة في علاقات الجنسين، شاق مجهد، والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح! وهذا وهم كبير.. فإطلاق الشهوات من كل قيد، والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي.. إن هذه تبدو يسراً وراحة وانطلاقاً، ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وثقلة، وعقابيلها في حياة المجتمع عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة.
والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي (تحررت) من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب، لو كانت هنالك قلوب!
لقد كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المِعْول الأول الذي حطم الحضارات القديمة، وحطم الحضارة الإغريقية، وحطم الحضارة الرومانية، وحطم الحضارة الفارسية، وهذه الفوضى ذاتها هي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة» (2) .
إن الولوغ في الفواحش لا يزيد الأمر إلا ولعاً وإدماناً على ذلك، فسعار الشهوات لا حدّ له ولا انقضاء.
يقول ابن القيم رحمه الله: «وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بدّ لهم منه ... » (3) .
والناظر إلى حال المسلمين ـ فضلاً عن غيرهم ـ يلحظ أن هذا الركام من الفواحش والقاذورات قد عمّ وطمّ، إذ استحوذت هذه الملذات المحرمة على فئام من المسلمين عبر وسائل كثيرة وميسرة، فآل بالكثير منهم إلى الانحلال والسفول، والتفلت من أحكام الشرع المطّهر.
وهذا الأمر الجلل يستوجب ما يلي:
إنّ في هذه الأوصاف استبشاعاً واستقباحاً لتلك الأفاعيل، وتنفيراً وتحذيراً منها، خلافاً للتعبيرات المعاصرة التي قد تهوّن سُبل الغواية، بل ربما عُبِّر عن هذه القبائح بأسماء محبوبة للنفوس.
يقول ابن القيم في هذا المقام: «وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات، وتخيّروا لها من الألفاظ الرائقة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة ـ وأكثر الخلق كذلك ـ حتى إن الفجار ليسمون أعظم أنواع الفجور بأسماء لا ينبو عنها السمع، ويميل إليها الطبع، فيسمون مجالس الفجور والفسوق: مجالس الطيبة ... » (2) .
كما على أهل العلم والدعاة أن يبلغوا حكم الله تعالى والذي يجب إنفاذه في حق أهل الفجور، وإن تعذّر تطبيقه، فالرجم بالحجارة حتى الموت هو حكم الله تعالى في الزاني المحصن، وأما البِكر فجلد مائة وتغريب عام، وأما الذين يقارفون عمل قوم لوط، فعقوبته أغلظ من عقوبة الزاني، فقد أجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على قتل اللوطي، وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله، فمنهم من يرى تحريقه بالنار، ومنهم من قال يُرمى من شاهق ... كما جاء مبسوطاً في موضعه.
فالمتعيّن أن نجهر بالفضيلة والطهر والنقاء، وندافع بكل حزم هؤلاء الدعاة العاكفين في أوحال القاذورات، ومستنقع الشهوات، بما يدرأ فجورهم ويكفّ غيّهم.
«نحن نعلم أن بعض الناس يعيش أغلب أوقاته في شبكة (المجاري) .
ويبدو أن بعض الأدباء أَلِف الحياة في مجاري المجتمع ومساربه السفلى، والمدهش أنه يريد جرّ الآخرين إلى مستواه الخُلقي، أو أنه يريد نقل روائحه المنتنة إلى ظاهر الحياة محاولاً طمس ما نبت فوقها من حدائق وما فاح في جوها من عطور.
كذلك يصنع كتّاب الجنس في بلادنا، وفي أكثر أقطار الدنيا» (4) .
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: «فهكذا أهل الشهوات الفاسدة، وإن أضرمت قلوبهم نارة الشهوة ليس رحمتهم والرأفة بهم تمكينهم من ذلك، أو ترك عذابهم، فإن ذلك يزيد بلاءهم وعذابهم، والحرارة التي في قلوبهم مثل حرارة المحموم، متى مُكِّن المحموم مما يضره ازداد مرضه، أو انتقل إلى مرض شرٍّ منه.
فهذه حال أهل الشهوات، بل تُدفع تلك الشهوة الحلوة بضدها، والمنع من موجباتها، ومقابلتها بالضدّ من العذاب المؤلم الذي يخرج المحبة من القلب ... » (5) .
وقال أيضاً: «ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب، فإن الشهوة توجب السكر، كما قال تعالى عن قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] . وقد نهانا الله ـ عز وجل ـ أن تأخذنا بالزناة رأفة، بل نقيم عليهم الحدّ، فكيف بما هو دون ذلك من: هجر، وأدب باطن، ونهي، وتوبيخ وغير ذلك؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنى» (6) .
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في هذا الشأن: «نهى الله ـ سبحانه ـ عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحدّ عليهم، فإنه سبحانه من رأفته بهم ورحمته بهم شرع هذه العقوبة، فهو أرحم لهم منكم بهم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره ... » (7) .
فلا بد من بذل الجهد في توعية أهل الإسلام بمفاسد الفواحش، وسبل السلامة والوقاية من الفواحش وأسبابها، ومن أهم ذلك: إحياء واعظ الله تعالى في قلب كل امرئ مسلم، وتحريك بواعث الخوف والخشية من الله جلّ جلاله، وبيان ما يعقب هذه الفواحش واللذات العاجلة من الأنكاد والحسرات والأوجاع والنكال في الدنيا والآخرة.
مآرب كانت في الشباب لأهلها
عِذاباً، فصارت في المشيب عَذاباً
وقد أشار ابن القيم إلى ذلك السكر فقال: «ومن أسباب السكر: حبّ الصور؛ فإذا استحكم الحبّ وقوي أسكر المحبّ، وأشعارهم بذلك مشهورة كثيرة، ولا سيما إذا اتصل الجماع بذلك الحبّ، فإن صاحبَه ينقص تمييزه أو يعدم في تلك الحالة بحيث لا يميّز، فإن انضاف إلى ذلك السكر سُكر الشراب بحيث يجتمع عليه سُكر الهوى، وسُكر الخمر، وسكر لذّة الجماع، فذلك غاية السكر ... » (1) .
سُكران: سكر هوى وسكر مُدامة
ومتى إفاقة من به سكران؟
والمقصود أن حبّ الشهوات إذا استحكم على الأشخاص، فقد لا يجدي التوعية والتوجيه في حق من غاب عقله، وأُشرب حبّ شهوته، فعندئذ يحتاج إلى الزجر والأخذ على أيدي أولئك الأشخاص، وأَطْرِهم على الاستقامة أطراً، لا سيما لمن كان لهم ولاية أو سلطة، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذا الصدد: «فإن أصر على النظر [المحرم] أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش، فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة قد يكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار عليه.
بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] ، ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان بالله» (2) .
وقرر ابن القيم ذلك قائلاً: «إن التوحيد واتباع الهوى متضادّان، فإن الهوى صنم، ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله ـ سبحانه ـ كسر الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً. وتأمّل قول الخليل # لقومه: {إذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] ، كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله؟» (3) .
قد يتساهل البعض في شأن هذه الفواحش بدعوى أنها من مطلق المعاصي، وأن أصحابها تحت مشيئة الله تعالى، وقد غاب عن هؤلاء التلازم بين الظاهر والباطن، وخطورة الذنوب، وأنها قد تفضي بصاحبها إلى الانسلاخ من ملة الإسلام، خصوصاً وأن مدمني الشهوات قد لا يستطيعون تركها، إذ أسرتهم تلك الشهوات، فظلوا عليها عاكفين مصرّين.
وقد عقد الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ هذا الباب في كتاب الإيمان فقال: «باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر» .
وقال البخاري ـ رحمه الله ـ في نهاية هذا الباب: « ... وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] » (4) .
ثم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «مراده [أي: البخاري] أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة، يُخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية، وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك، كما يقال: إن المعاصي بريد الكفر» (5) .
وساق ابن رجب ـ رحمه الله ـ آثاراً كثيرة عن السلف في حبوط بعض الأعمال بالكبائر، ومن ذلك ما قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله «ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله» (6) .
قد هيأوك لأمر لو فطنِت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وكما قال بعض السلف: القلوب جوّالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحش» (7) .
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) في ظلال القرآن، (1/511) ، باختصار.
(2) في ظلال القرآن، (2/632) ، باختصار.
(3) روضة المحبين، ص (47) .
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، حديث (12) .
(2) الصواعق المرسلة (2/437) .
(3) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، حديث (4690) ، والترمذي، كتاب الإيمان، حديث (2625) .
(4) حصاد الغرور لمحمد الغزالي، ص (104) .
(5) جامع الرسائل (قاعدة في المحبة) ، (2/293، 393) .
(6) مجموع الفتاوى (15/288، 289) ، باختصار.
(7) الجواب الكافي (220) .
(1) روضة المحبين (152) ، وانظر: قاعدة في المحبة لابن تيمية (جامع الرسائل) ، (2/244، 245) .
(2) مجموع الفتاوى (15/292، 293) ، باختصار.
(3) روضة المحبين، (483) .
(4) انظر: فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن رجب (1/177) .
(5) فتح الباري (1/181) .
(6) فتح الباري (1/184) .
(7) روضة المحبين (372) .(229/6)
متى يتحول التنظير إلى تطبيق عملي؟
د. عبد الوهاب بن لطف الديلمي
لم يكن من منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يربيَ أصحابه على منهج بحت؛ بمعنى أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل مهمته في بناء الإنسان السوي مجرد أن يتلو على أتباعه ما يوحى إليه دون أن يعمل على نقلهم من الجانب النظري إلى الجانب العملي التطبيقي؛ بحيث يتم ترجمة ما اشتمل عليه الوحي من أحكام شرعية إلى واقع يعيشه الأتباع، وبحيث يؤتي البلاغ المبين ثمرته في غرس الإيمان وقطف ثماره، وفي تطابق المعرفة مع السلوك، واستواء الباطن والظاهر، ومعرفة مدى تحقيق الغاية التي لأجلها أرسل عليه الصلاة والسلام.
ومن أجل هذا الفهم الصحيح، لِِما كُلف به ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أداء رسالته والقيام بحق البلاغ على الوجه الأوفى، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في شأنه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164] .
فأمَّا تلاوة آيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيعني البلاغ لما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام.
وأمّا تعليم الكتاب والحكمة فيعني: حمل الأتباع على حفظ العلم المصحوب بالفهم الصحيح لمراد الله ـ سبحانه ـ ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما التزكية فتعني: التطهير من رواسب الجاهلية وغرس الفضائل بكل أنواعها. والمتتبع لحياة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع أصحابه منذ الأيام الأولى في تاريخ الرسالة يجد الاهتمام البالغ من جانبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تعهده لأصحابه، وحسن رعايته لهم، والارتقاء بهم في مدارج الكمال الإيماني؛ إذ لم يكن بمعزل عن حياتهم اليومية، كما أنه لم يكتفِ بتلاوة الوحي عليهم ثم ينعزل عنهم وينكفئ على نفسه.
ولقد كان أبرز صورة للتزكية والتطهير هي القدوة التي برزت في حياته في أعلى صورها؛ وذلك في تطبيقه لما يوحى إليه، فكان سلوكه ترجمة عملية يعرف من خلالها الآخرون كيف يحوّلون العلم والفقه إلى سلوك، ذلك أن الإسلام لم يكن مجرد جملة من النظريات التي تتلى ويقف المرء عند حد فهمها ومعرفتها؛ لأنَّ هذا وحده لا يغير من الواقع شيئاً. إن الإسلام جاء من أجل صياغة الإنسان صياغة جديدة ليتم من خلال ذلك تغيير الأنماط والأوضاع والتصورات الجاهلية. وبهذا المنهج الذي سار عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجد جيلاً مثالياً أحسن فهم الإسلام وتطبيقه، وحملِه إلى الناس.
واليوم نرى الكثير من الدعاة يهتمون اهتماماً بالغاً بالإسهاب في الجانب النظري، فيكثرون من الكتابة عن الأساليب والوسائل التي تنقل الناس إلى السلوك السوي الذي يتمثل فيه التطبيق للنص، والمتأمل في هذه الكتابات يجد الإبداع في المفهومات التي تطرح، كما يجد حسن الفهم لاستنباط الكثير من المعاني سواء من النص أو من منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بالتربية العملية، وما تزال المكتبات الإسلامية تتلقى كل يوم أعداداً من مثل هذه المؤلفات.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل صارت مهمة الدعاة والكتاب الإسلاميين منحصرة في مجرد التنظير والكتابة؟ وهل انتهى واجبهم عن هذا الحد؟ وهل كان الحل للواقع المؤسف لأحوال المسلمين وبخاصة شبابهم في هذه الكتابات التي طفحت بها المكتبات؟
وهل يتوقع كل كاتب وهو قابع في مكتبته أن مجرد انشغاله بهذا الجانب يعفيه من أي واجب؟ ثم إذا صار همُّ كل داعية وكاتب أن يكون في مصدر الموجه لغيره في الجانب النظري؛ فمن الذي سيتولى التربية المباشرة لشباب المسلمين؟ ومن يرعاهم؟ ومتى يظهر على الساحة القدوة الحسنة التي يقتفي الناس أثرها؟
إن الناس اليوم لا ينقصهم وجود من يكتب أو يملي عليهم المواعظ والنصائح، ثم ينعزل عنهم ولا يعرف شيئاً عن آثار موعظته ونصائحه، ولكنهم في حاجة إلى بروز القدوة الحسنة التي تتمثل فيها محاسن الإسلام التي كادت تختفي من الساحة الإسلامية، إنهم في حاجة إلى التربية العملية من خلال الصحبة الدائمة والتوجيه المستمر، ومعالجة جوانب الانحراف عند حدوثه، والترغيب في فضائل الأعمال وتطهير النفوس من أدران المعاصي، والترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا؛ بحيث تكون التربية قائمة على الملاحظة الدائمة والمتابعة التي لا تعرف الكلل ولا السآمة، وبحيث تقر عين كل داعية وعالم بثمرة جهده ونتاج عمله، وبهذا المنهج يبلغ الدعاة غاية ما يطمحون إليه، وتختفي كثير من السلبيات والممارسات الخاطئة على الساحة، كما تنتشر صورة الفضيلة والخير في الأمة.
وأهم من ذلك أن تبرَأَ ذمتهم أمام الله ـ سبحانه ـ بما يؤدونه من واجب، وما يبذلونه من جهود في إصلاح أوضاع الأمة المتردية يوماً بعد يوم.
إن حدوث الجفوة بين العلماء والعامة بسبب انعزال العلماء وانكفائهم على أنفسهم بحيث أصبحت الساحة خالية من المعلم والمربي ـ إلا ما ندر ـ نذيرُ شؤم يؤدي إلى شيوع الجهل، وبالتالي التباس الحق بالباطل والسنة بالبدعة، ويغيب عن الناس حُسن الأداء للعبادات بما يضمن موافقة الشرع؛ بل يصبح العامة في هذه الحالة فريسة للأفكار التي تحمل كثيراً من الانحراف خاصة مع وجود القنوات المفتوحة وتعدد مصادر التلقي، وعدم وجود ما يحصنهم من علم يحملونه، أو عالم يُحسن توجيههم، وسوف تكون الكارثة أعظم على الأجيال اللاحقة.
من أجل هذا كله؛ فإني أدعو أهل الغيرة على دين الله وعلى المسلمين أن يشمروا عن ساعد الجد، وأن يبذلوا الجهود المستطاعة في نشر العلم والفضيلة، وفي تربية الأمة، وفي مقاومة كل باطل بالحجة والبرهان حتى تظل الغلبة للحق وأهله.
ومما تجدر الإشارة إليه أن إمامة الصلاة كانت من الوظائف الشرعية التي يتولاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، وكان يقوم بها الخلفاء من بعده بأنفسهم، وقد أصبحت اليوم مضاهية للوظائف الدنيوية بعد أن عزف عنها أهل العلم، فصار يتسابق عليها الباحثون عن الجُعل المادي مقابل القيام بهذه الوظيفة، حتى صار يتولاها، في كثير من الأحوال، من ليس لها بأهل؛ إذ أنّ الصفات التي حددها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن يقوم بهذه الوظيفة لا يُلتفت إليها اليوم، ولم تعد معياراً للأهلية لمن يؤم الناس، فكثيراً ما نرى في المأمومين من هو أحفظ وأفقه وأعلم وأسن من إمام الصلاة، وحتى صار يُنظر إلى هذه المهمة بنظرة دنيا، وهذه في الحقيقة كارثة عظيمة؛ فكم من واجبات تتبع إمامة الصلاة من الإفتاء، والإرشاد والتوجيه، ومتابعة النصح، وملاحظة سلوك الناس؛ وهي أمور لا يحسنها إلا قليل من الناس؛ لذلك نرى الصلة مبتورة بين جماهير المصلين وبين أئمة الصلاة. وقد يكون من الكوارث أن يتصدر للفتيا من الأئمة بحكم إمامته من لا يُحسن الفتيا خشية أن يُتهم بالجهل.
ومعنى هذا كله أن العلماء يحتاجون إلى مراجعة موقفهم من هذه الوظيفة ذات الشرف العظيم؛ فإن العزوف عنها إحدى الأسباب التي تعمق الجهل في الناس، وعندما يصبح العلماء في عزلة عن جماهير المصلين؛ كيف ـ إذن ـ تتحقق الوراثة النبوية عند أهل العلم؟
وفق الله الجميع إلى مرضاته، والحمد لله رب العالمين.(229/7)
الجود شيمة المصلحين
فيصل بن علي البعداني
الإكثار من الصدقة والإنفاق في ضروب البر هما مفتاح الدعاة والمصلحين للقبول ونيل الرفعة والظفر بالسؤدد في الدنيا والآخرة؛ إذ تُطهَّر بذلك النفوس، وتُطفَأ الخطايا، وتتضاعف الحسنات، وبها يُستظل في المحشر، ويُتقى من النار، ويُدعى لدخول الجنان.. تضافرت بذلك النصوص والآثار، ومنها قوله ـ تعالى ـ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يذهب الجليد على الصفا» (1) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أنفق نفقة في سبيل الله كُتب له سبعمائة ضعف» (2) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصَل بين الناس» (3) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من استطاع منكم أن يتقي من النار ولو بشق تمرة فليفعل» (4) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة، هذا خير» (5) . هذا في الآخرة.
أما في الدنيا فهي تنمي الإيمان، وتُعظِم التوكل، وتزيد الطمأنينة، وتعمق حسن الظن برب العالمين سبحانه، وتدفع البلايا والمصائب، وتغلق أبواب السوء، وتشرح الصدر، وتفرح القلب، وتنيل الشرف، وتزيل الشح، وتتغلب على هوى النفس، وتستر العيوب، وتستميل النفوس، وتظفر بثقتها ومودتها.
وقد أدرك سادات الدعاة والمصلحين هذه الجلالة للبذل والصدقة، والمنزلة الرفيعة للكرم والجود فتحلَّوْا بذلك، فهذا الهادي البشير، إمام المرسلين، وقدوة المصلحين -صلى الله عليه وسلم- كان أجود الناس وأسخاهم، تواترت بذلك شهادات الصحابة الكرام رضي الله ـ تعالى ـ عنهم؛ فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «ما رأيت أحداً أنجد ولا أجود ولا أشجع ولا أضوأ وأوضأ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» (6) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ فَلَرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسَلة» (7) ، وعن خادمه أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم! أسلموا! فإن محمداً يعطي عطاءً، لا يخشى الفاقة» (8) ، وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً قط فقال: لا» (9) . وفي قصة الشملة التي أُدِّيَتْ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان محتاجاً إليها ولبسها، فسأله إياها أحد الصحابة فنزعها، وطواها ثم أرسلها إليه، فعاتبه القوم قائلين له: «ما أحسنتَ سألتها إياه؛ لقد علمتَ أنه لا يرد سائلاً» (10) .
ولم تكن تلك سجيته وحده -صلى الله عليه وسلم-، بل كانت خُلُقَ الأجلَّةِ المتبوعين من أصحابه الكرام رضي الله عنهم، والذين كانوا عمود الإسلام، ومن قامت على أكتافهم مسؤولية نشره وتعليمه والدعوة إليه، فهذا الصدِّيق الأكبر أسلم وفي منزله أربعون ألف درهم، فخرج مهاجراً وما له غير خمسة آلاف، كل ذلك ينفقه في الرقاب والعون على الإسلام (1) ، وتصدق في غزوة تبوك بماله كله، وهذا الفاروق عمر يخرج نصف ماله (2) ، وهذا عثمان يشتري الجنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مراراً، حين جهز جيش العسرة، وحين حفر بئر رومة، وحين اشترى أرض المسجد ليُوسَّع، وله مثلها في الجنة (3) ، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- مرتين: «ما ضر عثمانَ ما فعل بعد اليوم» (4) ، وهذا عليٌّ خرج من أرضه في ينبع ليصرف الله ـ تعالى ـ عن وجهه النار يوم القيامة (5) . وهذا ابن عوف يتصدق بشطر ماله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفاً، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله تعالى (6) . وهذا الزبير كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فكان يتصدق بذلك كله ولا يدخل بيته من ذلك شيء (7) ، وهذا طلحة الذي صحبه قبيصة بن جابر فقال: «صحبت طلحة فما رأيت رجلاً أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه» (8) ، وباع مرة أرضاً له بسبعمائة ألف درهم فبات أرِقاً حتى أصبح ففرقه (9) ، وهذا سعد بن عبادة كان يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين من أهل الصُّفَّة يعشِّيهم (10) .
هذا غيض من فيض؛ وإنفاق كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من المهاجرين والأنصار وبذلهم في سبيل الله ـ تعالى ـ أوسع من أن يحصر.
أما نُشَّار العلم وسادة الصحب الكرام في الدعوة والتربية فقد كانوا آية في الخروج من الدنيا ومعرفة الآخرة والإيثار لها؛ فهذه عالمة النساء عائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت تقسم سبعين ألفاً، وهي ترقع درعها (11) ، وفرقت في اليوم الواحد مائة ألف درهم، وهي صائمة فتقول لها خادمها: «ما استطعتِ فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟ فقالت: لا تعنِّفيني، لو ذكرتيني لفعلت» (12) ، وهذا ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ما مات حتى أعتق ألف إنسان أو أزيد (13) ، وكان يقسم في المجلس الواحد ثلاثين ألفاً، ثم يأتي عليه شهرٌ ما يأكل فيه مزعة لحم (14) ، وكان لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج منه لله ـ عز وجل (15) ـ يتأول قوله ـ تعالى ـ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وهذا البحر ابن عباس جاءه رجل يستعينه على دَيْن، فقال له: كم دَيْنُك؟ قال: عشرون ألفاً، فأعطاه أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً وكل ما في البيت» (16) ، وهذا حافظ الإسلام أبو هريرة كان في بادئ إسلامه يُصرَع من الجوع، فلما كان في آخر عهده امتلك داراً بذي الحليفة فتصدق بها على مواليه (17) ، وهذا الإمام الجهبذ ابن مسعود كان متخلياً عن الدنيا، فترك عطاءه الذي كان يُعطاه حين مات عمر، وحين عرض عليه عثمان أن يأمر له بعطائه، قال: لا حاجة لي فيه (18) ، ومن أقواله ـ رضي الله عنه ـ: «حبذا المكروهان: الموت والفقر، وايم الله! إن هو إلا الغنى والفقر، وما أبالي بأيهما بُليت، إن حق الله في كل واحد منهما واجب، وإن كان الغنى إن فيه للعطف، وإن كان الفقر إن فيه للصبر» (19) ، وقال: «من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، يا قوم: فأضروا بالفاني للباقي» (20) . وهذا مقدام العلماء معاذ كان رجلاً سمحاً، لا يُسأَلُ شيئاً إلا أعطاه، حتى ادَّان دَيْناً أغلق ماله (21) ، وهذا أبو الدرداء آثر اليوم الباقي على الفاني. يقول ـ رضي الله عنه ـ راوياً حاله: «كنت تاجراً قبل أن يبُعَث محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فلما بُعِثَ محمد زاولت العبادة والتجارة، فلم يجتمعا، فأخذت في العبادة وتركت التجارة» (1) ، وهذه إشارة، وإلا فمَنْ طالعَ سِيرَ القوم وجد الأمر غاية في الجلال والعظمة.
وكيف لا يكون مصابيح الدجى بهذه الحالة، وقد جلى النور المبين في أكثر من آية أن من أبرز ركائز النجاة وأسس التقوى: البذل والإنقاق في صروف الخير وما ينتصر به الدين. قال ـ تعالى ـ في تعداد خِلال عباده المتقين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3] ، وقال ـ سبحانه ـ: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 17 - 19] . وفي المقابل جاءت السنة مظهرة أن الحرص على الدنيا والشح بمتعها منطلق شرٍ وسبيل هلكةٍ ومستودع النقائص والخلال الذميمة. يقول -صلى الله عليه وسلم-: «صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين، وهلاكها بالبخل والأمل» (2) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! ما هي؟ قال: الشرك بالله، والشح، ... » (3) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «شر ما في الرجل: شح هالع، وجبن خالع» (4) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» (5) .
فالشح بالدنيا والتكالب على متعها يتنافى مع النسيج الذي يربي عليه الإسلام أتباعه. قال حبيش بن مبشر: «قعدت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والناس متوافرون، فأجمعوا على أنهم لا يعرفون رجلاً صالحاً بخيلاً» (6) . قلت: وإذا كان ذلك مع عامة الصلحاء؛ فما حال السادة المصلحين من الدعاة والعلماء الذين لن تجتمع حولهم القلوب، ولن ينالوا ثقة الناس ويظفروا بمودتهم ما لم يتخلقوا بالكرم ويتصفوا بالجود فيرتهنوا بذلك لدى عامة الناس الشكر، ويسترقوا بمعروفهم أحرار الخلق؛ لأن من جاد ساد، ومن بخل رذل، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «لَساداتُ الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء» (7) ، وقال ابن حبان: «كل من ساد في الجاهلية والإسلام حتى عرف بالسؤدد، وانقاد له قومه، ورحل إليه القاصي والداني؛ لم يكن كمال سؤدده إلا بإطعام الطعام وإكرام الضيف» (8) .
وتتأكد الحاجة إلى الجود حين يغرق الكثيرون في أوحال الترف، والتعلق بزخرف الحياة الدنيا، ويفقدون التوازن والقدرة على الجمع السوي بين تطلُّب الدنيا والعمل للآخرة، ولله در حاتم الأصم حين قال: «من ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب» (9) .
كما تتأكد في أوقات حصار أعداء الأمة للعملين الدعوي والخيري وسعيهم الدؤوب لتجفيف المنابع والقضاء على الموارد المتاحة من خلال عامة الأمة، لتعظم المسؤولية عندها في حق جيل الصحوة وأبناء الدعوة في القيام بردف مشاريع البر وأعمال الخير وما فيه نصرة الدين وتأييده، وما لم يبادر الجميع إلى ذلك ـ كلٌ بحسب وسعه وطاقته ـ فإن العاقبة هي الفشل، والخاتمة هي الهلكة؛ إذ الدعوات لا تقوم إلا على جسور تضحية أبنائها وأعمدة بذلهم، ولله در الصحابة الكرام الذين كانوا يرون في أوقات الأزمات أن لا حق لأحدهم بما زاد عن حاجته، كما في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: «بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زادٍ فليعد به على من لا زاد له، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل» (10) .
كما تتأكد في فترات تنفير الناس عن الخير، والقيام بتشويه الدعوة والدعاة، ليكون في الجود عند ذلك حراسة للعرض، وستر للعيب، ونباهة للذكر، وتأليف للقلوب، وقضاء على كثير من المكائد المحبوكة والأخلاق المرذولة.
اللهم يا كريم وتحب الكرماء، وجواد تحب الجَوَدة، وتأمر بمكارم الأخلاق وتكره سفاسفها.. ارزقنا صلاح النية وسخاء النفس وكثرة العطاء وحب السماحة وإيثار الآخرة على الدنيا، وجنبنا دواعي الحرص والطمع، وحررنا من التعلق بالدنيا ونسيان الآخرة، وارزقنا التضحية لدينك والبذل في سبيلك من غير منٍّ ولا أذى، بإحسان منك وفضل يا جواد يا كريم!
__________
(1) صحيح ابن حبان (5567) ، وهو صحيح. (6) الدارمي (59) ، ورجاله ثقات.
(2) أحمد (18900) ، وهو صحيح. (7) البخاري (5) .
(3) أحمد (17371) ، وهو صحيح. (8) مسلم (4275) .
(4) مسلم (1016) . (9) البخاري (5574) .
(5) البخاري (1897) . (10) البخاري (1951) .
(1) انظر: تاريخ الخلفاء، للسيوطي: 39.
(2) انظر: الترمذي (3608) ، وهو حسن.
(3) انظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر: 39/73.
(4) الترمذي (3634) ، وهو حسن.
(5) السنن الكبرى، للبيهقي: 6/160.
(6) انظر: الزهد، لابن المبارك (520) .
(7) انظر: الاستيعاب، لابن عبد البر: 2/514.
(8) الإصابة، لابن حجر: 3/532.
(9) انظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر: 25/101.
(10) الزهد، لهناد: 2/392.
(11) المصنف، لابن أبي شيبة: 7/131.
(12) الزهد، لهناد: 1/338.
(13) تهذيب التهذيب، لابن حجر: 5/288.
(14) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 1/296.
(15) الورع، لأحمد: 79.
(16) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 3/352.
(17) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 2/626.
(18) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي: 1/497 ـ 498.
(19) صفة الصفوة، لابن الجوزي: 1/170.
(20) تاريخ دمشق، لابن عساكر: 33/173.
(21) المصنف، لعبد الرزاق: 8/268.
(1) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 1/209.
(2) المعجم الأوسط، للطبراني (7650) ، وهو صحيح.
(3) النسائي (3671) ، وهو صحيح.
(4) ابن حبان (3250) ، وهو صحيح.
(5) أبو داود (1698) ، وهو صحيح.
(6) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 3/478.
(7) أدب الدنيا والدين، للماوردي: 226.
(8) روضة العقلاء، لابن حبان: 214.
(9) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 8/75.
(10) مسلم (3258) .(229/8)
الدرس الوحيد.. وفقه الانتصار
خالد الخليوي
هل تذكرونَ ـ أيُّها الأحبابُ ـ تلك القصّةَ العظيمةَ التي حَكاها الله ـ سبحانهُ وتعالى ـ في كتابه العزيز عن أصحابِ الأخدود، وقامَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بذِكرِها مفصّلةً للصحابة ـ رضيَ الله عنهم ـ ولأمّته من بعده؟ (1) .
إنَّها خبرُ حقّ، وآياتُ صِدق.
دعاةٌ يواجهونَ الطُّغاة، ومؤمنون تبيّن لهم الحقُّ فاتّبعوه، ورأوا صِدقَ داعيه فأحبّوه.
في أوّلِ يومهم في رحابِ الإيمان، وفي آخره في أخاديد النيران.
وفي الجانبِ الآخر ظالمون ومُشركون، أُسلوبُ حوارِهم القتلُ والإجرام، ومُنتهى آمالهم استعبادُ الأنام.
قصّةٌ مليئةٌ بالعِبَرِ والدروس، ومشاهِدُ تحكي قِدَم تلك الحربِ الضروس. ومع ذلك فإنّي سأكتفي منها بدرسٍ وحيدٍ، ومعنىً ليسَ على الكثير بالجديد، لكنّي أحسبُ أنَّهُ من الأهمّية بمكانٍ أن نستحضرهُ في هذه الأيّام.
تذكّروا معي؛ ما الذي حصلَ للغُلامِ المؤمن وللنّاسِ بعد إيمانهم بربِّ ذاكَ الغُلام؟
إنَّهُ التعذيبُ المُوجع، ومن ثمَّ القتلُ لهم أجمع.
أمّا الغُلام فقد صُلِبَ على جِذعٍ ثمَّ رُمِيَ بالسِّهام حتّى قضى نحبَه، وأتمَّ عهدَه.
وأمَّا المؤمنون فقد شُقّت لهمُ الأخاديد، ثمَّ أُشعلت فيها النيران، ثمَّ قُذِفوا فيها جميعاً.
ليسَ الرجالُ فحسب، بل معهم النّساء.
وليس الكبارُ فحسب، بل معهم الأطفال.
وهنا يأتي سؤالُنا المباشر ليقول:
ألم يكُن الغلامُ ومن معه على الحقّ؟!
ألم يُضحّوا بأنفُسهم ويلتزموا طريقَ العدلِ والصّدق؟
ألم يُعلنوا إيمانَهم، ويصدعوا بتوحيدِهم جِدارَ الشركِ والكُفر؟!
ألم يُقرّروا قرارهم الشُّجاع، ويثبتوا على دينهم رَغم مُحاولاتِ الرّدِّ والقَهر؟!
والجوابُ: بلى؛ قد كانوا كذلك.
إذاً؛ فلماذا لم ينصرهم الله تعالى؟!
لماذا لم يُنْزلِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مطراً يُطفئ تلك النّارَ كرامةً لأوليائه؟!
لماذا لم يقل للنّارِ كما قالَ لنارِ إبراهيمَ ـ عليهِ السّلام ـ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ؟! أو يُرسلَ جُنداً من جنوده؛ ليُهلِكوا الظّالمين، ويجعلوهم عبرةً للمعتبرين؟!
وللإجابة عن هذه الأسئلة يُقالُ ما يلي:
أولاً: إنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يُسالُ عمَّا يَفْعَلُ، والخلقُ يُسألون.
ثانياً: إنَّ المؤمن ليعتقد في قلبه أنَّ ربّهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ حكيمٌ حكمةً مطلقةً، والخيرُ كلُّ الخير في يديه، والشّرُّ كلُّ الشرِّ ليس إليه.
وكم هيَ المظاهرُ التي كُنَّا نحسبها شرّاً فبعثَ الله فيها من الخيرِ ما لم يكُن في الحُسبان، وما لم يخطُر في خَلَدِ الإنسان.
ثالثاً: إنَّهُ ليجب علينا أن نستحضرَ حديثَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له» . أخرجه مسلم.
فاختيارُ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أرحمُ وأسعدُ للعبدِ المؤمن، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] .
رابعاً: ينبغي لنا أن نُحرّر مفهوم النّصر بمعناه الشّاملِ، ودلالتِه في الميزانِ الرَّباني، لا في ميزانِ البشر.
فلم يكن معنى النّصر في الشرع قطّ هو الغلبةُ على الأعداءِ في كلِّ معركة تدورُ بينهم، بل الحربُ سِجالٌ، والعاقبةُ للمتقين.
ولم يكُن معنى النّصر كذلك هو السّلامة من كلّ أذىً وألمٍ ومُصيبة.
وما زالَ في ذاكرتنا حديثُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حينما سُئل: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ فقال: «الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ» ، أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
وليسَ معنى النّصرِ دائماً هو أن تقرّ عينُ المرءِ وهو يرى النّاس يدخلونَ في دينِ الله أفواجاً.
وينظرُ إلى التّائبينَ وهم يسألونَ الدُّعاةَ توجيهاً وعِلاجاً.
وقد حدّثنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن بعضِ الأنبياء، أنَّهُ يأتي يوم القيامة ولم يُؤمن به أحد (1) .
ولم يكُن ـ أيضاً ـ معنى النّصر هو البقاءُ طويلاً في الحياةِ حتّى يرى الإنسان ثمرات بذله وعطائه ودعوته. وكم هي المُبشّراتُ والفتوحاتُ التي أشارَ إليها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ولم تقع إلاّ بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-. هذا كلّه مع مَنْ بذلَ أسبابَ النّصرِ والتمكين، وكانَ على الجادّة التي رسمها الله له.
إنَّ نصرَ الله ـ تعالى ـ لأوليائه ليسَ صورةً واحدةً أو مثالاً فريداً، بل هو أوسعُ وأشملُ ممّا نتصوّرهُ في كثيرٍ من الأحايين.
فحين يتبيّنُ المرءُ الحقَّ، ويتمسّكُ به، ويثبتُ عليه، ويموتُ من أجلهِ، وفي سبيله، فإنَّ هذا من أعظمِ صورِ النّصرِ الربَّاني لعبادهِ المؤمنين.
وفي قصّة أصحابِ الأُخدودِ هذه نقول:
ما كانَ لأولئك المؤمنين الضُّعفاء أن يختاروا القتلَ والإحراق، من أجلِ رضاءِ ربّهمُ الخلاّق، وهم يرونَ الابتلاءَ ماثلاً أمامهم جِدّاً وليس بالهزل، ما كانَ لهم ذلك لولا إعانةُ الله، واصطفاؤهُ لهم.
ثمَّ من أدرانا أنَّهم لمّا قُذِفوا في النّار شَعُرُوا بحرِّها وأليمِ عذابها.
بل هل ندري عن الذي لَقُوهُ من ربّهمُ الكريم بمجرّدِ إلقائهم في النّار، خاصّةً أن الله ـ تعالى ـ ذيّل قصّتهم في سورة البروج بقوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11] . ولم يَصِف الله ـ تعالى ـ الفوزَ بـ (الكبير) إلاّ في هذا الموضع في القرآن كلّه، فأيُّ فوزٍ هذا الفوز، ونهايتهم هي إحراقهم في النّار؟!
نعم؛ والله إنَّهُ لفوزٌ كبير، وفلاحٌ عظيم.
فوزٌ حينَ آمنوا بربّهم في ظلِّ دولةٍ كافرةٍ تقومُ على الشّركِ والسّحرِ والخُرافات.
فوزٌ حينَ ثبتوا على الحقِّ وضحّوا من أجلِهِ بأهليهم وأنفُسهم ـ وهي أغلى ما يملكون ـ، ولسانُ حال الواحدِ منهم يقول:
أجودُ بالنفسِ إنْ ظنَّ البخيلُ بها
والجودُ بالنفسِ أعلى غاية الجودِ
فوزٌ حينَ ذَكَرهم الله ـ عزَّ وجل ـ في كتابه الكريم يُتلى إلى قيامِ السّاعة في سياقِ المدحِ والثّناء، وقد عَلِمَ ـ سبحانه ـ ما في قلوبهم.
فوزٌ حينَ يقابلونَ ربّهم وهو راضٍ عنهم فيكسوهم حُللَ الذهبِ والفضّة، ويُسعدهم بأجلِّ نعيم وأعظمِ عطاء، وهو النَّظرُ إلى وجههِ الكريم.
فوزٌ بصُوَرٍ متعدّدةٍ تحصلُ لهم في عالمِ الغيب، لا تُدركهُ أبصارُنا ولا تحتويهِ عقولُنا.
وها نحنُ الآن نُصبِحُ على أخبارٍ مُزعجة، ومآسٍ موجعة، ونمسي على مثلها عن إخواننا المسلمين في كُلِّ مكان.
جُرحٌ في فلسطين، وفي العراقِ آلام.
كارِثةٌ في الشيشان، وفي كشمير إجرام.
تسلّطٌ رهيبٌ على المنطقة من قِبَلِ يهود.
واستكبارٌ وغطرسَةٌ من قِبَلِ أمريكا بلا حُدود.
والضحيّةُ في الغالب هم المسلمون. وإن شئتَ فقُل: إنَّ الأكثر في هذه الضحيّة من أهلِ السُنّة مع اختلافِ أطيافهم وطوائفهم.
قتلٌ للأبرياء، وتصفيةٌ للدُّعاةِ والصُّلحاء.
نهبٌ للأموالِ والخيرات، وإفسادٌ لئيمٌ لأخلاقِ الشبابِ والفتيات.
وعُملاءُ من الدّاخلِ يقومونَ بأبشعِ الخيانات.
وإذا قطعتَ الرأسَ من حيّاته
لا تنسَ أذناباً بكلِّ بلادي
هدمٌ من الدّاخلِ على يدِ كثيرٍ من مُلاّكِ القنواتِ وصانعي الإعلام.
وحربٌ من الخارجِ تسيرُ على خُطىً مدروسة كَتَبَتْهَا أيدي اللِّئام.
في بعضِ الدُّول العربيّة لا تملك المرأة المُسلمة أن تخرُج إلى السّوقِ بحجابها.
ولا يملك الشّابُّ أن يُكرّر حضوره للمسجد ليكونَ من أهلِ الجنّةِ وطُلاّبها.
فيأتي السؤالُ المباشر نفسُه:
أينَ نصرُ الله لنا، وفينا صادقونَ وباذلونَ، ومعنا دُعاةٌ وناصحون؟!
نعم أيُّها الأحباب؛ إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مُطّلعٌ على كُلِّ ما في الكونِ، ولا يخفى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السّماء، وإنَّ نصرَ الله لا يتخلّف أبداً، إلاّ إذا تخلّفت أسبابُه، وتأمّل إذا شئتَ تلك الجُملة الشرطيّة في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] .
إنَّ أعظمَ النّصر هو أن تسيرَ على منهجِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ما استطعت، وأن تعملَ في واقعكَ بما تقتضيهِ سيرةُ نبيّكَ -صلى الله عليه وسلم- وسنّتُه.
ليسَ الخوفُ من أن يهزمنا الأعداء ونحنُ سائرونَ على الدّرب، وباذلونَ للجُهد، فسيبقى ما فعلوهُ مجرّد هزيمةٍ لنا، لا استسلاماً منّا، وفرقٌ بين الهزيمة والاستسلام. وإنّما الخوف من أن نُخفق في التمسُّك بديننا حتّى وإن انتصرنا في ساحة الحرب على أعدائنا.
ورضيَ الله عن البطل «حرامُ بن ملحان» ذاكَ الصحابي الجليل الذي قالَ بعدما طُعن غدراً ورأى الدمَ يسيلُ من جوفه: «فُزتُ وربِّ الكعبة» . نعم؛ واللهِ العظيمِ لقد فاز، فازَ حينَ عاشَ على الطريقِ القويم، وماتَ عليه.
إنَّ هذا البطل ليُعطينا درساً في فقهِ النّصرِ وحقيقة الفوز.
وفي غزوةِ مُؤتة، تلكَ الغزوة التي قابلَ فيها المسلمون ـ وهم ثلاثةُ آلاف ـ جيشاً عظيماً من النّصارى وكفّارِ العربِ وهم مئتا ألف، وبعدَ أن قُتِلَ الأُمراءُ الثّلاثة: زيدٌ، فجعفرُ، فابنُ رواحة، أُمِّرَ عليهم خالد بن الوليد رضيَ الله عنهم أجمعين، فانحازَ بالجيشِ بطريقةٍ ذكيّة، وأُسلوبٍ رائع، فاعتبرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك فتحاً ونصراً للمؤمنين، معَ أنَّ الجيشَ الإسلامي فَقَدَ أُمراءهُ الثلاثة.
وفي صُلحِ الحُدَيْبية كَرِهَ بعضُ الصّحابة بعضَ بنودِ الصُّلح، وحاوروا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكرٍ ـ رضيَ الله عنه ـ في ذلك، ورأوا أنَّ هذا الصُّلح بهذهِ الشُّروط يُعتبرُ دنيّة لدينِ الإسلامِ وأهله.
ومعَ ذلك يُنزلُ الله على نبيّهِ -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا الصُّلح «سورة الفتح» : {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1] . فيسألُ عمر بن الخطّاب ـ رضيَ الله عنهُ ـ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أَفتْحٌ هو يا رسولَ الله؟ فيقول: «نعم؛ والذي نفسي بيده إنَّهُ لفتح» . وكان البراء بن عازب ـ رضيَ الله عنه ـ يقول: (إنّكم لتعدُّونَ الفتحَ فتحَ مكّة، أمّا نحن فكُنّا نعدُّ الفتحَ صُلحَ الحُديبية) .
وأمّا موسى ـ عليهِ السّلام ـ فقد كانَ من إعانةِ الله له أن خلّصهُ ونجّاهُ من القومِ الظّالمين، واعتُبِرَ هذا التخليص نصراً من الله له. واقرأ ـ إن شئتَ ـ قوله ـ تعالى ـ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77] . ألا فلنَفْقَه حقيقةَ النّصر الربَّاني، وشمولَه، وأسبابه الحقيقيّة، وإيّانا والتخاذُل عن البذلِ والعطاء، وأن يكونَ قُصارى ما نملكه هو التنادي بالصبرِ فقط، وأن نقعد منتظرينَ ذاكَ القائد الربَّانيَّ الذي يبعثهُ الله في نهاية الزمن، فيملأ الأرضَ عدلاً كما مُلئت جَوراً وظُلماً، أو نُقلّب وجوهنا في السّماء نترقّب نزول النبيِّ المُبارك عيسى ـ عليهِ السّلام ـ ليقتُلَ اليهود ويضعَ الجزية ويقضي على الخنزير ويكسر الصليب.
إنَّ تحقيقَ النّصرِ مشروعُ أمّة، وإنَّه مُفتقِرٌ إلى جدٍّ وصدقٍ وهمّة.
ولنَعِ أنَّ أساسَ الداء فينا، وبدايةَ العِلاج منّا، وتلكَ قاعدةٌ قرّرها الله ـ تعالى ـ في سورة الرّعد وسورة الأنفال، فقالَ في الأولى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . وقالَ في الثّانية: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] .
فإلى المُراجَعةِ والتصحيحِ الشّامل، وإلى التوبةِ النّصوح، والعملِ المُتكامل.
وليعلمِ الجميع أنَّ على كُلّ فردٍ قدراً من المسؤوليّة، وأنَّ لهُ دوراً ينبغي أن يبحثَ عنه ويقومَ به. ولنُدرك كذلك أنَّ السّاحةَ تَسَعُ كلَّ صادقٍ يُريدُ العمل، وتتضمّن كلّ مُشمِّرٍ طَرَدَ عن نفسهِ الخمولَ والكسل.
فليَعُدِ الشّارِدُ إلى ربّه، وليرجعِ العاقُّ إلى برِّه.
وليُطهّر الحسودُ قلبَه، وليُنمِّ المُحبُّ الصادِقُ حبّه.
إذا الحِمْلُ الثقيلُ توازعته
أكفُّ القومِ خفَّ على الرِّقابِ
توحيدٌ لله يجبُ أن يُعظَّمَ وأن يُصان، وشركٌ مع الخالِقِ يجبُ أن يُفضحَ وأن يُهان.
على الرّاعي أن يعدِلَ وأن يرحم، وعليهِ ـ أيضاً ـ أن يُقَرِّبَ وزراءَ الخير، وللعلماءِ فليُكرم، وعليهِ ـ أيضاً ـ أن يَبذُلَ أسبابَ النّهضةِ الشّاملة، وعلى الخيرِ فليعزم.
ولينطلق بالأمّة ـ مُستحضراً واقِعَها ـ إلى برِّ الأمان.
وليمشِ مع وزرائِهِ وأعوانِهِ على خُطىً تستشرِفُ قادمَ الأزمان.
وليعلم أنَّ نجاحهُ في تجربته الرئاسيّة لا تفتقرُ بالضرورةِ إلى زمنٍ طويل، وتجديدٍ مُتتابعٍ لرئاسته. فها هو العجيب عمرُ بن عبد العزيز ـ رضيَ الله عنه ـ حَكَمَ المُسلمين لمدّة سنتين وخمسةَ أشهرٍ وأيّاماً فقط، إنّها مُدّةٌ لعلّها لا تَصِلُ إلى عُشْرِ مدّة حُكمِ كثيرٍ من الحُكّامِ الآن، ومعَ ذلك فقد أرغمَ التّاريخ إرغاماً أن يكتُبَ سيرته بمدادٍ من ذهب، وعباراتٍ من قَصب، حتّى أصبحَ العدلُ لا يُذكرُ إلاّ ويُذكرُ معهُ عمرُ بن عبد العزيز، ألا فحيّا الله هذه السيرة العطرة، وتِلكَ السّحابة المُمطرة، وأسكنَ صاحِبها جِناناً نَضِرة.
وأمّا الرعيّة فليتوبوا إلى ربّهم وخالقهم، وليُحسنوا الظنَّ ببارئهم ورازقهم.
ولا يَحسُنُ إحسَانُ الظنِّ إلا مع العملِ وبذلِ المُستطاع، ولا يصدقُ عزمٌ إلاّ بتغييرِ كثيرٍ من الصّفات والطّباع، فإنّا إن تقرّبنا إلى ربِّنا بشبرٍ تقرّبَ إلينا بذراعٍ ثمَّ باع.
ولنترُك تلكَ الفلسفة التي يعتمِدُ عليها البعضُ فيقول:
(أنا واحِدٌ في هذه الأمّة، أيُمكنُ أن يؤثّرَ تقصيري وذنبي في استجلابِ عقابِ الله ـ تعالى ـ وتسلُّطِ الأعداء؟!) . فنقولُ: نعم؛ فإنَّ لك مُشابهاً ثانياً يقولُ نفسَ مقالتك، وسيأتي الثالِثُ كذلك لينهجَ نفسَ المنهج، فتجتمِعُ تلك المعاصي وذلك التقصير ليكون سبباً في هواننا على الله ـ تعالى ـ، ومن ثمَّ هواننا على الأعداء.
وكذلك تماماً. لنترك تلكَ الذريعة التي يعتمدُ عليها البعضُ في إعذارِ نفسه وإسقاطِ مسؤوليّاته، فيقول أحدهم: (أنا واحِدٌ في هذه الأمّة الجريحة، أيُمكن أن أُقدّم شيئاً أمامَ هذه الإخفاقاتِ العظيمة في كثيرٍ من مجالاتِ الحياة؟!) . فنقولُ له أيضاً: نعم؛ يمكن أن تقدّم شيئاً، وإنَّ من أوّل ما عليك أن تقدّمه هو أن تنسلِخَ من هذه النفسيّة المُحطّمة، وتلكَ الرّوحِ اليائِسة، فإنَّ من صَدَقَ مع الله صَدَقَ الله معه، ولن يتخلّف وعدُ الله ـ تعالى ـ الذي حكاهُ في آخرِ سورة العنكبوت فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] .
فإلى البذلِ والبِناء أيُّها المسلمون!
لِيَعمل الأفرادُ والجماعات، ولتبذُل المُؤسّساتُ والهيئات.
وليذهب كلٌّ إلى ما يُتقنُهُ ويُبْدِعُ فيه.
وليكُن القاسِمُ المُشترك بيننا هو خِدمةُ هذا الدين، ومحبّةُ النفعِ للعالمين.
ولنتعاون فيما بيننا ما دُمنا منطلقينَ من أُصولٍ واحدة. وصادرينَ عن مرجعيّةٍ شرعيّةٍ ثابتة، ومتفقينَ على خُطوطٍ واضِحةٍ لا لبسَ فيها ولا غُموض.
ومن لا يملكُ مدَّ يدِ العون فليكُفّ يدَ الهدم.
ومن لا يُتقِنُ التشجيعَ والتَّصويب فليَقْصُر عن بغيضِ التشويهِ والتثريب.
__________
(1) أخرج تلك القصة الإمام مُسلم في صحيحه: كتاب الزُّهد، رقم (7436) .
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطّب، رقم (5705) . وأخرجه مُسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، رقم (526) .(229/9)
الأطفال والتلفاز: صغارٌ بإدراك محدود ... وشاشة تجمع كل المتناقضات
عبير العقاد
ينتابني قلقٌ كلما أبصرت طفلاً مجرداً يطرق باب المجهول، يحاول أن يشُدّ الخطى في عالم يرتابه الغموض، يحثّ السير في طرقه ممتلئاً بوقود الفضول، لا يفرق بين ممنوع أو لا ممنوع، ولايحذر خطره أو يشده المسموح.
يؤرقني منظر صغير يفترش أرضاً، متسمّراً أمام شاشة تلفاز تستغل إدراكه المحدود، فتخترق به بوابة الحياة، وتأخذه بعيداً بعيداً في العوالم والآفاق كلها، لا تفرق بين ما ناسب طفولته البريئة وبين ما يشوه صفحته البيضاء، تنشيه بِأَلَق الألوان وبراعة الصور وصخب الأصوات، تسامره كلما أراد، ولا تجد أعذاراً البتة تمنعها من مجالسته كلما امتنع الآخرون.
لا يزعجني التلفاز بصندوقه الصغير الذي يعرف الأمور كلها، ولابتفاصيله الدقيقة التي تحشر الأنف في كل ذرات الحياة؛ لكنه يزعجني عندما يفتح الباب واسعاً أمام أطفال أو حتى كبار لايعرفون التحكم بمقود التفكير، ولا التوقف أمام الخطير، ولايؤازرهم في مشاهدته مرشدٌ أو ناصح ٌحكيم، فتراهم يتشربون كل ما يرون دون مصفاةٍ تمنع عنهم حصى الأضرار واللامحمود.
فالتلفاز مثله مثل كل مافي الحياة ... سلاحٌ بحدّين، هالكٌ ومنجٍ، قاتلٌ ومحيٍ، فكيف نجنب أطفالنا دماره؟ وأنّى نجنيهم ثماره؟ أسئلة لا بدّ أن نبحث لها عن إجابات، في عالمٍ قلّما يخلو فيه بيتٌ ـ مهما كان صغيراً ـ من صندوق تلفازيّ يتسع العالم كله، ويجتذب إليه الجميع!
ولا نستطيع إلا أن نعترف بأن التلفاز حاز بجدارة على مرتبة الامتياز، منافساً بذلك وسائل الإعلام الأخرى كلها التي تحدَّاها دون بذل جهد كثير، رابحاً بذلك رهان فوزه، داخلاً كل بيت من البيوتات العربية والأجنبية، متصدراً غرف معيشتها، لامّاً من حوله أفراد أسرها، جاذباً انتباه أهلها؛ ليكون الحبيب المنشود في الحضر، والمعشوق المشتاق إليه، والمتكلّم عنه، وعن أخباره وسِيَرِه في السّفر.
حتى الأطفال استطابوا حلاوته ـ وإن كانت هذه الفئة العمرية لاتستطيع التمييز كثيراً بين الحلو والدميم ـ فكان أن أدمن كثيرون؛ ممن لم يتوفر لديهم أهالٍ بإدراك عالٍ، وتوجيه تربوي رفيع المستوى؛ مشاهدته، عاشقين خِدرَه اللذيذ الذي ينأى بهم عن عالم المتاعب، ويأخذهم إلى عالم الأحلام، عالم (سوبرمان) و (غريندايزر) والرجل الوطواط.
ومن الأمور التي يعشق الأطفال بسببها إدمان مشاهدة التلفاز، يمكننا أن نذكر:
1 ـ حلاوة الاستعراضات وتألقها، وإبداعها المرئي والسمعي بكل ما تحمله من صور فتّانة، وأصوات عذبة، وإيقاع سريع تؤثر في طفل لا يجد صدراً بشرياً ـ أمه أو أبيه أو حتى الأصدقاء ـ يتسع وقته له؛ فالأب الغائب في العمل، والأم المشغولة بأمورها والمنزل؛ كلُّها أمورٌ تثير ملل الصغير، الذي ينسى شكواه أمام صندوقه التلفازيّ السحري بألق استعراضاته المبدعة.
2 ـ قدرة التلفاز على حمل الصغير على بساطٍ سحري، وأخذه بعيداً بعيداً عن عالم الممنوعات التي يعيشها إلى عوالم الأحلام المذهلة التي لا تتأتّى له إلا عبر شاشة التلفاز. فها هو يعيش في حياته الواقعية ضمن قيود تكبِّله بكثير من الممنوعات، كلمس بعض الأشياء، وإتيان بعض الأمور، ونهج بعض أنواع السلوك ... إلخ. أما من خلال التلفاز فالعالم رحبٌ واسع؛ لأنه عالم تتحقق فيه الأحلام كلها دون زجرٍ أو منع.
3 ـ منح التلفازُ الطفل فرصةً للتخلص من قيد قدراته الجسمية والفكرية والمعنوية والمادية المحدودة، التي طالما حلم بتخطيها لتحقيق ذاته، فها هو ما إن يرى الأبطال التلفازيين والنجوم، في حالاتِ تَفَوُّقِهم الجسدي والفكري والمعنوي والمادي، حتى ينتقل بروحه وجسده الضعيفين إلى عالَمِهم ليشاركهم انتصاراتهم وكأنه واحد منهم، قادراً على تخطي كل الصعوبات التي تحيط به، وتعيق انطلاقه في عالمه الصغير.
4 ـ فضول الأطفال وتعطّشهم للمعلومات والمعرفة أيّاً كان نوعها أو شكلها؛ فكيف إن كانت المعلومة مقدمة على طبق فني شهي مبهر؟! فيه من الألوان والأصوات والحركة ما يذهل كيان الطفل ويثري خياله؛ ليتباهى بما تعلمه أمام أبناء جيله، غير واع ٍ صِدقَ أو كذبَ المعلومة التي تُقدم إليه على طبقٍ من ذهب، إذ ليس كل ما ينقل عبر الشاشة هو حقيقة أو واقع.
وليست الحقائق كلها التي تتعلق بمشاهدة الأطفال للتلفاز غايةً في السوء، ولا هي ـ أيضاً ـ مثالٌ للإيجابية المطلقة، إنما الأمر كما أسلفنا: سلاح ذو حدين، به نقتل وبه نحمي أنفسنا، وبواسطته ندمر أو نبني أمجادنا.
فها هو التلفاز ـ إن شوهد حسب المعايير المسموح بها ـ يعمل على تنمية الجوانب الأخلاقية والاجتماعية، وروح التعاون والعمل الجماعي عند الأطفال، كما يبثّ الروح الإنسانية من خلال بعض المسلسلات ذات الطابع الإنساني، ويمنح الطفل الثقة بنفسه وقدراته، كل ذلك عن طريق المواد التلفازيّة الطفولية الهادفة والمدروسة بعناية، كما يسهم التلفاز في صنع لغة اجتماعية مشتركة بين أطفال البيئة الواحدة الذين يتلقّون البثّ والبرامج نفسها، إذ ينمي بينهم الحوارات الاجتماعية التي تدور حول ما شاهدوه على شاشة التلفاز، مذيباً بذلك الكثير من الفوارق الاجتماعية التي كانت قبل عائقاً فيما بينهم.
ناهيك عن دور التلفاز في توجيه الأطفال إلى سلوكيات ومنهجيات اجتماعية إيجابية، وإبعادهم عن السلوكيات السلبية.
كما بإمكان التلفاز مدّ الجسور الاجتماعية بين عالمي الأطفال والكبار؛ عن طريق تعويد الصغار على قواعد سلوكية تنظم العلاقات الاجتماعية بين العالَمَيْن: كتعليم الطاعة والاحترام والحوار والمجالسة، كل ذلك ضمن الحدود المقبولة.
زد على ذلك دور التلفاز في تعميق انتماء الأطفال الاجتماعي إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، وإشعارهم بالأمان، من خلال تقديم الأفكار المألوفة التي تعرض في الكثير من البرامج المدروسة بعلمية متقنة.
كما يساعد التلفاز في تكوين اللغة عند الطفل ونموها تدريجياً، حيث يرتبط النمو اللغوي باستماع الطفل إلى كلام الآخرين في المرحلة الأولية من تعلمه اللغة، ويظهر أثر التلفاز في النمو اللغوي لدى الأطفال في العمر بين ثلاث وأربع سنوات، حيث أثبتت الدراسات أن الطفل في هذا السن يستوعب 20% من مسار الأحداث الواردة في البرامج.
إلا أنّ الأمر ليس سواء أمام كل ما يعرض على شاشة التلفاز، إذ أن هناك من البرامج غير المخصصة للأطفال، أو تلك المخصصة لهم دون فائق دراسة وعناية بمحتواها، تلك البرامج تؤثر في تأخر تعلم اللغة عند الأطفال، وكذلك تؤخر نموها في المرحلة الأولى من حياتهم، خصوصاً في البرامج التي يتعدد فيها الأشخاص المتحاورون في المشاهد، والذين يدور الحوار بينهم بسرعة نسبية تفوق قدرة الصغير على استيعابها.
كما أن اللغة التي تحتاج لتثبيتها ونموها محادثات حوارية بين الأشخاص؛ لا يتأتى للأطفال الاستفادة منها أمام التلفاز؛ حيث لا حوار بينهم وبين تلك الشخصيات في صندوقهم السحري، وتتضافر هذه الأمور مع أخرى فيزيولوجية لتؤثر سلباً في انطلاق النطق السليم والمبكر عند الأطفال.
وللحيلولة دون هذا الأمر، على الأهل والمربين ترك أطفالهم يتكلمون أمام الشاشة بدلاً من الطلب منهم الصمت والإصغاء أمامها، على العكس، يجب أن يتكلم الطفل وأن يشرح شفوياً تصرفات الأشخاص، ومجرى الأحداث التي تدور أمام ناظريه، أو أن يقوم الكبار بهذا الدور؛ بالإضافة إلى توقع الأحداث اللاحقة، وتسمية الأشياء المشاهدة على الشاشة بمسمياتها.
أما من ناحية النمو المعرفي عند الطفل، فللتلفاز أثر إيجابي في ذلك خصوصاً عند الأطفال في سن 3 ـ 4 سنوات، وذلك إن شاركت الأم أو المربي أطفالهم في مشاهدة البرامج المدروسة بعناية مع مناقشتهم حول معلوماتها، وخصوصاً أن التلفاز يقدم للأطفال معلومات عن أمور لم يروها، ويُعرِّفُهم بأماكن لم يسبق أن زاروها. كما يقدم إليهم معلومات كانوا سابقاً يجهلونها. ويعمل التلفاز على تقديم نوع جديد من المطالعة؛ ألا وهو المطالعة الخيالية المرئية، وذلك في سن مبكرة تسبق سن تعلم القراءة والكتابة، فالتلفاز ـ ببرامجه الإيجابية المقننة ـ يقدم مادة مشوقة مفيدة يمكن قراءتها دون قراءة، وهضمها بصورة أكبر؛ خصوصاً أنها لا تتطلب مجهوداً كبيراً كالذي تتطلبه كتب المطالعة لتوضيح النصوص وفكّ الخط، إذ أن الطريق إلى النص في التلفاز مباشر، والصورة فيه تتحدث عن نفسها.
كما يشجع التلفاز على القراءة من أجل التعمق في فهم الأحداث والبرامج التي تعرض على الشاشة الصغيرة؛ إلاّ أنّ مشاهدة التلفاز إن تجاوزت المعايير يمكن أن تقلب الأمر رأساً على عقب؛ وذلك بسبب استسهال الأطفال استقاء المعلومات من التلفاز، وقضائهم وقتاً طويلاً جداً أمام شاشته، مما يعمل على: إدمان التلفاز ـ وهذا هو الأمر الخطير ـ، والحدّ من المطالعة حاضراً ومستقبلاً، وكذلك الحدّ من الاستفادة من الوسائل المعرفية الأخرى: كالنشاطات الثقافية، والقراءة، واللعب المثمر، وارتياد المكتبات ... إلخ.
ومن ثمار مشاهدة الأطفال البرامج التلفازية الإيجابية يمكن أن نذكر أيضاً: تنمية خيال الطفل وتغذية قدراته؛ بما شاهده من مشاهد إيجابية تزرع فيه بذور إبداع وتُهيؤه له قريباً، وتعلمه أساليب مبتكرة ومتعددة في التفكير والأسلوب.
ولقد ظهر في السنوات العشر الماضية مصطلح جديد في صناعة التلفزة الغربية؛ ألا وهو (التربية الترفيهية) تلك التي تُعرَّف بأنها: الدمج الناجح للتربية في بيئة التلفاز الترفيهية؛ حيث يتفاعل التلفاز والمربون لتقديم نموذج تعليمي تفاعلي بين الطفل والتلفاز، من خلال بث ترفيهي تعليمي يوفر أساليب فردية ممتعة ومتطورة، بل ومبتكرة تكمل طرق التعليم التقليدية؛ مما يثري حياة الأطفال ويقدم لهم برامج تُخاطِبُ عقولهم، وتستمطر أفكارهم، وتؤهلهم لتبادل الأفكار ووجهات النظر مع من يكبرونهم سنّاً.
وكما للتلفاز آثار إيجابية على أبنائنا، فهو ذو آثار سلبية كثيرة عليهم أيضاً، بل هناك من المختصين من رأى أن سلبياته تفوق إيجابياته بكثير ـ نكرر: إن لم تُتوّج مشاهدة الأطفال للتلفاز بالمعايير الإيجابية -.
إذ أثبتت الكثير من الدراسات أن الأطفال يكررون السلوك الذي يشاهدونه في التلفاز؛ فهم بطبيعتهم ينتهجون التقليد في حياتهم وتعلمهم، وإنهم بمشاهدتهم برامج العنف يترسخ عندهم السلوك العدواني العنيف، إلاّ أنّ الأمر لا يظهر دائماً بوضوح كبير، إذ أنَّ هناك ظاهرة تَعَرَّف عليها كل من: (كاجان) و (موسن) في الستينات من القرن الفائت؛ ألا وهي ظاهرة (التأثير النائم) والتي بموجبها يتأثر الطفل بمشاهداته التي عاشها مع التلفاز؛ ولكن نتائج هذا التأثر قد لا تظهر عاجلاً ومباشرة، بل تظل نائمة فترة طويلة، منتظرة عوامل خارجية عند الطفل كي توقظها من رقادها وسباتها العميق، لتظهر على السطح فيما بعد في مرحلة البلوغ أو المراهقة أو في الكبر. أي أنها أحياناً لا تظهر إلا بعد تأثير المؤثرات بسنوات عديدة.
لذا لا نتوقع أن نلمس السلوك العدواني في الأطفال مباشرة بعد تعرضهم لمشاهد عنف تلفازية، وإن ظهر العنف مباشرة فليس ذلك بسبب المشاهدات الحية فحسب؛ وإنما أيضاً هناك عوامل خارجية تتعلق بالطفل، اجتمعت مع مشاهد العنف فولَّدت عنده السلوك العدواني، وقد تولِّد أيضاً الانحراف والعدوان. ومن تلك العوامل التي تتضافر مع مشاهد العنف المعروضة على التلفاز فتؤثر في الطفل سلبياً، نذكر: الفقر الحادّ، معدل الذكاء المنخفض للطفل، الوضع العائلي أو النفسي أو الجسدي غير الطبيعي للطفل، طبع الطفل الهجومي الشرس، وكذلك استحسان الأهل لبرامج العنف وإدمان مشاهدتها، كل ذلك مع المشاهدات التلفازيّة العنيفة يودي بأطفالنا إلى عنفٍ سلوكيِّ عمليِّ آنيِّ، أو مستقبليِّ ممكن.
كذلك هناك عامل هام آخر يمكن أن يؤثر في اكتساب الأطفال السلوكيات العنيفة واللامحمودة في حياتهم؛ ألا وهو عامل التكرار. فتكرار حدوث المثيرات لفترة طويلة ولمرات عديدة هو الذي يُحدِثُ التأثير السلبي (أو الإيجابي إن كان المثير إيجابياً) في الطفل، فيظهر في سلوكه.
ناهيك عن أن كثافة العنف المشاهد على التلفاز يمكن أن تؤدي إلى طمس الإحساس الإنساني بآلام الآخرين، أو على الأقل إضعافه.
وينسحب تأثير مشاهدة الأطفال لمشاهد العنف على مشاهدتهم الأمور السلبية الأخرى على شاشة التلفاز، مثل: مشاهد الجنس، وإدمان المخدرات، وشرب الخمور، والتدخين ... إلخ.
كما يُعد التلفاز من الوسائل التي تهدر وقت الأطفال إن تجاوزت المشاهدة الحدود المسموح بها، إذ ينصح الأطباء على: ألاَّ يزيد وقت المشاهدة على ساعة ونصف يومياً في أمريكا، فكيف إن تجاوز الأربع ساعات يومياً في حياة أطفالنا؟! إنّ هذا الأمر يؤثر سلباً على الأمور الأخرى التي بإمكان الطفل التمتع بها لو تجنب إدمان التلفاز لأوقات طويلة، مثل: المطالعة والرياضة، واللعب، والمشاركات الاجتماعية ... إلخ، تلك الأمور التي من شأنها تعزيز النمو السويّ لمخ الأطفال وبزوغ المواهب، وعلى رأسها التفاعل الاجتماعي مع الآباء والإخوة والأقران.
ولقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يمكثون أمام التلفاز لفترات طويلة أكثر عرضة لزيادة الوزن؛ بسبب قلة الحركة، وتناول المكسرات والوجبات الخفيفة والمشروبات، دون اكتراث أثناء مشاهدته.
كذلك، فإن الاستثارة الزائدة للمخ الصغير في الكثير من برامج التلفاز سريعةِ الإيقاع والصاخبة ترهق خلايا المخ، وتعيق نمو الطفل السويّ؛ بل وتعيق استفادة المخ من المؤثرات ذات الإيقاع العادي في باقي نشاطات الحياة؛ حيث يكون المخ قد اعتاد الإيقاع السريع والصاخب، فلا تحظى المؤثرات عادية الإيقاع بمستوى التركيز والاهتمام ذاته عند الطفل، خصوصاً عند مشاهدة برامج العنف، أو المشاهدات الليلية الأخرى التي تسبق النوم مباشرة، ويكون تأثير التلفاز أكبر في أطفال ما قبل المدرسة الابتدائية، حيث توصل العلماء إلى: أن الطفل في سن الثالثة يكون عاجزاً عن التمييز الدقيق بين الشخص والموقف الذي يوجد فيه، حيث لايزال الأنا غير ناضج. لذا فكثيراً ما يُعمِّمُ الطفل تجاربه على الآخرين، فيكون عنده خلط بين المشاهد التلفازيّة والواقع، وبذلك نجد أنّه كلما كان سن الفرد صغيراً كلما صعب عليه ـ لقلة خبرته ـ الفصل بين واقعه والخيال الذي يشاهده على شاشة التلفاز، ممّا يجعل الأشياء الخيالية التي يعرضها التلفاز أمام الأطفال صغيريّ السن عالماً حقيقياً وواقعياً بالنسبة لهم، فيصبح ما يشاهده جزءاً من حياته الخاصة. لذا فالقصة المخيفة والفيلم المرعب قبل النوم يؤدي به إلى كوابيس وتوترات ليليّة تؤرق نومه، وتؤثر على صحته. وممّا لا شك فيه أن تكرار واستمرارية هذه التوترات أمام الطفل يؤدي إلى أن تصبح من مكوناته السيكولوجية في الطفولة، وبالتالي جزءاً من سلوكه وشخصيته في الكبر، ناهيك عن أن الإفراط في مشاهدة التلفاز يؤدي إلى قصر زمن الانتباه لدى الأطفال، ويقلل من قدرتهم على التعليم الذاتي. وفي هذا السياق، يقول باحثون أمريكيون: إن كل ساعة يشاهد فيها الأطفال ـ قبل سن المدرسة ـ التلفاز يومياً تُعَرِّضُهم لاحتمال الإصابة بقصور في الانتباه مستقبلاً بنسبة 10%، كما يمكن أن تساهم أشعة التلفاز بالإضرار بصحة العينين، وتعويد الكسل والخمول، وتعويد الطفل ـ أيضاً ـ التلقي دون المشاركة، أي التعليم السلبي الذي يأتي للطفل بكل شيء جاهزٍ، دون أن يدع الفرصة له بأن يشارك ويحاور، أو يقدم الأفكار ... إلخ، وبذلك يمكن لبعض البرامج ـ في حال إدمان التلفاز وعدم مشاهدته وفقاً للمعايير المنصوح بها علمياً ـ أن تعيق النمو المعرفي الطبيعي، وذلك؛ لأنّ العلم لا يتأتّى إلاّ بالمشاركة والبحث والطلب والحوار.
كما أن للتلفاز دوراً في إضعاف روح المودة والتقارب بين أفراد الأسرة، حينما ينشغلون عن طقوسهم الاجتماعية بمتابعة التلفاز، هذا وإن إهمال الأطفال وحثهم على مشاهدة التلفاز كلما ضاق ذرع الأهل بهم يجعل من التلفاز مربياً ثالثاً بعد الأب والأم، لكنه مربٍٍ مجهول غامض، لا نضمن حُسْنَ تربيته، ولا صدق معلوماته، ولانواياه الصالحة، فهاهي الدراسات تثبت أن التلفاز يتمتع بقدرة فائقة على انحراف الأطفال والناشئة عن ممارسة بعض أنواع السلوك التي تعتبر عناصر أساسية في عملية التنشئة والتطبع الاجتماعي، كما يلعب التلفاز دوراً مهماً في زيادة حدة صراع القيم بين عالمهم ومجتمعهم، والمجتمعات الأخرى؛ وذلك بسبب القيم والمعتقدات والسلوكيات الخاصة بمجتمعات بعيدة عنّا اجتماعياً تعرض على شاشاتنا باستمرار، خصوصاً في زمن العولمة التلفازيّة وعصر الفضائيات، ويرى الأستاذ سعد لبيب في مقال حول (الدور التثقيفي للإذاعة والتلفاز) : أن التلفاز والمداومة على مشاهدته من شأنها أن تؤثر سلبياً على ثقافة المشاهدين وسلوكهم، وأن تسلبهم القدرة على التفكير الصحيح، فإدراكهم للعالم يكون من خلال ما تعرضه الشاشة الصغيرة، فهي التي تفكر لهم، وهي التي تختار لهم الموضوعات التي تحظى باهتمامهم، وهذا الذي يعرضه التلفاز في كل أقطار الدنيا ليس منزهاً عن الغرض دائماً، فالبرامج تصاغ وفقاً لرؤية أصحاب السلطة، أو أصحاب المال الذين يتولون شؤون إنتاج هذه البرامج.
هذا، وتؤثر الإعلانات التي تعرض على شاشة التلفاز كثيراً على أطفالنا، فالإيجاز في الإعلان يتلاءم مع مَلَكَةِ انتباه الأطفال التي لاتتحمس، ولا تهتم بالتفاصيل والتوسعات المطولة، كما أنّ التكرار الذي يحدث في اللقطات الإعلانية ويتردد كل يوم، ينقلب بسرعة إلى لعبة مسليّة بالنسبة للمشاهد الصغير.
وقد أصبح واضحاً أثر الإعلانات التجارية الجذابة والملحة، التي يقدمها التلفاز على مدار الساعة، على سلوك الطفل الغذائي والشرائي، إذ يعمل الطفل على ترويج غايات الإعلان في أشكال متنوعة، إما بانتظاره بلهفة، أو بطلبه، أو ببكائه الملحّ عند تخطي الإعلان، أو عند إقفال جهاز التلفاز في موعد بثّه.
كما يعمل الطفل على إلزام الآخرين بتنفيذ غايات الإعلان؛ إذ يستغل عاطفة محبيه ليحصل على ما يسعده ويرضيه من أمور شاهدها خلال الإعلانات.
كل هذه الأمور يترتب عليها من النتائج السلبية على الأطفال ما يفوق تصورنا. ولمقاومة الخطر، ولأننا لا نستطيع غالباً تجنب وجود التلفاز في بيوتنا، ولأن للتلفاز بعض المزايا الإيجابية الجديرة بالاعتبار، بسبب ذلك كله؛ وضع المختصون مجموعة من النصائح والمعايير التي من شأن التَقيُّدِ بها لجمُ ضرر التلفاز ما أمكن، وفتح باب محاسنه، ومن هذه المعايير، نذكر:
1 ـ احترام رأي الطفل الذي يرغب بمشاهدة التلفاز؛ لكن بتحديد وقت المشاهدة، وعدم تركه ساعات طويلة أمام التلفاز. كل ذلك عن طريق الحوار والنقاش والابتعاد عن الإجبار والإكراه، مع العلم بأنّ هناك العديد من الدراسات العلمية الحديثة التي توصلت إلى الحد الأقصى المسموح به للأطفال لمشاهدة التلفاز حسب أعمارهم، وذلك كالتالي:
من سنتين إلى 4 سنوات، 20 دقيقة.
من سن 3 إلى 5 سنوات، 30 دقيقة.
من سن 10 إلى 13 سنة، 60 دقيقة.
وإنّ تجاوز هذه الفترات يمكن أن تتسبب في زعزعة توازن مشاعر الطفل، وانخفاض مستواه العلمي ... إلخ.
2 ـ عدم استخدام التلفاز كأسلوب عقاب أو مكافأة؛ لأن هذا الأمر يجعل من التلفاز شيئاً بالغ الأهمية في نظر الطفل، ممها يزيد اهتمامه به، ويعطيه أكثر مما يستحقه.
3 ـ يجب عدم التعامل مع التلفاز على أنه جليس أطفال؛ بل على الأهل مشاركة أطفالهم مشاهدة البرامج المخصصة لهم، ومناقشتهم حولها، ومساعدة الأطفال على تجاوز الجوانب الضارة للبرامج دون ترك بصمات سلبية في العقل أو الوجدان. ويجب أن يختار الأهل البرامج التي يشاهدها أطفالهم بالتوافق معهم، مع محاولة توجيههم للبرامج التعليمية وتجنب البرامج المحتوية على مضامين غير مناسبة: كالعنف، والجنس، والقيم، والعادات التي تتنافى مع قيمنا.
وعلينا عندما نشاهد برامج تلفازيّة مع أطفالنا مساعدتهم على التفاعل الحسي مع ما شاهدوه، وإيضاح العلاقة بين ما يقدمه التلفاز وحياتنا اليومية.
وإن كان لا بد من ترك الطفل بمفرده أمام التلفاز، فيمكن أن يكون ذلك بعد التأكد من أن البرنامج الذي يشاهده يساعده، وينمي مهاراته ولايؤذيه.
4 ـ تجنب جميع أفراد الأسرة تناول الطعام أو الوجبات الخفيفة أمام التلفاز، إلا ما حدّد منها بمقادير وكميات لا ُيسمح تجاوزها.
5 ـ تشجيع الأطفال على القيام بنشاطات متنوعة؛ لتنمية قدراتهم العقلية والوجدانية كبديل لمشاهدة التلفاز.
6 ـ تعليم الأطفال أنّ الهدف من الإعلانات التجارية هو الترويج لبضائع قد لا تكون جيدة، وأن ليس كل مانراه على الشاشة علينا أن نقتنيه، فليس كل ما يلمع ذهباً.
7 ـ عدم السماح للأطفال أن يقتنوا جهاز تلفاز خاص بهم في غرفهم، فمن شأن هذا أن يطلق العنان لهم في استخدامه ومشاهدته كلما أرادوا دون رقيب.
8 ـ أثبتت الدراسات أن التلفاز لا يفيد الطفل الذي يقل عمره عن سنتين، وأنه من المفضل أن يقضي الطفل في ذلك العمر وقته في تنمية المهارات اللغوية والتفاعل الإيجابي مع المجتمع الذي يعيش فيه. لذلك توصي (الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال) بعدم تشجيع تلك الفئة العمرية من الأطفال على مشاهدة برامج التلفاز، حتى ولو كانت رسوماً متحركة. بل وذهبت بعض الدراسات إلى منع هؤلاء الأطفال منعاً باتاً من مشاهدة التلفاز؛ لما يسببه في استثارة انتباههم لفترة طويلة، مما يؤثر سلبياً على تركيزهم وصحتهم الدماغية مستقبلاً.
وبعد، علينا أنْ نعلم أنْنا ـ الأهل والمربين ـ القدوة لأطفالنا في مشاهدة التلفاز، فما يثير اهتمامنا يثير اهتمامهم، وتعلقنا الكبير بالتلفاز يخلق التعلق نفسه عندهم.
ويجب أنْ نعي قبل أي شيء: أن الحب، والعاطفة، والتربية السليمة من قبل الوالدين وأفراد الأسرة هي الكفيلة بحفظ توازن شخصية الطفل لمنعه من الانحراف، ومن الإصابة بالأمراض الاجتماعية، وتجنيبه أخطار التلفاز؛ بل وأخطار الحياة كافة.
فلنخلق من بيوتنا واحاتٍ تربوية وتعليمية واجتماعية صالحة لنمو الخير في نفوس أطفالنا، ولنكن لهم المثل الصالح والمنهل الصافي في كل ما يتعلمونه في حياتهم، قاصدين من ذلك تربية نشء سليم من النواحي كلها نعوّل عليه في بناء المجتمعات الصالحة.(229/10)
لماذا لا يُغيِّر رمضان من واقعنا؟
محمد بن عبد الله الدويش
يتفاعل المسلمون مع رمضان، وتبدو مظاهر التغير في حياتهم، وفي عبادتهم، حتى لو غاب أحد عن المجتمع وعاد إليه في رمضان لم يصعب عليه أن يكتشف دخول الشهر من واقع الناس.
يصوم عامة الناس شهر رمضان، حتى أولئك الذين يُفرِّطون في الصلاة كثير منهم لا يُفرِّط في الصيام.
يصلي الناس من قيام رمضان ما كتب لهم، يقرؤون القرآن، يؤدون العمرة، يتصدقون ... ولكن.
حين ينصرم رمضان يصعب أن نرى تغيراً في واقع الأفراد أو واقع المجتمع ... فلماذا؟
لقد أخبر ـ تبارك وتعالى ـ أن الصيام يحقق التقوى في النفوس، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] .
والقرآن والصلاة والصدقة لها أثرها البالغ في إصلاح النفوس، ومع ذلك ما نراه في الواقع يختلف كثيراً عما يجب أن يكون.
يصعب تفسير هذه الظواهر من خلال عامل واحد، أو اختزالها في إجابة جزئية، لكن كثرتها تقودنا إلى سؤال مهم:
ما مدى عنايتنا بمقاصد العبادات؟
لقد جاء الحديث عن مقاصد العبادات في القرآن الكريم أكثر من الحديث عن تفاصيل أحكام العبادات.
وكثير من أحكام العبادات روعيت فيها مقاصدها، فإقبال الإنسان على طعامه حين يحضر، وقضاؤه لحاجته يُقدّم على صلاة الجماعة الواجبة، والطمأنينة في المشي إليها أولى من الإسراع لإدراك ركعة أو ركعتين.
ومقصد الاجتماع روعي ولو في تغيير كيفية الصلاة، وعدد ركعاتها في صلاة الخوف.
إن هذا يتطلب من المربين والمعلمين أن يعتنوا بتعريف الناس بمقاصد العبادات وتجليتها لهم، ويكفي في ذلك ماجاء بنص القرآن والسنة.
وهو يتطلب الاعتناء بالتذكير بها والوصاة بها، والتأكيد عليها.
وهو يتطلب ربطها بالأحكام التفصيلية فيما تظهر حكمته دون تكلف أو قول بغير علم.
إن المسافة شاسعة في دروسنا وتعليمنا بين ما نقدمه من حديث عن المقاصد، وحديث عن تفاصيل الأحكام، وبين ما يتكرر في وعظنا من أمر أو زجر على التقصير، وما يرد من وقوف عند أسرار العبادات.
لذا ينبغي ألا يثير استغرابَنا اعتناءُ الناس بمظاهر العبادات أكثر من حقائقها، وبصورها أكثر من مقاصدها.
والله ـ عز وجل ـ غني عن عباده، لا حاجة له في عبادتهم وطاعتهم؛ إنما فرض عليهم العبادة لحاجتهم هم إليها: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37] .
وقال #: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاري) .(229/11)
من جعجعة التخطيط إلى طحين الواقع
إبراهيم بن سليمان الحيدري
للتخطيط أهميته في حياة الأشخاص والمنظمات والأمم، وهو مؤشر على نضج ممارسيه وتقديرهم لذواتهم وواقعهم. وفي العموم فإن وقت الحديث عن أهميته عند كثير من المنظمات الخيرية قد ولَّى؛ لأنه واقع تعيشه كثير منها ولله الحمد والمنة. إلا أن التحدي المستمر الذي تواجهه المنظمات هو تطبيق الخطط على أرض الواقع.
الفشل في تطبيق الخطة هو تحدٍّ حقيقي ليس للمنظمات الخيرية فقط، بل لجميع أنواع المنظمات الإدارية، وهو في الغالب ناتج من مشكلات تصاحب عملية التخطيط، وينعكس أثرها في مرحلة التنفيذ. فمثلاً عدم مشاركة الموظفين في التخطيط سينتج عنه في كثير من الأحيان مقاومة هؤلاء الموظفين أو بعضهم لكل جديد أو تغيير يتطلبه تنفيذ الخطة سواء كانت هذه المقاومة إرادية أو غير إرادية. مثال آخر: عدم مراعاة المخططين للبيئة الخارجية بمتغيراتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتركيزهم على حدود منظماتهم فقط سينتج عنه تغيرات لم تكن في الحسبان مما يؤثر سلباً على النجاح في تنفيذ ما خطط له.
أما المثال الذي أظنه ينطبق على كثير من المنظمات الخيرية فهو اختزال التخطيط في رسم الأهداف وصياغة الرؤى وإغفال جزء هام في الطريقة العلمية للتخطيط وهو تحليل الوضع الراهن للمنظمة، وترى، وأنت تتعجب، ذلك الوقت الطويل الذي يُصرَف في تحديد نقطة (ب) المراد الوصول إليها؛ بينما لا يتم الحديث بشكل واضح وكاف عن نقطة (أ) التي تقع فيها المنظمة في وقتها الحالي. هل لأنها عملية طويلة ومملة؟ ... ربما! أو لأن تجريد الذات موضوع محرج؟ ... لا أدري!! أما نتائج إغفال هذه الخطوة المهمة من التخطيط فمنها إدراك المخططين أثناء مرحلة التنفيذ أن (ب) بعيدة المنال ويصعب الوصول إليها، أو أنها لا تبعد كثيراً عن (أ) ولا يتطلب الوصول إليها كل هذا الجهد والوقت؛ بعبارة أخرى: بعثرة الموارد، أو المراوحة في المكان.
عملية التحليل تلك مهمة؛ لأنها تكشف للمنظمة نقاط ضعفها ومكامن قوتها؛ كما تجلِّي لها المستقبل بما يحويه من فرص وتهديدات.
أخيراً، وفي فلسفة معايير النجاح للمنظمات الإدارية فإن السبق ليس للمنظمات التي تجعجع مفتخرة بامتلاكها رؤىً واضحة وأهدافاً طموحة، بل لتلك المنظمات القادرة على حصاد الغلة والاستمتاع برؤية الطحين.
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(229/12)
تبادل الخبرات
د. عبد الكريم بكار
على مدار التاريخ كان الإنسان يحلم في الانتقال من مكان إلى مكان دون حواجز وقيود، كما يفعل النسر حين يسرح في أجواء الفضاء. وعلى مدار التاريخ كان الإنسان يحلم بأن يطّلع على ما يجري في أنحاء المعمورة، حتى يستفيد منه، أو يعرف كيف يتقي شره، وربما من أجل إشباع ما لديه من فضول. اليوم تحقق الكثير من ذلك؛ بسبب التقدم المذهل في الاتصالات والمواصلات، وفي البث الفضائي؛ حيث صار في الإمكان رؤية الحدث أثناء وقوعه، ولو كان في أقصى الأرض. نحن إلى هذه اللحظة لم نستطع إدراك أبعاد التغيرات الثقافية والأخلاقية والعقائدية التي ستحدث بسبب ثورة الاتصال هذه، لكن من المؤكد أنّ الآثار السلبية سوف تنتشر من غير جهد كبير، كما ينتشر الوباء القاتل. وقد رأينا ـ مثلاً ـ كيف تتم عولمة الجريمة اليوم، كما هو الحال في الاتجار بالأطفال، والمخدرات، والجنس، والصفقات المشبوهة، وغسيل الأموال ... ، أما الأشياء الجيدة والممتازة؛ فيبدو أن انتشارها يحتاج إلى شيء من الجهد والتنظيم والمتابعة. نحن إذن في حاجة إلى العثور على نقطة التعادل بين الخيرات والشرور الكونية المعاصرة؛ وإلاَّ فإنَّ التقدم على صعيد الاتصال سيكون ضاراً جداً، وربما كان مدمراً. ولعلي أشير على عجل إلى بعض ما يمكن عمله في هذا السياق على الصعيد الدعوي، على سبيل المثال، عبر المفردات الآتية:
1 ـ كان للذكاء في الماضي قيمة استثنائية؛ وذلك بسبب تضاؤل المعارف المنظمة في حياة الناس، وبسبب صعوبة تبادل الخبرات عبر العالم. أما اليوم فقد اختلف كل شيء، وصار للعلم والخبرة المكان الأسمى في الارتقاء بالبشر، وكان ذلك بالطبع على حساب نفوذ الذكاء. كان القصور في أدوات تنظيم الخبرات ونقلها وتعميمها يشكل العائق الأكبر أمام التخلص من الرؤى المحلية المحدودة، والعائق الأكبر أمام تكوين رؤية عالمية أو إسلامية واحدة في كثير من الأمور. أما اليوم فقد اختلف كل شيء على نحو مثير ومذهل.
2 ـ يشكل (الإنترنت) وسيلة مثلى لتبادل الخبرات؛ فهو وسيلة رخيصة، وعامة جداً، وسهلة الاستخدام. وشيئاً فشيئاً يترسخ وجود الشبكة في الحياة الشخصية لكل الناس، ومن هنا فإنّه يمكن اعتماد الشبكة العنكبوتية في محط تفكيرنا، في مسألة التعرف على الآراء والتجارب والخبرات في أي مكان من الأرض، وعلى كل صعيد من الأصعدة.
3 ـ في المجال الدعوي مئات الألوف من الشباب والكهول المهتمين بنشر الإسلام وشرح مفاهيمه، وتحسين مستوى التزام الناس بتعالميه. والمسلمون كما نعرف منتشرون في كل أنحاء الأرض، وكل مشتغل بالدعوة ـ رجلاً كان أو امرأة ـ ينطلق في الغالب من الخبرة الدعوية الموجودة في بلده ومنطقته، ونظراً لوجود ضعف عام في التدريب الدعوي لدى معظم الكليات التي تخرِّج الدعاة؛ فإن الداعية يستخدم قدراته الشخصية غير المصقولة. أضف إلى هذا أنّ لكل بيئة مشكلاتها الخاصة بحسب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة فيها. لكل هذا فإني أعتقد أنّ من المهم تأسيس موقع عملاق على (الإنترنت) ، يستهدف تجميع الخبرات الدعوية في العالم، وإتاحة الفرصة لتبادلها على أوسع نطاق. وهذه دعوة موجهة إلى كبريات الجامعات والجماعات الإسلامية، وموجهة أيضاً إلى الشباب المتوثب والغيور والساعي إلى إيصال كلمة الله ـ تعالى ـ للعالمين. إن موظفي الموقع والمتطوعين لمساعدتهم يقومون بتصميم الموقع، وجمع ما يمكنهم جمعه من الخبرات الدعوية المتوفرة في: الكتب والدوريات، والمجلات والجرائد، والمحاضرات وأشرطة (الكاسيت) ، وتنزيلها على الموقع بحسب حال المدعوين؛ وذلك لأن حال المدعو هي التي تفرض النوعية المطلوبة من ثقافة الداعية وخطابه وأسلوب تعامله؛ وأحوال المدعوين متباينة تبايناً كبيراً، ومع أن هناك قاسماً مشتركاً بينهم جميعاً إلا أنَّ التفوق في الأداء الدعوي يتطلب التدقيق في التفاصيل، ومراعاة المعطيات الجزئية. ومن المساقات المقترحة في الموقع، الآتي:
دعوة الشباب، دعوة المراهقين، دعوة النساء، دعوة الصفوة والمثقفين، دعوة العمال، دعوة التجار، دعوة العاملين في الحقل الطبي، دعوة غير المسلمين، دعوة المنحرفين ومدمني المخدرات، دعوة المساجين، دعوة طلاب الجامعات، دعوة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة.
4 ـ بعد أن يتم توزيع المعلومات المتوفرة لدى موظفي الموقع على المساقات والفروع المذكورة، يُفتَتح الموقعُ لاستقبال الخبرات والتجارب والأفكار من العاملين في الدعوة، ويتم تصفية ما يتم استقباله، وتنظيمه على نحو معيَّن؛ ومن أجل تسهيل الاستفادة منه.
5 ـ يكون في الموقع هيئة استشارية للإجابة على أسئلة الدعاة واستفساراتهم، في نطاق تخصص الموقع.
6 ـ نشر مختارات من الخبرات المتجمعة في رسائل صغيرة، وفي الصحف والمجلات، وغيرها.
7 ـ هذا العمل يتيح فرصة للتعبير عن التجارب الشخصية، كما يتيح فرصة للتطوع في سبيل الارتقاء بالعمل الدعوي(229/13)
لا استقالة ولا استجابة لغير مطالب الشعب الفلسطيني
حاوره: نائل نخلة
مشير المصري أمين سر كتلة حماس البرلمانية لـ (^) :
3 لن نقبل بأيِّ فاسد في حكومة الوحدة الوطنية.
3 بعض الأطراف في حركة فتح تحاول إفشال تشكيل حكومة الوحدة.
3 من يطلب من حماس الاعتراف بالعدو كشرط لتشكيل حكومة الوحدة فإنه سيُفشل كل الجهود لإنجاح المشاورات.
3 الإضراب سياسي يهدف إلى إسقاط الحكومة وحرفها عن مسارها.
البيان: تواجه حركة المقاومة الإسلامية حماس منذ التاسع والعشرين من شهر آذار ـ مارس الماضي تحديات هي الأخطر منذ انطلاقتها عام 1987م.
فبعد أيام قليلة من فرز صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني ـ يناير وفوز حماس الكاسح فيها أعلن ما يسمى بـ (المجتمع الدولي) أن على أيِّ حكومة تشكلها حماس تنفيذ شروطه الثلاثة المتمثلة في: الاعتراف بالدولة الصهيونية، ونبذ العنف، والالتزام بالاتفاقيات التي وقّعتها السلطة؛ بدءاً باتفاق (أوسلو) وانتهاء بخارطة الطريق، وإلا فلن يكون هناك أموال!
حماس وعبر عدد من قيادتها البارزين كانت تتوقع حدوث ذلك، وخطتها البديلة ـ باختصار ـ كانت تعتمد على المسار التالي: محاربة الفساد المالي الذي أفرغ خزينة السلطة من الأموال وأهدر أكثر من مليار دولار من أموال الشعب الفلسطيني، إلى جانب اعتماد سياسة التقشف، مما يتيح توفير أموال باهظة على الحكومة، ومعالجة الخلل الإداري الذي كانت تعاني منه السلطة في التوظيف المفرط وبأعداد كبيرة مما جعل فاتورة الرواتب باهظة جداً.
وبالتزامن مع ذلك عملت حماس على تفعيل وتنشيط الدعم العربي والإسلامي للشعب الفلسطيني حتى يتم الاستغناء عن المال الغربي الذي ثبت أن له ثمناً سياسياً باهظاً لا يمكن لأيِّ فلسطيني شريف أن يقبله.
ثم تبين لاحقاً أن الحكومات العربية غير قادرة على تحويل الأموال إلى حسابات السلطة، كما أن البنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية، وهي أردنية ومصرية، رفضت التعاطي مع الحكومة؛ خوفاً من تهديدات أمريكية صهيونية لها بمصادرة أموالها المكدّسة في بنوك أجنبية، وأغلقت دولة العدو المنْفَذ الوحيد لقطاع غزة وهو معبر رفح الحدودي الذي تمكن من خلاله بعض وزراء الحكومة من إدخال أموال نقدية، إلى جانب تواطؤ أطراف فلسطينية محسوبة على حركة فتح في الحصار المالي، وإعلان دولة العدو أنها ستحتجز أموال الضرائب التي تقتطعها عبر موانئها ومطاراتها ومعابرها من التجار الفلسطينيين. وكانت العصا الأخيرة التي أُشْهِرت في وجه حكومة حماس الإضراب السياسي الذي أعلنه آلاف الموظفين وأغلبيتهم من حركة فتح، وظّفتهم ضمن ما يعرف عند الفلسطينيين بالقهر الوظيفي في وزارات ومؤسسات السلطة، وهو أخطر تهديد يواجه الحكومة الفلسطينية الآن.
وبالأرقام تتلخص معضلة حكومة حماس بالتالي: (120) مليون دولار فاتورة الرواتب، إلى جانب (50) مليون دولار نفقات تشغيلية، جزء منها مصاريف مؤسسة الرئاسة ورواتب لأعضاء اللجنة التنفيذية ومركزية فتح، ومصاريف الوزارات والمؤسسات الحكومية. مقدار ما يدخل جيب الحكومة هو من (25) إلى (30) مليون دولار شهرياً إيرادات محلية تجبيها الحكومة، ونحو (70) مليون دولار عوائد ضريبية تجبيها الدولة الصهيونية وهي الآن تحتجزها في بنوكها وتصل إلى نحو نصف مليار دولار.
في ظلِّ هذه الأزمة الخانقة والصعبة بدأ الحديث مجدداً من قِبَل الرئيس الفلسطيني وحركة فتح عن حكومة وحدة وطنية، لها برنامج مقبول دولياً ويلتزم بالقرارات العربية والدولية، ويلتزم باتفاقيات السُلطة مع الدولة الصهيونية.
البيان: ما هي الحكومة الجديدة المتوقع تشكيلها؟ وما برنامجها السياسي؟ وهل سينجح الفلسطينيون في تشكيلها؟ وهل ستنجح هذه الحكومة في رفع الحصار المالي عن الشعب الفلسطيني؟ وكيف تنظر حماس إلى هذه الحكومة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة كان لنا هذا الحوار مع أمين سر الكتلة البرلمانية لحركة حماس في المجلس التشريعي، وأحد المتحدثين الرسميين باسمها في فلسطين الشيخ مشير المصري.
البيان: هل بدأت المشاورات لتشكيل حكومة وحدة وطنية؟ وأين وصلت هذه المشاورات؟
3 أولاً: تشكيل حكومة الوحدة الوطنية هو غاية لحركة حماس، ولطالما دفعنا في هذا الاتجاه، وحقيقةً إن الحركة بادرت بتشكيل لجنة من قيادتها السياسية لبدء المباحثات والمشاورات، وأجرينا مشاورات مع الرئيس عباس، ومن حضر معه من الإخوة في حركة فتح في عدة لقاءات، وأعتقد أنه خلال الأيام المقبلة، يمكن أن تشهد مشاورات معمّقة مع الكتل البرلمانية والفصائل الفلسطينية؛ لوضع المحددات، والأسس والموازين لتشكيل الأرضية الخصبة التي يلتقي عليها الكل نحو حكومة وحدة وطنية.
البيان: هناك ورقة سياسية للرئيس (أبو مازن) تبنّتها اللجنة التنفيذية حول تشكيل الحكومة، هل تسلّمت حماس هذه الورقة؟ وما موقفكم منها؟
3 لم نتسلّم أيَّ ورقة، وأعتقد أنه لا تُفرض علينا تلك الأوراق، إن الورقة واضحة وبيّنة، هي إرادة الشعب الفلسطيني، وهو الذي اختار بنفسه من يمثّله. وحكومة الوحدة الوطنية واضحة، بحسب وثيقة الوفاق الوطني التي هي محلُّ إجماع وطني، ونصَّت على ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية. ومن باب حرصنا الكبير على ضرورة النهوض بالواقع الفلسطيني، بادرْنا في الحديث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، ويمكن أن تأتي اللحظة التي نتحدث فيها عن منظمة التحرير الفلسطينية ونبيّن رأينا فيها.
إذاً؛ الأسس والمبادئ والمحددات واضحة، وهي وفق إرادة الشعب الفلسطيني، وليس وفق أجندة فصائلية أو منظمية إن صحَّ التعبير، أو بحسب المزاج والهوى لبعض الشخصيات. وإن كنت على قناعة أن بعض أفراد اللجنة التنفيذية الذين لا وزن لهم ولا ثقل ـ مثل: ياسر عبد ربه ـ أوضحوا موقفهم من حكومة الوحدة الوطنية، لحظةَ التوافق الوطني، وقالوا: إن الحديث عن حكومة الوحدة الوطنية إنما هو أكذوبة وملهاة.
البيان: هل الحكومة المقبلة في حال تشكيلها ستكون من جميع الفصائل؟ أم ستقتصر على الفصيلين الأكبر شعبيةً: فتح وحماس؟
3 بالتأكيد. نحن حريصون على تشكيل حكومة وحدة وطنية، تشارك فيها كافة الفصائل الفلسطينية، وسندفع في هذا الاتجاه إلى آخر رمق، وإن كان ـ بالتأكيد ـ الفصيلان الأساسيان حماس وفتح هما أصحاب الثقل البرلماني، لا سيما أن الحكومة ستخضع لنتائج الانتخابات، لكن نحن معنيون بمشاركة كل فصيل فلسطيني يتحمّل مسؤولياته، لننهض بالواقع الفلسطيني، مع توحيد صفنا؛ لأنني أعتقد أن حكومة الوحدة الوطنية هي الضمانة التي تحمي الساحة الفلسطينية من أيِّ تداعيات خطرة.
البيان: ما أهم نقاط الخلاف بين حركة حماس وفتح في تشكيل حكومة وحدة وطنية؟
3 هناك أسس ومبادئ تمَّ التوافق عليها هي التي يمكن أن تشكل الأرضية الخصبة لحكومة وحدة وطنية، هناك من يتحدث بثلاثة شروط، وهي: أولاً: الالتزام بما التزمت به منظمة التحرير الفلسطينية، ثانياً: الالتزام بالاتفاقات الموقعة بين السلطة السابقة وبين العدو الصهيوني، وثالثاً: الاعتراف بالشرعية الدولية، ومجمل ذلك الاعتراف بالعدو، وهو ما صرَّح به عزام الأحمد صراحةً في وسائل الإعلام، وما كرّره جمال نزال وما يكرره في كل يوم، هذا هو الموقف، ولكن هل هو الموقف الرسمي؟ نعم هذه التصريحات تؤثر على الأجواء العامة، ولكن نحن لا نكترث بها ونبقى نتعامل مع المواقف الرسمية لحركة فتح، وأعتقد أن مسألة الاعتراف بالعدو مسألة خط أحمر لحركة حماس، ومن يطرحها كشرط يعني أنه لا يريد الشراكة السياسية.
إلى هذه اللحظة الأجواء إيجابية، ونحن لن نضع شروطاً، ولا نرغب أن يضع أحد شروطاً، وأي حكومة وحدة وطنية ينبغي أن تخضع لإرادة الشعب الفلسطيني التي عبَّر عنها من خلال صناديق الاقتراع، سواء حول التوجه السياسي أو حول الوزن السياسي.
البيان: هل ستتمكن هذه الحكومة من فكِّ الحصار عن الشعب الفلسطيني وتوفير أموال للسلطة الفلسطينية؟
3 إن هذا مبدأ وأساس لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ومن واجباتها أن تسعى لفكِّ الحصار المفروض على شعبنا، وهذا ما ينتظره شعبنا الفلسطيني، وإلا ما الذي يمكن أن نُقدمه للشعب؛ الذي يرنو قلبه إلى رؤية حكومة الوحدة الوطنية؟ ومن المؤكد أننا بالجهد المشترك سنتمكن من كسر حلقات الحصار المفروض على هذا الشعب العظيم.
البيان: هل ترى أن الولايات المتحدة ستضغط على العدو الصهيوني من أجل القبول بهذه الحكومة والتعامل معها، بعكس ما يدّعيه أن الحكومة هي حكومة حماس؟
3 أعتقد أن المشكلة لدى الإدارة الأمريكية أكبر من العدو الصهيوني، والغطاء الأمريكي للمواقف الصهيونية هو الذي شجع العدو وجعله يتمادى في كل مواقفه، حتى وصل إلى سابقة تاريخية باختطاف الوزراء والنواب، وهم (ممثلو الشعب الفلسطيني) ، والذي يمثل قرصنة ونحو ذلك، ومن ثم فإن موقف الإدارة الأمريكية واضح ومعادٍ للشعب الفلسطيني، ويكيل بمكيالين، وواضح أنه يريد ديمقراطية مُفصّلة بالمزاج الصهيوني والأمريكي، بعيداً عن إرادة الشعوب صاحبة الأرض.
البيان: بالنسبة للبرنامج السياسي لهذه الحكومة، ما أهم النقاط التي يشملها هذا البرنامج السياسي؟
3 دعني أؤكد في البداية أن البرنامج السياسي سقفه وثيقة الأسرى، وليس أكبر من ذلك، وهي محل إجماع وطني، ومن يتحدث غير ذلك فإنه يتهرب من الإجماع الوطني الذي قطعنا فيه شوطاً طويلاً من المباحثات والمشاورات حتى وصلنا إلى اللحظة التاريخية حيث أصبح هناك توافق، ومن ثمَّ فإن هذا البرنامج وهذه الوثيقة التي وضعت في ديباجتها في السطر الثاني منها عبارة: إن الحقوق لا تزول بالتقادم، وعلى قاعدة عدم الاعتراف بشرعية الاحتلال نعلن هذه الوثيقة، ومن ثم ينبغي على البرنامج السياسي ألاَّ يخرج عن هذا الإطار.
البيان: كيف ستُوزَع الحقائب الوزارية في الحكومة المقبلة؟ هل ستكون على شكل حصص أم حكومة تكنوقراط؟
3 نحن لا نتحدث عن حكومة (تكنوقراط) نحن نتحدث عن حكومة وحدة وطنية، وإن كنا حريصين في المبادئ التي وضعناها أن تكون من المختصين ومن المهنيين، لكن لا يعني ذلك (تكنوقراط) سياسيين وأصحاب خبرة مهنية، وتخصص؛ لأننا جرّبنا الحكومة التكنوقراطية السابقة، والتي ورثنا من ورائها ما يزيد عن مليار و700 مليون دولار ديوناً متراكمة.
البيان: ما حجم الضغوط التي تمارس على حكومة الأستاذ إسماعيل هنية؟ وما هي هذه الضغوط؟
3 الضغوط كبيرة، سواء كانت صهيونية أو أمريكية أو دولية أو داخلية، ومن ثم فإن حجم الضغوط كبير، والهدف منها حرف الحكومة عن مسارها السياسي، أو في الحقيقة إسقاط الحكومة القائمة، لوضع حكومة بالمزاج الأمريكي، تتعامل مع الواقع على قاعدة الاعتراف بالكيان المغتصب الصهيوني، ومن ثم نحن ندرك عظم هذه الضغوط. وإن كان الجانب الفلسطيني في الداخل يمارس جزءاً من هذه المؤامرة عبر محاولة صنع التوتر والاضطرابات والفوضى داخل الساحة الفلسطينية، كمحاولة لإضعاف الحكومة، ولكن ستبقى هذه المحاولات الداخلية محاولات يائسة وفاشلة أمام احتضان الشعب للحكومة، والذي يعبّر عنه عبر صناديق الاقتراع كل يوم في انتخابات النقابات التي تفوز بها حركة حماس بأغلبية كبيرة، كما كان في نقابتي الممرضين والمحاسبين.
البيان: كيف ترون توقيت الإضراب في قطاع غزة، والضفة الغربية؟
3 أولاً: نحن نؤكد علىِ أن الإضراب حق، ونؤكد على وقوفنا إلى جانب مطالب الموظفين، لكن ذلك خطوة في الاتجاه الخاطئ؛ لأن المشكلة ليست فلسطينية، ويجب أن توجه التظاهرات والمسيرات والفعاليات نحو من يحاصر الشعب الفلسطيني وهو العدو الصهيوني والإدارة الأمريكية، ودعني في المقابل أؤكد أنه ليس هناك ما يسمى بنقابة الموظفين العموميين، وهذه نقابة غير شرعية ولا تعبِّر عن إرادة الموظفين، وأعتقد أن هذا الإضراب إنما هو إضراب سياسي، وطالما حذرنا منذ البداية من (تسييس) الإضرابات، لكن خروج قوات الأمن كان مخالفاً للقانون الأساسي، ومخالفاً لقرار الرئيس عباس الذي منع التظاهرة العسكرية، بالإضافة إلى أنه وصل بهم الأمر إلى إطلاق الرصاص على المجلس التشريعي وتكسير محتوياته، والاعتداء على المؤسسات التي تمثل رمزية الشعب الفلسطيني، وأصبح واضحاً أن هناك جهات سياسية معروفة ومكشوفة بأسمائها تقف وراء هذا الإضراب؛ لتحقيق أهداف حزبية وفئوية ضيقة على حساب أهداف شعبنا الفلسطيني الكبرى.
البيان: كيف ستتعامل الحركة أمام هذا التحدي الكبير الذي يهدد بشلِّ عمل الحكومة وزيادة التحديات التي تواجهها منذ استلامها لزمام السلطة؟
3 أولاً: على المستوى الداخلي للإضراب أكدنا على أن هذه الجهات التي تقف وراء الإضراب لا تمثل قاعدة الموظفين، وهي جهات سياسية تسعى لأهداف سياسية، بدليل أن إضراب المعلمين فشل أمام حرص المدرّسين ـ بفضل الله سبحانه وتعالى ـ، وهناك ما يزيد عن (80%) من المدارس انتظمت فيها الدراسة في قطاع غزة، وما يزيد عن (70%) في الضفة الغربية، ومعظم المدرّسين يداومون، المشكلة فقط كانت لدى المديرين، فمعظهم ينتمون للونٍ سياسي واحد، ومن ثم هم الذين يسعون لترجمة الأهداف السياسية التي يُرجى لها أن تتحقق من وراء هذا الإضراب، وأعتقد أنه من خلال الأيام القادمة يمكن أن تشهد تحوّلاً إيجابياً في اتجاه فشل الإضراب بشكل عام؛ لأن الشعب الفلسطيني بدأ يدرك مخاطر ذلك على حساب المرضى والطلاب. أما على المستوى الخارجي أعتقد أن حكومة الوحدة الوطنية يمكن أن تمثل مخرجاً ولو جزئياً في هذا الجانب.
البيان: هناك من يقول: إن الحكومة اليوم في أصعب مراحلها، إذ فقدت الأغلبية البرلمانية بعد اعتقال أكثر من أربعين نائباً من حماس، ومن ثم هي تحت رحمة فتح، وبقية الفصائل الفلسطينية الأخرى، ولا يوجد عندها سوى خيار الاستقالة أو الاستجابة لمطالب الرئيس (أبو مازن) ؟
3 لا استقالة، ولا استجابة لغير مطالب الشعب الفلسطيني، هذه مسألة. وإنّ العدو الصهيوني باختطافه الوزراء والنواب حاولَ أن يمارس الضغط على الحكومة لتقديم تنازلات سياسية أو محاولة لإسقاطها، كما هو هدف داخلي لتيار فلسطيني يعمل على ذات المستوى، لكن أؤكد بأن حماس وإن فقدت الأغلبية فإنه لا أحد يمتلك الأغلبية في البرلمان الفلسطيني؛ لأن حركة حماس فقط هي من كانت تمتلك الأغلبية البرلمانية، وما غير ذلك بمجموع الكتل البرلمانية أقل من النصف، ومن ثم فإن القرارات المصيرية لا يستطيع أحد أن يتخذها إلا عبر وفاق وطني. وأي تشكيل لأي حكومة وطنية لا يمكن أن يُمنح الثقة إلا بموافقة ورضى حركة حماس؛ لأن اجتماع كل الكتل والقوائم البرلمانية لا يصل إلى منح أيّ حكومة الثقة، ومن ثم نحن لسنا تحت رحمة أحد، فقط نحن تحت رحمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ، ونحن من يحدد القرارات المصيرية بمفردنا يوم أن كنا أغلبية برلمانية، أو بالوفاق الوطني يوم أن فقدت الأغلبية البرلمانية للجميع.
البيان: هل ستشهد الحكومة حالة من الانقلاب الأبيض في الوزارات والمؤسسات الحكومية؟
3 حالة الاضطرابات والفوضى للوصول إلى عصيان مدني هي بالتأكيد هدف أسمى لهذه الجهات السياسية التي تسعى إلى انقلاب أبيض على الحكومة الفلسطينية للوصول إلى إسقاطها، وهو هدف صهيوني أمريكي، وهدف لتيار فلسطيني داخلي، ومن تتبّع المواقف والتصريحات والتحركات لهذا التيار ـ الذي يقف وراء الإضراب وتدمير المؤسسات صاحبة الرمزية، والاعتداء على المجلس التشريعي وعلى مجلس الوزراء وإشعال النار فيهما، سواء في رام الله أو في غزة، والاعتداء من قبل على النواب ومحاولة التشهير بالحكومة والتحريض عليها ـ فإنه سينجلي له من هو، ويظهر له أن كل ذلك لا يفسر إلا في إطار انقلاب أبيض نتيجته كانت بازدياد شعبية هذه الحركة الذي أكدته الانتخابات المتتالية في عدة نقابات فلسطينية.
البيان: في حال استمرار الإضراب: كيف ستواجه الحركة هذا الواقع الصعب على جميع مؤسسات السُلطة؟
3 أعتقد أن الإضراب سيفشل ـ بإذن الله تعالى ـ أمام حرص الشعب الفلسطيني؛ لأنه إضراب ليس لحل الأزمة، وليس لمواجهة الحصار، ولكنه إضراب لتأزيم الواقع الفلسطيني، وهذا ما بدأ يدركه شعبنا الفلسطيني، وإنه إضراب على حساب المرضى وحساب هذا الشعب، ومن هنا بدأت حلقات الإضراب تتكسر وبدأ يخفت ضوؤها، وأعتقد أن الجهات التي تقف وراء الإضراب بدأت تستنفذ خياراتها أمام حرص الشعب الفلسطيني على تسيير أموره، وعدمِ الانزلاق إلى تحقيق أهداف حزبية وشخصية وفئوية ضيقة لهذا التيار الذي يسعى لكسر إرادته بإسقاط حكومته.
البيان: كان هناك تصريح لـ (نبيل أبو ردينة) : بأن المحادثات بين (هنية) و (أبو مازن) إيجابية، ومن المتوقع أن يتم الإعلان عن الحكومة خلال عشرة أيام، هل من تعقيب على هذه التصريحات؟
3 أعتقد أنه لا جدوى من هذه التصريحات. ومحاولة وضع سيف الوقت في كل نقطة أصبح لا ينطلي على الفصائل والقوى والشعب الفلسطيني، وأؤكد أنه ليس هناك سقف زمني لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، نحن معنيون بها وندفع باتجاهها، وشكّلنا لجنة لها، وبادرْنا بإجراء بعض مشاوراتها، وسنجري بقية المشاورات المعمقة، لكن متى سيكون ذلك؟ نأمل أن يكون في الوقت القريب، لكن الحديث عن أيام ـ بالتأكيد ـ أمر غير منطقي.
البيان: بالنسبة للإضراب؛ هل تعتقدون أنه جاء من أجل خدمة طرف على حساب طرف آخر؟
3 بالتأكيد هو إضراب سياسي، وهو لخدمة أهداف شخصية وحزبية وفئوية على حساب مصالح شعبنا الفلسطيني، ثم أين كانت هذه الجهات التي تقف وراء الإضراب، وأين كانت مواقفهم من حصار الشعب الفلسطيني؟ هل أقامت فعاليات وإضرابات ومسيرات لمواجهة الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني؟ أم إنه فقط يأتي في مواجهة الحكومة الفلسطينية وكأن المشكلة ليست فلسطينية؟
البيان: لماذا توقفت جهود حماس لجمع الأموال في الخارج لصالح الشعب الفلسطيني والحكومة؟ وهل هناك جهات عربية وقفت مانعاً لمواصلة جهود حماس لجمع الأموال؟
3 إن التبرعات الشعبية تبقى تبرعات شعبية، مع تقديرنا لعظم مكانتها وقدر أصحابها، لكن المطلوب في المقابل أن تتحمل الأنظمة العربية والإسلامية مسؤولياتها في الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني، والوقوف بجانب حكومته المنتخبة المحاصرة والمحاربة من قبل العدو الصهيوني والأطراف الخارجية، وأعتقد أن ثمة مشكلة كبيرة في إدخال الأموال، متمثلة في معبر رفح المدخل الوحيد للشعب الفلسطيني والذي يتم إغلاقه على فترات طويلة، وهذا شدّد من الحصار المفروض على شعبنا الفلسطيني، ونعتقد بأننا في حاجة إلى وقفة للأنظمة، ووقفة للشعوب المعطاءة، ومن المؤكد نحن في حاجة لإبقاء التبرعات مفتوحة من قبل الشعوب العربية والإسلامية، وأعتقد أن هناك جهات مشكورة تستمر في جمع التبرعات لصالح الشعب الفلسطيني، ندعوهم للمواصلة ونحثّهم على الدفع بهذا الاتجاه، فهو جهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
البيان: ماذا بالنسبة لقضية الجندي الإسرائيلي الأسير (جلعاد شليط) ؟ هل هناك مباحثات ووساطات تبذل لإطلاق سراحه؟
3 أؤكد بأنه ما زالت هناك جهود مصرية تبذل في هذا الاتجاه، وإنْ جُوبهت بالصلف والتعنّت الصهيوني، لكن لا خيار أمام العدو الصهيوني إلا الاستجابة للشروط الإنسانية التي وضعتها الأجنحة العسكرية، وينبغي ألا يحلم العدو بأن الشعب يمكن أن يُقدِم على إطلاق سراح الجندي الأسير (جلعاد شليط) مجاناً وبلا مقابل. إن الشروط واضحة، والجندي موجود، وحل هذه الأزمة فقط بالطرق الدبلوماسية على قاعدة تبادل الأسرى، خاصة بعد أن فشل التصعيد الصهيوني بحسم هذه القضية، والذي راهن عليها (أولمرت) والجيش الصهيوني، لذلك نحن نعتقد بأن لحظة حل هذه الأزمة على قاعدة تبادل الأسرى ستأتي ـ بإذن الله سبحانه وتعالى ـ بعد أن استنفذ العدو الصهيوني خياراته، ولم يترك وسيلةً في جعبته إلا واستعملها، وكلها قد فشلت في تحقيق أهدافه والإفراج عن جنديّه الأسير. نحن نؤكد بأن الجهود المصرية هي الأقوى التي تبذل في هذا الاتجاه، ونتمنى أن تكلّل بالنجاح، ونعتقد بأن الخيار الأوحد هو ما طرحته الأجنحة العسكرية الفلسطينية منذ اللحظة الأولى لأسر الجندي في حل هذه الأزمة.
البيان: بالنسبة للعلاقة بين الرئاسة والحكومة؛ من الملاحظ أن هناك فراغاً بينهما، وهناك بعض الاختلاف في المواقف السياسية، هل تعتقد أن هناك أطرافاً تساعد على اتّساع الهوة بين الحكومة والرئاسة؟
3 أؤكد أن هناك برامج مختلفة، وخاصة أن هناك برنامجين سياسيين مختلفين في الساحة الفلسطينية، برنامج يتبنّى الجهاد والمقاومة كخط إستراتيجي، وبرنامج يتبنّى المفاوضات والاعتراف بالكيان المغتصب كخيار إستراتيجي، ومن ثَمَّ نعم هناك جهات من أقطاب حركة فتح معروفة بأسمائها وبتصريحاتها ومواقفها تستغل هذا الفراغ لتوسيع الفجوة والهوة بين الحكومة والرئاسة، وما زالت تستمر في عقليتها غير الوحدوية، على الرغم من الأجواء الوحدوية التي عاشتها الساحة الفلسطينية بعد التوقيع على وثيقة الوفاق الوطني ووثيقة الأسرى، ومن ثم فإنه على الرغم من وجود برامج مختلفة، تمكّنّا ـ بفضل الله سبحانه وتعالى ـ من التوافق على وثيقة تجمَعُ الكل وهي تمثل برنامج الحد الأدنى والقواسم المشتركة، لكن على الرغم من ذلك إلا أنه يطل علينا بين الفينة والأخرى من يعكّر صفو الوحدة الوطنية ويحاول تفكيك التوافق، وإيجاد فراغات بين الحكومة والرئاسة ومحاولة توسيع الفجوة بينهما.
البيان: إلى أين وصلت مساعي الحكومة في فتح ملف العملاء، ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها ضد قادة المقاومة الفلسطينية، والشعب بأكمله؟
3 إن ملف العملاء من الملفات الأخطر الموجودة على الساحة الفلسطينية، ومن المؤكد أن فصيلاً بعينه لا يستطيع أن يتحمّل تبعات هذا الملف بمفرده، ويحتاج إلى رؤية وطنية مشتركة، وهذا ما دعت إليه حركة حماس منذ القدم، وأيضاً هذا الموضوع لا يزال مطروحاً على الأجندة، وهو بحاجة إلى رؤيا وعلاج متكاملين، وإلى طواقم كاملة، ورؤية وطنية مشتركة لفتح هذا الملف وإنهائه، وأعتقد أن هذا الموضوع ما زال في الأولوية، ويمكن أن تأتي اللحظة المناسبة ـ بإذن الله سبحانه وتعالى ـ لتنفيذ ذلك على أرض الواقع، وملاحقة العملاء ووضعهم أمام طائلة القانون، لكن موضوعاً مثل هذا تُرك على مدار سنوات طويلة؛ لا يمكن أن يتم معالجته بفترة وجيزة، وأعتقد أن الحكومة لم تنسَ هذا الموضوع ولا زال محل الاهتمام وله الأولوية.
__________
(*) مراسل المجلَّة في فلسطين.(229/14)
خيوط النصر
أحمد بن سعيد الزهراني
يجلس القائد عامر ثم يقوم يتحرك يميناً وشمالاً ...
يدخل خالد على فسطاط القائد عامر ليبادره مسرعاً:
ـ ما لك أيها القائد! كأنك تترقب شيئاً من بعيد؟
ـ نعم، سيأتي إن شاء الله تعالى.
ـ ما الذي سيأتي أيها القائد؟
ـ النصر، النصر إن شاء الله.
ـ النصر! كيف ونحن اليوم ننهي شهراً في حصار هذا الحصن النصراني المنيع، والجيش في عنت شديد؟
ـ سيأتي النصر إن شاء الله. لتكن ثقتك بالله عالية، فالله مولانا، ولا مولى لهم.
ـ نعم. نِعْم المولى ونعم النصير.
بعد لحظات يدخل أحد الجنود مسرعاً إلى فسطاط القائد:
ـ سيدي! سيدي!
ـ ما عندك يا منصور؟!
ـ سيدي، لقد ظهر أحد العلوج من فوق الحصن يَسبُّ رسول الله # بأشنع الشتائم، وأقذع السباب!
ـ (القائد في غيظ) : قاتلهم الله! كيف يتجرؤون على رسول الله؟ وأيم الله، لأسحقنَّهم تحت أقدامي، ولن أغادر أرضهم حتى أراهم مجندلين على الأرض أمواتاً ... أَوَ يُطعن في رسول الله ونحن أحياء؟
يتدخل الشيخ حامد في لطف قائلاً: هدِّئ من روعك أيها القائد، فوالله ما هو إلا النصر قد اقترب، فمع غيظنا على شتمهم لرسول الله # إلا أننا لنستبشر بانتقام الله لرسوله، وهزيمته لهؤلاء الأوغاد.
ـ ولكن ... ما حال الجنود يا منصور؟
ـ ثارت حميتهم لرسول الله #، وهم الآن مستبسلون في فتح الحصن، وقد صاروا قاب قوسين أو أدنى من فتحه.
بعد فترة قصيرة يسمع القائد تكبيراً عالياً، فيخرج ليرى أحد الجنود مقبلاً ينادي:
ـ أبشر أيها القائد! لقد فُتح الحصن على أيدي الجنود البواسل.
ـ (القائد في ابتسامة) : الحمد الله، الحمد لله.
ـ (الشيخ حامد) : ألم أقل لك أيها القائد: أنّ الله يغار على رسول الله #؛ فينتقم له منهم؟
ـ صدقت، صدقت. فالله يقول: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57] .
__________
(*) جامعة الملك عبد العزيز ـ قسم اللغة العربية.(229/15)
صرخة أم
ناجي عبد العظيم محمد
دون سابق إنذار، علت عنان السماء طائرات العدو تُرسل حممها وتُسقط قذائفها؛ فتقتل وتحرق وتهدم، تدمر بوحشيتها المعهودة كل شيء، لا ترحم طفلاً أو أُماً أو شيخاً كبيراً، يُغطِّي سواد قلوبها وجه الأرض، تملأ الرعب في قلوب الأطفال؛ فتقتل برآتهم ليتلاشوا خلف جدار الخوف، انطفأت الأنوار بعدما استهدف العدو محطة لتوليد الكهرباء، أخذ يصرخ محمد (طفل الخامسة) في هلع شديد على أمه، التي لا تبعد عنه مسافة المترين، لتنتشله من بين عناكب الظلام ونعيق البوم، هرعت إليه أمه بلهفة شدية تحتضنه بين ذراعيها، وتحيطه بقلبها علّها تُهدّئ من روعه، وانتفاض جسمه، وبكائه الذي يُدمي قلبها، ويعتصر مراراة جوانحها وهي تقول له: «محمد، ما بك يا حبيبي؟! لا تخف، لا تخف، سينتهي كل شيء» ، وهي تراقب بسمعها، وشدة ضربات قلبها تتزايد من القصف، وتصاعد الأدخنة. ومحمد يظل يرتعش ويشهق، وكأنما سكيناً يقتطع قلبها، وهو يحكي بصوت شاهق من شدة البكاء: «ماما، أنا خائف، ضعي يدك على أذني، لا أريد أن أسمع هذه الأصوات فهي تُخيفني» ، فترد الأم: «لا تخف حبيبي! هيَّا لنأتي بأختك الرضيعة من داخل الغرفة» ، فيجيب محمد: «ماما، أنا خائف على بسمة أختي» ، والكلمات تعتصر قلب الأم: «لا تخف، لم يبقَ إلا القليل ويأتي النهار» ، محاولةً بذلك تهدئة ابنها رُغم وحشية القصف، أخذت الأم ابنيها محتضنة إياهما، ومتروية بهما في حائط من جدران المنزل، وقلبها يعتصر ألماً، وهي تتضرع إلى الله متعلقة القلب بعفوه ولطفه أن يرحم تلك الأبدان الصغيرة والقلوب الطاهرة، ما كادت الأم تنتبه من رجائها حتى تزلزل البيت بقذيفة من قذائف العدو، وصُراخ أبنائها يتعالى في مخيلتها دون وعي، ويمر وقت ليس بالقصير، ويقدر الله لهذه الأم أن تستعيد وعيها لتجد محمداً حيث تجده أشلاءً متناثرة؛ فتصعق من هول المصيبة، وتحمل رُفات ابنيها، وتهيم وسط القذائف بصرخاتها المدويّة: «قاتل الله المجرمين، قاتل الله الأعداء، قاتل الله الخونة» ، وطائرات العدو تصول في عنان السماء، والأم تصرخ: «افعلوا ما شئتم وما طاب لكم، صولوا وجولوا، احرقوا، هدِّموا، اقتلوا الأطفال والنساء، مزّقوا أجساد الصغار، لا تأخذكم بهم رأفة؛ فقد مات الشرف، ودُفنت الرجولة!! فلعنة الله على الظالمين، لعنة الله على الظالمين، اللهم عاقب هؤلاء الخونة بما يستحقون، اللهم اجعلهم يحملون رُفات أبنائهم على أكفهم كما حملناه وهم لا يحركون ساكناً، اللهم أرنا في كل من خانك ولم ينتفض غيرةً لهؤلاء الصبية يوماً أسودَ، اللهم كما أدميت قلوبنا على هؤلاء الصغار فأرنا عجائب قدرتك في هؤلاء الكفرة، ربنا لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً، ربنا لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً» .
جثت الأم على ركبتيها، ودموعها تسبقها إلى الأرض، ووضعت رُفات ابنيها أمامها وهي تختنق من البكاء والصُراخ والحسرة: «من لي بعدكما؟ يا رب لا أستطيع العيش بدونهما، يا رب تقبلني معهما» ، وما هي إلا لحظات لتلقى الأم مصرعها إثر القصف المتزايد، وترقد الأم ـ التي نحسبها شهيدة ـ بجوار أشلاء ابنيها، لتلتقي أرواحهم ـ إن شاء الله ـ في جنان ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(229/16)
منطقة الخليج بين خطرين
د. عبد العزيز مصطفى كامل
كانت حرب لبنان الأخيرة ــ وبغضّ النظر عن التقدير الأخير لحساب النصر والهزيمة فيها ــ نموذجاً آخر من نماذج صراع العصر الحديث الدائر بين الغرب وإيران، أو بين الفرس والروم المعاصرين على الأراضي الواقعة شمال جزيرة العرب (العراق والشام) ، وقد سُبق هذا بثلاثة حروب على ضفاف الخليج، لم يكن ظل التنافس بين الطرفين فيها غائباً، أما هذه الجزيرة نفسها، فهي في رأيي الساحة الرئيسة لطموحات وأطماع النّدَّيْن التاريخيين.
إن هذه الجزيرة العربية بما فيها من نُظُم متنوعة وحكومات مختلفة؛ تضم شعوباً شبه متجانسة في ثقافتها ولغتها وعقيدتها وتقاليدها. وفي عصر تتضاعف فيه العداوة ضد العرب كعنصر، والسُنة كمذهب؛ فإن العداوة العنصرية والمذهبية تركزت على جزيرة العرب، باعتبارها المصدر الأول والدائم للأمرين معاً، سواء كان ذلك من الأمريكيين أو الإيرانيين أو غيرهم ممن لف لفهم.
لا مناص من المصارحة في هذا الأمر، مهما كانت تلك المصارحة صعبة أو محرجة أو مخيفة.
القضية باختصار، هي أن هناك دين حق واحداً لا ثاني له، يمثله مذهب صواب واحد، لا عديل له ... هو الإسلام على مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا الدين وفق ذلك المذهب، قد تداعت عليه الأمم بأديانها الباطلة ومذاهبها الضالة في أنحاء الأرض، مصداقاً لقول النبي الخاتم المعصوم -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تتداعى الأكلةُ إلى قصعتها» (1) ، وقد كان قدر جزيرة العرب التي تنزلت فيها رسالة الإسلام وخرج منها نوره إلى الآفاق على يد الصحابة الكرام، أن تظل بؤرة الرصد، ومركز التآمر من كل طواغيت العالم، باعتبارها رمز بقاء وصفاء دين الإسلام، وفيها أقدس مقدسات المسلمين في العالم؛ حيث قبلة صلاتهم، ومثوى نبيهم الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ومهوى أفئدة المؤمنين في كل زمان ومكان. وقد أثبتت أحداث وتفاعلات العقود والسنوات الأخيرة في العالم الإسلامي؛ أن أكثر من نهضوا لتنشيط مواجهة المعتدين على أوطان المسلمين، كانوا من أبناء تلك الجزيرة، ومعتنقي هذا المذهب الواضح في ولائه وبرائه؛ فمن أفغانستان إلى الشيشان إلى البوسنة إلى الصومال ... وأخيراً العراق، كانت طلائع الذائدين عن الدين من العرب السُنة، من أبناء الجزيرة أو ممن تأثروا بهم، وكانت أموال الأثرياء منهم تمد حركات الكفاح بما تحتاجه من أنواع الإعداد والإمداد دون أن يكون لـ (ثورة المستضعفين) في إيران أي إسهام في ذلك إلا لحساباتها الخاصة.
وقبل هذا وبعده؛ فإن الدعوة القائمة على المذهب السُني الصحيح، الخارجة من جزيرة العرب، وبخاصة السعودية والكويت واليمن، كانت تمد شعوب العالم الإسلامي بروافد بعث تجديدي وتأصيلي عميق، وهو ما أنشأ قطاعاً كبيراً في أغلب الشعوب الإسلامية، يدين بذلك التوجه السُني التأصيلي التجديدي، الناهض للتغيير، والمناهض للهيمنة.
- الخطر الصهيو صليبي:
لقد بدا لأعداء الأمة واضحاً أن الإسلام السُني، هو التمثيل الصادق للدين الذي طالما نازلوه وواجهوه، وفعلوا المستحيل من أجل إقصائه عن الحياة، ولما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حرباً عالمية على ما أسمته الإرهاب، لم تكن تقصد من تحداها على أرضها فقط، بل عمت بذلك حَمَلةَ المنهج السُني في كل العالم، في حملة شاملة لا تقتصر على الجانب الأمني فحسب؛ بل تعدت ذلك إلى الجانب العلمي والجانب التعليمي والجانب الاقتصادي، وحتى الجانب الإغاثي والخيري، وما ذلك إلا لما بدا من أن دائرة الممانعة والمقاومة لكل مشاريع التآمر والهيمنة، تتكثف وتتركز في الكيانات السُنية، بدءاً من قضية فلسطين، وانتهاءً بقضية العراق، ولهذا استعانت عليهم في حربها العالمية، بكل أعدائهم ومخالفيهم، ولو كانوا من أهل القبلة أو المنسوبين إليها، كما أظهرت ذلك تقارير معهد (راند) عن (الإسلام المدني الديمقراطي) ، وتقرير (قلوب وعقول ودولارات) حيث جاءت الدعوة صريحة للاستعانة بالتصوف والتشيع في هذه الحرب المعلنة. وبالرغم من عالمية تلك الحرب الأمريكية على الإسلام السُني بدعوى الإرهاب، فإن هناك وضعاً خاصاً للجزيرة العربية ـ وبخاصة السعودية ـ لم يعد خافياً على أحد، وبخاصة بعد أن خرجت إلى العلن التصريحات التي تعبر عن مواقف المحافظين اليهود الجدد في أمريكا، وبالتحديد عبارتهم الشهيرة «العراق هدف تكتيكي، والسعودية هدف استراتيجي، ومصر هي الجائزة» .
ولأن الإدارة الأمريكية الحالية هي إدارة صهيونية، نصفها من الصهاينة اليهود، والنصف الثاني من الصهاينة النصارى، فقد كان من الطبيعي أن تخرج الحملات المكثفة من (الولايات المتحدة الصهيونية) ضد الإسلام في الجزيرة العربية، وبخاصة على المملكة السعودية، لا كنظام فحسب، بل كشعب وثقافة وعقيدة، وقد وصل الأمر إلى أن قدَّم السيناتور الجمهوري الأمريكي (أرلن سبكتر) المعروف بدفاعه عن اليهود؛ مشروع قانون يحمل اسم (قانون محاسبة السعودية) على غرار المشروع الذي أقره الكونجرس الأمريكي قبل ذلك بعنوان (قانون محاسبة سورية) ، ويدعو قانون (سبكتر) إلى فرض عقوبات سياسية وعسكرية على السعودية «ما لم تتوقف عن دعمها للمنظمات الإرهابية كحماس والجهاد الإسلامي» ، ويدعو المشروع إلى إيقاف كل أنواع التبرعات إلى خارج المملكة، ويطالب بتقديم تقرير نصف سنوي للإدارة الأمريكية عن مستوى سير التعاون في الحرب العالمية على الإرهاب.
وفي سبتمبر 2003م، تقدم النائب الديمقراطي (أنتوني وينر) المحسوب ضمن أهم خمسين شخصية يهودية في أمريكا، بمشروع قانون آخر، بإدراج اسم السعودية ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولكن الكونجرس لم يوافق على مشروع القرار لفجاجته، على الرغم من موافقة 191 نائباً عليه.
ويبدو أن هذه الحملة (على مستوى القمة) تجيء بين الحين والآخر، لتغطي على الحملات على المستوى الأفقي الواسع، الذي يشمل التعليم والدعوة والعمل الخيري وما يسمى بـ (قضايا حقوق الإنسان) . والمتتبع لهذه الحملات المسعورة منذ بدأت، يُعييه الرصد والمتابعة، لكنها تدل في النهاية على شيء واحد، وهو: أن هناك تربصاً بالسُنة وأهلها ومنهجها ونشاطها ورموزها في العالم بشكل عام، وفي السعودية بوجه خاص؛ حيث عدها الكثير من الصهاينة الأمريكيين (نواة الشر) ، وقد روَّج لذلك (ريتشارد بيرل) اليهودي الصهيوني الأمريكي، مهندس عملية غزو العراق، وقد صدر لهذا الرمز البارز في المحافظين اليهود الجدد كتاب بعنوان (نهاية شر) بالاشتراك مع (ديفيد فروم) من المحافظين الجدد دعا فيه (بيرل) إلى إضافة السعودية إلى دول (محور الشر) ، وكرر ذلك في لقاء له مع محطة (سي إن إن) الأمريكية في 11/1/2004م، وبلغ تبجح ذلك الشخص النافذ في طاقم الإدارة الأمريكية إلى أن طالب في اجتماع لمجلس سياسات الدفاع الذي كان يرأسه بتنفيذ خطة (تقسيم السعودية) بفصل المنطقة الشرقية الغنية بالنفط، وتسليمها لإدارة موالية للأمريكان.
ومؤخراً كتب الصحفي الأمريكي (جون ليهمان) عضو الكونجرس والمسؤول في لجنة التحقيقات الخاصة بأحداث 11 سبتمبر ووزير البحرية السابق في إدارة ريجان، مقالاً بتاريخ 31 أغسطس 2006م في (الواشنطن يوست) بعنوان (لن ننتصر في هذه الحرب) دعا فيه إلى ضرورة تغيير الخطط والسياسات في مواجهة تنامي المد الإسلامي، سُنياً كان أو شيعياً، وجاء في مقاله:
«إن النظام الثوري في إيران، لا يبدي أي تحفظ في التباهي بسياسته التي تسعى لامتلاك القدرة النووية، كما أنه سمح لحزب الله، بضرب إسرائيل، وفي الصومال استطاع الجهاديون أن يسيطروا على السلطة هناك، وفي باكستان يزداد الإسلاميون قوة، وحكومات مثل مصر والأردن وأندونيسيا والجزائر وماليزيا أصبحت تحت ضغط الإسلاميين ... فكل هذه الدول ترى أننا لن نقوم بأي عمل عسكري طالما أننا ما زلنا في مستنقع العراق» ، ثم قال في إشارة ماكرة إلى ضرورة التصدي للشيعة والسُنة معاً: «إن نشر مبادئ الجهاد على أسس من العقيدة الإسلامية، وعملية تجنيد الأنصار، من أندونيسيا حتى الشرق الأوسط؛ ما زالت تسير بدعم النظام السعودي والنظام الإيراني، وحتى داخل أمريكا، فإن نحو 80% من المساجد والمدارس الإسلامية، تميل بشدة إلى الفكر الوهابي، وهي تعتمد إلى حد كبير على التمويل السعودي. وبعد 5 سنوات من أحداث سبتمبر، لم يكن هناك عمل واضح لإضعاف المصادر الأصلية للجهاديين، وهو ما يجعلنا نجيب بـ (لا) على سؤال رامسفيلد: (هل قتلُ الإرهابيين واعتقالهم أسرع من تكاثرهم وتأثيرهم؟) » .
الشاهد في هذا، أن هناك تربصاً مشتركاً، بكل من عرب الجزيرة وفرس إيران معاً، مما يثير التخوف من محاولات الإيقاع بينهما في صدامات طائفية على المستوى الإقليمي، مثلما هو حادث على المستوى المحلي في العراق.
- الخطر الإيراني الفارسي:
النظرة الإيرانية الفارسية الشيعية إلى العرب السُنة، لا تقل شناءة وشناعة عن النظرة الصهيو صليبية الرومية المعاصرة. فأدبيات القوم القديمة والجديدة، تعج بالمواقف والأقوال التي تنبئ عن حقدٍ وحسد خارج عن حدود المعقول، ومهما تستر البعض على هذه الحقيقة أو تجاهلها؛ فإن ذلك لن يغير من الواقع شيئاً. فالعرب في نظر الشريحة الكبرى من الإيرانيين الفرس، عنصر منحط، لا يستحق السيادة أو الريادة، حتى على المستوى الديني، وليست مصادفة أن حوزات قم الشيعية في إيران، استلبت المرجعية الدينية من الشيعة العرب، حتى في بلادهم، فأصبحت مرجعياتهم مرجعيات إيرانية فارسية، وما مثال إحلال السيستاني الإيراني في العراق واستبدال حسين فضل الله العربي في لبنان منا ببعيد. ومثل هذا الازدراء للعرب ـ حتى ولو كانوا شيعة ـ لا شك أنه سيتضاعف مع العرب السُنة. فمن الحقائق التي يعمى عنها أو يتعامى دعاة (تناسي الخلاف) مع الشيعة، أنَّ حكم أهل السُنة عند أولئك الروافض؛ أنهم جميعاً كفار، تحل منهم الأعراض والدماء والأموال (1) ، وهذا يشمل أولئك الذين يستميتون في الدفاع عنهم، وكيف لا يكون ذلك كذلك، والشيعة يُكفِّرون سلف أهل السُنة، بدءاً من عموم الصحابة، ومروراً بالتابعين وتابعيهم، وحتى عصرنا الحاضر، وأتحدى أي مجادل ينافح عن أولئك التكفيريين (2) أن يثبت أن أي مرجع ديني أو سياسي شيعي، فارسي أو عربي، يحكم بـ (إسلام) أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة فضلاً عن الترضي عنهم ـ رضوان الله عليهم جميعاً ـ فكيف بغيرهم من عامة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، خلا من يسميهم هؤلاء الضُّلاَّل بـ «شيعة علي» رضي الله عنه وأرضاه.
إن جزيرة العرب، هي (وطن الإسلام) كما وصفها الشيخ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ وهي وطن قائم على سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وهو ما كان يعدُّه الروافض القدامى «إسلاماً ناصبياً» ، وما يعده الروافض الجدد «إسلاماً وهَّابياً» . والجزيرة أيضاً هي أرض العرب التي اقترن وصفها بالعروبة قبل الإسلام وبعده. وهذا وذاك، هو ما جعل الشيعة الفرس يعدونها محط العداوة الأول، لدرجة أن أبرز شعارات الثورة الخمينية في أيامها الأولى، كان: (تحرير الحرمين الشريفين من الوهابيين) وقد شهدت سنوات الحرب العراقية الإيرانية محاولات عديدة للإفساد في الحرمين في مواسم الحج باسم هذه الدعوة كما هو معروف.
الحقد على العرب عنصرياً، وعلى السُنة مذهبياً، وصل بالقوم إلى حد الافتراء بأن المهدي الذي سيبُعث في آخر الزمان، سيُعِملُ سيفَ القتل في العرب حتى يبيدهم (3) ، بل إنه ـ في زعمهم الحقود ـ سوف ينتقم من سادة الإسلام من قريش، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر (4) ، بل يعتقدون ـ قاتل الله عصبيتهم ـ بأن ذلك المهدي، سيهدم الحرمين الشريفين عندما يخرج، ويعيدهما إلى حجميهما اللذين كانا عليه في عهد النبوة (5) ، وما ذاك إلا اعتقاداً منهم بأن كل التوسعات التي حدثت في عهود الخلفاء (غير الشرعيين كما يعتقد الشيعة) من غير الأئمة الاثني عشر، هي توسعات باطلة؛ والمعترف به فقط في أرض الحرمين، هو (مراقد أهل البيت) وقبورهم التي يريد هؤلاء (إحياء العبادة) فيها، حتى إن مرجعهم الديني الكبير (محمد رضا الشيرازي) بدأ منذ مدة، تدشين ما سماه: (دعوة عالمية لإعادة تشييد مراقد أئمة البيت في المدينة المنورة) وقد دعا من خلال موقعه على الإنترنت (مؤسسة الشيرازي العالمية) إلى عقد مؤتمر عالمي للدعوة إلى إحياء قبور الأئمة المعصومين في البقيع. وهم يقصدون بالأئمة هنا أربعة على وجه التحديد؛ وهم: (الحسن الزكي، وعلي زين العابدين، والإمام الباقر، وجعفر الصادق) ، أما غيرهم من أئمة الخلفاء وكبار الصحابة، فكل من يعرف عقائد الشيعة؛ يوقن بأنهم سيتبنون الدعوة إلى نبش قبورهم وإخراج رفاتهم من البقيع!
وقد اعتبر شيرازيٌّ إيرانيٌّ آخرُ من المرجعيات الكبرى، وهو (صادق الحسيني الشيرازي) عدمَ السماح بإعادة تشييد هذه القبور حرباً على الله ورسوله، ودعا في موقعه أيضاً إلى تكثيف النشاط من أجل تحقيق هذه الغاية. وأيضاً دعا مقتدى الصدر، زعيم التيار الشيعي الصدري في العراق إلى تنظيم حملة عالمية لجمع تواقيع تطالب الحكومة السعودية بإعادة بناء مقابر آل البيت في البقيع على نفقة الحوزات العلمية الشيعية، وقد نقل الموقع الشيعي (يا حسين!) العديد من فتاوى كبار المرجعيات الشيعية عن وجوب العمل لإعادة بناء الأضرحة في البقيع، منها فتوى المرجع الإيراني في العراق (علي السيستاني) التي أفتى فيها بجواز صرف الواجبات المالية الشرعية من أجل إعادة بناء قبور الأئمة في البقيع، وقال: «يلزم السعي في حال التمكن لإعادة بناء قبور أئمة البقيع» . ونقل الموقع فتوى المرجع الديني الكبير في مدينة قم (كاظم الحائري) بلزوم السعي لبناء تلك المقابر، وقال: «إنها من شعائر الدين» !!
ماذا سيكون حال المدينة المنورة بالتوحيد وبرسول التوحيد -صلى الله عليه وسلم- لو وصل هؤلاء إلى (حال التمكن) الذي يتحدثون عنه؟ بل ماذا سيكون حال الحرم الشريف والكعبة المشرفة؛ عند قوم يرون استحباب التوجه إلى قبور الأئمة في الصلاة بدلاً من القبلة؟!
إن الاختلافات الاعتقادية في الغالب الأعم تتحول إلى خلافات سياسية، وتلك الخلافات السياسية قد تتحول إلى مواجهات وأزمات، وربما صدامات، وهذا ما لا يريد أن يفهمه أصحاب مدرسة (التحليل اللاعقدي للأحداث) .
- أزمة الخليج الرابعة: هل تتطور إلى حرب رابعة؟
عندما اندلعت حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، كان للأمريكيين دور بارز في إشعالها واستمرارها لمدة ثماني سنوات، لتصبح أطول حروب القرن العشرين، وأولى الحروب بين العرب والإيرانيين الفرس في العصر الحاضر بدفع من الروم، وقد أراد الغرب من تلك الحرب، أن يُضرَب الإيرانيون بأيدي العرب وأرواحهم وأسلحتهم، التي أُنفقت عليها مئات المليارات من أموالهم!
وانتهت الحرب بلا منتصر ولا مهزوم، بل بطرفين خاسرين قد استُنزفا بسيول من الدماء والأموال، فقلَّت قدرة إيران على (تصدير الثورة) المهددِة لمصالح الغرب في الخليج، وقلَّت قدرة دول الخليج على (استغلال الثروة) في التفرغ للاستقرار والتقدم، وهو ما يهدد مصالح الغرب في الخليج أيضاً، ولكن الذي كثر وزاد، هو الأحقاد بين الطرفين العرب والإيرانيين.
ولم تكد دول الخليج تتعافى من آثار الحرب؛ ولم يلبث العراق أن خرج من دوامة تلك الحرب؛ حتى أُغري الطرفان (دول الخليج والعراق) بأزمة ثانية، تحولت إلى حرب ثانية في العراق، بسبب غزو صدام حسين للكويت، وهي الحرب التي قضت على محاولات التعافي والنهوض في كل من دول الخليج والعراق، وانتقلت الأحقاد بين العرب والفرس، إلى أحقاد بين العرب والعرب بفعل التآمر الصهيو صليبي، لينفرط عقد العرب من يومها في انشغال دائم بخطر صدام، بعد الانشغال بخطر الخميني. لكن أحداً لم ينتبه إلى خطر أمريكا؛ إلا قليلاً، سواء في حرب الخليج الأولى، أو حرب الخليج الثانية، حتى جاءت حرب الخليج الثالثة التي أيقظت النيام، ونبهت العوام، إلى أن أمريكا وحلفاءها هم أُسُّ البلاء ومعدن العداء لأمة الإسلام.
وتجيء هذه الـ (أمريكا) اليوم، ليشعل يهودها وصليبيوها أُوار أزمة رابعة يراد بها هذه المرة أن تعاد الحرب جذعة بين العرب والفرس، استغلالاً لأحقاد الشيعة الفرس على العرب، وعدم قدرة العرب على مداراة الشيعة من الفرس وغيرهم، ولتكون تلك الحرب قضاء على ما تبقى من قوى الطرفين الذين لا يكاد يجمعهما اليوم إلا بعض الصور الشكلية من الدين.
إننا بصدد مواجهة يترجح أن تتفاعل بين أمريكا وإيران، ويُتوقع أن تكون فصولها في مواقع متعددة من بلدان العرب، وقد وقعت منها الآن مواجهتان، إحداهما على أرض العراق، والأخرى على أرض لبنان في الشام، لكن الأخطر هو ما يتعلق بجزيرة العرب من فصول المواجهة القادمة؛ فالنِدَّان التاريخيان يشتركان في مواقف متشابهة من العرب عامة، وعرب الجزيرة خاصة:
3 كل من إيران والصهيو أمريكان يشتركان في بغض العرب عنصرياً.
3 كلاهما يشتركان في عداء أهل السُنة دينياً ومذهبياً.
3 كل من الطرفين يطمعان في مقدرات العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة، والخليجي بوجه أخص.
3 كِلا الطرفين يحتلان أراضي عربية ويطمحان إلى المزيد.
3 لكل من الطرفين أذناب وأتباع من العرب المغفلين أو المنافقين الذين يعملون لحسابيهما، ويمكن استعمالهم في حروب الوكالة وقت الحاجة.
3 ولكل من الطرفين: الإيراني الفارسي، والغربي الأمريكي الرومي، مشروع هيمنة كبرى تعتمد حساباته على أوطان العرب ولا تستبعد جزيرة العرب، فلإيران مشروعها الفارسي الرامي لإعادة الإمبراطورية الفارسية، أو (إيران الكبرى) الممتدة من البحرين إلى لبنان، مروراً بإمارات الخليج والعراق وسورية. والولايات المتحدة لها مشروعها (الإنجلو ساكسوني) الهادف إلى إنشاء إمبراطورية القرن الأمريكي الجديد، انطلاقاً من الشرق الأوسط الجديد.
ولكن الطرفين اللدودين يختلفان اختلافاً مصيرياً في أمور أخرى؛ فالولايات المتحدة ومن معها من دول الغرب والكيان الصهيوني، لا يمكنهم السماح تحت أي ظرف بأن تصبح إيران قوة إقليمية، فضلاً عن أن تكون نووية، ما دامت تحت سلطة حكم دينية، وهم لن يسمحوا لها بأن تنشئ زعامة ثورية للعالم الإسلامي، تستغلها لتنفيذ أَجِنْداتها المصلحية والمذهبية، ولن يفسحوا لإيران الطريق للتوسع شرقاً أو غرباً أو جنوباً أو شمالاً، حيث مناطق المصالح الحيوية لأمريكا والغرب، ولن يسمحوا أيضاً للشيعة عامة، والإيرانيين خاصة أن يمثلوا خطراً ـ ولو مستقبلياً ـ على أمن دولة اليهود، عندما تتضارب مصالح كل من (إسرائيل) وإيران، مثلما حدث في لبنان.
وفي الوقت نفسه لن تسمح إيران لأمريكا بالكعكة كلها فيما تسميه (الخليج الفارسي) .
إن للشيعة في إيران وفي خارج إيران؛ أجنداتهم الخاصة والضيقة، والتي لا تتعدى حدود حاملي الاعتقاد الإمامي الإثني عشري الرافضي، لكن هذا لا يمنع من تلاقي مصالحهم في أحيان كثيرة مع غيرهم، وخاصة إذا كانت على حساب أهل السُنة أو (العامة) كما يقولون؛ فعندها ـ وكما دلت حقائق التاريخ الماضي والمعاصر ـ يمكن أن يتحول قادتهم إلى عسس وعسكر تحت إمرة أعداء الإسلام الظاهرين والباطنين، لأجل تنفيس شيء من الأحقاد التاريخية التي يتوارثونها جيلاً عن جيل ضد أهل السُنة. والأجِنْدة الشيعية الفارسية الخاصة بكل توافقاتها أو تناقضاتها مع الأجندات الأخرى لأعداء الأمة؛ ظلت منذ تفجر الثورة الرافضية مفتقرة إلى قفزة عالية، تكفل لها الاستقلال والاستمرار، مهما تلاقت أو تناقضت مع الأجندات الأخرى. وقد كانت هذه القفزة العالية، هي دخول إيران (الإثني عشرية) إلى الموقع الحادي عشر من بين أعضاء النادي النووي الدولي ... وهنا قال الأمريكيون والأوروبيون والإسرائيليون: إلا هذا!! فالأجندة الشيعية المستقلة إذا كانت قوية ونووية، فإنها توشك أن تثور أو تجور على الأجندات الأخرى الطامحة دونما أي اعتبار لمصالح الآخرين، وهذا ما يفسر إصرار تلك الأطراف الثلاثة (أمريكا وأوروبا وإسرائيل) على التأكيد علناً بأنهم لن يسمحوا لإيران بحيازة السلاح النووي، حتى ولو أدى ذلك إلى المواجهة.
ولا مجال للحديث هنا عن «تمثيلية» بين الطرفين أو بعضهما فيما يتعلق بالملف النووي، ولا مجال لكلام أيضاً عن «عمالة» إيران أو الشيعة لأمريكا أو إسرائيل؛ فعمالة هؤلاء هي لشيء واحد، وواحد فقط، هو الشيعة والتشيع؛ فما يصب في (مصلحة النظام) الشيعي فهو حلال وواجب، وإن كان أنواعاً من الخيانة وأصنافاً من الجريمة، وما يتعارض مع مصلحة النظام الشيعي فهو إجرام حرام، ولو كان من أركان الدين أو مسلَّمات العقل.
- احتمالات الأزمة:
قد تكون المواجهة بين إيران والتحالف الغربي صِداماً عسكرياً، يفضي إلى تدمير القدرات النووية الإيرانية، وقد تكون سلسلة من المواجهات والضغوطات السياسية والاقتصادية التي تقود إلى صفقة لتأجيل أو تجميد البرنامج النووي الإيراني في الجانب المتعلق بتخصيب اليورانيوم. وقد تحدث المفاجأة قبل التمكن من هذين الخيارين، بإعلان إيران أنها نجحت بالفعل في إنتاج السلاح النووي، بعد أن تكون قد أحسنت إدارة معركة الوقت خلال ما تبقى من زمن لإنتاج سلاحها، وهو ـ كما يقول الخبراء ـ: يتراوح بين عام ونصف أو عامين.
لكن من غير المطروح في الاحتمالات أن يتنازل الإيرانيون عن برنامجهم النووي (على الطريقة الليبية) ، أو تغفل أو تتغافل عنهم أمريكا (كما حدث مع كوريا الشمالية) ؛ لكن المهم في كل ذلك، أن أسوأ السيناريوهات هي أقربها خطراً على جزيرة العرب، سواء كان ذلك عن طريق الحرب، أو عن طريق الصفقة، أو عن طريق النجاح في إنتاج أول قنبلة نووية رافضية في وسط انكشاف عربي سُني غير مسبوق، وذلك على ما يلي:
أولاً: سيناريو المواجهة العسكرية:
احتمال المواجهة العسكرية بين أمريكا وإيران، أو دولة اليهود وإيران ليس مستبعداً رغم أخطاره على الجميع؛ لأن الخطر سيكون أكبر في حال تملك إيران للسلاح النووي. وإذا لم تجد أمريكا مفراً من خيار الحرب ـ على خطورته البالغة على المنطقة كلها والعالم ـ فإن الخبراء يؤكدون أن المواجهة العسكرية لا بد أن تكون جوية وقوية وخاطفة، وقد تفوض أمريكا (إسرائيل) في ذلك؛ لتتلافى عدداً من المضار. وقد كشف تقرير نشرته صحيفة (نيويورك) الأمريكية في منتصف مارس 2006م، للكاتب (سيمور هيرش) ؛ أن إدارة بوش تدرس بجدية تنفيذ خطة جرى إعدادها بالفعل، لشن هجوم على المفاعلات النووية الإيرانية، وأن هذا الهجوم نفسه قد يكون نووياً، وقد يتوازى مع الإعلان عن خروج الأمريكيين الاضطراري من العراق، وهو ما سيعده العالم هزيمة أمريكية أمام القوى السنية المجاهدة على أرض الرافدين، حيث سيكون من مسوغات الضربة العسكرية ضد إيران؛ استعادة شيء من الهيبة الأمريكية العسكرية المهدرة على تراب العراق، بالإضافة إلى الهدف الأصلي من تلك الضربة ـ في حال الاضطرار إليها ـ وهو إنهاء حالة القلق المزمن التي تنتاب دولة اليهود من وجود نووي على مقربة منها.
لكن احتمال المواجهة العسكرية سيخلِّف أثراً، ربما يكون هو الأخطر على دول الجوار العربي، وهو أن إيران ستقلب ظهر المجن لهذه الدول، بدعوى ضلوعها في الترتيب لضربها، سواء كانت هذه الدعوى حقيقية أو مزيفة، وهنا قد تكون أول صواريخ الانتقام الإيراني موجهة إلى بعض البلدان الخليجية، كما صرح بذلك الزعيم الشيعي أحمدي نجاد، في تهديده لأمير قطر، كما نشرت ذلك صحيفة الشرق الأوسط في (8/5/2006م) ، وعندها لن تجد دول الخليج مناصاً من الاستجارة من جارتها، إلا بدولة الجَوْرِ العالمي (أمريكا) ؛ حيث لن يضيِّع الأمريكان تلك الفرصة النادرة الجديدة، لتسويق صفقات بمئات المليارات من الدولارات على التسلح الخليجي ضد العدو الجديد: إيران، وهذا قد بدأ من الآن.
ستكون حرب الخليج الرابعة ـ في حال وقوعها ـ حرب أمريكا الرابعة في الألفية الثالثة، بعد حروب أفغانستان والعراق ولبنان، إلا إذا استهدفت سورية قبلها، وستكون حرب إيران فرصة لأمريكا لأنْ تعلن عن بداية النهاية لحكم الآيات في طهران. إلا أن أمريكا لن تفوِّت أيضاً فرصة تكرار عملية ضرب إيران بالعرب، وضرب العرب بإيران، كما حدث في حرب الخليج الأولى، مع فارق كبير هذه المرة، هو أنه لا يوجد ظهير عربي قوي في المنطقة يتولى الدفاع المباشر عن جزيرة العرب، بعد سقوط البوابة الشرقية للأمة العربية (العراق) ! فاللهم رحماك!
أمريكا وحلفاؤها من أعداء العرب والمسلمين، يعلمون جيداً مدى العداوة الفارسية الشيعية للعرب السُنة، وقد عرفوا كيف يوظفون ذلك جيداً في العراق، حينما مكنوا الشيعة العراقيين من الاستفادة من إمكانيات الشيعة الإيرانيين لينفردوا بحكم العراق دون السُنة العرب، ليكونوا تحت ذلة شرطة وجيش الروافض، وهو ما أفضى إلى ما نراه من صراع أهلي بين فئات الشعب العراقي.
الخوف كل الخوف، أن يعمل الأمريكيون وحلفاؤهم، على تكبير صورة ما يحدث في العراق، ليشمل العديد من دول الخليج، حتى ينشغل عرب الجزيرة بفتن النزاعات الطائفية عن أية برامج إنمائية، أو تطلعات استقرار إقليمية، أو حتى جهود خيرية أو إغاثية، من شأنها أن تمثل مصارف نفع لمجتمعات الخليج وما حولها من عوائد الثراء النفطي، ولا بد أن تؤخذ تلك المخاوف مأخذ الجد، في ضوء قول الله ـ تعالى ـ عن الأمريكان وأمثالهم من أعداء المسلمين: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105] .. فهم لا يريدون أن يبقى لهذه الأمة بقية {مِّنْ خَيْرٍ} في ثرواتها، ولا أمنها، ولا تقدمها واستقرارها: {حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} [البقرة: 109] .
وسواء كان (هذا الخير) نفطاً أو غيره، على ضفاف الخليج، أو بطون أرض العراق، أو في أعماق بحر قزوين، أو حتى في إيران نفسها؛ فإن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، لا يريدون على أية حال أن تستفيد الأمة منه بشيء ذي بال. فبترول إيران نفسه، هدف تضع أمريكا عينها عليه على المدى المتوسط أو البعيد، ليضاف بترول الخليج إلى بترول العراق، إلى بترول بحر قزوين القريب من أفغانستان، وربما بترول السودان، ليكتمل بذلك الاستيلاء على جميع منابع الثروة النفطية للأمة الإسلامية. وإذا ما تمكن الأمريكيون من إسقاط الحكومة الدينية في إيران عن طريق سيناريوهات ما يسمى بـ (الفوضى الخلاقة) ؛ فإن الوصول إلى بترول إيران لن يكون بعيداً، في ظل حكومة علمانية إيرانية جديدة. ومعلوم أن هناك خططاً في دوائر الاستخبارات الأمريكية حول ما يسمى بمشروع (تحرير إيران) ، وهو ما يمكن أن يكون الجزء المكمل لسيناريو ما بعد الضربة العسكرية للمفاعلات النووية الإيرانية في حال حدوثها. وقد نشر (وليام كريستول) أبرز رموز المحافظين اليهود الجدد، بل زعيمهم الكبير، ورئيس مشروع (القرن الأمريكي الجديد) مقالاً في مجلة (ويكلي ستاندارد) في شهر مارس 2004م بعنوان (نهاية البداية) قال فيه: «إن معركة تحرير العراق، كانت كبرى المعارك من أجل مستقبل الشرق الأوسط، وإن المعركة الكبرى التالية، هي معركة (تحرير إيران) ؛ لأن إيران أكبر عقبة في طريق إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير» ، وقال: «لو ذهبت إيران، فسوف تحدث تغييرات إيجابية مساندة للغرب، في كل من سورية والسعودية» .
لكنَّ هناك شروطاً، اعتبرها الخبراء الاستراتيجيون ضرورية لنجاج أية ضربة عسكرية ضد إيران:
أحدها: امتلاك أمريكا وحلفائها معلومات دقيقة عن مواقع المفاعلات النووية الإيرانية، التي تبلغ 400 موقع، بعضها في تحصينات مسلحة تحت الأرض.
والثاني: القدرة على مباغتة السلاح الجوي الإيراني قبل أن يبادر بالرد، وقبل أن تستخدم إيران ما لديها من صواريخ وأسلحة غير تقليدية.
والثالث: توفير غطاء ـ ولو شكلياً ـ من الشرعية الدولية من خلال المنظمة الأممية؛ لتوجيه تلك الضربة، وكذلك شرعية من الكونجرس الأمريكي.
والرابع: ضمان عدم تعريض القوات الأمريكية في العراق لخطر انتقام شيعي إيراني عراقي.
والخامس: ضمان عدم تعريض الدولة اليهودية لخطر هجوم إيراني مباشر عن طريق الضربات الصاروخية الإيرانية، أو غير مباشر عن طريق تفعيل الجبهة ضد تلك الدول من خلال حلفاء إيران في سورية أو لبنان.
ولعل هذا الشرط الأخير وحده هو الذي جرى ـ إلى حد ما ـ ضمانه من خلال ما حدث في حرب لبنان.
وإذا ما توافر قدر كافٍ من هذه (الضمانات) فلا يستبعد أن تستغل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى تدبر أو تمرر حدوث عمل (إرهابي) كبير في وقت ما، في مكان ما، لتتهم إيران بأنها تقف وراءه، وعندها يكون العد التنازلي للضربة قد بدأ.
ثانياً: سيناريو الصفقة على حساب العرب:
قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية لإجهاض البرنامج النووي الإيراني، دونه مشكلات جمة، ولهذا قد تحوِّل الولايات المتحدة لغة القوة إلى لغة السياسة ولو كانت خشنة، مع شيء من التهديدات والتلويح بالعقوبات. والمخاطر التي يمكن أن تدفع باتجاه العدول عن المواجهة العسكرية متعددة، منها: أن التهديد النووي الإيراني ليس قريباً إلى الدرجة التي تضمن موافقة الكونجرس الأمريكي على إعطاء الإذن بشن الهجوم، وإذا لم يعطِ الكونجرس موافقته، فإن قرار الحرب لن يكون دستورياً، ومنها: أن الأمم المتحدة أيضاً لن يكون سهلاً لها أن تعطي غطاء شرعياً لتلك الحرب للسبب نفسه، ومنها: أن إيران تستطيع أن تضرب مناطق إنتاج النفط في الخليج، وتقوم بإغلاق مضيق (هرمز) الذي تمر منه ناقلات البترول بين الشرق والغرب، ومنها: أن أسعار النفط المرتفعة ستجعل الغرب حذراً من أي مغامرة تزيد في ارتفاع أسعاره، ومنها: أنه لا توجد رغبة لدى الرأي العام الأمريكي للتورط في نزاعات جديدة قد تكون أكثر دموية وأكثر كلفة على الشعب الأمريكي، ومنها: أن أمريكا تعلم أن التحالف الذي تحاول إقامته ضد إيران، هو تحالف هش؛ لعدم تحمس أوروبا ـ باستثناء بريطانيا ـ لضربة عسكرية، وكذا معارضة الصين وروسيا لها، إضافة إلى عدد لا يستهان به من بلدان العالم الإسلامي والعالم الثالث، ومنها: أن الخيار العسكري قد لا يفضي إلى القضاء الكامل على البرنامج النووي الإيراني، وفي حال الفشل في تحقيق أهداف الضربة، فإن إيران ستكتسب المشروعية الكاملة في حقها في تملك الردع النووي ضد من هاجموها، ومنها: أن الهجوم العسكري على إيران سيفتح آفاقاً جديدة في مهمة الحرب العالمية الأمريكية على ما تسميه بـ (الإرهاب) هي في غنىً عنها، حيث ستضاف قائمة بجماعات شيعية معادية ومحاربة، إلى جانب الجماعات السُنية التي لم تستطع أمريكا أن تسجل عليها نصراً حتى الآن.
فالمواجهة العسكرية، مع كل هذه المحاذير، لن تكون خياراً وحيداً، إلا إذا شعر الأمريكيون وحلفاؤهم، أن الأمر يوشك أن يفلت من أيديهم، وتتحول إيران بالفعل إلى قوة إقليمية ضاربة.
وحتى فرض العقوبات على إيران مع الاكتفاء بذلك، لن يكون كافياً وحده في حل الأزمة، بل لن يكون الوصول إلى قرار بشأنه سهلاً من خلال مجلس الأمن؛ لأن بعض الأعضاء الدائمي العضوية في مجلس الأمن كروسيا والصين ليسوا على وفاق في شأن هذه العقوبات، والقرار بالعقوبات لن يصدر إلا بموافقة الجميع. وحتى لو فرضت العقوبات؛ فإنها قد تلحق الضرر بقطاع الطاقة الإيراني، بما سيؤدي إلى رفع الأسعار عالمياً، ومن ثَم إلحاق الضرر بالغرب نفسه.
- بين الصفقة والصفعة: أين العرب؟!
داخل الإدارة الأمريكية نفسها، هناك فريقان مختلفان في طريقة التعامل مع إيران؛ فالمؤيدون للضرب والصفع ـ وأكثرهم من عملاء دولة اليهود داخل الإدارة الأمريكية ـ يرون ضرورة اللجوء للقوة لحسم المشكلة الإيرانية من جذورها كما حدث في أفغانستان والعراق. وهناك فريق آخر يرى أن الأفضل لأمريكا أن تتعاون مع إيران النفطية القوية في المرحلة الحساسة العاجلة، بدلاً من خسارتها بسبب ملفات نووية آجلة يمكن تفادي خطرها بخطط أخرى.
إن الأفعى الأمريكية اليهودية، تعودت على ألاّ تهاجم الصيد القوي، إلا بعد أن تلدغه بسُم قاتل ولو كان بطيئاً، فإذا سرى السم في أوصال الفريسة وضعفت عن المقاومة، أقدمت الحية لتصارعها في حال احتضارها؛ لتثبت أنها حية. والمعتقد أن الأفعى الأمريكية ستلدغ إيران بسم الصفقات والتوريطات، قبل أن تفترسها بالهجمات والضربات. والصفقة السُم يجري الحديث عنها منذ شهور طويلة، ومع هذا لم يفصح عن كامل تفاصيلها، إلا أن المعلن منها، أن (المجتمع الدولي) سيساعد إيران، في حال تخليها عن برنامجها النووي، في إنتاج ما تحتاجه من الطاقة النووية السلمية لتوليد الكهرباء التي تعلن أن برنامجها هو لأجلها، ومن عروض الصفقة: أن المجتمع الدولي سيساعد إيران على الالتحاق بمنظومة الاقتصاد العالمي، وتقدم لها في ذلك التسهيلات بدلاً من العقوبات، إضافة إلى الاعتراف بها كقوة لها دور محوري في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، يشبه دورها زمن الشاه، عميل أمريكا القديم.
ومن الواضح أيضاً، أن الصفقة تتضمن إطلاق يد إيران في العراق، لتنفيذ مشروع التقسيم القديم، الذي سيجعل جنوب العراق الشيعي شبه تابع لإيران؛ في مقابل أن تضمن إيران لأمريكا مصالحها في العراق، وتحارب بالنيابة عنها المجاهدين من العرب السنة والأكراد السنة. ولكثرة تكرار الاتصالات الخيانية سابقاً بين أطراف إيرانية وأطراف أمريكية بشأن مصالح مشتركة بينهما ـ كما حدث في شأن أفغانستان والعراق باعتراف الطرفين ـ فإن الفريق الذي شارك في تلك الاتصالات في السابق يمكن أن يكون جاهزاً لإبرام الصفقة الجديدة التي ستكون في حال إبرامها صفقة الخيانة والخداع. فهي ستكون خيانة من جانب إيران للعرب والمسلمين السُنة؛ لأنها ستكون على حسابهم هم فقط، ومن جهة أخرى ستكون صفقة خداع من الأمريكيين للإيرانيين؛ لأنها ستكون السُم الذي ستلدغ به الحية، ريثما يسري الوهن في أوصالها. فهذه الصفقة الخادعة؛ ستنزع عن إيران سلاح التشدد الذي تستخدمه من أجل التعبئة الوطنية والقومية، وهي ستفقدها ثقة وثقل حلفائها الثلاثة الداعمين لها: روسيا والصين وكوريا الشمالية، وستورطها معهم؛ حيث إن مجرد توجه إيران للتنسيق مع أمريكا سيعني عند هؤلاء تضحية إيران بمصالحهم على عتبة المصالح الأمريكية، وستضعف الصفقة إيران أيضاً عندما تتركز ضربات المجاهدين السُنة ضد عملائها في العراق، وربما في غيرها، بعد أن يفرغ الأمريكيون الساحة لإيران وينسحبوا مهزومين من أرض الرافدين.
- لكن الإشكال الأكبر:
هو أن كل الاحتمالات الثلاثة الواردة، فيما يتعلق بنهاية أزمة الخليج الرابعة والراهنة؛ يبدو أن نتائجها المخطط لها ستكون على حساب العرب السُنة، وبخاصة في العراق وجزيرة العرب. فالضربة العسكرية إذا وقعت، ستكون بداية لمواجهات عسكرية انتقامية من إيران ضد العرب الذين (تحالفوا) مع الأمريكان كما ستقول إيران، وإذا تجاوزت إيران الخط الأحمر بإعلان النجاح في إنتاج القنبلة النووية؛ فسيكون ذلك بداية ابتزاز غير مسبوق للعرب السُنة من موقع القوة الفارسية الشيعية، وكذلك فإن احتمال إبرام صفقة، لن يكون إلا على حساب العرب؛ لأن تسليم العراق لإيران بموجب تلك الصفقة (مؤقتاً) ستجعل كل مخططات إيران ضد العرب وجزيرة العرب قيد التنفيذ، إلا إذا تصدت لها الدول العربية والمقاومة السُنية. وهو لن يعني إلا الدخول في حرب إقليمية طائفية، لا يعلم إلا الله كيف ومتى تنتهي.
إن ثنائية الخطر المتوقع ـ الصهيو أمريكي، والفارسي الشيعي ـ على عموم العرب وعلى جزيرة العرب، لا ينبغي أن يشغلنا بأحد الخطرين عن الآخر، أو يفرض علينا أن نطيل الاختلاف حول أشد الخطرين وأول التحديين؛ فالخطر ماثل من الاثنين معاً، ولا بد من التنبه والاستعداد للاثنين معاً؛ فمثلما هو الحال في العراق، وجد العرب السُنة أنفسهم في مواجهة الخطرين معاً، وكان قدرهم أن يتعاملوا مع كل منهما بما يناسبه؛ لأن الإغضاء عن خطر والانشغال بغيره، سيمكِّن الطرف المشغول عنه من الوصول إلى غايته وأهدافه. وغاية أهداف الطرفين ـ كما سبق التفصيل ـ هو فرض حالة جديدة من الذلة المستمرة والضعف الدائم على أهل السُنة في موطن قوتهم، وموضع منعتهم، وفي حصنهم الأخير ... جزيرة العرب.
وأختم هذه الحلقات عن أزمة الخليج الرابعة بتلك الوقفات:
3 لفداحة خطر هذا الاحتمال الوارد في استهداف جزيرة العرب، لا ينبغي الاعتماد في كيفية مواجهته على اجتهاد واحد، بل ينبغي أن تتلاقح أفكار الحكماء والعلماء والعقلاء من كل الأطراف على مواجهة ذلك الخطر.
3 الخطران الماثلان من إيران وأمريكا ليسا مستبعدَيْن، ولهذا لا ينبغي أن نغرق في تفاصيل: أيهما أخطر؟ وبأيهما نبدأ؟ على طريقة الجدل الحاصل عن (العدو القريب والعدو البعيد) و (العدو الظاهر أم الباطن) ... فكلا الخطرين حقيقة، وإن كانت تتفاوت بحسب الاعتبارات المختلفة.
3 هناك خطر ثالث غير خطر إيران والصهيوأمريكان، وهو خطر المنافقين، إلا أنه خطر تابع ذليل لا فاعل أصيل، فالمنافقون؛ وإن كانوا أعداء، بل أخطر الأعداء كما قال الله ـ عز وجل ـ: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] ؛ إلا أن خطرهم مرهون ببقاء وقوة من يستندون إليهم، ولهذا ينبغي التركيز على الأعمدة التي تستند إليها تلك الخُشُب المسنَّدة؛ فإنها ستنهار بانهيارهم.
3 نصائح البعض بضرورة تناسي الخلافات، وعدم إثارة النعرات، شيء جيد لو عملت به الأطراف الأخرى أىضاً، أما أن يُطالب أهل السنة فقط بإدارة الخد الأيمن والأيسر معاً؛ فإن هذا كان من أسباب الاستهانة بهم من كل الأطراف. وعلى من يطالب بتناسي الخلافات مع الروافض دون أن يملك إلزامهم بقيد شعرة من ذلك؛ أن يُطالب أيضاً بتناسي الخلافات وتجاوز النعرات مع مَنْ يتصدون اليوم للدفاع عن الأمة في ساحات النزال.
3 الأمريكان ليسوا سواء، والأوروبيون ليسوا سواء، وكذلك أهل إيران ليسوا سواء، ولكن الإشكال أن المتنفذين في كل هذه الأطراف هم الأسوأ، وهم الأكثر قدرة على الفعل، ولهذا لا ينبغي التحصن خلف الخطاب العاطفي الخيالي غير الواقعي، الداعي إلى (الاعتراف بالآخر) و (حسن الظن بالآخر) ، وإلقاء كل التبعة على الأخ الآخر.
3 جَهَلَةُ المثقفين من العلمانيين والقوميين وبعض المتحمسين من الإسلاميين؛ لا ينبغي أن يظلوا هم فقط لسان حال الأمة في حربها وسلمها، وولائها وبرائها؛ فقد أظهرت أحداث لبنان الأخيرة، أن لا شيء عند القوم ثابتاً، ولا حتى مبادئ القومية، ولا العلمانية ولا الشرعية، وأمثال هؤلاء الذين زمّروا وطبّلوا لزعيم شيعة لبنان حتى جعلوه (رمز كرامة الأمة) لا يستبعد أن يجعلوا (نجاد) غداً، الأمل الوحيد للمستضعفين، والبطل الجديد لأمة التوحيد!
__________
(1) رواه أبو داود في سننه عن ثوبان، رقم (2497) ، وصححه الذهبي في ميزان الاعتدال (2/295) ، وقال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: (صحيح بمجموع طرقه) ، رقم (958) .
(1) في كتبهم المتداولة نص ينسبونه للأئمة: (خذ مال الناصب ـ يعني السُني ـ وكل شيء يملكه حلال) !، تهذيب الأحكام للطوسي (2/48) ، و (وسائل الشيعة) للعاملي (11/60) .
(2) راجع مقال: (وماذا عن التكفيريين الشيعة؟) للكاتب، وهو منشور على شبكة الإنترنت في العديد من المواقع الإسلامية.
(3) في تفسير العياشي الشيعي (2/58) وكتاب (بحار الأنوار) للمجلسي (52/342) ، أن الناس يعجبون من كثرة القتل الذي يُعمله المهدي في العرب، حتى يقولوا: «لو كان محمدياً ما فعل، ولو كان علوياً ما فعل، ولو كان فاطمياً ما فعل» ! وفي كتاب الغيبة للنعماني ص 155، وبحار الأنوار (52/349) ينسبون للأئمة: «ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح» ، وفي الغيبة للنعماني أيضاً ص (284) ، وبحار الأنوار (52/333) : «اتق العرب؛ فإن لهم خبر سوء، أما إنه لن يخرج مع القائم منهم واحد» .
(4) في كتابهم (بحار الأنوار) (53/104 ـ 105) : أن أحدهم حدَّث عن المهدي فقال: «أتدري أول ما يبدأ به القائم؟ أول ما يبدأ به يُخرِج هذين ـ يعني أبا بكر وعمر ـ رطبين غضين فيحرقهما ويذريهما في الريح، ويكسر المسجد» .
(5) في كتاب الغيبة للطوسي ص 282، وبحار الأنوار للمجلسي (52/338) : «إن القائم يهدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه، ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وآله، إلى أساسه» !!.(229/17)
حزب الله ... على أي أساس يقاتل
عبد المنعم شفيق
في الحرب العراقية الإيرانية وقف أحد العلماء الإيرانيين على جبهة القتال يُذكّر المقاتلين باستقبال الحور العين للشهيد حين يسقط على الأرض مضرجاً بدمه، فصرخ فيه أحد الجنود قائلاً: دع الحور العين لك أنت وحدك، أما أنا فحدثني: كيف وأين أرى الإمام الحسين؟!
يعلق أحد منظري حزب الله على هذه القصة فيقول: وهذا ـ أي رؤية الحسين ـ هو ما يردد الرغبة فيه كل شهداء المقاومة الإسلامية، وما يأملون في الحصول عليه، ويقاتلون في سبيله، ويرونه ثمناً لبذل دمهم وحياتهم!!
[وضاح شرارة ... دولة حزب الله (لبنان مجتمعاً إسلامياً) 282]
هذه إشارة أولى نلتقطها في البداية.
الإشارة الثانية نلتقطها من حديث ما بعد الحرب الأخيرة على لبنان، ومن أحد كبار مساعدي مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي، ورئيس تحرير صحيفة كيهان، وهي الصحيفة اليومية الرسمية في إيران، وهو حسين شريعتمداري في افتتاحية له في مطلع شهر أغسطس 2006م تحمل عنوان (هذه حربنا) حيث يقول: إن حزب الله لا يقاتل من أجل السجناء، ولا من أجل مزارع شبعا، أو حتى القضايا العربية أياً كانت في أي وقت؛ وإنما من أجل إيران في صراعها الحدودي لمنع الولايات المتحدة من إقامة شرق أوسط أمريكي!!
ثالثة الإشارات أو ثالثة الأثافي جاءت عقب وقف إطلاق (النار) وبعد (صمت أفواه المدافع) مباشرة، نلتقطها من (الخطاب الساخن) للرئيس السوري بشار الأسد حين قال: إن المعركة الحقيقية ابتدأت الآن، وعلينا أن نحول النصر العسكري إلى نصر سياسي، وقال: إن المقاومة ليست نقيضاً للسلام؛ بل هي والسلام جزء واحد!!
الإشارات الثلاث السابقة ترسم لنا ثلاثة خطوط متوازية تسير في اتجاه واحد ... إلى هدف واحد، وتكشف في الوقت نفسه وبوضوحٍ شديدٍ معالم الأيدولوجيات والاستراتيجيات والتحالفات المستدامة، أو ما يمكن أن نسميه (عقيدة التثليث الجديدة) وأهدافها في المنطقة.
ü حزب الله ... التوسع بالذبح:
في هذا الحاضر الذي تمخض عنه تحولات ضخمة تؤثر في الحاضر والمستقبل معاً، لا ينبغي لنا أن نستدعي (كل) التاريخ؛ لأن ذلك سيغرقنا فيه، وسينسينا ما ألمّ بنا وما هو في قابل أيامنا، بيد أن التذكير بجزء من (التاريخ القريب) هام لتنشيط الذاكرة التي لم تعد تحتمل مزيداً من المآسي المتلاحقة والمستفحلة، والتي لا ينبغي لها أن تُنسى رغم مرارة الآلام.
ففي 14/5/1986م نقلت (صحيفة النهار) اللبنانية عن محمد حسين فضل الله، وهو الأب الروحي لحزب الله، وهو يخاطب جمهور المصلين في مسجد بلدة النبي عثمان قائلاً: وعلينا أن نخطط (للحاضر) و (المستقبل) لنكون (مجتمع حرب) . إنّ الحرب هذه مفروضة؛ شأن كل الحروب التي يحل خوضها للإماميين! ولا يحل لهم خوض غيرها. ا. هـ.
فالعقيدة الشيعية قائمة كلها على المصائب واستدعائها، وتكرار المآسي، والنواح على المصائب، والاحتفال غير المنتهي بها، ويرون ألا نهاية لمصائبهم إلا بخروج مهديِّهم الذي ينتقم لها ولهم (1) .
يقول صاحب (دولة حزب الله) : وإذا غدا استمرارُ الثورة ـ يقصد الثورة الإيرانية ـ ودوامها من بعد حدوثها إنجازَ الثورة الأعظم، وجبَ تجديد الإنجاز كل يوم، والقيام بالثورة من غير انقطاع ولا تلكؤ، ولا يرتب تجديد الإنجاز حين تتصل الثورة الإسلامية الخمينية بين كربلاء وبين ظهور المهدي إلا إظهار الدلائل على قيام الثورة، وحفظ معناها، والحؤول بين هذا المعنى وبين الاضمحلال والضعف، ولا يتم ذلك إلا (بالإقامة على الحرب وفي الحرب) وينبغي لهذه الحرب أن تكون الحرب الأخيرة ولو طالت قروناً؛ لأنها تؤذن بتجديد العالم كله، وطيّ صفحة الزمان! ص (276) .
إذن نحن لا نستطيع بأي حال، ببراءة كانت أو بسذاجة أو بعاطفة أو تناسٍ، أن نقتلع ما يقوم به حزب الله أو حزب الدعوة أو حزب الفضيلة، أو منظمة بدر، أو غيرهم من الأحزاب والمنظمات الشيعية من هذا السياق العقدي القائم على (التوسع بالذبح) ، ولذلك لم يكن مستغرباً أبداً ألا يستنكر أو يندد (سيد المقاومة) حسن نصر الله بما يقوم به إخوانه في العراق من (ذبح) مئة ألف سني، و (تعذيب) المعتقلين، و (حرق) المساجد، و (تخريب) البيوت، و (تشتيت) الناس خارج قراهم ومدنهم، كل هذه (المصائب) التي جرّها إخوة نصر الله على العراقيين لم تحرك له ساكناً، بل اصطفّ وراءهم، ووصف المقاومين العراقيين بأن نصفهم صداميون والنصف الآخر تكفيريون (1) . أليسوا مقاومين لأمريكا وعملاء أمريكا وأذناب أمريكا، كما تقاوم أنت أمريكا وعملاء أمريكا وأذناب أمريكا؟!
ولا يعقل أن المطالبة بتحرير عميد الأسرى سمير القنطار أهم من حفظ الدم السني المسال في العراق! ولا يعقل كذلك أن من يدافع عن القضية الفلسطينية ويدعم القضية الفلسطينية ويدندن حول القضية الفلسطينية، يترك أهل المخيمات الفلسطينية في العراق يذبحون ويُهجَّرون على أيدي إخوان الطائفة والمرجعية الواحدة!!
وكيف يفسر حسن نصر الله قَصْرَ مطالبته بتحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الصهيونية، وينسى أن يطالب سوريا، وهي الجارة والحليفة، بأن تفرج عن المعتقلين السياسيين من الإسلاميين والشرفاء؟
كما ينسى أن يطالب إيران ولو بالكف عن سوء معاملة أهل السنة، والسماح لهم ببناء مسجد واحد على الأقل في طهران.
كل هذا وغيره يجعلنا نشكك وبقوة في نوايا حزب الله اللبناني وقيادته، ومشروعه، وارتباطاته وتحالفاته.
ü أبعد من الأسرى ... وأهم من شبعا:
يرتبط حسن نصر الله وأحمدي نجاد بعلاقة صداقة قديمة، فقد تدربا سوية ـ حسب مصادر أوروبية ـ في بلد آسيوي على أعمال استخباراتية، ثم عندما أصبح نصر الله أميناً عاماً لحزب الله جاء نجاد إلى لبنان مشرفاً على (مؤسسة الشهداء الإيرانية) ، وعندما تم تنصيب نجاد رئيساً لإيران العام الماضي حضر نصر الله مراسم الاحتفال، ثم قفل عائداً إلى لبنان سريعاً، بعد ثمانية أيام كاملة في إيران!! ويبدو أن يوماً واحداً لم يكن كافياً للتبريك وتبادل القبلات والأشواق.
ونبقى مع نصر الله أيضاً، ففي يوم الجمعة 25/22/2005م، وفي (حفل) أقيم في ضاحية بيروت الجنوبية بمناسبة (تسلم جثث) ثلاثة مقاتلين من حزب الله، قال حسن نصر الله: «حقنا الطبيعي أن نأسر جنوداً (إسرائيليين) ، ومن واجبنا أن نفعل ذلك لمبادلتهم بلبنانيين لا يزالون معتقلين في (السجون الإسرائيلية) » ، وقال: «إن إسرائيل اعتقدت أن لبنان تغير، وسوريا خرجت منه، وخروج هذه القوات بحسب فهمها أضعف المقاومة وإرادتها» . وأكد على أنه: «يجب أن يفهم كل العالم أن المقاومة الإسلامية ستواصل الطريق حتى تحقق الأهداف، وحماية الوطن مهما كانت التضحيات» .
وقد وفّى نصر الله بوعده، كما عهدته جماهير الأمة العربية، وضحّى بأكثر من 1300 لبناني، وبضعة وستين مقاتلاً من حزبه البالغ عدده 8000 مقاتل!!
أما إيران فإنها حسب قول علي لاريجاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني: (وضعت سيناريو للرد) على محاولات إجبارها على التخلي عن تخصيب اليورانيوم، وخططت لـ (جر المنطقة إلى حرب) حسب تعبيره حينذاك. و «هذا تماماً ما تداولته الأوساط الدولية من سيناريو حرب إقليمية لإشعال المنطقة تستدرجها طهران وتستفزها سورية» بما «يقتضي تفجير العلاقات اللبنانية ـ اللبنانية، الطائفية منها والحزبية، واختلاق مشاكل على الصعيد اللبناني الداخلي» .
لو أضفنا كلام علي لاريجاني، إلى ما صدّرتُه في المقدمة من كلام حسين شريعتمداري حين وضح لماذا يقاتل حزب الله، ثم راجعنا كلام حسن نصر الله في بداية الحرب حين قال: إن (قواعد اللعبة) قد تغيرت، وهي ما يعني وجود (قواعد متفق عليها) ، ووجود (اتفاق على اللعب بالمنطقة) ، لأدركنا بوضوح وجلاء أن ما كان تاريخاً أصبح واقعاً، وأن الواقع صنع في التاريخ، وأن المنطقة الآن توشك أن يكتمل فيها الهلال الشيعي من البحرين حتى لبنان.
وينبغي لنا هنا أن نتساءل: لماذا مقاومة حزب الله غير دائمة طالما أن هناك عدو ينبغي أن يزول، كما هو الحال في فلسطين والعراق؟ الأهم من ذلك، أنها لا تأتي إلا متزامنة مع ظروف سياسية، ومع الحاجة إلى أوراق جديدة لفك أزمة أو تحريك جمود في المواقف، ولماذا توقفت (الحرب المفتوحة) التي أعلنها نصر الله فجأة؟ رغم أن جيش العدو الصهيوني مازال موجوداً في الجنوب، وحصاره البحري والجوي ما زال قائما ًحتى هذا اليوم (13/8/1427هـ ـ 5/9/2006م) ، وأصبح أقصى ما يريده حزب الله هو قرار دولي لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، أين ما قاله نصر الله: «حرب مفتوحة ... أردتموها حرباً مفتوحة؟ نحن ذاهبون إلى الحرب المفتوحة ومستعدون لها ... إلى حيفا وإلى ما بعد حيفا» ؟! ولماذا لم تُضرب المنشآت الكيماوية في حيفا؟ ولماذا لم تُقصف تل أبيب طالما أنها في مرمى صواريخ حزب الله؟ ثم لماذا يقاتل حزب الله دفاعاً عن مزارع شبعاً وهي أرض سورية؟ ولماذا يذبح اللبنانيون من أجل مزرعة جارهم الصغيرة، ويسكت الجار عن كامل الجولان المحتل؟!
والقواعد التي ذكرها نصر الله يقصد بها اتفاق التفاهم الذي تم قبل الانسحاب الصهيوني من الجنوب، والذي كان أبرز بنوده ما تم نشره بعد تسريبه في صحيفة (شبيجل) الألمانية يوم 13/6/2004م، وكما جاء في نص الوثيقة التي وصلتني نسخة مترجمة لها كانت بنود الاتفاق كما يلي:
المرحلة الأولى من الاتفاق: تشكيل لجنة أمنية من ميليشيات حزب الله وجيش دفاع العدو لوضع خطة ميدانية لترتيب عملية انسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي، بإشراك بعض الضباط الأمنيين في الجيش اللبناني الذين يختارهم الحزب.
المرحلة الثانية: بند (أ) : يقوم الجيش الإسرائيلي بسحب قواته كافة من كامل الأراضي اللبنانية والحزام الأمني إلى الحدود الدولية، في مدة لا تتعدى ثلاثة أشهر، تحت إشراف ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وفقاً للقرارات الدولية المتعلقة بجنوب لبنان، وإنهاء حالة الحرب هناك. كما يقوم جيش الدفاع الإسرائيلي بحل وتفكيك ميليشيات جيش لبنان الجنوبي، ولا يشمل الانسحاب مزارع شبعا على أساس أنها أرض سورية، مرتبطة أمنياً بهضبة الجولان، وأمن دولة العدو.
فقرة (ب) : تقوم ميليشيات حزب الله بتسلم المواقع العسكرية والأمنية من جيش الدفاع الصهيوني، وجيش لبنان الجنوبي فوراً بعد إخلائها، للحيلولة دون وقوعها بأيدي منظمات فلسطينية أو إرهابية معادية للصهاينة.
فقرة (ج) : يتعهد جيش العدو إطلاق سراح أسرى ميليشيات حزب الله ممن استكمل معهم التحقيق، على أن يتم إطلاق الشيخ عبد الكريم عبيد (وهذا أطلق سراحه في مرحلة لاحقة بعد تسوية وضع الطيار الإسرائيلي) وسيقوم الوسطاء الألمان بمعالجة هدا الملف.
فقرة (د) : يتعهد الجيش الإسرائيلي بعدم استهداف أعضاء أو مؤسسات تابعة لهذا الحزب، وأن يسمح للحزب بتحريك أسلحته الثقيلة في المنطقة الحمراء للحفاظ على الأمن والهدوء.
فقرة (هـ) : أن تعمل ميليشيات حزب الله على الانتشار في المنطقة الحمراء كلها (الحزام الأمني) حتى الشريط الحدودي بين لبنان ودولة العدو، وإحلالها مكان ميليشيات جيش لبنان الجنوبي بعد حل الأخرى.
فقرة (و) : أن يعمل الحزب على ضمان الأمن في هذه المناطق التي ستصبح تحت سيطرته، وذلك (بمنع المنظمات الإرهابية من إطلاق الصواريخ على شمالي الأرض المحتلة) ووقف التسلل، واعتقال العناصر التي تهدد أمن حدود إسرائيل الشمالية، وتسليمهم إلى السلطات اللبنانية لمحاكمتهم، كما يتعهد الحزب بمنع الأنشطة العسكرية وغير العسكرية لمنظمات إرهابية فلسطينية أو لبنانية معادية في المنطقة الحمراء، ويتعهد حزب الله بالمساعدة في جمع وتقديم المعلومات عن الطيار الإسرائيلي (كوخاي) الذي اختفى في لبنان أثناء الحرب.
فقرة (ز) : تُنسق الحكومة اللبنانية والسورية مع حزب الله على تنفيذ الاتفاق، كما تتعهد إيران، بكونها المرجع والمؤثر القوي لحزب الله، بضمان الاتفاق والمساهمة الفعالة في تثبيت الأمن في هذه المنطقة، وتتعهد الحكومة اللبنانية والسورية (بعدم ملاحقة أو محاكمة أعضاء جيش لبنان الجنوبي) ، وأن تقدما المساعدة على دمجهم بالمجتمع، وتوفير المساعدة والحماية اللازمتين لمن يرغب منهم العودة إلى بيته. وبناء عليه ستقوم كل من إيران وأمريكا بالسعي لحل مشكلة الأموال الإيرانية المجمدة في الولايات المتحدة التي تطالب بها إيران. ا. هـ.
وعندما كان صبحي الطفيلي الأمين العام الأول لحزب الله يردد دائماً مؤخراً أن المقاومة اللبنانية تحولت إلى حامية لحدود الصهاينة الشمالية، كان معظمهم يعد ذلك تصفية لحسابات قديمة بين الرجل والحزب الذي أقيل من رئاسته.
ما قاله الطفيلي شهد به الصهاينة لحزب الله، فقد امتدحت جريدة (هآرتس) في 6/7/2006م، الأمين العام للحزب بسبب عقلانيته وتحمله للمسؤولية، وأنه حافظ على الهدوء في الجليل الأعلى بشكل أفضل من جيش لبنان الجنوبي، وهو اليوم يتعقل فلا يضرب المنشآت الحيوية للصهانية كما صرح بذلك.
ولقد كان (استدعاء الحرب) من قبل سوريا وإيران، وإحراق لبنان يهدف إلى إيصال عدد من الرسائل الملوثة بالدم والمعطرة برائحة الموت إلى عدد من الأطراف في المنطقة والفاعلة فيها، ومن هذه الرسائل:
أولاً: على الجانب السوري:
الرسالة الأولى: أن دمشق بعد الانسحاب المهين من لبنان بقرار دولي؛ والحديث عن أن سورية أو حلفاءها في لبنان، لم يعد لا لها ولا لهم أي تأثير في الشأن اللبناني؛ أرادت أن تثبت للجميع لبنانياً وعربياً و (إسرائيلياً) ودولياً أنها ما زالت ممسكة بأهم أوراق اللعبة في لبنان، وأن بيدها تحريك أدواتها في لبنان متى شاءت، وأنها تستطيع أن تجر على لبنان ما هو أكثر من سجالات أو فتنة سياسية ومناطحات حزبية بين مُواليها ومعارضيها. وهذه كانت رسالة موجهة إلى الداخل اللبناني في المقام الأول.
الرسالة السورية الثانية: كانت موجهة إلى الجانب الصهيوني، والتي جاءت واضحة في شقها الأول بأن سوريا مازال لديها القدرة على إزعاج العدو بشكل يهدد أمنها ومواطنيها ومستوطناتها؛ وذلك بتوجيه الأوامر لحزب الله بافتعال أزمات متكررة تبقي الصداع الصهيوني مستمراً، كما أن السلاح الإيراني سيظل سيتدفق على حزب الله عبر الحدود السورية، وقد فهم العدو هذه الرسالة فلم توقف الحرب حتى دكت أغلب البنى التحتية العسكرية والتعليمية والصحية والمؤسسية لحزب الله، حتى أنها لم تترك بيت حسن نصر الله ومقره العام.
الشق الثاني من الرسالة السورية الموجهة للعدو ومن خلفها الولايات المتحدة، أنه وبرغم أنها قادرة على إزعاجه عبر لبنان إلا أنها لا تريد حرباً حقيقية مع الصهاينة، كما أن العدو لا يريد هذه الحرب، وقد لوحظ أنه لم تُسجَّل في الحرب الأخيرة سوى غارة واحدة على الحدود السورية، وقد سارعت الدولتان السورية و (الإسرائيلية) لنفي حدوث ذلك، وأعاد السوريون نفيهم بوقوع أي غارة من العدو داخل أراضيهم، وكانت الرسالة تتضمن أن سوريا بيدها لجم حزب الله إذا أرادت، وقد مدت سوريا يدها بالسلام عبر (الحرب بالوكالة) ، فينبغي لمفاوضات السلام أن تعود بعد أن انقطعت، ولكن مع تغير في قواعد اللعبة فرضته الحرب الأخيرة، ولذلك فقد كان استخدام سوريا لحزب الله هو لتحسين ظروفها التفاوضية مع الصهاينة، وتحسين ظروف تفاوض حليفتها إيران مع الولايات المتحدة كما سيأتي.
الرسالة السورية الثالثة: كانت موجهة للدول العربية بشكل مباشر وصريح، بأن سوريا قد حسمت تأرجحها بين قوميتها العربية وتحالفاتها الطائفية الإستراتيجية، وأن نصيبها من كعكة السيطرة القادمة على المنطقة مضمون بالانضواء تحت العمائم السوداء، فهُم سادة المنطقة الجدد، وستكون الجسر الذي تكمل به إيران طريقها من البحر الأسود إلى البحر المتوسط.
ثانياً: على الجانب الإيراني:
أرادت إيران في رسالتها الأولى: من هذه الحرب أن تقول للشعوب العربية والإسلامية: أنها مازالت الطرف الوحيد الذي يواجه الاستكبار الصهيوني في المنطقة، رغم أنها حرب خاضها بعض صنائعها على بعد مئات الأميال عن أراضيها.
الرسالة الثانية: كانت موجهة مباشرة إلى العدو، فالصواريخ التي استخدمها حزب الله وأصابت أهدافاً لدى الصهاينة بدقة، قالت إيران من خلال ذلك: أنها غير مضطرة لاستخدام صواريخها بعيدة المدى للهجوم على العدو، وأن الجنوب اللبناني أقرب بكثير لتل أبيب من طهران وهمدان.
ومما وُجِّهَ للعدو والولايات معاً أن إيران يمكنها في ظل التراجع الكبير للدور العربي في القضية الفلسطينية أن تلعب دوراً فاعلاً في (حل نهائي) حال الاتفاق.
الرسالة الإيرانية الثالثة: جاءت لا لترد على الآراء الغربية بل لتتوافق معها ... حرفياً، فقد جاء على لسان علي أكبر ولايتي مستشار (المرشد الأعلى) حالياً ووزير الخارجية الإيرانية لمدة 16 عاماً ما نصه: إنه بإطاحة نظام طالبان في كابل ودكتاتورية البعث في بغداد، خلقت الولايات المتحدة فرصة تاريخية لإعادة صياغة الشرق الأوسط. ومع رحيل طالبان وصدام حسين، تشعر إيران بالأمان على حدودها ويمكنها أن تنتقل إلى الهجوم سعياً لتحقيق طموحاتها الإقليمية.
ومفاد هذه الرسالة للولايات المتحدة أولاً: أنّ ما أرادت أمريكا تحقيقه في أفغانستان والعراق ما كان ليحدث لولا التفاهمات والمساعدات الميدانية الإيرانية، وما تزال طهران تمسك بزمام الورقة العراقية، وإن أرادت إزعاج الولايات المتحدة فيكفيها أن يتراجع السيستاني عن فتواه بتحريم قتال الأمريكان!!، كما يمكن استمرار حزب الله في المناوشات على الحدود مع إسرائيل، ولذلك: فعلى الولايات المتحدة أن تتفاهم وتتعامل مع إيران كشريك أساسي في رسم الشرق الأوسط الجديد، على أنها القوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة.
وإيران مع ذلك غير مستعجلة للتفاهم السريع مع الغرب، فهو يعني تقديم تنازلات قد تكون كبيرة، والقيادة الإيرانية تراهن فيما تراهن على انتظار مغادرة الرئيس الأمريكي البيت الأبيض، وانسحاب عسكري أمريكي من المنطقة، مما يخولها وحلفاءها الاستفراد بالمنطقة. كما أن إيران تسير بخطى منتظمة نحو امتلاك السلاح النووي، ولو أضيف السلاح النووي إلى السلاح النفطي الذي تملكه لكان الناتج يساوي دولة عظمى.
ü مستقبل حزب الله:
هتفت جماهيرنا العربية الساذجة مشيدة بحياة جمال عبد الناصر بعد (نكسة) 1967م، ولم يرتضوا عنه بديلاً حين تنحّى عن الحكم، وفي لبنان شاهد حسن نصر الله حجم التدمير والحقد الصهيوني في الأيام الأولى للحرب، ورغم ذلك أصر على الاستمرار حتى تأتيه أوامر التوقف، ثم جاء يهزأ من الجميع، وأخيراً يقول: لو كنا نعلم أن خطف الجنديين سيؤدي إلى ما حدث ولو واحد في المائة لما أقدمنا عليه. ورغم (الاعتذار) والقتل والتشريد والتهجير والتخريب، خرجت الأمة تغني للانتصار المجيد!!
وبعد (مراوغة الاعتذار) فُتح ملف مستقبل حزب الله، ومما لا شك فيه أن بقاء حزب الله مرتبط بتنفيذ دوره المناط به من قبل سوريا وإيران. وحتى الآن لم يتحقق لكلا البلدين ما سعيا للوصول إليه بأداة حزب الله، ومما لا شك فيه أن الموقف الإيراني يزداد قوة، وهذه القوة ستلقي بظلالها على حزب الله.
كما أن الحزب يعد أنجح الأذرع الإيرانية في المنطقة، وقدم خدمات جليلة للطائفة الشيعية بأسرها، وكانت تجربته جديرة بالاستنساخ في دول أخرى تسعى إيران لغرس مخالبها فيها، وللحزب حضور إعلامي قوي بين جماهير المسلمين، وهو تأثير بالغ الخطورة حيث تلوثت مفاهيم كثيرة ليس للعوام فحسب، بل للدعاة والمثقفين، وهذا التأثير مطلب شيعي لنشر المذهب.
مما سبق يجعلني أقول: إنه من الصعب التضحية به أو ذبحه، كما يقال، على الأقل في المدى القريب، فأبعاد العلاقة بين حزب الله وإيران، تختلف كلية عن شيعة الأهواز العرب، أو بعض العشائر الشيعية العربية في العراق، أو شيعة أذربيجان الأتراك. لكن سيكون على الجانب الآخر خصوم وأعداء ومناهضو المشروع الإيراني وذراعه اللبناني، الذين يدركون أبعاد المشروع التوسعي ودور حزب الله فيه، ولن يتوقفوا عن محاولات وضع العصي في عجلات هذا المشروع لإيقافه أو تفجيره.
__________
(*) رئيس تحرير موقع البينة www.albainah.net.
(1) مهديهم الثاني عشر المزعوم أقرب ما يكون للخرافة، انظر تفصيل ذلك في: (كتاب الباحث العراقي) أحمد الكاتب، وكذلك (مضجح التشيع) للشيخ محمد الموسوي، وهما من الشيعة الجعفرية المتحررين من غلو القوم بشكل عام.
(1) هم يصفون أهل السنة زوراً بالتكفيريين، وهو زعم مكذوب، فهم التكفيريون، كما وضح ذلك الشيخ عبد العزيز كامل في مقالته (وماذا عن التفكريين الشيعة؟) ، انظرها في موقع المسلم.(229/18)
خلفيات وقائع وأحداث مقديشو
(2 - 2)
الشيخ محمود عيسى
لم يزل الشعب الصومالي يتحين الفرص كي يتخلص من الكابوس المزعج الذي ظل جاثماً على صدره منذ فترة تزيد على عقد ونصف العقد من الزمان، ذاق خلالها ألواناً من الويلات، وانغمس لأجلها في معارك طاحنة تثور من وقت إلى آخر لأتفه الأسباب يتولى كِبْرَها زعماء الحرب أو قادة المليشيات الذين قسّموا الشعب الصومالي إلى فئات وعشائر يتحكمون في أمرها ويطغون عليها، ويجرُّونها إلى حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل سعياً وراء مصلحتهم الشخصية.
وأصبحت مدينة مقديشو وحدها مُوزّعة على أكثر من 15 فصيلاً، كلٌّ يسيطر على جزء معين من المدينة يستبد بأمره، ويفرض عليه ما يشاء من الإتاوات، ويضع الحواجز والنقاط على الطرق والشوارع لابتزاز الأموال، حتى كانت الحواجز على مسافات متقاربة لا يفصل بينها إلا يسير من الأمتار، مما جعل الحركة مشلولة، وأدى إلى انتشار الذعر والقلق في نفوس المواطنين الذين ظلوا يترقبون دائماً ماذا يحدث لهم خاصة عند عبورهم الحواجز التي تكثر عندها المصائب.
ومهما يكن من أمر فإن عزيمة هذا الشعب لم تنكسر أبداً، ولم ييأس من أن يعيش كغيره من الشعوب بسلام ووئام، ولم يزل يكافح في استعادة حريته وحقوقه المسلوبة، ويأبى أن يذعن لمحاولات المُلاّغ (أمراء الحرب) الذين عاثوا فيه فساداً، وحاولوا أن يقوموا مرة أخرى بإشعال حرب من نوع آخر ضد هذا الشعب، وضد مقدساته؛ حيث أعلنوا عن تحالف شيطاني هدفه إلقاء الشر والعداوة والبغضاء بين أبناء هذا الشعب المسلم ليضرب بعضه بعضاً.
وكان هذا التحالف يضم 11 مجرم حرب جمعتهم الولايات المتحدة الأمريكية وجندتهم لتستخدمهم عملاء لها في محاربة المسلمين وقتلهم وتسليمهم لها، وبالمقابل تغدق عليهم المال والسلاح، فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرب علماء المسلمين في الصومال إن كنتم مطاوعين سادتكم (يعنون أنفسهم) ، واعترفوا علناً في لقاءاتهم تفاخراً أنهم لا يقومون بهذا الأمر إلا بتفويض من المخابرات الأمريكية والشرطة العالمية ((Interpol.
فكان هذا الإعلان فتحاً ونصراً مبيناً للمسلمين، وتنبه المواطنون إلى حقيقة هذه المؤامرة ومغزاها، وبادروا إلى الالتفاف حول المحاكم الإسلامية التي تصدت لهجمات التحالف التي شنها فور الإعلان عنه وردت الصاع له صاعين، وكسرت شوكته، وهزمت قواته في جميع ميادين القتال حتى لاذ قادته بالفرار، وصارت اليد العليا للشعب بفضل الله ومنّة، ثم بسبب المحاكم الإسلامية التي استطاعت بسط سيطرتها على مقديشو ومحافطات ومدن أخرى في جنوب ووسط البلاد.
وتوصلت المحاكم الإسلامية في عملياتها لتحقيق المكاسب التالية:
1 ـ إعادة الأمن والنظام:
منذ أن خاضت البلاد الحروب الأهلية كان السلاح بكل أنواعه منتشراً في أيدي أفراد الشعب، وانفتحت أسواق كثيرة للمتاجرة به، حتى صارت أصوات البنادق ودوي المدافع مما يألفه الناس صباحاً ومساءً، كما صارت الاشتباكات التي تحدث بين أفراد الميليشيات جزءاً من حياة المدينة، وكان اللصوص وقطاع الطرق منتشرين في الشواع والسكك ينهبون ويغصبون أموال المواطنين، وكانت النعرات القبلية تسود المجتمع ويكثر فيه القتل والثأر، حتى جاء الفرج واليسر مع المحاكم التي باتت تتغلب على الانفلات الأمني، وأعادت الأمن والأمان للمواطنين بإذن الله؛ حيث طبقت نظاماً أمنياً صارماً، وفرضت حظراً على امتلاك الأسلحة الثقيلة وتداولها بين المواطنين، كما فرضت نظاماً للرقابة على أسواقه كخطوة أولى يتلوها أن تشرع في اتخاذ إجراءات تمنع المواطنين أياً كانوا من الاحتفاظ بأسلحة دون إذن.
2 ـ توحيد العاصمة مقديشو:
كان الحديث عن توحيد العاصمة مقديشو وحدها، فضلاً عن باقي البلاد، شبه المستحيل؛ حيث كانت مقسمة بين عدد من زعماء الحرب الذين لا تجمعهم رابطة؛ فكان كل منهم يحتل جزءاً معيناً يبقى فيه ويتقيد بحدوده ولا يتجاوز عن الخط الأحمر، حتى لا يستفز نظيره الذي قد يرد عليه بوابل من الرصاص مما ينتج عنه هلاك الكثير من المواطنين.
وعاش الناس في تلك الحالة يساورهم الخوف والهلع والدهشة من ذلك، فصاروا متحيرين في أمر هؤلاء الذين ليس لهم وازع ديني يمنعهم من ارتكاب هذه الجرائم، ولا يجدون من يردعهم في الحكم يشكون إليه، ففوضوا أمرهم إلى الله وهو خير الحاكمين.
وبذلك صارت أجزاء كبيرة من العاصمة غير مسكونة، وتحولت إلى أشباح تخلو من السكان ومن المارة، ولكن لما جاءت المحاكم الإسلامية التي أسسها المواطنون لمعالجة ذلك الوضع المتردي واستطاعت أن تمسك بزمام الأمور وجدنا الناس يتنفسون الحرية، ويحسون راحة البال، وبذوقون طعم الحياة، ورأينا أن المدينة عادت إلى وضعيتها، وتداعى الناس إلى الخروج من أقاصي المدينة وأواسطها، وبدؤوا يجوبون الشوارع التي أخذت تعج بهم، ويستبشرون بما يرونه من النصر ومن الوحدة السياسية التي استعادتها عاصمتهم، وتمنوا أن يعم هذا الخير الوطن كله، وعسى الله أن يريهم ذالك وياتيهم بالفتح العظيم.
3 ـ إعادة تشغيل المطار والميناء:
توقف العمل في كل من المطار والميناء الرئيسيين في مقديشو منذ نشوب الأزمة في الصومال واندلاع الحرب الأهلية فيها لعدم إمكانية وجود نظام يتفق عليه زعماء الحرب المتشاكسون لإدارة هذين المرفقين، ويضمن لكل منهم نصيبه من الإيرادات ـ التي يرى المحللون أنها هي السبب الرئيسي في إغلاقهما ـ فلأجل ذلك باتا معطلين، وتعرضا للنهب والتدمير؛ إضافة إلى الخراب الذي لحق بهما من جراء توقف العمل.
ولكن بعد توحد العاصمة مقديشو سياسياً على يد المحاكم الإسلامية اختفى هذا الهاجس وصارت الظروف مواتية لحركة الطيران أن تعيد نشاطها وأعمالها إلى المطار مرة أخرى، وكانت طائرة الجامعة العربية أول طائرة هبطت وأقلعت من مطار مقديشو الدولي حاملة معها وفداً رفيع المستوى من المحاكم الإسلامية إلى الخرطوم لحضور الجولة الثانية من المفاوضات التي أُجلت بسبب غياب وفد الحكومة عنها.
وبعد ذلك أصبح المطار يشهد حركة طيران واسعة أراحت المواطنين من معاناة السفر الطويل بعد أن كانوا يذهبون إلى مطارات بعيدة يتولى أمرها أفراد من الميليشيات.
وأما الميناء البحري فأجري فيه بعض الاصلاحات والترميمات لإعادة تأهيله وتنشيطه؛ لأنه قد لحق خراب ودمار ببعض أجزائه خلال سنوات تعطله، وبعدها أصبحت البواخر والسفن ترسو فيه ويشهد حركة ملاحة بحرية واسعة للشحن والتفريغ، وعاد هو الآخر إلى سابق عهده.
4 ـ النظافة:
لم تكن العاصمة مقديشو متأثرة بالحروب وبالفوضى وعدم النظام فقط، بل إن هناك مشكلات أخرى أضرت بالمواطنين وتسببت في تردي الوضع الصحي للمدينة بعد أن تكونت داخل المدينة أكوام كبيرة من القمامة والأوساخ تشبه تلالاً منتشرة في الأحياء السكنية وفي الشوارع والطرق والأماكن العامة؛ إضافة إلى الرمال التي جرفتها سيول الأمطار وترسبت على الشوارع وغيرت معالمها وأعاقت حركة المرور.
وكانت هذه الأوساخ والرمال تراكمت خلال خمس عشرة سنة مضت بقيت فيها الصومال دون حكومة مركزية. إلا أن المحاكم الإسلامية لما سيطرت على العاصمة جعلت نظافة المدينة من اهتماماتها الأولى انطلاقاً من الحديث النبوي الشريف: «إماطة الأذى عن الطريق صدقة» وشكلت لجنة عليا منبثقة منها لهذا الغرض مهمتها نظافة المدينة وإصلاح الطرق والممرات لتسترد المدينة رونقها وجمالها، وباشرت هذه اللجنة أعمالها وتستمر فيها وأنجزت قسماً كبيراً من المهمة.
5 ـ إعادة تأهيل الميليشيات:
من المعلوم أن عدداً كبيراً من الميليشيات الذين كانوا تابعين لتحالف أمراء الحرب المهزوم ما زالوا موجودين في مقديشو فآوتهم المحاكم الإسلامية وجردتهم من السلاح، وحمعتهم في معسكرات تدريبية لإعادة تأهيلهم لينسجموا مع المجتمع، وتشعر بالمسؤولية تجاه تعليمهم وتربيتهم دينياً ليعود إليهم صلاحهم؛ حيث إن هؤلاء الشباب كانوا متعودين على مضغ القات وتعاطي بعض المخدرات التي يوفرها لهم زعماء الحرب كغسيل للمخ ليسيطروا عليهم وتزداد تبعيتهم لهم.
ولذلك أرادت المحاكم الإسلامية أن تقوم بتأهيل هؤلاء الشباب ليعود الصلاح والوعي إليهم، ولينخلعوا عما كانوا يفعلونه، ويتوبوا إلى ربهم ويدعوا أن يغفر لهم.
ü المفاوضات والمصالحة الصومالية المرتقبة:
بدأت الآمال تعود إلى الشعب الصومالي، ووجد أنه يتحرر من قبضة أمراء الحرب ويخرج من المأزق الذي عاش فيه طيلة عقد ونصف العقد من السنين لقي خلالها معاناة قاسية مليئة بالظلم والطغيان، ولاحت له بشائر من النصر والوئام بعد لقاء الخرطوم الذي جمع المحاكم الإسلامية والحكومة المؤقتة برعاية السودان والجامعة العربية.
وكان هذا للقاء تم بحضور وفد يتكون من عشرة أعضاء من جانب المحاكم الإسلامية برئاسة الدكتور محمد علي إبراهيم، بينما حضر من جانب الحكومة وفد يضم الرئيس عبد الله يوسف أحمد، ورئيس البرلمان شريف حسن شيخ آدم، ورئيس الوزراء علي محمد جيدي بالإضافة إلى عدد من الوزراء.
ورغم الضغوطات التي مورست على المحاكم الإسلامية من جانب الجامعة العربية والمجتمع الدولي بدأت المفاوضات في جو هادئ، ونجح الوسطاء في أن يلتقي الطرفان وجهاً لوجه، وتم التوصل إلى توقيع اتفاق إعلان مبادئ تتضمن اعترافاً متبادلاً (اعتراف المحاكم الإسلامية بشرعية الحكومة، وبالمقابل تعترف الحكومة بوجود المحاكم الإسلامية كأمر واقع) ، ووقف العداء والحملات الإعلامية، ومحاكمة مجرمي الحرب، وتوجيه نداء عام للسلام، وضرورة مواصلة الحوار والمفاوضات دون شروط مسبَّقة، كما اتفق الطرفان على عقد الجولة اللاحقة من المفاوضات في الخرطوم يوم 15 يوليو الماضي.
وكان هذا الاتفاق الذي وقعه كل من الحكومة والمحاكم يعتبر خطوة كبرى إلى الأمام لحل المشكلة الصومالية، وبات يبعث الأمل في نفوس المواطنين. إلا أن هذا الأمل لم يدم طويلاً وكاد يخيب بعد تغيب الحكومة عن المشاركة في الجولة اللاحقة من المفاوضات التي كان من المفترض أن تعقد منتصف شهر يوليو الماضي محملة المسؤولية للمحاكم الإسلامية التي ذهبت من جانبها إلى الخرطوم مقر المفاوضات وحضرت لإجرائها، ولكنها رجعت دون شريك. وبررت الحكومة غيابها بأن المحاكم الإسلامية نقضت ما تم الاتفاق عليه في الجولة الأولى وخاصة البند الذي ينص على «وقف العداء» بعدما شنت حرباً في مقديشو على عبدي حسن عواله (قيبديد) أحد عناصر تحالف أمراء الحرب الذي كانت تدعمه أمريكا، وأنها قامت بحملة تصفية شاملة ضد المناوئين لها لتوسيع نطاق حكمها، وبسط سيطرتها على مدن ومحافطات أخرى.
واحتجت الحكومة بأن هذا البند ينص على أن يبقى كل طرف من طرفي الاتفاق على المناطق التي كان يسيطر عليها قبل توقيع الاتفاقية، وأن المحاكم الإسلامية تجاوزت عن ذلك، واحتلت مناطق جديدة وأشعلت حروباً أخرى، وأصرت الحكومة على أنه ليس من المعقول أن تستمر معها في المفاوضات طالما لم تحترم ما تم الاتفاق عليه سابقاً.
ودافعت المحاكم الإسلامية عن دورها في معرض ردها على مزاعم الحكومة بأنها خرقت الاتفاقية، وقالت: إن هذه الحجج التي أوردتها الحكومة لا تتجاوز أن تكون حججاً واهية ومبررات خاطئة؛ إذ إن العقد أولاً هو شريعة المتعاقدين، وأن المحاكم الإسلامية لم تعتدِ من جانبها على الحكومة، وأنها لم تزل واقفة على احترام البنود التي تم الاتفاق عليها، وأن الاتفاق الذي تم في الخرطوم لم يكن تحالف أمراء الحرب طرفاً فيه، وأن المحاكم الإسلامية لما كانت تفاوض مع الحكومة وتوقع معها هذا الاتفاق لم تزل في حربها مع التحالف وقادته الذين لم يكونوا أعضاء في الحكومة؛ لأن الوزراء الذين يشكلون المحاور الرئيسية للتحالف طردتهم الحكومة وأعفتهم عن مناصبهم الوزارية، وردت السبب في ذلك إلى مخالفة هؤلاء للدستور ودورهم في قتل الأبرياء، ونقضهم اتفاقات سابقة لوقف إطلاق النار، وكانت اتفاقية الخرطوم تنص على (محاكمة مجرمي الحرب) ، ولذلك انحرفت الحكومة عن مبدئها، وكانت الجانب الذي لم يحترم الاتفاقية ونقضتها حيث تمسكت بمبدأ براءة هؤلاء المجرمين الذين أوردوا المواطنين إلى جحيم الحرب، وقامت بإيوائهم، ورحبت بهم في مدينة (بيدوا) وقدمت لهم دعماً عسكرياً مما يعد خرقاً للاتفاقية، كما سعت الحكومة إلى حشد قوات إثيوبية على الأراضي الصومالية التي توغلت بكتائب مجهزة بالسلاح الثقيل كالمدرعات والمدافع الثقيلة، ووصلت إلى مدينة (بيدوا) مقر الحكومة، بينما دخلت وحدات أخرى في المحافظات الصومالية قرب الحدود وهي ترابط فيها، مما يعد تهديداً للوضع الأمني الداخلي، واستعداد العدو الصليبي الإثيوبي والحكومة لشن حرب على المحاكم الإسلامية وإعادة البلاد إلى المُربّع الأول أو الأسوأ منه.
ويرى المحللون أن رفض الحكومة المؤقتة للمشاركة في الجولة الثانية من المفاوضات ينتج عن نفسيتها؛ حيث ترى أن هشاشة بنيتها وضعف قدرتها يجعلانها غير قادرة على الحصول على مكاسب سياسية قوية من المفاوضات التي تجرى في الخرطوم؛ حيث إن هذه الجولة تتطرّق إلى البحث حول القضايا الخلافية الرئيسية مثل قضية القوات الأجنبية والدستور وتقاسم السلطة، ولذلك أرادت ان تصطنع بعض العوائق والمبررات لرفضها، إلى حين تتخطى هذه المشكلات التي تتمثل في الآتي:
أـ الخلافات الداخلية:
الحكومة الصومالية المؤقتة لم تسلم منذ تأسيسها من خلافات داخلية؛ حيث بدت الانقسامات بين أعضائها والبرلمان قبل الرجوع من كينيا إلى البلد للعمل فيه حول المكان الذي تعمل فيه الحكومة، فارتحلت مجموعة من أعضاء البرلمان والوزراء بقيادة رئيس البرلمان شريف حسن إلى مقديشو بحجة أنها هي العاصمة وأن مشكلتها تتطلب حلاً فورياً، وأن حلها لا يأتي إلا بالعمل فيها، بينما رفضت مجموعة أخرى بقيادة الرئيس عبد الله يوسف أحمد ورئيس الوزراء علي محمد جيدي الانتقال إليها بحجة أنها غير آمنة، ولا يمكن أن تعمل الحكومة فيها، وانتقلت إلى مدينة جوهر على بعد 90 كيلو متراً شمالاً من مقديشو؛ حيث استقبلهم هناك حاكم الإدارة لمحافظة شبيلي الوسطى محمد طيري الذي صار ردءاً لهذه المجموعة قبل أن يتطور الخلاف بينها وبين محمد طيري الذي انضم إلى التحالف الشيطاني الأمريكي لمحاربة الإرهاب، وانتقال الحكومة إلى (بيدوا) على بعد 240 كيلو متراً غرب مقديشو بموجب الاتفاقية التي كانت بين الرئيس عبد الله يوسف أحمد ورئيس البرلمان شريف حسن شيخ آدم برعاية الرئيس اليمني علي عبد الله صالح مما أنهى الخلاف القديم بين كبار الدولة، إلا أن خلافات أخرى نجمت بينهم بعد عودتهم من مفاوضات الخرطوم، وكان سببها الاختلاف في من له الحق بالإشراف على المفاوضات التي تجرى مع المحاكم الإسلامية، أو فيما إذا كانت الحكومة تستمر فيها أو تعلقها؟
وحذر رئيس الدولة في خطاب ألقاه أمام البرلمان من التدخل في شؤون اختصاصات غيره، وقال: «إن البرلمان هيئة تشريعية لا دخل لها في العملية السياسية ... وإننا علّقنا المفاوضات مع المحاكم ما دامت لم تحترم ما اتفقنا عليه» بينما رد رئيس البرلمان قائلاً: «إن أصل العمل الذي جاء لأجله البرلمان هو تطبيق المصالحة، ورسم السياسة العامة للدولة ومتابعة تنفيدها، وأن عمل البرلمان سياسي ... وأن المفاوضات جارية ولا يستطيع أحد أن يعلقها» وأكد أنه سيقوم بتشكيل لجنة من البرلمان لمواصلة الحوار والتفاوض مع المحاكم الإسلامية، مما أحدث زوبعة سياسية جديدة داخل المؤسسات الفيدرالية، واحتدم الخلاف وتطور حتى تقدم بعض النواب إلى البرلمان بمشروع يقضي بسحب الثقة؛ من الحكومة؛ لأنها ترفعت عن الخضوع لمحاسبته، بينما دافع نواب آخرون عنها، وتبادل الطرفان اتهامات يدين بعضها بعضاً، وصوَّت البرلمان فيما إذا كان يعطي الثقة للحكومة أو يسحبها، فجاءت النتيجة أن الحكومة حصلت على ثقة البرلمان، وفازت بفارق ضئيل من الأصوات.
ولم يتوقف الخلاف عند ذلك الحد، واستقال عدد كبير من الوزراء ونوابهم وزراء الدولة من مناصبهم، بما يقارب نصف الحكومة، وشرع رئيس الوزراء في إعادة شغل المناصب التي شغرت مما ترك وضع الدولة يتأزم ويضطرب، وتوجه بطلبه إلى أثيوبيا حارسة الحكومة أن تتدخل في شؤونها لاحتواء الأزمة؛ حيث وصل إلى مدينة (بيدوا) فجأة وزير الخارجية الإثيوبي (سيوم مسفن) للتوسط بين الجانبين، ونجح في أن يجمعهم على طاولة الحوار والتوصل إلى اتفاق وإنهاء الخلاف بينهم.
ب ـ ضعفها وعدم قدرتها في تثبيت الأمن:
وضع الحكومة وعدم قدرتها على تثبيت الأمن، وانتشار الميليشيات المسلحة في (بيدوا) جعل المدينة تشهد اضطرابات أمنية واصطدامات مسلحة بين المليشيات الحكومية والمليشيات القبلية التي ترفض الولاء للحكومة؛ حيث حدث في المدينة في مرات عديدة اشتباكات دامية قتل فيها وجرح أعداد كثيرة من المواطنين، كما قتل وجرح أعضاء من الحكومة والبرلمان بالإضافة إلى بعض زعماء العشائر.
وكانت آخر الاشتباكات التي وقعت في (بيدوا) يوم 21 أغسطس الماضي بعد أن حاولت مجموعة من ميليشيات الحكومة أن تفك من السجن أحد المتهمين بقتل الوزير في شؤون الفيدرال والدستور عبد الله ديرو إسحق ـ رحمه الله ـ الذي قتل في الشهر الماضي بعد تأديته صلاة الجمعة مباشرة أمام المسجد في (بيدوا) مما أثار حفيظة سكان المدينة ودفعهم إلى القيام بمظاهرة تتصف بالعنف، أدت إلى تبادل لإطلاق نار كثيف.
ومما يوضح ضعف الحكومة وعدم قدرتها على تثبيت الأمن أن أفراد الميليشيات الذين جمعتهم ليصبحوا نواة للجيش الوطني بدؤوا يتفرقون ويتركون المعسكرات، يخرجون منها أرسالاً مع عرباتهم وأسلحتهم لينضموا يوماً بعد يوم إلى المحاكم الإسلامية التي رحبت بهم لتؤهل من كان يرغب في العمل معها.
وكان السبب في ذلك أن هؤلاء الشباب فقدوا ثقتهم بالحكومة، وأصابتهم الشكوك من نيتها، من حيث:
1 ـ عدم حصولهم على رعاية واهتمام من جانب الحكومة التي اشتغلت عنهم بخلافاتها الداخلية.
2 ـ قسوة المدربين الذين كان أغلبهم إثيوبيين يعاملونهم معاملة قاسية كالضرب والركل، ومنعهم من تأدية الصلوات وغيرها.
3 ـ خوفهم من حروب محتملة، حيث وجد هؤلاء الشباب أن الحكومة تخطط للهجوم على المحاكم الإسلامية ومناوئيها، بعد إيواء زعماء الحرب المهزومين من مقديشو وغيرها وحشد القوات الإثيوبية في الأراضي الصومالية، فعرفوا أنهم سيصبحون الشرارة الأولى لتلك الحروب الأهلية التي تورط البلاد وتعيدها إلى مُربّعها الأول، فتركوا المعسكرات رغبة في إفشال هذه الخطة والذود عن البلد.
ü مشروع نشر القوات الأجنبية:
تتمسك الحكومة بمشروع نشر قوات إفريقية في الصومال وتجعله من أهم أولوياتها، وتبذل قصارى جهدها لإنجاحه، وترى ضرورة تلك القوات لتستعيض عن النقص في الإمدادات العسكرية، وتقدمت الحكومة بهذا المشروع إلى البرلمان للمصادقة عليه، وصوت لصالحه.
ويلقى هذا المشروع دعماً وتأييداً من الاتحاد الإفريقي ومنظمة دول الإيغاد التي أعربت دولتان منها (أوغندا والسودان) عن استعدادهما للمشاركة بقواتهما في عملية حفظ السلام المزعومة في الصومال، بينما كانت إثيوبيا تسابق الأحداث، وأرسلت قواتها فور تصديق البرلمان على المشروع قبل صدور قرار رفع حظر السلاح المفروض على الصومال من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة تمهيداً لنشر قوات أجنبية فيه وخاصة إفريقية، وهو ما ترفضه غالبية الشعب الصومالي بالإضافة إلى المحاكم الإسلامية التي تسيطر على العاصمة مقديشو ومدن أخرى، وصرح رئيس المحاكم الإسلامية في خطاب ألقاه في بعض المناسبات: «أن هذا الأمر غير معقول وغير مقبول، وأنه احتلال، وخيانة عظمى، ولا داعي إلى استدعاء قوات أجنبية، وأن الشعب الصومالي قادر على حل مشاكله بنفسه، وأن له تجربة وخبرة في ذلك؛ حيث تواجدت القوات الدولية في بداية التسعينيات من القرن الماضي ولم تسفر عنها أي نتائج إيجابية غير أن تؤزِّم وتعقد الأمور» .
وأدانت المحاكم الإسلامية الحكومة واتهمتها بأنها عديمة الثقة بشعبها، وتريد أن تطيح به تحت الاستعمار الحبشي الذي له تاريخ طويل مع الصومال مليئة بالحروب خلال القرون الخمسة الماضية، ويحتل منطقة الصومال الغربي التي كانت محور الصراع بين البلدين، ولا يزال يحمل للصومال عداوة تقليدية ويعمل كي يحقق أطماعه ونواياه الخفية ومخططاته الصليبية.
ولا تزال الحكومة تتمسك بهذا الموقف وتدافع عنه وتصر عليه، وتعتقد أن استقدام قوات أجنبية يكون لصالح البلد ويحقق مآربه، كما قال الرئيس عبد الله يوسف: «إن الاستعانة بقوات أجنبية أياً كانت هو ما تأمرنا به روحنا الوطنية والدينية ولن نتنازل عنه، وسنمضي قُدُماً في ذلك» .
ü دوافع وتداعيات هذا القرار:
إن هذا المشروع تقدمت به الحكومة من قبل إلى البرلمان في كينيا، ولقي فشلاً يوم 17 مارس من العام الجاري بعد أن أثار جدلاً محتدماً وتضارباً بالعصي والكراسي بين أعضاء البرلمان، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي دعا الحكومة إلى إحياء هذا المشروع وتقديمه مرة أخرى إلى البرلمان؟ وما هي الدوافع الحقيقية التي أجبرت البرلمان في هذه المرة على تمريره والمصادقة عليه ليتزامن ذلك مع الأحداث الجارية في مقديشو والتحول السياسي فيها؟!!
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نعرف أن المؤتمر الذي انعقد في كينيا وتمخض عنه البرلمان الصومالي الذي انتخب رئيساً للدولة، وانبثقت منه الحكومة المؤقتة الحالية لم يشارك فيه سوى زعماء الحرب وقادة الميليشيات الذين أغلقوا الباب أمام مشاركة الآخرين.
وبعد سنتين من الاجتماعات المطولة تحول الكل إما إلى أعضاء في البرلمان أو وزراء في الحكومة أو رئيس للدولة، ولم يأت واحد منهم عن طريق الانتخاب ولا عن رضى من الشعب، ولكن يعرف الجميع ماذا حصل لأولئك المتنافرين بعد أن اجتمعوا للعمل في المؤسسات الحكومية؛ إذ أصبح تقاسم السلطة من المستحيل، وأضحوا كأهل غابة جمعتهم مأدبة العشاء؛ إذ يريد القوي أن يستحوذ عليها دون الضعيف. وللأسف لا يوجد ضعيف هنا، فالكل أقوياء، وبدأ الشلل يصيب حكومتهم كسابقاتها، وبدأ كل زعيم يعمل على شاكلته ويتحين الفرص لصالحه كي يتخلص من منافسه، ولو أدى ذلك إلى الاستعانة بالعدو الصليبي الذي يغدق عليهم المال والسلاح لإبادة المسلمين في الصومال، وقد يكون هذا العدو داعماً لكلا الخصمين في آن واحد؛ إذ الشيء الذي يعجبه أن يرى هو الدمار والخراب الذي ينتج عن الحرب بغض النظر عن أطراف الصراع أو الجانب الخاسر.
ولكن بعد قيام ثورة شعبية ضد هؤلاء الزعماء وبروز المحاكم الإسلامية في الواقع كقوة جديدة رأى العدو أن الرياح هبت بما لا تشتهي السفن، وأصبح الجانب الخاسر معتبراً لديه لتصدي التيار الإسلامي الإصلاحي الذي أخذ يتحرك لإخماد ما أشعله، ويعتزم إصلاح ما أفسده، فدعا المهزومين أن ينضموا إلى ركب زعيمهم قائد الحكومة في بيدوا؛ إذ يعتبر الرئيس عبد الله يوسف أحمد أول زعيم حرب صومالي حمل السلاح منذ 30 سنة، ولا يرجى منه أن يقبل الاعتراف بشرعية المحاكم الإسلامية، لذا اختاره العدو أن يقود هذه الحملة من جديد ويجمع شتات المنهزمين الذين لم يكن خلافهم مع الحكومة بالأمس مبنياً على مبدأ يجب حفظه ورعايته، بل يقوم على الانتهاز والأنانية، إلا أنهم باتوا الآن ينظرون إلى هذه القضية من منظور واحد، ويشعرون بالقلق والخوف من هذه القوة الجديدة التي وضعت قدمها في الساحة السياسية، قوة تختلف عنهم كل الاختلاف، لها ثوابت ومبادئ لا يجوز الحَيْدة ولا التنازل عنها، وتختار قادتها وفق معايير شرعية لا تتوفر فيهم كزعماء تقليديين.
ولذلك ليس من المعقول أن يظن العاقل أو الفاهم أن تكون الحكومة في (بيدوا) مطمئنة البال تجاه ما يجري في مقديشو والمدن الأخرى، بل يثير فيها قلقاً واستياء؛ إذ لا يوجد من يضمن لها إيقاف هذا التيار الإسلامي الإصلاحي الذي يمكن في أي لحظة أن يجتاح مناطق أخرى ومدينة بيدوا نفسها، ويكون مصير الحكومة مثل مصير قادة التحالف.
ولذلك تبينت للحكومة هشاشتها، وأنها غير قادرة على حماية نفسها إذا اتخذت هذا السلوك السلبي منهجاً لها في التعامل مع المحاكم الإسلامية، إلا أن تلجأ إلى الاستعانة بالقوات الأجنبية لتعزز موقفها وتحتمي بها، ولكنها أسرعت في الجواب وأخطأت في الصواب، ولم تأخذ الحكمة التي تقول: «لا تفتح باباً يعييك سدُّه، ولا تَرْمِ سهماً يعجزك ردُّه» ولم تعتبر ما حدث في الصومال عام 1993م وما يحدث في أفعانستان والعراق؛ إذ لا سبيل إلى ذلك القرار، ويكفي أن المحاكم الإسلامية التي تسيطر على العاصمة وعلى مناطق أخرى أعربت عن استعدادها للتفاوض مع الحكومة، وأصدرت عفواً عاماً عن أعضاء تحالف أمراء الحرب إن عادوا إلى حظيرة الوطن وألقوا السلاح لإنقاد البلد من التدخل الأجنبي، الذي قد يكونون هم سبباً له.
ü التدخل الإثيوبي:
فلما جاء الاستعمار الأوروبي الصليبي قسَّم الصومال إلى خمسة أجزاء، وضم جزءاً كبيراً منه لإثيوبيا، كما ضم جزءاً آخر لكينيا، على حين اتحد الجزآن اللذان تحتلهما إيطاليا وبريطانيا وكوّنا جمهورية الصومال عام 1960م، بينما استقل الصومال الفرنسي (جيبوتي) .
وما زال الصومال منذ الاستقلال يطالب بأراضيه، ودخل حرباً مع إثيوبيا عام 1964م (بعد سنوات من استقلاله) كما دخل حرباً أخرى معها عام 1977م، ولم تزل إثيوبيا تحتل ذلك الجزء وتمنعه من أي امتياز أو تقدم.
فبعد سقوط الدولة في الصومال عام 1991م وجدت إثيوبيا في ذلك ضالتها، وسعت جاهدة بكل قواها لتفكيك الصومال، وتمزيقه حتى لا يعود من جديد، وصبّت الزيت على النار، ودعمت الانفصال الذي أعلنته من جانب واحد محافظات الشمال الغربي.
وتلبست الحكومة الإثيوبية في كثير من الأحيان بإظهار الود والصفاء للشعب الصومالي، وعقدت في مقرها أديس أبابا عدداً من مؤتمرات المصالحة الصومالية التي ما أفادت المؤتمرين إلا تفريقاً وتشتيتاً؛ لأن الهدف الإثيوبي منها اجتثاث المصالحة وإشعال العداوة بين الفرقاء، وكانت تعتزم أيضاً إفشال نتائج المؤتمرات التي تعقد في غير بلدها كمؤتمر القاهرة عام 1998م، ومؤتمر عرتا بجيبوتي 2000 م الذي تمخضت عنه الحكومة المؤقتة آنداك برئاسة عبد القاسم صلاة حسن بعد أن أثارت ضدها زعماء الحرب وقدمت لهم السلاح بسخاء؛ فكلما سارت سفينة السلام إلى الصومال باتجاه الصلح والوفاق كلما دفعت إثيوبيا بالموج الذي يقلبها.
وكان المؤتمر الذي عقد في كينيا قد حدث بتنسيق بين كينيا وإثيوبيا اللتين كانتا دائماً عقبة أمام المصالحة الصومالية في ما أعلنه رئيس كينيا السابق (دانيال أرب موي) الذي اعترف في كلمة له داخل إحدى الجامعات الأمريكية قبل سنتين ونصف حيث قال: «إن إثيوبيا وكينيا هما العقبتان الرئيسيتان أمام المصالحة الصومالية» وتزامن هذا الاعتراف بانعقاد جلسات المؤتمر الذي تمخضت عنه الحكومة الحالية، ولكن السؤال هو: هل من المنتظر أن تعود على الشعب الصومالي نتائج هذا المؤتمر بالنفع؟! بعد أن صرح رئيس الدولة المضيفة للمؤتمر أن دولته ضد هذه المصالحة الصومالية على الرغم من أنه افتتح المؤتمر وبدأت أعماله أثناء فترة رئاسته، بالإضافة إلى ما كانت تقوم به أثيوبيا من التلاعب بالمؤتمر وتغيير مساره كلما تخطى إلى حل بعض الخلافات الرئيسية، وتدخل مع المؤتمرين في لقاءات جانبية، وتقدم لبعضهم دعوات لا سيما زعماء الحرب إلى زيارتهم لأديس أبابا، أو تزورهم هي وتلتقي بهم داخل الصومال لإعطائهم توجيهات وتعليمات تخدم مصالحها، مما أطال فترة استمرار المؤتمر وضيَّق على الآخرين للمُكُوث في قاعات المؤتمرات دون جدوى لينفد صبرهم ويتركوه حتى لا يبقى فيه إلا زعيم حرب مُوالٍ لإثيوبيا، وهو الشيء الذي مهّد ليفوز حلفاؤها في رئاسة الدولة والحكومة وأغلبية الأعضاء فيها الذين بدؤوا يتأهبون ليعطوها شرعية الدخول إلى الصومال، وليكونوا لها جسراً للوصول إلى أهدافها التي هي أن تجد موضع قدم لها في الصومال لتضعه تحت احتلالها، منذ أن طالب إمبراطورها (هيلاسلاسي) من الاستعمار الأوروبي الذي كان يحتل الصومال ضمه إلى أراضيه وأنه جزء منها لا يتجزأ.
إن القضية الصومالية مع إثيوبيا لا تختلف عن قضية باكستان مع الهند؛ فهل يكون من المعقول أن ترسل الهند إلى باكستان قوات باسم حفط السلام في أراضيها وتقبل الباكستان ذلك، أو العكس بالعكس؟! كل ذلك لا يمكن، ولذلك لا يرضى الصومال أن يكون الذئب (إثيوبيا) له راعياً، وإذا حدث ذلك فسينافح عن أراضيه بكل ما أوتي من قوة، حتى يرد كيد العدو في نحره.
وفي الختام: لا يخفى على العالم الإسلامي والعربي ما يحتاجه إخوتهم المسلمون في الصومال من تقديم دعم مادي ومعنوي، والوقوف إلى جنب القائمين على توحيد البلاد، ولمِّ شمل الفرقاء لتحقيق المصالح العليا للشعب وحفظ هويته الإسلامية والعربية، ليتمكن من التصدي لما يحاك ضده من الحملات التي تستهدف إضعاف المسلمين في هذا البلد، وإيقاف المد الإسلامي الذي ينبعث منه، وإعطاء النصرانية دوراً أكبر، لتوسيع عملياتها في المنطقة باسم الإغاثة، ومنع المنظمات الإسلامية من تقديم العون والدعم لإخوانهم المسلمين، ووضع العراقيل والتهم أمامهم ليتسنى العمل للهيئات التنصيرية وحدها دون غيرها مستغلة الظروف القاسية التي تمر بها البلاد، وما يوفر لها الغرب من حماية.
وأخيراً: أود أن أنبه إلى أن البنية التحتية لهذا البلد منهارة، وتحتاج إلى إعادة البناء والتشغيل كالأمن والتعليم، والصحة، وإعادة تشغيل شبكات المياه والكهرباء، وتعبيد الطرق ومد الجسور، وما إلى ذلك.
__________
(*) رئيس الجامعة الإسلامية، مقديشو ـ الصومال.(229/19)
رمضان في فلسطين.. بين جهاد الحصار وغياب دور الأمة
يوسف العمايرة
نستقبل شهر رمضان جديد، والكل في فلسطين يرقب لحظاته المباركة، والأنفاس المحبوسة في الصدور تتحسّب، هل سيكون هذا العام حزيناً كسالف إطلالاته في الأعوام الخوالي؟! أم بعكسه إن شاء الله.
فمنذ رمضان المنصرم، أحوالٌ شتّى تبدّلت، ومآقٍ كثيرة فتحت مصراعيها للنزف دماً ودمعاً وآلام حسرات، كما أن أوهاماً أكثر تبدّدت عندما أماطت التغييرات السياسية اللِّثام عن وجوه مشوهة بزيف دعاوي السلام والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
السلطة القائمة على أرض محتلّة، وبين يدي شعب يتوق للتحرّر، أراد منها الاحتلال الصهيوني أن تبقى مَغْنماً للثلّة الجشعة من أبناء القضية ولابسي ردائها، وهي على هذه الحال، تحظى بشهادة حسن سلوك صهيونية، وتزكية دول عربية رسمية، ودعم من تسمّي نفسها «قوى التحرر» العالمي، فكيف وقد انقلبت المائدة على رؤوس أصحابها؟!
الحالة الديمقراطية المتمثِّلة بالانتخابات التشريعية مطلع العام، مثّلت ذاك الانقلاب. وتشكيل حكومة يقودها إسلاميو البلاد، مع هيمنتهم على معظم المجالس البلدية والمحلية في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، لم تَرُقْ لكل العالم، فتزعزع وهاجَ واضطرب، وكأن القيامة أزفت ساعتها، واجتمع القوم، وتكالب طغاتهم وجبابرتهم وبرابرتهم، وائتلفوا في حلف شيطاني هو الأقوى على وجه البسيطة، وأخذوا يرمون شعبنا عن قوس واحدة، ويتسابقون مَنْ أشدُّ وطأة على ضعفائه وأبريائه، ففرضوا حصاراً عالمياً مُحْكماً، مُبارك إقليمياً على المستوى الرسمي العربي، ويحظى بتأييد ودعم داخلي من قِبَل مجموعة فقدت مراكزها السياسية وباتت مكشوفة تمهيداً لمساءلتها عن سوابق أفعالها التي تراوحت بين سوء الإدارة واستغلال النفوذ وتشكيل الإقطاعيات المناصبية، وإساءة التصرف بمقوِّمات الحكم والهيمنة، واستغلال الاستثمارات الوطنية وتداولها في الأسواق السوداء في وقت كان الشعب الفلسطيني يعيش أحلك لحظات أيامه اسوداداً، ثم الإيغال المتعمد في الأموال العامة، وليس أخيراً التنسيق الأمني مع الاحتلال لجَلْد ظهور المقاومين والشُّرفاء والأحرار.
الحصار المستمر ـ الذي يطول أمده، ويطال رواتب الموظفين ومخصصات الأُسر الفقيرة وعوائل الشهداء والجرحى والأيتام والمعاقين والأسرى، وينال من مؤسسات العمل الخيري الإسلامي الإغاثي ـ أدّى إلى وقوع كارثة إنسانية يندى لها جبين بشرية القرن الحادي والعشرين، إذ ارتفعت معدّلات الفقر بين السكان الفلسطينيين إلى أقصى حدّ في تاريخهم الحديث، وحسب معطيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن معدّل الفقر حتى بداية النصف الثاني من العام الحالي (2006م) بلغ (65.8 %) ، أي: أن حوالي سبع أُسر من بين عشر تقع تحت خط الفقر.
عندما توجّه الفلسطينيون لانتخاب ممثِّليهم، كانوا يرون الطريق أمامهم معبَّداً بالعراقيل، وقد أعلن الإسلاميون في حملتهم الانتخابية التي وصلت كل بيت، أن التحدّيات مقبلة، وستكون هذه المرّة خطيرة، ومفصلية، ومصيرية في تاريخ القضية. وعندما وضع الناخب صوته في صندوق الاقتراع، كان قد قرّر حسم الموقف إلى جانب الثوابت الوطنية على حساب كل الاعتبارات الحياتية الأخرى، كما فعل ذاك الشيخ المسنّ عندما وطئ بعكازته محطة الانتخاب، فأخرج من جيبه كل ما يلزم من بطاقات التعريف بهويته، البطاقة الشخصية، بطاقة اللجوء الصادرة عن «وكالة الغوث الدولية» ، و (طابو) الأرض المفقودة منذ العام 1948م في قرية «الفالوجة» ، ثم كان مفتاح بيته العتيق الذي أصبح فضاء لا حدود له، لا يُغلق إلا على الذكريات الحزينة. إحضار الشيخ المسنّ لكل هذه الوثائق و (المستلزمات الثبوتية) أثارت انتباه الحاضرين، وأحدثت وخزاً غائراً في ذاكرة البعض منهم، ليتبين مدى إدراكه لما يقوم به، وأنه في هذه المرّة قادم ببطاقاته ليس لاستلام مؤنة طعام، بل لتثبيت موقف من كل ما يجري حوله، وليؤكد أنّ له حقاً دينياً وتاريخياً ووطنياً في هذه الأرض، وهذه فرصته الأخيرة قبل رحيله إلى ملكوت الله، كي يُلقي بالتركة على كواهل الأجيال القادمة، واضعاً صوته «أمانة في أعناق من يعرفون الأمانة ويؤدّونها حقّها ـ أصحاب الرايات الخضراء» كما قال. ومئات الآلاف على طريقة هذا الشيخ، وضعوا الأمانة الثقيلة بأعبائها ـ التي تنوء عن حملها الجبال ـ في أعناق «حُكَّامهم الجُدد» .
والشعب الفلسطيني عندما منح ثقته لشُرفائه وأحراره، فإنه عقد العزم مُخْلصاً نيّته لله، أن يستعصم بحبله المتين في وجه كل الضغوط، تأسّياً بالرسول الكريم # عندما خرج بالثلّة المؤمنة إلى شعب الحصار والجوع والضنك، ليزدادوا عزيمة وشكيمة وإصراراً ويقيناً، وليزداد الطغاة والباغون هزيمة وانكساراً ودحوراً. وكذا أمرُ أحزاب الخندق، يوم أن تزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً. أَوَ ليس الطغاة هم أنفسهم على مرِّ التاريخ يهوي بهم غرورهم إلى درك المذلّة والخيبة؟!
إن حزب الطغاة الجُدد، وهم يرفعون شعار الحرية والأخوة الإنسانية، يتقدمون نحو شعبنا الفلسطيني ويحاصرونه بجرأة المتكبِّرين، لا يطالبونه بأكثر من التنازل عن ثوابته الوطنية، والانسلاخ عن منهج ربه، وإعلان البراءة عن الملّة المحمدية، ثم اتِّباع ملّتهم لينظروا، أنكون جديرين فيرضون عنا، أم يسخطون! وهي ذات المطالب التي تلقفها رسولنا # من أهل الشرك، ليعلن وهو في أشدِّ لحظات ضعفه البشري: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه..» ، ولمن كانت الغلبة بعدئذٍ؟!
إن الموقف الأمريكي والأوروبي بتشديد الخناق على الشعب الفلسطيني وحصار حكومته المنتخبة ـ كإسناد مطلق للاحتلال الصهيوني، ورفض كل محاولات النهوض والخروج عن الطوع ـ يعزّز قناعاتنا بأنهم قوم لا يريدوننا إلا عبيداً في حظائرهم، يطعموننا خبزاً عجنوه بدمائنا، ويقتلوننا بسيفٍ حدّوا نصله على أجسادنا. وحتى من تسمّي نفسها «هيئة الأمم المتحدة» ، فإنها تنتهج سياسة دولية غير مسبوقة، تقوم على اعوجاج مشبوه في الرؤيا، وانحياز جبان للمواقف.
أما العدو الصهيوني فلا يريدنا ـ نحن الفلسطينيين ـ أن نخضع أو نخنع أو ننسلخ من جلودنا العربية والإسلامية فحسب، بل يطمع منا إعلان البراءة عن ظهورنا التي أبكت سياطه، وصدورنا التي أدمت رصاصه، وعن أفواهنا التي تجرّعت كؤوس إذلاله، وأن نتنصّل من عظامنا التي مضغت جنازير دباباته.. يطلب منا أن نمدّ أعناقنا ليدقّها كي نقول أن ذبحه كان رحيماً! وعجباً أن كثيرين يتفهمون مواقفه، ويتبنّون سياساته، ومنهم المطبّعون الذين تسابقوا تحت جنح ليالٍ غابت أقمارها، فتخندقوا صفه، وتقلّدوا ثقافته، ورموا في وجوهنا أن لا طاقة لمواجهة لفيف الحلف «الصهيوصليبي» ، ونسوا أن من بين شرفاء الأمة عباداً آتاهم الله عزيمة «داود» ـ عليه السلام ـ ورباطة جأشه وثقته بالله تعالى، وهو يلقي بحصى مقلاعه ليسقط وهمَ «جالوت» وقوته.
إن هؤلاء جميعاً يحاصرون شعبنا ويحاربون حكومته؛ لأنها رفضت الإقرار بشرعية الغاصب لأكناف بيت المقدس، وهل كان مصير من اعترف بذلك إلا قتله على أيديهم، بالسمِّ الزعاف في رابعة نهار القرن الحادي والعشرين!
إنهم يريدون إكراه هذه الحكومة على ولوغ مستنقع التنازل والفساد بعد أن أنجانا الله منه، لتعود بعد سنين وقد غاصت في وحله وما بخفّيها أقدام!
لقد جعل شعبنا من أجساد أبنائه ودمائهم سياجاً يحمي عروبتنا وإسلامنا، ولا زال يقدِّم الغالي والنفيس لكسر شوكة «يهود» ، فطردَه من غزّة، وألجأه إلى عقره المحصن بالجدر، ليئدَ بذلك حلم ارتوائه من نيل الكنانة وفُرات الرافدين. ولما رأى «يهود» حاله التي أضحى عليها، أخذ يمعن في تقتيل أطفالنا ونسائنا وأحرارنا، ويعضُّ عليهم بأسنان البلدوزرات، ثم يستغيث من هول ما أحدثه قتلهم من ضجيج لآلة حربه.. فكيف يطالبون الضحية ـ إذن ـ الاعتراف بشرعية قاتلها؟!
يأتي رمضان هذا العام، ويدقُّ مدفع الإفطار على وقع هدير الدبابات وجنازيرها تمضغ لحم أطفالنا، والطائرات تدلق حممها على مساكننا ومهاجع الآمنين، ولن يضير الفلسطيني ذلك، ولن يقهقره عن الدفاع عن أرضه، بل إنه لأحبُّ إليه أن يفطر عند الله وهو شهيد في سبيله، بدل أن يفطر على مائدته في ذلٍّ وخضوع وقهر.
يأتي رمضان هذا العام، والعمل الخيري الإسلامي موصدة دونه الأبواب، بعد أن أُغلقت معظم مؤسساته وجمعياته لآمادٍ طويلة، وصُودرت ممتلكاتها، واعتقل ممثّلوها وطواقمها، وتمَّ التحفّظ على حساباتها البنكية، وقُطعت الإمدادات عنها، حتى من الدول الشقيقة والصديقة، إلى حدِّ أن كفالة اليتيم لم يعد لها مكان في عالم الخير، ولم تجرؤ مؤسسة بنكية على السماح لهذه الكفالة باجتياز الحدود؛ كي تصل يتيماً محروماً فتمسح عبرته، أو فقيراً معوزاً فتقضي حاجته.
يأتي رمضان هذا العام، وأيتامنا يطمحون ـ كأقرانهم من أطفال العالم ـ بمستقبل واعد، طاعم من الجوع، وآمن من الخوف، وبعيد عن إرهاب من غضب الله عليهم بسوء أعمالهم.
إن الدعم الأمريكي والأوروبي المقدَّم لشعبنا طوال الفترة الماضية كان مشروطاً، ويُصرف جلّه لمؤسسات ومنظمات أقامتها دولهم في مناطقنا، تبثُّ برامج سياسية واجتماعية وثقافية، تدعو شبابنا للاغتراب، وتحضُّهم على التطبيع مع «يهود» ، ليشكل دعمهم على هذه الشاكلة مظهراً استعمارياً يتّسق مع متطلبات مرحلة نظامهم العالمي الجديد. وعمليات الصرف على آليات تنفيذ المشاريع كانت تقتطع النّسب الأعلى من المنح على حساب المشاريع ذاتها، في إطار سياسة إفقار عصرية ممنهجة ومتحضّرة. والجزء المتبقّي من دعمهم، مساعدات غذائية، تُصرف حسب أهوائهم متى شاؤوا، ويُعلّق صرفها متى شاؤوا، تثبيتاً لسياسة الضغط والابتزاز من أجل انتزاع مواقف سياسية لصالح دولة الكيان الصهيوني، ظانّين قدرتهم على إرغام الفلسطينيين على بيع قضيتهم بأبخس ما في الكون من أثمان «سدّ جوعة بطن» . إنهم يريدوننا صعاليك، وما كان أجدادنا كذلك ولن نكون. ورغم أن قطع تلك الإعانات تُسجل ضمن دائرة التعامل الإنساني غير الأخلاقي، فإنها لم تكن ولن تكون منّة الأمريكان والأوروبيين، الذين سلبوا أرضنا عنوة، ومنحوها ملاذاً لشذاذ الآفاق؛ تخلّصاً من شرورهم ومفاسدهم، فهم بذلك وإن أعانونا أبد الدهر لن يكفِّروا عن خطيئة جريمتهم تلك.
لا زال الفلسطينيون عاقدين العزم على تسيير موكبهم السياسي تحت راية «لا إله إلا الله» الخفاقة بالعزِّ والتمكين، مصمّمون على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية أولى عربياً وإسلامياً، بإدراك عميق لأهمية هذا البعد، الذي حمل همّها في أدقّ مراحلها ماضياً، فكان صلاح الدين وبيبرس وقطز أبطال التحرير قادة إسلاميين، وليس من المتوقع أن يكون جيل التحرير من (اليهود) إلا أحفاداً لهؤلاء الأبطال عقيدة وفكراً وسلوكاً.
إن شعبنا قد أعلن قبوله تحدّي الجوع من أجل الكرامة، وهو رافضٌ حتى اللحظة ابتزازَ جلاّدي العالم ولو وضعوا في أيديه شموساً وأقماراً.
وحكومتنا وقد أضحت غريبة بعد إخراجها من الكتلة الدولية لضمِّها (أناس يتطهرون) ، يتم السعي ليلاً ونهاراً لإفشالها، وإفشال شعار «الإسلام هو الحل» كمنظومة قيمية حضارية متكاملة، ترقى بالواقع الإنساني في شتى مجالات حياته.
يأتي رمضان هذا العام، والواجب يحتّم علينا كعرب ومسلمين، اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن نتقدم لانتزاع قضيتنا من بين أنياب الصغار اللاهين بها في أروقة العالم، وإعادتها لمحضنها الطبيعي، وأن نجاهر بتمرّدٍ استراتيجي على قوى الهيمنة التي يثير حضورنا فيها غريزة الاستئساد. ولنسجل مرّة واحدة وإلى الأبد، أن أعناقنا لن تكون مطايا لهم، وأن عهد الإذلال والاستكانة قد أدبر، وما داموا يجتمعون خلف «صهيون» رغم دنس باطله، فالأَوْلى أن نجتمع نحن خلف قدسية حقنا، ولنفوّت الفرص على المتربِّصين من أصحاب «الرايات البيضاء» الذين يُعدّون أنفسهم لرقصة أخرى على ألم جراحنا.
إننا ـ كفلسطينيين ـ نفي بالتزاماتنا إزاء قضية المسلمين النازفة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ونتشرّف بحملها تاجاً على أكتافنا، ذخراً بين جنباتنا.. ولن نخجل ـ بأجساد شهدائنا ـ من فرض أمر واقع على طغاة العالم الذين يرمقوننا بمنظار صهيوني، كي نحفظ حقنا ونعيد لأرضنا وقدسنا عزّها وكرامتها.
وإننا نستغرب الدعم غير المحدود واللفيف الصهيوني العالمي الذي يمدّ كيانه بكل مقوّمات الحياة وأسباب التفوق في منطقتنا، فتصله التبرعات والضرائب من شتى أصقاع الأرض، بينما لا يضير الكثير من أمة المليار مرأى شلاّل الدم الفلسطيني المتدفق على أيدي هؤلاء بين كل عشية وضحاها. ونحن والله ما عهدنا دمنا النازف أزرق ولا أصفر!
إن أسمى آيات العدالة، أن يقوى الحق على الباطل، والعظماء من يسندون الحق عندما تَدلهمُّ الخطوب، وأنبل هؤلاء جميعاً من يرفضون بغي الباطل في أوج قوته. وها نحن ـ أبناء أمتنا ـ نفرّ بأقصانا إليكم في رمضان هذا العام، نعرض ظلامته، ونجأر بشكوى بيت المقدس وأكنافه مما لحق به من قتل للجَدّ وتشريد للولد وقهر للحفيد، والحناجر تصدح في الآفاق: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] .
ورغم علم شعبنا أن دائرة اهتمام الخيّرين من أبناء العرب والمسلمين، المحيط العربي والإسلامي وضعفاء العالم، فهو سيبيت رمضان هذا العام رهن الحصار وسوء الحال، معلناً هجرته إلى الله، واثقاً بتأييده، وباسطاً ما تبقى فيه من أكفٍّ لكل أحرار العالم، ليُخذِّلوا عنه بما يستطيعون من دعم وإسناد مادي وإعلامي وسياسي ومعنوي، كل حسب طاقته وفي موقعه، بمقاطعة الدول والشركات الضاغطة عليه والمهينة لآدميته، ووقف أشكال التطبيع معها، وتفعيل الطاقات النخبوية كي تأخذ دورها في قيادة وتوجيه بُوْصلة شعوبنا نحو التحرر والنماء، وتحدّي الحصار الظالم، حتى لا يكون في فلسطين من يبيت جائعاً وسط بحر العروبة والإسلام، والرسول # يقول: «أيما أهل عرصة باتوا وفيهم جائع؛ فقد برئت منهم ذمة الله» ، والفرصة الآن مواتية لاختصار الوقت والرد على المواقف الصهيونية والأمريكية والأوروبية، التي لا تعتبرنا كعرب ومسلمين أكثر من أسواق استهلاكية لمنتجاتها، وحقولاً لتجارب صناعاتها وترساناتها، ونبرأ إلى الله من كل الذين يصرِّون على اختزال قضيتنا برغيف الخبز.
فشارك يا (ابن أمتنا) في شرف الذّود عن قضية أُوْلى القبلتين، وابعث بزيت يُسرج في قناديله، فيلتحم بعطر دمنا المسفوح على أسواره، ليزداد لمعان بريقه عزّاً وسؤدداً، والرسول # يقول: «ائتوه فصلّوا فيه، فإن لم تأتوه وتصلّوا فيه، فابعثوا بزيت يُسرج في قناديله» . وكن كنعيم بن مسعود بطل يوم الخندق حيث قال له الرسول #: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» ، وتذكر حديث المصطفى #: «ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته» ، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(229/20)
الاختراق الكبير
د. يوسف بن صالح الصغير
لا يخفى أن التيار الشيعي الحالي ما هو إلا نتاج من نتائج التيار الصفوي الذي فرض التشيُّع على سُنَّة إيران. ويلاحظ أن المناطق الفارسية التي كانت في السابق القريب سنية شافعية حُوِّلت بالقهر إلى المذهب الإثني عشري، وكانت المدن تُخَيَّر بين السيف والتحوُّل، ولذا لم يبقَ أثر للسنّة في إيران إلا في مناطق الأكراد والبلوش. ولم يمنع تنفيذ المخطط الصفوي في العراق إلا تدخل الدولة العثمانية العسكري، ولكن هذا لم يمنع الشيعة من التمدد السلمي في العراق؛ حيث جرى التركيز على العشائر العراقية عن طريق تردد دعاة الرافضة عليهم في غفلة وغياب من علماء السنة. ففي سنة 1326هـ، كشف الشيخ العلاَّمة محمد كامل الرافعي في رسالة أرسلها من بغداد لصديقه الشيخ رشيد رضا، ونشرتها مجلة المنار في المجلد السادس عشر، ما يقوم به علماء الشيعة من دعوة الأعراب إلى التشيع واستعانتهم في ذلك بإحلال متعة النكاح لمشايخ قبائلهم. وإليك اسماء بعض العشائر التي دخلها التشيع في القرنين الأخيرين: ربيعة، وتميم، والخزاعل، وعشيرة زبيد، بنو عمير وهم بطن من تميم، والخزرج وهم بطن من بني مزيقيا من الأزد، وشمر طوكه، والدوار، والدفافع، وآل محمد، وعشيرة بني لام، وعشائر الديوانية، وعشيرة كعب. وكان التوسع في التعليم بعد ثورة 1958م رافداً لهذا التسلل عن طريق المعلمين الشيعة في المناطق النائية والبدوية. ولا شك في أن مبادرة الشيعة لفتح مكتب للتقريب بين السنَّة والشيعة في القاهرة عام 1946م ما هو إلا محاولة لاختراق مصر ونشر التشيع فيها سلمياً؛ استكمالاُ للهلال الشيعي. وكان من الملاحظ أن من يبني موقفه من التشيع على حوارات ولقاءات مع عناصر شيعية منتقاة لهذه المهمة تجيد مبدأ التَّقِيَّة سيؤيد التقارب بين المذاهب، ويضمحل عنده الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب الإمامية إلى خمسة في المئة يُحشَر فيها كل الفروق من عصمة أئمتهم وسب الصحابة وتحريف القرآن. وقد ساهمت الأحداث الساخنة في العراق وقيام الشيعة بحملة تصفية وإبعاد للسنة في المناطق المختلطة، ومحاولة فك الطوق السني حول بغداد، وتحوُّل تيار الصدر من تقريبي إلى صفوي، ومن معارض سلمي للاحتلال إلى محارب لأهل السنة تحت شعار (تنقية عراق آل البيت من النواصب الوهابية التكفيريين) ـ لقد ساهم ذلك وغيره في تنبيه بعض علماء السنة الأجلاَّء إلى هذا الخطر. ولا أملك هنا إلا أن أشيد بالموقف الشجاع للشيخ يوسف القرضاوي الذي وضع النقاط على الحروف، وأطلقها مدوية تثبت تمسك الشيعة حالياً بمصحف فاطمة وسب الصحابة، وحذر من اختراق الشيعة لمصر وأنهم أتخذوا من التصوف قنطرة للتشيع، وحذر بصورة مبطنة من حسن نصر الله وأنه لا يختلف عن الشيعة المتعصبين؛ فهو متمسك بشيعيته ومبادئه. وأخشى ما نخشاه أن يتحول كل الشيعة إلى صدريين، وأن يبقى السنة تقريبيين.(229/21)
سَيِّدَ الأزمَان
عبد الله بن سالم العطاس
قلبي لمزنك والهٌ ظمآنُ
يا سيد الأزمان يا رمضانُ
يا شهر كل فضيلةٍ وكريمةٍ
الكونُ في لقياك كم يزدان!
يا مالئ الدنيا ضياءً مبهجاً
في حقل جودك يورق الإحسان
تبدو الصحارى المقفرات نواضراً
مخضرَّة، وربيعها فينان
أَقبِلْ علينا نفحةً قدسيةً
يهفو لطيبِ نسيمِها الوجدان
واملأْ فضاء المخبتين بشائراً
القائمين كأنهم عمدان
القارئين تدبراً ومهابةً
آياً، لها تتهدم الأركان
القائلين الصدقَ يعذب لفظه
فحديثهم من حسنه عقيان
الباذلين المال كفَّاً سحّةً
كالبحر، لكن ما له شطآن
الذائدين عن الحمى بنفوسهم
وأقل ما في وصفهم شجعان
رمضان يا شهر الصيام تحيةً
تكسو محيَّا بشرها الأحزان
ها أنت تأتي والمآسي جمَّة
وبأمتي يتلاعب العدوان
إنْ أنَّتِ القدسُ الحبيبةُ غدوةً
ردَّت عشيَّ أنينها بغدانُ
وإن اشتكت كشميرُ من هندوسِها
بسطت نفوذ ضلالِها إيران
وإذا يلوح بأرض بيروت الأسى
أواه مَنْ لك ـ يا ترى ـ لبنان؟
في كل أرضٍ أمتي مجروحة
وشفاؤها حتماً هو القرآن(229/22)
الغرور العقلي.. والانتكاس الفكري
عبد الله بن محمد السعوي
لو ألقينا نظرة تأمُّلية تبحث عن العوامل الفعّالة التي تقف خلف كثير من التحولات الفكرية الحادة عند بعض النماذج والتي تنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على نحو يستعصي معه الفهم والتحليل؛ لألفينا أنها لم تنبثق من فراغ بقدر ما هي أثر حتميّ أفرزته بواعث متنوعة بينها تسلسل سببي وروابط عليّة متبادلة ومتفاعلة أسجّل باعثين هنا منها على سبيل الإجمال، مقتصداً جهد الطاقة حتى لا أثقل على ذاكرة القارئ الكريم:
أولاً: القراءة المكثفة في كتب أهل الأهواء مع ضآلة العلم الشرعي في منحاه العقدي خاصة:
إن الفضول المعرفي بطبيعته يدفع إلى مزيد من النّهم القرائي اللامنضبط ـ أحياناً ـ مما يدفع بالفرد إلى قراءة كل ما يقع في متناول يديه من أطروحات فكرية قراءةً غير موجهة بحكم عدم استنادها إلى قدرات علمية عليا، ولذا فهي تولد الاتجاه السلبي أكثر مما تعزّز التوجه السلفي كإفراز حتميّ ناشئ عن ضمور مكتسبه المعرفي في جانبه العقدي على وجه الخصوص.
إن هشاشة الوعي ومحدودية القدرات العلمية تجعل من البنية الذهنية أرضاً خصبة مهيّئة لاستقطاب الأبنية المفاهيمية والمعاني المزيفة والرُّؤى الممعنة في التضليل باعتبارها أفقاً للوعي لا يسع المرء إلا الامتياح منه والتماهي مع معطياته.
إن إثارة الشبهات والتشكيك في العقائد والإطاحة بالتصورات الإيجابية هو الهدف المحوري الذي تتغيّاه كتب ومقالات أهل الأهواء، الشأن الذي جعل رسول الله # يتمعّر وجهه عندما شاهد صحيفة من صحف أهل الكتاب مع عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو الفاروق المبشَّر بالجنة، ونهاه عن قراءتها. ولقد كان سلفنا الأفاضل يحرِّمون علم الكلام ويشدّدون في عدم السماع من أهل الأهواء أو النظر في مؤلفاتهم حتى ولو احتوت على شيء من الحق؛ لأن هذه الأطروحات تورّث شُبهاً تضلّل المتلقِّي وتستهويه وتؤثِّر على قناعاته، وهذا التأثير عائدٌ ـ في تصوّري ـ لعاملين:
أحدهما: أنها تعتمد في بنائها التعبيري والفكري آليات فلسفية ترتكز على الفذلكة الكلامية والحذاقة اللفظية لتستهوي الفكر وتأخذ بلباب العقل وتلبس عليه وتسيطر على مساربه فيتلقف بعض الشبهات دون وعي، يتلقاها بلا غربلة ولا تمحيص، تتلبّسه الفكرة ويتلبّس بها، ترتسم في عقله ويتفاعل مع أدقِّ تفاصيلها ويغنى بها عن غيرها، تكبِّله بقيودها وتحجبه عن معاينة ما باينها، وتزجُّ به في دائرة مغلقة خانقة فيسيطر عليه شعور بصوابية ما يعتنقه بل يعتبره هو الحق المطلق، ومن ثم تتعسر عليه المراجعة، وتحت هذا الضغط النفسي الشديد تستبدُّ به الفكرة فلا يرى إلا ما يتقاطع معها، فيندفع للعمل بمقتضاها دون وعي، إنه يعيش في غيبوبة أفضت به إلى عزلة لا مادية خانقة نائية به عن مدِّ جسور التواصل والتماس والتفاعل الحيوي مع الأفكار المغايرة لها، قد ملكت عليه لُبّه ووجدانه على نحوٍ بات معه مفتقداً للرؤية الموضوعية النافذة مثله كما المحاط بألسنة اللهب، فرؤيته محدودة محصورة في ذاته وما يحيط بها من دخان كثيف.
العامل الثاني: أنها تملك مهارات عالية وكفاءة بارعة في تمرير مشروعها الفكري، وذلك من خلال ضخِّ المعاني ذات الطابع المادي التي تدغدغ حوائج الناس وتستجيب لعواطفهم، ومن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة التي تتظاهر بالعلمية وتدّعي الموضوعية، الشأن الذي يهدينا إلى تبيّن السر الكامن خلف اتِّساع القاعدة الجماهيرية المتناغمة مع أهل الأهواء، حتى صاروا بجملتهم أكثر كمية من أهل السُّنّة والجماعة، وهذا مؤشر يبرهن ـ بجلاء ـ على أن التماهي الوجداني مع المضامين الدلالية لهذا الخطاب ليس حقيقة شعورية منبعثة من رؤية منهجية وصياغة فكرية صائبة بقدر ما هي نتيجة للانسياق للمحركات الوجدانية.
إن القارئ المتسطح الذي يعاني من الهزال في بنيته المعرفية يتعسّر عليه ـ إن لم يتعذّر ـ أن يقرأ بروح تمحيصية ناقدة، فهو لا يملك القدرة على سبر أغوار الروح العامة وتفكيك البنية الشاملة التي ينهض عليها هذا الخطاب، ولذا يقع فريسة سهلة للأفكار السالبة بكافة ضروبها، ويسيطر عليه ما يشبه عمى الألوان، فيتجاوب مع المادة المطروحة، ويتذوّقها، وتنطبع لديه في أعماق الضمير، والمصيبة الأعظم تكمن في عدم شعوره بما ينطوي عليه من إشكال معرفي حادّ سهّلَ من اختطاف عقله ومن ثم مصادرته في بُعْده الإنساني.
إن قصور الاستعدادات المعرفية لدى المتلقّي يفضي ـ بالضرورة ـ إلى إضعاف شخصيته الثقافية، ولذا؛ فإنه بمجرد اطِّلاعه على مجموعة مقالات أو بضعة كتب من الكتب الفارغة إلا من الغُثَاء التراكمي فإنها كفيلة بإحداث هزّة عنيفة في كيانه تعصف بما تأصّل لديه من قناعات على نحو يجعله يتنكّر لما نشأ عليه من قيم، ولا ريب أن هذا يبرهن ـ بجلاء ـ على عمق الانفصال بينه وبين الفقه العقدي من جهة، وعلى أساليب الطرح الماكرة القادرة على التسلل بسهولة إلى التركيبة الذهنية للمتلقِّي من جهة أخرى.
تُعدّ العزلة الشعورية، والنَّأْي عن النهل من العلم المؤطر بالمنهج الرباني، وعدم التفاعل المثمر مع قادة الفكر وأرباب المعرفة وذوي الحسّ الحي في الأمة، والتجافي عن المصادر المعتبرة التي تشكل الفكر الموضوعي؛ من أكبر العوامل الموهنة للتماسك العقدي والمؤسسة لتداعي المسلَّمات القطعية، والتي تحيل الفرد إلى هدف سهل المنال لمختلف الوافدات والمؤثرات الثقافية المناهضة لمكوّناته الأساسية، والمناقضة للسلّم القيمي الذي تشكّل وفق دلالاته، والمخالفة للأدوات المعيارية التي على ضوئها يقيم أحداث الحياة. هذه البواعث تعرِّض كثيراً من الأسس المفاهيمية إلى التزعزع والتآكل الداخلي.
إن هذا المتلقِّي بفعل ما يحتوي عليه من فقر علمي وجهل عميق لديه ضرب من السلوك الازدواجي الذي يتجلَّى على نحو واضح في تباين تعاطيه مع الأفكار المجسّدة والمجرّدة وتباين مواقفه إزاء كل منها، مما يشي بإمَّعية فكرية ضُربت بعمق في أعماق أغواره فأضعفت عناصر المقاومة في ذهنه فضلَّ عن الحق وتاهَ في بَيْداء الوهم والخيال كأثر حتمي لتزاوج الهوى الحاجب لصفاء الحقيقة والجهل اللامحدود الذي بفعله باتت رؤيته سطحية هامشية فاقدة للرؤية النقدية التي تعتمد التجرد والموضوعية أبرز أدواتها.
إن مما يبعث الأسى هو أن المتلقّي السالف الذِّكْر قد يكون أحياناً ممن يساهمون ـ في تصوّره ـ بإثراء الحركة العقلية ودفعها ـ لا لتأهيله لذلك، وإنما لاحتلاله مكاناً أكبر بكثير من مقاساته المعرفية والعقلية ـ وهنا تعظم المأساة، حيث إن جملة الأفكار التي تسرّبت إلى جنانه واستقرت في حسِّه وتراكمت في عقله الباطن هو الآن يتبنّى العمل على تصديرها وإنتاجها يستهدف بها متلقّياً ـ هو الآخر بالمواصفات ذاتها ـ يستلهمها فتعانق وعيه وتكتسح لُبَّه فيتقولب بمضامينها التي تتغلغل فتلامس كل جزئية من وجدانه، وهكذا تجري عملية التسويق عن طريق الاجترار بتبادل الأدوار على نحو يثير الشعور بالأسى والشّجن.
إن هذا الطرح ذا النزعة الليبرالية يعكس ـ بنقاء كامل ـ الصورة عن عقول مصادرة تتظاهر بالتحرّر والانفتاح الذي لا يتحقق ـ من وجهة نظرها ـ إلا بالخروج عن منطق التجانس الجمعي، واستفزاز الساكن، ومخالفة السائد، وتحريك الراكد، واختراق (التابو) ، والتمرد على المقاييس والأعراف المعتبرة، واستدبار النصوص، وإسقاط مكانة العلماء، والتقليل من خصوصية المجتمع، والمبالغة في السقوط الأخلاقي بحجة التطوير والتجديد.
إن الحقيقة التي يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا دائماً هي أن التجديد لا يكمن في الإقصاء لأخلاقٍ واستدعاءِ أخرى على الضدِّ منها، وإنما يتم التجديد من خلال توسيع مدى الأبعاد الدلالية لبعض الأبنية المفاهيمية الأخلاقية، وابتكار الآليات الفعّالة لعولمتها وجمهرة ممارستها وتكثيف الدعاية لها والإعلاء من قيمتها في النَّسَق الأخلاقي العام ودفعها نحو نقلة ارتقائية تحتلُّ جراءها موقعاً أعلى في درجات السلّم القيمي.
إن ثمَّة ثلة من الكُتّاب لديهم تصور ذاتي وهمي، فهم يرون ذواتهم أنهم طليعة هذه الأمة والناطق بلسانها والمعبِّر عن آلامها وآمالها، وهم فقط الذين يملكون عناصر الترشيد الضرورية للنسيج الاجتماعي الذي استقرَّ في وعيهم أنه بخاصته ودَهْمَائه (1) وبسُراته وبُسطائه وبتنويعاته وتعبيراته وبمكوّناته وقياداته الدينية وبفعالياته الثقافية وبرموزه العلمية؛ عبارة عن قطيع غوغائي ومزيج نَتِنٍ من الإمَّعات والسطحيين الذين يعيشون في واقع استاتيكي سكوني يغلب عليه طابع النمطية والاطّراد العشوائي على نحو يدفع هؤلاء الكُتّاب ـ من وجهة نظرهم ـ إلى الاشتغال على تهيئة بنية هذا المجتمع لخصائص جديدة، وذلك من خلال تطوير أنماط سلوكهم وتوسيع آفاقهم بعَصْرنة مفاهيمهم ولَبْرلة توجّهاتهم.
الفلسفة التي يصدر عنها الطرح الليبرالي تكمن في اختزاله كافة أشكال الرقي في البُعْد المادي المحض، وتتجلّى في طبيعته الموضوية الرافضة للماضوي والعاملة على تجسيد القطيعة المعرفية معه تمهيداً لمحوه من الأذهان ومن ثم تهميشه في عالم الواقع الفعلي، وفي سبيل هذه الغاية فإنه يلحُّ ـ وعلى نحو مستمر ـ على جملة معانٍ محددة يتغيّا استقطابها لإذاعتها وجمهرتها على أرض الواقع العملي.
تحرير المرأة، إلغاء تعدد الزوجات، الحرية المطلقة، الثورة على التراث السلفي، تحرير العقل من سلطة النقل..إلخ؛ كلها مفردات تكتظُّ بها هذه الأطروحات على تباين جليٍّ في مستوى شفافيتها وتغاير واضح في القوالب المستخدمة لتسويق تلك الرُّؤى على نحو يضمن لها القبول والانتشار والتمدد.
إذا تبلور ما سلف وصلنا إلى نتيجة راسخة مفادُها أن رفع منسوب العلم الشرعي ـ وفي بُعْده العقدي خاصة بوصفه هو الذي يهندس الشخصية الإسلامية ويوجِّه طاقاتها ويرشد حركة معرفتها ـ شرطٌ موضوعي يلزم توفّره في كل فرد بحسبه.
وتتأكد أهمية توفّره في كل من ينزع إلى التواصل القرائي مع مختلف الأطروحات المنتمية إلى منظومات فكرية مغايرة أخرى؛ لأن العلم الشرعي بحسبه يمثِّل بنية معرفية عميقة بالنسبة للعلوم الأخرى هو الذي يكسب حامله حسَّاً نقدياً ورؤية نافذة قادرة على إزاحة الستار وإدراك ما يحتجب خلفه من منطلقات وما يكمن من خيوط دقيقة ضامرة في أعمق أغواره.
إن الإلمام بالعلم الشرعي والتشبّع بالفقه العقدي وفق منهج سلفي مطلبٌ جوهري في غاية الأهمية والإلحاح، مطلبٌ يمنح صاحبه حصانة فكرية، ويزوِّده بمناعة نفسية، ويورِّثه عزّةً وقناعة تامة بصوابية توجّهه، ويمدّه بحيوية ذهنية وقدرة فذّة على القراءة النقدية التي تضعه أمام الحقيقة الموضوعية لهذه الأفكار الوضعية التي تغذِّي أخيلة مستهلكيها بالمفاهيم الكاسدة والمتشابكة مع أسسنا الفكرية لسلّمنا القيمي المستوحى من نصوص الوحيين.
إن العمق المعرفي الشرعي هو الذي يمنح المتلقِّي عقلاً متحرّراً من علائق التبعية لكل فكر متوتر معزول عن وحي السماء، ويمكِّنه من الصيرورة إلى تملّك أفق شمولي واسع يمنحه أعظم صور البلورة النقيّة التي توقفه على حقيقة مقروئه فيعرِّي سوأته ويجلي ثغراته ويعي مدى ما تولّده من مفاسد في البنية العقلية وحجم ما تقرّه من خلل في الكينونة الثقافية.
إن التأهيل وبقدر كافٍ للذات ـ من خلال توثيق الاتصال الفعّال بمنابع الثقافة الإسلامية ـ شرطٌ يجب استدعاؤه لاستثمار معطياته بحسبانها هي من يزوّد الفرد بالنظرة العميقة المخترقة لحدود الإدراك الظاهر والسابرة لأغوار المقروء وغربلته، ومن ثم مواراة الأفكار المولدة للتصورات المغلوطة في الزوايا المظلمة من الذاكرة ليجري استحضارها في الظرف الملائم، وذلك عند إرادة تجلية مساحات التفوق وإظهار القيم الجمالية وإبراز خطوط التميّز في الفكر السلفي، والذي تتجلّى روعته الأخّاذة عند مقارنته بضدِّه، وكما قال الأول: وبضدِّها تتميّز الأشياءُ.
ثانياً: المبالغة في إيراد الأسئلة والاستفهامات على العقل وتحميله ما لا يحتمل بجعله الإطار المرجعي الأول بعيداً عن النص:
إن الحضور الفعّال للبُعْد التساؤلي في حسِّ الفرد يُعدّ من أهمِّ الشروط اللازمة لتفتيح ملكاته الفطرية ونموّ كينونته المعرفية وتكوين نظرته الشمولية. ولذا؛ فإن تطلّع الفرد إلى استكناه المجهول وإيراده للتساؤلات الهادفة ـ التي تطرح أبعاداً غائبة لم تُمنح ما تستحقه من عناية ـ وتشوّفه إلى معرفة الخيوط التي نُسج منها الواقع، وبحثه عن إجابات تمكّنه من فرز التباسات الآني المعقد وتبيّن تشابكاته وتداعياته ومن ثم تحسس المسارات الآمنة ينمّ عن عمق في الوعي، واستنارة في العقل، وتحسّن في مستوى الإدراك، وانعتاق من قيود النمطية والتقليد، وثمّة بَوْنٌ ذهني لصالحه يكشف المساحة الشاسعة بينه وبين الأذهان الببغاوية التي لا تتقن سوى التقليد والمسكونة بكافة ضروب البلادة والتسطح لما تنطوي عليه من افتقار مطلق للبعد العقلاني المرتكز على العلم الموسوعي والتفكير الإبداعي الجادّ، والذي توفّره مربوط إلى حدٍّ كبير بوجود التساؤلات بكثافتها الكمِّية من ناحية، وبطبيعتها النوعية من ناحية أخرى، وقديماً أجاب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عندما سُئل عن السرّ الكامن خلف ما يتوفر عليه من رصيد علمي هائل بقوله: (.. بقلب عقول ولسان سؤول) .
إذاً؛ فثقافة التساؤل من حيث المبدأ هي ثقافة ينبغي تفعيلها وإشاعتها، ولكن ثمَّة ملحظ يجب استحضاره في هذا السياق، مؤدّاه أن الأسئلة تتباين باعتبار طبيعتها الماهية، فثمَّة أسئلة لها عوائد إيجابية وثمَّة استفهامات لها مردودها المكتظّ بالسلبية، كما هو الحال في الاستفسارات ذات النزعة الفلسفية المتمحورة حول ذات الخالق ـ جلَّ وعلا ـ وأسمائه وصفاته وأفعاله.
إن ثمَّة أموراً يجب أن يقف عندها العقل موقف التسليم والخضوع أُشير إلى جزء منها على نحو مجمل كما يلي:
أولاً: القدر، فهو سرّ الله في خلقه، والرب ـ تبارك وتعالى ـ يعلم الأصلح للخلق الذين لم يتعبَّدوا بالبحث عنه، وإنما تعبَّدوا بالرضى الوجداني والتسليم المطلق والامتثال اللامشروط، ولقد كان سلفنا الأوائل نموذجاً مثالياً يجدر الاحتذاء به في هذا الشأن، وكانت مواقفهم حازمة إزاء من يتمادى في إثارة الأسئلة والإشكالات في القدر، كما نرى في موقف الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تجاه بعض أهل الذمة؛ كـ (قسطنطين) الذي سلَّم مفاتيح بيت المقدس لعمر ـ رضي الله عنه ـ وقد أفصح عن شعور يخالجه بالاعتراض على القدر، فتوعّده عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى فاء إلى الحق. وكذلك قصة ذلك الشاب الذي أفرط في التفاعل مع الخواطر العارضة التي ترد على ذهنه، فجاء به والده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فزوّده بجرعات تعليمية حتى آبَ إلى النهج السوي، وكذلك أيضاً قصة (صبيغ التميمي) وهي مشهورة في هذا السياق.
ثانياً: الغيبيات عموماً سواء منها ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله بكيفياتها، أو ما يتعلق بأخبار الغيب الأخرى كأحوال الآخرة أو عالم الشهادة الذي ليس بمقدور مداركنا تناوله، فهذا كله يجب الكف عنه وتجنّب البحث في تفاصيله.
ثالثاً: بعض حِكَم التشريع؛ لأن حِكَم التشريع متباينة، فثمَّة جملة منها قد يُدرك من قِبَل عامة الناس، وجزء آخر قد لا يدركه إلا العلماء، وهناك جزء يختص الخالق ـ جلَّ وعلا ـ بمعرفته، وهو سرٌّ من أسراره الخفية المغيبة عن البشر.
إن الإفراط في طرح المزيد من التساؤلات سلوك له إفرازاته السلبية؛ لأن للسؤال قدرة هائلة على التشعب والتكاثر والسير في كل اتجاه، فالسؤال السابق يفضي إلى السؤال اللاحق الذي بدوره يستدعي إجابة تكتظ بمواطن الأسئلة اللامتناهية، وهكذا تتواصل الأسئلة على نحو توالدي يعي العقل ويرفعه إلى مشارف الهاوية، فتتنازعه مشاعر متناقضة تعصف به وتحيطه بدائرة من الكآبة المقلقة والتوترات النفسية المرشحة للتفاقم والاستفحال.
إن ضغط الأسئلة اللامشروعة على الطاقة الذهنية هو في حقيقته ليس إعمالاً للعقل بقدر ما هو إهمال له وشرعة لاغتياله. تفعيل العقل يكمن في عقلنته بالدلالات المضمونية للنصوص الشرعية، لا بالقفز على هذا البُعْد الشرعي بالاعتماد على الرُّؤى المشوَّهة والطرح المُرْبك للوعي الإنساني.
إن الذي أوجد العقل حدّد له دائرة عمله، ووضع له الأُطر التي يجب أن لا يتجاوزها، وجعل منه قاعدة ينطلق منها الفرد في وعيه عن الله وأحكامه ومراده ومرامي تشريعاته، وهو بتآزره مع النص يشكل تصورات الفرد لأهداف الحياة والغاية من الوجود الإنساني.
لقد ضلَّت طوائف شتَّى بفعل جهلهم بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحامه في غير ميدانه، كما نلحظ ذلك جليّاً عند الفلاسفة، حيث أنفقوا طاقاتهم العقلية في سبيل أن يدرك المحدودُ غيرَ المحدود، فتاهوا في محيط من الجدل المتناقض الذي لا يركن إلى قرار، وقالوا: إن وجود الخالق وجود مطلق بشرط الإطلاق، فجرّدوه من الوجود الذاتي، وحصروه في الوجود الذهني الذي لا حقيقة له في الخارج، والمعتزلة قدّسوا العقل وجعلوا النص يدور في فلكه، فأدَّى بهم ذلك إلى القول بخلق القرآن، وقال بعضهم: بمنع التسلسل في صفات الخالق جلَّ شأنه، وأوجبوا عليه فعل الأصلح، والصوفية بفعل انحسار دور النص قالوا: بوحدة الوجود، واعتمد بعضهم على (حدّثني قلبي عن ربي) ، والجهمية منحوا العقل مكانة لم يُؤهل لها، ونقلوا قدراته من النسبي إلى المطلق، فقالوا: بنفي النقيضين عن الله، ومنهم من قال: بالحلول، ومنهم من قال: بالاتحاد، وجملة منهم حصروا الإيمان بالمعرفة المجردة فحسب، والقدرية جعلوا للعقل الهيمنة الكاملة والمرجعية المطلقة، فقالوا: بأن العبد خالق أفعاله وأن الله لم يقدّرها، والمرجئة جعلوا السيادة للعقل وعملوا على إقصاء النقل فقالوا: بنفي الكفر عمن تلبّس به والتاث بسلوكياته.
والثنوية ألّهوا العقل وخرجوا به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم، فقالوا: بوجود خالقين لهذا العالم، والخوارج وسّعوا دائرة صلاحيات العقل وأَعْلوا من وظائفه فرَمَوا بالكفر من هو منه بَراءٌ، وسلكوا منهج العنف ذي الطابع الراديكالي، والدهرية جعلوا العقل هو الصانع المنتج للوعي والمحدد لإطاره فأنكروا وجود الخالق جلَّ في علاه، والأشاعرة والماتريدية جعلوا العقل هو الركيزة الأساسية التي يصدرون عنها، فقالوا: بظنّية الدلالات الشرعية ويقينية القواطع العقلية، ووصفوا الخالق بالنقص عندما قالوا بعدم ظهور آثار أسماء الخالق وصفاته إلا بعد أن خلق هذا العالم المنظور، والقرآنيون أطلقوا العنان للعقل فذبلت في حسّهم مدلولات النص القرآني وأبعاده الحقيقية فأفضى بهم ذلك إلى تهميش السُّنة وحجب أبعادها الدلالية الملزمة، وهكذا تيارات متعددة تاهتْ عن الطريق الفطري الميسر بفعل تجاوزها لحدود الإدراك الإنساني ولإنفاقها للطاقة العقلية سفهاً في غير مجالها المأمون.
إن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه ليس ثمَّة تعارض بين العقل الصريح الخالي من الشبهات والنقل الصحيح، بل التوافق بينهما هو الحقيقة الجلية التي لا تخطئها عينُ منصف، والشريعة لا تأتي بمحالات العقول بل بمحاراتها، وتأمَّل معي هذا الكلام القيم لابن تيمية في كتابه الموسوم بـ (درء تعارض العقل والنقل) ـ هذا السِّفر الذي يُعدّ عملاً علمياً فذّاً لا يضارعه إلا القلة النادرة ـ حيث يقول: «إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع» 1/194، إذاً؛ فتوهّم التعارض بين العقل والنص الصحيح آية على ارتباك العقل وفساده. ويقول في موضع آخر من درء التعارض: «إن النصوص الثابتة عن الرسول # لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شُبَهٌ وخيالات مبناها على معانٍ متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شُبَهٌ سفسطائية لا براهين عقلية» 1/155، 156، ويقول أيضاً في الدّرء: «والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول # هو الحق الموافق لصريح المعقول» 3/87.
إن كل رؤية عقلية لها حظ من البُعْد الموضوعي وتصح من الناحية الاستدلالية يقول بها أهل الأهواء فإن لها ما يعضدها في المصادر التشريعية، يقول ابن تيمية: «فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يذكر أحد منهم في مسألة ما دليلاً صحيحاً يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه، حتى الفلاسفة القائلين بقِدَم العالم كـ (أرسطو) وأتباعه ما يذكرونه من دليل صحيح عقلي فإنه لا يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه» درء التعارض 1/133، إن الاجتراء الصارخ على قدسية النص ـ إما بإقصائه، وإما باستقطاب الترجمة المشوهة غير الأمينة التي لا تعكس حقيقته ـ ممارسة عبثية لا علمية تشتغل على تهميش العقل الذي تحتِّم مقتضياته أن يكون النص الشرعي هو الضابط لإيقاعه والمحدِّد لمساره والموجِّه لتطلُّعاته، يقول صاحب الدّرء: «إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دلّ على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول #، فلو أبطلنا النقل لكنّا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه وهذا بيّن واضح، فإن العقل هو الذي دلَّ على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يُقدَّم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، والقدح في دلالته يقدح في معارضته كان تقديمه عند المعارضة مبطلاً للمعارضة، فامتنع تقديمه على النقل، وهو المطلوب» 1/170، 171.
إنه ليس من العقل تحكيم العقل؛ لأن العقول مضطربة ومتباينة وليس ثمَّة ما يسمّى بالعقل البشري كمدلول مطلق يكون مرجعاً يُحتكم إلى معطياته وعنصراً حاسماً يضع الأمور في نصابها، يقول صاحب الدّرء: «والمسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا، بل كل من العقلاء يقول: إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر: إن العقل نفاه أو أحاله أو منع منه بل قد آلَ الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا: نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلوم بالضرورة العقلية» 1/144، 145.
ويقول في موضع آخر من الكتاب ذاته: «فلو قيل بتقديم العقل على الشرع ـ وليست العقول شيئاً واحداً بيِّناً بنفسه ولا عليه دليل معلوم للناس بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب ـ لوجبَ أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته ولا اتفاق للناس عليه» 1/46.
إن الشارع حكم بتحديد مجال النظر العقلي وصيانة الطاقة العقلية أن تتبدّد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها وإنما يخضع ويذعن، والعقل التسليمي هو الأمر الذي كان الإسلام ـ بوصفه النَّسَق الذي يشكل الإطار المفاهيمي الموضوعي ـ يحث على الصيرورة إليه بعيداً عن العقل الشكي الديكارتي التائه في أودية الخيال. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه الصواعق المرسلة: «إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورُسُله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحكِ الله ـ سبحانه ـ عن أمّة نبي صدّقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيّها، بل انقادت وسلّمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها، وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل: «يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِمَ أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بِمَ أمر ربنا؟» ، ولهذا كانت هذه الأمة ـ التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً ـ لا تسأل نبيها: لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولِمَ قدَّر كذا؟ ولِمَ فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام» 4/1560، 1561.
وجماع القول أن إشكالية التحولات الفكرية إشكالية تطرح نفسها على الوسط الفكري بإلحاح يستدعي معاينتها وفق رؤية شمولية تتغيّا الاتجاه إلى العوامل الباعثة لها للعمل على تجفيف منابعها، وهذا لا يعني أن ثمَّة كثافة كمّية مقلقة في هذا السياق ـ كما أسلفت آنفاً ـ ولكن كضرب من الفعل الوقائي الذي يعصم من إفراز إرهاصات بدأت نذرها بالتشكل على نحو قد يلامس حدود التأسيس لظاهرة باعثة على القلق في هذا المقطع الزمني المتّسم بتداخل الثقافات وثورة المعلومات وكونية التفاعل الثقافي، وفي هذا الراهن الآني الذي استحال فيه العالم إلى غرفة إلكترونية محدودة المساحة الشأن الذي يجد فيه كلُّ معنيٍّ بالهمِّ الدعوي نفسه ملزماً أمام ضميره الخاص بتوظيف خبراته المتراكمة لإبداع الأُطر التي تعينه على رفع درجة الوعي لدى العقل الجمعي، وتبصيره بأن التقدم إلى الأمام مرهون بالعودة إلى الخلق المتمثل في القرن الهجري الأول، الذي تبوَّأ فيه المسلمون القمة السامقة في سلك التطور الارتقائي.
وصفوة القول أنه لا مناص من تسليط أشعة النقد على كل فكر ملوّث وكشف تناقضاته الفجّة؛ لإيقاف مفعول الشحنة السلبية التي تستهدف مجتمعاً يسعى لاستئناف مسيرته الحضارية ولإعادة هذا الفكر الظلامي ـ الذي تشكل النزعة الطوباوية أحد أبرز ملامحه ـ إلى مكانته الطبيعية التي هو قمين بها، ليظل قابعاً في أزقة الحضارة وموارياً في مزابل التاريخ.(229/23)
مُسلَّمات الخطاب العلماني
بلال التليدي
كل توجه سياسي يسعى لامتلاك مشروع مجتمعي يستمد منطلقه من رؤية فكرية يحاول أن يجد لها القبول بالتماس جملة من المسلمات التي تحظى بقدر من الإجماع. والتوجه العلماني الغربي ما زال يسعى لامتلاك رؤية فكرية لتمرير خياراته وبرامجه. وإذا كان التتبع والرصد لمقولات الخطاب العلماني الغربية لا يسعف في تلمس معالم النسق الفكري المنسجم، فإن النظر لبعض تلاوين الخطاب بعد جهد المقاربة والتسديد والتفريع والتأصيل تنبئ عن وجود محاولة حثيثة لاستجماع بعض المسلمات لبناء الرؤية الفكرية العلمانية الغربية.
وبالنظر إلى جملة الكتابات ذات النَفَس العلماني يمكن الوقوف على بعض المسلمات:
\ المسلمة الفكرية:
مسلمة الرشد الإنساني: وهي في الأصل مقولة للفيلسوف محمد إقبال بسط عناصرها في كتابه (تجديد الفكر الديني) ، غير أن سياقها واتجاهها يختلف تماماً عن التوجيه العلماني.
فبينما يتأمل (إقبال) في مفهوم ختم الرسالة ووظيفة القرآن، يقفز التوجه العلماني على هذين المفهومين ليخلص بتبسيط مخل إلى أن البشرية عبر مسارها الطويل قد وصلت إلى مرتبة الرشد الإنساني، ذلك الرشد الذي يؤهلها للنظر الذاتي في تدبير شؤونها، وبناء نظم حياتها التربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية من غير حاجة إلى نصوص الشرع.
والحاصل من خلال هذه النظرة: أن بإمكان البشرية الاستغناء مطلقاً عن الأحكام الشرعية الواردة في نصوص الشرع من القرآن والسنة، والانصراف عن مفهوم الصحابة والسلف الصالح مادام العقل البشري قد اكتملت آلته واستجمع عناصر رشده، خاصة بعد الثورة التقنية والثورة المعلوماتية.
والناظر إلى حاصل هذا التصور يدرك أن فيلسوف الإسلام لم ينظر إلى مفهوم ختم الرسالة ووظيفة القرآن بهذا النظرة الاختزالية التبسيطية.
فإذا كان جوهر الرسالة مرتبطاً ـ نسقياً ـ بوجود القرآن، وإذا كانت الرسالة قد ختمت بوفاة النبي # فإنَّ التوجه الذي بسطه محمد إقبال هو: أن البشرية قد وصلت إلى النضج العقلي الذي يجعلها تتعامل مع نصوص الشرع انطلاقاً من البيان الوارد في الكتاب والسُنَّة معاً، واعتماداً على آليات النظر المعتبرة والتي استمدّت أدلتها وحجيتها من القرآن والسنة.
فإذا كانت البشرية سابقاً وفي كل طور من أطوارها تحتاج إلى رسول مبلغ، فقد اكتمل النضج الإنساني لتتلقى الرسالة والبيان من غير حاجة إلى وجود الرسول الذي يمشي بين الناس.
إنّ البشرية رشدت ببداية تعلقها بالأفكار والمفاهيم من غير حاجة إلى تجسدها في عالم الأشخاص.
إن هذا هو المعنى الذي فصّله محمد إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني) ، والذي يبدو أن الطرح العلماني حاول أن يختزله، وأن يفرغه من مضمونه؛ ليكتسب أولاً: تمرير المضمون (الاستقلال عن الوحي) ثم ثانياً: عمق التأصيل، وذلك من خلال الانطلاق من مقولة محمد إقبال من غير التزام بمفهومها ولا اتجاهها.
\ المسلمة التاريخية:
وهي التي سال فيها مداد كثير، وهي في جوهرها تنصرف إلى بحث العلاقة بين الديني والسياسي داخل التجربة التاريخية الحضارية؛ سواء تعلق الأمر بتاريخ الغرب الذي تسعف فيه الأمثلة والشواهد، أو تعلق الأمر بتاريخ الإسلام الذي كثيراً ما تخون فيه الوقائع والحوادث منطلق هذا التفكير.
ويقصد الطرح العلماني بهذه المسلمة التاريخية إلى تبيين تأثير السياسة في الدين، واستغلال السلطة للدين للإجهاز على المجتمع. وتجتهد المقاربة العلمانية في التفصيل في بعض المراحل التاريخية من تاريخ الإسلام؛ لتأكيد هذا المضمون، ويظهر ذلك من خلال تغطية مرحلة الخلافة والخلاف عليها بكتابات كثيرة أغلبها مكرور، أو بالتركيز على سلوكيّات الحكام من بني أميَّة أو بني العباس لإبراز التوظيف السياسي للإسلام.
وهكذا تجد الكتابات العلمانية ضالتها على مستوى الحدث التاريخي من خلال الصراع السياسي على الحكم، أو الممارسة السياسية للحكم التي كانت تتخذ مفاهيم الإسلام أيديولوجية لتصفية خصوم الحكم، أو على الأقل لإعطاء الشرعية لنظام الحكم وسياسته.
فلا غرابة أن نجد معظم الكتابات العلمانية تتحاشى الحديث عن مرحلة النبوة؛ بل تتعمد إضفاء الطابع التربوي والأخلاقي على الرسالة المحمدية بقصد استبعاد كل مفاهيم السياسة والحكم عن هذه التجربة التاريخية.
وحتى إنِ اضطرّت لذلك فإنها تجتهد في تأكيد الطابع التاريخي لهذه المفاهيم، بما يعنيه ذلك من المشروطية بحيثيات الزمان والمكان، واعتبارات تطور الوعي البشري بالقياس إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وهي إذ تفعل ذلك تقرر ضمن مسلماتها أن لا نموذج لنظام حكمٍ يستمد قواعده وآليات اشتغاله من الدين الإسلامي.
\ المسلمة الشرعية:
السجال الفكري والنظري هو الذي يحدد حقول الاستدلال؛ فبينما انطلقت العلمانية ضعيفة التأصيل الفكري إذ بدأت منبهرةً بمنتجات الغرب العمرانية، ثم انتقلت للحديث عن قيم الغرب خاصة منها الحرية والديمقراطية والحداثة وغيرها من المفاهيم، لتصل إلى مقصودها ونظامها المتلخص في فصل الدين عن الدولة؛ كانت تطرح هذا المفهوم بمنطق حجاجي سجالي تستدل أحياناً ببعض الشواهد والاعتبارات فاقدةً كل بُعد نسقي مستمد من عمق فلسفي، وأحياناً كانت تركب لغة النكتة والسخرية بأسلوب متناقض عارٍ من الموضوعية العلمية كما هو الحال عند (فرج فودة) ، وأحياناً كانت تؤسس لمقولاتها من ارتباطها بالعلم والعقلانية قاعدة استدلالها ومناط قوتها.
والواقع، أنَّ كل ذلك لم يقوِّم من منطق حجاجها. لقد كان خصمها يمتح من حقول استدلالية متشعبة بالنص، ومسيَّجة بجملة من المعارف والعلوم التي تدور رحاها حول النظر في النص والاجتهاد فيه.
لقد اضطرت العلمانية أن تجدد منطق حجاجها، فراحت توسع من حقول استدلالها فوجدت نفسها أمام علم القرآن وعلم الأصول.
أما علوم القرآن فبها تثبت تاريخية النص، وأنه يخاطب قوماً معينين في مرحلة زمنية معينة مشروطة بحيثيات الزمن والمكان واعتبارات تطور الوعي البشري بالقياس إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية.
وأما علم الأصول فلإثبات كون مجمل القواعد والضوابط ـ التي تجعل اليوم كآليات للنظر في النص ـ هي ذاتها غير مقدسة؛ وإنما هي اجتهادات لعلماء عاشوا مرحلة تاريخية معينة مشروطة بنفس الحيثيات.
والحاصل من كل ذلك، أن الكتابات العلمانية تريد تحقيق مقصدين:
الأول: أن تقنع المتلقي بكون النص القرآني والحديثي هو نص تاريخي فاقد لعنصر التعدِية التاريخية.
الثانية: مادام كل العلماء اجتهدوا، وأصّلوا الأصول، وقعّدوا القواعد انطلاقاً من نظرهم التاريخي الخاص، فلنا الحق أن ننظر بآلياتنا الخاصة بما يتناسب مع المفاهيم الحديثة خاصة تلك التي لها تعلق بمفهوم التسامح والانفتاح. ولا معنى للانضباط لنفس الآليات والقواعد التاريخية؛ لأن ذلك يعتبر هروباً إلى الماضي ونزوعاً نحو اللاتاريخية والعدمية.
وهكذا تركز بعض الكتابات العلمانية داخل علوم القرآن على مفهومين:
المفهوم الأول:
مفهوم (سبب النزول) لإثبات ارتهان النص للظرف والحدث التاريخي، مبطلة بذلك قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية السبب) باعتبارها اجتهاداً بشرياً قابلاً للمراجعة والنقد.
المفهوم الثاني:
مفهوم (النسخ) لتؤكد اعتراف القرآن بتاريخية بعض نصوصه التي يتغير حكمها بتغير الحال والزمن والشخص. وإذ تطرح الكتابات العلمانية التغييرات الكبرى في حقل الاجتماع تؤكد من خلال تفحص مفهوم «النسخ» تاريخية النص واستحالة مفهوم التعدية التاريخية التي تعني: قدرة النص على محاورة المعضلات المستجدة في شتى مناشط الحياة.
أما علم الأصول فتجتهد بعض الكتابات العلمانية في بيان محدودية القيام باعتباره آلية الاجتهاد الكبرى التي تربط العلاقة بين النص والواقع. فبعض الكتابات العلمانية تنظر إلى بنية القياس على أنها تتركب من مفهومين: مفهوم اللغة، ومفهوم الإلحاق.
أما ارتهان القياس إلى اللغة فمعناه: أن المشكلة ليست في بُنى الواقع المتحركة، وإنما هي في فهم اللغة ودلالاتها.
وهكذا فعوضنا عن تحليل الظاهرة الاجتماعية وعلاقتها بالحقول الأخرى نناقش دلالة العبارة والإشارة والاقتضاء، ودلالة الدلالة، ومفهوم الموافقة والمخالفة، وغيرها من المفاهيم المستقرة في علم الأصول من مبحث الدلالات.
أما عملية الإلحاق ذاته فتخفي حسب الكتابات العلمانية عيباً خطيراً، ذلك أننا لا نفهم الظاهرة في ذاتها، وإنما بشيء يشابهها ويناظرها. إننا لا نفهم ـ مثلاً ـ المخدرات في ذاتها من خلال دراسة صفاتها الذاتية، وإنما من خلال حيث تشابهها مع الخمر، وتلك معيارية بعيدة عن التعاطي الموضوعي حسب الطرح العلماني.
فإذا اعترض على هذه الكتابات بدعوى وجود نظريات أصولية تعدت مفهوم القياس وتجاوزته بالمفهوم الإيبستمولوجي؛ كما هو الشأن عند (الشاطبي وابن تيمية وابن القيم والعز بن عبد السلام) همشت هذه النظريات، أو تمّ تأويلها وقراءتها بنحو مخل فيه كثير من التكلف. ثم تأتي على موضوع النص والتأويل، وتجعله قاعدة نظرها وانطلاقها.
والحقيقة، إن الكتابات العلمانية لا تعير اهتماماً لمفهوم (التأويل) كما استقر عند علماء التفسير وكما تطور عند علماء الأصول، إنما تمزج بين دلالة التأويل في الحقول الشرعية وبين دلالته في الحقول الأدبية والفلسفية الحديثة، ذلك المزج غير الموضوعي هو الذي يدفع للاعتقاد باختلاف أنظار الناس بخصوص النص. فالنص واحد والتأويلات مختلفة بحسب الشخص وإيديولوجيته وموقعه الطبقي وبحسب الظرف التاريخي.
وحصيلة استدلال العلمانيين أن يحققوا هدفين:
الأول: إن النص متعدد القراءات، والاستناد إليه في حقل السياسة مع أخذ الاعتبار لقدسيته معناه تضارب المطلقات في حقل السياسة النسبي، ذلك التضارب والتناقض الذي يؤسس لمفاهيم الإقصاء والعنف والإرهاب، وهي مفاهيم لا تنتمي إلى حقل السياسة.
الثاني: إن فضاء النص بتنوع دلالاته يتمتع بنوع من الجمالية الأدبية التي تخاطب الجانب الجوابي للإنسان. وتلك وظيفة تتناسب مع طبيعة الدين عند العلمانيين التي لاينبغي أن تتجاوز محاورة الكينونة الذاتية الداخلية للإنسان، والارتقاء بنفسه وقيمه الأخلاقية بعيداً عن أي تدخل في بنى الواقع الموضوعية.
\ المسلمة العلمية:
وملخصها أن العلمانية: هي حركة بعث للعلم وقيم العقل، والدين هو التطور الطبيعي للفكر الخرافي والفكر الأسطوري.
فكلما عجز العقل عن تفسير ظاهرة من ظواهر الطبيعة انبرت الخرافة لتبني سلطتها على العقل، ثم تطورت سلطة الخرافة وأعادت بناء خطابها، فصار الدين هو التركيب الجديد للخرافة، ولا سبيل إلى بناء النهضة الشاملة دون تحرر للعقل ومراجعة لأحكامه وتصوراته وحتى قواعد تفكيره. وهذا طبعاً لا يُتصور من غير إعادة النظر في نظام التفكير السابق القائم على الخرافة والفكر الديني.
ولهذا يتبنى الفكر العلماني النظرة الوضعية التي نظر لها (أوجست كونت) وهو يفصّل في مراحل تطور الفكر الإنساني في تسلسل معرفي يفرض حتمية الانتقال إلى الفكر العقلاني التجريبي ثم الوضعي. إن هذا الطرح يدفعنا لتسجيل جملة من الملاحظات:
الملاحظة الأولى:
إن التحليل الذي يعتبر الدين والفكر الديني هو عبارة عن: مرحلة من مراحل التطور في الوعي البشري يحتاج إلى مراجعة. فقد تكون الخرافة والأسطورة ناتجة عن العجز عن تفسير ظواهر الطبيعة، لكن الشيء المؤكد أن تطبيع العلاقة بين الخرافة والأسطورة والدين فيه كثير من المزايدة والتضليل.
فبالإضافة إلى نفي القداسة عن الدين وإعلان بشرية نصوصه، فالتوجه العلماني يسعى إلى جعل التفكير الديني مجرد مرحلة من مراحل تطور النشاط الذهني للإنسان بما يعني حتمية التحرر من عقاله.
الملاحظة الثانية:
إن الحديث عن تحرير العقل من سلطة التفكير الديني وكون ذلك هو المدخل الطبيعي للنهضة إحالة على التجربة الغربية؛ بل إن مجرد الاستشهاد بنظرية (أوجست كونت) في تطور مراحل التفكير الإنساني هو استنساخ غير واعٍ للتجربة الغربية.
فالصراع المحموم بين التحرر والدين الذي كان واقعاً تاريخياً عاشته الحضارة الغربية في صيرورة تطورها أمر لم يرد في تاريخ حضارتنا الإسلامية.
وهذا يعني أن هذا التوجه يستوحي النموذج الغربي ويحول استنساخه ويؤمن بمركزيته، وهو مانشك في قدرته على أن يشكل نموذجاً كونياً عالمياً.
الملاحظة الثالثة:
إن النقاش العلمي ينبغي أن يفكك بنية التفكير الخرافي وبنية التفكير الديني، وأن يفرق بينهما؛ فإذا كان التفكير الخرافي يستمد مرجعيته خارج العقل، فإن التفكير الديني يستند أساساً على محورَيْ: الغيب والشهادة.
وإذا كانت الشهادة مما يدرك بقواعد العقل والحس فلا علاقة للغيب بالخرافة. فالغيب هو اللامدرك بالعقل؛ ولكنه ليس خارجاً عن العقل.
إن العقل بمحدوديته لا يستطيع إدراكه بخلاف الخرافة فهي مما يرفضه العقل؛ لأنه يتناقض مع أصوله وقواعده.
أما الغيب فهو فوق العقل وليس خارجاً عنه؛ فإذا كانت بعض المعارف التي تنتمي إلى عالم الشهادة لا تدرك بالعقل لعجزه عن إدراك كنهها وكيفية اشتغالها؛ فهو محدود بالنظر إلى عالم الغيب، ثم إن مجال انسياب الغيب هو العقائد واليقينيات التي تحتاج إلى التصديق، فلا تجد الغيب ينصرف إلى عالم العادات والشرائع التي تخضع لقانونية وسننية يضبط العقل إيقاعها، بل إن معقد الغيب هو إيضاح أصول العقائد واليقينيات التي يعجز العقل والتقدير فيها فضلاً عن الإتيان بحقائق نسبية حولها.
الملاحظة الرابعة:
إن التحرر الأوروبي كان ناتجاً عن ثورة اجتماعية، وهذه الثورة كيفما كان لونها ومرجعيتها هي التي أسهمت في هذه الانطلاقة.
وفي حضارتنا الإسلامية لا يتصور انطلاق لثورة محركة لكل شرائح المجتمع دون أن يكون الدين ناظمها، وهذا ما يعطي للدين ذلك المضمون الثوري باعتبار الارتباط الجذري بين قيمه وتطلعات الجماهير.
وبعد فهذه بعض الملاحظات نسجلها على التوجه العلماني، والقصد الكشف أولاً عن ثوابت في بنية التفكير العلماني، ثم إدارة حوار هادئ يأتي على كل الموضوعات، ويناقش فصولاً في المنهج، ويبسط بعض المآخذ والانتقادات حتى نسهم بقدر من الأقدار في تجميع شتات الفكر العلماني الذي إلى هذا الوقت لم يستطع أن ينظم موضوعاته، ولا أن يحسم في منهج بسطه لتصوراته ومقولاته.
__________
(*) مدير المركز الثقافي الاجتماعي بهولندا ـ روتردام.(229/24)
منتدى القراء
فلسطين السليبة ودورنا المنشود
إن فلسطين الحبيبة مسرى رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وقبلتنا الأولى لها من المكانة في قلوبنا ما الله به عليم، وإنه ليعتصر قلوبنا الألم ونحن نرى دولة اليهود المقيتة تسرح وتمرح فيها بدون رقيب أو حسيب. إنه لخزي وعار على كل مسلم أن يفعل اليهود في إخواننا أهل فلسطين الويلات والقتل والتدمير وهو سارح في لهوه وغيه، ولكن يبقى الأمل المنشود في الله أولاً ثم في أمة الإسلام عالياً وشامخاً أمام كل الصعاب والمؤامرات على وأد تلك القضية من قلوب المسلمين.
نملك من الطاقات والقدرات الشيء العظيم التي تتمحور أهم مرتكزاتها في أمور عدة، والكلام يطول فيها ويزيد، واختصارها ـ فيما أراه ـ فيما يلي:
- الدور الفردي:
يستلزم أن يعيش كل فرد بمشاعره وأحاسيسه تلك القضية؛ فهذا الإحساس بالمسؤولية هو نقطة رسم خط النصر، وقد تطول الفترة الزمنية لتحقيق ذلك أو تقصر، فذلك كله بيد الله سبحانه وتعالى.
- الدور الأسري:
إن للأسرة دوراً عظيماً إذا فُعِّلَ، حيث إنها منطلق نشأة فكر الأبناء وتوجههم في المستقبل، فعلى كل رب أسرة أن يزرع في نفوس أبنائه وأسرته حب فلسطين والتعريف بقضيتها، وعليه أن يبذل ما يستطيع من أجل أن يوصل رسالته إلى عقول أبنائه حتى يعوها ويفهموها.
- الدور الإعلامي:
مما يدمي القلب أنك تجد الوسائل الإعلامية للدول الإسلامية تستقي أخبارها الإعلامية من قنوات أخرى، كـ: (إنترفاكس) الروسية، والـ (بي بي سي) البريطانية، و (CNN) الأمريكية وغيرها التي تدور في فلك بني صهيون. وتلك القنوات تركز على الجانب السلبي من جهة الفلسطينيين، حتى ترسم صورة سيئة لدى متابعيهم من المسلمين مع الزمن.
والجانب الإعلامي في زمننا الحاضر يمثل قوة هائلة لا يستهان بها، فبه تبدأ الحروب، وفي خضمِّه تدور، وبه تختتم.
- الدور السياسي:
إن الساسة المسلمين تعلق عليهم الآمال وينظر إليهم بأنهم محرّكو دفة سفينة الأمة؛ فعليهم أن يعوا الدور المناط بهم، وأن يكونوا مبادرين لا انهزاميين، وأن يتعاملوا مع ما بأيديهم من قضايا أو ما يستحدث منها بروح الفأل وبنفسيات ومعنويات عالية حتى يضعوا النقاط على الحروف بوضع إيجابي لا منكسر وانهزامي.
سعد عبد الله عثمان
توسع الاجتهاد في الأحداث
لربما كان مدار الخلاف في العمل الاجتهادي هو درء المفسدة أو جلب المصلحة، فيقرر هذا أن المصلحة موجبة لكذا؛ مع أن المصلحة قد لا يقررها بعيد أو حتى قريب جاهل بالوضع لا بالأصل، فمن زعم أن من يقرر المصلحة هم العلماء قيل له: وأي علماء تقصد؟ فعندنا من العلماء من قرر المصلحة، فيضرب خبره بعضه ببعض لتلقينه هذه الكلمة التي لا يعي معناها ولا يعرف إلى أي شيء توصل، ثم يعود فيحصر هذه المصالح وهذه المفاسد على جهة معينة ويكون تبيينها وتبنّيها حكراً عليهم، فيكون انفكاك بين جهات القول وجهات العمل، مما يجعل الثقة تزول من كلا الطرفين. فحين يعلم الشخص أن مصلحته المزعومة إنما هي مفسدة تكاد تكون بحتة فيُترحم بتلك على أسس قد أصيبت. وليس الذي تأثر فقط الأمر الاجتهادي فيرى تراشق بالتهم بدل العمل التعاوني الجماعي، ويكون الاستدلال بالمصلحة أبغض ما يبغضه العامل بسبب تلك التُّكَأة التي يتكئ عليها أصحاب الظواهر الصوتية في نظره، وتكون المفسدة التي كان يتكلم عنها هي محل المفاخر فيتمسك بها؛ كل ذلك ردة فعل ممن يجهل حقيقة الأحكام الأصولية على من يجهل تطبيقها.
من أجل ذلك كانت كلمة «المصلحة كذا» من أصعب الأحكام، فيقع الشخص الجاهل حين يعجز عن بعض الجمع ولا يكل أمره لغيره في تعارض، وعلى مثل هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا باب التعارض باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات ووقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجِّحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون إلى الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة أو المضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات؛ لكون الأهواء قارنت الآراء، ولهذا جاء الحديث: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» ا. هـ. وكذلك ربما بنى الشخص مصلحته على أن هذه المرحلة شبيهة بالمرحلة المكية، والآخر يرى شبهها بالمرحلة المدنية، فيريد صاحب إحدى المرحلتين أن يبين ما عنده بإجبار الآخر على الأخذ برأيه، وإلا كان ليس عدواً فقط، بل ربما كان مظاهراً للمجرمين عليه، ضارباً بكل ما يصله به من الأخوة الإسلامية ـ فضلاً عن العمل الإسلامي ـ عرض الحائط، متخلياً عن كل سبب بينه وبين أخيه.
عبد العزيز المشعلي
أهلاً رمضان
أخي الحبيب! أختي الكريمة!
ـ تعالا معي لنرسم لوحة جديدة في الفضاء، ونتوّجها بألوان من الورود الحمراء، وننثرها بين يدي كل تائب وتائبة جعلا من رمضان سابقة للعود الحميد، وأملاً في الفوز برضى الرحمن.
ـ تعالا معي لنجدد العهد مع القرآن، الذي طالما هجرناه؛ لنترنّم بآياته ونتدبر معانيه، ليكن أنيسنا في الدنيا وأنيسنا في القبر وقائدنا إلى الجنان.
ـ تعالا معي لننفق من أوقاتنا ساعات نقضيها في بر الوالدين، وساعات نحث فيها الخطى لمساعدة الفقراء، وساعات نتصدق بها على أنفسنا بركعات في جوف الليل ودعوات ترفع إلى السماء.
ـ تعالا معي لنرسل الدمع مدراراً، ونطرب القلب أشجاناً مع الحور العين.
قال صاحبي: بينما أترنم مع آي القرآن في إحدى العشر الليالي الأخيرة من رمضان إذ ذهب بي النوم فإذا أنا بالحوراء قد ركلتني برجلها وقالت: أترقد عيناك وأنا أربى لك في الخدور في خيام اللؤلؤ؟!
فقمت فزعاً وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي!
آه! أين الخطّاب؟ أين العشاق؟ أين المهر الذي يُنال به هذا النعيم؟
إنه التوبة، إنه الإقبال على الله، صلاة في جوف الليل، وقرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار.
عبد الكريم عبد العزيز القصير
الإعراض عن ذكر الله وآثاره السيئة
الإعراض في القرآن لفت الوجه عن الشيء؛ لأنه مشتق من العارض وهو صفحة الخد؛ لأن الكاره للشيء يصرف عنه وجهه، وقد لا يكرهه، وإنما يصرف وجهه عنه لأمر ما، ويعرضُ عنه إعراضَ من لا يحتاج إليه، وهذا هو المقصود هنا.
ولقد وصف الله المعرضين عن ذكره بأوصاف ثلاثة:
الوصف الأول: الإعراض عن الذِّكر وعدم الالتفات إليه، والاستغناء عنه، والإعراض عنه إعراض من لا يحتاج إليه.
الوصف الثاني: التكذيب، أعقبَ الإعراضَ التكذيبُ، وهو أزيدُ من الإعراض، إذ المُعرض قد يكونُ غافلاً عن الشيء بدون تكذيب ولا جحود ولا استهزاء، وهذه الرتبة الثانية.
الوصف الثالث: الاستهزاء والسخرية، فأعقب التكذيبَ الاستهزاءُ، وهو أزيدُ من التكذيب، لأن المكذّبَ بالشيء قد لا يبلغ تكذيبُه به إلى حدّ الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحدّ فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار.
وهذه الأوصاف الثلاثة تُستفاد من صريح الآية الكريمة: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 4 - 5] .
وقد توعّد الله ـ عزّ وجلّ ـ بالوزر العظيم من أعرض عن ذكره فقال: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه: 99 - 101] .
وينشأ الإعراض عن اعتقاد عدم جدوى النظر والتأمل فيه.
عواقب الإعراض عن ذكر الله:
ذكر القرآن عواقب شديدة ونتائج سيئة لمن أعرض عن ذكر الله ـ تعالى ـ ولم يلتفت إليه.
الأولى: جعل الله ـ عزّ وجلّ ـ قِلّةَ الذكر من أوصاف المنافقين: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142] .
وجعل عدم الذكر من أوصاف الكافرين، فلشدّة إعراضهم عن الذّكر إذا ذُكِّرُوا لا يحصلُ فيهم أثرُ تذكُّر ما يُذكَّرونَ به، قال الله فيهم: {وَإذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [الصافات: 13] .
الثانية: لا أحدَ أظلم لنفسه من المعرض عن ذكر الله، حيث ذُكّر بآيات الله فأعرض عنها، قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57] .
الثالثة: ومن النتائج السيئة والعواقب الوخيمة ما قاله ـ تعالى ـ: {إنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإن تَدْعُهُمْ إلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إذًا أَبَدً} [الكهف: 57] .
الرابعة: توعد الله ـ عزّ وجلّ ـ بالانتقام من المعرضين عن ذكره، وقد سمّاهم مجرمين، قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22] .
الخامسة: توعد الله بالويل والهلاك لمن قسا قلبه، فقال: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الزمر: 22] .
السادسة: يحمل المعرض عن ذكر الله يوم القيامة وزراً عظيماً من الذنوب، قال ـ تعالى ـ: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه: 99 - 101] .
السابعة: النّاسِي لذكر الله هو من حزب الشيطان، قال ـ تعالى ـ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] .
الثامنة: يُعذب الله المعرض عن ذكره يوم القيامة عذاباً شديداً، قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17] .
التاسعة: يعيش المعرض عن ذكر الله عيشة قاسية، قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] .
العاشرة: الخسران المبين، قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] .
الحادية عشرة: تَهْيئَةُ شياطين الإنس والجن لمن يتعامى عن ذكر الله، قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 36 - 37] .
أحمد شرشال
حرية الصحافة في أبجديات بني صهيون!!
لقد تَحولت حُرية الصحافة إلى كنز مَفقود للصحفي الفلسطيني الممنوع من الحركة والوصول إلى أماكن الحدث في وَطنه المغتصب، هذا الصحفي مُعرَّض في كُل لحظة إلى الضرب والاعتقال وانتهاكات حُرية التعبير فضلاً عن حَملات التحريض والتشويه للأحداث والحقائق من قِبَل العدو الصهيوني المجرم، كل هذا بهدف إخراس الصحافة الفلسطينية ومنعها من نقل أخبار جرائم وفظائع الاحتلال بحق أبناء الشعب الفلسطيني.
إن حرية الكلمة والتعبير في فلسطين مغتصبة كما هي فلسطين مُغتصبة، وربما تعجز كلماتنا وتقف عن التعبير عن تقديرنا العالي لما يَبذله الصحفي الفلسطيني في التعبير عن قضيته ونضال شعبه الكبير، وعندما نسمع عن اعتداء على صحفي وانتهاك لحرمته وحرمة قلمه نُصاب بالذهول من شدة الحدث وندخل في حالة صمت رهيب، رُبما لأن الموقف عندها يصبح أكثر من كلمة، ورُبما لأن الكلمة عندها تذوب في طوفان الذهول، فنَعجز عن استيعاب الأمور والتفكير في إحداثياتها، ونرفض ونرفع صوتنا عالياً: «نعم لحرية الصحافة في فلسطين» .
غسان مصطفى الشامي
ghasanp@hotmail.com
الإعلام الإسلامي
يعتبر الدفاع عن الإسلام والأمة الإسلامية واجباً على كل مسلم ومسلمة. والدفاع عن الإسلام والمسلمين يجب أن يكون بشتى الطرق والمجالات.
فمن الممكن أن ندافع عن الإسلام باستخدام وسائل الإعلام، وذلك عن طريق:
أولاً: العمل على إيجاد جيل مسلم واعٍ قادر على تحمل المسؤولية، جيل لو خُيّر بين أن يُلقى في النار أو أن يتنازل عن دينه لاختار الخيار الأول على أن يتنازل عن دينه وإيمانه.
ثانياً: وضع خطط وبرامج لبيان حقيقة الإسلام السليم، وإبعاد كافة الشبهات التي يضعها الغرب حوله؛ وذلك باستغلال نقاط القوة وإيجابيات الإعلام الإسلامي وإبراز الإسلام بنظامه الشامل الكامل، والوقوف على نقاط الضعف في الإعلام الغربي وإظهار سلبياته.
ثالثاً: الاتصال والتواصل (وجهاً لوجه) بين المسلمين وغيرهم من غير المسلمين في المؤتمرات العالمية والندوات والجلسات الحوارية والنقاشية، ومن خلال الصحيفة والمجلة والأجهزة المرئية والشبكة العنكبوتية؛ لنستطيع أن نبث وننقل للعالم أخبار الأمة الإسلامية الصحيحة بموضوعية ونزاهة وحيادية تامة، إضافة إلى تقديم حلول لمشاكل وهموم المجتمع الإسلامي من وجهة نظر إسلامية.
رابعاً: الوحدة تحت راية واحدة وشعار متميز وهو رفع راية الإسلام خفاقة عالية في السماء. قال الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
وأخيراً؛ فإن مشهد الإعلام الإسلامي الحالي يعطي المرء قدراً من الأمل لما يراه من انتشار قنوات إسلامية هادفة ترقى بالفرد المسلم، وتقدم كل ما يهم الأمة الإسلامية على الرغم من قلة عددها مقارنة بقنوات الترفيه التي كثر عددها وقلَّت فائدتها.
إنشاد جوهر(229/25)
التلازم بين الديمقراطية والرفاهية
د. عبد الحميد الدخاخني
كثيراً ما سمعت حوارات بين مثقفين وأنصاف مثقفين وبسطاء ... مليئة بالوصفات السحرية لحلِّ المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا المسكينة، هذه الحلول مثل حلول (جنرالات المقاهي) الذين يخوضون في كل شيء؛ من السياسة إلى الدِّين إلى الطب. ولكن من أكثر ما سمعت في الآونة الأخيرة كان الحديث عن الديمقراطية باعتبارها العلاج الناجع لكل أمراضنا المزمنة، وهي النهاية الحاسمة لاستبداد المستبدين، والأهم من كل ذلك أنها هي التي ستنهي فقر بلادنا ومعاناتنا؛ حيث ستنهمر الخيرات على البلاد والعباد بمجرًّد تناول الوصفة السحرية.
ذهب أحد محافظي مصر المشهورين إلى النمسا في زيارة، ولما سأل عن سرِّ نظافة البلاد، أخبروه بنظامهم، ومن ضمنه الأكياس السوداء لجمع القمامة، فتركَّز نظر الرجل على فكرة الأكياس السوداء، فلما عاد سرعان ما طلب تطبيقها في مصر المحروسة، وكالعادة ـ فالباشا دائماً على حق ـ تمَّ تعميم هذا الأمر، وكالعادة ـ أيضاً ـ ازدادت المشكلة؛ فهناك جيش من جامعي هذه الأكياس لإعادة تدويرها، حيث يفرغون محتوياتها في الشارع ويمضون بالأكياس سعداء، وهناك جيوش من القطط والكلاب الضالّة تبحث عن أقواتها في هذه الأكياس دون أن تعبأ بالأنظمة السخيفة التي اخترعها البشر دون مشورتها، وهناك الكثير من أفراد الشعب يستمتع بصوت رمي القمامة من الشبابيك، خاصة في أنصاف الليالي، ونسي المحافظ المسكين كل هذه الفروق بين التجربة التي رآها وانبهر بها، وبين البيئة التي يحكمها وهو مسؤول عنها، فكانت الكارثة.
عندما كتب «فوكوياما» أحد المفكرين الأمريكيين نظرية (نهاية التاريخ) كان ظنُّه أن الغلبة ستكون للديمقراطية والقيم الغربية، وأن الحضارة الغربية ستعمُّ كل الدنيا، ومن سيعترضها سيُسحق أو يذوب في ثناياها. بعد عدة سنوات تراجع الرجل عما ظنَّه نهاية للتاريخ، وكان عنده من الشجاعة ما يعلن به تراجعه.
المشكلة عندنا أن أنصاف المثقفين الذين يجترّون ما يلقه الغرب في أفواههم دون أن يميزوا ما ينفعهم مما يضرهم أو ما يصلح لمجتمعاتهم مما يتنافى معها.. هؤلاء لا يتراجعون أبداً عما تعلَّموه من السادة ذوي الشُّعور الشقراء والعيون الزرقاء. تلقَّفوا منهم أن الديمقراطية هي الحل الشامل لكل المشكلات، ونسوا أن هناك بلاداً عريقة في تطبيق الديمقراطية ومع ذلك هي إحدى أبشع أمثلة الفقر على كوكبنا، مثل: الهند، التي يزيد عدد الفقراء من سكانها على (80%) .
ونسوا أن هناك أنظمة طالما وصفها الغرب بالدكتاتورية وإهدار حقوق الإنسان وهي تحقق معدلاً من التنمية كثيراً ما فاق (8%) سنوياً، مثل: الصين، وبدأت الصين تدخل الآن في حالة من الرفاهية تختلف تماماً عما كان الحال عليه قبل عشرين بل قبل عشر سنوات فقط.
بدأت الديمقراطية في الغرب منذ القِدَم عبر التجربة اليونانية؛ حيث كان الناس (وهم الأحرار اليونانيون من الذكور فقط) يجتمعون للتشاور وتقرير أمور المدينة، ثم انتهت بسرعة مع تكوين الدول المركزية واتِّساع حدود الإمارات اليونانية، ثم جاءت بعدها الدولة الرومانية بقناصلها المنتخبين من الشعب، وسرعان ما تحوَّلت إلى إمبراطورية على يد أوكتافيان (أغسطس) ابن قيصر بالتبنِّي. ثم غابت هذه الديمقراطية عن الغرب حتى جاءت على استحياء في بريطانيا أولاً، ثم فرنسا بالثورة الفرنسية عام 1789م، وانتشرت منها إلى كل أوروبا نظرياً؛ أما عملياً فقد جاء نابليون قائداً للجمهورية وانتهى إمبراطوراً منفياً.
أما في معظم البلدان الإسلامية فلا الديمقراطية تملأ سياساتنا ولا الرأسمالية يمكن تطبيقها في مجتمعات إسلامية ذات قيم ومواريث وأخلاقيات تضبط جنوح الأفكار البعيدة عن الدِّين والحضارة الإسلامية.
ثم هل الرفاهية هي المطلب الأول أو الأوحد للمسلم؟
هل حقّقت الرفاهية الأوروبية السعادة لرجل الشارع العادي الذي يخاف النزول إلى الشارع بعد الثامنة مساءً؟
هل حقّقت الرفاهية السعادة عند تفسُّخ المجتمعات وانهيارها؟
ألا يجدر بنا مراجعة أولوياتنا بدلاً من الجري وراء السَّراب.. أو دخول جحر الضبِّ خلف من دخلوا واختنقوا وهلكوا؟(229/26)
230 - شوال - 1427 هـ
(السنة: 21)(230/)
لغة الهزيمة
لغة الهزيمة لغة وضيعة تسقط فيها كل ألوان العزة والكرامة..!
لغة الهزيمة لغة تافهة، مقيَّدة بإسار التبعية، لا تجيد إلا المحاكاة والتقليد الأعمى.
إنها آية من آيات السقوط الفكري والإنساني، تتقاصر بكل مهانة عند مخاطبة من يسمونهم بالآخَر، وتتعالى بكل قسوة على الأهل والأصحاب؛ فعقدة تحقير الذات تحاصرها من كل زاوية.
خبرنا هذه اللغة ردحاً طويلاً من زمن العنتريات العروبية الثورية، وها نحن نجني ثمراتها في الخطاب الليبرالي المتزين بقبعة الغرب.
خبرنا هذه اللغة؛ فهي ليست جديدة علينا، لكن المؤسف حقاً أن بعض معالم ذلك الخطاب المنهزم بدأ يتسلل أحياناً إلى بعض روّاد الخطاب الإسلامي، ممَّن كان ينبغي أن تكون العزة شعاره والأنفة دثاره؛ فصار بعض خطابه واهن القوى، منخفض الصوت، يسري على استحياء..!
وحسبنا ها هنا أن نذكِّر ببعض الأمثلة:
فبعد الهبَّة الشعبية لنصرة النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، وبعد أزمة الرسوم الدانمركية، ظهرت عند بعض المفكرين والدعاة لغة اعتذارية باردة لا يخفى ضعفها، بل لا يخفى انحرافها؛ فنحن نحب السلام، ونحترم جميع الأديان وندعو إلى التعايش، ولا نستعدي الآخرين، ولا ندفع العالم إلى الصراع الحضاري؛ فلماذا تستفزون شعوبنا..؟!
وعندما تجرأ بابا الفاتيكان وانتقد الإسلام، وعرَّض بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، بادر بعضهم للمطالبة بالهدوء وعدم التشنج، ودعا إلى الحوار والاعتراف بالآخر، وأنه لا سبيل لإطفاء التطرف من الطرفين إلا بالتقارب بين العقلاء، بل نهى بعضهم عن تكفير النصارى، وعدّ ذلك من الإقصاء الذي لا ينبغي ذكره في هذه المرحلة..!
وعندما زعم البابا أنَّ الإسلام انتشر بحدِّ السيف، بادر بعضهم إلى نفي التهمة، وأنكر جهاد الطلب، وقصر الجهاد في الإسلام على جهاد الدفع فحسب.
وعندما دخل بعض الإسلاميين حلبة المعترك السياسي شن العلمانيون هجوماً شرساً على المشروع الإسلامي وما أسموه بـ (الدولة الثيوقراطية) فلم يجد بعض هؤلاء إلا المناداة بالدولة المدنية، ونحو ذلك من الشعارات الانهزامية..!
إنَّ هذه الانهزامية ترسِّخ نمطاً من أنماط التبعية التي همها إرضاء الناس، ولا تلتفت كثيراً إلى رضا الخالق سبحانه وتعالى.
صحيح أن زمن الاستضعاف له فقهه وأولوياته، لكن لم يقل أحد من أئمة العلم أن تحريف الدين أو التنازل عن بعض أصوله وأحكامه من الفقه في شيء؛ فمن لم يستطع أن يقول الحق، فلا يجوز له أن يقول الباطل.(230/1)
وما تخفي صدورهم أكبر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وعلى آله وصحابته ومن والاه. أما بعد:
فإن كتاب الله ـ تعالى ـ فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا، هو الجد ليس بالهزل، من أنزله من نفسه هذه المنزلة نفعه الله بما فيه، وسعد به في الدنيا والآخرة، وعرف صديقه من عدوه، وتمكن من إفساد مخططات الأعداء بمجرد متابعته حتى ولو لم يعلم بهذه المخططات، وقد أظهر الله ـ تعالى ـ في كتابه كثيراً مما يريده بنا أعداؤنا من أهل الكتاب، حتى لقد بدت البغضاء من أفواههم. لكن رغم كثرة هذه الظاهرة؛ فما تخفي صدورهم أكبر. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] ثم يعقب القرآن على تلك الحقيقة الثابتة في عداوة أهل الكتاب للمسلمين: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] فتبين أن الذين يتبين لهم عداوة الكفار للمسلمين هم الذين يعقلون، وأن من غابت عنهم هذه الحقيقة فهم من ناقصي العقل. يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: قال ـ تعالى ـ: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] ، أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] (1) ؛ وقال القرطبي: قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم.
وقد ظهرت في هذه الأيام من بعض المسلمين اتجاهات تحاول تبرئة الكفار أعداء الله ورسوله من كل هذه الأمور التي أثبتها القرآن لهم، فزعموا أن هذه الأحكام كانت في أول الأمر حين كانت العلاقة بين الإسلام وبين مخالفيه متوترة، ولكن بعد استقرار الأوضاع عادت العلاقات بين المسلمين وبين مخالفيهم من أهل الكتاب إلى مجراها الطبيعي من حيث التعاون من خلال التعددية التي هم عليها، فكانت هذه الاختلافات مدعاة للتعاون والتكامل وليس التناحر والتطاحن.
فها هم يقفزون على كل النصوص الشرعية وكل حقائق التاريخ، في سبيل ترويج هذه الفِرية، لكنَّ الله ـ تعالى ـ يأبى إلا أن يكشف خَطَلَهم وخللهم من خلال الوقائع التي لا يماري في دلالتها إلا الذين لا يعقلون، فقال ـ تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] . فالله ـ تعالى ـ يُري الناس من الدلالات والعلامات التي يتبين بها أن ما أخبر به ـ سبحانه ـ حق وصدق لا يتخلف؛ لأنه كلامُ مَنْ هو بكل شيء عليم.
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} أي: سنظهر لهم دلالاتنا وحُجّجنا على كون القرآن حقاً منزلاً من عند الله ـ عز وجل ـ على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بدلائل خارجية {فِي الآفَاقِ} من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان» (1) .
وقد تواتر من العلامات والدلالات على مدار التاريخ ما يبين أن ما أخبر الله ـ تعالى ـ به في هذه القضية هو الحق؛ فهناك الحملات الصليبية التي استمرت قرنين من الزمان، حاول فيها أهل الكتاب النيْل من الإسلام؛ لكنها بفضل الله اندحرت بعد طول مواجهات، ثم جاءت فترة الاحتلال العسكري تحت مسمى (الاستعمار) والتي ظلت ما يقرب من قرنين من الزمان، ولم تتوقف في تلك الفترة الحملات التنصيرية على المسلمين، حتى إن جهدهم في تنصير المسلمين وإخراجهم من دينهم أكبر من جهدهم في دعوة الوثنيين إلى دينهم، ومع دخول التقنيات الحديثة في وسائل الاتصال لم تنقطع حملاتهم من خلال الطعن في الإسلام وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فها هي القنوات التنصيرية الموجهة إلى المستمع المسلم، ثم ها هي عمليات الغزو والاحتلال لبلاد المسلمين، التي لم يخجل من يقوم بها بتسميتها باسمها الصريح وهو (الحرب الصليبية) وإن كان هناك من بني جلدتنا من يحاول أن يُخرِج تلك الألفاظ عن ظاهرها، ثم ها هي الحملات الإعلامية للقدح في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وما خَبَرُ الصور القبيحة التي رسمتها الصحيفة الدانماركية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير الورى، ثم تبعتها فيه كثير من صحف النصارى في سباق محموم، حتى وصل الأمر أن يخرج زعيم النصارى وكبيرهم ورأس المشركين وعابدي الأوثان ليعلن ويصرح بالقدح في الإسلام وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يؤمنون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن ما جاء به هو الحق، وان هذه الأقوال الفاسدة التي يتقيؤها كبير النصارى ومن هم على شاكلته لن تؤثر في يقينهم وإيمانهم، وهم لا يحتاجون بعدُ حتى إلى جواب عن تلك الشبهات.
والإسلام لم ينتشر بين الناس بحد السيف كما يروِّج لذلك من يروِّج له، وإنما انتشر بين الناس لما حواه من الحق الذي لا تملك معه النفوس السوية والقلوب السليمة إلا التسليم والإذعان والقبول به عن رضا واختيار، وإلا فليقل لنا هؤلاء: كيف آمن أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وغيره من سادات المسلمين؟ بل ليقل لنا هؤلاء: كيف آمن النجاشي ملك الحبشة في زمن البعثة، قبل أن يُفرَض الجهاد وهو في بقعة بعيدة من الأرض لا تناله فيها جيوش المسلمين ولا سيوفهم؟ بل كيف آمن عبد الله بن سلام الحِبْر اليهودي مع مقدَم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بمجرد رؤيته ومعرفته بالعلامات التي دل عليها كتابهم، وغير هؤلاء من كبار القوم الذين دفعهم ما في الإسلام من براهين قطعية على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى صواب ما جاء به إلى الإيمان به والدعوة إليه وليكونوا من جنوده الأوفياء؟
إن الإسلام لم تكن منه حرب واحدة من أجل استعباد الناس وسرقة خيراتهم واحتلال بلادهم، وإنما كان الجهاد فيه من أجل إعلاء كلمة الله ـ تعالى ـ ولإخراج الناس من ظلمة الجهالة إلى نور الحق واليقين، وقد تجشم المسلمون في سبيل هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور الكثير من الصعاب؛ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم!
إن جيوش المسلمين التي كانت تخرج في سبيل الله كانت تخرج لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأنظمة القائمة إلى عدل الإسلام؛ فلم تؤمن بلدة أو محلة وكانت من المسلمين إلا كان لها ما للمسلمين وعليها ما على المسلمين، دون أدنى فرق، بل كان المسلمون يولُّون على أهل الأرض المفتوحة أمراءهم الذين كانوا عليهم قبل دخول الإسلام، فلم يكن جهاد المسلمين لاستعباد الناس أو العلو بالباطل عليهم أو سرقة خيرات بلادهم. أخرج البخاري في صحيحه أن مَيْمُونَ ابْنَ سِيَاهٍ سأل أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «يَا أَبَا حَمْزَةَ! مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْعَبْدِ وَمَالَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلاتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ» .
ليقل لنا كبير النصارى ومن سار على طريقه: أي معركة قام بها أتباعه من أجل إقامة حق أو دفع باطل؟ وليقل لنا: ما المسوِّغ الذي استباحت فيه النصرانية قتل مئات الآلاف من اليابانيين بالأسلحة التي يسعون لحرمان مخالفيهم منها؟ وما المسوغ الذي استباحت به النصرانية قتل الهنود الحمر أصحاب البلاد الأصليين والاستيلاء على بلادهم وديارهم وأراضيهم وسلخهم كما تسلخ الشاة وهم أحياء؟ بل ما المسوغ الذي استباحت به النصرانية طرد شعب فلسطين من أرضه وإعطاء دُورهم وبلادهم لليهود ومعاونتهم بكل سبيل على التمكن من الأرض المسروقة، حتى يندر أن يمر يوم لا يقتل اليهود فيه فلسطينياً أو جماعة من الفلسطينيين؟ بل ما المسوغ الذي استباحت به النصرانية الهجوم على البلاد الأفريقية واختطاف أهلها منها وجلبهم إلى بلاد النصارى وبيعهم في أسواق النخاسة كما تباع الماشية ليكونوا لهم عبيداً؟
والإسلام كان وما زال دعوة إلى الخير والبعد عن الشر. يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما يتكلم به عن الله ـ تعالى ـ: «والشر ليس إليك» فأقوال ربنا وأفعاله وما شرعه للناس ليس فيه شر، بل فيه الخير كل الخير ولكن أكثر الناس لا يعلمون. لكن ليقل لنا كبير النصارى المشرك عابد الأوثان: هل هناك شر أكثر من عقيدة تزعم أن الله ـ تعالى عما يقولون ـ قتل ابنه لكي يخلص الناس من الخطيئة؟ فأي رحمة أو خير فيمن يقتل ابنه ليخلص غيره من الخطايا والذنوب والآثام؟ وإذا كان إلههم عندهم على كل شيء قدير؛ فما الذي أحوجه إلى التضحية بابنه لتكفير الخطايا؟ ألا يستطيع ربهم وإلههم أن يكفِّر خطاياهم بغير هذا الطريق الدموي، الذي يدل على أن دين هؤلاء قائم على سفك الدماء بالذرائع الكاذبة، وهو ما يثبته الواقع في تعاملهم مع مخالفيهم حتى من بني ملتهم؟
لكننا نعود ونقول: ما الذي جرأ هذا المشرك الضال عابد الأوثان على إظهار الطعن في دين الإسلام ورسول رب العالمين؟
قد لا يكون مستغرباً أن يكفر أهل الكتاب بالإسلام رغم ما في كتبهم من البشارة برسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قد لا يكون مستغرباًً أن لا يحب أهل الكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد لا يكون مستغربا أن يكره أهل الكتاب دين الإسلام، وأن يحقدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أبان شركهم وضلالهم وانغماسهم في ظلمات الجهل، والذي أخرج بالحق الأبلج الذي جاء به من ربه كثيراً من النصارى من ديانتهم الباطلة إلى دين الحق، والذي أزال ملكهم عن كثير من البلدان والممالك التي تسلطوا عليها ظلماً وقهراً، والذي ما زال حتى الآن - رغم ضعف أتباعه - يُخرج كثيراً من نوابغ العلماء منهم ومن غيرهم بالحق الذي احتواه ـ يخرجهم من كفرهم وضلالهم إلى توحيد الله ـ عز وجل ـ ونفي الشريك والصاحبة والولد، الذي تثبته ديانة النصارى.
لكن لماذا تجرأ كبير المشركين في العالم ورأس عابدي الأوثان على إظهار ما بداخلهم من الحقد والغيظ والكره للإسلام، وكانوا من قبلُ يخفون كثيراً منه؟
إن ما حدث لم يكن زلة لسان أو سوء فهم، وإنما هو عن عمد وإصرار، والذي نراه اليوم ما هو إلا جزء من حرب يشنها النصارى في العالم على الإسلام يشارك فيها السياسيون والفنانون والإعلاميون والقساوسة والرهبان، ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن أهل العهد إذا كان لهم عهد عند المسلمين فإن عهدهم ينتقض بإظهار الطعن في دين الإسلام ولسنا في حاجة إلى الرد على سخافات هذا الجاهل الكبير؛ فإن كلماته أحقر من أن يتكلف المسلم الرد عليها، بل هو من أوائل من يعلم كذبها وبطلانها.
فهل أظهر كبير المشركين في العالم هذا الطعن؛ لأنه رأى أن حكام المسلمين لا يشغلهم غير الحفاظ على كراسيهم وأنهم حريصون بكل سبيل على التقرب من كبير رعاة البقر، وإظهار المودة له وعدم إغضابه ولو على حساب دينهم وأوطانهم وشعوبهم؟ هل أظهر ذلك؛ لأنه رأى من كثير من علماء الدين التهالك على حطام الدنيا ومتابعة السياسيين في بلادهم وتسويغ كل تصرفاتهم؟ وهل أظهر ذلك؛ لأنه رأى ضعف الشعوب وعدم قدرتها على الاستمرار في عمل يهدد النصارى أو يضيِّق عليهم؟ فهذه المقاطعات الشعبية لا تلبث أن يخمد لهيبها بالالتفاف عليها من قِبَل بعض الناس حتى تصبح المقاطعات غير ذات جدوى. وهل أظهر ذلك؛ لأنهم علموا أن القوة المادية التي تحسم كثيراً من نتائج الحروب صاروا هم صناعَها والمالكين لتقنيتها، وأن المسلمين ليس عندهم من وسائلها إلا ما يشترونه من دول الكفر، وأن الأسلحة التي تشتريها دول المسلمين ليست للدفاع عن العقيدة وإنما للدفاع عن كراسي الحكم المهزوزة في كثير من البلدان؟
إذا كان السبب هو أحد هذه الأسباب المتقدمة أو كلها مجتمعة، أو غير ذلك من الأسباب، فإننا ـ بمجموع الأمة ـ مدعوون بكل قوة إلى الثبات على ديننا والمحافظة عليه والرد على الطاعنين فيه، وتأديبهم التأديب اللائق الموجع الذي يعلمون به أن الطعن في الإسلام ليس مجرد نزهة فكرية. إن طلب الاعتذار ممن يسب ديننا ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- في ظل ضعفنا وتخاذلنا عن نصرة ديننا، لا يعدو أن يكون مجرد استعطاف لهم، وهل يكفي في ذلك اعتذار حتى لو فعلوه؟ إن من لا يملك القدرة على العقاب، فكيف يعتذر له اللئام عن خطيئاتهم؟
فهل يعي المسلمون الدرس، ويعرفون حقيقة أعدائهم، أم لا يزال كثير منهم يسبح في أوهام حوارات الأديان والتحالف من أجل مقاومة اللادينية؟
نريد اليوم مشروعاً عملياً قابلاً للتنفيذ والبقاء والتأثير، وليس مجرد هبَّة أو غضبة بحسب الظروف والأحوال، ولا مندوحة عن الوصول إلى ذلك المشروع؛ فهل نتداعى جميعاً من أجل أن يرى هذا المشروع النور، وأن ننصر ديننا وكتابنا فنعمل به ونحكِّم شريعتنا في الدقيق والجليل، ونؤدب كل من تسوِّل له نفسه الضالة المنحرفة عن سبيل الهدى أن يقترب من حياض الإسلام؟ {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40] .
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/108) .
(1) تفسير ابن كثير.(230/2)
التعاون مع أهل القبلة «الشروط والمحاذير»
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
ظهرتْ في العصر الحاضر مذاهب الإلحاد من شيوعية وبعثية ووجودية وليبرالية ونحوها، فانبعثتْ الصحوة الإسلامية تدافع هذه الأهواء والمقالات، وتدعو الأجيال إلى الانتماء إلى الإسلام والتمسك به، فلقد كان ظهور أولئك الزائغين من أسباب ظهور هذه الصحوة المباركة.
ثم إن هذه الصحوة ازدادت نضجاً وسداداً، فلم تكتفِ بعموم الدعوة إلى الإسلام، بل ضمّنت برامجها وأدبياتها الاعتصام بالسُّنّة، والتمسك بمنهج أهل السُّنّة والجماعة عقيدةً وسلوكاً، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وخلّفت ـ بتداعياتها وآثارها ـ مراجعات وتراجعات، فاختزل بعضهم همّه في الحديث عن مرونة الإسلام وسماحته ويُسْره، وانتكس آخرون فطعنوا في ثوابت الشريعة وشعائرها، وآثر البعضُ الانكفاء فاعتزلوا واقع الناس؛ إذ لم يستبن لهم سبيل التعامل مع تلك المتغيرات والأحداث.
وغابَ في زحمة الوقائع وتراكم النوازل المسلك العدل تجاه تلك القضايا، ومن هذه القضايا: سُبُل التعامل مع أهل القبلة، وحجم التعاون معهم في قضايا مشتركة سواء أكان في مواقف علمية أم عملية.
والناس إزاء هذه القضية على طرفي نقيض؛ فمنهم من ينادي بالاتحاد والالتحام مع أهل القبلة، ويطالب بطرح الفروق ونبذها، والدعوة إلى التقريب مع سائر المنتسبين للإسلام بلا قيد أو شرط، ويقابلهم بعض المتسنّنة الذين لا يقيمون لهذه المسألة اهتماماً، فلم يعنوا بها بحثاً وتقريراً، فضلاً عن تحقيقها وتطبيقها.
ولعل هذه المقالة تكون لبنة في هذا الموضوع الكبير، ونرجو من أرباب الشأن أن يسهموا في هذه القضية.
ـ فنقول ابتداءً: المراد بأهل القبلة: أهل الإسلام ـ وإن كانوا قد تلبّسوا ببدعة أو فجور ـ وهم المذكورون في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله، فلا تُخْفروا الله في ذمّته» (1) .
وقد يطلق عليهم وصف «الإسلاميين» أو أهل الصلاة، وكما هو ظاهرُ عنوان كتاب أبي الحسن الأشعري: «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» .
ـ يبدو جلياً عناية أهل السُّنّة بالتعاون مع أهل القبلة على البرِّ والتقوى، وموالاتهم والقيام بحقوقهم، وفق ما جاءت به الأدلة الشرعية والمصالح المرعية.
ومن ذلك: صلاة الجمعة والجماعة خلف كل برّ وفاجر من أهل الإسلام؛ فقد قرر أئمة أهل السُّنّة ذلك في عقائدهم، حتى قال سفيان الثوري في عقيدته: «يا شعيب! لا ينفعك حتى ترى الصلاة خلف برٍّ وفاجر» (2) .
ويقول ابن تيمية: «وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين» (3) .
كما بيّن أئمة السُّنّة مشروعية الصلاة على من مات من أهل القبلة، فقال قوام السُّنّة أبو القاسم الأصفهاني (ت 534 هـ) ، مقرراً لهذه المسألة: «فمن مذهبهم الصلاة على من مات من أهل القبلة» (4) .
وشملت عقائد أهل السُّنّة مشروعية الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ مع أولي الأمر من المسلمين برّهم وفاجرهم إلى قيام الساعة.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين (ت 399 هـ) : «ومن قول أهل السُّنّة أن الحج والجهاد مع كل برّ أو فاجر من أهل السُّنّة والحق، وقد فرض الله الحج فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، وأعلمنا بفضل الجهاد في غير موضع من كتابه، وقد علم أحوال الولاة الذين لا يقوم الحج والجهاد إلا بهم، فلم يشترط ولم يبيّن، وما كان ربك نسياً» (5) .
ـ وقد حوى تاريخ الإسلام وقائع تحكي تعاوناً بين أهل القبلة ـ سواءً كانوا فجّاراً أو مبتدعة ـ، ومن ذلك: أن يزيد بن معاوية غزا بلاد الروم سنة تسع وأربعين من الهجرة، وبلغ قسطنطينية، وكان معه سادات الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي أيوب الأنصاري (6) .
فلم يكن ظلم يزيد وجوره مانعاً لهؤلاء الصحب الكرام أن يجاهدوا معه ضد الروم النصارى.
ومن جهود أهل القبلة تجاه الكفار والمرتدين ما فعله الخليفة العباسي القادر بالله (ت 422 هـ) في سبيل مواجهة المدّ الباطني العبيدي، إذ استفحل نفوذ العبيديين ـ في عصر القادر بالله ـ فنشط دعاتهم في نشر المذهب الباطني، وانتشروا في أطراف البلاد، فاتخذ القادر بالله سنة 402 هـ ـ من أجل مواجهة العبيديين ـ محضراً يتضمن الطعن في أنسابهم، ويكشف حقيقة مذهبهم، وأنهم زنادقة كفّار، وخلاصة المحضر أن الفاطميين ملوك مصر، منسوبون إلى (ديصان الخرّمي) ، فليسوا من أهل البيت، وأنهم كفار ملحدون زنادقة، وللإسلام جاحدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السلف (7) .
وقد كُتِب هذا المحضر، وأقرّه جمع من الأشراف والقضاة والفقهاء والعدول.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم» ، إلى أن قال: «وهؤلاء بنو عبيد القداح ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم..» (8) .
كما أن جهود الخليفة القادر بالله ـ ضد الباطنية ـ شجعت علماء الإسلام في الرد على الباطنية، فكتب (الباقلاني الأشعري) : «كشف الأسرار وهتك الأستار» وبيّن فيه قبائحهم، كما صنف (علي بن سعيد الاصطخري) ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ للقادر بالله كتاب «الرد على الباطنية» فأجرى عليه جراية سنية (9) .
وبالجملة: فتاريخ الإسلام حافلٌ بجهود متعددة لعلماء الإسلام تجاه النوازل والوقائع المشتركة، مثل: جهاد أهل الإسلام ضد الصليبيين والتتار ونحوهم، والاهتمام بتميّز المجتمع الإسلامي وحفظ خصائصه، وذلك من خلال التحذير من التشبه بالكفار، وإقامة الشروط العُمَرية على أهل الذمّة، ونحوها.
ـ ويمكن في هذا العصر الاجتماع والتعاون مع سائر أهل القبلة؛ فما أكثر القضايا التي هي محل اجتماع واتفاق بين أهل الإسلام، ومن ذلك: مواجهة الطغيان الأمريكي، ومقاومة التغريب والتفلّت الأخلاقي، ومدافعة العلمانية المتمردة، وكذا مدافعة التنصير، والاحتساب على المنظمات والمؤتمرات الدولية في مواقفها العدائية للإسلام، ومناصرة المجاهدين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان.. إلخ.
ـ إنّ إبراز هذه القضايا ـ ونظائرها ـ والقيام بها يحرِّك أهل الإسلام عموماً، ويدفعهم إلى نصرة دين الله ـ تعالى ـ والذبِّ عن شعائر الإسلام، وعندئذ تتسع دائرة الدعوة والإصلاح والتغيير.
كما أنّ تبني تلك القضايا المشتركة يخفف الفرقة والنزاع بين أهل الإسلام، ويحقق الألفة والأخوة الإيمانية.
وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك بقوله: «فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع؛ فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم، وألّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذّبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض..» (1) .
لكن التعاون مع أهل القبلة لا يعني أن يتخلّى أهل السُّنّة عن شيء من خصائصهم الاعتقادية والمنهجية، كما لا يعني التهاون في إنكار منكرات المبتدعة ومناصحتهم بالحجة والبرهان، كما أن المنتسبين إلى أهل القبلة ليسوا سواءً؛ فهم متفاوتون في هذا الباب، فمنهم: من لا يرجى نفعه ولا يؤمن أذاه، كالرافضة ـ مثلاً ـ الذين فارقوا أهل الإسلام سواء من جهة التلقي أو الاعتقاد، وقد كانوا مع التتار والصليبيين ضد المسلمين، ولا يزالون مع المستعمر ـ في هذا الزمان ـ ضد أهل الإسلام، فلا سبيل إلى التعاون مع قوم أُشربوا عبادة الأئمة وحبّ «التقيّة» وبُغْض الصحابة رضي الله عنهم.
ويراعى ـ أيضاً ـ نوعية التعامل وحجم التعاون مع طوائف أهل القبلة، فالقضايا متنوعة، والتعاون يختلف حسب النوازل والأحوال، وتقدير ذلك من أبواب السياسة الشرعية التي تتطلب فقهاً وورعاً من أهل العلم، كما تتطلب تشاوراً بين أهل الرأي حتى يُقدَّر لكل حالة قدرها.
ولا بدّ من استقراء وقائع التاريخ الماضي والحاضر، والاستفادة من التجارب الناجحة والمتعثرة؛ فإذا كان اجتماع أهل القبلة في الردّ على العبيديين، وجهاد الصليبيين ـ زمن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ـ من التجارب الرائعة والمفاخر الظاهرة، فإن جهاد أهل السنة ـ ومعهم علماء المالكية في القيروان بالمغرب ـ سنة 333هـ مع أبي يزيد الخارجي من التجارب الموجعة؛ فمع أن الخوارج «أصدق الناس وأوفاهم بالعهد» (2) . إلا أن أبا يزيد الخارجي أظهر الخيانة وغدر بأهل السُّنة، فإن علماء المالكية جاهدوا مع أبي يزيد الخارجي ضد العبيديين باعتبار أن الخوارج من أهل القبلة، وأما العبيديون فكفار مرتدون.. فلما خرج أولئك العلماء مع أبي يزيد الخارجي، وظهرتْ بوادر النصر على العبيديين، قال أبو يزيد لأصحابه: إذا لقيتم القوم فانكشفوا عن علماء القيروان حتى يتمكن أعداؤهم منهم، فَقُتِل جمعٌ كثير من الفقهاء والصالحين، وتغلّب العبيديون (3) .
وعلينا أن نتفطن إلى أن هذا التعامل والتعاون لا يعني تزكيةً مطلقة لأولئك الإسلاميين، أو تساهلاً في بيان أخطائهم، وأن لا يكون ذلك سبيلاً إلى تسلّطهم على أهل السُّنة أو إظهار بدعتهم بين الناس.
وأخيراً؛ فإن الاجتماع مع أهل القبلة لا يتحقق إلا باتّباع نصوص الوحيين؛ فالمصالح الوطنية أو العرقية وما أشبهها لا تورث اجتماعاً ولا تعاوناً، كما هو مشاهد ومجرّب.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: «ولست تجد اتفاقاً وائتلافاً إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث، وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقاً واختلافاً إلا عند من ترك ذلك وقدّم غيره عليه، قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] ، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولاً وفعلاً ... » (4) .
(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) أخرجه البخاري، رقم (391) .
(2) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنّة (154/1) .
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية (542/4) .
(4) الحجة في بيان المحجة (477/2) .
(5) أصول الدين لابن أبي زمنين، ص (288) .
(6) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، (32/8) .
(7) انظر: المنتظم لابن الجوزي، (82/15 ـ 83) ، والبداية لابن كثير (345/11) .
(8) مجموع الفتاوى (128/35 ـ 131) باختصار.
(9) انظر: البداية لابن كثير (346/11 ـ 352) .
(1) مجموع الفتاوى (44/15 ـ 45) .
(2) مجموع الفتاوى (484/28) .
(3) انظر تفصيل ذلك في: ترتيب المدارك للقاضي عياض (/2 29 ـ 31) .
(4) مجموع الفتاوى (52/4) .(230/3)
تتبع الرخص (التأصيل والواقع)
عبد اللطيف بن عبد الله التويجري
- مدخل:
الناظر في كتب أصول الفقه يجد أنه لا يخلو كتاب أُلِّفَ في هذا الفن قديماً وحديثاً إلا ويوجد به تعريف للرُّخصة الشرعية، ولهذا؛ فقد كثرت تعريفات العلماء لها واختلفت، وأجود هذه التعريفات ـ كما قال الشيخ الشنقيطي (1) ـ تعريف «السبكي» لها بأنها: (الحكم الشرعي الذي غُيّر من صعوبة إلى سهولة لعذر اقتضى ذلك، مع قيام سبب الحكم الأصلي) (2) .
وهذه الرُّخص التي جاءت بها الشريعة لها أحكامها وشروطها وضوابطها، ولذلك أفرد لها علماء الأصول أبواباً مستقلة في كتبهم تناولت ذلك كله، فإذا أُطلقت الرُّخصة في كلام أهل العلم فإنما يراد بها هذا المفهوم المتقدم، والذي يراد به بمجيء الشريعة بالتخفيف عن المكلّفين، وتسهيل الأحكام وتيسيرها، والسماح بتناول القدر الضروري من المحظورات عند الحاجة، فالذي لا يستطيع ـ مثلاً ـ استعمال الماء لعدم القدرة عليه أُبيح له التيمم، قال ـ تعالى ـ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] .
وأيضاً؛ فإن حكم أكل الميتة محرَّم بنص القرآن بقوله ـ تعالى ـ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] .
لكن جاءت بعد ذلك الرُّخصة الشرعية المشروطة بقوله ـ تعالى ـ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3] .
قال ابن قدامة: (فإن قيل: فكيف يسمى أكل الميتة رخصة مع وجوبه في حال الضرورة؟ قلنا: يسمى رخصة من حيث إن فيه سعة، إذ لم يكلّفه الله ـ تعالى ـ إهلاك نفسه..) (3) .
والأمثلة على هذا الباب كثيرة، وهذا كله جاءت به نصوص عديدة من الكتاب والسنة تدل عليه، مثل قوله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وبقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
[الحج: 78] .
وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم برخصة الله الذي رخص لكم..» (4) .
فدلَّ هذا أن التيسير والتخفيف والترخيص عند المشقة مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، وأصل مقطوع به من أصولها (1) ؛ لتحفظ على الناس ضروراتهم وحاجاتهم.
وبناءً على ورود هذه الآيات والأحاديث في كتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قرّر أهل العلم قواعد كثيرة في ذلك، منها: (المشقة تجلب التيسير) ، و (الحرج مرفوع) ، و (لا ضرر ولا ضرار) ، و (الضرر يزال) ، و (إذا ضاق الأمر اتّسع) .. إلخ (2) .
وبعد؛ فإن مفهوم هذه الرُّخص الشرعية، ليس المراد في حديثنا بمسألة تتبُّع الرُّخص، وإنما ذكرنا ذلك لكي لا يلتبس الأمر، فالرُّخص الشرعية لا خلاف في الأخذ بها إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وسيأتي الإشارة إلى بعض ذلك في حكم الأخذ بالرُّخص، أما مسألة تتبُّع الرُّخص بأخذ الأسهل من الأقوال في مسائل الخلاف فهي مدار بحثنا وحديثنا، وسيأتي بيان ذلك في العناصر القادمة بإذن الله تعالى.
- ثانياً: تعريف تتبُّع الرُّخص:
وردت عدة تعريفات في معنى تتبُّع الرُّخص، فمنها: ما عرَّفه «الزركشي» بأنه: (اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه..) (3) . وعرَّفه «الجلال المحلي» بقوله: (أن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل) (4) ، وهذه المعاني هي المعنية بهذا البحث، فالمقصود هو تتبُّع رخص العلماء باتِّباع الأسهل من أقوالهم في المسائل العلمية، بحيث لا يكون اتِّباع المكلف لهذه الرُّخص بدافع قوة الدليل وسطوع البراهين، بل الرغبة في اتِّباع الأيسر والأخف، سواء كان ذلك بهوى في النفس أو بقصد التشهي أو الجهل أو لأسباب أخرى سيأتي بيانها في العناصر التالية.
- ثالثاً: بين التلفيق وتتبُّع الرُّخص:
لمسألة التلفيق (5) علاقة وثيقة بتتبُّع الرُّخص، ولذا فإنه يحسن أن نقف عندها، ونبين الفرق بين التلفيق وبين تتبُّع الرُّخص.
فالمقصود بالتلفيق عند العلماء هو: الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يلفِّق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولّد منهما حقيقة مركبة لا يقول بها أحد (6) .
وقد اختلف العلماء في حكمه: فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أجازه مطلقاً، والصحيح ـ والله تعالى أعلم ـ التفصيل في ذلك، وهذا هو الذي أقرَّه مجمع الفقه الإسلامي (7) ، وهو جواز التلفيق إلا أنه يكون ممنوعاً في الأحوال التالية:
1 ـ إذا أدَّى ذلك إلى الأخذ بالرُّخص الممنوعة، كـ: تلفيق الشاعر «أبو نواس» في أبياته المشهورة، حيث زعم أن الإمام أبا حنيفة النّعمان قد أباح النبيذ، والشافعي قال: النبيذ والخمر شيء واحد، فلفّق من القولين قولاً نتيجته إباحة الخمر (8) .
2 ـ إذا أدَّى التلفيق إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءاً للفوضى.
3 ـ إذا أدَّى إلى نقض ما عمل به تقليداً في واقعة واحدة (9) .
4 ـ إذا أدَّى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه (10) .
5 ـ إذا أدَّى إلى حالة مركبة لا يقرُّها أحد من المجتهدين، كمن تزوج امرأة بلا ولي ولا شهود، مقلّداً الإمام أبا حنيفة في عدم اشتراط الولاية، ومقلّداً الإمام مالكاً ـ في رواية له ـ في عدم اشتراط الشهادة بذاتها، ويكفي إعلان الزواج.
فهذا الزواج غير صحيح؛ لأنه لا يجيزه الإمام أبو حنيفة ولا الإمام مالك على هذه الصورة الملفّقة؛ لأنه تولّد منه قول آخر مخالف لرأي هؤلاء العلماء على كيفية لا يصححونها، ولا يصح أيضاً؛ لأنه مخالف للأدلة الصحيحة الواردة في هذه المسألة، ولأن الأصل في الأبضاع (الفروج) التحريم، ولا شك أن فيه تلاعباً بالشريعة وخروجاً عن مقاصدها (1) .
وبعد أن تبين لنا مفهوم التلفيق وحكمه نستطيع أن نبين الفرق بين التلفيق الممنوع وتتبُّع الرُّخص، فبينهما فروق من نواحي عديدة، منها (2) :
1 ـ أن التلفيق جمع بين أقوال العلماء وتصرف فيها بقول لا يصححه أحد من المجتهدين، وقد ينتج عن ذلك إحداث قول جديد في المسألة لم يقل به مجتهد، بينما الأخذ بالرُّخص ليس فيه إحداث قول جديد، وإنما يأخذ برخصة قالها أحد العلماء.
2 ـ أن التلفيق قد يؤدي إلى مخالفة إجماع العلماء؛ بخلاف تتبُّع الرُّخص، فإنه يكون بأخذ قول أحد من العلماء.
- رابعاً: حكم الأخذ بالرُّخص:
حديثنا في ذلك يأتي على نوعين:
الأول: حكم الأخذ بالرُّخص الشرعية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
الثاني: حكم الأخذ برخص الفقهاء والعلماء التي من آرائهم واجتهاداتهم المخالفة للأدلة.
فإذا كان الأخذ والعمل برخص الشارع فإن جمهور العلماء (3) يرون أن الرُّخصة الشرعية تأتي على أنواع، منها (4) :
ـ الرُّخصة الواجبة: كأكل الميتة للمضطر.
ـ الرُّخصة المندوبة: كالقصر في الصلاة في السفر إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
ـ الرُّخصة المباحة: كالسَّلَم (5) ، والتكلّم بكلمة الكفر عند الإكراه مع طمأنينة القلب.
قال في شرح مختصر الروضة: (والرُّخصة قد تجب، كأكل الميتة عند الضرورة، وقد لا تجب ككلمة الكفر) (6) .
ـ الرُّخصة التي على خلاف الأولى: ومثّلوا لها بفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 184] .
أما بالنسبة إلى النوع الآخر وهو حكم أخذ المكلّف برخص العلماء وزلاتهم والانتقاء من أقوالهم الأيسر والأخف في بعض أقوالهم المخالفة للأدلة النقلية الصحيحة فهو مما نقل تحريمه بالإجماع كما نقل ذلك غير واحد من أهل العلم كابن حزم وابن عبد البر والباجي وابن الصلاح وغيرهم (7) .
ولأجل هذا فقد جاءت عبارات العلماء شديدة في النهي عن فعل ذلك ومشنعة على من فعلها، مثل: قول الإمام الأوزاعي: (من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام) (8) . وقول سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله) (9) ، إلى غير ذلك من الأقوال التي تبين مدى خطورة العمل بهذه الرُّخص التي يؤدِّي العمل بها إلى آثار ونتائج معارضة لأصل الشريعة كما سنبينه في العنصر التالي، علماً أن هذا الحكم خاص فيمن تتبَّع الرُّخص لمجرّد اتِّباع الهوى، أو بحث عن الحكم الأسهل، أو حاول الإعراض أو التجاهل للأدلة، أما إذا كان غير ذلك فقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي الأخذ بالرُّخص بمراعاة الضوابط الشرعية التالية (10) :
1 ـ أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعاً ولم توصف بأنها من شواذّ الأقوال.
2 ـ أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرُّخصة؛ دفعاً للمشقة سواء كانت حاجة عامة للمجتمع أو خاصة أو فردية.
3 ـ أن يكون الآخذ بالرُّخصة ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
4 ـ أن لا يترتّب على الأخذ بالرُّخص الوقوع في التلفيق الممنوع.
5 ـ أن لا يكون الأخذ بالرُّخص ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
6 ـ أن تطمئنَّ نفس المترخص للأخذ بالرُّخصة.
إشارة:
أوضح بعض العلماء كابن الصلاح والنووي وابن القيم وغيرهم (1) ، أن من صح مقصده، واحتسب في تطلّب حيلة لا شبهة فيها، ولا تجرّ إلى مفسدة للتخلّص ـ مثلاً ـ من ورطة يمين ونحوها، وهو ثقة، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف، كقول سفيان: (إن العلم عندنا الرُّخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد) .
قال ابن الصلاح: (وهذا خارج على الشرط الذي ذكرناه، فلا يفرحن به من يفتي بالحيل الجارة إلى المفاسد (2)) .
- خامساً: الآثار المترتبة على تتبُّع الرُّخص:
لا شكَّ أن لتتبُّع الرُّخص آثاراً ونتائج سلبية تؤدي إلى مسلك خطير. وقد توسع في الحديث عنها «الإمام الشاطبي» في كتابه النفيس (الموافقات) ، وأيضاً هناك بعض الإشارات من علماء آخرين كابن الصلاح والنووي وابن القيم.. أجملُها في نقاط (3) :
1 ـ أن فيها مخالفة لأصول الشريعة ومقاصدها، وذلك لأن الشريعة جاءت لتخرج الإنسان من داعية هواه، وجاءت بالنهي عن اتِّباع الهوى، وتتبُّع الرُّخص حثٌّ لبقاء الإنسان فيما يحقق هواه، واتِّباع ما تميل إليه نفسه.
2 ـ الانحلال من رِبْقَةِ التكليف، يقول «الشاطبي» وهو يتكلم عن ذلك: (فإنه مؤدٍّ إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، وهو عين إسقاط التكليف) (4) .
3 ـ ترك اتِّباع الدليل إلى اتِّباع الخلاف، وهذا مخالف لقوله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] .
4 ـ الاستهانة بالدين وشرائعه، إذ يصير بذلك سيالاً لا ينضبط.
5 ـ قد يفضي إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماع العلماء.
- سادساً: المُفتون والواقع:
إن الناظر في حال بعض المُفتين اليوم يخشى أن يشملهم ذلك الوعيد والزجر الذي قاله العلماء وحذروا منه في من تتبَّع الرُّخص الممنوعة، وذلك لأجل وقوعهم في المحظور المنهي عنه، ولكونهم ـ أيضاً ـ أخذوا التيسير منهجاً في الفتوى بناء على أخذ الأسهل من الأقوال، وتساهلوا فيها بحجة مجيء الشريعة باليُسْر والسهولة ورفع الحرج؛ لكون ذلك مقصداً من مقاصدها العظمى التي امتازت به.
وكونُ الشريعة الإسلامية جاءت بذلك مما لا شك فيه؛ لأنه قاعدة كلية عظمى.
لكن هناك فرق بين هذه القاعدة وبين التساهل وتتبُّع رخص العلماء ورفع مشقة التكليف باتِّباع كل سهل بدون أصول وضوابط، فحينما نبني الفرع الفاسد على الأصل الصحيح، أو نأخذ برخصة إمام من الأئمة خالف فيها الدليل الصحيح الصريح لأسباب وأمور هو معذور فيها (5) ، بحجة القاعدة الكبرى وهي التيسير ورفع المشقة والحرج.. فهذا غير صحيح، ويوصلنا إلى منهج يعارض أصل الشريعة ومقاصدها وانضباطها، ولذلك سدَّ العلماء هذا الباب وحرّموه، يقول ابن مفلح: (يحرم التساهل في الفُتْيا، واستفتاء من عرف بذلك) (6) ، ويقول ابن القيم: (الرأي الباطل أنواع، أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفُتْيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد) (7) .
وللأسف فإن الذين عرفوا بذلك واتخذوا التيسير المحظور منهجاً لهم فقد وقعوا في محظورات وأخطاء أكبر، فها هم يريدون تطويع الفتوى بحجة مسايرة الواقع ومواكبة العصر ومتغيراته، ولم يفرِّقوا بين الثابت والمتغير، وأرادوا أن يغيّروا الفقه الإسلامي تغييراً موافقاً لقواعدهم، لكي يكون الفقه الإسلامي فقه التيسير والوسطية، وهو كذلك، لكن ليس على قاعدتهم ونظرتهم، ونتيجة لذلك فإن تساهلهم أوصلهم إلى أقوال غريبة وشاذّة، حتى ميّعوا الدين واستطال الجُهّال عليه، وعطّلوا بعض الحدود والأحاديث، وأصبحنا نرى فتاوى يستنكرها العوام أصحاب الفطر السليمة فكيف بأهل العلم!! فهذا يرى جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وذاك يفتي بجواز شرب الدخان لمن يقدر على شرائه، وهذا يرى أنه لا ينبغي إقامة حدّ الردة على المرتدّ في هذا الوقت، وآخر يرى جواز مصافحة المرأة الأجنبية للرجال وتقبيلها ضارباً على الأحاديث الصريحة عرض الحائط، ولا تعجب أن تسمع من يقول لأحد اللجان الوضعية في بلاده: «ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه موافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنصٍّ من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم..» (1) .
إن من يسمع لمثل هذه الفتاوى أو يقرؤها ليتبادر إلى ذهنه سؤال كيف وصل الأمر إلى ذلك؟ وهل يجوز لهذا المفتي أو غيره من المُفتين الإفتاء في دين الله بالتشهي والتخيّر؟! وهل يجوز البحث عن الأقوال التي توافق غرض المفتي وهواه؟! أو غرض من يحابيه.. فيفتي به ويحكم به؟ يُجيب عن ذلك ابن القيم بقوله: (هذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان..) (2) .
وهذا «الإمام الشاطبي» ينقل في (موافقاته) كلاماً جميلاً للإمام الباجي قال: « ... لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدُّ به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخط من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله ـ تعالى ـ في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حَكَمَ به وأوجبه؟ والله ـ تعالى ـ يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] (3) .
ونظراً لأهمية هذه المسألة فقد عدَّ بعض العلماء ـ كالسمعاني وغيره ـ الكفّ عن الترخيص والتساهل شرط من شروط المفتي (4) .
ولو تأملنا ما رواه البيهقي (5) بإسناده عن إسماعيل القاضي يقول: (دخلت على المعتضد بالله فدفع إليّ كتاباً، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له من الرُّخص من زلل العلماء، وما احتج به كل واحد منهم، فقلت: مصنِّفُ هذا زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر ـ النبيذ ـ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب) (6) . فهذا المذهب والمسلك الذي سلكوه ليس جديداً كما ترى، بل عُمل من قبل، وأنكره العلماء، وبيّنوا أنه مبنيٌّ على أصول فاسدة تذهب الدين وتفسده.
يقول الإمام النووي: (لو جاز اتّباع أيّ مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعاً لهواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدي إلى الانحلال من رِبْقَةِ التكليف) (7) .
فلا شك أن الواجب على الناظر والباحث في النصوص الشرعية أن يخلع على عتبته آراءه الخاصة، ويسلم قياده لهذا النص، يتجه به حيثما توجه، جاعلاً له منهجاً صحيحاً، مراعياً الشروط والضوابط، واضعاً الأشياء في مواضعها الصحيحة، متجرداً للحق، مبتعداً عن الهوى والتعصب، جاعلاً الشمولية وجمع الأدلة نهجه ومعلمه، والحق بدليله مقصده، ومن ثم يعرض الأقوال كلها ويقارنها ويحرّرها وينظر الموافق إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة فيتّبعه، وعليه أن لا يصدر الحكم قبل البحث والتحرّي، فإذا أصدر الحكم قبل البحث صار البحث انتقائياً جزئياً واستدلالاً للحكم الذي رآه واختاره من قبل، فينبغي أن يستدل أولاً للمسألة، ثم يعتقد وليس له أن يعتقد ثم يستدل تبعاً لرأيه ورغبته، وقد أشار إلى ذلك ابن القيم في زاد المعاد (8) . أما الذين يدرسون النصوص لتأييد مقررات سابقة في نفوسهم فإن الغالب عليهم عدم الانتفاع بهذه النصوص، فالإخلاص في طلب الحق شرط أساس لتحصيل الهداية وإدراكها.. والله المستعان.
قال الإمام الشاطبي: (فإن في مسائل الخلاف ضابطاً قرآنياً ينفي اتّباع الهوى جملة، وهو قوله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول..) (9) .
ويقول ابن الصلاح: (لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى، وذلك قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولأن يُبطئ ولا يخطئ، أجمل من أن يعجل فيضلَّ ويُضل..) (1) .
- سابعاً: المُستفتون والواقع:
التساهل.. عدم مراقبة الله عز وجل.. ضرب أقوال العلماء بعضها ببعض.. الانتقائية.. سؤال أكثر من عالم وتبنّي أخف قول وأقربه إلى هواه ورغبته.. هذا هو واقع كثير من المُستفتين، بينما لو تأمّلنا ما رواه عبد الرازق عن معمر قال: (لو أن رجلاً أخذ بقول أهل المدينة في استماع الغناء وإتيان النساء في أدبارهن، وبقول أهل مكة في المتعة والصرف، وبقول أهل الكوفة في المسكر ـ النبيذ ـ كان شر عباد الله) (2) .
قال ابن النجار: (يحرم على ـ العامي ـ تتبُّع الرُّخص ويفسق به) (3) . ونقل ابن عبد البر الإجماع على عدم جواز تتبُّع العامي للرُّخص (4) .
وقد أشار «الشاطبي والنووي» إلى أنه إذا أصبح المستفتي في كل مسألة عرضت وطرأت عليه يتتبَّع رخص المذاهب ويتبع كل قول يوافق هواه فإن ذلك يؤدي إلى خلع رِبْقَةِ التقوى والتمادي في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع (5) .
قال صاحب كتاب (زجر السفهاء عن تتبُّع رخص الفقهاء) : (ومن الأبواب التي فتحها الشيطان على مصراعيها للتلبيس على العباد، بابُ تتبُّع رخص الفقهاء وزلاتهم، وخدع بذلك الكثيرين من جهلة المسلمين، فانتُهكت المحرمات، وتُركت الواجبات تعلّقاً بقول زَيْفٍ وتمسكاً برخصة كالطَّيف، وإذا ما أنكر عليهم مُنكر تعلّلوا بأنهم لم يأتوا بهذا من قِبَل أنفسهم، بل هناك من أفتى لهم بجواز ذلك. يا حسرةً على العباد! جاءت الشريعة لتحكم أهواء الناس وتهذّبها فصار الحاكم محكوماً والمحكوم حاكماً، وانقلبت الموازين رأساً على عقب، فصار هؤلاء الجهلة يُحكِّمون أهواءهم في مسائل الخلاف، فيأخذون أهون الأقوال وأيسرها على نفوسهم دون استناد إلى دليل شرعي بل تقليداً لزلّة عالم لو استبان له الدليل لرجع عن قوله بلا تردّد ولا تلكُّوءٍ.
فإذا نُصحوا بالدليل الراجح وطُولبوا بحجج الشرع الواضح تنصّلوا من ذلك بحجج واهية، وهي أن من أفتاهم هو المسؤول عن ذلك وليسوا بمسؤولين، فقد قلّدوه والعهدة عليه إن أصاب أو أخطأ، معتقدين أن قول فلان من الناس يصلح حجة لهم يوم القيامة بين يدي الملك الديّان.
فإن تعجب من ذلك فدونك ما هو أعجب منه: إنهم يأخذون برخصة زيد من الفقهاء في مسألة ما، ويهجرون أقواله الثقيلة في المسائل الأخرى، فيعمدون إلى التلفيق بين المذاهب والترقيع بين الأقوال، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولا يخفى عليك ما في هذا من التهاون بحدود الشرع وقوانينه..) (6) .
فلا شك أن على كل واحد من المستفتين مسؤولية يتحمّلها في مسألته التي يريد السؤال عنها وعن مقصده فيها، وأيضاًً على العلماء والدعاة مسؤولية أخرى كبيرة؛ من توعية المجتمع وتعليمهم واستغلال ذلك في المحاضرات والخطب ووسائل الإعلام؛ لأنه لا يخفى أن حاجة المسلمين إلى العلم وإلى الفتوى مستمرة في كل زمان ومكان، ويحسن في ذلك تكثيف الحديث عن الشروط المعتبرة التي ذكرها العلماء فيما يلزم المستفتي، وهي أربعة شروط (7) :
أولاً: أن يريد باستفتائه الحق والعمل به، لا تتبُّع الرُّخص أو مجرد الهوى.
ثانياً: ألا يستفتي إلا من يعلم أو يغلب على ظنّه أنه أهل للفتوى، وينبغي أن يختار أوثق المفتين عنده.
ثالثاً: أن يصف حالته وسؤاله وصفاً دقيقاً واضحاً.
رابعاً: أن ينتبّه لما يقول المفتي من الجواب ويفهمه فهماً واضحاً، ولا يأخذ بعضه ويترك الآخر.
فإذا نشرت هذه الشروط على نطاق واسع كان في ذلك توعية للناس، وكان ذلك أدعى لأن يكونوا أكثر انضباطاً ودقّة؛ لأنها أصول الاستفتاء التي يلزم على جميع المستفتين العمل بها، فكما أن العلماء يوصون قبل أخذ الفقه بدراسة أصوله، وقبل دراسة التفسير التعرف على أصوله، فكذلك قبل الاستفتاء ينبغي التعرف على أصوله وشروطه.
وأخيراً؛ هذا ما تيسر كتابته والإشارة إليه، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) ينظر: مذكرة الشنقيطي في أصول الفقه، ص (60) .
(2) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب للسبكي (2/26) ، واختيارات ابن القيم الأصولية للجزائري (1/175) .
(3) روضة الناظر وجنة المناظر (1/261) .
(4) أخرجه مسلم (1115) ، وأخرجه النسائي (2258) بلفظ: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها» ، وصححه الألباني في الإرواء (4/54) .
(1) ينظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لابن حميد، ص (93) .
(2) ينظر: كتاب الدرر البهية في الرُّخص الشرعية للصلابي، ص (60) .
(3) البحر المحيط (8/ 381) .
(4) شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني (2/400) .
(5) للتوسّع في هذه المسألة ينظر: كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للشيخ محمد سعيد الباني، وهو مطبوع في مجلد، طبعة المكتب الإسلامي.
(6) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني، ص (91) وما بعدها.
(7) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، ص (159 ـ 160) ، وينظر: مجلة المجتمع (ع 8 ج1 ص41) ، وعمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص (121 ـ 122) ، وينظر: فيض القدير (1/273) .
(8) حيث يقول:
أباح العراقي النبيذ وشربه *** وقال: حرامان المداومة والسكرُ
وقال الحجازي: الشرابان واحد *** فحلّت لنا من بين قوليهما الخمرُ
سآخذ من قوليهما طرفيهما *** وأشربها لا فارق الوازر الوزرُ.
ـ ينظر: كتاب زجر السفهاء عن تتبُّع رخص الفقهاء لجاسم الدوسري، ص (75 ـ 76) .
(9) ينظر أمثلة على ذلك في: كتاب عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص (121 ـ 122) .
(10) المرجع نفسه.
(1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني ص (121 ـ 122) ، وينظر: كتاب الدرر البهية في الرُّخص الشرعية للصلابي ص (91) .
(2) ينظر: حاشية العطار على شرح المحلي (2/442) ، وإعانة الطالبين (4/271) ، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (159 ـ 160) ، ومجلة المجتمع (ع 8 ج1 ص41) .
(3) المالكية والشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية.
(4) ينظر: الدرر البهية في الرُّخص الشرعية للصلابي، ص (39) .
(5) السَّلم هو: عقد على موصوف في الذمّة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويسمى سلماً وسلفاً. وصورته: أن يقول رجل لرجل آخر فلاح ـ مثلاً ـ: خذ هذه عشرة آلاف ريال حاضرة بمائة صاع من التمر نوعه كذا تحل بعد سنة، فهذا هو السَّلم لأن المشتري قدّم سلماً والمُسْلَم مؤخر. ينظر: المغني مع الشرح الكبير (4/338) ، والشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين (4/68) ، طبعة دارالإمام مالك والمستقبل.
(6) شرح مختصر الروضة للطوفي (1/465) .
(7) مراتب الإجماع ص (58) ، وجامع بيان العلم (2/91) ، وينظر: الموافقات للشاطبي مع الحاشية (5/82) ، وأدب المفتي والمستفتي (ص125) .
(8) سير أعلام النبلاء (7/126) .
(9) حلية الأولياء (3/32) ، جامع بيان العلم وفضله (2/122) .
(10) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص (159 ـ 160) ، وانظر: مجلة المجتمع (ع 8 ج1 ص41) .
(1) أدب المفتي والمستفتي ص (111 ـ 112) ، وإعلام الموقعين (4/195) ، والمجموع (1/46) .
(2) أدب المفتي والمستفتي ص (112) .
(3) ينظر في هذه المسألة ما يلي: الموافقات للشاطبي (5/99) (5/83) (5/102 ـ 103) ، المجموع للنووي (1/55) ، إعلام الموقعين لابن القيم (4/185) ، أدب المفتي والمستفتي (ص125) .
(4) الموافقات (83/5) .
(5) انظر: رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) فإنها مفيدة في بابها.
(6) المبدع (10/25) ، وانظر: كشاف القناع (6/300) .
(7) إعلام الموقعين (1/87) .
(1) تراجم الأعلام المعاصرين أنور الجندي (ص428) .
(2) إعلام الموقعين (4/185) .
(3) الموافقات (5/91) .
(4) التقرير والتحبير (3/341) لابن أمير الحاج الحنفي، نقلاً عن كتاب (زجر السفهاء عن تتبُّع رخص الفقهاء) صفحة (55) .
(5) السنن الكبرى (10/356) .
(6) السير للذهبي (13/465) .
(7) المجموع (1/55) .
(8) ينظر: زاد المعاد (5/ 368) .
(9) الموافقات (5/81 ـ 82) .
(1) أدب المفتي والمستفتي (ص111) .
(2) معرفة علوم الحديث للحاكم، ص (56) وتلخيص الحبير (3/187) .
(3) مختصر التحرير، ص: (252) .
(4) جامع بيان العلم وفضله (2/91) ، وشرح الكوكب المنير (4/578) .
(5) ينظر: الموافقات بتصرف (3/123) ، وأيضاً المجموع (1/55) .
(6) ينظر: كتاب زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء للشيخ جاسم بن نهير الدوسري، ص: (11 ـ 12 ـ 13) .
(7) انظر: روضة الناضر لابن قدامة، ص (409 إلى 411) ، ط: الزاحم، مختصر التحرير، ص (252) .(230/4)
الدولة المدنية صورة للصراع
بين النظرية الغربية والمحكمات الإسلامية
(2ـ2)
محمد بن شاكر الشريف
تحدث الكاتب ـ وفقه الله تعالى ـ في الحلقة الماضية عن الدولة المدنية في التراث الإسلامي وفي التراث الغربي، وبيّن الاتجاهات الموجودة
3 عناصر الدولة المدنية:
لو كان لنا أن نتجاوز ما تقدم كله، وندخل في التفاصيل بعيداً عن الوقوف عند حد التعريفات؛ فما عناصر الدولة المدنية؟ وما علاقة ذلك بالإسلام؟
يدور الحديث عن عناصر الدولة المدنية حول عدة محاور تقول: «فطبيعتها تتلخص في وجود دستور يعبر عن قيم ومعتقدات وأعراف المواطنين في الدولة، وفي الفصل بين السلطات الثلاث الآنفة الذكر (1) ، وفي اكتساب الحقوق على أساس المواطنة، وعدم التمييز بين المواطنين لا بسبب المذهب أو الطائفة أو الثقافة أو العرف، وفي كفالة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، واحترام التعددية والتنوع» (2) .
من خلال ما هو مطروح من المداخلات والمساجلات يتبين أن هناك عدة عناصر، منها:
وجود دستور مكتوب: والدستور هو أعلى وثيقة قانونية في الدولة وهو المرجعية النهائية لجميع القوانين والأنظمة؛ فكل ما خالفه من أفعال أو تصرفات فهي موصوفة بالبطلان المطلق، وكل قانون أو تنظيم يُسَن مخالفاً للدستور، هو باطل ولا تترتب عليه النتائج التي تغيَّاها القانون أو التنظيم، وكل ما خالف الدستور فيجب نقضه وإلغاؤه.
وقد يختلف الناس في شأن تدوين دستور، وهل هناك حاجة إلى ذلك لتحديد الحدود والالتزامات والحقوق والواجبات بين مختلف فئات المجتمع، وتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أم يُكتفى بما هو موجود في النصوص الشرعية؛ وبما هو موجود في القضايا الاجماعية، والمعلوم من الدين بالضرورة؛ لوضوحه في الدلالة على ما يراد منه.
والخلاف في ذلك سائغ وهو خلاف في الفقهيات وليس في العقائد، يحكم عليه بالصواب أو الخطأ، ولا يحكم عليه بالحق أو الباطل، أو بالإيمان أو الكفر، ولا يمكن أن يُمنع الخلاف في ذلك بين الناس إلا في ظل القهر والاستبداد، وليس هذا هو جوهر القضية، وإنما جوهر القضية: ما الأساس الذي يُدَوَّن عليه الدستور إذا قيل بتدوينه؟ هل هو الكتاب والسنة وما دلاَّ عليه بوجوه الدلالات المعتبرة، وَفْق القواعد الشرعية المنضبطة، أو الأساس هو العقل والمصلحة، والخبرة والتجارب؟ لا شك أن الخلاف في هذا غير سائغ، وهو خلاف عقدي يحكم عليه بالحق أو الباطل أو بالإيمان أو الكفر، وليس خلافاً فقهياً يحكم عليه بالصواب أو الخطأ.
3 إمكانية تداول السلطة:
المراد بالسلطة في هذا الكلام (الحكومة) بما لها من حقوق وما عليها من واجبات وتبعات، وهي بلا شك في كل الأنظمة سواء الإسلامية وغير الإسلامية لها شروط ومواصفات، ينبغي تحقيقها والتحلي بها، والمشكلة لا تكمن في تداول السلطة؛ فقد قال عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ الخليفة الثاني: «إِنِّي إنْ شاءَ اللَّهُ لَقائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي الناسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤلَاء الَّذِين يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ.. ثم قال عندما قدم المدينة: مَن بَايعَ رَجُلاً عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فلا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا» (1) ؛ فعمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يبين أن البيعة، أي تولية السلطة، لا تكون إلا بمشورة المسلمين، ويحذر الناس ممن يبايع من غير مشورة، ويبين أن هذا غصب لأمور الناس، ثم يبين أن من فعل ذلك فلا ينبغي مبايعته هو أو الذي بايعه، وقد قال ذلك في المدينة النبوية في خطبة الجمعة أمام الصحابة كلهم بمن فيهم من الفقهاء والعلماء، فلم يعترضه أو ينكر عليه أحد، فدل ذلك على أن هذا هو المعروف لديهم.
وعندنا من الواقع العملي أن السلطة تولاها بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر وهو من بني تيم، ثم تولاها عمر وهو من بني عدي، ثم تولاها عثمان وهو من بني العاص، ثم تولاها علي وهو من بني هاشم ـ رضي الله تعالى عن الجميع. فالسلطة انتقلت وتداولها المسلمون وَفْقَ الشروط والمواصفات التي دلت عليها الأحكام الشرعية، ولم يحتكرها أحد ويقصرها على نفسه. لكن ليس من معنى تداول السلطة أن يُحدَّد وقت معين لولي الأمر يفقد بها صلاحيته لولاية الأمر حتى يجدد اختياره من جديد.
والمشكلة الجوهرية مع أنصار الدولة المدنية في هذه المسألة تكمن في الشروط والمواصفات التي ينبغي توافرها فيمن يُولَّى الأمر، وليس في تداولها؛ فهل من شروط الحاكم عندهم أن يكون مسلماً، أم يجوز أن يكون كافراً شقياً ما دام أنه يتمتع بصفة المواطنة؟ وهل يشترط عندهم أن يكون صالحاً تقياً، أم يجوز أن يكون فاسقاً عصياً لرب العالمين؟ وهل يشترط عندهم أن يكون رجلاً أم يجوز أن تكون امرأة؟
لكن أهمية الحديث عن تداول السلطة عند كثيرين تنبع من أن السلطة في عرفهم صارت مغنماً من المغانم وليست مغرماً، لذلك يطالبون بنصيبهم من هذا المغنم، ورضي الله ـ تبارك وتعالى ـ عن عمر عندما رَفَضَ أن يعهد بالأمر من بعده لابنه عبد الله، وقال: لا أتحملها حياً وميتاً. والتداول لا يمثل قيمة جوهرية في الفقه السياسي الإسلامي، وإنما القيمة تكمن في قدرة ولي الأمر على القيام بمهامه على الوجه الأحسن؛ فإذا كان ولي الأمر قائماً بما يجب عليه، محققاً للمقصود من نَصْبِه من غير إخلال أو تقاعس عن القيام بمهامه وواجباته، فليس هناك معنى معقول لإخراجه عن السلطة بزعم تداولها. وفي الجهة المقابلة فإنه متى تقاعس ولي الأمر عن القيام بواجباته، ولم يكن نَصْبُه محققاً للغرض المقصود منه فإن الشريعة لا تأمر بالإبقاء عليه واستمراره في منصبه، بل يوعظ وينصح ويوجَّه؛ فإن استقام وإلا فالعزل طريقه.
3 الاعتراف بالآخر:
ما المراد بالاعتراف به؟ الاعتراف بوجوده، أم الاعتراف بحقوقه التي كفلتها له الشريعة، أم الاعتراف بواجباته التي أناطتها به الشريعة، أم الاعتراف بأنه على دين يخالف دين الإسلام، أم الاعتراف بأن له الحق في أن يدعو بين المسلمين إلى دينه، وأنه يحق له إقناعهم بالتحول إليه؟
ونقول: الاعتراف بالموجود لا حاجة له؛ فنفس وجوده دليل عليه، وهذا من البدهيات لا يحتاج إلى اعتراف. وأما الاعتراف بحقوقه وواجباته وفق الشريعة فلم يعارض في ذلك أحد ممن يؤخذ عنه العلم، ولا ينبغي أن يعارض في ذلك أحد. وأما الاعتراف بأنه على غير دين الإسلام فهذا من أساسيات الإسلام؛ فكل من لم يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو على غير دين الإسلام.
ما بقي إلا شيء واحد وهو أن يكون الاعتراف بالآخر يعني الاعتراف بحقه في أن يدعو المسلمين إلى دينه، أو أن يُمكَّنوا من بناء أماكن لعبادتهم (2) في أمصار المسلمين التي لم يكونوا بها من قبل، بل مصَّرها المسلمون. لكن نحن نسألكم: هل هناك أدلة تدل على ذلك؟ وإذا لم تكن هناك أدلة تدل على ذلك، بل كانت الأدلة تدل على عكسه، كانت المطالبة به على أساس أنه من مواصفات الدولة المدنية، قدحاً في تلك الدولة؛ لأنها تقوم على مخالفة الشرع.
3 قبول الديمقراطية:
وقد تقدم الحديث عنها في مقال سابق فلا مسوغ للإعادة (1) ، لكنا نقول: لقد أثبتت حوادث الأيام أن الديمقراطية في تلك الدول التي تزعم ريادتها في هذا المجال مجرد شعار أجوف؛ فلقد شنت أمريكا الدولة الديمقراطية ومعها بريطانيا الدولة الديمقراطية أيضاًً، وبالتحالف مع عدة دول ديمقراطية أيضاًً، حرباً ظالمة على العراق بزعم وجود أسلحة دمار شامل في ذلك البلد، ثم تبين بعد ذلك أن هذه الأخبار كانت ملفقة؛ حتى إن وزير الخارجية الأمريكي السابق (كولن باول) اعترف بذلك؛ فماذا كانت النتيجة: هل اعترفت أمريكا وبريطانيا وذيولهم بالخطأ، وندموا على ما فعلوا وقدموا تعويضات لهذا الشعب الذي قتل منه بسبب هذه الحرب الهمجية أكثر من مائتي ألف مواطن؟
لقد اعترضت طوائف كثيرة من شعوبهم على تلك الحرب غير الأخلاقية فما أصغوا إليهم، ثم أين سيادة القانون التي يدعونها، وهم قد خالفوا القانون الدولي الذي يلزمون به الدول الأخرى، وذلك بالتدخل في شؤون دولة مستقلة من غير تفويض من (المجتمع الدولي) بذلك؟ والأغرب من ذلك أن الأمم المتحدة نفسها قامت على أساس غير ديمقراطي؛ حيث هناك خمسة دول كل دولة منها تملك تعطيل أي قانون أو مشروع حتى لو وافقت عليه دول العالم كلها؛ فأين الديمقراطية في ذلك؟ أم أنها احتكار للقرار الدولي؟ فلو وضع صوت دولة من هذه الدول في كفة وبقية العالم في كفة لرجحت كفة هذه الدولة؛ فما أشد هذا الظلم وأقساه على النفوس الأبية! وكم ذقنا من مرارته كثيراً! فها هم اليهود يعتدون على إخواننا الفلسطينيين ويقتلون منهم في سيناريو شبه يومي؛ فلو قدر أن ضمير العالم صحا لهذا الظلم الشنيع، وأخذ قراراً بالإدانة، مجرد قرار، لا يترتب عليه شيء في الواقع، لوجدنا أمريكا تعترض عليه، بما لها من هذا الحق غير (الديمقراطي) فيصبح كأنه لا شيء.
3 الحفاظ على حقوق الإنسان:
الناس لهم حقوق كثيرة كفلتها لهم الشريعة ينبغي أن يُمَكَّنوا منها، ولا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين حقوقهم التي منحها الله لهم، ولا يفعل ذلك إلا جبار عنيد؛ فالحقوق ممنوحة من الله ـ تعالى ـ لم تمنحها الطبيعة ولم يمنحها الحاكم، وفي هذا أعظم صيانة لهذه الحقوق، ومن هذه الحقوق أن الكافر لا يُكْرَه على الدخول في دين الإسلام، بل يُعرَض عليه الإسلام؛ فإن قَبِلَه ونطق الشهادتين دخل في الإسلام، وإن أبى وأصر على البقاء على دينه فلا يُكرَه ولا يجبر على تغييره، وكل ما يُطلب منه في هذه الحالة أن يفي بعقد الذمة الذي بينه وبين الدولة المسلمة ولا ينقضه، وهذا أمر مقرر، وكل ذلك لا خلاف عليه بيننا وبين من يقبل به سواء كان من أدعياء الدولة المدنية أم من غيرها.
لكن هل من الحقوق أنه يجوز للمسلم أن يغير دينه إلى اليهودية أو النصرانية أو إلى لا دين؟ هذا محل خلاف بيننا وبين دعاة الدولة المدنية، هم يرون ذلك حقاً له، وأنه لا حد في الردة، وأن المرتد هو الشخص الخارج على النظام؛ فهذا الذي يجب قتله. ومن غير كبير خوض في التفاصيل فإن كل مسألة من تلك المسائل قد يستغرق الكلام فيها حيزاً كبيراً، فنقول: أنتم لستم أول المسلمين، ولا أنتم صحبتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفقهتم عنه، كما أن الإسلام لم يكن معطلاً قبلكم حتى جئتم أنتم تطبقونه، فخبِّرونا مَن مِن أهل العلم الذين يُرجَع إلى أقوالهم عند الخلاف قال بهذا القول؟ فإذا لم تستطيعوا ـ ولن تستطيعوا ـ أن تثبتوا أن أحداً من أهل العلم بدين الله ـ تعالى ـ قد سبقكم بما تقولون، فقد أحدثتم في دين الله ـ تعالى ـ وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وهو حديث متفق عليه أخرجه الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث، وفي رواية: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليس عليْه أَمْرُنَا فهو رَدٌّ» .
على أن هناك حادثتين تتعلقان بهذا الموضوع يحسن بنا إيرادهما تُبينان أن الكلام على حقوق الإنسان والدندنة حولها ليس في حقيقته أكثر من تمكين فئات الأقلية من التحكم في الأكثرية، تحت ضغط الدول المدنية الكبيرة وتأثيرها على متخذي القرارات في الدول الضعيفة؛ فقد حدث أن امرأة نصرانية في مصر اهتدت إلى أن الإسلام هو دين الحق فأسلمت، لكن الذين يتكلمون عن حقوق المواطنة هاجوا وماجوا ومن ورائهم ضغط الدول المدنية الكبيرة حتى سَلَّمت الدولة المصرية المرأة المسلمة إلى الكنيسة لتعتقلها داخل الدير، وقد يضغطون عليها هناك تحت ظروف الاعتقال فيردونها إلى الكفر مرة أخرى، فجعلت منها دولة داخل الدولة، ولم نسمع أي نكير من أي دولة مدنية كبيرة أو صغيرة على هذا الاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان، ولو قارنت هذا بما حدث من رجل أفغاني ارتد عن دين الإسلام حينما قُدِّم للمحاكمة، كيف قام العالم النصراني كله يدافع عن حقه في اختيار الدين الذي يريده، وأن محاكمته على اختياره هو اعتداء على حقوق الإنسان، وضغطوا على حكومة ذلك البلد حتى خرج في أقل من ثمانية وأربعين ساعة من أمام المحكمة التي يحاكم بها، ليسافر معززاً مكرماً لاجئاً إلى بلد نصراني.
3 السماح بالحريات:
الحرية مطلب تحرص عليه النفوس الأبية التي تأنف أن تكون ذليلة أو تابعة لبشر مثلها، ولا ينبغي أن يُحْجَر على الإنسان ويمنع من حريته التي كفلتها له الشريعة. لقد كان الاختلاف المذهبي أحد أبرز مظاهر حرية الرأي عند المسلمين؛ فرغم أنه خلاف في فهم الدين والعمل، فإنه لا جبر ولا إكراه على القبول برأي لا يرضاه الإنسان، ولكل إنسان الحق في الاحتفاظ برأيه والعمل به ما دام رأيه لا يصادم النصوص الشرعية ولا يخالف القواعد المرعية، ويحق للمسلم التمسك برأيه ولو كان في مواجهة رأي الخليفة، وهناك نماذج وأمثلة كثيرة حدثت في تاريخ المسلمين.
فالخلاف في الرأي والتصورات ظاهرة إنسانية لا يمكن نفيها ولا القضاء عليها، والخلاف ليس مقصوراً على المسلمين؛ فكل أصحاب المذاهب الأخرى يختلفون، ولكن بفارق مهم جداً وهو أن المسلمين لهم مرجع يرجعون إليه جميعاً، يكون لهم ضابطاً يعصمهم من تحول الخلاف في الرأي إلى افتراق وتشتت بين أفراد الأمة وانقسامها إلى طوائف وشيع وأحزاب؛ بعكس المذاهب الأخرى؛ فليس لهم مرجع يرجعون إليه غير ما تهديهم إليه عقولهم وغير ما يظنون منفعته وفائدته، وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان متقلباً لا يستقر على رأي أمداً طويلاً، بسبب قصور علم الإنسان وجهله؛ فما كان حقاً وصواباً عندهم اليوم قد يرونه غداً خطأً وضلالاً (1) ، لكن: هل من حرية الرأي أن يعيب المسلم أو غير المسلم الدين ويقدح في الشريعة؟ فالمسلم مطالب بأن يعظِّم شعائر الله، وأن يعظم حرمات الله؛ فمخالفة ذلك ليس من حرية الرأي، بل من الخروج على الدين الذي ينبغي أن يحاسب عليه مَنْ فَعَلَه، وهل من الممكن تحت زعم عدم التضييق على الإبداع والمبدعين أن يترك لهم الحبل على الغارب فيعيثوا في أخلاق الأمة وعقيدتها وشعائرها فساداً؟ وأما غير المسلم فلا يطالب بذلك مثل المسلم؛ فإن عدم إسلامه يعني طعنه في دين الإسلام، لكن لا يُقبل منه إظهار ذلك بين المسلمين، والإعلان به، أو الدعوة إليه.
وهكذا لو ذهبنا نعدد كثيراً من تلك الأمور التي يعدونها من عناصر الدولة المدنية؛ فقد لا نجد اختلافاً عند الكلام المجمل، ولكن المحك الحقيقي عند ذكر التفصيلات حيث يظهر الاختلاف؛ فمثلاً مَنْ مِنَ الناس لا يريد العدل ولا يطالب به؟ لكن ما هو العدل؟ هذا يختلف باختلاف كل أمة؛ فما يكون عدلاً عندك قد يكون ظلماً عند الآخرين؛ فأمريكا اليوم مثلاً ترى من العدل والحق أن يقوم اليهود بضرب الفلسطينيين في غزة بالطائرات والمدافع من أجل فك أسر جندي يهودي مأسور، بينما ترى أن محاولة الفلسطينيين فك أسراهم من الظلم الذي ينبغي أن يعاقبوا عليه.
وبكلام مجمل: نقول لدعاة الدولة المدنية والمبشرين بها:
ـ هل ما تذكرونه عن الدولة المدنية من حيث معناها وعناصرها، دل عليه ديننا وشريعتنا بأي نوع من الدلالات المعتبرة عند أهل العلم؟ فإن قلتم: نعم دل على ذلك! قلنا: أين هي النصوص التي تتحدث عن ذلك وما وجه دلالتها؟ وإن قلتم: لم تدل على ذلك النصوص وإنما دلت على خلافه، قلنا: لا حاجة لنا فيما يخالف شرعنا. وإن قلتم: إن النصوص لم تدل على اعتباره كما أنها لم تدل على إلغائه، فاجتهدنا نحن في ذلك من باب المصالح المرسَلة، قلنا: لستم أنتم من أهل الاجتهاد؛ فليست لكم أية دراسات مقدرة في الشريعة، وكل علم له رجاله المتخصصون فيه، وهذه بدهية من بدهيات العلوم، ومن تكلم في غير فنه أتى بالأعاجيب. وإن قلتم: نحن لا يعنينا الاتفاق أو الاختلاف مع الأحكام الشرعية، والذي يهمنا هو ما نرى فيه المصلحة، قلنا: إذن؛ فقد خلعتم بذلك ربقة الإسلام من أعناقكم.
ـ أنتم في ظاهركم تقرون وتعترفون أن الله ـ تعالى ـ هو خالق هذا الكون العجيب بسماواته العظام وأراضيه الشاسعة، وخالق الحياة كلها، والذي أحكم هذا الكون إحكاماً يحار فيه أولو الألباب، مقرين بعلم الله ـ تعالى ـ وحكمته وعظمته، أفتستكثرون على الله ـ تعالى ـ أن ينزِّل على عباده ما يهديهم في شؤون حياتهم، أم تظنون أن الله ـ تعالى ـ خلق الخلق ورزقهم من المال والبنين، ثم تركهم يديرون حياتهم بغير هداية منه ورشاد؟ ألم يقل الله ـ تعالى ـ منكراً على من يريد أن يستقل ويضع بنفسه ما يحكم به مجتمعه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] .
ـ ما الذي يدعوكم للمطالبة بالدولة المدنية، وما الذي يحملكم على التضحية بدين الأمة، وما المكاسب التي ترونها في التمسك بالدولة المدنية، وهي ليست في الدين؟ وهل هناك ما يدعو إلى استخدام هذا الاسم المشتمل على قضايا مقبولة، وقضايا تتعارض مع الدين؟ ولماذا العدول عن اسم الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية؟ ما الذي تنقمونه من هذه التسمية، هل تشتمل على قضايا غير مقبولة؟ إن كانت هناك ممارسات غير مقبولة وقعت من بعض المسلمين أو حكامهم؛ فهل هي مقبولة إسلامياً؟ بمعنى آخر: هل هي من نواتج التمسك بالإسلام أو من نواتج البعد عنه والخروج عليه؟ وإذا كانت من نواتج البعد عنه والخروج عليه؛ فلماذا تلصقونها به، وتحمِّلونه ما هو منه بريء؟
ـ هناك من يحاول أن يبين أن الدولة المدنية هي دولة المؤسسات، وأنها لا تعارض الدين ولا تعاديه ... إذا قلتم هذا؛ فلماذا تأبون وصفها بدولة إسلامية أو شرعية أو دينية، ولماذا التركيز على أنها دولة مدنية، وهل كانت الدولة التي أقامها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دولة مدنية أم دولة إسلامية؟ وكذلك الدولة التي أقامها خلفاؤه من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهلم جراً.
ـ هناك من يقول: نريد دولة مدنية بمرجعية إسلامية، إن هذا القيد في حد ذاته يمثل اتهاماً حقيقيا للدولة المدنية من قِبَل دعاتها؛ فإن هذا الكلام يبين أن المرجعية الدينية ليست من صفات الدولة المدنية ولا من خصائصها وأركانها، وإلا لما احتاج هذا المتكلم إلى إضافة ذلك القيد.
ـ والدولة المدنية لم تمنع السلطة من تفسير القانون حسب ما تهوى، واعتبر ذلك بما حدث من احتجاز أمريكا الدولة المدنية الكبرى لأكثر من أربعمائة مسلم في معتقل بخليج جوانتنامو مخالفة بذلك القانون الأمريكي والقانون الدولي واتفاقيات الأسرى بجنيف، بل وصل الأمر إلى أكثر من ذلك حيث التنصت على مكالمات الأمريكيين أنفسهم دون سند قانوني، وكل ما قدمته الإدارة من تفسير في ذلك أن الوضع خطير، وأنه لا يمكن محاربة الإرهاب إلا بتلك الطريقة؛ وهذه دعاوى لا يعجز أحد عن تقديمها؛ فماذا فعلت الدولة المدنية إزاء ذلك؟
وأخيراً: إن المشكلة الحقيقية التي تحياها مجتمعاتنا لا تحل بمجرد إقرار لفظ أو نفيه؛ فهناك كثير من الدول العربية التي تقول عن نفسها إنها دولة مدنية ولم يخرجها ذلك عن حالة التخلف التي هي سمة لكثير من مثل هذه المجتمعات. إن المشكلة الحقيقية تكمن في انفصال العمل عن القول، وإن كثيراً من النخب الحاكمة تتعامل مع الحكم وكأنه تركة من حقها أن تفعل به ما تشاء، في ظل غياب رقابة شعبية ورسمية حقيقية قادرة على الفعل، ولو ولت النخب الحاكمة وجهها شطر شرع الله ـ تعالى ـ لأفلحت ونجحت، ولقادت مجتمعاتها من حالات التخلف الراهنة في أغلب الميادين، إلى مدارج العُلا. ائتوني على مدار التاريخ الإسلامي كله في البلاد التي حكمها الإسلام، بدولة تمسكت بالإسلام حقاً، ثم لم تكن متقدمة على نظرائها في أغلب المجالات؟!
3 شبهات والجواب عنها:
من الشبهات التي يعترض بها البعض أن القول بإسلامية الدولة يعني عدم إمكانية سؤال الحاكم أو محاسبته: فيقولون: كون الدولة إسلاميةً أو شرعيةً أو دينيةً يمنع من نقد الحكام عند وقوعهم في الخطأ، ويجعلهم في مكانة عالية لا يقدر أحد على حسابهم؛ إذ كل ما يقولونه فهو تعبير عن الإرادة الإلهية. ونحن نقول لهم: أنتم تتحدثون عن دين غير دين الإسلام، وإلا فائتوا لنا بآية أو حديث يدل على هذا الزعم، أو يمكن أن يستفاد منه هذا الزعم، ثم هذا تاريخ المسلمين: مَنْ مِنَ الحكام ادعى هذه المنزلة؟ ومَنْ مِن أهل العلم قال بشيء مثل ذلك؟ وأمامكم سِيَرُ الخلفاء؛ حيث كانت رعيتهم تنصحهم وتنتقد عليهم ما يرونه خطأ من تصرفاتهم، والأمثلة كثيرة وهي معلومة لكثير من الناس ومعلومة لكم أيضاًً، بل حتى في أشد المواقف حُلكة كان الناس يراجعون ولاة أمورهم أو يعترضون عليهم. فهذا أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما أراد قتال مانعي الزكاة، بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عارضه عمر، وقال: كيف تقاتل الناس.. الحديث (1) ، فلم يمنعه أبو بكر من ذلك، ولم يقل له ـ كقول البطالين ـ: نحن في زمن حرب، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، بل بَيَّن له بالدليل صواب موقفه، حتى اقتنع عمر ـ رضي الله عنهما ـ بذلك. وهذا عبد الله بن عمر يختلف مع خالد بن الوليد ـ رضي الله عن الجميع ـ وهو أميره في غزاة غزاها معه، ويمتنع من تنفيذ ما أمر به، لمخالفة خالد باجتهاده للسنة الصحيحة؛ فلما بلغ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الأمرُ لم يعنِّف عبد الله على عدم طاعته لخالد، بل قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ـ مرتين (2) . ولو قُدِّر أن هناك أحداً من الولاة منع من ذلك لعُدَّ عند الناس ظالماً؛ مما يعني أن الثقافة الشعبية لا تقبل مثل هذا الادعاء.
ومن الشبهات: أن الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية يترتب عليها ظلم المخالفين في الدين: وهذا مجرد ادعاء عارٍ عن الدليل؛ كما أن التاريخ والسيرة العملية التي درج عليها المسلمون في تعاملهم مع المقيمين بينهم من أهل الديانات المغايرة لدين الإسلام تدحض ذلك. أما إذا كانت هناك حالات فردية يقع فيها بعض الناس في ذلك، فلا يسلم من ذلك أحد سواء في معاملته مع من هو من أهل دينه أو مع من يختلف معه، وإنما الشأن أن يكون النظام العام هو الذي يشرع ذلك أو يقبله.
ومن الشبهات: أن يقال: إن الدولة الإسلامية أو الدينية تحمل المخالفين على تغيير دينهم: وهذا أيضاًً ادعاء لا تعضده نصوص شرعية أو واقع تاريخي. والغريب أن هؤلاء الذين أهمهم هذا الأمر، لم يهمهم أمر الأمة كلها؛ فهم من أجل ألا يُحَمَل المخالفون على تغيير دينهم بزعمهم، يطالبون الأمة بأن تتخلى عن التمسك بدينها في السياسة والاقتصاد والقضاء والمعاملات، والرجوع في ذلك كله إلى عقول الناس وخبرتهم، وهذا من أغرب أنواع الظلم؛ إذ بزعم العدل مع المقيمين من غير المسلمين في بلاد المسلمين، يُظلم المسلمون أنفسهم في بلادهم، وهل هناك ظلم أشد من أن يُحمل المسلمون على ترك الكثير من أمور دينهم؟
ومن الشبهات: أن يقال: إن تعبير الدولة الدينية قد أسيء استخدامه في العصور المظلمة من تاريخ الغرب مع كنيسته، ولا نريد استخدام لفظ مُحمَّل بمثل هذه الدلالات، حتى لا نحمل أوزار أمور لسنا المسؤولين عنها، ويقال: إن ما يذكر هنا ليس راجعاً إلى اللفظ نفسه، وإنما هو راجع إلى سوء استغلاله، ولو ترك استعمال لفظ صحيح لا يحتمل أموراً خاطئة من أجل أن هناك من استعمله بطريقة خاطئة لم يكد يسلم لنا شيء، وهذا بعكس ما إذا كان الخطأ راجعاً لاحتمال اللفظ نفسه أو لصلاحيته للدلالة على أكثر من معنى بعضها صواب وبعضها خطأ؛ فهذا الذي يمكن أن يقال فيه ذلك؛ على أنكم إذ أنكرتم هذا فقد وقعتم فيما تفرون منه؛ إذ إن لفظ الدولة المدنية لم يسلم من هذا الذي تذكرون؛ فإن أغلب حديث الناس عن الدولة المدنية أنها الدولة العلمانية، ومن ثم لا يصلح الانتقال إليه حتى لو قلتم لا نريد منه هذا المعنى. ولماذا لم تقولوا بالدولة الدينية، وتقولون: لا نريد منها المعنى الذي استقر في أذهان الغرب، أليس هذا أوْلى؟ ولماذا لم تبحثوا عن مصطلح آخر يحقق ما تأملونه من خير من غير أن يكون حاملاً لتلك الدلالات الفاسدة؛ فقد كان بإمكانكم أن تختاروا مثلاً مصطلح الدولة الإسلامية، أو مصطلح الدولة الشرعية أو الدولة الراشدة، أو الصالحة، أو أي مصطلح لا يحمل البذور الفاسدة.
ومن الشبهات: أن حقوق المواطنة لا يمكن الحفاظ عليها إلا في ظل دولة لا تتخذ من الدين مرجعية لها، أي أن الدولة ينبغي أن تكون علمانية لا دينية وهي الدولة المدنية. أما المواطنة بمعنى الاعتراف لكل قاطن في الدولة الإسلامية سواء كان من المسلمين أو كان من غيرهم بأنه مواطن؛ فهذا لا ينازع فيه أحد، وكل واحد من مواطني الدولة الإسلامية له حقوق وعليه واجبات؛ فكل إنسان له حق في العيش الكريم، وله حرمة سكنه وماله وعرضه، وله حق التكسب سواء عن طريق التجارة أو الصناعة أو الزراعة، وله الحق في أن يلقى معاملة عادلة لا ظلم فيها، وله حق التنقل والسكن في أي مكان يشاء، وله الحق في سرية مراسلاته، وله الحق في أن يبقى على دينه ولا يُكرَه على تغييره، وله الحق في العبادة، وله الحق في أن يتناول ما يبيحه له دينه وإن كان محرماً في شريعة الإسلام، وهذه الحقوق التي يعطاها المواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية لا يعطاها كثير من المسلمين الصادقين في بلادهم التي يزعم قادتها أن دولتهم دولة مدنية. لكن هناك بعض الأمور التي يختلف فيها غير المسلم عن المسلم؛ وهذا أمر لا غرابة فيه، ما دام أن هذا الاختلاف مقرر بالشرع الذي يؤمن به المسلمون. لكن الذي لا يمكن قبوله أن تختلف بعض أحكامهم انطلاقاً من الهوى لا من الشرع، ومن أراد أن لا تختلف بعض أحكامهم المقرر اختلافها بالشرع، فهو شهادة منه على أن الالتزام بالدولة المدنية معناه مخالفة الشرع والخروج على أوامره.
وعندنا من النصوص الشرعية ما يحفظ حق هؤلاء بل يصير إيصال الحقوق لهم وعدم الانتقاص منها من الدين الذي ينبغي اتباعه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المبلِّغُ عن ربه وحيَه وأمرَه فيمن قتل ذمياً بغير جرم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَاماً» (1) . وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضي الله تعالى عنها ـ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ» (2) ، وقد قال المسلمون لعمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّها ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ» (3) . وهذا عمر بعدما طُعِنَ وفي هذه الشدة وذلك الموقف العصيب، لكن هذا لم يَحُلْ بينه وبين الوصاة بأهل الذمة، فقال يوصي الخليفة من بعده «.. وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ» (4) ومر عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بباب قوم وعليه سائل يسأل: وهو شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: مِن أيِّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزيةَ، والحاجةُ والسنُّ، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضُرَباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه» (5) . وفي عقد الذمة الذي عقده خالد لنصارى الحيرة: «وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله» .
ومن الشبهات أيضاًً حيادية الدولة: حيث يرون أن الدولة المدنية دولة حيادية تجاه جميع الأديان في المجتمع، بينما الدولة الإسلامية لا تتمتع بهذا الحياد «إن مفهوم الدولة المدنية هو باختصار يعني حيادية الدولة التام تجاه الأديان، وهو ينهل أساساً من مفهوم حرية العقيدة الذي جاء به الإسلام أولاً» (6) ، «علمانية الدولة ببساطة شديدة هي أن تقف الدولة موقف الحياد من العقائد والمذاهب التي تدين بها مكونات شعبها؛ بمعنى ألا تكون في قراراتها وسياساتها وخططها وتعييناتها ـ بما في ذلك مناهجها التعليمية وسياساتها الإعلامية والثقافية ـ منطلقة من مذهب أو عقيدة أو مرجعية دينية معينة، وإن كانت عقيدة ومرجعية الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين وتمييز ضدهم وإخلال بمبادئ المساواة والعدالة والمواطنة، ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة» (7) .
والحيادية تجاه الأديان تعني عدم ميل الدولة تجاه دين معين، وأنها تتعامل مع الجميع على قدم المساواة، فلا تمدح ديناً أو تدعو إليه، ولا تذم ديناً أو تهاجمه، وهذه الحيادية التي يتكلمون عنها غير موجودة في واقع الأمر في الحقيقية في أي بلد من البلدان؛ فها هي فرنسا التي تعد على رأس الدول المدنية لننظر كيف منعت النساء المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب، وهذه دولة الدانمارك وهي دولة مدنية كيف سخر رساموها من خير البرية -صلى الله عليه وسلم-، ثم هي من منظور آخر تناقض الإسلام مناقضة تامة؛ حيث سوَّت بينه وبين الأديان المحرفة كالنصرانية واليهودية وغيرها، ومن أغرب الغرائب أن يعمد هؤلاء الكتاب إلى المطالبة بتهميش عقيدة الأغلبية حرصاً على عدم تهميش عقيدة الآخرين، فأيُّ عقل منكوس هذا الذي يقرر مثل هذا الكلام؟ ثم هذه الحيادية المزعومة ليست حيادية؛ لأنها فقط أقصت الدين، وانحازت إلى العقل والخبرة والتجارب، والإسلام وإن كان لا ينكر دور العقل الذي هو مناط التكليف وكذلك دور الخبرة والتجارب، لكن ذلك لا يمكن أن يكون عوضاً عن الإسلام نفسه، أو يعارَض به.
وأما أن الإسلام لا يُكرِه أحداً على الدخول فيه فهذا حق، لكن هذا لا يعني أبداً حيادية الدولة الإسلامية تجاه الإسلام؛ فإن من أهم واجبات ولي الأمر المسلم التي نص عليها أهل العلم باتفاق هي إقامة دين الله ـ تعالى ـ وتحكيم الشريعة، وسياسة الدنيا بالدين.
__________
(1) يقصد بالسلطات الثلاث: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية.
(2) عبد الله فراج الشريف: ملحق الرسالة بجريدة المدينة ـ السبت 6 محرم 1424هـ وهو منشور على موقع الشيخ سعد البريك.
(1) أخرجه البخاري رقم (6328) .
(2) الكتابي الموجود في دار الإسلام التي مصَّرها المسلمون وإن كان لا يجوز له بناء أماكن ظاهرة لعبادتهم، لكنهم لا يُمنعون من أداء عبادتهم في بيوتهم، ولا يعاقبون على ذلك، ولا يتعرض لهم، ومن فعل ذلك فهو ظالم لهم.
(1) وقد بينا في دراسة سابقة أن الديمقراطية بما فيها من سيادة القانون والانتخابات الدورية وتكوين الأحزاب السياسية تمثل اتجاهاً فلسفياً في النظرة إلى أسس النظام السياسي، وفي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وليس مجرد آليات لتداول السلطة.
(1) ولا يحتج أحد بوجود خلافات في داخل الصف الإسلامي، كما هو الشأن في وجود الفرق المعروفة؛ فلولا هذا الذي ذكرته من وجود المرجع الضابط الذي يرجع إليه المسلمون لم تكن تلك الفرق فرقاً، والخلاف في هذه الحالة من قبيل الخلاف المذموم الذي ينبغي تركه والسعي في إزالته.
(1) البخاري: (6413) .
(2) أخرجه البخاري، رقم: (3994) .
(1) أخرجه البخاري رقم (6403) .
(2) ابن ماجه 1614 وصححه الألباني.
(3) أخرجه البخاري رقم (2927) .
(4) أخرجه البخاري، رقم (1305) .
(5) سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين د. عبد الله بن إبراهيم اللحيدان، وعزاه إلى الخراج لأبي يوسف، ص (126) .
(6) يوسف أبا الخيل جريدة الرياض الأربعاء 11 جمادى الأولى 1427هـ ـ 7 يونيو 2006م ـ العدد (13862) .
(7) د. عبد الله المدني، موقع جريدة المؤتمر http://www.inciraq.com/Al-Mutamar(230/5)
جوانب من حياة الشيخ عبد الله بن قعود «رحمه الله»
1343هـ 1426هـ
عبد الله بن سليمان آل مهنا
هو الشيخ المربي الأثري (عبد الله بن حسن بن محمد بن قعود) ، وُلد ـ رحمه الله ـ سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في بلدة (الحريق) جنوب الرياض، نشأ وترعرع في بيئة صالحة لا تعرف شيئاً من أسباب الانحراف، فنشأ صالحاً تقياً، وتعلّم القرآن في كُتّاب القرية عند الشيخ (محمد بن سعد آل سليمان) ، ثم تدرج في مدارج طلب العلم، فالتحق بحلقة قاضي البلد الشيخ (عبد العزيز بن إبراهيم آل عبد اللطيف) ، فحفظ بعض مختصرات شيخ الإسلام (ابن تيمية) والإمام (محمد بن عبد الوهاب) رحمهما الله.
وكانت نفس هذا الشاب توّاقة للمعالي، وكانت أخبار (ابن باز) تطير في الآفاق ـ آنذاك ـ، فهو (الشيخ) إذا أُطلق في تلك الأماكن من جنوب الرياض، فتاقت نفس الشاب (عبد الله ابن قعود) للّحوق بركب ذاك العلاّمة الذي يؤمّه طلاب العلم من العراق، وفلسطين، وجنوب الجزيرة، ونجد من باب أولى، فانضمّ لكوكبة الطلاب في (الدلم) في شهر صفر سنة 1367هـ، ووجد في (ابن باز) بغيته، فقد كان العالم المتفنّن، صاحب السماحة والكرم، القاضي الفاضل العادل، الوجيه، الداعي إلى الخير، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، بل هو الشخصية التي جمعت من الخصال ما لم يجتمع إلا في القلائل من العلماء، هذه الخصال أثرت في شيخنا ـ رحمه الله ـ تأثيراً واضحاً، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وفي أثناء وجوده في (الدلم) عند شيخه التقى بعدد من طلاب العلم، ممن وفدوا على الشيخ (ابن باز) ، فانتفع بهذا المزيج من أبناء العالم الإسلامي، فأفادهم وأفادوه، وقرأ على بعضهم ما لم يدرّس في نجد من العلوم، فقد حدثني ـ رحمه الله ـ أنه أخذ علم العروض في (الدلم) على يد الشيخ (صالح ابن حسين العراقي) ، والتقى بعدد من الطلاب الأدباء عند الشيخ ـ رحمه الله ـ فاستفاد منهم بلا شك، منهم الشيخ (راشد بن صالح بن خنين) ختم الله له بالصالحات، فقد كان له ردّ على (القصيمي) صاحب (الأغلال) ، وكان هذا الردّ نَظْماً، وقد أثنى عليه شيخه (ابن باز) رحمه الله، وممن ردّ عليه نَظْماً ـ أيضاً ـ الشيخ (صالح العراقي) المذكور آنفاً.
ومما حدثني به شيخنا ـ رحمه الله ـ أن من أسباب اتجاه الشيخ (ابن باز) ـ رحمه الله ـ للحديث وقد كان فقيهاً على طريقة مشايخه أن الطلاب الوافدين من خارج المملكة كانوا يكثرون على الشيخ في دروس الفقه من السؤال عن الدليل للمسألة، ولم يكن الشيخ يعتني بذلك، فكان بعد ذلك يحضّر للدرس بالمطالعة في كتب الحديث استعداداً للدرس، فاتجه للحديث، وهذا من فضائل الطلاب على شيوخهم.
انتفع شيخنا ـ أيضاً ـ بالحياة التربوية التي عاشها إبان وجوده في (الدلم) ، فقد كان (ابن باز) ـ رحمه الله ـ عالماً مربياً لتلاميذه، يخرج بهم في رحلات تربوية يمازحهم، ويلقي عليهم المسائل بطريقة المسابقات، حسن المعشر لهم، حلو المفاكهة.
في هذا الجو العلمي الأدبي التربوي، تكوّنت شخصية (ابن قعود) ، ولذا كان يكرر في دروسه ويقول: أنا أفتخر بتتلمذي على (ابن باز) . وهذا من شيخنا ـ رحمه الله ـ بلا شك من التحدّث بنعمة الله، ومن معرفة الفضل لأهله.
مكث شيخنا ـ رحمه الله ـ أربع سنوات عند شيخه الكبير، حفظ فيها متون العلم، كـ: (زاد المستقنع) ، و (بلوغ المرام) ، الكتابان اللذان مَنْ حفظهما صار من أهل العلم المتأهلين للقضاء والفتوى. وكان ـ رحمه الله ـ يروي لنا أن زميله الشيخ (راشد ابن خنين) كان يقول:
حفظُ الزاد والبلوغ ü كافيان في النبوغ
وحفظ أيضاً (العقيدة الواسطية) و (كتاب التوحيد) و (الآجرومية) و (نخبة الفكر) وكثيراً من (ألفية ابن مالك) في النحو وغير ذلك من المتون التي كانت تدرس في ذلك الزمان.
وبعد أن فتحت المعاهد العلمية في الرياض وغيرها، التحق الشيخ ـ رحمه الله ـ بالمعهد العلمي بالرياض، في مطلع سنة 1371هـ، ثم التحق بكلية الشريعة سنة 1377هـ، والتقى وتتلمذ في الرياض على علماء أجلاء، منهم (محمد الأمين الشنقيطي) صاحب (أضواء البيان) ، والشيخ (عبد الرحمن الأفريقي) ، والشيخ (عبد الرزاق عفيفي) ، والشيخ (عبد العزيز ابن محمد الشثري ـ أبو حبيب) . وبعد حج 1370هـ درس علم التجويد في مكة المكرمة على الشيخ (سعد وقاص البخاري) رحمه الله. وكان الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ ممن درس على هذا الشيخ أيضاً.
وقفات من حياة الشيخ رحمه الله:
لعلّي أسرد شيئاً من الوقفات في حياة الشيخ؛ ليتعرف القارئ الكريم على شيء من شخصية الشيخ، وأعتذر عن ترتيبها حسب الأهمية:
1 ـ الشيخ ـ رحمه الله ـ متجرد للحق لا يبالي بمن خالف الدليل كائناً من كان، وهذا من آثار تتلمذه على الشيخ (ابن باز) رحم الله الجميع، ولهذا خالف علماء الوقت في عدد من المسائل، ومنهم شيخه وأعضاء هيئة كبار العلماء، ومما أذكره من المسائل: «مسألة الحد في الخمر، فهو يرى أن حدَّ الخمر أربعين، مخالفاً مجلس هيئة كبار العلماء، ويرى عدم جواز رمي الجمار بالليل خلافاً لعلماء الوقت، ويرى أن وقت صلاة العشاء يمتد إلى طلوع الفجر لا إلى نصف الليل، ويرى عدم مشروعية دعاء ختم القرآن المعمول به في كثير من المساجد، ويرى جواز جمع العصر إلى الجمعة، ويرى عدم مشروعية تحديد المهور، ويرى وقوع طلاق الحائض.
2 ـ الشيخ ـ رحمه الله ـ يعتني بتحرير المسائل العلمية، ويدرسها دراسة عميقة ويخرج برأي واضح فيها، ولذا لا تكاد تجد لديه تغيّراً في آرائه العلمية، وكان كثيراً ما يقول لنا في أثناء الدروس: «هذا الرأي كوّنته لنفسي منذ خمس وثلاثين سنة» ، وأحياناً في بعضها يقول: «منذ أربعين سنة» ، وكان يقول: «أنا أقول للإخوان في المجلس ـ يعني: مجلس هيئة كبار العلماء ـ: كيف تحتاجون بحث هذه المسألة؟ المفروض أن الإنسان قد كوّن له رأياً فيها من قبل» .
3 ـ الشيخ ـ رحمه الله ـ موضع ثقة عند شيخه (ابن باز) رحمه الله، فقد كان يكلفه بمهمات خاصة، منها ما ذكره الدكتور (سعد بن مطر العتيبي) ـ وفَّقه الله ـ في مقال له: أن الشيخ (ابن باز) أرسله ـ أي: ابن قعود ـ بخطاب إلى الرئيس الباكستاني (ضياء الحق) يطلب منه الشفاعة لدى الرئيس التركي (كنعان إيفرين) ليفرج عن البرفيسور (نجم الدين أربكان) ، فذهب الشيخ بالخطاب وسلّمه لـ (ضياء الحق) رحمه الله.
وأضيف إلى ذلك ما حدثني به الشيخ ـ رحمه الله ـ أن ضياء الحق ـ رحمه الله ـ لما أراد تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاده أعدَّ نظاماً للحدود الشرعية، ثم بعثه للشيخ (ابن باز) ـ رحمه الله ـ لمراجعته، وبعد تعديله ومراجعته أرسله (ابن باز) مع شيخنا (ابن قعود) رحمه الله، وسلّمه لـ (ضياء الحق) ـ رحمه الله ـ بيده.
وأرسله الشيخ ـ أيضاً ـ هو والشيخ (صالح بن سعود العلي) والشيخ (صالح المزروع) لقادة الجهاد الأفغاني؛ لجمع كلمتهم على إثر خلاف بينهم.
وذكر الدكتور (سعد العتيبي) أن الشيخ (ابن باز) ـ رحمه الله ـ بعث شيخنا إلى رجل مدّعٍ للنبوة في أمريكا لمناظرته.
4 ـ الشيخ ـ رحمه الله ـ كما حدثني بنفسه فقال: أنا أول من غيّر أسلوب الخطابة في الرياض. قلت: كان الخطباء في عموم نجد حتى العلماء منهم يقرؤون الخطبة من ديوان (خُطب المخضوب) وهي خُطب معدّة على مدار العام بأسلوب مسجوع. فنقل الشيخ ـ رحمه الله ـ الخطبة من ذاك الأسلوب القديم إلى أسلوب جديد أدبي مشحون بالأدلة من الكتاب والسُّنّة، يعالج فيه القضايا العصرية، منطلقاً من توحيد الله وتعظيمه، ملامساً حاجات الناس، ولذا كان الناس يقصدونه من أنحاء مدينة الرياض حتى العلماء، بل حتى الملك فيصل ـ رحمه الله ـ كان يصلي معه في جامع الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بالمربّع، وكانت خطبه مرتجلة يستدل فيها كثيراً بالنصوص الشرعية، وربما ذكر فيها أبياتاً أدبية، كثير الخشوع والبكاء، وسئل عن ذلك فأجاب: إنه لا يملك نفسه.
وله ـ رحمه الله ـ منهج فريد في اختيار الخطبة، فقد سمعته مرةً يقول: إن بعض الإخوان يقول لي: ما هذه الموضوعات التي تطرقها في الخطبة؟ من أين لك عناوينها؟ فقلت له: في أثناء قراءتي للقرآن تسنح لي موضوعات من الآيات، فأربط الآيات بعضها مع بعض فيتكون لدي موضوع مفيد (معنى كلامه رحمه الله) ، ولهذا فإن الشيخ ـ رحمه الله ـ هو مجدد في هذه البلاد فيما يتعلق بخطبة الجمعة.
5 ـ الشيخ ـ رحمه الله ـ كان له منهج في التعامل مع الفتن، فكان يوصي طلابه في أزمنة الفتن بقوله: اسمع أكثر مما تتكلم، وإذا خاض الناس في الأشخاص الذين يذكر عنهم سوء عمل أو معتقد أو نحو ذلك فإن الشيخ ـ رحمه الله ـ يكلهم إلى خالقهم، فكان يقول: الله ـ تعالى ـ هو الذي يعلم المفسد من المصلح (اقتباساً من القرآن الكريم) ، ولذا كان يقول في دعائه في الخطبة أيام الهرج والمرج والاختلاف: اللهم إنك تعلم المفسد من المصلح اللهم فـ ... فلا يعين أحداً بدعاء أو قدح. ولعلك ـ أخي القارئ الكريم ـ تستفيد من رسالته ـ رحمه الله ـ المسمّاة (الفتن المعاصرة وموقف المسلم منها) .
6 ـ الشيخ ـ رحمه الله ـ كان لا يقبل أعطيات السلطان، مع أنني لم أسمعه يحرمها، لكنه كان يقول: ما حاله ـ أي: الآخذ ـ قبل العطية وبعدها؟ كأنه يقول: إن الأعطية لا بدّ أن تؤثر في الآخذ لا محالة.
7 ـ الشيخ ـ رحمه الله ـ صاحب سماحة وكرم في الأخلاق لا يعرف له نظير فيما أعلم، يعرف دقائق ذلك مَنْ أكثرَ الجلوس معه، حتى إنه يصوّب ويوجه كلام السائل والمتكلم إذا أخطأ؛ حتى لا يقع في إحراج، وتواضعه ـ رحمه الله ـ يعرفه كل أحد، فلا يردّ السائل المسترشد أيّاً كان، وربما جلس مع بعض الشباب الصغار وقتاً طويلاً لحل مشكلته، من غير ضجر ولا تذمّر، أما استقباله للزائرين عند الباب وخروجه معهم إلى الباب فكلُّ الناس يعلم ذلك ويدركه، سواءً كان الزائر صغيراً أو كبيراً عالماً أو عامياً ...
8 ـ الشيخ ـ رحمه الله ـ ناصح للخاص والعام، في قضايا الأمة، والمنكرات، والمناصحات الشخصية، ويشهد بذلك خواصّه. وقد كلّمته يوماً في منكر لعلّه يناصح صاحبه، فخرجت منه كلمة أجزمُ أنه لا يقصدها، قال لي: «أنا كثير النصائح» ، ويشهد لذلك نوعية الرسائل الموجودة في «مجموعه» فكثير منها مناصحات شخصية أو عامة لفئة من المجتمع، كـ: العلماء، والخطباء، والمجاهدين، والدعاة ونحوهم.
وفي صبيحة يوم الثلاثاء التاسع من شهر رمضان سنة ست وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أفلَ نجم هذا الشيخ الكريم عن عمر بلغ ثلاثاً وثمانين سنة، وفقدت الأمة بموته عَلَماً من أعلامها ومرجعاً من مراجعها، فرحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) أحد تلاميذ الشيخ، ومشرف تربوي بإدارة التوعية الإسلامية بإدارة تعليم الرياض.(230/6)
الأزمة ومنهج التغيير
د. محمد أمحزون
بدأ التخلف والجمود يطرقان أبواب عالمنا الإسلامي في القرون الأخيرة لأسباب وعوامل ليس هذا مجال ذكرها؛ لكن الغرب اللاتيني بعد ميلان موازين القوى لصالحه لجأ إلى تفكيك العالم الإسلامي لتصفية العالمية الإسلامية ومقوماتها الحضارية، واعتماد نموذجٍ للغزو؛ ركز في البداية على تفكيك المرتكزات والأصول، بحيث اعتمد التفكيك على المرحلية، وترتيب الأولويات، وتوظيف كل التقنيات العسكرية والمدنية (الفكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية) في سبيل ذلك (1) . واعتمد في سبيل ذلك على عدة مراحل تتلخص فيما يلي:
المرحلة الأولى: على التطويق والحصار الجيو ـ سياسي منذ ما يطلق عليه عصر الاستكشافات الجغرافية، بالعمل على التقليص الجغرافي للأرض الإسلامية باقتطاع أجزاء منها في الأندلس وأندونيسيا والقوقاز وأوروبا وإفريقيا والهند ... ، وتحويل طرق التجارة التقليدية التي تمر عبر بعض البلدان الإسلامية إلى المرور عبر المسالك البحرية الجديدة مثل طريق رأس الرجاء الصالح، والهيمنة على المنافذ والممرات البحرية (مضيق باب المندب، مضيق السويس، مضيق جبل طارق، مضيق الدردنيل، ومضيق البوسفور) التي تربط العالم الإسلامي بالعالم كله (2) .
المرحلة الثانية: اعتمد على خطة التغلغل المدني (التجاري والمالي [القروض] والسياسي) للهيمنة على الثروة الإسلامية وتعطيل التجربة الاقتصادية (الصناعية) الذاتية، وربط العالم الإسلامي بالتبعية الاقتصادية للعالم اللاتيني حتى لا يعود مستقلاً اقتصادياً، وبالتالي لا يملك القدرة على التفلت من الهيمنة العسكرية والفكرية معاً (3) .
كما قام في هذه المرحلة بتفكيك الوحدة الإسلامية بإدخال نظام الحدود الوطنية الجغرافية الضيقة بين الولايات الإسلامية، واستعمال الجوازات والتأشيرات الجمركية بين بعض البلدان الإسلامية لأول مرة انطلاقاً من منتصف القرن التاسع عشر، مما جعل البلد المسلم الواحد يتحول إلى محميات (فرنسية وإيطالية وأمريكية وبريطانية ... ) (4) .
وهكذا أصبح المحميون يخضعون لنفوذ الدولة الحامية وقوانينها.
والأخطر من ذلك أنْ تمّ إلغاء بعض القوانين الشرعية الإسلامية وتعويضها بقوانين لاتينية في النظام المالي والضريبي والتجاري، وفي الاستثمار والاستغلال. وقد أدت البنوك والشركات اللاتينية دوراً سلبياً في تغيير العلاقات والقوانين الإسلامية بعلاقات وقوانين لاتينية، بحيث اعتُمِدت كآليات لتنفيذ الإجراءات الخاصة بتفكيك النظام الإسلامي في الجوانب الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وتغيير نظام الاستهلاك الذاتي بنظام استهلاك لاتيني في طريقة اللباس والمسكن والمواد الغذائية، بل في السلوكيات والأخلاق (1) .
المرحلة الثالثة: اعتمد الغرب اللاتينيون على الاحتلال العسكري، وتغيير الواقع الجيو ـ سياسي للعالم الإسلامي لتقسيمه إلى كيانات وطنية صغيرة متخلفة ضعيفة متناحرة فيما بينها، خاصة في مسألة الحدود التي تركها المحتل غير واضحة المعالم كقنابل موقوتة.
وبدأ يغرس فيها تدريجياً مؤسسة التغيير السياسي والفكري والثقافي والاقتصادي والإعلامي، لسلخها شيئاً فشيئاً عن هويتها وخصائصها الحضارية، فأحلَّ الفكرة العلمانية (فصل الدين عن الحياة) محل فكرة العقيدة، ورسخ الفكرة الوطنية محل فكرة الوحدة الإسلامية. وأصبحت القوانين الدستورية الوضعية هي التي تنظم علاقة المواطنين بالدولة، وأصبحت قوانين ومبادئ الاقتصاد اللاتيني هي التي تنتظم على أساسها العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي.
المرحلة الرابعة: كان قد منح الاستقلال الشكلي للمحميات أو المستعمرات الإسلامية وسيلة تخدم هدفاً مزدوجاً هو: حراسة مصالح المحتل، وتكوين السبل الكفيلة بدعم برامج التغريب التي تطمح إلى طبع البلدان الإسلامية بطابع الحضارة الغربية.
فحينما شمل التغريب كل الميادين، حيث تغلغل في السلوك الفردي، والفنون والآداب، والمناهج، والبرامج الدراسية، والإعلام، والاقتصاد، والقوانين ... أصبح الدمج الحضاري هو الهدف النهائي في عملية التغيير البطيئة لكنها أكيدة المفعول، كما يقول المثل الإنجليزي: (Slowly but sure) .
وفي ظل التحديث القائم على محاكاة النموذج الغربي في التنمية مما أدى إلى الاحتواء والتبعية، وتجسيد للفصام النكد والتشوه الحضاري الذي أصاب المجتمعات الإسلامية بالتقليد، فقامت على مضامين أيديولوجية مادية؛ ليبرالية واشتراكية، ووجودية وبراجماتية تشكل خطراً على الثقافة المحلية والأصالة، فأصبحت مجتماعتنا تبعاً لذلك أسيرةً للأنساق الثقافية الوافدة، والحلول التقنية الدخيلة، فاقدة للثقة بالقدرة على الابتكار والتجديد (2) .
3 ضرورة التغيير:
وانطلاقاً من العوامل والظروف والأحوال السالفة الذكر، والتي أدت إلى تفكك نظام الأمة على جميع الأصعدة، وتذويب الذات الإسلامية في العالمية اللاتينية، برزت عند الغيورين من الدعاة والمفكرين الإسلاميين فكرة المراجعة الإسلامية الجديدة، منطلقة من ممارسة قوانين التغيير والبناء للحد من النزيف في الجسم الإسلامي الذي تسعى العولمة الغربية المعاصرة إلى الإجهاز عليه والقضاء على عوامل المقاومة فيه؛ للتحكم بصفة نهائية في شؤون ومصائر الأمة الإسلامية.
وأمام هذا التحدي الخطير، فإن وضع أسس منهج التغيير كإطار لتأسيس تيار التغيير الفاعل والمجدي هو القانون الشرط الذي يقوم عليه تأسيس آليات حمل وتطبيق المشروع الحضاري الإسلامي، وتصحيح توجهات الأمة في مختلف المجالات، والعودة إلى إحياء دورها الرسالي، وهو في الوقت ذاته الرد الموضوعي على الأسباب التي أدت إلى الانهزام والسقوط. ذلك أن الهيمنة الكاملة غير ممكنة ما لم تُحطّم المرتكزات العقدية والخصائص الحضارية، وتحل محلها مقومات التبعية من خلال إقامة المجتمع الاستهلاكي التابع. وبذلك تدخل الشعوب الإسلامية في مضمار «العولمة الطوعية» (3) ؛ وهي أخطر أنواع العولمة، إذ يدخل فيها الفرد باختياره وملء إرادته، حيث توجد عولمة لا شعورية تلقائية يصل فيها المرء باختياره إلى الانهزامية والاستلاب في مواجهة النموذج الغازي.
ولعل ذلك ما قرره ابن خلدون في (مقدمته) : بأن المغلوب لا يزال مولعاً بتقليد الغالب (4) .
لكن القرآن الكريم يطرح مبدأ التغيير الذاتي في مقابلة حتمية السقوط. إنَّه يمنح الإرادة المؤمنة فرصتها في صياغة المصير في استعادته إذا ما أفلت من بين أيديها. ومن ثم فإنه ما إن تتهيأ هذه الإرادة للعمل عن طريق الشحذ النفسي والاستعداد الأخلاقي، حتى تكون قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية من أي نوع كانت، وبأي درجة جاءت، فتعجنها وتصوغها من جديد لصالح الإنسان والمجتمع (5) .
3 مقومات التغيير:
1 ـ الانشداد إلى الأصول:
الأصل لم يكن أصلاً إلا ليكون منارة يهتدى بها، ومنطلقاً تنسب إليه الفروع، وتقاس عليه المستجدات، وتعتبر به الثوابت والمتغيرات (6) .
والدوران في فلك الأصول والثوابت ضرورة ملحة وشرعية في آن واحد؛ لأنها تقي من الانحراف والزيغ عن الطريق القويم، وتمثل طوق النجاة بالنسبة للمجتمع المسلم، إذ تحميه من التفكك والتشرذم، ومن الفرقة والخلاف. على أن المجتمع المتراص في جوهره تعبير عن مجمل العقائد والمفاهيم والأعراف، وما ينبني عليها من علاقات ومصالح تسود رقعة مكانية معينة، وتخضع لها مجموعة بشرية محددة (1) .
وجدير بالإشارة أن للعقيدة دوراً رئيساً وفعالاً في تحديد ماهية الفعل الاجتماعي، إذ أنها تحدد اتجاهه. كما أنها تفسره، وتظهر مسوغاته، وتكشف عن منطقيته، وكذلك تحدد أهدافه، وترشد إلى كثير من نظمه ووسائله (2) .
وإن كثيراً من التمزق والازدواجية والتيه الذي أصاب مجتمعات المسلمين المعاصرة، هو بعض نتائج ضمور عقيدة التوحيد على مستوى تمثلها وفهمها أولاً، ثم على مستوى فاعليتها وعملها في حياة الناس ثانياً، لأنها تعتبر عاملاً في توجيه السلوك، ومصدر دفع إلى البذل والتضحية.
فحين تشكل العقيدةُ القاعدةَ الأساسية للحياة الفكرية تتوحد نظرة الناس إلى قضايا عديدة، مثل: الحلال والحرام، والمال والجاه والسلطة، والإيثار والأَثَرَة، وخلاف التنوع وخلاف التضاد، وأسس التفاضل والنجاح، وقطعيات الخطأ والصواب. وهذا الأسلوب من التطابق في وجهات النظر على العموم يولد اتجاهاً موحداً للعواطف، ويحدد ملاقي التعاضد والتآزر، والتعاون والتكامل، والتقدير والاحترام، والتواصل الاجتماعي (3) .
فبوحدة المفاهيم والأصول يرقى المجتمع ويبلغ درجة من التنظيم والتنسيق تجعل فوضوية الفرد وأنانيته منبوذة وعالية التكلفة، على أنه ليس في المجتمع البدائي المتخلف أحكام وقيم ثابتة مستقرة، وليس فيه أشخاص مستعدون للتضحية في سبيل انتظام مصالح المجموع والرقي العام.
إن الإيمان الحي المتدفق هو الطاقة الكبرى التي نحتاجها في مرحلة الإقلاع والتأسيس، ومن ثم فإن الأخذ بأسباب تنميته يعد من الأولويات. وإذ نحاول أن ننطلق نحو آفاق رحبة لتغيير الواقع من سيء إلى حسن، ونجدد مضامين الانطلاقة الأولى التي قادها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل القرون المفضلة من بعده، فإن ذلك يستدعي إيجاد نواة صلبة مؤثرة من الرواد الذي يتلقون تربية مكثفة متميزة ترسخ فيهم معاني الإيمان، وتجعل منهم قاعدة فريدة تتحمل عناء البناء والتغيير؛ ففي الحديث الشريف: «الناس كالإبل المائة قلَّ أن تجد فيها راحلة» (4) .
ومن الخصائص الروحية والخلقية التي يتميز بها هؤلاء الرواد الذين تشربوا حقيقة الإيمان الصحيح ما يلي:
1 ـ الصلة القوية بالله ـ تعالى ـ التي تغمر كيان المسلم، وتنقل إيمانه من حيز التصديق القلبي إلى حيز العمل القلبي؛ من الصدق والإخلاص والإنابة والخشوع والرضا واليقين والمحبة وغيرها من أعمال القلب التي تحوّل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية، حتى يصل المرء إلى درجة الإحسان.
2 ـ الصبر وطول النفس؛ حيث إن الواقع السيء الذي تعيشه الأمة الإسلامية ما هو إلا خلاصة لتراكمات أخطاء قرون عديدة. ولكي يتحسن الواقع بصورة جيدة؛ فإنه يحتاج إلى زمن مديد وجهد كبير؛ فالإمامة والريادة لا تنال إلاَّ بالصبر واليقين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] .
3 ـ التضحية والعطاء السخي، وبذل المال والوقت والنفس في سبيل الله ـ تعالى ـ سمة مهمة في الرائد. فعلى الرغم من أن هذه المعاني عميقة في ثقافة المؤمن ومتجذرة في وجدانه، إلاَّ أن الناس يبحثون دوماً عن القدوة والنموذج المحسوس، إذ هو أسهل في الإدراك وأعظم في التأثير (5) .
إن الطريق الأقوم لفهم العصر والمشاركة في صناعته هو معرفة الثوابت على نحو جيد، والتفريق بينها وبين المتغيرات، وإعمال المنهج الرباني في الصور الذهنية التي نُكوّنها عن الواقع، إذ يعد الوحي الإطارَ المرجعي، ومركز الرؤيا، ومؤشر الهداية الذي يمنح العقل القيم التي تعصمه من الزيغ والانحراف.
ولأجل ذلك؛ فإن تجديد أمر الدين مرتبط أساساً بإصلاح عالم الأفكار، وتغيير العقليات، وتجديد مناهج التفكير، وإعادة تشكيل العقل المسلم المعاصر ليستوعب محكمات وقطعيات العقيدة التي تعد بمثابة أسس ومعايير فكرية يستند إليها في اقتحام معترك العالمية، مستفيداً من المعارف والمناهج والوسائل النافعة، ومن خبرات الآخرين، مع نوع من الانفتاح المنضبط وممارسة النقد وفق معايير شرعية وحضارية ومصلحية.
إن سلامة الاعتقاد والتصور شرط لإنتاج المعرفة الصحيحة، وإنتاج المواقف والسلوكيات المتزنة، وضمان العطاء والفاعلية، وبناء مجتمع على أسس قويمة.
فتغيير واقع الأمة يتطلب في المستوى الأول تغيير النفوس، ومن عناصر ذلك التغيير: تعميق الفهم، وتجديد الفكر، وتصحيح المفاهيم التي من أهمها مفهوم الفرد الذي يعد عنصراً أساسياً في بناء الأمة، ولكن بشرط أن يقوم بدوره الأكمل بتعاونه مع بقية أفراد الأمة، وتصحيح مفهوم الجماعة التي تتوحد أفكارها وممارستها من أجل تحقيق رسالة الأمة.
وهذا يستدعي إجراءات منها: فكّ الارتباط القائم بين العمل الإسلامي والأطر الحزبية الضيقة؛ ليتقبل العمل الإسلامي الفكرة الصائبة الموصلة إلى الهدف سواء انبعثت من داخله أو خارجه، وتنمية الصفات التي تحقق التفاعل بين الأفراد وتعميقها؛ كالأخوّة، والشورى، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والعطاء المتبادل، والقدرة على التجميع في نطاق رابطة العقيدة لا الحزب (1) .
ذلك أن طبيعة البناء الحضاري أصبحت اليوم ـ ونحن على مشارف العصر العالمي ـ معقدة للغاية، ولذا فحاجتها ماسة جداً إلى الفعل المنهجي المنظم أو برنامج العمل الذي يحافظ للحركة التغييرية على خطها الفكري الأصيل، مع منحها القدرة على استيعاب التجارب المعاصرة وخبرات الآخرين، كما أن حاجتها ماسة إلى الوسيلة الكفؤة والمناسبة والمشروعة، وإلى الأسلوب الأمثل والفعال.
2 ـ استيعاب وسائل العصر:
إن حضارة هذا العصر قائمة على أساس المعرفة. والمعرفة اليوم أهم الأسلحة المستخدمة في الصراع بين الأمم، فعن طريقها يتم تطوير كل الأسلحة الأخرى، وعن طريقها تتم السيطرة على عقلية الخصم وهزيمة نفسيته وروحه. ومدخلنا إليها لن يكون إلا عن طريق شحذ الفعالية العلمية للأمة، واستيعاب طرائق ونظم التقنية المعاصرة لتفعيل البناء الحضاري.
ولهذا الغرض ينبغي تأسيس المعرفة؛ لأن الإنسان حين يمتلك المعرفة فإنه في الحقيقة يملك قوة تفوق القوة العسكرية والقوة الاقتصادية؛ ذلك أن القوة العسكرية مع أنها يمكن أن تؤدي إلى نتائج تغييرية إلا أنها تبقى في الشكل لا في المضمون، إذ يمكن قلب الوضع في المجتمع بالقوة العسكرية وإرغام الناس على سلوك معين، ولكنّ الجوهر يبقى ثابتاً في المجتمع، ويبقى الناس في دواخلهم كارهين للوضع الجديد.
وبالصورة نفسها؛ فإن القوة المالية قد تؤثر في إرغام الفرد أو المجتمع من منطلق الحاجة إلى الانتقال من وضع إلى آخر، إلا أنَّ الجوهر يبقى ثابتاً.
أما القوة المعرفية؛ فإنها تفوق في الجانب النوعي والتأثيري القوتين السابقتين، من حيث أنَّها يمكن أن تستخدم للإقناع، أو الاستدراج، أو التلبيس والتمويه، أو التخويف النفسي والإرغام، وبالتالي التحويل شكلاً وجوهراً.
ولذلك، فإن الغرب أدرك هذه الحقيقة مبكراً في هذا العصر، حيث يقول (ونستون تشرشل) : «إن إمبراطورية المستقبل هي إمبراطورية العقل» (2) .
ولأجل هذا؛ بذلوا جهداً ووقتاً ومالاً واسعاً لامتلاك هذه القوة بمعرفة المجتمعات الأخرى، ومسحها مسحاً شاملاً من أصولها الأولى إلى ذروتها ثم انحطاطها لأجل السيطرة عليها، وبمعرفة مجتماعتهم أنفسهم لتأهيلها للقيام بدور الريادة والقيادة عالمياً.
وعلى سبيل المثال؛ الولايات المتحدة هي بجملتها مؤسسة ضخمة تضم في غضونها عدداً هائلاً من المؤسسات مختلفة التخصصات، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة ومصالحها الحيوية بتغير أفراد حكوماتها ورؤسائها، بل من منطلق مصلحي جماعي.
3 منهج التغيير ومراحله:
إن التغيير اليوم من متطلبات استمرارية الأمة، ومن شروط استعادتها لمكانتها ولهيبتها الحضارية، فهو الذي يتيح للدعاة رواد العملية التغييرية فرصة توفير موجبات (الوراثة الحضارية) ، ويعينهم على تحقيق هذه السنة الربانية: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} .
[الأنبياء: 105]
وجدير بالذكر أن منهج الدعوة لبناء مشروع التغيير ينبغي أن يقطع ثلاث مراحل رئيسة، كل مرحلة تتميز عن الأخرى بأولويات ومواصفات معينة، وكل مرحلة هي تدرج نحو المرحلة الأعلى وذلك وفقاً لما يلي:
أولاً: المرحلة التربوية:
وهي المرحلة التي يتميز فيها العمل ويتركز على التشكيل العلمي والتربوي للأفراد من أجل إعادة بناء العقل الرسالي عندهم؛ نظراً لغياب هذا العقل عموماً في واقع المسلمين منذ أمد بعيد؛ بسبب انتشار ثقافة إسلامية تهيمن عليها المفاهيم والأفكار السكونية السلبية والانعزالية، وترجيح الفردية، والاستسلام للتقاليد والعادات، وتبعيض الإسلام وغلقه داخل حدود العبادات الفردية غالباً.
إن إعادة بناء العقل الرسالي في هذه المرحلة ينبغي أن يتم على أساس برنامج يعالج عند المدعوين أربعة أمور رئيسة:
1 ـ إدراك قوانين بناء تيار التغيير: والتي تقوم بالضرورة على فقه الدين، وفقه الدعوة، وفقه الواقع، في إطار نظام عقدي عملي حي يحقق بالنسبة لفقه التدين تصحيحات ثلاث في مسارات متوازنة هي:
أـ تصحيح التصور الإسلامي باعتباره قانوناً يتجاوز التصور المنحرف الشركي أو البدعي.
ب ـ ربط السلوك الإسلامي بالتصور العقدي على صعيد الفعل؛ لتجاوز السلوك المنحرف.
جـ ـ تصحيح الالتزام الإسلامي باعتباره ضرورة؛ لتجاوز الالتزام الوهمي الخادع (1) .
وإذا كان الفرد هو محور هذه المرحلة، فلأنه هو الخلية الحضارية التي يجب تكوينها وبناؤها ورعايتها، وتأمين المحضن المناسب لها. إننا إذا اهتممنا بالفرد ونمّينا قدراته، وصقلنا مواهبه وشحذنا فعاليته، وفجرنا طاقاته، استيقظت فيه روح العمل، وتدفق عطاؤه، وغدا بإمكاناته الروحية والمادية مستعداً للتلقي والإبداع، وملاحقة العصر، ومواكبة حضارته بنظرة ثاقبة، وبصيرة نيّرة، وعزيمة وثّابة تتجاوز مظاهر الخمول والكسل والسلبية التي يعاني من رواسبها الإنسان المسلم في الوقت الحاضر (2) .
إن تكوين الفرد على هذه الوتيرة يجعله يعيش عصره بكفاءة وفعالية بحيث يشعر بقدرته على التغيير؛ تغيير نفسه، وتغيير محيطه ورؤيته للأشياء، فيمتلك القدرة على مغالبة الرتابة والعادات السلبية والتفوق عليها، وتحديث أساليب الدعوة والخطاب بصورة مستمرة.
2 ـ تحديد عناصر الأزمة التي تولدت عن الأزمة الأصل: وذلك حتى يستوعب تيار الصحوة الأسباب التي فتكت بالأمة وقعدت بها عن النهوض والتوثب الحضاري، وشوهت حقيقة الإسلام، وشكلت أوضاع التخلف التي ترزح بظلالها وقتامتها على الواقع العام الإسلامي اليوم.
وتحديد عناصر الأزمة ينبع أصلاً من فهم الواقع فهماً عميقاً يمكن الوصول إليه باكتساب رؤية منهجية في دراسة الأحداث والمشكلات، أي دراسة حركة الخلق ووجهتها الحضارية، ومعرفة مواقفهم من القضايا التي تواجههم، وإمكانياتهم: الفكرية، والعقلية، والروحية، والسلوكية، والجسدية، ومعرفة أوضاعهم: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والعسكرية، وإدراك كل ما يتعلق بحياتهم الفردية والجماعية بشروط قيامها وعوامل انهيارها، وكذلك ما يتصل بعلاقاتهم مع الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ ومع بعضهم بعضاً، ومع الكون المحيط بهم (3) .
3 ـ تحديد الملامح العامة لمشروع التغيير المطلوب لتحقيقه واقعاً:
التغيير الذي نحتاجه اليوم هو التغيير الإحاطي الذي يساعد على رؤية الخيارات ويطرح البدائل، ويدرك التأثيرات المتبادلة والآثار المترتبة على كل خيار، وهذا لن يتأتى إلا من خلال المعرفة المتنوعة (4) .
على أن الرؤية الشاملة هي رؤية تركيبية متحركة ومتطورة؛ إذ العالم من حولنا يتغير بإمكاناته ووسائله وأدواته، وهذا يعني أن الصور التي نُكوّنها عن محيطنا الأدنى والأقصى يجب أن تكون قابلة للمراجعة والمتابعة والإضافة والتشذيب، وإلا تفلّت الواقع من بين أيدينا وصرنا إلى الرؤية الضبابية التي تخلط بين الألوان (5) .
| متلازمِ الشروط المكونة للمشروع: باعتبارها في سنة التغيير لا تقبل التقسيم والتجزئة والفصل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208] ، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: «يقول ـ تعالى ـ آمراً عباده المؤمنين به المصدقين لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك» (6) .
وهذه كلمة جامعة تفيد وجوب أخذ الإسلام جملة وتفصيلاً، فهو لا يقبل التجزئة والانتقال وأنصاف الحلول على صعيد الأصول والثوابت.
ولذلك فالله ـ تعالى ـ وبّخ أولئك الذين جعلوا القرآن الكريم عضين؛ فجزؤوا كتبهم المنزلة عليهم، فآمنوا ببعضها وكفروا ببعض: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 90 - 92] .
4 ـ تحديد أهداف المشروع والتي منها بالخصوص:
ـ بناء المسلم النموذجي المجدِّد.
ـ ربط الأمة المسلمة بمفهوم العبادة الشاملة في الحياة، وتقوية صلتها بالله ـ عز وجل ـ، والقيام بدور الاستخلاف في الأرض المنوط به؛ لتحكيم الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة، وعمارة الأرض وفقاً لمنهجها.
ـ إخراج الأمة من أوضاع الحصار والقمع والاستغلال والظلم والقهر والتخلف الشامل، وإعادة بنائها من جديد وفق مقاصد الإسلام.
ـ فتح آفاق الخطاب مع العالم والحوار معه بشكل علمي حر ونزيه، والتعامل معه على أساس المقاصد العليا، والمصالح الإنسانية الكبرى.
على أن إعادة بناء العقل الرسالي على هذه الأسس هو هدف المرحلة التربوية التي ترنو إلى:
أـ تشكيل عقل جديد.
ب ـ تشكيل عزم جديد.
جـ ـ تشكيل سلوك جديد.
د ـ تشكيل التزام جديد (1) .
ونتيجة لهذا التشكيل الشمولي يمكن أن يحدث تغير في قناعات الإنسان المسلم، وتحول في استعداداته، ونقلة نوعية في سلوكه وحركته، ويصبح نتيجةً لذلك قادراً على نشر الفكرة الإسلامية الأصيلة في محيطه وخارجه، مستعداً لأن يجعلها قابلة للانتشار بوسائل متنوعة ومختلفة تكون قادرة على منع أي تيار أو مخطط من أن يمحوها أو يطوقها أو يصادرها (2) .
إن الهدف من هذه المرحلة التربوية هو جعل الفكرة الإسلامية المتمثلة في (الوعي بالتغيير، ومشروع التغيير، وضرورة التغيير) فكرة واضحة مغروسة متمكنة عند عدد لا بأس به من الأفراد يُكوِّنون القاعدة الصلبة المؤثرة؛ فالسنن الربانية في الأمم، والقوانين الثابتة في الاجتماع تدل على أن التغيير إلى الإصلاح لا بد أن يعتمد على نواة صلبة جداً، ونقية، ومؤثرة إلى حد بعيد، تجتمع في فلكها عناصر: الصلابة، والنقاء، والتأثير.
والمطلوب في هذه المرحلة هو تشكل نظام الجماعة باعتباره نخبة أو صفوة تمثل نوعية ممتازة لديها القدرة على الانتشار في مختلف المواقع، بسبب تأهيل الأقوياء الأمناء الأكفاء في كل مجال وفي كل قطاع حيوي.
ثانياً: المرحلة الاجتماعية:
والمقصود بها المرحلة التي يتقرر فيها إعادة ترتيب أولويات وسائل العمل الدعوي، باعتماده منهجاً تعطى فيه الأولوية للوسائل والأدوات التي تُمكِّن من التغلغل والانتشار في المجتمع، والامتداد في كل شرائحه ومستوياته ومواقعه من أجل تأسيس (تيار إسلامي) ، أي: رأي جماهيري عام مقتنع بالفكرة الإسلامية ومتشبع بالمنهج الإسلامي باعتباره الحل الحقيقي للأزمة بكل تشعباتها ومشكلاتها المتنوعة.
فالهدف من هذه المرحلة التغييرية هو إقناع المجتمع بالفكرة الإسلامية باعتباره مشروعاً حضارياً، وربط المجتمع بهذا المشروع، وجعله يقتنع تماماً بأن مصالحه المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، استقراره وحريته وعدله، ورسالته كأمة حضارية، وحركته التاريخية، وقدرته على التدافع، ونجاحه في الخروج من الفقر والجهل والتخلف والاستبعاد إلى الاستقلال الحقيقي تتحدد وتتلخص بشكل حاسم ونهائي في المشروع الحضاري الإسلامي.
فإذا اقتنع المجتمع بهذه الرؤية بواسطة قنوات وآليات متعددة، وانشغل أساساً بضرورة تحكيم الإسلام في حياته، تأسس ما يمكن أن نطلق عليه: تيار التغيير.
أما آليات ووسائل هذه المرحلة فتشمل كل أداة يمكنها التأثير في المجتمع، ومنها على سبيل المثال:
1 ـ التعليم: بفتح المدارس الحرة في المراحل المختلفة من الروضة إلى الجامعة، لإعادة صياغة عقلية الناشئة عن طريق تبليغ وترسيخ الأصول والمعارف الإسلامية في نفوسها، حتى يتأسس بتراكمها قواعد ومناهج تساعد على إعادة تشكيل قناعات المجتمع، وتحديد توجهاته، وبناء مواقفه واختياراته على أساس المرجعية الإسلامية، والضوابط الشرعية.
على أن يتمّ ربط التعليم بالتربية لنقل المفاهيم والمبادئ إلى سلوكيات عملية تتكامل فيها التزكية والفقه، والعلم والعمل.
2 ـ الإعلام: في عصرنا الحاضر تطورت وسائله المرئية والمسموعة والمقروءة تطوراً كبيراً، حيث أصبحت سلاحاً خطيراً يتعدى دورها الترويج والترفيه والأخبار، ليعمل على تبديل المفاهيم وصناعة الاتجاهات، مما أكسبها قدرة ملموسة على الاستقطاب والتأثير والتوجيه.
ولما كان التغيير نحو الأحسن هو قَدَرُ الدعوة الإسلامية، فقد أصبح لزاماً عليها أن تنظر إلى الإعلام باعتباره أداة مؤثرة على الرأي العام المحلي من جهة، ووسيلة فعالة للتعريف بالإسلام وتبليغ رسالته عالمياً من جهه أخرى، مما يتطلب ضرورة الوصول إلى خطاب إعلامي متميز وشامل يقوم بوظيفة البلاغ المبين، ويقدم رسالة الإسلام إلى الناس كافة بأنها الأصلح لهم والأنفع لدنياهم وأخراهم.
على أن الإعداد المهني لحامل الرسالة الإعلامية ينبغي أن يكون وفق برامج تدريبية مدروسة ذات أهداف واضحة على أيدٍ مخلصة واعية خبيرة، ويشمل كافة المجالات مثل:
ـ مجال المناظرة والحوار والندوة.
ـ مجال الكتابة الصحفية والأدبية.
ـ مجال الإلقاء والإعداد البرامجي في الإذاعة والتلفاز عبر إذاعة وقناة إسلامية شرعية.
ـ مجال المعارض.
ـ مجال المؤتمرات.
وبذلك يتحقق للإسلام أصالته وتمايزه عن الإعلام الغربي (3) .
هناك بطبيعة الحال وسائل أخرى يمكن استثمارها في مجال التغيير؛ مثل: الجمعيات والنوادي الثقافية، والاتحادات والنقابات، وهيئات الإغاثة والمعونة التي تقدم الخدمات الاجتماعية للناس وتتبنى قضاياهم، وتحقق مصالحهم ومنافعهم اليومية.
ثالثاً: المرحلة التنزيلية:
وهي المرحلة التي ينبغي فيها انطلاق عملية تنزيل البدائل الإسلامية على أرض الواقع، لمعالجة مصادر الأزمة والأوضاع التي ساهمت فيها. ومن المفروض أن تكون المرحلة الاجتماعية السابقة قد حققت فيها شوطاً مهماً على مستوى البُنى التحتية؛ مثل (التربية والتعليم، والإعلام، وقوى الضغط الاجتماعي مثل النقابات والجمعيات ... إلخ) (1) .
ولما كان التغيير الحقيقي والحاسم عادة ما يواجه بعوائق وصعوبات، ولذلك فهذه المرحلة التنزيلية عادة ما تبدأ بمواجهة التحديات، فهي بذلك أصعب مرحلة في مسلسل التغيير.
وفي هذه المرحلة ينبغي أن تمتلك الدعوة الإسلامية رصيداً كبيراً في الأمة، وتستند إلى قاعدة عامة قوية تدخل بها دائرة النضج والاكتمال. ولكي تحقق هذه الغاية لا بد أن تشقّ الطريق نحو القاعدة أكثر فأكثر، فتدخل في نسيجها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وتوظف مختلف الإمكانيات والوسائل المتاحة للقيام بالتغيير المنشود.
وعندما يصبح الكم والكيف في الحدود المطلوبة والكافية، عندئذ تبدأ تلك المرحلة التي قد تطول بدورها لفترة غير محدودة، لكنها محسومة بإذن الله ـ تعالى ـ لمصلحة الفئة المؤمنة المحتسبة الصابرة المستقيمة على منهج الله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وبعبارة أخرى: إن تكوين القاعدة حسب المواصفات المذكورة سلفاً، مع حضور شعبي للدعوة، وتأثير واقعي مترادف في كافة المواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية ستسهم جميعها في أن تصل قوة المد الدعوي كماً وكيفاً إلى مرحلة التمكين لهذا الدين بإذن الله.
وهذا يقضي سبر أغوار سنة الإعداد، وهي ثمرة الفهم الصحيح والقصد السليم والصبر الطويل.
والإعداد يجب أن يشمل الجوانب الآتية:
أـ الإعداد العلمي والمعرفي، والتفقه في الدين والبصيرة فيه.
ب ـ الإعداد التربوي والسلوكي.
جـ ـ الإعداد المالي.
د ـ الإعداد الإعلامي.
هـ ـ الإعداد البدني (2) .
وعلى العموم، من علامات تلك المرحلة أن تتوفر لدى العمل الإسلامي من القوى عددياً ومادياً ما هو أعلى من الحد الأدنى المطلوب، لكن هذا الأمر لا يمكن ادعاء حصره أو توقيته؛ إذ أنه ينبني على جملة من العوامل؛ منها: مدى قوة الصدق والإخلاص في النفوس، ومدى الاستعداد للتضحية وبذل الوقت والمال، وهذا بدوره يرجع إلى الإعداد التربوي، ومدى إحكام التخطيط، والإعداد على كافة الأصعدة.
3 الخاتمة:
ممّا لا ريب فيه أن المخْرَج من التبعية التي تؤسسها العولمة في المجتمعات الإسلامية اليوم يوماً بعد يوم ينحصر في أمرين:
الأول: استعادة الوعي بالهويّة الإسلامية، وتحصين العقل المسلم من الاختراق الثقافي والاستلاب الفكري في مجال القيم والمبادئ والأصول الثابتة التي لا غنى عنها في مواجهة خطط تذويب الذات، وتدمير البنية التحتية العقدية والفكرية التي تحفظ للأمة شخصيتها واستقلالها. علماً بأن الهوية تعتبر الآن عنصراً هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول في إدارتها للصراع والتنافس مع الدول الأخرى. والمطلع على خطط الدول الأمنية أو التنموية يلحظ أن مسألة الهويّة تختص بعناية واهتمام؛ لأنها خط الدفاع الأول عن ذاكرة الأمة ولغتها وتاريخها وقيمتها الحضارية. على أن الإسلام يمتلك منظومة من القيم تحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي شروط ضرورية لبناء مجتمع منظم ومتحضر وقوي يستطيع أن يواجه تحديات العولمة الغربية.
ولتحقيق ذلك لابدّ من التركيز على الجانب النفسي والتربوي في بناء العقل المسلم المعاصر، وذلك بدمج العملية التعليمية والتربوية في إطار واحد، بإرساء وغرس قواعد البعد العام الاجتماعي في التكوين النفسي والتربوي للفرد المسلم، وما يتبعها من مبادئ وقيم؛ كالعدل، والشورى، والمساواة، والحرية، والصدق، والإخلاص، والتضامن، والتكافل، والتضحية، والبذل، وتقدير قيمة الوقت، وامتلاك روح الجَلَد، والصبر على العمل والإنتاج، والتعود على النظام، وإحكام التخطيط، وتربية روح الانتماء لدى الفرد، والحرص على مصالح الأمة وحقوقها ورعايتها، وحماية مؤسساتها العامة، والمحافظة على النظام العام وغير ذلك، حيث تصبح هذه القيم عرفاً ملزماً للجميع يهتزّ لها ضمير المجتمع في حال المساس بها.
والثاني: الانفتاح على الحضارات الأخرى في مجال التقنية وعلوم الوسائل، حرصاً على امتلاك المعرفة ثم القوة في المجالات المختلفة لدعم التنمية الشاملة، وذلك بربط السياسات الفعلية والتربوية بسياسات التنمية في تلك القطاعات وتفجير الطاقات الكامنة في المجتمعات الإسلامية.
فالتقدم الحقيقي لا يمكن إحرازه إلا بالجمع بين الأصالة والمعاصرة أو بعبارة أخرى بين الثابت والمتغير؛ ثابت يجب الحفاظ عليه ويتضمن العقيدة واللغة والتاريخ وقيم التنشئة الاجتماعية، ومتغير يفتح المجال للتفاعل مع علوم العصر، مع إيجاد المناخ الملائم للابتكار والإبداع والتجديد.
إن التغيير الاجتماعي شيء محتوم، ومعادلته الجمعُ بين الأصالة والمعاصرة، وإن علينا أن نرشِّده بدل أن نقاومه، وترشيده يكون من خلال المراقبة الدقيقة والمتابعة والمراجعة، فنضع الخطوط الحمراء في وجه كل تغيير يمس الأصول والثوابت، والأهداف الكبرى، والمبادئ العليا للأمة، ونرحب؛ بل ونبدع في الوسائل والأدوات، ونجدد الأساليب والآليات التي تساعدنا على تنشيط وظائف نظمنا الدعوية والاجتماعية، وتوظيف كل طاقاتنا وإمكاناتنا على طريق تحقيق آمالنا وأهدافنا السامية في هذه الحياة التي هي مسرح الابتلاء والتدافع: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] .
__________
(*) عضو هئية التدريس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس ـ المغرب.
(1) أحمد العماري: معالم في منهج التغيير (رؤية إسلامية) ، ص (35) .
(2) علي الزهراني: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، ص (211 ـ 212) . وإسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص (225) . ومحمد قطب: واقعنا المعاصر، ص (180) . ومحمود شاكر: الكشوف الجغرافية.
(3) علي الزهراني: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، ص (232 ـ 233) بتصرف.
(4) أحمد العماري: معالم في منهج التغيير (رؤية إسلامية) ، وانظر: انهيار الدولة العثمانية في ضوء السنن الاجتماعية لكاتب المقال، ص (9) .
(1) أحمد العماري: المرجع السابق، ص (37) .
(2) خلف الشاذلي: التنمية في المجتمع الإسلامي بين الأصالة والمعاصرة، البيان عدد (76) ، ص (32، 35) .
(3) عمرو عبد الكريم: العولمة، المنار الجديد، عدد (3) ، صيف 1998م، ص (44) .
(4) ابن خلدون، المقدمة، ص (147) .
(5) عماد الدين خليل: التفسير الإسلامي للتاريخ، ص (262) .
(6) عبد الكريم بكار: مدخل إلى التنمية المتكاملة، ص (122) .
(1) عبد الكريم بكار: المرجع نفسه، ص (242) .
(2) المرجع نفسه، ص (242) ، (نقلاً عن نبيل رمزي، علم اجتماع المعرفة، ص 95) .
(3) المرجع نفسه، ص (264) .
(4) أخرجه مسلم في جامعه (الصحيح) .
(5) عبد الكريم بكار: مدخل إلى التنمية المتكاملة، ص (216 ـ 217) بتصرف.
(1) عبد الحكيم بلال: العمل المؤسسي، البيان، عدد (143) ، ص (47) .
(2) حسن المدني: بناء المعرفة ومن ثم القوة، مجلة السنة، العدد (25) ، ص (54) .
(1) أحمد العماري: معالم في منهج التغيير (رؤية إسلامية) ، ص (126) .
(2) محمود سفر: دراسة في البناء الحضاري، ص (106) .
(3) برغوث مبارك: المرجع السابق، ص (72) .
(4) عبد الكريم بكار: مدخل إلى التنمية المتكاملة، ص (56) .
(5) المرجع نفسه، ص (56) .
(6) تفسير ابن كثير، ج (1) ، ص (565) .
(1) أحمد العماري: معالم في منهج التغيير (رؤية إسلامية) ، ص (127) .
(2) المرجع نفسه، ص (327 ـ 328) .
(3) أحمد حسن محمد: الإعلام من المنطلقات الغربية إلى التأصيل الإسلامي، البيان، العدد (110) ، ص (50 ـ 51) .
(1) أحمد العماري: المرجع السابق، ص (135) بتصرف.
(2) انظر: مقال المؤلف في البيان، سنن الإعداد والتغيير، عدد (118) ، ص (8 ـ 11) .(230/7)
التلازم بين العقيدة والدعوة
سعد بن ناصر الغنَّام
الحديث عن الدعوة ذو شجون؛ لأنك تقتفي آثار المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في أعظم أعماله، بل الهدفَ من بعثته وهو دعوة الناس إلى الخير. والعجيب أن أكثر الناس يحرصون على ترسُّم خطاه في كل صغيرة وهذا حق، مثل: تحريك الأصابع في التشهد، أو الإشارة بها؛ وهذا هو الصحيح، ولكن لا يتصورون أنَّ التأسِّيَ يكون في حركته الدعوية في المجتمع، وتنقُّله بين الديار والقبائل والمجالس حاملاً همّ الدعوة إلى الله - تعالى -
إنها مفارقة عجيبة تحتاج إلى تأمل!
وعندما نبحث عن الأسباب نجدها كثيرة. يهمنا هنا الجهل بالترابط الوثيق بين العقيدة والدعوة إلى الله ـ تعالى ـ، لذلك نحاول الربط بين الأمرين من خلال مسائل معينة، وبالله التوفيق.
أولاً: كلمة العقيدة كما نفهمها من لغتنا العربية تُفيد الربط والإحكام، كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ، وقال ـ عزَّ وجلَّ ـ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
فكيف يُتَصوّر أن ينطلق إنسان من دعوة لم تنعقد بعدُ في قلبه بشكل واضح وقوي؟ لأن الدعوة كما أنها تشريف؛ فإنها تكليف بأعباء وأثقال لا يقوى عليها إلا من تربى تربية عميقة على العقيدة. قال ـ تعالى ـ بعد الأمر بقيام الليل: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] .
وهذه فرصة للتذكير بأحد جولات النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوية، من خلال الجهاد في غزوة أحد، حيث تجلّت مواقف البطولة عند أصحاب العقيدة، وتكشفت صور النكوص والهزيمة عندما ضعفت العقيدة. أترك الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حول هذا، حيث ذكر بعد حصول رجوع رأس النفاق (عبد الله بن أُبيِّ) : انخذل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك؛ فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء المضروب به المثل.
فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام (1) .
إذن طريق الدعوة طويل يحتاج إلى طول نفس وعمق في العقيدة، نسأل الله الثبات والإعانة.
ثانياً: إذا لم تكن العقيدة واضحة في ذهن الداعية، فإلامَ سيدعو الناس؟!
هل سيدعوهم إلى قضايا وهمية؟ أم تناقضات عقلية؟
فما أجملَ قوله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} ! [يوسف: 108] .
لذلك رتّب النبي -صلى الله عليه وسلم- الأولويات عند معاذ ـ رضي الله عنه ـ فقال: «وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» . وهذا الترتيب الشرعي في الدعوة يؤدي إلى قبول الناس للدعوة، والعمل بمقتضاها من التشريعات والأحكام، وهذا مثل جذور الشجرة، وجذعها وفروعها وأوراقها، فعلى قدر ترسخ الجذور يكون النمو في الخارج، لذلك تجد القرآن يربط بين الجذور العقدية والتطبيقات الشرعية، قال ـ تعالى ـ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1 - 5] .
إذاً لا يمكن الانضباط الشرعي في السلوك والأخلاق، إلا بالشعور بقضية عقدية مهمة؛ وهي البعث.
وتأمل كلام ابن القيم في زاد المعاد، عندما تكلم عن الصيام، قال ـ رحمه الله تعالى ـ: «تأخرّ فرضُه إلى وسط الإسلام (2) ؛ لأن فطم النفوس عن مألوفاتها أمر شاق. ولكن لما توطن التوحيد في القلوب، واستقرت العقيدة نزل فرضه» . وهكذا شأن القرآن المكي يغلب عليه الطابع العقدي، بينما المدني يغلب عليه الطابع التشريعي بعد ترسخ العقيدة.
فدعوة الناس إلى قضايا فرعية، مع أهميتها، قبل التذكير بقضايا العقيدة وإحيائها؛ كالحرث في الماء والزراعة في الهواء.
ثالثاً: استحضار العقيدة يُريح الداعية كثيراً ممّا يزعجه، كما أزعج ذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حتى أتاه البيان من ربه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] .
إذن ليس عليك هداهم، ولكنّ الله يهدي من يشاء.
فشأنك وشأن الدعاة جميعاً البلاغ المبين بالأسلوب الرفيق الذي يُقرِّب ولا يفتن. أما أمر القلوب فعند مقلبها.
هذه بعض جوانب الربط بين العقيدة والدعوة، وهي أكثر من ذلك، وبالله التوفيق.
أسأله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يحبب إلينا الإيمان، وألَّا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه سميع مجيب.
__________
(1) نقلاً عن (فتح المجيد) ، باب ما جاء في الـ (لو) ، ص (559) ، بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله تعالى.
(2) منتصف حياة الدعوة بعد البعثة، في السنة الثانية من الهجرة.(230/8)
حتى لا يكثر المتجرئون على الفتيا!
فيصل بن علي البعداني
دخل رجل على فقيه المدينة ومفتيها ربيعة الرأي ـ رحمه الله تعالى ـ فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، بعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السُّرَّاق (1) .
وما ذاك منه ـ رحمه الله تعالى ـ إلا لأن الفتيا عظيمة الخطر، كبيرة الموقع، جليلة المنزلة؛ إذ هي توقيع عن الله ـ تعالى ـ ووقوف بين الله ـ تعالى ـ وخلقه. وقد جاءت النصوص والآثار محذرة من الإقدام عليها قبل امتلاك أدواتها، فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وقال ـ عزّ وجلّ ـ: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» (2) . وعن حِبْر الأمة عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «من أفتى بفتيا يُعَمَّى عليها فإثمها عليه» (3) .
ولهذا الترهيب الشديد وَجِل من الفتيا الأئمة وخاف منها السلف، وأقوالهم المنبهة على ذلك أكثر من أن تحصى. يقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون» (4) ، وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مثله (5) . وعن البراء ـ رضي الله عنه ـ قال: «لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا» (6) ، وقال ابن أبي ليلى: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسْألُ أحدُهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول» (7) . وقال عطاء: «أدركت أقواماً يُسْألُ أحدُهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد» (8) ، وقال سفيان: «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بداً من أن يفتوا» (9) ، وقال مالك: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك» (10) ، وقال أبو إسحاق السبيعي: «كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس حتى يُدفَع إلى مجلس سعيد بن المسيب؛ كراهيةً للفتيا» (11) . وكان سعيد بن المسيب «لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني» (12) . ويزيد العلاَّمة ابن القيم الأمر إيضاحاً فيقول: «كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى» (13) .
ومن أجل أن لا يتصدر للفتوى كل أحد وضع العلماء شروطاً لا بد من توافرها في المتصدر للفتيا من أبرزها: العدالة، والاجتهاد. قال النووي: «واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين» (14) . وقال أبو يعلى: «من لم يكن من أهل الاجتهاد لم يجز له أن يفتي ولا يقضي، ولا خلاف في اعتبار الاجتهاد فيهما عندنا» (15) . والمتأمل في واقع الصحوة المباركة اليوم يلحظ حدوث تطاول متكرر على مقام الفتوى من بعض أبنائها، قد يصل بالأمر من كثرته إلى درجة المشكلة، وليس هذا مقصوراً على صغار أبناء الدعوة، بل إن ممن خاض في ذلك شخصيات مشهورة تزعم نفسها أمام الملأ أنها من قيادات الصحوة وكبار دعاتها وإدارييها، وصدق فيهم قول أبي الحصين الأسدي: «إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر» (1) .
وهو أمر محزن، يزيد من شدته ومرارته إدراك أن الفتوى لا تجوز بالتقليد؛ فكيف تجوز بمحض الجهل؟ (2) . وبمقارنة حال هؤلاء بمثل حال الأئمة يظهر الفرق؛ فهذا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ سئل عن مسألة فقال: لا علم لي، ثم قال: «وَابَرْدَها على الكبد! سُئلت عما لا أعلم فقلت: لا أعلم» (3) ، وهذا ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: «من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] » (4) و «جاء رجل إلى ابن عمر يسأله عن شيء، فقال: لا علم لي بها، ثم التفت بعد أن قفى الرجل، فقال: نِعْمَ ما قال ابن عمر، سئل عَمّا لا يعلم فقال: لا أعلم» (5) . وهذا فقيه المدينة القاسم بن محمد يقول: «لأن يعيش الرجل جاهلاً خير له من أن يفتي بما لا يعلم» (6) . وهذا شيخ الإسلام ابن سيرين «كان إذا سئل عن شيء من الفقه: الحلال والحرام، تغير لونه وتبدل، حتى كأنه ليس بالذي كان» (7) . وهذا أبو حنيفة النعمان يقول: «من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأله عنه كيف أفتيت في دين الله؟ فقد سهلت عليه نفسه ودينه» (8) ، وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس ـ رحمه الله تعالى ـ كان ربما يُسأَل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها (9) ، وكان يقول: «من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها» (10) ، «وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قوله جل ثناؤه: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] ، فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يُسأَل عنه يوم القيامة» (11) . وقال أبو داود: «ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول: لا أدري» (12) .
وكل ما يُخشَى منه أن يكثر المتجرئون على الفتيا (13) ، وأن تزداد أصواتهم ارتفاعاً، وحركتهم انتشاراً، فيسدلوا الستار على أهل العلم والاختصاص، فيحولوا بينهم وبين كثير من خواص الأمة فضلاً عن عامتها، وبخاصة أن كثيراً من هؤلاء الجسورين على الفتوى لا يعرف أنه جاهل، ولا يدرك أن قيمة المرء ما يحسن، ولذا فقد أخذ يتحدث في كل شيء بدءاً بأصول الشريعة ومقاصدها، ومروراً بنوازل الأمة وقضاياها الكبرى، وانتهاء بأقسام المياه وأحكامها، ورحم الله ـ تعالى ـ أيوب السختياني حين قال: «أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً باختلاف العلماء، وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء» (14) . وكل ما يُخشى منه أن يأتي اليوم الذي يكون فيه المتصدرون للفتوى - ممن لم يبلغ مرتبتها - أكثر من طالبيها.
حقاً إن استفحال هذه الظاهرة أمر يستدعي من العلماء والمربين سرعة المعالجة حتى لا يكون ذلك بوابة لفُشُوِّ أمراض أكثر خطورة، مثل: ضعف الخشية، والإعجاب بالنفس، وعدم احترام العلماء وإنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله ـ تعالى ـ إياها، وفشو ظاهرة التعالم، والجرأة على النص، والخروج عن فهم السلف وطريقتهم في العلم والعمل والدعوة، وإضلال الناس، وتعلقهم في مسائل الشريعة برؤوس جهال ... ونحو ذلك من الأدواء الفتاكة. ولله در علماء السلف الصالح الذين كانوا ينكرون على العُبَّاد إقدامهم على الفتوى مع معرفتهم بكثير من العلم؛ لأنهم لم يجمعوا شروط الفتوى؛ فكيف لو رأوا في أيامنا هذه تخبيط بعض أبناء الصحوة وجرأتهم على اقتحام بوابة الفتوى دون رسوخ في العلم فضلاً عن قلة التعبد.
ولعل من أبرز ما يعين على معالجة هذا الأمر: أن يقوم العلماء بدورهم في سد الفراغ الذي تحتاجه الأمة، والذي لولا التقصير فيه لما لجأ أفراد من الأمة إلى استفتاء هؤلاء؛ لأنه - كما قيل -: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
ومما يعين أيضاً: جدية الدعاة والمربين في نشر العلم الشرعي في أوساط أبناء الصحوة وفق سلم علمي معتبر؛ لأن المرء كلما ازداد معرفة كلما عظم إدراكه لجهله وأنه ما أوتي من العلم إلا قليلاً. ومما يعين أيضاً: التعريف بأهل العلم وبطرائقهم في التعلم والتعليم والعمل؛ لكي ينغرس إجلالهم في نفوس أبناء الصحوة، فيهابوا العلم، ويُنزلوا العلماء المنزلة التي أنزلهم الله ـ تعالى ـ إياها.
اللهم قِنَا الضلال والفتنة، ولا تجعلنا من رؤوس الجهالة، الذين يأتون الناس بالعجائب، ويفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون، بجود منك وإحسان يا رحمن يا رحيم! وصلى الله وسلم على النبي الكريم، وعلى الآل والأصحاب أجمعين.
__________
(1) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح: (1/20) . (2) البخاري (6877) ، مسلم (2673) . (3) الدارمي (160) .
(4) المعجم الكبير، للطبراني: (9/188) ، رقم: (8924) . (5) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح: (1/9) . (6) صفة الفتوى، للنمري: (7) .
(7) الطبقات الكبرى، لابن سعد: (6/109) ، تاريخ دمشق، لابن عساكر: (36/87) ، واللفظ له.
(8) آداب الفتوى، للنووي: (15) ، إعلام الموقعين، لابن القيم: (4/218) . (9) صفة الفتوى، للنمري: (12) .
(10) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (1037) . (11) إعلام الموقعين، لابن القيم: (1/35) . (12) تهذيب الكمال، للمزي: (11/72) .
(13) إعلام الموقين، لابن القيم: (1/33) . (14) آداب الفتوى، للنووي: (20) . (15) صفة الفتوى، للنمري: (5) .
(1) تهذيب الكمال، للمزي: (19/406) .
(2) يقول العلامة ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في إعلام الموقعين: (1/51) في هذا الشأن ما نصه: «لا يجوز الفتوى بالتقليد لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم» . (3) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (1104) . (4) البخاري (4774) .
(5) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (1107) . (6) العلم لأبي خيثمة (90) . (7) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (1087) .
(8) الفقية والمتفقه، للخطيب البغدادي (1092) . (9) آداب الفتوى، للنووي: (16) . (10) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح: (1/13) .
(11) بدائع الفوائد، لابن القيم: (3/793) ، الموافقات، للشاطبي: (4/289) . (12) مسائل أبي داود: (276) ، وانظر إعلام الموقعين، لابن القيم: (2/61) .
(13) الفئات المتطاولة على مقام الفتوى في يومنا هذا- والذي يتسم بغربة الدين في كثير من بلاد المسلمين - أكثر من أن تحصى؛ فهناك على سبيل المثال: طلائع الغرب في بلداننا، وبعض أهل السلطة والنفوذ، وكثير من رجال الإعلام، وأهل البدع والأهواء، وأصحاب المصالح، وكثير من العامة، ... ونحو ذلك من الفئات التي ما فتئت خائضة في دين الله ـ تعالى ـ تصدر الفتاوى المحققة لأهوائها صباح مساء، بل إنا لنلحظ في أيامنا صناعة رائجة في بعض وسائل الإعلام لرؤوس جهال يخوضون بلا علم في دين الله ـ تعالى ـ ويقدمون على أنهم العلماء الأجلاء، والمفتون الكبار!! ولكن لأن المقالة موجهة إلى الدعاة فقد كان الحديث مقصوراً عليهم.
(14) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (969) .(230/9)
عدة الصابرين وذخيرة المساهمين
د. نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ وبعد: فقد أُصيب المضاربون في الأسهم بانهيارات متتابعة خلال الأسابيع الماضية؛ حيث هبطت أسعار كثير من الأسهم أكثر من ستين في المائة، ولا زالت في اضطراب. وقد سمعت وقرأت شيئاً مما أصاب الناس بسبب ذلك، من وفاة بعض المساهمين وجنون آخرين، وهلوسة آخرين، وأصبح هذا الهم هو حديث الناس في مجالسهم، فأحببت أن أواسي إخواني بشيء مما جاء في فضيلة الصبر، وحرمة الجزع والسخط، فأقول مستعيناً بالله ـ تعالى ـ:
أولاً: لا يخفى على الجميع أن جملة من الأسهم المتداولة هي محرمة شرعاً باتفاق العلماء؛ كأسهم البنوك الربوية، ومع ذلك فإنك ترى من يتداولها بيعاً وشراءً، ولا شك أن هذا من السُّحت الذي تُمحق بسببه البركة، قال ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] ، فهذا المرابي خسر ماله في الدنيا وبقي حسابه يوم القيامة إن لم يتب من ذلك. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279] ، ولعل ما حدث يكون درساً لهؤلاء وباباً للتوبة. فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما ظَهَر في قومٍ الرِّبا والزِّنى إلا أحَلُّوا بأنفسهم عِقاب الله عزّ وجلّ» (1) . فهذا الذي حدث عقوبة للمرابين، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، وابتلاء لغيرهم. قال ـ تعالى ـ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] .
ثانياً: لعل من أسباب الانهيار امتناع جملة من المساهمين من إخراج زكاة الأسهم، متعذرين بأسباب واهية كعدم وجود السيولة لديهم؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما خالطت الزكاة مالاً قط إلا أهلكته» (2) . وقال ـ تعالى ـ ذاكراً عقوبة من منع المساكين حقهم: {إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إنَّا إلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17 - 33] ؛ فإن قيل: فهناك المزكون وغير المرابين في السوق وقد شملتهم الخسارة؟ أقول: أذكرهم بحديث أم المؤمنين زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ قالت: «قلت: يا رسول الله، أنهلكُ وفينا الصالحُون؟ قال: نعم! إذا كثُر الخبثُ» (1) .
ولعل من أهم ما ينبغي فعله عند هذا الابتلاء:
أولاً: الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ وتذكر أحكامه، والعمل بها. قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] .
ثانياً: الصبر؛ وهو: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش (2) . والصبر: هو الأساس الأكبر لكل خلق جميل، والتنزه من كل خلق رذيل، وهو حبس النفس على ما تكره وعلى خلاف مرادها؛ طلباً لرضى الله وثوابه (3) .
وهو عبادة غفل عنها الكثير؛ لذا لا بد منه، واستحضار الأجر العظيم والثواب الكبير الذي أعده الله ـ تعالى ـ للصابرين، ومن ذلك:
1 ـ محبة الله ـ تعالى ـ لهم. قال ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] ، وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن عِظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله ـ تعالى ـ إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (4) .
2 ـ إن الصبر سبب لرفع الدرجات وتكفير السيئات. قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، قال سليمان بن القاسم: كل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر (5) .
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته؛ كما تحط الشجرة ورقها» (6) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس من مؤمنِ يُصيبه نكْبةُ شوكة ولا وجع إلاَّ رفع الله ـ عزّ وجلّ ـ له بها درجةً، وحطَّ بها عنه خطيئةً» (7) .
والصبر مثل اسمه مرٌ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسلِ (8)
3 ـ أنه ـ سبحانه ـ جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور. أي: مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلِّها وأشرفها، فقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] .
وقال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] .
4 ـ قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «إنه ـ تعالى ـ جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم، وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم. قال ـ تعالى ـ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] ، وقال بعض السلف وقد عُزِّي على مصيبة نالته فقال: ما لي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها؟!» (9) ا. هـ.
صابر الصبرَ فاستغاث به الصبرُ فصاح المحب بالصبر: صبرا
وقيل أيضاً:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمرّ من الصبرِ
5 ـ أنه ـ سبحانه ـ جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به. قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] ، فمن لا صبر له لا عون له (10) .
ثالثاً: أنْ نعلم أنَّ الله ـ تعالى ـ هو المعطي وهو المانع، بيده ملكوت كل شيء. قال ـ تعالى ـ: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] وفي الحديث القدسي: «يا عبادي، كلُّكم جائع إلا من أطعمتهُ؛ فاستطعموني أُطعِمكمْ، يا عبادي، كلُكمْ عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسُكُم ... » إلى قوله: « ... يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي؛ إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر» (1) .
رابعاً: أن نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يخشَ الفقر علينا. فعن عمرو بن عوف ـ رضي الله عنه ـ قال: «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف، فتعرضوا له، فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهُم، ثمَّ قال: «أظُنُّكم سمعتُم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟» فقالوا: أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأمَّلوا ما يسُرُّكُمْ، فو الله ما الفقر أخشى عليكم؛ ولكني أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككُمْ كما أهْلكتْهُم» (2) .
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر؟
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللوحش في الصحراء والحوت في البحرِ (3)
خامساً: سوق الأسهم من أكثر الأسواق صدمات:
فيومٌ علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
وقال أبو الأسود:
وإن امرءاً قد جرب الدهر لم يخف تقلب عصريه؛ لغيرُ لبيب
وما الدهر والأيام إلا كما ترى رزيَّة مال أو فراق حبيب
وقيل:
إذ ما أتاك الدهر يوماً بنكبة فافرغ لها صبراً ووسع لها صدرا
فإن تصاريف الزمان عجيبة فيوماً ترى يسراً ويوماً ترى عسرا
قال محمود الوراق:
إني رأيت الصبر خير معوّل في النائبات لمن أراد معولا (4)
لذا لا بد أن يربي المشارك فيه نفسه، ويهيئها على تحمل الصدمات مع الاحتساب، ففي الحديث: «إنما الصبرُ عند الصدمة الأولى» (5) .
والاسترجاع عند وقوع المصيبة من العبادات التي نسيها كثير من المساهمين. قال ـ تعالى ـ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] ، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها» ، فهذا إخبار الصادق المصدوق بأن من قال ذلك سيُعوضه الله خيراً مما فقد؛ لذا لابد من التزام ذلك والثقة به، مع عدم الاستعجال؛ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يستجاب لأحدِكُم ما لم يَعْجَلْ، يقول: دعوتُ فلم يُستْجب لي» (6) ، وهذا «يقتضي الإلحاح على الله في المسألة، وألّا ييأس الداعي من الإجابة، ولا يسأم الرغبة، فإنه يستجاب له، أو يكفر عنه من سيئاته، أو يدخر له» (7) ا. هـ. فالدعاء تجارة رابحة على كل حال.
وما مسني عسر ففوضت أمره إلى الملك الجبار إلا تيسرا (8)
قال العلامة السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «متى مرن العبد نفسه على الصبر، ووطنها على تحمل المشاق والمصاعب، وجدَّ واجتهد في تكميل ذلك، صار عاقبته الفلاح والنجاح، وقلَّ من جَدَّ في أمر تَطَلَّبه، واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر» (1) ا. هـ.
صبرنا له صبراً جميلاً، وإنما تفرج أبواب الكريهة بالصبر
سادساً: أن نعلم أن الصبر يحتاج إلى مجاهدة وتحمل، فهو لا يأتي بسهولة ويسر؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ومن يتصبر يُصبرهُ الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر» (2) .
فصبراً يا بني الأحرار صبراً فإن الدهر ذو سعة وضيق
وهذه سنة الله ـ تعالى ـ الكونية؛ في تغير أحوال الناس كتغير فصول العام، من غنى وفقر وصحة وسقم.
اصبر لدهر نال مننك فهكذا مضت الدهورُ
فرحٌ وحزنٌ تارةً لا الحزنُ دام ولا السرورُ (3)
السابع: لا بد أن نعلم أن من أركان الإيمان: أن نؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره. قال ـ تعالى ـ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا غلام ـ أو يا غُليم ـ ألا أُعلِّمُك كلمات ينفعُك الله بهنَّ؟» فقلت: بلى. فقال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إلىه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ، فلو أن الخلق كُلَّهُمْ جميعاً أرادوا أنْ ينفعوك بشيء لم يكْتُبْهُ الله عليك لم يقْدِروا عليه، وإن أرادوا أنْ يضرُّوك بشيء لم يكتُبه الله عليك لم يقدِروا عليه، واعلم أنَّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرْب، وأن مع العسر يُسراً» (4) .
لذا ذكر العلماء أن أنواع الصبر ثلاثة:
صبرٌ على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبرٌ على امتحان الله (5) .
«ولهذا قال غير واحد من السلف والصحابة والتابعين لهم بإحسان: لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. فالإيمان بالقدر، والرضا بما قدره الله من المصائب، والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان» (6) ا. هـ.
هوِّن عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيُّها ولا قاصر عنك مأمورها (7)
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «إنه ـ سبحانه ـ قَرَنَ الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها، فقرنه بالصلاة؛ كقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] ، وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً؛ كقوله: {إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11] ، وجعله قرين التقوى؛ كقوله: {إنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] ، وجعله قرين الشكر؛ كقوله: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] ، وجعله قرين الحق؛ كقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] ، وجعله قرين الرحمة؛ كقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] ، وجعله قرين اليقين؛ كقوله: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، وجعله قرين الصدق؛ كقوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب: 35] ، وجعله سبب محبته ومعيّته ونصره وعونه وحسن جزائه؛ ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً» (8) ا. هـ.
فقد ذكره الله ـ تعالى ـ في مواضع كثيرة قال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ: «ذكر الله ـ سبحانه ـ الصبر في القرآن في تسعين موضعاً» (9) ا. هـ.
قال الأبشيهي: «فلو لم يكن الصبر من أعلى المراتب وأمنى المواهب، لما أمر الله ـ تعالى ـ به رسله ذوي الحزم، وسمّاهم بسبب صبرهم أولي العزم، وفتح لهم بصبرهم أبواب مرادهم وسؤالهم، ومَنَحَهم من لدنه غاية أمرهم ومأمولهم ومرامهم، فما أسعد من اهتدى بهداهم واقتدى بهم، وإن قصر عن مداهم! وقيل: العسر يعقبه اليسر، والشدة يعقبها الرخاء، والتعب يعقبه الراحة والضيق» (1) ا. هـ.
الثامن: أنْ نعلم أن بعد العسر يسراً. قال ـ تعالى ـ: {فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود بإسناد جيد من طريق قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشَّر أصحابه بهذه الآية فقال: «لن يغلب عسر يسرين إن شاء الله» (2) .
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه» (3) .
إذا ضاقت بك الدنيا ففكر في «ألم نشرح»
فعسر بين يسرين متى تذكرهما تفرح
وقيل:
أيها البائس صبراً إن بعد العسر يسراً
وقيل:
اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير وكل أمر له وقت وتدبير
وقيل:
فكم من رجل رأيناه باكيا فما دارت الأيام حتى تبسّما
وهذه ليست بأول شدة تمرُّ على البلاد أو العباد، بل قد مرَّ عليها غير ذلك وكشفها الرحمن الرحيم.
هي شدةٌ يأتي الرخاء عقيبها وأسى يبشر بالسرور العاجل
وقيل:
وكل شديدة نزلت بقوم سيأتي بعد شدتها الرخاء
وقيل:
اصبر لأحداث الزمان فإنما فرج الشدائد مثل حلِّ عقال
وقيل:
بالصبر تدرك ما ترجوه من أمل فاصبر فلا ضيق إلا بعده فرج
وقيل:
أما والذي لا يعلم الغيب غيره ومن ليس في كل الأمور له كفو
لئن كان بدء الصبر مراً مذاقه لقد يجتني من بعده الثمر الحلو (4)
التاسع: أنه عند حلول المصائب انظر إلى من مصيبته أعظم من مصيبتك، وخسارته أكثر من خسارتك؛ فسيهوِّن ذلك عليك.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ِ-صلى الله عليه وسلم-: «انظُرُوا إلى من أسفل منكم، ولا تنظُرُوا إلى من هو فوقكُم، فهو أجدر ألاّ تزدروا نعمة الله» (5) .
بنا فوق ما تشكو، فصبراً لعلنا نرى فرجاً يشفي السقام قريبا
أما الجزع عند المصائب فهو من المحرمات. عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منَّا من لطم الخُدُود، وشق الجُيُوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (6) ، «وكل هذا حرام باتفاق العلماء» (7) .
للبكاء النساءُ عند الرزايا ولحسن العزاء الرجالُ
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الله ـ تعالى ـ إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (8) .
قال ـ تعالى ـ: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] .
ما أحسن الصبر في الدنيا وأجمله عند الإله، وأنجاه من الجزع!
من شدَّ بالصبر كفاً عند مؤلمه ألوت يداه بحبل غير منقطع (1)
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها» (2) .
وجاء في الحديث «ولا يحبط جزعُك أجرك فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد شيئاً ولا يدفع حزناً، وما هو نازل فكان قد» (3) .
ضجرُ الفتى في الحادثات مذمَّة والصبر أحسن بالرجال وأليق
قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: «ليس مع العزاء مصيبة، وليس مع الجزع فائدة» (4) ا. هـ.
وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك وأنت مأثوم» (5) ا. هـ.
واصبر، ففي الصبر خير لو علمت به لكنت باركت شكراً صاحبَ النعم
واعلم بأنك إن لم تصطبر كرماً صبرت قهراً على ما خُط بالقلم
قال يحيى بن زياد ـ رحمه الله تعالى ـ: «أما بعد: فإن المصيبة واحدة إن صبرتَ، ومصائب إن لم تصبر» (6) ا. هـ.
وقال ابن السماك ـ رحمه الله تعالى ـ: «عليكم بتقوى الله والصبر؛ فإن المصيبة واحدة إن صبر لها أهلها، وهي اثنتان إن جزعوا» (7) ا. هـ.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأُمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب، فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره، والجزع والتسخط والتشكي يزيد في المصيبة ويذهب الأجر» (8) ا. هـ.
وقال الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن العبد لا بد أن يُصاب بشيء من الخوف والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وهو بين أمرين: إما أن يجزع ويضعف صبره، فيفوته الخير والثواب، ويستحق على ذلك العقاب، ومصيبته لم تقلع ولم تخف، بل الجزع يزيدها؛ وإما أن يصبر، فيحظى بثوابها. والصبر لا يقوم إلا على الإيمان، وأما الصبر الذي لا يقوم على الإيمان كالتجلد ونحوه، فما أقل فائدته، وما أسرع ما يعقبه الجزع! فالمؤمنون أعظم الناس صبراً ويقيناً وثباتاً في مواضع الشدة» (9) ا. هـ.
لا تيأسن إذا ضقت من فرج يأتي به الله في الروحات والدلج
وإن تضايق باب عنك مرتتج فاطلب لنفسك باباً غير مرتتج
فما تجرع كأس الصبر معتصم بالله إلا أتاه الله بالفرج (10)
ومهما يكن فإنه مع كل ما حدث، وزَعْمِ أكثر المساهمين أنه قد أخطأ في دخول سوق الأسهم، وأنه يتمنى الخروج منه برأس المال، مع ذلك كله وكثرة مرددي ذلك؛ إلا أني أجزم بأن السوق لو ارتد لعادوا إليه، ونسوا كل ما حدث: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] .
أسأل الله ـ تعالى ـ أن يفرج هم المهمومين، وينفس كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، إنه جواد كريم، والله ـ تعالى ـ أعلم وأعظم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) قاضي المحكمة العامة بمحافظة رماح.
(1) رواه أحمد (3809) ، وأبو يعلى (4981) ، وابن حبان (4410) ، قال الهيثمي: «رواه أبو يعلى وإسناده جيد» . ا. هـ، مجمع الزوائد (4/118) .
(2) رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي (237) ، والبيهقي (4/159) ، وقيل في تفسير الحديث: «يكون قد وجب عليك صدقة فلا تخرجها فيُهلك الحرامُ الحلالَ» . مشكاة المصابيح (1/562) ، المطالب العالية (5/589) ، مرقاة المفاتيح (4/250) .
(1) رواه البخاري (3403) ، ومسلم (2880) .
(2) مدارج السالكين (2/156) ، خطب السعدي (290) .
(3) فتح الرحيم الملك العلام للسعدي (107) .
(4) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. رياض الصالحين (18) ، والترغيب والترهيب (4/143) .
(5) عدة الصابرين (58) . (6) رواه البخاري (5324) .
(7) رواه أحمد (25846) ، وابن حبان (2919) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(8) مدارج السالكين (2/158) .
(9) عدة الصابرين (58) . (10) عدة الصابرين (58) .
(1) رواه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (2988) ، ومسلم (2961) .
(3) من أعذب الشعر لليامي (105) .
(4) المستطرف (2/142) .
(5) رواه البخاري (1223) ، ومسلم (926) ، من حديث أنس رضي الله عنه.
(6) رواه البخاري (5981) ، ومسلم (2735) .
(7) الاستذكار (2/526) .
(8) المستطرف (2/142) .
(1) فتح الرحيم الملك العلام (108) .
(2) رواه البخاري (1400) ، ومسلم (1053) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) من أعذب الشعر (105) .
(4) رواه أحمد (2804) .
(5) مدارج السالكين (2/156) .
(6) منهاج السُنَّة (3/26) .
(7) من أعذب الشعر (120) .
(8) عدة الصابرين (61) .
(9) عدة الصابرين (57) ، مدارج السالكين (2/152) ، رسالة في التوبة لابن تيمية (250) ، التحفة العراقية (54) ، طريق الهجرتين (400) .
(1) المستطرف (2/149) .
(2) فتح الباري (8/712) ، وقال في تغليق التعليق (4/372) : «رواه عبد بن حميد من حديث ابن مسعود موقوفاً بسند جيد» ا. هـ.
(3) الطبراني في المعجم الكبير (9977) .
(4) المستطرف (2/144) .
(5) رواه مسلم (2963) .
(6) رواه البخاري (1232) .
(7) الكبائر (1/183) .
(8) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، رياض الصالحين (18) ، الترغيب والترهيب (4/143) .
(1) المستطرف (2/144) .
(2) العدة (19) ، مدارج السالكين (2/156) ، وانظر: التحفة العراقية (54) ، طريق الهجرتين (400) ، مؤلفات السعدي (1/76) .
(3) رواه الحاكم (3/306) ، والطبراني في الأوسط (83) ، والكبير (20/155) ، وابن عساكر في التاريخ (58/449) ، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال الحاكم: «غريب حسن؛ إلا أن مجاشع بن عمرو ليس من شرط هذا الكتاب» أ. هـ. قلت: مجاشع ضعيف، ومعنى الحديث صحيح.
(4) رواه ابن عبد البر في التمهيد (19/325) ، وابن عساكر في التاريخ (30/336) .
(5) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (9/139) ، وانظر: كنز العمال (15/315) ، وفيض القدير (4/378) .
(6) تاريخ دمشق (64/222.)
(7) شعب الإيمان (7/248) ، حلية الأولياء (8/208) .
(8) مدارج السالكين (2/155) .
(9) تيسير اللطيف المنان (214) .
(10) من أعذب الشعر (63) .(230/10)
أولاد الصالحين
محمد بن عبد الله الدويش
الصالحون كغيرهم من الناس يشاركون الآخرين سائر مشكلاتهم وأزماتهم؛ فهم جزء من المجتمع يتأثرون بما فيه.
وفي المقابل لهم خصوصيات نتيجة تدينهم، أو نتيجة أدوارهم التي يؤدونها في المجتمع، أو نظرة الآخرين لهم، أو توقعاتهم منهم.
ومن أكثر ما يعانيه الصالحون اليوم - كغيرهم من الناس - شأن تربية الأولاد؛ إذ لم تعد الأسرة أو أي مؤسسة تربوية تستقل برعاية نشئها؛ فالواقع مليء مزدحم بالمؤثرات.
وبقدر ما يعيش أولاد الصالحين ثمرات صلاح والديهم وبيئتهم فهم يعايشون أزمات ومشكلاتٍ؛ شأنُهم في ذلك شأن سائر الناس.
لأود الصالحين مكاسب ليست لغيرهم من الآخرين، وهي تتطلب ممن يرعى شأنهم الوعي بها وتوظيف ما يمكن توظيفه منها.
ومن هذه المكاسب:
3 بركة صلاح والديهم؛ فإن صلاح الوالدين له أثره على صلاح أولادهم؛ فقد أخبر ـ عز وجل ـ أن الغلامين اليتيمين في المدينة قد أدركتمها بركة صلاح والديهما: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82] .
3 ومن آثار صلاح الوالدين أنهما في الأغلب أكثر صلة بالله عز وجل، وأكثر دعاء وتضرعاً له ـ سبحانه ـ بصلاح الذرية، وأنهما في الأغلب أقرب لإجابة الدعاء.
3 البيئة الصالحة المحافظة التي يعيشونها في منازلهم؛ فهي تحميهم من كثير من المؤثرات التي امتلأت بها بيوت الآخرين، وتبعدهم عن التعرض لكثير من العوارض السيئة التي يتعرض لها غيرهم.
3 اعتناء الآخرين بهم، وشعورهم بأنهم محط الأنظار والاهتمام من الآخرين مما يقودهم إلى التحرُّج عن بعض ما يسوغ لغيرهم، وإلى الشعور بأنهم قد يسيئون لأهلهم حين يسايرون الآخرين فيما هم عليه.
والحديث عن الفرص والمزايا واسع، وأغلبها مما لا يحتاج إلى تعداد وتأكيد.
لكن في مقابل ذلك مشكلات يحتاج الوالدان ومن يتعامل مع أولاد الصالحين إلى الوعي بها.
ومن هذه المشكلات:
اعتقاد كثير من الصالحين أن التربية إنما تتم من خلال التوجيه المتصل بالتدين، وأن التدين الشخصي وحده كافٍ في تأهيلهم لمواجهة مشكلات الحياة ومواقفها، ومن ثم يهملون بناء شخصية أولادهم، فيأتيهم الخلل حتى في تدينهم من خلال ذلك، ومن هذا على سبيل المثال:
يحتاج الأولاد في هذا العصر، حتى يواجهوا المؤثرات، إلى: قوة الإرادة والعزيمة، وإلى الثقة بالنفس، ويحتاجون إلى الاستقلالية في الشخصية، وإلى القدرة على التفكير السليم ... إلخ.
فيجهل الوالدان أحياناً أهمية هذه الجوانب، بل ربما قادت كثير من ممارساتهم - التي يسعون من خلالها إلى تنمية التدين لدى أولادهم - إلى الخلل في شخصية أولادهم مما يهيئ فرصاً أكبر لديهم للانحراف.
ومما يتصل بذلك عدم شعور بعض الوالدين بالحاجة إلى تعلُّم ما يعينهم على تربية أولادهم، اكتفاء بما استقر لديهم من أن التربية إنما تتم من خلال تصحيح تدينهم وفق الأسلوب الذي يراه الوالدان.
وللحديث متابعة يتم تناولها بإذن الله في العدد القادم.(230/11)
الطابور
إبراهيم بن سليمان الحيدري
يشدك منظر الأزهار بتنوع أشكالها وتباين ألوانها؟ هل وقفت مرة لتتأمل مشهد الغروب الأخَّاذ؟ واحد من تلك المناظر التي تعجبني وأستمتع بالنظر إليها هو منظر (الطابور) .
نعم (الطابور) ! ذلك الصف البشري الذي يتراصُّ فيه الناس بطريقة عفوية بعضهم خلف بعض للحصول على مبتغى مشترك.
إن جَمال (الطابور) ليس في شكله الخارجي، بل في تلك المعاني الجميلة التي تنبعث من خلاله؛ إذ إن (الطابور) ثمرة لمجموعة من القيم والمبادئ التي يؤمن بها المصطفون فيه: أحدها: ثقافة التنظيم التي يؤمن بها المجتمع وتربى عليها فصار سلوكاً يعيشه وتصرفاً يمارسه، فترى الصغير والكبير، المستعجل والمتأني، يندمج فيه بكل عفوية وهدوء. ومن تلك المعاني: العدل؛ فالمعيار فيه واضح ومنصف، والأولوية لمن يأتي أولاً لا لأصحاب النفوذ والعلاقات. ومنها أيضاً أنه ممارسة اجتماعية متكررة لخُلُق الصبر الكريم الذي حث عليه الشارع في أكثر من موضع. وهو في النهاية ترجمة فعلية لاحترام الآخرين والاعتراف بحقوقهم.
(الطابور) كحركة المرور في الشارع مؤشر نسبي على مستوى تحضُّر المجتمع ودرجة رقي تعامل أفراده بعضهم مع بعض، وقوة أو ضعف أجهزته الحكومية.
لا شك أن طوابير العالم ليست كلها متشابهة؛ إذ إن ذلك النوع من (الطابور) الذي لا يتكون إلا من خلال سَوْط جلاَّد أو بعد موجات صوتية من السب وسيل من الشتائم، لا شك أنه لا يحتوي ولا يدل على أي معنى جميل، ولا أظنه منظر يجذب العين أو يدغدغ أصحاب المشاعر المرهفة.
بقي الإشارة إلى أنه ما لم تتطور دولنا العربية لنستطيع أن نطلب الخدمات والسلع من خلال الإنترنت أو الهاتف، ونحصل عليها من خلال البريد فإنه ينبغي أن نمارس (الطابور) عن طواعية، أو أن نرضى بتزاحُمِنا على نوافذ صغيرة وتَكَدُّسِنا عند الأبواب في ممارساتٍ البقاءُ فيها للأقوى جسداً، والأكثر علاقاتٍ.
__________
(1) كلمة عامية تعني: (القِطار) .
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(230/12)
انتشار النصرانية بالسيف
أ. د. جعفر شيخ إدريس
نقل البابا عن الإمبراطور البيزنطي كلمته الفاجرة التي قال فيها لمن زعم أنه محاوره: «دلني على شيء جاء به محمد كان جديداً، ولن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره بأن تنشر العقيدة التي جاء بها بالسيف. إن الله لا تسره الدماء، ولا تسره التصرفات غير العقلية» . فقلت سبحان الله! رمتني بدائها وانسلت. وهل عَهِدَ الناس أهل دين هم أبعد عن العقلانية وأكثر ولوغاً في الدماء وفي ظلم العباد من المنتسبين إلى ما يسمونه بالمسيحية؟
رددت على السخافات التي جاءت في محاضرة البابا كما رد عليها كثيرون غيري من المسلمين وغير المسلمين (1) ، وبينَّا أن الحروب التي خاضها المسلمون كانت حروباً ضد الظلم، الظلم بكل أنواعه، ظلم المعتدين على المسلمين، وظلم الصادين الناس عن الدين، وظلم الناقضين لعهود أبرموها مع المسلمين، ولم تكن أبداً لإدخال الإيمان كرهاً في قلب أحد من العالمين. وبينَّا أنهم لم يحاولوا ذلك؛ لأنهم علموا من دينهم أن الإيمان مسألة قلبية، وأنه لا مخلوق له سلطان على قلوب العباد.
لكننا في هذا المقال نود أن نقول للبابا: إنه كان يجدر به أن يتكلم عن العنف الذي استعمله قومه الغربيون على مر الزمان لإكراه الناس على قبول دينهم وثقافتهم. ولا نريد أن نفعل كما فعل هو حين استشهد على افترائه بشهادة رجل من بني دينه عدو حاقد مغلوب. لن نستشهد على زعمنا بشهادة رجال مسلمين، وإنما سنُشهِد عليه شهداء من غير المسلمين، فنقول:
أولاً: هذه هي المؤرِّخة الشهيرة (Karen Armstrong كيرن آرمسترونج) تكتب رداً على محاضرة البابا تبين فيها:
1 ـ إن زعم رجال الفاتيكان بأن غرض البابا هو «أن ينمي اتجاه احترام وحوار نحو الأديان والثقافات الأخرى، ومن البديهي نحو الإسلام» ليس أمراً واضحاً في كلماته، وتشبهه في هذا برجل دين مثله في القرن الثاني عشر وجَّه رسالة إلى المسلمين بدأها بقوله: «إنني أريد أن أواصلكم بالكلمات لا بالسلاح، وبالعقل لا بالعنف، بالحب لا بالبغض» . لكنه جعل عنوان رسالته «ملخص لهرطقة العرب الشيطانية كلها» . وتحدث فيها عن «قسوة الإسلام الحيوانية» وزعم أن محمداً وطَّد أمره بالسيف. «هل كان محمد نبياً حقاً» ؟ تساءل ثم أجاب «سأكون أسوأ من حمار إذا وافقت. أسوأ من الأنعام إذا أقررت» .
2 ـ تُنكِر المؤرخة أن يكون الإسلام قد انتشر بالسيف، وهي صاحبة كتاب بالإنجليزية عنوانه «موجز لتاريخ الإسلام» A Short History of Islam. .
3 ـ وتذكِّر البابا «بأن بعض الصليبيين الأوائل بدؤوا رحلتهم إلى الأرض المقدسة بذبح كل الجماعات اليهودية الساكنة على ضفاف نهر الراين، وأنهم أنهوا حربهم الصليبية في عام 1099 بعد أن ذبحوا ثلاثين ألف مسلم ويهودي في القدس» .
ثانياً: كتب رئيس حركة السلام الإسرائيلية يوري أفنيري (2) Uri Avnery ـ الذي وصف نفسه بأنه يهودي ملحد ـ رداً علمياً على البابا ذكر فيه من بين ما ذكر المسائل التالية:
1 ـ أن الحوار المزعوم أمر مشكوك فيه، وأن الإمبراطور لم يذكر لنا اسم الرجل الذي حاوره.
2 ـ أن الإمبراطو عمانيويل الثاني الذي تولى الحكم في عام 1391 كان على رأس إمبراطورية تحتضر؛ إذ لم يبق لها من محافظاتها إلا القليل، وكان هذا القليل واقعاً تحت تهديد الأتراك.
3 ـ في يوم 29 من شهر مايو عام 1453 وبعد عدة سنين من موت هذا الإمبراطور سقطت عاصمته، القسطنطينية (إسطنبول) في يد الأتراك.
4 ـ إبان حكمه تجول هذا الإمبراطور في أوروبا محاولاً أن يقنع الأوروبيين بمساعدته ضد الأتراك، وأن يبدؤوا حرباً صليبية جديدة، واعداً إياهم بأنه سيوحد الكنيسة. وأن هذه الرسالة كتبت في هذا الوقت لأسباب سياسية.
5 ـ محاضرة البابا بندكت السادس عشر كانت أيضاً خدمة للإمبراطور الجديد جورج بوش الذي يسعى لتوحيد العالم النصراني ضد محور الشر الذي هو في غالبه مسلم، وضد مجيء الأتراك إلى أوروبا.
6 ـ إن قضية معاملة المسلمين لأهل الأديان الأخرى يجب أن يحكم عليها بسؤال بسيط: ماذا فعلوا بهم عندما كانت لهم القدرة على إكراههم على الإسلام؟ إنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا. لقد حكم المسلمون اليونان لعدة قرون؛ فهل صار اليونانيون مسلمين؟ لقد تبوأ اليونان النصارى مناصب كبيرة في الإدارة التركية. لقد عاش البلغاريون والصرب والرومانيون والهنغاريون وغيرهم من الأمم الأوروبية تحت الحكم التركي في وقت أو آخر لكن أحداً لم يكرههم على الدخول في الإسلام، فظلوا على دينهم النصراني.
7 ـ في عام 1099 تغلب الصليبيون على القدس وذبحوا سكانها من المسلمين والنصارى؛ في ذلك الوقت ـ وبعد 400 عام من الحكم الإسلامي كان النصارى ما زالوا أغلبية في القطر.
8 ـ ليس هنالك من دليل ألبتة على فرض الإسلام على اليهود. وكما هو معروف؛ فإن اليهود تمتعوا تحت الحكم الإسلامي في أسبانيا بازدهار ليس له مثيل إلا في ما يقارب هذه الأيام. كانوا كُتَّاباً وشعراء ووزراء وعلماء. لقد كان ذاك هو عهدهم الذهبي؛ فكيف يمكن لهذا أن يحدث إذا كان النبي قد أمر بنشر الإسلام بالسيف؟
9 ـ عندما استولى الكاثوليك على أسبانيا مرة أخرى فإنهم أنشؤوا عهداً من الرعب الديني؛ إذ إنهم خيَّروا المسلمين واليهود بين أن يتنصَّروا أو يُذبحوا أو يغادروا البلاد. أين ذهب اليهود الذين فضلوا البقاء على دينهم؟ هاجروا إلى العالم الإسلامي، وانتشروا فيه من دولة المغرب في الغرب إلى العراق في الشرق، إلى بلغاريا (التي كانت تابعة لتركيا) في الشمال، إلى السودان في الجنوب.
10 ـ إن كل يهودي مخلص يعرف تاريخ قومه لا يملك إلا أن يشعر بالعرفان العميق للإسلام الذي حمى اليهود لمدة خمسين جيلاً، بينما كان العالم المسيحي يعذبهم ويحاول إكراههم بالسيف على التخلي عن دينهم.
ثالثاً: إن استعمال النصارى للعنف في فرض ثقافتهم على غيرهم لم ينته بنهاية القرون الوسطى، وإنما هو أمر مستمر إلى يومنا هذا. استمع إلى (هنتنجتون) وهو يقول في كتابه الشهير (صراع الحضارات) وفي صراحة عجيبة:
«لم يتغلب الغرب على العالم بتفوق في أفكاره أو قِيَمه أو دينه (الذي لم تعتنقه إلا قلة من أبناء الحضارات الأخرى) وإنما غلب بتفوقه في العنف المنظم. إن الغربيين كثيراً ما ينسون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبداً» (2) .
رابعاً: إن غزو الغرب للعالم باستعمال ذلك العنف المنظم كان أمراً تواطأ عليه كل الناس في الغرب إلا ما ندر؛ فها هو الأستاذ (إدوارد سعيد) يحدثنا في كتابه (الاستعمار الثقافي Cultural Imperialism) أنه كان أمراً تواطأ عليه السياسيون والمفكرون والفلاسفة والشعراء وكُتَّاب القصص الشهيرة من أمثال ديكنز وغيرهم.
أقول، ونحن كثيراً ما ننسى أمراً يؤيد كلام (إدوارد سعيد) هذا: إن الحركة الإمبريالية الاحتلالية للعالم كانت بقرارات ديمقراطية في كل البلاد الأوروبية، وأن حركة استجلاب الأفارقة من بلادهم واسترقاقهم كانت أيضاً بقرارات ديمقراطية (بينما لم يكن تحريرهم بقرار ديمقراطي كما يحدثنا فريد زكريا في كتابه عن مستقبل الحرية) مما يعني أن غالبية ممثلى الأمة بمن فيهم المتدينون كانوا مؤيدين لها.
خامسا: وهذا (كيفن فيليبسKevin Philips) يصدر كتاباً جديدا يسميه (أمريكا الثيوقراطية) (1) يذكر فيه حقائق مذهلة عن العلاقة القوية بين الدين وسياسة أمريكا الخارجية، بل والتأثير الكبير للدين على سياسة أوروبا طوال القرون.
من هذه الحقائق:
1 ـ أن الاستعمار الأوروبي للعالم ولا سيما العالم الإسلامي كانت له دوافع أو مسوغات دينية، بل كانت هنالك روابط قوية بين التوسع الإمبراطوري وبين الدعاة الدينيين «انظر إلى المبشرين الذين صارت أسماؤهم رموزاً للاستعمار: (ديفيد لفنجستون) المستكشف، (الجنرال غردون) الذي ذُبح في الخرطوم، والجنرال هنري هيفلوك» (ص. 255) .
2 ـ ينقل الكاتب عن المؤرخ آرثر ماروك قوله: «إن كبار رجال الكنيسة أقدموا بحماس على (الحرب المقدسة) » وقوله: نقلاً عن قسيس كاتدرائية سنت جايلز بأدنبرة قوله: «إن الكنيسة قد صارت إلى حد مؤسف أداة في يد الدولة، وأنه في كثير من المنابر الكنسية كان الواعظ قد تقمص مهمة الرقيب العسكري المكلف بالتجنيد، وأن العلم البريطاني ارتفع على كل أماكن العبادة في طول البلاد وعرضها» . (ص255) .
3 ـ أما الدوافع الدينية لبوش وجماعته في سياستهم الخارجية بل والداخلية فأمر لا شك فيه كما يبين الكاتب. فهو يقول إنه ثبت عن بوش قوله: «أعتقد أن الله يتكلم بوساطتي، ولولا ذلك لما استطعت أن أؤدي مهمتي» . وينقل عن توم دي لاي قوله: «إن الله يستعملني دائماً وفي كل مكان للدفاع عن نظرة الكتاب المقدس العالمية في كل ما أفعل وحيثما كنت. إنه هو الذي يدربني» .
4 ـ قبيل الهجوم الأمريكي على العراق في عام 2003 كتبت مجلة نيوزويك مقالاً عن رحلة بوش من العربدة إلى التدين، ذكرت فيه أن الرئيس ينغمس كل صباح في قراءة مواعظ تبشيرية للواعظ الأسكتلندي المتجول أوزولد شيمبرز الذي كان قد قضى أيامه الأخيرة في وعظ الجنود الأستراليين والنيوزيلنديين الذين كانوا قد حشدوا في مصر في عام 1917 تمهيداً لغزو فلسطين والاستيلاء على القدس في يوم عيد الميلاد.
5 ـ بعد عام من استيلاء الجيش الأمريكي على بغداد كانت هنالك ثلاثون منظمة تبشيرية، كما وجدت جريدة لوس أنجلس تايمز في استطلاع لها أخبرها فيه المدير الإداري لرابطة المبشرين القومية: «أن العراق سيكون المركز الذي تنتشر منه رسالة المسيح عيسى إلى إيران وليبيا وكل مكان في الشرق الأوسط» . وقال مسؤول في منظمة أخرى: إن الأحوال في العراق: «حرب من أجل الأرواح» . ولهذا فإنه في غضون سنتين انطلقت سبع منظمات تبشيرية في بغداد وحدها.
أقول: إن ما يحدث في العراق هو ديدن الحركة الإمبريالية منذ بداياتها، إن قواتها تكون دائماً هي الحامية للمنظمات التبشيرية. حدث هذا في السودان حين انتشرت المنظمات التبشيرية في الجنوب وكان من نتائج ذلك ما كان، وهي تنتشر الآن في دارفور.
وأقول: إذا لم يكن كل هذا نشراً للمسيحية بالسيف؛ فلست أدري ما معنى النشر بالسيف؟ لقد كنا نقلل من أهمية الدافع الديني في السياسة الخارجية الغربية، ونعتقد أن الأمر ـ كما يظهر ـ إنما هو مطامع اقتصادية ونزوات سياسية، لكن عزاءنا أنه هكذا كان يظن كثير من علماء السياسة ومنظروها من الغربيين أنفسهم كما يقول صاحب هذا الكتاب، حتى كان غلو بوش هو الذي نبههم إلى أن الأمر ليس كما كانوا يظنون، وأنه إذا كان بوش قد غلا في الأمر، فإنه ليس أول من بدأه، وإنما هو شيء درجت عليه السياسة الغربية ولا سيما فيما يتعلق بالعالم الإسلامي.
فماذا بعد أن انتبهنا وعرفنا الحقيقة؟
__________
(1) تجد كثيراً من هذه الردود في موقع النصرة.ncsfp.com.
(1) Uri Avnery is an Israeli author and activist. He is the head of the Israeli peace movement, "Gush Shalom". http:// zope.gush-shalom.org/home/en
(2) Huntington, Samuel, The Calsh of Civilizations, Simon & Schuster, 1997, p 53]
(1) Kevin Philips, American Theocracy, Viking, 2006.(230/13)
قلب
السيد حسن
قلب يردد حالماً نجواهُ
قلب يتوق إلى السماء؛ فما له
هو صادحٌ مترنمٌ بغنائِهِ
ترجيعُهُ صبحٌ، له إشراقُهُ
تسبيحُهُ فجرٌ له آذانُهُ
لو مسَّ أكمامَ الزهور تفتحتْ
وحديثهُ ليلٌ له تَذكارهُ
لو مسَّ إحساسَ الصخورِ أذابَهُ
هذي صلاة النفس تشرق بالنهى
هذا دعاء القلب حين يهزني
يغدو دعائي في الصباح قصيدة
فأزفُّها للتائهينَ لعلها
وأزفها للطيبين أزفها
وأصيحُ يا رباه! قلبي ظامئ
ويبث غيمات الفضاء نِداهُ
كل الطيور تصاعدت إلاهُ؟
فالكون يسمعه وليس يراهُ
وله رقيقُ نسيمِهِ ونَدَاهُ
تكبيرُه، تهليلُهُ، ودعاهُ
أو جاءَ ظمآنَ الفؤاد سقاهُ
وله تألقُ أفقهِ ومداهُ
أو مسَّ وجدانَ الحياةِ شجاهُ
فأخُطُّ من شوقٍ إليك سبيلا
أرنو إلى صفوِ السماء طويلا
نشوى تضيء سرائراً وعقولا
تغدو له وسط الدجى قنديلا
فيصيرُ شعري فوقهم إكليلا
والعقل يشكو حيرةً وذهولا
وابعث لقلبي من هداكَ دليلا
(صلاة)
__________
(*) مقدم برامج ثقافية ـ بإذاعة جمهورية مصر العربية ـ البرنامج العام.(230/14)
التفكير النقدي
د. عبد الكريم بكار
كثيراً ما يجفل وعيُنا من النقد والنقّاد، ونقف موقف الحذر من أولئك الذين يكشفون عن المفارقات المقلقة في حياتنا العامة، ولست أدري لماذا يحدث ذلك: هل لأن النقد يكسر إلْفنا للأوضاع السائدة، ويطالبنا ـ من ثم ـ بالتغيير؟ أو لأن النقد ينطوي على نوع من الإدانة لنا بسبب إبرازه للعيوب والأخطاء؟ أو لأن النقد يمنح صاحبه تفوّقاً فورياً على أقرانه، على حين أن التفكير البنائي يحتاج إلى فترة طويلة حتى تظهر ثماره، مما يدفعنا إلى الغيرة من النقّاد؟ أو أن هناك أسباباً أخرى لنفورنا من النقد وأهله؟ على كل حال؛ فإن الذي نعتقده هو أن الخدمة التي يقدِّمها التفكير النقدي على صعيد محاصرة الأخطاء والشرور لا تقدر بأيِّ ثمن. والذي أودُّ أن أنبِّه عليه في البداية هو أن النقد لا يعني: التركيز على السلبيات والمعائب والنواقص فحسب، كما قد يُتوهم، وإنما يعني: الكشف عن مساحات الجمال والإبداع في العمل أو النشاط، كما هو الشأن في النقد الأدبي، حيث إن الناقد لا يتحدث عن هفوات الشاعر أو الناثر فحسب، وإنما يتحدث أيضاً عن الأفكار العظيمة في العمل الأدبي، وعن الصور البيانية الرائعة. وهذه بعض الملاحظات في مسألة التفكير النقدي:
1 ـ التفكير النقدي هو أرقى أنواع التفكير، وهو في الحقيقة أحد ألوان التفكير الإبداعي، وهو على درجة عالية من الأهمية على طريق التغيير والإصلاح. وأنا أدعو إلى التدرّب الشخصي عليه، كما أدعو إلى تدريب الناشئة على مهاراته؛ وإن كل واحد منا سيكون في إمكانه ممارسته إذا عرف قواعده وأصوله وصقل معارفه بالمَرَانة والمِرَاس.
لا شك أن التفكير النقدي متصل بما لدى المرء من قدرات ذهنية، لكن يمكن للمرء ـ إن لم يستطع أن يكون ناقداً من الطراز الرفيع ـ أن يباشر النقد عند المستوى العادي، كما يمكنه أن يقف الموقف الموضوعي ممن يمارسون النقد.
إننا حين نفكر ونخطط ونحلم، نقوم بكل ذلك على نحو طليق وسخيٍّ، لكن حين نأتي للتنفيذ نجد أننا مقيَّدون بقيود الزمان والمكان والإمكانات المتاحة، وأحياناً تتدخل رغباتنا وأهواؤنا وقصورنا التربوي، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى وجود مفارقة ـ كبيرة أو صغيرة ـ بين ما نقول ونطلب ونتمنى وبين ما هو موجود على أرض الواقع؛ وهذا هو الذي يجعل النقد شيئاً مشروعاً ومطلوباً. فالناقد الجيد الذي نحتاج إليه في كل مجالات الحياة، هو ذلك المفكِّر الذي يرى المفارقة أو المسافة الفاصلة بين ما هو كائن وبين ما يمكن أن يكون، أو ينبغي أن يكون؛ لأن هذه المسافة هي جماع العِلل والمشكلات والأزمات التي تعاني منها الأمة، إنها المسافة الفاصلة بين المرض والعافية والتدهور والازدهار، لكن لا بد من القول: إن رؤية الناقد للصورة التي ينبغي، أو يمكن أن نصير إليها هي رؤية اجتهادية ظنية، كما أن رؤيته للواقع تصدر عن قناعة شخصية ومن زاوية خاصة، فهي أيضاً اجتهادية، وينبني على هذا أن تكون الرّؤى النقدية عبارة عن رُؤى اجتهادية غير ملزمة، لكن الناقد يُضيء المناطق المظلمة في واقعنا ورُؤانا، ويثري الحلول المطروحة والاجتهادات المتوفرة، وهذا ليس بالشيء القليل.
2 ـ فطر الله ـ سبحانه ـ الصغار على حب التساؤل والتشوق إلى فهم كل ما يحيط بهم، وكأن ذلك يشكل الخطوة الأولى على طريق ممارسة (التفكير الناقد) لكن معظم الناس لا يتعلمون فنَّ طرح الأسئلة، ولا يملكون الخبرة والمعرفة الكافية لرؤية المفارقات والتقصيرات، ومن ثمّ فإنهم يألفون الواقع الرديء ويكابدون المشاقّ، دون أن يهتدوا إلى سبيل الخلاص! لنشجع أطفالنا وطلابنا على طرح الأسئلة المتنوعة، ولنحاول أن نصل معهم إلى أجوبة مقنعة وصحيحة قدر الإمكان؛ وقد قال أحد الحكماء: «قد منحني الله ـ تعالى ـ ستة رجال أقوياء يخدمونني، ويعلمونني كل شيء، وهم أصل كل ما أعرفه: (ماذا) ، و (كيف) ، و (متى) ، و (لماذا) ، و (أين) ، و (مَنْ) .
إن رجاله الذين يتعلم منهم هم هذه الأدوات الاستفهامية التي تحيط بأيِّ ظاهرة، وتوفر مدخلاً لتسليط نور الوعي على أيِّ قضية أو مشكلة.
إن الطرح المنظم للأسئلة حول قضية (تراجع الهمِّ الدعوي) ـ على سبيل المثال ـ سوف يساعدنا على زيادة الوعي بأبعاد هذه القضية: مظاهرها، حجمها، الأشخاص أو الفئات أو التيارات التي حدث لديها التراجع أكثر من غيرها، أسباب التراجع، علاج التراجع: مدّته، تكاليفه وأدواته، العقبات التي تواجهه ... إن التساؤل حول هذه الأمور سيساعدنا على فهم القضية وعلاجها، لكنه إلى جانب ذلك سوف يكشف عن شيء خطير؛ هو أن المعلومات الموثوقة والدقيقة التي في حوزتنا حول هذه المسألة هي شبه معدومة، وهذا يؤكد على أهمية جعل التساؤل أساساً في نقد أيِّ قضية من القضايا.
3 ـ يكون التفكير النقدي تفكيراً إبداعياً بامتياز حين يركِّز على إيجاد البدائل؛ والحقيقة أن من النادر أن نجد مفكِّراً ممتازاً ينقد ظاهرة من الظواهر، ويكشف عِللها الكامنة دون أن يكون في ذهنه بعض الأفكار حول ما ينبغي عمله وإحلاله محلّ الأشياء المعطوبة، فإذا وجدنا من ينقد ويجأر بالشكوى من سوء الأحوال في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو التعليم، ثم لم يقدِّم لنا أيَّ حلول أو علاجات أو وصفات إصلاحية، فهذا يعني أنه يقوم بعملية احتجاج مبهمة، ينفِّس فيها عمّا في صدره ليس أكثر. أفضل النقد هو ذلك الذي يتم في ظلال البناء، وإذا تباطأت حركة اليد، فلا بد أن تتباطأ حركة الفكر، فدعوتنا ـ إذاً ـ إلى شيئين: عمل يَتْبعه نقد، ونقد يَتْبعه تغيير وإصلاح. والله وليُّ التوفيق.(230/15)
الدكتور حامد أبو أحمد أستاذ الأدب الأندلسي ينعي العقل العربي
أجرى الحوار: صلاح حسن رشيد
- المفكرون العرب فشلوا في إبراز حضارة الأندلس للجيل الجديد من الإسبان.
- العقل العربي عاجز عن ابتكار أي نظرية معرفية اليوم.
- (لوركا) تأثَّر بكتابات (ابن زيدون) و (ابن حزم) في أشعاره.
- الترجمة أكبر عائق يقف أمام وصول الأدب العربي للعالمية.
- المسلمون مطالبون بعدم التباكي على زوال حضارتهم في الأندلس، بل بإشادة حضارة عصرية تضارعها.
يؤكد الدكتور حامد أبو أحمد - أستاذ الأدب الأندلسي بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر ـ أنَّ أوروبا لا زالت عالة على الحضارة والفكر الأندلسي الإسلامي، مشيراً إلى أن الحضارة الغربية ما كانت لتكون أو لتظهر لولا تأثرها الكبير والواضح - والذي أكّده العلماء الغربيون الثقاة - بالنهضة الشاملة التي أحدثها المسلمون في الأندلس.
حول الأندلس.. الفردوس المفقود، والحضارة والعلم، وقضايا أدبية أخرى نحاور د. حامد أبو أحمد:
البيان: ما سبب الإلحاح المستمر من قِبَل العرب والمسلمين للحديث عن الأندلس (المكان والزمان والحضارة) ؟ وما قيمة هذا الآن؟
3 إن نجاح العرب والمسلمين في فتح جنوب أوروبا والاحتكاك بالفرنجة ـ فرنسا حالياً ـ وإيطاليا، وإقامة دولة ممتدة الأرجاء متقدمة فكرياً ودينياً وإنسانياً وعلمياً، هو انتصار للمسلم في كل زمان ومكان، مكّنه من اعتلاء صرح الحضارة الإنسانية اليوم مثلما كان قديماً، ومن هنا رأى أن الإلحاح الواضح منا في الحديث عن الأندلس (الجنة المفقودة) هو تمنّي إقامة ذات الحضارة والدور حالياً، كما أن حضارة المسلمين في الأندلس تبرز للأوروبيين والغربيين مدى تقدُّم المسلمين وقيادتهم للعالم يومذاك، وتعريفهم بأنه لولا الحضارة الإسلامية في الأندلس ما تقدَّم الأوروبيون علمياً ولا حضارياً؛ لأنهم كانوا يعيشون في تخلّف حادٍّ، وجهل مطبق، وهمجية رعناء.
انتشلهم المسلمون بفضل حضارتهم التي تشمل قيماً إنسانية وفكرية لم يعرفوها من قبل، انتشلوهم من هذه الرَّقْدة والسُّبات العميق ومن عصور الظلام إلى نور الحق والعلم والمدنية والإنسانية الرَّحبة.
فاعلون لا تابعون
البيان: هل على العرب والمسلمين في هذه الفترة الحرجة أن يظلّوا يتباكون على الأندلس السليب، وعلى حضارتهم التي أضاءت أوروبا في مختلف الفروع والعلوم؟ أم أنهم مطالبون بالقيام بذات الدور الحضاري؛ لكيلا يكونوا عالة على أحد؟
3 إن علماء أوروبا يشهدون على تفوّق حضارة الأندلس على حضارة أوروبا اليوم، مستدلين بالقيم الفكرية والآثار المعمارية في قرطبة وإشبيلية، مثل: قصر الحمراء الذي يعتبره الأوروبيون تحفة ليس لها نظير في أي عاصمة أوروبية أخرى، وأجزم أن العرب والمسلمين مطالبون ليس بالبكاء على حضارتهم السليبة؛ ولكن بالبناء عليها والعمل المتواصل من أجل إقامة حضارة عصرية تضارع تلك الحضارة التي شادوها في الأندلس؛ حتى لا يكونوا مجرّد تابعين لا فاعلين في عالم اليوم.
البيان: وكيف ترى الإسبان اليوم؟ وماذا يقولون عن الأندلس ودور المسلم في الحضارة الإنسانية؟
3 فريق كبير من علماء الإسبان ثقاة يعترفون، بل ويشيدون بإسهامات المسلمين العلمية والحضارية والتربوية والاجتماعية والدينية، ويرون أن أثر الأندلس واضح في عالم اليوم، ويقولون أن أوروبا متأثرة إلى أبعد حدٍّ بالفتوح العلمية والاكتشافات التي توصّل إليها المسلمون في الأندلس، كما أنهم لا يستطيعون أن يغمطوا حق العرب والمسلمين من السبق والعبقرية والنبوغ عندما فتحوا جنوب أوروبا، ووصلوا إلى مشارف جبال الأندلس، ولكن هناك بعض الإسبان الذين يتجنون على المسلمين ويتجاهلون إسهاماتهم وما أشاعوه في أوروبا من نهضة كبرى في ذلك الوقت.
البيان: يقال: إن الشاعر الإسباني الكبير (لوركا) اطّلع على كتابات المسلمين في الأندلس، لا سيما الشعر، وأنه كان مفتوناً بكل ذلك إلى أبعد حدّ؛ فما صحة ذلك؟!
3 هذه حقيقة لا ينكرها إلا جاحد، ففي الكتب والصحف الإسبانية نلمس مدى تأثُّر (لوركا) بإنسانية الشعراء المسلمين في الأندلس، وقوله: إن العرب سبقوا أوروبا في معرفة جوهر الإنسان وإنسانيته التي غفلت عنها الحضارة الأوروبية وتناستها إلى غير رجعة، ومن الشعراء الذين كان لهم أثر طيب لدى (لوركا) (ابن زيدون وابن خفاجة وابن قزمان) ، إضافة إلى كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم، حيث وجد فيها (لوركا) معيناً خصباً وواحة فيحاء استمد منها مضامينه الشعرية ومناداته بالعدالة والحرية والسلاح.
البيان: بوصفكم ناقداً أدبياً متخصصاً في الأدب الأندلسي؛ هل نجح المفكرون المسلمون في إبراز المناحي المتشعبة والفريدة لحضارتهم في الأندلس اليوم؟ أم أنهم عجزوا عن ذلك؟
3 رغم أن كل الجامعات العربية الإسلامية توجد بها أقسام لدراسة الأدب الأندلسي، فإن المسلمين قصّروا في هذا الجانب، فلم يكتبوا للإسبان عن أوجه السبق والتفرد التي تميزت بها حضارة الأندلس، في حين أن هؤلاء المسلمين كتبوا فقط لأبناء وطنهم، ومن هنا وقعوا في الخطأ الكبير الذي كنا دائماً نخاف منه، وكنا نعتقد أنهم سيهدفون في كتاباتهم مخاطبة شباب الإسبان اليوم بأسلوب سلس يبرز عظمة ودور المسلمين في إشادة حضارتهم التي استمرت ثمانية قرون، أحدثت من خلالها إشعاعات ثقافية وتربوية وعلمية، وخرجت علماء أفذاذاً لا يقلّون عن علماء أوروبا اليوم في شيء، إن مفكرينا يجب أن يوجهوا كتاباتهم وخطابهم الفكري والثقافي لأفئدة الأجيال الجديدة في إسبانيا؛ لكي يعرفوا أنهم مدينون للعرب والمسلمين حضارياً.
فردية وعشوائية
البيان: ما المعوقات التي تقف دون وصول الأدب العربي إلى العالمية مثل الآداب الأخرى في الصين وأمريكا الجنوبية واليابان مثلاً؟
3 أهمُّ عائق يحول دون ذلك هو الترجمة، فحتى الآن تتمّ ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية بطريقة فردية وعشوائية، وبدلاً من أن يكون هذا العمل جماعياً وتحت إشراف جامعة الدول العربية ـ مثلاً ـ لكي يصل إلى قمَّة الجودة والفن، فإنه يتم وفق انطباعات خاصة، وربما يشوبه ضعف في الترجمة، وعدم دقّة في اختيار العمل المترجم، ومن هنا لا يُقْبِل الناشر الغربي على الكتاب العربي لكي يترجمه إلى لغته الأوروبية، إضافة إلى أن جهد المترجمين عندنا ينصبُّ فقط على بعض الكتابات غير جيدة المضمون والشكل، ومن ثمّ فإن حركة الترجمة العربية للآداب الأخرى ليست فعالة، إذ لا تتناسب مع حجم ومكانة العرب والمسلمين، ولا مع عدد المبدعين والمفكرين الذين تمتلئ بهم جنبات عالمنا الإسلامي الفسيح، ومن هنا أؤكد ضرورة تكاتف الهيئات العلمية والحكومية العربية من أجل إقامة مشروع للترجمة موحد لتعريف العالم بمفكرينا وبأدبنا الزاخر بالأسماء والقضايا الجوهرية والقيم الفنية والتربوية العالية.
البيان: إلى متى سيظل المسلمون تابعين للغرب؟ ومتى ينتج النقاد العرب نظرية نقدية ذات بُعْد عالمي تثبت تفوقهم ووجودهم في عالم اليوم؟
3 لسنا مؤهلين حالياً لإنتاج نظرية نقدية، إذ تسيطر على ساحتنا الثقافية والأدبية حركة النقل عن الغرب والتقليد لما ينتج هناك، والتبعية المطلقة للعقل الغربي؛ لذلك لا أعتقد أن بإمكاننا في ظل ظروف الضعف الفكري التي نعيشها أن نتوصل إلى تلك النظرية؛ لأن هذا صعب في هذه الفترة وفقاً للمعايير الحضارية والثقافية. إذاً؛ العقل العربي عاجز عن إنتاج أية نظرية في أي مجال معرفي من مجالات الحياة. ثم إن الوضع الأدبي والفكري حالياً في البيئة العربية يؤكد استفحال ظاهرة عدم إعمال العقل لإنتاج أي شيء ذي قيمة، لينعكس أثر ذلك على العقلية العربية التي أصابها التجمُّد الفكري، والتكلُّس المعرفي، مما كان له أثره في تبعيتنا الواضحة للنموذج الغربي.(230/16)
في فلسطين.. البلاء من هؤلاء
د. عبد العزيز كامل
كنت قد كتبت مقالاً في أعقاب فوز حماس في الانتخابات النيابية الفلسطينية بعنوان (معركة حماس الأخطر.. هل هي مع الإسرائيليين، أم العلمانيين الفلسطينيين؟) ولكني ترددت كثيراً في نشره في ذلك الوقت؛ لأن الأجواء بفوز حماس حينها، كانت لا تزال متفائلة، على غير ما كان الشعور عندي، لاعتقادي وقتها أنه لا المعادلات الدولية، ولا الحسابات الإقليمية العربية، ولا الحساسيات الفلسطينية الداخلية في ظل هزيمة حركة فتح، ستسمح باستمرار نجاح حماس وبقائها في السلطة، بل كان ظني الغالب أن هذا النجاح سيُحاصر دولياً وإقليمياً وفلسطينياً ... وأن بقاء حماس في السلطة لن يطول في ظل إصرار المجرمين في العالم على إفشال أي نموذج إسلامي وبخاصة في المنطقة العربية، وبوجه أخص في فلسطين التي تستوطن معظم أراضيها عصابات يهودية مغتصبة، لا يمكن أن يدوم اغتصابها إذا وُجد نموذج إسلامي ناجح ومستقر في فلسطين؛ فكيف إذا كان هذا النموذج سُنياً في زمن العداء لأهل السُّنة، وجهادياً في زمن محاربة المجاهدين، ومهدداً لليهود في زمن العلو العالمي لليهود، ومعارضاً للأمريكان في حقبة حربهم العالمية المعلنة على الإسلام؟
لم أشأ أن أقطع على الناس تفاؤلهم، ولهذا أحجمت عن الكتابة في الشأن الفلسطيني الداخلي منذ ذلك الوقت.
كان يقيني ـ ولا يزال ـ أن اليهود في عصرنا، قد مُد لهم حبلان من الناس، بهما أُخرجا من الذلة والمسكنة إلى حين، كما قال الله ـ تعالى ـ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] أما حبل الناس الأول فمن بلاد الغرب، وبخاصة بريطانيا وأمريكا، وأما الحبل الثاني، فمن بلاد العرب؛ حيث انتدب أعراب منافقون منذ البدايات المبكرة للمشروع الصهيوني للتواطؤ معهم، والتولي لهم، والتخذيل عنهم، حتى تطور ذلك إلى الحراسة لحدودهم من الخارج، والتصدي لمقاوميهم ومجاهديهم من الداخل؛ في سلسلة ممتدة من الخيانة والخَوَر، والمداهنة والفشل الذي أنتج الواقع المر الذي تمر به القضية الفلسطينية اليوم، وقد اجتمعت آفات الخيانات العلمانية كلها مؤخراً لتتواطأ مع أعداء الأمة، لإلحاق هزيمة نهائية بالمشروع الإسلامي في فلسطين لحساب المشروع العلماني، وكان فوز حماس في الانتخابات النيابية فرصة لا تعوَّض عند هؤلاء، لإفقاد الناس حماسهم لحماس، وإذهاب تعاطفهم معهم في الداخل والخارج.
واليوم وبعد ما يقرب من ثمانية أشهر من التآمر المتواصل العالمي والعربي والفلسطيني العلماني على حركة حماس من أجل إفشال نموذجها كسلطة فلسطينية ذات مرجعية إسلامية؛ تتضح أكثر صورة مواقف العلمانيين عموماً؛ فالبرغم من تراكم تجاربهم الفاشلة في مواجهة العدو اليهودي سلماً أو حرباً خلال ما يقرب من ستين عاماً؛ فلا يزالون يصرُّون على احتكار واجهة الصراع، الذي صغَّروه وقزَّموه من إسلامي يهودي إلى (صراع عربي إسرائيلي) إلى «نزاع» فلسطيني إسرائيلي؛ فوَّضوا فيه (حزب المنافقين) فرع فلسطين، هؤلاء الذين يضغطون اليوم بإلحاح على كل الإسلاميين ليلحقوا بهم في مسلسل التنازلات المخزية: الاعتراف بحق دولة اليهود في الوجود على ثلثي أرض فلسطين، ونبذ مقاومتهم كعدو محتل، والاشتراك في معاهدات السلام معهم والاستسلام لهم.
ولأجل الوصول بحماس إلى ثلاثية الهزيمة هذه؛ جرت وتجري وستجري كل أحداث التآمر علىها، وعلى الشعب الفلسطيني كله، لكي يكفر بحماس وبمنهج حماس ولاءات حماس الثلاث الرافضة لتلك الضغوط الرهيبة عالمياً وعربياً وفلسطينياً.
إن من يتابع فصول المعركة الحالية بين الإسلاميين والعلمانيين في فلسطين، لا بد أن يخرج بنتيجة واحدة، كان من المفترض أن تكون بدهية منذ البداية، هذه النتيجة هي: أن هناك تحالفاً على إفشال النموذج الإسلامي، وقد اختيرت فلسطين ميداناً له، بعد الجزائر وأفغانستان والسودان والشيشان، ونحن نخشى أن تتحول جهود هذا التحالف الحاقد بعد فلسطين إلى الصومال.
هناك قوى (وطنية) داخل فلسطين تمارس الآن دوراً خيانياً، حتى بالمفهوم الوطني؛ فماذا يعني تسهيل مهمة الأعداء في تجويع وتركيع الشعب الفلسطيني من أجل إثبات (فشل حماس) في إدارة السلطة؟!.. وماذا يعني تهييج العسكر بسلاحهم في وجه إخوانهم من المجاهدين الفلسطينين بدعوى الاحتجاج على عدم دفع الرواتب التي صنعوا هم أزماتها؟ وماذا يعني تدبير عمليات الإضراب في المدارس والمعاهد والمستشفيات وغيرها لإحراج حكومة حماس وإظهارها بأنها أصبحت معادية للشعب؟!
وماذا تعني عمليات التخريب والإحراق والتهديد بالقتل والاغتيال والانتقام من رموز حماس وكوادرها؟
ستظل تفاعلات نجاح حماس في الانتخابات عام 2006، تتداعى بها الأحداث وتتنوع بها المواقف، ولكن مهما تداعت هذه أو تنوعت تلك، فإن لها أبعاداً ثلاثة ستظل ذات تأثير كبير على مستقبل الأوضاع المتعلقة بالقضية الفلسطينية ما دام الإسلاميون في السلطة:
البعد الأول: هو البعد الخارجي، ونعني به كل ما هو خارج عن إطار الفعل العربي والإسلامي، وتعبر عن مواقفه الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا و (إسرائيل) .
والبعد الثاني: هو البعد الإقليمي العربي والإسلامي بشكليه الرسمي والشعبي.
والبعد الثالث: هو البعد الفلسطيني بشقيه الإسلامي والعلماني.
فهذه الأبعاد الثلاثة ستظل لها خلفياتها المؤثرة على المواقف.
أما البعد الأول؛ فإنا إذا نظرنا فيه وجدنا ظرفاً دولياً استثنائياً، يقوم على تحكم القطب الواحد (أمريكا) في معظم مفاتيح المعادلات الدولية، وهي تسخرها منذ مدة لخدمة أهدافها ومشروعها الإمبراطوري وحربها العالمية التي أعلنتها ضد ما تسميه بالإرهاب، وهي تسعى بكل جهد لإبقاء مفهوم الإرهاب مرناً مطاطاً، حتى تُدخِل فيه كل حين من تريد، لتعمل ضده هي وحلفاؤها. وقد كانت حركة حماس إحدى ضحايا هذا التمطيط لمفهوم الإرهاب؛ حيث أُدرجت على قوائمه في أمريكا وأوروبا، بسبب عدم اعترافها بدولة اليهود، وعدم التزامها بالاتفاقيات المبرمة معها من قِبَل السلطة الفلسطينية، وعدم تخليها عن نهج مقاومتها ومجاهدتها كعدو غاصب محتل. وهنا لا بد أن يتذكر المهتمون بالشأن الفلسطيني أن الولايات المتحدة التي كان لها دائماً مواقفها النظرية والعملية التي تلتزم فيها بتأمين وحماية دولة اليهود من أي خطر، لن تسمح بأي ظروف يمكن أن توصل إلى هذا الخطر، فهذا تاريخها معها، حيث تعهدت بحمايتها من عهد (ترومان) الذي اعترف بدولتها بعد عشر دقائق من إعلانها رسمياً إلى عهد (ريجان) الذي تحالف معها استراتيجياً، إلى عهد (بوش الأب) الذي خاص بالنيابة عنها حرب الخليج الثانية، وصولاً إلى عهد (بوش الابن) الذي فجَّر لأجلها حرب الخليج الثالثة وربما يفجر الرابعة، لهذا نقول: لا ينبغي أن تسبح بالبعض الأوهام أكثر من هذا، فيتخيلوا أن أمريكا ستغض الطرف عن قيام كيان يُخشى منه على (إسرائيل) فهي عندما خافت عليها من قوة العراق؛ ساعدت في ضرب مفاعله النووي عام 1981، وتدمير جيشه عام 1991، ثم غزت أرضه عام 2003، وعندما خافت على إسرائيل من إيران؛ أقحمتها في حرب الثمانية أعوام مع صدام، ثم ها هي تدخلها في معمعة الأزمات الدولية، بذريعة طموحاتها النووية، هذا كان ديدن الأمريكان مع كل من يمثل خطراً واقعاً أو متوقعاً ضد دولة اليهود.
والموقف الأوروبي لا يختلف كثيراً، بل إن الاتحاد الأوروبي هو الضاغط الأكبر على السلطة التي تسلمتها حماس، بمنعه الدعم المالي الذي كان مربوطاً بوجود السلطة في يد حكومة علمانية موالية له.
وفي كل الأحوال فإن أي كيان إسلامي مستقل ذي مرجعية إسلامية مهما كان ضعيفاً أو معزولاً، فإنه يمثل شبحاً مرعباً عند أمريكا وحلفائها وأوليائها، ولهذا لم يصبروا على دولة الطالبان، ولن يصبروا على السودان أو الصومال أو غيرها من البلدان التي تحاول الاستقلال على أرضية إسلامية. ولا يعني هذا أن تتوقف كل المشروعات الإسلامية خوفاً من هذا العدو المتربص، ولكن المقصود أن لممانعة المجرمين ومقاومتهم زمناً، وللتمكين زمن، وليس هذا وقت تصرُّف الفلسطينيين ولا غير الفلسطينيين على أنهم قوم مُمَكَّنون.
لا يختلف الكلام بشأن أمريكا وأوروبا هنا، عن الكلام بشأن روسيا وغيرها من القوى الدولية المناوئة للمسلمين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ فخلاصة مواقفهم جميعاً تنتهي إلى أنه إذا كان لا بد من دولة فلسطينية، فلا بد أن تكون علمانية وملتزمة بالاستسلام ومنزوعة السلاح بل منزوعة الإسلام.
أما دولة اليهود نفسها، فلو كانت صبرت على عرفات مع كل ما قدمه لها، لكان يمكن لنا أن نتصور منها صبراً ـ ولو قليلاً ـ على حكومة حماس، ولكن الأيام القلائل التي أعقبت انعقاد أول جلسة للمجلس التشريعي الفلسطيني، أثبت اليهود فيها أنهم سيضعون أمام حكومة حماس ما لا يحتمل من المعوقات والإحراجات، وكان أول ذلك إعلان (إيهود ألمرت) وقتها ـ وكان لا يزال رئيساً للوزراء بالوكالة ـ عن نيته ترسيم حدود «نهائية» لدولة اليهود، في حاله فوزه بمنصب رئيس الوزراء، وهي بالطبع حدود تبلع القدس، وتبلغ ما هو داخل أسوار الفصل من الأراضي المحتلة عام 1967م. وهو ما يعني عملياً إلغاء مشروع الدولة الفلسطينية من أساسه، وهذا ما جعل (خالد مشعل) يقول وقتها: إن تصريح ألمرت هو بمثابة إعلان حرب على الفلسطينيين.
أما البعد الثاني: وهو البعد الإقليمي والإسلامي؛ فالجانب الرسمي فيه كان واضحاً منذ البداية أنه لن يخرج في أكثره عن حدود المسموح به أمريكياً وحدود المصالح الضيقة إقليمياً ومحلياً، وهو ما كان يعني ألا أمل كبيراً في الاتكاء والاعتماد الطويل على دعم ممنوح من الأنظمة الرسمية، التي يطبخ لكل منها أيضاً ما يشغلها ويذهلها عن غيرها.
أما الجانب الشعبي فإن قلب الأمة الإسلامية والعربية وعقلها وروحها كانت دائماً في انحياز دائم إلى فلسطين وأهلها، والإسلاميون على وجه الخصوص وعلى اختلاف فصائلهم كانوا وسيظلون متعاطفين مع حماس، ومشفقين عليها من ثقل التبعة وجسامة المسؤولية وصعوبة المهام.
والبعد الثالث: هو البعد الداخلي الفلسطيني بشقيه الإسلامي والعلماني:
إن كل ما يقال ويعرف عن مواقف الأطراف الخارجية الأجنبية، منتظر ومتوقع؛ فماذا يُنتظر من الأعداء أو الضعفاء؟ أما ما أثار الغرابة وبعث على العجب، فهو مواقف الجهات التي يفترض أنها شريكة الواجب، وقرينة المصير في الداخل الفلسطيني، ونعني بهم الشرائح الفلسطينية التي تصف نفسها بالوطنية، فهذه الشرائح ظهر منذ البداية أن منها من يريد أن يكون رأس حربة في صدر الإسلاميين في المرحلة المقبلة، ليجهضوا مشروعهم، ويشوهوا صورتهم، ويعطوا الفرصة لأعداء الخارج كي يُمعنوا في الحرب ضدهم على أنهم إرهابيون ومتطرفون!! وقد تعجَّب البعض حينما حذر المشفقون من ذلك، ولكن الحقيقة هي كذلك. صحيح أن التعميم في الحكم غير صواب ولكن التعامي أيضاً غير مقبول؛ فكل المراقبين للشأن الفلسطيني، يعلمون أن تاريخ فلسطين المعاصر شهد ظاهرة علمانية فلسطينية؛ تزامنت مع الظاهرة العلمانية العربية التي استشرت في الأمة بعد إسقاط الخلافة، وهذه الظاهرة العلمانية الفلسطينية، قد شاركت الظاهرة العلمانية العربية في صنع كل الهزائم أمام اليهود على مدى ما يقارب ستة عقود، بإصرارها على التزام أركان العقيدة العلمانية القائمة على هجر مرجعية الشريعة، ونبذ عقيدة الولاء والبراء، واستبعاد الراية الإسلامية في أي مواجهة عسكرية، وإحلال الراية القومية والوطنية مكانها.
المواقف المبكرة في مسيرة حماس في العمل السياسي، أظهرت أن خصومهم من العلمانيين وعلى رأسهم المتنفذون في حركة فتح، يستعملون حيلاً شيطانية، للإيقاع بها في أتون مشاكل لا تنتهي، وقد ظهرت إرهاصات ذلك منذ الجلسة الأولى للمجلس النيابي الفلسطيني برئاسة حماس، حيث شهدت حملة تشويش وتشويه منظمة، كان نواب فتح فيها يمثلون أدوار الطلبة الفاشلين في مدرسة المشاغبين، في مشاهد تثير الاستهجان والغرابة من ذلك السلوك الحسود الحقود غير المسؤول، الذي يصر على إظهار الأغلبية الإسلامية بمظهر العجز والجهل والتعصب وضيق الأفق، لدرجة أن منهم من سخر من رفع الأذان وقت الصلاة، مما اضطر رئيس المجلس وقتها أن يحذر من السخرية من شعائر الإسلام تحت سقف البرلمان. وقد أعطى هذا السلوك العلماني انطباعاً عاماً لما ستكون عليه تصرفات فتح في المراحل المقبلة.
لقد رأى فريق من العلمانيين منذ البداية، أنه يتعين أن تُترك (حماس) لتلقى مصيرها تحت أنقاض الفشل الذي ستمنى به في مواجهة المشكلات الداخلية والخارجية، تلك المشكلات التي يعلم أولئك العلمانيون قبل غيرهم أنها لم تكن من صنع حماس. وإنما كانت من جنايات وخطيئات الإدارة العلمانية للسلطة الفلسطينية، وقد رأى فريق آخر أنه ينبغي إدماج حماس في المنظومة الوطنية التي تغلب عليها الصبغة العلمانية، لعلها تخفف من تمسكها في النهاية وتليِّن من مواقفها.
وقد كان المقلق منذ البداية، أن العلمانيين ظلوا ممسكين بمفاتيح الكثير من عناصر القوة التي لوَّحوا بها في وجه حماس، مثل السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية التي يعدونها للآن (الممثل الشرعي والوحيد) للشعب الفلسطيني، وظلوا يرونها صاحبة الصلاحية والمصلحة في الإبقاء على كل الاتفاقات والالتزامات مع العدو اليهودي؛ لأنها هي الموقعة عليها، وهي القادرة على الاحتفاظ بها وأنه لا يمكن إلغاؤها إلا بموافقة الثلثين في كل المؤسسات الفلسطينية، وهي النسبة التي يجب تحققها أيضاً لتغيير أي بند في القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور) . كما أن رئاسة السلطة التي يمثلها محمود عباس، تجعله بحسب القانون الأساسي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو المسؤول عن تعيين أو إعفاء أصحاب المناصب، وهو المسؤول المباشر عن جهاز الاستخبارات والأمن الوطني المكون من خمسين ألف عنصر، إضافة إلى عشرين ألف عنصر من أجهزة أمنية أخرى، بما يوصل العناصر المسلحة إلى 70 ألف مسلح تحت إمرة عباس، يمثلون في عددهم عدة جيش كامل في دولة عربية كبيرة. ولكنه جيش لم يجهز لمقاومة اليهود، وإنما لمقاومة من يقاومهم.
العلمانيون كانوا يقبضون أيديهم منذ البداية، عن تقديم أي مساعدة لحماس في مهامها الشاقة مع قدرتهم الكاملة على ذلك؛ ولهذا رفضوا الانضمام للحكومة التي شكلتها منذ البداية إلا بشرط التزامها بالاتفاقات المبرمة مع دولة اليهود. وقد قذفوا وجه حكومة حماس منذ المراحل الأوائل بورقة إثارة القلاقل عن طريق الميليشيات التابعة لحركة فتح؛ حيث جعلوها بمثابة قنبلة موقوتة تهدد الأوضاع بالانفجار في حالة تأخر حماس عن دفع رواتبها التي تبلغ نحو عشرين مليون دولار، وهو ما حصل بالفعل، إذ أحرقت تلك العناصر مقر المجلس النيابي ومبنى رئاسة الوزراء! وهو تطور خطير قد يؤذن بما هو أخطر، وحتى كتابة هذه السطور فإنه يترجَّح أن يُقْدِم محمود عباس على حل السلطة بعد أن صرح بأن مقترح إنشاء حكومة وحدة وطنية قد وصل إلى طريق مسدود، بسبب عدم تنازل حماس عن لاءاتها الثلاث، وقد ينشئ حكومة طوارئ، أو يدعو إلى انتخابات مبكرة، وسواء بكّر بهذا أو تأخر، فإن الأمور قد وصلت مع العلمانيين إلى طريق اللاعودة.
السلطة في حد ذاتها ليست غاية حماس، كما كرر قادتها ذلك صادقين، غير أن المشكلة هنا ليست في ذهاب السلطة، ولكن في آثار المكر الكُبَّار الذي سعى فيه خبثاء العلمانيين، الذين لم يستطيعوا تشويه صورة المقاومة بالتنازلات السياسية، فلطخوها بالإخفاقات الاقتصادية والمعيشية التي تمس حاجات بل ضرورات الناس الحياتية، وهذا سلاح فتاك قاتلوا به حماس، وللأسف فإنهم نجحوا في إلحاق كثير من الأذى بالوجه الوضيء لها في انظار العامة.
والناس معذورون؛ فالحماس وحده لا يُطعم الجوعى، ولا يشفي المرضى، ولا يسد حاجة المحتاجين.
كنا نتمنى لو احتفظت حماس بموقعها كقوة معارضة مؤثرة في البرلمان واحتفظت فقط ببعض الوزارات البنائية التي تخدم المشروع الإسلامي، مع البقاء في موقعها الطليعي على أخطر وأكبر ثغور الأمة، في بيت المقدس وأكناف بين المقدس؛ فهذه المهمة هي أعظم وأكرم المهمات على أرض فلسطين، وهي تحتاج ـ كما كانت دائماً ـ إلى أن يظل رموزها نائين بأنفسهم عن مهاترات العلمانيين وسفاهات المنافقين على الصفحات وأمام الفضائيات ... فكم كان لافتاً الفارق الشاسع بين حديث هؤلاء المفتونين عن مجرمي اليهود ـ حيث اللباقة واللياقة والكلمات المهذبة المشذبة، وبين حديثهم عن قادة حماس ... حيث الجلافة والسخافة والفجور في الخصومة!!
أحسب أن (أوسلو) بنتائجها وآثارها ورموزها، كبنيان متهالك على شفا جرف هارٍ، ما كان يصلح أن تُضيَّع الجهود وتنفق الأعمار من أجل ترميمه وتجديده، فضلاً عن الارتفاع به إلى طوابق جديدة ... وأحسب أيضاً أن ما جرى قد استفاد منه أصحاب أوسلو أكثر من حماس.
نحن نعلم أن مشروع حماس، كان ولا يزال مشروع تحرير وتعمير، لكن الذين تصدوا لهم في مهمة التحرير وأنشؤوا من أجل ذلك ما سُمي بـ (جهاز الأمن الوقائي) لوقاية اليهود من ضرباتهم، هم الذين يتصدون لهم اليوم في مهمة التعمير، لإفساد المشروع الإسلامي برمته، تحريراً كان أو تعميراً بالتعاون مع الأعداء الظاهرين والمستترين ... وهل يكون هذا إلا من منافقين معادين للأمة؟!
لكنا نقول لهم ولمن يقف وراءهم: إن المشروع الإسلامي سينجح في بيت المقدس في يوم من الأيام، وهو آتٍ عما قريب بإذن الله، ونجاحه لن يتمثل في إقامة دولة إسلامية قوية فحسب، بل سيكون بداية لعودة الكيان الإسلامي العالمي المرتقب انطلاقاً من الأرض المقدسة؛ فقد قال النبي #: «إذا نزلت الخلافة الأرض المقدسة، فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام» (1) وقال: «بينما أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتُمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعُمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام» (2) .
إن هذا سيكون خاتمة جهاد طويل على أرض الشام، نرجو أن يكون للفصائل المجاهدة على أرض فلسطين ـ وفي مقدمتهم حماس ـ شرف البدء في مسيرته المظفرة. قال #: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، كالإناء بين الأكلة، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» (3) .(230/17)
من المكتسبات بعد الانقلاب في العسكري في موريتانيا
أحمد ولد محمد ذو النورين
لا وجه لإهمال المسلم واقعه أو ابتعاده عن مجريات الأحداث في محيطه؛ إذ المسلم بما يتحمله من مسؤوليات وما يجب أن يعيه من أمور، وما يحيط به من مخاطر، يظل لزاماً عليه أن يبقى في قلب الحدث.
والمتتبع الفطن لأحداث التاريخ يستخلص بوضوح خطورة التغافل والانعزال عن شؤون الحياة من قِبَل المسلم؛ فكثير مما حصل في بلاد المسلمين من إبعادٍ لتعاليم الإسلام واستذلال لأهله ناتج في الغالب عن تقوقعهم وابتعادهم عن الأمور العامة، وعن تخاذلهم وعدم مواكبتهم للتعاطي مع الوقائع، وخاصة في أمور الدولة وما يتصل بها.
لا وجه لإهمال المسلم واقعه أو ابتعاده عن مجريات الأحداث في محيطه؛ إذ المسلم بما يتحمله من مسؤوليات وما يجب أن يعيه من أمور، وما يحيط به من مخاطر، يظل لزاماً عليه أن يبقى في قلب الحدث.
والمتتبع الفطن لأحداث التاريخ يستخلص بوضوح خطورة التغافل والانعزال عن شؤون الحياة من قِبَل المسلم؛ فكثير مما حصل في بلاد المسلمين من إبعادٍ لتعاليم الإسلام واستذلال لأهله ناتج في الغالب عن تقوقعهم وابتعادهم عن الأمور العامة، وعن تخاذلهم وعدم مواكبتهم للتعاطي مع الوقائع، وخاصة في أمور الدولة وما يتصل بها.
ففي المشهد الموريتاني الحديث نجد أن أغلب الدعاة والمتدينين قد انشغلوا بأمور الدعوة واستحثاث الهمم للعمل التعليمي والدعوي في نطاق ضيق، متجاهلين أو متجاوزين ما يتصل بالعمل السياسي، مسايرين بذلك مستندات فكرية مبنية على معيار قياس الوسائل والحاجات والأولويات انطلاقاً من خلفية قوة المسلمين وسيادة أخلاقهم وتعاليمهم، بعيداً عن مراعاة المتغيرات والمستجدات؛ وهو الأمر الذي أخلى الساحة السياسية من المتدينين، فظلت مسرحاً للفاسدين والحاقدين على التدين يمرحون فيها كيف يشاؤون، في غيبة أهل الصلاح وانشغال منهم بالدعوة والمجالات الاجتماعية والأخلاقية، ظانين أن الطريق بيِّن، وأن الأمور ستظل سائرة في مسارها الصحيح؛ فلم يلبث أهل الفساد ـ في بلاد شنقيط ـ أن وقفوا في منتصف الطريق حاسرين الأقنعة عن وجوههم، معلنين محاصرتهم للعمل الإسلامي بكافة طرقه ووسائله، متخذين لذلك شتى الذرائع، متكئين على نظام أراد أن يناصب الدين وأهله العداء، بعد أن تنكر لدينه وقيم مجتمعه، فأفلس أخلاقياً واجتماعياً، حين طبخ زاده لمحاربة الدين في مراجل صهيون، متوسلاً بالنظام العالمي الجديد، مبدياً وجه العداوة لأهل الخير، محاولاً عزلهم والنيْل من مكانتهم، بعد أن عرّوه في وضح النهار؛ بإعلانهم كلمة الحق رغم غلاء الثمن وصعوبة الطريق.
لقد وصل النظام البائد بزعامة (ولد الطائع) إلى درجة من المكاشفة والمصارحة بحقده وعدائه للعمل الإسلامي، لم يوازها إلا عدله في توزيعه للظلم على الناس ... لقد أغلق المساجد والمعاهد، وجند كل قواه الأمنية والإعلامية لسد أبواب الدعوة، مؤسساً لكل خطوة يخطوها في سبيل ذلك على آراء حثالة من المتعاملين لم يحظوا بالفهم السليم، ولم يوفقوا للاتباع ولم يراعوا للكرامة ذماماً، فعظمت الجراءة على الله، وتم التطاول على العلماء، ولويت أعناق النصوص، وتم القفز على المفاهيم والقيم، فألقي في السجن كل داعية إلى الله، وجففت منابع الخير وروافده، وأوصدت ديار العلم ومعاهده، فماج الناس في ظلام مدلهمّ، واشتد الحصار على المساجد، وخنقت المحاظر، وتم طمس السنة وإنكارها، بل والسخرية منها والاستهزاء بأهلها ووصمهم بكل نقيصة، وأُشهرت البدع، وانتشر الباطل، وتجمعت الأزمات بشكل خانق كاد أن ينزلق بالبلاد في أتون حرب أهلية غير محسوبة العواقب.
فنشأت في خضم ذلك مرحلة لم يعد بعدها الوضع مطاقاً، فعجت البلاد بالكراهية والظلم والحقد والمكر، فكان أمل كل موريتاني أن يزول (ولد الطائع) ولو كان بانقلاب من الشيطان.
فجأر الناس إلى خالقهم، والتجؤوا إلى فارج الكرب، فجاءت المفاجأة من حيث لم تكن متوقعة، وأزال رأس النظام أقربُ معاونيه، فكان انقلاب الثالث من أغسطس 2005م، بمستوى من السهولة والإتقان غير معهودة؛ فلم يُرَق دم، ولم تقع بلابل ولا اضطرابات.
لم يعلق الناس في البداية آمالاً كبيرة على الانقلاب؛ لأن من قام به هم شخصيات من أهم ركائز النظام، خاصة قائده الذي ظل مديراً للأمن طيلة حكم (ولد الطائع) . حصل ذلك التغيير وتنفس الموريتانيون نسائم الأمل، رغم حمله لبعض رواسب الماضي المتجذر لدرجة يصبح الإصلاح معها عسيراً. غير أن خطوات إصلاحية بدأت تتحرك رويداً؛ حيث تم التشاور بين المجلس العسكري وأطياف واسعة من مختلف الفرقاء السياسيين، ففتحت المساجد من جديد وخاصة في وجه أنشطة الوسطيين، وتراجعت الشرطة عن مطاردة المصلين، وشهد الإعلام قفزة نوعية؛ فصار مشاعاً ـ إلى حد ما ـ بين أغلب شرائح المجتمع، بعد أن كان محتكراً على التطبيل والتزمير لسدنة القصر، وتراجعت الدعاية ضد المرجعيات الإسلامية التي حاول النظام البائد أن يحيدها عن محيط الثقة والتقدير.
وأفسح المجال أمام أهل الدعوة من جماعة الإخوان المسلمين، وتولت عنهم عيون البولسة، ومات قانون المساجد المشؤوم، وأعدت تعديلات دستورية من شأنها تقليص الفترة الرئاسية، والقضاء على التشبث بالكرسي إلى الأبد، وتلاشى التخندق في بوتقة الحزب الواحد.
وقد ظهر جلياً بعد هذا التغيير أن الإسلاميين يملكون مكانة لا يمكن تجاهلها ولا تخطيها، مما جعل كل القوى السياسية في البلاد اليوم تدرج ضمن برامجها وخطاباتها، بل وأنشطتها، كافة ما يغازل شعورهم، وإن كانت تخالفهم في الرؤية والتصور.
ولقد وصلت حرية المجال الدعوي إلى معاودة بعض الجمعيات المجتمعية ذات النزعة الإخوانية العاملة في الحقل الدعوي عملها، وإن كانت أخرى سلفية لا تزال موصدة الأبواب. هذا إضافة إلى رفع الحظر عن الدروس الثابتة والمنابر التعليمية والليالي التربوية التي يقوم بها الوسطيون؛ علماً بأنه تم الفسح للعديد من التظاهرات والمسيرات المعبرة عن التضامن مع الأشقاء في فلسطين ولبنان مثلاً، تلك التظاهرات التي كانت تعبيراً صارخاً عن الرفض الكلي للعلاقة مع اليهود الغاصبين، وهو الأمر الذي كان مستحيلاً في ظل الحكم البائد الذي كان سنداً مستميتاً وشريكاً مخلصاً لليهود.
وفي ميدان رقابة المال العام كان هناك تحسن ملحوظ، بعد أن ظلت المؤسسات المالية فوضى في أيدي المفسدين ينهبونها كيف شاؤوا دون رقيب أو حسيب، في ظل نظام كانت ولاءاته قائمة على العبثيات والنهب والغبن، وهو ما تم الحد منه بشهادة الجميع.
صحيح أنه بقي الكثير والكثير مما يحتاج إلى إصلاح، وصحيح كذلك أن الظلم لا تزال بعض رواسبه جاثمة على الصدور، كما لا تزال بعض هياكله تعيق الطريق، خاصة بعد تبدد آمال كثيرين حين تواصلت الاعتقالات التعسفية في صفوف السلفيين، مع العلم أنه تم إطلاق سراح جماعة من أهم رموزهم.
ولقد بدأت روافد الظلم ـ والحمد لله ـ تضعف، وجعلت لوبياته تتخلخل وتتفكك وتحس بالخجل والخوف، وإن كان القضاء على الظلم بشكل كلي لن يتحقق إلا بتراكمات من الإصلاح ونضوج للوعي الجمعي الذي أوهنه عشرون عاماً من الأيام العجاف ماتت خلالها الضمائر الحية وقبرت قيم الفضيلة، ونمت بدل ذلك روح الانتهازية والانتفاع والنهم المتأجج في دوائر جهوية وقبلية، يحتضنها إطار من الاستفهامات يُفقِد العاقل صوابه، والثابت توازنه، والرحيم إنسانيته.
غير أن الأمل ينتعش حين يرى المراقب للواقع الموريتاني، بعد التغيير، إقبال فئات عديدة على دعم مبادرات الخيرين من الإصلاحيين الوسطيين وتشجيعهم على المستويات الدعوية والسياسية والاجتماعية.
ينضاف ذلك إلى أن القائمين الجدد على القرار، وإن لم يفتحوا المجال في الظاهر ـ على الأقل ـ ويمارسوا بأنفسهم الأنشطة الدعوية ذات الصبغة الوسطية؛ إلا أنهم يتغاضون عنها ويتركون قافلتها تسير من غير وضع عراقيل أو معوقات، بل يعلنون تعويلهم عليها في إرساء موازين العدل والاستقرار ونشر الفضيلة
وخلاصة القول أن هناك نتائج ملموسة تم إحرازها على المستوى الإسلامي يتمثل أهمها في انفتاح الحكام الجدد على البلدان الإسلامية؛ وذلك بالسعي الحثيث إلى إٍقامة علاقات دبلوماسية ودية مع بعضها بعد أن لم تكن، كما هو الشأن مع السودان، والعمل على تحسين وتوطيد العلاقات مع البعض الآخر، كما هو الحال مع المملكة العربية السعودية.
وعلى الصعيد الداخلي:
تم إطلاق سراح أغلب المعتقلين، خاصة كبار العلماء والدعاة مثل الشيخ محمد الحسن الددو والشيخ محمد سيديا النووي.
كما تمكن عدة شخصيات وسطية من العودة إلى البلاد بعد أن كانوا ممنوعين بسبب المتابعات الأمنية أو الأحكام القضائية الجائرة، إضافة إلى فتح وسائل الإعلام الرسمية أمام شخصيات إسلامية وسطية كان بعضها مسجوناً أو مطارداً، مما أتاح لبعض هذه الشخصيات المشارَكة ببرامج معروفة في الإذاعة الوطنية.
ورغم أن الدولة لم تعترف بأي حزب إسلامي؛ إلا أنها تغض الطرف عن عمل ونشاط الإسلاميين الوسطيين علناً وفي أغلب مناطق البلاد.
وفي ميدان العمل الاجتماعي والثقافي والعلمي هناك هيئات إخوانية تنشط تحت مظلة منظمات غير حكومية، إضافة إلى رفع الرقابة أو تقليصها عن المساجد؛ إذ أصبح الدعاة والوعاظ والأئمة يقدمون داخلها الدروس والخطب بحرية كبيرة، مقارنة مع ما كان عليه الوضع أيام المخابز.
ولقد تم الترخيص رسمياً لبعض المعاهد التي كانت قد أغلقت في ظل النظام السابق.
وكذلك تشكَّل اتحاد الطلاب في الجامعة لأول مرة، وهو منبر متميز للإسلاميين الوسطيين لسيطرتهم عليه منذ فترة؛ ولا يزال الناس ينتظرون المزيد من المكاسب بشيء من الترقب والحذر، نظراً للوعود الوردية التي قطعها المجلس العسكري على نفسه صبيحة الانقلاب، والتي لا يزال المنجَز منها على أرض الواقع دون التطلعات، وخاصة إذا نظرنا إلى الطريقة التي تم التعامل بها مع السلفيين وملفاتهم القضائية، رغم تبرئة القضاء لهم، وثبوت بُعدهم عما اتهموا به من صلات بالإرهاب وما وُصِموا به من تهديد للأمن، فلا العدالة شملتهم، ولا الحقوق القانونية والمدنية والإنسانية حمتهم؛ فقضيتهم ستظل وصمة عار في جبين النظام الجديد ما لم تجد حلاً منصفاً عادلاً. ولا ندري؛ فلعل الأمور تصير إلى الأحسن إذا تعززت المفاهيم والقيم، وتأسس العدل، واتسع هامش الحرية، وترسحت دعائم النظام، وحَسُنت النوايا.
فبلاد شنقيط لا تزال تحن إلى الإسلام الصافي وحملته، فهي التي دأبت على احتضان الدعوة السلفية منذ تأسيس الدولة المرابطية خطاباً ونهجاً، فأنجبت ربوعها العلماء، وترعرعت على أحقافها (1) بذور الحسبة وخصوبة الإصلاح، ولم يعتكر جو الإنبات فيها إلا بعد اجتيالها (2) من قِبَل شرذمة من أهل الشر، في غفوة من أهل الحق واستغلال لظرف دولي جِبِلَّةُ أهله الظلم والاعتداء ...
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17] .
زبد البحر تراه رابياً واللآلي الغر في القعر رُسَّبُ(230/18)
الفتنة الطائفية ومستقبل المنطقة
مازن أبو بكر عبد الله باحميد
بات من الواضح أن هناك جهات نافذة في العراق تدفع بالبلاد نحو مواجهات طائفية بين الشيعة والسنة. ففي حين تبادر هيئات عراقية إلى تجريم أي عمليات قتل تنال المدنيين في العراق شيعة وسنة، تحجم جهات أخرى عن انتقاد عمليات القتل التي تنال الرموز السنية؛ وتبين لاحقاً وحسب تصريحات (الشيخ حارث الضاري) أن هناك فصيلاً سياسياً شيعياً على الأقل يشارك في عمليات التصفية التي تنال علماء وائمة السنة بدافع طائفي مستغلاً في ذلك وجود الاحتلال الأمريكي؛ حيث تجري مثل هذه العمليات تحت اسم محاربة الإرهاب والتي تعتبر بدورها مطلباً أمريكياً ملحّاً لإحكام القبضة الأمريكية على بلاد الرافدين.
وفي تصريح خطير حول حادثة قتل تعرض لها مجموعة من الشيعة في العراق قبل شهور قال (عبد العزيز الحكيم) : إن الإرهابيين قد عزموا على قتل الشيعة ولا بد من إبادتهم ـ القول إن (الحكيم) قصد الإرهابيين دون المقاومة الوطنية خطأ فادح؛ لأن (الحكيم) لا يعترف بوجود مقاومة مشروعة أصلاً ـ ولا تزال تصريحات (الحكيم) تدور في هذا الفلك، وهو بذلك يريد أن يحمِّل المقاومة السنية المسلحة المسؤولية عما يحدث. ومثل هذا التصريح يعبر بوضوح عن النظرة الطائفية التي ينظر بها المذكور إلى الأحداث، ويبين رغبته في أن تُفهَم أعمال المقاومة التي تنفذها فصائل المقاومة السنية ضد الاحتلال الأمريكي في العراق بأنها مواجهة بين هذه المقاومة والفصائل الشيعية المسلحة بصورة مباشرة لاتخاذ ذلك ذريعة لتصفية الرموز والقيادات السنية في العراق.
إن حرباً أهلية في العراق قد تكلف الجميع سنة وشيعة الكثير؛ وحرب مثل هذه لن تكون مضمونة النتائج لأي من الطرفين؛ حيث ستلعب الأطراف الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية دوراً كبيراً في أي حرب طائفية؛ فإيران لن تكون بعيدة عن أي مواجهات طائفية شاملة في العراق، وهذا ما سيفرض على دول المنطقة (وبخاصة دول الخليج العربي) ودول أُخرى بعيدة عن المنطقة استحقاقات أمنية تدفع بها إلى دعم الطرف السني في حرب كهذه؛ وذلك لكبح النفوذ الإيراني حول منابع نفط الخليج وهو ما سيعيد المنطقة إلى أجواء الحرب العراقية الإيرانية، وهي مرحلة لا يرغب الجميع في أن تعود مرة أخرى.
إن فهم تصريحات (الحكيم) هذه والتي قد تكشف جزءاً من السياسات الشيعية في العراق، وهل هي دعوة لحرب طائفية أم لا يجب أن يؤخذ في الاعتبار البعد الطائفي الذي ترتكز عليه مثل هذه التصريحات؟ وإذا كان ذلك حاضراً فمن الضروري أن ننظر للحدث كجزء من التحركات الطائفية التي لا تعترف بالحدود إلا ما كان حداً طائفياً؛ حيث تشهد المنطقة ومنذ سنوات حراكاً سياسياً وتبشيرياً شيعياً إقليمياً يدار وينظم من داخل الجمهورية الإيرانية.
إن المتابع للتحركات الشيعية في المنطقة بمجملها يدرك تماماً أنها تسير وفق منهجية سياسية مترابطة ومرسومة سلفاً، وتسير باتجاه تحقيق هدف واحد. فمنذ قيام ثورة الخميني في إيران رفعت شعارات تصدير الثورة بوصفه هدفاً استراتيجياً للسياسة الإيرانية لمرحلة ما بعد الثورة، وهو ما يعني أن إيران ستعمل على توسيع هيمنتها الثقافية والسياسية لتعم منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. ونتيجة لضعف الأداء السياسي للقيادة الإيرانية آنذاك وعدم قدرتها على انتقاء أساليب التغيير المناسبة واختيارها لأسلوب القوة والمواجهة لتصدير الثورة دخلت المنطقة على إثر ذلك في مرحلة من الاحتقان الأمني، واشتعلت خلالها الحرب العراقية الإيرانية نتيجة طبيعية لمقاومة الرغبة الإيرانية في التوسع.
وبعد أن دخلت المنطقة تحت الوصاية الأمريكية في أعقاب حرب الخليج الثانية لم يعد أمام القيادة الإيرانية هامش للمناورة العسكرية؛ وذلك لوجود الثقل العسكري الأمريكي بالمنطقة، فدأبت إيران من حينها على العمل السياسي عن طريق دعم الكتل السياسية الشيعية في البلاد المجاورة وعلى رأسها العراق ـ بعد أن تعلمت من حربها مع العراق أن لا جدوى من الأسلوب التصادمي لتصدير الثورة ـ وذلك لإحداث اختراقات سياسية قد تفتح الطريق أمام تحقيق حلم تصدير الثورة والهيمنة الإيرانية على المنطقة، كما أزداد النشاط التشييعي كداعم مهم للتحركات السياسية الإيرانية في المنطقة، وأوضح مثال على ذلك (حركة بدر الدين الحوثي) في اليمن التي انتهت بمواجهات في جبال مران مع الحكومة اليمنية. وقد تركز النشاط في دول بلاد الشام لوجود تجمعات شيعية قادرة على تحقيق مكاسب سياسية. وقد بات واضحاً أن هناك ملامح لهلال شيعي يتشكل ليمتد من إيران وحتى الجمهورية اللبنانية مروراً بالعراق وسورية؛ حيث سيكون هذا الهلال بمنزلة قاعدة للانطلاقة الكبرى لتصدير الثورة والنفوذ نحو المنطقة الأوسع في الجنوب؛ وهو الأمر الذي دفع بالملك عبد الله ملك الأردن إلى التحذير من ذلك بسبب أن الأردن أقرب الدول جغرافياً من الهلال الشيعي المرتقب.
وقد حققت السياسة الإيرانية الكثير في هذا الجانب نتيجة لعدم وجود مشروع سياسي أو ثقافي منافس ـ لم يعد للمشروع القومي وجود والمشروع السياسي الإسلامي لم يرَ النور بعد ـ حتى جاءت أحداث سبتمبر التي فرضت على الولايات الأمريكية أولويات في سياساتها الشرق أوسطية ـ حيث تنظر أمريكا إلى المنطقة على أنها مصدر الإرهاب المعادي لأمريكا والغرب، ولا بد من إعادة الصياغة الثقافية والسياسية للمنطقة بما يضمن محاربة الإرهاب وانكفاءه في المنطقة كما يرون ـ بما يتماشى مع المطلب الأمريكي، وبما يضمن الأمن القومي للولايات المتحدة على المدى الأطول. وتبلورت السياسة الأمريكية في المنطقة في مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تعمل الولايات المتحدة من خلاله على تطويع الثقافة والسياسة في المنطقة لتكون في خدمة المصالح الأمريكية والغربية، وترتب على ذلك إعادة ترتيب الخريطة السياسية للمنطقة، وبدأ المشروع الأمريكي كنهاية لكل المشاريع السياسية والثقافية العاملة في المنطقة بما في ذلك المشروع الإيراني الشيعي.
وهكذا فان المتابع للأحداث في بلدان الهلال الشيعي المرتقب يلحظ القوة التدميرية للمشروع الأمريكي ـ لبنان أوضح مثال ـ الذي يستند إلى التفوق المطلق الذي تتمتع به الولايات المتحدة في كل موازين القوى، كما يلحظ المراوغة التي يبديها المشروع الشيعي الذي يعتمد على استغلال الطائفية لتحقيق مآربه، والذي يجتهد اليوم في تحصيل سياسات توافقية لتحقيق مكاسب سياسية في ظل الأجواء السياسي التي فرضها المشروع الأمريكي في واقع المنطقة. ويبدو المشروع الإيراني هو الأضعف إذا ما حسبنا نقاط القوة والضعف بين المشروعين؛ ومن هنا نفهم الليونة الإيرانية وتحاشي الارتطام المباشر مع المشروع الأمريكي؛ فالإيرانيون على قناعة من أن المشروع الأمريكي مشروع قوي وجاد ولا يمكن إيقافه، وأنه قد بات واقعاً في المنطقة ولا بد من البحث عن أمثل الطرق للتعامل معه.
ولعل الحسابات السياسية الإيرانية في المرحلة الحالية تنطلق من الأتي:
1 ـ قناعة النظام في إيران بعدم قدرة الجمهورية الإيرانية على مقاومة المشروع الأمريكي عسكرياً أو استخباراتياً، أو الوقوف بأي شكل من الأشكال أمام القوة الأمريكية للتفوق الأمريكي المطلق في موازين القوى المادية، لكنَّ الإيرانيين على استعداد للقيام باي إجراء تكتيكي من شانه التضييق على المشروع الأمريكي.
2 ـ قناعة النظام في إيران بأن المشروع الأمريكي وإن التقى مع المشروع الإيراني في وحدة العدو (أهل السنة) إلا أنهما لن يلتقيا في الأهداف النهائية؛ فالهدف الأمريكي هو تعزيز النفوذ الأمريكي الغربي في المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وأن الولايات المتحدة لن تسمح بقيام أنظمة حكم تدار من طهران وتدعم النفوذ الإيراني بطريقة يُقوَّض من خلالها النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة كما يحلم الإيرانيون.
3 ـ ولكن مع ذلك لا بد من استغلال نقاط التوافق لتوجيه ضربات قوية للسنَّة في المنطقة على الصعيد السياسي والثقافي، واستغلال الأمريكيين لإضعاف السنة، وكذلك استغلال السنة لإضعاف المشروع الأمريكي ما أمكن ذلك؛ بحيث تكون إيران هي المستفيد الأكبر مما يجري اليوم، ولتبقى هي القوة الوحيدة التي ستجني ثمار ما يحدث اليوم في نهاية الأمر.
4 ـ قناعة النظام في إيران بأن المنطقة قادمة على حدوث تغيير مرتقب يبدو أنه سيكون على الطريقة الأمريكية، وسيلقي هذا التغيير بثقل سياسي كبير على النظام في إيران بخاصة والعالم يعيش في عصر الإنترنت والآفاق المفتوحة. وقد يكون هذا التغيير على طريقة القوى السياسية الفاعلة في المنطقة (من الإسلاميين) وذلك في حالة حدوث انسحاب أمريكي، وترى إيران أنه لا بد من عمل شي لاستيعاب هذا التغيير القادم.
إن أهم ما تعترض عليه المرجعيات الشيعية في المشروع الأمريكي أنه يساوي بين السنة الذين لا يوجد منسِّق لجهودهم والشيعة الذين توجد لهم دولة تدعمهم بالمال وتنسق جهودهم وتصوغ سياساتهم، وهي العوامل التي ساعدت الشيعة على تحقيق نجاحات كبيرة على الصعيد السياسي؛ حيت ترى هذه المرجعيات الشيعية أن المشروع الأمريكي يفوِّت عليها فرصة ثمينة لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية في هذه المرحلة من تاريخ السنة الذي يتميز بالضعف الشديد.
عندما نتحدث عن السنَّة يجب أن نفرق بين معنيين: السنَّة بمعنى الهوية التي يكتسبها الإنسان بطريقة وراثية تلقائية، والسنة كهوية ليست محارَبة من الأمريكيين؛ فهي مثل أي هوية اخرى، وهذا المعنى ما نقصده هنا. والمعنى الثاني للسنة في السياسة هو الفكر السني المنبثق عن الكتاب والسنة؛ وهذا هو المحارَب من قِبَل الغرب والولايات المتحدة على اعتباره ـ بزعمهم ـ ثقافة الإرهاب.
أما الشيعة فهم لا يفرقون بين الفكر السني والهوية السنية؛ فكلاهما محارَب لاعتبارات طائفية تاريخية ـ ولتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية للشيعة في ظل التغيير الحاصل والظروف التاريخية الآنية في المنطقة مما يجب الحد من حجم الشريك السني والإبقاء عليه ضعيفاً لا يستطيع تسوية صفوفه تحت قيادة قوية وموحدة؛ وذلك عن طريق القضاء على كل ما قد يساعد في قيام ودعم تكتلات سنية سياسية فاعلة تكون نداً حقيقياً للقوى الشيعية الفاعلة اليوم، وخاصة في دول الهلال الشيعي الذي أنفقت إيران فيها الكثير من الجهود والأموال لترسيخ المشروع الإيراني. وتأتي تصفية القيادات السنية البارزة كحل أمثل؛ حيث يضمن المشروع الشيعي من خلال تصفية الرموز والقيادات السنية المؤثرة في الشارع السني إضعاف التكلات السنية؛ بحيث تصبح هذه التكلات غير قادرة على الاستفادة القصوى وتحقيق مكاسب سياسية في أجواء التغيير الأمريكي الذي يهب ريحاً عاصفة على المنطقة الإسلامية؛ وذلك لعدم وجود قيادات ذات كفاءة تستطيع أن تحشد الشارع السني خلفها، وتستطيع أن تناور القوى الشيعية، أو مَنْ يدور في فلكها.
وبهذا تكون حركة الشارع السني في تخبط مستمر كما هو حاصل في العراق اليوم، بل في كل ارض تهب عليها رياح التغيير الأمريكية؛ ومن ذلك ما يجري في لبنان؛ إذ يجب أن يُنظَر لعملية اغتيال الحريري من هذا الباب ـ حيث تأتي عملية اغتيال الحريري الزعيم السني القوي بعد صدور القرار 1559 وذلك إعادة صياغة للتوازنات السياسية في لبنان تحسباً للوضع السياسي الذي ينشأ في لبنان بعد الانسحاب السوري ـ وبهذا يستطيع الطرف الشيعي احتواء المشروع الأمريكي سياسياً وبصورة كبيرة، والتأثير في توجهاته؛ حيث ستجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة على التعامل مع القوى الشيعية التي تتمتع بنفوذ قوي لدى الشارع الشيعي؛ إذ تستطيع القيادات الشيعية التأثير بقوة على الشارع الشيعي وتجنيده لخدمة أجندتها متى ما أرادت ذلك كما هو حاصل في العراق اليوم ـ أفراد قوات الشرطة والجيش العراقيين أغلبيتهم من الشيعة ممن استطاعت مرجعياتهم أن تدفع بهم إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية ـ وتعتبر عمليات تصفية القيادات السنية هي الأسلوب الأمثل لتقويض القوى السياسية السنية، وهي في الحقيقة بمكانة إعلان حرب طائفية لكن بأسلوب مدروس هذه المرة يحقق النتائج المنشودة (إضعاف السنة) ويقلل من الخسائر في الطرف الآخر خاصة.
وإن الوضع العالمي اليوم يمكِّن الطرف الشيعي المؤيد في تشيعه ـ الغرب لا يرى في الفكر الشيعي المنبثق عن أصول المذهب خطراً على مصالحه ـ من التحرك بقوة على حساب الطرف السني الذي تُهمتُه في سنيته؛ ومن هنا يجب أن نفهم عمليات الاغتيال التي تنفذها قوى شيعية في العراق وعلى رأسها (قوات بدر) التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق؛ وذلك في حق شخصيات قيادية سنية؛ مستغلةً في ذلك الفوضى الأمنية ووجود الاحتلال الأمريكي.
ويبدو أن الشيعة في العراق ـ على عادتهم ـ يفضلون ممارسة سياساتهم في الخفاء، لكن ما إن كشف (الشيخ حارث الضاري) أفاعيلهم تلك حتى بادر (عبد العزيز الحكيم) بتصريحات تهدف إلى التبرير لاستمرار هذه العمليات، وأعتقد أن (الحكيم) بهذه التصريحات لا يمانع من أن تحدث في العراق بعض المواجهات الطائفية المحدودة، وخاصة أن الطرف الشيعي في العراق اليوم يحتمي بالقوة الأمريكية التي تجد نفسها كذلك متورطة أمنياً في العراق ومجبرة للتعامل مع الفصائل الشيعية لكبح جماح المقاومة السنية التي ترفض الاحتلال وتدك معاقل الأمريكيين في العراق.
والواضح هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف جيداً الإطار الطائفي الذي يتحرك فيه شيعة العراق، ولهذا هم لا يوافقون على أن يستحوذ الشيعة على كل مقاليد الحكم في البلاد، وبالذات المناصب المتعلقة بالجيش والدفاع، ويأملون في إسناد مثل هذه المناصب إلى من يحمل الهوية السنية دون الفكر السني؛ لأن مثل هذه المناصب إذا ما وقعت بين ايدي الشيعة في العراق فإن ذلك سيعزز الجبهة الإيرانية في المنطقة، وهو ما يخل بالتوازن الإقليمي قي الشرق الأوسط المحكوم بإرادة دولية قوية؛ لأن مصالح القوى الدولية تقتضي عدم وجود محور إقليمي قوي في المنطقة يستطيع أن يتحكم بإمدادت النفط العالمية. فالنفط هو مفتاح النشاط التجاري في الغرب ومن هذه المنطقة يتنفس الاقتصاد العالمي برمته. والغريب أن المرجعيات الشيعية الذين قامت ثورتهم في إيران على شعار (الموت لأمريكا) يفضلون التعاون مع الأمريكيين في العراق للقضاء على المقاومة السنية، ولا يفضلون التعامل مع المقاومة السنية للقضاء على الاحتلال الأمريكي؛ إنه الحقد الطائفي الذي يبدو أنه كان من أهم مبادئ ثورة الخميني في إيران والذي بدأ يؤتي ثماره الخبيثة في كثير من دول العالم الإسلامي.(230/19)
أمريكا في «جيب بوش»
أحمد فهمي
هل يمكن أن يمتدَّ حكم آل بوش لأمريكا إلى (20) عاماً؟ يبدو ذلك قريباً جداً بعد أن تردّد كثيراً في الآونة الأخيرة رغبة العائلة في أن يترشح ولدها (جيب بوش) للرئاسة بعد انتهاء ولاية أخيه نهاية عام 2008م.
ولو حدث ذلك؛ فإن أسرة بوش ستكون قد حكمت الولايات المتحدة لمدة عشرين عاماً كاملة، فيما لو نجح (جيب) في الفوز برئاستين متتاليتين كما فعل أخوه، ولا يبدو ذلك بعيداً؛ فالعائلة تتحدث لوسائل الإعلام حالياً عن إمكانات (جيب) الهائلة، وقال جورج الابن: إن شقيقه «سيكون رئيساً رائعاً وعظيماً للولايات المتحدة» ، وصرّح جورج الأب في حوار مع (لاري كينج) المذيع الشهير في محطة (سي إن إن) أن ابنه (جيب) يعتبر «رئيساً جيداً للغاية» ، وأعلن جورج الابن اقتراحه بترشح أخيه أثناء زيارته لولاية فلوريدا لمدة ثلاثة أيام، وهي الولاية التي حسمت الانتخابات الأولى عام 2000م في مواجهة (آل جور) لصالح الأول، بعد تلاعب في الأصوات أحدث ضجة كبرى وقتها، وكان (جيب) حاكماً للولاية.
ويبلغ (جيب بوش) 53 عاماً، ويبدو أن الإدمان يحتل مكانة بارزة في تاريخ العائلة، حيث يراوحون ما بين الإدمان والإيمان على الطريقة الإنجيلية، فقد اعتقلت الشرطة ابنة (جيب) وهي تعاني من إدمان المخدرات، ولكن أخاه يبذل جهوداً واضحة لتلميع صورته، فقد أرسله في جولة خارج الولايات المتحدة عام 2004م، من أجل تقويم خسائر الدول التي تعرضت لكارثة تسونامي. ويحتفظ (جيب) بالسر لنفسه حتى الآن، فلم يعلن بعد عن موافقته على الترشح.
وتحظى العائلة بنفوذ كبير في أوساط المال والأعمال، ولها علاقات قوية بالشركات الكبرى، وفي الولايات المتحدة تتحدد قرارات السلم والحرب في أروقة الشركات الكبرى قبل أن تنتقل إلى البيت الأبيض لوضع اللمسات الأخيرة، وحرب العراق مثال واضح، فهي تستنزف (2) مليار دولار أسبوعياً من ميزانية أمريكا، يعني: أكثر من مائة مليار دولار سنوياً، وتجاوز الرقم منذ بدء الاحتلال (500) مليار دولار، أين تذهب هذه الأموال؟! يتدفق معظمها في خزائن شركات السلاح والطاقة ولوازمها، وإذا كان لوبي السلاح استطاع أن يزيح الرئيس الأسبق جون كينيدي؛ لأنه أراد أن يوقف حرب فيتنام الخاسرة، فإنه يستطيع أيضاً أن يأتي برئيس يحتفظ بالدجاجة العراقية التي تبيض نفطاً، وبعد ذلك يبقى للساسة أن يتحدثوا عن «فوضى بنّاءة» في العراق، وعن نظام جديد للشرق الأوسط.
وقد بدأ جورج الابن يمهد الطريق لأخيه، بصناعة عدو جديد هو «إيران» من أجل زيادة النزيف الاقتصادي، وقد أعلن بالفعل عن إقامة قاعدة صواريخ مضادة في شرق أوروبا؛ لمواجهة أيّ صواريخ تطلقها طهران على أوروبا، وخصص لها ميزانية تتجاوز مئات الملايين من الدولارات. حقاً؛ إن أمريكا أصبحت في (جيب) آل بوش.(230/20)
الجرائم الجنسية: سياسة رسمية للمحتلين
د. رضا عبد الحكيم رضوان
أساليب المحتلين بالتهديدات الجنسية لا نتزاع المعلومات من المعتقلين والموقوفين
تنظم القوانين الجنائية الوطنية التصرفات المؤثمة التي تمثل انتهاكاً للأعراض بالمعنى الشامل العام، وتضع جزاءات واجبة التطبيق ضد مقترفي تلك الأفعال غير المشروعة، فيما جرت عليه التسمية المعروفة (الجرائم الجنسية) ، ويندرج تحت هذا الوصف الزنا، والدعارة، وإدارة الأماكن الخاصة لهذه الأعمال المشينة، والتحرش الجنسي، والمثلية الجنسية بين الذكور (اللواط) أو بين الإناث (السحاق) ، وهتك العرض، والاغتصاب، وغير ذلك من صور أخرى مما نص عليه في القوانين.
والذي نعلمه بالنسبة للجريمة (عموماً) في المجال الدولي، أنها تختلف عن الجريمة الوطنية الداخلية، إذ ترتكب الجريمة الدولية باسم وحساب الدولة التي ينتمي إليها مرتكبو الأفعال، والتصرفات الخارجة على قواعد القانون الدولي وأعرافه، والمعاهدات الدولية، والاتفاقيات المنظمة لحقوق الدول فيما بينها. والمقرر في هذا الصدد أن ثمة فرع قانوني خاص، هو القانون الدولي الجنائي، ومخالفته ـ فيما استقر عليه رأي الشراح ـ تمس الضمير العالمي في أعماقه، مما يخول لمنفذي هذا القانون سلطة إيقاع عقوبات ضد المخالفين؛ باعتبارهم مجرمين دوليين لا مناص، ينبغي الاقتصاص منهم حماية لحقوق المجتمع الدولي، فالعقوبة المطبقة ههنا هي باسم المجتمع الدولي، ولحماية نظامه العام الذي ينبغي أن تراعيه كافة الدول بالمعمورة.
ثمة نماذج تجريمية عديدة نُص عليها في القانون الدولي الجنائي، كجرائم الحرب العدوانية، والتآمر الدولي، والإرهاب الدولي، والتفرقة العنصرية والعرقية، وجرائم تقع أثناء الحرب وبسببها، مثل انتهاك المواثيق الدولية المنظمة لحقوق الأسرى، وغير ذلك كثير مثل: استخدام مواد وأساليب محظور استعمالها دولياً ... وهكذا.
يتوقف هذا البحث عند أنماط تجريمية غريبة ذات أبعاد أخلاقية، تم التوصل إلى التعرف على أشكالها ونماذجها من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، شاعت مؤخراً من مقتضيات الضبط العسكري أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق، ففتحت السجون والمعتقلات، وتم الزج بكثير من أبناء الشعب العراقي عسكريين، ومدنيين، وساسة، وغيرهم.
ولا تناقش الدراسة شرعية التصرفات من عدمه، فهذا يلزم له موضوع مستقل يعتمد على توثيقات ومصادر أصلية للتقرير بالرأي حول مدى التزام القوات الغازية بأحكام القانون الدولي في أحقية الحجز والحبس والاعتقال من عدمه، وذلك بصفة أساسية.
ودون الخوض في تفصيلات شرعية الاعتقال، ومدى التزام القوات المتحالفة الغازية بإحكام القانون الدولي ويهمنا إلقاء الضوء على جرائم أخلاقية وقعت داخل هذه السجون التي أدارتها السلطات العسكرية المحتلة متجاوزة الحدود الشرعية بكل ما تعنيه الكلمات من معانٍ. فالمُحقَّق هو وقوع جرائم جنسية ضد المتعقلين رجالاً ونساءً. وهكذا أجد أن الجرائم الجنسية لم يعد القانون الوطني الداخلي هو موطنها الرئيسي، بل إن الجرائم الجنسية قد تخطت حدود ذلك إلى (الدولية) ، وإنه من الإنصاف، بل إنه من اللازم والموافق للقانون الدولي أن تُفرَد نصوص خاصة تعاقب المجرمين الدوليين مقترفي الجرائم الجنسية ضد المعتقلين، وأن تكون هذه النصوص مشددة الجزاءات تحقيقاً للردع العام الدولي، ذلك إذا كان العالم المتمدن المعاصر يرغب في تحقيق الضبط والمحافظة على إنجازاته التي حققها عبر القانون.
على سند من تقرير المجموعة المستقلة لمراجعة عمليات الاعتقال من جانب وزارة الدفاع الأمريكية، والمؤرخ بتاريخ 24 آب/أغسطس 2004م، في السنة التالية لغزو العراق اعتقلت العمليات العسكرية والأمنية الأمريكية آلاف الأشخاص، ومن هذه الأعداد ظهرت شكاوى المئات بوقوع جرائم جنسية مشينة ضدهم. ولحفظ ماء الوجه أجرت سلطات الرقابة العسكرية ـ بتوجيه سياسي ـ تحقيقات مع المسؤولين عن وقوع هذه التصرفات. فالأصل أن يعامل المعتقلون بطريقة إنسانية، وبما يتفق ـ إلى الحد الملائم والمتسق مع الضرورة العسكرية ـ مع مبادئ جنيف، والالتزام بالمعايير السلوكية لعمليات الاستجواب التي تمارس حيال هؤلاء المعتقلين ضماناً لتنفيذ نصوص معاهدة تحريم التعذيب، أي: إلحاق الأذى البدني أو العقلي بشكل قاسٍ صعب التحمل.
والحقيقة أن وزارة الدفاع الأمريكية ـ على المستوى الداخلي ـ قد نظمت بلوائح وطنية ضوابط للاستجواب بهدف الحصول على معلومات مخابراتية، بما يخدم مصالحها الحربية في مناطق العمليات، ومن هذه اللوائح مثلاً: الدليل FM-34-52. وقد دلت الأخبار والمعلومات على لجوء قوات الاحتلال إلى أساليب ليست متضمنة في الوثيقة المعتمدة، بل وحتى استثناءات التشدد التي صدرت تباعاً.
كانت وزارة الدفاع الأمريكية في أغسطس 2003م، قد أرسلت فصيلة المخابرات العسكرية رقم (519) إلى منشأة الاعتقال في سجن (أبو غريب) ؛ لإجراء عمليات الاستجواب، وجمع المعلومات بطرق المخابرات، وقد طلبت هذه الفصيلة من القائد العام للقوات الأمريكية في العراق، إصدار قرار يخولها استخدام أساليب استجوابية أكثر تشدداً، علاوة على ما هو وارد في لائحة الدليل الميداني FM-34-52.
يذكر ـ وهذا مؤكد باعتراف المصادر الأمريكية الرقابية ـ وقوع إساءات ضد المئات داخل المعتقل تمثل تجاوزات إنسانية على قدر كبير من الخطورة، خروجاً على اللوائح الخاصة بالسجون، وحتى ما جاء في الدليل الميداني الأمريكي والتوسعات الاستثنائية التالية. إن إجراء العنف المغالي فيه أثناء الاستجواب أسفر عن حدوث حالات وفاة، وهذه الحالات بالفعل محل تحقيقات لدى السلطات الأمريكية، وحققت السلطات الرقابية في الولايات المتحدة في واقعات وصفها المسؤولون «سلوكيات شاذة» ، كانت هذه السلوكيات قد صُور ممارستها وتم بثها إعلامياً، وفيها إكراه المساجين على ممارسات اللواط! بل وممارسة الجنود اللواط إكراهاً ضد المعتقلين، وغير ذلك من صور مقززة تم نشرها مع مطلع العام 2004م، وقد أكدت التقارير مسؤولية جهاز المخابرات وجنود الشرطة العسكرية والذين ارتكبوا 44 حالة إساءة، وقد أدرجت الوقائع بملفات تحقيقات تتهم مباشرة اللواء رقم 800 للشرطة العسكرية، واللواء رقم 205 للمخابرات العسكرية، وقائد الكتبية رقم 320 للشرطة العسكرية، ومدير المركز المشترك لاستخراج المعلومات والاستجواب.
«نرجوكم هاجموا السجن بكل ما تملكون من أسلحة ... دمروا السجن واقتلونا معهم (مع الأمريكين) ... بالله عليكم افعلوا هذا؛ لأن بطوننا امتلأت بأولاد الزنى» .
هذا هو باقتصاب شديد فحوى النداء الذي حملته امرأة عراقية، تعرضت لاعتداء جنسي في سجن (أبو غريب) ، ووصلت سراً في آذار/ مارس 2005م، وكان لها صدى يفوق كل وصف تقريباً في مختلف الأوساط الاجتماعية والثقافية والسياسية. الرسالة بعثت بها امرأة تدعى (نور) . إن هذه العراقية الأسيرة تعرضت وأخريات معها إلى عمليات اغتصاب منتظمة قام بها الجنود الأمريكيون المكلفون بحراسة وإدارة السجن.
والرسالة مؤرخة في 20 شباط/ فبراير 2005م، أي بعد نحو عامين من الاحتلال، ونحو عام من تفجر فضيحة (أبو غريب) ، إثر نشر تقرير الصحافي الأمريكي الشهير (سيمور هيرش) في جريدة نيويوركر (New Yorker) .
لقد خاطبت المرأة المجهولة العراقيين جميعاً من دون أن تسمي أحداً بعينه، وطلبت منهم إذا كانوا يملكون السلاح أن يهبوا لمهاجمة السجن الرهيب، وتحطيمه لتحرير السجينات.
النداء الذي وجهته المشار لها فيما يبدو أنه يصف لحظة جزع، فالمطلوب ليس مجرد الاكتفاء بتحطيم السجن أو قتل السجانيين الأمريكيين وحدهم، بل أيضاً إلى أن يقتلوهن معهم؛ غسلاً للعار، لئلا يلحق بهم الخزي إن هم تخلوا عن الحق في القصاص من جريمة الزنى، فجريمة الزنى هذه وقعت وتكررت في السجن مرات لا تحصى من دون رادع.
فهل كانت جرائم الاغتصاب الوحشي سياسة رسمية للاحتلال؟!
ü الجنس/ نقطة ضعف الآخر:
بدأت فصول فضيحة (أبو غريب الرجالية) تتكشف في الثالث عشر من كانون الثاني/يناير 2003م، أي بعد بضعة شهور من احتلال بغداد، عندما سلم شاب يعمل في سلك الشرطة العسكرية يخدم في السجن، قسم التحقيقات الجنائية التابع للجيش قرصاً مدمجاً (CD) مليئاً بالصور لرجال عراقيين تعرضوا خلال فترات متواصلة بعد احتلال بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل 2003م لأشكال فظيعة من التعذيب، شملت أنماطاً شاذة من التعديات الجنسية، وتخللتها ممارسات لا أخلاقية فاضحة. هذه الصور هي السجل الحقيقي وشبه الكامل عن الفضيحة، وخلال ثلاثة أيام كان تقرير قسم التحقيقات الذي تلقى الوثيقة، قد وجد طريقه إلى وزير الدفاع الذي أبلغ بدوره الرئيس الأمريكي بالقضية. أما فصول فضيحة (أبو غريب النسائية) التي ما يزال البنتاغون يواصل تكتمه عن حقيقتها بالرغم من نشر مئات الصور للنساء المغتصبات على شبكة الانترنت، فإنها ستظل في أقبية الطابق السفلي وفي أدراج الغرف المظلمة، حتى من دون الاعتراف بوجود تاريخ مُدَوَّن، أو وثائق تخص الواقعة.
المجرمون غالباً ما يقومون بإتلاف الأدلة، ومحوِ آثار جريمتهم. ولكن الضحايا غالباً أيضاً ما يتمكنون في النهاية من عرض أجسادهم كدليل دَوَّن المجرمون فيه تاريخ جريمتهم.
ü من وراء حجاب:
في منتصب تموز/ يوليو 2003م كانت قد انصرمت ثلاثة شهور على سقوط بغداد وانهيار البلاد، وغرقها في الفوضى، عندما وردت بعض المعلومات العمومية والأولية عن وضع السجينات العراقيات في (أبو غريب) . كانت المعلومات شحيحة، وربما مشوشة في خضم أحداث متلاحقة وعنيفة. ومع ذلك، فقد كان من الواضح أن أسلوباً جديداً في انتزاع المعلومات من المعتقلين قد بات مطبقاً على نطاق واسع من قبل قوات الاحتلال الأمريكي لا في السجون؛ وإنما كذلك في معسكرات الاعتقال التي يستخدمها الأمريكيون محطات تحقيق مؤقتة قبل نقل المعتقلين إلى السجون.
لقد تجمعت معلومات وشهادات حية من مصادر موثوقة عن تجاوزات وممارسات المحتلين، ففي منتصف تشرين الأول/ أكتوبر أصبحت هناك أول شهادة حية جاهزة لأنْ تأخذ طريقها إلى وسائل الإعلام، وتتضمن تأكيداً قاطعاً بوقوع تعديات، أوله على السجينات العراقيات. تضمنت الشهادة التي سجلت أول تأكيد مدون بحصول عمليات اغتصاب مبكرة للنساء والأطفال (كان هناك اتهام رائج بين العراقيين عن اعتداءات جنسية قام بها الجنود البولونيون على أكثر من خمسة وأربعين من الأطفال القاصرين) .
والمعلومات المتوافرة حتى نيسان/ آبريل 2004م أي بعد عام من الاحتلال، كانت تشير إلى وجود 25 امرأة في سجن (أبو غريب) جرى اعتقالهن، ونقلهن إلى السجن في خضم الفوضى. هذا على الأقل ما بدا أن قوات الاحتلال تعترف به بصورة أو بأخرى. لكن تظاهرات عارمة تم تنظيمها، وكانت لا تزال تتواصل بأشكال مختلفة كل يوم حتى مطلع العام 2005م في منطقة الكرخ في بغداد، وفي الفلوجة، والرمادي كبرى مدن محافظة الأنبار والموصل، ظلت تركز على مطلب الإفراج عن السجينات فوراً.
جاءت التظاهرات الصاخبة بعد تلقي الأهالي في مطلع كانون الثاني/ يناير من عام 2004م، بعد مرور عام على الاحتلال، نسخاً من رسائل تم تهريبها من السجن وبشكل خاص من إحدى السجينات وتدعى (فاطمة) ، قبل أن تعقبها بوقت في شباط/ فبراير رسالة أخرى من المدعوة (نور) . هذه الرسائل والتظاهرات ساهمت في إعادة طرح موضوع نساء (أبو غريب) من جديد. بدأ خطباء المساجد أثناء صلاة الجمعة في العديد من المدن العراقية يتناولون قصة اغتصاب النساء في خطبهم، ويحثون المجتمع على التحرك؛ لوضع حد لهذا النمط الشاذ من التجاوزات. وحين استجابت جماعات عشائرية ودينية، ومنظمات حقوقية لفكرة التحرك، جرى تشكيل الوفود للقاء أعضاء مجلس الحكم المؤقت (المنحل) . لقد كان إنكار وجود سجينات سياسة ثابتة في اللقاءات التي جرى تنظيمها مع الوفود، وهي في الأصل سياسة أمريكية منهجية سرعان ما تراجعت على الأقل في أوساط السياسيين العراقيين الموالين للاحتلال، وذلك لصالح القول: بأن عددهن لا يتجاوز 7 نساء. غير أن وصول رسالة مكتوبة باسم السجينات أعاد من جديد طرح مسألة وجود 25 امرأة تعرضن بانتظام للانتهاك الجنسي.
إن السجينات كن يتعرضن بالفعل لما يمكن اعتباره عمليات اغتصاب منتظمة وذات طابع نمطي. كانت هناك سجانة (مجندة) أمريكية، وهناك مجموعة من النساء المسجونات ـ تقول سيدة من وراء حجاب لإحدى الصحف الفرنسية ـ: «ومساء كل يوم تأتي السجانة ومعها عدد من الجنود، ويتم تجريدنا من الملابس لتبدأ الحفلة. وعندما كنا نمتنع ونقاوم، كان الجنود ينهالون علينا عندئذ بالضرب بواسطة الهراوات، وفي أحيان كثيرة كان الضرب يتركز على أطراف الأيدي، والأرجل، وتسدد اللكمات إلى الوجوه» .
لقد ألقى الأمريكيون القبض على السيدة صاحبة الرواية بتهمة أن زوجها من قادة المقاومة، وكان من الواضح أنهم استخدموا على نطاق واسع أسلوب التهديد الجنسي لا من أجل الحصول على معلومات مباشرة من المعتقلين، بل من أجل إرغام نشطاء المقاومة العراقية على الاستسلام. كان الابتزاز واضحاً بما فيه الكفاية في هذا السلوك.
| ذكر أحد المراسلين أثناء معارك نيسان/ إبريل 2004م في الفلوجة وبعدها بقليل. قام الأمريكيون بمداهمة منزل في حي الجولان بحثاً عن عضو قيادي في حزب البعث، وأحد نشطاء المقاومة (قبل اعتقاله بعدة أشهر) . لم يتمكن الأمريكيون في هذه الغارة من إلقاء القبض على الرجل المطلوب، ولكنهم شاهدوا مصادفة شابة تبلغ من العمر 22 عاماً كانت لا تزال في اليوم الثالث من شهر العسل. ولم يكن من الملائم بالنسبة إليهم العودة دون صيد ثمين، فقد اقترح أحد الجنود إلقاء القبض على الفتاة، فاستشاط الأهالي غضباً، وخرج عشرات الآلاف منهم، ومعهم أهالي الفلوجة والرمادي في تظاهرات عارمة تطالب بالإفراج عن الفتاة، وطوق المتظاهرون معسكراً للقوات الأمريكية في المنطقة، وهددوا بأن تظاهراتهم ستستمر إن لم يفرج عن الفتاة.
لقد أصبح التهديد الجنسي أسلوباً شائعاً في ممارسات الجنود الأمريكيين، ولم يعد مقتصراً على السجون الرهيبة المنتشرة في العراق (بوكا في البصرة، وسجن مطار بغداد، والحبانية) . ففي الخامس والعشرين من آذار/ مارس 2005م، وعلى الرغم من الصدمة التي تركتها فضيحة (أبو غريب) في العالم كله، قامت وحدة خاصة كان تطارد أحد نشطاء المقاومة ـ وهو مهندس شاب أفلت من أيدي المهاجمين ثم قتل فيما بعد ـ بمهاجمة منزل عائلته في منطقة الصقلاوية شمال الفلوجة. لقد نظمت وحدة خاصة هجوماً ليلياً مباغتاً على منزل عائلة المهندس الشاب بعد منتصف الليل، وعندما اكتشفت القوة المهاجمة أن الشخص المطلوب لا يقيم مع عائلته، قام أفرادها على الفور بإلقاء القبض على والدته المسنة مع طفل صغير لا يتجاوز عامه السابع، حيث جرى نقلهما إلى سجن الحبانية. وحتى الأسبوع الأخير من آذار/ مارس 2005م، كانت التجاوزات التي يقوم بها الجنود المهاجمون لا تزال معتمدة بصورة رسمية، وتحظى بالقبول من جانب القادة العسكريين، فهي تمثل من وجهة نظرهم استمراراً في أساليب معتمدة من البنتاغون لانتزاع المعلومات. في الخالدية مثلاً، قام الجنود الأمريكيون أثناء مداهمة ليلية لأحد المنازل في هذه المدينة البدوية الصغيرة، بتجريد سيدة من ملابسها في تهديد صريح بالاغتصاب إن هي امتنعت عن الإدلاء بمعلومات، وهو ما يوضح إلى أي حدّ يجري استخدام أساليب التهديد الجنسي من أجل انتزاع المعلومات من المعتقلين والموقوفين، كأن دوي فضيحة (أبو غريب) لم يحدث أي أثر لصدمةٍ أخلاقيةٍ ممزقة للوجدان الأمريكي.
ü السجن والمسجد: الاغتصاب بوصفة استراتيجة عسكرية:
هذا السلوك من منظور العقيدة العسكرية الأمريكية في الحرب يدل على أن العدوان الجنسي المستمر والمتواصل بشكل متعمد على النساء في العراق مرتبط بشكل وثيق في العدوان العسكري عليه. ومن النادر ـ إذا ما عاد المرء إلى التاريخ الإمبريالي المكتوب، والمروي بطريقة تفصيلية ـ رؤية مثل هذا التلازم في أي حرب سابقة، بين استعمال الجنود السلاح والعتاد الحربي الهائل في عملية قرصنة عسكرية عدوانية شاملة للاستيلاء على هذا البلد، واستخدام السلوك الجنسي في أي حرب أمراً لا فكاك منه. إن التحريض ـ المباشر من جانب القادة العسكريين ـ على ممارسة سلوك جنسي مشين ضد النساء، ووقوع هذا الممارسات من قبل الجنود والشرطة العسكرية، ليسا ـ تماماً ـ مجرد أمر عرضي، بل هما لب سياسة السيطرة على السكان بواسطة استغلال ما يدعى (نقطة الضعف) ، أي شعور السكان بالعار والخزي، إنه جزء عضوي من سلوك متعمد أعم، وممنهج في استراتيجية الإخضاع.
هذا السلوك المشين، المصمم بصورة مقصودة فاضحة ضد مجتمع النساء من أجل الحصول؛ بواسطة الهتك العنيف والشرس للأعراض؛ على معلومات تمكن قيادة الاحتلال من فرض السيطرة، هو في خاتمة المطاف؛ وكما بينت سلسلة الوقائع؛ سلوك مراقب ومهيمن عليه، وتحت الإشراف المباشر، وليس سلوكاً عابراً وفردياً. إنه جزء فعال في الخطة العسكرية. إن أي محاولة لتبريره أو التخفيف من وقعه هو تضليل وخداع.
حين تصبح الانتهاكات الجنسية في بلد ـ كالعراق ـ سياسة ذات طابع استراتيجي، لا مجرد حالات فردية معزولة ناجمة عن التدني في معرفة ثقافة البلد وتقاليده الوطنية، أو نتيجة الضعف في التدريب أو الكفاءة، أو تراخي درجة الانضباط والالتزام بالتعليمات، فإن السلوك المشين يغدو نوعاً من عقيدة. كانت الفكرة الاستشراقية الحمقاء القائلة: إن نقطة الضعف الكبرى والمركزية عند العرب هي الجنس؛ لأنهم يشعرون بالعار والخزي من تعرض نسائهم للانتهاك، مادة حديث دائم، ومتواصل بين المحافظين المؤيدين للحرب في واشنطن خلال الأشهر التي سبقت الغزو في آذار/ مارس 2003م، وكان كتاب (العقل العربي) لـ (رفائل باتاي) ، المؤلف اليهودي العنصري، هو أنجيل المحافظين الجدد، حيث ضمّن المؤلف فصلاً مقيتاً وسطحياً، مملوءاً بالمغالطات التاريخية عن العرب والجنس، فما يقوله الكتاب ينطوي على تبسيط أخرق: العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، وأن أكبر ضعفهم هو الشعور بالعار.
هذه الطريقة في فهم العراق والعرب هي التي مهدت الطريق لارتكاب الجريمة في (أبو غريب) ، وقادت الجنود إلى ممارسة الجنس داخل مساجن الفلوجة!!
كانت جرائم (أبو غريب) الجنسية مستوردة بأدق المعاني تطبيقاً حرفياً لجرائم وممارسات مماثلة تشهدها المدن والسجون الأمريكية بانتظام ويعرفها المجتمع الأمريكي والغربي عموماً. بينما تبدو مثل هذه الجرائم في التاريخ الجنائي العراقي وكأنها من دون أي سياق منطقي. جرائم الشرف في تاريخ هذا البلد العربي تكاد تتمحور في موضوع واحد: علاقة عابرة بين امرأة ورجل، ينجم عنها حمل يتسبب في قتل المرأة في الغالب، بينما يفلت الرجل من العقاب، أو ينال قصاصاً مخففاً. ولذا تبدو قصة الاغتصاب في (أبو غريب) برمتها جديدة تماماً، وصاعقة بالنسبة إلى مجمتع محافظ مثل المجتمع العراقي.
القصة بدأت من التاسع من نيسان/أبريل 2003م من احتلال بغداد، ولكنها لم تنتهِ بعد؛ لأن فصلاً إضافياً أنجزه الجنود الأمريكيون في مساجد الفلوجة مؤخراً، يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات أخلاقية، أو يضيف أبعاداً جديدة تجعل من فضيحة السجن أقل أهمية من فضيحة تحويل المساجد إلى أمكنة عبث مفضلة. ومهما يكن من أمر، فإن توسيع نطاق السلوك الجنسي المشين، بحيث يشمل مسجد المدينة وسجنها معاً ـ أي: يقوم بدمجهما معاً في فضاء جغرافي واحد ـ من شأنه أن يدعم وجود هذه الانتهاكات، وأن يخرج بها إلى العلن على رغم كل تدابير السرية. إنه التوسع الجغرافي الذي سوف يرغم المنتهك على الكشف عن جريمة انتهاكية.
من بين أكثر الأدلة قوة على أن سلاح الاغتصاب بشكل منهجي في سياسة فرض السيطرة داخل العراق ما حدث في الفلوجة أثناء اجتياحها الأخير. تكشف صحيفة آفاق عربية، وشبكة البصرة على الإنترنت في 17 آذار/مارس 2005م النقاب عن وقوع 149 حالة اغتصاب داخل مساجد الفلوجة وحدها.
وتناول هذا تقارير خاصة تؤكد أن قوات الاحتلال انتهكت أعراض 149 امرأة داخل المساجد.
يتضمن هذا التقرير الخطر والمفجع معلومات يصعب إنكارها نظراً إلى الشواهد الكثيرة على الانتهاك والقسوة: دمار هائل، تخريب فظيع لكل شيء، والتقرير في الإطار ذاته يتضمن توثيقاً لحالات اغتصاب جرت خارج أسوار سجن (أبو غريب) .
تقع الفلوجة فعلياً في الفضاء الجغرافي لسجن (أبو غريب) الرهيب، وتربطها به شبكة طرق زراعية، فضلاً عن طريق سريع يصل ما بين بغداد والمحافظات. إن لهذا الأمر دلالة خاصة؛ لقد نقل الأمريكيون سلوك الاغتصاب الجنسي، كسياسة رسمية في استراتيجية السيطرة على المناطق، من زنازين السجن المغلقة إلى المدينة ومحيطها مروراً بالمسجد، وبذلك فإنه نوع جديد وغير مسبوق في المدينة، يعملون على تدنيسها، وتهشيم كل قدسية محتملة لها (كانت الفلوجة ولا تزال في أنظار العراقيين رمزاً مقدساً للمقاومة البطولية) .
وبذلك فإنهم، وعبر هذا النقل الميداني للعنف الحربي الممزوج بالسلوك المشين، يقومون عملياً ببناء مجتمع النساء النموذجي الذي تنقلب فيه طهارة المسجد إلى دنس، ويتحول فيه مكان العبادة إلى مكان موبوء وملوث ومتسخ ومملوء بالقاذورات. ولعل المشاهد المحزنة التي نقلتها الفضائيات لمساجد الفلوجة، وقد تحولت إلى أماكن ملوثة بفعل القاذورات، والأوساخ، والأتربة الناجمة عن الدمار، تعطي صورة دقيقة إلى حدٍ ما عن مغزى التلويث وحجمه وحدوده، والغرض منه. بيد أن وقوع حالات الاغتصاب داخل المساجد ـ وهو أمر لا شبيه له في أي حرب سابقة ـ من شأنه أن يجعل من هذه المعلومات مصدر فضيحة أخلاقية وثقافية كبرى.
لقد أصبح المسجد امتداداً للسجن بفضل هذه الاستراتجية. إنه السجن النموذجي للمسلم، سواء أكان امرأة محجبة أم رجلاً. بهذا المعنى، فإن الوظيفة الحقيقة للانتهاك الجنسي للنساء المحجبات داخل المسجد، إنما هي دمجه ومماهاته مع السجن. وبذلك يتحول المسجد إلى زنزانة، مثله مثل الحجاب في تصورات الأمريكيين له.
يلاحظ أن الجنود والضباط الذين يتولون التعذيب في سجن (أبو غريب) ينتمون ـ في غالبيتهم ـ إلى المسيحية الصهيونية، وهذا جلي في حالة سجن آخر هو سجن المطار (مطار بغداد) ، وفي سجن قصر السجود. ثمة سجن ثالث يدعى (سجن بوكا) في أم قصر، إنه من المعتقلات الرهيبة التي لم يكن العراقيون قد سمعوا بها من قبل؟! الآن تحول الميناء الجميل المطل على الخليج إلى سجن. يقول المراقبون: «كانوا يتركون السجناء من دون استحمام طوال شهر في طقس صيفي حار لا يطاق، وفي ظروف شديدة القسوة، بعد ذلك يأمرون السجناء رجالاً ونساء بالاستحمام الجماعي» . في هذه الحالة يصبح مجتمع الاغتصاب النموذجي مكتملاً من حيث معماريته الاجتماعية، فهو ينقل الاختلاط بين النساء والرجال إلى مرحلة العري البدائي الكامل، وينجز من دون تردد العودة إلى العرية الأولى: «ربي كما خلقتني» .
إن حالات العدوان هذه أضحت وسيلة أو أداة لانتزاع المعلومات، وكذلك لتدريب المجتمع المحتل بأسره على تقبل ثقافة أخرى هي ثقافة الاختلاط العاري، والعودة إلى الحرية الأولى للإنسان. وعلى الأرجح ترتبط مثل هذه الانتهاكات بشكل وثيق ـ كما بيّن التاريخ الجنسي للكولونيالية في آسيا وأفريقيا، وكما يوضِّح التاريخ الجنسي للإمبريالية الأمريكية في كوريا واليابان والفلبين ـ بدرجة تعاظم نفوذ وسيطرة القوة المحتلة، إلى الحد الذي يصبح فيه اعتداء الجنود على نساء البلد المحتل جزءاً من نظام السيطرة الثقافية.(230/21)
دموع التماسيح
د. يوسف بن صالح الصغير
تقوم (كوندي) في هذه الأيام بزيارة للمنطقة بهدف معلن وهو قيامها بتصنيف الزعماء والأنظمة إلى معتدلة، وغير معتدلة، ولا ندري ما هو ثمن شهادة السيرة والسلوك الممنوحة للمعنيين، وما هي تداعيات حجبها عن أي زعيم مشاكس؟ إنها محاولة أمريكية لتجنيد المنطقة إجبارياً في خدمة مشروعها الاستعماري الذي يتمدد باستمرار على الرغم من التعثر الواضح في أفغانستان والعراق، وتسليم القيادة في أفغانستان للإنجليز الذين سارعوا في تبني (نظرية مشرف) في التعامل مع القبائل الموالية لطالبان ومحاولة التهدئة والانسحاب من المناطق المتوترة. وأما في العراق فيبدو أن البلد يسير وفق المخطط الإيراني؛ فمهمة الأمريكان حالياً تتركز في التغطية على عمليات الميليشيات الشيعية في التصفية التدريجية للوجود السني في بغداد والتقسيم الفعلي للعراق؛ ومنتهى آمالهم الحفاظ على وجود محدود عبر عنه الطالباني الرئيس الشكلي للعراق ببضع قواعد. لقد بدأت أمريكا تدخل في مغامرات جديدة؛ فهي من جهة تشارك بفعالية شديدة في عملية إفشال تجربة حماس في فلسطين؛ إذ تقود عملية الحصار الشامل للشعب الفلسطيني ومنع توصيل أي مساعدات رسمية لها، ولم تكتفِ بدعم عودة فتح للسلطة بأي وسيلة، بل تجاوزت إلى محاولة شق صفوف حماس بالكلام عن قيادة دمشق. إنما يجري حالياً في فلسطين يذكِّر بفترة حصار العراق؛ فقد اجتمع حصار اقتصادي خانق وعمليات عسكرية برية وجوية مستمرة وتجاهل عربي وعالمي لما يجري، وأنكى من كل هذا أن شرط وقف العملية المتكاملة هو الاعتراف بدولة اليهود والتنازل عن الحقوق. ومما يحز في النفس أن من يمارس القتل والتجويع في فلسطين هو من يرفع عقيرته في التباكي على شعب دارفور، وتكبيد الشعب المسكين ثمناً غالياً لأهداف بعيدة عن آماله وأحلامه في عدالة التمثيل والتنمية التي يطالب بها بعض أبناء الإقليم. لقد قام الغرب بدعم التمرد المحلي بالسلاح والعتاد واستلاب القرار السياسي للمجموعات المسلحة وعندما يصبح التدخل العسكري الغربي هو الهدف؛ فإن السبيل إليه هو تعميق القتل والتهجير واستغلاله، ولا تعجب عندما تقوم المجموعات المسلحة بإفشال عمليات الإغاثة بقتل العاملين وسرقة السيارات، ويتم إعلان فشل قوات الاتحاد الإفريقي وتبني إرسال قوات دولية. وعندما تتكلم أمريكا باسم المجتمع الدولي وتصدر قرارات مجلس الأمن وفق الإرادة الدولية (أمريكا وبريطانيا) التي تخير السودان بين القبول وإلا!!!! وتهدد بمحاكمة المسؤولين السودانيين الذين يرتكبون ما يزعمونه من جرائم ضد الإنسانية، حيث لمحت أنها قد تنال الرئيس السوداني، وحتى الكونجرس أحيط علماً بما يجري وتحمس أعضاؤه لرفع الظلم الواقع على الإنسان، وأصدروا قانوناً ينص على «عقوبات تستهدف أشخاصاً مسؤولين عن الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور. ويجيز مشروع القانون من جهة أخرى لإدارة بوش أن تقدم دعماً لقوات الاتحاد الأفريقي المنتشرة في درافور في انتظار وصول قوات الأمم المتحدة، ويطالب (بطرد الخرطوم) من الأمم المتحدة» . وإذا تصورنا خضوع البشير للتهديد وسمح باحتلال جزء من السودان، وتحولت دارفور إلى ساحة حرب بين قوات التحالف بدارفور والمجموعات الجهادية التي دعت لمقاومة الاحتلال الأمريكي لدارفور؛ فما هي حال الشعب المسكين؟ إنها ستكون مثل حال الشعوب المحررة في العراق وأفغانستان، وسنسمع أن طائرات التحالف قد أتمت بنجاح ضرب أهداف يُعتقد أنها لإرهابيين، وليبكي الناس نساءهم واطفالهم.
واخيراً نذكِّر الجميع أنه يمنع دخول الصحفيين للإقليم؛ إنها تعليمات العم سام، ويا أهل الصومال خذوا حذركم!
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(230/22)
لهذا لم يعتذر (البابا) ... ولهذا لم ترتدع الدانمارك
د. عبد العزيز الحامد
تتوالى طعون الغربيين النصارى عبر السنوات والشهور الأخيرة بشكل لافت، إلى كل مقدسات وحرمات المسلمين، في حملة حضارية وثقافية صليبية، تتزامن مع الحملة العسكرية والأمنية؛ فبعد جريمة الرسوم المسيئة إلى الرسول # في الدانمارك منذ عام، خرج الفاتيكان بموقف أشنع، لم يمثله مجرد رسام هابط، أو كاتب باحث عن الشهرة، أو صحيفة تريد الرواج، وإنما صدر من أكبر رأس ديني نصراني في العالم الكاثوليكي، في تصريحات قبيحة، تنم عن عداوة صريحة، تحول بها العداء الخاص إلى استعداء عام، في نوع من توزيع الأدوار بين طوائف النصارى الثلاث، فالبروتستانت الأمريكان ـ على ما يظهر ـ تفاهموا مع رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا بنديكت السادس عشر على أن ينضم إلى الحملة العالمية ضد الإسلام، ولكن في جانبها الفكري والثقافي، ولم يتأخر (البابا) في تقديم هذه الخدمة لأمريكا، اتساقاً مع الدور المشبوه للفاتيكان منذ أيام البابا السابق، في خدمة أهداف أمريكا، أثناء صراعها مع الاتحاد السوفييتي السابق، ودول أوروبا الشرقية. لكن البابا أدى الخدمة بخبث أشد مما أُريد منه، وهو أنه باعتباره رأساً للديانة الكاثوليكية، ومتواطئ مع التوجهات البروتستانتية، تحدث عن الرسول # بـ (قلة أدب) أرثوذكسية؛ إذ إن ما نقله من نصوص حاقدة، إنما نسبه إلى إمبراطور أرثوذكسي، لتجتمع أحقاد الطوائف كلها في موقف موحَّد ... فالمتحدث يمثل الكاثوليكية، وصاحب النص من كبار الأرثوذكسية، لحساب أصحاب المشروعات البروتستانتية الإجرامية ...
ولم يكد العالم الإسلامي يسترخي بعد انتفاضته وغضبته الثانية، بصورة شعبية عالمية انتصاراً لنبيه # بعد تصريحات بابا الفاتيكان، حتى شرع الطاعنون الحقراء من طرف الحكومة الدانماركية اليمينية البروتستانتية في معاودة الإساءة للرسول # مرة أخرى، وبطريقة أخس وأنجس مما أقدموا عليه في العام الماضي؛ إذ رتبت إحدى منظمات الشبيبة التابعة للحزب الحاكم في الدانمارك (مسابقة) لأكثر الرسوم سخرية وهزءاً برسول الإسلام #!! والتفاصيل في الموقفين الحقيرين الأخيرين للبابا ولدولة الدانمارك أصبحت معروفة للجميع.
لكن خطورة الأمر، لم تعد مقتصرة على أفعال عدائية مقصودة منهم، ثم ردود أفعال تلقائية محدودة في تداعياتها وآثارها من طرفنا، وإنما تعود الخطورة إلى تحوُّل التطاول إلى ظاهرة تتسم بالعناد والتنوع، وبالاطِّراد والتصعيد بشكل متتابع يحاول أن يحوِّل الظاهرة المنكرة إلى شأن عادي وسلوك مقبول باسم الحرية.
والهدف في النهاية تعجيزنا عن الدفاع عن أعز ما لدينا من رموز وقيم وعقائد.
ü اعتداءات بلا اعتذار ... واحتجاجات بلا آثار:
عندما أقدم الدانماركيون على جريمتهم الأولى في العام الفائت، وطولبوا بالاعتذار؛ امتنعوا جميعاً من الاعتذار، بدءاً من الملكة ثم رئيس الوزراء، ثم الصحيفة التي نشرت الرسوم المسيئة ... ولم يكن في وسع المسلمين في العالم إلا أن يُظهروا الاحتجاج عن طريق المظاهرات السلمية والمقاطعة الاقتصادية للبضائع الدانماركية ... ولكن ماذا كانت النتيجة ... ؟!
لقد اختلفنا ـ نحن المسلمين ـ فيما لا ينبغي أن يُختلف فيه بعد زمن قليل من الحماس، وراح كل صاحب اجتهاد يحاول فرض اجتهاده على الأمة الغاضبة، حتى فُرِّغ هذا الغضب من مضمونه وتميعت القضية، وفتر الحماس للمقاطعة، بل بدأ البعض بتصنيف الشركات الدانماركية إلى شركات (معادية) ، وشركات (محايدة) وشركات أخرى أصبحت (صديقة) لأنها «اعتذرت» بالنيابة عن الملكة ورئيس الوزراء والحكومة اليمينية والصحيفة الصهيونية ... !!
ولما كانت الجماهير قد عرفت القليل من أسماء أشهر المنتجات الدانماركية التي تشكل قيمة في اقتصاد الدولة المعتدية على ديننا، فقد كان من الصعب أن تُكلف تلك الجماهير بعملية «تحري» الحلال من الحرام فيمن يُتعامل معه ومن لا يُتعامل معه، وفق تقسيمات الشركات الدانماركية، وانتهزت المحلات المستفيدة من ترويج تلك البضاعة في بلاد المسلمين من ذلك الاختلاف، فالتفَّت على المقاطعة، والفضل يعود إلى الفتاوى والمواقف المتميعة!
وقد أظهر هذا الارتباك ردود الفعل الإسلامية على أنها مجرد تشنجات وقتية وعواطف آنية، سرعان ما تتلاشى سُحُبها في سماء الرغبات والشهوات غير الحاجية أو الضرورية.
والسؤال هنا: كيف فرطنا في سلاح ماضٍ ـ هو المقاطعة ـ كان يمكن أن يُؤدَّب به الدانماركيون حتى لا يتجرؤوا على إعادة الكرَّة مرة أخرى؟!
الذي حدث أن الدانماركيين عادوا إلى الجريمة بشكل أشنع، ومن طريق لا يبعد عن تواطؤ الحكومة نفسها التي تمادت في التحدي؛ لأن من أمن العقوبة أساء الأدب.
ومن غير المتوقع أن تعتذر في المرة الثانية ... بعد أن امتنعت في المرة الأولى ولم تجد ما يردعها، فلا سفارة أُغلقت، ولا علاقة قطعت، ولا مقاطعة رسمية اتخذت ولا شعبية استمرت!
أما بابا الفاتيكان، فقد أثار الاستهجان بعدم اعتذاره أكثر مما أثاره بتصريحاته، وقد فوجئ الكثيرون بإصرار البابا على عدم الاعتذار الصريح، والشيء الذي ربما لم يدركه الكثيرون من المسلمين، أن من أجرم في حق النبي الخاتم المعصوم #، قد فعل ذلك وهو معتقد في نفسه ويعتقد فيه أتباعه أنه هو المعصوم!!
فبابا الفاتيكان في ديانة الكاثوليك؛ إنسان لا يخطئ..!! هكذا يقولون وهكذا يعتقدون!!
ü ما ذنبنا نحن..؟!
لأن باباهم لا يخطئ؛ فليس من حقنا أن نطلب اعتذاره وهو (المعصوم) مع أن سابقه المشؤوم؛ اعتذر لليهود عن اضطهاد الكنيسة لهم عبر التاريخ؛ فهل كان بابوات تلك الكنائس يومها غير معصومين؟! وهل كان هو قبل اعتذاره غير معصوم؟! لقد اعتذر أيضاً على المحرقة اليهودية وأدانها، مع أن سابقيه لم يفعلوا ذلك. أما الخطأ في حق المسلمين فإنه ليس بخطأ ... لا في الحروب الصليبية القديمة التي لم يعتذر عنها البابا السابق ... ولا في الحرب الصليبية الجديدة التي لم يُدِنْها البابا الحالي.
ربما لم يدرك بابا الفاتيكان (بنديكيت السادس عشر) اتساع الأصداء السلبية لتصريحاته القبيحة عن الإسلام ونبي الإسلام #، ولكنه في الوقت نفسه، كان يدرك جيداً أن هذه الأصداء من الاحتجاجات والمظاهرات والتصريحات، مهما تضاعفت؛ فإنها لن ترغمه، ولا يصلح أن ترغمه؛ على الاعتراف بالخطأ، ومن ثم الاعتذار عنه؛ لأن ذلك يعني ببساطة أنه تنازل بإرادته عن صفة يتفرد بها عن بقية البشر الساكنين على الأرض وهي صفة (العصمة) من الخطأ!!
لقد صدر (قرار) مجمع قساوسة الفاتيكان في عام 1870 للميلاد بعصمة البابا، فأضاف عقيدة جديدة إلى المذهب، لم يكن يعلم بها البابوات القدامى منذ بدأت الكنيسة الكاثوليكية حتى ذلك العام!
ومنذ صدر ذلك القرار، والعالم النصراني الكاثوليكي يعيش تحت ولاية دينية (معصومة) برغم كل الجرائم والحروب وأنواع الإفساد التي باركها البابوات طيلة هذه السنين، وبرغم ما اشتهر من أخطاء وخطايا لبعض البابوات، كان منها عزل بعضهم، وعدم الاعتراف ببعضهم، وتعدد المتولين للبابوية في زمن واحد بسبب التنافس على المنصب.
لقد فلسف المحرِّفون لدين النصرانية هذه العصمة لبابا الكاثوليك دون بقية البابوات في الطوائف الأخرى، مستندين إلى أن (الروح القدس) أي جبريل ـ عليه السلام ـ يؤدي وظيفة الوحي الذي لم ينقطع عن طريق الكنيسة ورجالاتها، ممثلين في شخص البابا. وبما أن (الإيمان) في العقيدة النصرانية يقوم على ثلاثة أسس، هي: الإيمان بـ (الأب والابن والروح القدس) فسيظل تطبيق الأساس الثالث مرتبطاً بعصمة البابا الذي له وضعية خاصة مع الروح القدس كما يزعمون، وأيضاً لأن ذلك البابا ـ من ناحية أخرى ـ هو النائب المفوض للقيام بوظيفة (بطرس الرسول) أحد تلاميذ المسيح عليه السلام، الذي يدعون أن عيسى قال له: «فوق هذا الهيكل ـ يعني الجسد ـ سوف أبني كنيستي» . يعني ستكون كنيسة المسيح في المكان الذي سيموت فيه. ولما كانت وفاة بطرس في روما، فقد أصبح لروما ـ أو جزء منها وهو الفاتيكان ـ خصوصية كنسية، وهي خصوصية ترقى إلى أن يكون المسؤول الأول عن تلك الكنيسة مفوضاً عن الإله في الحل والربط، مثلما فوض المسيح تلميذه بطرس بذلك، عندما قال له ـ كما يُدَّعى ـ: (وأعطيك مفتاح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات) [إنجيل مَتَّى 16 ـ 19] .
إن بابا الفاتيكان الذي يعتقد في نفسه، ويعتقد فيه أتباعه أنه واسطة (الروح القدس) وخليفََة (الرسول بطرس) قد صدَّق أن لديه تفويضاً من الله، يحل ما يحل، ويربط ما يربط كما يشتهي، فاتجه إلى ديننا يحل فيه ويربط، ويُرغي فيه ويزبد، ولهذا قرر ـ بناء على قرار العصمة ـ أن العقيدة في الإسلام لا تتماشئ مع المنطق أو العقل، وأن الإسلام الذي يدين به خُمْس سكان العالم، إنما انتشر بالإكراه، وتحت التهديد بحد السيف.
ü لا أمل في الاعتذار ... لكن لا بد من إعذار:
نعم! لا أمل في اعتذار البابا هذه المرة، ولا في المرات التالية من التطاول على الإسلام؛ فقد نص قرار (العصمة) على أن «الحِبْر الروماني رأس مجمع الأساقفة، ينعم بالعصمة بحكم وظيفته عندما يعلن التعاليم المتعلق بالإيمان والأخلاق، بصفته أعلى راعٍ ومعلم للمؤمنين ... إن تعاليم الحبر الأعظم الصادرة عنه شخصياً بصفته بابا، غير قابلة للتعديل أو المراجعة من أي سلطان آخر، كنسياً كان أو بشرياً» [نقلاً عن كتاب: نور الأمم ص 22] .
لا أمل أيضاً في أن تعتذر الحكومة الدانماركية عن إساءاتها السابقة أو إساءاتها اللاحقة ... لأنها ـ باختصار ـ لم تجد من يوقفها عند حدها، لكن لا بد لأمة المليار، أن تقدم الإعذار إلى الله ـ تعالى ـ بطريقة أخرى غير رجاء الأشرار بالاعتذار، ولن نعدم حيلة، إن كنا مؤمنين حقاً بنصرة رسولنا # نصراً يليق بأعظم إنسان مشى على الأرض؛ فهل هان علينا رسول الله #، حتى نعجز عن الانتصار له..؟!
{إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] ، {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .(230/23)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
من هنا وهناك
علامة تعجب
المرصد
- قال الصحفي الأمريكي المعروف بوب ودورد في حديث مع برنامج «60 دقيقة» في تلفزيون (سي. بي. إس) الأمريكي: إن هجمات المقاتلين على القوات الأمريكية في العراق تحدث كل 15 دقيقة، وأضاف: «إن تقدير خبراء المخابرات عن العام القادم عام 2007 أن الموقف سيزداد سوءاً» وانتقد تصريحات بوش والبنتاجون أن كل شيء يسير إلى الأفضل. [وكالات، 30 / 9 / 2006م]
- أعلن زعيم المحاكم الشرعية في الصومال الشيخ حسن ظاهر عويس أن المحاكم الـ 27 التي أقيمت في المناطق الخاضعة لسيطرته ستتجسد ضمن مجلس إسلامي أعلى في الصومال، وستتوحد في هيئة واحدة تقود البلاد، في حين تعزز الحركة الإسلامية مواقعها.. [وكالة أ. ف. ب]
- كشف الشيخ محمد حسين - المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية وخطيب المسجد الأقصى المبارك - أنّ سلطات الاحتلال تستخدم مواد كيماوية لتذويب الصخور أسفل المسجد القدسي الشريف لافتاً إلى أنّ الحفريات الصهيونية تبعد الآن 10 أمتار فقط عن قبة الصخرة المشرفة. [الجزيرة، 8 / 9 / 1427هـ]
- أعلنت الأمم المتحدة أن نحو 6600 شخص قتلوا في العراق خلال شهري تموز - يوليو، وآب - أغسطس، وقد أصيب 3793 شخصاً بجروح في تموز - يوليو و 4309 في آب - أغسطس.. [وكالة أ. ف. ب 28 / 8 / 1427هـ]
- قال الجنرال جون أبي زيد قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط: إن المجتمع الدولي يجب ألا يسمح لـ «القاعدة» بإقامة وطن، وأوضح في مقابلة مع موقع «ديبلوماتيك ترافيك» أنه على عكس النازية والشيوعية لم يستطع تنظيم «القاعدة» إقامة وطن خاص به، وعلى المجتمع الدولي أن يضمن عدم حدوث ذلك. [صحيفة الرأي العام الكويتية]
- ذكر تلفزيون بي بي سي البريطاني أن جنوداً إسرائيليين سابقين دربوا جنوداً أكراداً في شمال العراق في 2004م و2005م، وبث أفلام فيديو لمعسكرات التدريب، وذكر أن الكيان الصهيوني قدم هؤلاء المدربين عن طريق شركات أمنية، ومعهم معدات تبلغ قيمتها 150 مليون دولار.
[الجزيرة 28 / 8 / 1427هـ]
«الرئيس» والصلب
اعتبر الرئيس الباكستاني برويز مشرف خلال مؤتمر نظمه في نيويورك الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، أن من الضروري تسوية القضية الفلسطينية قبل سواها؛ لأنها في «صلب» الأزمات في العالم الإسلامي، وذكر أن النزاع الفلسطيني هو في «صلب» التطرف في باكستان أو في أفغانستان، وهو في «صلب» كل ما يحصل في لبنان أو في العراق، ولخص مشرف القضية بالقول: (آن الأوان للمضي إلى «صلب» المشكلة، ويجب ألا نفتح جبهات جديدة، إنما يجب أن نبدأ بغلق بعض الجبهات) . [الجزيرة 29 8/ / 1427هـ]
قصيرة طويلاً أم طويلة قصيراً؟
يتصف أسلوب تعامل البيت الأبيض مع النشاط النووي لإيران بالغموض والتردد، واتباع إستراتيجية متعددة المواعيد والتحذيرات التي تنتهي يتهديدات، ومؤخراً قام الرئيس جورج بوش بإعلان تأييده إعطاء الأوروبيين مزيداً من الوقت لإقناع إيران بتعليق برنامج تخصيب اليورانيوم، لكنه أمل أن تكون المهلة «قصيرة» ، وسألت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية الرئيس الأميركي حول المهلة المعطاة للمفاوضين الأوروبيين، فاجاب إنها: «قصيرة أكثر منها طويلة، للتأكد من أن هذه المناقشات لا تشكل محاولة لكسب الوقت إلى درجة نخسر أي مصلحة لنا في هذا الموضوع» ، وأضاف بوش: «تعمل رايس معهم للتأكد من أن هذه العملية لن تستمر إلى ما لا نهاية» . [الرأي العام، 8 / /9 1427هـ]
كذب «الناطقون» ولو صدقوا
صرّح علي الدباغ، الناطق باسم الحكومة العراقية، بأن نوري المالكي رئيس الوزراء «يتفهم تماماً المخاطر التي تتسببها الميليشيات الشيعية» لكنه قال: «إن العلاقات السياسية في العراق يمكن ان تعرض رئيس الوزراء إلى خطر كبير» ، وقال الدباغ مدافعاً عن رفض المالكي للسماح للقوات الأميركية بمهاجمة مدينة الصدر في هذا الشهر: «إن ذلك قد يولد ردود فعل سلبية، وقد يتضرر الوضع السياسي، وفي الوقت نفسه، الوضع الأمني في بغداد» . وقال الدباغ ايضاً: «ليس من العدل معاملة الميليشات الشيعية مثل المتمردين السنة» ..!! [الرأي العام 30 / 9 / 2006م]
شر «التقيّة» ما يضحك
حاول محمد حسين فضل الله المرجع الشيعي اللبناني الدفاع عن متانة العلاقات بين حزب الله وحركة أمل الشيعيين اللبنانيين، وذلك رداً على كلام وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الذي يشير إلى انقسام بينهما، حيث اعتبرت أن تطوراً «مثيراً أن يحصل شرخ في الكتلة الشيعية ما يمكّن أن يسمح بإجماع حكومي جديد» وقال فضل الله تعليقاً: «هذا التصريح كان يمثل بعض التمنيات الخيالية التي لا أساس لها في الواقع» ، وأضاف: «ما تتحدث عنه رايس من خلال تقارير مخابراتها لا يمثل أي حجم للانقسام، بل هو لون من ألوان حرية التعبير» . يذكر أن المشاحنات بين أنصار الحركتين لا تتوقف، وتصل في مواسم الانتخابات إلى مستوى القتل، وفي نهاية الثمانينيات أسفرت حرب بينهما عن مقتل 2500 شيعي. [وكالات](230/24)
سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على النفط العراقي
(الدوافع والأهداف)
علي حسين باكي ر
يقول بعض المتخصصين في شؤون النفط أنّ: «النفط العراقي كنز القرن الميلادي الحادي والعشرين» . ومن المؤكد أن الحديث هنا يأتي في سياق أنّ العراق يمتلك حوالي 12% من الاحتياطي العالمي المؤكد من النفط. وتتّضح أهمية النفط العراقي إذا تمَّ ربط ذلك الاحتياطي بمسألة الانخفاض المتتالي في قدرة الدول النفطية على زيادة إنتاجها من النفط مع إمكانية نضوب كافّة المخزونات العالمية المهمّة في الغرب وفي قزوين في الـ 15 سنة المقبلة.
في هذا الإطار أحاول في مقالي هذا تسليط الضوء على النفط العراقي وأهميّته العالمية والاستراتيجية، والخطط الأمريكية التي تسعى من خلالها للسيطرة عليه لأهداف كثيرة ومتعدّدة.
ü النفط العراقي في خريطة النفط المحلية والعالمية:
تشير الأرقام المتوفرة حول النفط العراقي حالياً إلى أنّ العراق يمتلك احتياطياً مؤكداً يبلغ حوالي 115 مليار برميل، وفقاً لمجلة (النفط والغاز OIL & GAS JOURNAL) ، ممّا يجعله في المرتبة الثالثة عالمياً بعد المملكة العربية السعودية وكندا من حيث الاحتياطي النفطي المؤكّد، ويقع معظم هذا الاحتياطي (حوالي 65%) جنوب العراق، وذلك وفقاً لوكالة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) في آخر تحديث لها والذي كان في كانون الأول 2005م. وتتفاوت التخمينات حول قدرات العراق النفطية المستقبلية بشكل كبير، على اعتبار أنّ حوالي 90% من مساحة البلاد لم يتم مسحها بعد. وبحسب بعض المؤسسات البحثية والجهات المختصّة كـ: (معهد بيكر، مركز دراسات الطاقة العالمية، اتحاد العلماء الأمريكان.. إلخ) ، فإنّ هذا الاحتياطي قد يصل إلى حدود 215 مليار برميل أو أكثر إذا ما تمّ إجراء عمليات بحث وتنقيب في منطقة الصحراء الغربية الواسعة جداً، في حين يعتبر البعض الآخر أنّ الاحتياطي الذي يمكن اكتشافه فيما بعد لن يزيد عن 45 مليار برميل.
تاريخياً؛ بلغ العراق ذروته في الإنتاج النفطي في العام 1979م عندما أنتج 3,7 مليون برميل نفط يومياً، وقد بلغ إنتاجه قبيل غزو الكويت مباشرة في تموز 1990م ما حجمه 3,5 مليون برميل نفط يومياً. ومنذ تلك الفترة انهار الإنتاج العراقي للنفط، وبدأ يعمل حثيثاً على استعادة موقعه الإنتاجي بواقع 600 ألف برميل يومياً في العام 1996م، وبعد صدور القرار (986) والمتعلّق بالنفط مقابل الغذاء، تضاعف إنتاج العراق من النفط ليصل إلى 1,2 مليون برميل يومياً في العام 1997م، ثم ارتفع مجدداً ليصل إلى 2,2 مليون برميل عام 1998م، ومن ثم إلى 2,5 مليون برميل في الأعوام 1999م و 2001م، حتى وصل قبيل الحرب الأمريكية عليه إلى ما يقارب 2,58 مليون برميل يومياً.
وقدرت بعض المصادر أنّ عائدات النفط العراقي بعد صدور قرار النفط مقابل الغذاء كانت تتراوح بين مليار إلى مليارين سنوياً، وكانت الكميات المهرّبة تُباع بأسعار زهيدة جداً؛ نظراً لعدم قانونيتها، فيما تغاضت العديد من الجهات الغربية عن ذلك؛ كونها كانت تستفيد من هذا الوضع، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية أولى الدول المستوردة للنفط العراقي بمقدار 1.2 مليون برميل يوميّاً، ويتجه نحو نصف مليون برميل إلى أوروبا، ونحو 150 ألف برميل إلى آسيا، ونسبة أخرى إلى تركيا والأردن وسورية.
حالياً يتراوح إنتاج العراق من النفط في كانون الأول 2005م بين 1,9 و2,1 مليون برميل يومياًً، ويعتقد معظم الخبراء أنّه لن يكون هناك زيادة حقيقية في هذه الكميّة على الأقل في السنتين أو الثلاث القادمة.
على أيّة حال؛ فالاحتلال الأمريكي للعراق قد غيّر كثيراً من خارطة النفط العالمية، وإن لم يكن ذلك واضحاً للعيان من الناس العاديين، فالنفط العراقي هو المفتاح للسيطرة على الدول المنافسة للولايات المتّحدة والتي تتطلع إلى الزعامة العالمية، وهذا ما سنراه تالياً.
ü مقترحات أمريكية لاستغلال النفط العراقي قبل الغزو مباشرة وبعده:
على الرغم من أنّ الإدارة الأمريكية قد أنكرت أن يكون الهدف من احتلالها للعراق هو السيطرة على آباره النفطية ومخزونه الاستراتيجي، إلاّ أنّ الجميع يذكر أنّ الاحتلال الأمريكي قام بحماية وزارة النفط عند دخوله مباشرة، فيما ترك كل المرافق العراقية العامّة والخاصّة والدوائر والوزارات عرضة للنهب والسلب والتدمير. وقد تبيّن فيما بعد أنّ هناك عدّة مقترحات كانت الإدارة الأمريكية قد طرحتها وتداولتها بين أوساطها لاستغلال النفط العراقي، وتراوحت بين ثلاثة اقتراحات:
الاقتراح الأوّل:
أنّ يتم استخدام عائدات النفط العراقي بعد السيطرة على العراق من أجل تغطية النفقات العسكرية لجيش الاحتلال الأمريكي فيه. فقد ذكرت صحيفة «نيوز ـ داي» الأمريكية في 2003/1/1م عن (مايك أنتون) المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي آنذاك قوله: «إن البيت الأبيض وافق على أن تلعب عائدات البترول العراقي دوراً هاماً خلال فترة الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وأنّ عائدات البترول العراقية سيتم استخدامها في حالة الحرب والتواجد العسكري الأمريكي في العراق، ولكن لن يتم استخدام العائدات كلها في هذا الشأن» .
الاقتراح الثاني:
أن يتم الاستيلاء على النفط العراقي ووضع اليد عليه كاملاً وذلك من خلال عقود تقوم الشركات الأمريكية بموجبها باحتكار الصناعة النفطية في العراق، أو من خلال التواجد العسكري المباشر في هذه المنطقة أو قرب آبار النفط العراقي لتأمينها والتحكّم بتدفق النفط وعائداته منها إلى الدول الأخرى. وغالباً ما كان فريق نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) ومساعديه ومستشاريه وحلفائه من المحافظين الجُدد هم الأقرب إلى هذا الاقتراح والداعم له؛ لمصالح خاصّة واستراتيجية في الوقت نفسه.
الاقتراح الثالث:
ويتمثّل في استغلال عائدات النفط العراقية إلى حين التوصل إلى حكومة شرعية ديمقراطية، على أن يتم توزيع جزء من هذا العائد على مشاريع وجهود إعادة الإعمار وهو الشيء الذي لم يحصل حتى اليوم!
أمّا بعد أن استتبَّ الأمر لجيش الاحتلال في العراق وللحكومة العراقية، أخذ يعمل على تقنين مسألة استيلائه على النفط العراقي بطرق التفافية وغير مباشرة تحت شعارات، مثل: فتح الاستثمارات الأجنبية على مصراعيها، إزالة كل القيود عن الشركات الأجنبية المستثمرة، ضرورة الاعتماد على أحدث التقنيات والوسائل والشركات ـ وهي أمريكية بطبيعة الحال ـ لزيادة الإنتاج، ضرورة الاستعانة بخبرات أجنبية ومستشارين ... إلخ.
فقد قدّم مجلس العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكي في كانون الأوّل عام 2002م دراسة للإدارة الأمريكية حول نفط العراق أكد فيها على مجموعة من النقاط تدور كلها حول هذا الموضوع، وهذه النقاط هي:
أولاً: أن البنية الأساسية لقطاع النفط العراقي تعيش حالة متدهورة للغاية، وتحتاج إلى إعادة إعمار لإنقاذ الإنتاج النفطي الذي يتدهور سنويّاً بنسبة 100.000 برميل يوميّاً (آنذاك) .
ثانياً: أن إعادة إعمار القطاع النفطي العراقي تحتاج إلى استثمارات تُقدّر بمليارات الدولارات، وتحتاج إلى شهور إن لم يكُ سنين، وستحتاج تكلفة وحدات التصدير الحالية نحو (5) مليارات دولار، بينما تحتاج تكلفة إعادة الإنتاج إلى ما كان عليه قبل عام 1990م (8) مليارات دولار.
ثالثاً: لا تستطيع الإمكانات العراقية الحالية الاضطلاع بجهود إعادة تحديث القطاع النفطي، ولا بدّ من الاستعانة بشركات «خارجية» ، وربما سيلجأ العراق إلى دول «عديدة» للمساعدة في ذلك.
وقد كانت أولى بوادر التطبيق العملي لهذا التوجه بعد احتلال العراق قد ظهرت في الدستور العراقي الذي ظهر بحلّته النهائية على الطاولة في 28 /آب/ 2005م، والذي عكس ما جاء به المندوب الأمريكي الأول (بول بريمر) وهو: تحقيق طموحات المستثمرين الأجانب، إذ يُلزم الدستور الجديد الدولة العراقية بإصلاح الاقتصاد العراقي حسب أسس الاقتصاد الحديث، بطريقة تضمن الاستثمار الكامل لكل ثرواته، وتنويع هذه الثروات، وتطوير القطاع الخاص. والإصلاح الاقتصادي يعني: خصخصة القطاع العام، وحرية التجارة والسوق، وفتح المجالات. لكنّ المشكلة ليست هنا فهذا مجرد غطاء، فالمادة 110 من الدستور العراقي الحالي تقول: «إن الحكومة الفيدرالية وحكومات المناطق المنتجة الأخرى، ستعمل معاً على وضع سياسة استراتيجية لتطوير الثروة النفطية والغاز من أجل مصلحة الشعب العراقي، من ثم فإنه عليها أن تعتمد على أحدث التقنيات في السوق، وتشجّع الاستثمار» . وهذا نص مبطّن لما أشرنا إليه في البداية أعلاه، إذ يُفهم من هذه المادة أنها تشير إلى الخطط التي يدعمها كبار المسؤولين العراقيين حالياً، ومنها: خصخصة شركة النفط الوطنية العراقية، وفتح الاحتياطي العراقي أمام شركات النفط العملاقة الأمريكية بطبيعة الحال.
ويسمح الدستور للأقاليم في العراق «التي من الممكن أن تتشكل حالياً أو لاحقاً» بأن تقرر سياستها النفطية «ضمن حدودها الجديدة» ، وأن تحتفظ بنسبة كبيرة من عائدات الحقول الموجودة، وأن تحتفظ لاحقاً بعائدات كل ما ستطوّره من الحقول الجديدة. وقد يكون موقف الولايات المتحدة من الفيدرالية عائداً لكون الأطراف التي ستحصل على النفط العراقي: الشيعة والأكراد، فقد أكدت علناً أنها تؤيد وتدعم الخصخصة.
وبناءً على ذلك راحت كل جهة في محاولة لاستغلال هذا النص على طريقته، ففي حين دفع (عبد العزيز الحكيم) بقوة إلى إقامة شبه دولة شيعية في الجنوب تحت إطار وحدات أو تجمّعات محافظات قامت حكومة إقليم كردستان بتكليف شركة نرويجية بالتنقيب والمسح عن البترول في مناطقها القريبة من الحدود التركية، دون الرجوع إلى الحكومة المركزيّة واستشارتها بحجة أن تصرّفها جاء استناداً إلى هذا النص الدستوري!
ü أهداف الولايات المتحدة من السيطرة على النفط العراقي:
سخر الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) ـ إبّان تسلّمه لجائزة نوبل للسلام عام 2002م خلال مؤتمر صحفي ـ ممّن سمّاهم «الحمقى» الذين يعتقدون أنّ سياسة أمريكا تجاه العراق مبنيّة على المصالح النفطية، قائلاً: «يمكن شراء النفط بأسعار معقولة في حدود 27 دولاراً للبرميل، وهذا أقل كلفة من التكلفة الضخمة التي يستدعيها اجتياح العراق» . ووصف رئيس دائرة التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية آنذاك (ريتشارد هاس) مقولة وجود دوافع نفطية دفعت أمريكا لاحتلال العراق بأنّها سخيفة.
هذا الكلام قد يبدو للوهلة الأولى صحيحاً، فهناك عدّة بلدان قد تستطيع الولايات المتّحدة أن تستعيض بنفطهم عن العراق، ومنهم: فنزويلا في أمريكا اللاتينية، وكندا في أمريكا الشمالية، والمكسيك، وروسيا، ونيجيريا، واحتياطيات ألاسكا إذا أرادوا. وفي النهاية فليس هناك من دولة تخوض حرباً لسبب واحد، فلا بدّ من وجود عدّة أسباب، ولكن لا شكّ أنّ النفط أوّلها بالنسبة للولايات المتّحدة أو ثانيها إذا قدّمنا حماية أمريكا لإسرائيل على هذا الهدف.
قد لا يكون النفط العراقي مهمَّاً بحدّ ذاته للولايات المتّحدة الأمريكية من ناحية الاستهلاك وحتى نفط الخليج أيضاً، على اعتبار أنّ متوسط حجم الإمدادات الخليجية في الربع الأول من العام الجاري ـ خصوصاً السعودية والعراق ثم الكويت ـ قد بلغ 2.4 مليون برميل يومياًً، كما ذكرت نشرة «Oil & Gas Journal» ، وشكل نحو 20% من إجمالي واردات النفط الأمريكية، ما اعتبرته النشرة الدولية ذات الصدقية العالية نسبةً متواضعة قابلة للتعويض من مصادر النفط غير التقليدي في الولايات المتحدة والدول الأخرى من القسم الغربي من العالم، التي توفر لأميركا حالياً ما لا يقل عن 50% من وارداتها الإجمالية من النفط الخام والمشتقات. لكنّ أهميّة النفط الخليجي والعراقي تحديداً تكمن في عدّة نقاط نختصرها على الشكل التالي:
أولاً: إنّ الولايات المتّحدة الأمريكية أصبحت تعي تماماً أنّها ليست وحدها على الساحة الدوليّة، خاصّة من الناحية الاقتصاديّة، وأنّ هناك دولاً عديدة تسعى إلى الوصول إلى مستواها بل والتفوّق عليها في المدى المنظور، وبناء على ذلك كان لا بدّ للولايات المتّحدة أن تعمل على إفشال وصول الآخرين إلى مستواها أو التحكم في عملية صعودهم إلى ذلك المستوى، فكان النفط الخليجي والعراقي الوسيلة إلى ذلك، إذ إنّ معظم الدول الأوروبية واليابان والصين والهند تستورد نفط الخليج، ولحسن حظ أمريكا أنّ هذه الدول وخاصّة أوروبا واليابان لا تمتلك نفطاً صالحاً للاستهلاك في أراضيها، ومن ثمّ فإنّ قوّتها الاقتصادية ترتكز بشكل أساسي على النفط المستورد من الخارج وبالتحديد من الخليج، وسيطرة أمريكا على هذا النفط سيعطيها مجالاً أكثر لتحديد كميات الإنتاج وكميات التوريد وأسعار النفط ... إلخ، مما يجعل تطوّر الدول الأخرى ونموها الاقتصادي خاضعاً بطريقة غير مباشرة للإشراف الأمريكي.
ثانياً: في حال استقرار الأوضاع في العراق، فإنّ ذلك يمكّن الشركات الأمريكية من الوصول إلى 112 مليار برميل من النفط، وهو الاحتياطي المعلن للبلاد، وبعضهم يشير إلى 200 مليار برميل، ويعتبر أهم احتياطي عالمي بعد السعودية، وهذا معناه أنّ السيطرة على العراق تعني الحصول على حوالي ربع احتياطي العالم النفطي، دون أن نذكر الأرباح التي ستأتي للشركات النفطية الأمريكية بعد إنهاء مصالح الشركات النفطية الروسية والفرنسية والصينية التي كانت قائمة في العراق إبّان حكم صدّام.
ثالثاً: تعتبر كلفة إنتاج النفط العراقي من بين الأدنى في العالم (حوالي 1,5 دولار للبرميل كحدٍّ أقصى) ، ولذلك فإنّ الأرباح هائلة، وعدا ذلك فإنّ الأهم هو الأرقام التي تتحدث عن نسبة الاحتياط ومعدلات الإنتاج إلى الاستهلاك، أي: بمعنى آخر عدد السنوات التي سيستغرقها صرف الاحتياط النفطي بمعدلات الإنتاج الحالية، وهذه النسبة لا تزيد في الولايات المتّحدة والنرويج عن 10 سنوات، وفي كندا تبلغ 1على 8، وفي إيران 1 على 53، وفي السعودية 1 على 55، وفي الإمارات 1 على 75، وفي الكويت 1 على 116، وفي العراق تبلغ 1 على 526. ويقال: إنّ آخر نقطة نفط في العالم ستكون في العراق. إذاً؛ النفط العالمي ينضب، وخلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة سيستقر إنتاج النفط، ويتّجه فيما بعد إلى الانخفاض بحدود 5 ملايين برميل يومياً.
والعراق وحده يمتلك قدرة عالية جداً على زيادة الإنتاج بكميات كبيرة جداً. حيث يعتقد بعض المحللين أنّ العراق في حدود السنوات الخمس القادمة سيبلغ قدرة السعودية الحالية أو بحدود 10 ملايين برميل نفط يومياً.
رابعاً: وجود سيطرة للقوات الأمريكية على نفط العراق والخليج سيمنع حتى إمكانية التفكير في استخدام سلاح النفط سواء ضدّ أمريكا أو إسرائيل، وستكون القوات الأمريكية جاهزة في قلب الآبار النفطية للدفاع عنها وبمقربة جميع دول الخليج النفطية في حال حصل أيّ انقلاب أو تغيير للسلطة أو لأيِّ استراتيجية يمكنها أن تهدّد الآبار النفطية وإمداداتها، ويمكّن أمريكا أكثر من الضغط على (أوبك) لاستنزاف احتياطياتها من خلال الإنتاج العالي لدرجة قصوى، مع التشديد على أن يكون سعر البرميل في حدوده الوسطى إن لم تكن الدنيا.
ففي أول تعديل لقانون الطاقة الأمريكي يستهدف دولاً ذات سيادة وافق مجلس الشيوخ بشكل مبدئي يوم 21 / 6 / 2005م على مشروع قانونٍ تحت مسمى «لا أوبك» ، يمنح وزارة العدل الأمريكية أو لجنة التجارة الاتحادية سلطة مقاضاة (أوبك) بتهمة التلاعب بالأسعار!
وقال السيناتور الجمهوري (مايك ديوين) : «إن أسعار النفط والغاز مرتفعة جداًً، وقد حان الوقت لفعل شيء بخصوص ذلك» ، وأضاف زميله الديمقراطي (هيرب كول) الذي اشترك معه في تقديم التعديل: «لو أن (أوبك) مجموعة من الشركات العالمية الخاصة ـ لا حكومات أجنبية ـ لكان تصرّفها خطة غير قانونية للتلاعب بالأسعار» .
ü الولايات المتحدة ونهب النفط العراقي:
نشر معهد «بلاتفورم» بالتعاون مع خمسة معاهد ومؤسسات أخرى غير حكومية تقريراً ضخماً في أواخر شهر تشرين الثاني 2005م بعنوان: (نهب ثروة العراق النفطيّة) ، وكاتب هذا التقرير هو (كريج موتيت) الذي دعّم التقرير ـ البالغ حجمه حوالي 47 صفحة، والذي يتألّف من 6 فصول واستنتاج ـ بالعديد من الأرقام والجداول والصور.
التقرير على درجة عالية وكبيرة من الأهميّة، وهو الأوّل من نوعه بهذا الحجم وبهذه الدقّة في المعلومات والأرقام. ويأتي هذا التقرير ليدعم ويؤكّد وجهة النظر السابقة للحرب على العراق والتي تقول: «إنّ الهدف من غزو العراق ـ أو على الأقل من الأهداف الدافعة لغزو العراق ـ الثروة النفطيّة» .
كما يفضح التقرير النوايا الأمريكية بشأن نهب الثروة النفطية والتعاقدات التي تمّت وتتم الآن لمصلحة هذه الشركات، ويقول التقرير: إنّه بينما يكافح الشعب العراقي من أجل تحديد وضمان مستقبله السياسي، فإنّ أهم مورد اقتصادي لديه «النفط» يتم تحديد مصيره خلف أبواب مغلقة.
ويكشف هذا التقرير عن وجود أجندة سياسية نفطية للولايات المتّحدة الأمريكية يتم التحضير لها عبر وزارة الخارجية ليتم تنفيذها في العراق بعد انتخابات شهر كانون الأول 2005م وبدون مناقشة عامّة وبتكاليف باهظة جداً. وتخصّص هذه السياسة معظم حقول النفط العراقية ـ التي تضم حوالي 64% على الأقل من احتياطيات البلاد النفطيّة ـ لما يسمى عمليات تطوير تقوم بها شركات نفط دولية.
وتقول الدراسة: إنّ هناك خطّة بين الحكومة الأمريكية والبريطانية من جهة، ومجموعة من السياسيين العراقيين المتمكنين من جهة أخرى، على اتباع أسلوب العقود الطويلة الأجل مع الشركات النفطية، ممّا يحول دون تدخّل المحاكم والرقابة الديمقراطية على هذه العملية فيما بعد؛ لأنّها تكون قد تمّت.
وتشير الدراسة إلى أنّ التوقعات الاقتصاديّة المنشورة لأوّل مرّة في هذا النطاق تبين أنّ نماذج التطوير المقترحة ستكلّف العراق خسائر بمليارات الدولارات، في حين أنّها ستدرّ أرباحاً خيالية للشركات الأجنبية التي سيتم التعاقد معها.
وقد توصّلت هذه الدراسة إلى نتيجتين أساسيتين:
الأولى: أنّ العراق سيخسر ما بين 74 إلى 194 مليار دولار طيلة فترة العقود فيما يخص أوّل اثني عشر حقلاً نفطياً يتم تطويرها فقط، وفيما لو كان سعر برميل النفط 40 دولاراً في هذه الفترة. هذه التخمينات تستند إلى تقديرات محافظة تتراوح ما بين ضعفين إلى سبعة أضعاف ميزانية الحكومة العراقية الحالية.
الثانية: أنّ أرباح الشركات النفطية وعائداتها من الاستثمار في العراق في هذه العقود وبهذه الشروط ستتراوح بين 42% و162%، وهو ما يزيد عن المعدّل الطبيعي للأرباح في مثل هذه الحالات والبالغ 12% في حدّه الأدنى في مثل هذه الاستثمارات.
تفيد هذه الدراسة أنّ عمليات خصخصة واسعة النطاق تجري في العراق، ومن ضمنها: قطاع النفط، ولكن يتم تمويه هذه المسائل وتضليل الناس بأسماء تقنية وبقضايا إعادة بناء وصيانة وتطوير.. إلخ من هذه المصطلحات، وهو ما يسمح للحكومة والمستفيدين من الشركات إنكار حصول عمليات للخصخصة. كما أشارت الدراسة إلى أنّ عمليات التطوير التي يتم الترويج لها في العراق ـ فيما يخص حقول النفط ـ والتي يدعمها شخصيات أساسية في وزارة النفط، تستند إلى عقود تسمى بـ (اتفاقيات مشاركة الإنتاجPSAS) والموجودة في الصناعة النفطية منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، والتي يؤكّد الخبراء أنّ الهدف منها سياسي فقط؛ لأنّه ومن الناحية التقنية تبقى الاحتياطات النفطية من الناحية القانونية بيد الدولة، ولكن عملياً توازي هذه العقود عقود التنازل لشركات النفط ولها نفس النتائج.
وتؤكّد الدراسة أنّ هناك مساعي لعقد مثل هذه العقود بأسرع وقت ممكن، خاصّة أنّ الحكومة جديدة وضعيفة، والأمن في حالة مزرية، والبلد لا تزال تحت الاحتلال، ويمكن لهذه العقود غير المنصفة أن تدوم لمدة 40 سنة.
وينقل المتخصص في الشؤون الاقتصادية (فيليب ثورتون) في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية عن رئيس «مؤسسة الاقتصاد الحديث» غير الحكومية (آندرو سيمس) قوله: «إنه من الواضح الآن أن بريطانيا وأمريكا مصمّمتان على السيطرة على نسبة كبيرة من احتياط النفط العالمي، مما يعني أن العراق بدلاًً من أن يدشن بداية مرحلة جديدة، وجد نفسه محصوراً في الفخ القديم للاحتلال الذي سيكلّفه الغالي والنفيس في المستقبل المنظور» .
واستناداً لبعض المحلّلين، فإن المؤسسات البترولية الكبيرة (بريتيش بتروليوم بي بي، وإكسون موبيل، وشفرون، وشيل) كانت كلها توّاقة للرجوع إلى العراق بعد أن طردهم قرار تأميم الموارد العراقية من هذا البلد سنة 1972م، وما يؤخر رجوعهم الآن ليس سوى الحالة الأمنية. ولهذا؛ فقد حرصت الولايات المتحدة على أن تكون القوانين العراقية التي تولت الإشراف على كتابتها ملائمة لأهدافها الاقتصادية في البلد.
وقد اعتبر (أندرو سيمس) ـ مخطّطُ السياسات بمؤسسة «الاقتصاديات الجديدة» ـ محاولات واشنطن ولندن لإبرام هذا النوع من التعاقدات تأتي في إطار سعي حكومة الدولتين للسيطرة على النفط منذ بداية اكتشافه.
وأوضح أنه «خلال القرن الماضي، تسببت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في نشوب صراعات عالمية واضطرابات اجتماعية ودمار بيئي من أجل الحصول على حصة تزيد كثيراً عن حجمهما النسبي في الموارد النفطية في العالم. ويبدو الآن أنهما مصمّمتان على المضيِّ في هذا الأمر على حساب العراق» .
وأضاف أنه «بدلاًً من أن يبدأ العراق المحطَّم بداية جديدة سقط مرة أخرى في شراك حيلة احتلالية شديدة القدم» . وأنّ الدستور العراقي ـ الذي كان لأمريكا دور في صياغته والدفع باتّجاه التصويت عليه ـ قد أعطى صلاحيات واسعة لشركات النفط الأجنبية وسمح لها بتحقيق أرباح طائلة على حساب الشعب العراقي، خاصّة أن ّالدستور يعطي للدوائر والأقاليم المحليّة سلطة التعاقد مع الشركات الأجنبية، وهو الأمر الذي سيضعضع من موقفها تجاه أي شركة كبرى، فيما كان الأمر سيختلف لو كان هناك دولة واحدة تفاوض هذه الشركات، بدلاً من الأقليم!
وفي الوقت نفسه قدّم التقرير اقتراحاً بديلاً لتطوير صناعات النفط العراقية دون اللجوء إلى اتفاقات المشاركة في الإنتاج. وقال: إنه يمكن استغلال شبكة إنتاج البترول التي يمتلكها العراق والتي تعتبر معقولة ـ بالرغم مما تعرضت له من الدمار ـ واستخدام العوائد الحالية أو الاقتراض لتمويل التوسع في الإنتاج.
| المراجع:
(EIA) , (1) Energy Information Administration country analysis briefs iraq. Last updated December 2005.
2 ـ نص الدستور العراقي الصادر في /28 آب/ 2005م.
3 ـ مقال: النفط العراقي في الاستراتيجية الأمريكية، علي حسين باكير، موقع الجزيرة. نت، بتاريخ 3 / 3 / 2006م.
(4) Report: "Crude Designs: The Rip-Off ,published by Platform, Iraq's Oil Wealth"
November 2005.
(5) US sees Iraqi Oil Production Choked For Years, Miriam Amie, Mail and Guardian
on 10 january 2006.
__________
(*) باحث في العلاقات الدولية.(230/25)
الفرحة الدامية
عيسى العزب
نضب الكلام فما لديَّ كلامُ
والشعر كف عن الشعور فلم تعد
ودفاتري الخرساء يمضغها الأسى
فلِمَ الحياة وأحرفي منهارةٌ
ولِمَ البشاشة والدماء غزيرة
أيكون لي ثغر ضحوك باسمٌ
يا عيد معذرةً فعطرك لم يزل
أقبلت لا أدري باي تحيةٍ
أقبلت والآمال تمضغ ذاتها
أقبلت والأرض الطهورة فوقها
يا عيد إن الظلم طال ولم تزل
تغتالنا الأذناب وهي رخيصة
مسرى النبي هناك يمسح دمعه
حتى النساء رحلن عن أوطانهن
فأرامل تلقى الردى.. وعجائز
يا عيد معذرة فإن مواجعي
أنا إن نطقت فرب حرف واحدٍ
فإذا صمتُّ فلا تقل صَمَتَ الفتى
والحبر جف وماتت الأقلامُ
في مقلتيه المفردات تنامُ
مذ غاب عنها الشعر والإلهامُ
وقصائدي فوق الرصيف حطامُ
وعلى الجراح خناجر وسهامُ
وجوارحي تقتاتها الآلامُ
عبقاً تفوح بريحه الاعوامُ
أُلقي عليك.. وهل يطاق سلام؟
وبنفسها تتعثر الأحلامُ
ينمو القتال ويُعشب الإجرامُ
تمشي على أعناقنا الأقدامُ
ويذلنا ـ نحن الكرامَ ـ لئامُ
وبنهر دجلة صدمة وصِدامُ
فلا يطيب بارضهن مقامُ
نُصبت لهن على الفلاة خيامُ
شتى ولكن حولنا إعلامُ
أدلي به.. ومصيره الإعدامُ
فالصمطت في لغة الكلام كلامُ
__________
(*) معد ومقدم للبرامج الثقافية ـ الفضائية اليمنية(230/26)
بين الشام ومكة!
جمال الحوشبي
«أشهد بالله إنه لَلنَّبيُّ الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ براكب الحمار كبشارة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ براكب الجمل، وأن العِيان ليس بأشفى من الخبر، ولكن أعواني من الحبشة قليل، فأنظِرْني حتى أكثّر الأعوان، وأُليِّن القلوب» (1) .
ها نحن نقلّب صفحاتٍ رائعة من سِفْر الولاية في تاريخ النبوات لنشهد صوراً من التقارب والتراحم بين أنبياء الله تعالى؛ وبخاصة الثلاثة العظماء من أولي العزم: موسى وعيسى ومحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الذين ترسخت في التاريخ جذور دعواتهم، وامتدت لتؤثر على الأحداث العالمية إلى قيام الساعة. ومن العجب أن تتكرر المشاهد على نسق سواء في حياة هؤلاء الأنبياء الثلاثة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فما بين آلام الوحدة واليُتْم، والتغرب عن الدار، والهجرة فراراً من العدو، إلى النهايات الأليمة على أرض التيه، والرفع إلى السماء من جوار بيت لحم، وأخيراً الاحتفاء بالنهاية المشرقة السعيدة التي رفرفت أعلامها من جوار البيت الحرام.
ولكم أن تتأملوا ذلك لتجدوا أن الرسول المكي الكريم الذي خرج من بلده مهاجراً إلى يثرب يشبه إلى حد كبير الرسول الإسرائيلي الكريم الذي خرج من مصر يريد مدين، وأنه حين انزوى في غار حراء يعبد ربه كأنه ذلك الذي قصد جبل سيناء ليناجي ربه. ثم تأمل في مسير عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليرقى جبل الزيتون ويلقي موعظته الأولى وهو ينادي بني إسرائيل؛ ألم يكن يشبه محمداً -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتقى جبل الصفا لينادي معشر قريش؟ وهذا النبي العربي الذي قاتل مشركي العرب في بدر وحُنين والأحزاب وتبوك أشبه ما يكون بموسى الذي قاتل المؤابيين والعمونيين والآموريين.
إنك حين ترى محمداً حبيب الله في فناء المسجد يقضي بين الناس بالحق ويحكم بالعدل، أو في ساحات الحرب يقاتل الكفار والمشركين كأنك ترى موسى كليم الله وهو يجاهد أعداءه ويقاتل الذين يعبدون الأوثان. وحين تلمح محمداً -صلى الله عليه وسلم- يعبد ربه ويتضرع إليه في خلوة عن الناس داخل حجرة مظلمة منفردة، أو يناجيه في جوف مغارة منعزلة على قمة جبل بعيد وقد أرخى الليل سدوله فكأنك ترى عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد خلا بنفسه يوحد الله ـ تعالى ـ ويناجيه بالعبودية له. فسبحان الذي جمع بين هؤلاء الأنبياء الثلاثة ورفع منزلتهم ثم أشركهم في القَسَم الكريم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 1 ـ 3] .
ومن بين سائر الطرق، ظل الطريق الشامي من أرض زمزم مَعْلَماً بارزاً في تاريخ النبوات وصفحاته الخالدة شاهداً على سفر كريم من أسفار الولاية بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
ولنوغل في أعماق التاريخ لنصل إلى المنابع الأولى لروافد تلك الولاية.
\ سر الحياة:
أطل التاريخ من نافذته الأولى على أكمة جرداء في أرض الحجاز تحيط بها صحراء قاحلة لا ساكن فيها ولا أنيس، وصفير الرياح الحارقة تحت وهج الشمس لم يكن يقطّعها إلا بكاء طفل رضيع بالقرب من صخرة يكاد ظلها ينحسر عنه.
لم يكن ثمة حياة في الجوار ولا سبب من أسباب النجاة يمكن أن يتعلق به هذا الصغير؛ فهناك قِربَة ملقاة نفد منها الماء، وعلى القرب جراب خاوٍ كانت فيه بقايا من زاد. في تلك الساعة يكاد الستار يُسدَل على نهاية أليمة، بعد أن بدأ الغلام يتلبط وكأنه يصارع سكرات الموت. لم يغيِّر سكونَ المشهد إلا خيال امرأة أنهكها التعب أقبلت من بعيد صوب الغلام. وما إن دنت منه حتى ضمته إلى صدرها، وسريعاً ما تعلق بها هو الآخر.
لقد كانت أمه، وهي منذ فارقها والده من هذا الوادي المقفر ـ بأمر الله تعالى ـ لم تزل تتردد على صغيرها لتتعلق بخيط من الأمل بعد أن دب إليها اليأس من وجود سبب للحياة في ذلك المكان. غير أنها كانت واثقة بالفرج، ولما لم تطق مشاهدة صغيرها وهو يصارع الموت عادت للبحث من جديد، تعلو رابية لتنظر منها إلى الأفق، ثم تجتازها سعياً نحو رابية أخرى. وتظل تجري، لا تدري ماذا تصنع، والسكون الرهيب لا يقطعه إلا صراخ الرضيع وهو يموت موتاً بطيئاً. ولو أُذِنَ لها بالحديث في تلك الساعة العصيبة لقالت: «يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً» .
لكنَّ أُذُنَ التاريخ تلتقط الدعوة ذاتها من مكان آخر على لسان امرأة في أرض بعيدة ... وها هو التاريخ يطل من نافذته الأخرى هذه المرة على ربوة خضراء مخصبة من أرض الشام، يتدفق حولها نهر جار، وعلى الرابية نخلة باسقة، وتحتها أم شابة تصارع آلام الوضع.
وها هو المستقبل يطوى مخلفاً وراءه ما حدث هناك ... ثم يتوقف مع ذلك اللقاء الخالد في الليلة الشريفة بين النبي العربي الخاتم من ذرية الرضيع الذي أدركه العطش في صحراء الحجاز، والنبي الإسرائيلي الخاتم الذي وضعته الأم الصالحة على تلك الرابية في بيت المقدس. ومن ذلك الوادي الحجازي الموحش يتدفق ماء الحياة فتأوي الطيور وتنمو الأشجار، ويستوطن المسافرون، وتأنس تلك الأم المباركة، وتعلو منائر الإيمان، ويرتفع الأذان بالتوحيد. ومن على تلك الرابية الشامية تعود الحياة إلى القلوب الشاردة، ويتجدد تاريخ النبوات الطويل، وترتفع منائر التوحيد، ويتنزل وحي السماء من جديد.
\ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يبشر بمحمد -صلى الله عليه وسلم-:
عندما نقلب صفحة من سفر الولاية بين هذين النبيين الكريمين نجد أن بشارة عيسى بظهور محمد في آخر الزمان لا تفوقها إلا بشارة محمد بعودة عيسى في آخر الزمان ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فقد وصف كل منهما أخاه لأصحابه وصفاً يزيل عنهم الجهل به إذا ظهر؛ فعيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يحدّث الحواريين عن صفات (أحمد) حتى كأنهم يرونه رأي العين. قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6] ، وها هو يرفع صوته ويطوف بالناس في أرض الخليل، يعلمهم في مجالس وعظه الكثيرة -صلى الله عليه وسلم-، ويبشرهم بنبي آخر الزمان الذي يمجد الرب وينشر رسالته: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد» (لوقا 2/14) .
«اقترب ملكوت السماء» . «وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر من بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين» (أشعيا 21/13) . «أنا أعمِّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس» (إنجيل مَتَّى 3/11) .
«ظهر القُدُس على جبال فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد» (هداية الحيارى ص 68) . «سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وأثر سلطانه على ظهره، واسمه أحمد» (أشعيا باب 42) .
ولأن تلك البشارة كانت أشد وضوحاً من الشمس في اليوم الصائف فقد تناقل الرهبان أخبار نبي آخر الزمان، واستخرجوا علاماته الكبرى، من ظهور نجمة في السماء، وعلامات كونية تحدث يوم ولادته، وصفة خاتم النبوة بين كتفيه، والمكان الذي سيولد فيه، والغار الذي سيتعبد فيه، والدار التي يهاجر إليها، وأنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة.
كما تواردت أخبار انتصاره على أعدائه في معركة فاصلة، وفتحه لـ (فاران) ، وتحطيمه الأصنام. وفي هذه البشارات حديث عن بعض معالم الصلاة التي يأمر بها أمته، وأنها تؤدَّى بطريقة الاصطفاف، وحديث عن قبلته التي سيتوجه إليها، وإحياؤه لسُنَّة الختان، واكتمال دينه قبل موته، واتساع ملكه ليصل إلى بيت المقدس. وفي تلك البشارات حديث آخر جميل عن صفات أمته وصفات البلدة التي سيولد فيها، وسيفتحها، وأن الله سوف يحفظها من كل جبار بعد أن حرّم دخولها على العُمْيِ الذين لا يبصرون.
ومن عجيب ما ورد في صفاتها الواضحة: «تكون هناك سكة، وطريق يقال لها الطريق المقدس، لا يعبر فيها نجس، بل هي لهم ـ أي المؤمنين ـ. من سلك في الطريق لا يضل، حتى الجهال. لا يكون هناك أسد أو وحش مفترس يصعد إليها، لا يوجد هناك، بل يسلك المفديون فيها» (سفر إشعيا 35/1ـ 9) .
هذه هي مكة التي وردت البشارة بها، بلد الله العظيم التي يسلك فيها أهل الإيمان والطهر، ويُذاد عنها أهل الفجور والكفر. وفي يوم النحر الأكبر يعمرها الحجاج ويذبحون ويفْدون لله تعالى.
وأنت ترى أنها صفات واضحة لا لبس فيها، ظل يتوارثها علماء بني إسرائيل واحداً تلو الآخر ... وأسلم بسبب التحقق منها خلق كثير من النصارى، ويكفي أن تَقرأ في قصة الغلام الفارسي الباحث عن الحقيقة لتجد التطبيق العملي لهذه الولاية في تلك النفحة المباركة التي أوصلت سلمان ـ رضي الله عنه ـ من أرض فارس إلى الأرض المباركة ذات النخل والحرتين التي هام بها المؤمنون من أهل الكتاب وجداً وشوقاً للقاء النبي الأمين، وتقبيل قدميه، والبكاء الحار بين يديه -صلى الله عليه وسلم-، كما فعل سلمان ـ رضي الله عنه ـ حين تجلت ساعة الحقيقة أمام عينيه.
لقد بلغت هذه البشارات بمحمد -صلى الله عليه وسلم- مبلغ التواتر عند بني إسرائيل حتى إن هجرات اليهود المتعاقبة من أرض الشام إلى جزيرة العرب اكتملت تماماً قبيل ميلاده -صلى الله عليه وسلم-؛ ترقباً لظهوره؛ فقد كانت البشارات به تؤكد أن مهاجره سيكون إلى أرض ذات نخل بين حرتين. ولذا استوطن نفر من القادمين اليهود أرض خيبر لكثرة مائها ونخلها، أما الكثرة الكاثرة منهم فاتجهوا صوب يثرب؛ لأنها كانت الأقرب لذلك الوصف في النبوءات القديمة. ويكفي لتأكيد هذه الولاية بين عيسى ومحمد ـ عليهما السلام ـ أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك؟ قال: «نعم! أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى» (رواه الإمام أحمد) .
ولقد كنت أتساءل: لماذا لم تحدث هجرة مماثلة للنصارى، مع أن بشارة عيسى بمحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ كانت الأظهر، ومعرفة علماء النصارى بنبي آخر الزمان كانت الأشهر؟ والإجابة عن هذا السؤال تطول، ولها مكان آخر؛ لأنها لا تنفك عن تاريخ دخول النصرانية واليهودية إلى جزيرة العرب، والصراع المرير الذي كان يدور بينهما على النفوذ الذي ارتبط دائماً بتطلع النصارى إلى اكتساح بلدان العالم، وتطلع اليهود إلى ظهور المنقذ الذي يتقوّون به على خصومهم من النصارى والعرب معاً، وهي العقدة التي لا يزال اليهود يتحركون من خلالها حتى الآن. من هنا كان اليهود الأسرع إلى نبي آخر الزمان من النصارى؛ حتى إنهم قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقليل كانوا يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين، ويقولون لهم: سيُبعَث نبي آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم. غير أنه لما كان الباعث لليهود على الانضمام لنبي آخر الزمان هو الظلم والرغبة في القهر والسيطرة لا الإيمان والانقياد لله ـ تعالى ـ حرمهم الله ـ تعالى ـ الانتفاع برسالته أو التشرف بالانتساب إليه.
ومن عجيب أمر الهداية أن الله ـ تعالى ـ نفع أولئك المشركين الذين كان يهددهم اليهود بتلك النبوءة بينما حرمها اليهود أنفسهم؛ ذلك أن ستة من أهل يثرب ـ كلهم من الخزرج ـ وفدوا موسم الحج في سنةً 11 من النبوة، ورأوا رجلاً وضيئاً من أهل مكة يعرض نفسه على القبائل لينصروه حتى يُبَلّغَ رسالة ربه، فلما سمعوه التفت بعضهم إلى بعض، وأخذوا يتخافتون بينهم ويستعيدون نبوءة اليهود؛ فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصوت أخذ يعدو إليهم حتى لحقهم وقال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: من موالي اليهود؟ أي ـ من حلفائهم ـ قالوا: نعم! قال: ألا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى! فجلسوا، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- يُعرّفهم ربهم، ويتلو عليهم القرآن، ثم دعاهم إلى الله ـ تعالى ـ فقالوا لبعضهم: تعلمون واللهِ إنه لَلنبيُّ الذي توعّدكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه. فأسرعوا كلهم إلى الإسلام، ثم وعدوه بالدعوة إلى دينه في قومهم، وتواعدوا معه اللقاء في المكان ذاته من العام القادم.
وهكذا فشا الإسلام في دور المدينة كلها، عدا دور اليهود الذين رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم وصوله المدينة وعرفوه، ثم وقفوا منه غير الموقف الذي كانوا يتباهون به من قبل. عن صفية بنت حيي ابن أخطب أنها قالت: «كنت أحبَّ ولدِ أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف قالت: غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر مُغلِسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالَّيْن كسلانَيْن ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع؛ فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟! قال: نعم والله! قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم! قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته واللهِ ما بقيت. (وفاء الوفاء: 269) .
وقد ذم الله ـ تعالى ـ تناقضهم ذاك، فقال ـ سبحانه ـ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 89 ـ 90] .
غير أن الأعجب من كفران اليهود بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهم أتباع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما يزعمون ـ ما حدث من كفران النصارى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهم أتباع عيسى ـ عليه الصلاة والسلام فيما يزعمون ـ ومن هنا تصدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتلك الانتماءات الكاذبة وقال بكل وضوح إنه أوْلى بإخوانه الأنبياء من أتباعهم، فقال: «نحن أوْلى بموسى منهم» .
وقال: «أنا أوْلى الناس بعيسى بن مريم» بعد أن شهد الله ـ تعالى ـ له بأنه كذلك أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم -صلى الله عليه وسلم-. فاليهود مقصرون عن الحق؛ لأنهم يعلمون ولا يعملون، والنصارى غالون في الحق؛ لأنهم يعملون بلا علم، ويجتهدون في العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون، ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: مَنْ فسد مِن علمائنا ففيه شَبَه من اليهود، ومن فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى.
وبالدعوة إلى ما كان عليه أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من التوحيد ظل محمد -صلى الله عليه وسلم- ينادي من ضل من اليهود والنصارى، ومن هؤلاء راهب النصارى في شرق الجزيرة العربية عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ حيث قال يروي قصة مقدمه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتيت رسول -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئت بغير أمان ولا كتاب؛ فلما دُفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: «إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي» . قال: فقام، فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: إن لنا إليك حاجة، فأطال الوقوف حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، وجلست بين يديه: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما يفِرُّك؟ أيفرّك أن تقول: لا إله إلا الله؟! فهل تعلمُ مِنْ إله سوى الله؟» قال: قلت: لا. ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تفرُّ أن تقول: الله أكبر؟! وهل تعلم أن شيئاً أكبر من الله؟» . قال: قلت: لا. قال: «فإن اليهود مغضوبٌ عليهم، وإن النصارى ضُلاّل» . قال: قلت: فإني حنيفٌ مسلم. فرأيت وجهه ينبسط فرحاً. (رواه الترمذي وأحمد) .
عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتبرأ من الكافرين بمحمد -صلى الله عليه وسلم-:
لا عجب أن نجد القلة الباقية من النصارى المؤمنين الذين ثبتوا على دينهم، مضطهدين منبوذين غرباء طوال تلك الفترة الفاصلة بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام؛ فقد اعتزلوا قومهم، واتخذوا مساكنهم في كهوف الجبال بعد أن تسلل شياطين اليهود بمكر إلى النصرانية وتحكموا بها وحرفوا عقيدتها حتى أصبحت تناقض عقيدة التوحيد الصافية التي جاء بها عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ منذ اليوم الأول لولادته. ولم يتوقف اليهود عند ذلك بل دفعهم الحقد على أتباع عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن حاربوا المؤمنين الصادقين به وأتلفوا كتبهم، ولاحقوهم في كل مكان. ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- يصف حال العالم قبل بعثته فيما يرويه عن ربه: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (رواه مسلم) . وقد مات هؤلاء ـ أو أكثرهم ـ قبيل مبعثه -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى الرغم من أن النصارى ـ حتى الآن ـ أقرب إلى الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من اليهود؛ إلا أن الحقيقة الغائبة عن كثير من الكافرين منهم تظهر في زيف الدعاوى الإيمانية التي يبررون بها ذلك الكفر، جاهلين أن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد أخبر الحواريين معه عن الكافرين به في حياته من اليهود الذين وقفوا ضده وأرادوا قتله، كما أخبرهم عن الكافرين به، بعد رفعه، من النصارى الذين وقفوا ضد النبي الخاتم الذي بشر به وقاتلوه، وظاهروا المشركين واليهود عليه. ومن هنا يقف التاريخ شاهداً على قلة المؤمنين بعيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما بُعث النبي الخاتم الذي بشر به، عليه الصلاة والسلام؛ حيث لم يهبَّ أحد من النصارى لنصرته عندما كان يصارع المشركين واليهود في جزيرة العرب، وحين وقفت ضده البشرية؛ لا لشيء إلا لأنه جاء مبشراً بما جاء به إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وظل يمجد الرب العظيم الذي كانوا يمجدونه من قبل.
لقد خاب الأدعياء من أتباع موسى وعيسى وانطفأ ذكرهم حين لم يهبوا لنصرة (الفاراقليط) (1) الذي سعدت به الأرض بعد شقائها، وعَزّ به أعراب الجزيرة الذين أصابتهم بركة الرب العظيم لما آمنوا برسالته، ونصروا دينه، وفَدَوْه بدمائهم وأموالهم، واستحقوا نصر الله ـ تعالى ـ وتأييده على أعدائهم من المشركين والمجوس ومن اليهود والنصارى أيضاً.
ولا أعلم نصرانياً في زمن الفترة نال شرف النية الصالحة بنصر النبي الخاتم إلا ما كان من ورقة بن نوفل بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ رضي الله عنها ـ فقد خرج من مكة إلى الشام باحثاً عن بقايا دين إبراهيم هناك؛ فلما وقف على النصرانية تنصر، وكان يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ويترقب ظهور نبي آخر الزمان؛ فلما بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ورقة شيخاً كبيراً قد عمي؛ فلما رجع محمد -صلى الله عليه وسلم- من ليلة التكريم العظيم على سفح حراء، ترجف بوادره خوفاً مما رأى وسمع، ذهبت به خديجة إلى ورقة وقالت له: أي عم! اسمع من ابن أخيك. قال ورقة: يا بن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رآه. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى -صلى الله عليه وسلم-، يا ليتني فيها جذعاً ـ أي شاباً ـ. يا ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَوَ مخرجيَّ هم؟» . قال ورقة: نعم! لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ولم يفضُل ورقة في بحثه عن الحق وحبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا زيد بن عمرو بن نفيل ـ رحمه الله ـ فإن له قصة في البحث عن الحقيقة لا تقل إثارة عن قصة سلمان، رضي الله عنه؛ ذلك أنه حين بلغ الشام يلتمس دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقف على اليهودية والنصرانية لكنه أعرض عنهما ولم يجد فيهما ما يطمئن إليه، فظل يضرب في الآفاق بحثاً عن ملة إبراهيم التي لم يطرأ عليها التحريف حتى ذُكر له في الشام راهب عنده علم من الكتاب، فأتاه فقص عليه أمره، فقال له الراهب: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا مكة! قال زيد: نعم! ذلك ما أبغي. فقال: إنك تطلب ديناً لا يوجد اليوم، ولكن الحقْ ببلدك؛ فإن الله يُبْعَثُ من قومك من يجدد دين إبراهيم؛ فإذا أدركته فالتزمه. فقفل زيد راجعاً إلى مكة يحث الخطى التماساً للنبي الموعود الذي بُعث بدين الحق؛ وبينما كان زيد في بعض الطريق. وقُبيل وصوله إلى مكة خرجت عليه جماعة من الأعراب، فأخذت ما معه وقتلته قبل أن تكتحل عيناه برؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. غير أنه رفع رأسه إلى السماء وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ثم قال: اللهم إن كنتَ حرمتني من هذا الخير فلا تحرم منه ابني سعيداً. وبالفعل سَعِد ابنه بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونصرته.
وهكذا كانت الشام قديماً بالنسبة لأهل مكة، تماماً كما كانت مكة لبلاد العرب؛ إذ كان سائر العرب متشبهين بأهلها؛ لأن فيها بيت الله وفيها الحج، وما زالوا معظمين لها منذ زمن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى ملته، من التوحيد والحنيفية السمحة.
ولما آلت ولاية البيت إلى خزاعة ـ قبل قريش ـ سافر زعيمها عمرو بن لحي إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقاً؛ لأن الشام كانت محل الرسل والكتب، ثم حمل معه أصناماً من الشام ورجع بها إلى مكة، ونصب (هُبَل) وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله، فأجابوه. وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة، فتبعهم أهل الحجاز على ذلك، ظناً أنه الحق، وهكذا فشا الشرك في جزيرة العرب وظهر إلى أن بعث الله ـ تعالى ـ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت قبلته أول الأمر صوب بيت المقدس ـ معدن النبوات، ومحل الرسالات ـ ثم تحولت بعدُ إلى مكة حيث نشأت الحنيفية، وتتابع النداء بالتوحيد للمؤمنين من أقاصي الأرض، ومن هناك ظهرت أعلام حضارة جديدة لأمة مؤمنة مباركة وليدة متصلة بموكب النبوات القديم، وخاتمة له. وأبرز ما نجد في تاريخها ذلك النصر الكبير على أعدائها والنفوذ الذي تحقق لها في ميزان القوى.
والحديثُ عن نصر الله ـ تعالى ـ لهذا النبي الكريم والمؤمنين الجدد الذين اصطفّوا معه في موكب النبوة العظيم، يجاهدون في سبيل الله ويعظمون جميع أنبيائه وكتبه ورسله حديث طويل لا غنى عن الإشارة إليه.
\ كلمة الله هي العليا:
في أواخر السنة السادسة من الهجرة أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاطب الملوك ويدعوهم إلى الإسلام؛ فقد أرسل إلى النجاشي عظيم الحبشة، وما إن وصل النجاشيَّ خطابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى وضعه على عينيه، ونزل عن كرسيه ثم أسلم على يد جعفر ابن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الذي كان هناك مع المهاجرين. كما راسل ملك الإسكندرية؛ فما كان منه إلا أن أكرم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحفظه وعظّمه، ولكنه لم يسلم وإنما أرسل يقول: كنت أعتقد بأن نبياً بقي، وكنت أظنه يخرج من الشام، ثم أرسل بهدية ثمينة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وبعث -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى ملكَ فارس، فلما وصله كتابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مزّقه، فدعا عليه -صلى الله عليه وسلم- وقال: «مزّقَ اللهُ مُلْكه» .
وأما هرقل عظيم الروم فقد تأكد من صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحقق من نبوته، وكاد أن يسلم، لكنه لم يفعل واكتفى بإكرام سفير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعث معه مالاً وكسوة هدية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
غير أن الشرارة الحقيقية في مسلسل الصراع مع النصارى في أرض الشام كانت حين اعترض شرحبيلُ بن عمرو الغساني ـ عامل قيصر على البلقاء ـ سفير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقتله ومعه رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عظيم بصرى. فتأمل كيف سقطت أعظم إمبراطوريتين في ذلك الزمان بسبب هاتين الرسالتين الكريمتين بعد أن كسر الله ـ تعالى ـ شوكة المشركين بالفتح الأعظم لمكة في السنة الثامنة للهجرة، وما ذاك إلا لمكانة هذا النبي الكريم عند ربه، ونصره له.
أما سقوط الإمبراطورية الفارسية المجوسية في الشرق فقد حدث بعد أقل من سبع سنوات من تمزيق مَلِكها خطابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتهاوت قلاعها العتيدة في معركة القادسية الفاصلة على يد سعد بن أبي وقاص في السنة 15 هـ. ثم انساح الإسلام في الشرق حتى وصل مشارف الصين وأطراف موسكو بعد معركة نهاوند من السنة 21هـ على يد النعمان بن مقرن، ولذا سميت نهاوند بـ (فتح الفتوح) .
أما سقوط الإمبراطورية الرومانية فقد حدث خلال حقبة زمنية ليست بالقصيرة؛ ففي سنة (8 هـ) عُقدت الألوية لتأديب قَتَلة الحارث الأزدي سفيرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عظيم بصرى، ولم يكن الروم معنيين بهذه المعركة بين المسلمين والخونة من عرب الشمال، وبدلاً من تدخُّل الروم للاعتذار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما فعل عاملهم الغساني قرروا المخاطرة وجازفوا بدعم ذلك الخائن بكل قوة؛ وإذا بجيش المسلمين المتواضع الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف يلتقي وجهاً لوجه مع جيش قتالي منظم قوامه مائتا ألف مقاتل، نصفه من الروم، والنصف الآخر من قبائل العرب الموالية لهم في الشام. وبعد مقتل قادة المسلمين الثلاثة تمكن خالد بن الوليد من المناورة واستنقذ الجيش الصغير من مَهْلَكةٍ محقّقة.
بعد هذه المعركة غير المتكافئة بعام واحد استعد الروم وحلفاؤهم للزحف على جزيرة العرب لاكتساح دولة الإسلام الوليدة، وحشدوا أكبر قوة عسكرية على وجه الأرض في ذلك الوقت، ثم زحفوا إلى البلقاء وهي من أعمال دمشق. فلما سمع بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جهّز على الفور جيشاً ضخماً وتحرك به صوب تبوك على أطرف الجزيرة من جهة الشام، ثم عسكر بها أياماً حتى اندحر جيش الروم، ولم يحدث قتال نتيجة لذلك.
بعد سنة وسبعة أشهر من تلك المناورة الضخمة جهّز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيشاً بقيادة أسامة بن زيد، وهو ابن القائد الأول في معركة مؤتة، وأمره بأن يمتطي فرس والده وأن يوطِئَ خيلَه (البلقاء) التي وقف عندها زحف الروم الأخير، ثم أمره بأن يتجاوز بسراياه حتى يصل تخوم (الداروان) من أرض فلسطين التي كانت تمثل أطراف مملكة الروم، في رسالة واضحة لهرقل نفسه هذه المرة. ففعل أسامة، ثم عاد مظفراً لم يواجه حرباً. ولما تولى الخلافة أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ كان هو الأقدر على فهم تلك الرسالة النبوية والعمل بها، فأرسل أربعة جيوش قوية لفتح بلاد الشام. وفي شهر رجب من السنة (13 هـ) ـ أي بعد سنتين وأربعة أشهر من الرسالة العملية التي أوصلها جيش أسامة بن زيد إلى الروم، وخمس سنوات فقط من أول تلاحم عسكري غير متكافئ في مؤتة ـ حدثت معركة اليرموك الخالدة بقيادة خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وهزم الله ـ تعالى ـ الروم وحلفاءهم هزيمة منكرة، وفي السنة 15هـ بعد معركة أجنادين الفاصلة ارتحل هرقل عن بلاد الشام كلها متجهاً إلى القسطنطينية وهو يقول: عليكِ السلام يا سوريةُ، سلاماً لا لقاء بعده.
غير أن التاريخ لم يقف هناك، وكذلك الزحف الإسلامي؛ ففي عام (857 هـ) ـ أي بعد (851) سنة من مقتل سفير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غدراً ـ هاهي نافذة التاريخ تطل مرة أخرى، لكن هذه المرة على ضفاف (بحر مرمرة) حيث كان الزحف الكبير يتقدم باتجاه القسطنطينية خلف قائد عظيم آخر من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- هو محمد الفاتح، في معركة لا تقل أهمية عن تلك التي أدارها من قبلُ خالد ـ رضي الله عنه ـ وأخرج بعدها هرقل عن أرض الشام. وبعد الحصار الشديد تمكن السلطان العثماني (محمد) من فتح القسطنطينية، وكسر شوكة الروم الصليبيين في قارة آسيا كلها ودحرهم باتجاه القارة العجوز. وبهذا تحققت بشارة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في انتصارات أحمد على من كفر به حين قال مبتهجاً: «يأتي من أقصى الأرض، تفرح البرية وسكانها يهللون على كل شَرَف، ويكبِّرون على كل رابية، لا يضعف ولا يُغلب، ولا يميل إلى الهوى، ولا يُسمع في الأسواق صوته، ولا يُذل الصالحين، بل يقوّي الصدِّيقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يُطفأ، ولا يخضع، حتى تثبت في الأرض حجته وينقطع به العذر، وإلى توراته ينقاد الناس» . (أشعيا 42/1باعتماد النص المحقق في كتاب: الإسلام والمسيحية 225/1) .
\ بشارة محمد بعيسى عليهما الصلاة والسلام:
بعد أن رفع الله ـ تعالى ـ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى السماء، وطهره من الكافرين الذين أرادوا قتله تفرق أصحابه شيعاً؛ فمنهم المؤمنون الذين اعتقدوا بنبوته وقالوا: هو عبد الله ورسوله، رفعه الله ـ تعالى ـ إليه. ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، واعتقد صلبه ليتحمل خطايا بني آدم. ومنهم من قال: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله ـ تعالى ـ مقالاتهم في القرآن، فأثنى على المؤمنين منهم ورد على الكافرين.
ومنذ ذلك اليوم والبقية المؤمنة من النصارى، ومن جاء بعدهم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يتطلعون شوقاً إلى لقاء عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد نزوله، تماماً كما ازداد شوق المؤمنين من أتباع عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى لقاء محمد -صلى الله عليه وسلم- عند ظهوره. وكما بشّر عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بظهور محمد -صلى الله عليه وسلم- وذكر من علامات نبوته وآثاره المباركة على الأرض؛ فقد بشّر محمد -صلى الله عليه وسلم- كذلك بنزول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فذكر علاماته وكيفية نزوله من السماء، ومكان نزوله، والزمان الذي سينزل فيه، وأنه سيكون من آخر الليل قبيل السحر وجيش المسلمين مستعدون لقتال المسيح الدجال في أرض الشام. كما ذكر البركة التي ستحل على الأرض بعد نزوله عليه الصلاة والسلام.
وها هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول في مجلس من مجالس أصحابه: «أنا أوْلَى الناس بعيسى بن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل؛ فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجلاً مربوعاً إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان مُمصّران ـ أي ثيابه فيها صفرة لكن ليست بالكثيرة ـ كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام، فيُهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويُهلك الله في زمانه المسيح الدجال، وتقع الأمَنَةُ على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم. فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» . (رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة وإسناده حسن) .
وقد وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بركة ذلك الزمان الذي سيكون في عهد عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بوضوح فذكر أن الله ـ تعالى ـ يرسل مطراً لا يُكَنّ منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض وينظفها، ثم تُنبت الأرض ثمارها وتُخرج بركتها؛ حتى إن جمعاً من الناس تكفيهم الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك الله في اللبن حتى إن البقرة الواحدة تكفي القبيلة من الناس، ويكثر المال ويعم الرخاء، ولا تبقى بين اثنين عداوة. قال -صلى الله عليه وسلم-: «لتذهَبَنَّ الشحناءُ والتباغضُ والتحاسدُ، وليُدْعَوَنَّ إلى المال فلا يقبله أحد» (رواه مسلم) .
وقال ذات يوم مخاطباً أصحابه: «من لقيه منكم فليقرئه مني السلام» . وفي رسالة واضحة للمؤمنين يخبر -صلى الله عليه وسلم- أن توقيت نزول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما يكون في ساعة حرجة من ساعات الصراع بين الحق والباطل، وأنه سوف ينزل من السماء واضعاً يديه على جناحي مَلَكين حتى يهبط على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ثم يدخل على المسلمين وقد صفُّوا للصلاة، فيصفُّ معهم ويأمرهم بأن يكملوا صلاتهم. قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعالَ صَلِّ لنا. فيقول: لا؛ إن بعضكم على بعض أمراء تكرمةَ الله هذه الأمة» . رواه مسلم.
فإذا استتب الأمن في الأرض، وظهر التوحيد، وآمن النصارى بالله ـ تعالى ـ رب موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعادت للشام نضرتها وبهجتها امتطى عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ دابته ويمم صوب مكة ملبياً. عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! ليُهِلنّ ابن مريم بفج الروحاء حاجّاً أو معتمراً أو ليثِّنينَّهما ـ أي يقرن بينهما ـ» رواه مسلم.
وهكذا يُسدَل الستار على سِفْر الولاية العظيم بين هذين النبيين الكريمين على الصعيد الطاهر الذي بُعث منه نبيُّ آخرِ الزمان عليه الصلاة والسلام.
مراجع للاستزادة:
ـ هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ـ ابن القيم.
ـ الصحيح المسند من أحاديث الفتن والملاحم ـ مصطفى العدوى.
ـ الرسالة المحمدية ـ سليمان الندوي.
ـ ما يقوله الكتاب المقدس عن محمد -صلى الله عليه وسلم- ـ أحمد ديدات.
ـ الإسلام والمسيحية ـ مصطفى بكري.
__________
(1) النجاشي ملك الحبشة ـ رحمه الله ـ مجيباً لعمرو بن أمية الضمري صاحب كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي. (السيرة الحلبية جـ3 / 279) .
(1) اسم (أحمد) في اللغة اليونانية القديمة تعني (بيركليطوس ـpeiriqlytos) أو الفاراقليط. وهو الذي قال عنه عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أنا ذاهب وسيأتيكم الفاراقليط روح الحق. لكن النصارى ترجموها في النسخ العربية إلى المُعزي أوcomforter بالإنجليزية. مع أن كلمة المُعزّي ـ كما يقول عبد الأحد داود في كتابه (محمد في الكتاب المقدس ص 216) تعني باراكالون paracalon وليس باراكاليتوسparaclytos(230/27)
الأرض الطيبة
أحمد أبو شاور
لم أستطع ـ بالرغم ـ مما بذلته من محاولات أن أكفَّ بصري عن النظر إلى «أبي محمود» الذي لم يتوقف طوال المحاضرة ـ التي ألقاها علينا الخبير الزراعي ـ عن تدوين الملاحظات والتعليمات التي تهمّنا كمزارعين مثابرين، يسعون بكل طاقاتهم وإمكانياتهم لزيادة الإنتاج، وتحسينه من حيث النوع.
لا أنكر ـ في تلك اللحظات تحديداً ـ أنني غبطت «أبا محمود» على صفاء ذهنه، وكمال جاهزيته واستعداده للاستفادة من هذه المحاضرة القيمة، كما لا أنكر أنني جلدت نفسي بسياط اللوم والعتاب على تقصيري وإهمالي؛ إذ لم أتزود بورقة وقلم لأدوّن بعض تلك المعلومات التي قد يأتي عليها النسيان بمجرد الخروج من قاعة المحاضرة.
هذا الأمر على بساطته أطلق العنان لخيالي ليصوّر لي ما ليس في الحسبان.. وأنه ـ ربما ـ يكون بادرة من بوادر الفشل بالفوز بجائزة الدولة لأفضل منتج زراعي احتكرته لنفسي لثلاث سنوات متتالية كان فيها «أبو محمود» أشد المنافسين لي على هذا اللقب، وكادت شطحات خيالي أن تبعدني عن أرض الواقع، وعن الاستماع للمحاضرة، إلى أن هتف بي من داخلي هاتف:
ـ ستخرج من المحاضرة بخفّي حنين يا أبا جاسر! ما دمت تشغل بالك بأوهام وخيالات لا وجود لها، بدل أن تفتح عقلك وكل مداركك فتصغي للمحاضر وتستوعب كل ما يلقى عليك وإليك من تعليمات ... وامتثلت للهاتف من داخلي، وتحاشيت النظر إلى «أبي محمود» بل إلى الناحية التي يجلس فيها، خصوصاً بعد أن تعذّر عليّ الحصول على القلم، ولو وجدته ما استحييت أن أدوّن به بعض المعلومات على باطن كفّي أو حتى على كمّ قميصي. لكي لا تفوتني واردة أو شاردة من المعلومات، التي سرعان ما بدأت أتلقفها من فم المحاضر بكل حواسِّي، ولم تنته المحاضرة إلا وقد استوضحت عن كل لبس وغموض، فخرجت منها وفي ذهني يختمر كل ما ينبغي عليّ أن أفعله بدقة، للاستفادة من كل قطرة ماء تجود بها السماء، أو أستخرجها من جوف الأرض، بالإضافة إلى كل ما يمكن عمله من احتياطات لتجنيب مزروعاتي أخطار الموجات الهوائية الباردة، وما قد تشكله من صقيع يتلف المزروعات بالكامل. وبهذا اطمأنت نفسي، واستبشرت بالفوز بالجائزة للمرة الرابعة.. وربما بمقابلة متلفزة تخرج بصيتي عن دائرة المنطقة إلى كل أنحاء القطر، كما حدث في المرّة السابقة، فأقبل عليّ التجار والسماسرة من كل الأنحاء، واشتروا إنتاجي الزراعي بأسعار عالية لم أكن أحلم بها.
بعد أيام قليلة، هطلت خلالها الأمطار الغزيرة، وتشكل في بعض لياليها الصقيع، فألحق الأذى والضرر الواسع بالمزورعات المهملة من قِبَل أصحابها، قررت أن ألتقي بـ «أبي محمود» الذي سرعان ما قادني إلى مزرعته ولسانه يلهج بالدعاء والشكر للخبير الزراعي، الذي أبعدت تعليماته شبح الصقيع عن العديد من المزارع، ومنها مزرعة أبي محمود.
كان أبو محمود يرجع بين الحين والحين إلى الورقة التي دوّن عليها تعليمات الخبير أثناء المحاضرة؛ لينظر فيها قليلاً قبل أن يعيد حديثه عن الإجراءات التي اتخذها للمحافظة على مزروعاته، بكلمات تقطر ثقةً بالنفس. وحين شرعت في مناقشته بموضوع المحاضرة، اكتشفت أنه لم يستوعب جميع المعلومات على صحتها، وأنه قد أخطأ في فهم بعض منها، وتحوّل حوارنا إلى حوار تلميذين يراجعان دروسهما وهما في طريقهما إلى الامتحان. وكدت أُصعق حين سمعته يقول:
ـ حامض النتريك ألد أعداء المزروعات.
لكنني لذت بالصمت بينما كانت نفسي تموج بأسئلة عديدة.
ـ ماذا لو أبقيت «أبا محمود» يعوم في جهله؟ لِمَ لا أتركه يتخبط في أقوال مغلوطة قد تتحول عما قريب إلى أفعال مغلوطة تضمن لي إبعاده عن طريقي كمنافس عنيد لي على جائزة الدولة، فأبقى المرشح الأوفر حظاً لنيلها؟ وكدت أستسلم لهذا النداء الخفي بداخلي، لولا أن هتف بي من داخلي هاتف آخر:
ـ لست أنت «يا أبا جاسر» الشخص الذي يرى الخطأ ولا يسعى إلى تصويبه، كيف تفعل هذا وأنت تعلم أن «الدين النصيحة» ؟ وفكّرتُ قليلاً قبل أن أقول:
ـ لكن الخبير لم يقل هذا عن حامض النتريك يا أبا محمود!
ـ فماذا قال؟
ـ قال: إنه نافع.. بل وضروري للمزروعات، واستشهد بقول رب العزة والجلالة: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 24] .
ـ ها أنت تقولها بلسانك: يُنزل من السماء ماء، ولم يقل حامض النتريك.
ـ ماء المطر هو الذي يحمل حامض النتريك.
ـ ومن أين جاء حامض النتريك هذا؟
ـ من النيتروجين الموجود أصلاً في الهواء.
ـ فكيف تحوّل إلى حامض مذاب في ماء المطر؟
ـ بقدرة الله الذي نظّم هذا الكون بدقة؛ فما خلق من شيء من قبيل العبث، بل اقتضته حكمته، صغر ذلك الشيء أم كبر.
ـ سبحان الله العلي العظيم، لكنك لم تجبني عن سؤالي، وهو: كيف تحوّل النيتروجين إلى حامض مذاب في الماء؟
ـ بفعل الحرارة العظيمة التي تتولد في الجو أثناء تراكم الغيوم، وحدوث عمليات التفريغ الكهربائية.
ـ ومن أين تأتي هذه الحرارة العظيمة عندما يكون الناس يرتجفون من البرد؟
ـ تتولد هذه الحرارة من تفريغ الشحنات الكهربائية التي تكون في الغيوم، والدليل على ذلك ما نراه من توهّج..
ـ أتعني البرق؟
ـ بالتأكيد «يا أبا محمود!» البرق هو الذي يصنع لنا حامض النتريك الذي لا بد منه لنمو المزروعات.
ـ سبحان الله العلي العظيم، الذي جعل البرق بعيداً عن سطح الأرض كي يقي الناس شروره.
ـ للبرق حسناته ـ أيضاً ـ غير التي ذكرتها آنفاً، فمنظره وإن كان يثير الرعب في الناس فهو يجلّي لنا فكرة عظيمة ينبغي أن لا تفارق رأس أحد منا، وهي: فكرة الاعتقاد الجازم بوحدانية الله، وعظمته في تسيير أمور كونه بحكمة بالغة.
ـ أنا أستبشر الخير برؤيتي البرق، ولا أراه إلا في الساعات التي يشتد بها هطول الأمطار.
ـ البرق أصلاً لا يحدث إلا في الغيوم المتراكمة أو «الثقال» كما وصفها القرآن الكريم.
قلتها حين كانت يد «أبي محمود» تقطف حبة برتقال، سرعان ما دفعها إليَّ وهو يقول:
ـ خذ هذه، إنها أول حبة أقطفها من النوع الحسن!
ـ تأملت حبة البرتقال التي أصبحت بيدي، وبدت بحجم زائد، لم أرَ مثيلاً لها من قبل إلا في مزرعتي النموذجية، لكنني لذت بالصمت، ولم أعقِّب، كي لا يشتمّ من كلماتي رائحة التفاخر، أو التعالي، وما أن رفعت نظري عن حبة البرتقال حتى رأيت «أبا محمود» وقد همَّ بالابتعاد، والمجرفة في يده.
ـ إلى أين يا أبا محمود؟
ـ لأخرب القناة التي حفرتها قبل أيام من سقوط المطر.
ـ حفرتها؟ أين؟
ـ بإزاء التل!
ـ لِمَ؟
ـ لكي تبعد مياه المطر الساقط على التل عن مزرعتي.
ـ أحقاً ما تقول؟
ـ أجل! لقد فعلتها اعتقاداً مني أن حامض النتريك الساقط مع الأمطار يضر بمزروعاتي.
ـ وهل تظن أنني سأنتظرك حتى تنتهي من تخريب هذه القناة وحدك.
ـ يمكنك أن تشغل نفسك بتقشير البرتقالة، والتهامها.
انتزعت المجرفة من يده، وقلت:
ـ لن أذوق طعمها، إلا بعد أن أكسب ثواباً بتخريب تلك القناة التي حرمت مزروعاتك كل ما سقط مع الأمطار من حامض النتريك.
تابعت مسيري.. على حين ظل «أبو محمود» لابثاً في مكانه وعيناه تطفحان بالسرور، وربما بدمعة شكر حائرة، لم تجد بعدُ طريقها إلى الأرض الطيبة.(230/28)
خطاب مفتوح إلى البابا بنديكتوس السادس عشر
د. زينب عبد العزيز
حضرة أسقف روما، والحبر الأعظم للكنيسة العالمية، وكبير أساقفة إيطاليا، والمطران الأسقفي للمقاطعة الرومية، ورئيس دولة مدينة الفاتيكان ـ ولم أذكر «بطريرك الغرب» لأنكم تنازلتم عنه.. كما لا يجوز لي إغفال لقب: رئيس مكتب عقيدة الإيمان (محاكم التفتيش سابقاً) والأستاذ المتفرغ بالجامعات الألمانية، البابا بنديكتوس السادس عشر:
السلام على من اتبع الهدى.
أبدأ بهمسة عتاب كزميلة في اللقب الجامعي ـ وهو المستوى الذي يدور في نطاقه هذا الخطاب ـ وكإنسانة مسلمة، نالها من الإهانة والمرارة والألم ما نال المسلمين في العالم أجمع مما ورد في المحاضرة التي ألقيتموها، في جامعة راتيسبون بألمانيا، تحت عنوان:
«العنف يتعارض مع طبيعة الله ومع طبيعة الروح»
فمن يحمل على كاهله أمانة ومسؤولية كل هذه الألقاب، عار عليه أن يتدنى إلى مستوى السب العلني لدين يتمسك به ويتّبعه أكثر من خُمْس سكان العالم.. وعار عليه أن يختار موقف التحدي الاستفزازي للنيْل من الإسلام والمسلمين، وهو موقف يندرج بلا شك ضمن مسلسل الإساءة والمحاصرة الذي بدأ منذ بداية انتشار الإسلام ويتواصل حتى يومنا هذا؛ إنه موقف وضعكم على أرض احتقار الآخر، والكذب، والجهل، باختياركم، وكلها تشبيهات لا تليق بمن في مثل منصبكم؛ فهو موقف يكشف عن مدى جهلكم بدينكم وبدين الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى، هو موقف أشبه ما يكون بإطلاق العنان لحملات صليبية جديدة ما أغنانا جميعاً عنها.
وتؤكد جريدة «لاكروا» النصرانية الصادرة في 17 / 9 / 2006، أن المحاضرة قد تم الإعداد لها طويلاً، وقرأها العديد من المحيطين بكم، مثلما يحدث مع كافة النصوص العامة على الأقل. كما تؤكد الجريدة أنه منذ يوم الإثنين (11 / 9) و «بينما لم يكن البابا قد نطق محاضرته بعدُ، صدرت الصحف الإيطالية بعناوين حول «بنديكت السادس عشر والإسلام» وهو الأمر الذي يؤكد ربط هذه المحاضرة في هذا التوقيت بمسرحية الحادي عشر من سبتمبر.. فما أصبح معروفاً يقيناً، رغم التمويه الشديد، أن الأيادي المدبرة أمريكية رفيعة المستوى. وكان هدف المحاضرة واضحاً في ربطه بين الإسلام والإرهاب والشر.. أي أنه موقف متعمّد.
ولقد جاء ردكم وتعبيركم عن «الحزن» الذي انتابكم من ردود الأفعال التي أثارتها محاضرتكم كعذر أقبح من ذنب؛ فالباحث الأكاديمي حينما يستشهد في بحثه، يكون ذلك لأحد أمرين: إما لتأييد موقفه، وإما لنقد ذلك الاستشهاد ـ ولا يوجد هناك ما يسمى باستشهاد لا يعبر عن رأي كاتبه بالمعنى الذي حاولتم التبرير به: فالكاتب هو الذي يستشهد. وقولكم إن هذه العبارات لا تعبر عن رأيكم الشخصي، في الوقت الذي يؤكد صُلب المحاضرة وسابق كتاباتكم؛ وخاصة أن خطاباتكم كلها كتابات تؤكد أنكم تعنونه، وذلك يضعكم في مصاف أولئك الباحثين الذين يضعون أفكارهم على لسان غيرهم حتى لا تحسب عليهم خشية عواقبها، وهو موقف علمي يوصف بالجبن ولا يليق بمن في مكانتكم.
وحتى التصريح الصادر عن المكتب الإعلامي للفاتيكان يوم السبت 16/ 9/ 2006 والذي استشهد فيه المتحدث الرسمي بقرار وثيقة «في زماننا هذا» الصادرة عن مجمع الفاتيكان الثاني سنة 1965، فهو أيضاً بمثابة عذر أقبح من ذنب، ويكشف عن الموقف الغريب والملتوي ـ لكي لا أقول ذا الوجهين للفاتيكان. فمن يطّلع على محاضر صياغة هذا النص تحديداً يصاب بالغثيان من كثرة ما جاهد كاتبوه لاستبعاد أن العرب من سلالة إسماعيل، الابن البكر لسيدنا إبراهيم، ولا ينتمون إليه، وإنما يتخذونه مثلاً، واستبعاد حتى إن الله قد خاطب المسلمين عن طريق الوحي إلى سيدنا محمد #. والمرجع صادر عن الفاتيكان بعنوان: «الكنيسة والديانات غير النصرانية» ، وبه محاضر الجلسات المخجلة؛ وهو الأمر الذي يوضح مدى تمسككم باستمرار ذلك الموقف غير الأمين تجاه الإسلام والمسلمين، لعدم الاعتراف به كديانة توحيدية. وسواء اعترفتم أو لم تعترفوا به؛ فالإسلام موجود ومعترف به من الجميع على أنه الرسالة التوحيدية الكبرى الثالثة المرسلة للبشر، ورفضه أو إنكاره لا يدين إلا شخصكم.
ولا يسع المجال هنا لتناول مختلف النقاط التي طرحتموها في تلك المحاضرة والتي تزيد عن العشرين موضوعاً، وسأكتفي بالرد على ما يخص الإسلام. وهما نقطتان أساسيتان: ما وصفتم به الله ـ عز وجل ـ في «المذهب الإسلامي» من أن التصعيد المطلق لله عبارة عن مفهوم لا يتفق ولا يتسق مع العقل والمنطق، ولا يمكن فهمه، وأن إرادته لا ترتبط بأي واحدة من فئاتكم المنطقية، ولا حتى فئة المعقول؛ وأن محمداً ـ عليه صلوات الله ـ لم يأت إلا بكل ما هو شر وغير إنساني، مثل أمره بنشر العقيدة التي يبشر بها بالسيف.
وأول ما يجب توضيحه هنا هو أن الإسلام ليس بمذهب، كما وصفتموه، وإنما هو دين توحيدي متكامل، شامل الأركان، ثابت وراسخ، وخاصة أنه شديد المنطق والوضوح وهو ما يجذب الناس إلىه. ومجرد إغفال مثل هذه الحقيقة يصم موقفكم بالإساءة المتعمدة، ويكشف عن مدى عدم الأمانة العلمية والموضوعية التي تتمسكون بها.
ولن أحدثكم هنا عن الإسلام الذي يمكنكم دراسته إن شئتم، لكنني سأسألكم عن الكتاب المقدس لديكم بعهديه، والذي ترون أنه بقسميه القديم والجديد يتفق مع العقل والمنطق بعكس القرآن، مشيرين في موضع آخر «أن العنف يتعارض مع طبيعة الله وطبيعة الروح، وأن الله لا يحب الدم؛ والتصرف بمنافاة العقل يعد ضد طبيعة الله» . وهنا لا يسعني إلا أن أسألكم عن كل ما هو وارد بالعهد القديم من أمرِ (الإله يَهْوَهْ) لأتباعه بإبادة كل القرى وحرقها وذبح الرجال والنساء والأطفال بحد السيف وأخذ الذهب والفضة ... وفي مكان آخر يطلب تعذيبهم وتقطيعهم وحرقهم في افران الطوب ... هل تتمشى مثل هذه الآيات مع العقل والمنطق في نظركم؟ وخاصة هل ترونها تخلو من الشر وغير الإنسانية؟! أم أن هذا هو التسامح الذي تقرونه؟
وما هو وارد في (سفر حزقيال) حين يأمره الرب أن يأكل خبزاً وعليه «خراء الإنسان» وحينما اشتكى النبي حزقيال أَمَرَهُ أن يضيف عليه روث البقر! هل يتمشى هذا مع العقل والمنطق في نظركم؟! وأخجل حقاًً من ذكر بعض الإباحيات الواردة بهذا النص وغيره رغم محاولة درئها بتغييرها أو تعديلها من طبعة لأخرى.. والنصوص والطبعات المتضمنة ذلك ما تزال موجودة ومتداولة.
أما في النصرانية التي تترأسون أعلى المناصب فيها، فأبدأ بسؤالكم عن (تأليه السيد المسيح) في مجمع نيقية الأول سنة 325م، رغم وجود العديد من الآيات التي يقول فيها السيد المسيح إن «الرب إلهنا واحد» (مرقس 12: 29) ، «ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله» (مَتَّى 16: 19) ، «إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 20: 17) ، «للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد» (مَتَّى 4: 10) ، وما أكثر الآيات التي يوضح فيها أنه إنسان: «أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يوحنا 8:40) . كما أن هناك آيات تقول: «هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» (21: 11) ، و «قد قام فينا نبي عظيم» (لوقا 7: 16) .. ورغم كل هذه التأكيدات التي لا تزال موجودة ولم ُتمْحَ بعدُ، قامت المؤسسة الكنسية بإعلان أن يسوع «إله حقيقي من إله حقيقي، مولود وليس مخلوق، ومشارك للأب في الجوهر» .. وبعد ذلك جعلت الله شخصاً؛ فهل تتمشى كل هذه المغالطات مع العقل والمنطق ـ رغم أنها أدت إلى تقسيم النصرانية وإلى مذابح بين أتباعها؟!
وفي مجمع القسطنطينية الأول تمت إضافة أن «الروح القدس مشارك للأب في الجوهر» ، مما أدى إلى انفصال آخر للكنائس. وفي مجمع أفسوس سنة 431 أقر المجمع بدعة «أن مريم أم الله» مما أدى إلى معارك وانفصالات اخرى.. وفي مجمع خلقيدونيا سنة 451 أقر «الطبيعة الثنائية ليسوع» .. وكلها عقائد وقرارات لا يذكر ولا يعرف عنها يسوع أي شيء؛ فهل هذا يتمشى مع العقل والمنطق؟!
والمعروف من إصداراتكم أنه لم يتم تقبُّل عقيدة التثليث لقرون طويلة بين الكنائس، بحيث نطالع في قرار مجمع فلورنسا المنعقد سنة 1439، الذي راح يحدد لليعاقبة معنى الثالوث لفرضه بلا رجعة، وينص القرار على ما يلي: «إن العلاقة وحدها هي التي تفرق بين الأشخاص، لكن الأشخاص الثلاثة يكوّنون إلهاً واحداً وليس ثلاثة آلهة؛ لأنهم من جوهر واحد، وطبيعة واحدة، وألوهية واحدة، وضخامة واحدة، وخلود واحد، وأن ثلاثتهم واحد؛ حيث لا تمثل العلاقة أي تعارض» وعلى الذين لا يروقهم هذا الوضوح تجيب الكنيسة: إنه سرّ! فهل مثل هذا المنطق هو الذي ترونه يتمشى مع العقل السليم؟!
لقد اعتبرتم أن نصوص الكتاب المقدس بعهده القديم، القائم على الترجمة السبعينية، وأناجيله الأربعة وباقي الكتب المرفقة، هو الكتاب الذي يعتد به؛ فهو يحتوي على الإيمان الإنجيلي وتستعينون بفكره طوال محاضرتكم بعد استبعاد القرآن. والمعروف تاريخياً أن القديس جيروم هو الذي صاغه بأمر من البابا داماز، بعد توليفه من أكثر من خمسين إنجيلاً كانت منتشرة ومستخدمة حتى القرن الرابع، وعند الفراغ من مهمته كتب مقدمة للعهد الجديد موجهاً إياها للبابا داماز يقول فيها:
من جيروم إلى قداسة البابا داماز:
تحثني على أن أقوم بتحويل عمل قديم لأخرج منه بعمل جديد، وتريد مني أن أكون حَكَماً على نُسَخ كل تلك النصوص الإنجيلية المتناثرة في العالم، وأن أختار منها وأقرر ما هي تلك التي حادت أو تلك التي هي أقرب حقاًً من النص اليوناني؟ إنها مهمة ورعة، لكنها مغامرة خطرة؛ إذ سيتعيّن عليّ تغيير أسلوب العالم القديم وأعيده إلى الطفولة. وأن أقوم بالحكم على الآخرين وهو ما يعني في الوقت نفسه أنهم سيحكمون فيه على عملي. فمن من العلماء أو حتى من الجهلاء، حينما سيمسك بكتابي بين يديه ويلحظ التغيير الذي وقع فيه، بالنسبة للنص الذي اعتاد قراءته، ولن يصيح بالشتائم ضدي ويتهمني بأنني مزوّر ومدنس للمقدسات؛ لأنني تجرأت وأضفت، وغيّرت، وصححت في هذه الكتب القديمة؟
«وحيال هذه الفضيحة، هناك شيئان يخففان من روعي: الأمر الاول: أنك أنت الذي أمرتني بذلك؛ والأمر الثاني: أن ما هو ضلال لا يمكن أن يكون حقاًً. وهو ما تقره أقذع الألسنة شراسة. وإذا كان علينا أن نضفي بعض المصداقية على مخطوطات الترجمة اللاتينية، ليقول لنا أعداؤنا أيها أصوب؛ لأن هناك من الأناجيل بعدد الاختلاف بين نصوصها. ولماذا لا يروق لهم أن أقوم بالتصويب اعتماداً على المصادر اليونانية لتصويب الأجزاء التي أساء فهمها المترجمون الجهلاء، أو بدّلوها بسوء نيّة، أو حتى قام بعض الأدعياء بتعديلها؟
«وإذا كان علينا دمج المخطوطات؛ فما يمنع أن نرجع ببساطة إلى الأصول اليونانية ونبعد بذلك عن أخطاء الترجمات السيئة أو التعديلات غير الموفقة من جانب الذين تصوروا أنهم علماء، أو الإضافات التي أدخلها الكتبة النعسانون؟ إنني لا أتحدث هنا عن العهد القديم والترجمة السبعينية باللغة اليونانية التي لم تصلنا إلا بعد ثلاث ترجمات متتالية من العبرية إلى اليونانية ثم إلى اللاتينية. ولا أود أن أبحث هنا ما الذي سيقوله (أكويلا) أو (سيماك) ، أو لماذا آثر (تيودوسيان) الوسط بين المترجمين القدامى والمحدثين. لذلك سأعتمد على الترجمة التي يمكن أن يكون قد عرفها الحواريون.
«وأتحدث الآن عن العهد الجديد، المكتوب بلا شك باللغة اليونانية فيما عدا إنجيل مَتَّى الذي كان قد استعان أولاً بالعبرية لنشره في منطقة اليهودية. إن هذا الإنجيل يختلف يقيناً عن الذي بلغنا نظراً لتعدد المصادر التي استعانوا بها لتكوينه. وقد آثرت أن أرجع إلى نص أساسي، فلا أود الاستعانة بترجمات المدعوين (لوشيانوس) أو (هزيكيوس) التي يدافع عنها البعض بضراوة بغير وجه حق، اللذين لم يكن من حقهما مراجعة العهد القديم بعد ترجمة السبعينية، ولا أن يقوما بمراجعة النصوص الجديدة؛ فالنصوص الإنجيلية التي وصلتنا بلغات شعوب مختلفة توضح مدى الأخطاء والإضافات التي بها. وإذا كنت قد قمت بذلك بالنسبة للنسخ المكتوبة بلغتنا فلا بد أن أعترف بأنني لم استفد منها شيئاً» .
ذلك هو حال الكتاب الذي تعتبرونه مقدساً! وأكتفي بهذا القدر من الاستشهاد؛ لأن باقي النص متعلق بترتيب الأناجيل وتبويبها. وكان ذلك في القرن الرابع الميلادي. أي أنه حتى ذلك التاريخ لم تكن الأناجيل المعروفة حالياً قد استتب أمرها. واندلعت الخلافات بين الكنائس لمدة قرون طويلة، حتى قامت المؤسسة الكنسية الكبرى بفرض هذا الكتاب المقدس على الأتباع على أنه نص منزل و «أن مؤلفه هو الله» ، وذلك في المجمع التريدنتي سنة 1547. ثم قام مجمع الفاتيكان الاول المنعقد في عامي 1869 و 1870 بإعلان أن الكتاب المقدس بعهديه «كتب بإلهام من الروح القدس، وأن مؤلفه هو الله، وأنها قد أُعطيت هكذا للكنيسة» .. أما مجمع الفاتيكان الثاني المنعقد بعد ذلك بحوالي تسعين عاماً، ظهرت خلالها من الدراسات والأبحاث التي أطاحت بمصداقية الكتاب المقدس، وهو ما جعله يعلن عن إصحاحات هذا الكتاب المقدس قائلاًً: «إن هذه الكتب وإن كانت تتضمن الناقص والباطل، فهي مع ذلك شهادات لعلم تربية إلهي حقيقي» !.. تُرى يا أيها البابا: هل هذا هو المنطق الذي ترونه حقاً ومفهوماً؟!
ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى «ندوة عيسى» التي عقدت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1992، حيث إن أهم ما خرج به فريق العلماء المساهمين فيها، وهم حوالي 200 باحث لاهوتي وأكاديمي، أن 82 % من الأقوال المنسوبة إلى يسوع لم يتفوه بها وإنما صاغها كَتَبَةُ الأناجيل، وأن موت يسوع وبعثه حدث في المكان وبالكيفية التي أرادها كتبة الأناجيل.. (صفحة 24 من مقدمة الكتاب الصادر عن الندوة) .. وما يأسف له هؤلاء العلماء هو الجهل الشديد لدى عامة النصارى بكتابهم المقدس وخاصة بالعهد الجديد، وهو مستوى يرون أنه يصل إلى درجة الأمية! اللهم لا تعليق على ما تعتبرونه مصدراً للعقل والمنطق والإلهام!!
تقولون في خطبتكم تلك إن سيدنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يأت إلا بأشياء شريرة وغير إنسانية، من قبيل أمره أن يتم نشر ما يبشر به بالسيف ... لعلكم لا تجهلون أن (البابا أوربان الثاني) هو الذي أعلن قيام الحروب الصليبية باسم الرب في (مجمع كليرمونت) قائلاً: «إن الله يريدها» ، وأنه أطلق على المساهمين فيها لقب «جند يسوع» وأمرهم بوضع علامة الصليب على ثيابهم وعتادهم، ووعد بغفران ذنوبهم وإعفائهم من الضرائب، وأغدق عليهم العطايا. ويصف ذلك المؤرخ المرافق للحملة والمعروف باسم «لانونيم» قائلاً: «تم طرد المدافعين عن المدينة (القدس) بقتلهم وبترهم بالسيوف أحياء، حتى معبد سليمان، وقد وقعت مجزرة لا مثيل لها بحيث إن جنودنا كانوا يغوصون بأقدامهم في الدماء حتى عراقيبهم» ، ثم يضيف بعد ذلك قائلاً: «لعل ما أدى إلى نجاح ذلك الهجوم وغيره الانقسام الذي كان سائداً آنذاك بين المسلمين» . وعندما سادت المجاعة أيام حصار عكا كان الصليبيون يسلقون أطفال المسلمين ويأكلونهم.. أذلك هو ما يندرج تحت مسمى العقل والأعمال الإنسانية وعدم الانتشار بالسيف؟!
كما تم إنشاء محاكم التفتيش لتواكب أعمالها ولتواصل ما أُطلق عليه عصر الظلمات الذي أمتد حوالي ألف عام، بمنع الأتباع من قراءة إنجيلهم ومنع التعليم إلا على رجال الدين. والمعروف أن الحروب الصليبية لم توجه ضد المسلمين وحدهم في الأراضي المقدسة، وإنما امتدت إلى إسبانيا لتعاون في اقتلاع الإسلام، كما امتدت إلى أوروبا وجنوب شرق فرنسا لاقتلاع شعوب الكاتار والبوجوميل والفودوَا؛ لأنهم حتى ذلك الوقت (وهم نصارى) كانوا رافضين لبدعة تأليه السيد المسيح. وما تذكره المراجع التاريخية والعلمية عن عمليات التعذيب التي تفننت فيها محاكم التفتيش من حرقها الناس أحياء أو طرق عيونهم أو انتزاع ألسنتهم وهم أحياء أو دهن أرجلهم بالزيت ووضعها فوق النار بعد ربطهم حتى لا يتحركوا من أماكنهم ليصيب القارئ بالغثيان. وما كتبه القس (بارتولوميه دي لاس كازاس) عن وحشية أعمال مبشريكم، ورجال الكنيسة وجنودها عند غزوهم شعوب امريكا الجنوبية يفوق الخيال في بشاعته.. ولم يُسمح بنشر مذكراته إلا في أواخر القرن العشرين. ولا يسع المجال هنا للتحدث عن الحروب الدينية بين النصارى أنفسهم، كحرب الخمسين عاماً، والمائة عام، والمجازر المميزة كمجزرة البروتستانت المعروفة باسم (سانت بارتليمي) ولا عن سرد كيفية فرض النصرانية بالسيف على أوروبا وما جاورها أو على عدد من شعوب العالم.
وإذا ما تم حصر أعداد كل الذين تم قتلهم بأمر من الكنيسة الكاثوليكية الرومية الرسولية فإنه سيصل إلى مئات الملايين من الأبرياء، وهو ما تزخر به المراجع. فمثل هذه الأعمال تندرج تحت أي منطق في نظركم؟ أم لعلكم تباركونها لبراءتها وتسامحها النصراني؟
أيها الباحث الكبير! إن كل ما تقدم وأكثر منه بكثير هو ثابت علمياً وتاريخياً ووثائقياً، بل أكثر منه جد كثير، ولا يسع المجال هنا لذكره.. إنها مجرد شذرات.
تقولون في الفقرة الثالثة من محاضرتكم: (إن الله لا يحب الدم) ومع ذلك تصرّون على استمرار العقيدة التي تفرض على الأتباع شرب دمه وأكل لحمه عند تناول (الإفخارستيا) ومن لا يؤمن بذلك إيماناً قاطعاً بأنه يشرب دم الرب فعلاً ويأكل لحمه فعلاً يكون كافراً وملعوناً!! ومن الواضح أن هناك العديد من الأتباع الذين ينفرون من مجرد هذه الفكرة. وتفاوتت حدة الصراعات الرافضة للإفخارستيا بالمعنى الكنسي، وكان من أشهر هؤلاء (جان فيكليف) الذي أدانه مجمع كونستانس 1418 لأنه نادى بأن الخبز والنبيذ لا يتبدلان في القربان ولا يتحولان، وأن المسيح لا يوجد فعلاً بلحمه ودمه في القربان، فأدان المجمع كل مؤلفاته واتهمه بالهرطقة، وبعد موته أمر المجمع بنبش قبره لإلقاء عظامه بعيداً عن المدافن الكنسية (المجامع المسكونية، ج2 صفحة 859) . ثم قام مجمع لاتران بإدخال هذا الطقس الدموي ضمن عقيدة الإيمان.
وكانت آخر محاولة مبذولة لدراسة كيفية فرض فكرة أكل لحم المسيح وشرب دمه فعلياً وحقيقياً، ذلك العام الذي كرسه (البابا يوحنا بولس الثاني) في أكتوبر 2004 والذي أنتهى (بانعقاد السينودس) الذي أقيم من 2 إلى 23 أكتوبر 2005، وحضره 256 أسقفاً من 118 بلداً حول موضوع: «الإفخارستيا في الحياة والرسالة الحالية للكنيسة» ، وقد قمتم بترؤسه لوفاة البابا السابق. وتم أختيار هذا التاريخ 23 أكتوبر لإنهاء أعمال المؤتمر، ليتفق مع «اليوم العالمي للتنصير» ... وهو ما يكشف عن أن عقيدة الإفخارستيا تقف عقبة في طريق عمليات التبشير التي تخوضونها وتجاهدون لتدارس كيفية فرضها.
ومن الواضح أن الإصرار على فرض هذه العقيدة بمثل هذا التشبث، هي عملية تبرير لاستمرار ضرورة وجود طبقة القساوسة التي هي وحدها تمتلك سر تحويل الخبز والنبيذ «بقدرتهم السرّية» إلى لحم ودم المسيح الذي يتعيّن على الأتباع أكله وشربه وإلا فلا يمكنهم الحصول على الخلاص! ولا نملك إلا أن نتعجّب لما تعتبرونه معقولاً ومنطقياً ويتفهمه العقل والمنطق، ولعل ذلك هو ما دفع الكاتب الفرنسي (إميل زولا) أن يقول في إحدى رواياته: «إن الحضارة الإنسانية لن تتقدم إلا إذا سقط آخر حجر من آخر كنيسة على رأس آخر قسيس» !
أنتقل بعد ذلك إلى مجمع الفاتيكان الثاني وقراراته سنة 1965 التي تمثل خروجاً سافراً على نصوص وتعاليم العهد الجديد، والتي تمثل جزءاً كبيراً من المشكلات التي تواجه العالم حالياً. فعلى الرغم من اتهامكم اليهود في قداس كل يوم أحد بأنهم قتلة الرب، وعلى الرغم من وجود أكثر من مائة آية صريحة الوضوح في اتهامها بالعهد الجديد، نص ذلك المجمع من ضمن ما نص عليه في نصوصه المتعددة، على:
| تبرئة اليهود من دم المسيح.
| اقتلاع اليسار في عقد الثمانينيات (من القرن العشرين) .
| اقتلاع الإسلام في عقد التسعينيات حتى تبدأ الألفية الثالثة وقد تم تنصير العالم، وإن كانت هذه التوصية بدأت بعبارة هي «توصيل الإنجيل لكل البشر» .
| إعادة تنصير العالم.
| توحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما.
| فرض المساهمة في عملية التنصير على كافة المسيحيين الكنسيين منهم والمدنيين، وهي أول سابقة من نوعها.
| استخدام الكنائس المحلية في عمليات التنصير، وهو الأمر الذي يضع الأقليات النصرانية في البلدان التي يعيشون فيها في موقف عدم الأمانة أو الخيانة الوطنية لصالح التعصب الكنسي.
| فرض بدعة الحوار، كوسيلة لكسب الوقت حتى تتم عملية التنصير بلا مقاومة تذكر.
| إنشاء لجنة الحوار.
| إنشاء لجنة خاصة بتنصير العالم.
لن أطلب منكم تقييم قرارات هذا المجمع من حيث العقل والمنطق، أو من حيث الشرور وغير الإنسانية التي تمخضت عنها، فهي ليست بحاجة إلى تقييم، إنها تجأر بنفسها؛ لكنني سأضيف أن البابا يوحنا بولس الثاني كان قد وعد بتبديل وتغيير سبعين نصاً من نصوص الأناجيل لتتمشى مع مسلسل التنازلات التي تقدمونها للصهاينة. وللحق لا أعرف إن كان قد تمكن من إتمام ذلك قبل وفاته أم سيقع عليكم الوفاء بهذا الوعد.
ومن بين كل القرارات السابقة لن أعلق إلا على نقطة بدعة الحوار بين الأديان، لأستشهد ببعض النماذج الكاشفة من الوثائق الفاتيكانية:
| أخطر ما يمكن أن يوقف الحوار: أن يكتشف من نحاوره نيتنا في تنصيره.
| من أهم عقبات الحوار ما قمنا به في الماضي ضد الإسلام والمسلمين، وأخيراً، فقد أضيفت الآن (قضية إسرائيل) وموقف الغرب منها، ونحن كنصارى نعرف ما هي مسؤوليتنا حيال هذه القضبة.
| ضرورة القيام بفصل المسيحية في حد ذاتها عن العالم الغربي ومواقفه المعادية والاستعمارية؛ فالمسلم لم ينس ذلك بعد.
| إن الحوار الصحيح يرمي إلى تجديد كل فرد بالارتداد الباطني والتوبة، اعتماداً على الصبر والتأني والتقدم خطوة خطوة وفقاً لما تقتضيه أحوال الناس في عصرنا.
| يتعيّن على النصارى أن يساعدوا مؤمني العقائد الأخرى على التطهر من تراثهم الديني لتقبل عملية الارتداد.
| إن أعضاء الديانات الأخرى مأمورون بالدخول في الكنيسة من أجل الخلاص.
| الحوار يعني فرض الارتداد والدخول في سر المسيح.
| إن (الكرسي الرسولي) يسعى إلى التدخل لدى حكام الشعوب والمسؤولين عن مختلف المحافل الدولية، أو الانضمام إلىهم بإجراء الحوار أو حضهم على الحوار لمصلحة المصالحة وسط صراعات عديدة.
وأكتفي بهذا القدر القليل من غثاء جد كثير لأسأل غبطتكم: هل مثل هذا التعامل غير الأمين وغير الإنساني هو ما تعتبرونه مقبولاً من العقل والمنطق؟!
وهنا تجدر الإشارة إلى خطابكم الأول «الله محبة» ولا يسع المجال لتناوله بالتفصيل؛ فقد أفردتُ له مقالاً آنذاك بعنوان «تنازلات على نغمة المحبة» ! ومن أهم ما يجب الإشارة إلىه اعتباركم أن اليهود والنصارى وحدهم هم الذين يعبدون الله الحقيقي!! ثم قيامكم بالربط بين الإسلام والانتقام والكراهية والعنف باسم الله، وأن الكنيسة الكاثوليكية وحدها هي التي عليها أن تسود العالم، وكم من التنازلات الممجوجة التي قدمتمونها للصهاينة، وهو ما يؤكد أن استشهادكم في المحاضرة لم يكن من قبيل المصادفة وإنما تقصدونه؛ لأنه يمثل رأيكم الدائم.
ولا يسعني عند نهاية خطابي المفتوح هذا إلا أن أسألكم: يصر الفاتيكان على أن رسالته هي تنصير العالم، وهو يبذل قصارى جهده وبكافة الوسائل الصريحة والملتوية لتحقيق ذلك، بل لا يكف عن حث الكنائس الأخرى وتوحيدها لاستخدامها في عملية التنصير، ولقد تم فرض هذا الموقف على الأتباع وعلى الكنائس المحلية في كل مكان بزعم أن هذا هو الوسيلة الوحيدة للتصدي للمد الإسلامي، كما تم استصدار القوانين الأمريكية الترويعية لتنفيذ ذلك.. غير آخذين في الاعتبار أن ذلك تحديداً هو ما يشعل الفتن ويولد العنف دفاعاً عن الذات وعن الدين وعن الهوية؛ فما عساكم فاعلين بتلك الدويلة الدينية العنصرية التي ساعد الفاتيكان على تثبيتها ظلماً وعدواناً وانتزاع الأرض من أصحابها لقوم لا حق لهم فيها وفقاً للنصوص؟ بل ما عساه فاعلاً بهذه الدويلة العنصرية التي يعد إنشاؤها خروجاً سافراً على دينه وتعاليمه ـ وهناك من الأبحاث اللاهوتية ما تؤكد أنه لا حق لهم شرعاً في هذه الأرض، وذلك من قبيل رسالة (الأب لاندوزي) ؟ ولا نسخر حين نتساءل بكل مرارة وألم:
تُرى، هل سيقوم سيادة البابا بتنصير اليهود، أم أن الفاتيكان هو الذي سيتهوّد؟! أليست دعوتكم الظالمة هي تنصير العالم؟!
إن من يحمل على كاهله مثل هذا التاريخ الملطخ بالدماء، ومثل هذا التراث القائم على التزوير والتحريف، ويقوم بمثل هذه السقطة الاستفزازية وسب الإسلام والمسلمين عن عمد، فلا يجب عليه الاعتذار الواضح فحسب وإنما يجب عليه التنحي عن مثل هذا المنصب. وهو أقل ما يجب عليه أن يفعله إن كانت هناك أمانة علمية أو دينية.
__________
(*) أستاذة الحضارة الفرنسية جامعة المنوفية ـ مصر.(230/29)
بريئون أمام شاشة غير بريئة
رائد حماد
في الوقت الذي تشتدُّ فيه الهجمة على الإسلام بحجّة الحرب على الإرهاب، ويضيق فيه على بوادر الصحوة الإسلامية التي تنشر نورها في جميع أنحاء العالم، تطلُّ علينا بعض القنوات العربية الفضائية بمجموعة من البرامج؛ لتساهم في المعركة الدائرة بين أُمّة الإسلام ومن يناصبونها العداء، ولتكون في الصف المعادي، إذ تعمل هذه البرامج ـ التي تعتمد اعتماداً كلياً على مخاطبة الغرائز والعواطف ـ على زعزعة القيم الإسلامية في نفوس المشاهدين، جاعلةً من الرقص والمجون والاختلاط مضماراً للتنافس بين مجموعة من الشباب والشابات، وشاغلةً بذلك مئات الآلاف من أبناء الأمة في مشاهدتها والمشاركة فيها، عبرَ تصويتهم لاختيار نجم الضّياع في هذه المجموعة، وهو من يعتقدون أنه الأفضل في الرقص والمجون!
وتتضاعف خطورة هذه البرامج عندما تتجمَّع الأُسرة حول الشاشة ليشترك الآباء والأمهات والأبناء في مشاهدتها، ناهيكَ عن المشاركة فيها بالتصويت. ويُعتبر الأطفال والمراهقون أكثر الفئات تضرّراً من مشاهدتها؛ لصغر سنِّهم واندفاعهم، وذلك بسبب قدرة هذه البرامج على التأثير على قيمهم وشخصياتهم وسلوكهم.
انتشرت في الآونة الأخيرة برامج تلفزيون الواقع، وبخاصة القنوات الفنية وغيرها من الفضائيات، وهي برامج تعتمد على الواقعية والطبيعية في التصوير وتسلسل الأحداث، فهي لا تحتاج إلى إعداد ولا تحضير، ويطلق عليها أيضاً برامج النجوم، إذ يتم تجميع عدد من الشبّان والشابات بعد اجتيازهم امتحانات في الرقص والغناء في مدرسة موسيقية داخلية، فيعيشون هناك حياة مشتركة، ويتم تصوير كل لحظات حياتهم، وأسوأ ما في الأمر أنها حياة عادية طبيعية وليست تمثيلاً، الأمر الذي يضاعف من تأثيرها على مشاعر الفتية والمراهقين، فتتولّد في داخلهم الرغبة في أن يكونوا مثلهم، وأن يعيشوا تجربتهم، وهنا يكمن الخطر من هذه البرامج.
يستطيع الأشخاص البالغون والذين يملكون القدرة على السيطرة على تصرفاتهم أن يدّعوا أنهم يشاهدون هذه البرامج من باب الفضول، أو لقتل الوقت، أو كما تقول بعض النساء لتشاهد الملابس وقصات الشعر، ويمكنهم الادِّعاء كذلك أن هذه المشاهدة لا تؤثر على سلوكهم وقيمهم، على اعتبار أنهم لا يزالون يؤدّون الصلاة ويتمسكون بالحجاب ويرفضون الاختلاط، متناسين أن مجرد المشاهدة معصية، وأن ارتكاب المعصية دون إحساس بذنب والعمل على تبريرها هو بداية التأثير.
وتقول الطالبة «إحسان» من الجامعة الإسلامية في غزة: إن هذه البرامج غير هادفة، وتعمل على انسلاخ الأمة عن عاداتها وتقاليدها وإبعادها عن قيم الإسلام، وتجعلنا دائماً في ذيل القافلة.
أما «أحمد» الطالب في قسم الإعلام في جامعة الأقصى فيقول: على القائمين على الإعلام في هذه القنوات أن يتقوا الله في الأمة، وفي توجيه إعلامهم المسموم بدلَ مسابقات الرقص والمجون، لماذا لا يُوجَّه إعلامنا إلى محاربة الفساد، ونشر دعوة الإسلام، وتوجيه النشء إلى الصواب؟!
إنَّ تمسُّك الآباء والأمهات بل وحرصهم الشديد على متابعة هذه البرامج يشجِّع الأبناء من أطفال ومراهقين على مشاهدتها، هذا بالإضافة إلى حثِّ أصدقائهم وزملائهم على المشاهدة وتصبح حديث الساعة، والدعوة إلى تقليدهم في الملابس وقصَّات الشعر وتعليق صورهم في غرف النوم. ولا يتوقف تأثير هذه البرامج عند حدود التأثير على القيم وزعزعتها، بل يتعدّاها إلى التأثير السافر على مشاعر الأطفال والمراهقين، عبرَ تركيزهم على إثارة الغرائز الجنسية لدى المشاهدين.
ü كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته:
إن الأطفال والمراهقين لا يملكون الوعي الكافي الذي يمكِّنهم من مقاومة ما تتعرض له عقولهم من تشويش، ومشاعرهم وقيمهم من إفساد، فهم يتعاملون مع جهاز التلفاز ببراءة، ويقدمون على مشاهدة ما تشاهده الأسرة، فحتى لو قرّرت الأسرة منع أطفالها من مشاهدة هذه البرامج فإنها لن تتمكن من ذلك، ما دامت الأم تشاهدها أو الأب يتابع أحداثها.
فعلى الآباء والأمهات أن ينبِّهوا أولادهم من خطر هذه البرامج الساقطة وتأثيرها على القيم والعادات التي شدّدت على التحلّي بها شريعة الإسلام. إن المنع والتعتيم لا يفيد كثيراً في تعديل سلوك الطفل أو المراهق، لذا يجب على الأسرة أن تقوم بحملة مضادة تعزّز فيها قيم أبنائها، وتوضح فيها سخافة هذا الطرح في وقت تتراكم فيه المسؤوليات المعطّلة على كاهل أبناء الأمة الإسلامية، وأن تحثّه على متابعة قضايا الأمة، وأن تعزِّز في داخله الوازع الديني، وأن تنمّي علاقته بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ وأن هناك جنةً وناراً.
وعلى الدعاة إلى الله، وعلى المثقفين من أبناء هذه الأُمّة، أن يقوموا بحملة مضادة ضدّ هذه البرامج المشبوهة.
إن أبناءنا أمانة في أعناقنا، ونحن مسؤولون عن تربيتهم أمام الله، فهل نعي خطر المسؤولية الملقاة على عواتقنا؟(230/30)
صور من الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية
أ. د. مصطفى رجب
يتفاخر بعض الأكاديميين العرب بأنه تلقى علومه، ونال عليا شهاداته من جامعات الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، وتشعر في حديث هذا النفر من الأكاديميين بنبرة التعالي والتفاخر، من خلال أسلوبه في الحديث، وحركات يديه ووجهه، كأنه وُلد لأبوين أمريكيين وجدين هولنديين، ولا علاقة له بأهله العرب المسلمين. ولا خلاف مع أمثال هؤلاء المستلَبين ثقافياً على أن الجامعات الغربية تهتم بدراسة الإسلام؛ فهذه حقيقة لا شك فيها، ولكن الشك كله يحيط «بدوافع» تلك الدراسات. فما الذي يبحث عنه الباحثون في الجامعات الغربية وهم يدرسون الإسلام في أبحاثهم العلمية؟ هل تكون لديهم آراء مسبَّقة يريدون تدعيمها بنتائج بحوث معتمدة بأختام كبريات جامعاتهم لتغدو كأنها حقائق؟ هل يبحثون فعلاً عن الحقيقة بقلوب وعقول فارغة من أية أحكام مسبقة؟
في السطور التالية سأحاول ـ من خلال استعراض عدد من تلك الدراسات ـ فَهْمَ نظرة الغرب للإسلام والمسلمين كما تعكسها الدراسات الأكاديمية في بعض الجامعات الغربية:
أولاً: الاهتمام بأحوال تنصير المسلمين (1) :
اهتم بعض الباحثين بدراسة أحوال المسلمين المرتدين عن دينهم، وأوضحت دراسة قدمها (سوراجارامان) للحصول على درجةEDD من (مدرسة الثالوث اللاهوتي البروتستانتية) عام 1993م، وتقع في 171 صفحة تناول ما أسماه بـ (الخبرات المتطورة للمسلمين المتحولين إلى النصرانية) .
وسعى الباحث في هذه الدراسة للتعرف على أحوال المسلمين المتحولين للنصرانية من خلال اختيار عينة من ثلاثين رجلاً وامرأة تنصروا من مسلمي ولاية إلينويز Illinoys الأمريكية. وقابلهم الباحث مقابلات شخصية، وقد راعى الباحث بعض المعايير عند إجراء مقابلاته مع هؤلاء المفحوصين منها:
1 ـ أن تتوفر لديهم قدرة على التحدث والتفاهم باللغة الإنجليزية.
2 ـ أن يوافقوا على إجراء هذه الدراسة عليهم ويعلموا بأهدافها المعلنة (المغلفة بعبارات طنانة مثل: التقارب، والتفاهم الأفضل ... إلخ) .
3 ـ أن يكون منهم ممثلون لمناطق جغرافية مختلفة، فكان منهم أفراد من آسيا، وأفريقيا، والشرق الأوسط.
وقدم الباحث لهذه العينة قائمة موضوعات مرتبة أبجدياً ليجيبوا عنها، وفي نهاية دراسته توصل إلى عدد من النتائج نعرضها فيما يلي بالطريقة التي عرضها بها صاحب الدراسة:
1 ـ اتضح من النتائج أن العلاقات بين المسلمين والنصارى مهمة لبناء ثقة متبادلة وتفاهم متبادل من خلال الصداقات والتواد العائلي.
2 ـ يجب أن يتعاون المسلمون والنصارى في الانفتاح بعضهم على بعض، وعقد ندوات مفتوحة لمناقشة بعض الأمور المتعلقة بالإنجيل والقرآن.
3 ـ التعاون النصراني الإسلامي مطلوب من أجل مصلحة الطرفين.
ويبدو من هذه النتائج أن أداة البحث التي وزعت على عينة المفحوصي ن لم تكن محايدة، وإنما اختيرت عباراتها بذكاء شديد لتسمي (الاستهواء) تعاوناً، و (الاستقطاب) تفاهماً مشتركاً.
إن الباحث حين تحدث عن أسباب تحول المسلمين إلى النصرانية ركز على (المعاناة) بوصفها أحد الأسباب التي دعت للتنصر، كما أشار الباحث إلى قيام المجتمع النصراني بتلقف هؤلاء المتنصِّرين وتوفير الراحة، والمأوى، والنصيحة لهم، بعد نبذ عائلاتهم المسلمة لهم إثر ارتدادهم عن دينهم.
وركزت نتائج البحث على ما يعانيه المتنصرون من مشكلات تتعلق بعائلاتهم المسلمة السابقة وعلاقاتهم بها، وعلى الضغوط التي يتعرضون لها من السلطات الإسلامية بنوعياتها المختلفة.
وقد أوصى الباحث الكنائس بتوجيه دراسات تتعلق بالتخطيط التعليمي لاستقطاب المزيد من المسلمين لكي يتنصروا، وتدريب النصارى على مهارات إنشاء علاقات مع المسلمين القابلين للاستهواء، وتوجيه دراسات نحو المعاناة الناجمة عن التحول للنصرانية ومحاولة تذليلها.
وبالجملة: فإن مثل هذه الدراسة تهدف ـ بوضوح ـ إلى تقديم يد العون لهؤلاء المسلمين المرتدين وتخفيف معاناتهم.
ثانياً: دراسة ارتباط الدين بالسياسة في المجتمعات النامية (1) :
ومما يهتم به الباحثون في الجامعات الغربية، العلاقة بين الدين والسياسة، ولا سيما السياسة الخارجية، في عدد من كبريات الدول النامية.
فقد قدم الباحث (أوليوفولا جيمي ادجوكن) رسالته للدكتوراه إلى جامعة هارفارد الأمريكية عام 1991م في 281 صفحة حول (تأثير الدين في السياسة الخارجية النيجيرية) حيث قام الباحث بتحليل المعلومات التي حصل عليها من الوثائق الحكومية والمقالات الصحفية والمقابلات الشخصية مع عدد من الشخصيات المسؤولة في الحكومة والتي تنتمي إلى الديانتين الكبريين في نيجيريا وهما: الإسلام والنصرانية.
وعند حديثه عن الإسلام كان الباحث يشير كثيراً إلى ما أسماه: «ارتباط المتدينين بالجماعات التي لها المعتقدات نفسها خارج نيجيريا» وكأنه يريد أن يقول: إن المسؤولين الحكوميين غير منتمين لمصالح دولتهم بقدر ما هم منتمون لدينهم، ومن ثم فإن السؤالين الكبيرين اللذين قامت عليهما الدراسة هما:
1 ـ هل يعكس الانقسام النصراني ـ الإسلامي في نيجيريا خلافاً عرقياً؟
2 ـ ما درجة تأثير الجماعات الدينية الخارجية على سياسة نيجيريا الخارجية؟
ومن النتائج العجيبة التي توصلت إليها هذه الدراسة هو أن النصارى الذين يتركزون في جنوبي البلاد يصدِّقون أن (إسرائيل) دولة نصرانية! أو أنه أوعز إليهم بهذا.
ولا يشترط أن يكون الباحثون في مثل هذه الموضوعات من الغربيين؛ فقد يوجه الأساتذة طلابهم المسلمين المبتعَثين إلى دراسة موضوعات تلبي حاجات الأساتذة وأجهزة الاستخبارات التي يعملون لصالحها. فلا ينكر أحد أن كثيراً من الجامعات الغربية تتيح نتائج بحوثها لمن يطلبها من الأفراد، ولأي هيئة تطلبها ما دامت تدفع التكاليف.
وقد يكون من هذا النوع رسالة الدكتوراه التي تقدم بها محمد نور مونتي (1) إلى جامعة تمبل 1990م وتقع في 451 صفحة وتدرس (التغير الاجتماعي في ماليزيا المعاصرة) وبالرغم من هذا العنوان، فإن اهتمام الدراسة انصب على التنظيم الطلابي المؤثر الذي نشأ في ماليزيا 1971م تحت اسم (جمعية الطلاب المسلمين الوطنية) والتي يرمز لها بالحروف (A.B.I.M) ومدى قدرة هذا التنظيم على التأثير في قرارات الحكومة الماليزية داخلياً وخارجياً؛ فقد اهتم الباحث بمحاولة استكشاف توجهات وقرارات الحكومة الماليزية خلال سنوات طويلة ومدى تأثر تلك التوجهات والقرارات بجماعة الـ (A.B.I.M) بوصفها جماعة ضغط لها تأثيرها في الأوساط الشبابية خاصة، وفي الحياة بمجالاتها المختلفة بعامة.
ثالثاً: الاهتمام بدراسة أوضاع المرأة المسلمة:
إن الغرب يدرك تماماً الدور الخطير المنوط بالمرأة في بناء المجتمعات، ومن ثم فإن هناك اهتماماً متزايداً بتوجيه الدراسات نحو المرأة المسلمة في المجتمعات الإسلامية، أو غير الإسلامية (الأقليات المسلمة) .
ففي دراسة الدكتوراه التي قُدِّمت من الباحثة دينا إسحق جراح 1990م عن المرأة الفلسطين ية: (وضع ودور المرأة الفلسطينية في الضفة الغربية) (2) أشارت نتائج الدراسة إلى تأثير الدين على الاتجاهات الثقافية والفلسفات الاجتماعية، والعلاقات بين الأجناس المختلفة، وبعد أن درست الباحثة تعليم المرأة الفلسطينية وتاريخها توصلت في نتائجها إلى أن العادات الاجتماعية والدين هما السبب في الاضطهاد الاجتماعي للمرأة!
في حين اهتمت دراسة أخرى للدكتوراه في جامعة إلينويز للباحثة لوسي آني والي عام 1993م بدراسة الأوضاع المجتمعية لنساء إحدى مناطق أندونيسيا في غرب سومطرة؛ حيث ركزت الباحثة على نساء الطبقة الوسطى من المجتمع من خلال فئتين تناولتهما بالبحث وهما: المسلمات اللاتي يعملن بحرف بسيطة وهن غير متزوجات، ومسلمات أخريات يعملن كمعلمات في مدارس إسلامية داخلية للبنات.
وقد أثبتت الدراسة أن النساء في أندونيسيا ـ كما تُظهرهن عينة الدراسة ـ يحافظن على الالتزام بأحكام الإسلام وآدابه في سلوكهن وعاداتهن اليومية، لكن في النهاية كما وصفتهن الباحثة في عنوان دراستها: تقيات ومنتجات (3) .
ومن العروض الموجزة السابقة نستطيع أن نستنتج ما يلي:
1 ـ أن الجامعات الغربية تعمل كوكالات لأجهزة الاستخبارات أعلنت ذلك أم لم تعلن، قصدت ذلك أم لم تقصده. فمن المستبعد أن يكون اختيار موضوعات البحوث يتم بشكل عشوائي كما هو الحال في الجامعات العربية والإسلامية التي يعاني البحث العلمي فيها من النمطية والتكرار والسطحية في كثير من الأحوال.
2 ـ أن الطلاب المبتعثين إلى تلك الجامعات من الدول النامية يعانون حالة من الاستلاب الثقافي يجعلهم ـ تحت تأثير الانبهار الحضاري ـ أبواقاً للثقافة الغربية يروجون لها، ويخدمون قضاياها أعلنوا ذلك أم لم يعلنوه، قصدوا ذلك أم لم يقصدوه.
3 ـ أن موضوعات البحوث حول الإسلام تدور في عدة محاور تستهدف في النهاية إما التنديد بالإسلام والزراية عليه والحط من شأنه كدين، وإما خدمة قضايا التنصير والتهويد.
__________
(*) عميد كلية التربية بسوهاج ـ مصر.
(1) Raman,Suraja,"Christian conversion and Development of Muslims " A Thesis submtted to: [Trinity Evangelical Divinity School] for EDD Degree.1993. U.S.A
(1) Adejokun,Olufalajimi, " The Influence of Religin on Nigerian Foreign Policy " Ph.D Thesis submitted to Haward University.1992.
(1) Monutty,Mohammad,Nor."Perception of social change in Contemporary Malaysia: A critical Analysis of ABIM's Role and its Impact Among Muslem Youth ". Ph.D Thesis submitted to Temple University,1990.
(2) Jarrah,Dina,Issac "Palestiniam Women: The statue and Roles of Palestinian Women in the West Bank (Feminist, Tradition,Islam) Ph.D Thesis submitted to Golden Gate University,1990
(3) Whalley.Lucy.Anne "Virtuous Women.Productive citizens: Negotiating Tradition Islam(230/31)
الرؤية عند الأديب المسلم
يحيى بشير حاج يحيى
بادئ ذي بدء نقول: إن الرؤية الإسلامية ـ كما نتصورها ـ لا بد فيها من أربعة أمور:
أولها: الفهم الواعي لدور الإسلام في الحياة.
وثانيها: معرفة التيارات الوافدة قديماً وحديثاً.
وثالثها: الاهتمام بقضايا المسلمين.
ورابعها: الالتزام الذي ينبع من الإيمان العميق.
وثمة سؤال: هل الرؤية هذه مجرد عاطفة تنطلق في المناسبات؟ أم هي عملية تقويمية تنطلق من خلال الإسلام، وتنظر بمنظاره؛ فتُخَطِّئ وتصوب وتمجِّد؟
إنّ ممّا تمتاز به الرؤية عند الأديب المسلم أنها منطلق مبدئي، والتزام أخلاقي. فهي ليست ـ على سبيل المثال ـ بكاء على المظلومين، ولا دعوة إلى إنصاف المحرومين؛ ثم البحث عن حياة خاصة، ولو كانت في بروج الظالمين.
وهي رؤية تتسم بالصدق مع النفس والواقع، وحب الخير، والإيمان باستمرار الصراع بين الحق والباطل، وانتصار الحق أخيراً، والأخذ بالأسباب، والحنين إلى الماضي المجيد واستلهامه، والإفادة من تجاربه.
وهي ليست موقفاً انعزالياً، ولكنها مخالطة ومعاناة وإحساس بما يجري، ومحاولة جادة لتوجيهه وتقويمه.
وهي إيمان بالحل الإسلامي لقضايا الحياة والإنسان، وقد أثبتت التجارب أن الإسلام هو الحل، بعد أن أخفقت كل الحلول المستوردة.
وهي أخْذ بالمنظار الإيماني في التعامل مع المدنية الوافدة، فتأخذ منها وتدع بما يتوافق مع مقتضى هذا الإيمان. وهي ليست نظرة قُطْرِيّة تعُنى بقُطْرٍ دون آخر، فحيثما حَلَّ المسلمون فثمة الهم.
وهي بالنسبة للماضي؛ ليست مجرد نظرة إلى تراث مجيد، ولكن تراث لجيل فريد، والتعمق في تجارب الذين اتبعوهم بإحسان، فاقتربوا أو ابتعدوا عن المنهج بحسب التزامهم به.
وهي ليست إعجاباً بفرد، وإن كانت البطولة في التعالي على ضروريات الحياة وقمع هوى النفس مما يهز الوجدان المسلم، ولا إعجاباً بتجربة، ثم الوقوف عندها، دون مقارنة لها بما عند الآخر.
وهي بالنسبة للحاضر؛ تتمثل في الدعوة إلى الالتزام بالإسلام، وتقديمه منهجاً للحياة، وتبيين أحقية هذا الدين في حكم الحياة وسياسة المجتمع. ثم هي لفت لأنظار الغافلين إلى المآسي التي يجرها البعد عن الإسلام، وذلك بتقديم صورٍ للمآسي المعاصرة، وتوضيح لتداعي الأعداء على مختلف توجهاتهم ضد المسلمين.
وهي بالنسبة للمستقبل؛ تتمثل في يقين الأديب المسلم أنّ المستقبل لهذا الدين، وفي النظرة المتفائلة لما ستؤول إليه نتيجة الصراع مع الباطل، وأن تجارب التاريخ البعيد والقريب تؤكد أن المستقبل للإسلام؛ وهي بذلك موقف استشرافي للآتي.
وإذا قلنا في البداية بأنها: ليست عاطفة، ولا حديثاً عن المناسبات؛ فليس معنى ذلك أن ننفيهما، ولكن قصدنا أن العاطفة وحدها لا تكفي، وأن الحديث عن المناسبات دون استلهامها لا يؤدي المقصود. مع يقيننا بأن العاطفة من أخص خصائص العمل الأدبي، وأن الذين ينقطعون عن تاريخهم يعيشون غراساً ليس لها جذور، منبتة في أرض من الرمال.(230/32)
هذا عيدنا
إبراهيم بن صالح الدحيم
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر» (1) ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي -صلى الله عليه وسلم-! فأقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «دعهما» فلما غفل غمزتهما فخرجتا (2) ، وفي رواية: «يا أبا بكر! إن لكل قوم عيداً؛ وهذا عيدنا» (3) .
وأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- للسُّودان أن يلعبوا بالدَّرق والحِراب في مسجده، وقال لعائشة: «تشتهين تنظرين؟» قالت: نعم! فأقامني وراءه، خدّي على خدّه وهو يقول: «دونكم يا بني أرفدة!» (4) ، وفي رواية: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة» (5) .
ما هي النظرة الصحيحة للعيد؟ وماذا يجب أن يكون عليه المسلم في العيد؟
هذا ما أرجو أن تكون الإجابة عليه في هذه الكلمات اليسيرة. وحتى نلمّ شعث الحديث ونجمع شتاته نعرض له في عدة قضايا:
القضية الأولى: العيد تأكيد لتميز المسلم عن المشرك والكافر، واستغنائه بالشرع المبارك عن عادات الشعوب البائدة وتقاليد الأمم الماضية: «قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر» ، «هذا عيدنا» نعم! هذا عيدنا، خير مما هم فيه من اللهو واللعب مع الغفلة والإعراض، أما عيدنا فهو مزيد اتصالٍ بالله؛ فهو نفحة قدسية ورحمة إلهية. نفتتحه بالتكبير والذِّكر والصلاة والشكر لله على تمام عدة الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . [البقرة: 185]
القضية الثانية: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة متخفّياً، حتى إذا وافاه العيد في المدينة لم يشأ أن يقتل البسمة أو يرضَّ الشفاه أو يطبق الأفواه، بل أعلن فرحة العيد، وأظهر سروره به مع أنه يلاقي ما يلاقي من كيد الأعداء ومكرهم؛ لكنها العزائم القوية والنفوس الكبيرة؛ حيث تجد متسعاً للفرح برحمة الله وفيضه وإن عظمت فيها الجراح وتتابعت عليها الضربات.
أليس يهزّك الفرح حين تسمع بانتصار المسلمين في مكان مع أن جراحاتهم في أماكن أخرى لا زالت ملتهبة، ودماءهم لا زالت نازفة؟ بل إن المسلمين يفرحون في الغَزاة الواحدة بالنصر الذي يحرزونه، مع أنهم قدّموا في الغَزاة نفسها دماءً وأشلاء.. نقول ذلك لأناس يريدون منا أن نرضَّ شفاهنا ونقتل في نفوسنا كل فرحة، ونطفئ كل بسمة، يريدون أن تتحول أفراحنا إلى مناحات - وإن كان ذلك منهم عن حسن نية - لكن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أتم وأكمل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] ، لسنا نريد من وراء هذا الكلام أن تُنسى الجراح التي يعيشها إخواننا في أصقاع المعمورة، لكن نريد أن نفرح بفضل الله ورحمته: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] .
إن التزام المسلم للحزن والكآبة كلَّ حين من شأنه أن يُقعد النفوس عن العمل، وأن يوقف الدم عن الحركة، والذهن عن الفكر، فلا نستطيع بذلك أن نحرز نصراً، أو نشبع جوعة، أو نغيث لهفة، وإنما نزيد الطين بلّة، ونضع ضغثاً على إبَّالة (1) . قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «أريحوا القلوب؛ فإن القلب إذا أُكره عمي» (2) ويقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «إني لأستجمُّ نفسي بالشيء من الباطل - غير المحرم - فيكون أقوى لها على الحق» (3) .
القضية الثالثة: في مشروعية الفرح بالعيد في هذين اليومين بعثٌ للأمل في الأمة، وإحياء للتفاؤل فيها، فَفَرْحة العيد تلقي في روعنا أن أيام الحزن مهما امتدت سيأتي بعدها يوم فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون، سيأتي يوم تشرق الدنيا بعزِّ الإسلام وعلوّ أهله؛ فالعسر يتبعه اليسر، والشدة يتلوها الفرج، وبعد الحزن يأتي الفرح.
يأتي العيد فنفرح وتشرق نفوسنا بالأمل، ونتعلم من هذا الفرح أن أمتنا لا زالت قوية متينة؛ فهي تستطيع أن تفرح مع أنها مثخنة بالجراح، وسيأتي يوم تُشفى من جراحها وتضاعف فرحتها بالعيد.
إن تكبيرنا في العيد يملأ نفوسنا اعتزازاً، ونؤمن أنه ليس من أحد أكبر من الله ولا أقوى منه (وهو الكبير المتعال) . ونحن المكبرون جند الله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده؛ والعاقبة للمتقين.
إنه الأمل المشرق كلما أشرق العيد.. فأبشروا وأمّلوا فعُمر الإسلام أطول من أعمارنا، وأُفقه أوسع من أوطاننا، وما كان لعدو أن يحيط بالإسلام فيطفئ نوره: {وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] .
القضية الرابعة: العيد فاصل ضروري في حياة المسلم، يُرَوِّح به عن نفسه من ثقل العمل المتتابع الجاد، ليعود إلى الجادة مرة أخرى أجود ما يكون وأكمل رغبة ونشاطاً. إلا أن هذا الترويح الذي يزاوله المسلم في العيد لا يصح أن يخرج به عن حدود الشرع، وأن يوقعه في الأَشَر والبطر فيضل ويخزى.
- لا يصلح أن تلهينا فرحة العيد فنغفل في زحمتها عن ذكر الله وعن الصلاة.
- ولا يصح أن يكون فرحنا بالعيد على حساب أذية الآخرين وإلحاق الضرر بهم، لا في أبدانهم ولا أولادهم ولا ممتلكاتهم ولا سياراتهم، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً» (4) .
- لا يصح أن تتحول فرحة العيد إلى غناء ماجن وسهرات راقصة، أو جلسات غنائية لاغية يُستجلب بها غضب الله بعد أن كان الناس يتقلبون في روضات رضاه، فنكون كما قال الله ـ تعالى ـ: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92]
- لا يصح أن يكون العيد فرصة اختلاط بين الرجال والنساء، أو تكشّف وسفور وغزل ممقوت؛ والله ـ تعالى ـ يقول: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] . ويقول ـ أيضاً ـ: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] .
قال بعض أصحاب سفيان الثوري: خرجت مع سفيان ـ رحمه الله ـ يوم العيد فقال: «إن أول ما نبدأ به يومنا هذا غض البصر» (5) .
- لا يصح أن نبذّر في العيد تبذيراً، في موائد ينقطع منها البصر، أو مسابقات تذهب الممتلكات وتوقع النفس في الحسرات. إنه حين يتحول العيد إلى مثل هذه التصرفات المنحرفة والأحوال الغافلة فإنها تصبح بذلك مجالس لهو ولعب وغفلة لا يجوز للمسلم أن يسهم فيها أو يمتّع ناظريه بحضورها؛ لأن الله حكم وقضى فقال: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] . ولأن جلوسك مع الغافلين ولو للفرجة فيه إعانة على الباطل. عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه دُعي إلى وليمة فلما جاء ليدخل سمع لهواً فرجع، فقيل له في ذلك، فقال: «من كثَّر سوادَ قوم فهو منهم، ومن رضي عملَ قوم كان شريكاً لمن عمله» (6) .
هذا عيدنا ـ أهلَ الإسلام ـ ذكرٌ ودعاءٌ، وأُنْسٌ وصفاء، وروح وهناء، وحب ووفاء، وعلو وأمل.
__________
(1) أبو داود (1134) .
(2) البخاري (949) .
(3) مسلم (892) .
(4) البخاري (950) ، ومسلم (892) .
(5) أحمد: 6/116.
(1) ضغث على إبَّالة: أي بلية على أخرى كانت قبلها. (لسان العرب) .
(2) بهجة المجالس: 1/115.
(3) بهجة المجالس: 1/115.
(4) أبو داود (5004) .
(5) نداء الريان، العفاني: 2/359.
(6) كنز العمال: 9/22، رقم (24735) .(230/33)
231 - ذو القعدة - 1427 هـ
(السنة: 21)(231/)
المتطاولون على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى متى؟!
علي العيسى
التطاول على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والجرأة في تنقُّصهم، سنّة الزنادقة وأهل الأهواء قديماً وحديثاً. واللافت للنظر أن هذه الجرأة ازدادت حدّتها في الآونة الأخيرة بشكل يثير الاستغراب؛ تارةً باسم النقد التاريخي، وتارةً ثانية باسم البحث العلمي، وتارةً ثالثة تحت عنوان: حرية الفكر!
والجديد في هذا السياق أمران:
الأول: أن الشيعة راحوا يؤزّون بعض أهل الأهواء من العلمانيين والليبراليين ـ وخاصة بعض أُغَيْلِمَة الصحافة ـ لمثل هذه المرتقيات الصعبة، ويستثيرونهم لافتعال ذلك النقد المزعوم دون تحقيق علمي أو دراسة موضوعية، وصدق المولى ـ جلَّ وعلا ـ: {وَإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202] .
الثاني: تطاول بعض أهل الفنِّ على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من خلال المسلسلات التاريخية التي هدفها في الظاهر إبراز مآثر المسلمين التاريخية، وفي باطنها لمزُ بعض الصحابة الأجلاء ـ رضي الله عنهم ـ وإسقاط هيبتهم، والعبث بتاريخهم!
لقد أدرك علماء الأمة منذ وقت مبكر أن القدح في الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قدحٌ في النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقدحٌ في دين الإسلام، ولهذا اشتدَّ نكيرهم على أولئك المتطاولين، وتواتر تحذيرهم منهم، وها هو ذا الإمام مالك ـ رحمه الله ـ يقول في الذين يسبون الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ: (إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه، حتى يُقال: رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين) !!
وقد آن الأوان أن نجتهد في الذبِّ عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، ونبرز مآثرهم وسيرهم العطرة، ونقدّمهم قدوات مباركات يهتدي بها من أراد الهداية.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10] .(231/1)
كونوا انصار الله
علي العيسى
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ وبعد:
فإن بشائر انتصار الإسلام وانتشاره، أصبحت بادية للعيان، متزايدة مع الأيام، بالرغم من كل مظاهر الإحباطات والإخفاقات وعظائم التحديات. فقد تعهد القادر القاهر ـ سبحانه ـ بنصرة دينه وإعزاز أوليائه، فقال ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] . وهي غلبة مسنَدة إلى الله، ومسنودة بقوة الله، كما قال ـ سبحانه ـ: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] ، ولكن حكمة الله اقتضت أن تكون نصرة الدين مرتبطة بأنصارٍ، يُجري الله على أيديهم سننه، ويُوفي لأجلهم عهده. فهكذا شاء الله أن يبتلي المؤمنين ويبتلي بهم: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4] . والنوازل والابتلاءات التي تتوالى على الأمة في عصرنا الراهن، تتطلب أن ينتدب لها جمهور أكبر من الأنصار؛ فضربات الأعداء تتلاحق، وخناجرهم تسفك دمنا، وحناجرهم تهجو ديننا؛ وسفهاؤهم يتطاولون على حرماتنا ومقدساتنا، ولم تعد الأمة تدري بِمَ تبدأ في التداعي للدفاع والنصرة بعد أن أصبحت كل قضايا الدين تحتاج إلى نصرة؛ فعقيدتنا وشريعتنا المستباحة على ألسنة السفهاء والمعطلةُ بسبب الأعداء؛ تحتاج إلى نصرة، ورسولنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي تطاول عليه أكابر المجرمين وأصاغرهم، تتوجب له النصرة، وأصحاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم الذين ولغ في سيرتهم قالة السوء قد تعينت للدفاع عن أعراضهم النصرة، وأهلونا المستضعفون في الأرض، المستباحون في الروح والدم والعرض في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وغيرها، هؤلاء يفتقرون إلى المزيد من النصرة، وإخواننا المجاهدون الذائدون عن الحرمات، والمرابطون على الثغور، قد أوجبوا باستنصارهم في الدين الكثير من النصرة.
إن كل هذه القضايا المستوجبة للنصرة، أصبحت تحتاج من الأمة، أن يهب منها الأخيار، ليكوِّنوا جيلاً جديداً من الأنصار.
\ ولِمَ لا ... ؟
لماذا لا تشرئب الأعناق وتتطلع الأبصار، للسير على خطى المهاجرين والأنصار؟! صحيح أن منزلة السَبْق سبقت لأهلها، ولكن ... ألم يقل الله ـ تعالى ـ عن الأنصار الأولين وإخوانهم المهاجرين: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] ؛ فلماذا لا نكون من {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ} لعلنا أن نكون من الذين {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] ؟
لقد قال الشيخ رشيد رضا ـ رحمه الله ـ في تفسير تلك الآية: «لا شك في مشاركة كل المؤمنين لأولئك الصحابة الكرام في رِضى الله وثوابه، بقدر اتباعهم لهم في الهجرة إن وجدت أسبابها، والجهاد بالأموال والأنفس لنصرة الإسلام» (1) .
إن النصرة ـ كما قال الشيخ القاسمي رحمه الله ـ: «منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه» (2) .
ولأمر يريده الله ـ تعالى ـ فقد اصطفى لكل دعوة صالحة أنصاراً، وفي ذروه السَّنام من ذلك: الأنبياءُ ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فقد اجتبى لهم محبين وحواريين، يذيعون الحق وينشرونه، ويذودن عنه ويحمونه؛ فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون» (3) .
وقد أشاد الله ـ تعالى ـ في القرآن بحواريي نبي الله عيسى ـ عليه السلام ـ الذين استجابوا له عندما قال: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] ، فسارعوا ملبين: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . وقد كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم المحبين من المهاجرين، وأخلص المؤيدين من الأنصار الذين سبقوا إلى بيعته ونصرته في بيعتَيِ العقبة الأولى والثانية، ثم لما وفد إليهم هو وأصحابه المهاجرون، تسابقوا في الاقتداء به والافتداء له حتى أثنى الله ـ تعالى ـ على عطائهم ونصرتهم فقال: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 74] ، وأعلى ذكرهم في الكتب السابقة قبل أن يأتوا إلى الدنيا: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} إلى قوله ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ... } [الفتح: 29] ، ووعدهم في الكتاب الخاتم بالفلاح والنجاح، فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .
\ وفي عصرنا أنصار:
إن عصرنا المليء بالتحديات الكبار لا بد له من ركب جديد من الأنصار في كل ميادين النُّصْرة؛ فكل ميادين الدين اليوم تحتاج إلى نُصرة، ولقد دعانا الله ـ تعالى ـ كما دعا الذين من قبلنا إلى الاستجابة لنصرة دينه، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14] .
فَلْنُجِب الدعوة بشروطها، ولْنستجبْ لداعي النصرة، لكن لا بد أولاً من أن نعي فقه النصرة، حتى لا تصبح مجرد شعار ظاهري أو دثار خارجي لا تأثير له في الواقع، وحتى لا تقصر عنها أفهام أقوام، فينصرون الدين على غير ما يريد رب العالمين؛ فالله ـ تعالى ـ لم يترك أمر النصرة الحقة لادِّعاء مدَّعين أو اجتهاد مجتهدين، بل وضع لها أسباباً ووضَّح لها شروطاً، حتى لا يتحول الحواريون أو أنصار الدين إلى خُلُوف كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون» . فاتخاذُ اللهِ أنصاراً لدينه، أمرٌ جرت به السنن ومضت به الأزمنة، وطالما ظل هؤلاء على العهد؛ بقي لهم هذا الشرف، لكن إذا تخلوا عنه، خَلَوْا منه، كما قال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] .
وقد اشتملت هذه الآيات على الأسباب والمرتكزات التي ينبغي توافرها فيمن يأتي الله بهم، ليُجري سنن النصر على أيديهم. وبالنظر والتأمل في هذه المرتكزات نجد أن في استكمالها استكمالاً لأسباب النصر والتمكين، وفي غيابها أو غياب بعضها ينقُص النصر أو يُنقَض أو يُختطَف، ولْنُعِد التأمل فيها:
المرتكز الأول:
بَذْلُ أسباب محبة الله لهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54] . ومحبة الله للمختارين لنصرة الدين، تستوجبها أسباب عديدة، عَدَّ الإمامُ ابن القيم ـ رحمه الله ـ منها عشرة، ووصف منزلة المحبة بأنها: «هي المنزلة التي تنافس فيها المتنافسون، وإليها شَخَصَ العاملون، وإلى عَلمِها شَمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروَّح العابدون» (4) .
المرتكز الثاني:
حُبُّهم هم لله {ويحبونه} بأن تكون أعمالهم وقُرُباتهم نابعة من خالص الحب المقترن بخالص التذلل، وهم بهذا يحققون جوهر العبودية التي قال ابن القيم عنها: «معقد نسبة العبودية هو المحبة؛ فالعبودية معقودة بها، بحيث متى انحلت المحبة انحلت العبودية» . والمحبة مطلوبة هنا بلوازمها، ومن لوازم محبة العبد لربه كما قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: «أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظاهراً وباطناً في أقواله وأعماله وجميع أحواله.. كما أن من لوازم محبة العبد لله أن يكثر من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل ... ومن لوازم محبة الله معرفته ـ تعالى ـ والإكثار من ذكره؛ فإن المحبة بدون معرفة الله ناقصة جداً، بل غير موجودة، وإن وجدت دعواها، ومَنْ أحبَّ اللهَ أكثر من ذكره، وإذا أحب اللهُ عبداً قَبِلَ منه اليسير من العمل، وغفر له الكثير من الزلل» (5) .
المرتكز الثالث:
التذلل والتواضع والشفقة والرقة والرحمة بأهل الإسلام {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . قال علي ـ رضي الله عنه ـ كما نقل ذلك عنه ابن جرير في تفسيره ـ: «أهل رقة على أهل دينهم» (1) .
فأهل النصرة ليسوا من أهل الغلظة والشدة الذين يستحلون أعراض المؤمنين أو أموالهم أو دماءهم، وإنما هم حافظون أمناء، ورؤوفون رحماء، مقتدون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رأفته ورحمته: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .
المرتكز الرابع:
العزة على أهل الباطل من الكفار، والشدة في إبطال باطلهم {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وبخاصة إذا جاهروا بالعداء، أو ظاهروا الأعداء؛ حيث بذلك تكمل عقيدة الولاء والبراء. قال البغوي ـ رحمه الله ـ:
«أشداء على الكفار يعادونهم ويغالبونهم، كما قال عطاء: أعزة على الكافرين كالسبع على فريسته» (2) .
وهذه العزة مشروطة بعدم الظلم وعدم الغدر، وعدم النقض للعهود أو الخَفْر للذمم.
وأهل نصرة الدين لا يتعززون على الكفار انتقاماً لذواتهم، أو تكبراً بخواصهم من عرق أو لون أو جنس، وإنما يفعلون هذا انتصاراً لدينهم، وانتصافاً لكرامة إخوانهم. بقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: «فهؤلاء فيهم على الكافرين شِمَاس وإباء واستعلاء، ولهذه الخصائص هنا موضع.. إنها ليست العزة للذات، ولا الاستعلاء للنفس، إنما هي العزة للعقيدة، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين، إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير، وأن دورهم أن يطوِّعوا الآخرين للخير الذي معهم، لا أن يطوِّعوا الآخرين لأنفسهم» (3) .
المرتكز الخامس:
افتداء الدين بالغالي والثمين، جهاداً بالنفس وجهاداً بالمال وبالوقت والجهد، مع احتساب الأجر على الله وحده: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة: 54] فالجهاد ذروة سَنام الإسلام؛ وأعلى الجهاد وأغلاه الجهاد بالنفس قتالاً في سبيل الله. فالجهاد المذكور في النصوص الشرعية ينصرف إلى هذا في الأساس، وما عداه من أنواع الجهاد تبع. وقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- أنصار الدين، أو الطائفة المنصورة بأنهم «يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرُهم المسيحَ الدجال» (4) .
وفي زمنٍ استأسد فيه أهل الباطل، وتدججوا بكل أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية لا يصح أن يكون أهل الحق مدجَّنين في مواجهة هؤلاء المدجَّجين، ولن تقوم دعوة الإسلام الكاملة الصحيحة إلا بالمزج بين الأمرين. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «أقام الله الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان؛ فكلاهما في نصرة الدين شقيقان» .
المرتكز السادس:
الصَّدْعُ بالحق والشهادة بالصدق، مع عدم الاعتبار بإنكار المنكرين ولوم اللائمين في مرضاة الله رب العالمين {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] .
فأنصار الله بمجموع صفاتهم السابقة، سوف يستجلبون حتماً، سخط الساخطين، وتبرم المتضررين من علو شأن الدين، سواء كان هؤلاء من الكفار أو المنافقين أو العصاة المفرِّطين، وهنا لا بد لأنصار الله من المضي في سبيلهم المَرْضي عند الله، دون التفات للومة لائم، أياً كان هذا اللائم؛ فمحبة الله ورضاه مقدَّمة على محبة أي مخلوق سواه: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . [التوبة: 24]
وقد بايع المؤمنون الأوائل من المهاجرين والأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عدم الخوف من لوم اللائمين في سعيهم لإقامة الدين. قال عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ كما أخرجاه في الصحيحين: «بايَعْنا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أَثَرَةٍ علينا، وعلى ألاَّ ننازع الأمرَ أهلَه، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» (5) .
قال ابن كثير في تفسير {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} : «أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله وقتال أعدائه وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك رادٌّ، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل» (6) . فالمداهنة في الدين ليست من خُلُق الصادقين {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] .
إن القيام بهذه المرتكزات، والتخلُّق بتلك الصفات يحتاج إلى رجال، يستحقون المنة والإفضال من ذي الكبرياء والجلال ـ سبحابه وتعالى ـ ولهذا قال ـ عزَّ وجلَّ ـ عُقَيْب الصفات المذكورة: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4] .
وبهذا الفضل العظيم يستوفي المؤمنون مؤهلات التمكين وصفات أنصار الدين الموجبة لولاية رب العالمين، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ في الآيات بعدها: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56] .
فاللهم اجعلنا من أوليائك وحزبك، وهيئنا لأن نكون من أنصار دينك! (آمين!)(231/2)
مقاصد الحج
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
إن حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، فرضه الله على عباده مرةً في العمر، من استطاع إليه سبيلاً، لا ليستكثر بهم من قلة، ولا ليستعز بهم من ذلة؛ فهو الغني الحميد؛ من أطاعه فقد رشد، ومن كفر فلن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً. قال ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . [آل عمران: 97]
والحج، بالنسبة للفرد، مدرسة إيمانية تربوية، ومَعْلَمُ طريق في حياته، وحدث تاريخي، لا يزال يلهج بذكره. يمضي الحاج أياماً في رحلة قدسية، أنسية، يجتمع له فيها شرف الزمان، وشرف المكان، وشرف العمل:
1 - فالزمان: أيام عشر ذي الحجة، التي أقسم بها الرب ـ عز وجل ـ فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] ، وقال عنها نبيه -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفَّر وجهه بالتراب» رواه البزار، وابن حبان، وصححه الألباني.
2 - والمكان: بيت الله الحرام، والمشاعر العظام: منى، ومزدلفة، وعرفة. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97] .
3 - والعمل: أحب العمل إلى الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه، وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري. وأي عمل أعظم مما اختصه الله بها، وهو الحج الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» رواه مسلم.
والحج، بالنسبة للأمة، مؤتمر سنوي، وتظاهرة عالمية ليس لها نظير، تنصهر في رحابه مختلف الأعراق، واللغات، والبلدان، والطبقات، في وحدة إيمانية، ولُحمة أخوية، ومناسك مشتركة تدهش الناظرين، وتدل على حكمة أحكم الحاكمين.
وقد وعد الله عباده المستجيبين لندائه شهود منافع مطلقة، لا حصر لها، ولا حد، فقال: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27 - 28] . وفيما يلي التماس لأهم تلك المنافع التي يشهدها حجاج بيت الله الحرام، ويرجعون بها إلى أهليهم، ويبقى لهم غُنْمُها:
ü أولاً: التوحيد والإخلاص:
إن القارئ لآيات بناء البيت، ورفع قواعده، والأذان بالحج، يلحظ التلازم الوثيق بين هذا الحدث الكبير، وتقرير التوحيد، ونبذ الشرك. قال ـ تعالى ـ:
{وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] .
{وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *} [البقرة: 127 - 131] .
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30 - 31] .
كما يجد المتتبع لسياق حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- إعلان التوحيد، في عدة مشاهد مشرقة، منها:
1 - التلبية: ففي حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ: «فأهلَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد، والنعمة، لك، والملك، لا شريك لك» رواه مسلم.
2 - سؤال الله الإخلاص: فقد سأل -صلى الله عليه وسلم- ربه قائلاً: «اللهم حجة، لا رياء فيها ولا سمعة» رواه ابن ماجه. فإن بذل الأموال، ومفارقة الأهل والوطن، والتعرض للأخطار، مظنة لتسلل العُجْب والرياء إلى النفس.
3 - قراءة سورتي التوحيد: العملي، والعلمي: الكافرون، والإخلاص، في ركعتي الطواف.
4 - ذكر الصفا والمروة: قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: «فاستقبل القبلة، فوحَّد الله، وكبَّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» .
5- الدعاء: وهو من أعظم مظاهر التوحيد، حين يُقبِل العبد على ربه، بكليته؛ خائفاَ، راجياً، طامعاً، راغباً، راهباً، منيباً، متضرعاً، مبتهلاً. وقد وقع ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ستة مواقف طوال في حجة الوداع: على الصفا، وعلى المروة، وفي عرفة، وعلى المشعر الحرام في المزدلفة، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى، في سائر أيام التشريق.
فحري بمن أشهده الله هذه المواطن الشريفة، أن يفقه هذه المعاني الشريفة، وأن ينفض الغبار عن نفسه، ويجلو صدأ قلبه، ويذكي جذوة التوحيد في روحه. فكما أن الكعبة بيت الرب في الأرض، فالقلب بيت الرب في العبد. وكما أن الكعبة يطيف بها الحجاج والعمار، فينبغي أن يطيف بالقلب الخوف، والرجاء، والمحبة، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، وغيرها من وظائف القلب السليم.
وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- خير الذكر والدعاء، ما يكون في خير يوم طلعت فيه الشمس، يوم عرفة، فقال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» رواه الترمذي، وفي لفظٍ: «أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة ... » رواه الطبراني، وحسنه.
ü ثانياً: المتابعة والانقياد:
ما من عبادة من العبادات يتجلى فيها الانقياد التام، والمتابعة المطلقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كالحج؛ فالحاج يتقلب في مناسك متنوعة، ويتنقل بين مشاعر متعددة، لا يعقل لكثير منها معنى، سوى الامتثال لأمر الله، والتأسي برسول الله. فهو يقبِّل حجراً تارةً، ويرمي حجراً تارةً أخرى؛ وهو يتجاوز مشعراً، ليصل إلى آخر، ثم يعود إلى الأول؛ وهو يطوف سبعاً، ويسعى سبعاً، ويرمي بسبع، دون أن يدرك معنى خاصاً للعدد.
وقد أدرك الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أهمية المتابعة، وشعروا بالحاجة إلى تصحيح مناسك إبراهيم، عليه السلام، وتنقيتها مما شابها من شرك الجاهلية وبدعها، على يد أوْلى الناس به، محمد -صلى الله عليه وسلم-، فما أن أُذِّن في الناس في السنة العاشرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجٌّ، حتى «قدم المدينة بشر كثير» رواه مسلم، وفي رواية: «فلم يبق أحدٌ يقدر أن يأتي راكباً، أو راجلاً، إلا قدِم» رواه النسائي، «كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعمل مثل عمله» رواه مسلم. ويصف جابر ابن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ ذلك المشهد العجيب، والموكب النبوي المهيب، حين استوت به ناقته على البيداء، بقوله: «فنظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب، وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به» رواه مسلم.
كما أنه -صلى الله عليه وسلم- ظل ينبه على هذا المعنى، من المتابعة والانقياد، فيقول: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه» رواه مسلم.
وقد فقه الصحابة هذا المعنى، فلما قبَّل عمر ـ رضي الله عنه ـ الحجر الأسود، قال: «إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك، ما قبلتك» رواه الجماعة. قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ: «وفي قول عمر هذا، التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه» فتح الباري: 3/463. وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ أيضاً: «ما لنا وللرَّمَل، إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله. ثم قال: شيء صنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا نحب أن نتركه» رواه البخاري. وفي رواية: «فيما الرَّمَلانُ الآن، والكشف عن المناكب، وقد أطَّد الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك، لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
ولم يكن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم-، في المناسك، ولا في غيرها: أَوَاجبٌ هذا أو سنةٌ؟ بل كانوا يعظمون سنته، ولا يماكسون فيها، ولا يتتبعون الرخص والشاذ من الفتاوى، كما يصنع الناس اليوم، ويعملون بمقتضى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم» متفق عليه.
ü ثالثاً: إقامة ذكر الله:
إن من أعظم مقاصد الحج، وأهمها، إقامة ذكر الله. ويلحظ القارئ لآيات المناسك تكرار الأمر بذكر الله عقيب كل منسك، قال ـ تعالى ـ: {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . [البقرة: 198 - 200]
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] .
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] .
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] .
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37]
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما جُعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله في الأرض» رواه الترمذي، وقال: «أفضل الحج: العجُّ والثجُّ» ، وقال له جبريل ـ عليه السلام ـ: «كن عجَّاجاً ثجاجاً» رواه أحمد. والعجُّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجُّ: إهراق دم الهَدْي.
فينبغي لمن تلبَّس بهذه المناسك أن يستشعر هذا المعنى الجليل، وأن يلهج لسانه بذكر الله، وتكبيره، واستغفاره، ودعائه، كما أمر؛ فإن الله يحب أن يُذكر اسمُه. وكثير من الناس ينهمك في أداء المناسك ببدنه، وقلبه غافل، ولسانه عاطل.
كما ينبغي لمن أكرمه الله بإقامة ذكره في الحج أن يحفظ الدرس، ويرجع ذاكراً، شاكراً، حامداً، مهللاً، مكبراً، لا يزال لسانه رطباً بذكر الله في جميع تقلباته، وأحواله؛ فالذكر جماع الخير، ومنبع الفضائل؛ فعن عبد الله بن بسر ـ رضي الله عنه ـ قال: أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ، فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فبابٌ نتمسك به جامع؟ قال: «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عزَّ وجل» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ü رابعاً: تعظيم شعائر الله وحرماته:
قال ـ تعالى ـ في سياق آيات الحج: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30] ، ثم قال: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «حرمات الله: كل ما له حرمةٌ، وأمر باحترامه من عبادةٍ أو غيرها؛ كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها؛ فتعظيمها إجلالاً بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون ولا متكاسل ولا متثاقل» ثم قال: «المراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها: المناسك كلها؛ كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، ومنها: الهدايا والقربان للبيت ... ومنها: الهدايا؛ فتعظيمها باستحسانها، واستسمانها، وأن تكون مكمَّلة من كل وجه. فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب؛ فالمعظم لها يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله) .
تيسير الكريم الرحمن: (3/ 1098-1099)
إن هذا الحس الإيماني المرهف، الذي يستقرئ المعاني من وراء الصور والأعيان في مناسك الحج وشعائره، ينبغي أن يستصحبه المؤمن في سائر شعائر الله الزمانية والمكانية؛ فيعظم ما عظم الله، ويهوِّن ما هوِّن الله، ويقدِّم ما قدم الله، ويؤخر ما أخر الله، وتستقيم مشاعره مع شعائر الله، ويكون هواه تبعاً لما جاء به نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وكثير من الحجاج ينهمك في أداء المناسك الظاهرة؛ من طواف، وسعي، ورمي وغيرها، دون أن يصاحب ذلك تعظيم باطني لشعائر الله؛ فلهذا يتشاغل برؤية الغادي والرائح، ويبدو عليه الفتور والملل، ويبحث عن شواذ الرخص؛ بخلاف من عمر قلبه بجلالة الموقف، ولذة العبادة. وهذا ينسحب على بقية شرائع الدين.
ü خامساً: الولاء والبراء:
عجباً لهذا الدين العظيم! كيف ينشئ في نفوس معتنقيه وحدةً فريدة، ولُحمةً متينة، وانتماءً عميقاً، يتخطى الحواجز المكانية والزمانية، ويتسامى على الفروق العرقية والاجتماعية، ويتجاوز الخلافات السياسية والمادية، ويصهر التنوعات اللغوية والثقافية، لمختلف الشعوب والقبائل في نهر كبير مطَّرد، اسمه (الأمة الإسلامية) !
حين يلفظ العربي الفصيح، والأعجمي بلكنته: (لا إله إلا الله. محمد رسول الله) .
وحين تصطف صفوف الصلوات الخمس خلف إمام واحد، يصلون لرب واحد.
وحين يقتطع المسلم الغني زكاة ماله ليرفد بها إخوانه الفقراء في أصقاع الأرض.
وحين يمسك أكثر من مليار من البشر عن الأكل والشرب، في شهر واحد.
وحين تبعث كل أمة بوفدها إلى بلدٍ واحد، في شهرٍ واحد، لأداء نسكٍ واحد، على صعيد واحد، لباسهم واحد، يلبون لرب واحد، نبيهم واحد، وكتابهم واحد.
حين يفعلون ذلك، يتجلى بشكل واضح أحد مقاصد الدين العظام، ألا وهو تحقيق الموالاة بين المؤمنين، وشعورهم برابطة الأخوة الإيمانية التي تجتاح جميع الروابط، وتذيب جميع الفوارق. قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ *} [المائدة: 55 - 56] ، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وهذه الموالاة تفرض حقوقاً وحرمات على أعضاء الجسد الواحد، ولَبِنات البنيان الواحد، جسَّدها النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبة عرفات، وبين يديه مائة ألف أو يزيدون، حين قال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» رواه مسلم.
وبإزاء هذه الموالاة، ومن لازمها ومقتضاها: البراءة من الكفار على اختلاف أصنافهم ومللهم. وقد كان موسم الحج الميدان المناسب لإعلان تلك البراءة، زماناً ومكاناً، حيث أنزل الله ـ تعالى ـ صدر سورة براءة: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 1 - 3] . وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «بعثني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر، يؤذنون بمنى: ألاَّ يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» رواه البخاري.
وقد تضمنت حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- العديد من شواهد البراءة من المشركين، ومخالفة هديهم:
1 - في التلبية: كانوا يقولون: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، ملكته وما ملك» فأهلَّ بالتوحيد.
2- الجواز إلى عرفة: مخالفةً لمشركي قريش الذين كانوا يقولون: نحن أهل حرم الله، فلا نخرج منه.
3- الدفع من عرفة بعد مغيب الشمس، وذهاب الصُّفْرة، خلافاً للمشركين الذين كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال.
4- الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس، خلافاً للمشركين الذين كانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير، لجبلٍ في المزدلفة تشرق عليه الشمس.
قال ابن القيم، ـ رحمه الله ـ: «استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين، لا سيما في المناسك» .
تهذيب سنن أبي داود: (3/309)
وقد قرر هذه البراءة من الجاهلية وأهلها في خطبة عرفة حين قال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة ... وربا الجاهلية موضوع ... وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدُ إن اعتصمتم به: كتابَ الله» .
رواه مسلم.
إن الدرس العظيم الذي ينبغي أن يرجع به كل حاج أن يشعر أنه من أمة مصطفاة خُيِّرت على سائر الأمم، وهُديت لأفضل السبل، وأنْ ليس ثَمَّ إلا إسلام أو جاهلية، هدىً أو ضلالة، حزب الله، أو حزب الشيطان، صبغة الله، أو صبغة الذين لا يعلمون {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138] ، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] .
وهذه الأمة، وإن بدت متخلفةً مادياً وعسكرياً، بسبب تقصير أهلها بالأخذ بأسباب القوة والإعداد، إلا أنها تأوي إلى ركن شديد من العقائد، والشرائع، والأخلاق، ما إن يأذن الله بالفتح والفرج، حتى تعود لخيريتها، وتؤدي دورها الذي أكرمها الله به. قال ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
فلا ينبغي للمؤمن أن يهون، ولا يحزن، مهما بلغ الحال من الهزيمة الظاهرية: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] .
وما أحرى الأمة، بجميع فئاتها وتخصصاتها، أن تتخذ من موسم الحج موسماً للتلاقي، والتباحث في مصالحها المختلفة؛ فتعقد المؤتمرات السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والاجتماعية في موسم الحج، ويتكرر ذلك كل عام، إذاً لانحلت مشكلات كثيرة، وتذللت صعاب جمة، وبدت الأمة أمام خصومها قويةً متماسكة.
ü سادساً: ابتغاء فضل الله بالتجارات:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كانت عكاظ، ومَجَنَّة، وذو المجاز، أسواق الجاهلية، فتأثموا أن يتَّجِروا في المواسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} رواه البخاري. وعن أبي صالح، مولى عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا أمير المؤمنين! كنتم تَتَّجِرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟
إن موسم الحج فرصة لالتقاء مختلف الشعوب الإسلامية لتحقيق منافع مشتركة، ومصالح متبادلة، ومنها المنافع التجارية، والمصالح الاقتصادية، دون أن يغض ذلك من قدر النُّسُك؛ فقد رفع الله الجُناح عن الأمة في مزاولة هذه المناشط الحيوية التي تعود عليها بالقوة والخير. ولو أحسن المسلمون اليوم استغلال هذا الموسم من هذا الجانب، لأمكن أن يؤسس لما يسمى (السوق الإسلامية المشتركة) من خلال عرض منتجاتهم، وإبرام العقود والاتفاقيات التجارية، ويحققوا فيما بينهم الاكتفاء الذاتي، ويستغنوا، أو يكادوا، عن الابتزاز العالمي المذل.
ü سابعاً: التقوى:
جميع شرائع الدين تهدف إلى تحقيق التقوى؛ بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه. وآيات الحج، بصفة خاصة، مختتمة بالأمر بتقوى الله. قال ـ تعالى ـ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196] .
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197] .
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] .
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} .
[الحج: 37]
فهي تخاطب في الناسك خبيئة قلبه، وتستثير ورعه، ألاَّ يرتكب محظوراً، ولا يفرط في هَدْيٍ، أو فديةٍ، أو كفارةٍ، وألاَّ يقع في رفثٍ، أو فسوقٍ، أو جدالٍ، أو إثمٍ في الحج. وإلى جانب ذلك تشعره أن جميع قُرُباته، مهما دقت، معلومة، محفوظة، مشكورة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] .
إن هذه الرقابة الذاتية الصارمة التي يلتزم بها الحاج أياماً معدودات، يمكن أن تتحول إلى منهج، وسلوك مستديم، يرجع به الحاج الموفق إلى وطنه، وكأنما تنبه من غفلة، أو استيقظ من رقاد.
ü ثامناً: حسن الخلق:
الحج سفر، والسفر قطعة من عذاب. وفي الحج من بُعد الشُّقة، وزيادة الكلفة، وحصول الازدحام، ما يتطلب مستوىً خلقياً رفيعاً، من الصبر والاحتمال، تدفع الضجر، وأريحية بالغة، تتسامى عن الأثرة، وتحمل على الإيثار، والصفح، ومجاهدةً وغالبةً للنفس الأمارة، تهزم الشهوات وحظوظ النفس. قال ـ تعالى ـ: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . قال عطاء ـ رحمه الله ـ: (الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك) .
ومن أجمل الأخلاق الاجتماعية: الرفق، وقد دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، فسمع وراءه زجراً شديداً، وضرباً للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: «أيها الناس! عليكم بالسكينة؛ فإن البِرَّ ليس بالإيضاع» رواه البخاري.
ومن الأخلاق الكريمة: التواضع، وقد أردف النبي -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما دفع من المزدلفة، وشرب زمزم من دلو يشرب منه سائر الناس. رواهما مسلم.
ومن مكارم الأخلاق حُسن معاشرة الزوجة؛ فحين حاضت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ودخل عليها فوجدها تبكي، سلاَّها، وعزَّاها، قائلاً: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم» ، وحين ألحَّت أن تأتي بعمرة بعد الحج، قال: «اذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» «وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً سهلاً، إذا هويت الشيء تابعها عليه» رواهما مسلم.
إن هذه الرحلة الشاقة، والآداب الصارمة، يمكن أن تؤسس لقيم خلقية ثابتة، يلتزمها الحاج بعد رجوعه، ويتحلى بها في رحلة العمر كله، بعد أن لمس آثارها، وجنى ثمارها، في تلك الأيام المعدودات.
ü تاسعاً: التوبة والاستقامة:
الحج حدث عظيم في حياة المسلم، يعلق عليه كثير من المسلمين آمالهم، ويرونه مفرق طريق، وإيذاناً باستئناف حياة جديدة يستشرفون فيها المستقبل بتفاؤل وعزم على الاستقامة، وهجرٍ لحياة التفريط والمعاصي. لا غرو؛ فالحج أحد المكفرات الكبار التي تجُبُّ ما قبلها؛ فعن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: ابسط يدك فلأبايعك. قال: فبسط، فقبضت يدي، فقال: «ما لك يا عمرو؟» قلت: أشترطُ. قال: «تشترط ماذا؟» قلت: أن يُغفَر لي. قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً: «من حج فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» متفق عليه. وفي هذا الحديث بشارة وإشارة:
1- فالبشارة ظاهرة، وهي مغفرة السيئات، فيرجع ابن تسعين، إذا وفَّى بالشرط كابن ساعة، لا خطيئة عليه، صفحته بيضاء نقية.
2- وأما الإشارة: فينبغي لمن حظي بهذه الكرامة أن يحافظ عليها، فلا يلطخ صحيفته البيضاء بسواد المعاصي. وقد فسر الحسن البصري ـ رحمه الله ـ الحج المبرور بقوله: (أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة) . وهذا من أعظم علامات القبول.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يمن علينا بحج مبرور، وسعي مشكور، وتجارة لا تبور، وأن يصلح لنا ولأمتنا جميع الأمور، إنه غفور شكور. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(*) قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة ـ جامعة القصيم.(231/3)
طريق التقوى في الحج
إبراهيم بن صالح الدحيم
جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أريد السفر فزوّدني؛ فقال: «زوّدك الله التقوى» (1) ، وجاء آخر فقال: يا رسول الله! إني أريد السفر فأوصني، قال: «عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف» (2) .
إنها وصية جامعة، قليلة في مبناها عظيمة في معناها. وإذا كان كل مسافر يحتاج الوصية بالتقوى، ويُؤمر بسؤال الله لزومَها فيه كما في دعاء السفر المشهور: «اللهم إني أسألك في سفري البرَّ والتقوى» (3) ؛ فإن الحاجَّ والمعتمر قد خص بالوصية بالتقوى، وأن يجعلها زاداً يتزود منه في طريقه، يهلك عند إهماله، كما قال ـ تعالى ـ في آيات الحج: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] .
وزاد التقوى لا يقدر قدره إلا أصحاب العقول التامة، والبصائر المنيرة، ولذا عناهم بالتأكيد فقال: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197] ، أما سواهم فليس في قاموس أزوادهم ذكر التقوى، بل هو الطعام الشهي، والمركب الفاره، والفراش الوثير..
سارت مشرقة وسرت مغرّباً شتان بين مشرّق ومغرّب!
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «فما تزوّد حاجٌّ ولا غيره بأفضل من زاد التقوى، ولا دُعي للحاج عند توديعه بأفضل من التقوى» (4) .
وقد كان السلف يوصي بعضهم بذلك، قال بعضهم لمن ودّعه: اتقِ الله؛ فمَنْ اتقى الله فلا وحشة عليه. وقال آخر لمن ودّعه للحج: أوصيك بما وصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً حين ودّعه: «اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالقِ الناس بخُلُق حسن» (5) . وحيث إن الأمر بالتقوى أمر عظيم يشمل فعل الأوامر واجتناب النواهي مما لا يأتي عليه الحصر فإني أجد نفسي مضطراً لبيان طريق التقوى في الحج في عددٍ من النقاط، حتى يقع الحج على التقوى، ويكون ناتجه التقوى بإذن الله.
* أولاً: وأتموا الحج والعمرة (لله) :
الإخلاص وتجريد العبادة من الشريك مطلوبة في كل عمل، وإنما خص الحج والعمرة بالذِّكر (من أجل أنهم - المشركين - كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصها بالذِّكر لله ـ تعالى ـ حثّاً على الإخلاص فيهما ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور) (1) . وعندي وجه آخر: وهو أن الحج والعمرة فيهما من المشقة الظاهرة ومفارقة الأوطان ما يظهر أمره للناس، ويعظم عندهم فيه الثناء لعِظَم الجهد والتضحية - خاصة عند قلّة الظَّهر وبُعْد الشقة - وهذا قد يغري النفس بممدحة الناس وحسن ثنائهم، فتقع في شَرَك الرياء، وحبائل التسميع، فوجب التأكيد على الإخلاص. وقد رُوي عن بشر بن الحارث أنه قال: (الصدقة أفضل من الحج والعمرة والجهاد.. ثم قال: ذاك يركب ويرجع ويراه الناس، وهذا يعطي سراً، لا يراه إلا الله عزَّ وجلَّ) (2) . و (بِشْرٌ) في قوله هذا: نظر إلى جهة قرب العمل للإخلاص والتجرد، وأن ما خفيَ كان أقرب، وإلا فالحج والعمرة والجهاد أعمال عظيمة لا يقارن بها غيرها إذا لازمها الإخلاص وبُنيت على التقوى.
إن الله ـ تعالى ـ أمر أن يُعبد وحده دون سواه: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «قال الله ـ تعالى ـ: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (3) . أرأيت كيف يذهب الجهد، وكيف تضيع التضحيات، حين يكون القصد لغير الله أو يكون لله فيه شريك؟ حجَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على رحل رثٍّ وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي أربعة دراهم ثم قال: «اللهم حَجّةٌ لا رياء فيها ولا سمعة» (4) . قال رجل لابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: ما أكثر الحاج! فقال ابن عمر: ما أقلّهم! وقال شريح ـ رحمه الله ـ: الحاج قليل والركبان كثير (5) .
خليليَّ! قطاع الفيافي إلى الحمى كثيرٌ، وأما الواصلون قليلُ
وجوه عليها للقبول علامةٌ وليس على كل الوجوهِ قبولُ
ومِنْ خفي الرياء ومدخول العمل أن تنشط النفس عند رؤية الناس، وتقعد وتموت في الخلوة، بل ربما ساء منها الفعل وقبح. ذكر ابن رجب أن بعض المتقدمين كان يحج ماشياً على قدميه كل عام، فكان ليلةً نائماً على فراشه، فطلبت منه أمه شربة ماء، فصعب على نفسه القيام من فراشه ليسقي أمه، فتذكر حجه ماشياً كل عام وأنه لا يشق عليه ذلك فحاسب نفسه، فرآى أنه لا يُهوّنه عليه إلا رؤية الناس له ومدحهم إياه فعلم أنه كان مدخولاً (6) . ورُوي عن بعض السلف أن رجلاً جاءه فقال: أريد أن أحج، فقال: كم معك؟ قال: ألفا درهم، قال: أما حججت؟ قال: بلى، قال: فأنا أدلّك على أفضل من الحج، اقضِ دين مَدِين وفرّج عن مكروب، فسكت، فقال: ما لك؟ قال: ما تميل نفسي إلا إلى الحج، قال: إنما تريد أن تركب وتجيء ويُقال: قد حجّ! (7) . ونحن لا ننكر نشاط النفس مع الرفقة الصالحة، وانبعاثها للعمل بينهم، لكن محلّ الذم أن تنقطع النفس أو تنقلب إذا خلت، مما يوقع الريب في صدق العامل ورغبته.
فيا مَنْ توجَّه نحو البيت، وشدَّ إليه رحاله، اجعل وجهك رب البيت، لا يكن قصدك من الحج رياء ولا سمعة، فإن «من الناس من يحج ليُقال له: الحاج فلان، أو ليُحْتَفل بقدومه، وهذا من أخسِّ ضروب الرياء» (8) ، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سمَّع سمَّع الله به ومن راءى راءى الله به» (9) .
أيها الحاج! أتدري من تقصد وإلى من تعمد؟! (أتظن الحج مفارقة الأوطان، وترك مفارقة النسوان، وجَوْب السباسب على النجائب وقطع المراحل على الرواحل؟! كلا والله، بل هو خلوص النية للبَرِّ ـ سبحانه ـ قبل استقبال البرية، وإصلاح الطوية قبل امتطاء المطية، وخلع الشريك مع خلع الثياب للإحرام، وتجريد القلب لله قبل تجريد البدن من المخيط) .
\ ثانياً: خذوا عني مناسككم:
أذّن المؤذن في السنة العاشرة من الهجرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحج السنة، فقدم المدينة بشرٌ كثير، كلهم يريد أن يأتمَّ به -صلى الله عليه وسلم-، كيف لا؛ ومحمد -صلى الله عليه وسلم- سيكون المرشد العام في الحج.. أرأيت لو كنت حاضراً تلك السنة أتُراك تتخلّف عن الحج معه؟! أم تُراك تطلب رفقة أحدٍ سواه؟!
أما وقد خُلِّفْتَ بعده وليس لك إلى صحبته سبيل، فعليك بسنّته وهديه -صلى الله عليه وسلم- إن كنت صادقاً في دعوى الصحبة، فقد أرشدك فقال: «خذوا عني مناسككم» . وها هي سنَّة نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد دوّنت فالزمْها، محفوظة فاعمل بها، فإن العمل كلما كان أقرب إلى السُّنَّة كان أرجى للقبول، وأدلّ على التقوى. صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» (1) ، فاحذر أن تترك السُّنَّة والشرع بحجة جريان العادة بخلافها، فإن مقابلة الشرع بالعادة من حال الذين لا يؤمنون {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] . فعلى الراغب في اقتفاء سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يستعدَّ لتعلُّمها قبل الحج، بحضور دورات أو دروس في فقه الحج وسننه وآدابه، ويقرأ ما كتبه العلماء - بعبارة واضحة - في ذلك، ويستمع لما سجّلوه من تسجيلات، وأن يصحب عارفاً بالأحكام حريصاً على حفظ الليالي والأيام.
\ ثالثاً: لازم العمل الصالح:
حافظ على العمل الصالح وعليك بالازدياد منه، فذلك من دلالات التقوى، ومعالم البرّ، قال ابن رجب: من حجَّ من غير إقامة للصلاة كان بمنزلة من سعى في ربح درهم وضيّع رأسماله وهو ألوف كثيرة (2) . لقد دأب السلف في الحج أن يحافظوا على نوافل الصلاة فضلاً عن إقامة الفريضة على أحسن حال. كان محمد بن واسع ـ رحمه الله ـ يصلي الليل في طريق مكة في مَحْمله يُوْمئ إيماءً، ويأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه، حتى يُشْغَل عنه بسماع صوت الحادي فلا يُتفطن إليه (3) .
وكان المغيرة بن حكيم الصنعاني يحجُّ من اليمن ماشياً، وكان له ورْد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن، فيقف فيصلي حتى يفرغ من ورْده، ثم يلحق بالركب متى لحق وربما لم يلحقهم إلا آخر النهار (4) . سلام على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، ما مثلنا ومثلهم إلا كقول القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبَيْداء أبعد منزل
وعليك بالصدقة والدعاء والذِّكر والحمد والثناء، لازمْ قرع الباب فقد دنا فتحه؛ علَّ دعوة منك تستجاب فتسعد في دنياك وأُخراك. فمن الناس من يأخذه التجوال عن التسبيح والسؤال، وينشغل بالمحادثة عن النافلة، فإياك وتضييع الأوقات في غير طائل، وذهاب الأيام الفاضلة وأنت غافل، واجتهد تلقَ رحيق العنبري.
\ رابعاً: الخدمة والإحسان:
عليك بالإحسان إلى الناس وخدمتهم، وحسن الخُلق معهم، والصبر على أذاهم، وأحقُّهم بذلك من جمعتك بهم رفقة السفر، فالإحسان إليهم وخدمتهم أفضل من العبادة القاصرة على النفس. كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر في حرٍّ شديد ومعه صائم ومفطر، فسقط الصُّوَّام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ذهب المفطرون بالأجر» (5) .
وفي مراسيل أبي داود عن أبي قلابة ـ رضي الله عنه ـ قال: «قدم ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سفر يثنون على صاحب لهم قالوا: ما رأينا مثل فلان قط ما كان في مسير إلا كان في قراءة، ولا نزلنا منزلاً إلا كان في صلاة، قال: فمن كان يكفيه ضيعته.. حتى ذكر من كان يعلف دابته؟! قالوا: نحن. قال: فكلكم خير منه» (6) .
وعن مجاهد قال: صحبت ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وأنا أريد أن أخدمه وكان يخدمني أكثر (7) . وكان كثيرٌ من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم؛ اغتناماً لأجر ذلك، منهم: عامر بن عبد قيس، وعمر بن عتبة بن فرقد، وكان إبراهيم بن أدهم يشترط الخدمة والأذان.
وعليك أن تحسن إلى الحجيج عامة، وأن تبشَّ في وجوههم، وتعينهم في قضاء حوائجهم، ولا تحقرنَّ من ذلك شيئاً، فقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا جري الهجيمي فقال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تنحّي الشيء عن طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض» (8) ، الوحشان: المغتم. وفي الحج تكثر حاجة الناس إلى بعض، فجُدْ بنفسك ولا تبخل.
عليك أن تصبر على ما في الناس من هفوات، وأن تلجم نفسك بلجام الصبر والحِلْم، وإن سابَّك أحد أو شاتمك أو زاحمك فقل: «إني حاج» ، واصبر على ما يصيبك من زحام أو ما ينالك من شغف ومشقة، وإياك أن تحتقر ضعيفاً لضعفه أو فقيراً لفقره، واعلم أن الحج ليس محلاً للتباهي بالمظاهر الدنيوية من مراكب ومفارش ومساكن أو ترف مقيت، بل قد استحبَّ بعض أهل العلم أن يكون الحاج أشعث أغبر؛ لما جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله ـ تعالى ـ يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي أَتوني شُعْثاً غبراً» (1) . وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الحاجّ الشعث التفل» (2) ، وهذا لا يعني أن يسعى المسلم إلى اتّساخ بدنه أو قبح منظره، بل المقصود أن يجهد المسلم في عبادته لربه ويحتمل في سبيل ذلك ما قد يصيبه من مشاقّ وشعث - إذ الحج مظنّة ذلك - وليعلم أن آثار العبادة ونتائجها محلّ ثناء الله وشكره، وأنها تقع من الله بمكان. قال -صلى الله عليه وسلم- في الصائم: «ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (3) ، وقال في الدم الخارج من الشهيد الذي ذهبت نفسه في سبيل الله: «اللون لون الدم والريح ريح المسك» (4) .
\ خامساً: اختر صاحباً صالحاً:
إذا اخترت الحج واشتاقت نفسك إليه فاختر صاحباً مصاحباً، راغباً مشتاقاً، له قلب خاشع، ومحجر دامع، حتى تنال من الحج بغيتك، وتجد في مشاعره منيتك، عندها يتضاعف فيك الجِدّ، وتعظم الرغبة، وترتفع الهمة، ويحسن العمل..
عن مُخَوَّل بن راشد قال: جاءني بُهيم العجلي فقال لي: تعلم رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني؟ قلت: نعم، فذهبت به إلى رجل من الحي له صلاح ودين، فجمعت بينهما، وتواطآ على المرافقة، ثم انطلق (بُهيم) إلى أهله، فلما كان بعد أتاني الرجل وقال: يا هذا! أحب أن تزوي عني صاحبك ويطلب رفيقاً غيري. فقلت: ولِمَ؟! والله لا أعلم بالكوفة له نظيراً في الخُلق والاحتمال. قال: ويحك حُدِّثتُ أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا العيش، فقلت: ويحك إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكرة، أوَ ما تبكي أنت؟ قال: بلى؛ ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم من كثرة بكائه، قلت: اصحبه لعلك تنتفع به، فقال: أستخير الله، فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه جيءَ بالإبل ووطئ لهما، فجلس (بُهيم) في ظل حائط يبكي فوضع يده تحت لحيته، ثم على صدره حتى والله رأيت دموعه على الأرض، فقال لي صاحبي: يا مخول! قد ابتدأ صاحبك، ليس لي برفيق. فقلت: ارفق، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم. وسمعها (بُهيم) فقال: يا أخي! والله ما هو بذاك، وما هو إلا لأني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب، فقال لي صاحبي: ما هي بأول عداوتك لي، ما لي ولبُهيم؟! إنما كان ينبغي أن ترافق بين (بُهيم) وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص حتى يبكي بعضهم إلى بعض، فيشتفون أو يموتون، فلم أزل أرفق به وقلت: ويحك لعلها خير سفرة سافرتها، وكل ذلك لا يعلم به (بُهيم) ، ولو علم ما صاحبه، فخرجا ورجعا، فلما وصلا جئت أسلِّم على جاري، قال لي: جزاك الله يا أخي عني خيراً، ما ظننت أن في الخُلق مثل أبي بكر، كان والله يتفضل عليّ في النفقة وهو معدوم وأنا موسر، وفي الخدمة وأنا شاب وهو شيخ، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم. فقلت: فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طول بكائه؟ قال: ألفت والله ذاك البكاء وَسرَّ قلبي حتى كنت أساعده عليه حتى تأذَّى بنا الرّفقة، ثم ألفوا ذلك، فجعلوا إذا سمعونا نبكي يبكون، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أَوْلى بالبكاء منا والمصير واحد؟! فيبكون ونبكي. ثم خرجت من عنده فأتيت (بُهيماً) فقلت: كيف رأيت صاحبك؟ قال: كخير صاحب، كثير الذِّكر لله، طويل التلاوة، سريع الدمعة، جزاك الله عنّي خيراً (5) .
وإياك وصحبة مترف قاعد، ذي عزم راكد، وهمٍّ فاسد، يقطعك إذا تقدمت، ويردّك إن أقبلت، طوَّاف بالأسواق، لا ينتهي حديثه، ولا يسلم منه جليسه. قال أبو منصور الكرماني: (.. وينبغي أن يجتنب الرفيقَ السوء والفاسق، فإن ذلك سبب لحِرْمان الطاعات، وترك المندوبات والواجبات، ويحرّضه ـ أيضاً ـ على ارتكاب المناهي والمعاصي) (6) . وصدق ـ رحمه الله ـ فكم سمعنا من أصحاب سوءٍ من أفسدوا الحج والعمرة على صاحبهم، بل ربما أجبروه على قطع نُسْكه، وحلّ إحرامه، والرجوع إلى بلده، لمجرد أنه تأخر عن أداء النسك لعذر نوم أو نحوه، فلم يحتملوا الانتظار حتى يتم نسكه، وهذا تكرر كثيراً!
\ سادساً: فلا رفث ولا فسوق:
قال ـ تعالى ـ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . وفي الحديث الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (7) .
عليك اجتناب المنكرات أو الآثام واحذر أن تكون ممن زين له الشيطان عصيان ربه في أعظم البقاع، واعلم أن من أهل العلم من قال: من همَّ بسيئة داخل الحرم عُوقب عليها وإن لم يفعلها (8) ؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ موقوفاً عليه: «لو أنَّ رجلاً أراد بإلحادٍ فيه بظلم وهو بعَدَن أبين (1) ، لأذاقه الله من العذاب الأليم (2) . فيكون ذلك تخصيصاً لما جاء في الحديث من العفو عن الهمِّ المجرد وحديث النفس. وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم..» (3) الحديث. والإلحاد هنا هو الميل والحيد عن دين الله، يدخل فيه الشرك والبدع، أو فعل شيء مما حرم الله، أو ترك شيء ممن أوجبه الله، أو انتهاك حرمات الحرم، حتى قال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة (4) ، فما بالُك بمن يعمل ما هو أعظم منه؛ كأكل الربا والتعامل به، أو شرب الخمر، أو الزنا، أو ترويج المخدرات، أو بيع آلات اللهو والدخان وغير ذلك؟! أليس هذا من الإلحاد في الحرم؟ أليس من انتهاك حرمة المكان والزمان؟ قال أبو جعفر الطبري بعد أن ذكر الأقوال في الآية: (وأَوْلى الأقوال بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، من أن المعنيَّ بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله، وذلك أن الله عمَّ بقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] ولم يخصص به ظلماً دون ظلم في خبرٍ ولا عقلٍ، فهو على عمومه، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم، فيعصي الله فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع مؤلم له) (5) .
إن من أشدِّ الناس حِرْماناً من يطوي المراحل إلى البيت، ويفني الظهر، ويهلك النفس، ثم لا يعود إلا بالبوار، يا حسرة من وقف في الحج مع الناس ببدنه، وقلبُه في أودية الهوى يهمُّ، لم تلتقط عدسات عينيه دعاء الداعين ولا كثرة الملبِّين، بل وقعت على ما يهواه قلبه، فازداد بذلك فتنة، وتقطَّعت نفسه حسرات، وحُرم لذّة العبادة، ونسي الطاعة.
أطبْ نفقتك في الحج فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام فأنّى يُستجاب لذلك؟! (6) ، وحكى ابن رجب: أن رجلاً مات في طريقه لمكة فحفروا له فدفنوه، ونسو الفأس في لَحْده فكشفوا عنه التراب ليأخذوا الفأس فإذا رأسه وعنقه قد جمعا في حلقة الفأس، فردوا عليه التراب، وسألوا أهله عنه، فقالوا: صحب رجلاً فأخذ ماله فكان منه يحج ويغزو! (7) .
إذا حججتَ بمالٍ أصله سُحْتٌ فما حججتَ ولكن حجّتِ العيرُ
لا يقبل الله إلا كلَّ طيبة ما كلُّ مَنْ حجَّ بيت الله مبرورُ
إن أقبح الناس جريمة، وأعظمهم سرقة للمال، من يسرق ضيف الله والوافد إلى بيته، الآمن في حرمه!! ففي الصحيح من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى النار في صلاة الكسوف ... قال: «ورأيت صاحب المحجن يجرّ قصبه في النار، كان يسرق الحاجّ بمحجنه، فإن فطن له، قال: إنما تعلَّق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به» (8) .
إن من دلائل التقوى الأخذ على يد العاصي، والاجتهاد في إزالة المنكرات، وتطهير بلد الله ـ عزَّ وجل ـ منها؛ تحقيقاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ، وقياماً بتعظيم شعائر الله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] . قال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان الثوري فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاًً (9) . إن التقصير في ذلك يجعل الشر يزداد في خير البقاع - كيف والوارد كثير - ثم قد ينتهي الأمر بالناس إلى اعتياد المحرمات، ونسيان السنن والواجبات، فتحلّ البدعة مكان السُّنّة، والمعصية بدل الطاعة، والله المستعان.
إن أقبح شيء أن يقطع المسلم إلى بيت الله الفيافي والقفار، يريد بذلك مغفرة الغفّار، ثم لا يعود منها إلا بالخَسَار! قد اسودّت صحيفته، مما جنتْه يداه، وكسبه لَحْظه، أو نطق به فِيْه، وأين؟! في البلد الحرام!
ألم ترني وموسى قد حججنا وكان الحج من خير التجارة
فآبَ الناس قد برّوا وحجّوا وابْنا موقرين من الخسارة
نعوذ بالله من ضياع الأعمال، وذهاب الأعمار، ونسأله حسن القصد، وهداية السبيل، وتمام النهاية، والله أعلم، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) الترمذي (3444) من حديث أنس، قال الألباني: حديث حسن صحيح.
(2) الترمذي (3445) من حديث أبي هريرة، قال الألباني: حديث حسن.
(3) مسلم (1342) .
(4) لطائف المعارف، ص (417) .
(5) الترمذي (1988) .
(1) محاسن التأويل للقاسمي (3/143) ، دار الفكر. (2) حلية الأولياء (8/399) .
(3) مسلم (2985) . (4) ابن ماجه (2890) ، وقال الألباني: حديث صحيح.
(5) لطائف المعارف، ص (419) . (6) لطائف المعارف، ص (420) .
(7) مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي (1/99) .
(8) تفسير المنار (2/186) ، إحياء التراث. وقد نقله صاحب المنار عن شيخه محمد عبده.
(9) مسلم (2986) .
(1) البخاري (2697) ، مسلم (1718) . (2) لطائف المعارف، ص (415) .
(3) لطائف المعارف، ص (415) . (4) لطائف المعارف، ص (415) .
(5) البخاري (2890) . (6) المراسيل، ص (234) . وانظر: تحفة الأشراف، رقم (18904) .
(7) مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي (1/117) .
(8) أحمد (3/483) ، وأبو داود (4084) .
(1) أحمد (2/224) .
(2) صحيح الجامع الصغير (3167) ، والمشكاة (2523) . والشعث: مغبر الرأس، والتّفل: من ظهر منه رائحة كريهة لترك استعمال الطيب.
(3) البخاري (1894) . (4) البخاري (2803) .
(5) مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي (1/114) . ولطائف المعارف، ص (413) .
(6) المسالك في الناسك (1/215) ، تحقيق: الشريم.
(7) أحمد (2/229 -410) . (8) أضواء البيان (5/62) .
(1) عَدَن: بالتحريك: اسم مدينة في اليمن، على ساحل المحيط الهندي، ويقال لها: عدن أبين؛ تمييزاً لها عن عدن لاعة. معجم البلدان (4/89) .
(2) قال الشنقيطي: وهو ثابت عن ابن مسعود، ووقْفُه عليه أصحُّ من رَفْعه، الأضواء (5/62) .
(3) البخاري (6882) . (4) تفسير الطبري (16/509) ، تحقيق: التركي. (5) تفسير الطبري (16/510) .
(6) مسلم (1015) . (7) لطائف المعارف، ص (133 - 419) . (8) مسلم (904) .
(9) سير أعلام النبلاء (2/1846) ، بيت الأفكار الدولية. وحلية الأولياء (7/13) .(231/4)
موتوا بغيظكم يا عباد الصليب
عبد العزيز بن ناصر الجليل (*)
الحمد الله الذي رضي لنا الإسلام ديناً، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً.
فالإسلام دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] ، فلا يقبل من أحد ديناً سواه من الأولين والآخرين، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
وحكم ـ سبحانه ـ بأنه أحسن الأديان، ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلاً، فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته، وأمينه على وحيه، الذي بشرت به الكتب السالفة، وأخبرت به الرسل الماضية، وجرى ذكره في الأعصار وفي القرى والأمصار والأمم الخالية، وضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر، إلى عهد المسيح ابن البشر.
رضي المسلمون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، ورضي المخذولون بالصليب والوثن إلهاً، وبالتثليث والكفر ديناً، وبسبيل الضلال والغضب سبيلاً؛ أما بعد:
فإن من بعض حقوق الله على عبده: رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان (1) .
وإن ما تفوَّه به عابد الصليب وإمام الكفر ورئيسه في (الفاتيكان) من الشتم والنقائض في حق رسولنا الكريم وديننا الحنيف لم يكن هو الأول من نوعه، وليس غريباً أن يخرج من أفواههم النجسة مثل هذا الكلام؛ لأنه وأمثاله قد مُلِئوا كفراً وحقداً؛ وكل إناء بما فيه ينضح. ومثل هذا الكفر المتجدد إنما هو زيادة في الكفر على كفرهم وإملاء من الله ـ عز وجل ـ لهم حتى يسرعوا إلى الأجل الذي قدره الله لهم ليقصمهم فيه ويمحقهم. قال الله ـ عز وجل ـ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
وليس الغرض من هذه الكتابة الرد على ما تفوَّه به إمام الكفر ومرجع النصرانية الوثنية في العالم اليوم؛ فقد كفانا الرد على شبهاتهم أئمة الإسلام في القديم والحديث كشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه العظيم (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وتلميذه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه النفيس (هداية الحيارى) . هذا لو كان ما قاله رئيس الكفر ناشئاً عن جهل بالإسلام ورسول الإسلام، أما وإنه يعرف حقيقة الإسلام وحقيقة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما يعرف أبناءه وما صده عن ذلك وجعله يقول ما قاله من تخرصاته إلا العناد والاستكبار؛ فإن مثل هذا لا يستحق الرد ولا الالتفات وإنما الله ـ عز وجل ـ هو الذي يتولى الرد على هذا وأمثاله بما يشاء: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍٍ} [الحج: 38]
ü المقصود من هذه المقالة:
وإنما المقصود من هذه الكتابة مخاطبة إخواني المسلمين الموحدين بتوظيف هذا الحدث في التركيز والتأكيد على بعض المسائل والأصول المهمة التي يسعى أعداء هذا الدين من الكفرة والمنافقين في توهينها والتشويش عليها لعلمهم بأنها هي التي تحفظ للمسلمين كيانهم وعقيدتهم وأخلاقهم.
ويمكن الحديث عن هذه المسائل المهمة في ظل هذه الهجمة الشرسة من أئمة الكفر على ديننا حسب الوقفات التالية:
ü الوقفة الأولى: النظر إلى هذه الأحداث في ضوء السنن الإلهية:
يقول الله ـ تعالى ـ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
ويقول ـ سبحانه ـ: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
والآيات من كتاب الله ـ عز وجل ـ في الحث على النظر في السنن الربانية كثيرة جداً وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع أقوامهم. إنه من الواجب على دعاة الحق والمجاهدين في سبيل الله أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله ـ عز وجل ـ وما تضمن من الهدى والنور؛ ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذاً بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاة مما وقع فيه الآخرون من تخبط وشقاء، وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وحرمان التوفيق في النظر الصحيح للأحداث والمواقف. وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية فهذا له مقام آخر، وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله عز وجل؛ وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها اليوم في حرب الإسلام وأهله.
وأكتفي بذكر سُنَّة واحدة من سنن الله ـ تعالى ـ تتناسب وهذا الحدث الذي نحن بصدده. وبفهم هذه السُنَّة يزول الاستغراب مما يحدث ونتمكن من الفهم الصحيح لحقيقة هذه الهجمات المتتالية من أعداء الإسلام ودوافعها وحكمة الله ـ عز وجل ـ في إيجادها؛ لأن من أسمائه ـ سبحانه ـ: العليم الحكيم. ومن آثار هذين الاسمين الكريمين اليقين بأن أي شيء يحدث في خلقه ـ سبحانه ـ فإنما هو بعلم الله ـ تعالى ـ وإرادته وحكمته البالغة. وهذه السنَّة التي أعنيها هنا والتي هي مقتضى حكمته ـ سبحانه ـ وعلمه هي سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل:
يقول الله ـ عزَّ وجل ـ: {فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
ويقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحج: 40] .
في هاتين الآيتين أبلغ دليل على أن الصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة، والباطل وأهله من جهة أخرى؛ هذه سنة إلهية لا تتخلف؛ ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك. وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إنْ هو إلا مقتضى علمه ـ سبحانه ـ وحكمته ورحمته ولطفه، وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين، ولذلك ختم الله ـ عز وجل ـ آية المدافعة في سورة البقرة، بقوله ـ سبحانه ـ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] ، حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس، بل قيض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق؛ فالله ـ تعالى ـ يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] .
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنَّة ـ أعني سُنَّة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد ـ إنهم يتنكَّبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ـ عزَّ وجل ـ الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يُؤْثِرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل، وإيثار الحياة الدنيا.
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة:
فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللَّبْس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله ـ عز وجل ـ على رأس وذروة هذه المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة؛ وذلك من قِبَل أعدائها الكفرة، وأذنابهم المنافقين. فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير. وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك.
وقد تقرر عند أهل العلم أن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن؛ فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمشاهدة منها أقول: إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كلٌّ بحسبه.
وحينما نربط هذه السُنَّة ومقتضى اسمائه الحسنى بهذه الأحداث التي تزامنت وتتالت وتشابهت قلوب أصحابها في الهجوم على دين الإسلام وأهله وبلدانه تتضح لنا هذه السُنَّة بجلاء؛ وحينئذ يرتفع الاستغراب مما يقوم به الكفار من هجوم وافتراء على دين الإسلام، ويشمِّر المسلم للدخول في الصراع ضد أعداء الله ـ تعالى ـ بما يستطيع من نفسه وماله ولسانه وقلمه. قال -صلى الله عليه وسلم-: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم» (رواه النسائي (3045) وصححه الألباني) .
ü الوقفة الثانية: ذكر بعض الحِكَم والألطاف الإلهية المتجلية في هذه الأحداث
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «أسماؤه الحسنى تقتضي آثارها، وتستلزمها استلزام المقتضي المُوجب لمُوجبه ومُقتضاه، فلا بد من ظهور آثارها في الوجود؛ فإن من أسمائه: الخلاَّق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه الرزاق المقتضي لوجود الرزق والمرزوق، وكذلك الغفار والتواب والحكيم والعفو، وكذلك الرحمن الرحيم، وكذلك الحكم العدل، إلى سائر الأسماء، ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود، والوجود متضمن لخلقه وأمره، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره؛ فمصدر الخَلْق والأمر عن هذين الاسمين المتضمنين لهاتين الصفتين، ولهذا يقرن ـ سبحانه ـ بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر) . (الصواعق المرسلة: 4/1564)
اذا تبين لنا هذا الأصل العظيم أيقنا أن ما يجري اليوم من كيد وافتراء وهجوم شرس من الكفار على دين الإسلام فإنما هو بعلم الله ـ تعالى ـ وإرادته: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] ، وأن له ـ سبحانه ـ الحِكَم البالغة في ذلك.
والمؤمنون يحسنون الظن بربهم ـ سبحانه ـ ويوقنون أن عاقبة هذه الأحداث التي يقدرها الله ـ عز وجل ـ هي خير ومصلحة ولطف بالموحدين إن شاء الله ـ تعالى ـ.
ومع أن المعركة مع الكفار لا زالت في بدايتها، ومع أنها موجعة وكريهة إلا أننا نلمس لطف الله ـ عز وجل ـ ورحمته في أعطافها.
وأقتصر على ثلاث من أهم هذه الألطاف والثمار العظيمة:
ü اللطيفة الأولى:
تلك اليقظة الشاملة بين المسلمين والوعي بحقيقة أعدائهم وما يكيدون به للإسلام وأهله. ومع أن هذا العداء والكيد من الكفار قد حذرنا الله ـ عز وجل ـ منه في كتابه الكريم إلا أن كثيراً من المسلمين وبحكم غفلتهم عن كتاب ربهم ـ سبحانه ـ تلاوة أو تدبراً لم يتعظوا بكلام ربهم ـ سبحانه ـ فنسوا حظاً مما ذُكِّروا به وغفلوا عن عدوهم. ولذا فمن رحمته ـ سبحانه ـ أن يقدر أحداثاً مؤلمة للمسلمين لكنها تحمل في طياتها خيراً، ومن ذلك ـ كما أسلفت ـ يقظة المسلمين ورجوعهم إلى دينهم وتقوية عقيدة الولاء والبراء، وشحذ هممهم وعزائمهم لنصرة الدين والبراءة من أعدائهم وجهادهم باللسان والسنان. وهذا مكسب عظيم إذا قارناه بأحوال الأمة قبل ذلك وما كانت تعيشه من الغفلة والانخداع بما يزعمه الكفرة والمنافقون أنهم دعاة سلام وأمن وحرية.
والمتدبرون لكتاب الله ـ تعالى ـ وتاريخ الصراع بين الحق والباطل لم يكونوا بحاجة إلى إقناعهم بعداوة الكفار وكيدهم من خلال هذه الهجمات الأخيرة، بل إن هذه الهجمات زادتهم إيماناً ويقيناً لما حذرهم الله ـ عزَّ وجل ـ منه في كتابه الكريم. ومن هذه التحذيرات قوله ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ، وقوله ـ عز وجل ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] .
وقوله ـ سبحانه ـ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] .
وقوله ـ سبحانه ـ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] .
وقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] .
إذن فلا غرابة إذا هاجموا دين الإسلام ورسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا شأنهم وشنشنتهم في قديم الزمان وحديثه، وأعظم من ذلك وأشنع سبهم لله ـ عز وجل ـ وطعنهم في ربوبيته وألوهيته بنسبة الولد إليه وجعله شريكاً مع الله ـ عز وجل ـ في ربوبيته وألوهيته؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ولكن الملفت في هذه الهجمات المتأخرة تزامنها وتتابعها وتوزيع الأدوار بين رموز الكفر عندهم بمختلف توجهاتهم، السياسية، والدينية، والثقافية، والعسكرية.
والتصريح الذي صدر من رئيس الفاتيكان يأتي في سياق حملة عالمية وراءها اليهود والنصارى وأذنابهم من المنافقين على الإسلام والمسلمين بدأت في دوائر الثقافة والفكر والإعلام فيما سمي بصراع الحضارات، وما سمي بنهاية التاريخ، وعبر عنه المحافظون الجدد في أمريكا والأحزاب والأنظمة والشخصيات المتناغمة معهم في أوروبا وأستراليا، وأيضاً عبر عنه الإنجيليون وعبرت عنه التجمعات الماسونية المختلفة في العالم، ثم تحولت هذه الحملة المحمومة المسمومة الحاقدة إلى فعل سياسي واحتلال عسكري يمارس من خلال الجيوش الغربية، حين أعلن الطاغوت الأول «بوش» أنها حرب صليبية، واحتلت العراق وأفغانستان، وتهدد وتحاصر البلدان الإسلامية الأخرى وتمارس عليها الضغوط، ومن ذلك كلام بوش الأخير ووصفه للمسلمين بالفاشيين، وقبله كلام رئيس الوزراء الإيطالي عن الحضارة والإسلام، وبعده الرسوم المسيئة في الصحف الدانماركية؛ ثم ها نحن نرى الآن رئيس الفاتيكان يبارك هذه الجهود، ويعلن من كرسي البابوية انسياقه في هذه الحملة، وهذا يذكِّرنا بدور الباباوات في الحروب الصليبية السيئة الذكر، التي حفل بها تاريخ الغربيين.
إذن فإن يقظة المسلمين ووقوفهم على حقيقة أعدائهم وما يخططون من حروب صليبية بدأت طلائعها في بعض بلدان المسلمين. إن هذا من فوائد هذه الأحداث المرة والتي يجب على دعاة هذه الأمة وعلمائها توظيفها في شحن الهمم وتقوية عقيدة الولاء والبراء ودعوة كل قادر في هذه الأمة إلى مواجهة هذا الغزو الخطير على بلدان المسلمين عقدياً وعسكرياً، واستنفار المسلمين في جهاد الأعداء الغزاة باللسان والبيان والسنان.
ü اللطيفة الثانية:
فضح الدعوات التي يرفعها رموز المنافقين وبعض المهزومين من المسلمين التي تدعو إلى التعايش مع الآخر وترك تسميته بالكافر والقضاء على مشاعر الكراهية نحوه، بل الدعوة إلى محبته وموالاته!!
فها هو حقد الآخر وكيده وحربه؛ فماذا يقول دعاة (نحن والآخر) ؟ وماذا يقوله رموز السلام الذين يريدون نزع الكراهية والبراءة من الكفار من صدور المسلمين؟ يقول كلينتون ـ الرئيس الأمريكي الأسبق ـ في تصريحات لشبكة (سي. إن. إن) الإخبارية: إن البابا ساهم من خلال هذه التصريحات في إضعاف تأثير رجال الدين الإسلامي المعتدلين الذين يحاولون «استعادة» راية دينهم من الإسلاميين المتعصبين، وقال أيضاً في برنامج (لاري كينج لايف) الحواري الشهير على الشبكة الأمريكية: «إن كل شخص منا يدلي بهذه التصريحات وخاصة إذا كان في منصب مرموق مثل البابا، يزيد من صعوبة مهمة المعتدلين في العالم الإسلامي» .
إنهم يفتضحون وتتهاوى دعواتهم وبرامجهم، هذا عن المنافقين منهم. أما من انخدع بهذه الدعوات من جهلة المسلمين ومهزوميهم فأحسب أن الغفلة والتلبيس قد زالت عنهم وحل مكانهما الشعور بكراهية الكافر والبراءة منه ومن كفره، والاستعداد لجهاده ورد كيده وكفره. وهذه ثمرة عظيمة أفرزها هذا الهجوم السافر الظالم من رموز الكفار المحاربين لله ولرسوله: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . [النساء: 19]
ü اللطيفة الثالثة:
السقوط الذريع لما يسمى بالدعوة إلى وحدة الأديان وتقاربها. ومع أن هذه الدعوة الخطيرة متهافتة وباطلة من أصلها بما تعرفه من استحالة اجتماع التوحيد مع الشرك حيث علَّمنا الله ـ عز وجل ـ أن لا وحدة ولا تقارب ولا تفاهم بين الإيمان والكفر وذلك في كتابه ـ سبحانه ـ حيث قال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ} [يونس: 32] ويبين لنا ـ سبحانه ـ موقف الكفار مع انبيائهم الذين يدعونهم إلى التوحيد بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13] .
وقال ـ سبحانه ـ عن نبيه هود عليه ـ السلام ـ وهو يتحدى قومه الكفار: {إن نَّقُولُ إلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ} [هود: 54 - 55] .
ومع وضوح هذه الأدلة الدامغة إلا أنه وجد من المسلمين من انخدع بمثل هذه الدعوات، فراح يضيع عمره في اللهث وراءها. ولكن من رحمة الله ـ تعالى ـ ولطفه أن يقدر مثل هذه الأحداث التي تبين خبث القوم وكيدهم وغطرستهم مما كان له الأثر الكبير في استيقاظ المخدوعين من المسلمين على استحالة هذا التقارب وبطلانه من أصله.
ومن باب الفائدة في هذا المقام أحيل القارئ الكريم إلى فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية في حكم الدعوة إلي وحدة الأديان وتقاربها وتحمل هذه الفتوى رقم (19042) :
ü الوقفة الثالثة: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} وفيها بيان أسباب تلك الحملة:
يعجب بعض المتابعين من الحملة المتزايدة على الإسلام من بعض الزعماء الدينيين والسياسيين النصارى في السنوات الأخيرة، ويتساءل بعضهم عن سر التوقيت والتزامن؛ فمن كلام بوش عن المسلمين الفاشيين، إلى كلام بابا الفاتيكان بندكت السادس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقبلها كلام رئيس الوزراء الإيطالي عن الحضارة الإسلامية، وبعده الرسوم المسيئة، وغير ذلك من حملات التشويه. ويتساءل البعض عن الأسباب الكامنة في هذه الحملات ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ ولا شك أن هناك أسباباً لهذه الحملات في هذا الوقت بالذات من أهمها ما يلي:
السبب الأول: الانتشار الواسع لدين الإسلام في معاقل النصرانية:
والذي أقض مضاجعهم وملأ قلوبهم غيظاً وحقداً وحسداً على أهل الاسلام والتوحيد، ويمثل هذا الانتشار الواسع لدين الإسلام وكثرة المعتنقين له في المظاهر التالية:
أـ زيادة أعداد المساجد في دول الغرب والشرق:
ففي قلب أوروبا بدأت أعداد المساجد فيها تنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك، وصوت الأذان الذي يُرفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات، خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة وأتباعاً جدداً. فقد أصبح للأذان من يلبيه في كل أنحاء الأرض، من طوكيو حتى نيويورك. وعند نيويورك ومساجدها نتوقف؛ ففي أوقات الأذان الخمسة ينطلق الأذان في نيويورك وحدها في مائة مسجد، وبلغ عدد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب (2000) مسجد والحمد الله، وترتفع في بريطانيا مآذن نحو (1000) مسجد، وتعلو سماء فرنسا وحدها مآذن (1554) مسجداً ولا تتسع للمصلين، وأما ألمانيا فتقدر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـ (2200) مسجد ومصلى، وأما بلجيكا فيوجد فيها نحو (300) مسجد ومصلى، ووصل عدد المساجد والمصليات في هولندا إلى ما يزيد عن (400) مسجد، كما ترتفع في إيطاليا وحدها مآذن (130) مسجداً، أبرزها مسجد روما الكبير، وأما النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها حوالي (76) مسجداً. هذه فقط بعض الدول في أوروبا الغربية، عدا عن أوروبا الشرقية، والإقبال يزداد يوماً بعد يوم، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام وينطلق.
ب ـ تحذير الصحف الغربية من انتشار الإسلام:
فقد بدأت الصحف الغربية تطلق صيحات تحذير من انتشار واسع لدين الإسلام بين النصارى، ومن ذلك ما جاء في مقال نشر في مجلة (التايم) الأمريكية «وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب» .
مجلة (لودينا) الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون: «إن مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيعود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة» .
ج ـ انتشار بيع نسخ القرآن الكريم والكتب الإسلامية:
وذلك بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، التي كان لها آثار سيئة واسعة على النشاطات الإسلامية في الغرب وعلى دول الإسلام، إلا أنه مع ذلك ازداد في العالم الغربي الإقبال على التعرف على الإسلام بصورة غير متوقعة، وأصبحت نسخ القرآن الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى نفدت من المكتبات، لكثرة الإقبال على اقتنائها، وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام، وفي ألمانيا وحدها بيعت خلال سنة واحد (40) ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية. كما أعادت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم بعد نفادها من الأسواق.
د ـ تزايد أعداد الداخلين في الإسلام:
ففي عام 2001م نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون الذين يعتنقون الإسلام سنوياً بـ (25) ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية. والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد تلك الواقعة قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي؛ إذ قال: «إن أكثر من (24) ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام؛ وهو أعلى مستوى تحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام» .
أما في فرنسا فقد أوردت صحيفة (لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الإسلام بين الفرنسيين جاء فيه: «على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخراً ضد الحجاب الإسلامي وضد كل رمز ديني في البلاد، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون في دين الله بلغت عشرات الآلاف مؤخراً، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يومياً من ذوي الأصول الفرنسية، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد» .
وقد أشار التقرير إلى أن أعداد المسلمين في ازدياد من كافة الطبقات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية.
وهذا الانتشار الواسع لدين الإسلام يحصل مع التضييق الشديد على الأنشطة الإسلامية والجمعيات الخيرية الإسلامية في كثير من الدول، ومع وجود الجهود الهائلة والإمكانات الضخمة التي يبذلها النصارى في نشر الديانة النصرانية والصد عن الإسلام على كافة الأصعدة حتى بلغت ميزانيات بعض الكنائس العالمية أكثر من مليار دولار للسنة الواحدة. ا. هـ. (باختصار عن مقال في موقع أنا المسلم) .
وصدق الله العظيم فـ {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36] .
كل هذا مما أغاظ الكفار ونفسوا عن هذا الغيظ والحقد بهذة الهجمات المخذولة. وهنا نقول ما قال الله ـ عز وجل ـ لسلفهم {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
[آل عمران: 119]
السبب الثاني لهذه الحملات: ما حققه الله ـ عز وجل ـ على أيدي المجاهدين في هذه الأمة ـ جزآهم الله خيراً ـ من نكاية وإثخان في الغزاة:
حيث نسمع ونرى من انتصارات المجاهدين في أفغانستان والعراق وفلسطين ما يثلج الصدور ويغم الكفار؛ حيث أصبح الكفرة الغزاة في متناول المجاهدين الأسود تنالهم أيديهم ورماحهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب ورد الله كيدهم في نحورهم، وصاروا يفكرون في الخروج من مأزقهم بعد أن ظنوا أن ديار المسلمين لقمة سائغة لهم. ولما رأى رموز الكفر في الغرب السياسيون منهم؛ والدينيون تصاعد العمل الجهادي أمامهم وتصاعد الكراهية والبغض والبراءة منهم كل هذا زادهم غيظاً وحنقاً فلجؤوا إلى هذه الحملات الفجة الحاقدة على الإسلام لينفسوا عن غيظهم. نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يزيدهم حسرة وأن يموتوا بغيظهم: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] .
السبب الثالث: التغطية على جرائمهم البشعة:
بنشر التشويه لسمعة المسلمين في العالم وتبرير حملاتهم البربرية على بلدان المسلمين بحجة الحرب على الإرهاب ونشر السلام؛ حيث إن هذه الحملات تأتي بمباركة رئيس الفاتيكان كما كان ذلك في الحروب الصليبية القديمة التي حفل بها تاريخ الغرب الصليبي حيث سبقها مباركة الباباوات وتشجيعهم للنصارى على حرب المسلمين، وتصويرهم لأنفسهم بأنهم رسل حضارة وتقدم، وإظهار إبادتهم للمسلمين بأنها دعوة للسلام والحرية والديموقراطية.
ü الوقفة الرابعة: رمتني بدائها وانسلَّت:
هذا المثل يضرب لمن يعيِّر غيره بعيب هو فيه (انظر مجمع الأمثال 2/23) وإنه لمن العجائب والمضحكات أن يتهم عابد الصليب دين الإسلام بأنه مخالف للعقل والمنطق أو أنه متعطش للدماء، وأنه ما قام إلا على العنف والحقد والإكراه.
إن عابد الصليب حينما تفوَّه بهذا الكلام من فمه النجس ليعلم في قرارة نفسه أنه كذاب وأن دين النصرانية الذي هو رئيسه اليوم غارق في أوحال الشرك والهمجية وإلغاء العقل والتفكير، كما يعلم في الوقت نفسه أن دين الإسلام بريء من كل ما قال، وأنه ما من دين أكرم العقل ووضعه في مكانه اللائق به كالإسلام.
إن رئيس الفاتيكان يعلم ذلك علم اليقين، ولكنه الاستكبار والحسد والغيظ، فقد قال الله ـ عز وجل ـ عن سلفه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] .
وقال عمن آمن منهم وانقاد للتوحيد والإسلام: {وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] .
فسبحان من وفق من شاء من عباده إلى هدايته، وحرم من حرم منهم حكمة منه وعدلاً.
وأكتفي بمثال واحد ساقه الإمام أبن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ من دين النصارى المحرف يدل على همجية عقولهم وانتكاسها. قال ـ رحمه الله تعالى ـ: «وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عبادة الرحمن، والعمل بما يحبه ويرضاه مع الإخلاص في السر والإعلان، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل ولإحسان، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان، وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار، أسس على عبادة النيران، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان، وبينه وبين الأوثان، أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى، وأقام هناك مدة من الزمان بين دم الطمث وظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعاً يشب شيئاً فشيئاً ويأكل ويشرب ويبول وينام، ويتقلب مع الصبيان.
ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان.
ثم قبضوا عليه، وأحلوه أصناف الذل والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان.
ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان، ثم شدت بالحبال يداه مع الرجلين، ثم خالطهما تلك المسامير التي تكسر العظام وتمزق اللُّحمان (1) ، وهو يستغيث: يا قوم ارحموني! فلا يرحمه منهم إنسان.
هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شان» (2) .
ولكن العجيب المضحك ـ كما أسلفت ـ هو أن يرمي هذا المخذول خصمه بما هو غارق فيه وفي أوحاله ولكنها الغطرسة والاستخفاف بعقول الناس؛ إذ كيف يرمي غيرَه بحجر مَنْ بيته من زجاج؟!
أما الأشد عجباً وسخفاً فهو رميه لدين الإسلام بأنه متعطش للدماء والعنف، وأنه انتشر على جماجم الناس وأشلائهم!! ألا يستحي هذا الظالم المخذول من نفسه؟ إنه والله يعلم أنه كاذب، وأن الناس يعلمون أنه كاذب؛ ولكنه الاستخفاف بعقول الناس والكبر والغطرسة. وإلا فماذا يقول عُبَّاد الصليب عن حروبهم الدينية المخزية عبر مئات السنين التي شنوها قديماً في حروبهم الصليبية؟! ومَنِ الذين وراءها؟ وماذا يقولون عن محاكم التفتيش؟ وماذا يقولون عن الحربين العالميتين التين قتل فيهما الملايين من بني جلدتهم ومن غيرهم؟ ومن الذين غزوا بلاد المسلمين واحتلوها في القرن الماضي؟ ومن الذين قتلوا عشرات الآلاف بالقنبلة الذرية التي تحرق الأخضر واليابس؟
ومن الذين قتلوا وشردوا مئات الآلاف في أفغانستان والعراق؟
ومن الذين قتلوا المسلمين ودفنوهم في مقابر جماعية في حرب البوسنة والهرسك؟!!
ومن الذين ساهموا في المذابح المروعة في أفريقية بمباركة قسيسي ورهبان الهوتو التي حدثت لقبائل التوتسي؟ ومن ... ومن؟
إن كل هذه الجرائم والدماء والأشلاء إنما تمت على يد النصارى بمباركة قساوستهم؛ فكيف لا يستحي هذا المتغطرس النجس من هذه الجرائم؟ لكنهم استخفوا بعقول الناس، وبدلاً من الاعتراف بهذه الجرائم والانكفاء على أنفسهم راحوا يزيدون جرائمهم ويشعلونها حرباً على الإسلام، ثم يسمون جميع ضحاياهم إرهابيين أو أنهم دعاة للإسلام بالعنف، ويسمون إبادتهم دعوة للسلام والحرية والديمقراطية!! إنهم هم فقط لهم حق القتل والإبادة، ويجب أن يقبل المسلمون بالموت وأن يعتبروه حرية وتقدماً وسلاماً مسيحياً.
ü الوقفة الخامسة: بل انتشر الإسلام بالسيف والبيان:
إنه لمن المؤسف أن يضع بعض الدعاة والمفكرين من المسلمين أنفسهم موضع المتهم المنهزم الذي يريد أن يبرئ نفسه من تهمة ويحسِّن وضعه عند خصمه. إن هذا المنهج الأعوج هو ما يتبناه اليوم بعض من قام بالرد على عابد الصليب المخذول عندما قال: إن الإسلام أنتشر بالسيف، فبادر هؤلاء بالرد عليه بقولهم: إن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وإنما بالدعوة والبيان، وإنما كان السيف للدفاع عن النفس وعن الديار فقط. ولا يخفى ما في هذا الكلام من مخالفة لما ذكره الله ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم عن غاية الجهاد، وما فيه أيضاً من مخالفة لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء وأمراء المسلمين من بعده في تسيير الجيوش لفتح الدنيا وإزالة الطواغيت الذين يصدون عن الدين الحق وحتى لا تكون فتنة أي شرك. ويكون الدين كله لله. يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: (والسيف إنما جاء منفذاً للحجة مقوماً للمعاند، وحداً للِّجاح. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .
دين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي. شعر:
فما هو إلا الوحي أو حدُّ مرهفٍ
يقيم ضباه أَخْدَعَيْ كل مائلِ
فهذا شفاء الداء من كل عاقل،
وهذا دواء الداء من كل جاهلِ (3)
ويقول سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة؛ لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة. والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة؛ ومن ثَمَّ يقوم المنافحون ـ المهزومون ـ عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام، فيلجؤون إلى تلمس المبررات الدفاعية، ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في «تحرير الإنسان» ابتداء.
والمهزومون روحياً وعقلياً حين يكتبون عن «الجهاد في الإسلام» ليدفعوا عن الإسلام هذا الاتهام يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبِّد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله، ومن أجل هذا التخليط ـ وقبل ذلك من أجل الهزيمة ـ يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: «الحرب الدفاعية» . والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة «الإسلام» ذاته، ودوره في هذه الارض، وأهدافه العليا التي قررها الله، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات.
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد ـ وذلك بإعلان ألوهية الله وحده ـ سبحانه ـ وربوبيته للعالمين.
تُرى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ قد أَمِنُوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدافعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية؟ إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير «الإنسان» نوع الإنسان، في «الأرض» ملء الأرض، ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان! إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يُخَلَّى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات. فهنا: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] . أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من الأغلال» (1) .
ولقد وقفت على مقال مسدد في موقع (المختصر) أحسب ان صاحبه وُفِّق لبيان الحق في هذه المسالة ومن باب الفائدة أنقله مختصراً:
«إنَّ الإسلام يحتاج اليوم إلى من يقدمه للناس كما هو بِعزَّة ووضوح، نعم! بحكمة، ولكن دون تحريف أو انهزام. والذي أعتقده أنَّ الفرصة هذه الأيام سانحة لمثل هذا التقديم، فلا ينبغي تضييعها. والإسلام ليس ضعيفاً كي نضعه في قفص الاتهام، ثم نجهد في الدفاع عنه لإخراجه منه.
وهكذا أوقعونا في الفخ فقالوا: إنَّ إسلامكم انتشر بالسيف، ودينكم دين إرهاب، وإنَّ نبيكم لم يأتِ إلا بالدمار للعالم! وأنتم معشرَ المسلمين تحبون الدماء. فقام المخلصون، وهم إما جهلة، وهم منهزمون، وإما يريدون تجميل الإسلام إلى أن يفتح الله، وإما ـ وللإنصاف ـ مجتهدون، يَردون: كَلاَّ ديننا لم ينتشر بالسيف، انظروا إلى شرق آسيا لم يدخله الإسلام إلا عن طريق التجار، وكَلاَّ نحن لسنا إرهابيين، نحن ألطف مَن خلَقَ الله! ونبينا نبي الرحمة، حتى الحيوانات لم تهملها رحمته. أما عن حبنا للدماء فإشاعات مغرضة والله!
ألا دعونا مما قاله رئيس الفاتيكان وأجداده وأبناؤه، وقولوا لنا: ماذا قال الله ـ سبحانه ـ وماذا قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ دعونا من فقه الأزمة هذا الذي يقودكم وخذونا إلى فقه الرشد الذي دلَّنا اللهُ عليه ورسولُه، وحمله الصحابةُ ومن بعدهم من كبار الأمة وفقهائها وعليه ساروا حتى وهم في أصعب حالاتهم أيام الصليبيين والتتار، ذلك أنَّ الهزيمة لا تقاس بـ: (كم احتُلَّ من أشبار) وإنما بـ: (كم احتُلَّ من قلوب) ؟
قال الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]
وقد بينت الآية القاعدة التي يقوم عليها الإسلام، وهي الكتاب، والقوة. وقد قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «قِوام الدين: كتاب يهدي وسيف ينصر» . لقد جاء الإسلام معلناً للحق، ومؤيداً للحق في الوقت نفسه؛ وما الطغيان الذي نراه اليوم إلا لأن الحق لا قوة له، ولذلك أمر الله المسلمين بالإعداد {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] . أمر بذلك؛ لأنه لا يوجد مبدأ دون قوة، وسواء كان هذا المبدأ حقاً أم باطلاً، أرضياً أم سماوياً فلا بد له من قوة تحميه.
الإسلام دين السيف؛ لأنه جاء لقيادة البشرية نحو خيرها، فمن حقها أن تَبْلُغَها الدعوةُ، ولا يمكن هذا إلا بتحطيم الأنظمة التي تحول بين الناس وبين أن يسمعوا كلمة الله. والإسلام دين السيف لمنع الفتنة التي يقترفها المفسدون في الأرض، وليكون الدين كله لله «لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض» . قال ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]
لقد آن للمسلمين أن يتحولوا إلى موقف الهجوم بدلاً من موقف الدفاع الذي لصقوا به دهراً طويلاً، وليقولوا للعالمين: إذا كان الإرهاب لحفظ الحق، فنحن إرهابيون؛ ذلك أن الإرهاب ليس وصفاً مطلقاً؛ فقد يكون خيراً، وقد يكون شراً؛ كالقتل: منه ما هو شر، ومنه ما هو خير؛ فقتل النفس البريئة شر، وقتل القاتل خير، وهكذا ...
إن من يتهمنا بالإرهاب هم آخر من يحق لهم الكلام عنه؛ فلسنا نحن الذين استعمرنا العالم في القرون الوسطى، وما أنهكنا الشعوب وسرقنا خيراتها، ولسنا نحن الذين اصطحبنا رجال الدين ليخدعوا الشعوب باسم الرب، ولسنا نحن الذين أشعلنا أقذر حربين في قرن واحد أكلتا ملايين البشر، ومحقتا خيرات الدنيا ... والقائمة تطول» (1) ا. هـ.
«هذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم، فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع، إنما يقفون به دائماً موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعاً، وعلى نظم الأرض جميعاً، وعلى مذاهب الأرض جميعاً، ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله، والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي، والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به، والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه، ويحول بينها وبينه؛ فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن يطارده المؤمنون الذين أختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان؛ فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله.
جاهد الإسلام أولاً ليدفع عن المؤمنين الأذى، والفتنة التي كانوا يسامونها، وليكفل لهم الأمن على أنفسهم، وأموالهم، وعقيدتهم، وقرر ذلك المبدأ العظيم {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها، وفتنة أهلها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم، وإذا كان المؤمن مأذون في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أوْلى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه.
وجاهد الإسلام ثانياً لتقرير حرية الدعوة ـ بعد تقرير حرية العقيدة ـ فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقى نظام لتطوير الحياة؛ جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها؛ فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولا إكراه في الدين، ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة؛ كما جاء من عند الله للناس كافة، وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا. ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى، وتفتن المهتدين أيضاً، فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية؛ وليقيم مكانها نظاماً عادلاً يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان، وحرية الدعاة. وما يزال الجهاد مفروضاً على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين.
وجاهد الإسلام ثالثاً ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه؛ وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها» (2) .
وقد يستغرب القارئ هذا الاستطراد في هذه المسألة، ولكن هذا الاستغراب يزول إذا نظرنا إلى ضخامة هذا التلبيس والتضليل الذي تتعرض له ثوابت هذا الدين وشعائره. فعندما ندرك خطورة هذا التبديل في دين الله ـ عز وجل ـ فإنه لا يستكثر الكلام في إزالة هذا اللبس وبيان الحق للناس. بل إن الأمر يستحق بسطاً وتفصيلاً أكثر من ذلك، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. والله ـ سبحانه ـ الموفق والمعين والمسدد.
وفي ختام هذه المقالة أقول ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ من كتابه (هداية الحيارى) :
«فلله الحمد الذي أنقذنا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق إلى يوم الميقات، وأرانا في نوره أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون، وفي جهالتهم يتقلبون وفي ريبهم يترددون، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، يؤمنون ويعدلون، ولكن بربهم يعدلون، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون، ويمكرون ولكن لا يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164] .
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] .
الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة) .
__________
(*) كاتب وباحث إسلامي، له الكثير من الكتب والدراسات التربوية القرآنية.
(1) اقتباس من مقدمة كتاب: (هداية الحيارى) للإمام ابن القيم.(231/5)
استقطاب المطوعين في القطاع الخيري بين الواقع والمأمول
عمر بن نصير البركاتي
ü أولاً: المداخل والمقدمات:
1 - ما هو الاستقطاب؟
يعرِّف خبراء الإدارة الاستقطاب بأنه: تشجيع الأفراد الذين يملكون المهارات المطلوبة للتقدم للعمل في المنشأة (1) .
2 - من هو المتطوع؟
المتطوع: هو شخص يقدم خدمة بإرادته الحرة، دون الحصول على تعويض مالي (2) .
إن استقطاب المتطوعين يعني كيفية انتقاء المتطوعين واستثمار خبراتهم ووقتهم وحماسهم، وتسخيرها للعمل التطوعي (3) .
3 - مصادر التطوع:
كافة أفراد المجتمع يمكن الاستعانة بهم في مجالات العمل التطوعي، وهذه إشارة إلى بعض المصادر التي يغفل عنها بعض قادة القطاع الخيري:
أ - الطلاب على مختلف مستوياتهم خصوصاً أهل التخصص في الخدمة الاجتماعية؛ لأنهم أكثر إدراكاً لحاجة المجتمع للتطوع.
ب - المتقاعدون.
ج - النساء.
د - الأطفال.
هـ - المستفيدون من الجمعيات الخيرية.
ثانياً: تقنيات الاستقطاب (1) :
1 ـ تحديد الحاجة إلى المتطوعين: فليس المراد هو كثرة أعداد المتطوعين، بل المطلوب المتطوع المناسب في العمل المناسب، وإن أية محاولة لتوظيف المتطوع دون أن يكون هناك إعداد لوظيفة مناسبة له، كالذي يبيع سلعة لا وجود لها.
2 - الاختيار الصحيح للمتطوع: وهذا يسهم في توفير القدرة على استغلال سليم لطاقات المتطوع، وتخفيض كلفة الإعداد، وعدم تحميل المتطوع فوق طاقته، وتفهم المتطوع لأهداف وتطلعات الجمعية أو المؤسسة.
3 - التدريب والتأهيل: إذ إن التدريب سوف يبلور موقف المتطوع، ويساعده على إنجاز العمل المطلوب بكفاءة أعلى، كما أنه يلعب دوراً بارزاً في شد المتطوع للجمعية، واستمراره متطوعاً لأطول فترة ممكنة، واستغلال طاقاته بشكل أفضل على الصُّعُد كافة.
4 - الإطار التنظيمي: وتكمن أهمية ذلك في أن المتطوع مُعرَّض للشطط من ناحية، وللتوقف عند مواجهة أية صعوبات من ناحية أخرى؛ فتأطير العمل يساعد على تحقيق مسألتي الاستمرارية والمتابعة.
5 - توفير الإمكانات: حتى يعمل المتطوع وينجز العمل المكلف به لا بد من توفير التجهيزات المساعدة، سواء كانت معدات، أو آلات، أو وسائل، أو مكاتب؛ لأن ذلك يوفر للمتطوع الجو المناسب للعمل.
6 - التقييم: من المفيد تقييم جهود المتطوعين تقييماً علمياً، كما أنه لا بد من اشتراك المتطوعين في هذه العملية؛ من أجل التعرف على النتائج المحققة، وسد الثغرات في رسم الخطط المستقبلية.
7 - التحفيز والتنشيط: ومن ذلك الاعتراف الدائم بإنجازات المتطوع وعطاءاته، والمشاورة وتقبل الاقتراحات، والشكر والتقدير، وإزالة العقبات، إلى غير ذلك من الوسائل.
ü ثالثاً: عوامل نجاح عملية الاستقطاب:
من أهم عوامل النجاح لعملية الاستقطاب:
1 - إعداد قسم مختص يشرف على شؤون المتطوعين.
2 - لوائح ونظم إدارية تحكم عمل المتطوعين، وتوضح مسؤولياتهم وواجباتهم وحقوقهم.
3 - أعمال حيوية ذات طبيعة جذابة، وإنتاجية ملموسة (2) .
4 - الاستفادة من تجارب الجمعيات الخيرية التطوعية في البلدان المختلفة، والاستنارة بخططها (3) .
5 - تطبيق تقنيات الاستقطاب.
6 - دراسة أسباب التسرب التطوعي للمتطوعين داخل الجمعيات والمؤسسات الخيرية لمعالجة الأخطاء وتجنبها مستقبلاً.
ü رابعاً: الفوائد والآثار الإيجابية لعملية الاستقطاب:
تتعدد الفوائد والآثار الإيجابية لعملية الاستقطاب، ولعل من أبرزها:
1 - تغطية النقص أو القصور الذي يمكن أن تعاني منه الجمعيات أو المؤسسات الخيرية سواء من الناحية المالية أو القوة البشرية، ومن ثم تحقيق أهداف الجمعيات دون تحمل أعباء مالية إضافية إذا ما قام بالعمل موظفون رسميون، ويمكن الاستفادة من هذه الأموال في مشاريع أخرى مع التنبيه على الحقائق التالية:
أ - إن المؤسسات والجمعيات الخيرية لا تستطيع الاستغناء عن العمل التطوعي، كما أنها بحكم واقعها المؤسسي تحتاج إلى العمل المأجور الذي يضمن لها حداً أدنى من الاستقرار والإنجاز؛ لذلك لا بد من وضع هيكلها التنظيمي بحيث يجمع بين هذين النوعين من الأعمال، فتخصص للعمل المأجور المفاصل الأساسية التي تشكل البنية التحتية المستمرة للمؤسسة، وتستفيد من العمل التطوعي في أذرعها التنفيذية.
ب - للقوى العاملة في المؤسسات والجمعيات الخيرية مجهود ضخم، وليس من الإنصاف أن تهضم حقوق هذه الفئة؛ بحجة دعم العمل التطوعي، بل لا بد من توفير الرواتب والعطاءات المجزية، والسعي لتطبيق سقف من الضمانات المحفزة لبقاء اليد العاملة (4) .
ج - عند تعيين عدد كبير من الموظفين لتنفيذ العمل فإن هذا يعني إهدار الكثير من المال، وللأسف تتبنى بعض الجمعيات والمؤسسات الخيرية هذا الاتجاه، كما هو الحال في بعض الشركات التجارية، إضافة إلى ما يصاحب ذلك من إشكالات أخرى.
أما عن حجم الإنفاق على القوى العاملة فالتقارير السنوية لا تتعرض لذكره (5) ، إضافة إلى أن بعض الإدارات الخيرية تمانع في البوح بها، وتعتبرها من الأسرار الخاصة، كما أن بعض المؤسسات تشكو من عدم الاستقرار الوظيفي لديها.
2 - يساهم استقطاب المتطوعين في علاج مشكلة البطالة؛ فهو يعوِّد الإنسان على العمل والإيجابية، وقد تفسح له فرصة للعمل، ومن ثم الحماية من الوقوع في السلوك المنحرف.
3 - اكتشاف القيادات وتدريبها وزيادة مهارتها.
4 - زيادة إنتاجية الأعمال الخيرية؛ فمما لا شك فيه أن إسهامات المتطوعين تزيد من الإنتاج؛ وذلك لامتياز العمل التطوعي بالحماس في الأداء ـ وهذا ما يُفقد في العمل الروتيني ـ وإمكانية سد الثغرات الموجودة في الجمعيات في بعض التخصصات النادرة.
وبالنظر إلى لغة الأرقام يكفي أن نعلم أن معدل ساعات التطوع في أمريكا عام 1994م كان موازياً لعمل (9) ملايين موظف، وبلغت قيمة ما تُطُوِّع به من وقت (176) بليون دولار (1) ، ويقول «بيتر أف دراكر» : وقليل من الناس يعرفون أن قطاع الهيئات التي لا تبغي الربح هو إلى مدى بعيد يعتبر أكبر صاحب عمل في أمريكا، ويعمل فيها واحد من بين كل اثنين من البالغين ـ إجمالي عددهم يزيد عن (80) مليون شخص متطوع لمدة خمس ساعات في المتوسط لكل أسبوع في مؤسسة واحدة أو عدة مؤسسات مما لا تبغي الربح، ويعادل ذلك عشرة ملايين وظيفة لكل الوقت، ولو أن هؤلاء المتطوعين حصلوا على مقابل عملهم لبلغ أجرهم محسوباً على الحد الأدنى حوالي (150) مليار دولار أو (5%) من إجمالي الناتج المحلي؛ والعمل التطوعي آخذ في التغير السريع (2) .
فكيف لو توفرت مثل هذه الأرقام لجمعياتنا الخيرية؟!
ومما يؤكد هذا الأثر تنوع اختصاصات المتطوعين؛ حيث يغطون معظم التخصصات التي تحتاجها الأعمال الخيرية ومساهمتهم في جمع التبرعات، ورسم سياسات الجمعيات التي يتطوعون فيها، وكل تلك الأعمال تسجل زيادة في الرصيد الإنتاجي للجمعيات.
ومما تحسن الإشارة إليه أن هذه الزيادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحسن إدارة الجمعية للمتطوعين والاستغلال الأمثل لطاقاتهم وقدراتهم.
5 - توفير وقت الموظفين لنواحي العمل التي تتطلب مهارات فنية أكثر (3) .
ü خامساً: محاذير وأخطاء في عملية الاستقطاب:
1 - أن يصبح الاستقطاب تعصباً للجمعية أو المؤسسة ومواجهة مع الجمعيات الأخرى، ولو كانت تعمل في المجال نفسه والأهداف ذاتها.
2 - انتفاء الطابع المؤسسي للعمل التطوعي؛ فهذا ينضم إلى الجمعية لوجود أصدقائه فيها، وآخر يسيطر على العمل دون التزام بنظام محدد.. إلخ.
3 - استقطاب عدد كبير من المتطوعين فوق الاحتياج؛ نتيجة لفقد التخطيط السليم.
4 - عدم الاهتمام والعناية بالمتطوعين بعد استقطابهم؛ مما يسبب رحيل كثير منهم، وقد أفادت الدراسات أن المتطوعين يميلون قبل الاستمرار في العمل التطوعي إلى اعتماد أسلوب التجربة أولاً، ومن ثم اتخاذ قرار الاستمرار أو الانقطاع.
5 - استخدام المتطوعين في أي عمل حتى الأعمال المستقرة والنمطية، وهذا ضار؛ فينبغي توظيف عاملين للأعمال الرتيبة والمستقرة، وتفريغ المتطوعين للأعمال التي تحتاج إلى التخطيط والتفكير والتجديد.
6 - إثقال كاهل المتطوع بالأعمال وعدم مراعاة أحواله وقدراته.
ü سادساً: أمثلة من استقطاب المتطوعين:
1 - استقطب الهلال الأحمر السعودي (1000) متطوع من خلال الحملة التي قام بها للتعريف بالتطوع وأهميته، واعتمد فيها على إقامة الندوات، وورش العمل، ومعسكرات التطوع، وفي مدينة الطائف حالياً يبلغ عدد المتطوعين (36) طبيباً وطبيبةً (4) .
2 - استطاعت «دار تنمية الأسرة» بقطر استقطاب (150) متطوعاً من جميع الجنسيات، منهم (92) امرأة؛ وذلك عن طريق إقامة ملتقى للمتطوعات، وأصبح الآن يقام كل سنة.
3 - استطاع «صندوق الزكاة» بقطر من خلال تبنيه لفكرة الدلالة على الفقراء بواسطة المتطوعين من استقطاب عدد كبير؛ كان لهم دور مؤثر في تحقيق نتائج نوعية، وغير مسبوقة (5) .
4 - نجحت «إدارة المتطوعين بالهلال الأحمر» الإماراتي في استقطاب عدد من المتطوعين من خلال نشر استمارة دعوة للتطوع في المؤسسات الحكومية، وتعزيز الدور الإعلامي في مجال العمل التطوعي (6) .
5 - استقطبت «لجنة التعريف بالإسلام» في الكويت (36) داعياً وداعيةً، يتحدثون بلغات مختلفة؛ لدعوة أبناء جالياتهم؛ وذلك من خلال الفروع المنتشرة في البلاد (1) .
6 - أطلقت «إدارة الدفاع المدني» بدبي حملة استقطاب واسعة من خلال مشروع (المسعف المتميز التطوعي) والذي يقوم بتدريب المتطوعين على العديد من مراحل الإسعافات الأولية، ويأمل القائمون على هذا المشروع التطوعي في استقطاب (300) متطوع في نهاية العام (2) .
ü سابعاً: عوائق استقطاب المتطوعين:
1 - حملات الاتهام والدعاوى الجائرة التي تواجهها الجمعيات الخيرية (3) .
2 - عدم وجود أهداف واضحة لدى الجمعية أو المؤسسة الخيرية من استقطاب الكم الكبير من المتطوعين.
3 - عدم تعريف المتطوع بالجمعية، وأهدافها وطرق تنظيمها.
4 - عدم قدرة الإدارة العليا في الجمعية على التعامل مع المتطوعين لغرقها في العمل الروتيني اليومي.
5 - ظن بعض العاملين الرسميين في الجمعية بأن استقطاب المتطوعين يعد تهديداً لأعمالهم ومكانتهم الوظيفية، فلا يحصل منهم أي حماس لفكرة جذب المتطوعين.
6 - عدم مناسبة العمل لقدرات ومؤهلات المتطوعين.
7 - عدم وضوح الإجراءات واللوائح المتعلقة بالجمعية للمتطوعين.
8 - إسناد عملية الاستقطاب إلى شخص حاد الطبع، ومدرسته الإدارية صارمة (4) .
9 - السعي وراء موارد الرزق، وهذا يفسر عدم اهتمام الفقراء بالمشاركة التطوعية.
10 - انتشار نسبة الأمية.
11 - الخبرة السلبية السابقة للمتطوع، والتي يمكن أن تحول بينه وبين أي مشاركة تطوعية أخرى.
12 - قلة الخبرة بالعمل التطوعي وما يتضمنه.
13 - عدم إعلان الجمعيات عن حاجتها لمتطوعين؛ فقد يوجد الكثير ممن لديهم الاستعداد للتطوع، ولكن لا يعلمون شيئاً عن هذه الجمعيات أو ما يحتاجون إليه.
14 - عدم فهم المسؤولين في الجمعيات لدور المتطوعين؛ فبعضهم لا يدرك أهمية مشاركتهم، ولا ما يقدمونه من أدوار مهمة.
15 - المفهوم الخاطئ المتمثل في القيام (بالكل) أو (لا شيء) ؛ فليس صحيحاً أن المتطوع لا بد أن يقوم ببذل الجهد التطوعي طيلة الوقت، وإلا اعتبرت جهوده التطوعية ضعيفة (5) .
16 - ضعف التجربة في الجهد التطوعي.
17 - البعد وضعف المواصلات، خصوصاً في المجال النسائي.
18 - الفهم غير الصحيح لدى بعض المتطوعين لمفهوم التطوع؛ فهو يرى أنه باستطاعته أن يحضر ويخرج كما شاء، وأن يبدأ العمل ويوقفه كما يريد، كما أنه ليس لأحد أن يحاسبه على التقصير، وإتمام العمل وجودته.
19 - عدم تهيئة الأماكن المناسبة للعمل والإنتاج.
20 - عدم تقدير المجتمع للمتطوع.
21 - عدم الجدية والاستمرار في العمل من قِبَل بعض المتطوعين.
22 - تعرض العاملين في العمل التطوعي للقدح والطعن.
23 - تعارض وقت التطوع مع العمل الرسمي أو الدراسة.
24 - زيادة متطلبات الحياة المادية الحديثة.
25 - زيادة معدل التفكك الأسري، وتفكك العلاقات والروابط الاجتماعية؛ نتيجة للبعد بين أفراد الأسرة، وتلبية لمتطلبات العمل.
26 - قلة تشجيع العمل التطوعي.
27 - الكسل والاتكالية.
ü ثامناً: أفكار عملية لاستقطاب المتطوعين:
1 - تقديم حوافز للمتطوعين والمتطوعات، مثلاً: منح المتطوع إجازة مدفوعة الأجر.
2 - إيجاد مراكز ومواقع إلكترونية تقوم بتوفير فرص للعمل التطوعي حسب المناطق، خصوصاً في فترات الإجازات، مع الحض على الانضمام إليها من خلال المراكز الصيفية وبرامج الصيف.
3 - إقامة ملتقى التطوع الخيري.
4 - تخصيص ساعات من أوقات الطلبة في مراحل التعليم النهائية للمشاركة في العمل التطوعي.
5 - تفعيل فكرة التطوع الصيفي لاستقطاب الطلاب في فترات الإجازات السنوية.
6 - إيجاد فرص لأعمال تطوعية للمتقاعدين، ويجري ذلك من خلال الشركة أو المؤسسة التي كان يعمل بها المتقاعد.
7 - نشر استمارات دعوة للتطوع في المؤسسات والشركات والمدارس.
8 - إقامة دورات تدريبية عن التطوع في مختلف مجالاته.
9 - إعداد برامج مرئية في مجال العمل التطوعي.
__________
(1) معجم المصطلحات الإدارية. البرعي والتويجري (286) .
(2) قاموس الخدمة الاجتماعية والخدمات الاجتماعية. د. أحمد السكر (560) .
(3) تفعيل العمل التطوعي. د. صالح التويجري المؤتمر السابع لإدارة المؤسسات الأهلية والتطوعية بالشارقة.
(1) مشاركة توفيق عسيران في ورشة عمل: حول مهارات التحفيز على العمل التطوعي، تنظيم جمعية المبرات الخيرية بلبنان بتصرف وإضافات.
(2) المرشد في إدارة العمل الخيري. صالح السيد (94) .
(3) الجهود التطوعية وسبل تنظيمها وتفعيلها. صالح الصغير الملتقى الأول للجمعيات الخيرية بالمملكة (101) .
(4) يراجع للأهمية مقال: قراءة نقدية في إدارة المؤسسات الإسلامية. مجلة المجتمع الكويتية العدد (1442) . وموضوع حقوق الموظفين في العمل الخيري من كتاب تنمية الموارد البشرية والمالية في المنظمات الخيرية لسليمان العلي.
(5) انظر على سبيل المثال «التقرير السنوي لعام 1423هـ» لمؤسسة الحرمين الخيرية ومؤسسة الوقف الإسلامي.
(1) تنمية الموارد البشرية والمالية في المنظمات الخيرية. العلي (75، 78) .
(2) الإدارة للمستقبل (بيتر أف دراكر) (313) نقلاً عن القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب للسلومي (442) .
(3) الإدارة في المؤسسات الاجتماعية. سامية فهمي (113) .
(4) تفعيل العمل التطوعي (3) وجريدة الجزيرة السعودية، العدد (10447) 12/2/1422 هـ.
(5) ملف التطوع. الجمعية القطرية لمكافحة السرطان (3، 2) .
(6) تجارب متميزة في العمل التطوعي للهلال الأحمر لدولة الإمارات. د حمدان المزروعي المؤتمر السابع لإدارة المؤسسات الأهلية والتطوعية بالشارقة (3) .
(1) موقع إسلام أون لاين (19/ ربيع الأول/1421 هـ) .
(2) موقع: http://www.ameinfo.com/arabic/Detailed/10763.html
(3) ويراجع للأهمية كتاب «القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب» د. محمد السلومي، و «نقوش على جدار الدعوة» . جاسم الياسين (19 - 31) .
(4) وسائل استقطاب المتطوعين والانتفاع الأمثل بجهودهم. د. إبراهيم القعيد، المؤتمر العلمي الأول للخدمة التطوعية بجامعة أم القرى (640) وما بعدها.
(5) الجهود التطوعية وسبل تنظيمها وتفعيلها. مرجع سابق (97 -100) .(231/6)
الدُّعاة والعمل السياسي
دعوة للمراجعة
فيصل بن علي البعداني
ولجَ بعض رجالات الأمة ودُعاتها في بعض الدول في خضمِّ المعترك السياسي، سواء أكان ذلك في الجانب التشريعي أم التنفيذي؛ بهدف مدافعة طليعة الغرب وأذنابه في بلداننا من دعاة المدِّ العلماني الجارف بكافة أطيافه والذي سُلِّط على الأمة وتسرّب إلى مناحي حياتها المختلفة، والسعي لتخفيف ضرر جنايته، وحماية الأمة ودعوتها المباركة من بعض شروره، وإبقاء بعض الفضاءات متاحة أمام الجهود الخيرة التي يمكن أن تنتشل الأمة من مرحلة الهوان والتبعية وفترة التسلُّط القاسي التي تمرُّ بها.
وبكل تأكيد فقد صاحب هذه التجربة جوانب نجاح وإخفاق، وبغضِّ النظر عن ذلك فمن صدقت نيّته من أولئك الفُضلاء، وتخلّص من حظوظ نفسه فهو دائر بين الأجر والأجرين، والله ـ عز وجل ـ غفور رحيم جواد كريم.
وليس الهدف بالأساس هنا تقويم التجربة أو الحكم عليها فلذلك رجاله وساحاته، إلا أن المشاهَد في هذا الاتجاه في الآونة الأخيرة فشو بعض المظاهر شديدة الجنوح عن المنهج النبوي الراشد في الإصلاح والتغيير، ومن ذلك:
والحديث هنا ليس عن أصل المشاركة، فتلك قضية اجتهادية، المشارك فيها والمحجم عنها كلاهما على خير إن شاء الله، وإنما الحديث عن تصريحات الخلط وخُطبه ومحاضراته، وعمليات الدفاع المستميت الذي يتصدر له بعض الجهلة من المحسوبين على الدعوة؛ بغرض إعطاء تلك المزالق التي تبنّتها جماعاتهم بُعْداً شرعياً، وإظهارها بمظهر المتوافق مع الشريعة، لا بل والمنطلق منها!
ونتيجة لذلك وجدنا ـ مثلاً ـ بعض طلبة العلم المنتمين إلى بعض تلك الفصائل الدعوية الخائضة في هذا الجانب من يصف من يراد تقديمه للعامة من المرشحين بالزهد والربانية، مع أن ذلك الرجل لا تظهر عليه بوادر الاستقامة فضلاً عن أن يُعدَّ من أهل الدعوة! في الوقت الذي يرى المرء فيه في المقابل سخرية شديدة، وهزءاً حادّاً من دعاة وطلبة علم شهيرين في الساحة لا ينتمون لتلك الفصائل ولا يرون مناسبة الخوض في خضمِّ المعترك السياسي وقتاً أو رؤية، حتى إن بعض كبار الخطباء وقيادات العمل الفاضلة التي ولجت في هذا الباب قامت بإسقاط آيات النفاق عليهم، وكأن شعار (لنعمل فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) ـ مع التحفظ النسبي عليه ـ لا يطبق إلا في داخل الأسوار المغلقة لتلك الفصائل، أو مع حلفائها من خارج الساحة الدعوية! فيا لله كم صرْنا في زماننا نبصر الكثير من الخلط والعجائب!
فكيف إذا انضافت إلى ذلك الخطل شرور أخرى؛ كتصدير بعض الجهلة ورقيقي الديانة، واستمراء الكذب، وممارسة الخداع والغش والتزوير، تماماً كما يمارسه العلمانيون ومن يدور في فلكهم من أهل الأهواء والشهوات، وإن كان بحجم أقل، تحت مبرّر المعاملة بالمثل، وأنه كذب للدين وتزوير من أجل الفضيلة، متناسين ما قد تقرَّر في محكمات الشريعة من أن الوسيلة القذرة لا تبررها الغاية النبيلة البتة.
وفي هذا السياق أؤكد أن المشاركة السياسية التي يُعْمَل من خلالها على جلب بعض المصالح ودَرْء بعض المفاسد قد تكون مفهومة بل ومقدّرة، في حال أعطيت حجمها، ووضعت في سياقٍ عمليٍّ تكامليٍّ مع المقاصد الكبرى للدعوة، أما أن تتحول من وسيلة إلى غاية، في مقابل تسطيح الطرح النظري والتبنِّي العملي لأصول الدعوة، وليس هذا فحسب، بل ويمارس دوراً إقصائياً لكل طرح يدعو للتوازن والانضباط في هذا الجانب من داخل الصف أو خارجه، وتسقط عليه نصوص التخذيل وبعض خِلال المنافقين، في وقت يتحالف فيه مع قلاع العلمنة وعتاة أهل الأهواء والبدع، وتفتح فيه بوابات التحاور والتنسيق المشبوه مع بعض السفارات الغربية تحت مبرر حماية الدعوة، والظهور بمظهر الاعتدال والوسطية، مع أن المولى القدير يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ، فهو أمر غاية في الغرابة بل والخطل، ويزداد الأمر شناعة حين يُغرس ذلك القصور والتمييع في نفوس الأتباع، ويتحول في السياق التربوي والطرح الفكري لبعض الفصائل الكبرى للعمل الإسلامي اليوم إلى مظهر رشد وحنكة، وشعور عالٍ بالمسؤولية، وقاعدة راسخة ونهج تطبيقي ثابت!
ولو أردنا أن نحلِّل الأسباب التي أدَّت إلى تلك المظاهر الخطرة لوجدنا أن من أبرزها:
وما لم يُبثّ علم الوحي المطهر في الأمة، وينتشر الفقه، وتزكى النفوس، وتربى على الإيمان، فإن الانتقال إلى المراحل التالية ـ فيما أحسب ـ استعجالٌ وجرٌّ للأمة إلى مرحلة لم تتهيأ لها بعد.
وأمام هذا الواقع فالدعاة إلى الله ـ تعالى ـ مطالبون بجملة من المعالجات التي قد تعين على الخلاص من جوانب النقص والقصور في هذا الباب، ولعلَّ من أبرز عناصرها:
والمسؤولية تقع في هذا الجانب بالأساس على العلماء والمفكرين، إذ الضعف ضعفهم، والتقصير تقصيرهم، وإن من أمانة العلم ومسؤولية حفظ الدين التي استرعاهم الله ـ تعالى ـ عليها أن لا يتركوا الأمة ينهشها الزيغ العقدي والانحرافات الفكرية، وتغرق في بحور الشهوات، وعندهم من الله ـ تعالى ـ وصف علاجها.
وختاماً: فلا بد من سلوك نهج النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الإصلاح والتغيير؛ لأن دين رب العالمين على مرِّ تاريخ البشرية الطويل لم يقم به وينصره إلا نبي أو سائرٌ على نهج نبي، على أن مرمى هذا الحديث هو الدعوة للمراجعة فقط، وليس تقويماً للتجربة، كما أنه لا يصلح أن يُعدَّ بمثابة أرضية لإعطاء صورة متكاملة عن المشاركة السياسية للدعاة؛ لأنه بمثابة الحديث الانتقائي الذي يركز على بعض جوانب الخلل التي قد تدقّ أو تجسر، بغرض معالجتها والمبادرة إلى تلافيها.
وأرجو أن لا يفهم من خلال هذا الطرح أنه بمثابة دعوةٍ إلى الإقدام أو الإحجام عن الخوض في هذه التجربة إذ ذاك ليس من هدف المقالة، كما أنها لا ترمي بحال إلى تبرير موقف طائفة فضلى من أهل العلم والدعوة انكفأت على نفسها وفشلت في مواكبة واقعها، ولم تستطع حتى الآن على الأقل أن تواكب الأحداث الجسام التي تمرّ بها أمة الإسلام في أكثر من موقع وعلى أكثر من صعيد بالصورة المرجوة.
اللهم وفّق دعاة الإسلام المصلحين في كل مكان، واحفظهم، وبارك فيهم ولهم، وألهمهم رشدهم، وسدّد رأيهم، وجنّبهم الوقوع فيما لا يرضيك عنهم بفضلٍ منك وإحسان يا أرحم الراحمين.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.(231/7)
العمل والتربية الحياتية من منظور إسلامي
د. بركات محمد مراد
الأصل هو أن العمل ضروري لكسب المعيشة وتحقيق المستهدفات الأخرى في الحياة. والعمل له أيضاً وظيفة اجتماعية ونفسية؛ فهو يسبغ على صاحبه قيمة معينة، ويساعده في تحقيق الذات، ويعطيه جملة من المشاعر الإيجابية نحو نفسه ونحو الآخرين. وفي المجتمع العربي والإسلامي نجد الدين الإسلامي والتراث ومختلف أدوات التنشئة من مناهج تعليمية وبرامج إعلامية وغيرها تحرّض على العمل وتدعو إلى احترامه.
ويعتبر العمل واجباً إسلامياً على كل فرد؛ حيث إن قواعد الإسلام، وسلوك الأنبياء والصالحين تشير إلى وجوب العمل في مختلف أشكاله. فقد عرف الأنبياء ـ عليهم السلام ـ قيمة العمل على هذا النحو؛ حيث كان إدريس خياطاً، وزكريا بحاراً، وموسى أجيراً، ومحمد تاجراً مع عمه أبي طالب، ثم لحساب خديجة بنت خويلد قبل أن يتزوجها، وكذلك كان راعياً للغنم. ولا يجوز لنا أن نستهين بأي مهنة أو حرفة مهما بدت ضئيلة القيمة؛ فإنها في النهاية لها أهميتها في حركة الحياة، ولا تستقيم الحياة بدونها، والتوجيه النبوي يقول: «اعملوا؛ فكل ميسَّر لما خُلق له» (1) .
والعمل الذهني مثله مثل العمل العضلي كلاهما ضروري لحركة الحياة ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر. وقد كان أنبياء الله جميعاً يمارسون بعض الحرف وفي مقدمتها رعي الغنم، ولم يقلل ذلك من قيمتهم ومكانتهم. ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما أكل أحد طعاماً قطُّ خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كان يأكل من عمل يده» (2) .
وهنا يقول ابن حجر العسقلاني شارحاً: «في الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره. والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله ـ تعالى ـ وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل، ولهذا أورد النبي -صلى الله عليه وسلم- قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد ... إلخ» (3) .
كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله يحب العبد المؤمن المحترف» (4) . ويقول: «من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفوراً له» (5) . وفي الأثر أنه قبّل يداً وَرِمَتْ من العمل، وقال: «هذه يد يحبها الله ورسوله» . ومن قبل قال لقمان لابنه: «يا بني! استعن بالكسب الحلال على الفقر؛ فإنه ما افتقر أحد قط، إلا أصابته ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاثة استخفاف الناس به» (1) .
وقد عرف المسلمون هذا الأمر، فقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «قيمة كل امرئ ما يحسن» (2) . وقال ابن مناذر: «سألت أبا عمرو بن العلاء: متى يحسن المرء أن يتعلم؟ قال: ما دامت الدنيا تحسن به» (3) كما قال الغزالي: «من العلوم الشرعية علوم محمودة، ترتبط بها مصالح أمور الدنيا كالطب، والحساب» (4) .
إن الإنسان ـ كما أكدت دراسات الروح المعنوية في الصناعة، ودراسات الإشباع الاجتماعي المهني ـ لا يعمل لمجرد الحصول على الأجر أو لمجرد الحصول على الطعام والمأوى، وإنما بجوار ذلك الهدف فهو يعمل لإشباع مجموعة من الحاجات، كالحاجة إلى الأمن، والاحترام، والتقدير، والحاجة الفسيولوجية، والحاجة إلى تحقيق الذات وسعادتها.
\ العمل بين الإسلام والتراث الغربي:
إذا كانت مهمة الإنسان في هذه الحياة هي إعمار الأرض؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] ، فإن ذلك لن يتحقق إلا بالعمل من أجل البلوغ إلى تحقيق الهدف. فالحياة بلا عمل موات، والإنسان قد أعطاه الله من القوى والطاقات ما يجعله قادراً على قيادة سفينة الحياة بالعمل الجاد المنتج الذي يعود على الفرد والمجتمع بالخير العميم.
ومن هنا كان اهتمام الإسلام بالعمل اهتماماً بالغاً؛ فالإسلام يربط بشكل مستمر بين الإيمان والعمل الصالح. وهذا العمل الصالح يعني كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حياته ويقصد من ورائها وجه الله ـ تعالى ـ ونفع الناس ودفع الأذى عنهم، وجلب المصالح والمنافع لذاته ولأهله ولكل من هو مسؤول عنه. وكل عمل يشتمل على ذلك فإنه يندرج أيضاً تحت مفهومي العبادة والتقوى.
وآيات القرآن الكريم التي تشتمل على الربط بين الإيمان والعمل الصالح تفوق الحصر، وقد جاء في الآثار ربطٌ حكيم بين الإيمان والعمل بقول الحسن البصري: «ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في الصدر وصدقه العمل، وإن قوماً غرتهم الأماني، وقالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» (5) .
ومن شأن العمل أن يؤدي إلى تطوير الحياة. ومن خلاله يحصل الناس على أقواتهم فيزرعون ويحصدون. والقرآن الكريم يأمرنا أن نجوب الأرض بحثاً عن الرزق، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15] . والحياة سلسلة من الأعمال متصلة الحلقات، والذي يقعد عن العمل مع القدرة عليه لا يستحق الحياة؛ لأنه بذلك يصبح عبئاً على غيره، ويصير طفيلياً على الحياة ذاتها؛ فالقعود عن العمل كسل ممقوت. ومن أجل ذلك يقول عمر بن الخطاب: «لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وإن الله ـ تعالى ـ يقول: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} .
[الجمعة: 10] »
وهذا يعود إلى أن الإسلام ـ بنصوصه وروحه ـ دستور ونظام، وعقيدة وشريعة، والإسلام عمل للدارين: الآخرة والأولى، وهما في الإسلام موصولتان. والفقه الإسلامي شقان متكاملان متلازمان: عبادات ومعاملات «فإلى جانب أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج، نجد أحكام الشراكة والمزارعة والمساقاة والمضاربة والوكالة والكفالة والحوالة إلى آخر هذه الأمور التي تتصل أوثق اتصال بالحياة الدنيا، والتي تستوعب الأبواب الكثيرة للمعاملات، ونجد أوامر بالوفاء بالعقود وبأداء الأمانات إلى أهلها، وبرد المظالم، وإعطاء كل ذي حق حقه.
والعمل قيمة ينبغي الحرص عليها؛ فالأخذ بها يؤدي إلى التقدم والارتقاء، والتخلي عنها يؤدي إلى التخلف والجمود والموت.
ونحن لا نقصد هنا بالعمل القيمة المطلقة للعمل فحسب، كشيء فطري في الخلق، وإنما نعني بالعمل ارتباط الفكر بساحات الأداء البشري المفصل، واتصال المعارف بالتجربة والتطبيق. فالواقع الراهن يؤمن بالحركة العملية؛ فهو لم يعد شغوفاً بالفلسفة النظرية والتأملية الخالية من المعنى، بل إن العمل يُعطي للأفكار قيمتها، وإشعاعها، ويبرهن على عبقرية الجهد الإنساني الواقعية. وقد كان هذا طابع العمل دائماً في الحضارة العربية والإسلامية، بخلاف كثير من الحضارات السابقة، التي نظرت إلى العمل نظرتها إلى شيء دنئ ومنحط، ولذلك أعلت من شأن الفكر وحياة التأمل، وأعرضت عن حياة العمل والممارسة والتجربة؛ بخلاف التوجه الإسلامي الذي دعا الإنسان إلى الاهتمام بالصناعات بقدر اهتمامه بتحصيل العلوم النظرية والسعي إلى فهم الكون والوجود فهماً عقلياً وروحياً.
فللعمل ـ في الإسلام ـ شرف كبير ليس له مثله في غيره من الأديان والثقافات. فالتراث الإغريقي ـ مثلاً ـ وهو الذي ترك آثاره واضحة في الفكر الغربي ـ لا يقف عند تجاهل شرف العمل، بل يرى بعض العمل عاراً؛ فقد كان العمل غير الذهني ـ عند الإغريق ـ وصمة اجتماعية توجب لصاحبه التحقير، وكانوا يرون أن الاضمحلال البدني الناشئ عن هذا العمل يستتبع انحطاط الروح، وكانوا يرون المواطن الصالح لا يكون أبداً من العمال (1) .
واليهودية والنصرانية ـ مثلاً ـ تعتبران العمل عقوبة رمي الله بها البشر جزاء بما عصاه أبوهم آدم في الجنة؛ فقد كان من نتائج هذه المعصية أن طرده الله، وقال له: «ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها أيام حياتك» (2) ، « ... بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض» (3) .
وحتى بعد قيام الثورة الصناعية في أوروبا في بداية العصر الحديث، ظل بعض الشعراء والقصصيين الغربيين أمثال شيلرSchiller، ووردز ويرثWordsworth وكير جارد Kieegaed وفولكنر Fau Lkner ظلوا يحطون من شأن المجتمع الصناعي باعتبار أنه ـ في رأيهم ـ يقضي على القيم الإنسانية.
أما في الإسلام، فيكاد يكون من المعلوم منه بالضرورة أن العمل شيء يُطلب، ويُحث عليه، وتحصل بسببه المثوبة. وقد نوَّه القرآن الكريم ببعض الصناعات الهامة على عهد نزوله بالنسبة للمجتمع الإسلامي، تنويهاً يشير إلى عظيم آثارها وجليل فضلها، وإلى أنها من أكبر النعم التي يمنُّ بها الله على عباده؛ فقد نوه بمختلف الصناعات والحِرَف البشرية مثل:
| صناعة الحديد والمعادن: حيث يقول ـ تعالى ـ: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ، ويقول في الحدادة: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] . ونوه بصناعة التعدين؛ حيث يقول: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] ، أي النحاس المذاب الذي يستعمل في صنع الجفان والقدور. وكذلك يقول: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد: 17] ، كما أشار إلى صناعة الدروع بقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] ، وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] ، وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 10 - 11] .
| وصناعة الكساء: في قوله ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] وحيث يقول: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ} [النحل: 80] . ويقول: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] ، ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92] .
| وصناعة الجلود: {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ} [النحل: 80] .
| وقال في بناء المساكن: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74] ويقول: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] .
| وفي صناعة السفن: يقول: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] ، ويقول: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] ، ويقول: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الرحمن: 24] ، ويقول: {وتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} [فاطر: 12] .
| وفي الصيد وصناعاته: يقول ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] ، ويقول: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] ويقول: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] . ويقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] .
| وفي الفلاحة: يقول: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64] .
ومما أشارت إليه السنَّة أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ مع علو درجتهم كان العمل طريقهم: فآدم احترف الزراعة، ونوح النجارة، وداود الحدادة، وموسى الكتابة، كان يكتب التوراة بيده، كل منهم قد رعى الغنم، وكان زكريا ـ عليه السلام ـ نجاراً (4) . وفي الآثار أيضاً أن إدريس كان خياطاً، وسليمان كان يصنع المكاتل من الخوص، وعيسى يأكل من غزل أمه الصدِّيقة (5) وقد عمل هو نفسه في حداثته صباغاً (6) . ومحمد -صلى الله عليه وسلم- بدأ حياته عاملاً؛ ففي صباه رعى الغنم لأهل مكة تلقاء قراريط، وفي شبابه عمل في التجارة لحساب غيره. وأصحابه الأدنَوْن، عمال مثل: خباب بن الأرت الحداد (7) ، وعبد الله بن مسعود الراعي، وسعد بن أبي وقاص صانع النبال، والزبير بن العوام الخياط، وبلال بن رباح العبد الخادم، وسليمان الفارسي الحلاق، وعلي بن أبي طالب الذي سقى بالدلاء على تمرات ... إلخ (1) .
وقد كان عمر بن الخطاب يقول: «إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أَلَهُ حِرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط في عيني» (2) . وعمر ـ في ظل الروح الإسلامية ـ لا يستثني القراء، مع أنهم أهل رأيه ومشورته، ومحل ثقته وتقديره، على الترفع عن أن يكونوا عالة على الناس، يقول لهم: «معشرَ القراء! التمسوا الرزق، ولا تكونوا عالة على الناس» (3) .
\ العمل فريضة إسلامية:
والعمل بقصد الاكتساب فرض عين على المسلم؛ لأن إقامة الفرائض تقتضي حتماً قدرة بدنية ونفسية، وهذه لا تتأتى إلا بطعام ونفقة «وما لا يتوصل إلا به إلى إقامة الفرائض يكون فرضاً» (4) وفي الحديث: «طلب الحلال فريضة بعد الفريضة» (5) . كما أن العمل للاكتساب للإنفاق على العيال من زوجة وأولاد فرض عين كذلك؛ لأن إنفاق المرء على زوجته وأولاده مستحق عليه. قال الله ـ تعالى ـ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] . وقال ـ عزَّ وجل ـ: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] . وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب. وقال -صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (6) والتحرز من ارتكاب المأثم فرض؛ كما أن الكسب الحلال طريق إلى رحمة الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله امرأً اكتسب طيباً» (7) .
والسعي على العيال، والهموم في طلب المعيشة تكفر ذنوباً لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به، ودينار أنفقته على أهلك: أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك» (8) .
كما أن الإسلام يمنح كل الأعمال احتراماً بعيد المدى، ما دامت مشروعة. ومن إكرام الإسلام للعمل والعمال، أن رب العمل ملزَم ـ بنص السنة ـ أن يعتبر خدمة إخوته، وعليه أن يطعمهم مما يطعم، ويلبسهم مما يلبس، ولا يكلفهم من العمل ما يغلبهم؛ فإذا كلَّفهم أعانهم. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إخوانكم خولكم (أي خدمكم وحشمكم) فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» (9) .
\ العالم الإسلامي والصناعة:
ومن هنا أصبح العمل ونشاطاته المختلفة، خاصية أساسية من خصائص الحضارة العربية الإسلامية، فاندفع المسلمون يمارسونه على المستوى العقلي والعملي، ويطبقون كل النظريات العلمية التي يتوصلون إليها تطبيقاً عملياً بما ينفع الناس ويرتقي بمستواهم الحضاري والاجتماعي، ومن هنا كان ازدهار الحضارة الإسلامية لقرون عديدة في كل المجالات العلمية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة حين توفر العقيدة الإسلامية لأتباعها أهم مقومات النظر السليم في التعامل مع الواقع، ومع البيئة المسخرة لهم من قِبَل الله ـ تعالى ـ وَفق تشريعات حكيمة بنظم الحياة في كل جوانبها ومرافقها، وعندما يتصالح الفكر مع الواقع يكون الإنسان أكثر قدرة على بناء صرح الحضارة المتوازنة روحياً ومادياً.
وإن استخدام هذه الخاصية في الحياة العقلية والثقافية للحضارة، وفي السلوك العام للإنسان مكنه من امتلاك المنطلق العملي الذي يجعله يربط الفكر بالواقع، ويربط العمل بوسائله المكافئة بشكل واضح يحكمه؛ فالعملية كذلك تعني كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه؛ وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئاً، بغير مقياس يستمد من واقع الوسط الاجتماعي، وما يشتمل عليه من إمكانيات (10) .
ولنا في تاريخ الإسلام خير مثال، عندما أنتج علماء المسلمين فكراً يتلاءم مع واقعهم، وقدموا للعالم حضارة زاهرة معمرة، كما قدموا حلولاً شافية للمشكلات البيئية التي واجهتهم على المستويين الفكري والعملي، ذلك أن العلم والفكر اللذين لا يعمر بهما الكون، ولا تصلح بهما البيئة والواقع، ولا ترقى بهما الحياة، في جانبيها الروحي والمادي معاً، هما علم وفكر قاصران وضررهما أكبر من نفعهما (11) .
ولذلك قامت في المجتمع الإسلامي، منذ قديم، صناعات عامة اقتضت بطبيعتها تجميع أعداد كبيرة من العمال والصناع، ومن ثَمَّ كان الإنتاج كبير الحجم؛ فقد قامت مثلاً صناعة الأسلحة في مصر، وكان هذا طبيعياً جداً في بلد بلغ جيشه أيام الطولونيين حوالي مائة ألف جندي وأيام الإخشيديين أربعمائة ألف جندي. وكانت القاهرة مركزاً لتلك الصناعات الحربية (1) كصناعة الدبابات والمنجنيق وصناعة السفن والمراكب الحربية، وقد أنشأ ابن طولون مائة سفينة حربية، كما أنشأ المعز الفاطمي دار الصناعة بالمقس بالإسكندرية، وأنشأ بها ستمائة مركب «لم يُرَ مثلها في البحر على ميناه» (2) .
كما كانت في مالقة بالأندلس «دار صناعة لإنشاء المراكب» (3) . ومما يذكر أن الأوروبيين في العصور الوسطى أخذوا لفظ «دار الصناعة» عن العربية، فهو في الإيطاليةArse nale Arzenale وفي الإنجليزية والفرنسية والإسبانيةArsenal. ولما أنشأ محمد علي داراً للصناعة أخذ اللفظ الأجنبي المحرف، وزدنا في تحريفه، فكان «الترسانة» .
كما عرف المسلمون استخراج المعادن، وفي حديث ابن مماتي عن الصناعات في مصر يقول: «وبها معدن الذهب، ومعدن الزمرد وليس في الدنيا معدن زمرد إلا في مصر» (4) ويقول في موضع آخر: «وبها حجر السنباذج الذي تقطع به سائر الأحجار» (5) . وفي كرمان مدينة رهزان يقول عنها ابن الفقيه: «هي مدينة كبيرة واسعة، وبها أكثر معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والنوشادر والصفر» (6) وكانت «مالقة» بالأندلس مختصة «بصنائع الحديد كالسكاكين والمقص ونحوها» (7) .
وعرف المجتمع الإسلامي ـ كما يقول د. لبيب السعيد (8) ـ مؤسسات صناعية تحدثت كتب الفقه تفصيلاً عن مشتملاتها ومواصفاتها، وحالة العمل فيها. ومن هذه المؤسسات: بيت الدهان، والطاحونة، وبيت الطحانة، والمجمدة، والمثلجة، والملاحة، وعين القير أو النفط، وبيت الطراز (9) . وعُني المجتمع الإسلامي بصناعات النسيج، واشتهرت مصر بأنواع الحرير والكتان النقي الفاخر خاصة «تنيس» و «دمياط» وامتازت بعض البلاد المصرية بصناعة المنسوجات الصوفية كالملابس والشيلان والأبسطة. وقلد أهل «أسيوط» النسيج الذي اختصت به بلاد أرمينيا وصنعوا نوعاً من العمائم لا نظير له في العالم، واشتهرت «طحا» بعمل الثياب الصوفية الرفيعة (10) . كما اشتهرت «القصير» بعمل الثياب والأنسجة من الصوف.
وقد ترافق ازدهار الحضارة العربية مع نشوء المدن الكبيرة وتزايد حاجات المجتمع، ونمو جهاز الدولة بإداراته العديدة وما تدعو الحاجة إليه من إعداد الجيوش وبناء الأساطيل، وفي الوقت نفسه نمت التجارة الدولية وحدثت الثورة الزراعية العربية، وقد أدى كل ذلك إلى تزايد الطلب على المنتجات الصناعية، فنمت الصناعات وتطورت وتنوعت، ولقد ازداد عدد الحرفيين والصناع نتيجة لذلك ونمت خبراتهم، وكان ضمن كل صناعة عدد من الصناع من اختصاصات مختلفة، ويمكننا أن نعرف أسماء مختلف الحرف من كتب الحسبة (11) والجغرافيا والتراجم والتاريخ، وكذلك فإن الكتابات والنقوش على المباني التاريخية، وعلى التحف المتبقية تعتبر مصدراً له أهميته (12) ، وقدر عدد الحرف اليدوية في القاهرة في عهد الفاطميين والأيوبيين بأكثر من 265 حرفة، وقدرت مختلف الحرف والصناعات في دمشق في أواخر القرن التاسع عشر بأكثر من أربعمائة كان نصفها تقريباً من الحرف الإنتاجية (13) .
أدى العدد الكبير من الصناعات والحرف واختلاف طبيعة كل منها إلى تنظيمها في أسواق متخصصة، وكان مثل هذا الفصل ضرورياً؛ إذ إن بعض الصناعات تولد الدخان والروائح وهذه كانت تقام في أطراف المدن، وكان لهذا التنظيم فوائده للجمهور وللتجار وللحرفيين أنفسهم، كما أنه ساعد السلطات على مراقبة جودة المنتجات.
\ التربية الحياتية والعمل:
الحديث عن الجانب الحضاري والمادي المتصل بالإنشاء والبناء والخاص بالحضارة العربية والإسلامية، حديث لا يمكن الإحاطة به، وخاصة أن الحضارة الإسلامية قد ازدهرت وامتدت في مساحات شاسعة من العالم، كما أنها استغرقت من الزمن الكثير من القرون، جمع فيها الإنسان المسلم بين التقدم العلمي والتطبيق التكنولوجي، بشكل غير مسبوق، وذلك لاحترام الإسلام للعلم، وكذلك لاهتمامه بالعمل، ولاعتباره أن رسالة الإنسان في هذه الحياة بعد عبادة الله ـ تعالى ـ وتوحيده والإعمار المستمر والعمل الدؤوب.
من هنا كان اهتمام الإسلام بالسعي في بناء الحضارة وازدهار المدنية يتوازى مع العمل للآخرة والسعي لما بعد الموت، ولقد حقق الدين الإسلامي وحدة ثقافية عالمية ارتبطت بلغة أدبية وعلمية هي اللغة العربية التي سرعان ما حلت محل لغات قومية عديدة، وأصبحت أداة التعليم والاتصال. ولا ننسى أثر الدين الإسلامي في الاهتمام بالحضارة وفي قيام المدن وإعمارها وازدهارها، وتحقيق الرخاء المادي الذي ساعد عليه قيام صناعات محلية بها، ساندتها تجارة محلية وعالمية نشطة، وحرية الانتقال وسهولته عبر مسافات هائلة من العالم، وهو الأمر الذي أوجد تكاملاً اقتصادياً حقيقياً، وصاحب ذلك تبني سياسة تعليمية رشيدة، انفتحت على تجارب العالم، والأمم السابقة والمعاصرة لها، إلى جانب اهتمام غير مسبوق بإنشاء المكتبات والجامعات والمراصد والمستشفيات، وهي تلك المؤسسات التي أصبحت من بعد مثالاً يُحتذى في الحضارة الأوروبية الحديثة، والتي ترسخت من خلالها قيم رفيعة للبحث العلمي المثمر، وما كان هذا الإنجاز العلمي والتكنولوجي ليتحقق في الدولة الإسلامية لولا الرعاية والحماية التي كان يحظى بها العلماء والباحثون وطلاب العلم (1) .
وقد تأثر الغرب بتوجيهات الحضارة العربية والإسلامية، في الاهتمام بالحياة الدنيا والسعي للارتقاء بها، بعد أن كان سكان أوروبا في العصور الوسطى يعيشون في جهالة دامسة، ويخضعون لخرافات مسيطرة انتشرت بفضل الفهم القاصر لكنائس العصور الوسطى والتي كانت تدعو إلى الزهد والرهبانية، وعدم الالتفات إلى هذا العالم الذي هو مدنس بالخطيئة والواقع تحت سيطرة الشيطان.
وفي بداية العصر الحديث أخذ العمل طابعاً إيجابياً، حيث سما لمكانة اجتماعية مرموقة، وأصبح ذا مسؤولية أخلاقية، وقد أدخل (مارتن لوثر) ومن بعده (جون كالفن) القول المأثور الذي يقول: «إنك عندما تعمل فإنك تحقق رغبة الرب» . وفي العصر الحديث جاء (جون ديوي) (2) مؤكداً دور العمل حيث قال: «إن العمل بالنسبة للتلاميذ الأسنِّ يقوم بدور في النمو التربوي للأنشطة الفطرية الفجة يضارع دور اللعب لدى التلاميذ الأحدث منهم سناً» (3) . ومن خلال هذا التوجه الحضاري برزت حركة حديثة يطلق عليها «التربية الحياتية» Career Education تنادي بإعداد الأفراد للقيام بأدوارهم الحياتية أو المعيشية بشتى أشكالها.
وفي الحقيقة نشأت حركة التربية الحياتية نتيجة لمشاكل اقتصادية واجتماعية أجبرت القائمين على المؤسسات التربوية على البحث في إيجاد مجتمع يُلِمُّ أفراده بالمهارات والخبرات المعيشية. كما أن الاهتمام الذي تبديه المجتمعات المتطورة بالحركة يرجع أيضاً في أساسه إلى الافتراض القائل بأن شباب العصر الحالي لم يعد يرغب في القيام بشتى الأعمال بدرجة الأجيال السابقة.
ويشير المربون التربويون إلى أنه عند مناقشة أولياء الأمور حول طموحاتهم في تعليم أبنائهم ـ خاصة في العالم العربي ـ تبرز أسطورة مهنية وراء الأسباب التي تدفعهم إلى متابعة واستمرار تعلم الأبناء وهي الحصول على الشهادة الجامعية. في حين يرى الاقتصاديون والسياسيون ورجال الأعمال المهتمون بالإنتاجية Productivity بأنه يجب ألا يمنع التعليم في الجامعة، غير أنه ينبغي ألا يستمر في إعلانه الطريق المقبول الفعلي والوحيد للتهيئة للحياة الوظيفية والمهنية، وبأنه ينبغي عدم التشديد على أن الشهادة الجامعية شرط أساس للنجاح المهني في الحياة، حيث إن ذلك يتجاهل العلاقات الوثيقة المتزايدة بين التربية والعمل.
وينتقد هؤلاء الافتراض السائد بأن أفضل طريقة لتهيئة التلاميذ للعالم الواقعي هو بقاؤهم منعزلين عن ذلك العالم، ويؤكدون على أن تقوم المرحلة الابتدائية بتدريس المهارات الأساسية اللازمة للنجاح في كل أنواع الوظائف باعتبار أن التعليم أداة لإكساب المهارات والخبرات الحياتية، ولذلك يؤكد الباحث سعد الهاشل (4) على ظهور التربية الحياتية في العالم المتقدم بشكل واضح في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، وتدور حول ربط مناهج التعليم بالواقع الوظيفي والحياتي، وبإبعاد العزلة القائمة بين التعليم النظري وبين التعليم التطبيقي، وبإعداد التلاميذ سواء من يكمل الدراسة الجامعية أو من لا يكملها، لمجالات حياتية مختلفة بتركيز المقررات التدريسية الحالية حول تلك المجالات.
ومن هذا يتضح أن التربية الحياتية تبحث في ربط الدراسات النظرية في المراحل التعليمية وما بعدها بالعالم الوظيفي وإبعاد العزلة الحالية الموجودة بينهما، وأنها تركز على المشاركة الفعلية للمنزل، والمجتمع بمؤسساته المختلفة في إكساب الأفراد المعرفة والمهارات الوظيفية. وعلى الرغم من هذا ما زالت النظم التعليمية العربية، وخاصة في جامعاتنا تصطنع المواجهة بين النظري التجريدي وبين التطبيقي العملي. وتصل الأمور إلى حد التمييز بين جامعات تصطبغ تجربة البحث العلمي فيها بالنظري التجريدي، وجامعات تصطبغ تجربة البحث العلمي فيها بالتطبيقي العملي. وفي هذا السياق ترتفع الأصوات وترفع الشعارات لجعل الجامعة مختبراً للمجتمع ومركزاً استشارياً لمؤسساته وهيئاته.
\ فلسفة التربية الحياتية وأهميتها:
هنا تأتي أهمية التربية الحياتية، والتي تبدأ مع تنشئة الطفل العربي في مراحل دراسته الأولى، وخاصة أن فلسفة هذه التربية ـ كما ذكرها «كينيث هويت» Kenneth Hoty في كتابه عن التربية الحياتية، تقوم على أساسين:
الأول: أن جوهر السعادة البشرية هو الشعور بالقيمة الشخصية، مع عمل يكون المقوم الأساسي لهذا الشعور عند الأفراد.
والثاني: أن النجاح في الحياة العملية لا يتطلب المهارات الضرورية للقيام بحرفة من الحرف فقط، وإنما يتطلب بالإضافة إلى ذلك الاتجاهات والقيم والقدرات العامة التي تؤثر في مقدرة الفرد عند العمل وتقوده إلى أن يكون شخصاً منتجاً على مدى الحياة (1) .
ومن هذا يتبين أن العمل ليس المصدر الرئيس للدخل فحسب، وإنما هو أيضاً مصدر في تقدير الذات ومنحها الإحساس بالسعادة. وبحكم أن السعادة تعتمد اعتماداً كبيراً على القيمة الشخصية والتي تعتمد بدورها على الإنجازات الحياتية، لذا أصبح دور التربية في إعداد الأفراد للإنجاز الذي يشكل مصدر السعادة هدفاً ذا أهمية بالغة، يتطلب من المدرسة والمؤسسات الوظيفية والمجتمع أن تكرّس كامل طاقاتها لبلوغه. ولهذا أكد «فرانك براترند» في بحث قدم في مركز التعليم الفني والمهني في (جامعة أوهايو) على أن أحد أهداف وظائف النظام التربوي هو مساعدة الفرد على تحقيق ذاتهFuifillment Self بطرق مقبولة اجتماعياً.
كما تحاول «التربية الحياتية» أن تسهم في تنمية مهارات العلاقات البشرية وفي المحافظة على الصحة العقلية والبدنية، كما تحرص في الدرجة الأولى على الإلمام بالمفاهيم لدى أصحاب العمل والتي تدور حول العلم والتكنولوجيا، بالمهارات والاتجاهات الكامنة والمستخدمة لدى أصحاب العمل والتي تعتبر ضرورية لسوق العمل.
وقد أشار (ألفن توفلر) Alvin Toffler في كتابه «التعلم من أجل المستقبل» إلى أن الأطفال لا يكتسبون مهارات التكيف وتقنيات التخطيط من خلال المحاضرات والتلقين العادي وإنما هم يتشربون ويتعلمون من خلال الممارسات والخبرات التي تساعدهم في التعرف على الاختيارات البديلة الممكنة، وذلك لإيجاد بيئة مستحبة ومرغوبة لهم وللعالم البشري الذي يتعاملون معه (2) . كما يجب أن تركز البرامج التدريسية في الصفوف الأولى على تنمية الإدراك الحياتي بربط مناهج المهارات الأساسية بهيكل المعلومات الحياتية، كالتطرق لما يعمله الناس من أجل العيش وطرق معيشتهم ... وأن تصبح مهن أولياء الأمور (الطبيب، النجار، الشرطي.. إلخ) موضوعات لدروس القراءة، وتمارين الكتابة، ودروس التاريخ والجغرافيا، حيث إن هذه الدروس والمتطلبات تساعد الطفل على تشكيل سلوكه وتنمية فكره وإحساسه بالعالم المحيط به.
وقد أورد «ميلتون» أن سلوك الطفل يتشكل بناء على المتطلبات الخارجية المفروضة عليه من قِبَل المجتمع، وإن إجاباته لتلك المتطلبات تساعد على نموه العقلي (3) .
وأخيراً: تجدر الإشارة إلى الفرق بين التربية الحياتية Career Education والتربية المهنية Vocational Education وفي الحقيقة هناك تشابه بين المفهومين في بعض النقاط؛ وذلك أن كليهما يُعنى بالعمل، وأنهما متشابهان في بعض النقاط والاستراتيجيات كاستخدام الورش والمختبرات عند العمليات التدريسية. إلا أن مفهوم التربية الحياتية أكثر شمولاً من التربية المهنية؛ حيث إن هذه الأخيرة هي جزء من التربية الحياتية، ولذا فإن نجاح التربية الحياتية يثبت عند حسن اختيار المتعلم لمهنة من المهن وفقاً لميوله ورغباته وقدراته الفردية من ناحية ومعرفته المهنة المختارة من ناحية ثانية.
وبالرغم من ذلك التشابه إلا أن هناك بعض الاختلافات تظهر أن الأفراد الذين يتلقون برامج التربية المهنية هم في الواقع من يرغبون في التدريب على مهنة ما، كما تهتم التربية المهنية بإعداد المهندسين ومساعدي المهندسين والفنيين لمختلف الحرف. في حين أن التربية الحياتية تهتم ببناء الإدراك عند الأفراد حول عالم العمل، والفرص المتاحة، وبالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم كمواطنين، وأرباب أسر، ومستهلكين، كما تحرص التربية الحياتية على مساعدة الأفراد في كيفية قضاء وقت الفراغ، وفي اكتساب المهارات اللازمة في صنع القرارات.
إن هدف التربية الحياتية ليس العمل في الدرجة الأولى، بل تهيئة التلاميذ للحياة المعيشية باكتساب المعارف والمهارات والاتجاهات التي تساعدهم على القيام بأدوارهم الحياتية.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه.
(2) رواه المقداد بن معد يكرب، ورواه البخاري. وانظر الصنعاني: سبل السلام ج3 ص (7) .
(3) العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج4 ص (244 و 245) .
(4) عن ابن عمر، وانظر المناوي: فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي ج 3 ص (29) .
(5) عن ابن عباس، وانظر المناوي السابق.
(1) زيدان عبد الباقي: العمل والعمال والمهن في الإسلام، ص3 مكتبة وهبة، القاهرة عام 1978م.
(2) الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون ج2 ص77 مكتبة الخانجي القاهرة 1968م.
(3) ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس ج3 ص 478 دار الثقافة، لبنان عام 197م.
(4) الغزالي: إحياء علوم الدين ج1 ص 16 دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت عام 1978م.
(5) كنز العمال: الهندي ج 1 ص (25) .
(1) سورة الجمعة آية 1.، وانظر د. محمد حمدي زقزوق: الإنسان في التصور الإسلامي ص87، 88 وزارة الأوقاف ط 2 العدد 73 القاهرة 2001م.
(2) Donald Hunter: Health in Industry , part 2 p. 28
(3) العهد القديم: الإصحاح الثالث - (17) .
(4) عن ابن عباس، وانظر المناوي: فيض القدير بشرح الجامع الصغير للسيوطي ج 4 ص 544 و 545، والنووي: رياض الصالحين ص (248) .
(5) انظر: محمد بن الحسن الشيباني: الاكتساب في الرزق المستطاب ص15ـ 18 تلخيص محمد بن سماعة.
(6) ابن الأثير: الكامل في التاريخ ج 1 ص (123) .
(7) انظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 38.
(1) ابن قتيبة: المعارف، ص (8، 16، 18) .
(2) انظر المناوي: هامش «فيض القدير» ج 2 ص (29) .
(3) ابن عبد ربه: العقد الفريد ج 3 ص (27) .
(4) محمد بن الحسن الشيباني: الاكتساب في الرزق المستطاب، تلخيص محمد بن سماعة، ص (32، 33) .
(5) رواه عبد الله بن مسعود، وأورده البيهقي فى «شعب الإيمان» .
(6) عن ابن عمرو العاصي، صححه الحاكم، وأقره الذهبي.
(7) روته عائشة، وأورده الجامع الصغير عن ابن النجار.
(8) انظر النووي: رياض الصالحين، ص (146) .
(9) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري ج 5 ص (131، 132) .
(10) مالك بن نبي: شروط النهضة ص 95 ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، بيروت عام 1981م.
(11) د. أحمد فؤاد باشا: البيئة ومشكلاتها من منظور إسلامي، مجلة الأزهر ديسمبر عام 1996م.
(1) المقريزي: الخطط ج 1 ص (367) . (2) السابق ج 2 ص (95) .
(3) القلقشندي: صبح الأعشى ج 5، ص (218) . (4) قواوين الدواوين، نشر سوريال عطية.
(5) السابق. (6) حسن حسني عبد الوهاب: «التبصرة بالتجارة» للجاحظ.
(7) القلقشندي: صبح الأعشى السابق.
(8) دراسة في العمل والعمال السابق، ص (35، 36) . (9) الفتاوى الهندية ج 6 ص (297) .
(10) المقدسي: أحسن التقاسيم، ص (22) .
(11) حبيب الزيات: كتاب الحسبة. يورد المقال قائمة بالحرف والصناعات من كتاب الحسبة لجمال الدين يوسف بن المبرد الدمشقي من القرن العاشر.
(12) حسن باشا: الفنون الإسلامية والوظائف على الآثار العربية، 3 أجزاء.
(13) محمد سعيد القاسمي: قاموس الصناعات الشامية، دمشق. وانظر أحمد يوسف الحسن: مجلة الفلسفة والعصر، ص 42 العدد 2 المجلس الأعلى للثقافة يناير عام 2002م.
(1) د. مصطفى لبيب عبد الغني: مجلة الفلسفة والعصر السابقة.
(2) سعد الهاشل: التربية الحياتية في المرحلة الابتدائية مجلة العلوم الاجتماعية ج 13 العدد 1 الكويت، ربيع 1985م.
(3) جون ديوي: الديمقراطية والتربية، ترجمة د. نظمي لوقا، ص 281 الأنجلو المصرية 1978م.
(4) سعد الهاشل. السابق.
(1) السابق.
(2) Toffler , Alvin Learing for Tmorrow (publishing commlttee1972) p. 191.
(3) سعد الهاشل: التربية الحياتية ص (48، 49) .(231/8)
قيادة المؤسسة الأسرية
سالم بن عبد الله القرشي
ترى أحدهم يقود مؤسسة أو منظمة عاملة في الحقل الصناعي أو الخدمي وله نشاطه وتخطيطه ورؤيته المستقبلية، وأهدافه البعيدة والأخرى القريبة.
ترى تحفيزاً للعاملين، وإكراماً للمجتهدين، بل إنك ترى الموظف المثالي والفريق المثالي.
لا تخطئ عيناك أَثَرَ ذلك في الإنتاجية المرتفعة والأرباح الهائلة.
وكم هو أثر ذلك في مجموعه على اقتصاد البلد، من نموٍّ اقتصادي مرتفع وزهو اجتماعي وثقافي ونفسي كبير.
إنه قمة الرُّقي الحضاري تعيشه تلك المؤسسة وذلك القطر.
ويبقى السؤال الكبير:
هل نمارس ـ نحن الآباء وقادة العمل المؤسسي ـ جزءاً ولو يسيراً من هذا التخطيط المنظم داخل المؤسسة الأسرية؟
لا أستطيع فلسفة هذا الضمور الذهني والفكري عن هذه الحاجة الملحة والضرورية لبناء مؤسسة هي النواة في كيان الأمة وفي كيان الدولة الحديثة.
حديثنا يملأ السماء ضجيجاً عن حاجتنا هذه الأيام ـ وخصوصاً مع دخولنا منظمة التجارة العالمية ـ إلى رسم الخطط والاستراتيجيات الإدارية والثقافية المتطورة والآخذة بالنُّظم الحديثة المراعية لحركة التقدم المتسارع في التقنية والتحرر الاقتصادي والتجاري الآخذ في الطغيان حركةً وتطوراً مع تسارع الأحداث والتغيرات.
ما أجمل هذا وأحسنه لو سار جنباً إلى جنب مع الأخذ بزمام المبادرة لصنع توجهات وسياسات أُسرية لصنع رؤية فردية وخطط استراتيجية وأهداف دقيقة لتربية وصناعة جيل أسري فريد!
إن المؤسسة الأُسرية أحوج ما تكون لهذه الخطط التي يصنعها المنظرون الإداريون للمنظمات الناجحة.
إنه استثمار في الإنسان من نوع آخر.
فهل يأتي علينا يومٌ نرى الأُسر تتسابق كسباق المؤسسات الأخرى في صناعة الأسرة المتميزة، الأسرة الرقمية في زمن العولمة، بدل أن يعولم الغرب نظام أسرته إلينا؟
أسرة مؤهلة تربوياً وأخلاقياً وعلمياً وثقافياً. هل يأتي علينا يومٌ نرى أن لكل أسرة صندوقها التنموي لتطوير وتدريب أفرادها؟
إن شيئاً من ذلك بدأت ملامحه تلوح في الأفق.
__________
(*) مدير تحرير النخبة الإدارية.(231/9)
أولاد الصالحين (2)
محمد بن عبد الله الدويش
تناولنا في العدد السابق طائفة من مشكلات أولاد الصالحين، ويتواصل حديثنا عن الموضوع في هذا العدد.
من مشكلات أولاد الصالحين التوقعات العالية لدى والديهم؛ فيتسم كثير من الآباء والأمهات الصالحين بحرص بالغ في رعاية أولادهم وتنشئتهم، وتعلو توقعاتهم وطموحاتهم، وهو مطلب إيجابي؛ فالطموح والرغبة في تميز الأولاد مطلب لكل الناس؛ فضلاً عن الصالحين الذين يدركون المسؤولية، ويتطلعون إلى أن يسهموا في إحداث تغيير إيجابي في الواقع من خلال أولادهم، وإلى أن يحقق أولادهم كثيراً مما لم يحققوه هم.
لكن المشكلة حين تكون الطموحات معيارية يحاكمون أولادهم عليها، ويقيسون النجاح والفشل من خلالها.
إن مجرد الطموح والتوقعات العالية للوالدين ليست العامل الوحيد في تأهل الأولاد للمستويات المرجوة؛ فهو يرتبط بالقدرات والمؤهلات الشخصية، وبوجود المنهج التربوي الملائم، وبالقدرة على تطبيقه بصورة تربوية صحيحة.
يصر بعض الآباء والأمهات على أن يُتِمَّ أولادهم حفظ القرآن الكريم، أو إنجاز بعض المشروعات العلمية على حساب تمتعهم بطفولتهم، وقد يتحقق شيء من ذلك تحت سَوْط الإكراه والضغط؛ وحين يشب الأولاد يتمرودن على ما تلقوه.
ومن المشكلات: أن الصالحين كغيرهم من الناس لهم سمات شخصية؛ فمنهم من يكون بسيط التفكير، أو ضيق الأفق، أو حاد الطبع، أو عنيفاً، أو متشائماً؛ فتترك هذه السمات أثرها على علاقتهم بأولادهم، وتزداد المشكلة حين تجد أن من يتسمون بهذه السمات لا ينفكون عنها في تعاملهم مع قضايا التدين؛ فقد يضفي أحدهم الصبغة الشرعية على تصرفاته التي يكون مصدرها سماته الشخصية.
ومن المشكلات: عدم استيعاب طائفة من الصالحين تنوع الناس واختلافهم؛ فعلى سبيل المثال يمثل التوجه للتخصصات الشرعية في التعليم مطلباً مشتركاً بين الصالحين، لكن ليس كل الأولاد متهيئاً لذلك؛ فالمبالغة في إصرار الوالدين على هذا والربط بينه وبين الصلاح والاستقامة قد يقود إلى مشكلات في تربيتهم.
وما أجمل ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ومما ينبغي أن يتعهد: حال الصبي، وما هو مستعدٌ له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً؛ فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌ له لم يفلح، وفاته ما هو مهيأ له» (1) .
ومن المشكلات: أنهم - وبالأخص أولاد المشاهير - تحت الأضواء وتحت نظر الآخرين من زملائهم وأساتذتهم؛ فكثيراً ما يلامون على ما لا يلام عليه غيرهم، أو يتوقع منهم ما لا يتوقع من غيرهم، مما يقود بعضهم إلى القلق من هذه النظرة، أو ينشئ لديهم ردة فعل معاكسة.
ومنها حديث والديهم معهم على أنهم يمثلون والديهم، وعلى أن الناس يلومونهم ويقولون: هؤلاء أولاد فلان وفلانة؛ مما يشعر الأولاد أنهم يراد منهم الانضباط لأجل سمعة والديهم، أو أنهم يُحرَمون مما لا يحرم منه غيرهم حتى لا يلام آباؤهم وأمهاتهم.
ويسيطر على بعض الآباء والأمهات هاجس مبالغ فيه حول انتقاد الآخرين لهم ولأولادهم؛ فيظهر هذا الهاجس في أسلوب تعاملهم مع أولادهم وتوقعاتهم منهم.
ومنها: كثرة انشغال والديهم، وبالأخص من له مشاركة في ميدان العلم والدعوة؛ فيقود الانشغال إلى حرمان أولادهم من الحياة الأسرية الطبيعية، وإلى غفلة الوالدين عن كثير مما يجري لأولادهم.
ومنها: المبالغة في حرمانهم من كثير من المتع المباحة بحجة الورع أو البعد عن الشبهات، ولا شك ان البعد عن الشبهات مطلب، والورع هو السلوك اللائق بالوالدين، لكن حين يتحول إلى معاناة لدى الأولاد، وإلى رقيب خارجي يبحثون عن التفلت منه فإنه يؤدي إلى نتائج سلبية.
إن أولاد الصالحين كغيرهم من الناس يحتاجون إلى المتعة، وإلى الترفيه، وإلى اللهو، وأن يشعروا أن التدين لن يكون عائقاً لهم عن أن يتمتعوا كما يتمتع به الآخرون ما دام ذلك في إطار المباح.
__________
(1) تحفة المودود (243) .(231/10)
حواء.. عندما تكون مديرة!
إبراهيم بن سليمان الحيدري (*)
من بين تلك السحب المتلبدة في الأفق، يلمح المتفائل بين الحين والآخر نجوماً ساطعة تبشر بمستقبل مشرق. أحد هذه النجوم تلك المنظمات الخيرية النسائية ذات التوجه الإسلامي والتي تدار بسواعد نسائية طموحة.
علاقة حواء بالإدارة الخيرية في كثير من البلدان العربية علاقة حديثة إلى حد كبير، وفي مثل كل البدايات؛ فإن هناك نجاحات وهفوات، إلا أن الملاحظ أن تجربة المرأة في حقل الإدارة الخيرية بدأت في زمن يمتاز بوعي إداري يتنامى وثقافة تنظيمية تتزايد، ووسائل تطويرية تتجدد وتتوفر بيسر وسهولة، والمنتظَر والحال كذلك أن تستثمر حواء هذا الوضع وتترجم ذلك في أساليب إدارية راقية استثماراً واعياً للموارد البشرية والمالية.
هناك تحديات أمام حواء وهي تدخل تجربة الإدارة الخيرية من شأنها أن تعطل مسيرة العمل، وتعرقل سير الخطط، وتهدر الموارد، إلا إذا استطاعت التعامل معها بحكمة وموضوعية، ومن ذلك: الوقت، والعاطفة.
فالوقت الذي يمضيه المدير داخل أروقة منظمته عامل مهم في النجاح؛ وحتى مع التطور التقني الذي نعيشه يبقى وجود المدير في منظمته واستنشاق هوائها اليومي مهم لاستيعابٍ أشمل، وتجاوب أسرع، وإدارة أنجح للمنظمة.
التحدي الذي يواجه المرأة المديرة هو أن دورها الاجتماعي في الحياة زوجة وأمّاً يتطلب المكوث في البيت، وهو عمل جليل ولا شك، وبه يصلح حال الأسرة. إلا أنه من جهة أخرى يعني مكوثاً أقل داخل المنظمة، مما يؤثر سلباً على أدائها الإداري. ويزداد الوضع وضوحاً مع المديرات العاملات، وهو حال كثير من الداعيات.
كان هذا التحدي الأول.
أما الثاني: فهو العاطفة، ولو حق لنا أن نلخص الدور الرئيس للمدير في جملة بليغة لكانت: صنع القرارات واتخاذها. والمديرون في صنع القرارات أصناف، وأسوؤها ذلكم الصنف الذي يتجاهل الطريقة العلمية ويعتمد على شخصيته في صنع القرار واتخاذه. التحدي هنا أن للعواطف في شخصية المرأة حجماً كبيراً، وهو متطلب بلا مناقشة لدورها الرئيس؛ إلا أن عدم اكتراث المديرات بأثر العواطف في القرار الإداري سبب كافٍ لخروج قرارات وتصرفات يعوزها النضج ويلازمها الفشل.
إن في جعبة حواء ودهاليز الإدارة ـ بعد توفيق الله ـ ما ييسر التعامل مع هذه التحديات، ويجعلنا نستشرف أعمالاً إسلامية نسائية يفوح شذى جودة التنظيم منها، وتعبق بإدارة حديثة ناضجة.
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(231/11)
هيام بالغرب يُعمي ويُصِم
أ. د. جعفر شيخ إدريس
قبل أيام أرسل إليّ أحد الإخوان بالبريد الإلكتروني مقالاً لم أرَ مثله مصوراً لحال المتيَّمين بحبِّ الغرب حبّاً يُعمي ويصم، لذلك رأيت أن أجعل التعليق على بعض ما جاء فيه موضوعاً لمقالي هذا الشهر؛ لما قد جمع فيه صاحبه ـ وبكثير من الجُرْأة والاعتداد والتعالم ـ جملة مما تفرّق في كتابات أمثاله من الحُجج الواهية والدعايات الكاذبة والعبارات المتناقضة التي تُساق للترويج لحضارة الغرب وثقافته، والتنقّص من كل ما هو عربي أو إسلامي. الهدف الواضح من مقاله ـ وهو مقال في ظاهره عن الحوار ـ أن نعترف بأن الآخر ـ ويعني به الغرب ـ خير منا في كل شيء، فعلينا أن لا ننتقده أو نعترض عليه أو نحاربه، بل علينا أن نخضع له ونستسلم. وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية المرذولة فإنه يحشد جملة من الحُجج الواهية والأفكار المتناقضة ما لو قرأه مثقف غربي لسخر منه وأنهضه دليلاً على انحطاط الفكر العربي.
1 ـ بدأ صاحبنا المفتون هذا مقالَه بالحوار مع الآخر بمبادئ وشروط ما أنزل الله بها من سلطان، منها: أن الهدف من الحوار هو تفهّم المواقف وليس تغيير المواقف.
أقول:
مع أن الحقيقة هي أن فهم موقف الآخر شرط سابق للحوار معه؛ لأنني إذا لم أكن على علم بموقفه ففِيْمَ أحاوره؟ وفهم موقف الآخر لا يحتاج إلى حوار بل قد يكون في صيغة سؤال وجواب، فإذا عرفت موقفه فإما أن ترضى عنه فلا يكون بينك وبينه حوار لأنك صرت مثله وفي مكانه، أو تخالفه وتطمع في أن تغيّر موقفه فيكون هنالك داعٍ لحوارك معه.
2 ـ ثم يحذرنا بقوله:
من لديه قناعة تامة بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة لا يمكنه الدخول في حوار مثمر مع أي طرف آخر؛ لأن الطرف الآخر ـ أيضاً ـ له مواقفه التي تخدم مصالحه وقناعاته التي تتماشى مع طريقته في التفكير.
والله إنني لأعجب كيف يفكر هذا الرجل! ما الذي يمنع مدّعي الحقيقة المطلقة (إن كان في الوجود شخص كهذا) من الحوار المثمر مع غيره؟! لماذا لا يكون هدفه إقناع كل من خالفه في أيِّ شيء كان أنه جاهل وأن مخالفته له مخالفة للحقيقة المطلقة؟!
يعلّل الكاتب عدم الإمكان هذا بقوله: «لأن الطرف الآخر ... » إذا كان هذا هو السبب الذي يمنعه من الحوار مع مدّعي الحقيقة المطلقة فليمنعه من الحوار مع أيّ أحد كان؛ سواء ادّعى ملكية الحقيقة المطلقة أم لم يدّعها.
ثم ما المقصود بملكية الحقيقة المطلقة وهي عبارةٌ كثيراً ما أراها تُردّد في نقد الإسلاميين؟ أيقصد بها الادّعاء بالعلم المحيط بكل شيء؟ لكن المسلم العارف بدينه هو أبعد الناس عن مثل هذا الادّعاء؛ لأنه يعتقد أن الله ـ تعالى ـ هو وحده الذي أحاط بكل شيء علماً، ولأن ربّه قد بيّن له أن الناس لم يُؤتوا من العلم إلا قليلاً. وأما إذا كان المقصود بها العلم اليقيني ببعض الحقائق؛ فهذا أمر مشترك بين الناس جميعاً، إذ ما منهم إلا وهو على علم يقيني ببعض الحقائق، وإن اختلفوا في نوع ما هم موقنون به.
3 ـ ويحذرنا ـ أيضاً ـ بقوله:
الذهنية التي ترى أن قناعاتها فقط هي الصحيحة وما خالفها من القناعات خاطئة هي أقرب إلى الذهنية البدائية التي تؤمن بالمطلق وترفض التعددية.
أقول:
إذاً؛ ذهنيتك أيها الكاتب هي من هذا النوع البدائي؛ لأن مقالك كله في تخطئة مخالفيك ودعوتهم إلى الأخذ برأيك. وهل الإيمان بالمطلق قاصر على أصحاب الذهنية البدائية؟ إذاً؛ فإن عدداً من مفكّري (العالم المتحضّر) هم من هذا النوع. والتعددية لا توضع في مقابل المطلق إلا إذا كان المؤمنون بها يعتقدون أن كل ما يرونه هو حقيقة مطلقة، وما أظن أن في الوجود أناساً كهؤلاء، ولا سيما أناساً يؤمنون بمبدأ الاجتهاد وتعرّض المجتهد فيه للخطأ والصواب.
4 ـ ويؤكد لنا شيئاً هو من أبطل الباطل فيقول:
لقد أدرك العالم المتحضّر بعد صراع طويل مع المطلق أن كل شيء مرهون بزمانه ومكانه وظروفه التاريخية والبيئية، وأن الأمور في نهاية المطاف كلها نسبية، من النسبية الرياضية التي نادى بها (أينشتاين) إلى النسبية الثقافية التي نادى بها (الأنثروبولوجيون) .
أقول:
أولاً: إذا كنت ممن يرون رأي العالم المتحضّر هذا فكان عليك أن لا تكتب شيئاً ولا تناقش أحداً، بل تقول لنفسك: إن كل من خالفني في رأي أو موقف، بل كل من شتمني، فإنه إنما يقول ما أملاه عليه زمانه ومكانه، ولو كنت أنا في زمانه ومكانه لقلت ما قال ورأيت ما رأى.
ثانياً: إن القول بالنسبية ليس شيئاً جديداً على الفكر الغربي، ولم يأت بعد أيّ نوع من الصراع مع المطلق، وإنما هو شيء قديم، ويقولون أن أول من عُرف بالقول به السوفسطائي اليوناني (بروتاجوراس) في عبارة له مشهورة: «الإنسان معيار كل شيء» .
ثالثاً: ينسب الكاتب القول بنسبية الحقائق إلى العالم المتحضر، فكأن الناس في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها من دول (العالم المتحضر) قد أجمعوا كلهم على هذا الرأي، أو كأنه قد أصبح الرأي الغالب عندهم، هذا مع أن القول بنسبية الحقيقة إنما هو قول لقلّة من الفلاسفة، أما جماهير الناس عندهم ـ كما الناس في كل بلاد الله ـ فلا تقول بها، خذْ مثلاً على ذلك: تقول الإحصاءات الغربية: إن معظم الناس عندهم يؤمنون بوجود الخالق، فهل تراهم يؤمنون بأن وجوده حقيقة نسبية تصح في مكان دون مكان وفي زمان دون زمان؟ والقلّة الملحدة منهم هل تقول: إن عدم وجوده أمر نسبي يصح في مكان دون مكان وزمان دون زمان؟ والنصارى المؤمنون بأن المسيح ابن الله، هل يعتقدون أن هذه حقيقة نسبية؟ وعلماء الطبيعة هل يقولون: إن كل ما اكتشف من حقائق الطبيعة هو أمر نسبي، وأنه سيأتي زمان يصح فيه القول بأن الأرض ليست كروية، وأنها أكبر حجماً من الشمس، وأنها ثابتة لا تدور؟
القول بالنسبية ليس ـ إذاً ـ أمراً مجمعاً عليه بين الغربيين، بل ولا هو رأي أغلبيتهم، بل إن القائلين بها يختلفون في معناها ومداها اختلافاً كبيراً، ولعل من غلاة القائلين بها الفيلسوف الأمريكي المعاصر (رورتي) الذي ذهب إلى حدِّ القول بأن كلام العلماء الطبيعيين عن الواقع هو وجهة نظرٍ شأنها في ذلك شأن كلام الشعراء!
رابعاً: الدعوة إلى النسبية دعوة تحمل نقضها في أحشائها؛ لأنك إذا قلت: إن الحقيقة نسبية، فإن هذا يصدق على كلامك هذا فهو ـ أيضاً ـ نسبي، أي: إن القول بأن الحقيقة نسبية هو نفسه حقيقة نسبية.
خامساً: ولذلك فإنه يتعذر على القائلين بها أن يلتزموا بنتائجها فيما يقولون، بل إنهم يفترضون كما يفترض كاتبنا هذا أن قاعدة كل شيء نسبي لا تنطبق على ما يقول هو أو يراه.
سادساً: نسبية (أينشتاين) (لست أدري لماذا وصفها الكاتب بالرياضية مع أنها فيزيائية) وإن رأى فيها بعض عوام المثقفين في الغرب ما رأى الكاتب إلا أن كبار علمائهم وفلاسفتهم يقولون: إنه لا علاقة لها بالقول بنسبية الحقائق أو القيم إلا لفظ النسبية، ولذلك قال بعضهم: إن تسميتها بالنسبية لم تكن تسمية موفقة، وأنها لو سميت بالمطلقية لكان اسماً أقرب إلى حقيقتها. وملخص دليلهم على ذلك أنها نظرية تستند إلى حقيقتين تجريبيتين ليستا بنسبيتين، هما: عدم تغير القوانين الفيزيائة، وثبات سرعة الضوء مهما كان حال المراقب.
سابعاً: نعم؛ إن من علماء الأنثروبولوجيا من قال بهذا، لكنَّ كثيرين منهم ردّوا على زملائهم، بل إن منهم من أثبت أن هنالك قيماً مشتركة بين كل الثقافات بغضِّ النظر عن أزمانها وأماكنها، واستنتجوا من هذا أن في الثقافة ما هو إنساني يكون مع الإنسان حيث كان.
5 ـ يقول الكاتب:
أضف إلى ذلك نظرية التطور التي تقول: إن التغير سنّة من سنن الكون الذي لا يمكن الوقوف في وجهه.
أقول:
أضيفُ ماذا إلى ماذا؟ أأضيف القول بأن هنالك سنّة ثابتة لا يمكن الوقوف في وجهها إلى القول بأن كل شيء مرهون بزمانه ومكانه؟ ماذا يتحصل عندي إذاً؟ هذا نوع من إلقاء الأقوال على عواهنها من غير تصوّر لحقائقها أو للعلاقات بينها.
6 ـ بعد هذه العمومات الباطلة يصل الكاتب إلى بيت قصيده ليقول لنا: إنه لا جدوى من حواركم مع الغرب؛ لأنكم تريدون منه شيئاً لا يمكن أن يفعله؛ لأن من يعيش في مجتمع يحكمه القانون وتسوده العدالة وتتحقق فيه كرامة الفرد وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتفكير لا يمكن أن يتراجع عن كل هذه المكتسبات ويعود القهقرى لينفض الغبار عن قناعات خَبرَها وكافح ليتخلّى عنها ويودّعها إلى غير رجعة.
لكن الواقع وأنفُ أمثال هؤلاء راغم أن كثيراً من الغربيين يحاوروننا ويقرؤون كتاب ربنا فيدخلون في دين الله أفواجاً، حتى إن إحصاءاتهم تقول: إن الإسلام أكثر الأديان (أقول وسائر الأيدلوجيات) سرعةً في الانتشار حتى في عواصم الدول الغربية. إنهم يقبلون عليه مثل هذا الإقبال لأنهم لا يرون فيه ما يرى المرتدون عنه دعوة إلى التخلّي عن خير مادي أو معنوي توصّلوا إليه، وإنما يرون فيه خير هادٍ لهم إلى معرفة ربهم والسعادة بعبادته واتّباع شرعه، بعد أن دلّتهم خبرتهم على أنه ليس بالتقدُّم المادي وحده يسعد الإنسان.
7 ـ لكن أمثال هذا الكاتب يرددون أباطيل قال بها منكرو الرسالات النبوية قبلهم. فإذا كان كاتبنا يقول:
إننا بينما نسمح لأنفسنا أن نستمتع وبشراهة منقطعة النظير بكل ما تنتجه مصانعه من أجهزة ومعدات فإننا في الوقت نفسه نرفض وننكر ما يقف وراء هذه المنجزات التقنية من علم وفكر.. بدلاً من تعمير هذا الكون الذي هو أعظم مسؤولية ألقاها الخالق على عاتق الإنسان وأعظم كرامة كرّمه الله بها.
فإنه إنما يردد من حيث لا يشعر حجة لجأ إليها الكفار في إنكارهم للرسالة المحمدية: {وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِءْيًا} [مريم: 73 - 74] .
وكاتبنا هذا وأمثاله يرون في تفوّق الغرب المادي وتعميره الأرض دليلاً على تفوّق معتقداته وقيمه وأفكاره.
بماذا ينصحنا الكاتب إذاً؟ أن لا نكتفي بشراء بضائعهم بل نشتري معها شرْكهم وإلحادهم وتدهور خُلقهم وظلمهم للشعوب واحتلالهم لها وفرض ثقافتهم وقيمهم الفاسدة عليها؟! إنه مما لا ريب فيه أن التقدّم المادي الذي نشاهده في الغرب بُني على حقائق من العلوم الطبيعية، وأننا قصرنا في هذا الجانب تقصيراً كبيراً كان سبباً في إذلالنا، لكننا نعلم أنه تقصير مهما كانت أسبابه فلا علاقة له بديننا الذي كنا بسببه أئمة العالم في مجال هذه العلوم، وأنه ليس منا الآن من يرفض الحقائق الرياضية أو التجريبية، لكننا نعلم أنه ليس في معرفة هذه العلوم والاستفادة منها في المنجزات المادية ما ينهض وحده دليلاً على صحة معتقدات العالمين بها، أو حسن خُلقهم، أو صواب فكرهم السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. لو كان هذا صحيحاً لكانت عقائد بناة الأهرامات صحيحة، ولكانت الكنفوشية والشيوعية التي تدين بها الصين صحيحة، ولكانت البوذية والهندوسية أيضاً صحيحة؛ لأن أصحاب كل هذه المعتقدات هم الآن متقدّمون في مجال المنجزات المادية تقدّماً يذهل له الغرب ويخشاه أشدّ خشية، لكن صاحبنا وأمثاله يريدون لنا أن نضيف إلى تخلّفنا المادي تخلّفاً روحياً فنخسر الدنيا والآخرة.
أما تعمير الكون فما هو والله بأعظم مسؤولية ولا أعظم كرامة كرّم الله بها الإنسان. أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ لو كان هذا صحيحاً لكان ساكنو القصور العالية وراكبو السيارات الفارهة ومرتدو الملابس الفاخرة في أوروبا وأمريكا أقربَ إلى الله من عباده الذاكرين له وهم محبوسون معذَّبون في سجون (غوانتنامو) . إن عمارة الأرض ليست غاية في ذاتها لكنها وسيلة إلى خير أو شر. إن الخالق العظيم هو الذي قال:
{أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ} [الروم: 9 - 10] .
8 ـ ينصحنا الكاتب قائلاً:
ولا ننسَ أن الآخر مؤهل للحوار معنا أكثر مما نحن مؤهلون للحوار معه. لماذا؟ لأننا لا نعرف عنه شيئاً بينما هو يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. علينا أن نعترف أن اكتشافنا لكنوز حضارتنا جاء عن طريق مدارس الاستشراق التي نبّهتنا لهذه الكنوز ونحن عنها غافلون.
أصحيح هذا؟ ألم أقل لكم: إن الرجل في حالة من الهيام الذي يعمي ويصم؟ أصحيح أننا لا نعرف عن الغرب شيئاً، نحن الذين تتكلم الآلاف منا لغات الغرب وتقرأ كتبه وصحفه وتستمع إلى إذاعاته وتتعلم في جامعاته وتزور بلاده وتساكنه فيها، بينما الذين يعرفون شيئاً من لغاتنا وثقافتنا وتاريخنا إنما هم أهل الاختصاص منهم؟
نبّهنا المستشرقون إلى كنوز لنا؟ الحمد لله، فنحن ـ إذاً ـ أمة لها كنوز يعترف بقيمتها حتى عدد من أبناء العالم المتحضر. وإذا كنا نشكر أولئك المستشرقين على اكتشاف شيء من كنوزنا فإننا نحمد الله أن جعل لنا فضل السبق إلى دين هدتهم تلك الكنوز إليه فآمن كثيرون منهم، بل يقال: آمن أكثرهم به بعد أن كانوا تائهين في ظلمات الشرك والأديان الباطلة. لقد أعطيناهم ـ إذاً ـ أحسن مما أعطونا ولله الحمد والمنّة.
9 ـ يقول كاذباً:
... بينما نحرّم نحن على من يقيم منهم بين ظهرانينا أن يحتفل بمناسباته الدينية في بيته خلف الجدران والأبواب المغلقة.
لولا أن الكاتب يقول إنه من موريتانيا لقلت: هذا رجل لا يعيش في العالم العربي. كيف يجرؤ إنسان فيه مسكة من عقل على مثل هذا القول بينما كنائس النصارى بالنسبة لأعدادهم في بلادنا أكبر من نسبة المساجد في بلادهم بالنسبة لأعداد المسلمين فيها؟ كيف يقال هذا والنصارى يحتفلون بأعيادهم في بعض البلاد العربية حتى على شاشات القنوات الرسمية؟
10 ـ يقول آسفاً:
وها نحن نلعنهم في صلواتنا ونفرٌ منا يمتشقون السيوف والعبوات الناسفة ليجبروا الناس على الدخول في حظيرة الدِّين بينما هم يبنون المستشفيات ويقدمون المساعدات الإنسانية ويصلون للمنكوبين.
يا للعجب! أيقال مثل هذا الكلام عن الغرب الذي احتلَّ واسترق وانتهك الحرمات؟! أيقال هذا والأخبار تترى عن استمرار قوات الناتو في قصف القرى الأفغانية قصفاً لا يفرق بين محارب ومسالم، وصغير وكبير ورجل وامرأة؟! أيقال مثل هذا عن الغرب وقواته مستمرة في عدوانها على شعب العراق، وإسرائيل تدمّر البلاد وتقتل الأبرياء في فلسطين بمباركة منه؟! أيقال هذا في زمان (أبو غريب وغوانتنامو) ؟! ولكن لا عجب فإن التَّتيّم يعمي ويصم.
ثم إن الذين امتشقوا السيوف صرحوا بأنهم لم يمتشقوها لدعوة إنسان إلى الإسلام، وإنما فعلوا ما فعلوا بدعوى الانتقام لإخوانهم الذين عانوا من ظلم أمريكا في فلسطين. كيف يكون قصدهم أن يجبروا على الدخول في الإسلام من هم عازمون على قتله؟ أيسلم بعد أن تفارق روحه جسده؟!
11 ـ واستمع إلى ما يقوله عن التبشير النصراني:
لا يمكننا فصل الدين عن الحضارة، فالمجتمعات المتحضرة تمارس دينها، أيّاً كان ذلك الدين، وتدعو إليه وفق أساليب متحضرة، وتقدّمه كخيار حرٍّ لمن يجد فيه ما يروي ظمأ الروح ويقود إلى طمأنينة النفس ويلبِّي حاجة الوجدان ونوازع الضمير.
قارن هذه الصورة الخيالية الدعائية بالواقع الذي يرويه لنا أصحاب تلك الدول المتحضّرة. فهذا (هنتجتون) يقول ـ كما نقلت عنه في مقال سابق ـ: إن الثقافة الغربية فُرضت على الناس باستعمال العنف، وهؤلاء أئمة النصارى في أمريكا يتحدثون عن أطهر رجل عرفته البشرية بكلام بذيء لا يقال حتى عن عامة المفسدين، وهذا أحدهم يحث حكومته على دكِّ الخرطوم بالطائرات، وذاك وذاك. لكن ماذا يحدي بيان الحقائق لقوم لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون؟
12 ـ يقول الكاتب في نهاية هذره هذا مادحاً نفسه:
هذا الحديث عن الحوار مع الآخر ليس مجرد شطحات نظرية فأنا لا أتحدث من فراغ وإنما ... ليت الحديث كان شطحات نظرية إذاً فلربما كان أقل سوءاً.(231/12)
قرن الإسلام
د. عبد الكريم بكار
هل يمكن أن يكون القرن الخامس عشر الهجري هو قرن الإسلام؟ وهل هناك دلائل تشير إلى إمكانية هذا؟ وما السبيل إليه؟ هذه أسئلة أطرحها على نفسي وعلى الإخوة القراء، لعلنا نعثر على أجوبة مقنعة لها.
لا يخفى أن الإسلام ـ ومعه المسلمين طبعاً ـ يتعرض لهجمة عالمية منظمة وواسعة، وقد اشتدت هذه الهجمة في السنوات الأخيرة على ما هو مشاهَد، فهل هذا دليل على أن الإسلام يقترب من أن يكون القوة الكبرى التي تغير ملامح الثقافات العالمية، وتخلخل المعادلات والموازين الموجودة؟ أظن ذلك، وقد صدق من قال: إذا رأيت الناس يرمونك من الخلف بالحجارة، فاعلم أنك في المقدمة. نحن نملك ملايين الشباب بل عشرات الملايين المتطلعين إلى عمل شيء ينهض بالأمة، ويُعلي من شأن الدين، لكن قد يكون كثير منهم غير عارف بالوسيلة أو الطريقة التي يمكنه اتِّباعها من أجل تحقيق ذلك. فهل نستطيع مساعدتهم في هذا الشأن؟
من المهم أن نكون على وعي بأننا لا نستطيع إعزاز الدين من غير إعزاز أهله، كما أننا لا نستطيع بناء أمة أقوى من مجموع أفرادها، ولهذا فإن طموحنا إلى أن يكون هذا القرن هو قرن الإسلام يتطلب أن تقوم أعداد جيدة من الشباب المسلم (لا تقل نسبتهم عن 5% من مجموع الأمة) بإدخال تحسينات جوهرية على حياتها الشخصية وأنشطتها العامة، وذلك من خلال القيام بالأعمال المتميزة وتقديم النماذج الفذة. إن التحدي الذي يواجهنا على هذا الصعيد يتمثل في أن يحاول كل واحد من أهل الغيرة على مستقبل هذا الدين وهذه الأمة؛ القيامَ بعمل يرفع سوية الأخلاق والسلوكات والعلاقات السائدة في حياتنا العامة، وقد ورد في عدد من الأحاديث الصحيحة ما يومئ إلى أهمية شيوع الإنجازات الراقية، فمثلاً في حديث الثلاثة الذين ألجأهم المطر إلى غار؛ حث واضح على ذلك، حيث توسّل كل واحد منهم بعمل فذٍّ وعظيم عمله في يوم من الأيام؛ كي تنزاح الصخرة عن باب الغار ويتمكنوا من الخروج، على ما هو معروف ومشهور من أمرهم. وفي حديث الرجل الذي سقى الكلب بخفه، وحديث الرجل الذي كان يتجاوز عن المعسرين من عملائه وزبائنه، وحديث السبعة الذين يظلهم الله ـ تعالى ـ في ظله يوم لا ظَِّل إلا ظله، وأحاديث كثيرة من هذا القبيل، أقول: في كل هذه الأحاديث إشادة واضحة ببعض الأعمال المتميزة. واللافت فيها أن العمل أو الموقف الذي نال الثناء والجزاء الحسن قد يكون كبيراً في حجمه ونفعه وآثاره، وقد يكون كبيراً في دلالاته وإشاراته ولوازمه، وعلى سبيل المثال فإن ما يسديه (الإمام العادل) للأمة من نفع وما يبذله له من جهد يعد شيئاً هائلاً بكل المقاييس. أما التميز الكبير في دلالاته، وليس في حجمه، فإنه مثل ذلك الذي ذكر الله ـ تعالى ـ خالياً ففاضت عيناه، حيث إن بكاءه يعبر عن حالة شعورية راقية، قوامها الإحساس بمعية الله ـ تعالى ـ وقربه وحبه والخوف منه والشوق إليه، وهذه المعاني حين ترد على قلب، فإنها كثيراً ما تدل على بعد صاحبه عن المعاصي وإكثاره من الطاعات. ويشبه هذا في عظم الدلالة ما فعله ذلك الرجل الذي دعته امرأة ذات حسن وجمال وحَسَبٍ ليقترب منها في حرام، فاستعصم، وأعلن أن خوفه من الله ـ تعالى ـ يمنعه من ذلك، كما يشبهه في الدلالة ما فعله الذي نزع خفه وسقى به الكلب اللاهث من الظمأ ...
نحن اليوم نستطيع أن نثري الأمة بالأعمال الكبيرة بحجمها، والكبيرة بدلالتها وإشاراتها من خلال المبادرات الفردية والشخصية. لدينا نخبة مثقفة ملتزمة واسعة اليوم، ومتزايدة ـ بحمد الله ـ، ويستطيع كثير من أفرادها أن يتخيل أن حياته عبارة عن مشروع أنشأته أمة الإسلام، واستثمرت فيه، ثم أوكلته إليه ليدبره، ويتابعه، ويبذل فيه من ماله ووقته وجهده، وقد قبل هذه الوكالة، وشرع يحاول في جعل ذلك المشروع ناجحاً ومثمراً، بل يحاول أن يجعل منه مشروعاً نموذجياً بين المشروعات المناظرة، كما فعل عشرات الألوف من أبطال الأمة: مجاهديها، وعلمائها، ودعاتها، وقاداتها، وتُجارها، ومعلميها وإدارييها ... هذا التخيل وهذا القبول لجعل الذات مشروعاً عظيماً، يتطلب التفكير والتخطيط والعزيمة الصارمة والرؤية الواضحة، كما يتطلب التفاؤل والثقة بالله ـ تعالى ـ ومعونته والاحتساب لديه والاستقامة على أمره؛ وهذه كلها ممكنة وقريبة التناول حين نتخيل النتائج العظيمة لمثل هذا التوجه.
وتستطيع شريحة واسعة جداً من أبناء الأمة أن تقوم بأعمال صغيرة ذات دلالة كبيرة، وأنا هنا أود أن أشير إلى فكرة مهمة، هي أن الأمة الفقيرة ليست تلك التي لا تملك الكثير من المال؛ لكنها الأمة التي يتلفت صغارها وكبارها فلا يرون إلا رجالاً من الدرجة الرابعة، ولا يجدون نماذج رفيعة حية يقتدون بها، ويقبسون من روحها وسلوكها ما يشكل قسمات حياتهم. ونحن نستطيع معالجة هذه المسألة جزئياً عن طريق القيام بالأعمال الصغيرة ذات الدلالة الكبيرة، إننا نريد من كل واحد منا أن يفكر: هل يمكن أن يقدم نموذجاً في الحفاظ على الوقت، أو الفهم في القراءة، أو الحرص على صلاة الجماعة، أو في الصدق، أو التواضع، أو خدمة الإخوان، أو بر الوالدين، أو الغِيْرة على حرمات الله ـ تعالى ـ، أو نصح المسلمين..؟ وحين يتمكن (5%) مِنَّا تَمَثُّلَ هذه الفكرة وتطبيقها، ثم نشرها والدعوة إليها؛ فإنني أعتقد جازماً أن وجه العالم سيتغير تغيراً واضحاً، وبذلك نكون قد عملنا عملاً كبيراً جداً على صعيد جعلِ هذه القرن قرن الإسلام، هذا هو التحدي؛ فأين الذين يقبلونه؟(231/13)
شيماء
نور الجندلي
بيتٌ تتصدّع جدرانه، قلبهُ يتوقّف! قذيفةٌ تحيلهُ أطلالاً، تحطّم بقايا الذكريات، وتخنقُ بسماتٍ شاحبة سكنت، واستحالت بعدها إلى قهقهة أشباح.
يحلمٍ فيُغادرُ مسرعاً، فقد أعلنت حالةُ الطوارئ فجأة، وغادرت نساءُ الفلوجة على عجل ... وبقيت شيماء.
الليلُ يطوفُ بوشاحِ الحزن، يعدُّ الضحايا من الطرفين، ويبتسمُ بسخرية مرّة، وتكبّر النجمات.
ـ كُنَّا الأقوى. كما خمّنّا!
تنتزعُ قلبها الباكي من تحت الركام، وتسير على أنقاض النصر الحزين، لتبحث في برد العالم عن ملجأ، قطعة خبزٍ، حفنة جمر، ويدٍ تكفكفُ دمعها.
ليلُ النّكباتِ طويلٌ، يفزعها فيه عواءُ الذّئابِ البربريّة، تتخفّى في هيئة شبحٍ ذكوريّ، لتحمي أنوثتها من لسعات عقارب المدن، أو من نظرات خفافيشها المتعطّشة إلى دماء.
تقطعُ مع الليل مسافات طويلة، تقتاتُ الهمّ كلما لمحت خيال طيرٍ، أو سمعت مواء هرّة.
كم كانت تطربُ لصوتها في ذلك البيت الذي ... كان لها!
قطعُ الجبنِ اعتادت أن تسكن طيّات ملابسها.
أما الآن فإنها أحوجُ من هرّة إلى كسرة خبزٍ جافّة، تذكرها بأنّها ما زالت من الأحياء، هاربة من جحيمِ الموتِ، ومن جنون البشر.
شلاّل الدّماء أهداها منهُ رذاذاً، فتنفّست رائحتهُ مع الفجر وقد وقفت تدعو أن تهتدي إلى مأوى.
لمحت حيّة رقطاء تعود إلى جحرها، لم تقوَ إلا على حسد.
ـ ليتني كنتُ حيّة لأختفي في وكري، ليتني استطعتُ أن ألتفّ على أعناقِ طائراتهم كي تسقط صريعة!
أو ألدغهم بكلّ ما بثّوا في داخلي من سمٍّ، وبكلّ ما جرّعوني من أسى!
ليتني ... ليتني!
تغرقُ في بكاء مُرٍّ، ثمّ تنصبُ عصا الترحال وتمضي.
المدينةُ تبدو ميتةً؛ بلا أضواء، بلا حياة.
لقد نام الجميع وأعينهم مفتوحة، على إثر زلزال أمريكي الهوية.
حتى التسوّلُ قد غفا لحظة في أعينٍ بائسةٍ يئنُّ من وطأة جوعٍ وفاقة.
تناديها مئذنةٌ قريبة، تبتسم أخيراً بمرارة!
تهرولُ مسرعةً إلى المسجد، يحدّقُ بها بعضهم بنظرات ملأى شكوكاً.
ـ من أنتَ؟ من أينَ أتيتَ؟ ما اسمكَ؟ هيّا اعترف! ما أهدافك؟ سُنّيٌّ أم شيعيّ؟
لا تدخل قبل أن تبرز سلاحك!
وبصوتٍ ممزوجٍ بتراب الأسى يخفيه لثام ...
ـ اسمي عبد الله، أتيت من الفلوجة، أخوكم سُنّيٌّ، مسلم! ولا أحملُ أيَّ هويّة.
تتلاشى النّظرات المُتّهِمة.
ـ أهلا بالبطل، تعالَ واسترح، وتوضأ وصلِّ، وخذ بعضَ الزادِ ولا تُطلْ! المعركةُ ستحتدمُ قريباً، والمسجدُ لن يسلم من حقد، وما نراكَ إلا هارباً من بؤسٍ إلى بؤس.
على السّجادة الطّاهرة تغفو أخيراً، لتفزعها أصوات الرّصاص ...
تهبُّ مدافعةً بلا سلاح!
أخبروني ماذا أفعل؟ كيف أُعين؟
بلهفةٍ تسأل:
بلا سلاحٍ أنا، بلا قلبٍ أصبحتُ، فبِمَ أقاوم؟
يعطيها مسدّساً وبضعَ طلقات ...
ـ اذهب إلى الجهة الشرقية، وقاوم هناك.
تركضُ مسرعةً، تبتعد، تقفُ برهةً لتلتقط أنفاس الدّخان ...
ينكشفُ لثامها عن أنوثة، وتجلس لا تدري أن الصيّاد يراقبُ من خلف الشجرة.
يبحثُ عن غنيمة ... نساء يريد ... فقط نساء!
التجارةُ عنده مربحةٌ، وجيوبهُ امتلأت دنساً ومرارةً تتقاطر من عيون الشّوارعِ السوداء التي شهدتْ اختطاف العفّة والمروءة.
جرائمُ ترتكبُ في وضح الحقيقة، على مرأى من ملأ ماتت فيهم الروح، بعد أن سادت الحرب فأحرقت كلّ مكان.
تُدركُ بلمحةِ عينٍ مغزاه.
باعد بين الحركتين
يقتربُ وفرحٌ آثمٌ يغمرهُ.
ـ ما اسمكِ؟
وبعزّة:
ـ اسمي شيماء.
ـ من أين أتيتِ؟
ـ من الفلوجة.
ـ لا بدّ وأنك بلا مأوى، تعالي ... سأضمّك إلى بعض الصديقات!
ـ لا حاجةَ لي بكَ، فاغرب عن وجهي أيها النجس.
بنتُ الفلوجة ترفعُ سلاحاً، تصوّبهُ بلا رحمة! يبتسمُ ساخراً من اضطراب اليدين، وتطلقها رصاصة ألم، تحمّلها مرارة البداية، وألم النهاية.
كانوا هناكَ خلف الجدرانِ يراقبونَ ويسمعون.
سمعوا الطلقة فأسرعوا نحوها مسلّحين، حاقدين.
توحّدت مع الهواء فطارت كورقة خريفيّة ...
واجهت نخلةً شمّاء ...
كم تشبهها بالشموخ والشعرِ الغجريّ!
احتمت بها، وقالت: أنا شيماء.
أغمضت عيناها تنادي: الله أكبر ... أخيراً تحررت.
وتنطلقُ قذيفة محمومةٌ تحيلها والنّخلة إلى أشلاء.(231/14)
العراق: الضرورات التي تبيح المحظورات
ربيع الحافظ (*)
حقوق تقتضي الذود عنها، ومفاهيم ينبغي الوقوف عندها، ومحظورات لا ينبغي تجاوزها، ولكن يبقى لكل محظور ضرورات تبيحه.
لنتوقف أمام مكونات الصورة التالية القائمة في العراق، ثم نستأنف الموضوع:
احتلال أجنبي/ تحالف بين الاحتلال والطوابير الطائفية المحلية/ حكومة تتشكل من ميليشيات الطوابير/ تهميش الكتلة السياسية الكبرى وهم العرب السنة (42% حسب الانتخابات) / حرب أهلية غير متكافئة/ محاصرة الدولة للمدن السنية/ فِرَق موت بإشراف وزارة الداخلية/ تطهير عرقي وطائفي تحت عيون الدولة/ انتخابات مزورة/ دستور يقنن تقسيم البلاد/ رفض العَلَم العراقي/ فدرالية إقليمية تتجاوز العاصمة/ اتفاقيات لصالح الشركات «المفضلة» / تصفية علماء السُّنَّة ونخبهم وعسكرييهم/ مصادرة المساجد وقتل الأئمة والمصلين/ خطف النساء/ حملات إعلامية وثقافية واقتصادية بتمويل إيراني/ انتشار المخابرات الإيرانية في المدن/ هيمنة إيرانية على الحوزة الشيعية العربية/ شيوع اللغة والعملة الفارسية في المدن الجنوبية/ زخم شعوبي لشيعة عراقيين من أصول هندية وفارسية/ دور إيراني مستقبلي في العراق/ إغلاق المناطق الكردية في وجه العرب/ إيقاف تدريس اللغة العربية في المناطق الكردية ... والقائمة تطول.
السؤال: كم أبقت هذه الصورة من معاني الوطن والمواطنة؟ وماذا بمقدور السياسي فعله في مناخ كهذا المناخ؟
صادفت أحد الأصدقاء، وهو كاتب ومحلل سياسي، فسألته عن سبب احتجابه عن الكتابة، فرد بالقول: هذا زمان عندما ينطق فيه القلم تردُّ الرصاصةُ، ومقارعة الحجة بالحجة فيه وسيلة لا توصل إلى غاية. ذكَّرني قوله بحديث آخر، وهو أن الشعوب عندما تُهَدَّد في وجودها، فإنها تبحث لا عمن يثبت مظلوميتها أمام محافل حقوق الإنسان، وإنما عمن يحقق لها الأمان على الأرض، ويتراجع في هذه الحقب الأداء الفكري لصالح «الأداء العضلي» . هذه حقيقة، وهي تفسر جانباً من أسباب بقاء الشعوب العربية حقباً طويلة تحت حكم المماليك ومن بعدهم العثمانيون التي توصف بأنها حقب عسكرية.
لم تكن «الحقب العسكرية» في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية حقب عطاء ثقافي، لكنها حفظت الأنفس وصانت الدين أمام أعاصير ثقافية ومذهبية وشعوبية عصفت بشعوب الحضارة. وتكررت خلال هذه الحقب مشاهد الانتشال السياسي للعرب على أيدي الشعوب غير العربية في منظومة الحضارة العربية الإسلامية، بل إن امتدادها هو الأطول في السلم الزمني للحضارة، وكان آخر فصولها رفض الأتراك العثمانيين بيع فلسطين، لتضيع في حقبة المسار القومي العربي الوريث.
وبلغة العصر: يمكننا أن نقول: هامش الخيارات أمام العرب السنَّة كان ضيقاً، وانحصر الاختيار بين البقاء على قيد الحياة السياسية، ولكن في مقعد خلفي، أو الاختفاء من الخريطة، فاختاروا الحياة.
عنصر آخر يضاف إلى مكونات الصورة السابقة، وهو أن سُنَّة العراق المحاصرين في الداخل، لا يجدون عند «دول الطوق» العربية رغبة في إلقاء أطواق النجاة إليهم، أو مصلحة في إعادة خلط الأوراق لمصالحهم.
يبدو أن البر التركي هو الأقرب والمنظور من على متن سفينة أهل السنة المتعبة، ويذكر العالم أن هذا البر، وفي ذروة الإعداد لحرب أمريكا على العراق، وتقسيم بوش لأمم الأرض إلى فسطاطين: «معنا أو ضدنا» ، وتسابق الأمم إلى فسطاط «معنا» كان قد منع نزول الجيش الأمريكي على رماله، ورفض أن يكون معبراً إلى غزو العراق، مثلما كانت مياه إيران وسماؤها التي تحولت إلى معبر للقلاع الطائرة (ب 52) الأمريكية القادمة من قواعد المحيط الهندي والذاهبة لإنزال الدمار فوق العراق.
دنو السفينة المتعبة من هذه الشواطئ والرسو في مياهها يبدو أسهل مما هو عليه واقع الحال.
لندع البحر ونعود إلى اليابسة، هناك نجد أن حقبة الدولة العربية المعاصرة التي انهارت في 9 نيسان 2003 كانت فاصلاً زمنياً طويلاً بين حقبتين من سجال مذهبي ذي امتدادات سياسية دولية على أرض العراق، كان قطباه الدولة العثمانية وإيران الصفوية، وكان قيام الدولة المعاصرة نهاية للحقبة الأولى وبداية لهدنة غير معلنة، وجاء سقوطها في 9 نيسان 2003 استئنافاً للسجال.
ما ميز فترة الهدنة غير المعلنة هو غياب الحضور العثماني عن العراق بجميع أشكاله، وخروج العراق والعرب ـ الذين شاركوا العثمانيين نظامهم السياسي أربعة قرون من جدول أعمال الدولة التركية الوريثة، وتبني هذه الدولة للقومية الطورانية، وتخليها عن أدوار الدولة الإقليمية الكبرى، واكتفائها بشؤون الأقليات التركمانية.
على الجانب الآخر من الحدود، أوجدت أدبيات الدولة القومية جُدر فصل ثقافي شاهقة على امتداد الحدود، اعتبرت الحقبة العثمانية حقبة احتلال أجنبي، لينشأ طور من الصراع الأيديولوجي بين شركاء الأمس.
في المقابل، لم يكن على امتداد حدود العراق مع إيران موانع ثقافية بين الفرس والشيعة العرب، ولم تمر الشراكة الشيعية (الفارسية ـ العربية) التاريخية في فترة انقطاع خلال حقبة الدولة الحديثة، التي واصل الشريك الفارسي حضوره في العراق فيها بأشكاله الكاملة: البشرية والفقهية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وظلت إيران على الدوام الرقم الحاضر الغائب في المعادلة الداخلية العراقية، والعمق الاستراتيجي والروحي المهيمن على الحوزة، حتى لحظة سقوط بغداد، وهو حضور طوّر الخلاف المحلي السني الشيعي، واختزل فرص الوفاق.
مما أعان على الحضور الإيراني هو حذر الأنظمة السياسية الإيرانية المتعاقبة الدائم من الزعامات العراقية العربية، السنية بشكل خاص، باعتبارهم عصب الجيش والمصدر التقليدي للانقلابات العسكرية، فكان التغاضي ـ بل تفضيل ـ العنصر الفارسي في الحوزة الشيعية العربية ومرافق أخرى في الدولة، ولم يخرج صدام نفسه عن هذه الحسابات بالكلية، حتى أثناء الحرب مع إيران، وكان أول اصطدام لحكومة البعثيين مع المؤسسة الدينية في مطلع السبعينيات ضد أهل السنة وليس الشيعة كما هو شائع وهماً.
يمكن القول: إن 9 نيسان 2003 كان عودة للسجال، لكنها عودة أحادية القطب هذه المرة، وفي مناخات مختلفة من التركة الثقافية للدولة المدنية (بالنسبة لأهل السنة) ، حيث لا ميليشيات للدفاع عن الذات، ولا مصادر تمويل ذاتية، ولا ثقافة سوى ثقافة المدرسة، ولا مؤسسات خدمية بموازاة مؤسسات الدولة، لذا كان أهل السنة هدفاً رخواً وصيداً سهلاً لإيران والميليشيات العاملة تحت إمرتها التي تتمتع بنظام مؤسساتي شامل وعالي الإعداد بموازاة مؤسسات الدولة، وكان 9 نيسان بحق محطة تاريخية هامة في التقويم الصفوي، ختمت بها إيران فصلاً مهماً من سجالها الطويل مع محيط الأغلبية من حولها.
أحاديث الماضي العثماني هذه كانت، وحتى عقدين ماضيين، غزْلاً على نول الماضي العربي في فردوس الأندلس الضائع، وشأناً من أدبيات المدرسة الإسلامية، التي يفترض أن عصر الدولة القومية تجاوزها. لكن التدهور الذي يعيشه النظام السياسي العربي، والتسيب السياسي الإقليمي، وانفراد العولمة الأمريكية بدُوله، الواحدة تلو الأخرى، استفز القناعات الفكرية في الطيف السياسي العربي، ودفع هذا المفهوم باتجاه مساحات جديدة من الطيف، لم تُستثنَ منها النخب القومية التي كانت حتى الأمس القريب تفك «الوثاق التركي» عن المعصم العربي.
ليس من المبالغة القول: إن حالة من البحث عن انتماء إقليمي يعيد للمنطقة تماسكها تجتاح الطيف السياسي العربي، في مواجهة واقع التردي الإقليمي، وحجم التدمير الذي يمكن أن تلحقه قوة خارجية بالمنطقة بأسرها، كما وقع في العراق.
يقول محمد حسنين هيكل في هذا السياق: «باتت تركيا ودولة الصهاينة الدولتين الوحيدتين المؤهلتين سياسياً لتزعم المنطقة، إذا تأخر أحدهما ظفر الآخر. وبالرفض الطبيعي للمرشح الصهيوني تبقى تركيا المؤهلة لزعامة المنطقة واستئناف أدوار تاريخية في حفظ التوازن السياسي الإقليمي» .
سيكون من السذاجة بمكان توقع استدارة تركية مفاجئة بمقدار 180 درجة باتجاه جوارها الجنوبي. في المقابل، فإن الـ «لا» الأوروبية الأخيرة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، هي في تقدير الكثيرين مجرد مسألة وقت، ولن تكون الـ «لا» المنتظرة هي اللحظة التي ستشرع فيها تركيا في البحث عن بدائل جديدة، وإنما لحظة اعتماد البدائل الجاهزة التي لا بد أنها منكبة عليها منذ الآن وتهيئ لها الأوراق.
في الوقت نفسه، فإنه ليس من قبيل السباحة في الخيال توقّع أن تضع موازنات السياسة الدولية بين يدي تركيا ونسختها من «الإسلام السياسي المعتدل» ، ومذهبها السني، أوراقاً مهمة في العالم العربي الإسلامي ذي الغالبية السنية الساحقة، والذي يشكل الفراغ السياسي فيه مصدر صداعات أمنية وسياسية متصاعدة للعالم الغربي.
المتابع للمشهد يلحظ مؤشرات متتالية، وتوطئة لأدوار تركية محتملة قادمة، لعل أحدثها استباق أنقرة الآخرين، وإعلانها المبكر عن رغبة في إرسال جيشها إلى الجنوب اللبناني، الذي هو منطقة نفوذ المحور الإيراني ـ السوري، وإعلانها مؤخراً عن أن تقسيم العراق ليس شأناً محلياً، ووساطتها في الشأن الفلسطيني، بل وتشاور الفلسطينيين معها في أكثر من مرة.
الحديث عن عودة دور إقليمي تركي في المنطقة العربية يقبل به العرب ـ ناهيك عن استدعائهم له ـ كان وحتى 9 نيسان 2003 أقرب إلى استغراقات البحوث الأكاديمية منه إلى الواقع.
لكن مستجدات كبيرة أخرجت هذه الأحاديث من الأروقة الأكاديمية إلى الورشات العملية، منها:
1 ـ إقليمية: الهزة الإقليمية العنيفة التي أحدثها احتلال العراق، في منطقة هشاشة سياسية، في وقت تنهمك فيه الشعوب الأخرى في عملية إعادة اصطفاف وبناء تكتلات إقليمية بإمكانها قول «لا» (كما في أمريكا اللاتينية) ، هذه الهزة وجهت لكمة قاسية للأداء الأمني المحلي والإقليمي للدولة القُطرية، وقدرتها على الصمود منفردة في وجه مشروع إقليمي عبثي بحجم مشروع الشرق الأوسط الجديد.
2 ـ محلية: نشوء محاور قوى بين أقليات المنطقة ودول خارجية على حساب مصالح الأغلبية السياسية التاريخية فيها، كتحالف القطاعات الشيعية الرئيسية في العراق مع إيران وأمريكا، واستقوائها على شركاء الوطن من السنَّة، الذي عُدّ انسحاباً من العقد الوطني بأوضح أشكاله، وإعذاراً للطرف المعتدى عليه للانصراف نحو استراتيجيته، والبحث عن عمقه التاريخي الطبيعي وروابطه الثقافية، وهي أدوار كان السنة قد رضوا بحذفها من العقول والمناهج عند تأسيس الدولة الحديثة، لصالح صورة من التوفيق (أو الترقيع) الثقافي مع الأقليات الذي سمي (الثقافة الوطنية) وأحرقوا بذلك جسور العودة إلى عمقهم الإقليمي الطبيعي، مما أوقعهم في تناقضات فكرية لصالح مشروع ثبت لهم اليوم أنه كان قصير النظر.
(يمكن إدراج نظام الأقلية النصيرية في سورية في سياق الدور التقويضي المحلي والإقليمي، الذي فتح أبواب سورية العربية السنية على مصراعيها أمام غزو فارسي استيطاني، وحملات تشييع طائفية منظمة، في بلد لا يتجاوز الشيعة فيه نسبة 1%، وتساهل أمام نشر اللغة الفارسية، ورهن اقتصاد البلاد وأمنها وسياستها للدولة الإيرانية، وفعَل الشيء ذاته في لبنان إبان احتلاله له. ويندرج تحته التحركات الطائفية في مصر المدعومة من إيران، التي أعلن علماء ومثقفو مصر عن تذمرهم منها وتجاوزها لحدود الاختلافات المذهبية) .
نزول القطاعات الشيعية العراقية الرئيسية في «المستنقع الصفوي» ، (مصطلح المفكر الإيراني علي شريعتي للتعبير عن سياسة تأليب القوى الأجنبية على الجوار عند الصفويين) ، مَثَّل تدويلاً للجانب السياسي من الخلاف بين الشيعة والسنة، الذي هو أقرب إلى حالة التظلم المحلي، التي لن تستعصي على الحل في مناخ متبادل من الجدية والصدق.
مما أصبح مسلَّماً به لدى الطيف السياسي العربي من أقصاه إلى أقصاه، أمام المعطيات الآنفة الذكر، وتسارع إيقاع الأحداث، أن الجسد السياسي العربي الكسيح بحاجة إلى عمود فقري سليم يمكّنه من النهوض، وإلى عوامل ثقة تمنح صاحبه الشجاعة وتدفعه لإجراء العملية، مثلما كانت ألمانيا العمود الفقري لمنطقة وسط وغرب أوروبا (الاتحاد الأوروبي حالياً) ، وكان اقتصادها المتين هو المفهوم الإقليمي الذي أحدث أولى الثغرات في الجُدُر القومية العازلة بين شعوب أوروبا، لتتوالى الثغرات وتتسارع وتتعدد أشكالها.
ليس في المنطقة اليوم ـ كما مر ـ سوى مرشحين اثنين لزعامتها، إذا تأخر أحدهما ظفر الآخر، ولا زال العرب أمام تركة تسعة عقود من الجدر العازلة مع المرشح الطبيعي، وأمام بناء المفاهيم التي ستفتح الثغور الأولى في الجدر العازلة.
كان أروع ما أقدم عليه عقلاء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، التصميم على إيجاد تكتل سياسي بين شعوب القارة المنهكة، وإخفاء النُّدَب الثقافية والمذهبية التي تعلو وجه القارة، وتوفير أسباب الحياة للتكتل المنشود، فالتفوا على التاريخ الدامي بالاقتصاد الواعد.
ليس من المصادفات أن ينجح تكتل سياسي على فسيفساء كأوروبا، وبين شعوب لم تعرف حقبة سلام متواصل بينها أكثر من ستين عاماً. لقد أعاد الأوروبيون تعريف مفاهيمهم، وبالغوا في ذلك، واعتبروا ضرورات المصلحة العامة مسوغاً لتجاوز المحظورات، وإن اصطدمت بثوابت الديمقراطية والسيادة، وهو ما فعله الاتحاد الأوروبي عندما حاصر النمسا، بعد فوز حزبها اليميني في الانتخابات، بزعامة رئيسه ذي الذيول النازية، وإرغامه على التنحي والتواري السياسي، وحدث ما أراده الاتحاد؛ إذ لا حرية مطلقة أو شعارات شاذة للدولة أو الشعب ضمن الكتلة الإقليمية، مثلما أنه لا حرية مطلقة للفرد ضمن الوطن.
ü التحالف المشبوه مع المحتلين:
يجدر في هذا السياق التذكير بأن الأحزاب الشيعية المتحالفة مع المحتل الأمريكي، كانت قد أعادت لنفسها ولجماهيرها تعريف مفاهيم الاستقلال والسيادة والمقاومة، من منظور يستقيم مع اعتباراتها التاريخية والمذهبية وحساباتها المستقبلية.
شعوبنا، وفي أجواء الهشاشة الإقليمية القائمة، بحاجة حقيقية إلى إعادة تعريف مفاهيم السيادة والاستقلال فيما بينها، على أسس من التاريخ والدين والحضارة المشتركة يحقق لها اصطفافاً جديداً، تفتح الطريق أمام عوامل تعاضد مقيدة الآن، وتمنح شعوب المنطقة شخصية جديدة ذات مدلولات واضحة.
إن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ليست مهمة مستحيلة على الدوام، فقد حُمِلت شعوبنا عليها (أي إعادة صياغة الشخصية) قبل مئة عام فقط، وفي الاتجاه المعاكس لـ 14 قرناً كاملاً من النسق التاريخي والسياسي. لم تكن مهمة منظري القومية العربية المشرفين على المشروع يومئذ نزهة فكرية، لكنهم وصلوا إلى نتائج مهمة نعاينها ونعاني منها اليوم.
فزع شعوب المنطقة من المتغيرات السياسية الجارية والقادمة هو قاسمها المشترك اليوم، وهو سر تماسك الأمم، الذي إذا لم يكن موجوداً أوجدته، وما القرن الواحد والعشرين الأمريكي، والحرب على الإرهاب، وترحيب الشعوب بإهدار أموالها لصالح الحروب، إلا ظواهر لمؤسسات قائمة على قاعدة الفزع، وإن كان زائفاً.
المساس بعقارب الساعة هو أكثر واقعية اليوم من أي وقت مضى، يؤيده في ذلك استعداد النفوس ـ أو شوقها ـ لمعرفة الاتجاه الذي كانت عليه العقارب قبل حقبة التيه هذه، وتدفع باتجاه ذلك مجريات الأحداث.
في هذا السياق لا زال أهل السنة ورغم إدراكهم الجيد لأبعاد الاحتلال، يُخضِعون مواقفهم إلى مفاهيم تجاوزتها الأحداث وأسقطها الآخرون، ويقطعون الطريق دون عمد أمام مجريات سُنَّة التدافع بين الأمم، التي تعيد التوازنات السياسية وتخدم الحاجة الراهنة، ولولاها لهُدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً.
من الراجح اليوم، وبعد ما يزيد عن ثلاثة أعوام من حمامات الدم الصفوية المتوقعة سلفاً، أن رفض المقاومة لدخول مبكر للجيش التركي، واعتباره احتلالاً أجنبياً يجب محاربته أسوة بالقوات الغازية قد سجل تراجعاً اليوم، إن لم يكن عند النخب؛ فعند الناس العاديين، الذين يأخذون بالاعتبار الأدوار المفصلية التي كان يمكن أن يقوم بها الجيش التركي في حماية المدن والأحياء والحرمات السنية المستباحة من الميليشيات الشيعية والإيرانية، وفي تأثيره على الموازنات السياسية التي تتصرف بها المخابرات الإيرانية، وتعطيله للمشاريع الانفصالية.
رغم الانسحابين الواضحين الشيعي والكردي من العقد الوطني، وامتداداتهما الخارجية، لا زال أهل السنة يتحركون بأوراق محلية فقط، وتثنيهم مفاهيم يكفر بها «شركاء الوطن» صباح مساء عن قرارات مصيرية.
مفاهيم أهل السنة في المقاومة والاستقلال والسيادة والهوية، أمور لا تلبيها الأوراق التي بين أيديهم. الخطورة هي أنّ تعذُّر التلبية يعني شيئاً واحداً: تعاظم فرص المشروع الصفوي في العراق، وإنجاز أجندته على وجهه الأكمل من دون ثلمة. (وبالمفهوم نفسه، فإن مطالب شعوب المنطقة، لا تلبيها الأوراق المتاحة لدولها كل على انفراد) .
مرة أخرى: هامش الخيارات أمام أهل السنة العرب ضيق، ومستقبلهم السياسي ينتظر قرار الحسم.
ومن غير المفترض أن تستفز الاستراتيجية الإقليمية للأغلبية السياسية في المنطقة الأقلية «المنتصرة» في هذه الجولة؛ فقد كان لهذه الأقلية السبق في تفعيل «ضروراتها» التاريخية والمذهبية الخاصة بها، التي أباحت انتهاك محظورات الدين والحضارة والوطن والعروبة، لتلتقي مع ضرورات إمبراطورية مارقة اسمها أمريكا، انتهكت المحظورات الدولية وغزت دولة مستقلة، لينشأ «العراق الجديد» ومن بعده الشرق الأوسط الجديد.
نظرة سريعة إلى محطات الحضارة العربية الإسلامية، تظهر أن اقتحام دولة بحجم وثقافة أمريكا قلبَ العالم الإسلامي ومعقل حضارته، يشكل محطة كبرى تبعد عن أقرب مثيلاتها قروناً من الزمن، وأن المناخ السياسي والثقافي الراهن يفصله عن مناخات الانقلاب السياسي في تاريخ الحضارة جهد غير يسير، ومع ذلك فهذه هي خصائص النهضة في هذه الحضارة، التي لا تأتي إلا مسبوقة بتعافٍ ثقافي وسياسي.
ونظرة سريعة إلى سنن الأمم والشعوب، تظهر أنه ما من كتلة من غير مركز ثقل، ولا حضارة من دون طيف ذي مقومات أكبر وصلاحيات أوسع، ولا معتقد إلا وفيه مدرسة هي الأقرب إلى فطرة الإنسان أو أواسط الأمور، وجميعهم يؤدي دور القاطرة، ويشكل موضع الزخم؛ فالأمم كالأفراد في سلوكها، تبحث عن القوي وتلتف حول من يمنحها الاطمئنان.
الحضارات لا تقودها الأقليات، وإنما تتسع للأقليات وخصوصياتها، وحقها على الأقليات أن تحترم مفاهيمها فتكون جزءاً من كيانها، وهي أقلية فكر ومذهب، لا أقلية عدد وعرق، وإذا كانت اتفاقية سايكس ـ بيكو قد جزأت رقعة الحضارة، وجعلت من الأقليات أكثريات عددية هنا وهناك، فإن المفاهيم لا تتجزأ كلما تجزأت الجغرافيا وتبدلت الحدود.
ليست الأغلبية التاريخية في وارد إعادة تعريف مفهوم الأقلية والأكثرية، على أسس سايكس ـ بيكو، أو الشرق الأوسط الجديد، وإنما هي في وارد إحياء وتصويب المفاهيم، وإعادة الأمور إلى نصابها، بعدما طفح الكيل، وحل الصغار محل الكبار.
صحيح أن الناس استفاقوا على ثغرات فكرية ومذهبية سهلة، ولج منها المحتل وشركاؤه المحليون، لكن الثغرات لا تزال مكشوفة من الناحية الميدانية، ولا تزال سالكة أمام الاحتلال ولا سيما في طوره المدني المسمى (حكومة وطنية) .
إن التسليم بحتمية إعادة الاصطفاف السياسي والإصلاح الثقافي، وسد الثغرات، هو مبعث الأمل والتفاؤل الوحيد في هذه المعركة ـ بعد الله عز وجل ـ وإن بدا بطيئاً، وهو الظهير السياسي الذي تحتاجه كل مقاومة مسلحة في أشواطها الميدانية المتقدمة.
وعلى العكس، فإن الاعتقاد بوجود حلول سريعة لحدث بهذا العمق هو خروج على سنن التاريخ، ومواجهة للخصم بظهر مكشوف، وتفعيل من جديد لدور الثغرات المكشوفة، وهو التثبيط عينه، وليس هذا تعارضاً مع الحاجة إلى الوسائل الآنية والموضعية على طريق الحلول الدائمة.
مرة أخرى، لقد صاغت أوروبا لشعوبها شخصية جديدة ومفاهيم تنسجم مع تحديات القارة، ورصدت لذلك علماء اجتماع، ولم يكن من قبيل العبث إطلاق اسم الشخصية الجديدة على العملة النقدية الأوروبية. إنها ضرورات إجرائية لقرارات حتمية.
الفارق الإيجابي هو أن الشخصية الأوروبية مصطنعة، مادتها الاقتصاد، ومنشؤها السوق، ومن صنيع الحكومات الذي يتعارض بالأصل مع رغبات الشعوب الأوروبية. وشخصيتنا طبيعية، مادتها الإسلام والعروبة، ومنشؤها الحضارة، وشريان حياتها فصول التاريخ، وهي من صنيع الشعوب الذي تعترض النظم السياسية طريقه.
مهمتنا أقل مشقة من مهمة الأوروبيين، وهي في حكم المنجَز الذي لا يعوزه سوى المصادقة السياسية ليكون نمط حياة.
ستبقى منطقتنا بحاجة إلى مفاهيم تنقل التماسك القائم بين شعوبها من صوره العاطفية العفوية في شوارع إستانبول ودمشق وعمان وبيروت والقاهرة، إلى صيغة أيديولوجية منهجية في أروقة السياسة، وتفعّل جهاز المناعة الإقليمي الذي يقيها آثار الصدمات العنيفة، ويملأ الفراغ السياسي والأمني في رقعتها المهمة، ويؤهلها لنادي الكبار.
__________
(*) كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.(231/15)
ماذا يُراد بمسلمي جُزر القمُر؟
محمد البشير أحمد موسى
ü مدخل للموقع الاستراتيجي ومطامع الأعداء.
جزر القُمُر دولة إسلامية «سنية» ، تقع عند مضيق موزمبيق بين مدغشقر والساحل الإفريقي، وتبلغ مساحتها نحو (2236 كم2) ، وتتكون من أربع جزر، إلا أن الجزيرة الرابعة (مايوت) ما زالت محتلة من قِبَل الفرنسيين، وإن كان القُمُريون يحنَّون إليها، فيضعون النجمة الرابعة في علمهم لتظلَّ عالقة في أذهان الأجيال القادمة بأن هذه الجزيرة ما زالت مغتصَبة من قِبَل المستعمرين.
فرضت فرنسا سيطرتها على جزيرة مايوت عام 1843م، ثم احتلت جزيرة موهيلي عام 1886م، وأصبحت الجزر الأربع عام 1912م مستعمرات فرنسية. واحتلت بريطانيا هذه الجزر ولمدة وجيزة أثناء الحرب العالمية الثانية، واتخذت منها قاعدة عسكرية في المحيط الهندي، وما إن انتهت الحرب العالمية ووفقاً للاتفاقيات التي تمت بين فرنسا وبريطانيا لتقسيم العالم الإسلامي أو تركة «الرجل المريض» حتى أضحت هذه الجزر من نصيب فرنسا.
وفي عام 1958م وهو العام الذي أعلن فيه «ديجول» عن إجراء استفتاء في جميع مستعمرات فرنسا وبخاصة في القارة الأفريقية للاختيار بين الاستقلال أو البقاء ضمن المجموعة الفرنسية، اختارت جزر القُمُر الخيار الثاني وهو البقاء ضمن المجموعة الفرنسية مع حكم ذاتي. ولكن هذا القرار لم يكن مطلب جميع القُمُريين وإنما لفئة معينة، فبدأت موجة الاضطرابات تدريجياً في الداخل منذ عام 1963م، واتخذت فرنسا حيال هذه الموجة أساليبها المعتادة من قتل وتشريد وحبس وغيرها من الأساليب الوحشية تجاه شعب أعزل عرف في تاريخه الطويل بالطيبة وحسن التعامل مع الآخرين! واعتمدت فرنسا سياسة عدم استقرار هذه الجزر بحبك المؤامرات الداخلية والخارجية عليها، من قِبَل عملائها في المنطقة وعلى رأسهم «بوب دينار» ، الذي كان يشكل مع باقي زمرته أكبر العصابات الإجرامية في القارة كلها؛ حيث سفكوا دماء الكثيرين من أبناء القارة بأدوارهم الخبيثة.
ولم تكن جزر القُمُر بدعاً من دول القارة؛ فقد قام العميل «المشهور» بمعظم الانقلابات وزرع بوادر فتنة انفصال بعض الجزر عن الاتحاد الحالي بإيجاد مبدأ «فرق تسد» بين أبناء هذه الجُزر، ورفع شعارات بأن حقوق بعض الجزر مهضومة من قِبَل الجزيرة الكبرى (مع أن الواقع أن فرنسا هي التي أفقرت هذه الجزر وما زالت إلى هذا اليوم تنهب من خيراتها، وهي التي أوصلت جزر القُمُر إلى الحالة التي لا تُحسَد عليها) ، فألقوا باللائمة على جزيرة قُمُر الكبرى مما تسبب في العمليات الانفصالية التي شهدتها جزر القُمُر في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وقد ظهر هذا الدور الفرنسي عبر عملائها جلياً من خلال الشعارات المرفوعة آنذاك من المنشقين أو الانفصاليين: «الفرانكفونيين» !
وقد توصل الفرقاء إلى اتفاق، فحلت المسألة آنياً، وقُدّم بوب دينار إلى محاكمة صورية أجاد الفرنسيون تمثيلها وغاب المذكور عن جلساتها فحوكم غيابياً لمرضه المزعوم؛ وذلك في التاسع من مارس 2006م مع 26 مرتزقاً من أتباعه، وانحصرت المحاكمة فقط في قضية محاولة الانقلاب على الرئيس السابق سعيد محمد جوهر في عام 1995م، ولم يحاكم على باقي جرائمه سواء في جزر القُمُر أو غيرها من المناطق في القارة وعلى رأسها دولة زائير؛ علماً أنه في جزر القُمُر وحدها كان هو المنفذ الحقيقي لحوالي عشرين محاولة انقلابية، ابتداء من عام 1975م.
ومن خلال الدور الذي تقوم به فرنسا في هذه الجزيرة وما أسفر عنه من انتهاك لحقوق الإنسان القُمُري، طالبت (منظمة الوحدة الأفريقية) من المجتمع الدولي وعلى رأسه الأمم المتحدة في عام 1972م باستقلال هذه الجزر عن فرنسا، ولهذه التحركات السياسية من جانب منظمة الوحدة الأفريقية اضطرت فرنسا في 15/6/1973م إلى توقيع معاهدة استقلال الجزر في غضون خمسة أعوام بعد أن يجري استفتاء عام. ومن خلال ما اتخذته فرنسا من تدابير احترازية في الحفاظ على أهم الجزر وهي جزيرة «مايوت» ، فقد وافق 96% من سكان الجزر على الاستقلال، في حين وافق 74% من سكان جزيرة مايوت على البقاء تحت الحماية الفرنسية، ويشكل المرتزقة الأوروبيون القدر الأعلى من هذه النسبة، وهكذا وفي 6 يوليو عام 1975م تم استقلال الجزر الثلاث عن فرنسا.
ولِمَا تشكله دولة جزر القُمُر من أهمية استراتيجية لموقعها الاستراتيجي والتي يمر من خلالها النفط الإسلامي متجهاً إلى الدول الغربية، وكرابط أيضاً بين دول الجنوب الأفريقي مع دول الجنوب الآسيوي. هذه الأهمية جعلتها هدفاً لدول كثيرة من الدول الغربية ابتداءً من البرتغال (1502م) ، ومروراً ببريطانيا وفرنسا والتي ما زالت تسيطر على جزيرة «مايوت» الاستراتيجية منذ عام (1843م) ، حيث جعلت منها مصدر قلق وعدم استقرار لباقي الجزر التي تشكل الاتحاد القُمُري، وكقاعدة تنصيرية أيضاً في الجنوب الشرقي للقارة الأفريقية، تتحرك منها قوافل المنصِّرين إلى المناطق المجاورة كمدغشقر، بالإضافة إلى كونها قاعدة عسكرية وتجارية تصدر عبرها إلى فرنسا كل المنتجات القُمُرية، والتي تُصَدَّر بدورها إلى العالم باعتبار أنها صناعات فرنسية خالصة، وخاصة العطورات الباريسية الشهيرة.
ومع أنه قد صدرت عدة قرارات أممية بحق جزر القُمُر باسترجاع هذه الجزيرة، ومنها القرار (3385) في الدورة (30) في 12 نوفمبر 1975م، والخاص بقبول دولة جزر القُمُر بجزرها الأربع في المنظمة الدولية الأمم المتحدة، بالإضافة إلى القرارات الصادرة عن منظمة الوحدة الأفريقية؛ إلا أن تلك القرارات لم تجد تطبيقاً على أرض الواقع؛ لأن القرارات الصادرة من هذا المجلس لا تطبق إلا على الدول المستضعفة، أما أعضاؤها فهم فوق القانون.
هذه الأهمية الاستراتيجية لهذه الجزر وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ووسط تصاعد وبروز النفوذ الأمريكي في المنطقة والصراع الدائر حول الممتلكات الفرنسية السابقة في القارة، بدأت الولايات المتحدة السير قدماً في إيجاد موطئ قدم لها في هذه الجزيرة كحلقة من حلقات التآمر الدولي التي مرت بها هذه الجزر. وكخطوة أولية بدأت أمريكا بالجوانب الاقتصادية كمشروع تنمية السياحة في هذه الجزر، ووجود أحد أبناء جزر القُمُر ضمن قائمة المتهمين من قِبَل السلطات الأمريكية في الاعتداءات على سفارتيها في شرق أفريقيا، اعتبر فرصة قوية لها في السعي إلى السيطرة على هذه المنطقة بحجة محاربة الإرهاب، وإن كان الدور الأمريكي يمر الآن بمرحلة الهدوء الذي تعقبه العاصفة.
ü الانتخابات القمُرية والتحالف المشبوه:
وسط هذه الأهمية الاستراتيجية لهذه الجزر عُقدت الانتخابات الدورية الرئاسية، ووفقاً لاتفاقية انتقال السلطة بين الجزر الثلاث، بعد الأحداث الدامية التي مرت بالجزيرة عند مطالبة جزيرتي «أنجوان وموهيلي» بالانفصال عن الاتحاد القُمُري والانضمام إلى فرنسا، توصل الفرقاء إلى حل بأن تكون الرئاسة متنقلة بين الجزر الثلاث وهي (القمر الكبرى وفيها العاصمة الاتحادية مدينة موروني، وجزيرة أنجوان، وجزيرة موهيلي) وذلك في «20 ديسمبر 2003» . وأجريت انتخابات للجمعية الاتحادية وكذلك للجمعيات الإقليمية في عام 2004م، وتم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في يوليو 2004م، والتي ترأسها الرئيس السابق عثمان غزالي وهو من جزيرة القُمُر الكبرى. ووفقاً لهذه الاتفاقية فإنَّ الانتخابات الأخيرة والتي جرت في يوم 14 مايو 2006م، كانت منحصرة في جزيرة «أنجوان» لأن الرئيس القادم للبلاد من نصيب هذه الجزيرة.
ومع وجود تحفظات من قِبَل الاتحاد الأفريقي على بعض البنود الواردة في اتفاقية الصلح، والتي على أساسها أجريت الانتخابات، وخوفاً من عودة الجزيرة إلى عهد الانقلابات؛ فقد أوفد الاتحاد قوة عسكرية بقيادة جنوب إفريقيا قوامها (462) جندياً للحفاظ ـ كما قيل ـ على الأمن وسلامة ونزاهة سير الانتخابات.
خاض هذه الانتخابات ولأول مرة في تاريخ جزر القمر، المدعو (آية الله أحمد سامبي) الذي كان طالباً فاشلاً في دراسته في إحدى الدول الخليجية، ففصل من دراسته، وانتقل إلى كينيا فتلقفته المخابرات الإيرانية هناك، وتمَّ نقله إلى إيران ليُعَدَّ في «قم» كالمتبع، ويرجع إلى بلده وقد أصبح آية من الآيات الرافضية، ليبدأ خطواته التمهيدية للوصول إلى سدة الرئاسة، وهذا ما تم مع الأسف وليحمل التوجهات الإيرانية في هذه المنطقة نيابة عنهم، والتي أهلها كلهم من أهل السنة وعلى المذهب الشافعي السائد هناك، وفي مسعى من الحركة الرافضية بقيادة إيران لفرض حصار جديد على أهل السنة في المنطقة الشرقية الجنوبية من القارة الأفريقية، ولتكون احتلالاً رافضياً لأهم المناطق الاستراتيجية في القارة الأفريقية، ولتشكل هذه المجموعة الشيعية في جزر القُمُر مع باقي المجموعات الرافضية في المناطق المطلة على الساحل الأفريقي وخاصة في تنزانيا وكينيا حزاماً شيعياً على طول الحدود الشرقية للقارة، لتكون حلقة من مسلسل التآمر النصراني الرافضي لاحتلال مناطق ودول أهل السنة، وتمييع نشر الرسالة الإسلامية، وتحويل مجرى الدعوة الإسلامية الأصيلة إلى دعوة رافضية صوفية تشوه صورة الإسلام الحقيقي في هذه المنطقة الهامة من العالم الإسلامي، ولإخراج وتكوين جيل لا يفقه من أمر دينه إلا تلك الصورة المشوّهة التي يصورها له الرافضة وبعض المتصوفة لأهداف لم تعد خافية على أحد.
وقد نافس الآية القمري المزعوم على الرئاسة أربعة عشر مرشحاً. ولكن اثنين من هؤلاء وهما محمد جعفر، وحاليدي إبراهيم، من أقوى من المنافسين له ومن أكثر القيادات المقربة للتوجهات الفرنسية، ومدعومين من قِبَلها، وكان من المفترض أن يشكلا عقبة أمام التوجهات الإيرانية الرافضية والمتمثلة في أحمد سامبي، لولا وصول الطرفين «أي الفرنسي والإيراني» إلى اتفاق! وذلك أثناء زيارة السفير الفرنسي «كريستيان جوب» للمرشح الشيعي في منزله، وبعد مفاوضات سرية تم التوصل إلى اتفاق بقبول الرافضي سامبي رئيساً للبلاد في المرحلة القادمة لتشهد الجزيرة ولأول مرة في تاريخها حاكماً شيعياً.
وهكذا تمَّ حبك المؤامرة على جزر القُمُر بتحالف نصراني رافضي؛ حيث فاز أحمد سامبي بما نسبته 57.37% في المرتبة الأولى، ويليه في المرتبة الثانية حاليدي إبراهيم، حيث أحرز ما نسبته 28.54%، وجاء محمد جعفر في المرتبة الثالثة، بما نسبته 14.09% من الأصوات.
إذاً؛ فإن التحالف الفرنسي الإيراني هو للحيلولة دون اتساع المصالح الأمريكية في هذه المنطقة الحيوية، وتكوين أقلية شيعية في المنطقة لتكون شوكة في حلق الأغلبية السنية من أهل الجزيرة. علماً أن نسبة الخريجين من الجامعات العربية والإسلامية، والذين تبوؤوا مناصب عليا في الدولة في تزايد مستمر وكلهم من أهل السنة، وأن الكثيرين منهم يتقنون لغتين أو أكثر، وهذا ما يقلق السلطات الفرنسية والكنائس الغربية. وللحيلولة دون وصول أي من هؤلاء إلى سدة الحكم وتغيير الوجهة التي تسير عليها البلاد حالياً، فلا بدَّ من البحث وسط هؤلاء عمَّن باستطاعتهم أن يوجهوه الوجهة التي يريدونها، ويحافظ على مكتسباتهم في هذه المنطقة، لذا كان اختيار أحمد سامبي آية الله القمري نتيجة تلقائية كأفضل من يمثِّل المصالح الفرنسية والشيعية معاً في المرحلة القادمة من خريجي الجامعات العربية والإيرانية.
ü أهداف التحالف المشبوه في جزر القمر:
لقد كان وصول أحمد سامبي إلى سدة الرئاسة نتيجة خطة مدروسة تَمَّ إعدادها بكل عناية ودهاء ومكر بين المخابرات الإيرانية والفرنسية، لم تستغرق منهما سوى أعوام قليلة ليجنوا ثمرة مكرهم وكيدهم، وتآمرهم على الإسلام والمسلمين. ففرنسا والمنظمات النصرانية الغربية تنشط في جزيرة «مايوت» لتنصير المسلمين وبث سمومها إلى الجزر الأخرى، واستخدام كل الوسائل المتاحة من توزيع للنشرات والكتيبات النصرانية في سبيل ذلك. وأما إيران فتنشط في جزيرة «أنجوان» لتكون قاعدة للرافضة ينتقلون منها إلى الجزر الأخرى وإلى الدول المجاورة، وبخاصة في المناطق التي يجهل أهلها خطورة الرافضة على الإسلام.
إن التوجهات الرافضية في القارة الأفريقية واضحة لكل متابع للأحداث، وقد ازداد هذا الدور بعد الحملة الصليبية على المنظمات الإسلامية العاملة في القارة، وتجفيف منابع تلك المنظمات، بل وإغلاق العديد منها. وفي المقابل لم يشمل هذا الحظر وهذه الحملة النصرانية المنظمات الرافضية العاملة في القارة، وبخاصة في جزر القمر، وكيف تُجمَّد أنشطة الرافضة، وقد قال الرئيس الإيراني السابق «علي أكبر هاشمي رفسنجاني» وعلى صفحات صحيفة الشرق الأوسط في عددها (8474) يوم السبت في 26 ذي القعدة 1423هـ الموافق 9/2 / 2002م، السنة (24) ، في خطبة الجمعة في جامعة طهران: «إنّ القوات الإيرانية قاتلت طالبان، وساهمت في دحرها، وإنّه لو لم تُساعد قوّاتنا في قتال طالبان لغرق الأمريكيون في المستنقع الأفغاني. يجب على أمريكا أن تعلم أنّه لولا الجيش الإيراني ما استطاعت أمريكا أنْ تُسْقط طالبان» !
هذا تحالفهم مع النصارى في أفغانستان، أما في العراق فلا يخفى على أحد الدور الذي يؤدونه هناك! فلا غربة إذاً أن يتحالف النصارى والرافضة مرة أخرى وفي بقعة أخرى من بقاع الإسلام في جزر القُمُر لتنصيب أحد أعوانهم رئيساً، ليؤدي الدور المطلوب منه وفق الخطة الموضوعة على أكمل وجه؛ فهل نعي ذلك؟
ü المفاهيم التي يصور بها الرافضة وتأثير ذلك على الشباب المسلم:
لقد ساهم بعض قيادات العمل الإسلامي في بعض البلاد، ومن خلال الكلمات التي صدرت وما زالت تصدر منهم بالثناء والتمجيد للثورة الإيرانية الخمينية، والدعاية لها، واعتبار الخميني أحد المجددين، ودعوتهم كذلك إلى ما يسمونه بتقارب المذاهب الإسلامية، إلى القيام بالدعاية المجانية عن هذا الفكر الرافضي وسط الشباب السني في القارة، الذي يجهل خطورته، والذي يبحث وسط الأمواج المتلاطمة عن بريق أمل، وعن كل جديد لتغيير واقعه السيئ إلى واقع أفضل يكون خيار الإسلام فيه واضحاً وخاصة في القارة الأفريقية.
لقد كانت تلك التزكيات أحد الأسباب القوية لنشر هذا الفكر الضال في القارة الأفريقية، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرافضة استطاعوا اختراق بعض المؤسسات التعليمية العربية والإسلامية التي يتوافد عليها كثير من الشباب الأفريقي، وبخاصة في مصر والسودان؛ مما أوجد أرضاً خصبة وصالحة لنشر أفكارهم ومبادئهم وعقائدهم الباطلة، وسط جو طلابي متعطش لتغيير واقع بلاده السيئ، بالإضافة إلى اتخاذهم الوسائل الأخرى المعتادة بدعوة هؤلاء إلى عقيدتهم، ومتابعة من اعتنق فكرهم في دولهم بعد التخرج سواء أكان ذلك مباشرة عبر السفارة الإيرانية التي لها وجود قوي في معظم دول القارة، أو من خلال من تم تلقينه هذه العقائد في طهران، وأكبر مثال على هذه المتابعة (الحالة السامبية) في جزر القُمُر، والحالة النيجيرية والمتمثلة في المدعو «آية الله إبراهيم زكزكي» !
ü ما هي ملامح المرحلة القادمة في جزر القمر؟!
فما هي إذاً ملامح المنطقة في المرحلة القادمة بعدما تَمَّ هذا التحالف بين فرنسا والمرشح الشيعي آية الله أحمد سامبي ووصوله إلى منصب الرئاسة كأول شيعي يصل إلى هذا المنصب وهو من جزيرة «أنجوان» ؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار تنامي النفوذ الشيعي في المنطقة الإسلامية كلها، والمنقطة الأفريقية على وجه الخصوص؛ فهل سيشكل ذلك سنداً وعضداً قوياً للتوجهات الإيرانية في المنطقة الإسلامية ببسط نفوذها على أهم الممرات الاستراتيجية في المنطقة، وسط ما نشاهده ظاهرياً من شد وجذب بين إيران وأمريكا وحلفائها؟ وهل سيشكل ذلك أيضاً حداً للسيطرة السنية على مقاليد ريادة وزعامة العالم الإسلامي بإيجاد خطاب رافضي يتمثل في عدد من الدول الشيعية في العالم الإسلامي ينافس ذاك الخطاب الإسلامي الموصوف بالسنِّي؟
وما هو دور الدول العربية السنية تجاه هذا التحالف النصراني الرافضي في جزر القُمُر والهيمنة على أهم الممرات الاستراتيجية بالنسبة لهم؟! وما خطورة ذلك على «مصالحهم الخاصة» في هذه المنطقة؟!
وهل تفتح الجامعات الإسلامية أبوابها لأبناء المسلمين والتي أُغلقت في وجوههم في السنوات الأخيرة ليكونوا صيداً ثميناً في أيدي المخابرات والسفارات الإيرانية، وليصبحوا دعاة للاتجاهات المشبوهة؟
وقصة آية الله المزعوم (أحمد سابي) ناقوس يقرع في آذان الجميع؛ فهل نعي الخطر؟! والله المستعان.(231/16)
تهمة الإبادة الأمريكية: هل تدفع بالقوات الأممية إلى دارفور؟
إبراهيم الأزرق
تكثف الإدارة الأمريكية الحالية الحديث عن الإبادة الجماعية التي تحدث في دارفور.
والإبادة الجماعية من محرمات القانون الدولي منذ عام 1946م، فقد أعلنت إذ ذاك الأمم المتحدة بقرارها 96/د/1 ـ المؤرخ في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1946م، أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها، ويدينها العالم المتمدن.
وفي المصطلح الأممي لا تعني الإبادة الجماعية بالضرورة قتل جماعة بأسرها، بل جاء في نص الاتفاقية المبرمة عام 48م ما يوضحها، إذ تقول:
«في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية، بصفتها هذه:
أـ قتل أعضاء من الجماعة.
ب ـ إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ج ـ إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
د ـ فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
هـ ـ نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى» .
وقد جاءت التهمة الأمريكية بالإبادة الجماعية بعد أن مهدت لها بمزاعم؛ حاصلُها أن حصيلة القتلى في ولاية دارفور ربما وصلت إلى 300 ألف قتيل وفقاً لبعض اللجان التابعة لمجلس العموم الأمريكي (1) . أما الرقم الذي أعلنته منظمة الصحة العالمية فهو نحواً من 70 ألف قتيل وذلك قبيل عام وأربعة أشهر تقريباً، وتذكر بعض المصادر نحواً من 200 ألف قتيل حتى اليوم، أما تقديرات الحكومة السودانية فكانت حتى أبريل من عام 2004م تذكر نحو 600 قتيل على أقصى تقدير، كما ذكر السيد مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية إذ ذاك (2) .
وبعد بضعة أشهر من تصريحه كانت الإحصائيات الأممية تتحدث عن نحو 30 ألفاً إلى 50 ألف قتيل، وقد علق الوزير على ذلك قائلاً: إن الأرقام أعلى بعشرة أضعاف من الأرقام الحقيقية.
وقال أمام مؤتمر صحفي عقده في القاهرة: إنه وفقاً للتقديرات الحكومية لا تتجاوز تكلفة النزاع الدائر منذ 17 شهراً 5000 قتيل من ضمنهم 486 شرطياً. وقال: إن الأرقام مبالغ بها، وأتحدى الأمم المتحدة أن «تعطينا أسماء أو تُرينا قبور» أولئك الذين زعمت أنهم توفوا.
ولعل الوصول إلى حقيقةٍ وسط هذا التباين عسير؛ بيد أن بعض المؤشرات ربما أشارت إلى عدم دقة الإحصاءات الأممية وكذلك الأمريكية، فكما أشار الوزير فإن تلك الأرقام لا تعدو كونها مجرد تكهنات لن تسمي قتلى ولن تعد قبوراً، فهي لم تخرج بإحصائيات من مراكز صحية، وإنما تعويلها على حوادث محدودة، وشهادات وأقاويل لأفراد يقول غيرهم كلاماً آخراً، ونقطة أخرى مهمة تدفع للتشكيك في الإحصاءات الأممية فضلاً عن الأمريكية؛ ألا وهي عدم وجود هؤلاء على أرض دارفور التي يتحدثون عن إحصائياتها إلاّ في المدة الأخيرة، فلم يتمكن الصليب الأحمر ولا الجمعيات من الانتشار بأي شكل في دارفور حتى نيسان/أبريل عام 2004م.
والحاصل هنا ثلاث مجموعات للأرقام عن حصيلة القتلى: مجموعة تقدمها الحكومة، وأخرى تقدمها الأمم المتحدة، وثالثة تقدمها الولايات المتحدة بلجانها المختلفة.
ü هل الولايات المتحدة جديرة بتقديم مثل هذا الاتهام؟
وأياً ما كان الصواب؛ فإن السؤال الذي يرتسم في سماء الشرق الأوسط بمداد من دخان وغبار الآليات الأمريكية والحليفة في المنطقة يقول: هل يحق لأمريكا أن تتحدث عن خطر إبادة جماعية في دارفور، فضلاً عن أن تتخذ ذلك ذريعة للتدخل؟
لقد اعترفت الإدارة الأمريكية بمقتل نحو ثلاثين ألف مدني حيث تدخلت في العراق، وقد جاء هذا الاعتراف على لسان الرئيس الأمريكي قبيل مطلع العام الجاري والذي تصاعدت فيه أعمال القتل على نحو غير مسبوق، بينما تميل الجهات المعارضة للاحتلال إلى تقدير عدد القتلى بنحو ثلاثمائة ألف قتيل منذ بداية الحملة، وترى جهات أخرى توصف بالحياد أن عدد القتلى ابتداءً من عام 2003م وحتى اليوم بلغ 49760 قتيلاً وفقاً لما يبث في مصادر الإعلام المنتخبة الموثوقة (1) ، وأما قبلها فقد نشرت صحيفة (فيليج فويس) الأمريكية في عدد يوم الأحد الموافق 31/8/2003م استناداً إلى دراسة ميدانية قام بها مئات الأفراد من (حزب الحرية العراقي) الجديد أوصلوا عدد القتلى العراقيين (المدنيين) منذ بداية الضربة الوقائية الأمريكية إلى حوالي 37 ألفاً و 137 قتيلاً، لتكون الحصيلة الإجمالية نحو بضعة وثمانين ألف قتيل، فضلاً عن المعاقين والمهجرين والمشردين.
وفي دراسة أخرى نشرتها قبل عامين تقريباً المجلة البريطانية الطبية (لانسيت) بالتعاون مع جامعة المستنصرية العراقية، قدر عدد المدنيين القتلى ذلك الوقت بنحو من مائة ألف مدني منذ 21 آذار عام 2003م وحتى أيلول عام 2004م، وقبل بضعة أشهر قُدر تجاوز العدد مائتي ألف قتيل، في حين تقدر بعض الجهات العراقية أعداد القتلى بما يربو على ذلك، فضلاً عن المفقودين ـ وهم ألوف ـ اختطفوا أو خرجوا، ولم يعثر لهم على أثر.
ولعل الثقة في الأرقام الصادرة عن مجلات طبية ودراسات ميدانية ربما كانت أكبر، فالدراسات والمسح والإحصاءات أقرب للواقع من تخرصات الرئيس الأمريكي الذي نفى قائده العام (تومي فرانكس) قيامهم بإحصاء لعدد القتلى فقال: «We don't do body counts» (2) وهذا ـ كما لا يخفى ـ أمر مثير للدهشة؛ ولا سيما إن كان هؤلاء الذين لا يحصون القتلى، الذين سقطوا بأيديهم أو تحت حكمهم أو وصايتهم؛ يبالغون في عد القتلى بأرض لم يطؤها!
وقد أكدت دراسة صدرت حديثاً (3) من جامعة (جونز هوبكنز) الأميركية، وتُموِّلها جامعة أخرى مرموقة هي (متشجنMIT) واقعية الدراسات السابقة فقد قال (جيلبرت برنهام) من مدرسة (جونز هوبكنز بلومبرج) للصحة العامة بالولايات المتحدة: «نقدر أنه نتيجةً لغزو التحالف في 18 مارس 2003م توفي 655 ألف عراقي وكانت وفاتهم زيادة على عدد الذين كان يتوقع وفاتهم في وضع لا يوجد فيه صراع» . وأضاف أن ذلك يعني أن 2.5 بالمئة من السكان العراقيين لقوا حتفهم نتيجة للغزو والقتال المترتب عليه. ونشرت الخبر شبكة (BBC) في موقعها الإلكتروني تحت عنوان: واحد من بين كل 40 عراقياً يموت في العراق.
الجدير بالذكر هو أن الحكومة البريطانية وكذلك الأمريكية شككتا في هذه الإحصائية نظراً لكونها قائمة على المقابلات مع العائلات بدلاً من إحصاء الجثث جثة جثة! مع أن الدراسة قد شملت نحو 1849 أسرة تضم 12801 فرداً في 47 موقعاً، وقد تم اختيارهم عشوائياً من أنحاء مختلفة في العراق.
فكان من جملة رد الباحثين أن أساليب المسح نفسها استُخدمت لتقدير الوفيات في مناطق صراع أخرى مثل الكونغو وكوسوفو والسودان. بل قال (جيلبرت) : «في دارفور استُخدم هذا النهج ذاته ... واستُخدم هذا النوع نفسه من الدراسات في شرقي الكونغو، كما استُخدم في البوسنة» (1) .
ودافع الباحث (جيلبرت برنهام) عن المنهج الذي اتبعته الدراسة، ووصف صعوبة جمع البيانات في أوقات الحرب.
وقال: إن 31% من العائلات التي شملتها العينة حمَّلوا قوات التحالف مسؤولية وفاة ذويهم.
وإذا بدا جلياً أن الوضع في العراق الرازح تحت نير الإدارة الأمريكية وأحلافها ليس خيراً من الوضع في دارفور، فهل يحق للإدارة الأمريكية أن تتهم غيرها بالإبادة الجماعية؛ بينما يباد في العراق شعب بفعلها أو تحت مرآها وسمعها؟ بل وفي أفغانستان وفي كل أرض وطأتها أقدام جندها! ثم هل هي أهل لبسط الأمن حقاً؟
للأسف لم نرَ ما يشهد لها بالريادة في هذا الصدد، أما إشعال الحروب وإثارة النعرات العرقية والطائفية فقد رأينا قدرتها عليها.
بل فضلاً عن المناطق الملتهبة؛ هل حفظت الولايات المتحدة الأمن في أرضها!
لعل كثيراً من الناس يعلم أن ولاية تكساس ـ وهي ثاني أكبر ولاية من حيث المساحة بعد ألاسكا ـ تبلغ مساحتها نحو مساحة ولاية دارفور الكبرى، ولكن الذي لا يعلمه كثير من الناس هو أن عدد جرائم العنف في تلك الولاية خلال الأعوام ما بين 2000 ـ 2004م قد بلغ ما يربو على الستمائة ألف جريمة وفقاً لإحصائيات وزارة العدل الأمريكية (2) ، فتأمل حال من يزعم الإزماع على بسط الأمن!
ü دوافع الحملة الأمريكية الغربية:
أما الدوافع المعلنة من قبل الإدارة الأمريكية فهي الدوافع الإنسانية، ولعل الدوافع الإنسانية الأمريكية من العسير أن يصدقها العقل العربي ما لم تقرن بعقيدة أو مصالح ظاهرة، وإلاّ فأين تلك الدوافع الإنسانية يوم يباشر الإسرائيليون وظيفتهم في التخريب بكل إخلاص؟! فلا يبالون بهدم المنازل وإن كان فيها من فيها، حتى بلغ عدد القتلى من اللبنانيين خلال شهر نحواً من ألف قتيل، وبينما تقترف الجريمة الإسرائيلية وضح النهار، وتُنقل جهاراً على شاشات التلفزة، ويعج ببثها على رؤوس الأشهاد أثير السماء، وعلى الرغم من أن اليد الإسرائيلية قد طالت بقاعاً خارجة عن حدودها باعتبارها دولاً مستقلة كلبنان وقطاع غزة، وعلى الرغم من أن العالم أدان واستنكر، وشجب وندد، على الرغم من ذلك كله تظل الإدارة الأمريكية في أحسن أحوالها فاقدة لمشاعر الإنسانية بما فيها الحواس الخمس: فلا ترى.. لا تسمع.. ولا تتكلم، فإن نطقت قالت هُجراً، وآذت الأسماع بنصرها العدوان والاستبداد الصهيوني.
ولعله من الطبيعي بعد ذلك أن يشق على الشرق أوسطيين أن يصدقوا الدوافع الإنسانية للإدارة الأمريكية.
ومهما حاولت الإدارة الأمريكية التفريق بين الصورتين تظل القناعة الراسخة في جمهور الشرق الأوسط بأنه لا فارق إلاّ من حيث الأيدلوجية الصهيونية أو المصالح الأمريكية.
وهذا ما يفسر به بعض المعنيين سعي الإدارة الدؤوب للتدخل في منطقة دارفور.
فمن جهة فإن هناك حرباً مستترة بين الولايات المتحدة وفرنسا على مناطق النفوذ في القارة السمراء، وقد اكتسبت أمريكا جولات على أراض كانت السيطرة فيها فرنسية، مثل: زائير، وراوندا، وبوروندي، ولا تزال الحرب سجالاً في كل من: موريتانيا وأفريقيا الوسطى بما فيها تشاد، ولعل من الصعب فصل تطورات الأوضاع في السودان عن الأهداف الفرنسية في تشاد، فتشاد لا تزال في دائرة النفوذ الفرنسي، تتمركز فيها قوات فرنسية، كما تسيطر الشركات الفرنسية على المشروعات النفطية الناشئة فيها، وتذهب بعض التحليلات إلى اعتقاد أن الامتداد بين دارفور وتشاد ليس امتداداً قَبَلياً فقط، بل امتداد نفطي على الأرجح، فالخزانات النفطية الجوفية في تلك الرقعة يتوقع أن تكون ممتدة على جانبي الحدود.
ومن جهة أخرى فإن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتخفيض وارداتها من نفط الشرق الأوسط بحلول عام 2025م بنسبة 75%، وقد جاءت هذه الدعوة على لسان الرئيس الأمريكي جوج بوش (3) ، ولن يتأتى لها ذلك إلاّ مع الاستعانة بموارد النفط في آسيا الوسطى وأفريقيا. ومن وجهة نظر أخرى قد تفسر حرص بعض الأطراف الأوروبية على التدخل؛ فقد تحدث بعض المحللين عن تداول إمكانية ربط النفط السوداني، تحديداً من مناطق بحر الغزال، بشبكات أنابيب تمتد عبر تشاد إلى ليبيا، بما يسهل تصدير النفط السوداني والتشادي إلى أوروبا عبر سواحل البحر المتوسط. وهو مشروع تحدث عنه إبان اكتشافات النفط السوداني، وثمرته التقليل من تكلفة نقل النفط إلى أوروبا، كما أنه يؤَمِّن للأوروبيين مصادر نفطية إضافية قريبة، ويقلل من اعتماد الأوروبيين على النفط من مناطق يعد حلفها الأمريكي أقوى من الأوروبي.
ومن جهة ثالثة فإن تلك المنطقة الواسعة غنية بالثروات المهملة، فقد أشارت عدة تقارير صحفية إلى وجود معادن وثروات جديرة بالعناية الغربية.
ومن جهة رابعة فإن صورة (التوتسي) و (الهوتو) في راوندا ربما غلبت على مخيلة بعض القوى الدولية أثناء التفكير في شأن دارفور، ولا سيما مع كم أرقام القتلى الهائلة المتداولة في الإعلام الغربي بل العالمي، وقد كان لتأخر تدخل المنظمة الدولية في راوندا مطلع التسعينات من القرن الماضي؛ للحيلولة دون استمرار التطهير العرقي الذي مارسته مجموعتا التوتسي والهوتو بحق بعضهما؛ سبباً في إفناء مئات الآلاف في راوندا، وتبعاً لذلك تعطلت كثير من المصالح والطاقات.
ومن جهة خامسة فإن الفرصة سانحة لنشر قيم وأخلاقيات تعتقد صلاحيتها وجدارتَها بالانتشار بعضُ الدول التي عرفت برعاية (التنصير) باسم (التبشير) ، وذلك وسط أمة مسلمة يغلب فيها الجهل، وتثار فيها النعرات تجاه كل أصل عربي.
ومن جهة سادسة فإن دخول القوات الأممية قد يمهد في مستقبله إلى ملاحقة المطلوبين أمريكياً بعد أن تعطى المطالبة طابعاً أممياً، أياً كانت مناصبهم.
ومن خلال ما سبق يظهر أن دوافع التدخل متعددة دينية، ودنيوية، وأخلاقية وفقاً للقيم والمعايير الغربية.
ü المقترح (الأمريطاني) وتقييمه:
صدر مشروع (بريطاني أمريكي) يتداول الآن بين أروقة الأمم المتحدة، وتأمل أمريكا في موافقة فورية إجماعية عليه، «ومن شأن مشروع القرار الأميركي ـ البريطاني المقترح، في حال صدوره، تخويل تشكيل قوة من 17 ألفاً و300 عسكري و3 آلاف و300 عنصر من الشرطة المدنية و 16 وحدة شرطة عسكرية» (1) .
وإذا استحضرنا مرة أخرى الوضع في العراق وأضفنا إليه حقيقة أخرى؛ وهي أن عدد القوات الدولية الموجودة في العراق يفوق بنحو عشرة أضعاف القوات المقترحة لدارفور، مع أن مساحة دارفور تزيد على مساحة العراق بقرابة المائة ألف كيلومتر مربع، بدا جلياً أي ضرب من حفظ الأمن أو الحرية والديمقراطية يرجى أن تبسطه تلك القوات! ولا سيما في ظل تدخل تعارضه الدولة.
ولا ينبغي أن يغيب عن فطنة القارئ الكريم أن تعداد السكان في العراق يربو على ستة وعشرين مليوناً، وهذا يمثل نحو خمسة أضعاف سكان دارفور، الأمر الذي يحتم ألاَّ تقل القوات المبسوطة فيها عن خُمْسِ التي تم بسطها في العراق لتخرج بنتيجة (مشابهة) ! وذلك مع إهمال فارق المساحة، وهذا يتطلب مضاعفة العدد المقترح، طالما كان الوضع على تلك الصورة المأساوية التي تصورها الإدارة الأمريكية.
ü التباين في موقف الحكومة إزاء دخول القوات الأممية والأجنبية في مناطق مختلفة:
لعل ما سبق أحد الأسباب التي حَدَتْ بالرئيس عمر البشير إلى اتخاذ موقف صلب من دخول القوات الأممية، فضلاً عن اقتطاع خمس مساحة السودان من سيادة الدولة بدخول تلك القوات مطلقة اليد، وزِد على ذلك التهديد الاقتصادي الذي قد ينجم عن انفلات الأمور من قبضة الحكومة في مناطق قريبة من حقول النفط، والتي قد يُتغول عليها بدعوى الإشراف وضبط الأمور، وأضف إلى ذلك التهديدات الثقافية لرقعة لم يكن ـ حتى عهد قريب ـ يعرف فيها غير الإسلام ديناً بخلاف الجنوب، مع عدم استبعاد تأجيج صراع عرقي قُدِحَتْ شرارته في تلك الأرض على غرار ما تأجج في العراق من احتراب طائفي وعرقي، وقد يفضي بالبلدين إلى تقسيم ليشهد الشرق الأوسط الجديد دويلات متجاورة متنافرة بينها ما صنع الحداد الأمريكي، وكل ذلك في عصر التكتلات الأممية الغربية، وعلى أحسن الأحوال يظل كيان الدولة هشاً مفتقراً إلى اليد الغربية مدة مديدة.
ولعل مما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو وجود نحو عشرة آلاف من القوات الأممية في أرض السودان بموجب اتفاقية سلام الجنوب، وقد يتساءل البعض: لماذا هذا الموقف المتشنج من البشير تجاه دخول قوات أممية في دارفور مع إذنه الفعلي بوجود قوات أممية في الجنوب؟! وبينما يرى البعض هذا الموقف ضرباً من التعارض والتناقض، يراه آخرون ضرباً من الوعي والنظر النافذ، فالبَونُ بين القوات الأممية في الجنوب والقوات الأممية المقترحة لدارفور كبير، فدخول الأولى تمَّ تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة (1) وهذا يقضي بأن طبيعة تلك القوات محدودة الصلاحيات تتلخص في العمل على مساندة حكومة السودان في حفظ السلام، وتفاصيل عملها وفقاً لنص القرار الصادر من الأمم المتحدة كالتالي (2) :
«سيكون هنالك 750 مراقباً عسكرياً سيقومون بأداء مهام المراقبة والتحقق في مناطق مسؤولياتهم المحددة.
من بين قوات حفظ السلام، البالغ تعدادها 10.000 جندي، سيكون هنالك حوالي 4.000 عسكري يشكلون قوة حماية تكون مسؤولة عن توفير الحماية لموظفي الأمم المتحدة ومعداتها ومنشآتها؛ إضافة إلى مساعدة السلطات السودانية في حماية المدنيين المُعرَّضين إلى خطر داهم.
سيكون هنالك 4.000 آخرون يعملون في الأنشطة الإدارية واللوجستية؛ إضافة إلى أداء مهام نزع الألغام وإعادة البناء» .
فتلك هي مهام القوة الأممية في الجنوب، ولعل هذا ما يفسر عدم الجدية في إكمالها؛ إذ لم يرسل من العدد المقرر غير نصفه، مع ما تسرب من تجاوزات مالية وغيرها متعلقة بهذه القوة السلمية (3) ، وقد نجم عن ذلك إهمال اللاجئين والنازحين من سكان الجنوب، والذين يقدر تعدادهم بخمسة ملايين نسمة، فلم تقدم لهم الأمم المتحدة أو الولايات الأمريكية أو بريطانيا مع بقية الدول التي تطالب اليوم بإرسال قوات دولية لدارفور؛ لم تقدم الدعم المقرر، فقد جاء في تقرير المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة أن عدد اللاجئين الذين عادوا للجنوب بمساعدة المفوضية بلغ 10 آلاف شخص من بين 500 ألف شخص، وبينما تكلف الإعادة نحو 376 مليون دولار؛ لم تتسلم المفوضية العليا سوى 39 مليون دولار، أي قريباً من عُشِر المبلغ المقرر!
وقد صرح الدكتور (لام أكول) ـ وزير الخارجية الجنوبي التابع لحركة تحرير السودان ـ بأن المانحين الذين تعهدوا في العام الماضي بتقديم 5.4 مليارات للسودان لم يقدموا سوى 30% مما وعدوا به.
هذا ما يتعلق بقوات حفظ السلام الدولية في الجنوب، وأما قوات الاتحاد الأفريقي فلا تتجاوز وظيفتها حفظ بنود اتفاقية (أبوجا) التي تمت برعاية أفريقية، كما أن طبيعة تلك القوات مكونة من خليط؛ في جملتهم قوات تجمع دولها مع السودان مصالحُ مشتركة كـ: مصر، وليبيا، وموريتانيا، والجزائر، ونيجيريا وغيرها.
وأما القوات الأممية المقترحة لدارفور فقد كانت أولاً مخولة للتدخل تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة؛ والذي يخولها صلاحيات مطلقة لفعل ما تراه مناسباً دون كبير اعتبار لوجود دولة لها نظامها، بل ربما كانت الدولة في نظرها شأنها شأن أي جماعة متمردة، وقد جُوبه هذا القرار بالرفض التام من قبل حكومة السودان.
ثم جاء مشروع القرار الأمريكي البريطاني والذي وصفته الحكومة السودانية بأنه: «خبيث ومضلل» ، مع أنه صمم باعتباره ضمن الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة، ولكنه في نظر الحكومة صيغ صياغة حملته كل جينات البند السابع الذي يتحدث عن التدخل بالقوة لفرض الأمن، متجاهلاً حكومة السودان، متعاملاً مع الوضع وكأن السودان دولة بلا حكومة، بل أعضاء حكومتها قد يتم التعامل معهم كما يتعامل مع المتمردين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعلى كافة الأصعدة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لعل مما يفسر التصلب إزاء التدخل الأممي هو أن الحكومة قد رأت الآثار التي ترتبت على دخول القوات الأممية تحت الفصل السادس، وعلمت ما قدمته للبلاد وماذا أخرت، وهذا كفيل بوضعها حداً لما كان على شاكلة تلك التدخلات أو أشد خطراً.
ومن جهة ثالثة فإن الحكومة السودانية فيما يبدو تطمع في نقاش مشكلة دارفور ضمن إطارها الإقليمي عن طريق الاتحاد الأفريقي، أو جامعة الدول العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي، وذلك وفقاً للفصل الثامن المتعلق بالتنظيمات الإقليمية من ميثاق الأمم المتحدة، ولا تريد تدخلاً أممياً مشبوهاً، خاصة مع الإقرار الجزئي بتحسن الأوضاع بعد اتفاق (أبوجا) ، بالإضافة إلى اختلاف الصورة المقدمة عن الأوضاع المتدهورة سواء من حيث أعداد الضحايا أو غيرها بين كل من الحكومة والمنظمة الدولية، فبينما تصور الوضع الولايات المتحدة والمنظمات الحقوقية على أنه إبادة جماعية، فإن الحكومة السودانية ترى أن ذلك مبالغ فيه؛ بل هو مشكلة قصارها أن تكون إقليمية يمكن حلها عبر المنظمات الإقليمية.
ومن جهة رابعة لئن كان دخول القوات الأممية ابتداءً في الجنوب ضمن البند السادس، ربما ساغ اضطراراً نظراً لاشتراط طرف الصراع (الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة قرنق) دخولها وإلزامها به من أجل تحقيق السلام، فليس ثم ما يُلزم الحكومة بذلك من الجهة القانونية في دارفور.
وأخيراً لا ينبغي أن يُغْفل احتمال تمهيد الدخول إلى المطالبة بمجرمي حرب وفق التقييم الأمريكي، ومن ثم تنفيذ قرار المطالبة من قبل القوات الأممية إذا تم تبنِّيه، وهذا ما قد يطال مسؤولين ربما كان تسليمهم تسليماً لسيادة الدولة بكاملها على أرضها. وكل تلك عوامل معتبرة في القرار السوداني.
ü خيار الحكومة السودانية وواجبها:
عوداً على بدء؛ وعلى الرغم من كل ما قد قيل؛ فإنه لا ينبغي أن تتلكأ الحكومة السودانية في البحث عن حل شامل لمشكلة دارفور، فلاشك أن في دارفور خللاً ينبغي أن يسدد، وشيء من انفلات أمني يجب أن يحفظ، ولئن كان الوضع في تحسن ـ باعتراف الأمين العام للأمم المتحدة ـ فإن عجلة ذلك التحسن غير مرضية من جهة، كما أن العوارض التي تعتريها ربما أرجعتها القهقرى ما لم تتخذ التدابير الكافية.
ولعل حفظ الأمن في تلك الرقعة، التي لا تزال مضطربة، من جملة واجبات الدولة، ولا يفترض أن تنتظر موافقة الأمم المتحدة على خطة مقدمة منها لأجل حفظ الأمن، ولئن كانت الدولة على قناعة من أن بسطها عشرة آلاف جندي كفيل بإحلال الأمن؛ فحري بها أن تبادر إلى تطبيق ذلك.
وإلاّ؛ فإن التقاعس وعدم طرح البرامج العملية لحل المشكلة كفيل بالتمهيد لدخول القوات الأممية ولو بعد حين، بخلاف ما لو تولت الدولة زمام المبادرة، وسجلت وجوداً في أرض الواقع قبل غيرها، وسعت في علاج الوضع الراهن، فربما أكسبها ذلك نقطة في الصراع من أجل حل الأزمة. ولعل هذه الخطوة لا بد منها لأجل ضبط الأوضاع، وإن أجلبت عليها بخيلها ورجلها بعض المنظمات الحقوقية التي تعتبر الحكومة السودانية، إلى جانب المليشيات، شريكاً في الإبادة المزعومة.
ومن الأمور التي تَسَعُ الحكومة أيضاً العملُ على تفعيل قوات الاتحاد الأفريقي للقيام بدور أكثر إيجابية، فالذي يظهر من التصريحات والتقارير الأممية والأمريكية وجود قناعة بأنه لا سبيل لإحلال قوات بديلة عن القوات الأفريقية قبيل مطلع العام المقبل، مع التصريح بضرورة العمل على تحسين أدائها، كما يظهر من تصريحات الحكومة رضاها بالتعامل مع القوات الأفريقية، ولذا حسنت استفادتها من تلك القوات ذات الكم المقدر والبالغ نحو سبعة آلاف.
وعلى صعيد آخر لا بد من التحسب لرد الفعل الأممي الذي ربما تطور إلى نوع من فرض العقوبات الاقتصادية، كـ: منع تصدير النفط وغيره، وتحجيم ورود أنواع الحاجيات، ويكون ذلك ببذل الجهد السياسي الواعي الذي لا يغفل تفعيل الأحلاف الإقليمية ـ على ضعفها ـ لإيقاف تمرير قرار كهذا من شأنه أن يقهقر العملية السلمية في المنطقة، ويزيد معاناة المنكوبين أضعافاً، وبالإضافة إلى الجهد السياسي؛ لا بد من تفعيل جهود داخلية لإدخال الشعار القديم المتهالك: «نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع» حيز التنفيذ من جديد.
وأما الجبهة الداخلية فلا مناص من العمل على توحيدها على المصالح الوطنية، وهذا يتطلب التعامل مع أذرع المعارضة الداخلية المختلفة، والاستعانة بأولئك الذين يمانعون دخول القوات على الداعين إليها، والعمل على توعية من يعي منهم بسلبيات التدخل الأجنبي على المصالح الوطنية، والتي ربما جاء يوم من الدهر فملكوا زمام التصرف فيها، مع عدم إغفال خطاب القاعدة الشعبية وتنويرها، عن طريق الوسائل الإعلامية، بسلبيات دخول القوات الأممية.
ومما ينبغي التحسب له أيضاً رد الفعل الأمريكي المحتمل، والذي قد يصل إلى الدعم المباشر لأذرع التمرد، ولا مناص من التعامل معه سياسياً بالترغيب والترهيب، وعسكرياً بالتعبئة الجادة، مع التيقظ والردع الصارم.
وفي هذا الصدد يتوقع بعض المحللين بعض الخيارات الأممية المفتوحة، مثل: التدخل القسري المباشر في دارفور، أو التعامل مع رأس القيادة في الخرطوم، ولعل هذه الخيارات مستبعدة على الأقل في الوقت الراهن، على أن أقربها منالاً للحكومة الأمريكية التدخل القسري باستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، وهذا له آثار سلبية من شأنها تفجير الأوضاع في دارفور وغيرها، الأمر الذي لن يكفل تحقيق مصالح غربية، ولا قيم إنسانية، ولا سيما مع عرض الحكومة حل الأزمة بإرسال قوات قوامها نحو عشرة آلاف جندي إلى هناك.
ومن تأمل ماضي الخلاف حول قضية دارفور يجد أن الحكومة السودانية، خلافاً لما يصوره البعض، قد أفلحت في كسب نقاط على المائدة الدولية، وحسبك أن العقوبات كان يراد لها أن تُفرَض على الحكومة منذ يونيو 2004م، وفقاً للقرار 1556، بالإضافة إلى التغير الملموس في المقترح الأمريكي ليكون التدخل الأممي أقل حدة في مشروعه الجديد من سابقه المقترح تحت البند السابع، ولعل الحكومة السودانية تستطيع ـ بموقفها الصلب المعلن وعملها السياسي الدؤوب ـ التقليل من حدة المشروع الأخير، ليكون الخيار الأسوأ دخول قوات حفظ السلام الأممية تحت الفصل السادس وفقاً لمشروع يهذب المشروع (الأمريكي البريطاني) من بعض ما جاء فيه.
وبعد؛ فيظل المطلوب من الحكومة كثيراً.
__________
(1) ينظر:.http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_4392000/4392535.stm
(2) وفقاً لما نَقَلتْه هيومن رايتس وواتش، ينظر:.http://www.hrw.org/arabic/reports/2004/sudan-dar8.htm
(1) يراجع مشروع (IRAQ BODY COUNT) على الرابط التالي:.http://www.iraqbodycount.org/
والبيانات في ازدياد مطرد على الرغم من الملاحظات على المشروع والتي تحجم عدد القتلى؛ لاعتمادها على بضعة مصادر إعلامية تحصر ما يذاع فيها.
(2) تناقلته وكالات الأنباء، وانظر مثلاً: (البي بي سي) على الرابط التالي:.http://news.bbc.co.uk/2/hi/middle_east/3672298.stm
(3) نشرت الدراسة في مجلة (لانسيت) الطبية البريطانية الشهيرة يوم الأربعاء 11/10/2006م، وقد قام بالدراسة أربعة من أساتذة الطب في كلية (بلوم بيرج) للصحة العامة بجامعة (جونز هوبكنز) في (بولتيمور) في ولاية ميريلاند الأميركية القريبة من واشنطن.
(1) كان ذلك في حلقة برنامج قناة الجزيرة الفضائية: (من واشنطن) بتاريخ 16/10/2006م، وفي موقع القناة نسخة من الحلقة على الرابط التالي:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/89AD5F8A-CD2F-49E2-BF1C-4989BC8054F0.htm.
وقد أشارت وكالات الأنباء والصحف الدولية إلى هذه الدراسة في حينها.
(2) يمكن مراجعة الإحصائيات عن مكتب إحصائيات العدالة التابع لوزارة العدل على الرابط التالي:
http://bjsdata.ojp.usdoj.gov/dataonline/Search/Crime/State/TrendsInOneVar.cfm.
(3) وقد تناقلتها وسائل الإعلام وكثر حولها الجدل، ينظر الرابط التالي من موقع صحيفة القاردين البريطانية:
http://www.guardian.co.uk/usa/story/0,,1700182,00.html.
(1) ينظر الرابط التالي عن مكتب برنامج الإعلام الخارجي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية:
http://usinfo.state.gov/ar/Archive/2006/Aug/18-804383.html.
(1) يحسن الرجوع لميثاق الأمم المتحدة لمعرفة بنود الفصل السادس والسابع، وعلى رابط المنظمة الدولية التالي نسخة من الميثاق:
http://www.un.org/arabic/aboutun/charter/charter.htm.
(2) وذلك وفقاً لما جاء في قسم الوحدة العسكرية في صفحة بعثة الأمم المتحدة في السودان التابعة لموقع المنظمة الدولية، ينظر الرابط:
http://www.unmis.org/arabic/military.htm.
(3) وذلك وفقاً لما ذكر في ندوة صحيفة الأهرام بعنوان: «دارفور.. مؤامرة تحت التنفيذ» ، قدَّمها محمود مراد، وشارك فيها القائم بأعمال السفارة السودانية في القاهرة وآخرون، وذلك يوم الخميس بتاريخ 30/7/1427هـ.(231/17)
الأجندة الخفية للقوات الدولية في لبنان
محمد مصطفى علوش (*)
يبدو أن القوات الدولية التي قدمت إلى لبنان، عقب القرار (1701) لتشرف على تطبيق ذلك القرار، لها أجِنْدَة خفيَّة غير معلنة كان قد تم التخطيط لها في كل من: تل أبيب، وباريس وألمانيا، وواشنطن؛ والسبب الذي يدعونا إلى مثل هذا الظن هو تصريح وزيرة الخارجية الصهيونية (ليفني) لِمجلة ألمانية بداية الشهر الحالي أن القرار (1701) صيغ في مكتبها قبل أن يعرض على مجلس الأمن. ويأتي هذا التصريح بالتزامن مع كلام (أنجيلا ميركل) المستشارة الألمانية بأن: القوات الدولية جاءت إلى لبنان لحماية الحدود الصهيونية. والسؤال الآن: هل هذه الأجِنْدَة الخفيَّة تكمن في نزع سلاح (حزب الله) فقط؛ بعد أن تكشف مؤخراً الحوار الذي دار بين البطريرك (صفير) الزعيم الروحي للمسيحيين في لبنان وبين أحد كبار المسئولين في البيت الأبيض؛ حين طلب البطريرك (صفير) وقف الحرب على لبنان؛ أجابه الأخير بغضب شديد قائلاً له: «لقد أخرجنا لكم سورية من لبنان مقابل نزع سلاح (حزب الله) ؛ ولم تقوموا بنزعه حتى الساعة» ؟ أم إن الأجِنْدَة الخفيَّة للقوات الدولية في لبنان تتعدى موضوع سلاح (حزب الله) حتى تصل إلى سلاح الفلسطينيين في المخيمات مع ضعف الدولة اللبنانية في حل هذا السلاح؟
أم إن الأجِنْدَة الخفيَّة من قدوم القوات الدولية تأسيس قاعدة لحلف شمال الأطلسي في لبنان ومراقبة الحدود البحرية؟ حيث يمثل لبنان موقعاً استراتجياً بحرياً خطيراً في ملف الحرب على الإرهاب، بعد صدور عدة تقارير تشير إلى أن القاعدة في طريقها إلى لبنان وسورية والأردن؛ بعد كتابة أحد رموزها، وهو أبو مصعب السوري، كتاباً يزيد عن 1000 صفحة يتوقع فيه أن المعركة القادمة بين الإسلاميين والأمريكيين ومن لفَّ لفَّهم، بعد غزو أفغانستان والعراق، هي في بلاد الشام؛ داعماً نظريته بحديث نبوي يشير فيه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على اجتماع 80 راية من رايات الشرك لتقاتل المسلمين في بلاد الشام.
أم إن وجودها - أي القوات الدولية - لاستكمال ولادة طبيعية لشرق أوسط جديد، يعاد فيه ترتيب المنطقة بما يتفق مع منظومة المصالح الغربية، خصوصاً بعد صدور تقرير في مجلة القوات المسلحة يشير فيه إلى إعادة رسم خريطة للمنطقة تُولَد فيه دول جديدة تكون مع دولة الصهاينة من أكثر الدول حماية للمصالح الغربية؛ وهي دولة كردستان الكبيرة، والتي من خلال هذا التقسيم سيصبح وجود دولة العدو الصهيوني في الجسم العربي، أو الشرق أوسطي، طبيعياً بعد ولادة دول ذات طبيعة عرقية أو طائفية؟!
لقد صرح (داليما) رئيس وزراء إيطاليا، الذي تقود دولته القوات الدولية في لبنان، بأن إيطاليا ستشارك بفاعلية في السياسة الدولية، ولن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحدث في المنطقة. ومن هنا أرادت إيطاليا استضافة أول لقاء حصل بين الحكومة اللبنانية والصهاينة بحضورٍ (خليجيٍّ فرنسيٍّ) لبحث مشكلة الحرب على لبنان في الوقت الذي كانت طائرات وبوارج العدو تضرب الحجر والبشر، وكان لها ما أرادت؛ حيث استطاعت أن تقود القوات الدولية القادمة إلى لبنان مع صدور القرار (1701) ، كما أن فرنسا، الدولة الأوروبية التي كانت خلف القرار (1559) ، القاضي بنزع سلاح الميليشيات وحلها، وإخراج القوات الأجنبية من لبنان؛ في إشارة صريحة إلى سورية، بعد أن تأزمت الأوضاع بين فرنسا وسورية قبيل اغتيال الحريري وحتى الآن؛ كان لها الدور البارز في الإعداد لقدوم قوات دولية إلى لبنان البلد الذي استعمرته فرنسا طويلاً، وتعتبر نفسها راعية للنصارى فيه والساهرة على حقوقهم، في بلد تتعدد فيه الطوائف بشكل كبير على اختلاف مشاربها ودلالاتها.
في الوقت الذي تعزز فيه الولايات المتحدة الأمريكية وجودها في المناطق القريبة من النفوذ الفرنسي في أفريقيا؛ لا سيما في القرن الإفريقي وأفريقيا الوسطى وبعد صدور القرار (1706) الخاص بـ (دارفور) ؛ ترى فرنسا أن وجودها مهدد داخل القارة السمراء، حتى إن عدد قواعدها العسكرية التي كانت تتعدى المائة قاعدة انحسرت ليبقى منها ست قواعد فقط موجودة في: السنغال، وساحل العاج، والجابون، وتشاد، وجيبوتي، والكاميرون. كانت عين فرنسا تقع على بقية مستعمراتها السابقة، والجميع يعلم كم تسعى فرنسا لتعزيز الفرانكفونية في العالم بكل ما تملك من الوسائل، وفي ظل هذا المناخ كان لبنان يحتل موقعاً مرموقاً لفرنسا على هذه الاستراتجية، حيث يعتبر البوابة التي من خلالها تستطيع فرنسا أن تدخل بقوة إلى سائر الدول العربية؛ لا سيما سورية. كان لا بد من صفقة أمريكية فرنسية تتمثل في إطلاق يد فرنسا في لبنان من خلال الاتحاد الأوروبي مقابل فتح المجال قليلاً للولايات المتحدة في توسيع نفوذها في القارة السمراء، وبما أن معظم الطوائف اللبنانية ينظرون بعين الريبة تجاه فرنسا لتاريخها المخزي في لبنان؛ كان لا بد أن تكون القوات الدولية تحت إمرة غير فرنسية من حيث الظاهر، تمثلت بإيطاليا، في الوقت الذي تحرك جميع الخيوطَ القواتُ الفرنسية فيما يتعلق بدور القوات الدولية.
وكما أن لهؤلاء مصالح في لبنان؛ فإن لتركيا، المشاركة في القوات الدولية، مصالح أيضاً؛ ولكن في مكان آخر. فقد كشف تقرير صدر مؤخراً يؤكد أن اتفاقاً تم بين تركيا من جانب والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جانب آخر؛ على أن تقوم تركيا بمراقبة الطائرات الإيرانية المتوجهة عبر أراضيها إلى كل من لبنان وسورية مقابل غض الطرف عن ملاحقة تركيا لحزب العمال الكردستاني، بعد أن تبين حسب صحيفة (يو إس توداي) أن صوراً عالية التقنية التُقِطت لجنود إيرانيين في قاعدة جوية إيرانية وهم ينقلون ثمانية صواريخ (سي 802) المضادة للسفن، ويشحنونها على متن طائرات شحن إيرانية توجهت فيما بعد إلى سورية؛ مما دفع الإدارة الأمريكية إلى القبول بالصفقة التركية بعدم السماح للطائرات بعبور أجوائها إلا بعد القيام بتفتيشها مقابل إطلاق يدها في ملف حزب العمال الكردستاني.
أما بالنسبة لمصر فقد كانت المكافأة لها في إنجاح هذا المشروع هو السماح لها في تطوير أبحاثها النووية؛ حيث أكدت الولايات المتحدة الأمريكية قبل يومين أنها لا تمانع من أن تساعد مصر في استعمال التقنية النووية. وكان الرد المصري غير الرسمي على لسان جمال مبارك، أمين عام الحزب الوطني الحاكم، الذي تناول لأول مرة موضوع الطاقة في مصر، وأن مصر ينبغي أن تطور من موارد الطاقة لديها بما فيها الطاقة النووية. والسبب في هذا التطور الغريب لموقف الولايات المتحدة من موضوع التقنية النووية لدولة عربية، مع سكوت مطبق للصهاينة حول الموضوع؛ فالولايات المتحدة، وبعد قصور أجهزة المخابرات والتجسس لديها في معرفة النقطة التي وصل إليها برنامج إيران النووي، والتي تشير كثير من التقارير إلى أن إيران وصلت إلى نقطة اللاعودة في برنامجها النووي ولا يستطيع أحد أن يوقفها عن دخول النادي النووي، كان لا بد من إيجاد منافس لها غير الدولة الصهيونية، وكانت مصر الدولة المرشحة للعب هكذا دور. فالولايات المتحدة توهم العرب أن سلاح إيران النووي هو لمواجهة العرب، وليس لمواجهة الصهاينة، فإيران لها مطامع كبيرة في النفط العربي في الخليج، ودورها في سرقة العراق لا يخفى على أحد.
أما بالنسبة للدولة العبرية؛ فإن قدوم القوات الدولية خطوة مهمة جداً لها في مرحلة تغير الجغرافيا السياسية للمنطقة؛ حيث تخشى أن تتعرض لهجمات عديدة من قبل حركات مقاومة، وقد بدا هذا القلق في تصاريح عدة مسئولين كـ (آرييل شارون) و (بنيامين نتنياهو) حول أن الدولة العبرية تعيش في «جوار خشن» ، حيث لا يستمع أعداؤها سوى لمنطق القوة. كما أن ما كشفه التقرير السنوي للمخابرات الصهيونية بأن العام 2007م سيكون الأقسى من الناحية الأمنية، مع احتمالات فتح جبهة جديدة هي الجبهة السورية إلى جانب الجبهة الشمالية في لبنان مما يجعلها بحاجة لمن يحمي ظهرها من صواريخ المقاومة اللبنانية و (هجمات القاعدة) ؛ التي بدأت الاحتمالات تزداد بقرب توجهها من الأهداف الصهيونية عبر الحدود اللبنانية. ولمواجهة هذا السيناريو كان للصهاينة رغبة في إنشاء منطقة عازلة في جنوب الليطاني لفصل لبنان، ولو شكلاً في هذه المرحلة، عن الصراع العربي الصهيوني عسكرياً وأمنياً دون أن يحد من نشاط الصهاينة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي المصلحة المشتركة لكل هذه الدول على الأراضي اللبنانية؛ بدءاً من الدولة الصهيونية، ومروراً بالعالم الغربي، وانتهاء بالدول العربية؛ لا سيما مصر والأردن؟
الجواب نجده ماثلاً غاية الوضوح في تصاريح جميع زعماء هذه الدول من خلال حديثهم عن ما يسمونه (الإرهاب الإسلامي) ، والذي يهدد كل المتواطئين مع العدو وممولته. إنه يراد غسل دماغ هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، من الداخل والخارج، من التفكير بمقاومة أي مشروع يُفرض عليها، ولا يتم ذلك إلا بالقضاء على الحركات المقاوِمة كـ (حزب الله) في لبنان، وحركة حماس في فلسطين، والقضاء على تنظيم طالبان في أفغانستان، وبخاصة المقاومة في العراق؛ في إطار صفقةٍ تقوم على أساسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بغض النظرِ عن التجاوزات اللاأخلاقية لبعض الدول العربية في قمع شعوبها؛ مقابل المحافظة على المصالح الغربية في البلدان العربية؛ ولكن للأسف فإن الدول العربية، أو بالأحرى الأنظمة العربية، لا تقرأ التاريخ جيداً؛ فقد قامت بريطانيا بلعب هذا الدور مع الشريف حسين في مكة لمقاتلة الدولة العثمانية مقابل مساعدته في بسط يده على الدول العربية؛ إلا أن البريطانيين فعلوا عكس ذلك؛ فجعلوا الدول العربية كلها تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني وِفقَ اتفاق (سايكس بيكو) ، فهل يا ترى يقوم المستعمر الجديد بلعب الدور نفسه؛ لا سيما أن التاريخ يعيد نفسه؟
نعم صدر القرار الدولي (1701) ، وكان شديد الغموض؛ فالقرار يحتمل تأويلات وتفسيرات عديدة تصل حد التناقض، ويبدو أن القرار كان قد صيغ بعناية في مكتب وزيرة الخارجية الصهيوني قبل أن تضع عليه الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا اللمسات الأخيرة، حتى يكون القنبلة الموقوتة التي تفجر الأزمات اللاحقة كما هو الأمر مع كثير من القرارات الدولية التي يرعاها ويصوغها الكبار كالولايات المتحدة، ولا أدل على ذلك من البند 15 من القرار الدولي (1701) الذي يدعو كل الدول «أن تتخذ الإجراءات الضرورية للحؤول دون أن يتم من خلال مواطنيها، أو انطلاقاً من أراضيها، أو عبر استخدام مراكبها أو طائراتها بيع أي كيان أو فرد في لبنان، أو تزويده بأسلحة ومواد ذات صلة من أي نوع؛ ولا سيما منها أسلحة وذخائر ومعدات شبه عسكرية، باستثناء ما تسمح به الحكومة اللبنانية أو اليونيفيل» .
أما بالنسبة للدولة اللبنانية فهمُّها الوحيد: كيف تمارس حكمها في لبنان؟ وهاجسها رغبة الصهاينة بنزع سلاح (حزب الله) وتحويل لبنان إلى منتجع سياحي وعنصر جذب لكل ما هو غربي، ولا يعنيها بحال ما إذا كانت هناك أجِنْدَة خفية للقوات الدولية أم لا؛ فالسيادة اللبنانية غائبة أصلاً ولم تكن حاضرة في يوم من الأيام منذ 30 سنة، أي منذ دخول قوات الردع العربي السوري إلى لبنان في عام 1975م.
لقد قدِمت القوات الدولية بعد صراع طويل في مجلس الأمن، أعلن خلاله الوفد العربي نجاح دبلوماسيته في جعل القرار الدولي (1701) تحت البند السادس الذي يجعل من القوات الدولية ذا طبيعة ردعية وليس طبيعة هجومية، إلا أن الكاتب العربي المعروف محمد حسنين هيكل تناول هذا الأمر بالسخرية، وقال معلقاً على القرار: إن تفسيره يحتمل وضع القوات الدولية تحت الفصل السابع، أكثر مما يحتمل وضعها تحت الفصل السادس، والإشكالية هنا لم تكن من قِبَل الحكومة اللبنانية؛ بل من قِبَل (حزب الله) ؛ لأنه لا يرغب أن تقوم القوات الدولية بالتجسس على تحركاته، ومن ثم تقوم بنزع سلاحه بحجة تطبيق القرار الدولي. وبعد شهرين من صدور القرار تقريباً بدأت تتكشف الحقائق والمؤامرات، وأن القرار وُجِدَ ليكون عبئاً على (حزب الله) ، وحمايةً للحدود الشمالية للعدو، وربما في المستقبل أن تقوم القوات الدولية بنزع سلاح (حزب الله) نيابة عن الحكومة الصهيونية. وإلا، كيف نفسر استقدام فرنسا فوج المدفعية 57 إلى لبنان، المجهزة بالأسلحة المضادة للجو كنظام قذيفة (فرانكو) الألماني أرض - جو قصير المدى، وقذيفة (المسترال) تحت الحمراء أرض - جو، بالإضافة إلى دبابة Leclerc، التي تعتبر آخر التقنيات العسكرية بدلاً من الدبابة الكلاسيكية، هذه المعدات التي صنعت أصلاً للعمليات الهجومية، وليس للردع فقط؟! ثم كيف نفسر الاحتياطات الأمنية المبالغ فيها التي اتخذتها القوات الفرنسية في بلد آمن أصلاً، إن لم يكن هناك أجِنْدَة خفية غير المعلن عنها؟
لقد جاءت القوات الدولية إلى لبنان مع وجود أكثر من 250 جهاز تنصت حديث متطور في البحر، قادر على التقاط كل المكالمات الهاتفية؛ الثابتة والخلوية واللاسلكية، فضلاً عن مراقبة البريد الإلكتروني والفاكس، وذلك باللغة العربية واللغات الأجنبية كافة، وخصوصاً الفرنسية والإيطالية والإنكليزية والإسبانية. ويقوم بتشغيل أجهزة التنصت هذه مهندسون في الاتصالات، ومتخصصون في تفكيك الشفرة والرموز والرسائل المرمَّزة. ومن تجهيزات القوات الفرنسية التابعة للقوات الدولية، عددٌ من الشاحنات التي تحمل رادارات متنقلة قادرة على تحديد مصدر إطلاق الصواريخ.
وما يزيد الشكوك أكثر حول طبيعة مهمة القوات الدولية في لبنان؛ تجميدُ عمل المدير العام للأمن العام اللبناني مؤخراً لمدة عشرين يوماً - وهو رجل شيعي قريب من توجهات أمل و (حزب الله) - من قِبَل وزارة الداخلية، والتي يسيطر عليها تيار المستقبل، الذي أصر على قدوم القوات الدولية إلى لبنان، وكان التجميد على إثر إشكال بدأ يتفاعل في الآونة الأخيرة في جنوب الليطاني، بين قيادة القوات الدولية وقيادة الأمن العام على خلفية مسعى دولي غير معلن يقوده الجنرال (آلان بيل لغريني) لإقفال مركز الأمن العام الحدودي بين لبنان والعدو في الناقورة، وهو ما أبلغه قائد القوات الدولية (آلان بيل لغريني) عبر رسالة إلى قيادة الأمن العام طالباً إقفال المركز، وسحب عناصره بذريعة: أنه معرض للخطر من جانب الصهاينة، بما في ذلك خطر إطلاق النار، وأن الأمم المتحدة لا تريد أن تتحمل المسؤولية، وأشارت إلى أن جواب الأمن العام بعد مراجعات رسمية قضى بالإبقاء على المركز، لا؛ بل تعزيزه، وتحمل تبعات ذلك.
لقد تحولت شواطئ لبنان ميداناً للسفن الحربية الغربية في خِضمِّ التحولات الجغرافية السياسية لمحاصرة سورية، ووجود هذه الأساطيل قرب الشواطئ اللبنانية جوهره إشراك أوروبا في إعادة رسم المنطقة العربية امتداداً إلى «الشرق الاوسط الجديد» الذي يشمل: إيران، وتركيا، وأفغانستان، وباكستان، إضافةً إلى شمال إفريقيا العربية، ووصولاً إلى السودان، كما هو واضح وجلي لكل ذي لب، أو لمن له عينان!
__________
(*) كاتب لبناني.(231/18)
القرابين البشرية
د. يوسف بن صالح الصغير (*)
عندما نبحث عن شيء يجتمع فيه الذكاء والغباء مع طهارة الشعار الممزوج بعهر الاختيار فإن أول ما يتبادر إلى الذهن ويخطر على البال شعارُ الحرب على الإرهاب، الذي تجاوز شعارات نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في الطرح السياسي الأمريكي، إنه شعار برّاق فيه جاذبية، وسيلته الحرب التي توحي بالقوة، وهدفه تخليص العالم من الشرِّ المتمثِّل برموز الإرهاب وأدواته.
وحيث إن الإرهاب لم يتم تعريفه فإنه يمكن تصوّر المقصود باستقراء الأحداث والمواقف الجارية التي تؤدي إلى أن الإرهاب المقصود هو كل فكر أو سياسة أو ممارسة تؤدي ـ أو يمكن أن تؤدي ـ إلى التأثير السلبي على الهيمنة الأمريكية، ولذا نجد أن الأهداف المختارة في هذه الحرب تشمل المصحف الشريف بتدنيسه، والمسلم العفيف بإذلاله جنسياً في (أبو غريب وغوانتنامو وباجرام) ، وتشمل ـ أيضاً ـ تتبّع المناهج التعليمية وتعديلها، وتحجيم المدارس والجامعات الإسلامية بل وتدميرها.
لقد وضعت السياسة الأمريكية دول العالم الإسلامي أمام خيارات تنحصر في أن يتمَّ إرجاعها إلى العصر الحجري على يد سيدة العالم، أو الدخول في عملية تدمير ذاتية بجرِّ الحكومات إلى صراعات داخلية لا نهاية لها. إنها سياسة أذكى ما فيها هو السلاح.
إذا كان السودان قد حسم أمره بعدم الخضوع والسماح للقوات الدولية باحتلال السودان فإن اليمن قد بدأ يعي مخاطر الدخول في صراع داخلي بتوجيهات أمريكية، ولذا سارع بتبرئة من اعتُقلوا بتُهم التخطيط لمهاجمة أهداف أمريكية في اليمن، فقد تمَّ اعتقالهم ضمن سياسة تقديم القرابين البشرية التي تستمتع بها الإدارة الحالية في البيت الأبيض.
أما باكستان فإنها تقدِّم مثالاً حيّاً للطغيان الأمريكي والخضوع الإسلامي وآثاره الكارثية على الجانبين؛ فمع التهديد الصريح لباكستان، ومسايرة الحكومة الباكستانية لهذا الهوس الأمريكي بالقرابين البشرية، وقيامها ببيع أمريكا مئات المعتقلين عشوائياً حتى امتلأت بهم معتقلات (غوانتنامو وباجرام) والسجون السرية حول العالم؛ فقد وقعت أمريكا في مشكلة أن آلاف المعتقلين دون أدلة أو تُهم قد أصبحوا حقاً ـ بعد سنوات من الاعتقال ظلماً ـ أعداءً حقيقيين لأمريكا، وأصبح إطلاق سراحهم يمثل خطراً على الأمن القومي، أما إبقاؤهم دون محاكمة فإنه يعري العدالة الأمريكية المزعومة.
لقد مثلت هذه المسايرة الباكستانية بداية لابتزاز أمريكي متواصل تجاوز إلى محاولة جرِّ الحكومة إلى صراع داخلي؛ من استهداف للمدارس الإسلامية، إلى سحب للجيش الباكستاني من الحدود الهندية إلى مناطق القبائل ودخوله في صراع دموي ستكون نتيجته سقوط الحكومة أو تفكّك باكستان. ولذا نجد أن قادة الحكومة يصرّحون أن تصرّفاتهم محكومة بدرجة التهديد الأمريكي، وأنّ كل ما قاموا به وما سيقومون به هو مجرد تنفيذ لرغبات أمريكية، فقد نقلت صحيفة (دون) الباكستانية عن وزير الخارجية (خورشيد محمود قصوري) قوله: «تأييدنا للولايات المتحدة أمر إلزامي لم يكن اختيارياً، ولو كانت باكستان أبدت موقفاً غير متعاون مع الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب كان يمكن أن تتحول البلاد إلى حالة مشابهة لما يحدث في العراق» .
لقد تجاوز الأمر القيام بأعمال لا تخدم مصلحة باكستان إلى اقتراف جرائم بشعة وتبنِّيها وتبرئة أمريكا من أيِّ دور مباشر فيها، فقد تواردت الأنباء بقيام الجيش الباكستاني بعملية برّية وجوّية استهدفت مركز تدريب للمتطرفين ـ كما زعموا ـ ومقتل عشرات المسلّحين ثم تبين أن العملية قامت بها طائرة من طراز (أباتشي) عن طريق صواريخ موجهة (ذكية) .
ومع اتهام المعارضة لأمريكا بتنفيذ العملية سارع الناطق باسم الجيش الباكستاني بنفي اشتراك قوات أمريكية في الهجوم، ثم اعترف ناطق عسكري باكستاني أن الجيش استعمل معلومات استخباراتية أمدّته بها قوات الاحتلال التي تعمل تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان.
وما لم يجب عنه الناطق هو: منذ متى تملك باكستان طائرات (الأباتشي) ؟ وهل تمَّ التأكد من صدقيّة المعلومات الأمريكية؟ وإذا كانت الجثث لمسلّحين فلماذا لم يتم التحفّظ عليها وعرضها مع متعلّقاتها من السلاح إعلامياً؟ ولماذا تُرك أمر التكفين والدفن لأهالي المنطقة مع غياب تامٍّ للقوات التي قامت بالهجوم البرّي المزعوم.
إن ما شاهدناه هو مصاحف ممزّقة وجثث بعضها لأحداثٍٍ صغار السِّنّ.
إن قيام الحكومة بالسماح لأمريكا بضرب مدرسة وقتل ما يقارب المئة من طلبة العلم الشرعي أمرٌ شنيع، وقيام الحكومة الباكستانية بتبنِّي هذه الجريمة أو القيام بها نيابة عن الأمريكان أمرٌ أكثر شناعة. وما أنا متأكد منه أن مبدأ طلب رضا أمريكا سيجرّ إلى مزيد من التجاوزات والجرائم، فأمريكا لم تعد ترضيها القرابين الحيّة، بل تجاوزتها إلى القرابين الميتة؛ تطبيقاً للحكمة الغربية أن المسلم الطيب هو الميت.
ونذكّر كل صاحب سلطة تجاوز الحدود بالظلم وسفك الدماء المسلمة البريئة التي عصمها الله بقوله # في الحديث القدسي: «من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب» ، فلهم أن يختاروا بين حرب البشر وحرب الله.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(231/19)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
من هنا وهناك
- ذكرت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة أن 1.6 مليون عراقي على الأقل شردوا داخل البلاد بمن فيهم 425 ألفاً فروا من بيوتهم هذا عام بسبب العنف الطائفي، وأضافت أن 1.8 مليون عراقي لجؤوا إلى دول أخرى، من بينهم عدد ممن فروا قبل عام 2003م، وقالت المفوضية إن نحو 40 ألف، عراقي يصلون إلى سورية وحدها كل شهر، وأنه يوجد في سورية حالياً 600 ألف لاجئ عراقي، وفي الأردن 700 ألف وفي مصر 100 ألف على الأقل، و 54 الفاً في إيران، ونحو 40 الفاً في لبنان..
[ميدل إيست أون لاين: 2006/11/3م]
- نقلت صحيفة واشنطن بوست عن البيت الأبيض أنه لا يحق لمن اعتقلوا في سجون سرية تابعة للمخابرات المركزية الأمريكية أن يصفوا أمام محكمة كي يتم استجوابهم بحجة أن أساليب الاستجواب المخابراتية من بين أكثر أسرار الأمن القومي حساسية، وأن من المتوقع أن يتسبب الكشف عنها «في حدوث ضرر خطير للغاية» ، وقالت الحكومة للقاضي (ريجي والتون) : إن «الإرهابيين» قد يستخدمون هذه المعلومات في تدريباتهم لمواجهة الاستجواب. [رويترز: 2006/11/4م]
- اعلنت شركة نيتكرافت لمراقبة الإنترنت أن عدد مواقع الإنترنت في العالم تجاوز 100 مليون موقع للمرة الاولى، وقال ريتش ميللر المتحدث باسم نيتكرافت إن أكثر من 27.4 مليون موقع جديد أضيفت هذا العام، وتعني الأرقام الجديدة أن الإنترنت تضاعف في الحجم منذ مايو 2004 عندما وصل المسح إلى 50 مليون موقع حيث كانت المدونات والمواقع الصغيرة للشركات وراء زيادة المواقع.. [وكالات]
- كشفت وثيقة تم نشرها مؤخراً في بريطانيا حملت عنوان «المجتمع تحت الرقابة» أن هناك تزايداً كبيراً في نشر كاميرات المراقبة، وتسجيل تحركات الأشخاص وجمع المعلومات وتحليلها عن عادات السكان الشرائية والاستهلاكية والتنصت على هواتفهم الخلوية واهتماماتهم على شبكة الإنترنت، وذكرت الوثيقة أن عدد الكاميرات يبلغ حالياً 4.2 مليون في بريطانيا أي بمعدل كاميرا واحدة لكل 14 شخصاً.. [ميدل إيست أون لاين: 2006/11/2م]
علامة تعجب
«الهلال الشيعي»
أكد الناطق باسم حزب الله اللبناني الشيعي (حسين رحال) أن الحزب لن يتراجع عن المهلة التي حددها للنزول إلى الشارع بعد أسبوع من انطلاق جلسات التشاور رغم أنها مقررة لأسبوعين، محملاً المسؤولية لفريق الأكثرية وقال: «لقد جعلنا شهر رمضان 45 يوماً، كرمى للرئيس (نبيه) بري، ولن نمدده أكثر «في إشارة منه إلى هدنة رمضان التي أعلنها الحزب، ثم مددها أسبوعين بسبب دعوة (نبيه بري) القيادات السياسية إلى التشاور. [الشرق الأوسط: 2006/11/4م]
«عندما تتبرج العقول»
في برنامج تلفزيوني حواري، تحمست ضيفة البرنامج لمهاجمة النقاب، وقالت: إنها تشعر «.. بالاشمئزاز كلما رأت امرأة منقبة، أو امرأة عارية، وأن الذين يفتون بالنقاب لا علم عندهم، وإنما مجرد جهلاء..» ؛ وتعمل الضيفة أستاذة الفقه الإسلامي بجامعة الأزهر في مصر، وهي ضيفة شبه دائمة على عدد من البرامج الدينية في بعض القنوات الفضائية، ويتم إبرازها بوصفها داعية متنورة، والاشمئزاز في اللغة يَرِدُ بمعنى النفور والانقباض والقُشَعْرِيرة. [بتصرف عن العربية نت: 2006/10/17م]
«المحافظون.. على ماذا؟»
العضو الجمهوري مارك فولي في الكونجرس الأمريكي عن ولاية فلوريدا، تم انتخابه ست مرات لمنصبه، وهو معروف بكونه حامي حمى الأطفال من الاستغلال الجنسي المتفشي في الولايات المتحدة، وهو رئيس للتجمع الذي يعنى بالأطفال المستغلين في مجلس النواب، وحضر قبل شهرين حفلاً في البيت الأبيض للتوقيع على قانون سلامة وحماية الأطفال للعام 2006م، ومع ذلك تكشفت مؤخراً فضيحة حول تبادله لرسائل جنسية تفصيلية مع مراهقين قُصَّر ذكور، إضافة إلى ممارسات متدنية، مما اضطره للاستقالة الفورية في محاولة لمنع تكشف المزيد، خاصة وقد تبين أن حامي الحمى: شاذ جنسياً؛ ويذكر أن الحزب الجمهوري يسيطر عليه المحافظون الجدد. [نيوزويك: 2006/10/24م]
مطاردة الأخت «فلة»
يعاني النظام الحاكم في تونس من مرض غريب اسمه «متلازمة الحجاب» ، وهذا المرض يجعل المصاب به يشعر بحالة من الهياج والهيستيريا لمجرد رؤية الحجاب، ولو كان منكمشاً في صورة غطاء على رأس امرأة، وقد تطور المرض مؤخراً لمرحلة بالغة الخطورة؛ إذ بدأت الأعراض في الظهور لمجرد رؤية دمية أطفال اسمها «فلة» ، هذه الدمية تصور فتاة ترتدي حجاباً «عصرياً» . وحفاظاً على الأمن العام شنت السلطات حملات دهم واسعة النطاق لمطاردة «فلة» في جميع المحلات والأسواق، وأخيراً تمت السيطرة على الأزمة وألقيت «فلة» في غياهب المجهول، مع حرية الشعب التونسي، فداء لحامي الديار. البيت الأبيض، ليس غاضباً من زيادة أسعار النفط:
أثارت شركات النفط الأمريكية غضب الديمقراطيين بسبب الأرباح الهائلة التي تحققت لها مع تزايد أسعار النفط، خاصة في العام الأخير.
ويقول (جون كيري) المرشح الديموقراطي الذي خسر الانتخابات الرئاسية عام 2004: «إن الأرباح التي تحققت في هذا الفصل وحده ناجمة عن الامتيازات التي حصلت عليها الشركات الكبرى بعد أن ساهمت مباشرة في وضع قانون الطاقة، واستفادت من البرامج التي تم تمويلها من المال العام وحصلت على حق استغلال موارد الدولة لغايات تجارية» . وأضاف: «لكن كيف لنا أن نعجب من ذلك حين نعلم أن أكسون قدمت للجمهوريين 89% من مساهمتها في تمويل الأحزاب السياسية؟» .
وفي الصيف الماضي ذهبت عضو مجلس الشيوخ الديموقراطية (بربارا بوكسر) إلى اتهام الشركات النفطية «بالتلاعب بالعرض» لزيادة أسعار الوقود. أما (هيلاري كلينتون) التي يحتمل أن تكون المرشحة الديموقراطية للانتخابات الرئاسية للعام 2008 فتطالب بإلغاء الامتيازات الضريبية التي تمنح للشركات النفطية، وأن توضع المبالغ المتأتية من هذا الإلغاء في «صندوق استراتيجي» يهدف إلى تطوير الطاقات البديلة.
ويدافع مديرو الشركات النفطية عن أنفسهم بالقول: إن تكاليف استخراج النفط من بعض المناطق باهظة، كما يذكرونَ أن ارتفاع الأسعار سببه أيضاً الطلب المتزايد من دول مثل الصين والهند.
وتتربع شركتا إكسون موبيل وشيفرون على عرض النفط في أمريكا والعالم، وتفوق أرباح الشركة النفطية الأمريكية الأولى (إكسون موبيل) في الفصل الثالث أرباح جميع الشركات الأمريكية الكبرى الرائدة في مجالها سواء كان في القطاع المصرفي أو التكنولوجي أو الغذائي.
وقد بلغت ارباح هذه المجموعة 10,49 مليار دولار أي ما يعادل 114 مليوناً يومياً مع رقم أعمال قدره 99,6 مليار دولار، وعلى فترة سنة أزدادت هذه الأرباح بنسبة 26% مع زيادة أسعار النفط خلال الصيف حين وصل سعر البرميل إلى مستويات قياسية متخطياً 78 دولاراً قبل أن يتراجع مرة أخرى، والعشرة مليارات دولار التي ربحتها «إكسون موبيل» بين تموز/ يوليو وأيلول/ سبتمبر تتخطى مجموع أرباح كل من المجموعة المصرفية الأولى «سيتي غروب» (5,5 مليار دولار) وشركة «غوغل» للإنترنت (773 مليون) وكوكا كولا (1,5 مليار) .
أما ثاني شركة نفطية أمريكية «شيفرون» فقد بلغت أرباحها في هذا الفصل خمسة مليارات دولار (+40%) فيما حصدت الشركة الثالثة «كونوكو فيليبس» 3,87 مليار دولار.
وتنتقد المعارضة الديموقراطية الامتيازات الضريبية التي تمنح للشركات النفطية، في الوقت الذي وصلت فيه الأسعار في محطات الوقود إلى معدلات لم تشهد الولايات المتحدة مثلها من قبل (نحو 2,20 دولار للغالون الواحد أي ما يعادل 3,8 ليترات) .. [موقع صحيفة الحقائق 28 10// 2006م]
مرصد الأخبار
أثارت شركات النفط الأمريكية غضب الديمقراطيين بسبب الأرباح الهائلة التي تحققت لها مع تزايد أسعار النفط، خاصة في العام الأخير.
ويقول (جون كيري) المرشح الديموقراطي الذي خسر الانتخابات الرئاسية عام 2004: «إن الأرباح التي تحققت في هذا الفصل وحده ناجمة عن الامتيازات التي حصلت عليها الشركات الكبرى بعد أن ساهمت مباشرة في وضع قانون الطاقة، واستفادت من البرامج التي تم تمويلها من المال العام وحصلت على حق استغلال موارد الدولة لغايات تجارية» . وأضاف: «لكن كيف لنا أن نعجب من ذلك حين نعلم أن إكسون قدمت للجمهوريين 89% من مساهمتها في تمويل الأحزاب السياسية؟» .
وفي الصيف الماضي ذهبت عضو مجلس الشيوخ الديموقراطية (بربارا بوكسر) إلى اتهام الشركات النفطية «بالتلاعب بالعرض» لزيادة أسعار الوقود. أما (هيلاري كلينتون) التي يحتمل أن تكون المرشحة الديموقراطية للانتخابات الرئاسية لعام 2008 فتطالب بإلغاء الامتيازات الضريبية التي تمنح للشركات النفطية، وأن توضع المبالغ المتأتية من هذا الإلغاء في «صندوق استراتيجي» يهدف إلى تطوير الطاقات البديلة.
ويدافع مديرو الشركات النفطية عن أنفسهم بالقول: إن تكاليف استخراج النفط من بعض المناطق باهظة، كما يذكرونَ أن ارتفاع الأسعار سببه أيضاً الطلب المتزايد من دول مثل الصين والهند.
وتتربع شركتا إكسون موبيل وشيفرون على عرش النفط في أمريكا والعالم، وتفوق أرباح الشركة النفطية الأمريكية الأولى (إكسون موبيل) في الفصل الثالث أرباح جميع الشركات الأمريكية الكبرى الرائدة في مجالها سواء كان ذلك في القطاع المصرفي أو التكنولوجي أو الغذائي.
وقد بلغت أرباح هذه المجموعة 10,49 مليار دولار أي ما يعادل 114 مليوناً يومياً مع رقم أعمال قدره 99,6 مليار دولار، وعلى فترة سنة أزدادت هذه الأرباح بنسبة 26% مع زيادة أسعار النفط خلال الصيف حين وصل سعر البرميل إلى مستويات قياسية متخطياً 78 دولاراً قبل أن يتراجع مرة أخرى، والعشرة مليارات دولار التي ربحتها «إكسون موبيل» بين تموز/ يوليو وأيلول/ سبتمبر تتخطى مجموع أرباح كل من المجموعة المصرفية الأولى «سيتي غروب» (5,5 مليار دولار) وشركة «غوغل» للإنترنت (773 مليون) وكوكا كولا (1,5 مليار) .
أما ثاني شركة نفطية أمريكية «شيفرون» فقد بلغت أرباحها في هذا الفصل خمسة مليارات دولار (+40%) بينما حصدت الشركة الثالثة «كونوكو فيليبس» 3,87 مليار دولار.
وتنتقد المعارضة الديموقراطية الامتيازات الضريبية التي تمنح للشركات النفطية، في الوقت الذي وصلت فيه الأسعار في محطات الوقود إلى معدلات لم تشهد الولايات المتحدة مثلها من قبل (نحو 2,20 دولار للغالون الواحد أي ما يعادل 3,8 ليترات) .. [موقع صحيفة الحقائق 28 10// 2006م]
ولا يزال البحث جارياً عن «المعتصم» ...
كشف تقرير أصدرته الشبكة الاتحادية الإقليمية للأنباء «يرين» الشهر الماضي والتي تتبعت حركة تهريب آلاف الفتيات العراقيات إلى بعض الدول في منطقة الخليج العربي، والشرق الأوسط، أن الفتيات يتم استغلالهن في أعمال منحرفة، وخاصة ممارسة الزنا، ومن بينهن 3500 فتاة سجلن كمفقودات في العراق، وأورد التقرير وقائع لفتيات مثل مريم 16 عاماً، التي سلمها والدها تحت ضغط الفقر مقابل ستة آلاف دولار إلى أشخاص، وعدوه أنهم سيرسلونها إلى مدينة عربية لتعمل في تنظيف البيوت، على أن يعيدوها إليه بعد عام، مريم وافقت على الذهاب للمساعدة في تربية إخوتها، خاصة بعدما قتلت قذيفة أمريكية والدتها في بغداد عام 2003، ولكنها فوجئت بأنها ترغم على ممارسة الفاحشة، وبرفقتها عشرات الفتيات اللاتي يتم تهديدهن بالقتل في حال رفضهن متابعة الأعمال الفاحشة، وأخيراً تمكنت من الفرار والعودة إلى بغداد..
يذكر أن الشبكة الاتحادية الإقليمية للأنباء «يرين» التي أعدت ونشرت التقرير تتبع بشكل شبه رسمي للأمم المتحدة، وتتلقى دعماً مالياً رسمياً من دول مثل أستراليا، وكندا، والدانمرك، واليابان، وبريطانيا، والولايات المتحدة. وبالرغم من كونها مركزاً إخبارياً تابعاً للمنظمة إلا أن تقاريرها لا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة.
وذكر التقرير الذي نشرته الشبكة التابعة أن تجار الرقيق الأبيض يعملون بحرية في العراق وقالت «نهى سليم» ناشطة في إحدى الجمعيات النسائية: إن وقف هذه العملية مستحيل.
وقالت ناشطة أخرى: إن هناك نحو عشرة آلاف امرأة من أصول مختلفة، يتم استعمالهن من قِبَل عصابات عالمية منظمة في هذا العمل في المنطقة العربية. وذكر التقرير أن سورية تعتبر من الدول التي تستخدم كمحطة لتهريب الفتيات من العراق، ولكن يبدو أن الأمر لا يثير حفيظة أحد طالما أن الأمر لا يتعلق بتهريب المتطوعين للمقاومة في العراق. [بتصرف عن موقع صحيفة الحقائق]
بوش يحطم الأرقام القياسية:
أجرت جامعتا جونز هوبكنز ومعهد ماستشوستس للتكنولوجيا الأمريكيان وجامعة المستنصرية العراقية مسحاً لأعداد القتلى في العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003، وأظهر المسح أن 600 ألف عراقي قتلوا في أحداث عنف منذ فترة وجيزة قبل الغزو الأمريكي للعراق وحتى الآن، وذكر المسح المشترك أن 31 % قتلوا على أيدي التحالف أي ما يقرب من 200 ألف عراقي، وشملت الدراسة قيام أطباء عراقيين بزيارة أكثر من 1800 منزل لسؤال ساكنيها عن الضحايا والاطلاع على شهدادت وفاة أصحابها، والمثير أن هؤلاء الأطباء أنفسهم تعرضوا للقتل على يد الميليشيات المسلحة رغم أن الأطباء كانوا يلبسون المعاطف البيضاء ويعلقون السماعات حول أعناقهم، ويزعم جورج بوش أن عدد القتلى لا يتجاوز 30 ألف قتيل، وتذكر أرقام وزارة الصحة العراقية أن القتلى 150 ألف قتيل، بينما ذكر الدكتور حارث الضاري أن عدد القتلى من السنَّة فقط 200 الف، مائة ألف منهم بيد الاحتلال والبقية بيد الميليشيات الشيعية. وذكرت مجلة لانسيت البريطانية الطبية المعروفة أن عدد القتلى في العراق بلغ 655 ألف قتيل خلال أعوام الاحتلال، وحسب أرقام الجامعات الثلاث فإن رقم 600 ألف يمثل 2.5 % من الشعب العراقي، ويمثل وفاة 15 ألف قتيل شهرياً. ويذكر أن القوات الأمريكية تسببت في قتل نحو 10% من الفيتناميين في حربها الطويلة ضد هذا البلد؛ فهل ينتظر الأمريكيون أن يحققوا رقماً قياسياً في العراق قبل أن ينسحبوا؟ [الإحصاءات من مجلتي نيوزويك 24 10/ 2006/م والحوادث 24 10/ 2006/م]
«سي آي إيه» هل تصبح «م م أ» ؟
تواجه الاستخبارات الأمريكية أزمة كبيرة في ترجمة الوثائق المتراكمة والمتزايدة بصورة هائلة باللغة العربية، ولجأت الإدارة الأمريكية للاستعانة بمترجمين أميركيين عرب يعملون من منازلهم وبدوام جزئي، وقال مدير المركز الوطني الافتراضي للترجمة إيفيريت جوردان: «لدينا أناس لديهم عمل بوقت كامل ويعملون لحسابنا بضعة ساعات في الأسبوع حين يمكنهم ذلك» .
وأنشئ المركز الوطني الافتراضي للترجمة في 2003 من قِبَل الكونغرس، وذلك للاستجابة جزئياً لحاجات أجهزة المخابرات والبنتاجون.. وأقام المركز شبكة مترجمين يعملون من منازلهم في الولايات المتحدة ويترجمون وثائق بعشرات اللغات، غير أن اللغة العربية هي الأكثر طلباً في هذه الفترة بسبب الحرب في العراق، والحرب الأمريكية ضد الحركات الإسلامية، بدعوى محاربة الإرهاب ... ويعاني المركز من نقص في المترجمين العرب وهو في تنافس مع باقي أجهزة الدولة على التعامل معهم، وأبرم عقوداً مع الجامعات من أجل إعداد موظفين مستقبليين. وقال جوردان: «الجميع يبحث عن أشخاص يتحدثون العربية» .
غير أن التكلم باللغة العربية وحده غير كاف إذ يجب أيضاً التحدث بطلاقة باللغة الإنكليزية، وامتلاك خبرة في مجالات تخصص مثل أسلحة الدمار الشامل وذلك للتمكن من ترجمة وثائق تقنية.
وصرح جوردان: «هذا الأسبوع لدينا 150 شخصاً يعملون» مترجمين من العربية، وأوضح أن عقود العمل يمكن أن تكون قصيرة جداً ليومين أو ثلاثة أيام، للقيام بمهمة محددة وهو ما يفسر تغير أعداد العاملين.
ويدفع للمترجمين باحتساب عدد الكلمات أو الساعات في حال تعلق الأمر بشريط مسجل، وحالياً العمل في الترجمة من اللغة العربية هو الذي يدر أعلى الأجور؛ إذ يتم دفع 39 دولاراً عن الساعة، وهو أجر أعلى بكثير من الترجمة من الأسبانية التي يدفع 27 دولاراً لقاء ساعة ترجمة منها إلى الإنكليزية.
ولا يعرف المترجمون أي فرع في الحكومة الأمريكية طلب ترجمة الوثيقة التي يترجمونها، وتتم معالجة الوثائق التي تصنف من أسرار الدفاع، ما يمثل ربع عمل المركز، من قِبَل مترجمين في مكاتب مؤمَّنة تابعة للحكومة الأمريكية.
ويجب أن يكون المترجمون العاملون لحساب المركز الافتراضي للترجمة من حاملي الجنسية الأمريكية، ويتم إجراء عمليات تثبُّت من ماضيهم وعلاقاتهم. وتحت ضغط توسع عمليات التجسس على كل ما هو عربي أضطرت الأجهزة الاستخباراتية إلى إدخال مرونة على معايير اختيار المترجمين، خاصة ما يتعلق بعلاقاتهم العائلية في الخارج. وأضاف: «إن ذلك يجعل عمليات التثبت أكثر تعقيداً» . بيد أنه أشار إلى أن الأمر يستحق المخاطرة بالنظر إلى أن هؤلاء المترجمين «يحملون معهم تجربة ثقافية غنية، مرتبطة بعلاقاتهم العائلية، وهذا يضاف إلى قيمة ترجمتهم للمعلومة» . [بتصرف عن موقع ميدل إيست أون لاين: 2006/11/2م]
س وج
س: كيف يمكن معرفة العدد الحقيقي للقتلى الأمريكيين في العراق، وسط فيض المعلومات والتحليلات المتضاربة؟
ج: وفقاً لموقع «تي بي آر الإخباري» وهو موقع يتابع دورياً أعداد القتلى والجرحى من الجنود الأمريكيين في العراق، فإن عدد القتلى من الجنود الأمريكيين قد فاق الـ 15000 جندي أمريكي، وزاد عدد الجرحى عن 27000 جندي أمريكي. وذكر كاتب أمريكي اسمه (براينج هارينج) في مقالة على نفس الموقع، أنه تمكن من استلام نسخ عن قوائم الشحن الخاصة بوحدة النقل العسكري الجوي للجنود الأمريكيين، الذين تم نقلهم إلى قاعدة «دوفر» الجوية، وهي تظهر أن أعداد الجنود الذين تمّ شحنهم أكبر بكثير عن الأرقام الرسمية المعلنة. كما يؤكّد الكاتب، وهو محلل ومراسل في المجال العسكري والاستخباراتي، أنّه يمتلك وثيقة رسمية نشرتها وزارة الدفاع الأمريكية ثمّ أعادت سحبها مباشرة، وهي تشير إلى أن عدد القتلى الأمريكيين في العراق قد بلغ 10000 قتيل في الفترة الممتدة من آذار/ مارس عام 2003 إلى تموز/يوليو 2005، ويستنتج (هارينج) أنّه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار اعتراف المصادر الرسميّة الحكومية بوجود 15000 إصابة بالغة وخطيرة إضافة إلى 25000 جندي جريح، فإنّ عدد القتلى الأمريكيين الذي لا يتعدى وفق الإحصاءات الرسمية الـ 3 آلاف قتيل يصبح غير واقعي على الإطلاق، نظراً لنسبته القليلة. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعداه وفق التقرير إلى هروب ما لا يقل عن 5500 جندي أمريكي إلى أيرلندا، وكندا، ودول أوروبية أخرى.
وكانت جمعية المحاربين الأمريكيين القدامى كشفت عن وثائق رسمية تفيد بأن العدد الحقيقي للقتلى الأمريكيين في حرب فيتنام يزيد بحوالي 20000 قتيل، عن الأرقام الرسمية التي كانت تنشر للجمهور آنذاك؛ إذ أوردت الأرقام الرسمية الأمريكية سقوط 58182 أمريكياً بينما العدد الحقيقي وفق تلك الوثيقة يبلغ أكثر من (78000) .
وحسب تقديرات الجماعات الجهادية في العراق فقد نشرت مجلة الفرسان على الإنترنت والتي تصدر عن عن هيئة الإعلام المركزي في الجيش الإسلامي في العراق أن إجمالي القتلى الأمريكيين يزيد على 25000 قتيل وعشرات آلاف الجرحى منذ بدء الاحتلال.
وتذكر بعض المواقع الإخبارية العربية على الإنترنت تقديرات تصل إلى ما يقرب من 34 ألف قتيل، منذ بدء الاحتلال، كما يذكر موقع المختصر، والذي يعتمد في مصادره المعلوماتية في هذه القضية على موقع مفكرة الإسلام ووكالات الأنباء والمواقع العراقية ثمّ موقع الجزيرة الإخباري.
وللجمع بين الإحصاءات المتضاربة نورد عدة ملاحظات:
أولاً: إنّ الأعداد الرسمية الصادرة عن الحكومة الأمريكية أو البنتاغون لا يمكن أن تكون حقيقية أو حتى قريبة من الحقيقة.
ثانياً: الأرقام الرسميّة الأمريكية لا تشمل الجنود الذين يموتون خلال عمليات إسعافهم أو عند نقلهم، كما لا تشمل الموظّفين الأمريكيين أو المتعاقدين الأمريكيين أو المرتزقة.
ثالثاً: يجب أن نأخذ بعين الاعتبار حجم العمليات اليومية للمقاومة، وقد ذكر (بوب ودوورد) الصحفي الأمريكي البارز، أن هناك ما بين 800 إلى 900 عملية تنفذ أسبوعياً ضدّ القوات الأمريكية، وهذا يعني أكثر من 100 هجوم يومياً، أي بمعدل أربع هجمات بالساعة. وأفاد الجيش الإسلامي في سبتمبر أنّ عدد العمليات التي قام بها خلال الأربعة أشهر الأخيرة بلغ 2600 عملية عسكرية متنوعة.
خامساً: كتيبة القنص في الجيش الإسلامي أردت حوالي 666 جندياً أمريكياً قتيلاً (عدد كبير منها مصور) .
سادساً: اعترف البنتاغون بأن أكثر من 5500 جندي فروا من الخدمة منذ بداية حرب العراق، وقد نقل عن خط هاتفي أقيم لمساعدة الجنود الذين يريدون ترك القوات المسلحة، أن عدد المكالمات التي يتلقاها الآن هي ضعف عددها عام 2001، وقد رد هذا الخط الهاتفي الساخن على 33 ألف مكالمة في العام الماضي!!
العدد التقريبي للقتلى الأمريكيين في العراق:
بالنظر لما ورد أعلاه من معطيات؛ نلاحظ أنّ هناك أربعة أرقام رئيسية فيما يتعلق بعدد القتلى الأمريكيين في العراق هي:
1 - 2790 قتيلاً وفقاً للأرقام الرسمية الأمريكية.
2 - أكثر من 15000 قتيل وفقاً لتقديرات المصادر الأجنبية المستقلة.
3 - أكثر من 25000 قتيل وفقاً لتقديرات الجماعات الجهادية في العراق (الجيش الإسلامي) .
4 - 33693 قتيلاً وفقاً لتقديرات المواقع الإخبارية العربية (المختصر للأخبار) .
ونستطيع أن نقول إن متوسط هذه الأرقام الثلاثة الأخيرة مجتمعة يساوي أكثر مِن 24000 قتيل أمريكي، وهو رقم منطقي ومقبول لعدد قتلى الأمريكيين في العراق والذي يتوافق مع الحقائق والمعطيات والوثائق، وهو يشكّل نسبة حوالي 9.8% من حجم الأمريكيين الكلي الموجود في العراق. [باختصار عن مقال للكاتب (علي باكير) ، الموقع الشخصي]
أخبار التنصير
السلطات السعودية توقف منصّر فلبيني بتبوك:
اعتقلت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة تبوك بالمملكة العربية السعودية وافداً أجنبياً يدعو للتنصير.
وصرح الشيخ فهد السويح رئيس هيئة الأمر بالمعروف فرع «سلطانة» أن الوافد فلبيني الجنسية، وقد استأجر إحدى قاعات الأفراح بتبوك وأخذ يقرأ على الحاضرين أحد كتب الإنجيل، وكان الحاضرون قرابة 150 فرداً من جنسيات شتى، مشيراً إلى أن هذا المنصر قد استعان بأجهزة عرض مرئية.
وأضاف الشيخ فهد أن هذا المنصر هو قس يدعى «توني باباكيارو» ويبلغ من العمر 40 عاماً، وأنه على الرغم من فداحة ما صنع هذا المنصر إلا أنهم دعوه لاعتناق الإسلام، وقدمت له الجاليات الكتب والشرائط التي توضح دين الإسلام. [صحيفة المدينة السعودية 16 أكتوبر]
الكنيسة المصرية تستعد لإطلاق ثاني قناة فضائية:
كشفت قيادات كنسية في مصر عن قرب تدشين قناة فضائية باسم «قبط - سات» ؛ لتكون ناطقة بلسان الكاتدرائية المرقسية القبطية، وتعبر عن الكنيسة الأرثوذكسية في مصر.
وألمحت القيادات الكنسية إلى أنه تمت الموافقة على طلب الكنيسة ببث القناة على القمر الصناعي المصري «نايل سات» ، وهو ما لم يؤكده المسؤولون عن القمر المصري.
وستكون هذه القناة بمثابة ثاني فضائية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية المصرية يجري تدشينها بعدما احتفلت الكنيسة المصرية يوم 14 نوفمبر 2005م ببدء البث التجريبي لقناة «أغابي» - التي تتخذ من الكاتدرائية المرقسية أيضاً مقرّاً لها - على القمر الصناعي الأمريكي.
وتقول قيادات كنسية: إن الاستعدادات تجري حاليّاً للبدء في أقرب وقت بالبث التجريبي لقناة «قبط سات» ، وأن أستوديو القناة الرئيسي تم بناؤه على مساحة ألف متر مربع تحت إشراف عدد من الإعلاميين الأقباط. وتضيف أن البث الرئيسي للقناة سيبدأ عندما يكون لديها أكثر من 200 ساعة بث مسجلة، زاعمة أن البرامج والمواد التي ستعرض على القناة لا تخاطب إلا النصارى خاصة في مصر، وأنها ستعرض الكثير من النشاطات الكنسية. [موقع: إسلام أون لاين 1/11/2006م]
الجزائر تكشف حملات تنصير من مغتربين في فرنسا:
كشف وزير الأوقاف الجزائري تورّط مغتربين جزائريين بفرنسا في حملات التنصير في بلاده خلال السنوات العشر الماضية.
وقال وزير الأوقاف بو عبد الله غلام الله إن هؤلاء المغتربين يتظاهرون بزيارة موطنهم الأصلي كل سنة لقضاء عطلة الصيف، إلا أن هدفهم الحقيقي هو جلب كتب تبشيرية يوزعونها على الناس، وهو ما أنتج بحسبه تنصّر عدد غير قليل من الجزائريين.
وأضاف الوزير على هامش افتتاحه فعاليات جائزة الجزائر الدولية الثالثة لحفظ القرآن الكريم: إنّ الكنيسة البروتستانتية في الجنوب الفرنسي تلجأ إلى إعداد وطبع نسخ من الإنجيل وكتب تنصير بـ «الأطنان» وتطلب من المغتربين الجزائريين توزيعها في بلدهم. [صحيفة الخليج الإماراتية 4/11/2006م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
الشاباك يقتل المرضى الفلسطينيين:
«جهاز الأمن العام لدينا متهم من قِبَل رابطة أطباء من أجل حقوق الإنسان بأنه يتبع سياسة منهجية لمنع دخول المرضى الفلسطينيين إلى إسرائيل لتلقي العلاج بزعم اعتبارات أمنية وهمية، والرابطة تؤكد أن الشاباك يقوم بتطبيق السياسة بشكل عشوائي يؤدي لوفاة المرضى على الحواجز» . [صحيفة هآرتس العبرية 12/10]
الهروب الأمريكي من العراق:
«لا شك أن الهروب الأمريكي المقترح من العراق سيعطي دفعة هائلة لحركة الجهاد العالمية، وسيفسره ملايين المسلمين بأنه دليل(231/20)
الحرف الأصيل
سعيد بن عبد الله الزبيدي
عشقت حروف البوح تنداح رقّة
تذوب حنيناً ثم تنثال سلسلاً
ويأسرني حرف الصفاء إذا جرى
وينتزع الدمعَ العصيَّ رصينُه
يصير به في لجّة الشدو سابحاً
يزيح ستارَ الهمِّ عنك رنينُه
وتسمو مع الحرف الزكي إذا سما
هو الحرف إحساسٌ إذا رقّ دافئ
يذيب فؤاد الحُرّ شجواً ونغمة
مسافة في مدى الأحلام شاسعة
تحيطك معنى تحتويك تأمّلاً
تخال بها من نفث هاروت رقية
ولست ترى زهر الحياة بدونه
عشقتك يا حرف السمو لأنني
بدربك خَيْلي ما سئمت صهيلها
إنِ الشعرُ يرقى ترتقِ النفس عزة
تصافح أهداب المشاعر بالسحرِ
تتوق لها روحي ويسمو بها فكري
خفيفاً على الوجدان في رقّة يسري
إذا قلّبَ القلب الشجيّ على جمرِ
وتبذل عيناه النفيسَ بلا مهرِ
وتحيا مع الأنغام في طيِّب النشرِ
تعانق شمس الكون في أُفقها تجري
وسيفٌ إذا ما احتدَّ ينطق بالزّجرِ
إذا ما ازدهى نبض الخواطر بالفكرِ
مكانها كالسَّنا من كوكب درّي
وتهطل غيثاً في مرابعك البِكْرِ
يغرد فيها بالرّؤى بارق الفجرِ
وكل لذيذ الصيد في لجّة البحرِ
رأيت سفين الشعر دونك لا يجري
وغايتك القصوى بذلت لها شعري
ويغدُ لها درب المفاخر ذا أسرِ(231/21)
بريمر وعام في العراق
ضوء على (مذكرات بريمر) بعد عام على العراق
أ. د. نعمان السامرائي
عيَّن الرئيس بوش السفير المتقاعد (بول بريمر) مبعوثاً إلى العراق، قضى ما بين الشهر الثالث من عام 2003م حتى حزيران عام 2004م، وكان آخر وظيفة شغلها سفيراً متجولاً لمكافحة الإرهاب.
كتب مذكراته مستعيناً بحاسوب محمول، وبر جل صاحب خبرة؛ فأخرج المذكرات بعد أن سقط، أو أسقط، منها رسائل مهمة تبادلها (بريمر) مع المرجع الشيعي (آيه الله السيستاني) ، عبر وسطاء ذكر بعضهم، ورسائل لزوجته في أمريكا تصور ما كان يعانيه من ضغط، وصلت إلى حد البوح بأنه (محبط) وأنه سيكون (كبش فداء) ؛ لأنه كان يعيش ما يسميه (هاجس الإرهاب) ، وكل قضية ينظر لها من هذه الزاوية. لهذا عاش يحارب بكل ما لديه من قوة ضد سحب أية قوات أمريكية من العراق، والأمر الآخر أنه ذكر بشجاعة أنه كان يعمل وفق سياسة (فرِّق تسد) ، وقد ظل يلعب على الفرقاء الكبار في العراق، محاولاً كسب طرفين ضد الطرف الثالث، فإذا كان الطرف عربياً سنياً أو شيعياً أو كردياً فهو يحاول كسب طرفين ضد الثالث، لاعباً بمهارة على التناقضات، مُخوِّفاً كل طرف بأنه يخسر إذا تشدد أو لم يساير السياسة الأمريكية.
وكان شجاعاً حين صرح أكثر من مرة أنه: يمثل قوة الاحتلال، وأن الكلمة الأولى له، ونسيان ذلك والتغني بالديموقراطية، لكنه يذكر: بأنهم لم ينفقوا الملايين ولم يضحوا بأبنائهم ليفعلوا كذا أو يضروا بكذا.
كان (بريمر) خلف حل الجيش العراقي والشرطة، ابتداءً صرح بأن أصدقاءه حثوه على ذلك، لكنه راح يعتذر بأن الجيش حل نفسه، لكنه سجل الأطراف الكردية والشيعية التي أسعدها ذلك، وذكر أنها قالت: هذا أفضل عمل قام به في العراق خلال فترة وجوده، وإن كان الواقع يشهد بأنه الأسوأ، والأكثر سواداً.
يسجل ـ دون مواربة ـ اهتمامه واهتمام حكومته بالمحافظة على (وزارة النفط) ؛ لأنها تحوي الكثير ممّا يهمهم، ويسكت عن حرق وإتلاف (14) وزارة. كما يصمت عن ذكر فتح مخازن الجيش العراقي، والسماح لكل من يريد أن يأخذ من السلاح ما يريد، ولم يذكر مصير هذا السلاح، والذي قُطِّع وبِيع (خردة) ، وأن العائد كان له مع بعض المتنفذين (الجدد) ببغداد. سأكتفي بذكر بعض القضايا، فالمذكرات استهلكت (445) صفحة، نسقها (محترف) ليخرجها بحيث لا تسيء لصاحبها ولا لحكومته، وهذه بعض القضايا:
1 ـ (بريمر) يؤكد: نحن قوة احتلال، ولن نتحايل على ذلك، قالها في الاجتماع الأول مع العراقيين وكررها أكثر من مرة (1) .
بينما يصرح عراقيون (منتفعون) : إن القوات الأمريكية قوات تحرير!
2 ـ محاربة تأسيس الجيش العراقي: يذكر (بريمر) أن الأكراد والشيعة رحبوا بحل الجيش العراقي، وأمروا أتباعهم بالتعاون مع (التحالف) منذ (تحرير العراق) ، ولا يمكننا المخاطرة بفقدان تعاونهم (2) .
3 ـ يمنُّ (بريمر) على الجيش العراقي الذي حله قائلاً: نحن سندفع لأشخاصٍ كانوا قبل أسابيع فقط يقتلون الشبان الأمريكيين، لكن ذلك ثمن (يجب تحمله) .
الجيش العراقي كان يحارب في بلده جيشاً جاء من وراء البحار، وخرب العراق، وقتل وما يزال، فمن هو الغازي ومن هو المغزو؟؟ وأخيراً: ما هذا الكرم الحاتمي يا (بريمر) ؟؟
4 ـ يصور (بريمر) الوضع في العراق في منتصف عام 2003م قائلاً (3) : الكهرباء دون المستوى القياسي، وفيها الكثير من الأخطاء، ومرفق الماء والصرف الصحي يشكلان وصمة عار في بلد من أخصب المناطق في العالم، أما نظام المواصلات والاتصالات فهو من نوعية ما في العالم (الرابع) وليس الثالث، وبالإجمال فالبنية التحتية للعراق أسوأ مما هي عليه في البلدان الأخرى، أما المدارس فـ (80%) منها في حالة يرثى لها ـ كما تقول اليونسيف ـ.
وبعض الفصول الدراسية يحشر فيها (180) طالباً، ويوجد كتاب واحد لكل (ستة) طلاب في المتوسطة (4) .
5 ـ يذكر (بريمر) أن المياه تتسرب وتضيع، والمجاري تعمل بطاقة 20%، والجديد أن النفايات ترمى بنهر دجلة والفرات، ويقدر تصريف 000،500 طن من النفايات ـ غير المعالجة ـ (برميها) في دجلة والفرات (5) .
6 ـ أسلحة الدمار الشامل: يذكر (بريمر) بغضب: أن حكومته أرسلت (1400) فرد بين مدني وعسكري، يقودهم شخص اسمه (بيل) يحسن العربية ومختص بأسلحة الدمار.
أقامت الحكومة الأمريكية أكبر محطة في العالم (محطة بغداد) ، ومهمتها البحث عن أسلحة الدمار الشامل، لكنها لم تجد شيئاً.
يخاطب (بريمر) (بيل المذكور) قائلاً: إن البحث عن الأسلحة مهم، لكن الواجب علينا أن نهاجم من ينسفون عرباتنا ويقتلون جنودنا، ويخربون خطوط الكهرباء وأنابيب النفط، فجنودنا من المستبعد أن يُقتلوا بأسلحة الدمار الشامل، لكنهم يتعرضون يومياً للتفجير على أيدي الإرهابيين، والواجب العثور على هؤلاء والقضاء عليهم، وهو من الأولويات ... يقول (بريمر) : إن (بيل) لم يبدُ مقتنعاً (7) .
وبالمناسبة فإن هؤلاء، وغيرهم كثير، يبحثون عن نسخة من (توراة) قديمة كانت في منطقة (الكفل) في جنوب العراق واختفت، والبحث ما يزال جارياً عنها، وقد تكون وصلت لـ (الصهاينة) ، مع الكثير من التحف التي سرقت من المتحف العراقي، ومنها ألوف الألواح المكتوبة والمنقوشة بالخط المسماري، والتي لا تقدر بثمن.
7 ـ السفير (بريمر) ينثر وعوداً لكن بدون قبض:
يخاطب (بريمر) العراقيين قائلاً: ستعيشون بكرامة وبسلام وازدهار، مستقبلكم مليء بالأمل والكرامة، وإن كان من الصعب الحفاظ على الكرامة عندما تسير قوات (أجنبية) في شوارعكم، بصرف النظر عن حسن نواياها؛ لكن في الأشهر التالية سيقل عددها (7) .
الذي حصل حتى الآن عشرات الألوف من المعتقلين، ووصل عدد القتلى 50 قتيلاً فأكثر، ولا ماء ولا كهرباء، ولا بنزين ولا غاز للطبخ (وستعيشون بكرامة وسلام وازدهار) !! علماً بأن خطة (بريمر) كانت ضد سحب أي جندي أمريكي من العراق، وقد حارب بكل قواه لإبقاء الجيش الأمريكي وزيادته.
وصدق الله العظيم فيما ذكره عن قصة بلقيس مع نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ: {قَالَتْ إنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] .
8 ـ (بريمر) الذي يبدو أحياناً أنعم من الحرير، ويتحدث عن الاحتلال وأنه ضده، ولا يوجد في العالم من يقبله، ومع ذلك ينسى كل هذا فيقول ـ وهو يخاطب وزراء عراقيين ـ: أنتم الآن مسؤولون، لكن عليكم أن تعلموا من كبار مستشاريكم في الائتلاف بشأن مبادرات سياسية كبرى (مقترحة) ، أحببتم ذلك أم كرهتموه؟! بالطبع ليس من الممتع أن تكون خاضعاً للاحتلال، ويمكنني أن أضيف: أو أن تكون المحتل، فالائتلاف هو (السلطة الحاكمة هنا) (8) .
9 ـ شهادة صريحة: كان (بريمر) يدور في زيارات على الوزارات العراقية، وزارَ وزارة (العدل) ، وكان الوزير هاشم الشبلي، في استقباله، وبعد مباحثات قال (بريمر) (1) : كان الشبلي بالنسبة لي برهاناً على أن (الطائفة السنية) تضم قادة مهمين لمستقبل العراق، وغير ملوثين بالبعثية.
تلك شهادة، مع أن سياسة (بريمر) كانت قد دمرت كل سلطة أو وجود للعرب السنة، وسلمت كل شيء لغيرهم، وهمشتهم وأقصتهم إقصاء كاملاً.
بل إن (بريمر) راح يشيع أن الشيعة والأكراد يشكلون 80% من سكان العراق (2) . وهو تقدير لا صحة له (3) .
10 ـ الأسلحة المفقودة: يذكر (بريمر) أن الدكتور (ديفيد كاي) جاء للعراق مع مجموعة في بداية (تشرين الأول) من عام 2003م، ثم قدم تقريراً لمجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين جاء فيه (4) : فلم يكن يمتلك (صدام) ـ عند اندلاع الحرب ـ آلافاً من الأطنان من الغازات السامة أو الرؤوس الحربية لإطلاقها، من تلك التي قالت أجهزة الاستخبارات الغربية: إنه يمتلكها ... ا. هـ.
ويبدو أن هذه كانت قناعة السفير (بريمر) ، لذا ذكرها دون تعليق وكان يستنكر البحث عنها، وحين سأله الرئيس بوش عن عمل (المخابرات) ؟ يخبره بصراحة: أنه غير راضٍ؛ فهي ما تزال تبحث عن الأسلحة التي لا جدوى من البحث عنها، وتترك أموراً أهم وأكبر.
11 ـ النفط النفط: يتحدث السفير (بريمر) عن شاب عراقي لقبه (خشب) قام وعماله بحماية مصفاة حين أراد غوغاء نهبها، حتى جاء جنود أمريكان وسيطروا على المصفاة القديمة (5) .
(بريمر) هزه هذا الموقف فقال: أنت رجل شجاع، لكننا بحاجة إلى أكثر من هذه الشجاعة العنيدة، فصناعة النفط بمثابة دم الاقتصاد العراقي، وسيموت الاقتصاد إذا لم يتدفق، فالعراق يملك ثاني أضخم احتياطي نفطي في العالم، أي نحو (112) مليار برميل ... ا. هـ.
وهنا استذكر ما قاله مسؤول أمريكي: لو كانت الكويت تشتهر بزراعة الموز (فقط) لما أرسلنا جيشنا إلى هناك.
وحين سقطت بغداد كان أول شيء فعله الجيش الأمريكي إرسال دبابات لحراسة وزارة النفط، بينما تركت (14) وزارة للنهب والحرق، وأحرقت مكتبة الأوقاف، وحاول الصحافي البريطاني (باتريك سيل) أن يحرك الجنود الأمريكان فلم يتحرك أحد، ونُهب المتحف العراقي ولم يتحرك أحد، ومع ذلك يريد الأمريكان إقناع العالم أنهم جاؤوا لنشر الديموقراطية وليس من أجل النفط!!
12 ـ اعتراف صريح: يكرر (بريمر) موضوع حل الجيش والشرطة، وكل مرة يعلل بأمر، لكنه يصرح بأنه وأحد مساعديه (والت) : ارتكبنا الخطأ المميت بتسريح القوات العراقية، ويبدو أن البنتاغون يمهد الطريق لتصحيح ذلك الخطأ.
لكنه يدرك خطورة ذلك على التحالف الثلاثي ـ الأمريكي الكردي الشيعي ـ لهذا فهو يقول: إننا إذا أعدنا وحدات من الجيش القديم، فإننا نعرّض هذا التعاون للخطر، وربما ندفع الشيعة إلى معارضة الائتلاف ... ا. هـ (6) ، أما اليوم فهناك مفاوضات جادة من أجل إعادة الكثير من الضباط.
13 ـ دعوة الكل وحضور خمسة فقط: بين (بريمر) ومجلس الحكم ود مفقود، وتهجم من قبل (بريمر) بمناسبة وبدونها، وقد دعاهم إلى (عشاء خاص بمناسبة عيد الشكر) لكن لم يحضر سوى خمسة فقط (أكراد وشيعة) (7) . ظل (بريمر) يتهم مجلس الحكم بالتكاسل وعدم الفاعلية، وعدم الرغبة بالعمل، وفي كل مناسبة يسمع المجلس ما يهز البدن!!
14 ـ جئنا من أجل حرية العراق: السفير (بريمر) نسي مقولته عن جيش بلاده، وراح يتحدث قائلاً: ذكّرت العراقيين بأن شبابنا وشاباتنا اجتازوا نصف العالم للموت من (أجل حرية العراق) . علينا أن نفهم ما هي المخاطر التي تواجهنا اليوم، إننا نواجه تحدياً لمستقبل العراق، هل سيحكم القانون العراق؟
وهنا أستعيد ما قاله المسؤول الأمريكي عن الكويت: لو كان العراق يزرع الموز لما أرسلنا جنودنا للقتال فيه.
فحرية العراق آخر ما يشغل بال السياسة الأمريكية. وأدلهم على مكان أفضل: فالحرية تقتل يومياً في فلسطين، وفي بلاد كثيرة رأس مالها أنها موالية لأمريكا عاشقة للدولة العبرية.
فلماذا هذا التذاكي؟ ولماذا لم يذهب جيشكم إلى كوبا أو كوريا الشمالية مثلاً؟
ولماذا الإصرار على إرسال جيش إلى دارفور ومنع ذلك عن فلسطين؟(231/22)
تهديد الوهابين الأمريكيين
عبد الله بن إبراهيم المسفر
مقال نشر في (سان فرانسيسكو إجزامنر) 11 نوفمبر 2002م، وفي (ديترويت نيوز) 26 نوفمبر 2002م، وفي (ذي مسلم أوبزفر) .
لقد أصبحت مأساة 11 سبتمبر 2001م الآن فرصة للمشاريع الاستثمارية السياسية. هناك أناس أكثر فأكثر يستخدمونها لتحقيق التقدم للمصالح الطائفية التي غالباً ما تختلف مع المصالح القومية الأمريكية.
وهناك مجموعة واحدة وهي (مجموعة من يسمونهم بالوهابيين الأمريكيين؛ والأصح أن يسموا بالمتعصبين الأمريكيين) تستخدم أكثر من غيرها أحداث 11 سبتمبر لتنفيذ سياستها المتطرفة بروح الانتقام.
إن كلمة (وهابي) في زعمهم تقدم تعريفاً لشكل أساسي للتفسير الضيق والمتعصب للإسلام.
ويتسم أولئك الأمريكيون المزعومون بما يلي:
1 - معارضة الحقوق المدنية والعدالة بالنسبة للنساء والأقليات الأخرى.
2 - يعادون العلمانية، ويؤيدون فرض الدين على الآخرين بالقوة.
3 - لا يتسامحون على الإطلاق مع الآخرين الذين لا يشاطرونهم معتقداتهم الدينية نفسها.
هؤلاء (الوهابيون) المزعومون؛ وبسبب نظرتهم غير المتسامحة وحساسيتهم تجاه قيم التحرر ومؤسسات التحرر ينغمسون على الدوام في (لاهوتية الكراهية) (1) .
ولسوء الحظ فإن هناك مجموعة مماثلة للمتطرفين الدينيين المتعصبين في أمريكا تقوم بنسف الشخصية العلمانية لأمريكا، وتقلب رأساً على عقب رسالة السلام للنصرانية، وتقوم بتلويث البيئة الثقافية الاجتماعية في أمريكا. هؤلاء (الوهابيون الأمريكيون) مثلهم في ذلك مثل نظرائهم المسلمين؛ لا يتسامحون مع الشذوذ الجنسي، ولا مع الحركة النسائية، ولا مع الحقوق المدنية؛ كما أنهم لا يؤمنون بفصل الدين عن الدولة، ويكرهون أتباع الديانات الأخرى! هناك ثلاثة من أبرز القساوسة وأقواهم هم: (جيري فالويل) ، (بات روبرتسون) و (فرانكلين جراهام) يمثلون الوهابيين الأمريكيين من خلال الكلمات والخطب التي يلقونها.
قد يتذكر القارئ أنه في أعقاب 11/9 مباشرة وجه (القس جيري فالويل) اللوم إلى مؤيدي الإجهاض والشذوذ الجنسي والحقوق المدنية؛ لأن هؤلاء قد أغضبوا الله بأفعالهم؛ مما تسبب في حدوث هجمات 11 سبتمبر. لكنه اعتذر فيما بعد عمّا ورد في بياناته عندما اعترضت كافة الأطياف السياسية على ما قاله، بمن في ذلك الرئيس الذي وصف تعليقات (فالويل) بأنها: «غير مناسبة» كان بيان (فالويل) يخلو من الحياء، ويقدم مثالاً لا يتسم بأي حساسية لانتهازيته السياسية التي لم تسعَ فقط إلى تسييس مأساة (11/9) ؛ ولكنها سعت إلى إثارة الكراهية ضد الجماعات التي يستهدفها (فالويل) وأتباعه على الدوام. وإذا لم يكن (فالويل) قد جُوبه بقوة من جانب كل من عناهم؛ فإن حملته الصليبية ضد الحقوق المدنية ومن يمارسون الشذوذ الجنسي كان يمكنها أن تجد وقوداً لها في استغلال العواطف المرتبطة بـ (11/9) وبالتالي تكسب زخماً أكثر.
خلال الأسابيع القليلة الماضية شن (الوهابيون الأمريكيون) حملة خطابية على الإسلام ورموزه الدينية، غير مدركين للكراهية التي يثيرونها ضد المسلمين في أمريكا، فضلاً عن المشاعر التي يثيرونها ضد أمريكا في العالم الإسلامي.
لقد وصف كل من (القس فالويل) و (القس روبرتسون) نبي الإسلام بأنه، (إرهابي) وقالا: إن الإسلام وتعاليمه يمثلان مصدر العنف. وأعلن (القس فرانكلين جراهام) أن الإسلام وتعاليمه شريرة وخبيثة. وقد تبادلا فيما بينهما أدوار الخطابة لزرع الكراهية للإسلام والمسلمين خلال الشهور الثلاثة الأخيرة. إن رفض القيادة الأمريكية، وبخاصة رئيس الجمهورية، وضع حد لما يقومون به قد قوَّى من عزيمتهم، وبالتالي رفع مستويات فلسفة الكراهية لديهم التي يدعون إليها.
لقد أثارت تعليقاتهم الغضب بين المسلمين على مستوى العالم، بما في ذلك الاضطرابات الدينية في الهند التي أدت إلى مصرع خمسة أشخاص. وكانت ردود أفعال العديد من الباكستانيين تتسم بالغضب، وقد عبروا عن رفضهم لذلك بالتصويت بقوة لصالح من يؤيد طالبان وضد التحالف الأمريكي في الانتخابات الأخيرة في باكستان. إن المشكلة مع من يدعونهم بـ (الوهابيين الأمريكيين) لا تكمن فقط في أفكارهم وفي صناعة الكراهية التي يمارسونها؛ لكنها تكمن في أنّ لديهم العديد من الموالين المؤثرين على نتائج الانتخابات؛ وبسبب أصواتهم وقدرتهم على جمع الأموال؛ فإنهم يمارسون قدراً كبيراً من النفوذ، وبشكل مباشر على الكونجرس الأمريكي وعلى الرئيس، يفوق ما يمكن أن يمارسه العلماء في الدول الإسلامية المحافظة من نفوذ. وفضلاً عن ذلك فإن هناك علاقة وثيقة بين الرئيس نفسه والقس (فرانكلين جراهام) وأعضاء آخرين في الإدارة مثل وزير العدل (أشكروفت) وهي علاقة تثير قلاقل شديدة. فهل من قبيل المصادفة أن تكون أول جماعة مستفيدة مالياً من توجه (جورج بوش) الفعلي لتأييد تمويل البرامج المستندة إلى الدين هي جماعة (القس بات روبرتسون) ؟! هل من الممكن أن يكون الهدف الرئيسي للمبادرة الفيدرالية لدعم البرامج المستندة إلى الدين؛ هو تمكين أولئك المتعصبين الأمريكيين من دمج برامجهم ضمن برامج الحكومة الفيدرالية؟
وأهداف هؤلاء المتعصبين تعود لتفعيل النبوءة الزائفة الخاصة بـ (صِدام الحضارات) .
يبدو أن محور الكراهية الأمريكي الذي يضم كل من (فالويل، وروبرتسون، وجراهام) من خلال تكرارهم للتعليقات المسيئة للإسلام والمثيرة للكراهية له وللنبي محمد، مقصود بها إشعال معركة (أرماجيدون) بين أمريكا والعالم الإسلامي.
عندما أحدث (إيجال عمير) هزة في العالم الغربي باغتياله لرئيس الوزراء الصهيوني (إسحاق رابين) ؛ أكدت القيادة الأمريكية ووسائل الإعلام الأمريكية بشكل متكرر: أن العنف كان هو النتيجة الطبيعية للبيانات التي تحث على الكراهية، لقد كانت كلها تشير إلى بيئة عدم التسامح التي أوجدها الصهاينة من خلال المتعصبين الدينيين اليهود الذين كانوا يعارضون السلام. لقد أدت تعليقاتهم المنطوية على الكراهية في النهاية إلى إثارة أحد المتطرفين اليهود وهو (إيجال عمير) ليقوم باغتيال (رابين) . ويبدو أننا قد نسينا بسرعة هذا الدرس القاسي وذكريات حادث اغتيال (رابين) رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق.
إن المسألة مسألة وقت؛ فعندما تتكرر البيانات المناهضة للمسلمين والبيانات المناهضة للإسلام من قِبَل مَنْ يدعون إلى الكراهية في أمريكا؛ فإن ذلك سوف يترتب عليه شكلٌ مَّا من أشكال العنف الفظيع ضد المسلمين، وهناك حالات حدثت بالفعل من هذا القبيل؛ حيث قامت شرطة كاليفورنيا بالقبض على مسلحين بأسلحة ثقيلة يحتمل أن يكونوا إرهابيين يخططون للقيام بحملة تفجيرات ضد المسلمين، ويبدو أن القيادة الأمريكية، وبخاصة الرئيس الحالي، ينتظر حتى يحدث شيئاً فظيعاً قبل أن يوجه اللوم إلى القساوسة (فالويل) و (روبرتسون) و (جراهام) على «تعليقاتهم غير الصحيحة وغير المناسبة» .
نحن نعيش في زمن حساس للغاية، فعدم شعور الناس بالأمان في تصاعد شديد، كما أن قدرتهم على المعاناة من الألم والتعصب والظلم يتم اختبارها بكل قسوة. إننا نواجه إمكانية اشتعال حرب عالمية بين أمريكا والعالم الإسلامي؛ والسبب الأساسي لهذه الحرب ـ لا سمح الله - لن يكون البترول، ولا الأجور الجيوساسية، ولا تغيير الأنظمة؛ لكن السبب سوف يكون الخطب المثيرة للكراهية التي لا يمكن السماح بها، والتي يلقيها المتعصبون الدينيون الذين يخلطون بين التقوى الذاتية والتقوى المصحوبة بإسباغ صفة الشيطان على الآخرين باسم الدين.
منذ (11/9) شجب العديد من الأمريكيين، بمن فيهم المؤلف، وأدان تطرف الوهابيين المسلمين. لقد آن الأوان ليقوم الرئيس (بوش) بالإجراء الصحيح، وأن يشجب الكراهية التي يبشر بها المتعصبون الأمريكيون.
__________
(1) اللاهوت: هو علم العقائد الدينية والقضايا الإلهية، واللاهوتي: العالم في القضايا الدينية. (انظر: قاموس رائد الطلاب) للاستاذ جبران مسعود، من منشورات دار العلم للملايين، بيروت، والمؤلف عالم نحوي عربي من نصارى لبنان.(231/23)
الرد على من زعم جواز التبرك بالآثار النبوية المكانية
علوي بن عبد القادر السَّقاف
لقد أرسل لي أحد الفضلاء ـ جزاه الله خيراً ـ نسخة من كتاب بعنوان «الآثار النبوية في المدينة المنورة وجوب المحافظة عليها وجواز التبرك بها» مكتوب عليه: (وقف لله تعالى 1427هـ) ، فشدّني عنوانه وبخاصة قوله: (وجواز التبرك بها) ، فقرأته على عجل، وشدّني أكثر تفسيره للآثار النبوية بالآثار النبوية المكانية، فعدْتُ له ثانية بعد أيام لأسجل هذه الملحوظات والوقفات مع الكتاب، ولو فسح الله في الوقت والعمر فسأفرد لهذا الموضوع كتاباً مستقلاً.
يقع الكتاب في خمسٍ وسبعين صفحة من الحجم المتوسط، ويبتدئ بتقسيم الآثار إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: آثار تاريخية، كأنواع المباني والأواني والنقود القديمة، وهذا جعله الكتاب من اهتمام دارسي التاريخ والحضارة.
الصنف الثاني: آثار خرافية، كالقبور والأضرحة. وهذا استنكره الكتاب ودعا لمحاربته جزاه اللهُ خيراً.
الصنف الثالث: آثار إسلامية نبوية، وهذه يرى وجوب المحافظة عليها وجواز التبرك بها كما هو صريح عنوان الكتاب.
وذكر للمحافظة على هذا الصنف أربع فوائد: الاعتبار بها، والتبرك بها، وأنها تساعد على دراسة السيرة النبوية، وأنها زينة للمدينة.
وهذه الورقات تناقش الكتاب في دعوى جواز التبرك بهذا الصنف من الآثار. فدعوى الكتاب إذاً: وجوب المحافظة على هذه الآثار من أجل التبرك بها.
هذا؛ وقد استدلَّ الكتاب على دعواه بأدلة لا تنهض للدلالة على تلك الدعوى بحال، ولذا أرى لزاماً بيان سرِّ الخلط الذي وقع بسببه الكتاب، ذلكم هو عدم التفريق بين التبرك والتعبد، أو قُلْ بين التبرك من جهة، وبين الاقتداء والذي منه شدة الاتباع للنبي # من جهة أخرى، وكذا عدم التفريق بين آثار النبي # التي هي جزءٌ منه ـ كنخامته، وشعره، أو ما لامس جسده الشريف الطاهر كماء وضوئه وملابسه ورمانة منبره التي كان يمسك بها أثناء الخطبة ـ وبين الأماكن التي جلس عليها أو صلَّى فيها أو مرَّ بها.
أمَّا آثاره # سواءً كانت جزءاً منه ثم انفصلت عنه، أو خارجةً عنه لكنها لامست جسده الطاهر، فهذه هي التي كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يتبركون بها دون توسع، وربما استمر الأمر على ذلك سنوات معدودات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت الآثار وانقرض تبعاً لذلك هذا التبرك. أما تلك الأماكن التي جلس عليها أو صلى فيها ثم بمرور الزمن اندرس منها ما لامس جسده الشريف وبقيت البقعة المكانية كما هي، فهذه هي التي وقع فيها الخلط عند المؤلف كما هو الحال عند غيره، ولذا عدَّها بعضُ الخلف مما يُتبرك به.
والتبرك معناه: طلب البركة، وهي زيادة الخير، ويكون بالأعمال كالصلاة والصيام والصدقة، وكل أمر شرعه الله ففيه بركة الأجر والثواب، ويكون بالذوات وآثارها، وقد تقدم أن ما كان بذات النبي # وما لامسها فهو جائز، والكتاب المذكور إنما يعني التبرك بالذوات سواءً لامست جسده أو لا، ولذا ذكر جواز التبرك بالمكان في الصفحات: (16،23،24،25) ، وذكر جواز التبرك بالمواضع والآثار في صفحة (17) ، وذكر التبرك بالمسح على رمانة المنبر في صفحة: (13، 25) . ومما يدل على أنَّ الكتاب يخلط بين هذين المعنيين ما قاله عن قول عتبان ـ رضي الله عنه ـ لما طلب من النبي # أن يصلّي في بيته: «فاتخذه مصلّى» ـ وسيأتي الكلام عنه ـ، قال عنه تارة في (ص15) : «ومعنى قول عتبان هذا: لأتبرك بالصلاة في المكان الذي ستصلّي فيه» وقال تارة أخرى في (ص23) : «أقرَّ النبي # عتبان على التبرك بالمكان الذي صلى فيه النبي #» . فهو تارة يجعل التبرك بالصلاة وتارة يجعله بالمكان.
وقد استدل الكتاب على صحة دعواه بستة أدلة:
الأول: حديث عتبان بن مالك الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ وطلبه من النبي # أن يصلّي في بيته ليتخذه مصلّى ففعل عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيحين.
الثاني: حديث سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ وأنه كان يتحرّى الصلاة عند الأسطوانة التي كان النبي # يصلّي عندها، والحديث في الصحيحين.
الثالث: تحرّي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الصلاة عند أسطوانة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وهو حديث منكر سيأتي الكلام عنه.
الرابع: حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ وأنه كان يأتي مسجد الفتح ويدعو عنده، وسيأتي الكلام عنه.
الخامس: ما ورد من تتبُّع عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ الأماكن النبوية تبرُّكاً بها.
السادس: ما نُقل عن بعض أئمة السلف؛ كمالك وأحمد والبخاري.
وقبل الإجابة عن هذه الأدلة أو الشبهات، لا بد من التأكيد على أنَّ جواز التبرك بآثار النبي # بهذا المعنى الذي ذكره الكتاب ليس مما قال به أحدٌ من سلف الأمة، بل ولا قال به أحدٌ من الأئمة الكبار عند سبر أقوالهم ومدلولاتها، وليس هو من باب ما يسوغ فيه الاجتهاد، ولذا فإن الرد على هذه الشبهات لا يتعلق بتصحيح حديث اختلف المحدثون فيه، ولا بتوثيق رجل اختلف علماء الجرح والتعديل في شأنه، ولا هو بمأخذ في دلالة لفظة، حمالة أوجه، وإنما هو في تصور الدلالة وانطباقها على الواقع، الأمر الذي غاب عن ذلك الكتاب.
والرد على ما ذكره الكتاب سيكون ـ إن شاء الله ـ على وجهين: مجمل، ومفصّل.
فأما المجمل، فيقال:
لو كان الأمر كما قال الكتاب في (ص14) : «التبرك بما يسمى (الآثار النبوية المكانية) أي: الأماكن التي وُجد فيها النبي # أو صلى فيها أو سكن بها أو مكث بها ولو لبرهة» ا. هـ، لو كان المشروع من التبرك بآثاره # يبلغ هذا الحد، لكان حجم المنقول من ذلكم التبرك من أفعال الصحابة أكثر من أن يحصر وبما يغني الكتاب عن عناء تتبُّع الوارد في هذا الباب، ذلك أن عدد ما نَزَله النبي # من الأماكن يفوق العدّ والحصر، وما وطئته قدماه الشريفتان يتجاوز التعداد، ومع ذلك فلم يثبت عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم تبركوا بالمكان الذي نزله، أو أنهم تتبَّعوا مواطئ أقدامه # لا في حياته ولا بعد وفاته كتبركهم بآثاره #؛ كشعره ووَضوئه ونخامته، دع عنك أن يتتابعوا عليه، فلما تركوه وهم من هم حرصاً على الخير وحباً للنبي # كان فيه أبلغ دليل على عدم مشروعية مثل هذا الصنيع بل وبدعيته وخروجه عن الهدي الأول. فدعوى التبرك بما مكث به ولو لبرهة دعوة للتبرك بغار حراء، وشعاب مكة، وجبال مكة والمدينة وسهولهما، وما لا حصر له من الأماكن.
أمَّا الجواب المفصّل فيقال:
أمَّا حديث عتبان بن مالك ـ رضي الله عنه ـ فقد أورده بتمامه في (ص14) ثم قال: «والدلالة من هذا الحديث واضحة في قول عتبان ـ رضي الله عنه ـ: فأتخذه مصلّى، وفي إقرار النبي #. ومعنى قول عتبان: لأتبرك بالصلاة في المكان الذي ستصلّي فيه، قال الحافظ ابن حجر: وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها النبي # أو وطئها، قال: ويستفاد منه أن من دُعي من الصالحين ليتبرك به أنه يجيب إذا أمن الفتنة. وقد علّق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على هذه الفقرة بقوله: هذا فيه نظر، والصواب أن مثل هذا خاص بالنبي #؛ لما جعل الله فيه من البركة، وغيره لا يُقاس عليه؛ لما بينهما من الفرق العظيم....» ، ثم قال الكتاب: «يفهم من كلامه هذا (أي: ابن باز) الإقرار بدلالة حديث عتبان على مشروعية التبرك بالمكان الذي صلى فيه النبي # وهو المقصود» ا. هـ.
فأنت ترى هنا أن الدعوى أكبر من الدليل، فالدعوى هي وجوب المحافظة على آثار النبي # المكانية من أجل التبرك بها، حيث إنَّ من فوائد المحافظة عليها ـ كما ذكر في الفائدة الثانية ـ التبرك بها، فالكتاب يوجب المحافظة على هذه الآثار حتى نتمكن من التبرك بها، وأين في حديث عتبان، أو من كلام ابن حجر، أو حتى من كلام ابن باز المحافظة على هذه الآثار؟! غاية ما في الحديث أن عتبان ـ رضي الله عنه ـ طلب من النبي # أن يصلّي في بيته كي يتخذه مصلّى. هذا أوّلاً؛ ثم بعد ذلك نأتي لمناقشة ما إذا كان ذلك للتبرك أم لا؟ فالحديث يحتمل احتمالات عدّة ذكرها العلماء:
منها: ما نقله المؤلف عن ابن حجر.
ومنها: ما لم ينقله المؤلف من قول ابن حجر في الصفحة نفسها: «ويحتمل أن يكون عتبان إنما طلب بذلك الوقوف على جهة القِبْلة بالقَطْع» (هامش فتح الباري 1/522) وقد كان ـ رضي الله عنه ـ ضريراً.
والاحتمال الثالث: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 17/468) حيث قال: «فإنه قصد أن يبني مسجداً وأحبَّ أن يكون أول من يصلّي فيه النبي # وأن يبنيه في الموضع الذي صلى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد» . وقال في (اقتضاء الصراط المستقيم 2/754) : «ففي هذا الحديث دلالة على أن من قصد أن يبني مسجده في موضع صلاة رسول الله # فلا بأس به، وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته، لكن هذا أصلُ قصدِه بناء مسجد فأحب أن يكون موضعاً يصلّي له فيه النبي # ليكون النبي # هو الذي رسم المسجد» ا. هـ.
فأهل بيت عتبان ـ رضي الله عنه ـ لم يُنقل عنهم أنهم فعلوا ذلك، ولا أحدٌ من الصحابة تبعه في ذلك وطلب من النبي # ما طلبه عتبان، مع أنَّ فيهم من هو أفضل وأحرص على الاقتداء بسنّة النبي # منه؛ كأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، بل لم يُنقل عنهم حرصهم على التنفُّل في محرابه #. ثم إن هذا ينسحب أيضاً على النساء، فنساؤه في بيوته # لم يُنقل عنهن أنهن كنَّ يفعلن ذلك، أم أنَّ التبرك خاص بالرجال دون النساء؟! كلُّ ما في الأمر أن عِتبان كلَّ بصرُه، وفعل فعلاً كان يرى عليه فيه غضاضة، وهو صلاته في بيته، فأراد إقرار النبي # له على فعله، وأراد النبي # إكرامه ومواساته وهو الرؤوف الرحيم بصحابته وبالمؤمنين #.
وقد ذكر الكتاب في (ص23) أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذهب مع النبي # وأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى بيت عتبان ـ رضي الله عنه ـ، وفي (ص14) قال: «وليس مع المانعين سوى حديث موقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه» ا. هـ، يعني بذلك حديث المعرور بن سويد والذي فيه إنكار عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على من قصد الصلاة في مكان صلى فيه النبي # وسيأتي، فهذا فقه عمر رضي الله عنه، وهو الذي ذهب مع النبي # إلى بيت عتبان بن مالك ـ رضي الله عنه ـ كما ذكر المؤلف، فمن أَوْلى بالاتّباع؟!
وأيّاً كان الأمر فلا يُعرف أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أو من أتى بعدهم، حافظوا على مصلّى عتبان ـ رضي الله عنه ـ ليتبركوا به، إلا ما رواه ابن سعد في الطبقات (3/550) عن الواقدي أنه قال: «فذلك البيت ـ يعني: بيت عتبان ـ يصلّي فيه الناس بالمدينة إلى اليوم» والواقدي متروك كذاب.
أمَّا الدليل الثاني وهو أَثَر سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ فقد جاء في الكتاب المذكور في (ص17) : «وثبت عن سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يتحرّى المكان الذي كان يصلّي فيه رسول الله # بين المنبر والقِبْلة، ففي الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يتحرّى موضع مكان المصحف يسبح فيه، وذكر أن رسول الله # كان يتحرّى ذلك المكان.
وفي رواية في الصحيح أيضاً قال يزيد: كان سلمة يتحرّى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت له: يا أبا مسلم! أراك تتحرّى الصلاة عند هذه الأسطوانة! قال: رأيت النبي # يتحرّى الصلاة عندها» ا. هـ.
فأين في أَثَر سلمة ـ رضي الله عنه ـ التبرك بالأسطوانة أو بالمصلّى خلفها، غاية ما فيه تحرّيه الصلاة عندها اقتداء بتحرّي النبي #، وهذا من جنس الصلاة خلف مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ أو في مسجد قباء، مع أن الصلاة عندهما أَوْكد من الصلاة عند الأسطوانة؛ لما ثبت من فعله وقوله وترتيب الأجر على ذلك، ومع ذلك لم يقل أحدٌ من السلف أن الصلاة خلف المقام أو في مسجد قباء كانت للتبرك بالمكان، بل هو اقتداءٌ بالنبي #؛ طلباً للأجر لا لبركة المكان، ثم لو كان ذلك للتبرك فأين سلمة وسائر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من محرابه #؟ وهذا ما سبق الحديث عنه من أنَّ الكتاب يخلط بين التبرك وبين التأسّي والاقتداء بالنبي #، ولذلك علّق شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى 17/467) على حديث سلمة ـ رضي الله عنه ـ بقوله: «وقد كان سلمة بن الأكوع يتحرّى الصلاة عند الأسطوانة، قال: لأني رأيت رسول الله # يتحرّى الصلاة عندها فلما رآه يقصد تلك البقعة لأجل الصلاة كان ذلك القصد للصلاة متابعة» ا. هـ، فهي متابعةٌ قصداً للأجر وليست تبركاً بالمكان، ويتأكد هذا التخريج بأنَّ سلمة ـ رضي الله عنه ـ وغيره من الصحابة كذلك ما كانوا يتحرّون كلَّ بقعةٍ صلى فيها النبي #، إنما كانوا يتحرّون ما كان يتحرّاه #، ومذهب الكتاب أن كل مكان مكث فيه النبي # ولو لبرهة فهو محلٌّ للتبرك وهو على خلاف مذهب سلمة المستدلّ بفعله، ثم أين في الأَثَر إشارة إلى التبرك المزعوم؟! غاية ما فيه تحرّيه الصلاة حيث تحرَّاها النبي #، ولو سلّمنا جدلاً أن التحرّي كان للتبرك فهو تبركٌ بما لامس جسده الشريف في ذلك الوقت، وليس تبرّكاً بالبقعة ذاتها، فلو أراد أحدٌ اليوم أن يصلّي خلف الأسطوانة تأسّياً فله ذلك، أما تبركاً فلا، أيتبرك بالفرش الأعجمية أم بأنواع الرخام المصنوع في الشرق أو الغرب؟! فليس ثمّة ما مسَّ جسده الطاهر صلوات الله وسلامه عليه.
ومن الغرائب أن الكتاب يعدُّ هذا الأَثَر من قسم المرفوع حتى يعارض به أَثَر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فيقول في (ص27) : «فهذا أَثَر موقوف على عمر ـ رضي الله عنه ـ فكيف يناهض حديثين مرفوعين مقطوعاً بهما رواهما البخاري ومسلم، وهما: حديث عتبان، وحديث سلمة بن الأكوع المتفق عليه» . ولا أدري ما وجه كون حديث سلمة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً وهو من فعله واجتهاده بعد وفاة النبي #؟!
أمَّا ثالث أدلته وهو تحرّي الصحابة الصلاة عند أسطوانة عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقد أورد فيه حديثاً منكراً، ولو صح فليس فيه دليل على التبرك، فقد جاء في الكتاب في (ص21) : «وأسطوانة عائشة كانت تسمى أسطوانة المهاجرين حيث كانوا يجتمعون عندها، وكان الصحابة يتحرّون الصلاة عندها، ذكر ذلك الحافظ في الفتح ... ، ثم قال: روى الطبراني في الأوسط عن عائشة، أن رسول الله # قال: إن في المسجد لبقعة قِبَل هذه الأسطوانة، لو يعلم الناس ما صلُّوا فيها إلا أن تُطَيَّر لهم فيها قرعة ... الحديث» ا. هـ.
والحديث رواه الطبراني في (الأوسط 1/475) من طريق عتيق بن يعقوب قال: حدثنا عبد الله ومحمد ابنا المنذر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. ومحمد بن المنذر هو الزبيري يروي عن هشام أحاديث موضوعة ومنكرة، وعبد الله أخوه لا تُعرف له ترجمة. انظر: (السلسلة الضعيفة للألباني 2390) .
والحديث ـ لو صح ـ ليس فيه دليل على أنهم كانوا يتحرُّون الصلاة عند الأسطوانة تبرّكاً، بل كان اقتداءً بالنبي #، بل إن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يبتدرون السواري ـ وهي الأسطوانات وقد كانت من خشب ـ للصلاة عندها وجعلها سترة لهم، وهذا معروف مشهور.
ثم إن الغريب من الكتاب أنه لم يكتفِ بأسطوانة عائشة المزعومة بل زاد عليها وقال في (ص20) : «ومن الأماكن النبوية في الروضة الشريفة الأسطوانات الأخرى، وهي: أسطوانة السرير، وأسطوانة الحرس، وأسطوانة الوفود، وأسطوانة التوبة، وأسطوانة التهجد» . ولا أدري أيريد من الناس الذهاب إلى هذه الأسطوانات ليلتمسوا البركة عندها؟!
مع العلم أن أيّاً من هذه الأسطوانات لم يرد فيها حديث خلا أسطوانة التوبة والتي تيب عندها على أبي لبابة ـ رضي الله عنه ـ فقد ورد فيها حديث إسناده ضعيف، انظر: صحيح ابن خزيمة: رقم (2236) ، وضعيف ابن ماجه: رقم (350) .
أمَّا دليله الرابع فهو حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ فقد جاء في الكتاب في (ص23) : «وثبت عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يأتي مسجد الفتح الذي على الجبل، يتحرّى الساعة التي دعا فيها النبي # على الأحزاب ويتحرّى المكان أيضاً ويقول: ولم ينزل بي أمر مهمٌّ غائظ إلا توخيت تلك الساعة فدعوت الله فيه بين الصلاتين يوم الأربعاء إلا عرفت الإجابة» . وجاء ـ أيضاً ـ في موضع آخر في (ص59) بعد أن ذكر الحديث: «يقصد ـ رضي الله عنه ـ أنه يتوخى الزمان والمكان، أي: يدعو في تلك الساعة في ذلك المكان الذي دعا فيه النبي # في مسجد الفتح، بدليل رواية البخاري في الأدب المفرد ولفظه:..» ثم ذكر اللفظ المتقدم آنفاً.
وحديث جابر هذا رواه الإمام أحمد في المسند (22/425 بتحقيق الأرناؤوط) والبزار في مسنده. ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد (19/200) من طريق أبي عامر العَقَدي عن كثير بن زيد بلفظ: «إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة» ، وفي إحدى روايات البزار أنه: «يدعو في تلك الساعة في مسجد قباء» ذكرها المؤلف نفسه في (ص59) ، ورواه ابن سعد في الطبقات (2/73) وابن الغطريف في جزئه (ص107) . ومن طريقه عبد الغني المقدسي في الترغيب في الدعاء (ص49) من طريق عبيد الله بن عبد المجيد عن كثير بن زيد بلفظ: «إلا توخيت تلك الساعة من ذلك اليوم فدعوت فعرفت الإجابة» . ورواه البخاري في الأدب المفرد (2/167 مع الشرح) من طريق سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد بلفظ: «إلا توخيت تلك الساعة فدعوت الله فيه» . وأصح هذه الروايات إسناداً رواية أحمد؛ فأبو عامر أوثق من عبيد الله ومن سفيان، لذلك قال المنذري في الترغيب والترهيب (2/142) : رواه أحمد والبزار وغيرهما وإسناد أحمد جيد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/12) : رواه أحمد والبزار ورجال أحمد ثقات. وكثير بن زيد نفسُه فيه كلام انظر: السنن والأحكام (4/300) للضياء المقدسي، واقتضاء الصراط المستقيم (2/816) لابن تيمية. والحديث ضعّف إسناده الأرناؤوط في تخريجه المسند من أجل كثير بن زيد، وحسَّنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (1/256) وصحيح الترغيب والترهيب (2/24) باللفظين معاً، وأنكر ابن تيمية أن يكون جابر ـ رضي الله عنه ـ كان يتحرّى المكان، فقال في اقتضاء الصراط المستقيم (2/816) : «ولم يُنقل عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه تحرّى الدعاء في المكان بل في الزمان» .
ولو فرض ثبوته عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما ـ فسائر الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافه، فلم ينقل عنهم هذا الصنيع، مع توفر الدواعي إلى نقله، فدلَّ على أن تركه هو السُّنّة.
أمَّا تتبُّع عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ الأماكن النبوية فقال الكتاب في (ص17) : «وقد بوّب البخاري في صحيحه فقال: (باب: المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلّى فيها النبي #) ، وذكر فيه أحاديث فيها تتبّع عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ هذه المواضع والتبرك بها، ومثله سالم ابنه ـ رضي الله عنه ـ كان يتحرّى هذه المواضع، ويُفهم من تبويب البخاري وذكره هذه المواضع أنه يرى مشروعية التبرك بذلك» . وفي (ص23) قال: «ولذلك لم ينقل أن عمر أنكر على ابنه عبد الله شدة تتبّعه الأماكن النبوية وتبركه بها، بل لم يرد عن أيِّ أحدٍ من الصحابة أنه أنكر عليه ذلك، فهم وإن لم يُنقل عنهم أنهم كانوا يفعلون ذلك مثله لكن عدم إنكارهم يدل على مشروعية فعله رضي الله عنه» ا. هـ.
والعجب لا ينقضي من صنيع هذا الكتاب! فقد زعم أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يفعل ذلك تبركاً، وليس فيما أورده ما يشير إلى ذلك، ثم زعم أن البخاري من تبويبه السابق ذكره يُفهم منه أنه يرى مشروعية التبرك، فبنى خطأً على خطأ، والبخاري بريء من ذلك، ثم زعم أن عمر ـ رضي الله عنه ـ لم ينكر على ابنه، وسيأتي أنه أنكر على ما هو أشد من ذلك، فماذا يريد الكتاب من كل ذلك؟!
وهاكم نص الحديث كما أورده البخاري، ولنفتّش سويّاً عما زعمه الكتاب من تبرك ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ بهذه الأماكن، قال البخاري: «حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال: حدثنا فضيل بن سليمان قال: حدثنا موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها ويحدث أن أباه كان يصلّي فيها وأنه رأى النبي # يصلّي في تلك الأمكنة. وحدثني نافع عن ابن عمر أنه كان يصلّي في تلك الأمكنة وسألت سالماً فلا أعلمه إلا وافق نافعاً في الأمكنة كلها إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء» ا. هـ. فأين في هذا الحديث أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يتبرك بهذه الأماكن حتى يرتب عليها الكتاب كلامه السابق؟! وكذا تبويب البخاري: (باب: المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلّى فيها النبي #) أين فيه مشروعية التبرك بهذه المساجد والمواضع التي صلى فيها النبي #؟! وهذا يؤكد ما ذكرته من أنَّ مبنى خطأ الكتاب هو الخلط بين ما كان يفعله الصحابة اقتداءً واتباعاً للنبي # وما كانوا يفعلونه تبركاً.
أما زعمه أن عمر ـ رضي الله عنه ـ لم ينكر على ابنه عبد الله فجوابه: أنه أنكر على جمع من الصحابة فعلوا فعل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، فعن المعرور بن سويد الأسدي قال: «وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فلما انصرف إلى المدينة، وانصرفت معه، صلى لنا صلاة الغداة، فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لإيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] ، ثم رأى أناساً يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهبون هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجداً ها هنا صلّى فيه رسول الله #، فقال: إنما أهلك من كان قبلكم بأشباه هذه يتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبيعاً، ومن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله فليصلِّ فيها، ولا يتعمدنها» . رواه الطحاوي في مشكل الآثار (12/544) واللفظ له، وابن أبي شيبة في المصنف (2/376) ، وهذا الأَثَر صحّح إسناده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/281) والألباني في تخريج فضائل الشام (ص49) وقال في الثمر المستطاب (1/472) : وهذا إسناد صحيح على شرط الستة. والحديث صريح في إنكار عمر ـ رضي الله عنه ـ على من فعل ذلك، وهذا الإنكار كان أمام جمعٍ من الصحابة، مع أن هذا الدليل ليس خافياً على ذلك الكتاب، فقد سبقت الإشارة إلى أن الكتاب قال في (ص14) : «وليس مع المانعين سوى حديث موقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه» ، فالكتاب يذكر حديث عمر الذي أنكر فيه على من فَعَلَ فِعْلَ ابنه عبد الله ثم يقول: ولم يُنقل عن عمر أنه أنكر على ابنه! ومن نظر في سيرة عمر ـ رضي الله عنه ـ يجدها مُطَّرِدَةً في إنكار مثل هذا الصنيع، حتى إنه أمر بقطع الشجرة التي بويع النبي # تحتها لما بلغه أنَّ ناساً يأتونها ويصلون عندها، كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/375) ، وقال ابن حجر في الفتح: «ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر ـ رضي الله عنه ـ بلغه أن قوماً يأتون شجرة فيصلون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت» ، أما على رأي الكتاب فإنه تجب المحافظة على الشجرة، ويجوز التبرك عندها كذلك!
قال ابن تيمية ـ كما في اقتضاء الصراط المستقيم (2/756) ـ: «كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجاً وعماراً ومسافرين ولم ينقل عن أحدٍ منهم أنه تحرّى الصلاة في مصلّيات النبي #، ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنّته وأتبع لها من غيرهم» ، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ الذي عدَّه الكتاب ممن يجيزون التبرك بالمكان الذي صلى فيه النبي # كما سبق نقله عنه ـ: «والحق أن عمر ـ رضي الله عنه ـ أراد بالنهي عن تتبُّع آثار الأنبياء سدّ الذريعة إلى الشرك، وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه ـ رضي الله عنهما ـ وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر، وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك؛ لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسّى به # في ذلك، بخلاف آثاره في الطرق ونحوها فإن التأسّي به فيها وتتبّعها لذلك غير مشروع، كما دل عليه فعل عمر، وربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلو والشرك كما فعل أهل الكتاب والله أعلم» (هامش فتح الباري 1/569) .
ثم إنَّ عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان من شدة تتبّعه النبي # يحب أن يقضي حاجته حيث قضاها رسول الله # كما ثبت ذلك عنه في مسند الإمام أحمد (10/294 رقم 6151 بتحقيق الأرناؤوط) ، وصحيح البخاري (2/519 رقم 1668) ، فهل كان ذلك منه تبركاً؟!
أمَّا استشهاده بأقوالٍ لأئمة السلف كمالك وأحمد والبخاري فقد قال في (ص25) : «ومشروعية التبرك بالأماكن النبوية هو مذهب البخاري كما ذكرنا (يعني: تبويبه في كتاب الصلاة، باب: المساجد التي على طريق المدينة، وسبق الرد عليه) ومذهب البغوي، والنووي، وابن حجر، بل هو مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقد استدلّ الإمام على ذلك بأن الصحابة كانوا يتبركون برمانة المنبر، يتبركون بالموضع الذي مسته يد النبي #، وهو مذهب مالك، فقد روى أبو نعيم في الحلية أن هارون الرشيد أراد أن ينقض منبر النبي # ويتخذه من جوهر وذهب وفضة فقال له مالك: لا أرى أن تُحرم الناس من أَثَر النبي #، وسبق كلامه في استحباب صلاة النافلة في مكان مصلاه # من مسجده» ا. هـ. يعني بذلك ما ذكره في (ص20) أن مالكاً سئل: أي المواضع أحب إليك الصلاة فيه؟ قال: أما النافلة فموضع مصلاه، وأما المكتوبة فأول الصفوف.
والذي يهمنا هنا هو النقل عن الأئمة الثلاثة مالك وأحمد والبخاري، وبغضِّ النظر عن صحة أسانيد هذه الأقوال فأين هي مما يدعو إليه الكتاب من المحافظة على آثار النبي # المكانية للتبرك بها؟! فكلام الإمام أحمد عن رمانة منبره #، وكلام الإمام مالك عن نقض المنبر هو عمَّا مسته يد النبي # لا عن آثاره المكانية، فأين هو المنبر اليوم وأين رمانته؟!
أمَّا ما نقله عن الإمام مالك وأنه يرى أفضلية صلاة النافلة في موضع مصلاه فهذا على سبيل الاقتداء لا التبرك، وقد قال ابن وضاح القرطبي في البدع والنهي عنها (ص108) : «وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي # ما عدا قباءً وأُحداً» يعني: شهداء أحد. وقال ابن بطال في شرح البخاري (3/159) : «روى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الرسول #، فقال: ما يعجبني ذلك إلا مسجد قباء» ، أما الإمام أحمد فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/754) : «وأما أحمد فرخَّص منها فيما جاء به الأَثَر من ذلك إلا إذا اتخذت عيداً، مثل أن تنتاب لذلك، ويجتمع عندها في وقت معلوم» يعني: حتى ما جاء فيه الأَثَر كمسجد قباء يشدد فيه الإمام أحمد إذا اتخذ عيداً، فماذا بعد ذلك؟!
ومن عجائب هذا الكتاب أنه يدعو إلى التبرك الآن بشرب ماء الآبار التي سقط فيها خاتم النبي # قبل أربعة عشر قرناً، وذلك في (ص13) : «ومنه ـ أي: التبرك ـ قصدُ الآبار النبوية التي نُقل أنَّ النبي # تفل فيها أو صبَّ وضوءه فيها، أو سقط شيء من متعلقاته فيها، كبئر أرِيس التي سقط فيها خاتمه بقصد التبرك بالشرب منها، فهذا أمر مشروع؛ لأنه متفرع من مسألة التبرك بالنبي #، لا فرق في الحكم بينه وبين وَضوئه # الذي كان الصحابة يتسابقون إلى التبرك به» ا. هـ. وهذا لا أعرف أحداً سُبِق إليه. وقوله: «لا فرق في الحكم بينه وبين وَضوئه» غير صحيح، فالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فَرَّقوا بينهما فكانوا يتبركون بوَضوئه، ولم يُنقل عنهم أنهم كانوا يشربون من ماء بئر أرِيس تبركاً بعد سقوط خاتم النبي # فيه من يد عثمان ـ رضي الله عنه ـ كما في الصحيحين.
\ الخلاصة:
أنَّ التبركَ بآثار النبي # الحسيَّة كبطنه وشعره ونخامته وكذا ما لامس جسده الطاهر الشريف كوَضوئه وملابسه؛ صحيحٌ، قد فعله الصحابة ومن بعدهم بعض التابعين ثم عفا الفعل كما عفا الأَثَر. وما قَصَدَه النبي # للصلاة أو الدعاء عنده من الأماكن كمسجد قباء ومقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ فقصدُه للصلاة أو الدعاء اقتداءً به سنّةٌ مستحبة، أمَّا التبرك بها فبدعةٌ منكرة. وأمَّا ما لم يقصده من الأماكن فالصحيح عدم قصد الصلاة عنده إلا إذا وقع اتفاقاً كأن يصلي منها دون تعمّد أو تحرٍّ. أمَّا وجوب المحافظة على الآثار النبوية المكانية لغرض التبرك عندها فلم يقل به أحدٌ من العلماء المعتبرين، وفتحه فتح باب شرٍّ وفتنة.
والله أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) المشرف العام على موقع الدرر السنية.(231/24)
من مآسي الحياة
مي علي صالح
أطلقت بصري متأملة في كل ما يدور في هذه الحياة فعاد إليَّ حزيناً فزعاً مما رأى، فأطلقته أخرى علَّني أجد ما ينسيه جولته الأولى فعاد إليَّ كما كان في الأولى مع يأس شديد اعتراه. لم تكن هذه النظرات والتأملات إلا في زاوية معينة من حياة البشر وما أدراك ما هذه الزاوية؟ هي في نظري سبب من أسباب تخلفنا وتقهقرنا، وأقول من الأسباب؛ لأن الضعف والتأخر لم يأتِ بسبب واحد، بل هو لأسباب مجتمعة من كل جانب من جوانب حياتنا. ولكن ما هالني هو جانب واحد ولا أريد أن أظلم الناس كلهم بأنهم واقعون في هذه المأساة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سمعتَ الرجل يقول: هلك الناس؛ فهو أهلكهم» ، صحيح البخاري.
المتأمل في حال بعض الناس يشعر بالأسى وبكثرة أتباع الهوى على خلاف قوله ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] .
فمثلاً لنشاهد حياتهم بالنظر إلى الأسرة التي هي أساس المجتمع؛ فمنها تتخرج العقول ورجال التاريخ، ومنها كذلك تُمْلأ السجون. إذا تأملت يوماً أسرة عربية فستذهل من حقيقة أن هناك كائنات تعيش بهذه الطريقة. فمن منطلق الأسرة سنستعرض ما تحويه من بعض المشكلات المسببة لتخلفنا، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1 - انعدام الهدف:
وهو أول هذه المعضلات، ويظهر في أسباب الرغبة في الزواج منذ البداية؛ فرغبة بعضهم في الزواج لا تعدو أن تكون لإشباع غريزة جنسية أو رغبة في الاستقرار، أو هروباً من كلام الناس وأسئلتهم، أو حباً في الحصول على ولد. وهذه الأمور ليست بالمحرمة أو الممنوعة، ولكن وضعها كهدف تنطلق الحياة باتجاهه هو الخطأ والدمار عينه، وقد قال ابن القيم: (للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية. فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له. فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها. والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده.
والقلوب جوالة في هذه المواطن) .
فمن كان كما ذكرنا تاركاً أهداف الآخرة ولقاء الله فأي دنيا ستعمر من تحت يديه، وأي جيل سينشأ وهو في تحركاته كالآلة يؤدي ما عليه من واجبات سواء كان - الزوج أو الزوجة - غير واضع في ذهنه ما إذا كان هذا العمل الآلي متقناً أو لوجه الله أو بنية خالصة؛ فبهذه الأمور ينال الأجر وهو لا يدري. ولكن بعض الناس يحرمون أنفسهم حتى من الأجر في أعمالهم الدنيوية فتصبح حياتهم دنيوية بحتة، فصار كمن عشق الدنيا فنظَرَتْ إلى قدرها عنده فصيرته من خدامها وعبيدها وأذلته، ومن أعرض عنها نظرتْ إلى كبر قدره فخدمته وذلت له. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرِج الله لكم من بركات الأرض» فقيل: ما بركات الأرض؟ قال: «زهرة الدنيا» .
فعلاقة الإنسان بالدنيا كما قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: (للإنسان في الدنيا حظ وله في إصلاحها شغل؛ فهما علاقتان: الأولى: علاقة مع القلب، وهو حبه لها وحظه منها وانصراف همه إليها.
أما العلاقة الثانية: مع البدن، وهو اشتغاله بإصلاحها. ولو عرف الإنسان نفسه وعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها لعلم أن الدنيا لم تخلق إلا لبقاء البدن؛ فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن، ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليها لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم بجهلهم بالدنيا وحكمتها) .
فالمقصود أن لا يترك الدنيا بالكلية، ولكن يأخذ منها قدر الزاد. وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل، فيحقق بذلك التوازن والعدل في أمر الدنيا واضعاً نصب عينيه هدفاً يعيش لأجله يكون سبباً في دخوله الجنة.
2 - سوء التربية:
فلننقل بصرنا الآن إلى جانب آخر من جوانب المآسي الأسرية وهو تربية الأولاد، وهذا موضوع يطول ومكانه وتفاصيله في كتب الدين والمآثر وعلوم النفس، ولكن نذكر هنا جزءاً بسيطاً مما تفشى في مجتمعنا. فهناك أولاد يولدون في هذه الحياة، فلا يجدون أمامهم إلا أسوأ الأمثلة من سوء تعامل بين الأبوين مع بعضهما إلى طريقة كلامهما وتفكيرهما. فتحزن اشد الحزن عندما ترى أبوين تافهين رُزِقا بأطفال، فتتأمل هذا المشهد متخيلاً: كيف سيكون الأطفال في كنف أبوين كهذين إلا أن يتغمد الله الأولاد برحمته ويهديهم إلى الصواب؟ فالطفل بجوهره خلق قابلاً للخير والشر، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» .
وعن أبي حفص البيكندي، وكان من علماء سمرقند، أنه أتاه رجل فقال: (إن ابني ضربني وأوجعني. قال: سبحان الله! الابن يضرب أباه؟ قال: نعم! ضربني وأوجعني. فقال: هل علمته الأدب والعلم؟ قال: لا. قال: فهل علمته القرآن؟ قال: لا. قال: فأي العمل يعمل؟ قال: الزراعة. قال: هل علمتَ لأي شيء ضربك؟ قال: لا. قال: فلعله حين أصبح وتوجه إلى الزرع وهو راكب على الحمارِ، والثيرانُ بين يديه، والكلبُ من خلفه وهو لا يحسن القرآن فتغنى، وتعرَّضتَ له في ذلك الوقت فظن أنك بقرة؛ فاحمدِ الله حيث لم يكسر رأسك) .
والله! إن القلب ليتفطر لرؤية ولد بين أبوين جاهلين أكثر من رؤية اليتيم المسكين؛ فجاهل الأبوين ناهيك عن جهلهما بالدين وادعائهما أنهما يربيان أبناءهما أحسن تربية وهي تسير في الاتجاه المعاكس للشرع والسنن؛ ففي الوقت نفسه يربى بينهم كالبهائم تأكل وترعى وتنام؛ فلا مبدأ غُرِسَ، ولا أخلاق نُمِّيت ولا روح غُذِّيت. فإذا كان الولد صالحاً كان أجره لوالده. فإن كان الوالد لا يعلِّمه القرآن والعلم، ويعلمه طريقة الفسق فإن وزره يكون على أبيه من غير أن ينقص من وزر ولده شيء. قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
3 - المداومة على المزاح والإفراط في الضحك:
فلننتقل بأبصارنا إلى آفة أخرى يعتبرها البعض روح الحياة وانتعاشها، بل هي لديهم الحياة وبدونها فليكن الطوفان ألا وهي آفة المزاح وكثرة الضحك. قال الحسن البصري: (يا عجباً من ضاحك ومن ورائه النار، ومن مسرور ومن ورائه الموت) . فإن قلت: المزاح مطيبة وفيه انبساط وطيب قلب فلِمَ يُنهى عنه؟ قلنا كما قال أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ: (فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه أو المداومة عليه، أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل، واللعب مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة. وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك، وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال وتسقط المهابة والوقار) . فهذا سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- يمزح وهو حاملُ هَمِّ الأمة، ولا يخفى علينا المواقف التي تخبرنا بمزاحه ولكنه قال: «إني لأمزح، ولا أقول إلا حقاً» .
فنعيب على أهل زماننا كثرة المزاح والضحك بسبب وبدون سبب حتى أصبحت المجالس والاجتماعات ما هي إلا مركز لاستعراض الأشخاص لقدراتهم في إضحاك الآخرين وإظهار روحه المرحة، وأن له حضوراً في المجلس مع أن هذا الحضور وعدمه سواء عند أصحاب العقول؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ويل لمن يكذب ليضحك به الناس، ويل له، ويل له ـ ثلاث مرات» . فكفى بهذه الكلمات لنا رادعاً حتى نقلل من المزاح الذي بكثرته نكاد نجزم أنه لن يخلو من الكذب والمبالغات؛ فإن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها من حوله فيسخط الله بها فيصيبه السخط فيعم من حوله.
واعلم أن أكثر الناس ضحكاً في الدنيا أكثرهم بكاء في الآخرة. فالمسلم يحزن لرؤية مجتمعه غارقاً في التفاهات، همه الترويح عن نفسه وتتبع النكات والمهازل محتجين بان ما يمر عليهم في يومهم من شقاء وعمل يحتاج بعده إلى الترويح عن النفس حتى إننا نرى الآن في شبكة الإنترنت مواقع فُتحت خصيصاً لتبادل النكات والقصص الهزلية والمواقف السخيفة، وأكاد أجزم أن مثل هذه المواقع تضم أكبر عدد من المشاركين والأعضاء مما يعكس ثقافة عالمنا العربي. حتى في ما يسمى بالمنتديات التي يغرك بعضها وتشعر بأنك وجدت ضالتك في البحث عن منتديات هادفة تروي ظمأك وتعطُّشك للحصول على العلم أو تبادل الحوارات الجادة. فبعد تصفح كامل لها تجد أن قسم المنوعات أو الترفيه أو أياً كان اسمه، دائماً له قصب السبق في المشاركات الهائلة والنشاطات المتناهية؛ فما كان اسم المنتدى وتصنيفه إلا غطاء ما يلبث أن يُزال، فتظهر المعلومات الضحلة والاتجاهات الحقيقية لأصحابه ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: (من كثر ضحكه قلَّت هيبته، ومن مزح استُخف به) .
فالميزان في ذلك أن تمزح ولا تقول إلا حقاً، ولا تؤذي قلباً، ولا تفرط فيه، فمن الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليها. فخراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر.
شاب الصبا، والتصابي بعدُ لم يشبِ وضاع وقتك بين اللهو واللعبِ
وشمس عمرك قد حان الغروب لها والفيء في الأفقِ الشرقيِّ لم يغبِ
فهنئوا أبصاركم بالعودة سالمة بعدما رأت وعاينت؛ فهذا غيض من فيض عسى الله أن يرحمنا ويهدينا.
فلا أملك في النهاية إلا أن اختم بهذا القول لابن القيم ـ رحمه الله ـ قال فيه: (لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ عرض لهم من ذلك فساد في فِطَرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى رُبِّي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير فلم يروها منكراً. فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مكان العقل، والهوى مكان الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف؛ والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل. فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم) «الفوائد لابن القيم» .(231/25)
منتدى القراء
الدعوة إلى الله.. والصبر على الأذى
مقام الدُّعاة إلى الله من أرفع المقامات، كيف لا وهم يتجشمون الكثير من الصعاب في سبيل الدعوة. وبقدر حجم الابتلاء يكون حجم الثواب المقدّر لصاحبه، ولذا نجد أن باب الصبر هو الباب الذي يدخل منه الداعية إلى الله، ويتجلّى ذلك الصبر في تحمّل أنواع الأذى التي يلقاها من الناس في دعوته. ولعلَّ من الأمور التي يمكنها إعانة معشر الدُّعاة على طَرْق باب الصبر استصحاب الوضع الدعوي الراهن، ومعرفة المرحلة التي تجتازها الدعوة الآن، فللدعوة مراحل تشبه إلى حدٍّ ما مراحل حياة الإنسان: طفولة ثم مراهقة ثم نضج.
فهذه المراحل الثلاث تناظر المراحل الثلاث التي تمرّ بها الدعوة إلى الله في الأمة؛ فالمرحلة الأُولى وهي مرحلة ابتعاد الأمة عن منهجها القويم تقابل مرحلة ما قبل البلوغ، وفيها نجد أن الدُّعاة إلى الله يعانون كثيراً في عملية إحياء القيم الدينية وابتعاثها من جديد، وهذه تمثلها مرحلة ما قبل الصحوة الإسلامية. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة إقبال الأمة على المنهج القويم والتي تناظر مرحلة المراهقة نسبةً لما يعانيه فيها الدُّعاة إلى الله من المشقة والمعاندة، وذلك لأن الإقبال يكون بعنف شديد يطغى على المعايير، وتصحب هذه المرحلة الغلو في الدين وكثرة الجدال والجُرأة على الدُّعاة والكثير من المظاهر السلبية. فإذا لم يقابل الدُّعاة إلى الله هذه النفوس بسعة الصدر والحنو الزائد والشفقة والرحمة؛ فإن زمان مكوث الأمة في هذه المرحلة سيطول حتماً. وها نحن الآن نعايش مرحلة المراهقة؛ فإذا تغلب الدُّعاة على عقبات مرحلة المراهقة دخلت الأمة المرحلة الأخيرة في دائرة الدعوة ألا وهي مرحلة الوسطية. فعلى الدُّعاة أن يعدّوا لكل مرحلة عدّتها من الصبر، وأن يتيقّنوا حقيقة أن الله مع الصابرين.
المهندس: أحمد نورين دينق
أيها الأسد.. متى؟!
ارتمتْ بين يديّ خريطة في هيئتها صورة للَيْث يثبُ على فريسته، تراه قد طار في الجو كالنسر سرعة، ولكنها سرعة ساكنة فوق أرض الواقع وفي ثنايا الخريطة.
حملقت بنظري في هذه الخريطة، تأمّلتها، فإذا بي أجد فيها نهرين عظيمين، فهذا دجلة وهذا الفرات باقيان على مرِّ الزمان. وها هي الموصل، بل ها هي سامراء خالية، وهذه هي بغداد وقد سكن عزّها، وهذه الكوفة وقد أرهقتها صروف الدهر.
إنه العراق الذي ضرب بمجده جذور التاريخ، ورافق الحياة في مسيرتها، ذاقَ حلاوة المجد، وعزة الإسلام، ورفعة العلم زمناً، ثم ذاق مرارة الظلم، والذّل والجهل، والبدع زمناً آخر.
آهٍ! فكم من حرقة تشعل الكبد ناراً، وكم من لوعة تذيب القلب كمداً، كلما طرق ذكر العراق قلبي المحزون، إنه وطن من أوطان الإسلام.
فكم أنجب لنا من مجد في سالف الأيام، وغابر العصور.
كم من معين صافٍ للعلم كان فيه جنى منه العلماء أطايب الحكم والعلوم.
وكم من صحراء فيه كانت نعم الكنانة للغة القرآن العظيم.
وكم من عندليبِ شعرٍ صدح في ميادينها.
آهٍ يا عراق المجد! كم من ركب سار طروباً بعبق ذكراك.
وكم من خليفة فيك قد أعلى راية الجهاد.
وكم من جيوش انطلقت من حماك.
وكم من شرفٍ قد حيز لك.
وكم من نصر ناله الإسلام بك.
وكم من قوافٍ حِسان قد نُظمت فيك مدحاً.
كم وكم، فآهٍ ثم آهٍ ثم ألف آه من أعماق الفؤاد على مجدك الذي اندرس في هذه الأيام!
أيا عراق المجد! أين صولتك؟ وأين آباؤك؟ وأين مجدك؟ هل اطمأنت جوانحك إلى مجدك السالف؟ أم هانت في نفسك نشوة الانتصار؟!
هل تنازلت عن مكانتك؟ أم تواضعت لغيرك ليأخذ مكانك في القيادة؟
هل نسيت دورك وتاريخك؟ أم أصابتك لوثة الذّل؟
أيئست من النصر؟ أم صدقك المنجمون؟
أماتت أبطالك؟ أم تبددت في نفوسهم الهمم؟
أنزعت تاج قوتك للأبد؟ أم نزعته لتعيد تنظيمه؟
كم تألم الروح يوم لا تسمع لك صوتاً مدوّياً يزيل ما أنت فيه من مآسٍ عظيمة.
يا عراق المجد! لن نيأس أبداً من انتظار عودتك إلى ميادين العزة والقوة، فالخير بين ذرّات رمالك، وبين جريد نخيلك، الخير في شبابك وفي أبطالك وفي روابيك وفوق سهولك.
ولكن يبقى في القلب المتلهف سؤال يدوّي صداه في الأعماق: متى تعود أيها الأسد؟ متى؟ متى؟
القارئة: وميض الأمل
وعدُ الإله
واصلوا حربكم..
أيها الرافضون لذلِّ الحياة..
وخذوا حذركم..
من ولاء بني جلدتي للغُزاة..
أَحْرقوا بلظى صدقكم..
صَلَف الماكرين الطُّغاة..
وارفعوا عن سمانا..
هزائمنا العاصفات..
وانعموا بالرِّضا..
أيها الواثقون بوعد الإله..
غازي المهر
تنويه: في عدد رمضان وفي مقال «حزب الله على أي أساس يقاتل» وكاتبه: عبد المنعم شفيق، وُضِعَ بطريق الخطأ عنوان بريد إلكتروني لكاتب آخر من كُتَّاب المجلة، والعنوان الصحيح للكاتب: (nahl@gawab.com) .(231/26)
حادي المنى والمنايا على هشيم دولة الطوائف
صالح عبد الله الجيتاوي
حادي المُنى والمَنايا
كيف أمسيت موثقاً في الزوايا
كيف أخنت عليك قارعة الدهر
المَهيب العُتُلُّ ذو المرتقى الصّعب
أذهبت ريحك الجهالة حكماً
لست أدري والنار تنهش روحي
مثلَ شاة الحراج تفتح فاها
نظرة الحزن تلك أم رَهَق
منذ تسعين والبوار مقيم
ذَلَّ من ذلل الرعية والدار
ظلمة القبر للعشيرة خيرٌ
منذ جاست بين الصدر وأقامت
فوق عشرين غير أن مداها
ركّعاً سجّداً ولكن لغير
وإذا ما انثنت إلى الدار هزتها
أَسلمتنا للذلِّ حتى كأنَّا
أمعنت توسع القلوب دماراً
لم تزل ريحها تَصِرُّ وتذرو
وهي أضحوكة الزمان إذا ما
صدئت في قلاعها فتداعت
شيع النائبات لا بارك
من بناها، من حكاها، من غذاها
وأنت ابنها: زناد الرزايا
أداروك في المحافل نايا
لم يزل في الزمان يطوي البرايا
أَأُداري شماتتي أم أَسايا
بئسما أوردت فتاها الخطايا
الكبر يواري حرائقاً في الحنايا
وكبار النفوس راحت شظايا
وأوهى عراه وزر الدنايا
من ظلام الأحزاب سود النوايا
دول العار تُبَّعاً وخزايا
عند باب السفير يزجي العطايا
الله في معبد الخنا كالمطايا
وأحصت على العباد النوايا
عندها أهل ذمّة لا رعايا
ملأتها عقارباً وعظايا
بيدر الأهل في شعاب الخفايا
صهلت في البطاح خَيْل المنايا
أنتنت في كهوفها كالبغايا
الله عليها ولا تلاها بقايا
من طواها، وهل تبوح الطوايا
جلجل السخط حين أبدعك اللؤم كسيراً مذللاً كالسّبايا
أم عتاب على الزمان، فما أعتب دهر، ولا أقال الضحايا
أم شموخ على القيود فيا ليت شموخ الإسلام قاد السرايا(231/27)
حماس.. مصير القضية لا مصير الحكومة
ياسر الزعاترة
عندما تمَّ التوافق بين الأُطر القيادية في حركة حماس على دخول الانتخابات كان ثمّة إجماع على أن المشاركة في الحكومة ليست واردة، وأن المطلوب هو مشاركة برلمانية تمنح الحماية لبرنامج المقاومة من جهة، وتحول دون تكرار تجربة النصف الثاني من التسعينيات من القرن الماضي، حين سارت قاطرة (أوسلو) واستهدفت الحركة ومؤسساتها وقادتها بمختلف أشكال الاستهداف.
كان التقدير الذي استند إليه القرار، يتمثل في أن مرحلة مفاوضات جديدة هي في طور الانطلاق بسبب تغير المعطيات العربية والدولية، وهي مرحلة تشبه إلى حدٍّ كبير مرحلة (أوسلو) مع فارق أن القيادة الفلسطينية الجديدة لا تؤمن بالمقاومة المسلَّحة بأيِّ حال، وترى استمرار التفاوض، ولو إلى يوم الدين.
في المقابل كان البرنامج الإسرائيلي الذي تبنَّاه شارون هو تأبيد النزاع، عبر مشروع الحلّ الانتقالي بعيد المدى، أو مشروع الدولة المؤقتة على قطاع غزة وأقل من نصف الضفة الغربية، وهي دولة سيكون لها نزاعها الحدودي مع جارتها اليهودية، نزاع ليس مكانه ساحات الحروب ولا البنادق والرصاص، بل الجهود الدبلوماسية في الأروقة الدولية.
حدث ذلك بسبب تطورات دولية وإقليمية وعربية بالغة الأهمية، فهناك ـ ابتداءً ـ إدارة أمريكية لم يعرف لها مثيل في مستوى الانحياز للهواجس الصهيونية، وهي ذاتها التي منح رئيسها في نيسان 2004م وعداً لشارون بشأن مفاوضات الوضع النهائي شبّهه المراقبون بوعد بلفور، وهناك أيضاً وضع دولي متراجع أمام الولايات المتحدة بعد الاجتياح السهل للعراق، فضلاً عن تأثير اليهود في القرار الأوروبي، بخاصة في فرنسا، فيما لا تميل روسيا والصين إلى أيِّ شكل من أشكال الصّدام مع الإدارة الأمريكية من أجل ملفات شرق أوسطية ما دام بالإمكان المساومة عليها مقابل مكاسب أخرى تهمُّ البلدين في قضايا أكثر أهمية بالنسبة إليهما.
هناك ما هو أسوأ ممثلاً في تراجع الوضع العربي أمام الولايات المتحدة، أكان بسبب ضغوط ملف الإصلاح الذي استخدم مرحلياً في سياق الابتزاز، أم بسبب الخوف من الضغوط الأمريكية بعد احتلال العراق، أم بسبب الفزاعة الإيرانية التي استخدمت لاحقاً، وفي بعض الحالات العربية هناك ملفات داخلية خاصة، مثل: ملف التوريث في مصر.
في مثل هذه الأجواء دخلت حماس الانتخابات من أجل حماية نفسها وبرنامجها، لكن النتيجة كانت مفاجأة؛ ليس فيما يتعلق بحجم حضور حماس، بل في نزاهة الانتخابات، والأهم خلافاتها الواسعة التي أفضت إلى النتيجة المذكورة، لاسيما في الدوائر الانتخابية التي تنافس فيها أكثر من مرشح بعضهم من ذوي السمعة السيئة، مع العلم أن الفارق بين الحركتين في نتيجة نظام القائمة لم يكن كبيراً، ولو كانت الانتخابات كلها وفق ذات النظام كما في الدولة العبرية لكان بوسع فتح أن تشكل الحكومة مع الآخرين، في حين ستكون حماس في المعارضة بنسبة (45%) .
هنا لم تجد حماس بدّاً من تجاهل قرارها بعدم المشاركة في الحكومة، إذ لا يمكن أن تدير ظهرها لمن انتخبوها ومنحوها الثقة، وهكذا مالت إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، الأمر الذي وُوجه بفيتو واضح من طرف فتح، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل تمَّ التوافق في أروقة الحركة على جملة من السياسات، أهمها: حرمان الحكومة الحماسية من معظم الصلاحيات؛ الأمنية، السياسة الخارجية، الإعلامية، وحتى الإشراف على المعابر، وصولاً إلى تأشيرات الحج والعمرة! ومن ثم العمل الحثيث على استدراجها نحو خطاب سياسي جديد يشوّهها تمهيداً لإقصائها، إما بترتيب يجري التوافق عليه لاحقاً، أو حتى بانتظار نهاية المدة البرلمانية إذا لزم الأمر، حيث يمكن حينها ترتيب الانتخابات بطريقة مختلفة.
من هنا بدأ التآمر على الحكومة بمشاركة الأطراف العربية الخائفة من المدِّ الإسلامي، والأمريكية والدولية والإسرائيلية، وكل ذلك بالتنسيق مع حركة فتح التي تركز هدفها في التشويه قبل الإقصاء، الأمر الذي بدا أقل أهمية بالنسبة للآخرين، لاسيما الأطراف العربية المعنية بالتخلّص من الحكومة بأيّ وسيلة.
هكذا فرض الحصار المحكم على الحكومة، وحتى الأموال التي جمعتها لم تتمكن من إدخالها إلى الأراضي المحتلة بسبب تهديد البنوك من قِبَل الولايات المتحدة، في حين جرى دعم الرئيس الفلسطيني وتضخيم حرسه الرئاسي وتزويده بالأموال والأسلحة.
لكن ذلك لم يخف بحال أزمة الأطراف المختلفة في مواجهة الحكومة التي منحت مهلة ثلاثة شهور للسقوط فلم تسقط، ولولا ملف الرواتب لكانت الحكومة في وضع معقول، وهو ملف عجز ـ رغم أهميته ـ عن دفع الناس إلى العصيان المدني، والسبب هو أن عودة الوضع القديم تمثل كابوساً بالنسبة للكثيرين، وما يفعله مسلّحو فتح بالناس في الضفة الغربية لا بد أن يدفعهم نحو مزيد من التمسك بالوضع الجديد، وفي العموم فإن الأمل بحلِّ معضلة الرواتب يظل قائماً ويمكن للناس أن يتدبّروا الأمر انتظاراً لذلك الحل، لاسيما أن مساعدات كثيرة لا زالت تتدفق على الناس المحتاجين بما يحقق الحدّ الأدنى، فيما يؤمل أن يتمرد الأوروبيون على التوجه الأمريكي ويتوقفون تبعاً لذلك عن سياسة حجب المساعدات بعد أن منحوا واشنطن ما يكفي من الوقت لحلِّ المعضلة دون جدوى.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، ذلك أن خيارات الانقلاب العسكري من خلال دعم الحرس الرئاسي وسواه من الأساليب المباشرة، قد تفضي إلى اقتتال داخلي، كما قد تفضي ـ وهو الأهم بالنسبة للإسرائيليين ـ إلى انهيار السلطة، وصولاً إلى تصعيد شامل يخشاه الأمريكان تبعاً لغرقهم في المستنقع العراقي والأفغاني، إلى جانب أزمة كوريا الشمالية التي أثّرت سلباًَ على مطاردة إيران.
لكن التصعيد الإسرائيلي الأخير والتلويح بعملية عسكرية واسعة ضد القطاع قد تشير إلى جراحة من نوع آخر تنطوي على محاولة لاستعادة الهيبة بعد هزيمة لبنان من جهة، كما تسعى من جهة أخرى إلى ضرب حكومة حماس عبر شلِّ قدرات الحركة العسكرية من أجل تسهيل الانقلاب عليها داخلياً تحت ذريعة وصول الوضع الفلسطيني إلى طريق مسدود، لكن أمراً كهذا لا يعني حلاً للمعضلة بالضرورة، كما أن نتائجه ليس مضمونة.
عربياً يبدو موقف الأطراف التي تناهض حكومة حماس في غاية الحرج أمام الشارع بعد ظهورها في الصف الأمريكي الإسرائيلي، فيما الفلسطينيون يناشدون العرب والمسلمين فكَّ الحصار من حولهم.
أما خيار الانتخابات الجديدة التي يلوح بها البعض فلا يبدو مقنعاً، ليس فقط لأنه انقلاب مفضوح وغير مبرّر على عملية ديمقراطية نزيهة يستبطن مناشدة للناس إعادة النظر في اختيارهم فقط من أجل الرواتب! بل لأن نتائجها غير مضمونة أيضاً.
من المؤكد أن أزمة الأطراف المشار إليها وبخاصة فتح قد نتجت بشكل أساسي عن العجز عن استدراج حماس إلى خطاب التراجع، وفي حين نجح قادة السلطة في الحصول على موافقة الحركة على ما عرف بوثيقة الأسرى، إلا أن الإضافات التي وضعت في مقدمة الوثيقة حالت دون القول: إن حماس قد اعترفت بالاحتلال، الأمر الذي دفع إلى تكتيك آخر يسمى محددات البرنامج السياسي لحكومة الوحدة الوطنية، وهي محددات تتضمن الاعتراف بالمبادرة العربية وما وقّعته منظمة التحرير من اتفاقات، فضلاً عن تغييب مصطلح المقاومة. ولما رفضت الحركة ذلك تعثّر مشروع حكومة الوحدة الوطنية بدعوى أن الوضع الدولي لا يقبل حكومة لا تعترف بالدولة العبرية.
الآن يمكن القول: إنه ليس أمام حماس غير مواصلة الإصرار على حكومة الوحدة؛ لأن خيارات الانقلاب العسكري عليها ليست سهلة، ربما بسبب قوتها العسكرية في قطاع غزة، وإن تكن ضعيفة في الضفة، والأهم بسبب الخوف من تداعيات أمر كهذا على السلطة برمّتها، كما أشير من قبل.
أيّاً يكن الأمر؛ فقد تأكد الآن أن الأزمة ليست أزمة حماس وإنما أزمة الآخرين الذين حوّلوا القضية الفلسطينية إلى قضية رواتب، وهم أنفسهم الذين رهنوا حياة شعبهم بإرادة محتلّيه، وهي معادلة يمكن كسرها لو وافقوا على حكومة الوحدة ووضعوا العالم العربي أمام مسؤولياته، ما يعني أن المسؤولية تقع عليهم، لاسيما أن ما يبشرون به لا يعدو متاهة تسوية جديدة لن تأتي إلا بأسوأ بكثير من حصاد (أوسلو) .
يطرح البعض هنا حكومة كفاءات أو تكنوقراط، الأمر الذي بدا قابلاً للنقاش ـ بحسب البعض ـ لكنه خيار فاشل في أيِّ حال، ليس فقط بسبب استحالة تسيير الوضع في ظل سيطرة فتح ومليشياتها على السلطة، بل أيضاً بسبب مسار التفاوض التالي، وهو ما يدفع حماس إلى رفضها والإصرار على حكومة الوحدة، أقلّه إلى الآن.
من المؤكد أن حكومة حماس تعيش أزمة، لكن أزمة الآخرين ليست أقل شأناً، بمن فيهم الإسرائيليون الذين خرجوا مهزومين من لبنان، والأهمّ الأمريكيون الذين يتخبطون في أفغانستان والعراق ومع كوريا الشمالية وإيران وأمريكا اللاتينية، بل مع روسيا والصين أيضاً.
حماس في ضوء ذلك ليست قلقة، وخيارها هو الصمود وكسر الحصار بكل السُّبل المكنة، مع التمسك الواضح بالثوابت، أما الحكومة ومصيرها فمشهد عابر في مسلسل صراع تاريخي كبير، ويبقى الأمل في تجاوز فتح لثأرها والموافقة على تشكيل حكومة الوحدة على قاعدة المقاومة وليس الاستسلام لبرنامج العدو، أما إذا أصرت على استمرار التآمر، فإن نجاحها في إقصاء الحكومة يبدو وارداً، لكن ذلك لن يكون مهماً إلى حد كبير ما دامت الجماهير تعرف الحقيقة، وما دام المتآمرون قد فشلوا في ضرب ثوابت الحركة التي انتخبت على أساسها، لاسيما أن مصير رحلتهم التفاوضية الجديدة لن يكون أفضل من رحلتهم السابقة، ما يعني العودة من جديد إلى برنامج المقاومة الوحيد القادر على تحقيق الإنجازات للفلسطينيين.(231/28)
232 - ذو الحجة - 1427 هـ
(السنة: 21)(232/)
عودة الحجاب
تعد حركات (تحرير!) المرأة من أقدم المشروعات العلمانية التغريبية في بلادنا الإسلامية. ولم تتعرض قضية من قضايا الأمة للتشويه والتلبيس كما تعرضت له قضية الحجاب.
لقد صور إعلامنا العربي الحجاب على أنه رمز من رموز التخلف الحضاري والانحطاط الثقافي، وارتفعت الأصوات التغريبية بكل حدة تسخر منه بكل ألوان السخرية والاستهزاء!
وبعد عقود متتابعة من ذلك الكيد والمكر: هل تخلّت المرأة المسلمة عن حجابها..؟
الواقع يحدثنا بأن عودة النساء إلى الحجاب أصبحت ظاهرة متصاعدة؛ ففي بلد مثل تونس يصنَّف الحجاب رسمياً على أنه (زي طائفي!) وتحاصَر المرأة المحجبة حصاراً مستفزاً في دوائر العمل والمؤسسات العامة، ومع ذلك فالحجاب هو السِمَة السائدة في الشارع التونسي، ليس في الأرياف والمدن الصغيرة؛ بل في العاصمة والمدن الكبيرة..!
وعندما تتأمل تصريحات وزير الثقافة المصري الأخيرة بشأن الحجاب والمحجبات، تدرك يقيناً أنها تصريحات المحبَط الذي يرى الجهود التغريبية تتآكل كل ثمراتها، وتذبل بوضوح في الشارع المصري، وحسبك أن تنظر إلى ردود الفعل الغاضبة من كافة شرائح المجتمع المصري، التي أصبحت أكثر وعياً وإدراكاً بطبيعة تلك المعارك المفتعلة.
إنها بكل وضوح عودة صادقة للحجاب.
لقد وجدت المرأة المسلمة أن الحجاب ليس مجرد رمز تقليدي أو شعبي لا معنى له؛ بل هو رمز ديني تعتز به وتفخر.. وجدت فيه معنى العفة والكرامة.. إنه شعيرة لا تقبل المساومة أو المزايدة..!!(232/1)
إمبراطورية المحافظين الجدد: الداية والنهاية
صالح عبد الله الجيتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال الله ـ تعالى ـ: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] ، وهذا ما يعنيه الله ـ جل وعلا ـ وهو يحذِّر أهل الكتاب مما فعله رجال دينهم من تحريف الكتب الإلهية المنزلة على أنبيائهم. فقد رأينا وقرأنا التحريف في كتبهم المقدسة في مختلف طبعاتها لا سيما وقد فضحهم العلماء والباحثون والمتخصصون في مقارنة الأديان. وبالاطلاع على كتاب العلاّمة (موريس بوكاي) المعنون بـ (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) يتضح للقارئ الكريم مصداق ذلك؛ حيث يرى التناقض والكذب وما لا يليق في حق الرسل والأنبياء.
والمحافظون الجدد هم أصلاً من المهاجرين الأوائل إلى أمريكا؛ إذ ينحدرون من (الأنجلو ـ ساكسون) القادمين من الجزيرة البريطانية (ويدينون) بالبروتستانتية، وتتالت بعدهم الهجرات الأوروبية الأخرى القادمة من ألمانيا وإيرلندا وإيطاليا وبولونيا، وسُموا بـ (التحالف العظيم) . وجاءت بعدهم الهجرات اليهودية التي استطاع اليهود بتنظيمهم الداخلي وعصبيتهم، التي يصعب معها اندماجهم في المجتمع الجديد، وظلوا عنصراً متميزاً داخل هذا التحالف، وأبَوْا إلا أن يكون لهم فيها حصة.
والمحافظون الجدد ليسو جدداً إلا في إعادة ممارسة دورهم؛ فالفكر المحافظ هو لب القيم الأمريكية منذ تأسيس دولتهم؛ ولكن خلاياهم النائمة عادت للظهور المتطرف في برامجهم ومبادئهم (1) . ويُعَدُّ المحافظون الجدد أول جماعة صغيرة شكَّلها اليهود الليبراليون خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الميلادي الماضي، وقد لعبت عوامل كثيرة في تكوين الثقافة الأمريكية المؤثرة حقاً في سلوكهم؛ ومن هذه العوامل: التراث اليهودي والنصراني اللذان حملا الثقافة الغربية، ويعتبر اليمين النصراني المتطرف أساسها في أمريكا بمعظم فئاته؛ حيث يسود الأوساط البروتستانتية بصورة خاصة.
ويمكن تلخيص المبادئ الأساسية التي يؤمنون بها على النحو التالي:
1 ـ دعواهم عصمة الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد!
2 ـ اعتقادهم أن كل حرف كتبه مؤلفو (الكتاب المقدس) بجميع أسفاره هو وحي من الله أو من الروح القُدُس الذي حل فيهم كما يزعمون!
3 ـ القراءة الحرفية للكتاب المقدس واعتقادهم دقة نبوءاته بكل تفاصيلها.
4 ـ زعمهم تحقُّق جميع النبوءات على الأرض!
5 ـ قولهم بحتمية الصراع بين قوى الخير (جيش المسيح) والمنتمين إليه! وقوى الشر وهم (جيش الشيطان) والمنتمون إليه، وانتصار قوى الخير في معركة هرمجدُّون كما يزعمون.
6 ـ ربطهم المباشر بين يهود اليوم والدولة العبرية؛ ولذلك سُمي اليمين المتطرف بـ (النصارى المتصهينين) (1) .
وانتشر فكر المحافظين الجدد في أمريكا بشكل خاص، وفي أوروبا كذلك، فلا يكاد يوجد بلد دون أن يكون فيه حزب للمحافظين، وهم الذين ناصروا الإدارة الأمريكية اليمينية في حروبها المجنونة ضد الإسلام والمسلمين فيما يسمى بـ (الحرب على الإرهاب) فانتكست أحزابهم بفشلها لمناصرتها تلك الحرب الغاشمة، وتساقُطِ رؤسائها سواء في أسبانيا أو إيطاليا؛ وبريطانيا ربما على الطريق.
ومن أبرز ما يتسم به أولئك المحافظون هو دعوة كل النصارى، وخاصة (البروتستانت) إلى دعم الدولة الصهيونية ليكونوا مهمين ـ بزعمهم ـ في ميزان الله، وليس ذلك حباً في اليهود؛ بل للاعتقاد بأن اليهود ستقوم دولتهم في أرض الميعاد (أي فلسطين) فهي مكان دولتهم الذي يعتقدونه محطة نزول المسيح ـ عليه السلام ـ في عودته الثانية (2) . وهذه هي عقيدة (بوش) الذي جاء لأبوين متدينين (بوش الأب) و (باربارا بوش الأم) عام 1936م، وانتقل به أبوه وهو صبي إلى (تكساس) التي أصبحت موطنه ومكان صعود نجمه السياسي؛ فهو في البداية لم يسر على خطى والديه المتدينين؛ بل كان مدمناً على الخمر ومتسبباً في إزعاج زوجته (لورا) التي كانت صاحبة الفضل في إقناعه بالكف عن الشراب والأخذ بيده إلى الكنيسة، ولكن الرجل الذي انتقل به نقلة جذرية من حياة الإدمان واللهو إلى حياة الأصولية هو القس (بيلي جراهام) الذي هو بمثابة شيخه، ويعتبر أبرز وجوه اليمين النصراني المتصهينين في أمريكا، وكان ابنه (فرانكلين) هو الذي قام بالصلوات في تدشين (رئاسة) بوش الابن لأمريكا.
فهل سُعار (بوش الابن) الديني هو مصدر قوته وطاقته؟ أم هو مصدر ضعفه وسوء تقديره للأمور؟ والأخير فيما نحسب هو الصحيح؛ وليس هذا رأي أعدائه ومنتقديه فقط؛ بل هو قول مساعديه ومقربيه. فقد ذكرت صحيفة (النيوزويك) أن مستشاري الرئيس يدركون ذلك، وكثير من المحافظين والدارسين يعتبرونه قد أعمته معتقداته المتطرفة وأفقدته بصيرته عن رؤية الآثار السلبية في غزوه للعراق في20 مارس 2003م، والتي سقط فيها آلاف المدنيين والعسكرين الأمريكيين، و (خطابات فخامته!) تذكِّر بخطابات المستعمرين في القرن الـ 19 وأوائل القرن العشرين عند حديثهم فيما يزعمونه عن مسؤولية (الرجل الأبيض) والهمّ الذي يحمله بين جنبيه، والعبء الملقى على عاتقه لنشر الحضارة وتمدين الشعوب المتوحشة!!
ويأخذ بعضهم على فخامته! نظرته التي تتسم بها رؤيته الشخصية والسياسية؛ فالكاتبة الأمريكية (دانا مليابانك) تشير إلى أن الحرب على العراق اعتبرها بوش سياحة؛ بينما سماها الكثيرون مغامرة كارثية، لكن بوش يعتبرها من واقع عقيدته (حتمية تاريخية) . وقبل ذلك غزوه لأفغانستان وما لاقاه الجيش الأمريكي من قتل وإبادة؛ إلا أن إسقاطهم لإمارة طالبان لم يسقط معها تأثيرها في المجتمع الأفغاني، بل عادت للمقاومة من جديد وسامت الأمريكيين سوء العذاب، وبالرغم من ذلك فـ (الرئيس بوش) يعتبر قيادته لرئاسة أمريكا، بزعمه، أمراً إلهياً واختياراً ربانياً؛ كما جاء في (الواشنطن بوست) في 29/2/2002م، وتكرر ذلك كثيراً في غمرة حربه الإعلامية على الإرهاب، وهذا ما أسمته الكاتبة السابقة الذكر: «روح السذاجة التي تتسم بها خطاباته وقراراته» فضلاً عن اتهامه بالغباء وهو ما أطلقه عليه الرئيس الجنوب أفريقي السابق (نيلسون مانديلا) ، والكاتب الأمريكي الساخر (مايكل مور) في كتابه (رجال بيض أغبياء) .
وثمة مآخذ على الرئيس بوش ومَنْ وراءه من مدرسته الأصولية النصرانية الذين يمثلون اتجاهات أصولية أساسها العنف والكراهية والتكبر في وقت تحتاج فيه البشرية إلى التواضع والإنصاف، واعتماد النسبية في تقويم الأفراد والأمم؛ فلا يوجد من البشر المعاصرين من هو شرير بشكل مطلق ولا خيِّر بشكل مطلق كما يريد بوش أن يوهمنا في كثير من خطاباته ورؤاه؛ فهو ليس إنساناً ذا بعد واحد؛ مما يفسر شخصيته تفسيراً أحادياً، فشخصيته مركبة من الحماس الديني والنفعية السياسية (3) .
\ مظاهر الإخفاق في الإدارة الأمريكية:
منذ بدايات الرؤى المتغطرسة والسياسات المتهورة التي تبنتها الإدارة الأمريكية في سياساتها المخالفة للعقل الرشيد والفكر السديد، والتي أصبحت ظاهرة للعيان، أصبحت محل النقد والرفض من قِبَل كل المنصفين من الكُتَّاب والساسة والمفكرين، لما تحمله من اتجاهات منحرفة ومنها:
ـ الرؤى العنصرية للمحافظين الجدد:
وبخاصة محاباتهم الدولة العبرية على حساب الحق الفلسطيني ووقوفهم مع الصهاينة بشكل واضح، والسكوت عن سياسات (اليهود) الخرقاء وتصرفاتهم العدوانية؛ بل والدفاع عن الصهاينة ضد القرارات الأممية التي أدانتهم وإفشالها باستخدام حق الرفض (الفيتو) لمصلحة العدو الصهيوني، مما كانت معه محل النقد والتذمر لا سيما من دولة لها وزنها العالمي، وهذا بلا شك عدوان على الحق واستهتار بالحقيقة لا يقره عاقل. وإذا عرفنا سياسات الحزب الجمهوري المتطرفة ومنها مناصرتهم للباطل، فمندوبهم في هيئة الأمم (جون بولتون) الذي عُيِّنَ بأمر رئاسي رغم أنف الكونجرس؛ حين عرف فشل حكومته وانهزام حزبه استقال مؤخراً وهو أحد رموز اليمين المتطرف، بعدما علم كذلك أنه على كف عفريت.
ـ الفشل في الحروب الاستباقية:
وهي الحروب التي نادى المحافظون بها ضد غيرهم، وخاصة من يرون فيهم تهديداً لهم. فالدعاوى التي قدموها تسويغاً لغزو العراق، بزعم وجود أسلحة الدمار الشامل لدى الحكومة العراقية السابقة قبل الغزو، قد عرف الجميع كذب هذه الدعاوى، ومنذ تم الغزو إلى الآن لم يعثروا على تلك الأسلحة المزعومة، وقد حرثوا العراق طولاً وعرضاً ولم يجدوها.
ـ النقد الموضوعي الذي يقوم به المنصفون في أمريكا ضد المحافظين الجدد:
أصبح نقد القوم محل الإعجاب من الرأي العام الأمريكي. فمثلاً كتابات ومؤلفات المفكر المعروف (نعوم تشومسكي) حيث هاجم في كتاباته العلمية الناقدة سياسات الإدارة الأمريكية؛ مما هو معروف للجميع، وكتب الاقتصادي الأمريكي الشهير (جورج سورس) في كتابه (فقاعة التفوق الأمريكي) ما سلط به الأضواء على اقتصادهم؛ ففي الجزء الأول الذي عنونه بـ (رؤية ناقدة) فكَّك وانتقد وهاجم واتهم، وفي الجزء الثاني المعنون بـ (رؤية بنَّاءة) قدم البدائل؛ فصاغ ما رآه حلولاً ومقترحات تُخرج أمريكا من الوحل الذي ورطها فيه الرئيس بوش، وانتقد إدارته المحافظة؛ حيث رأى أن حكومة أقوى دولة على وجه الأرض في يد من يرى أنهم مجموعة من المتطرفين الذين سماهم بـ (الدارونية الاجتماعية) ويعني بهم اليمين المحافظ الحاكم؛ حيث دعوا إلى انتقال أمريكا إلى الهجوم والسيطرة العالمية من دون تحفُّظ؛ ليضمنوا بقاءهم على موقعهم القيادي لهم في القرن الحادي والعشرين، وبحسب هذا المشروع يجب على أمريكا أن تنطلق لتحقيق أهدافها غير آبهة بأحد، وأنها لن تتعاون مع الدول أو مع الأمم المتحدة إذا ما رأت أن مصالحها ممكن تحقيقها من دون ذلك؛ لأن عليها مواجهتهم بالقوة العسكرية والحسم، وأنها يمكن أن تقوم بذلك من دون تردد. ووضح الكاتب فشل مشروعهم (القرن الأمريكي الجديد!) وختم حديثه عن أنه لن يمر وقت على أمريكا، حتى يتدهور وضعها في العالم في وقت قياسي (1) .
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى فشل الحزب الجمهوري الحاكم بعد الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي بعد سقوط بعض أعضائه وانتقال بعضهم للحزب الديمقراطي الذي نال الأغلبية، وهناك دعوات أمريكية لإنقاذ الرئيس من المحافظين الجدد الذين اختطفوه وارتهنوه في سياساته المتهورة، وفي حروبه الفاشلة التي سبق الإشارة إلى بعضها يوم خدعوا الشعب الأمريكي بمنطلقاتهم. ونتيجة لهذا الفشل تساقط أعضاء الإدارة الأمريكية؛ فاستقال وزير الدفاع (رامسفيلد) وكذلك مندوبهم في هيئة الأمم (جون بولتون) ، والحبل على الجرّار، وفوز الحزب الديمقراطي ـ فيما نحسب ـ بسبب غضب الشعب الأمريكي من بوش وحكومته في سياساتها المتطرفة التي هي محل النقد والسخط من المواطن الأمريكي الذي يرى أهمية محاكمة الرئيس على جرائمه، وكذلك محاكمة رموز حزبه اليميني المتطرف على ما اقترفوه في حق شعبهم والشعوب الأخرى التي نالها الظلم والدمار بسبب سياسات الحزب الجمهوري الحاكم المتهورة. فمن يردُّ للآباء والأمهات فلذات أكبادهم؟ ومن يرد للمظلومين حقوقهم المنتهكة؟ ومن يرد لأمريكا سمعتها التي وصلت إلى الحضيض في انتهاكها حقوق الإنسان؟ بينما هي تتبنى بكذب مكشوف اتهامات كثيرة من الدول لحقوق الإنسان، وهي أول من انتهكها وداسها منذ تأسيسها بإبادة الهنود الحمر! فإلى متى تبقى أمريكا أسيرة للصوت الصهيوني؟ حيث وصلت الإدارة الأمريكية إلى حال لا تحسد عليها من الضعف.
ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى ما ذكره مؤلفا كتاب (أمريكا لوحدها: المحافظون الجدد والنظام العالمي) أن الأحداث الأخيرة التي مرت بأمريكا أثبتت ما يلي:
1 ـ خطأ المنهج الذي سار عليه المحافظون الجدد.
2 ـ خطأ نظرية نشر الديمقراطية الأمريكية بالقوة.
3 ـ استيقاظ الرأي العام الأمريكي، وعدم تصديقه لما يحدث من نكبات تبنتها حكومتهم.
وهذه بداية النهاية للمحافظين الجدد. وقد توقع المؤلفان ردود فعل داخلية وعدائيه ضدهم (2) ؛ فقد مل الشعب الأمريكي مبادئ القوم وفشلهم في تحقيق أهدافهم المتطرفة مع الخسائر الكبرى التي تكبدوها. وصدق الله العظيم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} .
__________
(1) أمريكا المسيحيانية: تأليف (آلان فوشن) و (أدنيال هرشه) ، بتصرف.
(1) انظر: الإداراة الأمريكية المحافظة وتفسير نبوءات التوراة لآخر الزمان، تأليف (مروان ماضي) .
(2) لمعرفه المزيد عن هذا الموضوع، انظر إلى كتاب الشيخ د. عبد العزيز كامل (حمى سنة ألفين) وهو نظرات جديدة في مسيرة الصراع الديني ضد المسلمين من سلسلة كتاب البيان الصادر في 1420هـ/1999م.
(3) انظر: صحيفة الجزيرة المغربية، العدد 56 بتاريخ جمادى الأولى عام 1425هـ، بتصرف.
(1) انظر: مجلة الكوثر، العدد 56، لشهر جمادى الأولى عام 1425هـ. في عرض للكتّاب المشار له.
(2) أمريكا لوحدها: تأليف (ستيفن هالبر) و (جونتان كلارك) ، بتصرف من صحيفة الشرق الأوسط، الصادر في 14/12/1425هـ.(232/2)
دروس من الحج في زمن التغيير
محمد بن عبد الله الخطابي
حين تشتد الهاجرة وتلفح الوجوهَ سمومُ التبديل والتخذيل والبدعة، ويسطعُ غبارها ابتغاء الفتنة عن الحق وابتغاء التأويل بما يرضي المشرق والمغرب؛ فإن الملجأ يكون إلى المحاضن الآمنة والمعاهد الحصينة. وحين يُوري المبطلون زند العوائق ويتطاير شررها فإن الرِّي والرَّواء والمرتعَ والمغتبق هناك في حمى «النص» وفسطاط التسليم للكتاب والسُّنة وفهم السلف.
ولا زال المصلحون وأصحاب الدعوات وأرباب التغيير، من العلماء العاملين والحكام المقسطين والمجاهدين الصادقين، يثوبون إلى ذلك المأزر الرشيد، ويركبون له الصَّعب والذلول موئلاً وثمالاً، وقد وثقوا؛ أنه لا يُصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به وعليه أولها.
ويصوَّنون ويحذَرون أن يواقعوا خُطَّة التبديل، أو أن يجذبهم شَرَك البدعة عن سيرهم إلى الله. قال ابن وضَّاح ـ عليه رحمة الله ـ فيما رُوي عن بعض السلف: «يأتي على الناس زمان يسمّن الرجل راحلته حتى تعقد شحماً، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقصاً، يلتمس من يفتيه بسنَّةٍ قد عُمل بها فلا يجد من يُفتيه إلاّ بالظن» ، قال ابن وضاح ـ سنة 281 ـ: سمعت سحنوناً ـ أحد علماء المالكية المشهورين ـ يقول منذ خمسين سنة: «إني أظن أنّا في ذلك الزمان، فطلبت أهل السُّنة في ذلك فكانوا كالكواكب المضيء في ليلة مظلمة» (1) .
ـ وقال ابن عبد البر في التمهيد ـ في حديث لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه ـ: «وذلك لمَا يحدث فيه من المحن والبلاء والفتن، وقد أدركنا ذلك الزمان كما شاء الواحد المنان لا شريك له، عصمنا الله ووفقنا وغفر لنا. آمين» (2) .
ولئن كان السالفون الصالحون الأولون يخافون أشد الخوف ويحذرون من ذلك أشد الحذر وهم في زمن الراية والرواية وصَوْلة السنة فلئن يحذر أهل زماننا أوْلى وأجدى وأجدر ... لذا فهذه وقفات خيِّرات، تبضُّ بمروفها تلك المواسمُ المباركة الفاضلة وتستجلبها المشاعرُ من المشاعر، مهَّد لقطب رحاها النظرُ في حال الأمة والتفكر الحثيث في مشروع نهضتها وسبيل ارتقائها، وإذ اعتاد علماء أمتي وطلابُهم في هذه المواسم المباركة عقد حِلَق الفقه والعلم؛ لتدارس مسائل الحج ومناسكه وأحكامه، فنِعمَ إذاً رديف ذلك أن يُتحدث عن تلك الفوائد واللطائف والدروس، في الدعوة والمنهج والتغيير والأسباب والسنن الثابتة، التي يغذوها الحج بمناسكه ومواطنه ونصوصه.. إذ لا يرعى الهشيم من وَجَدَ الجميم، ولا ينتجع الغيث في أقطاره من سقاه ريّق الوبل في دياره.
فمن أعظم تلك الدروس المستفادة من مواطن الحج ونصوصه ومناسكه ما قد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة وقد وهنتم حُمَّى يثرب، قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قومٌ قد وهنتهم الحُمَّى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر وأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا» (3) .
وفي هذا الحديث الجليل تقرير لما قد تمهَّد في الأصول الشرعية من مشروعية مراغمة الكافر ومماتنته، حتى قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: (لا شيء أحبّ إلى الله من مراغمة وليّه لعوده، وإغاظته له، وقد أشار ـ سبحانه ـ إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه ... ) بل جعلها هذا الإمام السلفي الجليل ذريعةً من ذرائع الصدِّيقية، ووليجة يلج بها العبد المنيب المخبت لبحبوحتها فقال: (فمن تعبَّد الله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصدِّيقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة) (1) .
وإذا قرأت هذا علمت عُظْم الشطط والدّرَك المنحط الذي هوى إليه دعاة التسامح الديني والطائفي ـ كما زعموا ـ وعلمت أيَّ ركن من الديانة يسعى أولئك المنهزمون المبدلون إلى أن يهدموه، وعلمت أيضاً أن قرناً للبدعة قد ذرَّ طالعه وبدا أوله وفسق بصياصيه، ولئن كانت الأمة قد فتنت في قرون مضت بما أخذت من أمم الكفر السالفة من علم المنطق والكلام والفلسفة حتى تشذرت بدداً وطرائق قدداً، ونُصب قدر البدعة على أثافي الهوى قروناً متطاولة، فإن بدعة أعظم وأطَمَّ وأحبُولة للتبديل والخروج من الديانة أكبر وأدهى قد رُكزت أعلامها في أسواق الأهواء فراجت بأسماء الإخاء الديني والتسامح الحضاري والحوار مع الآخر، وولجت في الأمة بدعاية نبذ التطرف والعنصرية والكراهية، كأن الكلب لم يأكل لهم عجيناً، وكأن القوم لم يقرؤوا قول الله ـ تعالى ـ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] .
قال محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ: (إنه لا يستقيم للإنسان إسلام ولو وحَّد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض) (2) .
فسبحان الله! ماذا أُنزل من الفتن (3) ، حتى فُوِّقت سهام اللوم والتخطئة لمن نادى ودعا إلى هذه الشعيرة الجليلة؛ ولكنا كما قال ابن القيم في عبودية المراغمة: «وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه ولذّته بكى على أيامه الأُوّل» (4) .
ومن عجائب الأمر أن هذه الشعيرة مما تكاثرت عليه النصوص حتى لا يكاد يعشو عن منازلها إلا من أعمى الله بصيرته، بل قال الشيخ الصالح محمد بن عتيق ـ رحمه الله ـ عن هذا الحكم الجليل «الولاء والبراء» : (ليس في كتاب الله ـ تعالى ـ حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده) (5) .
والناظر في نصوص متفرقة في الحج ومناسكه يرى رعي الشريعة لمثل هذا الأمر الكُبّار، حتى كانت خطبته -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع تأكيداً لهذا الشأن فقال -صلى الله عليه وسلم-: «كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع» (6) ، هكذا بهذه الصفة المنفّرة التي تشي بكل معاني الاحتقار للجاهلية والاستعلاء عليها والترفّع عنها وعن أصحابها (7) .
والحج كلّه تأكيد لهذا الأمر وتأكيد لمعناه وتربية للقلوب عليه، فقد خالف النبي -صلى الله عليه وسلم- المشركين في أفعالهم في الحج كما ثبت في البخاري من حديث عمرو بن ميمون قال: «شهدت عمر ـ رضي الله عنه ـ صَلَّى بجُمْع ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرقْ ثبير، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس» (8) .
ومما يبين أيضاً هذا الأمر من نصوص الحج، ويزيد هذه القضية إيضاحاً ـ وهي والله الواضحة الجليّة ـ ما ثبت عند الترمذي وصححه النسائي (9) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
الوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يُزيل الهام عن مقيله
ويُذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر ـ رضي الله عنه ـ: يا ابن رواحة! بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي حرم الله تقول الشعر! فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خلِّ عنه يا عمر! فلهي أسرع فيهم من نضح النبل» ، فانظر إلى حَوْط الشريعة وتقريرها لقاعدة البراء من المشرك ومراغمته بالإعلام المسموع في مواسم الحج والعمرة، وإكبار هذا وإشهاره ومدح فاعله، فأين من يدعون إلى التسامح مع الآخر والانفتاح على ثقافته وعدم الكراهية للمختلف الثقافي (الديانة ـ الكافر) ؟ أين هم من هذه الواضحات وهم يُجادلون في الله وهو شديد المحال، ويأخذون بشدق المنهج، ويضعون ويخبُّون في نصر باطلهم؟ بل إن الحديث يدل على جواز مراغمتهم بالقوم في حال العهد فضلاً عن حال المقاتلة والحرب، ولهذا الشأن موطن غير هذا الموطن، لكن الغرض بيان عُظْم هذا الأمر وتقرره لدى الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- في عام الحديبية أهدى جملاً كان لأبي جهل في رأسه بُرة فضة، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «يغيظ بذلك المشركين» (10) . ومما يتصل بهذا ما ذكره بعض العلماء في سبب تسمية عمرة القضيّة بهذا الاسم؛ حيث اختلف الفقهاء: هل هو مأخوذٌ من القضاء للعبادة (العمرة الأولى) ؟ أم من المقاضاة للكافر؟ على قولين، اختار ابن القيم الثاني (11) .
ـ ومن ذلك ومما يحسن إيراده هُنا، والقلوب إن لم تسافر أبدانها إلى تلك البقاع المباركة سافرت بفكرها وشوقها وتأملاتها وكأنها تنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول يوم النحر وهو بمنى: «نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة؛ حيث تقاسموا على الكفر» (1) ، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب ألا يُناكحوهم ولا يُبايعوهم حتى يُسلِموا إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-. هكذا يُظْهر المؤمن صولة الحق والإيمان والسنة في مواطن حُورب فيها الحق والسنة، وتُربط الفهوم في عباداتها بالصرِّاع مع الكافر وديمومته حتى يجيء المؤمنون وهم يؤمّون تلك المشاعر المباركة، فيتذكرون صراع الحق مع الباطل وظهور الحق بعد جولة الباطل ... وبقاء الحق ظاهراً عالياً، ولتتذكَّر الملايين من المسلمين وهي تطأ أرض تلك المشاعر والمناسك فضلَ إظهار شعار الإسلام وصولته، وأن الصراع مع الكفر والبدعة والفجور باقٍ ما بقيت تحادّ الله وشرعه وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولذا استحب العلماء ضيافة الأرض التي وقعت فيها المعاصي بإيقاع الطاعة فيها بذكر الله وإظهار شعار المسلمين (2) .
ـ ومن لطيف ما يظهر للناظر في دروس الحج ما يؤخذ من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ في السنن: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » (3) . وهي سور البراءة من الكافرين والتسليم لرب العالمين، وليكون العابد الحاج مرتبطاً بمثل هاتيك المعاني العظيمة، وليعقد أنامله عليها ويستمسك بمقتضياتها.
ـ ومن هذه الدروس المستفادة من طُيوب تلك العبادة ما يؤخذ من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رقى الصفا فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» (4) .
إنه التذكير بالانتصار على القوى العالمية الكافرة على يد الثلّة المؤمنة الصابرة، وهي الكلمات التي يُردّدها كلُّ عابد وكل عالم وكل مجاهد وتتناقلها الأجيال في كلاءة السناء، ولا ريب أنه مهما بلغ عتو الكافر وتجبّره وظلمه فإن النصر للموحدين الصادقين، بل لقد منَّ الله ـ سبحانه ـ بأنواع من النصر والتأييد في هذه العصور المتأخرة ما تعجز عنه ألسنتنا شكراً وتكلُّ عنه ثناء؛ حيث نشر الله مذهب السلف في الأسماء والصفات والأسماء والأحكام وغيرها من مسائل الاعتقاد، وكثُر الداخلون في الإسلام، وغدا للمسلمين من الهيبة والصولة ما لم يتحصل منذ قرن وأزيد من الزمان.
والملايين اليوم وهي تقف على الصفا صُعُداً يجب أن تعلم وأن توقن أن جند الله هم الغالبون، ولا بد أن تعلم وتتعلم علاقة النصر بالعبادة وعلاقة النصر بالشكر وعلاقة النصر بكمال التوحيد وتحققه في القلوب، ومن الدروس التي تغذوها عبر الحج ومواطن المناسك وترتبط في نفس كل مسلم وقلب كل مؤمن ذلك التسليم المطلق والتفويض العظيم لأمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في قصة أم إسماعيل ... كما ثبت في البخاري عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أن إبراهيم جاء بها وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قَفَّا إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم! قالت: إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت) (5) .
إنه منهج التسليم للنص، ونبذ الرأي، وطرد الخصومة في التشريع.. وهو الأساس الذي يقوم عليه المعتقد السلفي الصحيح، وهو القاعدة الأولى في الديانة، وعليه إجماع السلف، وإليه موئلهم، وعليه نَفَص الخارجون عن السنّة، وبتركه وقع أهل الأهواء في التبديل والبدعة.. ولذا اشتد نكير السلف وأتباعهم على من ترك الآثار وردّ النص. قال الإمام البربهاري: (إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار أو يردّ الآثار أو يريد غير الآثار فاتّهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع) (6) .
وقال إبراهيم النخعي: (لو أن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- مسحوا على ظفرٍ لما غسلته التماس الفضل في اتباعهم) (7) . وحين تشتد غربة المسلمين اليوم بكثرة من ينادون بالتجديد في الدين (بما يلائم العصر) وترك ـ ما يزعمونه ـ الرسوم التي عفت! (وخلا في الغابر أصحابها) ونبذ النصوص والخروج على فهم السلف لها، والدعوة إلى إيجاد فهم عصري للنصوص على غير أصول السلف، بل الدعوة للتجديد بالطمس والمسخ للعلوم المعيارية في الشريعة كأصول الفقه ومصطلح الحديث، ليتَقوَّض البناء، ويسقط عمود الفسطاط، ويتثلم الصرح.
حين تُزعج النفوس المؤمنة بتلك الأطروحات والندوات تجد في قصة أم إسماعيل وأمثالها الجلال والجمال والقدوة العطرة، ثم يعلم المسلم وهو يُقلّب نظره بين البيت وزمزم والصفا والمروة عِظم بركة (عبادة التسليم لله) وكبير ثوابه ـ سبحانه ـ وجزيل عطائه لمن تعبَّده بذلك، ألم ترَ أن الله جعل لأم إسماعيل الذكرى الخالدة والثناء الحسن ولسان الصدق في الآخرين إلى يوم الدين جزاء تسليمها للنص وتفويضها للأمر، فإذا بملايين البشر على ضوء الأمر الإلهي يخطون على خطاها، ويتخذون من طريقها بين الصفا والمروة مثابة تعبّد وشعيرة نُسك؟ ولا يزال كذلك ما تعاقب النيّران وتقلب الجديدان، وإن عبداً بلغ من أمره أن يجعل الله من عَفْو فعله عبادةً ومنسكاً على طريقته وهيئته لذو قربى وزلفى عند الله سبحانه، وكل صاحب اتباع وتسليم ونبذ للرأي فله حظ من ذلك بحسبه، وله نصيب من هذا بقدره، والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
بل إن من عجيب ما في قصة أم إسماعيل أنها حين خالطت بتحويطها لزمزم وحرصها الفوت، وداخَلَ أمرَ زمزم مع أم إسماعيل صنعُ البشر وكسبهم، نَقَص من ذلك بقدر الحرص البشري، مع أنها لم تعترض على نص ولم تردّ سنة ولم تدفع شريعة، ولم تترك التسليم لأمر الله، لكنها كانت على حالٍ لو كانت على أزكى منها ـ وهي الزكية البرة ـ لكان أعظم بركة وأجزل مثوبة، ليس لها فقط بل وللأمم والأجيال المتعاقبة بعدها. وانظر إلى هذا الحديث وهو يبين أثر ذلك في البركة والخيرية والزكاء؛ قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فجعلت: «أم إسماعيل تحوِّضه ـ أي الماء ـ وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف» ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم ـ أو قال لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عيناً معيناً» (1) ، وعلى أصحاب الدعوات والإصلاح والتعليم والجهاد أن يعلموا أنه بقدر ما يخالط أعمالهم من ركونٍ إلى الرأي وترك للنص وبُعْدٍ عن منهج السلف ينقص بقدره من الفلاح والنُّجح والبركة، وكل صاحب دعوة فعليه أن يحتاط لنفسه ويحذر ويتقي، مخالفة التبديل في الأمر والانزلاق عن السنة ومنهجها، وتحرير طريق السلف في فقه الإنكار والتغيير والاحتساب على العِليّة وطرائق الدعوة والتربية، ووسائلها، ومعاملة المبتدع، وهجر المبدِّل، وأحكام أعوان الظَّلَمة، وضوابط المداراة، وحدود المداهنة، وغيرها مما يمس مناهج الدعوة والتربية والجهاد في هذا العصر، (جاء عن ابن المسيب أنه رأى رجلاً يكثر من الركوع والسجود بعد طلوع الفجر فنهاه، فقال: يا أبا محمد! أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة) (2) . ومن لطيف ما يُذكر هنا أنهم كانوا يحرصون ـ رحمهم الله ـ على إخراج المبتدع من الثغر، وسلامة الجيوش الإسلامية في غزوها من البدع والمبتدعة لما تقرر لديهم من أثر البدعة في الخذلان، حتى: (روى ابن أبي عاصم عن علي بن بكار قال: كان ابن عون يبعث إليّ بالمال فأفرِّقه في سبيل الله، فيقول: لا تُعط قدريّاً منه شيئاً ـ وأحسبه قال فيه ـ ولا يغزون معكم فإنهم لا ينُصرون) (3) .
وجاء في ترجمة العابد الزاهد أبي إسحاق الفزاري الثقة المخرّج له في الكتب الستة: «قال العجلي: كان ثقةً رجلاً صالحاً صاحب سنةٍ، وهو الذي أدّب أهل الثغر وعلمهم السنة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجلٌ مبتدع أخرجه» (4) . وأعظم وأجلّ من قصة أم إسماعيل قصة أبي إسماعيل ـ رحمة الله وبركاته عليهم أهل البيت إنه حميد مجيد ـ إذ أُمر بذبح ابنه (5) ، فاستجاب وسلّم وامتثل، ولبّى نداء ربه في التضحية الكبرى ولم يضن بابنه، ولم يتأخر في البذل، وقال عنه ربه: {وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (6) [النجم: 37] .
والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى مثل هذه الصفات الإبراهيمية من العلم بالله والدعوة إليه إلى تحطيم الأصنام، ثم الصبر على البلاء ومفارقة الأوطان، والثبات في التضحية في سبيل نشر دين الله ونشر السنة والدفاع عن أعراض المسلمين وحرماتهم.
والملايين التي تؤمّ وأمّت بيت الله وهي تقتدي بإبراهيم ـ عليه السلام ـ في رمي الجمار والذبح والأضاحي (7) ، ينبغي أن تقتدي بإبراهيم ـ أيضاً ـ في مواطن الدعوة والتضحية والصبر، وهي تنظر إلى تلك الأماكن المباركة التي كان عليها أعظم مواقف التضحية والبذل في سبيل الله، فتجتهد إذاً في رفع الجهل والظلم والبدعة والفجور عن الأمة، وتحذر من تبديل المبدلين وتخذيل المخذلين، وتحذر أيضاً من قومٍ تزيّلوا عن طريق السلف في الدعوة ولم يمسكوا بعروة التسليم: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (8) [النحل: 9] .
__________
(1) البدع والنهي عنها (164) . (2) التمهيد ـ المرتب ـ (6/398) .
(3) أخرجه البخاري (1602) ، ومسلم (1266) .
(1) المدارج (414/1 ـ 415) دار طيبة.
(2) مجموعة التوحيد (25) .
(3) من حديث هند عن أم سلمة: «استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: سبحان الله» ، (البخاري: 115) .
(4) المدارج (415/1) .
(5) سبيل النجاة والفكاك (14) .
(6) البخاري (67) ، ومسلم (1218 ـ 1679) .
(7) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/342) .
(8) أخرجه البخاري (1684) .
(9) الترمذي (2847) ، والنسائي (2873) وصححه الضياء وابن حجر.
(10) أبو داود (1749) .
(11) انظر: (زاد المعاد: 273/3) ، (فتح الباري: شرح حديث (4252) .
(1) البخاري (1589) ، ومسلم (1314) عن أبي هريرة.
(2) انظر: فتح الباري: شرح حديث 3065، وشرح النووي: حديث 2875.
(3) الترمذي (869) ، النسائي (2963) .
(4) مسلم (1218) ، عن جابر.
(5) أخرجه البخاري (3364) .
(6) شرح السنة (51) .
(7) الإبانة الكبرى (316/1) .
(1) أخرجه البخاري (3364) .
(2) التمهيد (92/5) .
(3) السنة (88) .
(4) تهذيب التهذيب (99/1) ، وليس في هذا حكم عام في هذه المسألة بتفاصيلها، لكنه بيان لشأن السنة في الانتصار فقط، وانظر في هذه المسألة: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (212/28) .
(5) ثبت في البخاري عن سفيان عن عمرو عن عبيد بن عمير: «رؤيا الأنبياء وحي» ، ثم تلا هذه الآية: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] .
(6) انظر: تفسير ابن كثير (30/7) ، دار طيبة.
(7) انظر: الحديث بطوله في المسند (306/1) .
(8) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (ومنها جائر ـ هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة) ، وقال مجاهد في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} : (طريق الحق على الله) ، تفسير ابن كثير: (560/4) .(232/3)
نماذج مضيئة في تحقيق عقيدة الولاء والبراء
خالد بن عبد المحسن التويجري
لقد حقق سلف هذه الأمة وعلماؤها العاملون عقيدة الولاء والبراء في حياتهم، فكانوا موالين لأهل الإيمان، محبين لهم، ناصرين لهم، وأيضاً أعلنوا بوضوح براءتهم من أهل الكفر، وعدواتهم وبغضهم لهم. وسأعرض لبعض النماذج والأمثلة المشرقة من حياتهم؛ لعلنا نحذو حذوهم ونقتدي بهم.
فمن صور تحقيقهم للولاء والبراء:
1 ـ إظهار البراءة من المشركين، ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين حتى عند الشدائد والمحن. وأبرز مثال على ذلك قصة زيد بن الدَثِّنة ـ رضي الله عنه ـ الذي اشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، فخرجوا بزيد إلى (التنعيم) ، حيث اجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قُدِّم ليقتل: أنشدك الله يا زيد: أتحب محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه؛ وأني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. ثم قتلوا زيداً ـ رضي الله عنه ـ (1) . فانظر إلى ولاء زيد ـ رضي الله عنه ـ الصادق للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو لا يحب أن يصيب النبي -صلى الله عليه وسلم- شوكة؛ فضلاً عن أن يصيبه ما هو أعظم من ذلك!
وها هو أبو الفرج الجوزي يروي لنا قصة الشهيد أبي بكر النابلسي فيقول: أقام (جوهر) القائد لأبي تميم صاحبِ مصر أبا بكر النابلسي فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة؟ قال: ما قلت هذا؛ بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم؛ وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً؛ فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية. فضربه، ثم أمر يهودياً فسلخه، فكان يذكر الله ويقرأ قوله ـ تعالى ـ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . ويصبر حتى بلغ الصدر فطعنه، ثم حُشي تبناً، وصُلِب. وقد حكى ابن السعساع المصري أنه رأى في النوم أبا بكر النابلسي بعدما صلب، وهو في أحسن هيئة، فقال: ما فعل الله بك؟ فقال:
حباني مالكي بدوام عزٍ
وواعدني بقرب الانتصار
وقرّبني وأدناني إليه
وقال: أنعِمْ بعيشٍ في جواري (2)
فتأمل شدة بغض أبي بكر النابلسي ـ رحمه الله ـ لأعداء الدين، وبراءته منهم، وإنكاره علهم، وكيف لم يخَفْ في الله لومة لائم؟!
وانظر إلى طريقة أهل الكفر والنفاق في التنكيل بعلماء الإسلام ومحاربتهم! وذلك لما يحملونه في صدورهم الخَربة من بغض المؤمنين وعداوتهم. وهذا ما تواطأت عليه قلوب جميع أعداء الملة، فهم؛ وإن اختلفوا فيما بينهم؛ إلا أنهم يجتمعون في شدة عدواتهم للمسلمين.
2 ـ البراءة من أهل الكفر والمشركين وإن كانوا من الأقربين: وذلك تحقيقاً لقوله ـ تعالى ـ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ... } [المجادلة: 22] . قيل إنها نزلت في أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ، حيث سب أبو قحافة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فصكه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أوَ فعلته؟! لا تعد إليه» فقال: «والذي بعثك بالحق نبياً، لو كان السيف مني قريباً لقتلته» . وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، [وقيل: يوم بدر] ، وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر؛ قصد إليه أبو عبيدة، فقتله» ، وقيل في سبب نزول الآية غير ذلك. بل يصل الأمرُ أحياناً بأولئك الصادقين إلى الرغبة في التمكين من قتل أقربائهم من الكفار؛ ليُرُوا اللهَ منهم خيراً بذلك، وابتغاءً لمرضاته.
فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما استشار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في أسرى بدر، فقال: «ما ترى يا بن الخطاب؟» قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر؛ ولكن أرى أن تُمكِّنني من فلان [قريب لعمر] فأضرب عنقه، وتُمكِّن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان [أخيه] فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين» (1) .
وقد روي «أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال لسيعد ابن العاص ـ رضي الله عنه ـ إني أراك كأنك في نفسك شيء! أراك تظن أني قتلت أباك؟ إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بروقه (2) ؛ فحدت عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله. فقال سعيد بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: «لو قتلته لكنت على حق وكان على الباطل» فأعجبه قوله» (3) .
3 ـ ثبات المؤمن على عقيدته مع شدة إغراءات أهل الباطل بضمه إليهم: فقد يبذل الحاقدون على المسلمين إغراءاتهم وما بوسعهم في سبيل تخلي المسلمين عن دينهم، ويسلكون في ذلك وسائل مختلفة للوصول إلى هذا الهدف. وفي قصة عبد الله بن حذافة السهمي ـ رضي الله عنه ـ ما يدل على ذلك: فإنه قد أُسِر في أحد المعارك مع الروم، فعرض عليه ملك الروم أن يتنصَّر، فرفض، ثم قال له: إن فعلتَ شاطرتُك مُلْكي، وقاسمتك سلطاني، فقال عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن ديني طرفة عين؛ ما فعلت ذلك، ثم هدده الملك بالقتل، وصَلَبَه ورماه قريباً من رجليه وقريباً من يديه، وهو يعرض عليه مفارقة دينه، فأبى، فقال له: هل لك أن تقبِّل رأسي وأخلي عنك؟ فقال عبد الله له: وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً؟ قال نعم: فقبَّل رأسه، فأمر الملك بإطلاق سراحه وسراح جميع المسلمين المأسورين لديهم، وقدِم بالأسرى على عمر ـ رضي الله عنه ـ فأخبره خبره، فقال عمر: حق على كل مسلم أن ىُقبِّل رأس ابن حذافة؛ وأنا أبدأ، فقبَّل رأسه (4) .
إنها عزة المسلم الحق، وثباته عند الشدائد، وعدم تنازله عن دينه؛ حتى لو أدى ذلك إلى موته. وتأمل حب عبد الله ـ رضي الله عنه ـ لأسرى المسلمين واهتمامه لهم! فإنه لم يغفل عنهم في تلك الظروف الحرجة؛ بل حرص على فكاك أسرهم.
والمؤمن مطالب ومأمور بولائه لدينه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين؛ وإنْ هَجَرَه المؤمنون لسبب من الأسباب المشروعة لذلك. وهذا يذكرنا بما حدث لكعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ الذي هجره المسلمون حتى في رد السلام..، فابتلي في هذا الوقت العصيب بإغراء عظيم من قبل أحد الملوك في ذلك الوقت، فرفض ذلك الإغراء وثبت ـ رضي الله عنه ـ. يقول حاكياً ما حدث: « ... فبينما أنا أمشي في سوق المدينة؛ إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني؛ دفع إليِّ كتاباً من ملك غسان، فإذا فيه: «أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحقْ بنا نواسِك!» فقلت لما قرأتها: وهذا من البلاء. فتممت بها التنور فسجرته بها ... » (5) ، فرفض ـ رضي الله عنه ـ هذا الود الظاهر في وقت هو فيه أحوج ما يكون إلى من يواسيه ويواليه؛ لكن لِما قام في قلبه من عظم الولاء لله ولرسوله، والبراءة من أعداء الدين؛ رفض هذه الدعوة التي كشفت له بصيرته ما وراءها، فرفضها وعدَّها بلاءً آخر فكانت عقباه الخير. فكيف أخي المسلم بمن يتنازل عن ثوابت دينه ومعتقده؛ خوفاً من أعداء الدين، أو حباً في مال أو رئاسة في هذه الدنيا الزائلة؟!
4 ـ دور الخلفاء والسلاطين في موالاة المؤمنين ونصرتهم، والبراءة من المشركين ومحاربتهم: وشواهد التاريخ على هذا كثيرة، من ذلك ما يروى من أنه عندما أسر الرومُ أحد المسلمين قال له ملك الروم: ماذا يريد خليفتكم من الإغارة علينا؟ أما تكفيكم بلادكم؟ فأخبره الجندي المسلم أنهم يهدفون إلى نشر الإسلام، وإقامة العدل بين الناس الذي افتقده الناس؛ بسبب بعدهم عن الحق، فغضب عند ذلك البطريرك الذي كان جالساً قرب الملك، وقام من مجلسه وصفع الجندي على وجهه صفعة مؤلمة، وأمر به إلى السجن، ثم بعد ذلك جرى تبادل الأسرى بين المسلمين والروم، وعاد الجندي المسلم إلى أهله، واستدعاه الخليفة وأكرمه، وسمع خبره، ثم أمر بتوجيه بعثة من الجنود تنكَّروا على شكل صيادين حتى وصلوا إلى القسطنطينية، فدخلوها، واحتالوا على البطريرك؛ فقبضوا عليه، وجاؤوا به مكبلاً إلى أن أُدخل على مجلس الخليفة معاوية ـ رضي الله عنه ـ، وكان الجندي الذي أُسِر بجانب الخليفة، فقال له معاوية ـ رضي الله عنه ـ: أهذا هو؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال له: دونك فاقتص منه! فقال الجندي: بل عفوت عنه يا أمير المؤمنين. فقال معاوية ـ رضي الله عنه ـ للبطريرك: اذهب إلى مَلِكِك، وقل له: إن أمير المؤمنين يقيم العدل ويقتص من الجاني حتى من مملكتك (6) ؛ فرضي الله عن معاوية بن أبي سفيان الذي ضرب بتلك الحادثة أروع الأمثلة في مدافعة الحاكم المسلم عن حقوق المسلمين أفراداً وجماعات.
وروي أن أحد الجنود المسلمين وقع أسيراً في حوزة الرومان، وأنهم حملوه إلى إمبراطورهم الذي حاول أن يُكْرِهَه على ترك إسلامه، فرفض الأسير المسلم، فأمر الإمبراطور أن تُفقأ عيناه..، وسمع عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بذلك، فكتب إلى ملك الروم يقول: «أما بعد: فقد بلغني ما صنعت بالأسير المسلم، وإني أقسم بالله لئن لم ترسله إليَّ من فورك لأبعثنَّ إليك من الجند؛ ما يكون أولهم عندك وآخرهم عندي» . وعندما وصل الخطاب تراجع ملك الروم أمام هذه العزيمة، وأمر بإعادة الأسير المسلم إلى أهله وقومه (1) .
ومن ذلك أيضاً ما اشتهر عن المعتصم في نصرته لتلك المرأة التي صاحت بأعلى صوتها: (وامعتصماه!) ؛ حيث كانت ضمن الأسرى عند الروم، فنقل بعضُ الحاضرين هذه الصيحة إلى المعتصم فنهض مردداً: لبيكِ لبيكِ! يا أختاه، وأمر بالنفير العام، واستدعى القضاة والشهود، وأشهدهم على وصيته: أن ماله إذا استُشهد في هذه المعركة يقسّم إلى ثلاثة أقسام: ثُلثه صدقة، وثُلثه لأولاده، وثُلثه لمواليه. وسار بنفسه ومن معه من المسلمين، فحاصر عموريَّة حتى فتحها بعد حصار شديد، وثأر المعتصم من أعداء الله، واسترد كرامة المسلمين، وتبيَّن كيف تكون غضبة الحاكم المسلم إذا انتُهكت حرمات الله (2) .
5 ـ دور علماء الأمة في بيان الولاء والبراء، والحث على تحقيقها وذلك عبر: الفتيا، الرسالة، التصانيف، والردود.
يُروى أنه نشأ خلاف كبير بين الأخوين: سلطان الشام الملكُ الصالحُ إسماعيل، وسلطان مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان من نتيجته أن استعان الملك إسماعيل بالصليبيين أعداء الإسلام، وتحالف معهم على قتال أخيه نجم الدين، وأعطاهم مقابل ذلك مدينة صيدا، وكذلك قلعة (صفد) وغيرها؛ بل سمح للصليبيين أن يدخلوا دمشق، ويشتروا منها السلاح وآلات الحرب، وما يريدون! فأثار هذا الصنيعُ المنكر استياءَ علماء الإسلام، فقام سلطانُ العلماء العزُّ بن عبد السلام وأنكر على السلطان فعلَه ذلك، وأفتى المسلمين بتحريم بيع النصارى السلاح. فسُجن بسبب ذلك (3) . هذا في الفتيا. وشواهد ذلك كثيرة، حفظها لنا التاريخ، وحفظ لنا أيضاً تلك الرسائل التي خطَّها علماء السُّنة اقتداءً بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- في مراسلاته للملوك ورؤوس الكفر، كما مر معنا.
فقد أرسل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ رسالةً إلى ملك قبرص (سرجوان) يخاطبه في شأن أسرى المسلمين، فمما ورد في كلامه ـ رحمه الله ـ بعد دعوته للإسلام: « ... ومن العجب أن يأسِر النصارى قوماً غدراً أو بغير غدر، ولم يقاتلوهم ... ، وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين؛ فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص؟!
فما يُؤمِّنُ الملكَ أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم ربُّ العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم؟ وما يُؤمِّنُه أن تأخذ المسلمين حميةٌ إسلاميةٌ؛ فينالون منها ما نالوا من غيرها؟ ... » (4) .
وهذه الرسالة من شيخ الإسلام للملك النصراني تبين شدة ولائه ـ رحمه الله ـ وحبه للمسلمين، والسعي في تخليص أسراهم من الكافرين) ، وفيها بيان لعزِّة المؤمن بقوة إنكاره وشدته على أهل الباطل، وفيها أيضاً بيان لأهمية دور العلماء في الذود عن الحق وأهله أينما كانوا.
كذلك فإن أهل العلم حرصوا على التصنيف والتأليف في هذا الموضوع المهم في حياة المسلمين. فمن ذلك: ما قاله الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد ـ رحمه الله ـ في رسالته (الهدية الثمينة في ما يحفظ به المرءُ دينَه) ؛ إذ قال ـ رحمه الله ـ: «لمَّا رأيت ما عمّ وطمّ من انقلاب الأكثرين عن دين الإسلام، وموالاتهم لعبدة الأوثان وأعداء الشريعة من: النصارى، والملحدين، والرافضة، حملتني العزة الدينية والشفقة الإنسانية أن أجمع بعض آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومن كلام علماء السُّنة المقتدى بهم، نبذةً يسيرةً في بيان تحريم مخالطة المشركين ووجوب البعد عنهم، وحكم التولي والموالاة والسفر إلى بلادهم، وما يجب على من اضطُّر إلى العمل مع الشركات الأجنبية؛ لتكون تذكرة للمؤمنين وحجة على المعاندين، وسميتها: (الهدية الثمينة في ما يحفظ به المرء دينه) » (5) .
وأختم هذه النماذج المباركة بإضاءة من حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ الذي كان ينبِّه بين وقت وآخر، في دروسه ومحاضراته وفي ردوده، على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين. ومن ذلك ردّه على ما جاء في أحد الصحف، وهو خبر يتعلق بإقامة صلاة الجمعة في مسجد قرطبة، وذُكر فيه: إن الاحتفال بذلك يعد تأكيداً لعلاقات الأخوة والمحبة بين أبناء الديانتين: الإسلام والمسيحية، فقال ـ رحمه الله ـ في رده عليهم: « ... ونظراً إلى ما في هذا الكلام من مصادمةِ الأدلةِ الشرعية الدالة على أنه: لا أخوةَ ولا محبة بين المسلمين والكافرين؛ وإنما ذلك بين المسلمين أنفسهم، وأنه لا اتحاد بين الدينين الإسلامي والنصراني؛ لأن دين الإسلام هو الحق الذي يجب على جميع أهل الأرض المكلفين اتباعُهُ، أما النصرانية فكفرٌ وضلال بنص القرآن الكريم» .
ومن ذلك قوله ـ رحمه الله ـ: « ... فقد نشرت بعض الصحف المحلية تصريحاً لبعض الناس قال فيه ما نصه: «إننا لا نَكِنُّ العداء لليهود واليهودية، وإننا نحترم جميع الأديان السماوية» ، ولما كان هذا الكلامُ في شأن اليهود واليهوديةِ؛ يخالف صريحَ الكتاب العزيز والسُّنة المطهرة، ويخالف العقيدةُ الإسلامية، وهو صريح يُخشى أن يغتر به بعض الناس؛ رأيت التنبيه على ما جاء به من الخطأ نصحاً لله ولعباده، فقد دلَّ الكتابُ والسُّنة وإجماع المسلمين على أنه: يجب على المسلمين أن ىُعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين، وأن يحذروا مودتَهم واتخاذهم أولياء (6) » ا. هـ.
نعم.. تلك أفعال لا أقوال، وحقائق لا أوهام، وتلك نتفٌ يسيرة من سِيَر أقوام، نحسبهم ـ والله حسيبهم ـ رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فهلاَّ اتبعنا أثرهم، واقتدينا بهم في هذا الزمان الذي وهنت فيه الأمة، وضعفت شوكتها، وهانت على بنيها قبل أعدائها! وما أصابها ما أصابها إلا من ضعف تحقيق هذا الأصل العظيم: الولاء لله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الكفار والمشركين وأعداء الدين.
__________
(*) معيد في كلية الملك عبد العزيز.
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (153/4) . (2) سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي (184/16 ـ 150) .
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب (الإمداد بالملائكة في غزوة بدر) ، ح (1763) ، (1383/2) . (2) الروق: أي القرن، لسان العرب (131/10) .
(3) البداية والنهاية، لابن كثير (290/3) . (4) انظر: سير أعلام النبلاء (14/2) .
(5) انظر: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، ح (4418) ، وفتح الباري (113/8) .
(6) الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية للشيخ محامس الجلعود (311/1) .
(1) المصدر السابق (325/1) . (2) البداية والنهاية لابن كثير (252/14) .
(3) الموالاة والمعاداة (121/1) . (4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (601/28 ـ 630) . الرسالة القبرصية.
(5) الدرر السنية (463/15) وما بعدها. (6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبد العزيز بن باز (173/2) وما بعدها.(232/4)
كيف نحيي رسالة المسجد
شوقي عبد الله عبّاد
لا يخفى على مسلم ما للمسجد من دور في حياة المؤمن؛ فهو المدرسة الأولى التي تخرَّج فيها الصحابة رضي الله عنهم. فكان لهم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرها؛ ذلك أن المسجد أدى دوره وقام برسالته التي جاء من أجلها؛ فلم يكن في عهود الإسلام الأولى دار صلاة فحسب، بل كان مع ذلك دار اجتماع لكل المسلمين، ومركزاً لإرسال السرايا والجيوش، ومنه ينطلق الدعاة إلى الله يجوبون الأرض يعلِّمون الناس الخير.
وفي هذا المقام أود التذكير برسالة المسجد، وإحياء هذه الرسالة التي كادت أن تموت، ولا سيما أننا في وقت يحارب فيه المسلم بوسائل مختلفة، وأساليب متعددة.
وهذه بضع عشرة وسيلة استخلصتها من هدي الإسلام وقواعده العامة، نستطيع من خلالها معاً أن نفعّل دور المسجد ونحيي شيئاً من رسالته؛ فإن غياب هذا الدور، واندراس تلك الرسالة، من أسباب تعرض المسلم للانجراف وراء التيارات المنحرفة المفسدة المشبوهة، التي تستهدف تضليل الناشئة بالدرجة الأولى، وإبعادهم عن دينهم وإغراقهم في أوحال الرذيلة مستخدمة في ذلك شتى الوسائل من دور سينما ووسائل إعلام وشبكات اتصال.
وسائل تفعيل إحياء رسالة المسجد:
ü الوسيلة الأولى: عقد الدروس الشرعية والدورات العلمية:
وذلك بواسطة العلماء وطلاب العلم في شتى صنوف العلوم الشرعية من عقيدة وفقه وحديث وتفسير وغيرها، وذلك بين الفينة والأخرى، لا سيما في مواسم العُطَل والإجازات. ومما يدل على أن المسجد كان مهد مثل هذه الدروس العلمية قصة أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ حين مر بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: «يا أهل السوق! ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم وأنتم ها هنا! ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرَ فيه شيئاً يُقْسَم. فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى! رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام. فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-» (1) .
ولهذا كان الواحد من السلف، إذا أراد أن يطلب العلم، توجه أول ما يتوجه إلى بيت الله؛ فعن صفوان بن عسال المرادي ـ رضي الله عنه ـ قال: «أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم، فقال: مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم تحفّه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا، من محبتهم لما يطلب» (1) .
وقد ألمح -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك حين قال: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله» (2) والشاهد من الحديث قوله: «في بيت من بيوت الله» وذلك لأن الغالب في حلقات القرآن وفي دروس العلم أن تكون في بيوت الله (3) .
ومن أولى أولويات الدروس العلمية: حلقات تحفيظ القرآن الكريم للناشئة؛ فما زالت مساجد المسلمين عامرة منذ القديم بمثل تلك الحلقات التي يتخرج فيها حفظة كتاب الله، وهناك بعض المساجد تجعل حلقات التحفيظ في مدرسة أو دار خاصة بالتحفيظ مستقلة عن المسجد، مستقلة عنه حسب الظروف.
ü الوسيلة الثانية: إلقاء المحاضرات والندوات:
والمقصود بذلك المحاضرات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم، وهذه تختلف عما سبق من حيث إنها لا تركز على شريحة معينة من المجتمع كطلبة العلم، بل تتوجه إلى عموم الناس: المتعلم وغير المتعلم، من النساء والرجال، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» (4) ، وإن من أهم المواضيع العامة التي يحتاجها الناس كلهم بيان أركان الدين الخمسة، وأعظمها الصلاة، وحث الناس على أدائها في جماعة، خصوصاً فريضة الفجر؛ فما بنيت المساجد إلا للصلاة وذِكْر الله. ومن المواضيع المناسبة في هذا الموطن ما يتعلق بالأسرة والبيت وتربية النشء ومسائل النكاح والطلاق والمشاكل الاجتماعية والأسرية التي تعاني منها كثير من بيوت المسلمين.
ü الوسيلة الثالثة: إلقاء بعض الكلمات والمواعظ الموجزة:
يتم إلقاؤها بين فينة وأخرى يستفيد منها جميع روّاد المسجد خاصة أهل الحي، على أن يُرَاعى في ذلك كله الأوقات المناسبة حتى لا يملّ الناس، وهكذا كان هديه -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (5) ؛ هذا وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس موعظة، وهؤلاء هم الصحابة أحب العالمين للموعظة. وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يذكّر الناس كل خميس اتباعاً لهدي النبي الكريم. والمهم في هذا الأمر عدم إملال الناس وتنفيرهم، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ فقد يكون التذكير يوماً بعد يوم، أو يوماً بعد يومين، وقد يكون أسبوعياً، والضابط في ذلك كله هو الحاجة مع وجود النشاط (6) .
ü الوسيلة الرابعة: إنكار المخالفات الشرعية نصحاً لعامة المسلمين:
وذلك عند وقوع أحد منهم في مخالفة داخل المسجد، وقد جاءت السنَّة بالنهي عن أمور تتعلق بالمساجد كالبيع والشراء فيها (7) ، ونشدان الضالة (8) ، ورفع الأصوات (9) ؛ ونحو ذلك. ولعلِّي أضرب مثالاً واحداً لإحدى المخالفات التي أعتقد أنها منتشرة وقلّ أن يخلو منها مسجد، تلك هي المرور بين يدي المصلي، والمرء يعجب أشد العجب من تهاون الناس في هذا الأمر؛ فالمار لا يبالي كثيراً بأخيه المصلي، بل لا يبالي بإخوانه المصلين، فتجده يقطع صفوف المصلين واحداً تلو الآخر وكأنه لم يقع في محرم بَلْهَ كبيرة من كبائر الذنوب (10) . ومن جانب آخر تجد المصلين أنفسهم يتساهلون في عدم دفع هذا المار بين أيديهم وكأن الإثم يقع على المار فحسب، والأشد عجباً هو تخلي جمهرة المسلمين ـ خصوصاً أئمة المساجد ـ عن القيام بواجبهم في النصح والإرشاد لهذا الأمر المتكرر يومياً، وللأسف فإن المسجد الحرام أخذ النصيب الأوفر من الوقوع في هذه المخالفة الشرعية، بحجة أن بعض العلماء أجاز ذلك عند الضرورة كالزحام الشديد، ولكن الناظر لحال الناس هنالك يرى عدم التفات الناس إلى تلك الضرورة أو الحاجة، بل أصبح الأمر عادياً حتى إن البعض يمر بين يدي المصلين ذهاباً وإياباً دون أي مبالاة. هذا مثال واحد من المخالفات في بيوت الله جل وعلا، وإذا كان نشدان الضالة وإشهار السلاح ونحوها، يندر أن تقع في المساجد اليوم؛ فهناك ما هو أشد منها كإصدار النغمات الموسيقية أو الأغاني عبر الهواتف المحمولة وغيرها من الأمور التي تحرم في كل مكان فضلاً عن المساجد والتي هي أحب البقاع إلى الله.
ü الوسيلة الخامسة: إماتة البدع وإحياء السنن:
يجب التعاون على إماتة البدع والخرافات من المسجد إن وُجدت، ثم إحياء السنن التي أُميتت وما أكثرها! والبدع هي من المخالفات التي ينبغي القيام بالنصيحة عند حدوثها (1) ، ولكني أفردتُ البدع عن سائر المخالفات لفداحة الآثار المترتبة على ارتكابها مقارنة بالمخالفات التي تم الإشارة إلى بعضها؛ فالبدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها كما قال سفيان الثوري رحمه الله، ولست بحاجة لأن أعدّد البدع، بل الشركيات المتفشية في مساجد المسلمين ودور عبادتهم؛ فمن أخطر البدع ـ وهذا على سبيل المثال لا الحصر ـ التي لا تزال للأسف موجودة في مساجد المسلمين دفن الأموات ـ لا سيما من يُعتقَد فيه الصلاح والخير ـ إما في قبلة المسجد، وهذا أشنعها، أو في طرف منه، أو في صحنه، أو حتى في فنائه، وكذلك العكس أي إقامة المسجد وبنائه على قبر، ولم يكن هذا تعامل السلف الصالح مع القبور إطلاقاً، بل إن الذي أحدث المشاهد، وعظّم القبور في ملة الإسلام هم المبتدعة (2) . ومما يدل على خطورة هذا الأمر أن التحذير من الوقوع فيه كانت آخر وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (3) .
وإن مما يندى له جبين المؤمن تلك الإحصائيات المروّعة، حول انتشار هذه البدعة في مساجد المسلمين حول العالم (4) ؛ وهذا يحتم علينا جميعاً التكاتف في تحذير الناس منها، والرفع إلى من يهمه الأمر بخطر مثل هذه البدع المفضية ولا شك إلى الشرك الأكبر، هذا مثال واحد من أعظم البدع ناهيك عند البدع الأخرى التي تكثر في المساجد وبدع الاحتفالات بالمناسبات الحولية، مثل الاحتفال بالمولد النبوي، أو الاحتفال بليلة النصف من شعبان، أو غيرها من المناسبات، وكذلك البدع المتعلقة بالأذان وبالأذكار دبر الصلوات، وكلها مما ينبغي التعاون على إزالته، فوالله لو لم نجنِ من تفعيل دور المسجد إلا تطهير بيوت الله من مثل هذه الخزعبلات لكفى. ولا ينبغي تهوين مثل هذه الأمور والنظر إليها بعين التساهل لعلاقتها الوثيقة بجناب التوحيد والذي بسلامته ينجو الإنسان من النار ويدخل الجنة، نسأل الله من فضله.
وبعد إماتة البدع (5) ينبغي العمل على إحياء السنن الخاصة بالمساجد، وهي كثيرة، وإنما تُرِكَت لتعلق الناس بالبدع، وينبغي التدرج في إحياء السنن في المسجد وتقديم الأهم فالمهم، حتى لا ينفر الناس من السنَّة أو ينكروها؛ فالسنن المتعلقة بصفة الصلاة وتسوية الصفوف مثلاً تُقدّم على سنن الدخول إلى المسجد والخروج منه، وهذا الأمر يحتاج إلى فقه المقاصد وفقه المصالح والمفاسد، ومن لم يكن ذا مَكِنَة فلا يتجشم عناء التغيير، فقد يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح.
ü الوسيلة السادسة: جمع التبرعات والصدقات للمحتاجين في الأرض المحتلة:
والمقصود هو الدعم المالي المتواصل للمحتاجين من الأسر الفقيرة القاطنة بالحي، ولدعم المشاريع الخيرية أو لقضايا المسلمين في الخارج، وكان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوة إلى الدعم المالي للكيان المسلم في المسجد، كما في دعوته للإنفاق في غزوة تبوك (6) ، ودعوته للتبرع حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار (7) ، وكان إذا جاءه مال الغنيمة، أو الفيء، نثره في المسجد يقسمه بين الناس، وبوّّب على ذلك الإمام البخاري فقال: باب القسمة وتعليق القِنْوِ في المسجد (8) ، قال ابن رجب: «المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء، وخُمْس الغنيمة، وأموال الصدقة، ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها» (9) ، وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يأخذون صدقاتهم إلى المسجد لعلهم يجدون من يأخذها منهم من فقراء المسلمين كما في قصة يزيد بن الأخنس ـ رضي الله عنه ـ حين أخذ صدقته إلى المسجد ليتصدق بها (10) . وجاء في وصف سبعين من خيار الصحابة أنهم كانوا يشترون طعاماً لأهل الصُّفَّة القاطنين بالمسجد (11) ، وقال يزيد بن أبي حبيب: كان مرثد بن أبي عبد الله اليزني ـ ويكنى بأبي الخير ـ أول أهل مصر يروح إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قط، إلا وفي كُمِّه صدقة: إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح يتصدق به (12) . فهذه نماذج تدل على مكانة المسجد، ودوره في تدعيم الجانب الاقتصادي للمسلمين، وأن الصدقات والتبرعات وما شابهها كانت تنطلق منه (13) .
ولعل ما يمر به العمل الخيري من تضييق الخناق عليه، ومن حملات مسعورة تدعو لإيقافه، محفز لنا لإحياء دور المسجد في هذا الجانب، وتفعيل ذلك الدور ولو على المستوى الفردي، وإني على يقين جازم أنه لو اعتنى كل مسجد بهذا الجانب، وقام بأداء رسالته كما كانت في العهد الأول، مع شيء من التنظيم والترتيب الذي يتطلبه مثل هذا العمل، من حيث التوزيع الدقيق للمستحقين، وصرف الصدقات في أبواب البر التي يحتاجها المجتمع، وقبل ذلك وبعده الإخلاص لله في ذلك، لانتفع كثير من المحتاجين، وسُدّت أفواه، وأُشبعت بطون.
ü الوسيلة السابعة: بناء المساجد وتشييدها:
والنصوص الدالة على فضل بناء المساجد كثيرة، من أشهرها حديث عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من بنى مسجداً لله يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة» (1) ، وفي رواية «بنى الله له مثله في الجنة» . وإن التوسع العمراني في المدن من أهم الدواعي في الإكثار من بناء المساجد وتشييدها، فينبغي حث أهل الغنى والجِدَة على بناء المساجد خصوصاً في المناطق النائية، أو المجمعات السكنية التي يقطنها أعداد كبيرة من المسلمين، وكذلك الشركات التجارية الضخمة، التي يرتادها مئات الموظفين يومياً.
ومن أهم المحاذير المتعلقة بتشييد المساجد والتي ينبغي الحذر منها: الإسراف والتبذير في البناء ومتعلقاته، ومن أبرز مظاهر التبذير التي قلّ أن يخلو منها مسجد: الزخرفة والتزيين؛ فإن ذلك فضلاً عن أنه منهي عنه (2) ؛ ففيه من الإسراف والتبذير الشيء الكثير، بل فيه إضاعة لأموال المسلمين فيما لا فائدة فيه، وقد نُهِينا عن إضاعة المال (3) بالإضافة إلى إشغال المصلي عن صلاته التي هي سبب وجود المسجد، والأَوْلى صرف مثل هذه الأموال في ما يتطلبه المسجد من حاجات بعد البناء كترميمه، أو تنظيفه، أو نحو ذلك.
ü الوسيلة الثامنة: عمارة المسجد الحسّية:
لا شك أن الاهتمام بعمارة المسجد الحِسِّية من شعائر الله التي أمرنا بتعظيمها. قال الله ـ تعالى ـ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] ، قال قتادة: هي هذه المساجد أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها (4) . وفسر مجاهد رفعها ببنائها (5) : فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسات والأذى (6) .
ومما يدخل في الاهتمام بالعمارة الحسية للمساجد العناية بتنظيفها وتطييبها بين فينة وأخرى؛ إذ المساجد هي أحب البقاع إلى الله جل وعلا (7) ؛ فهي أوْلى بالتنظيف والرعاية من غيرها. قالت عائشة ـ رضي الله عنها: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور، وأن تنظّف وتطيّب» (8) ، وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن التفل في المسجد خطيئة وأن كفارتها دفنها (9) . ومن ذلك أيضاً أن لا يأتيها الإنسان وهو متلبس برائحة كريهة تصدر من جسمه أو ثوبه أو فمه تتأذى بها ملائكة الرحمن، ويتأذى إخوانه المصلون؛ ففي الحديث: «من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يأتينّ المساجد» (10) ، وبيّن في حديث آخر علة هذا النهي المتمثلة في إيذاء الملائكة وبني آدم من هذه الروائح (11) . والأحاديث والآثار الواردة في الأمر بتنظيف المساجد وتطييبها كثيرة، ويتأكد هذا الأمر في حال اجتماع الناس أوقات الصلاة، أو يوم الجمعة، أو في رمضان، ونحوها من المناسبات.
كما ينبغي توفير وسائل الراحة لرواد بيت الله كبرادات مياه الشرب، وأجهزة التكييف خصوصاً أثناء فترة الصيف في البلاد الحارة خاصة، وكذلك السخانات الكهربائية وأجهزة التدفئة في فترة الشتاء، وأدوات التنظيف والكنس الحديثة، وغيرها من نِعَم الله التي أنعم بها علينا، والتي لم تكن متوفرة إلى عهد قريب، بل ولا تزال كثير من مساجد الله خالية منها؛ فقد كان الخدَم في سالف العهد، يُكلّفون بتنظيف المسجد، وكنسه بأيديهم، وبوّب الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب الخدَم للمسجد، وذكر حديث المرأة السوداء التي كانت تقمُّ مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (12) ، وفي بعض طرق الحديث أنها كانت تلتقط العيدان والخرق بيديها (13) .
ولا يظنن ظان أننا نهمل عمارة المسجد المعنوية بذكرنا للعمارة الحسية، بل إن الأمر على النقيض من ذلك؛ فإن الله ـ عز وجل ـ جمع العمارتين في آية واحدة، فقال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ... } [التوبة: 18] الآية. وما ذكرنا من وسائل لإحياء دَوْر المسجد هي صور للعمارة المعنوية للمسجد، ولذلك فإن المقصود من إفراد العمارة الحسية للمسجد بالذكر من باب كونها سبباً في تحصيل العمارة المعنوية التي اهتم بها الشارع الحكيم.
ü الوسيلة التاسعة: العناية بمصلىات النساء:
ويشمله كل ما يشمل مصلى الرجال، مع مراعاة الفوارق الشرعية؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يهتم بشان النساء في المسجد، فأذن لهن في الحضور إلى المسجد، ونهى عن منعهن من ذلك (1) ، مع إشارته إلى أن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد (2) .
ومع إذن الشارع الحكيم للنساء بشهود جماعة المسلمين بالمسجد إلا أنه حدّ حدوداً لا ينبغي تجاوزها، ومن تلك الحدود منع النساء من حضورهن متزينات متعطرات، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «وليخرجن تَفِلات» (3) ، وفصلهن عن صفوف الرجال درءاً لوقوع ما لا تحمد عواقبه، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تخصيص يوم للنساء يعظهن فيه ويذكِّرهن (4) .
ومما يؤسف له أن الكثير من المساجد لا تعطي مصليات النساء أهمية كبيرة؛ فمن المساجد ما لا يوجد فيه مكان خاص للنساء أصلاً فضلاً عن أن يُهتم به، ومن المساجد ما لا تعير مصلى النساء اهتماماً، من حيث تنظيفه وتطييبه، بل تجده مهجوراً، وكأنه ليس تابعاً للمسجد، ومن مصليات النساء ما لا يُفتح إلا أياماً محددة كالجمعة من الأسبوع أو رمضان من السنة فحسب؛ وكأن النساء لسن شقائق الرجال كما جاء في الحديث (5) .
إنني أنصح القائمين على بيوت الله أن يعيدوا النظر في أحوال المصليات النسوية بالمساجد، وأن ينظروا ما تحتاجه تلك المصليات، حتى تقوم بدورها كجزء مهم من أجزاء المسجد، وإذا كان هذا الأمر مهمّاً في الماضي فهو أكثر أهمية في الحاضر مع اشتداد الهجمة على المرأة المسلمة وثوابتها.
ü الوسيلة العاشرة: تعويد الصبيان على ارتياد المسجد:
لا سيما المميزين منهم؛ مع تعليمهم آداب المسجد، وكان الصبيان ـ المميِّز منهم وغير المميِّز ـ في عهد السلف يدخلون المسجد، وكل ما ورد من أحاديث في منع الصبيان من دخول المسجد فلا تصح ويردُّها فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعل الصحابة، ولا ينبغي تنفير الأولاد من بيوت الله بحجة أنهم مصدر إزعاج للمصلين، أو سبب لذهاب الخشوع في الصلاة؛ فهذه حجج واهية، وما وسع الصحابة ينبغي أن يسعنا، ومثل هذا الإزعاج إن صدر يمكن معالجته بأساليب صحيحة أخرى، غير الطرد من المسجد، فإن الطرد فيه مفاسد كثيرة، أولها بُغض الصبي للمسجد، ونفرته منه، لا سيما إذا كبر، وكفى بهذه مفسدة، والشارع الحكيم حرص على ترغيبهم في الصلاة بالمسجد لا تنفيرهم منه، بالإضافة إلى أن تعويدهم الحضور للمسجد، فيه فوائد أخرى عدا أداء الصلاة، ومن ذلك رؤيتهم منظر التلاحم بين المسلمين بمختلف فئاتهم، ولمسهم معالم التآخي بين المصلين، فينشؤون على مثل هذه المفاهيم، وإذا حضروا الجمعة تعلموا أدب الإنصات وحُسن الاستماع، هذا إذا كانوا غير مميِّزين، أما المميِّز منهم فإنه لا شك سيستفيد مما يسمع من خطبة أو محاضرة، وسيتعلم الأحكام الشرعية، والآداب الإسلامية، والتي سينقلها إلى أهل بيته لاحقاً؛ فإن الاستجابة في الناشئة أسرع منها في الكبار (6) ، وكما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوّده أبوهُ
ü الوسيلة الحادية عشرة: مكتبة المسجد:
إن إنشاء مكتبة للاستعارة والمطالعة بداخل المسجد تحت إشراف طلبة العلم المميزين، أو بجانبه، من مستلزمات إقامة الدروس العلمية، والدورات الشرعية، التي سبقت الإشارة إليها (7) ، فلا شك أن طلبة العلم الذين يفترض حضورهم للمسجد، من أجل الدروس والمحاضرات، سيحتاج أكثرهم لشيء من الكتب والمراجع الموثوقة، ويحذر من كتب المبتدعة وأهل الضلال.
ـ ويجب تشجيع أهل المسجد ورواده على زيارة المكتبة، وحثهم على القراءة؛ إذ هي الغاية من وجود المكتبة.
ـ تحديد أوقات معلومة لفتح المكتبة وإغلاقها، ووضع نظام للاستعارة، وكذلك الإعلان عن كل مادة جديدة في المكتبة من كتب وأشرطة كاسيت وأقراص حاسوبية ونحوها.
ü الوسيلة الثانية عشرة: تعيين أئمة وخطباء من أهل العلم والإصلاح:
إن كل ما ذكر من وسائل لتفعيل دور المسجد متوقف على طبيعة القائمين على بيوت الله، ويأتي في أولهم إمام المسجد وخطيبه، وكذلك مؤذنه، والأصل في هذه الوسيلة هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يؤمُُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله..» (8) ، ففيه بيان أهمية هذه الولاية، وأنه ليس كل أحد أحق بها، وأكثر كتب الحديث وكتب الفقه تحدثت عن الإمامة والخطابة والأذان في أبواب خاصة، حيث يتم ذكر الصفات الواجب توفرها في كل من إمام المسجد، وخطيبه ومؤذنه، بل أُفرِدَ هذا الأمر بالتصنيف في كتب مستقلة لأهمية الدور المنوط بهؤلاء القائمين على بيوت الله. يقول الشيخ خير الدين وانلي: «ولا يمكن للمسجد أن يقاوم السينما والمدارس التبشيرية واللادينية إلا إذا كان المسؤولون عنه ذوي مستوى عالٍ من الثقافة الإسلامية والنخوة الإسلامية والوعي الإسلامي، وإلا إذا حرصت وزارات الأوقاف الإسلامية على العناية بإعداد هؤلاء المسؤولين وكلما كان المسؤولون عن المسجد محتسبين لوجه الله كانت الفائدة منهم أكبر» (1) .
ولعل من الأساليب الحديثة في إعداد مسؤولي المساجد، عقد الدورات التدريبية لهم خصوصاً للأئمة منهم بهدف تعليمهم ما قد يجهلونه من أحكام تخص المسجد وتنمية معارفهم، وهذا التثقيف والتحصيل من متطلبات الولاية التي تقلدوها، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه؛ إذ كيف نرجو قيام المسجد برسالته، وبدوره الفعال، والقائمون على المسجد من أجهل الناس، وأدناهم ثقافة ووعياً؟
ولعل من أحسن الأمثلة الدالة على الثمرة اليانعة من تطبيق هذه الوسيلة، ما ذكره الشيخ محمد لطفي الصباغ من قيامه في فترة شبابه أثناء دراسته النظامية بجامعة دمشق ـ الجامعة السورية قديماً ـ قيامه مع عدد من إخوانه الصالحين بإعادة مسجد الجامعة الذي حولته القوات الفرنسية إلى بار، ومن ثم إلى مستودع، أعادوه إلى ما كان عليه قبل دخول الفرنسيين (2) ، ثم قاموا بتشكيل لجنة تُعنى بالمسجد وأموره، فنظموا البرامج التوعوية والأنشطة العلمية، في فترة عصيبة كانت بلاد الشام تعيش بين نارين: التيارات الفكرية المنحرفة والطرق الصوفية المبتدعة، فاستضافوا أهل العلم لإلقاء الكلمات والمحاضرات بالمسجد، كالشيخ مصطفى السباعي والشيخ مصطفى الزرقا (3) ، وراسلوا العلماء للإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم، ولا سيما تلك التي تتعلق بالسنن والبدع، فراسلوا الشيخ الألباني للإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم. يقول الألباني في مقدمة رسالته (الأجوبة النافعة عن أسئلة مسجد الجامعة) متحدثاً عن ذلك المسجد مثنياً على لجنته.
ü الوسيلة الثالثة عشرة: تفعيل أمر الأوقاف:
من أهم مزايا الوقف في الشريعة الإسلامية أنه مستمر لا ينقطع ودائم لا يتوقف، وبهذا يتم الحفاظ على حياة الجهات التي أوقف عليها، وتاريخ الإسلام حافل منذ القدم على الوقف في وجوه البر المختلفة من مساجد ودور علم ومدارس ومستشفيات ورعاية أيتام وغيرها، حتى أصبح هناك ديوان في عصر الأيوبيين والمماليك خاص لأوقاف المساجد (4) ، وكان كثير من الصحابة والتابعين من الحكام والمحكومين يحبسون ـ يوقفون ـ ما يقدرون عليه من أموالهم في سبيل الله، وإذا كان العلماء اختلفوا في مشروعية الوقف على أمور معينة فقد اتفقوا على مشروعية الوقف على المساجد ودور العبادة (5) .
والواجب على أهل المسجد تفعيل دور الأوقاف كوسيلة لإحياء رسالة المسجد من ناحيتين:
الأولى: نشر ثقافة الوقف على المساجد، وما يتعلق بها من دروس علمية، وحلقات لتحفيظ القرآن، ومكتبات ونحوها، وتوعية الناس بها وحثهم على ذلك.
الثانية: العناية بأوقاف المساجد، والاهتمام بها، والحرص عليها من عبث العابثين؛ فإن الكثير من أوقاف المساجد لا يَرجِع رَيْعُها إلى المساجد، وإن عاد من ذلك شيء فهو نزر يسير جداً، لأن جُلّ هذه الأوقاف قد اندرست أو اغتُصبت، فإذا حرص القائمون على المسجد بالاعتناء بأوقاف المسجد، وضمان أن تعود ثمرة الوقف إلى المسجد، لا إلى جهات أخرى، فإن ذلك سوف يسهم في تأدية المسجد لدوره في الحياة.
ü الوسيلة الرابعة عشرة: اللقاءات مع أهل الحي:
إن قيام المسجد بأنشطة مختلفة: علمية ودعوية واجتماعية وثقافية وغيرها يتطلب تقييماً لمثل هذه الأنشطة بين فترة وأخرى؛ لأنها تبقى أولاً وأخيراً أعمالاً بشرية، يعتريها النقص ويكتنفها الخلل، ومن أحسن الأساليب لعمل مثل ذلك التقييم، عقد لقاء دوري يجمع أهل الحي بإمام المسجد أو من ينوب عنه، لمراجعة أحوال المسجد وشؤونه. ومن فوائد مثل هذا اللقاء ما يلي:
ـ سد أي خلل أو نقص فيما يتعلق بشؤون المسجد عموماً ولا سيما الأنشطة سالفة الذكر.
ـ الاستفادة من مقترحات أهل الحي وآرائهم.
ـ تشجيع المبادرات المتميزة بالمسجد ومكافأة من يقوم بها.
ـ الاطلاع على أنشطة وبرامج المساجد الأخرى للاستفادة منها.
والله أسأل أن ينفع بهذه الوسائل قارئها والعاملين عليها والمشاركين في قيامها ابتغاء مرضاة الله.
__________
(*) محاضر بكلية علوم الحاسب وتقنية المعلومات ـ جامعة الملك فيصل بالأحساء ـ السعودية.
(1) الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني (83) .
(1) الطبراني وغيره، وحسنه الألباني كما في صحيح الترغيب (71) . (2) مسلم في صحيحه (2699) .
(3) انظر شرح مسلم للنووي (17/24) . (4) الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2685) .
(5) البخاري في صحيحه (66) . (6) فتح الباري (1/214) .
(7) الترمذي (1242) . (8) المصدر السابق.
(9) البخاري (458) .
(10) فتح الباري لابن حجر (1/757) ونيل الأوطار للشوكاني (3/8) وانظر أحكام السترة للطرهوني.
(1) انظر الوسيلة الرابعة. (2) منهاج السنة لابن تيمية.
(3) البخاري (418) ومسلم (827) . (4) انظر هذه الإحصائيات في كتاب (دمعة على التوحيد) من إصدارات المنتدى الإسلامي.
(5) إنما جعلت إحياء السنن بعد إماتة البدع من باب (التخلية قبل التحلية) . (6) تفسير الطبري: سورة التوبة (79) .
(7) مسلم (1691) .
(8) البخاري (1/516) ، القِنْوُ: العِذق بما فيه من الرُّطب. والعذِق: الغصن. والرُّطَب: ثمر النخيل قبل أن يصبح تمراً.
(9) فتح الباري لابن رجب (3/154) . (10) البخاري (1333) .
(11) البخاري (3860) ومسلم (677) . (12) ابن خزيمة بسند حسن، وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة (2432) .
(13) وانظر تفسير القرطبي: سورة الجن (18) .
(1) البخاري (431) ومسلم (828) . (2) أبو داود (449) وابن ماجه (739) وغيرهما.
(3) البخاري (6862) ومسلم (1715) . (4) تفسير ابن كثير: سورة النور (36) .
(5) تفسير القرطبي: سورة النور (36) . (6) تفسير ابن سعدي: سورة النور (36) .
(7) مسلم (1076) . (8) أبو داود (384) وابن ماجه (751) بأسانيد صحيحة.
(9) مسلم (858) . (10) البخاري (806) ومسلم (876) .
(11) مسلم (876) . (12) البخاري (458) و (460) .
(13) فتح الباري لابن حجر (1/715) .
(1) مسلم (668) .
(2) ابن خزيمة، وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة (1689) .
(3) أحمد بسند صحيح كما قال أحمد شاكر، تَفِلات: أي غير متعطرات: قال ابن منظور في لسان العرب: التَّفَل: تَرْك الطِّيب.
(4) البخاري (99) . (5) صحيح الجامع (2333) .
(6) انظر ما يتعلق بدخول الأولاد المسجد في أحكام حضور المساجد لعبد الله بن صالح الفوزان.
(7) انظر الوسيلة الأولى.
(8) مسلم (1078) .
(1) المسجد في الإسلام، لخير الدين وانلي.
(2) أنظر الوسيلة السابعة.
(3) برنامج (صفحات من حياتي) بقناة المجد الفضائية 27/8/1462هـ.
(4) محاضرات في الوقف لمحمد أبو زهرة.
(5) تفسير القرطبي: سورة الجن (18) ، حاشية الروض المربع، لابن قاسم (5/530) .(232/5)
الشجاعة
محمد بن عبد الله السحيم
إن مما اتفق على استحسانه وامتداح صاحبه خلقي الشجاعة والكرم، وعليهما كان يدور عامة فخر الشعراء ومدحهم، والعكس بضده، والقضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقاً (1) ، وقد جاء الشرع بتأييد هذا، وتوجيهه وتهذيبه، قولاً في الوحيين، وتطبيقاً من سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، ومنهجاً في سيرة سلف الأمة وهداتها؛ فبهما فضَّل الله السابقين فقال ـ تعالى ـ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] (2) .
يقول ابن كثير: «وقد كان للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله، وامتثال ما أرشدهم إليه، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم بِبركة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وطاعتهم فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم، والفرس، والصقالبة، والبربر، والحبش، وأصناف السودان، والقبط، وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين عاماً» (3) .
وأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن شرّ خلال المرء الجبن والبخل؛ فقال: «شر ما في رجل شح هالع، وجبن خالع» (4) ، واستعاذ من ذلك فيما يكرره من دعائه الذي يقول فيه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل» (5) ، وأخبر عن نفسه حين خُطِفَ رواؤه بعد قفلته من حنين، فقال: «أعطوني روائي! لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً» (6) ، ووصفه ملازمه وخادمه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ فقال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- على فرسه، وقال: وجدناه بحراً» (1) ، بل إن هاتين الصفتين ـ الكرم والشجاعة ـ هما الجهاد بالنفس والمال في سبيل الله؛ يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته ـ سبحانه ـ» (2) . وعليها تأسيس الفضائل، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل» ، ثم قال: «والشجاعة تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وَتحْملُه على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» . وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على خصمه» (3) .
يقول الطرطوشي: «واعلم أن كل كريهة ترفع، أو مكرمة تكتسب لا تحقق إلا بالشجاعة» (4) ، وقال الأبشيهي: «اعلم أن الشجاعة عماد الفضائل، ومن فقدها لم تكمل فيه فضيلة يعبر عنها بالصبر وقوة النفس. قال الحكماء: وأصل الخير كله في ثبات القلب» (5) .
ونظراً لاتساع نطاق هذه الأخلاق، وتغلغلها في عروق ممارسات الناس الجالبة للخير والدارئة للشر قولاً وفعلاً؛ يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم؛ بيّن ـ سبحانه ـ أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38] (6) .
ولا شك أن صلاح الدين والدنيا أساس السعادة، وللشجاع وقرينه الكريم من ذلك النصيب الوافر إن حققاهما على مراد الشرع؛ يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان أضيق الناس صدراً، وأحصرهم قلباً، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له إلا من جنس ما للحيوان البهيمي، وأما سعد الروح ولذتها، ونعيمها وابتهاجها، فمحرم على كل جبان كما هو محرم على كل بخيل» (7) .
والحاجة إليهما في وقت الفتن والشدائد أشد وأشد؛ يقول شيخ الإسلام: «فهذه الأخلاق (الشجاعة والسماحة) والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموماً، وخصوصاً في أوقات المحن والفتن الشديدة؛ فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم، ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم، ويحتاجون أيضاً إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم، وكل من هذين فيه من الصعوبة ما فيه، وإن كان يسيراً على من يسره الله عليه، وهذا لأن الله أمر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح، وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الإيمان والعمل الصالح» (8) . وتزداد حاجة الفرد إليها أكثر حينما يكون كبير قوم، فمن الفوائد التي ذكرها الحافظ في شرح حديث (3148) : «وفيه ذم الخصال المذكورة، وهي: البخل والكذب والجبن، وأنَّ إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها» (9) .
تلكم المقدمة على طولها وميض مختصر في بيان منزلة الشجاعة وقرينها الكرم، وفيما سيأتي سيحصر الكلام على مسائل الشجاعة، وهي كالتالي:
أولاً: ما هي الشجاعة؟
جاء في اللسان: «الشجاعة: شدة القلب في البأس» (10) ، وبتفصيل أكثر يقال: الشجاعة: «الإقدام بصبر وثبات على الأمور النافع تحصيلها أو دفعها» (11) .
وهذا التعريف شامل لعناصر الشجاعة، وأصلها، ومجالاتها.
ثانياً: عناصر الشجاعة:
ثمت خلط لدى الكثير في تحديد عناصر الشجاعة المكونة لها، مما أدى إلى تداخل مفهوم الشجاعة بغيره من الجرأة والتهور وشجاعة اليأس؛ فما هي عناصر الشجاعة؟
بالنظر إلى التعريف السابق، يلوح أن للشجاعة خمس دعائم تقوم عليها، إن اختل منها واحد لم يصدق مسمى الشجاعة على ذلك الفعل أو القول، وهي:
1 ـ العلم بنفع الفعل أو القول (قنوات الشجاعة) :
يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «والمحمود منها [أي من الشجاعة] ما كان بعلم ومعرفة؛ دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد» (1) .
والعلم إما أن يكون بيقين أو غلبة الظن، والنفع إما أن يكون نفعاً بلا مضرة مطلقاً، أو بوجودها وتغليب المصلحة الراجحة عليها، أو بدفعها تغليباً على المصلحة المرجوحة؛ تطبيقاً للقاعدة المقررة شرعاً: «يختار أهون الشرين لدفع أقواهما» .
«فالشجاعة المحمودة تتوسط خلقين مذمومين، وهما الجبن والتهور» (2) . وهكذا ينبغي تناول العلم بشقيه الشرعي والواقعي (3) ؛ بأن تكون القناة غير مخالفة للشرع، ممكنة التطبيق والتعلم، بعد الاستخارة والاستشارة.
2 ـ الإقدام:
بأن يُقدِمَ على الشجاعة مختاراً بعد علمه، فأما المغلوب على أمره فليس بِشجاع كما تقدم، والإقدام إما أن يكون تحركاً لتحصيل النفع ومبادرة إليه، وإما أن يكون مُلازَمَةً له وثابتاً عليه، كثبوت الإمام أحمد على القول بعدم خلق القرآن في تلك الفتنة الشعواء.
3 ـ وجود المخاطر والمخاوف والمكاره:
وهذا ما يستدعي الصبر والثبات؛ فالإقدام في غير مخاطرة لا يعتبر من الشجاعة، بل هو نشاط وهمة (4) .
فالشجاعة في القتال يكتنفها القتل والأسر والجرح، والشجاعة في طلب العلم يعتريها التعب وغلظة المعلم وقلة ذات اليد، والشجاعة في التجارة يعتريها الخسارة والسلب والغش، وهكذا تتعدد المخاوف وتتفاوت وتتباين في كل مجال توجد فيه.
4 ـ الصبر:
يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «وقد تقدم أن جمع ذلك [أي الشجاعة] الصبر. والصبر صبران؛ صبر عند الغضب، وصبر عند المصيبة، كما قال الحسن: «ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة» ، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم. وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم» (5) .
قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لبعض بني عبس: «كم كنتم في يوم كذا؟ قال: كنا مائة، لم نكثر فنتواكل ونفشل، ولم نقل فنُذل. قال: فبِمَ كنتم تظهرون على أعدائكم ولستم بأكثر منهم؟ فقال: كنا نصبر بعد الناس هنيهة» (6) .
فيقول الشاعر (7) :
ويومٍ كأن المصطلين بحرِّه
وإن لم يكن نار قيام على الجمرِ
صبرنا له حتى تقضّى، وإنما
تُفرّجُ أيام الكريهة بالصبرِ
وقيل: الشجاعة صبر ساعة.
«وأحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى، والمكابدة في تحمله، وانتظار الفرج» (8) . فمن رام خير عيش فليلزم الصبر، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «وجدنا خير عيشنا بالصبر» (9) .
5 ـ الثبات:
وذلك أن الأمر مكتنف بالمخاوف والمكاره، فربما صبر المرء في أوله وخار بعده، فلابد من ثبات لتحصيل المراد، ولا سيما أنه أقدم عليه بعد كدحِ نفعه، وخوض لججه، وينبغي ألاّ تشغله المكاره عن تلمس طرق الفرج؛ إذ ذاك من الصبر والثبات عليه، قال هشام لمسلمة: «يا أبا سعيد، هل دخلك ذعرٌ قط لحرب أو عدد؟ قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبّه على حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأيي، قال هشام: هذه البسالة» (10) .
تلكم هي الدعائم الخمس التي يقوم عليها قصر الشجاعة العتيد، فإن نقص أحدها أو سقط، فلا قيام لذلك البناء.
ثالثاً: أصلها:
الشجاعة خلق محله القلب، ويظهر أثره في الأفعال والأقوال والتروك، يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: «والشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته» (11) .
رابعاً: أنواعها:
الشجاعة كسائر الأخلاق منها الفطري والمكتسب، يقول عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومرؤته خلقه. والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء؛ فالجبان يفر عن أبيه وأمه، والجريء يقاتل عما لا يؤوب به إلى رحله، والقتل حتف من الحتوف. والشهيد من احتسب نفسه على الله» (1) .
كما إن النوع الفطري والمكتسب متفاوت بين أهله. ومما يدل على إمكانية اكتساب هذا الخلق قوله -صلى الله عليه وسلم- لأشج بن عبد القيس حين سأله، بعد أن أخبره بمحبته ـ سبحانه ـ للأناة والحلم اللتين فيه، فقال: «خلقين تخلّقتُ بهما، أو جبلني الله عليهما؟» ، فقال: «بل جبلت عليهما» (2) . يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وفيه دليل على أن الخلق قد يحصل بالتخلق والتكلف» (3) . والعرب تقول: «تشجع الرجل: إذا أظهر ذلك من نفسه وتكلف، وليس به» ، وتقول: «شجّعه: إذا جعله شجاعاً وقوّى قلبه» (4) .
خامساً: مغذياتها ووسائل اكتسابها:
تقدم أن الشجاعة خلق فطري ومكتسب، وله وسائل تغذيه وتقويه وتوجده، فمن تلك الوسائل والمغذيات:
1 ـ الإيمان بأركانه الستة: (بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خير وشره) .
يقول ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] ، ويقول ـ تعالى ـ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] . فالله «يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله. وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد شيء خوفاً ورعباً، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء» (5) .
والحديث عن أثر الإيمان في تقوية القلب وتثبيته يطول، ولنأخذ أثراً واحداً موجزاً لركن واحد من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقضاء والقدر؛ فالإيمان به يورث القلب طمأنينة تامة تجاه أشد المخاوف وأعتاها؛ إذ قد تقرر في عقيدته الراسخة ألا تكون مصيبة إلا بقضاء الله وعلمه ومشيئته وخلقه، فالأمر أمره، فإن أصابه ما يكره بعد تمثله المنهج الشرعي؛ رضي به، وسعى في دفعه دون جزع أو تسخط؛ فأنى لهذا أن يخذل أو يستكين؟ ولا سيما أنَّ الله قد حف عبده المؤمن برعايته ووعده بالدفاع عنه، بسكينة يتنزلها على قلبه، أو جند من جنده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] .
2 ـ التوكل على الله:
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، فالتوكل بشقيه المكونين له؛ الثقة بالله وحسن الظن، مع مباشرة الأسباب المشروعة، عاملٌ أساسي في إمداد القلب بالشجاعة، فـ «متى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام، ولا مَلَكتْه الخيالات السيئة، ووثق بالله وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثير من الأسقام البدنية والقلبية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه.
فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث؛ لعلمه أن ذلك من ضعف النفس، ومن الحذر والخوف الذي لا حقيقة له، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة؛ فيثق بالله ويطمئن لوعده، فيزول همه وقلقه، ويتبدل عسره يسراً، وترحه فرحاً، وخوفه أمناً» (6) .
كتب أنوشروان إلى مرازبته: «عليكم بأهل الشجاعة والسخاء، فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى» (7) .
3 ـ الإكثار من ذكر الله:
إذ إنه الاتصال بالقوة التي لا تُغلب، والثقة بالله الذي ينصر أولياءه، وله أكبر الأثر في الثبات الذي هو بدء الطريق إلى النصر (8) ، يقول ـ تعالى ـ معلماً عباده المؤمنين آداب اللقاء، وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء (9) ، في مواطن من مواطنها، وما عداها مقيس عليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46] . «فأمر ـ تعالى ـ بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم؛ فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه؛ بل يستعينوا به ويتكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم تلك» (1) .
«فهذه هي عوامل النصر الحقيقية:
الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرفاه والبغي» (2) .
ولهذا الذكر صور شتى من الاستغفار، والدعاء، وتلاوة القرآن، واستحضار عظمة الله ... ، ونصوص الوحيين كثيرة في ذلك، كقصة طالوت وجنده، وموقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في: بدر، وأحد، والخندق، واستعاذته من الجبن والخوف، وإرشاده إلى دعاء الكرب والخوف ... إلخ (3) .
4 ـ اليقين بسلامة المبادئ، ووضوحها، ومقاصدها:
وهذا من العوامل الرئيسة للثبات والصبر، يقول شيخ الإسلام: «ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئنُّ به، ويتنعم به ويغتذي به، وهو اليقين، كما في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فإنه لم يعط أحد بعد اليقين خيراً من العافية؛ فسلوهما الله» (4) . وهل الشجاعة إلا صبر؟ (5) .
والمتأمل في حال أغلب الناكصين لَيَجدُ أن قناعاتهم ومبادئَهم لم تكن متقررة بأسس سليمة مبنية على ما تحقق علمه وتيقن مصدره، أو كانت ولكن لم تتقاصد. ومن أبرز الأمثلة الدالة على هذا السبب، قصة غلام الأخدود؛ الذي ثبت على حداثة سنه ومخالفة بيئته، وضحّى بروحه في نصرة مبدئه. وخير ما تؤسس به القناعات والمبادئ نصوص الوحييْن وإجماع الأمة والعقلاء، وهل كان من مقاصد التذكير إلا ذلك؟
5 ـ الإقناع:
فللإقناع تأثير فعال في غرس الأخلاق أو تهذيبها في الأنفس، فمن عرف فضيلة الشجاعة وفوائدها ـ وهو ماذكر في التمهيد ـ ورذيلة الجبن ومضاره، وأقنع نفسه بأن معظم مثيرات الجبن لا تعدو كونها أوهاماً لا حقيقة لها؛ تكونت لديه عناصر مهمة مساعدة على اكتساب خلق الشجاعة، وكذلك سائر الأخلاق (6) .
6 ـ البيئة المناسبة، والتدريب (7) :
إذ المرء ابن بيئته؛ فتجد أهل البادية يتمتعون بشجاعة اجتياز المفاوز ومقارعة خطوبها، وأهل الجبال يتمتعون بشجاعة ارتقاء شواهقها واختراق عقباتها، وأهل السواحل يتمتعون بشجاعة ركوب البحار وخوض غمارها. وبإمكان الإنسان خلق بيئة مناسبة له تمده وتعينه على ذلك الخلق، إما بالمعايشة الحياتية، أو بقراءة سير الشجعان في شتى مجالاتها، والبحث عن أخبارهم، وهكذا بالتدريب العملي؛ «فإن الشجاعة، وإن كان أصلها في القلب؛ فإنها تحتاج إلى تدريب النفس على الإقدام وعلى التكلم بما في النفس، بإلقاء المقالات والخطب في المحافل، فمن مرّن نفسه على ذلك، لم يزل به الأمر حتى يكون مَلَكَةً له، كذلك يدرب نفسه على مقارعة الأعداء ولقائهم والجسارة في ميادين القتال، فيقوى بذلك قلبه ونفسه، فلا يزال به الأمر حتى لا يبالي بلقاء الأعداء ولا تزعجه المخاوف» (8) .
وهكذا يدرب نفسه على عدم الركون إلى الدنيا، والقعود على شظف العيش، إذ التعلق بها من أبرز أسباب الجبن، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة منها: «الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة» (9) ، ومن التدريب أيضاً أن يتعود على رباطة الجأش، وأخذ التنفس العميق، إلى غير ذلك مما هو معروف ومثبت بالتجارب، ولا نغفل أهمية الالحتاق بالدورات المهارية في ذلك، والعناية بتنشئة الصغير في هذا الميدان كي يشب عليه، ولا بد في ذلك من مراعاة سنن التدرج، وإعمال قاعدة المصالح والمفاسد، وخلق جو التنافس كما كان ذلك هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ كي تؤتي الشجرة ثمرها.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(*) رئيس محكمة شرورة بجنوب المملكة.
(1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام: (154/28) .
(2) المرجع السابق: (154/28) .
(3) تفسير ابن كثير، ص (846) .
(4) رواه أبو داوود: (2511) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3709) .
(5) رواه البخاري: (2823) ، ومسلم: (2706) ، وانظر التمهيد لابن عبد البر: (253/16) .
(6) رواه البخاري: (2821) ، ومعناه: شجر ذو شرك. فتح الباري: (44/6) .
(1) رواه البخاري: (2828) . ومعنى «وجدناه بحراً» أي: واسع الجري. السابق.
(2) الفتاوى: (158/28) .
(3) مدارج السالكين: (308/2) ، نقلاً عن التربية الجهادية للجليل، ص (141 ـ 142) ، تسجيل النظر للماوردي: ص (13 ـ 14) نقلاً عن: منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة، للأستاذ الدكتور محمد أمحزون، ص (86 ـ 87) . والحديث رواه مسلم: (2659) .
(4) ، (5) نضرة النعيم: (2323/6) .
(6) الفتاوى: (157/28) .
(7) زاد المعاد: (26/2) .
(8) الفتاوى: (165/28) .
(9) فتح الباري: (305/6) .
(10) لسان العرب: (173/8) .
(11) انظر: الرياض الناظرة لابن سعدي، ص (54) ، نقلاً عن: نضرة النعيم: (2322/6) .
(1) الفتاوى: (158/28) .
(2) الرياض المناظرة، وقد سبق.
(3) انظر: إعلام الموقعين: (69/1) .
(4) انظر: الأخلاق الإسلامية: عبد الرحمن حبنكة: (586/2) .
(5) الفتاوى: (158/28 ـ 159) .
(6) بهجة المجالس: (468/2) .
(7) المرجع السابق: (471/2) .
(8) فتح الباري: (367/11) .
(9) رواه البخاري، تعليقاً مجزوماً به في باب (الصبر عن محارم الله) ، وقد رواه موصولاً أحمد في كتاب (الزهد) بسند صحيح. السابق.
(10) عيون الأخبار: (210/1) .
(11) الفتاوى: (158/28) .
(1) رواه مالك في الموطأ: في كتاب الجهاد، ص (35) .
(2) قال محقق زاد المعاد: أخرج هذه الزيادة أحمد، والبخاري في الأدب المفرد عن الأشج، وسندها صحيح.
(3) زاد المعاد: (608/3) .
(4) انظر: لسان العرب: (173/8) .
(5) زاد المعاد: (226/3) . وانظر: تفسير ابن كثير، ص (405) .
(6) الوسائل المفيدة لابن سعدي، ص (24 ـ 25) .
(7) عيون الأخبار: (208/1) .
(8) انظر: (في ظلال القرآن) : سيد قطب: (1528/3) .
(9) تفسير ابن كثير، ص (846) .
(1) المرجع السابق.
(2) الظِلال: (1528/2) .
(3) انظر: زاد المعاد: (225/3 ـ 226) ، والفتوحات الربانية على الأذكار النووية: (3/4 ـ 32) .
(4) الفتاوى: (153/28) ، والحديث رواه الترمذي: (3558) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (3632) .
(5) انظر: السابق (158/28) .
(6) انظر: الأخلاق الإسلامية لِحنبكة: (588/2 ـ 589) . الوسائل المفيدة لابن سعدي، ص (24) .
(7) انظر: السابق، التربية لأحمد مزيد: (118 ـ 119) ، الآفاق للدكتور السيد نوح: (117/3) ، هكذا تكون أخلاقنا للخزندار، ص (74 ـ 76) .
(8) الرياض الناظرة. سبق.
(9) رواه أبو يعلى، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (7160) .(232/6)
الدعوة في الحج أمانة
فيصل بن علي البعداني
يتوافد على بيت الله العتيق في موسم حج كل عام من آفاق الأرض مئات الآلاف من البشر من كافة الثقافات وبعامة الألسنة، وعامتهم من ذوي العاطفة الدينية الجياشة التي أقبلت على الله ـ تعالى ـ وجهدت في نيل رضاه ـ سبحانه ـ فمنهم من باع أرضه، ومنهم من رهن بيته، ومنهم من مكث السنين الطوال يجمع الدينار فوق الدينار حتى تمكن بعد لأي وطول انتظار من توفير متطلبات حجه والمال الذي سينفقه في سبيل ذلك.
هذه هي النفسية المشرئبة للخير، المتطلعة للظفر برحمة الله ـ تعالى ـ وغفرانه. إلا أن المتأمل في واقع الحجيج اليوم يشاهد مظاهر جهل صارخة في الدين بعامة، وفيما يتعلق بأمر الأنساك بصفة خاصة، وليس هذا فحسب؛ بل إن السنَّة في أحيانٍ تتحول في عقلية بعضهم إلى بدعة، والجهل إلى معرفة.
وعند إرادة تحليل أسباب تلك الأمية الشرعية المخيفة نجدها تعود إما إلى تقصير الحاج في التفقه بالدين ومعرفة الأحكام التفصيلية المتعلقة بشأن الحج والعمرة والزيارة، وإما إلى جغرافية المكان العسرة الفهم في مكة والمشاعر على الآتي لها لأول مرة، وإما إلى مبادرة كثير من الجهلة وأنصاف المتعلمين إلى الفتيا والتوقيع عن رب العالمين، وإما إلى وجود عدد ليس بالقليل من المعنيين بشأن الحج من أصحاب البعثات والحملات والمؤسسات العاملة في الموسم ممن أعمتهم الدنيا فصيَّرت شغلهم الشاغل كيف تتضخم أرصدتهم ويجنون المزيد من الربح.
فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجود جهد كبير ومنظم لطوائف من أهل الزيغ والضلالة تستهدفت إغواء الحاج، وتعمل على استثمار الموسم في تزييف باطلها والدعوة إلى ضلالاتها، مستغلة الغفلة عنها، والأجواء العالمية العاملة على إطفاء الدين الخالص وتجفيف منابعه والحيلولة دون نجاح مواسمه، ورغبة بعض المعنيين بشأن الحج في الظهور بمظهر المتسامح مع كافة الطوائف والمذاهب؛ مع أن القوم لن يرضيهم غير نهج عقائدهم واتباع مذاهبهم.
ومع الجهود الضخمة المشكورة التي تبذلها المؤسسات الرسمية وكثير من الأفراد والمؤسسات الدعوية والاجتماعية الخيرية لمساندة الحجيج وعونهم في جانب التوعية والتوجيه إلا أن تلك الجهود لم ترقَ بعدُ إلى مستوى الحد الأدنى، وما زالت غير متناسقة البتة مع الجهود الضخمة المبذولة في عمارة الحرمين الشريفين والعناية بالمشاعر وتوفير سبل الراحة والأمن والطمأنينة للحجاج والزائرين.
ولو أردنا أن نتعرف على بواعث ذلك الإشكال الضخم مع صدق النوايا الموجود ـ فيما نحسب والله حسيب الجميع ـ لوجدناه يعود مثلاً في كثير من مؤسسات التوجيه الرسمية العاملة في الحج ـ إضافة إلى محدودية الإعداد والتخطيط ـ إلى ضعف الكفاءة، والرتابة والجمود، والخوف من الخطأ، ومهابة التجديد والإبداع، وسيطرة عقلية الاحتكار، ووجود فئات محدودة ولكنها بالغة التأثير داخل بعض تلك الجهات أشغلت نفسها والآخرين عن الممارسة وبذل الجهد المطلوب بتصنيف الناس وإشعال معارك متوهمة أدت إلى إقصاء كثير من أهل العلم والدعوة القادرين على تقديم عطاء متميز في هذا الموسم المبارك افتراءً وظلماً وعدواناً.
وحين نتجه إلى الجهات الدعوية الخيرية العاملة في الحج نجد كثيراً منها ينطلق من الإدارة بالمال لا الفكر، ويعاني من ضيق في الأفق، وضعف في التخطيط، وقلة المتابعة، كما يعاني من أزمة تكرار الأعمال القائمة، ومحدودية التنسيق والتكامل مع الجهات العاملة.
وفي المقابل فإن كثيراً من الأشخاص المهتمين بالدعوة والتعليم من خلال موسم الحج نجدهم يعانون من محدودية الإمكانات أو ضعف الجدية ومحدودية المبادرة.
وهذا لا يعني عدم وجود أعمال وبرامج تتسم بالجد والقوة، كلاَّ؛ فهي كثيرة بحمد الله وإحسانه؛ بدليل ما نراه من تحسُّن في هذا المضمار عاماً بعد آخر، لكن الحديث عن الممكن فعله، وعن وجود فجوة واسعة بين الواقع والمأمول، وعن ضرورة إحداث حراك ضخم ـ نوعاً أو كمّاً ـ في دوائر الجهات المعنية بالدعوة والتوجيه في الحج؛ ليتعمق من خلالها التدين، ويذيع العلم، وينتشر الخير، وتحارَب البدعة، وتضيق مساحات الأمية الشرعية.
وفي اعتقادي أن المدخل الصحيح للرقي بشأن التوجيه والتوعية في الحج يكمن في الآتي:
| النظر إلى الجهود المبذولة في الحج من كونها مجرد توعيةٍ وتوجيهٍ بشأن المناسك وبعض أحكام الدين تستهدف شخص الحاج في زمن الحج ـ وهي كذلك ـ إلى كونها جهداً كبيراً محكماً وعملاً منظماً يستهدف شخص الحاج ومَنْ خلفه من بني جلدته في زمن الحج وما بعده، يصحَّح عبره النهج، ويهذَّب السلوك، ويملك الحاج من خلاله قوة في الإيمان، وطريقة راشدة في التلقي والاستدلال، وباعثاً على الدعوة وتبليغ ما يعلم من أمر الدين.
وعندما نصل إلى هذا المستوى نكون قد استثمرنا فرصة مهدرة تستهدف نخبة مختارة من أهم نخب المسلمين وخيارهم، وحُلْنا بين قوى الاستكبار وأذنابهم في بلداننا، والذين يسعون إلى تسطيح التدين وتجفيف منابع الخير، والحيلولة بين الناس ودين الله عز وجل.
| تشجيع كل صاحب جهدٍ خيِّرٍ ومنهج منضبط على المبادرة والعمل، ومساعدته، والقيام بتأهيله، وفتح قنوات للانطلاق والعمل أمامه، والحرص على تسديده أثناء وبعد العمل، وفي المقابل الاستعداد لتحمُّل ما قد يصدر عن بعض العاملين من تصرُّف خاطئ غير مقصود واجتهاد غير سوي ووضعه في مساقه الطبيعي، وبخاصة متى كان الدافع خيراً والنية صادقة.
| فتح مؤسسات متخصصة في جوانب الدعوة والتوعية المختلفة في مواسم الحج بدلاً من جعلها تحت مظلة واحدة، وعدم قصرها على الجهات الرسمية، بحيث تكون هذه للكتاب، وتلك للشريط، والأخرى للمصاحف وترجمات معاني القرآن، وغيرها للدعاة والمترجمين، فإن تعسر التقسيم النوعي فلا أقل من التقسيم المكاني بحيث تكون هذه للمطارات، وتلك لمدن الحجيج، وثالثة للمواقيت، ورابعة لعرفة ومزدلفة، ويمكن تقسيم منى على أكثر من مؤسسة بحيث يتم الدخول في شراكات حقيقية فاعلة بين مؤسسات العمل الخيري والمؤسسات الرسمية، لتتكامل الجهود وتُستوعَب الطاقات كما هو الحال في جهد إمارة مكة المكرمة المشكور في ما يتعلق بالسقيا والرفادة، ومشروع تعظيم البلد الحرام، وهيئة العناية بالزوار المنطلقة سابقاً من أمارة المدينة، وكما هو التنظيم المعتمد لدى وزارة الحج فيما يتعلق بمؤسسات الأدلاَّء والطوَّافة.
| تفعيل الدرس والتوجيه والإفتاء داخل الحرمين الشريفين وساحاته العامة ومساجد مكة والمدينة من خلال اختيار شخصيات علمية ودعوية مقبولة ومؤثرة لدى الحجاج، وقادرة على النطق المباشر بلغات المسلمين الحية سواء كانوا من داخل المملكة أم من خارجها ما داموا من المشهود لهم بالعلم والكفاءة، ومن الأشخاص المعروفين بالاتزان والحكمة؛ إذ الوضع الراهن اليوم مع الجهود المبذولة لا يزال دون المستوى المقبول بحده الأدنى، وبخاصة متى علمنا أن هذه البلاد الطيبة يعيش في كنفها ويتعلم في جامعاتها آلاف من القادرين على الإسهام الفاعل في هذا الجانب، والذي سيزيل عنها ما قد يوجه لها من لوم، ويرقى ـ متى تم ـ بالبناء المعنوي للحرمين ومساجد مكة والمدينة رقياً عالياً يجعله يتوازى مع الجهود التي فاقت في أحيانٍ المنشودَ فيما يتعلق بالعمارة الحسية.
| تولية شأن الدعوة والتوعية في موسم الحج لجهة مستقلة متخصصة في هذا الجانب ليس لها عمل إلا ذلك، كما هي الحال في رئاسة شؤون الحرمين، ومرتبطة بولاة الأمر مباشرة، ويزداد مسيس الحاجة لذلك في وقتنا بعد فتح أبواب العمرة طوال العام؛ على أنه ما لم يتم اختيار الكفاءات الفاعلة لتلك الجهة، والقادرة على الإبداع وتفعيل كافة الطاقات فسيبقى الأمر عملياً في مكانه.
| تأسيس شركة أو مؤسسة متخصصة في الإنتاج الفني والإعلامي لإعداد جملة مناسبة من المواد العلمية والدعوية المتعلقة بالعمرة والحج والزيارة وما لا ينبغي جهله، بالسبل والوسائل واللغات المختلفة، والقيام بتسبيلها وتشجيع كل جهد عامل على نشرها وتوزيعها بمقابل أو غير مقابل، على أن لا تعتمد على الترجمة، بل تكون كتابات أصيلة من مُجيدٍ، لكل لغة، من شخصيات معروفة لأبناء تلك البيئات ومقبولة فيها.
| قيام علماء الآفاق ودعاتهم بواجبهم في هذا الجانب، بحيث تنشأ مؤسسة في كل بلد مهيأ لذلك، تكون متخصصة في تأهيل الحجاج والمعتمرين، وتفقيههم فيما يحتاجون إليه من معارف وأحكام.
| تفعيل دور سفارات المملكة وقنصلياتها والملحقات الدينية والثقافية في توعية الحجاج وإرشادهم وهم ما زالوا في بلدانهم، ولو من خلال توزيع كتاب وشريط وخارطة لمكة والمدينة والمشاعر أثناء إعطاء التأشيرة لكل حاج ومعتمر وهو ما زال في بلده.
| فتح حوارات سنوية جادة يدعى إليها كل كفؤ قادر لمناقشة التوعية في الحج، وسبل تطويرها والرفع من كفاءتها.
اللهم هيئ لأمتنا من أمرها رشدها، واحفظ عليها عقيدتها وأمنها ومصادر قوتها، وهيئ لها من أمرها رشداً، وصلى الله وسلم على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.(232/7)
النسيان في ضوء القرآن
توفيق علي مراد
النِّسيان: ضدُّ الذِّكْر والحِفظ.
والنِّسيانُ: الترك (1) .
وهو تركُ الإنسان ضبط ما استُودِع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى ينحَذِِف عن القلب ذِكرٌ.
والنِّسيان أنواع:
الأول: ما كان أصله عن تعمُّد: وهو كل نسيان من الإنسان ذمَّه الله ـ تعالى ـ به.
الثاني: ما عُذِرَ فيه الإنسان (2) .
وهو ما عرّفه ابن رجب ـ رحمه الله ـ فقال: (أن يكون ذاكراً لشيءٍ، فينساه عند الفعل وهو معفوٌّ عنه، بمعنى: أنه لا إثم فيه، ولكن الإثم لا ينافي أن يترتّب على نسيانه حكم) (3) .
(والنِّسْيُ: ما نُسِي وما سَقَط في منازل المُرتحلين من رُذال أمتعتهم.
وفي حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «وَدِدْتُ أني كنتُ نِسياً مَنْسِيّاً» أي: شيئاً حقيراً مُطَّرَحاً لا يُلْتفت إليه) (4) .
وللنِّسيان صور، منها:
ü أولاً: نسيان النفس:
كيف ينسى العبد نفسه؟
قال ـ تعالى ـ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، وقال أيضاً: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] .
فعاقب ـ سبحانه ـ من نَسِيَهُ عقوبتين:
إحداهما: أنه نَسِيَهُ.
والثانية: أنه أنساه نفسه.
ونسيانه ـ سبحانه ـ للعبد إهماله وتركه وتخلِّيه عنه وإضاعته، فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم.
وأما إنساؤه نفسه فهو:
1 ـ إنساؤه لحظوظها العالية، وأسباب سعادتها وفلاحها وما تكمل به، ينسيه ذلك جميعه فلا يخطره بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همّته فيرغب فيه، فإنه لا يمرُّ بباله حتى يقصده ويؤثره.
2 ـ وأيضاً يُنسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها، فلا يخطر بباله إزالتها.
3 ـ وأيضاً يُنسيه أمراض قلبه وآلامها، فلا يخطر بقلبه مداواتها، والسعي في إزالة عِلَلِها وأمراضها التي تؤول به إلى الفساد والهلاك، فهو مريض مُثخن بالمرض، ومرضه مترامٍ به إلى التلف، ولا يشعر بمرضه، ولا يخطر بباله مداواته، وهذا من أعظم العقوبة العامة والخاصة.
4 ـ وأيضاً يُنسيه العقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار، والتجارة التي اتّجر فيها لمعاده، فإن كل أحد يتجر في هذه الدنيا لآخرته.
قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] .
فالنِّسيان يؤدي إلى نسيان العبد حظَّه من هذه التجارة الرابحة، وتشكّله بالتجارة الخاسرة، وكفى بذلك عقوبة.
وأيُّ عقوبة أعظم من عقوبة مَنْ أهمل نفسه وضيّعها، ونسيَ مصالحها، وداءها ودواءها، وأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المُقيم (1) .
وقال ـ تعالى ـ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] .
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: (وتتركون أنفسكم من طاعته) (2) .
وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ: (اعلم ـ وفقك الله تعالى ـ أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البرِّ، لا بسبب الأمر بالبرِّ، ولهذا ذمَّ الله ـ تعالى ـ في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البرِّ ولا يعملون بها، ووبّخهم الله توبيخاً يُتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة) (3) .
ü أثر مخالفة القول الفعل على المدعوين:
(والدعوة إلى البرِّ والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها. وهي تبلبل قلوب وأفكار الناس وأفكارهم؛ لأنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً، فتتملّكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يُشعه الإيمان ولا يعودون يثقون في هذا الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.
إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنّانة رنّانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها. ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق.. إنها حينئذ تستمدُّ قوتها من واقعها لا من زينتها، وتستمدُّ جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها يومئذ دفعة حياة؛ لأنها منبثقة من حياة) (4) .
عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله:
عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يُؤتى بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرّحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى؛ قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» (5) .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رأيت ليلة أُسري بي رجالاً تُقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبرِّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» (6) .
ü كيف نطابق بين القول والفعل؟
(والمطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست أمراً هيّناً ولا طريقاً مُعبّداً، إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة، وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه.
والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته؛ لأن قوى الشرّ والطغيان والإغواء أكبر منه، وقد تغالبها مرة ومرة ومرة، ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله، فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي، أقوى من كل قوى.
قوي على شهوته وضعفه.
قوي على ضروراته واضطراراته.
قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه) (7) .
قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتاً» .
وقال أبو جريج: (أهلُ الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويَدَعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيَّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشدَّ الناس فيه مُسارعة) (8) .
ثانياً: نسيان الله:
قال ـ تعالى ـ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] .
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: (تركوا طاعة الله، فتركهم من رحمته وهدايته) (9) .
وقال الألوسي ـ رحمه الله ـ: (المراد لم يطيعوه ـ سبحانه ـ، «فنسيهم» منع لطفه وفضله عنهم) (10) .
وقال السعدي ـ رحمه الله ـ: (فنسيهم من رحمته، فلا يوفقهم لخير، ولا يدخلهم الجنة، بل يتركهم في الدرك الأسفل من النار خالدين فيها مخلَّدين) (11) .
لأنهم لا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة، ولا يخشون إلا الأقوياء من الناس، يذلّون لهم ويدارونهم، فنسيهم الله، فلا وزن لهم ولا اعتبار.
وإنهم لكذلك في الدنيا بين الناس، وإنهم لكذلك في الآخرة عند الله.
وما يحسب الناس حساباً إلا للأقوياء الصُّرحاء، الذين يجهرون بآرائهم، ويقفون خلف عقائدهم، ويواجهون الدنيا بأفكارهم، ويحاربون أو يسالمون في وضح النهار.
أولئك ينسون الناس ليذكروا إله الناس، فلا يخشون في الحق لومة لائم، وأولئك يذكرهم الله فيذكرهم الناس ويحسبون حسابهم (1) .
باعوا النفس لربّها وتذوَّقوا
طعمَ الشهادة وهو حلو مذاق
فازوا بها فكأنها وكأنهم
مشتاقة تسعى لمشتاق (2)
وقال ـ تعالى ـ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] .
(وليحذر العبد أن يُشابه قوماً نسوا الله، وغفلوا عن ذكره، والقيام بحقِّه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل.
بل أنساهم الله مصالح أنفسهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها فصار أمرهم فُرُطاً، فرجعوا بخسارة الدَّارين، وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه، ولا يجبر كسره.
فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشدُّه إلى أفق أعلى، وبلا هدف يردعه عن السائمة التي ترعى.
وفي هذا نسيان لإنسانيته.
وهذه الحقيقة تضاف إليها أو تنشأ عنها حقيقة أُخرى وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه فلا يدّخِر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد) (3) .
(ومن أعظم العقوبات نسيان العبد لنفسه، وإهماله لها أو إضاعته حظَّها ونصيبها من الله، وبيعه ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن، فضيّعَ من لا غنى عنه ولا عوض له منه واستبدل به عنه كل الغنى أو منه كل العوض.
قيل:
من كل شيء ضيعته عوض
وما من الله إن ضيعته عوض
فالله ـ سبحانه ـ يعوض عن كل ما سواه ولا يعوض منه شيء.
ويغني عن كل ما سواه ولا يغني عنه شيء.
ويجير من كل شيء ولا يجير منه شيء.
ويمنع من كل شيء ولا يمنع منه شيء.
فكيف يستغني العبد عن طاعة مَنْ هذا شأنه طَرْفة عين؟ وكيف ينسى ذكره ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه، فيخسرها ويظلمها أعظم الظلم؟
فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه، وما ظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم نفسه) (4) .
ثالثاً: نسيان عهد الله:
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] .
أي: (تركوا نصيباً من أوامر الله وأحكامه فلم يعملوا بها) (5) .
(أي: نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وبيان نعته) (6) .
(فإنهم ذُكِّروا بالتوراة، وبما أنُزل على موسى فنسوا حظّاً منه. وهذا شامل لنسيان علمه، وأنهم نسوه، وضاع عنهم، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه، عقوبة منه لهم. وشامل لنسيان العمل، الذي هو الترك، فلم يُوفقوا للقيام بما أُمِروا به) (7) .
(فهذه سِمَات يهود التي لا تفارقهم ... نسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم؛ لأن تنفيذها في حياتهم يكلِّفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم) (8) .
رابعاً: نسيان اليوم الآخر:
قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51] .
وقال ـ تعالى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] .
وقال ـ تعالى ـ: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [الجاثية: 34] .
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: (ففي هذا اليوم ـ يوم القيامة ـ نتركهم في العذاب جياعاً عِطاشاً، كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا) (9) . وكأنهم لم يُخلقوا إلا للدنيا، وليس أمامهم عَرْض ولا جزاء.
خامساً: نسيان آيات الله:
قال ـ تعالى ـ: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126] .
(أي: دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا، «فنسيتها» أي: تركتها ولم تنظر فيها وأعرضت عنها، «وكذلك اليوم تُنسى» أي: تُترك في عذاب جهنم) (10) .
سادساً: القعود مع الظالمين ونسيان النهي عن ذلك:
قال ـ تعالى ـ: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] .
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: (وإن أنساك الشيطان نهيَنا عن الجلوس معهم، ثم ذكرت ذلك فلا تقعد بعد التذكر معهم، وليس على من اتقى الله فأطاعه شيء من التبعة والإثم، إذا اجتنبهم وأعرض عنهم) (1) .
(والمراد بذلك كل فرد من آحاد الأمة أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير موضعها) (2) . (ويشمل الخائضين بالباطل، وكل مُتكلِّم بمُحرَّم، أو فاعل لمُحرَّم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر الذي لا يقدر على إزالته.
هذا النهي والتحريم عمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المُحرَّم، أو يسكُت عنهم وعن الإنكار.
فإن استعمل تقوى الله ـ تعالى ـ بأن يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه فهذا ليس عليه حرج ولا إثم) (3) .
ü من أسباب النّسيان:
أولاً: استحواذ الشيطان على القلب:
(قال ـ تعالى ـ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] .
الحوذ: أن يتبع السائق حوذ البعير، أي: أدبار فخذيه فيعنف في سوقه، يُقال: حاذ الإبل يحوذها أي: ساقها سوقاً عنيفاً.
وقال الأصمعي: الأحوذي: هو المشمِّر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء.
وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن عمر بن الخطاب: كان أحوذياً نسيج وحده) (4) .
(غلب على قولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوياً عليهم، فلم يمكنهم من ذكره ـ عزَّ وجلَّ ـ بما زيّن لهم من الشهوات، فهم لا يذكرونه أصلاً لا بقلوبهم ولا بألسنتهم) (5) .
وقال ـ تعالى ـ: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] .
وقال ـ تعالى ـ: {مَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63] .
ثانياً: ترك التقوى:
قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18 - 19] .
(أمر ـ سبحانه ـ بتقواه ونهى أن يتشبّه عباده المؤمنون بمن نَسِيَه بترك تقواه. وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه، أي: أنساه مصالحها، ونعيمها، فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نَسِيَه من عظمته وخوفه والقيام بأمره) (6) .
ثالثاً: الترف والنعيم:
قال ـ تعالى ـ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] .
وإذا أصاب الإنسانَ بلاءٌ وشدة ومرض تَذكَّر ربه، فاستغاث به ودعاه، ثم إذا أجابه وكشف عنه ضرَّه، ومنحه نِعَمه، نَسِيَ دعاءه لربه في حال الرفاهية.
رابعاً: التمتُّع بالمال والعافية:
قال ـ تعالى ـ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان: 18] .
أي: طال عليهم العمر حتى نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك، حتى ساروا هلكى لا خير فيهم (7) .
ü آثار النسيان:
أولاً: الاستدراج:
قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .
(أي: أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم، «فتحنا عليهم أبواب كل شيء» أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون) (8) .
وهذا استدراج منه ـ تعالى ـ وإملاء لهم، عياذاً بالله من مكروه.
قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: (مُكِرَ بالقوم وربِّ الكعبة، أُعطوا حاجتهم ثم أُخِذوا) .
وقال قتادة ـ رحمه الله ـ: (بَغَتَ القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله فإنه لا يغترّ بالله إلا القوم الفاسقون) (9) .
ثانياً: ضعف الإرادة:
قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] .
(ولقد وصينا آدم، وأمرناه وعهدنا إليه عهداً يقوم به، فالتزمه وأذعن له، وانقاد، وعزم على القيام به ومع ذلك نَسِيَ ما أُمر به، وانتقضت عزيمته المُحكمة فجرى عليه ما جرى، فصار عبرة لذرِّيته وصارت طبائعهم مثل طبيعة آدم، فنَسِيَ، فنَسِيَت ذرِّيته، فخطئ فخطئوا، ولم يثبت على العزم المؤكد وهم كذلك، وبادر بالتوبة من خطيئته، وأقرَّ بها واعترف، فغفرت له، ومن شابَه أباه فما ظلم) (1) .
(وعهد آدم كان الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة، تمثل المحظور الذي لا بدَّ منه لتربية الإرادة وتأكيد الشخصية، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد، فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها.
وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرُّقي البشري، فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سُلّم الرُّقي البشريّ، وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى.
من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض باختبار إرادته وتنبيه قوة المقاومة فيه، وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرغائب التي يزينها الشيطان، وإرادته وعهده للرحمن، وها هي التجربة الأولى تُعلن نتيجتها) (2) .
ü نسيان الرُّسل والأنبياء:
أولاً: نسيان آدم ـ عليه السلام ـ (3) :
قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] .
ثانياً: نسيان موسى ـ عليه السلام ـ عهده مع العبد الصالح «الخضر» :
{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} .
[الكهف: 73]
(أي: لا تُعَسّر عليَّ الأمر، واسمح لي، فإن ذلك وقع على وجه النِّسيان، فلا تؤاخذني في أول مرة، فجمع بين الإقرار به والعذر منه، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر الشدة على صاحبك، فسمح عنه الخضر) (4) .
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: (فيه دليل على أن النِّسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف ولا يتعلق به حكم) (5) .
ثالثاً: نسيان يوشع بن نون:
قال ـ تعالى ـ على لسان يوشع بن نون: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} [الكهف: 63] .
(قال له خادمه: أَتذكُرُ حين لجأنا إلى الصخرة التي استرحنا عندها؟ فإني نسيت أن أخبرك ما كان من الحوت، وما أنساني أن أذكر ذلك لك إلا الشيطان، فإن الحوت الميت دبَّتْ فيه الحياة، وقفز في البحر، واتخذ له فيه طريقاً، وكان أمره مما يُعْجَبُ منه) (6) .
رابعاً: نسيان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-:
من ذلك:
1 ـ « ... صلى الظهر خمساً» (7) .
2 ـ «.. وقام في ثنتين من الظهر ونسيَ الجلوس» (8) .
ü النّسيان لا يجوز في حق الله:
قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] .
وقال ـ تعالى ـ: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [طه: 52] .
(أي: لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئاً، ويصف علمه ـ تعالى ـ بأنه بكل شيء محيط وأنه لا ينسى شيئاً ـ تبارك وتعالى، وتقدّس وتنزّه ـ، فإن علم المخلوق يعتريه نَقْصان:
أحدهما: عدم الإحاطة بالشيء.
والآخر: نسيانه بعد علمه. فنزّه نفسه عن ذلك) (9) .
ü علاج النّسيان:
أولاً: ذكر الله:
قال ـ تعالى ـ: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] .
يؤخذ من عموم النص: (الأمر بذكر الله عند النِّسيان، فإنه يزيله، ويُذكّر العبد ما سَهَا عنه، وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه ولا يكونن من الغافلين) (10) .
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «في الرجل يحلف قال له أن يستثني ولو إلى سنة» (11) .
ثانياً: الدعاء:
عن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يُكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله المَوْعِدُ، كنتُ رجلاً مسكيناً، أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصَّفْقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئاً سمعه مني» ، فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه، ثم ضممته إليّ، فما نسيت شيئاً سمعته منه (1) .
ثالثاً: الاستعاذة من الشيطان:
لقوله ـ تعالى ـ: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] .
رابعاً: ترك المعاصي:
وقد أشار إليه الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ حين قال:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلمَ نورٌ
ونورُ الله لا يُهدى لعاصي
وقال:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ من
وَصْلِ غانية وطيب عناق
ونقري لألقي الترب عن أوراقها
أبهى من الدوكاء (2) والعشاق
وأبيتُ سهران الدّجى وتبيته نوماً
وتبغي بعد ذاك لحاقي
خامساً: تفريغ القلب من الشواغل الدنيوية.
وهناك أمور أخرى تساعد على التذكر وعدم النِّسيان، منها:
ـ تكرار قراءة الشيء بوعي، وخصوصاً القرآن الكريم؛ فإن القارئ الذي لا يتعاهد القرآن يتفلت منه، وقارئ القرآن لا يخرف.
ـ كتابة ما يريد حفظه أو تذكره، فتقييد العلم بالكتابة.
ـ التؤدة والتأنِّي أو التمهُّل.
ـ الراحة العقلية والقلبية والبدنية: وعدم الإجهاد الذي يكون بإفراط، وفي أول الأمر وآخره. تجمع بين شيئين، الطاعة مع الاهتمام والجِدّ والاجتهاد فذلك يجعل الإنسان ذاكراً متذكراً.
ü من فضل الله على الأمة الإسلامية:
أولاً: تعليمهم الطلب ليعطيهم، ويرشدهم للسؤال ليثيبهم:
قال ـ تعالى ـ على لسان المؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] .
هذا تعليم للعباد كيف يكون الدعاء: (أي قولوا: «يا ربنا اصفح عنا، ولا تعاقبنا على شيء قصَّرنا فيه، أو أخطأنا في فعله على غير قصد منا إلى المعصية» (3) . أو تركنا فرضاً على جهة النِّسيان أو فعلنا حراماً كذلك أو أخطأنا أي: الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي) (4) .
وهذا في غاية الكرم ونهاية الإحسان، يُعلِّمهم الطلب ليعطيهم، ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل:
لو لم تُرِد نيل ما أرجو طلبه
من فيض جودك ما علمتني الطَّلبا (5)
(وهذا الدعاء يصوِّر لنا حال المؤمنين مع ربهم، وإدراكهم لضعفهم وعجزهم، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه، وإلى مدده ودعوته، وإلصاق ظهورهم إلى ركنه، والتجائهم إلى كنفه، وانتسابهم إليه، وتجرُّدهم من كل ما عداه، واستعدادهم للجهاد في سبيله، واستمدادهم النصر منه.
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه. وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح. وليس هو التبجح ـ إذاً ـ بالخطيئة أو الإعراض عن الأمر أو التعالي عن الطاعة والتسليم أو الزيغ عن عمد وقصد.. ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه، وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب، وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين) (6) .
ثانياً: عدم المؤاخذة بالخطأ والنسيان:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنِّسيان وما استُكرهوا عليه» (7) .
والأظهر ـ والله أعلم ـ أن النَّاسي والمخطئ إنما عُفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما؛ لأن الأمر مرتَّب على المقاصد والنيات، والنَّاسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما. وأما رفع الأحكام عنهما فليس مراداً من هذه النصوص، فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر (8) .
__________
(1) لسان العرب، (مج 15/322) .
(2) مفردات ألفاظ القرآن، الأصفهاني، (804) .
(3) جامع العلوم والحكم، ابن رجب، (ج 2/367) .
(4) لسان العرب، (مج 15/322) .
(1) الداء والدواء، (127 ـ 128) بتصرف يسير. (6) صحيح ابن حبان، ذكر وصف الخطباء الذين يتكلون على القول دون العمل، (53) .
(2) مختصر الطبري، (ج 1/22) . (7) الظلال، (ج 1/62) .
(3) تفسير القرطبي: 1/366. (8) تفسير ابن كثير، (ج 1/88) .
(4) الظلال، (ج 1/62) . (9) مختصر الطبري، (ج 1/330) .
(5) صحيح مسلم، باب: عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله، (2989) . (10) تفسير الألوسي، (مج 5/323) . (11) تفسير السعدي، (390) .
(1) الظلال، (ج 3/1673) . (6) مختصر تفسير القرطبي، (ج 2/23) .
(2) ديوان وليد الأعظمي. (7) تفسير السعدي، (243) .
(3) الظلال، (ج 6/3531) . (8) الظلال، سيد قطب، (ج 2/859) .
(4) الداء والدواء، ابن القيم، (90) . (9) مختصر الطبري، (ج 1/266) .
(5) مختصر تفسير الطبري، (ج 1/192) . (10) مختصر تفسير القرطبي، (ج3/248) .
(1) الطبري، (ج 1/234) .
(2) تفسير ابن كثير، (ج 3/163) .
(3) تفسير السعدي، (286) .
(4) تفسير الألوسي، (مج 14/228) .
(5) تفسير الألوسي، (مج 14/228) .
(6) الداء والدواء، ابن القيم، (90) .
(7) تفسير ابن كثير، (ج 3/324) بتصرف يسير.
(8) تفسير ابن كثير، (ج 2/137) .
(9) المرجع السابق.
(1) تفسير السعدي، (604) .
(2) الظلال، (ج 4/2354) .
(3) سبق الكلام عنه.
(4) تفسير السعدي، (562) .
(5) القرطبي، (181) .
(6) التفسير المُيسر.
(7) أخرجه الجماعة.
(8) أخرجه البخاري ومسلم.
(9) تفسير ابن كثير، (ج3/163) .
(10) السعدي، (552) .
(11) تفسير ابن كثير، (ج 3/83) .
(1) صحيح مسلم، باب: من فضائل أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه، (2492) .
(2) الدوكاء: السكارى.
(3) الطبري، (ج 1/92) .
(4) تفسير ابن كثير، (ج 1/350) .
(5) تفسير الألوسي، (ج 2/67) .
(6) الظلال، سيد قطب، (ج 1/339) .
(7) سنن البيهقي، كتاب: الخُلع والطلاق، باب: ما جاء في طلاق المكره، (14871) .
(8) جامع العلوم والحكم، ابن رجب، (ج2/367 ـ 369) .(232/8)
كيف نكتشف أطفالنا المبدعين
أ. د. مصطفى رجب
يتميز هذا العصر بالتقدُّم العلمي الزاخر الذي تجرف أمواجه العاتية، يوماً بعد يوم، تلك المجتمعات الكسلى التي لا تستطيع السباحة وسط تلك الأمواج العلمية الطاغية التي تتدفق من مراكز البحوث العلمية حاملةً معها أمواجاً موازية من التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولا ينشأ التقدُّم العلمي ويزدهر إلا على أيدي العباقرة والمبدعين، وهؤلاء ـ بدورهم ـ لا ينشؤون في فراغ، بل لا بد من استنباتهم كما تُستنبت السلالات النادرة من النبات والحيوان.
إذا سلّمنا بهذا؛ وجب علينا أن نؤمن بما للأسرة من دور خطير في تنشئة المبدعين ورعايتهم، والأسرة ـ بهذا الدور ـ تسهم في ترقية مجتمعاتها، وتلك ـ فيما أحسب ـ هي «الفريضة الغائبة» في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
ü متى بدأت دراسة الإبداع؟
رغم حداثة علم النفس نسبياً بالمقارنة مع العلوم الأخرى، فإن الإبداع ـ بمعنى: دراسة القدرة العقلية للمتفوقين والموهوبين ـ قد بدأ مبكراً، فقد بدأت الأسرة الأولى لدراسة الإبداع عام 1896م، أي: بعد نحو سبعة عشر عاماً من نشأة علم النفس بوضعه علماً مستقلاً عام 1879م على يدي (ولهلم فونت) ، غير أن المحطة الرئيسة والعلامة البارزة في تاريخ الدراسات النفسية الخاصة بالإبداع بدأت على يدي (جيلفورد) عام 1950م، بمقال ألقاه في صورة خطاب أمام جمعية علم النفس الأمريكية. وتوالت بعده الدراسات المتخصصة في هذا المجال، وساعد على نموّ تلك الدراسات ما ساد العلم من اتجاه نحو العنف وتسخير العلم في خدمة التسليح مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبدء ظهور بوادر الحرب الباردة التي كان السباق العلمي والتنافس التقني أهمَّ ملامحها.
ü كيف نكتشف أطفالنا المبدعين؟
لن ندخل في جدلٍ لغويٍّ حول ماهية الإبداع وتعريفاته، فهذا مجاله الدراسات العلمية المتخصصة، وإنما نكتفي ـ هنا ـ بتعريف بسيط للإبداع بأنه: (عملية إنتاج أفكار جديدة تتميز بدرجة عالية من الخروج على المألوف، وتستند هذه العملية إلى قدرات عقلية عالية، وسِمَات شخصية خاصة أبرزها المعرفة العلمية والدافعية للإنجاز والتميّز) .
وبالطبع؛ فإن هذا التعريف يشمل المفكرين والأدباء والعلماء المتفردين باختراعات خاصة بهم، وعباقرة الأطباء والمهندسين، ويدخل فيه بعد ذلك أصحاب المهن الأخرى كالمحامين وغيرهم.
والسؤال الذي يهمّنا طرحه الآن: كيف تكتشف الأسرة أن طفلها هذا أو ذاك «مشروع» إنسان مبدع؟
ولكي نجيب عن هذا السؤال يجب علينا تحديد ملامح أو سِمَات شخصية المبدع التي يمكننا إجمالها فيما يلي:
1 ـ الطلاقة: وتعني: قدرة الفرد على توليد الأفكار بعضها من بعض، واكتشاف بدائل عديدة للحلول المطروحة، والقدرة على حلِّ الألفاظ والمشكلات بأساليب غير مألوفة. ويمكننا أن نقدِّم مثالاً على ذلك بأن نفترض أن أمامنا مجموعة من الطلاب نريد أن نختبر قدرتهم على الطلاقة الفكرية، فنسألهم عما يمكن أحدهم أن يفعله إذا كان في قطار ـ مثلاً ـ واكتشف أن هذا القطار على وشك الوقوع في خطر، أو الاصطدام بقطار قادم.
هنا ستتوالى الأفكار نتيجة الشعور بالمأزق، فمنهم: من يقترح الاتصال بالسائق، ومنهم: من يفضّل البحث عن طريقة للقفز ينجو من خلالها بنفسه، ومنهم: من يفكر في البحث عن «فرملة» الطوارئ الموجودة في كل عربة ... إلخ. وقطعاً سيصل أحدهم إلى فكرة لم تكن واردة في ذهن واضعي الاختبار، وسيجد واضع الاختبار نفسه مبهوراً بتلك الفكرة الجديدة التي يمكن عدّها إبداعاً أو مشروعاً لإنسان مبدع في المستقبل.
ومثال آخر لاختبار الطلاقة اللفظية يمكننا فيه أن نؤمن لبعض الدارسين صوراً متعددة لوجوه بشرية ونطلب التركيز على حركة العينين ونوعية النظرة التي فيها والتعبير عنها بفعل مضارع، مثل: (يرى ـ يشاهد ـ ينظر ـ يتأمل ـ يرمق ـ يُمْعن النظر ـ يشاهد ـ يرنو ـ يشرئبّ ـ يتطلّع ـ يلاحظ ـ يتابع ـ ... إلخ) . والقدرة على توليد مترادفات مثل هذه تُعدّ مثالاً للطلاقة اللفظية.
2 ـ المرونة: ضدّ التحجّر والجمود، ومعناها قريب من معنى الطلاقة، فهي تعني ـ أيضاً ـ: القدرة على الاهتداء لأفكار جديدة، ولكن بينها وبين الطلاقة فروق، فالطلاقة تعني: ثراء الأفكار واللغة أكثر من المرونة. والمرونة تعني: القدرة على الالتفاف حول الفكرة أو الجملة أو الكلمة والانحراف بها إلى معانٍ أخرى أو دلالات أخرى. وقد كان العرب يعبِّرون عن مفهوم المرونة بما كانوا يسمّونه (سرعة البديهة) ، مثل: ما روي عن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال لعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بعد أن فقد بصره في أواخر عمره: «ما لكم تصابون في أبصاركم يا بني هاشم؟» فردَّ عليه ابن عباس في الحال: «كما تُصابون في بصائركم يا بني أمية» . وكتاب علي بن ظافر الأزدي (بدائع البدائه) حافل بمئات الأمثال لهذه التلقائية في الردِّ التي كانوا يسمونها (سرعة البديهة) . فالتلقائية سِمَة من سِمَات المرونة، وكذلك القدرة التكيفية العالية بمعنى: قدرة الفرد على أن يتعايش مع أيِّ متغيرات تصيب حياته.
فإذا لاحظت الأسرة أن أحد أطفالها متشدّد في مطعمه وملبسه وطريقة نومه واستيقاظه ومذكراته ... إلخ، فلا يجب أن تفرح بهذه السلوكيات وتصف هذا الطفل بأنه «ذو عقل جامد» ، و «مخّه ناشف» كما يقولون. بل يجب عليها أن تفزع؛ لأن هذه الصفات (الجمود ـ التشدّد) تدل على مستقبل غير سعيد لهذا الطفل. وعلى العكس إذا لاحظت قدرة عالية على التكيّف لدى الطفل واستعداده للتأقلم مع أيِّ تغيير فعليها أن تدرك أنها أمام «مشروع» إنسان مبدع.
3 ـ الإفاضة: الإفاضة قريبة المعنى من الطلاقة ـ أيضاً ـ ولكنها تعني بدرجة أكبر: القدرة على إعطاء تفاصيل لم ولا تخطر على بال الطرف الآخر. ونستشهد على هذا بذلك البدوي حينما قال: هي عصا، أعدّها لعداتي (أي: أعتمد عليها كسلاح) وأسوق بها غنمي، وأركزها لصلاتي، وهي مشجب ثيابي، وعلاّقة أدواتي، وأعتمد عليها في مشيي ليتّسع بها خطوي..، ولي فيها مآرب أخرى. فانظر إلى هذا الرجل كيف ذكر العديد من الاستعمالات في إفاضة وبلاغة وقدرة عالية على التفصيل، ولم يكتف بذلك بل أجملَ في النهاية وظائف أخرى لم يفصلها.
4 ـ حب الاستطلاع: من أبرز سِمَات المبدعين التي يمكن للأسرة اكتشافها بسهولة، حب الاستطلاع، فكلما كان لدى الطفل شرهٌ للمعرفة ورغبة جارفة في الاكتشاف والتعرّف على الأشياء وخصائصها، كان ذلك دليلاً على جودة بذرة الإبداع في نفسه، وهنا يتعين على الأسرة الانتباه إلى هذه العبقرية الوليدة وتعهّدها بالرعاية؛ من خلال توفير العديد من القصص ذات الألغاز والحكايات المثيرة والمعلومات المتدرجة في التعقيد حتى تشبع لدى هذا الطفل تلك الحاجات التربوية شديدة الأهمية في حياته.
ü دور المدرسة في اكتشاف المبدعين:
إذا آنسَ المعلم في بعض تلاميذه قدرة على الإبداع فإن عليه أن ينمِّي هذه القدرة ويبذل الجهد الكبير لاصطفاء أولئك التلاميذ ذوي القدرات العقلية المتميزة بتقريبهم إليه وتشجيعهم على المزيد من التفكير ـ طبعاً من دون أن يهمل الآخرين ـ ويمكنه أن يفعل ذلك من خلال:
أـ تكليف هؤلاء الطلاب المتميزين بقراءة بعض القصص التي يختارها لهم من مكتبة المدرسة، وبعد ذلك تكليفهم كتابة قصص جديدة، ثم يعيد توزيعها عليهم، ويطلب منهم وضع عناوين متعددة لكل قصة، فمثل هذا العمل ينمِّي القدرة على الطلاقة اللفظية والفكرية لدى الطلاب.
ب ـ تكليف الطلاب المتميزين ذكر استعمالات كثيرة مختلفة لأشياء معروفة كالحبل والورق وما شابه ذلك، ففي هذا تحدٍّ للعقول المبدعة كي تتفق مواهبها وينطلق خيالها.
جـ ـ استخدام الألغاز في التدريس، أو أن يطلب المعلم من تلاميذه صياغة ألغاز حول بعض المواد التعليمية التي يقدمها إليهم.
ü دور الأسرة في تربية الإبداع:
وإذا كنا قد أشرنا إلى دور المعلم، فإن دور الأسرة هو المحور الأساسي في هذا الميدان، فالطفل يقضي معظم وقته ـ لاسيما السنوات الأولى من عمره ـ في أحضان أسرته، وعلى الأسرة أن تقدّم الرعاية الخاصة لأطفالها الذين تلمس لديهم قدرة أو ملامح قدرة إبداعية خاصة.
ويمكن للأسرة أن تؤدِّي هذا الواجب من خلال:
1 ـ تشجيع الاختلاف بين الأبناء، فلا ينبغي أن تنزعج الأسرة إذا وجدت نشوزاً أو إعراضاً من أحد أبنائها عن سلوك أخيه أو إخوته، بل يجب أن تدعم هذا الاختلاف بحيث يؤدي في النهاية إلى التميّز لا إلى العدوان.
2 ـ عدم الإسراف في العقاب البدني أو النفسي.
3 ـ عدم الإسراف في الحماية الزائدة لأطفالها.
4 ـ تقبُّل أخطاء الأطفال المتميزين بصدر رحب.
5 ـ مساعدة الطفل على استغلال كل إمكاناته المادية والبدنية والعقلية.
6 ـ توفير مكتبة في المنزل مهما تكن إمكانات الأسرة المالية.
7 ـ تجنيب الأطفال العزلة؛ لأنها تدمّر نفسية الطفل وتخلق لديها بوادر الاكتئاب والإحباط.
8 ـ تعليم الطفل كيفية تقبُّل الفشل والخطأ.
9 ـ انتقاء ألعاب تنمِّي الخيال والابتكار.(232/9)
ما من نبي إلارعى الغنم
محمد بن عبد الله الدويش
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (1) .
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نجني الكباث وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالأسود منه؛ فإنه أطيبه» . قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: «وهل من نبي إلا وقد رعاها؟» (2) .
إنه أمر اختاره الله ـ تبارك وتعالى ـ لأنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم، والأغلب أنه كان قبل النبوة كما في سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- وموسى.
ولنا مع ذلك وقفات عدة:
\ تقديرُ الله ـ عز وجل ـ هذا الأمرَ للأنبياء جميعهم دليلٌ على أنه أمر مقصود؛ فرعيُه أو رعي موسى للغنم، أو غيرهما من الأنبياء؛ كل ذلك لم يحصل اتفاقاً إنما هو أمر قدَّره الله عز وجل.
\ في هذا دليل على حاجة النفوس للبناء والإعداد؛ فإذا هيأ الله ـ عز وجل ـ لصفوة خلقه - الذين اختارهم واصطفاهم من بين الناس - ما يكون له أثره على بنائهم وشخصياتهم فغيرهم من الناس من باب أوْلى؛ فحري بالدعاة والمصلحين والمربين ألاَّ يشعروا أنهم قد استغنوا عن التربية والإعداد.
\ رعي الغنم ليس فيه تعليم أمور ذات صلة مباشرة بالتدين، بل هو لاكتساب مهارات يحتاج إليها الأنبياء، ذكر شراح الحديث منها الصبر والحلم وقيادة الناس ... إلخ، وهذا يؤكد سعة مفهوم التربية وحاجتنا للأخذ بالمفهوم الأوسع في بناء النفوس. ولعل تأمل الواقع الدعوي يكشف لنا أن كثيراً من جوانب القصور في البناء التربوي تنتمي لجوانب تتصل ببناء الشخصية، وهذه الجوانب ليست محل اعتناء كثير من المربين، والإخفاق الحاصل من تخلُّفها كثيراً ما يعالَج من خلال الجانب المعرفي، أو من خلال انتقاد مظاهر القصور.
\ كان رعي الغنم في مراحل أولى من حياة الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ مما يؤكد على أهمية المراحل العمرية - كالطفولة وما يليها - في التربية، وأهمية رسم الصورة المتكاملة لما نريد تحقيقه في نفوس أولادنا.
\ إذا كان الأنبياء وهم يمثلون قمة الصفات البشرية يتأثرون بالغنم ومصاحبتهم لها؛ فهو دليل على أثر البيئة في تشكيل شخصية الإنسان، سواء كانت بيئة مادية أم معنوية، مما يتطلب وعي المربين به، وسعيهم لعلاج جوانب القصور المتصلة بذلك.
\ تأثير الأتباع على قائدهم ومربيهم؛ فالأنبياء يتعلمون ويكتسبون سلوكاً ومهاراتٍ من رعيهم للغنم؛ فكيف بمن دونهم، مع البشر الذين يتواصلون ويتفاعلون معهم؟
__________
(1) رواه البخاري (2143) .
(2) رواه البخاري (3225) ، ومسلم (2050) .(232/10)
الانفتاح على مبادئ الحياة
د. عبد الكريم بكار
فطر الله ـ تباركت أسماؤه ـ مخلوقاته على طبائع وصفات محددة، فلكل حدث ولكل شيء ولكل مجال ... طبيعته الخاصة به، والتي يجب التعرف عليها بعمق حتى نحسن التعامل معه ونحسن استثماره على أحسن وجه؛ بل ربما جاز لنا أن نقول: إن لكثير من الأشياء طبيعتين: طبيعة في حالة انفراده، وطبيعة في حالة اجتماعه مع غيره؛ وإدراك الطبيعة الثانية أدق وأصعب.
إن الانفتاح على المعلومات والمفردات والمعطيات الجزئية يثري الثقافة الشخصية للإنسان، لكن الانفتاح على المبادئ وفهم الطبائع يساعد على بلورة الرؤى المنهجية والأفكار الكبرى، ونحن في أَمَسِّ الحاجة إلى هذا النوع من الثراء الفكري؛ وقد قال أحد الحكماء: إن من يملك معلومة كمن يملك قطعة ذهبية، أما من يملك منهجاً فإنه وضع يده على مفتاح منجم ذهب!
وأنا لا أستطيع أن أتناول كل مبادئ الحياة في مقالة أو في كتاب، وإذاً فلأَتحدث عن نماذج مما أعنيه؛ لعلي أحرك الهمم نحو السعي إلى اكتشاف المزيد من المبادئ والطبائع.
1 ـ إذا كان المرء قوياً، ذا نفوذ أو ذا مال أو ذا ميزات خاصة جداً، فعليه أن يخشى على نفسه من الكِبْر والغرور والبغي والطغيان؛ القوة تجذب التجاوز وعبور الحدود، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حيث قال ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] ، وقال ـ سبحانه ـ: {كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] ، ولما كان فرعون ملكاً جباراً خاف موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ من طغيانه عليهما وبطشه بهما، فقالا: { ... رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: 45] . إن القوة بكل أشكالها تغري صاحبها بالعدوان؛ لأنها توفر له شعوراً بالأمن من الإفلات من العقاب، كما أن المرء كلما كان أقوى كثر المحتاجون إليه، وكثرت مصالح الناس عنده، وهذا يوفر له فرصة التحكم بهم وظلمهم؛ وهذا يعني أن على جميع الناجحين والمميزين وذوي المكنة والنفوذ أن يمارسوا نوعاً من الرقابة على أنفسهم حتى لا يقعوا في شكل من أشكال البغي والطغيان. وفي المقابل فإن الضعيف والفقير والعاطل عن العمل وكل من يعيش في ظروف قاسية وصعبة، يكونون على حافة المذلة والإهانة والقبول بالظلم، وما ذاك إلا لشعورهم بالحاجة إلى الآخرين، وشعورهم بالعجز عن القيام بشؤونهم ومتطلباتهم الشخصية على نحو مقبول. وعلى هؤلاء أن يتعلموا كيف يتخلصون من أوضاعهم أولاً، كما أن عليهم أن يتعلموا كيف يحمون أنفسهم من المهانة ثانياً، وذلك من خلال الصبر والتعفف ومقاومة التسلط، والنظر إلى الكرامة الشخصية على أنها شيء لا يقبل المساومة.
2 ـ الكم لا يكون إلا على حساب الكيف؛ وذلك لأننا نحن البشر محدودون في أعمارنا وإمكاناتنا ورؤانا وطاقاتنا الروحية، ولهذا فإننا لا نستطيع أن ننفق من رأس مالنا المحدود على ما نعالجه ونعانيه بشكل غير محدود، ولذا فلا بد أن نختار بين التركيز على الكم أو التركيز على الكيف؛ حيث إن من الواضح أن المعلم ـ مثلاً ـ لا يستطيع أن يعتني بأربعين طالباً، تم حشدهم في فصل دراسي، عناية تماثل عنايته بطلابه العشرة أو الخمسة عشر. والمؤلف الذي أخرج كتاباً في خمس مجلدات خلال ثلاثة أعوام، لا يستطيع خدمة مسائله على مستوى عالٍ من التدقيق والتحقيق والنقد على النحو الذي يقوم به طالب الدراسات العليا حين يسلخ من عمره ثلاث سنوات في كتابة ثلاثمائة صفحة. وقد ورد في حديث (القصعة) ما يدل على أن المشكلة الحضارية للأمة ستكون مع الكيف، وليس مع الكم: « ... أنتم يومئذ كثيرون، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» . ومن الواضح أن الأمم التي تحقق الغلبة على غيرها ليست كثيرة العدد، لكن عنايتها بتعليم أبنائها وتدريبهم عالية جداً. التجربة الحضارية لأمتنا تدل على أن الاهتمام بالكيف يجب أن يستولي على اهتماماتنا وخططنا المستقبلية.
3 ـ كلما اتجهنا نحو الأصول والكليات وجدنا أنفسنا أقرب للاتفاق ووحدة الرأي، وكلما اتجهنا نحو الفروع والجزئيات صار الاتفاق أمراً عسيراً، وصار التعاذر أمراً لا مناص منه، والأمثلة تفوق الحصر. وعلى سبيل المثال: فإن البشرية مجمعة على أهمية (بر الوالدين) بوصفه قيمة من القيم الإنسانية الكبرى؛ لكن حين نصير إلى التفاصيل والجزئيات والتطبيقات العملية، فإننا سنجد الاختلاف في بعض مفاهيم (البِر) داخل الأسرة الواحدة: الأسرة المسلمة والأسرة غير المسلمة. إذا أخطأ والد أحدنا؛ فهل نصحُه من البر أو من العقوق؟ بعض الشعوب تعد نصيحة الآباء نوعاً من العقوق، وشعوب أخرى ترى في ذلك مطلباً شرعياً. وقد ذكر لنا القرآن الكريم أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان ينصح أباه ويعظه، ثم تبرأ منه؛ بسبب إصراره على الكفر. والبشرية متفقة على فضيلة (الصدق) وضرورة الالتزام به؛ لكن إذا كان الصدق سيؤدي إلى قتل نفس بريئة ظلماً وعدواناً؛ فهل نقول الصدق، أم يكون الكذب هو المطلوب؟ وإذا كان الكذب لن يؤدي إلى قتل بريء؛ لكنه سيؤدي إلى تفويت مصلحة مشروعة، فهل يكون الكذب جائزاً؟
وهكذا ... إذا فهمنا هذا المبدأ من مبادئ الحياة، فربما نعمل على عدم طلب الإجماع في أمور فرعية، كما نعمل على مقاومة الاختلاف في الأمور الكلية.
... للحديث صلة.(232/11)
الشافي
بسام الطعان
وجد (ياسر) نفسه فريسة سهلة لمرض غامض ومحبط، مرض زرع الخوف والأنين في جسده، يبدو أنه في عجلة من أمره، يريد أن يهوي عليه كشفرة المقصلة ويزيله من جغرافيا الحياة، ولم يأت وحده، وإنما جاء معه اكتئاب شديد، لم يُبْقِ فيه ولو قيد شبر بغير احتلال، اكتئاب دخل في جسده كالسهم، وشق روحه التي سرقها من قبل الشحوب الرمادي الداهم.
كانت زوجه تجلس إلى جانبه، تواسيه، تشجعه على النهوض من الفراش، تتأمل وجهه الذي يكاد يكون مفرغاً من الحياة، وتبكي بكاءً صامتاً، وكان ذلك شبيهاً بتدفق كابوس مرعب بالنسبة لها.
حين استمر المرض في غزوه السريع، وداهمه طغيان الوجع، وظلت الأوهام تنحت في أروقة صدره العذاب، وتراخى جسده، ونقصت همته، وصارت شمسه على حافة الأفول، كان من الطبيعي أن يستجيب لدعوة زوجه التي حاولت أن تطرد المشهد الخرائبي وقالت له:
ـ تزود بقدر من بأسٍ يا ياسر! واذهب إلى الطبيب.. إن الألم صعلوك أمام الإرادة.
عاد إلى البيت وقطيع من الأوهام يتسمر عند حافة عقله، بينما رأسه مدلّى في أبد الصمت، والموت كأنه يراه، ويحسه، موجوداً معه، حضوره إلى جانبه يكاد يلمسه، عيناه متعبتان، ونفسه كعادتها منطوية ومستسلمة للحزن والخمول.
في كل يوم يمر، تغرق الأشياء حول ياسر في لون رمادي، تئن الدموع في عينيه، تسكنه الوحشة، يجري الإحباط في شرايينه، ويصبح قلبه عصفوراً يختلج في صدره الكسيح، بينما زوجه تنظر إلى وجوده الذابل وتحاول ما بوسعها التخفيف عنه.
استشف في نظراتها التي حاولت أن تلملمها بعيداً عنه حزناً عميقاً، فقال لها:
ـ أتمنى أن أفعل ذلك لكنني لا أستطيع.
رفعت رأسها، استغاثت بالله «جل جلاله» ، وأجهشت بحرقة والتياع، دموعها مستديرة صافية، قطرة بعد قطرة، وكل قطرة تقيم في نفسها القلق، وتجعل الحزن يشحذ شفرته ويغرزها دون رحمة في ثناياها، كيف لا وقد أصبح قلبها مسكناً جميلاً له.
ذات يوم دافئ، نهض قبل أن ينهض الصبح من نومه، مضغ تعاسته كعلكة بائرة، أسند رأسه إلى مسند السرير وهو يشعر بالشيخوخة تدب في كل أنحاء جسده، حاول أن يهدهد حزنه الشامل، لكن الحزن زمجر في وجهه، وظل يسحقه دون هوادة، حاول أن يتذكر كل تفاصيل الحلم، تجول في ردهات ذاكرته، لكنه لم يستطع أن يتذكر إلا جملة واحدة سمعها في الحلم:
«إنه الشافي» .
تاه في دروب الحلم الوعرة، وأصبحت نفسه مجرد خيال، شبح، كائن يتحرك بصعوبة، وفي النهاية قال لنفسه: «هل آن الأوان أم ما زال في الروح بقية؟» .
مرت أيام أخرى، وظلت الجملة تعلو قلعة انكساره، همست في داخله المخاوف، وطافت به الأوهام من جديد، ومع الهواجس والخيالات، والأسى واللوعة، الخوف والشجاعة، الوعي واللاوعي، لمعت في ذهنه فكرة دفعته من السرير دفعاً، وهدّأت خواطره المتكدرة، فلم ينتظر طويلاً، أعلن بدء انتحار الخوف والصمت، وبدء نمو زهور التحدي، لملم بعضه ليطفو على قمة الصحة، يسمو نحو الخلاص، ويحلم بالحياة، فالقلب متعب ويريد أن يقطع الدروب المعفَّرة بالعذاب، ارتدى الفجر والوجع قميصاً بلا أزرار وخرج كمكفوف يريد أن يخرج من ظلمته الأبدية، خرج مع بؤسه وهزاله، احتسى غبش الفجر وطارد غزلان الخلاص، بينما الكآبة لا تزال تجأر في خطواته وتسد باب الشفاء، وبشيء من صبر أيوب، سار على الرصيف المغسول بمطر الصباح المبكر الذي أعادته المدينة. الألم يملأ الفم والخاصرة، ولا يهتم؛ فقد قرر البحث عن الشافي بعدما ضاق ذرعاً بحياة الاكتئاب والعقاقير والرطوبة والظلام.
وصل إلى المسجد ووجهه شرخ يدل على انشطاره، أسند ظهره إلى الحائط، تنفس ارتياحاً، اغمض عينيه للحظات، ثم دخل بخطوات بطيئة، توضأ، وأمام القبلة صلى ركعتي استخارة، توسل لله ـ عز وجل ـ أن يبعث له الدواء والشفاء.
بعد الصلاة خرج من المسجد، وفي الطريق إلى البيت خفق قلبه على نحو لم يخفق خلال الأعوام التي عاشها، وفجأة تناثرت الكآبة ومعها التعاسة والوجع والخمول والانطواء والبؤس حطاماً، وأحس أن قلبه قد أصبح سماء خضراء لا تتسع لورقة صفراء، وأن الحياة تفجرت في عروقه في أروع شكل لها.
حمل بيدر صحته، اتجه صوب بيته شاهراً فرحته، تحدو به مشاعر عذبة، وأمام الباب، سمع صوت الحياة تنشد ألحانها في أعضائه، فربط قلبه بشريط من الفرح، وأحس بأجنحة لا يراها تحمله، فتح الباب، وعندما رأته يتأبط الفرح والراحة، وعلى شفتيه تلك الابتسامة التي كانت غائبة، بُهِتَتْ زوجته وهتفت بصوت ضاحك:
ـ ما شاء الله يا ياسر! أرى الصحة تتلألأ على وجهك.
جلس أمام النافذة وهو يستمع في نشوة إلى رفيف الأجنحة، عصر رحيق الشمس بين يديه ومنح نفسه قطرة ضوء اشتاقت لها، طلب الطعام الذي هجره طويلاً بفرح طفولي:
ـ تخلصي يا زوجتي من كل تلك الأدوية! لقد اهتديتُ إلى الشافي.(232/12)