إدارة المشايخ
إ براهيم بن سليمان الحيدري
لم تنتهِ الموضوعات الإدارية حتى لم يعد إلا أن نتكلم عن هذا الموضوع الحساس، ولكن الداعي لطرقه أنه إحدى المزايا التي تختص بها المنظمات الدعوية والخيرية دون سواها؛ فالمنظمات الدعوية والخيرية ـ ولله الحمد والمنة ـ تعمر بالمشايخ الأجلاء وبطلبة العلم الفضلاء الذين يضيفون للأعمال كثيراً من سبل النجاح.
المشكلة ـ إن كان ثمة مشكلة ـ هو خلط القائمين على المنظمات الدعوية بين المكانة العلمية والاجتماعية للمشايخ وطلبة العلم، وبين الجدارة الإدارية والقدرات الذاتية؛ إذ قد تؤثر مشاعر التقدير والاحترام لأهل العلم والفضل على تطبيق بعض المعايير الإدارية كالجدارة والعدالة والتخصص.
ومظاهر هذا الخلط تتنوع بدءاً من التحرج في تقويم أداء الشيخ وتصحيح مسار عمله، إلى إيكال أعمال إدارية مهمة ومسؤوليات كبيرة لا تتناسب مع قدرات فضيلته، ونتائجه تبدأ من ضعف الأداء وتأخر النتائج، وقد تنتهي بأزمة شخصية بين الشيخ والمنظمة.
إن العمل بروح المؤسسة الذي ينشده كل غيور لعملنا الإسلامي، والذي يضمن بعد توفيق الله استمرار العمل وجني الثمار، يتطلب منا أن نطبِّق معاييره؛ وأحد معايير العمل المؤسسي المهمة هو (الجدارة) التي تتعارض مع التوظيف أو تقييم أداء الموظفين بناء على مكانتهم الاجتماعية أو العمرية أو المالية، وتجاهل القدرات والمهارات.
وعندما تتأمل ـ أخي القارئ الكريم! ـ حصول موسى ـ عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام ـ على وظيفة رعي الغنم في قصته مع الفتاتين اللتين سقى لهما تجد أنه شغلها؛ لأنه جدير بمتطلبات هذا النوع من الوظائف (القوة والأمانة) لا لأنه نبي مرسل (1) .
وأياً كان موقع المشايخ في خريطة المنظمات الدعوية والخيرية مديرين أو مدارين؛ فإن بأيديهم مفاتيح مؤثرة في تهيئة الجو الإداري السليم لتطبيق معايير العمل المؤسسي في إنشاء وإدارة المنظمات الدعوية.
يطالب بعض المتطرفين إدارياً أن يتنحى بعض المشايخ عن وظيفة الإدارة حتى في المنظمات الدعوية التي أُنشئت من أجل نشر نتاجه العلمي والدعوي ... متطرفون!
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.
(1) ذكر ابن كثير عن مجاهد أن الحكم والعلم في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14] هي النبوة، انظر تفسير ابن كثير للآية في سورة (القصص) .(225/9)
من «الحرية الدينية» إلى الدولة العلمانية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
من أعظم الوسائل التي تُستعمل لتحريف نصوص الكتاب والسنة في عصرنا أن يؤخذ نص أو عبارة من نص ثم تعطى معنى من معاني الثقافة الغربية له لوازم لا تتناسب مع بقية نصوص الكتاب والسنة، ثم إما أن يلتزم المحرِّف بهذه اللوازم فيمضي في تحريفه إلى نهايته، وإما أن ينكر بعضها فيقع في التناقض والحرج، وإما أن يلجأ إلى تحريف النصوص الأخرى كما حرَّف النص الأول.
من العبارات القرآنية التي حُرفت بهذه الطريقة عبارة {لا إكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: 256] التي صار يُستدل بها على الحرية الدينية بالمعنى الغربي لهذه العبارة. وما دامت الحرية الدينية بهذا المعنى الغربي تقتضي أن يكون من حق الإنسان أن يدخل في الدين أو يخرج منه متى شاء حكم هؤلاء بأن تكون الردة أمراً مباحاً لا جريمة يعاقَب مرتكبها، حتى قال قائلهم في وقاحة ـ مخالفاً لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ـ: «لا بأس على الإنسان أن يبدل دينه» .
لكن حرية الدين بالمعنى الغربي لا تقف عند حدود إباحة الردة؛ لأنك إذا أبحت للإنسان أن يخرج من الدين كله فيلزمك أن تبيح له الخروج من بعضه. وهذا هو الأمر في الغرب. فكما أن من حق الإنسان أن يخرج من اليهودية أو النصرانية أو الإسلام؛ فمن حقه أيضاً أن ينكر بعض ما في دينه ويظل رغم ذلك يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً، ولا يحق لجهة دينية أن تعترض عليه. ولا زلت أذكر مستغرباً كلمة الرجل الأمريكي الشاذ الذي انتخبته كنيسته قسيساً كبيراً لها معتذراً للذين اعترضوا على ترشيحه، قال كلاماً فحواه أنهم محقون؛ لأن انتخابه مخالف لتقاليد الكنيسة، ومخالف لنصوص الكتاب المقدس، ثم قال: «لكن هذا لا يعني أنه خطأ» !
وعليه فإذا كان من حق المسلم أن يرتد عن دينه كله، فيكون من حقه أن ينكر الصلاة أو الصيام، أو يمتنع عن أداء الزكاة، أو يبيح شرب الخمر أو الزنا، أو حتى الشذوذ. وقد حدث فعلاً أن كوَّن جماعة من الشباب المنحرفين في أمريكا جمعية أسموها (جماعة الشباب الإسلاميين الشاذين) .
لكن هذا يؤدي إلى نتيجة خطيرة هي أن الإسلام لا يمكن أن يكون نظاماً أو قانوناً لدولة؛ لأنه إذا كان من حق الإنسان أن يخرج على كل أمر أو نهي ديني، فيكون من حقه أن يخرج على كل أوامر الدولة وقوانينها. لكن الناس لا بد لهم من دولة تأمر وتنهى وتعاقب؛ فإذا لم تكن دينية لزم أن تكون علمانية. يقول بعضهم: يمكن أن نُلزم الناس بهذه الأوامر باعتبارهم مواطنين لا باعتبارهم مسلمين. وأقول: إن هذا يؤكد علمانية الدولة؛ لأن العلمانية لا تمنع من أين تتبنى الدولة بعض الأوامر والنواهي ذات الأصل الديني ما دامت لا تجعل الدين أساساً لمشروعيتها. ونحن نعلم أن في الدول العلمانية الغربية كثيراً من أمثال هذه القوانين.
الحرية بهذا المعنى الغربي ناتجة عن اعتقاد بدأ يشيع في الغرب بعد القرن الثامن عشر فحواه أن المعتقدات الدينية لا تقوم على أساس علمي، وإنما هي مشاعر قلبية، فلا يحق لإنسان أن يجبر الآخرين على أن تكون مشاعرهم وعواطفهم كمشاعره. والدين يختلف في هذا عن العلوم التجريبية التي تستند دعاواها إلى أدلة علمية حسية أو عقلية. وكثيراً ما يأخذون علينا ـ معاشرَ المسلمين ـ معاملتنا للدين معاملة هذه العلوم، فيقولون: إنكم تدَّعون أنكم تملكون الحقيقة. ونحن فعلاً نعتقد أن الحق معنا في مسائل الدين، وأن ديننا يقوم على حقائق تشهد لها أدلة حسية وعقلية، وأن الأمر ليس متروكاً فيه للأذواق الفردية؛ وهذا هو الذي يجعلنا نحكم على بعض الأقوال والتصرفات أنها مخالفة للدين أو مناقضة له مخرجة لصاحبها عن الملة الإسلامية.
ولأننا نعتقد اعتقاداً جازماً بأن الحق معنا ولا سيما في أصول الدين، وأن من مصلحة الإنسان الدنيوية والأخروية أن يؤمن بهذا الحق، فنحن حريصون على نشره كما هو من غير زيادة أو نقص أو تحريف، وحريصون على حماية من يؤمن به من المؤثرات التي تضعف إيمانه أو تفتنه عنه.
وهذا هو السبب في اعتبار الردة جريمة يعاقب عليها القانون الإسلامي. إن الذي يعاقب عليه القانون ليس هو أن يغير الإنسان ما في قلبه؛ فهذا أمر لا يستطيع البشر الاطلاع عليه اطلاعاً مباشراً، ولا يستطيع أحد أن يجبر أحداً على اعتقاد معين حقاً كان أو باطلاً؛ ولذلك يقال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] .
ويقال له: {فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} . [الغاشية: 21 - 22]
فالاستدلال بمثل هذه النصوص على إباحة الردة استدلال خطأ؛ لأن هذه النصوص لا تتكلم عن حرية التعبير عن الكفر وإنما تتحدث عن وجود الكفر في القلب. ومنع التعبير عن الكفر والتصريح به غير منع وجوده في القلب. والتفريق بين هذين أمر متفق عليه بين كل العقلاء، ولا يمكن إلا أن يراعى حتى في القوانين الوضعية. فالقانون لا يعاقب إنساناً على اعتقاده بأن إنساناً آخر سارق مثلاً، وإنما يعاقبه على إعلانه عن هذا الاعتقاد لما يترتب عليه من ضرر بالمتهم. ولو أن مسلماً رأى أخاً له يزني وتأكد من هذا الأمر فلا يجوز له أن يصرح به، بل إن تصريحه به يعد ذنباً يعاقب عليه إذا لم يشهد معه ثلاثة مثل شهادته.
وكذلك الأمر بالنسبة للردة. فالمسلم إذا ارتد وكتم ردته في قلبه بحيث لم يطلع عليه إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإن الله هو الذي يحاسبه. أما في الدنيا فيعامل معاملة المسلم. وأما إذا أعلن ردته فإنه يعاقب لما قد يترتب على ردته من عواقب سيئة عليه وعلى غيره. من هذه العواقب:
أولاً: استعمال الردة وسيلة لمحاربة الدين، ومن ثَم الدولة التي يقوم عليها هذا الدين. قال ـ تعالى ـ عن بعض الكفار:
{وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] .
ثانياً: أن الإنسان قد تخطر بباله شبهات تشككه في دينه؛ فإذا ما صرح بها وعرفها الناس عنه، ربما كان من الصعب عليه أن يتنازل عنها. وأما إذا ما كتمها في قلبه، أو بدأ يناقش بعض إخوانه فيها مناقشة علمية، فقد يرجع عنها. وقد جربنا هذا كثيراً.
ثالثاً: إن التصريح بالخروج من الدين لا تقف حدود ضرره على المرتد وحده، بل إن هذا قد يؤثر في كل من له صلة به ولا سيما الزوجة أو الزوج والأولاد.
فتجريم إعلان الردة هو في الحالة الأولى حماية للأمة، وفي الحالة الثانية حماية للفرد، وفي الحالة الثالثة حماية لمن حوله ممن قد يتأثر به.
أقول بعد هذا: إن الذين فسروا عبارة {لا إكْرَاهَ فِي الدِّين} ذلك التفسير الغربي، والتزموا لوازمه كلها أو بعضها، وأباحوا الردة، اضطروا كلهم لأن ينكروا أو يحرفوا نصوص السنة النبوية.
يقول لك أحدهم: إنه لا ذكر لتجريم المرتد في القرآن الكريم. تقول له: بلى! قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 25 - 28] .
يقول لك: لكن المذكور في هذه الآية وآيات غيرها إنما هو عقاب أخروي.
تقول له: لكنه تجريم على كل حال. ثم إن تفاصيل كثير من الأحكام إنما جاءت بها السنة التي أمرنا الله ـ تعالى ـ في كتابه أن نأخذ بها.
فإنكار السنة أو شيء منها إنكار للقرآن الكريم. قلت لبعضهم: إن القرآن لم ينزل عليك ولا على أبيك، وإنما نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا كنت تعتقد أنه صادق في قوله إن القرآن أنزل عليه، فيجب أن تعتقد أنه محق في بيانه للقرآن وفي قوله إنه أوتي القرآن ومثله معه. وإذا كنت لا تصدقه في هذا أو لا تأخذ بقوله فقد أبطلت الأصل الذي يقوم عليه إيمانك بأن القرآن كلام الله إن كنت حقاً مؤمناً بذلك. ثم كيف تبيح لنفسك أن تفسر القرآن وتنكر على من أُنزل عليه أن يفسره؟
ومنهم من ينكر وجود أحاديث تجرِّم الردة وتعاقب عليها.
ومنهم من يعترف بوجود بعض الأحاديث لكنه يتعمد تحريف معانيها بشتى الوسائل. من أشهر هذه التحريفات السخيفة التي انطلت ـ مع الأسف ـ على بعض الناس قولهم: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما عنى بقوله: «من بدل دينه فاقتلوه» من جمع بين ترك الدين والخروج على الدولة. ثم يخترعون من عند أنفسهم مناسبات لهذا الحديث ما أنزل الله بها من سلطان. هذا مع أن من المناسبات الحقيقية للحديث ما يتنافى منافاة بينة مع هذا الهراء. الحديث رواه ابن عباس وذكره بمناسبة تحريق أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ لبعض الزنادقة. خرَّج البخاري في صحيحه عن عكرمة قال: أُتي علي ـ رضي الله عنه ـ بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تعذبوا بعذاب الله» ، ولقتلتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من بدَّل دينه فاقتلوه» .
وإنما قتلهم، ثم أحرقهم؛ لأنهم سجدوا له، وقالوا له: أنت خالقنا ورازقنا؛ فهل هنالك من حال هي أشد خضوعاً للحاكم وأبعد عن الخروج عليه من حال إنسان يسجد له ويقول له: أنت ربي؟(225/10)
الطرح الشمولي
د. عبد الكريم بكار
إن المنهج الرباني الأقوم يملِّكنا الرؤية الشاملة لعدد كبير من الأشياء ولكل أساسيات الحياة، إنه يعرّفنا على مركزنا في الوجود، وعلى علاقتنا بالله تعالى، وعلى العلاقة التي يجب أن تسود بين الإنسان وأخيه الإنسان، كما يعرّفنا على واجباتنا، وعلى الحدود التي يجب أن نتوقف عندها ... وهذا فضل كبير على هذه الأمة في زمان فقد فيه العالم من حولنا الأهداف الكبرى والغاية النهائية.
هذا التصور الشمولي الذي أكرمنا الله به يغرينا بـ (الطرح الشمولي) والمعالجة العامة للأوضاع والمشكلات العامة. وهذا واضح؛ فحين يُعقَد مؤتمر لمعالجة قضية من القضايا، فإن المفترَض هو اقتصار المؤتمرين على معالجة القضية التي اجتمعوا من أجلها، لكن الواقع يقول غير هذا؛ حيث تجد كثيرين منّا يشرِّقون ويغرِّبون، وهم يعرضون مشكلات الأمة التاريخية والسياسية والتربوية والاقتصادية ...
وكثيراً ما يُنسى الموضوع الأصلي لتجد نفسك في نهاية المطاف أمام طرح عامٍّ فيه الكثير من حسن النية والقليل من الموضوعية والتركيز، والنتيجة غالباً ما تكون عبارة عن توصيات عامة وكبيرة، لا يستطيع المؤتمرون تنفيذ شيء منها. وقد تعودنا أيضاً إذا التقينا بعالم أو قائد ... أن نضع بين يديه كل همومنا ومشكلاتنا، فيعطينا أجوبة عامة، لا تقدم، ولا تؤخر ... وهكذا ...
ولعلِّي أدلي بالملاحظات التالية حول هذه المسألة المهمة:
1 ـ لنا مصلحة كبرى في الفصل بين الرؤية الشمولية والطرح الشمولي.
فقد مضت سنة الله ـ تعالى ـ في الخلق بوجوب التناول الجزئي والمعالجة المحدودة للأشياء، وهذا ما نفعله في كل شؤوننا الحياتية. ونحن في المجال الإصلاحي والتربوي ... نحتاج إلى وقود روحي وإلى عزيمة وأمل، وهذا لا يتوفر مع الطرح الكلي، وإنما مع الطرح الجزئي الذي نشعر أننا نمتلك أدوات التعامل مع مضامينه ومقترحاته. إن الأفكار الصغيرة والمشروعات المحدودة والإصلاحات الجزئية، تقبل التطبيق؛ لأنها تقبل التصديق. وعلى العكس من هذا شأن الطروحات الكبرى؛ إننا لا نشعر معها بالقدرة على التنفيذ، ومن ثَمَّ فإننا لا نتفاعل مع أصحابها، ولا نشعر أننا مؤهلون للمساهمة فيها، ولهذا فإنها تظل عبارة عن آمال وتطلّعات، تنتقل من جيل إلى جيل على ما هي عليه من التنظير والبعد عن التحقيق.
2 ـ نحن اليوم بحاجة إلى ملايين المشروعات الصغيرة التي يتبنّاها ويرعاها ويعمل على إنجازها ملايين الأبطال الصغار من فرسان الأمة الذين أخذوا على عاتقهم سدّ الثغرات الصغيرة ودفع العربة خطوة في طريق الألف ميل. إننا سنشعر أننا عملنا شيئاً حقيقياً إذا استعضنا عن الحديث العام والشامل حول الإصلاح التربوي بتأسيس روضة للأطفال، يشعر آباء من يدخلها من الأطفال أنهم عثروا فعلاً على المكان وعلى المحضن التربوي الذي يبحثون عنه، وسنشعر بالإنجاز فعلاً إذا وفرنا الجهد والوقت الذي نبذله في الحديث عن التخلف الصناعي لدى الأمة، وعمدنا إلى إنشاء مصنع ينتج لنا سلعة، نستوردها من الخارج، ويؤمِّن لنا فرص عمل لخمسين من أبناء المسلمين.
أنا مع الرؤية الشاملة، ولست ضد الطموحات الكبرى، لكن بشرط أن نضع أنفسنا على طريق التقدم نحوها، وأن نشعر أننا نخطو فعلاً في ذلك الطريق، وهذا لا يكون من خلال المزيد من الكلام وسَوْق البراهين على أهمية التقدم، وإنما من خلال المشروعات العملية الملموسة.
3 ـ أعتقد أن الذي يحرضنا على الطرح الشمولي، أو الذي يسهِّل لنا المجازفة والحديث عن التحولات العظمى هو عدم وعينا بتكاليف التنفيذ، وعدم وعينا بما تبديه الأشياء من ممانعة في كل المجالات، وعدم وعينا بالقوى المضادة التي تتأذى من حدوث أي سير في الاتجاه الصحيح.
وربما كان من الحلول الجيدة لهذه الوضعية أن نعمد إلى استخدام الأسئلة الاستقصائية في مواجهة كل مسألة كبرى نريد معالجتها، وسأضرب مثالاً توضيحياً لذلك: إذا أردنا معالجة انتشار الفقر في مدينة من المدن أمكننا أن نحيط هذه الظاهرة المزعجة بالكثير من الأسئلة، لعل من أهمها الآتي:
ـ ما تعريف الفقر؟ وما الذي يحتاج إليه الفرد في تلك المدينة من مال ومتاع وحاجات حتى نقول: إننا وفرنا له الأساسيات وأسباب البقاء؟
ـ ما أسباب انتشار الفقر في تلك المدينة؟ هل شُحُّ الموارد هو السبب؟ أو هناك أسباب أخرى مثل الجهل والكسل؟ أو هو العادات الاجتماعية السيئة مثل إعراض كثير من الشباب عن العمل في بعض الحِرَف والمِهَن اليدوية؟ أو أن هناك أسباباً أخرى غير ذلك؟
ـ ما حجم انتشار ظاهرة الفقر في تلك المدينة؟ هل هي ـ مثلاً ـ 10% أو 20 % أو 50 %؟ إن تحديد الحجم شيء مهم حتى نعرف تكاليف العلاج.
ـ ما التكلفة المالية لخفض نسبة الفقر؟
ـ ما الجهات التي ستشرف على المعالجة؟
ـ ما الجهات التي يمكن أن تقدم المساعدة؟
ـ ما البرنامج الزمني لذلك؟
ـ ما العقبات المتوقعة في وجه هذه المعالجة؟
هذه الأسئلة وما شابهها ستوقفنا على حقيقة غير سارة، هي أن ما نملكه من قدرات ناجزة لمعالجة مشكلاتنا المختلفة، قد لا يساوي أكثر من (5 %) مما هو مطلوب، لكن مع هذا يجب أن نكون مغتبطين؛ لأن معرفة المسافة ما بين ما هو مطلوب وما هو كائن، تشكل إنجازاً كبيراً.
إن كثيراً من العمل سيغنينا عن كثير الكلام، والكثير من الكلام مع قليل من العمل، سيولِّد لدينا الكثير من الأسى والإحباط.
هل لي بعد هذا أن أتوقع أن أرى (5 %) من قرّاء هذه المجلة الغراء وقد بدؤوا في التفكير الجاد في ممارسة دور (الأبطال الصغار) الذين لا يحسنون تشقيق الكلام، ولكن يعرفون كيف يضيفون إلى حياة الأمة شيئاً مفيداً وجديداً؟
هذا ما أرجوه، وأتطلّع إليه.(225/11)
الآثار التخريبية للغزو على البناء المجتمعي العراقي
د. أكرم عبد الرزاق المشهداني (*)
ثلاثة أعوام على غزو العراق:
ارتفاع في معدلات الجريمة، وازدهار لتجارة وإدمان المخدرات، وتوسع في دائرة الفساد، وانتشار للبطالة والفقر، وتفشي الأمراض الصحية الخطيرة.
25% من سكان العراق دون خط الفقر في بلد يطفو على أكبر بحيرة للبترول في العالم.
ثلاثة أعوام مرت على الغزو والاحتلال الأمريكي، وها نحن نجد أنفسنا أمام صورة لـ (عراق) لم يبق منه غير الاسم، وخارطة لها حدود واضحة مع الدول المجاورة؛ لكنها في الداخل ليست كذلك. فالكل في الداخل يتناحر، وكل جهة من القوى المستأثرة بالمشهد تريد قضم المزيد من الوطن الممزق لتوسيع مساحتها ومغانمها العرقية والطائفية والحزبية، وبأي ثمن كان؛ والمجتمع العراقي هو الضحية وهو الذي يدفع الثمن.
ربما اعتقد كثيرون وأولهم الرئيس جورج بوش وقادة الأحزاب والقوى العميلة، قبيل الغزو، أن العراقيين سيستقبلون الجنود الأميركيين بالزهور، وذهب البعض إلى أبعد من ذلك في تصويره لمشاهد الابتهاج التي ستسود نفوس العراقيين، وهم يصافحون بكل حرارة وحفاوة جنود المارينز، الذين سيتجولون بكل استرخاء وهدوء داخل المتاجر والأزقة والأحياء الراقية والشعبية، وسيجلسون في المقاهي، يتسامرون مع العراقيين، ويتبادلون النكات والأحاديث، لكن بعد ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ، الذي رسم الكثيرون له صوراً ومشاهد، جاؤوا بها من بوادي الخيال، ومن قناعات حاول الخطاب الأميركي ترسيخها في عقول الكثيرين. فالذي حصل أن الجندي والضابط والمسؤول المدني الأميركي في العراق، يعيش في حالة ذعر وهلع ورعب. قبل ثلاثة أعوام قالوا سوف نحوِّل العراق إلى أنموذج يقلده الجميع، لكن لم يحصل أي شيء من هذا الكلام. قبل ثلاثة أعوام، كان الخوف لدى القلة، التي ترى على مسافات بعيدة وتتمنى أن ينجح الاحتلال، ويصل إلى عقول العراقيين. لكن بعد ثلاثة أعوام انزاحت أثقال المخاوف؛ لأن أهم مراحل الاحتلال قد فشلت، وتبقى المخاوف، ويظل الحذر على أشده من المراحل الأخرى القادمة. لقد كان الاحتلال البغيض وما زال ثقيلاً على نفوس العراقيين، وترك آثاره التدميرية على البناء المجتمعي في شتى نواحيه النفسية والاقتصادية والمعيشية والقيمية والسياسية.
ü كيف تبدو صورة الوضع الاجتماعي في العراق المحتل بعد 3 أعوام من الغزو؟
المراقب للأوضاع الاجتماعية في العراق بعد 3 أعوام من الاحتلال يخرج بانطباع واحد لا يدعوه إلى التفاؤل؛ فمظاهر الحرب ما زالت ماثلة للعيون، بل إن الحرب ذاتها ما تزال قائمة وهي واقعة كل يوم، موقعةً خسائر بشرية ومادية واقتصادية واجتماعية بالمجتمع والمحتلين. فبقايا الحرب والتخريب الذي حصل في الطرق والجسور والمباني الحكومية والأهلية والعسكرية والمدنية ما زالت ماثلة كما هي، كما أن الراصد للآثار المجتمعية للحرب في العراق يجدها ماثلة على وجوه الناس ومشاعرهم ومعاناتهم؛ فأكثر من نصف مليون من السكان فقدوا أحد أبنائهم أو أقاربهم من الدرجة الأولى، كما أن مئات الآلاف من السكان يعانون من توقيف أبنائهم في السجون والمعتقلات الأميركية؛ ناهيك عن أن الأجواء العامة للحرب بكل تفاصيلها وبالصوت والصورة لا تزال تخيم على الناس في المدن والقرى؛ فأصوات الانفجارات وأزيز الرصاص والقنابل الصوتية ومشاهد الطائرات الحربية الأمريكية تملأ أجواء المدن، وتملأ قلوب الأطفال بالخوف وتمنعهم من النوم لساعات طويلة، فضلاً عن هواجس الخوف من المداهمات الليلية لقوات الاحتلال والحكومة، أو القصف العشوائي للمدن والأحياء أحياناً.
بلا شك فإن هناك علاقة جدلية بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في أي مجتمع؛ إذ لا يمكن الفصل بين هذه الأوضاع. وإذا كان الوضع السياسي معروفاً للقاصي والداني، فإن الوضع الاجتماعي هو نتاج الوضع السياسي، والمشاكل الاجتماعية هي وليدة الأوضاع السياسية والاقتصادية في الغالب. ولعل أهم سمات الوضع الاجتماعي بعد ثلاثة أعوام من الاحتلال، هي حالة الإحباط الكبير الذي أصيب بها المجتمع العراقي. فنجد معدلات الجريمة في تصاعد، والهاجس الأمني يزداد خطورة، ودائرة الفقر تتسع، وترتفع نسبة البطالة، ويزداد التغريب والتهميش، وتنتشر مظاهر عدم الانضباط في الشارع، ويغيب القانون، ويحصل التجاوز على أبسط الحقوق من قِبَل قوات الاحتلال والحكومة وأفراد العصابات الإجرامية على حد سواء؛ فلا أحد يحترم القانون أو يمتثل لرجاله وأدواته، بل يساء إلى حُماة القانون، ويساء إلى الأخلاق والآداب العامة علناً، وتنتشر مظاهر الجريمة والانحراف مثل (بيع أسلحة ممنوعة، وبيع المخدرات وحبوب الهلوسة والمشروبات الكحولية على الأرصفة، وغير ذلك) .
ولعل من أكبر التهديدات للبناء المجتمعي العراقي هو التهديد الذي يمثله التقسيم الطائفي والعرقي الذي صارت تتم وفقه معايير الولاءات والدعوات غير الوطنية بل الشعوبية والشوفينية لتقسِّم المجتمع تقسيماً عرقياً، ويعبر ذلك عن نفسه على أرض الواقع ودونما عناء شديد ليرصده المراقبون؛ لأن التعاطي مع الأوضاع الجديدة بمعايير عصرية ووطنية أصبح صعباً جداً مما يهدد النسيج الاجتماعي بالتهتك، وينذر بزيادة احتمالات الاحتراب وتفشي العنف وزيادة الجريمة، وقد يؤول الأمر إلى تقسيم العراق إلى دويلات صغيرة مع سلخها عن محيطها العربي والإسلامي وفق اعتبارات مشروع جديد يطل على المنطقة بأسرها.
إن ما يقلق النخبة الوطنية المخلصة الحريصة على وحدة العراق وهويته الإسلامية والعربية هي سيادة قيم ومعايير واعتبارات تحولت إلى بنود في الدستور قسراً لتكرس أوضاعاً غريبة عن المجتمع العراقي المعروف بأصالته العربية وتماسك القوى الوطنية والنسيج الاجتماعي فيه.
إن الأوضاع المجتمعية في ظل الاحتلال، على وجه الإجمال، لا تطمئن الحريصين على وحدة العراق أرضاً وشعباً ولا على هويته العربية ومستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أضحى على كف عفريت إن لم تتداركه أيدٍ مخلصة مؤمنة نظيفة وطنية لتوقف تدحرجه نحو الهاوية لا قدر الله.
وقدرت دراسة بريطانية حديثة عدد الضحايا المدنيين في العراق منذ أبريل 2003 وحتى الآن بنحو مائة ألف قتيل أكثر من نصفهم من النساء والأطفال الذين لقوا حتفهم نتيجة للغارات الجوية على مدنهم وقراهم. وقد وصفت وزيرة التنمية الدولية البريطانية السابقة (كلير شورت) التي استقالت من منصبها عقب الحرب على العراق نتائج تلك الدراسة بأنها مفزعة للغاية. أما عن عدد القتلى من الأمريكيين في العراق بعد مرور ثلاثة أعوام على الغزو فقد تجاوز عدد العسكريين الأمريكيين الذين قتلوا في العراق الـ (2400) عسكري وفقاً لبياناتهم، وأن أكثر من خمسة عشر ألف عسكري أمريكي أصيبوا بجروح غالبيتهم أصيبوا بجروح خطيرة او عاهات مستديمة. وتؤكد المعلومات الموثوقة من داخل العراق أن أرقام ضحايا الجيش الأميركي الحقيقية تفوق المعلن بأضعاف.
ü أبرز التغيرات المجتمعية السيئة في العراق المحتل:
تردي الأوضاع الأمنية:
يعد تردي الأوضاع الأمنية في مختلف المدن العراقية، أسوأ نتائج الغزو الأمريكي، ويكفي أن العاصمة (بغداد) صارت وفق تصنيف عالمي نشرته صحيفة (شينخوا ديلي تليجراف) الصينية بناء على تقارير أجهزة مخابرات غربية أن (بغداد) انضمت إلى أكثر من مائتي مدينة على مستوى العالم من حيث سوء العيش وانعدام الأمن. وأوردت إحصائية أشارت إلى أن عدد القتلى العراقيين تجاوز مائة ألف مقابل قرابة ألفي جندي أمريكي. وخلصت الصحيفة إلى القول: إنه إذا كانت هذه هي (الجنة الموعودة) للديمقراطية الأمريكية فإنه من المؤكد أن أياً من دول العالم لا تريدها ولا تنشدها، وربما تفضل جحيم الديكتاتورية عوضاً عنها.
لا شك أن هناك علاقة بين استمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والوضع الأمني، فيبدو أن سوء الأحوال الاقتصادية وعدم العمل الجاد والسريع ـ سواء من القوات الأميركية أو الحكومة ـ على معالجة ذلك سيقود حتماً لمزيد من الانتكاسات الأمنية. إن تراجع الأمل في تحسن الأوضاع الاقتصادية سيخلق حالة من عدم الاستقرار النفسي لدى قطاع واسع من العراقيين.
في تقرير للمنظمة الدولية لحقوق الإنسان ورد فيه: (بعد أكثر من عامين على سقوط العراق ما يزال مستوى تعامل قوات التحالف مع الوضع الأمني سيئاً للغاية. وما زال السكان يعيشون في خوف من الجرائم العنيفة، ويظل قلقهم يشتد بشأن عجز قوات التحالف والقوات العراقية عن توفير مستوى أمني أفضل) .
ظهور الجريمة المنظمة وتزايد جرائم القتل في العراق وبغداد بالذات:
لقد تضاعفت جرائم القتل في العراق عموماً وفي بغداد العاصمة خصوصاً إلى أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب؛ فقد صرح مدير الطب العدلي أنه في بغداد وحدها بلغ عدد القتلى الذين مرت جثثهم بالمشرحة المركزية للطب الشرعي خلال عام 2005 فقط بلغ 9066 جثة، بينما بلغ عددهم في عام 2003 وهو عام الهجوم الأميركي على العراق 6012 شخصاً. أما في عام 2002 فكان عدد الجثث التي فحصت في المشرحة 1800 وتشكل نسبة القتل بالرصاص بين هذا العدد من الضحايا 60% وأغلبها تعود لذكور.
ويومياً يتم إحالة جثث مجهولة الهوية لشبان جرى قتلهم بعد تعذيبهم، إلى المشرحة العدلية، سرعان ما يتبين أنهم قد تم اختطافهم من قِبَل عناصر تحمل أزياء السلطات الأمنية، ويتبين أن عناصر ميليشيات معينة تقوم باغتيالهم بعد تعذيبهم ورمي جثثهم في أطراف المدن.
ارتفاع معدلات حوادث الاختطاف في العراق:
كما شهدت فترة الأعوام الثلاثة الاخيرة ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات حوادث اختطاف الأطباء المشهورين، وأطفال العوائل الميسورة والتجار من قِبَل عصابات منظمة تهدف من وراء عمليات الاختطاف ابتزاز ذوي المخطوف والحصول على مبالغ مالية كبيرة. وهذا ما أكده ـ في تصريح صحافي ـ مدير مكتب الخطف في مديرية الجرائم الكبرى التابع لوزارة الداخلية من أن (الفترة الماضية شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات حوادث الاختطاف في العراق، وأصبح هناك عصابات منظمة ومتخصصة في هذا المجال. وأوضح أن «كثرة الأسلحة في الشوارع، والحبوب المخدرة، وتعلم الناس على القتل نتيجة مشاهد الحروب شجع المجرمين على ارتكاب هذه الجرائم البشعة» .
عمالة الأطفال والتسرب المدرسي:
وإذا كانت هذه الظواهر الاجتماعية السيئة قد نشطت في العراق المحتل في ظل الانفلات الأمني فإن ظواهر أخرى نشأت في ظل الاحتلال لم تكن باختيار ضحاياها الذين كان أغلبهم من الأطفال الذين اضطروا للتوجه إلى كسب لقمة العيش الحلال؛ فمع الظروف القاسية التي خلفتها سطوة الاحتلال الأميركي وفصل عشرات الآلاف من الموظفين سواء بحل وتسريح الجيش العراقي والأجهزة الأمنية والتصنيع العسكري، أم بقرار اجتثاث البعث، اضطر هؤلاء لإجبار أطفالهم على ترك الدراسة والعمل لمعاونتهم في توفير مستلزمات حياتهم بسبب البطالة التي أصابت آثارها كل مفاصل الحياة وبالذات التابعة للقطاع الخاص بعد أن توقفت المصانع الصغيرة التي كانت تضم مئات الآلاف من العاملين. وعن تسرب الأطفال من مدارسهم في ظل الاحتلال أكد وزير حقوق الإنسان العراقي في تصريح صحفي له يوم 6/1/2005 أن هناك حوالي مليون طفل متسرب من المدارس في العراق، ونفس العدد من الأطفال المعاقين والنازحين. وأشار إلى أن 80 % من المدارس في العراق بناياتها غير لائقة تماماً لممارسة العملية التربوية، كما أن 50 % من المدارس تعاني من شح المياه الصالحة للشرب ولا تتوفر فيها الخدمات الأساسية الضرورية كالقاعات الدراسية المناسبة والمرافق الصحية والتشجير. لا شك أن ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس هي إحدى إفرازات الاحتلال والانفلات وعدم المتابعة الجدية من قِبَل أجهزة الحكومة؛ حيث كانت قوانين العراق قبل الحرب تلزم رب العائلة باستمرار أبنائه على الدراسة، وتفرض عليه عقوبات تصل إلى السجن إن تسرب أبناؤه ولم ينتظموا على الدراسة، أما الآن فلا توجد أية متابعة من الحكومة التي لا همَّ لها سوى الانتخابات وتقاسم المناصب الحكومية، وتثبيت نفسها في السلطة بكل الطرق بعيداً عن مشاكل المجتمع.
ارتفاع معدلات الفقر والبطالة في المجتمع العراقي:
من البديهيات الاقتصادية أن زيادة نسبة البطالة تعني زيادة نسبة الفقر خاصة في ظل غياب نظام للرعاية والضمان الاجتماعي أو شبكات الأمان الاجتماعي أو إعانات البطالة. وقد تضاعف عدد الأسر الفقيرة والمتعففة إلى عدة أضعاف عما كان عليه قبل الغزو. وقد صرح وزير العمل والشؤون الاجتماعية في العراق مؤخراً بأن نسبة من يعيشون دون خط الفقر في العراق اليوم تجاوزت الـ 25% في بلد يطفو فوق أكبر بحيرة للنفط في العالم. ولا يبدو في الأفق أي حل صريح وواضح من جانب الحكومة لمعالجة هذه الآفة المستشرية التي تتولد عنها مشكلات اجتماعية أكثر خطورة في الدفع نحو الجريمة أو الانحراف. ربما تكون ظاهرة البطالة هي الأقسى بين الظواهر (الاجتماعية ـ الاقتصادية) في العراق المحتل، وكانت وما زالت هي سبباً أكبر للمظاهرات التي شهدتها المدن العراقية والتي كانت ترفع خطاب المطالبة بالوظائف لكسب الرزق. بدأت هذه المظاهرات بخروج أفراد الجيش العراقي بعد حله والمطالبة بإعادتهم وصرف رواتبهم، ثم اتسعت لتشمل قطاعات شعبية أخرى حيث سقط في شهر واحد أكثر من 20 قتيلاً في مظاهرات جرت في العمارة والكوت والحلة. ولكن هذه المظاهرات اتسعت بشكل أكبر لتطالب بإقصاء المحافظين أو رجال الشرطة أو المسؤولين في المدن بعد أن فشلوا في حل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية ولم يوفروا فرص العمل للعراقيين.
ويعتبر ملف العاطلين عن العمل من أخطر الملفات في العراق، وفي كل يوم تطلع فيه الشمس على العراق يزداد هذا الملف اتساعاً مع استمرار انهيار الأوضاع الأمنية وتراجع عمليات الإعمار والبناء. وأفادت أحدث دراسة أعدتها كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد أن نسبة العاطلين عن العمل بين القوى العاملة في العراق قد وصلت إلى 70 في المائة وهي أعلى نسبة بطالة تسجل في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. إن تسريح أعداد هائلة من العاملين وحل الدولة ووزارات الدفاع والداخلية والثقافة وغيرها أدى إلى إلقاء أولئك العاملين سابقاً في براثن البطالة والفقر، كما أن فصل بعض العاملين لأسباب سياسية زاد من أعداد العاطلين عن العمل ونسبتهم إلى مجموع السكان.
إن دخول قوات الاحتلال الأمريكي الى العراق أحدث شرخاً في العلاقات الاجتماعية فيه؛ فقد أدى الى زيادة أعداد العاطلين عن العمل إضافة إلى حل الجيش العراقي مما أدى إلى حرمان آلاف العائلات من مصدر معيشتها؛ هذه الظروف أدت إلى أن يعيش جزء كبير من الشعب العراقي في ضائقة مالية؛ مما ولَّد الانحراف لدى من لا يجدون عملاً يعتاشون منه؛ لأن الفقر والحاجة هما داء يؤثر في سلوك الإنسان وانحرافه. ومن الطبيعي أن يلجأ بعض العاطلين من هؤلاء للانخراط في تنظيمات مسلحة على شكل عصابات تنشر الرعب والذعر في المجتمع. من هنا نؤكد بأن توفير فرص العيش الشريف في مؤسسات الدولة هو السبيل للخلاص من هذه الأوضاع التي أفرزها الاحتلال، لكن مع الاسف لم نرَ أي اهتمام بهذه المشكلة التي سببت دماراً للاقتصاد العراقي الذي ظل يعتمد على صادرات النفط فقط وأهمل تفعيل باقي القطاعات الاقتصادية، بل إننا لم نرَ من عائدات النفط أي شيء سوى الكلام، بل نحن كعراقيين نتساءل: أين واردات النفط؟ لأنه عندما نذهب إلى أي مؤسسة ونطالبها بتفعيل دورها وإفساح المجال أمام العاطلين فإن الجواب يكون: «لا توجد مخصصات مالية» مع أن واردات العراق خلال العامين الماضيين رغم تذبذبها تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات كما يفترض.. فأين هي؟ إن نظرة فاحصة لثلاثة أعوام من الاحتلال نجد أن الاقتصاد العراقي تحوَّل إلى الأسوأ بعد أن كان سيئاً، ولم نجد خلال هذه الفترة من يقوم بنفض الغبار عن البلد وخدمته بكل نزاهة.
انتشار آفة المخدرات في المجتمع العراقي:
يشكل تعاطي المخدرات والإدمان عليها مشكلة تربوية اجتماعية؛ لأن آثارها تمتد إلى تهديد كيان المجتمع وتخريب وإفساد العقول. وقد تعرض العراق إلى هجمة شرسة خلال أعوام الاحتلال استهدفت تعطيل إمكاناته وتخريب اقتصاده بتفشي ظاهرة المخدرات بين بعض فئات المجتمع المهنية والعمرية وخاصة الطلبة والشباب والعمال. إن مشكلة المخدرات لم تعد مشكلة سلوكية فقط، وإنما امتدت آثارها إلى المستوى الصحي والسياسي والاقتصادي، ومن الواضح أن تعاطي المخدرات حالة نفسية، وفي الغالب يدمَن عليها في غياب الرقابة الطبية والاجتماعية، فضلاً عن أن هناك مواد تؤدي إلى التعلق بالمخدرات يصعب معها عدم الوقوع في فخ الإدمان عليها، ولا توجد في الوقت الحاضر أية وسيلة للتصدي لإدمان المخدرات والمشاكل المصاحبة لغياب الأمن والرقابة وانفلات الحدود وتفشي الفساد الإداري.
المنظمة الدولية لمراقبة تهريب المخدرات التابعة للأمم المتحدة في تقريرها السنوي الأخير كشفت أن العراق قد تحول إلى محطة مرور (ترانزيت) لنقل الهيروين المصنَّع من أفغانستان وإيران إلى أوروبا، وقال رئيس المنظمة حامد قدسي: «إن الهيروين والمخدرات المستخرجة من الأفيون المزروع في أفغانستان وإيران تنقل عبر العراق إلى الأردن ودول الخليج؛ حيث ترسل إلى الأسواق في أوروبا» وأضاف: «لقد أصبح هذا الوضع ممكناً بفعل الوضع الأمني الداخلي في العراق؛ حيث تنعدم المراقبة على الحدود، مما يمكن المهربين من الدخول إليه بزي زوار عتبات مقدسة» . وقال قدسي: «إن كميات كبيرة من القنب الحشيش صودرت على الحدود الأردنية العراقية خلال السنة الماضية» مؤكداً: «أنه من الضرورة القصوى أن تأخذ الحكومة العراقية والأسرة الدولية الإجراءات الوقائية التي يجب أن تفرض قبل استفحال الأمر» . وحث قدسي المجتمع الدولي والحكومة العراقية على العمل معاً قبل أن يترسخ طريق دولي لتهريب المخدرات عبر البلاد، مؤكداً أن مشكلة المخدرات يجب أن تحتل أولوية قصوى حيث قال: «إن ما يحدث في العراق (تهريب المخدرات) هو نموذج معتاد لما يحدث في أعقاب الصراعات المسلحة، حيث تتحول البلاد بسبب ضعف الرقابة على الحدود وتراخي الإجراءات الأمنية إلى معبر «لوجيستي» ملائم للمسلحين وتجار المخدرات على السواء» .
الصحف العراقية نقلت عدة تصريحات لمسؤولين محليين أنه قد تم ضبط ومصادرة مئات الكيلو غرامات من المخدرات في مدن العراق، كانت قد أدخلت إليها عبر إيران. وأقر المصدر بأن كميات كبيرة من المخدرات دخلت إلى البلاد من إيران، وتحدث عن تزايد استهلاك المخدرات في صفوف الشباب؛ موضحاً أن أطرافاً خارجية ضالعة في تهريب المخدرات؛ لأن لها ـ كما قال ـ مصلحة في الإبقاء على حالة الفوضى وعدم الاستقرار الأمني في العراق. كذلك أكد مصدر رسمي بوزارة الصحة العراقية تزايد إدمان المخدرات؛ فقد أعلن قائلاً: «إن إحصائية الصحة الأخيرة أظهرت أن من بين كل عشرة شباب ممن تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 30 سنة ثلاثة منهم مدمنون على المخدرات «الإيرانية» التي دخلت من إيران، والتي تعتبر من أخطر الأنواع حيث تعمل على إتلاف الجهاز العصبي بشكل كامل خلال أشهر» . وأكد: «لقد سجلنا حالات وفاة عديدة من تأثير تلك المخدرات التي دخلت إلى العراق ولا تزال تدخل يومياً من إيران تحت مسمع وعلم القوات الأمريكية والعراقية على حد سواء» . وقد أبدت الهيئة الوطنية لمكافحة المخدرات في العراق قلقها من تزايد أنشطة عصابات تهريب المخدرات داخل العراق؛ خاصة بعد إعلان الحكومة العراقية موافقتهاً على استئناف دخول الزوار الإيرانيين للأراضي العراقية وبأعداد هائلة، مؤكدة أن «آفة المخدرات والمواد ذات التأثير النفسي أصبحت عاملاً آخر يضاف إلى طرق الموت العديدة التي تستهدف شريحة الشباب العراقي كل يوم، وتنذر بتخلي البلد عن موقعه ضمن قائمة الدول الفتية، وتضيف له دماراً آخر يزيد من أعباء الحكومة الجديدة» . وقد أعلنت وزارة الصحة العراقية على لسان مدير برنامج مكافحة المخدرات الدكتور (سيروان كامل) : «إن ما خلفته الحرب من فوضى وانفلات أمني مريع هيأ فرصة ذهبية لتجارة المخدرات الداخلية والخارجية مستفيدة من كثرة العصابات والجماعات المسلحة لتنشط حركة مافيا المخدرات وتجعل العراق محطة «ترانزيت» نحو دول الخليج ودول إقليمية أخرى؛ إضافة إلى تكوين سوق حرة داخلية نجم عنها تحويل مشكلة الإدمان من المسكرات والعقاقير المهدئة إلى المخدرات، وهناك دلائل تم الحصول عليها عن طريق استجواب عدد من المتاجرين بالمخدرات بعد إلقاء القبض عليهم في مناطق متفرقة من العراق، وهم من جنسيات مختلفة» .
وقال رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة المخدرات الدكتور صلاح عبد الرزاق: «إن مسحاً حديثاً أجرته الهيئة أظهر وجود 588 مدمناً في جزء واحد من العاصمة بغداد، وإن أقل من نصفهم (258) زاروا مستشفى ابن رشد التخصصي للعلاج» . وتقول الهيئة: إن استهلاك المخدرات التي كان نادراً ما يسمع بها في المجتمع العراقي قد أصبح ظاهرة عامة خاصة الكوكايين والهيروين والحشيش. وتعتبر الهيئة الافتقار للأمن والبطالة سبباً رئيساً لاستهلاك هذه المادة السامة، بينما ساعدت الفوضى على جعل العراق معبراً لتهريب المخدرات القادمة من إيران وأفغانستان بشكل خاص إلى الدول المجاورة.
تفشي ظاهرة الفساد الإداري:
ازدادت مظاهر الفساد الإداري في الجهاز الحكومي ودوائر الدولة بعد الاحتلال، وقد أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي عن الفساد في العالم، تبين من خلاله أن (العراق) يحتل مرتبة متقدمة بين الدول الأكثر فساداً في العالم. فعلى سبيل المثال: تشكو المؤسسات الصحية العراقية من تردي الواقع الصحي وانتشار الأمراض والفساد المالي وسرقة الأدوية، وأعلن رئيس هيئة النزاهة العراقية القاضي (راضي الراضي) أن نسبة الفساد المالي والإداري في الوزارات العراقية وصل إلى 70 % مع ضعف المعالجات لانتشار هذه الظاهرة.
ظاهرة اغتيال واختطاف العلماء والأكاديميين:
لقد انتشرت بعد الاحتلال وبشكل واسع ظاهرة اختطاف واغتيال العلماء والأكاديميين والأطباء العراقيين بهدف تفريغ العراق منهم، وإجبار الآخرين على الهجرة؛ وتتحدث الأخبار عن اغتيال مئات من العناصر العلمية العراقية (تجاوز الألف عملية لحد الآن) وقيدت تلك الجرائم ضد مجهولين، ويشير العراقيون إلى دور لمخابرات أجنبية (الصهيونية والإيرانية تحديداً) في تنفيذ تلك الاغتيالات. ويشكل مسلسل الاغتيالات الذي يستهدف شخصيات سياسية وأكاديمية ومهنية في العراق رعباً قائماً للعراقيين الذين يعتقدون بوجود تنظيمات ذات خبرة واحتراف وراء تلك العمليات. ونشرت جريدة الزمان العراقية يوم (22/3/2005) نقلاً عن مصادر عراقية على صلة بأجهزة وزارة الداخلية أن ألف عراقي لقوا مصرعهم في عمليات اغتيال من العناصر العلمية والثقافية والفنية وأغلبهم من الأطباء وأساتذة الجامعات والمهندسين في قطاع التصنيع العسكري السابق خلال الأشهر التي أعقبت سقوط النظام السابق، ولم يرد في الإحصائية شيء من اغتيالات الموظفين الصغار في دوائر الدولة بالمحافظات، ويشير العديد من المحللين السياسيين بأصابع الاتهام إلى «الموساد» الإسرائيلي الذي يتولى ملف هؤلاء العلماء، ويقود حملة لاجتثاثهم أو تهجيرهم أو اغتيالهم خشية أن يهاجروا إلى دول عربية أو إسلامية، مؤكدين أن ذلك المخطط الإجرامي أصبح أمراً معروفاً ومكشوفاً، وقد أشارت إليه الكثير من وسائل الإعلام الغربية.
ونتيجة لتصاعد عمليات القتل تملَّك الخوف والرعب بعض الأساتذة بالرغم من أنه لم يتم إثبات أي علاقة بين هذه الاغتيالات ووظائفهم. وبحسب مصادر إعلامية فإن العشرات من العلماء والكفاءات العلمية العراقية بدؤوا بالفعل بمغادرة بلادهم للنفاذ بجلدهم من التصفيات الجسدية التي تنفذ أحياناً لأسباب تتعلق بوجهات النظر والآراء السياسية، فضلاً عن أسباب أخرى تتعلق بتدني أجورهم التي يقولون: إنها لا تتناسب مع شهاداتهم العلمية ولا مع الظروف المعيشية. وقد أجملت سلطات التحالف عدد الذين تمت تصفيتهم في العراق عن طريق الاغتيالات منذ مطلع أيار 2005م بـ 1000 مواطن عراقي غالبيتهم من النخبة، بينما قال مسؤول عراقي آخر رفض الكشف عن هويته: «إن سياسة فصل العلماء العراقيين من وظائفهم وُضعت في تل أبيب بهدف الاقتصاص من منفذي برامج العراق العلمية» . وأكدت أوساط عراقية مطلعة في بغداد أن الموساد الإسرائيلي طلب من المخابرات الأمريكية ترك ملف العلماء العراقيين برمته إلى عملاء الموساد في العراق، مشيرين إلى أن الموساد يريد تهجير هؤلاء العلماء أو اغتيالهم إذا رفضوا التعامل معه.
انتشار الأمراض والسرطان ازداد بنسبة 300%:
لن تجد مكاناً آخر غير العراق في ظل الغزو والاحتلال، أفضل للاستشهاد بالمثل العربي الشهير (تعددت الأسباب والموت واحد) فمن لم يمت تحت وقع القصف الأميركي وحوادث الانفجارات وأعمال التصفيات والاغتيالات المنظمة، وأفعال الخطف والقتل التي باتت سمة يومية للحياة البائسة في عراق افتقد أغلى نعمتين: الصحة والأمان، من لم يمت بتلك مات تحت وقع الأمراض الخبيثة بأنواعها، ونهشه السرطان من كل جهة. ومقابر العراق اتسعت ولم يعد في المقابر الحالية متسع، ومشرحة الطب الشرعي في الباب المعظم تشكو من اكتظاظ الجثث، والمستشفيات تعاني من قلة الإمكانات وشحة الدواء ونقص الأطباء المتخصصين الذين باتت أيادي خفية وبجهد استخباري منظم، تستهدفهم بالقتل والخطف والاغتيالات، ومن نجا منهم هرب وترك العراق التماساً للأمن والحياة؛ والسرطان بعد أن كان مرضاً يسمع عنه العراقيون، باتوا يعانون منه ومن تصاعد معدلاته التي زادها الغزو ونقصان الأمن وشحة الدواء وهزالة إمكانات المستشفيات ألماً وقسوة ومعاناة. وقد أكد خبير في شؤون البيئة أن الزيادة المضطردة في نسبة أمراض السرطان في العراق سببها «التلوث البيئي الكبير» الناتج عن الاستخدام المفرط للمواد الكيميائية والمشعة في البلد. وقال رئيس قسم البيئة والصحة المهنية في (جامعة ستوني بروك) الأميركية (الدكتور وجدي الحلو) : «إن البيئة في العراق ملوثة لدرجة كبيرة مما أدى إلى ظهور العديد من أمراض السرطان والجلد والتنفس» . وأوضح (الحلو) أن: «البيئة في العراق عانت بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين من استخدام الأشعة والكيماويات في الحروب والصناعة والاستعمال اليومي من دون اعتبار للبيئة» .
دراسات عديدة أجريت في العراق وخارجه أكدت تزايد حالات الإصابة بالسرطان وبالأخص بين الأطفال بنسبة 300 بالمائة عما كانت عليه قبل 1990م. وأظهرت دراسة أجريت حول أمراض السرطان في مدينة البصرة الجنوبية أن نسبة أمراض السرطان ارتفعت في السنوات الماضية من 11 حالة لكل 100 ألف شخص عام 1988 إلى 116 حالة عام 1991 و 193 حالة عام 2002م. وأظهرت الدراسة التي نشرتها (وكالة إيرين للأنباء) التابعة للأمم المتحدة أن حالات الإصابة بالأورام وسرطان الدم لدى الأطفال تحت سن 15 عاماً ارتفعت ثلاثة أضعاف منذ عام 1990 وزادت الإصابات في المناطق التي استخدمت فيها أسلحة اليورانيوم المخصب.
أطباء العراق يهربون من الاغتيال والتصفيات:
ومما زاد من الحالة الصحية المأساوية في العراق سوءاً وخطراً أعمال الاغتيالات والتصفيات والخطف التي تعرض لها المئات من الأطباء والكوادر الصحية العراقية المتخصصة؛ إذ يقول مسؤولون عراقيون إن أعداداً متزايدة من أطباء العراق الذين يمثلون جانباً من أهم الموارد البشرية في البلاد يفرون منه بسبب العنف المتواصل طلباً للأمان والأجور الأفضل في الخارج، ويضيفون أن المهنيين المهرة بدؤوا يرحلون من البلاد بشكل مطرد منذ الغزو عام 2003؛ لكن تزايد حوادث الاغتيال والخطف بشدة في العام الأخير أدى إلى ارتفاع أعداد الأطباء العراقيين الذين يغادرون البلاد.
وكانت وزارة التعليم العالي العراقية قد أعلنت أن عدد المهاجرين من أساتذة الجامعات تجاوز ألفي أستاذ مما دفع الوزارة إلى غلق 152 فرعاً تخصصياً في ميدان الدراسات العليا؛ بينما تعج الأردن وسورية بالأطباء العراقيين الذين يبحثون عن عمل إلى درجة أن الحكومة السورية افتتحت مؤخراً مستشفى خاصاً لاستقبال الأطباء العراقيين الذين هاجروا من بلدهم. [أخبار الخليج البحرينية 18/9/2005] .
ü تُرى من يعيد للعراق أمنه واستقراره؟!
سؤال يُطرَح بعد أن امتد الاحتلال الأميركي كل هذه الشهور الطويلة، دون أن يتحقق للعراق الأمن والاستقرار، ودون أن يتحرر العراقيون من الخوف والقلق والتوتر، ودون أن يعود إلى المواطن العراقي العيش الكريم والحياة الطبيعية الهانئة، والاطمئنان، وكل ما فقده لسنوات طويلة من الحرب والعدوان والاحتلال. فالمزاعم التي حملها المحتلون ما تزال «مزاعم» ! والادعاءات بالحرية والاستقرار ما فتئت أوهاماً، والذين ظنوا أن الانتخابات جلبت لهم الحرية يدركون الآن وَهَْم «الأصابع البنفسجية» وزيفَ «الحملة الإعلامية» التي ارتبط بها!
قد لا يهتم المواطن العراقي بالجمعية الوطنية وخلافات أعضائها على مكاسب الحكم وكراسي السلطة ما دام يفتقد إلى العيش الكريم، أو يعيش في ظل مخاطر السيارات المفخخة والانفجارات المتوالية والاغتيالات والخطف وتهديدات بعض العصابات المسلحة التي تعبر عن أحزاب وهمية، أو تنظيمات سياسية طارئة لم تستقر في وجدان الناس، ولم يعرفوا لها وجوداً بينهم من قبل.
والمواطن العراقي نفسه أسير هذه الجهات التي تلعب بمصائر الوطن العراقي، وتخطط لتقسيمه وتمزيقه او تسعى لاقتسامه مناطق نفوذ، وفقاً للميليشيات، أو المرجعيات أو الطائفيات، ولتجعل من تاريخه وعروبته وإسلامه نسياً منسياً أو حقبة عابرة. وقد لا يكون كل هذا وارداً في حسبان الناس أنفسهم، وإنما هي أطماع بعض الأشخاص الذين جلبهم الاحتلال معه من الخارج، وأعطاهم النفوذ والسلطة والسلاح والمال والدعم. ولا يستطيع أحد أن يزايد على معاناة الشعب العراقي الممتدة لسنوات طويلة، ولا أن يقفز عليها بسبب ما واجهه من حروب داخلية وخارجية، غير أن الحلول التي استنبطها المحتلون وحلفاؤهم وأشياعهم لم تؤمِّن للشعب العراقي أية فرصة للتنفس خارج نطاق الخوف والألم والفجيعة.
__________
(*) باحث عراقي في الشؤون الاجتماعية والقانونية.(225/12)
جيش المهدي بعد أحداث سامراء
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
برز جيش المهدي على الساحة العراقية من جديد بعد أحداث تفجير المسجد المذهب في سامراء في 22 شباط (فبراير) الماضي 2006م، ولكن هذه المرة ليست كبروزه في مايو 2004 في معركته مع القوات الأميركية حينما اكتسب تأييداً جماهيرياً كبيراً، بل ظهر هذه المرة كأبرز ميليشيا طائفية تحارب أهل السنة وتعتدي عليهم في مناطق نفوذها.
عبد الله علوان البدري
فبمجرد الإعلان عن تفجير أضرحة الشيعة (1) انتشرت عجلات مدنية تحمل المقاتلين الشيعة في بغداد خاصة ومدن عراقية أخرى، وبدأت عمليات حرق المساجد وقتل أئمتها والمصلين فيها أو اختطافهم وتعذيبهم والتمثيل بهم سراً وعلانية ... وكذلك عامة أهل السنة حيثما انفردت بهم تلك القوات ... فجاء تحرك (جيش المهدي) وباقي الميليشيات الشيعية في تناغم سابق التخطيط وبمنتهى الإتقان مع ذلك الحدث الجلل. وشهادات الشهود المؤكدة أن من قام بالعملية هم عناصر من قوات حكومية وبالتحديد مغاوير الداخلية الذين ينتمون أصلاً إلى فيلق بدر (الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) ، تلك القوات التي تأسست على يد الائتلاف الشيعي الحاكم.
ويعمل جيش المهدي الذي أُعلن عن تشكيله أثناء صلاة الجمعة في الكوفة من قِبَل زعيمه (مقتدى الصدر) بعد الاحتلال بستة اشهر بنظام السرايا التي لا تتجاوز غالباً الخمسين مقاتلاً من عامة الشيعة الذين ينضمون إليه عن طريق هيئات تشكلت في الحسينيات والجوامع التابعة للتيار الصدري، وهم يعملون متطوعين بلا مخصصات مالية ثابتة معتمدين فقط على نظام العطايا وما يوزع عليهم من الخُمْس؛ إضافة إلى تقديمهم في فرص العمل لدى الدولة وخاصة في أجهزة الأمن من شرطة وقوات الأمن كجزء من الاتفاقات المعقودة بين التيار الصدري وبين حكومة الائتلاف الشيعي.
ومن أبرز تلك السرايا سرية الشيخ محمد الصدر في مدينة الصدر، وسرية الشيخ مصطفى الصدر في بغداد الجديدة، وسرية الشيخ مؤمل الصدر في منطقة الشعب وحي أور، وسرية الشيخ علي الكعبي وسرية الشيخ حسين السويعدي وكلها في بغداد، وهي في معظمها أسماء لمن يعتبرهم التيار الصدري شهداءه إبان حكم نظام صدام حسين، ويكون عدد أفراد السرية غالباً متعلقاً بقوة الزعيم الشيعي الذي يقودها وحجم المساحة الجغرافية أو السكانية التي يتولاها، وقد تتعدد السرايا في المنطقة الواحدة كما هو الأمر في مدينة الصدر في بغداد.
ولم يكن لجيش المهدي تجهيز بالسلاح من قِبَل القيادات، بل كان المقاتل منهم يأتي بسلاحه الشخصي، معتمدين على بعض العشائر الشيعية في جنوب وجنوب وسط العراق التي استولت على كمية كبيرة من أسلحة الجيش العراقي السابق مما قلل من المتاجرة ببيع هذه العشائر السلاح المتوسط والثقيل للمجاهدين السنة خاصة في جنوب العاصمة بغداد، إلا أن الأمر تغير تماماً عندما توافق الصدريون مع إيران التي زودتهم بشتى أنواع الأسلحة ولكن بالطريقة التي تضمن تفوق فيلق بدر (الأكثر ولاء لها) دائماً من ناحية التسليح.
ثم كانت المواجهة التي خاضها جيش المهدي مع قوات الاحتلال الأميركي في النجف وبغداد ومدن جنوبية أخرى، وانتهت خلال شهرين بهدنة بين الطرفين برزت بعدها قوة جديدة داخل الجيش اصطُلح عليها بـ (فرسان الهدنة) ثم جرى المصطلح بين الصدريين على كل السرايا التي تتصرف بطريقة لا ترضي جماهيرهم، وأصبح مسمى (فرسان الهدنة) إشارة إلى أن القوة تلك ليست مرتبطة تماماً بالتيار الصدري، بل مدعية لذلك فحسب، ولكن زعيم الجيش (مقتدى الصدر) لزم الصمت ولم يتدخل لمنع هذه السرايا من الاستمرار في العمل باسم (جيش المهدي) وقد أخذت بالتوسع مدعومة من الدولة وأحزاب شيعية أخرى وقوى خارجية حتى أضحت أقدر من باقي سرايا (جيش المهدي) على كسب المقاتلين والانتشار في المناطق السنية مستفيدة من تسهيلات قدمتها أجهزة الدولة الأمنية وهي السرايا التي يحاول زعماء التيار الصدري ومنهم (مقتدى الصدر) اتهامها بالاشتراك في الحرب الطائفية ضد أهل السنة!
وكان الانتقال الأخطر لـ (جيش المهدي) في الشتاء الماضي عندما خرج ملايين الشيعة في مظاهرات حاشدة تلبية لنداء الزعيم (مقتدى الصدر) مطالبة الحكومة العراقية بتوفير الخدمات الأساسية للمواطن العراقي، وأمهلت الحكومة 72 ساعة لتلبية طلباتها، إلا أن المتظاهرين انسحبوا بعد أن أذعنت الحكومة للشروط غير المعلنة التي تم الاتفاق عليها مع زعيم التيار بتوفير آلاف الوظائف لجماهيره، وزج قيادات وأفراد جيش المهدي في قوات الشرطة والحرس الوطني ومغاوير الداخلية وعلى الأخص قوات حفظ النظام التي تميزت بمسميات دينية شيعية، ومنذ ذلك التأريخ والتيار الصدري يتفانى في خدمة الحكومة والحفاظ على مصالحها، وقد أحال حسينياته إلى ثكنات عسكرية ومفارز لسيارات الشرطة والأمن.
وحسب معلومات مؤكدة للأمم المتحدة فإن (جيش المهدي) تقاسم مناطق النفوذ في العراق وبغداد خاصة مع الحكومة المؤقتة، وكان ضمن مناطق سيطرته الشريط الشرقي للعاصمة بغداد فيما يسمى شرق القناة؛ حيث تقع مدينة الصدر المعقل الرئيس لـ (جيش المهدي) والثكنة العسكرية الأكبر له، وقد تحولت كل الحسينيات والجوامع التابعة للتيار الصدري إلى ثكنات علنية لـ (جيش المهدي) ، وكذلك لسيارات الشرطة العراقية وقوتي مغاوير الداخلية وحفظ النظام.
وكان من أهم المواقف التي افتُضح فيها (جيش المهدي) ممارساته الطائفية ضد أهل السنة؛ فهناك (فِلمٌ مصور) يظهر فيه زعيمه مقتدى الصدر وهو يأمر بتوجيه قواته إلى مدينة (تلعفر) ضمن قوات الجيش العراقي، ويقصد تحديداً الحرس الوطني؛ حيث استبيحت المدينة عن بكرة أبيها بمساندة من القوات الأميركية التي بدأت أول عمل مشترك هناك مع (جيش المهدي) إلا أن الصدر تدارك الأمر، وكذَّب هو ووكلاؤه الشريط المصور، وتقبَّل عامة المسلمين السنة التكذيب حينها لموافقته رغباتهم غير الطائفية في التعايش مع الشيعة، حتى كذبت أحداث ما بعد سامراء تلك الآمال وأظهرت (جيش المهدي) وقيادته على حقيقة حالهم.
وبعد التصعيد ضد أهل السنة ومقدساتهم من قِبَل (جيش المهدي) أقامت بعض سرايا الجيش العراقي مفارز في الطرف الغربي لمدينة الصدر لصعوبة التغلغل داخل المدينة لقلة وجود الصدريين بين أفراد الجيش العراقي، وتمكنت من إلقاء القبض على أكثر من ثلاثمائة مقاتل شيعي عامتهم من جيش المهدي، ومع ذلك تم التكتم على الموضوع، ثم توالت إعلانات وزارة الدفاع عن إلقاء القبض على فرق موت أخرى؛ إلا أن أي نتيجة للتحقيق لم تعلن بعد؛ بينما تأكد إطلاق سراح كثيرين منهم.
وكان التيار الصدري قد دخل على استحياء الانتخابات النيابية الماضية ضمن قائمة الائتلاف برغم خصومته المعلنة مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وفيلق بدر وعبد العزيز الحكيم شخصياً، لكنه ارتقى في ولائه لحزب الدعوة الذي تربطه به علاقة تاريخية تعتمد على تنحية فكر الصدر الثاني وهو الخصم اللدود للتيار الشيعي الصفوي والعودة إلى الصدر الأول مؤسس التيار الصدري وحزب الدعوة معاً، حتى أصبح الصدريون الدعامة الرئيسة لرئيس الوزراء السابق (إبراهيم الجعفري) والمطالبين بقوة لاستمراره لكونه أكثر من حقق لهم رغباتهم الطائفية، وسهل على غلاة الشيعة تحقيق أحلام الأجداد في تقتيل أهل السنة تحت مسمى (الوهابية) واستباحة بيضتهم بطريقة غوغائية بشعة، فكانوا السبب الرئيس وراء أزمة تأخر تشكيل الحكومة العراقية الجديدة واستمرار حالة الفوضى الأمنية، وتأخير العمل بالنظام الأمني الجديد واستمرار مسلسل القتل اليومي لأهل السنة مما أسهم في تراجع ترشيحه رئيساً للوزراء، وجاء البديل (جواد المالكي) وهو القائد العسكري لميليشيا حزب الدعوة.
وقد شملت التحولات في موقف الصدريين توطيد العلاقة مع إيران إلى حد التهديد بالدفاع عنها عسكرياً لو أنها تعرضت لخطر أميركي محتمل كما جاء على لسان (مقتدى الصدر) وشمل هذا التطور مد إيران جيش المهدي ـ سيئ التسليح ـ بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، وقد تسلم (جيش المهدي) فعلياً شحنات من الأسلحة المتطورة والعادية شملت القاذفات والرشاشات الثقيلة والصواريخ المضادة للطائرات، واتخذ الجيش من حسينياته مقرات لها.
وفي هذا التطور تكون القوى الشيعية الغالية قد اجتمعت بطريقة لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث، ولكنه اجتماع غير منضبط ولا يمكن ضمان استمراره؛ فبين الحوزتين (الفارسية) و (العربية) أو ما يسمى بالحوزتين (الصامتة) و (الناطقة) من الخصومة الشيء الكثير من تاريخ مليء بالدماء والثارات والاختلاف على الحقوق الشيعية (الخُمْس) ومردودات السياحة الدينية والدخول المتأتية من الأضرحة والمزارات ما لا يمكن أن يذوب نهائياً في ليلة وضحاها ولو للمصلحة المشتركة في الحرب على أهل السنة!!
لكن هذا الاجتماع خطير جداً برغم كل المعوقات والمنغصات؛ فالمساعدات الشيعية تجتمع إلى قيادات تلك التيارات من كل حدب وصوب؛ وقد تفانى شيعة المنطقة الشرقية في السعودية وغيرهم في البحرين والكويت وغيرهما في دفع هذه الميليشيات ودعمها بالقوة السياسية والمال، وفي المقابل فإن شباب شيعة تلك الدول حصلوا من هذه الميليشيات ـ شبه الحكومية ـ على فرصة نادرة في التدريب على السلاح والإعداد العسكري، في حركة دؤوبة لوصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب لاستثمار الفرصة التاريخية التي فتحت الباب مشرعاً أمام شيعة المنطقة لإثارة القلق والاضطرابات في كل دول جوار العراق.
__________
(1) الحقيقة أن الضريحين ليسا أضرحة للشيعة فقط بل هما من أئمة أهل السنة فضلاً عن وجودهما في منطقة السنة، وكان أهل السنة هم المشرفين على الضريحين وكما قيل فإن أهل سامراء من أحفاد هذين الإمامين الجليلين، ونسبتهما للشيعة فيه نظر ويحتاج إلى تصحيح، إلا أن اتخاذ قبريهما أضرحة يطاف بها ويُتعبد عندهما، لا يقره الإسلام ولا يقره هذان الإمامان الجليلان، وليس لهما ذنب في تلك الأفعال كسائر الأئمة الذين بنيت فوق قبورهم المشاهد.(225/13)
أمريكا وإيران تحالف أم طلاق؟
د. نعمان السامرائي
كلما جرى الحديث عن العلاقة بين أمريكا وإيران، انقسم المتحدثون إلى فريقين متضادين يدعي أحدهما وجود تحالف «شبه أبدي» وزواج كاثوليكي (لا طلاق معه) . ويدعي الطرف الآخر أن الطلاق وقع، والفراق تمّ، ونحن بانتظار المراسم النهائية، كل طرف يبحث عن أدلة فيجدها هنا أو هناك ... لست مختصاً بهذه العلاقة، ولكن اهتمامي بالقضية العراقية يدفعني للمتابعة، ولديّ قناعة مفادُها: (أمريكا سوبرماركت فيه بضائع من كل شكل ولون) وكل من يبحث عن بضاعة سيجدها، ولا توجد فكرة مهما عظمت أو سخفت إلا ولها بين الأمريكان «مُريد» ومُعجب.
وهذا يجعل من كل من يتبنّى موقفاً أن يجد له في المطروح أكثر من شاهد ودليل.. وأنا أعتقد أن ما كتبه الأستاذ «جهاد الخازن» في صحيفة الحياة من أن أمريكا اتخذت قرار ضرب إيران انتهى، ويجري البحث في التفاصيل فقط.
المحرض الأول على «الضرب» هي الدولة الصهيونية وخدمها في السياسة الأمريكية ومراكز البحث وغيرها، بحيث صار هذا الموضوع المزاد اليومي ... الدولة الصهيونية لا ترضى أن تمتلك دولة مجاورة السلاح النووي، وهي تنادي بذلك من سنوات، وما جرى لمفاعل (تموز) العراقي خير دليل، بل هي تعمل بشكل منظّم كي لا يصل للعرب أيُّ سلاح متقدّم، وهي تحارب في هذا في كل اتجاه، وتسجل النجاح بعد الآخر، وفي دفع الدولة الصهيونية بهذا الاتجاه تفيد القول للحليف الأمريكي: (تضربون إيران أم نقوم عنكم بذلك؟) .
الدولة الصهيونية تريد أن تفعل أمريكا ذلك، كي تصل في النهاية إلى أن كل العالم ضد أمريكا والدولة العبرية، وكأن ذلك قدر إلهي لا مفرّ ولا مهرب منه، وأنها لن تخسر كثيراً، لكن الخسارة من نصيب أمريكا والدول المجاورة لإيران؛ فالمنطقة شهدت حروباً متوالية، وغير مستعدة لحرب مجنونة جديدة لا تبقي ولا تذر ...
شخصية أمريكية ـ وأحسبها دنيس روس ـ كان يتحدث في جامعة أمريكية فسئل: نلاحظ حصول مفاوضات مطوّلة مع إيران دون نتيجة ... ؟ ردّ على الفور: العلاقة مع إيران تُرسَم وتقرر في تل أبيب وليس في واشنطن..!!
ألاحظ حين كانت المعارضة العراقية تجتمع ـ خارج العراق ـ كانت المخابرات الإيرانية تحضر تلك الاجتماعات ـ كمستمع ـ وتزوّد حلفاءها العراقيين بما ترى، وتنصحهم بالتعاون مع الأمريكان، لكنها تمدّ بعض المقاتلين في العراق بالمال والسلاح، وقد ذكر المرجع الشيعي (البغدادي) تدخّل المخابرات، كما ذكرها مراراً محافظ كربلاء، فالتدخل الإيراني لم يعد خافياً.
أما وزير داخلية العراق ـ الأول بعد الاحتلال ـ فكان يصرح بأن إيران تبعث للعراق بزوّار ورجال مخابرات وتجار مخدرات.
لكن الأمريكان حرصوا على عدم إثارة شيعة العراق، كي لا ينضمّوا للسنة، ونشر بعض هذا في الصحف، مثل: صحيفة (الحياة) .
قبل أيام قابلتُ رجلاً إيرانياً سألته: هل تحاربون؟ قال: إذا اعتُدي علينا، وزاد: لقد وضعنا بلايين الدولارات في هذه المفاعلات واشتغلنا سنين طويلة، فإذا ضربت فلن ندّخر شيئاً نقدر على فعله، سنحرض كل متعاطف معنا وسنجعلها حرباً شاملة. قلت: حين قامت الثورة الإيرانية حدث إنزال من طائرات هيلوكبتر أمريكية جنوب إيران بعد أن سحقت كل الرادارات في إيران، وتكرر هذا أيضاً عند ضرب مفاعل (تموز) في بغداد.. قال الرجل: هذه الوقائع صحيحة لكن بيننا وبينها عشرات السنين، وكل شيء تغير، ولن نسلّم ولن نسكت ولن يسكت حلفاؤنا، ثم قال: عندنا مَثَلٌ يقول: «مجنون يلقي حجراً في بئر، فيتعاون مئة عاقل لاستخراجه» ، الحرب يشعلها مجنون، وما أكثر المجانين والمهووسين اليوم، وما أسهل إشعال الحرب، وما أصعب أن تُطفأ.
أمريكا الآن تُجري مفاوضات مع إيران، وكل طرف يريد منها نتائج غير ما يريده الطرف الآخر، والسؤال: إذا فشلت هذه المفاوضات، فهل يتم ضرب المفاعلات الإيرانية فتشتعل الحرب في المنطقة؟ أم يتم التفاهم على حساب العراق والعرب، ويجري تقاسم النفوذ، وتفشل سياسة العدو الصهيوني في التحريش والتحريض؟
ذكّرت الشخص الإيراني بما حصل لـ (صدام) والنتائج الكارثية لسياسته، فقال: «لسنا (صدام) ـ ولا مؤاخذة ـ ولا نحن مثل العرب، وسنحارب حرباً يسجلها التاريخ بعد أن سجل لنا ثورة لا مثيل لها في التاريخ.
فإذا التقى الإعجاب الإيراني بالنفس، مع العجرفة الأمريكية، مع التحريض الصهيوني؛ فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يلطف بالمنطقة وبالعالم.(225/14)
سيناريوهات الكيان الصهيوني للتعامل مع حماس
محمد زيادة
سيناريو الحرب المُفضل للقادة الإسرائيليين
خبير صهيوني: حماس أجبرت الإسرائيليين على عدم وجود رؤية تجاهها
لا تزال حركة حماس تشغل المساحة الكبرى من اهتمامات وسائل الإعلام العبرية، المقروءة منها والمسموعة والمرئية كذلك، ولم يكن فوز حماس بالانتخابات البرلمانية الفلسطينية في الخامس والعشرين من يناير المنصرم، إلا موعداً مع ميلاد «وضع جديد» داخل الأجهزة الأمنية الصهيونية خاصة الداخلية المتمثلة في جهاز الأمن العام «الشاباك» ، وشعبة «أمان» المخابراتية، فضلاً عن ميلاد الوضع الجديد نفسه في جهاز المخابرات الخارجية «الموساد» .
لذلك رأت قيادات تلك الأجهزة الاجتماع مراراً منذ الأول من فبراير الماضي، حتى توصلوا في نهاية مارس إلى عدة سيناريوهات، لتنفيذ أحدها مستقبلاً مع الحكومة الفلسطينية الجديدة بقيادة حماس.. لكن هذه السيناريوهات جميعها أدت بالكاتب الصهيوني الشهير، خبير الشؤون الأمنية بصحيفة هآرتس (زئيف شيف) للتأكيد على أن وضع هذه السيناريوهات يثبت أن حماس أجبرت الحكومة الصهيونية على عدم قدرتها على وضع تصور واحد ومُحدد، للتعامل معها في الفترة المقبلة.
(شيف) أوضح أن كل ما يُقال عن سيناريوهات مخابراتية للتعامل مع حكومة حماس، ليس حلاً حقيقياً يطمئن الصهاينة من المستقبل الذي بات مجهولاً أكثر عقب فوز حماس، وتزايد نفوذها وسط الشارع الفلسطيني.
üالسيناريو الأول:
رأى المسؤولون الأمنيون بالكيان الصهيوني أن يتم الفصل بين الأفعال والأقوال؛ بمعنى أن تقوم الدولة العبرية بالفصل الحقيقي والجاد بين ما يقوله المسؤولون عن حماس، وبين ما يفعلونه على أرض الواقع؛ فحسب التصريحات ترى الدولة الصهيونية دوماً أن حماس حركة متطرفة لا لشيء إلا لرفضها الاستجابة للضغوط «الصهيونية» والأمريكية بإلغاء النص الخاص بإبادة الدولة الصهيونية من ميثاقها، كما أن رفض حماس لتبني الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع الكيان الصهيوني يزيد من الوصف الصهيوني الدائم لها بأنها حركة متطرفة.
أما على مستوى الأفعال، وحسب السيناريو الأول الصهيوني؛ فإن حماس ستمتنع عن القيام بأي أعمال عنف ضد الدولة الصهيونية. ويرى بعض المؤيدين من الجانب «الصهيوني» لهذا السيناريو أن حماس ستمتنع بالفعل عن تنفيذ أي عمليات في هذا الوقت، كما أن حماس تفضل هذا الخيار ـ على حد زعم السيناريو ـ.
يرى معدو السيناريو أن هذا الأمر يُنشئ نوعاً من التناقض ما بين التصريحات والأفعال؛ فحماس لن تتنازل عن شيء مما طُلب منها التنازل عنه، وفي الوقت ذاته تحصل على ثمن كبير يتمثل في حصولها على فترة زمنية طويلة تمكنها من إعادة تنظيم نفسها على المستوى السياسي والعسكري، وتحافظ على الهدوء في الأراضي الفلسطينية.
هنا يدعي التقرير أن ما سماهم بالعناصر المتطرفة القادمة مثل العناصر الإيرانية سيمكنها التسلل إلى المناطق الفلسطينية.
يوضح السيناريو أن هناك من يؤيد هذا السيناريو، وهم فلسطينيون معتدلون على حد تسميته، ومحافل أوروبية رافضة للأيديولوجيا الحربية لحماس، ولكنهم يبحثون عن الحلول المانعة لمواجهة عسكرية بين الدولة الصهيونية والفلسطينيين.
ü السيناريو الثاني:
اصطلح معدو السيناريوهات المختلفة للتعامل مع حماس في المرحلة القادمة، على تسمية السيناريو الثاني بـ «سيناريو استبدال حكم حماس» ، ويوصي السيناريو ببذل الجهد في مسار إفشال حكومة حماس على كافة المستويات الخارجية والداخلية، ويأتي ذلك بالضغط على السكان الفلسطينيين، عن طريق المساعدات الاقتصادية الدولية للسلطة الفلسطينية، وعرقلة وصول المعونات الغذائية للمناطق الفلسطينية ولا سيما مدينة غزة (كما حدث في أزمة عدم وجود الخبز في بداية إبريل) .. وكل ذلك بهدف إقناع الفلسطينيين أن قرارهم باختيار حكومة حماس كان الخطأ الأكبر.
واعترف السيناريو الصهيوني الثاني بصعوبة تطبيق هذا الأمر في الوقت الراهن، بسبب أن حكومة حماس حكومة غير فاسدة، يتمتع أفرادها بنظافة الأيدي وعدم تورطهم في أي قضايا فساد. لكن السيناريو يشير إلى أن الضغط المتزايد على حكومة حماس سيؤدي إلى حرب ضروس، ينتج عنها تغييرات اجتماعية، تُثقل على الشعب الفلسطيني، وعلى النساء الفلسطينيات بصفة خاصة، وعلى ما يجري في المدارس، وفي الحياة الاجتماعية عموماً.
واستبدال الحكم سيتحقق في النهاية من خلال انتخابات جديدة في السلطة.
وحول دور الدولة الصهيونية في هذه المرحلة بجانب عمليات الضغط المتواصلة على حماس خارجياً وداخلياً، يرى السيناريو أن مشاكل ستواجهها حماس في هذا المسار ستكون صعبة، منها تصرفها حيال المصاعب الاقتصادية المتدهورة في السلطة الفلسطينية، ورأى أنه من السخافة أن تقوم الدولة الصهيونية بالعمل على تحسين الأحوال المعيشية للفلسطينيين طالما لا تزال حماس هي حكومتهم، وأن أي مساعدة صهيونية تعني قيامها بطريقة غير مباشرة بدفع رواتب وزراء وأعضاء حماس بالسلطة الفلسطينية، في ظل دعوة الحركة المستمرة لمواصلة الحرب على الدولة الصهيونية ـ بمقتضى السيناريو ـ.
ü السيناريو الثالث:
ويُعرف باسمَيِ «الوساطة» ، أو «غريب السبت» حسب التسمية اليهودية التراثية، وتعني أن تبحث الدولة الصهيونية عن وسطاء غير معلومين، لوجود مسائل مشتركة بين الفلسطينيين والدولة الصهيونية، مثل التصدي لكارثة انتشار فيروس «أنفلونزا الطيور» في البلاد، وبما أن هناك رفضاً صهيونياً للتعامل مع حكومة حماس، فإن وجود هؤلاء الوسطاء أمر حيوي وضروري.
يوصي السيناريو القيادة السياسية الصهيونية بضرورة الالتفات لهذا الموضوع؛ ذلك أن هناك بعض الأزمات تجبر الطرفين على التعاون معاً للتصدي لها مثل انتشار فيروس أنفلونزا الطيور، وأزمة تلوث الصرف الصحي؛ فانتشار أي منهما في الأراضي الفلسطينية سيؤدي بالتبعية لانتشاره في الصهاينة.
يرى السيناريو أنه يمكن للدولة الصهيونية في هذا المسار أن تختار وسطاء من السلطات المحلية الفلسطينية، للبعد عن التعامل المباشر مع وزراء حماس.
ثمة مفاجأة في هذا الشأن تتمثل في تقرير قدمه رئيس الأركان الصهيوني، دان حلوتس، للقيادات العسكرية والسياسية، يؤكد على أن هذا الحل غير مفيد للصهاينة؛ لأن حماس قادرة على تزويد الفلسطينيين بكل احتياجاتهم اليومية دون التواصل مع الصهاينة. أضف إلى ذلك أن هناك تقارير مخابراتية صهيونية تفيد أن قادة حماس يدركون أن الدولة الصهيونية هي التي ستأتي إليهم في النهاية باقتراحات لإجراء اتصالات.
ويرى (زئيف شيف) من جهته أن في تنفيذ هذا السيناريو خطراً يتجلى في بروز أمرين متناقضين في الوقت نفسه:
ـ القطيعة مع حكومة السلطة ستكون جزئية، وستجد الدولة الصهيونية نفسها تقدم مساعدة تُعزز مواقف حماس؛ حيث سيعمل الوسطاء بشكل كبير ونشط.
ـ استمرار «الإرهاب ضد الصهاينة، ولو بشكل منخفض نسبياً. وحماس ستتجاهل نشاط الجهاد الإسلامي وغيرها من الفصائل الفلسطينية، وسيستمر إطلاق صواريخ القسام والكاتيوشا بعيدة المدى دون الوضع في الاعتبار الجهة المطلقة لهذه الصواريخ.
ü السيناريو الرابع:
تم الاتفاق على تسميته بـ «سيناريو الحرب الآن» ، ويصفه الخبير الأمني بصحيفة هآرتس بأنه السيناريو الأكثر تطرفاً؛ إذ يقوم على أساس تقدير للوضع، يخرج بنتيجة مؤداها أنه لا مجال ولا أمل في التوصل إلى اتفاق أو حلول وسط مع حماس وأهدافها. ويقف غالبية المسؤولين بهيئة الأركان في صف تأييد هذا السيناريو.
ووفقاً لها السيناريو، فإنه إذا استمر «الإرهاب» ـ في إشارة لعمليات حماس ـ ولو بمقدار منخفض، فإن على الدولة الصهيونية أن تُعلن الحرب فوراً ضد حماس، بدلاً من العمليات الانتقامية وعمليات رد الفعل، ويزعم السيناريو أن أي دولة في العالم تتعرض للهجوم يجب أن تعلن الحرب على المهاجمين، لذلك يرى معدو هذا السيناريو أن يتم النظر لحماس على أنها عدو يجب إبادته.
ينال هذا السيناريو تأييداً كبيراً من المسؤولين «الصهيونيين» ، للدرجة التي يطالبون فيها بضرورة تنفيذ الحرب في أقرب وقت ممكن، لكي لا تقوم حماس بتنظيم نفسها، وتوفيق أوضاعها العسكرية، كما يرون أن الحرب مع حماس قادمة لا محالة؛ لذلك فإنه من الأفضل التبكير بالحرب، وترك رد الفعل لحماس.
يحذر المؤيدون للحرب حكومتهم من أن التأخير في قرار إعلان الحرب على حماس قد يؤدي لعواقب وخيمة للدولة الصهيونية، منها تنامي قوة حماس على المستوى المعنوي والمادي.
(زئيف شيف) يقول إن هناك سلبية في هذا السيناريو، تتمثل في أن الدولة الصهيونية لا تملك أي رؤية حول ما ستقوم به عقب إبادة حماس؛ ذلك أن ما يمكن أن تفعله الدولة الصهيونية هو إعادة احتلال غزة، وقد أيقنا الآن أن احتلال غزة أسوأ من تبادل النار معها.
ü موقف حماس:
يمضي الخبير الصهيوني في الشؤون الأمنية (زئيف شيف) في تصور الأوضاع عقب تنفيذ أي سيناريو من السيناريوهات الأربعة السابقة، موضحاً أن تنفيذ أي منها يعني ظهور سيناريوهات أخرى فرعية في الحياة اليومية سواء في الدولة الصهيونية أو في الأراضي الفلسطينية، لكنه يتساءل عن موقف حماس من كل هذه السيناريوهات الموضوعة من قِبَل أجهزة الاستخبارات «الصهيونية» ، مؤكداً أن أكثر ما يقلق الدولة الصهيونية حالياً هو اختيار حماس للهدنة من طرف واحد.
يعلل ذلك بأن حماس لن تقبل آنذاك الشروط التي يطالبها بها المجتمع الدولي، لكنها قد تتوقف عن العمليات، في انتظار تطورات المستقبل، مُفترضين في ذلك وجود رغبة صهيونية شعبية حثيثة للتمتع بالهدوء الأمني؛ وهو ما سيجعل الصهاينة يستجيبون على الفور لموقف حماس الداعي لهدنة، حتى مع يقينهم بأن هذا الهدوء سيجر وراءه تسلل عناصر إيرانية تهددنا وتهدد الأردن كذلك.
وقد لخص (زئيف شيف) من جهته رؤيته الخاصة بتوقع سيناريو سياسي، يقوم من خلاله رئيس الوزراء الصهيوني، (إيهود أولمرت) بتنفيذ خطوة إضافية من خط «فك الارتباط» التي تم تنفيذ الجزء الأول منها وهو الانسحاب من غزة في منتصف أغسطس الماضي، والاحتمال الأكبر تنفيذ الانسحاب من أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، فيما عرَّفها أولمرت بـ «خطة التجميع» .
أضاف (شيف) أن حماس ستنظر لهذا السيناريو على أنه نصر جديد لها، وهروب صهيوني، كما سيرفض الفلسطينيون الحدود التي توصل إليها (أولمرت) منفرداً، دون الرجوع للاتفاقيات مع الفلسطينيين.
ومن الناحية العسكرية ستكون خطة التجميع التي يتبناها (أولمرت) سبباً جديداً لمواصلة الفلسطينيين الحرب ضد الدولة الصهيونية.
الانطواء سيسهل على الدولة الصهيونية، ولكن من الواضح أن الخط الجديد سيكون أيضاً أساساً جديداً لمواصلة الحرب مع الصهاينة مثلما حصل في قطاع غزة.
وأوضح أنه: «إذا كانت هناك فرصة لتأييد دولي للصهاينة فإنها تكمن قبل كل شيء في موافقتها على خريطة الطريق حتى وإن لم تكن مثالية» .
وختم شيف بالقول: «من الناحية التكتيكية، في هذه المرحلة، الأمر الأهم لحماس هو كسب الوقت. حماس تحتاج إلى الهدوء كي تنظم نفسها، وتعزز صفوفها، وتطور النصر النادر والأولي، والذي في أعقابه قام حكم إسلامي سُني. وإذا ما ساد الهدوء، فسيكون بوسع حماس منع مواجهات داخلية وحرب أهلية فلسطينية» . في مثل هذا السيناريو يمكن لحماس أن تعمل بشكل أفضل حيال محافل دولية وتحظى باعترافها.
ولهذا فما من شك أن حماس ستبعث المرة تلو الأخرى برسائل للدولة الصهيونية مفادها استعداد الحركة لتوفير الهدوء للصهاينة، مقابل تمتعها بالهدوء أيضاً.
على كل الأحوال فإن التمعن في هذه السيناريوهات الصهيونية لمواجهة حماس، يدل على أن الصهاينة ليس لديهم رؤية محددة للتعامل في موضوع صعود حركة حماس لقمة السلطة الفلسطينية، كما أنهم لا يملكون أي رؤية لما بعد فشل حماس في قيادة السلطة الفلسطينية إذا ما فشلت.
__________
(*) كاتب مصري متخصص في الشؤون الإسرائيلية.(225/15)
فتى العقيدة
عبد الرحمن بن عمار السفياني
هذا عواء الريح مع ذئب الفلا
قد لفَّه ليل بهيم كالعمى
هل يستكين وليس ثمّة مأمن؟
كلاَّ فقد نطقت خطاه وربما
قدر له خوض الصعاب وإنما
ومضى مضاء الليث شبّ على السرى
يا ليلتي إن كنت مهلكتي فما
هو لا يبالي بالليالي إذ رمت
ظني به يمضي ويخترم الدجى
ظني به يوم السباق كسابح
لو حال موج البحر دون مراده
أكرم به وبغاية يسعى لها
إن هام أخدان الهوى في لهوهم
خفّاً تراه من الدنايا في الورى
ما نالت الأهواء منه وقلما
هو حلم أمّتنا سينهض للوغى
ليعيد للتاريخ قصة أروع
تهوى المعالي طامحاً يسعى لها
لا خير في عيش الفتى متواكلاً
ما أروع الإقدام في عزم الفتى
وإذا امرؤ هاب العثار فعيشه
ما يبتغي الأعداء منك فتى الهدى
يبغون لو هدموك أو صدعوك يا
جهلوا بأنك قد سمقت على الثرى
قبس من الوحيين جئت إلى الدنا
كل الثغور رنت إليك وعولت
ستظل في أحزاننا أنشودة
ولأنت إن راق الجمال عيوننا
يعوي وسارٍ لم يقارب منزلا
لله ليل ما أشدّ وأطولا!
أتراه يمضي! ما عسى أن يفعلا؟
ألفيت من خطو الأشاوس قائلا
قدر البواسل أن تضرّ وتبتلى
وكأن منه الصدر يحوي جندلا
أوْلى بأن ألقى المنية مقبلا
أهوالها وبمن أعاق وخذَّلا
ويغادر السرحان ثَمَّ مجندلاً
يطوي مراحله فيأتي أولا
خاض العباب إلى الرغاب مهرولا
لهو الحقيق بما أراد وأمّلا
ففتى العقيدة هام في حب العلا
وتراه من حمل المكارم مثقلا
ترمي الفتى إلا أصابت مقتلا
بالنصر معقود الجبين مكلّلا
خاض الفتوح مكبراً ومهلّلا
ولطالما تجفو البليد الخاملا
الخير فيه ساعياً متوكلا
لم يخش في إقدامه أن يفشلا!
ـ ما عاش ـ في قيد الهوان مكبّلا
أعجزت كل عداك أن تتحولا
جبلَ العقيدة أو تزحزحَ أنملا
وضربت في أرض الهدى متغلغلا
وخرجت من مشكاة أحمد مشعلا
والقدس فيك رأى الخلاص وعولا
يبكي الفؤاد فإن أصاخ لها سلا
من لم تزل فيها أحب وأجملا(225/16)
حملات شعبية فلسطينية وإسلامية
نائل نخلة
في ظل الأزمة المالية التي تعيشها الحكومة الفلسطينية ...
ما الخيارات: التحدي أم الانسحاب؟!
منذ أيام، لم يفرغ أهالي قرية (بيت أكسا) شمال غرب القدس، من دعائهم بالخير لرجل جادت يده البيضاء بمنح مالية على 75 من موظفي السلطة الذين تسبب تأخر صرف رواتبهم في ضائقة اقتصادية لعائلاتهم.
وقد بدأت القصة مؤخراً عندما أجرى رجل أعمال فلسطيني من بلدة (بيت أكسا) والمقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، اتصالاً مع أقاربه في البلدة، وطلب تزويده بمعلومات كافية عن الوضع الاقتصادي للموظفين في قريته في ظل أزمة الرواتب الخانقة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني.
هذه مجرد قصة رجل فلسطيني من المحسنين، أكد فيها على ضرورة تقديم المساعدة العاجلة إلى أبناء قريته في ظل حصار صهيوني وأوروبي وأمريكي يفرض على أبناء الشعب لاختيارهم للحكومة الإسلامية التي جاءت بشكل نزيه شهد له العالم بالكفاءة.
هذه القصة «التي تبين التكافل الشعبي الفلسطيني» تطرح عدداً من التساؤلات؛ فهل تستطيع المشاركات الشعبية من أبناء فلسطين محاربة الحصار المفروض على حكومتهم؟ وهل للحملات الشعبية التي تقودها الحركة الإسلامية في الضفة الغربية وقطاع غزة تأثير على موازين الساحة السياسية، أم أنها مجرد حملات رمزية؟ وهل لهذه الحملات تأثير على الرأي العام في الشارع العربي؟ وإن توفر الدعم الشعبي العربي فهل هناك آليات لإدخاله إلى الأراضي الفلسطينية؟ وهل سيكفي هذا الدعم لتوفير الميزانية الشهرية للحكومة ومن ثَم استمرارها؟ وما مستقبل الحكومة في ظل هذه الأزمة؟ وما أبعاد هذه الأزمة الحقيقية؟
ما إن بدأت التصريحات الأوروبية والأمريكية التي تشير إلى قطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني وحكومته المنتخبة، ما لم تلتزم بشروطهم، حتى سارعت منظمة الأمم المتحدة للكشف عن حجم التدهور الذي قد يصيب الوضع الإنساني الفلسطيني؛ نتيجة لوقف الدول المانحة مساعداتها.
وحذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) خلال مؤتمر صحفي عقده في القدس من تدهور الوضع الإنساني وتأثيرات هذا التدهور على القطاعات الحيوية وبخاصة الأمن والصحة والتعليم.
وأشارت المنظمة إلى عجز «الأمم المتحدة» عن تنفيذ عدد كبير من برامج ومشاريع الطوارئ التي سعت إليها؛ بسبب تمويل الدول المانحة أقل من 20% من هذه المشاريع.
وقالت منظمات الأمم المتحدة إن السلطة الفلسطينيّة توظف أكثر من 152 ألف فلسطيني يعيلون أكثر من مليون فلسطيني، أي ما يعادل 25% من الفلسطينيين في الأرضي المحتلة، مما يضاعف حجم المشكلة الإنسانية في حال عدم تلقي هؤلاء الموظفين رواتبهم.
وأعربت منظمة الأمم المتحدة عن خشيتها من ارتفاع نسبة الفقر بشكل حاد، لتصل إلى 74% وتوقعت انخفاض الدخل المحلي للفرد ليصل إلى 25% في عام 2006.
قامت الأمم المتحدة برسم ثلاثة سيناريوهات محتملة للوضع الاقتصادي الفلسطيني، حتى تقوم بتخطيط عملها بناءً عليها: يصف السيناريو الأول الوضع الإنساني في الأراضي الفلسطينية، بناءً على الوضع الذي شهدته الأرضي الفلسطينية في الأشهر الأخيرة؛ حيث ارتفعت القيود التي تفرضها الدولة العبرية على الفلسطينيين وعلى الخدمات التي يحصلون عليها.
أما السيناريو الثاني، فيقوم على الاستمرار في فرض القيود على الفلسطينيين، بينما يتم تمويل السلطة الفلسطينيّة بشكل جزئي.
والسيناريو الثالث يتمثل في متابعة الدولة الصهيونية تشديد فرض القيود على الفلسطينيين بينما لا تحصل السلطة الفلسطينيّة على تمويل بتاتاً، وهو الوضع الحالي الذي يعاني منه الشعب والحكومة الفلسطينية.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن من شأن السيناريو الثاني أن ترتفع معه معدلات البطالة لتصل إلى 40% خلال عام 2006، و 47% في عام 2008.
وفي هذا الإطار، قدم (عمر عبد الرازق) وزير المالية أمام المجلس التشريعي تقرير الحكومة حول الأزمة المالية مؤكداً أن الوضع المالي للسلطة يمر بأزمة خطيرة وهي أزمة متواصلة منذ زمن، ولا علاقة لها بتسلُّم حكومة جديدة، وأن ما له علاقة بالحكومة الجديدة هو القرارات الجائرة بشأن تعليق المساعدات المقدمة للشعب الفلسطيني.
وحول الأزمة التي تعاني منها حكومة حماس بعد الانتخابات التشريعية، قال (د. رائد نعيرات) أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية أن «حماس تعيش اليوم أزمة انتصار، ففي حين كانت حركة مسلحة، بطبيعة محدودة في العمل السياسي، فجأة أصبحت رأس الهرم السياسي في السلطة. هذا أمر يتطلب أخذ ذلك بالحسبان عند صياغة برنامج وطني» . وعن التحديات أمام الحكومة أو فشلها، قال نعيرات: «حتى الآن لا يمكن الحكم على نجاح الحكومة الفلسطينية، ولكن نستطيع أن نجزم أن الحكومة إذا استطاعت حل أزمة الرواتب في وقت قريب، فهي على مستوى عالٍ جداً من القيادة، ولكن حتى الآن لا يمكن محاكمة حكومة عمرها أسابيع، وتحاك حولها المصاعب من كل حدب وصوب.
وعن قدرة الشعب الفلسطيني على تحمل عدم توفر الرواتب «وخاصة الموظفين» قال نعيرات: «وفيما يختص بمسألة التحمل، لا يمكن الحكم على هذه القضية ومداها. مثلاً: عندما بدأت الانتفاضة كان هناك 340 ألف عامل يتوجهون يومياً للعمل في فلسطين المحتلة عام 48، واليوم لدينا 160 ألف موظف. وقد توقع الخبراء الصهاينة أن قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود لن تتجاوز 6 أشهر؛ لأنه إذا أوقف الكم الهائل من العمال عن العمل فسينهار المجتمع. ولكن بطريقة أو بأخرى عالجت الفصائل هذه الإشكالية، وإن لم يكن ذلك عبر الحكومات السابقة» .
وعن توفير الأموال لفك الحصار عن الحكومة الفلسطينية، ذكر وزير المالية الفلسطيني أن الحكومة الفلسطينية تلقت دعماً يصل إلى 80 مليون دولار من السعودية والكويت والإمارات؛ لمساعدتها على تسديد رواتب موظفي السلطة دون تحديد جدول زمني، وقد بادرت الجامعة العربية بفتح حساب بنكي للتبرع للشعب الفلسطيني؛ لمواجهة آثار قرار منع المعونات الأوروبية، فضلاً عما قرره الزعماء العرب خلال القمة العربية الأخيرة بالخرطوم من تخصيص مبلغ 50 مليون دولار شهرياً لمساعدة الشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية على تخطي أزمتها، إلى جانب 100 مليون دولار ستصل على دفعة واحدة دون توضيح كيفية وصولها.
ومن ناحية أخرى، أكد النائب (الدكتور ابراهيم أبو سالم) الذي قاد حملة شعبية يوم الجمعة 5/5/2006م لدعم الحكومة في مدينة رام الله؛ فالشعب الفلسطيني شعب فريد من نوعه في الصبر، مشيراً إلى أنه منذ مطلع هذا القرن وهو يقارع الاحتلال ويقدم التضحيات الغالية والنفيسة.
وتابع: «الآن ونحن نتحدث عن لقمة الخبز والوضع الاقتصادي ... فإنَّ الشعب الفلسطيني تعوَّد منذ سنين على البذخ وأن ينفق أكثر من حاجته، وهذه فرصة لأن يتعلم شعبنا بعض الصبر وأن يتنازل عن الكماليات» مشيراً إلى أن الخبز الذي يلقى في القمامة هو في الحقيقة يشبع بلاداً ومخيمات.
واستدرك: «الناس بخير؛ فلم يصلوا إلى درجة الفقر الشديد والجوع الشديد، والشعب الفلسطيني شعب معطاء فقد رأينا الصغار والأطفال يتقدمون بحصالاتهم والنساء يتقدمن بحليهن ... هذا الشعب يعطي ونحن باختصار نساوم على كرامتنا ونُبتز على عزتنا ويقال لنا: إما أن تسجدوا لأعدائكم وتركعوا للذل، وإما أن نجوِّعكم ... هذان خياران ولا مجال أن نختار خيار الذل» .
ولم يقتصر الدعم الشعبي على الحركة الإسلامية من خلال الحملات التي قادتها وإنما أيضاً من خلال المساهمات الفردية؛ فقد أقدم أستاذ مدرسة من قرى رام الله له عمل إضافي بعد الدوام وحالته المادية جيدة على دفع سلف مالية لزملائه في المدرسة لتدبير أمورهم اليومية لحين حصولهم على رواتبهم.
وأقدم معلمو المدارس الحكومية وهم اكبر شريحة في السلطة ويقدر عددهم بـ30 ألف معلم بحملة في الضفة والقطاع لمساندة الحكومة، ورفضوا محاولات بعض الأطراف الفلسطينية بالإضراب عن العمل، وليس هذا فقط، بل قام المئات منهم بتوجيه رسائل إلى رئيس الوزراء إسماعيل هنية أعلنوا فيها عن تضامنهم مع الحكومة ومواقفها وتبرعهم بجزء من مستحقاتهم المالية للموازنة العامة.
وفي السياق نفسه، أقدمت البنوك العاملة في الأراضي المحتلة على تقديم قروض فورية على شكل قروض لمدة 3 شهور بالإضافة إلى تأجيل الأقساط على القروض القائمة لمدة 3 شهور ضمن حملة أطلقت عليها اسم: «معاً يخفُّ الحمل ... ومعاً نتقدم ... خففْ حملك» .
وقال (د. أبو سالم) : «إن الحملة التي شارك فيها يوم الجمعة حملة رمزية تقدم رسالتين: الأولى: للكرة الأرضية ومفادها أنه عيب علينا أن نطلب مساعدات من شعوب المسلمين في الأرض ومن الدول وأن نأخذ الصدقات والتبرعات؛ فنحن هنا يجب أن نكون أنموذجاً للبذل؛ لا نقول: أعطونا فقط، ونحن أيضاً يعطي بعضنا البعض.
أما رسالة الداخل، فقد قال عنها (د. أبو سالم) : «هي لأولئك الناس المثبطين الذين يتربصون بالشعب والحكومة، ويراهنون على فشل الحكومة، وهناك فئة مغرضة تحرض الشعب على المظاهرات والإضرابات وهذا عيب كبير؛ فالطفل الصغير يتبرع بحصالته، والذي يملك آلافاً يحرك الناس ليضربوا ضد الحكومة وليضعفوا مسيرتها ويوهنوا من قوتها!» .
وتابع: «كان هذا المهرجان رسالة تُقَدَّم للآخرين، وقد جاءتنا ردود فعل من العالم العربي، ويتصلون بنا صباح مساء ويقولون: بكينا كثيراً ورسالتك وصلت، ونحن نعمل على جمع التبرعات على قدم وساق لشعبكم الأصيل والصابر المجاهد المرابط» .
وأشار (أبو سالم) إلى أن ثمرات الحملة الشعبية فاقت التصور؛ فقد قُدِّمت كيلو غرامات كثيرة من الذهب في رام الله ... وأشار في الوقت ذاته إلى أن إحدى العرائس قدمت مهرها وقالت: «أنا متنازلة عن كل مهري» وفي اليوم الثاني قدمت إحدى الطالبات بالجامعة ـ علماً بأن والدها أسير ـ قدمت مهرها أيضاً.
وتابع: «نحن على استعداد ليس كما قال (إسماعيل هنية) أن نعيش على الزيت والزعتر، بل على استعداد ـ وهذه رسالة معظم الشعب الفلسطيني، وأنا أتكلم باسم الشعب الفلسطيني باعتباري نائباً من النواب الذين اختارهم أكثر الشعب الفلسطيني ـ نحن على استعداد أن نأكل الخبز الناشف، ولسنا على استعداد أن نقبِّل أقدام أعداء الأمة في أي حال من الأحوال» .
واستدرك: «نحن بدأنا الدعوة للتبرعات على أنها رمزية ولكن، ولأنها خرجت من قلوبنا وصلت إلى آذان العالم وقلوبهم» .
واللهَ نسأل أن يلطف بالشعب الفلسطيني المجاهد، وأن ينصره على أعدائه وخاذليه إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(*) صاحب مكتب للصحافة والإعلام برام الله في فلسطين.(225/17)
أدب الطفولة المظلومة
د. أحمد الخاني
«الطفل: هو الكائن الوحيد الذي يعرف حقيقة الابتسام؛ فلا تقتلوا هذه البسمة» .
بهذه العبارة أستهلُّ كتابي «في أدب الأطفال وسيكولوجية الطفل» الذي قمت بتدريسه في كلية المعلمين، وهذا الأدب مظلوم؛ لأن الطفل لا يستطيع أن يلبِّي حاجاته السيكولوجية بنفسه لنفسه كالكبار في أدبهم، والأدباء مشغولون عن هذا الأدب وعن الكتابة له؛ لأنه بشكل عام غير مربح مادياً، وقد صحت المؤسسات الثقافية متأخرة على هذا الأدب، وقررت بعض هذه المؤسسات تدريس مادة أدب الطفولة.
فما تعريف هذا الأدب؟
أـ أدب الأطفال في المرحلة المبكرة هو أدب الكلمة المسموعة؛ أدب الأناشيد الشفويّة.
ب ـ وأدب الأطفال هو أدب الكلمة المدونة في مرحلة الطفولة المتوسطة والواعية في مرحلة تعلّم القراءة والكتابة.
وقد وضعْتُ تعريفاً لهذا الأدب ضمّنته كتابي المشار إليه.
أدب الأطفال هو: «التعبير الموجَّه إلى الأطفال بأسلوب بسيط ممتع» .
ü صفات أدب الأطفال:
أولاً: البساطة في الشكل:
فلا نختار الحروف الصعبة كحرف الصاد أو الضاد، وإنما نختار الحروف اللينة.
والكلمة يحسن أن تخلو من الحروف اللّثوية وتكون قليلة الأحرف، والأفضل أن تنتهي في الأناشيد بالمدود لا بالحرف الساكن المقيد، إلا إذا كان قبله حرف مدّ.
والجملة يجب ألا تكون طويلة حتى يسهل تمثّلها وحفظها وأداؤها.
ثانياً: البساطة في المضمون، وهو ينقسم إلى قسمين:
أـ العنصر العقلي: يجب ألاّ يكون فلسفياً، وإنما يحسن أن يكون مفرد المحور بسيطاً غير مُعقد وممّا يتعاطى معه الطفل في حياته اليومية وفي بيئته.
ب ـ العنصر الوجداني: وهو العاطفة الصادقة تجاه العقيدة والرسالة والمقدسات والأبوين والبرّ بهما، وصحبة الصديق والجار.
وفي المضمُون بنوعيه يحسن بل يجب أن يكون للنص رسالة وأفْضلها ما نبعت من مكارم الأخلاق، والإسلام كله مكارم أخلاق.
نص شعري ـ الشجرة
هيفاء يمنحها النّدى في كل فجرٍ قُبلتيْن
ممشوقةً تعلو بقامتها البناءَ بطابقيْن
قد شاركَتْ نجمَ السماء سجُودَه، متلازميْن
تختال نشوى بالنسيم يَهُزّها من جانبيْن
تُرخي جدائلَها على الشُّرُفات خُضرَ الخُصلتين
وتمدُّ كفّاً للنوافذِ حاملاً عُصفورتيْن
تتبادلان الشدْوَ والتسبيحَ ملءَ الخافقيْن
حتى إذا حلَّ الخريفُ ومسَّ منها الوَجنتيْن
اِحْمَرَّتا خَفَراً وقدْ سقط الخِمارُ عَن الغُصيْن
وتطايرتْ أوراقُها، فبكَتْ بماءِ الْمُقْلتين
روَّتْ بأدمُعها بساطاً من نَسيج الرّاحتيْن
واستقبلَتْ بردَ الشتاء كماردٍ صفْرِ اليديْن
سُبْحان ربّي، قد وَهَبْتَ لنا الهداية مرتيْن
وَحْياً تنزَّلَ مُعْجِزاً، والكونَ يُبهِرُ كلَّ عيْن
بروائعِ الآياتِ في الآفاقِ مِلءَ الناظريْن
محيي الدين عطية(225/18)
الشجرة
محيي الدين عطية
هيفاء يمنحها النّدى في كل فجرٍ قُبلتيْن
ممشوقةً تعلو بقامتها البناءَ بطابقيْن
قد شاركَتْ نجمَ السماء سجُودَه، متلازميْن
تختال نشوى بالنسيم يَهُزّها من جانبيْن
تُرخي جدائلَها على الشُّرُفات خُضرَ الخُصلتين
وتمدُّ كفّاً للنوافذِ حاملاً عُصفورتيْن
تتبادلان الشدْوَ والتسبيحَ ملءَ الخافقيْن
حتى إذا حلَّ الخريفُ ومسَّ منها الوَجنتيْن
اِحْمَرَّتا خَفَراً وقدْ سقط الخِمارُ عَن الغُصيْن
وتطايرتْ أوراقُها، فبكَتْ بماءِ الْمُقْلتين
روَّتْ بأدمُعها بساطاً من نَسيج الرّاحتيْن
واستقبلَتْ بردَ الشتاء كماردٍ صفْرِ اليديْن
سُبْحان ربّي، قد وَهَبْتَ لنا الهداية مرتيْن
وَحْياً تنزَّلَ مُعْجِزاً، والكونَ يُبهِرُ كلَّ عيْن
بروائعِ الآياتِ في الآفاقِ مِلءَ الناظريْن(225/19)
المجلس الدولي لحقوق الحيوان
ممدوح إسماعيل
مع أول خيوط الصباح طار عصفور بين الأشجار في حديقة الحيوانات وهو يصرخ فيهم: بشرى لكم! فاندفعت الحيوانات جميعاً نحو قضبان الأقفاص تستطلع: ما الخبر؟ ما الخبر؟ فقال العصفور: لقد تشكل مجلس دولي لحقوق الحيوان! فقالت الحيوانات في صوت واحد وهي خلف القضبان: وماذا يعني هذا؟ فغضب العصفور وقال: يعني هذا فتح جميع الأقفاص وعودتكم جميعاً إلى حياتكم الطبيعية في الغابات وبين الأشجار. ففرحت جميع الحيوانات وقالوا في صوت واحد: أخيراً تحقق الحلم! ولكن العصفور استدرك قائلاً: ولكن ذلك بشروط، فتجهّمت جميع الحيوانات وقالت: شروط! أيّ شروط؟ قال العصفور: أول شرط أن يتقدم كل حيوان بطلب إلى المجلس يشرح حالته وأسباب حبسه في القفص والمجلس سوف يعقد جلسات وجلسات للنظر في كل حالة على حدة، ودراسة أسباب الحبس، وهل انتفت أم لا؟ ثم يصدر قراراً بشأنه.
وهنا زمجر الأسد زمجرة قوية اهتزت لها جنبات الحديقة وقال بصوته الجَهْوَرِي: أي أسباب؟ نحن لم نفعل شيئاً، لقد خطفونا من ديارنا ومن بين عاداتنا وتقاليدنا، نعم! لقد خطفونا في لحظة غفلة، وأودعونا تلك الأقفاص، بل يحاصروننا ليل نهار، وكل حركة لا بد من الحصول لها على إذن، ونحن نموت فيها ببطء؟ التفت إليه العصفور قائلاً: هل قاومت؟ هل زمجرت؟ قال الأسد: وماذا أفعل غير ذلك، فردّ العصفور لقد سمعتهم يتهامسون: أن أول شروط الإفراج عنك أنت خاصة هو أن تنعدم مقاومتك تماماً، وأن لا تزمجر بصوتك المرعب نهائياً، وأن تحلق لحيتك وشاربك كي يكون شكلك لائقاً بالنظام العالمي الجديد، فصرخ الأسد في العصفور قائلاً: بهذا الشكل لن أكون أسداً مطلقاً! فردّ العصفور: هذا ما علمته، فالتفت الثعلب وهو مبتسم فرحان للعصفور قائلاً: أنا لا أقاوم ولا أزمجر ولا لحية لي ولا شارب؛ فالحمد لله، لا شرط للإفراج عني. فردّ العصفور قائلاً: يبدو ذلك، ولكن كما علمت أن مشكلتك أكبر، فوضع الثعلب يده على خده وهو يقول: مشكلتي أكبر، ما هي يا عصفور الأخبار السارة؟ قال العصفور: يقولون: إن مشكلتك أنك تفكر كثيراً، ومن شروط الإفراج أن لا تفكر، فابتسم الثعلب بمرارة وهو يقول: لا أفكر، لا أفكر! أكون حماراً مثلاً. وهنا ظهر الحمار غاضباً وهو يتمشى بين الأقفاص يجر عربة بها مخلفات الحديقة، واتجه إلى الثعلب في قفصه قائلاً: لو كنت غبياً لكنت مكانك، ولكني علمت بذكائي أنه ما باليد حيلة، فاستسلمت للحارس يوجهني كيف يشاء، ولكني حرٌّ لست مثلك في قفص، فصمت الثعلب وشرد ذهنه قليلاً ثم قال: لا بأس لن أفكر لن أفكر، ولكن هل هناك شروط أخرى يا غراب البين؟ فغضب العصفور وقال: لماذا تسبّني ولقد زففت لكم البشرى؟ على العموم شروط أخرى، منها: الاعتراف بحقوق الإناث السياسية، فبهتت جميع الحيوانات ورددوا جميعاً في صوت واحد: وما هي حقوق الإناث السياسية؟ قال العصفور: كما علمت أن منها تداول السلطة في كل فصيل؛ بمعنى إعطاء الإناث حق سلطة قيادة القطيع، والأمر والنهي والمساواة التامة مع الذكور! فسادت حالة من الهرج في الأقفاص، وانبرى غزال رقيق قائلاً للعصفور: إذا كانت هي غير مؤهلة لذلك؛ مثلاً هل تقود القطيع الغزالة وأنا أُرضع الصغار؟ كيف؟ لقد خلقنا الله كلٌّ له صفاته، هذا لا يصدق! لقد حدث خلل في الحياة! وهنا قالت الغزالة: حتى لو كنا مجانين فلن نوافق على هذه الشروط، فلِمَ يتدخلون في حياتنا؟ وهنا صرخ الثعلب: أكمل يا عصفور؛ فكل شيء ممكن التفاوض فيه أكمل! قال العصفور: الشرط الأخير قصّ الأظافر وخلع الأنياب، وعدم رد الاعتداء على الآخر واحترامه مهما فعل! انتابت الحيوانات موجة من الضحك الهستيري! ولكن الأسد كان الوحيد الذي كان يبكي بينما الثعلب الذي كان صامداً مطرقاً رأسه شارداً، التفت إلى العصفور قائلاً: لو اعتدى عليّ الآخر ولم يحترمني أو استولى على بيتي أو قتل أطفالي فماذا أفعل؟ قال العصفور: تشتكيه إلى مجلس حقوق الحيوانات! قال الثعلب: وماذا يفعل هذا المجلس؟ قال العصفور: سوف يصدر قراراً بشأنك، قال الثعلب: وماذا لو لم يمتثل المعتدي للقرار؟ قال العصفور: سوف يصدر قراراً آخر أشد قوة، وهنا أطرق الثعلب رأسه وانعقد لسانه فلم يتكلم، وفجأة صاح الأسد قائلاً للعصفور: من يرأس هذا المجلس؟ قال العصفور: أبو الذئاب هو الرئيس، والأعضاء خراف ونعاج، والذين عيّنهم الصياد هو الذي خطفكم، فصاحت جميع الحيوانات: العوض من الله! وانحدرت دموع ساخنة على وجنتي الأسد وهو يتمتم: أبو الذئاب وخراف ونعاج تملي شروطاً على الأسود! أيُّ زمن نعيش؟ وأيّ حياة تلك؟ ذلك جزاء المغفلين! والتفت الأسد إلى العصفور قائلاً بصوت جَهْوَرِي: يا عصفور! قل لهم: لن نخرج على شروطهم؛ فحياة الأقفاص وهذه القضبان، أهون من حريتهم، وسوف نبذل ما نستطيع كي نخرج من تلك الأقفاص ونستردّ حريتنا بطريقتنا، وعلى طبيعتنا. قال العصفور: لن تستطيعوا لقد أصدروا قراراً فإن لم تقبلوا الشروط فستزداد عدد القضبان الحديدية حولكم؛ لأنكم بذلك أصبحتم إرهابيين كما يقولون، قال الأسد: يكفينا أن نحاول، وإن متُّ وأنا أسد خير لي من أن أموت كالماعز! فانبرت عنزٌ قائلة: لا، لا تقل ذلك حتى أنا لا أرضى بذلك؛ فأنا أعتزّ بكل صفاتي ولن أغيرها سعياً وراء رضاهم، وهنا صاح العصفور وهو يطير بعيداً: نسيت أن أقول لكم: إنكم قبل الإفراج بعد تلك الشروط سوف تدخلون مدرسة لإعادة تأهيلكم ثقافياً.(225/20)
بريد القراء
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
منتدى القراء الألعاب الإلكترونية ... والغزو الانحلالي
إن الغزو الملحوظ والخطير للألعاب الإلكترونية يعد نوعاً خطيراً من أنواع الغزو الذي يؤثر على عقيدة وسلوك وأخلاق وهوية وعادات الأطفال والمراهقين لدى المجتمعات الإسلامية المحافظة اليوم؛ فمحتويات هذه الألعاب تتضمن صوراً خليعة ومقاطع بذيئة وقصصاً فاحشة وخيالية، وطرق العنف المختلفة والمتنوعة، وأساليب لعب القمار وكيفية شرب الخمر. فمثلاً شريط المصارعة يحتوي على فتيات يلبسن ملابس فاضحة ويقمن بحركات ماجنة، وهو الأمر الذي يمثل غواية لأطفالنا وأبنائنا المراهقين، ونلاحظ أن الأنثى حاضرة دائماً بمجونها وإثارتها وإغرائها عبر هذه الأشرطة.
ويمكن القول إن هذه الألعاب الإلكترونية أصبحت تستحوذ على عقول أطفالنا وهمومهم، فلا يكاد يخلو بيت منها حتى أصبحت جزءاً من أثاث غرفة الطفل.
فقد أظهرت دراسة أجنبية مؤخراً أن ألعاب الكمبيوتر لها أضرار كبيرة على عقلية الطفل الذي يعتاد النمط السريع في تقنية وألعاب الكمبيوتر؛ حيث يواجه صعوبة كبيرة في الاعتياد على الحياة اليومية الطبيعية التي تكون فيها درجة السرعة أقل بكثير؛ مما يعرض الطفل إلى نمط الوحدة والفراغ النفسي سواء في المدرسة أو في المنزل.
وأكد علماء النفس والاجتماع مراراً وتكراراً خطورة هذه الأجهزة التي أصبحت بدورها تخرج لنا شخصيات ناقصة وغير قادرة على الإنتاج والإبداع والابتكار وهذا ما يتمناه الغرب والأعداء.
أخيراً يمكن القول إن مشكلتنا تتمثل في عدم وجود خطة واضحة ومحددة لكيفية شغل أوقات فراغ أطفالنا، مما يحمِّل الأسرة العبء الأكبر في تلافي أضرار هذه الألعاب؛ وهذا مصداق لقول الرسول #: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» فعلى الوالدين أن يختاروا ما يكون مناسبًا للطفل في عمره، ولا يحتوي على ما يخل بدينه وصحته النفسية. والله ولي التوفيق.
عبادة نوح
Nooh22@hotmail.com
وراء كل محنة: ابتلا|ء ونعمة
التاريخ دروس وعبر، فيه سنن الله الماضية التي لا تتبدّل بتبدّل الأيام، يقرؤه ليستفيد منه كل عاقل حصيف نبيه، والفَطِنُ الأريب من يستفيد من أخطائه وتجاربه، ويتّعظ بمن حوله من الناس، ويعلم أن بكل رزيّة وبليّة فائدة ونعمة.
ونحن الآن وفي هذه الظروف العصيبة التي تمرُّ بالأمة الإسلامية، من حروب واستعمار وقتل وتشريد وإذلال وهدم وحرق وسلب وتسلّط وتحكّم وتضييق ومنع للحقوق ودعاوى للتغريب والتنصير.. يجب علينا أن نطرح هذه الأزمات على مائدة الدراسة والتشريح لتمييز ما فيها من نافع وضارّ؛ مع البعد عن الآنيَّة واللحظية.
وأنا معك أيها القارئ الكريم، أن أغلبها ضارٌّ ومقيتٌ وموجع، ولكن! لا تخلو المحنة من منحة، ودعونا نختصر المسافات ونبدأ بالنافع، ونقصر الحديث عليه؛ ليس لشيء من التقليل والتهوين من خطر الضار؛ بل لمعرفتنا به ولاتّفاقنا واجتماعنا عليه.
وكذلك لأن النافع قد يخفى على معظم أبناء الأمة الإسلامية لشدّة مكابدتهم للضار من هذه المصائب. لذلك فإن مصبَّ حديثنا اليوم عن المنافع التي من وراء تلك الحروب والأزمات تأكيداً لها وتنبيهاً عليها وفتحاً لباب الأمل والرجاء.
لقد فرضت أمريكا على نفسها سياسة متعجرفة ضد البشرية والإنسانية، لا يجهل ذلك عاقل، ولكنها حين فرضت تلك السياسة فاتَها جانبٌ لم ولن تستطيع أن تسوسه لنفسها، أو دعونا نقول: فتحت على نفسها باباً لا تستطيع مهما صنعت أن تغلقه.
فهي اليوم وبسياستها تلك تسهم في شدِّ انتباه العالم للإسلام ومبادئه؛ فكم من الآلاف الذين قد أسلموا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وهي أيضاً تسارع في صنع النفوس الأبيّة التي ترفض سياستها، وتبني في المجتمعات الإسلامية حواجز تمنع من أن يخترقها كل معادٍ لها، وفتحت باباً للوعي بين الشعوب بحقوق كل شعب وفرد، وصعدت المقاومة ضدها وضد أيّ استعمار، ومكّنت الشعوب من حقها في التعبير عن مشاعر الرفض لسياستها، وأعطت أبناء المجتمعات الإسلامية فكرة كاملة عن الأنظمة الوضعية التي تُحكَم بها تلك المجتمعات، وعمن يحكم بها.
وأمريكا اليوم وبسياستها تلك تصنع ما صنعه ملك أصحاب الأخدود لذلك الغلام الذي عرف الله فعبده، ودعا جليس الملك فأسلم بعد أن أعاد له بفضل الله بصره، فلما بلغ أمرهم الملك أتى بهم خوفاً من أن يُسْلِمَ قومه كلهم فعذّبهم وقتل الراهب والأعمى، وحاول أن يقتل الغلام ـ بعد أن عذّبه ـ فلم يفلح إلا بطريقةٍ وصفَها الغلام للملك كانت سبباً لإسلام قوم الملك.
وهذه القصة معروفة (1) ، لكن لعله فات الكثير منا أن ينتبه لها وأن يقارن بينها وبين أمريكا اليوم، وما تصنعه من سياسة تحاول فيها القضاء على الإسلام والمسلمين.
وأخيراً: أقول: إن دين الله لا بد أن يُنشر بين الناس، فإن لم نكن نحن من ينشره؛ فإن الله سينشره بغيرنا.
وفاء مرزوق
(1) للاطلاع على تفاصيل تلك القصة يرجع ـ مثلاً ـ لكتاب: صحيح القصص النبوي للدكتور عمر الأشقر، ص 303.
«السلام قاعدة والحرب استثناء»
إن السلام ليس نقيضاً للحرب؛ لأن الحرب تقابل السلم، وهذا الأخير يعني أن الناس يمكن أن يعيشوا في حالة السلام الجزئي في ظل اضطراب الأوضاع وسوء الأحوال وغياب الاستقرار. وأما السلام فمفهوم شامل وحالة متكاملة لها أبعادها الإنسانية وأسسها المركزية ومراكزها الأساسية وقواها التي تنظمها وتضبط حركتها في منأى عن رجحان الاقتتال والمواجهات العسكرية؛ وذلك من خلال تحقيق سلام الفرد وسلام الأسرة وسلام المجتمع وسلام العالم، وما في ذلك من توفير عوامل ديمومة الأمة والاستقرار والطمأنينة. والسلام وفق هذا المفهوم يعني حالة من الاستقرار الدائم الذي يشمل العالم بأسره وهو قاعدة الإسلام الدائمة واستراتيجيته المستمرة في كل زمان، وغايته الأسمى في الدنيا والآخرة. ولا يخفى على أحد أن السلام تحية الإسلام «السلام عليكم: أي عليكم منا الأمان والطمأنينة» وتأتي الإجابة «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» ومعناها أن عهدنا وعهدكم واحد بأن يتناول الاستئمان والرحمة والمودة في ظلال وارفة من رحمة الله.
والحرب في الإسلام لا تقوم على أساس الظلم والتوسع والعدوان على الآخرين أو السيطرة على مقدراتهم وثرواتهم، أو نهب خيراتهم، أو سلب معتقداتهم، أو الإطاحة بعروش حكامهم، أو رغبة في الإجهاز على حضارتهم أو إفنائهم أو الاعتداء على صوامعهم وأديرتهم، بل هي حرب تقوم على من يقف حجر عثرة في وجه الدعوة السمحة. قال الله ـ تعالى ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، وهكذا نرى أن الحرب ضرورة يمليها جحود من يقف شاهراً سيفه في وجه الدعوة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] . أجل الحرب ضرورة، والسلم قاعدة، والسلام استراتيجية لها ركائزها وأجندتها. قال الله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] .
سليمان محمد الناصر
بريد القراء
- الأخت الفاضلة أم عبد الرحمن (القصيم ـ السعودية) : نشكر لك حسن ظنك وثناءك على منهج المجلة، وهو طريق سارت عليه المجلة ما يربو على عشرين عاماً، وبتثبيت من الله وعونه ثم بك وبأمثالك تستمر مسيرة العطاء. ومرحباً بكِ قارئة للمجلة.
- الأخ الكريم مصطفى عبد الحافظ (المنوفية ـ مصر) : مرحباً بك قارئاً للمجلة، ونشكر لك ثناءك على ما تحتويه من مقالات، وبخصوص اقتراحكم (إصدار دائرة معارف إسلامية) فهذا مشروع كبير يحتاج جهوداً وإمكانات فلعلها تنال حكمها من الدراسة إن شاء الله.
- الأخ الفاضل محمد آل تميرك: اقتراحك محل نظر هيئة التحرير.
- الأخ العزيز إبراهيم محمد المسلم (السعودية) : نشكر لك غيرتك، والموضوع بحق كبير ويحتاج إلى معالجة، ولعل الله أن ييسر ذلك.
- الأخ (أبو رؤى) محمد الحكمي: نشكر لك جميل عبارتك، وموضوع الأسرى المسلمين تناولته المجلة في ملف متكامل ضمن العدد 205، ومع ذلك نشاطرك الرأي أن الموضوع بحاجة إلى أن يطرق بأكثر من صورة، وأن تتعاون وسائل الإعلام المختلفة وبخاصة التي تحمل هموم الأمة في ذلك.
- الأخ الفاضل نجيب الحيدري (السعودية) : نشكر لك اقتراحك القيّم وهو محل اهتمام هيئة التحرير، ولعلك تراه في المستقبل بإذن الله.
- الأخ العزيز تركي العثمان (الرياض) : نشكر لك غيرتك على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعلك ترى ملفاً متكاملاً حول هذا الموضوع في أحد الأعداد القادمة بإذن الله.
- الأخ الفاضل الأمين الحاج محمد رئيس الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان: نشكر لك غيرتك على صفاء المنهج، وقد أُرسلت لك رسالة عبر البريد الإلكتروني حول ما ورد في الرسالة، ومرحباً بك كاتباً وقارئاً للمجلة.
- تردنا أحياناً بعض المقالات غير الموقعة بأسماء أصحابها أي (بدون اسم) ولهذا السبب نعتذر عن نشرها.(225/21)
سياسات منظمات العولمة الاقتصادية في ضوء الشريعة الإسلامية
د. ناصح بن ناصح المرزوقي البقمي
ü مقدمة:
مصطلح العولمة من أكثر المصطلحات المعاصرة انتشاراً وغموضاً في الوقت نفسه؛ ولذلك يتساءل كثير من الناس عن معنى هذا المصطلح: هل هو جعل الأنظمة السياسية الموجودة في العالم على نمط سياسي واحد؟ أم فتح الأسواق وإلغاء القيود والحواجز الاقتصادية بين الدول؟ أم تصدير ثقافة معينة ينبغي لها أن تسيطر وتفوق غيرها من الثقافات؟ أم أن العولمة هي كل ما تقدم، بل وربما أكثر؟ ثم يأتي السؤال الأهم وهو: ما حكم العولمة في الإسلام؟ وما موقف المسلمين منها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، عُقدت كثير من المؤتمرات والندوات والمحاضرات، بغية تجلية هذا الأمر وبيان الموقف منه. إلا أن ما قُدِّم فيها وبخاصة في مجال العولمة الاقتصادية كان يعاني أمرين: طرحَ الموضوع والتعمق فيه من الناحية الاقتصادية دون بيان الحكم الشرعي، أو طرحاً إسلامياً عاماً لا يضع النقاط على الحروف؛ فلا يبين الحكم الشرعي بعد دراسة الظاهرة دراسة وافية، ولا يطرح حلولاً تفصيلية وسياسات شرعية يمكن تطبيقها في الواقع. فمعظم الكتابات الإسلامية التي صدرت اتسمت بالعمومية وعدم التعمق؛ حيث اشتملت على أحكام متعجلة وتوصيات أقرب إلى التمنيات منها إلى الحلول والسياسات، باستثناء بعض الرسائل العلمية القليلة جداً التي تناولت أجزاء يسيرة من هذا الموضوع الضخم. ولا شك أن تشعب الموضوع وتعقيده قد حال دون الوصول إلى المقصود.
وإسهاماً مني في تجلية هذا الأمر، فقد أعددت رسالة علمية في هذا الموضوع (1) بينت فيها أن العولمة لها معنيان: معنى معلن، ومعنى خفي. فالمعنى المعلن للعولمة عند أصحابها والمؤيدين لها هو: زيادة درجة الارتباط المتبادل بين الدول والمجتمعات الإنسانية من خلال: انتقال السلع، ورؤوس الأموال، وتقنيات الإنتاج، والأشخاص، والمعلومات. أما المعنى الخفي للعولمة فهو نشر القيم الرأسمالية في العالم، وجعله يسير وفقاً للنموذج الغربي في المجالات السياسية، والاقتصادية، والثقافية.
وتعني العولمة الاقتصادية على وجه الخصوص: نشر القيم الاقتصادية الرأسمالية في العالم مثل: الحرية الاقتصادية، وجعل الأسعار خاضعة للعرض والطلب، وعدم تدخل الحكومات في النشاط الاقتصادي، وفتح الأسواق، وربط اقتصاد الدول النامية بالاقتصاد الغربي. والمعنى الخفي هو الراجح في نظري.
وأما أهدافها فهي أهداف معلنة، وأهداف خفية يمكن استشعارها. فمن المعلنة: تحرير أسواق المال والتجارة العالمية وزيادة حجمها، وزيادة الإنتاج والنمو الاقتصادي العالمي، وحل المشكلات الإنسانية المشتركة. ومن الأهداف الخفية: هيمنة الدول الغربية على الاقتصاد العالمي، والتحكم في مركز القرار السياسي العالمي، وفرض السيطرة العسكرية والثقافية على الشعوب النامية. ولتحقيق تلك الأهداف تستعمل أدوات منها: المنظمات الاقتصادية الدولية، والشركات متعددة الجنسية، وأدوات الاستثمار الأجنبي غير المباشر، والاتحادات الاقتصادية الدولية، والعقوبات الاقتصادية، ووسائل الإعلام والاتصال المختلفة ومنها شبكة المعلومات الدولية.
وأما أسباب بروز مصطلح العولمة في هذا الوقت فمنها: انهيار الاتحاد السوفييتي، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، وتزايد قوة الشركات متعددة الجنسية، وظهور أقطاب اقتصادية جديدة في الدول النامية ـ وبخاصة في قارة آسيا ـ تنافس الدول الصناعية الغربية.
وللعولمة الاقتصادية آثار ضارة وآثار نافعة. فمن الآثار الضارة: استنزاف الدول الصناعية الغربية لموارد الدول النامية، وإضعاف سلطة تلك الدول على اقتصاداتها وقدرتها على رسم سياسات اقتصادية مستقلة، وإضعاف النظم الاقتصادية المنافسة للنظام الاقتصادي الغربي كالنظام الاقتصادي الإسلامي، وتحويل المجتمعات النامية إلى مجتمعات استهلاكية، وغلاء المعيشة في الدول النامية، وزيادة العجز في موازين مدفوعاتها، والقضاء على كثير من المنشآت فيها التي لا تقوى على المنافسة، وارتفاع معدل البطالة، وعدم استقرار أسواق المال فيها، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ومن الآثار النافعة: زيادة فرص تصدير سلع الدول النامية التي تمتلك فيها مزايا نسبية إلى أسواق الدول المتقدمة، وإمكانية حماية حقوقها التجارية ومواجهة الإغراق باللجوء إلى جهاز فض المنازعات التجارية في منظمة التجارة العالمية، ووجود معاملة تمييزية في بعض الحالات لمصلحة الدول النامية.
وأهم منظمات العولمة الاقتصادية هي: البنك الدولي للتعمير والتنمية، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. وهي المنظمات التي تضطلع بمهمة التخطيط للعولمة الاقتصادية وتنفيذها في الوقت نفسه بتوجيه من الدول الغربية وشركاتها وبخاصة متعددة الجنسية منها. فهي سلسلة مترابطة؛ فالشركات تضغط على حكوماتها والحكومات تضغط على تلك المنظمات لكي تخطط وتنفذ مشروع العولمة، وتضع السياسات التي تحقق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية.
وسنبين في المبحث الأول سياسات منظمات العولمة الاقتصادية، وفي المبحث الثاني سنبين خلاصة حكم تلك السياسات في الشريعة الإسلامية دون ذكر الأدلة والخلافات؛ ومن أراد التفاصيل فيمكنه الرجوع إلى الأصل.
ü المبحث الأول: سياسات منظمات العولمة الاقتصادية:
باستقراء سياسات منظمات العولمة الاقتصادية وتتبعها، وبالرجوع إلى ما تصدره منظمات العولمة الاقتصادية من تقارير ودراسات، اتضح أن هذه السياسات تنقسم إلى ثلاثة محاور رئيسة هي:
المحور الأول: سياسات القضاء على العجز في الموازنة العامة للدولة، وأهمها: سياسة إلغاء دعم الأسعار أو تخفيضه، وسياسة الخصخصة، وسياسة الإصلاح الضريبي.
المحور الثاني: سياسات القضاء على الفجوة بين الادخار والاستثمار، وأهمها: تحرير معدل الفائدة المصرفية، وإنشاء سوق حرة للأوراق المالية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر.
المحور الثالث: سياسات القضاء على العجز في ميزان المدفوعات، وأهمها: تخفيض قيمة العملة المحلية، وإلغاء الرقابة على سوق الصرف الأجنبي، وإزالة القيود على الاستيراد وفتح الأسواق.
وفيما يلي بيان موجز لهذه السياسات:
ü المطلب الأول: سياسات معالجة العجز في الموازنة العامة:
تهدف سياسات الصندوق والبنك إلى معالجة العجز في الموازنة العامة، بمجموعة من السياسات، بعضها يتعلق بزيادة الموارد، وبعضها يتعلق بتقليص النفقات، وهو ما يحقق هدفاً آخر هو تخفيض التضخم. وأهم هذه السياسات هو: إزالة دعم الأسعار أو تخفيضه، والخصخصة، والإصلاح الضريبي. وفيما يلي الحديث عن كل واحدة منها بإيجاز.
ü أولاً: إلغاء دعم الأسعار أو تخفيضه:
ينقسم الدعم إلى قسمين رئيسين:
1 ـ دعم الأسعار: وهو المال الذي تدفعه الحكومة للبائعين والمنتجين المحليين لتخفيض أسعار السلع والخدمات التي يعرضونها، لكي تصبح ملائمة للناس جميعهم، أو بغرض تشجيع قطاع من القطاعات الإنتاجية، لتمكين المنتجين المحليين من المنافسة في السوق الداخلية والتصدير إلى الأسواق الخارجية.
فالدعم إذن، أو الإعانة كما يسمى أحياناً، مساعدة تدفعها الدول النامية إما لأسباب اجتماعية، فتخفض أسعار بعض السلع الضرورية اللازمة للمستهلكين ومنها السلع الاستهلاكية الأساسية مثل: الخبز، والأرز، والسكر، والحليب، والزيوت النباتية، وبعض الخدمات كالكهرباء والمياه والوقود، وإما لأسباب اقتصادية، فتدفع تلك المعونة لمنتجي سلعة معينة لتمكينهم من منافسة السلع الأجنبية.
ويتخذ دعم الأسعار صوراً عدة منها: الإعانات المباشرة للبائعين للبيع بسعر منخفض، وإعانة الصادرات، وفرض رسوم على الواردات لحماية الإنتاج المحلي، وشراء الدولة للسلع من المنتجين بأسعار تشجيعية. وهدف الدول النامية من التدخل في نظام الأسعار ـ ومنه الدعم ـ هو الحد من آثار حرية عوامل العرض والطلب الضارة بمعيشة الفقراء وذوي الدخول المنخفضة؛ وذلك لأن قانون العرض والطلب لا يمكن الاعتماد عليه اعتماداً كاملاً لتحقيق التوزيع الأفضل للموارد؛ وقد يترتب عليه أحياناً إهمال المصلحة العامة.
2 ـ دعم الدخول وهو الدعم المدفوع للفقراء لزيادة دخولهم وتمكينهم من شراء لوازمهم الضرورية. ويتخذ عدة صور منها: المنح الدراسية، وإعانات الإغاثة، والإعانات التي تصرفها الحكومة ومؤسسات الخدمة الاجتماعية، والزكاة والصدقات التطوعية.
والدعم الذي تطالب منظمات العولمة الاقتصادية بإزالته أو تخفيضه هو دعم الأسعار فقط دون دعم الدخول. وهي تطالب بتخفيضه لتحقيق هدفين:
الأول: تقليص نفقات الدولة. فإزالة الدعم سيوفر على الدولة الأموال التي كانت تدفعها لدعم تلك السلع والخدمات، مما يخفض النفقات في الموازنة العامة، ويمكّن الدولة من توجيه تلك الأموال إلى مجالات أخرى.
الثاني: توزيع الموارد الاقتصادية توزيعاً أفضل. ويزعم خبراء صندوق النقد الدولي وجود درجة كبيرة من الانحرافات في الأسعار النسبية في البلدان النامية، بسبب تدخل الدولة الكبير في الاقتصاد، الذي يؤدي إلى ظهور عدم التوازن على الصعيدين الداخلي والخارجي. كما يرى خبراء البنك الدولي أن سياسات الدعم تتطلب أموالاً كثيرة، ولا تفيد الفئات الفقيرة غالباً، بل تفيد الفئات ذات الدخل المرتفع والدخل المتوسط. ولا يمكن أن تكون سياسة دعم المستهلك مفيدة إلا إذا اقتصرت على الفئات ذات الدخل المنخفض، مع إمكان السيطرة على أعباء ذلك الدعم وتحملها، دون اللجوء إلى وسائل تضخمية أو معرقلة لنظام الأسعار.
وبناء على ذلك يوصي خبراء الصندوق باتباع إجراءات منها: إزالة الدعم المدفوع لمنتجي المواد الغذائية الأساسية، وإزالة الدعم المدفوع للمنشآت الحكومية. كما طالبت منظمة التجارة العالمية بإلغاء الدعم ووسعت معناه، ليشمل كل مساهمة مالية تدفعها الحكومة أو أية هيئة عامة، تتحقق منها منفعة لمن يحصل عليها. وقد تكون هذه المساهمة قروضاً أو ضماناً لقروض، أو نزولاً من الحكومة عن دخل، كالإعفاءات الضريبية أو الجمركية، أو تقديم خدمات أو سلع معينة، أو شراء منتجات معينة.
وقد قسمت المنظمة الدعم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ الدعم المحظور الذي يستدعي إجراءات مضادة. ومن أمثلته:
أـ دعم تشجيع الصادرات كضمان التصدير، وفتح اعتمادات للتصدير بفائدة تقل عن فائدة اقتراض الحكومة، واستعمال مواد مدعومة لإنتاج سلع تصديرية، والإعفاء من الضرائب. ويستثنى من هذا الدعم المحظور: دعم الصادرات بالنسبة إلى الدول الأعضاء الأقل نمواً وكذلك الدول النامية التي يقل متوسط دخل الفرد السنوي فيها عن 1000 دولار أمريكي.
ب ـ الدعم المشروط باستعمال مواد محلية في إنتاج السلع المحلية بدلاً من المواد المستوردة.
2 ـ الدعم المسموح به الذي قد يستدعي التقاضي، وهو الدعم الموجه إلى سلعة أو خدمة أو صناعة أو قطاع أو منطقة معينة. ويكون هذا الدعم ضاراً بمصالح الدول الأعضاء، ويسوِّغ التقاضي وإقامة الدعوى في الحالات التالية:
أـ إذا تعدى هذا الدعم نسبة 5% من قيمة السلعة.
ب ـ إذا خصص هذا الدعم لتغطية خسائر المشروعات.
ج ـ إذا أعفت الحكومة المشروعات العامة من الديون المستحقة عليها.
أما ما تقدمه الدولة من دعم ضمن برامج الخصخصة للمساعدة على تأهيل المشروعات العامة للبيع أو لزيادة جاذبيتها للقطاع الخاص، فلا يعد من الدعم الذي يسوِّغ التقاضي.
3 ـ الدعم المسموح به الذي لا يستدعي إجراءات مضادة ولا يسوِّغ التقاضي، مثل:
أـ دعم برامج البحوث والتطوير التي تؤديها الشركات أو تعهد بها إلى مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحوث.
ب ـ دعم المناطق الأقل نمواً في الدولة.
ج ـ دعم تكييف مرافق الإنتاج لتتطابق مع المتطلبات الجديدة للبيئة.
وتطالب المنظمة الدول المتقدمة بتخفيض دعمها للإنتاج المحلي الزراعي بنسبة 20% وتخفيض دعمها للصادرات الزراعية بنسبة 36% خلال ست سنوات، وتطالب الدول النامية بتخفيض دعمها المحلي بنسبة 13% وتخفيض دعمها للصادرات بنسبة 24% خلال عشر سنوات، وتعفى الدول الأقل نمواً من التخفيض.
ü ثانياً: الخصخصة:
عرّفت الخصخصة بأنها «العملية التي يقصد بها التعاقد على إدارة وتشغيل، أو نقل ملكية، العمليات والمشاريع، أو المؤسسات الحكومية، إلى القطاع الخاص» . بل إن الدراسات الحديثة قد توسِّع المعنى ليشمل بناء وتأسيس القطاع الخاص لمشروعات عامة، لينتفع بها فترة محددة من الزمن، ثم تؤول ملكيتها إلى الدولة.
والخصخصة تعد من أهم سياسات منظمات العولمة الاقتصادية المقترحة لمعالجة العجز في الموازنة العامة؛ حيث تطالب منظمات العولمة الاقتصادية وبخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، البلدان النامية بهذه السياسة. وذلك لتحقيق هدفين: الأول: تخفيض نفقات الدولة ومن ثم تخفيض العجز في الموازنة العامة، والثاني: زيادة كفاءة المشروعات العامة واستعمال الموارد الاقتصادية استعمالاً أفضل. وفي رأي خبراء البنك أن الأداء الاقتصادي المنخفض وربما الخاسر لمؤسسات القطاع العام يعود إلى ما يلي:
1 ـ ربط الأهداف الاجتماعية بالأهداف الاقتصادية. فالدول النامية توجه قطاعها العام وشركاتها العامة، لتحقيق أهداف اجتماعية وسياسية مختلفة، مثل: زيادة حجم التوظيف، ومعالجة التضخم، وتخفيض أسعار منتجات المشروع لمصلحة الفقراء ومحدودي الدخل.
2 ـ خضوع هذه المشروعات والشركات، لتدخل مركزي صارم من جانب الدولة وبيروقراطية شديدة، مما يفقدها استقلالها.
3 ـ تحديد بيع المنتجات بأسعار لا تتفق وقانون العرض والطلب.
4 ـ عدم وجود نظم كافية للحوافز وتنمية المهارات الإدارية.
5 ـ عدم محاسبة مديري هذه المشروعات على النتائج الحقيقية لمشروعاتهم.
6 ـ عدم وجود المنافسة الخارجية، حيث تتمتع هذه المشروعات بالحماية الجمركية غالباً.
وعلى هذا، فإن قروض التكييف الهيكلي التي يقدمها البنك، تهدف إلى علاج مشكلات القطاع العام بما يلي:
1 ـ إبعاد هذه المؤسسات تماماً عن الأهداف الاجتماعية والسياسية.
2 ـ إدارة هذه المؤسسات على أسس تجارية بحتة، برفع أسعار منتجاتها لتتوافق والأسعار العالمية، وإلغاء الدعم المخصص لها.
3 ـ عدم احتكارها للسوق المحلي وتعريضها للمنافسة الأجنبية.
4 ـ منحها الاستقلال في الإدارة والتسعير والتوظيف.
وإذا لم تكن وصفة الإصلاح هذه قابلة للتنفيذ، فإن البنك يقدم ثلاث توصيات:
الأولى: إلغاء هذه المشروعات وبخاصة الخاسرة منها.
الثانية: بيع المشروعات المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص، أو إشراك رأس المال الأجنبي في ملكيتها.
الثالثة: انسحاب الدولة من إدارة الخدمات ذات الطابع العام كالكهرباء، ومياه الشرب، والصرف الصحي، والإسكان وغيرها، تاركة إدارتها للقطاع الخاص، وذلك لتخفيف العبء المالي على الموازنة العامة.
ü ثالثاً: الإصلاح الضريبي:
الضريبة عند علماء المالية العامة هي: «اقتطاع مالي، تقوم به الدولة عن طريق الجبر من ثروة الأشخاص الآخرين، ودون مقابل خاص لدافعها، وذلك بغرض تحقيق نفع عام» .
وتنقسم الضرائب إلى قسمين رئيسين:
1 ـ ضرائب مباشرة وهي التي تُفرَض على المال عند اكتسابه. ومن أهم أنواعها ما يلي:
أـ الضريبة على الدخول مثل: دخول الأشخاص كالرواتب والأجور، ودخول المهن الحرة، وعائد رأس المال، وريع العقارات، وأرباح الشركات.
ب ـ الضريبة على الثروات والتركات. سواء كانت للأفراد الطبيعيين أم للشركات، وسواء كانت أصولاً ثابتة مثل: الأموال العقارية، أو أصولاً منقولة مثل: الودائع البنكية، والأوراق المالية كالأسهم والسندات.
2 ـ ضرائب غير مباشرة وهي التي تفرض على المال عند إنفاقه. ومن أهم أنواعها ما يلي:
أـ الضريبة على القيمة المضافة: وتفرض على الزيادات التي تتحقق في قيمة الإنتاج في كل مرحلة من مراحل الإنتاج.
ب ـ الضريبة على الإنتاج: وتفرض بنسبة معينة من قيمة الإنتاج على أنواع معينة من السلع المنتجة محلياً، إلا أنها لا تشمل السلع جميعها وإنما بعض السلع التي تختارها الحكومة، لذا تسمى أحياناً: الضرائب الانتقائية.
ج ـ الضريبة العامة على المبيعات: وتفرض على القيمة النهائية للسلع والخدمات عند بيعها. وعادة تفرض بمعدلات موحدة على السلع الاستهلاكية جميعها. كما أنها تفرض مرة واحدة في إحدى مراحل توزيع السلع، إما على مبيعات الجملة، أو على مبيعات التجزئة، أو على المبيعات إلى المستهلك النهائي.
د ـ الضرائب على الصادرات والواردات وهي المسماة بالرسوم الجمركية.
ويرى البنك الدولي أن الهياكل الضريبية في معظم الدول النامية غير ملائمة لما يلي:
أـ أنها معقدة وتصعب إدارتها والامتثال لأحكامها.
ب ـ أنها غير مرنة فلا تستجيب لمتطلبات النمو وتغير هيكل النشاط الاقتصادي.
ج ـ أنها غير منصفة؛ حيث تعامل الأفراد ودوائر الأعمال التي تتشابه أوضاعها تعاملاً متفاوتاً. كما تتم إجراءاتها بشكل انتقائي، فتحابي ذوي القدرة وتساعدهم على عدم الخضوع للنظام.
د ـ أنها غير فعالة؛ حيث تؤدي إلى آثار اقتصادية خطرة، وتسفر عن حصيلة ضئيلة نسبياً في الغالب.
ولتحقيق الإصلاح الضريبي عند خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ينبغي تحسين عائد الضرائب الموجودة، وزيادة مرونة النظام الضريبي، وإدخال إصلاحات على إدارة الضرائب، وعلى طريقة تحصيل الموارد، وربما إضافة ضرائب جديدة.
ومن الإجراءات المقترحة من صندوق النقد الدولي في هذا الخصوص ما يلي:
1 ـ تخفيض الضرائب على الدخول وعوائد رؤوس الأموال المستثمرة في القطاع الخاص.
2 ـ إعفاء أرباح ودخول الاستثمارات الجديدة من الضرائب، من أجل حفز المستثمرين على زيادة معدلات استثماراتهم في المجالات ذات الأهمية وبصفة خاصة قطاع الصادرات.
3 ـ تقديم تسهيلات جمركية على الواردات الاستثمارية والوسيطة للمشروعات الجديدة؛ لتخفيض قيمة الإنتاج وزيادة معدلات العائد على الاستثمار فيها.
4 ـ زيادة معدلات الضرائب غير المباشرة كضريبة المبيعات، وبخاصة على السلع الكمالية ومنتجات الصناعات التحويلية والخدمات المحلية.
ويتلخص الإصلاح الضريبي في نظر خبراء البنك الدولي فيما يلي:
1 ـ توسيع نطاق الوعاء الضريبي، وتخفيض نسب الضرائب الموجودة، والحد من المبالغة في درجات التصاعد الضريبي.
2 ـ فرض الضرائب على الأنشطة التي لم يفرض عليها ضرائب، مثل الأنشطة الزراعية والعقارية.
3 ـ التنسيق بين فرض الرسوم الجمركية وفرض الضرائب على المبيعات.
4 ـ مساواة معدلات الضرائب على أرباح الشركات بمعدلات الضرائب على أرباح رأس المال في الخارج.
5 ـ جعل الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات ذات وزن نسبي كبير بين مكونات الهيكل الضريبي المنشود. ويؤكد خبراء البنك الدولي أن فرض ضريبة المبيعات العامة ذات الوعاء المتسع، وضريبة القيمة المضافة، يجب أن يكون عنصراً مهماً في برامج الإصلاح الضريبي في الدول النامية؛ حيث إن فرض مثل هذه الضريبة سوف يترتب عليه تحصيل موارد كثيرة، وحفز الأفراد على زيادة الادخار والاستثمار.
6 ـ يجب أن يتسم الإصلاح الضريبي باستقرار السياسة الضريبية، والتشاور المسبق بشأنها، وإتاحة الفرصة للتصحيح قبل التنفيذ؛ مما يرسخ ثقة قطاع الأعمال في الإصلاح الضريبي.
ü المطلب الثاني: سياسات منظمات العولمة الاقتصادية لمعالجة الفجوة بين الادخار والاستثمار:
تعاني البلدان النامية نقصاً شديداً في الادخار وفي الوقت نفسه تحتاج إلى استثمارات كبيرة، وينتج عن ذلك وجود فجوة كبيرة بين الادخار والاستثمار، مما يعيق تحقيق تنمية حقيقية في هذه الدول. وهذه الفجوة تعد خللاً من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، يتطلب معالجته بعدة سياسات أهمها: تحرير معدل الفائدة المصرفية، وتطوير سوق الأوراق المالية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر. وفيما يلي الحديث بإيجاز عن تلك السياسات.
أولاً: تحرير معدل الفائدة المصرفية:
يقصد بالتحرير هنا إلغاء القيود المفروضة على معدلات الفائدة وتركها لقانون العرض والطلب؛ لأن السلطات النقدية في كثير من البلدان النامية تفرض حدوداً قصوى لمعدلات الفائدة الاسمية؛ مما يجعل معدلات الفائدة الحقيقية سالبة في الدول التي تزداد فيها معدلات التضخم عن معدلات الفائدة الاسمية. كما أنها تؤدي إلى وجود معدلات متعددة للفائدة حسب أولوية القطاعات الاقتصادية. وقد تلجأ تلك السلطات إلى مثل هذه السياسة، لتشجيع الاستثمار في بعض القطاعات أو للمساهمة في تمويل عجز الموازنة العامة، بإقراض بعض المشروعات المملوكة للدولة بمعدلات فائدة منخفضة، أو اشتراط الحكومة على المصارف التجارية أن تشتري سندات حكومية بفوائد منخفضة.
وهذا الإجراء لا يشجع المدخرين على إيداع أموالهم؛ بسبب انخفاض معدل الفائدة، فيبقى الادخار في المصارف منخفضاً، وتبقى مشكلة فجوة الموارد المحلية. ومنذ بداية الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي أخذ الصندوق يوجه النظر إلى الانحراف الكبير الذي يؤثر في تشكيل معدلات الفائدة في البلدان النامية، ودعا إلى إعادة نظر شاملة للفكر الذي تطرحه النظرية الكينزية لتنظيم القطاع المالي، الذي يجعل الادخار مرتبطاً بالدخل وغير مرن بالنسبة إلى معدل الفائدة، وأنه يجب المحافظة على معدل الفائدة عند مستوى منخفض. وفي نظر خبراء الصندوق تنتج هذه السياسة المشوهة لمعدل الفائدة، أوضاعاً متعددة من الخلل المالي كما يلي:
1 ـ إضعاف حافز الادخار المحلي، مما يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال إلى الخارج.
2 ـ توجه الاستثمارات إلى مجالات غير منتجة.
3 ـ توجيه التسليف المصرفي إلى القطاعات ذات الأولوية مثل القطاع الزراعي، وترك القطاعات التي لا تتمتع بالأولوية كقطاع التجارة.
4 ـ تحديد مستويات منخفضة لمعدلات الفائدة الاسمية، مما يجعل معدلات الفائدة الحقيقية سالبة بسبب التضخم.
لذلك، يطالب الصندوق بتحرير معدل الفائدة وتركها لعوامل العرض والطلب، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى ارتفاعها بمعدلات أعلى من معدل التضخم مما يشجع أصحاب الأموال على إيداع أموالهم في البنوك، وزيادة المدخرات المحلية ومن ثم توجيهها نحو الاستثمار. فهدف هذه السياسة هو جذب رأس المال المحلي والأجنبي بالإضافة إلى إيقاف الانخفاض في أسعار صرف العملات المحلية.
ويرى خبراء الصندوق أن تحقيق معدلات فائدة عالية يكون بما يلي:
1 ـ تحرير معدل الفائدة مما سيؤدي إلى ارتفاعها ويشجع على الادخار، ويمنع هروب رؤوس الأموال. وهذا يشمل معدلات الفوائد التي يحددها المصرف المركزي.
2 ـ أن يكون استعمال معدلات الفائدة لتوجيه التسليف أو الائتمان نحو قطاعات معينة، في أقل الحدود، ليقل عدد المعدلات المحددة إدارياً.
3 ـ إقامة نظام لتحديد معدلات الفوائد على مراحل متعاقبة، باتجاه تحريرها وإخضاعها لعوامل السوق؛ حيث لا تتدخل الدولة ولا مصرفها المركزي إلا بالتوجيه بإصدار سندات على الخزانة وطرحها للتداول في السوق.
ثانياً: تطوير سوق الأوراق المالية:
عُرّفت السوق المالية بأنها «السوق التي يتم فيها التعامل بالأوراق المالية بيعاً وشراء؛ بحيث تشكل القنوات الرئيسية التي ينساب فيها المال من الأفراد والمؤسسات والقطاعات المتنوعة، بما يساعد على تنمية الادخار وتشجيع الاستثمار من أجل مصلحة الاقتصاد» .
وتتسم الأسواق المالية في الدول النامية ـ في نظر خبراء الصندوق والبنك الدوليين ـ بضيق نطاقها وعدم تنوع هياكل أصولها المالية، نتيجة للعوامل التالية:
1 ـ عدم وجود الإطار القانوني والتنظيمي والضريبي الملائم.
2 ـ اقتصار السوق على مجموعة من البنوك التجارية التي ينصرف نشاطها إلى تمويل التجارة الخارجية.
3 ـ استئثار البنك المركزي وشركات التأمين الكبرى بنسبة كبيرة من السندات في ذلك السوق.
4 ـ إخفاق أسواق السندات في جذب المدخرات المحلية؛ بسبب ضيق نطاقها من ناحية، ودعم أسعار السندات الحكومية من البنك المركزي من ناحية أخرى.
5 ـ انخفاض الوعي المصرفي وعدم تطور المؤسسات المصرفية.
6 ـ قلة حجم الأوراق المالية التي تصدرها الحكومة.
7 ـ تحديد معدلات الفائدة إدارياً، مما يؤدي إلى ضعف كفاءة الجهاز المصرفي في جذب المدخرات المحلية وتوجيهها إلى المجالات الاستثمارية الأكثر إنتاجية.
8 ـ قلة تنوع الأصول المالية ومن ثم انخفاض درجة الإحلال بين النقود والأصول.
9 ـ انتشار ظاهرة الازدواجية المالية؛ بمعنى وجود قطاعين ماليين: أحدهما: حديث منظم تحدد فيه معدلات الفائدة بطريقة إدارية أو مركزية، وتتغير لمدة طويلة، وتتنوع معدلاتها وفقاً لنوعية القطاعات. والقطاع الآخر: قطاع غير منظم، تحدد فيه معدلات الفائدة وفقاً لمتغيرات اقتصادية ومؤسسية مثل: علاوة المخاطرة، والنفقات الإدارية، ونفقة الفرصة البديلة، ودرجة القوى الاحتكارية للمقترضين.
وفي ضوء اختلاف طبيعة وأسس تحديد معدلات الفائدة في القطاعين السابقين، تظهر أنواع غير متجانسة لتلك المعدلات، على نحو يصعب معه وجود تأثير واضح للسياسة النقدية في معدلات الفائدة، ومن ثم في الاستثمار.
ويرى البنك الدولي أن إصلاح هذا الوضع، ينبغي أن يتضمن إيجاد نظام مالي ذي قاعدة واسعة، بحيث يشمل سوقاً للنقود، وسوقاً لرؤوس الأموال، وأجهزة للوساطة المالية غير البنوك، مما يجعل الاقتصاد قادراً على المنافسة ومتحملاً الهزات الداخلية والخارجية، كما يؤدي إلى زيادة عرض رؤوس الأموال بأدوات منها: الأسهم والائتمان طويل الأجل، وهما أمران أساسيان للاستثمار في الصناعة.
ثالثاً: تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر:
عرَّف اتحاد القانون الدولي الاستثمار الأجنبي بأنه «تحركات رؤوس الأموال من البلد المستثمر، نحو البلد المستفيد، بقصد إنشاء أو تنمية مشروع لإنتاج السلع والخدمات» .
وينقسم الاستثمار الأجنبي إلى قسمين رئيسين:
1 ـ استثمار أجنبي مباشر: وهو «إقامة شركة، أو إعادة شراء كلي أو جزئي، لشركة قائمة في دولة أجنبية، سواء أكانت الشركة تمثل فروعاً للإنتاج، أم للتسويق، أم للبيع، أم لأي نوع من النشاط الإنتاجي أو الخدمي، موزعة أنشطتها على عدد من الدول الأجنبية» .
2 ـ الاستثمار الأجنبي غير المباشر: وقد عرفه البنك الدولي بأنه «استثمار الأجانب في أسواق رأس المال المحلية، دون قيام المستثمرين بتوفير التقنية والخدمات كما يحدث في الاستثمار الأجنبي المباشر» . وبمعنى آخر: هو تملك أشخاص غير مقيمين لأسهم وسندات منشأة وطنية، حكومية كانت أم خاصة، دون أن يكون للمستثمرين حق الرقابة على هذه المنشآت الوطنية.
وبناء على ما تقدم، يمكن التفريق بين النوعين كما يلي:
1 ـ أكثر من يمارس الاستثمار الأجنبي المباشر، هي الشركات وبخاصة متعددة الجنسية منها، أما الاستثمار الأجنبي غير المباشر، فيمارسه أفراد وهيئات مختلفة كالبنوك ومؤسسات الاستثمار.
2 ـ الاستثمار الأجنبي المباشر يجعل للمستثمر الأجنبي صوتاً مؤثراً في الإدارة زيادة على حق الملكية، أما الاستثمار الأجنبي غير المباشر، فلا يعطي المستثمر حق الإشراف أو التحكم في المنشأة التي يملك بعض أصولها.
3 ـ بينما يقدم الاستثمار المباشر للبلد المُضيف مزيجاً من التمويل وفنون الإنتاج والإدارة، يقدم الاستثمار غير المباشر التمويل فقط للحصول على عائد.
4 ـ الاستثمار غير المباشر في محفظة الأوراق المالية يعد أداة غير مستقرة لتمويل التنمية في الدول النامية؛ وذلك لأن هذه الأداة ذات طبيعة قصيرة الأجل، وتتأثر بعوامل دورية قصيرة الأجل، كالتوقعات المتفائلة أو المتشائمة بشأن الاستثمار الدولي، والمفاضلة بين معدلات الفائدة وعوائد الاستثمار الأخرى، ومن ثَمَّ فهذا النوع من الاستثمار أكثر تعرضاً لعوامل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ في حين أن الاستثمار الأجنبي المباشر يتأثر تأثراً كبيراً بالاستراتيجية الدولية للشركات متعددة الجنسية، وبنشاط التجارة الدولية، والأوضاع الاقتصادية في الدول المضيفة.
وتشجيع الاستثمار الخاص المحلي منه والأجنبي، من السياسات التي يتبناها البنك الدولي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. ويحرص البنك على زيادة عمل القطاع الخاص: المحلي والأجنبي، في الاضطلاع بعمل رئيس في التنمية، بتمكينه من الاستفادة من مدخرات المجتمع في البنوك وغيرها من مؤسسات الإقراض المحلية، إضافة إلى تسهيل حصوله على القروض الخارجية سواء من مؤسسات خاصة أم رسمية، وكذلك بتشجيع انسياب رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة للاستثمار داخل البلاد، مع إعطائها قدراً أكبر من الحوافز والمزايا والضمانات. ومن أهم السياسات التي يطالب بها كل من البنك والصندوق في هذا الخصوص ما يلي:
1 ـ إعطاء مزايا وحوافز لنشاط رأس المال الخاص الأجنبي، مثل: الإعفاء من الرسوم الجمركية وحصص الاستيراد.
2 ـ ضمان عدم تأميم أو مصادرة أو فرض الحراسة على المشروعات الخاصة.
3 ـ ضمان حرية تحويل أرباح ودخول المشروعات الأجنبية إلى الخارج.
4 ـ تحرير الأسعار من التدخل الحكومي وتركها لعوامل العرض والطلب، وبخاصة أسعار الصرف ومعدلات الفائدة.
5 ـ تقليص نمو القطاع العام، وقصر نشاطه على مشروعات البنية الأساسية، وبيع مشروعاته الناجحة إلى القطاع الخاص.
أما منظمة التجارة العالمية فقد طالبت بإلغاء الشروط التي تشترطها السلطات المحلية على الاستثمارات الأجنبية؛ بدعوى أن تلك الشروط تقيد التجارة العالمية وتعرقلها، وتناقض مبادئ المنظمة، وتحد من نمو التجارة الدولية، وتضع العراقيل أمام حركة الاستثمارات عبر الحدود الدولية.
ووضعت المنظمة في اتفاقياتها ضوابط لحظر تلك الإجراءات الاستثمارية، وطالبت الدول الموقعة عليها بإلغاء هذه الإجراءات خلال سنتين بالنسبة إلى الدول المتقدمة، وخمس سنوات بالنسبة إلى الدول النامية، وسبع سنوات بالنسبة إلى الدول الأقل نمواً.
ومن تلك الإجراءات التي تطالب المنظمة بإلغائها ما يلي:
1 ـ اشتراط أن يشتري المشروع الأجنبي منتجات محلية بمقادير أو نسب معينة؛ لأنه شرط مخل بمبدأ المعاملة الوطنية.
2 ـ اشتراط أن تكون واردات المشروع مقصورة على كمية أو قيمة معينة مرتبطة بكمية أو قيمة صادرات المشروع؛ مما يعارض مبدأ عدم اللجوء إلى القيود الكمية عند الاستيراد.
3 ـ شرط الربط بين النقد الأجنبي الذي يتاح للاستيراد والنقد الأجنبي العائد من التصدير.
4 ـ شرط بيع نسبة معينة من إنتاج المشروع الأجنبي في السوق المحلي.
__________
(*) أستاذ السياسة الشرعية المساعد بمعهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية السعودية.
(1) رسالة لنيل درجة الدكتوراه ـ في الدراسات الإسلامية: تخصص الفقه وأصوله من كلية التربية بجامعة الملك سعود. بعنوان: «سياسات العولمة الاقتصادية في ضوء الشريعة الإسلامية: دراسة مقارنة» . وقد جرى تعديل طفيف على العنوان عند طباعة الرسالة في مكتبة الرشد حيث أضفت لفظة «منظمات» وحذفت عبارة «دراسة مقارنة» ولا يغير ذلك من مضمون البحث شيئاً.(225/22)
النفط الصراع والدم
د. محمد مورو
شكَّل النفط ولا يزال منذ اكتشافه عام 1859م وحتى الآن أحد أهم أسباب الصراع في العالم، وقد شغل هذا الصراع على النفط مساحة كبيرة من خريطة الصراع العالمي طوال القرن الماضي، ومن المرجح أن يستمر هذا الأمر لفترة طويلة قادمة في قرننا الحالي.
في عام 1859 حفرت الولايات المتحدة الأمريكية أول بئر نفطية في أراضيها لتحدث بذلك نقلة نوعية هائلة في موضوع الطاقة، ومن ثم الاقتصاد والسياسة والصراع والحروب والعلاقات الدولية.
كان العالم الصناعي قبل ذلك العام يعتمد على الفحم الحجري كمصدر للطاقة، وكان هذا الفحم موجوداً تقريباً في معظم الدول الصناعية، وبالمقارنة بالنفط فإن الفحم الحجري كان يحتاج إلى تكاليف نقل باهظة وحيز كبير في تشكيل الآلة الصناعية، وهكذا اكتسح النفط سوق الطاقة، ولكنه لم يكن متوفراً في كل مكان كالفحم، بل تركز إنتاجه في أماكن معينة، ومن ثَم كان من الطبيعي أن يحدث الصراع حول النفوذ في تلك المناطق وحول طرق المواصلات المتصلة بنقل النفط من أماكن إنتاجه.
أحدث اكتشاف النفط ثورة هائلة في شكل الآلة وحجمها وقدراتها، وأصبح بمنزلة الدم الذي يجري في شريان الصناعة والحرب والنقل، بل إن اكتشاف النفط شكَّل في حد ذاته حافزاً علمياً هاماً لتسهيل المزيد من الاختراعات. ويمكننا أن نقول: إن الطائرة والصاروخ والأقمار الصناعية وغيرها من الآلات المتقدمة لم تكن لترى النور بدون النفط. ولا يزال النفط حتى اليوم يشكل العصب الرئيسي للطاقة، وحتى عندما ارتفعت أسعار النفط عقب حرب رمضان «أكتوبر 1973» وشعرت الدول الصناعية الكبرى وخاصة في أوروبا وأمريكا بإمكانية تحكُّم الدول المنتجة في الأسعار أو في ربطـ ذلك بالمواقف السياسية حاولت الدوائر العلمية في تلك الدول أن تبحث عن بديل للبترول بأسعار معقولة، وروَّجت تلك الدوائر أن ذلك ممكن ومتاح، ولكن مع الوقت اكتشف الجميع أن ذلك لم يكن إلا خدعة إعلامية بعثت الخوف والتراجع في صفوف منتجي الطاقة البترولية حتى لا تزداد رغبتهم في زيادة الأسعار. وظل النفط أرخص حتى لو وصل سعره إلى 60 دولاراً للبرميل، وأفضل مصدر معروف للطاقة حتى الآن. وكان من الطبيعي أن تحاول الدول الصناعية الكبرى السيطرة على منابع النفط بصورة أو أخرى، التأثير بكل الوسائل على المنتجين، ودخلنا من وقتها في ما يسمى بـ (الدم مقابل النفط) أي استعداد تلك الدول لنشر جيوشها وخوض الحروب من أجل تحقيق تدفق آمن ورخيص للنفط، ومنذ ذلك الوقت كان النفط هو العامل الأهم في الصراع الدولي.
عقب حفر أول بئر للنفط في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1859 بدأت كل الدول الصناعية في البحث عن تأمين مصادرها من النفط، وبدأ البحث والتنقيب في كل مكان بالعالم، وشاءت إرادة الله أن يوجد النفط ـ في معظمه ـ في أقطار عربية وإسلامية، ونجحت شركة النفط «الأنجلوفارسيا» في حفر أول بئر بترولية في إيران، ثم بدأ النفط يظهر في العراق والكويت والخليج العربي عموماً، وتسابقت دول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا لعقد صفقات مع مشايخ وحكام منطقة الخليج وإيران، إلا أن الولايات المتحدة دخلت على الخط عام 1933 ونجحت (شركة ستاندرو أويل كومباني أوف كاليفورنيا) في توقيع عقد مع العربية السعودية، وصدر المرسوم الملكي رقم 1135 في 7 يوليو 1933 بمنح تلك الشركة حق التنقيب واستخراج النفط في المملكة؛ وخاصة في الجزء الشرقي منها (منطقة الأحساء) .
كانت السيطرة على النفط تعني ضان استمرار عمل الآلة الصناعية والآلة العسكرية معاً، أي الرخاء والقوة، وكان بالإضافة إلى ذلك يمثل قطاعاً هاماً للاستثمار الرأسمالي، وهكذا كان النفط محوراً لصراع الرأسماليات والشركات والدول ومقاولي النقل، بل الأفاكين فضلاً عن العسكريين بالطبع.
ومع تصاعد حركات التحرر الوطني عقب الحرب العالمية الثانية ونجاح معظم الدول المحتلة في تحقيق استقلالها، تقلص نفوذ الدول الاستعمارية التقليدية: بريطانيا ـ فرنسا ـ ألمانيا ـ بلجيكا ـ البرتغال ـ هولندا.. إلخ، وأصبحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي هما قطبا الصراع. ولأن الاتحاد السوفييتي السابق كان يمتلك النفط في أراضيه، وليست لديه شركات رأسمالية تطمع في بترول الآخرين، فإن الثقل الأساسي لمحاولة السيطرة على النفط صب في خانة الولايات المتحدة الأمريكية التي تطلعت بدورها إلى استغلال ثرواتها.
وفي ظل حالة الاستقطاب الدولي بين الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية والولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلنطي، ومع صعود حركات التحرير الوطني في معظم بلاد العالم النامي وخاصة الدول النفطية، تطلعت الدول المنتجة للنفط إلى السيطرة على ثروتها الأساسية، وظهرت حركات وحكومات ودول أممت أو سعت إلى تأميم إنتاج النفط، وكان ذلك جزءاً من التحرر والكرامة، وجزءاً من استعادة الثروة المنهوبة؛ لأن عملية الإنتاج كانت تصب أرباحها الأساسية في جيب الشركات الرأسمالية والدول الصناعية الكبرى على حساب الشعوب الفقيرة التي كانت تعاني من تدهور أحوالها الاقتصادية والاجتماعية. وفي كل الأحوال لم تحاول تلك الدول قطع البترول عن الدول الصناعية، بل ظل يتدفق بانتظام في كل الظروف بأسعار رخيصة جداً، ومع ذلك لم يكن الغرب ولا أمريكا راضين عن مجرد التطلع لدى تلك الشعوب لممارسة شيء من سيادتها على ثرواتها، وفي عام 1960 تمـ إنشاء منظمة الأوبك وشملت 11 دولة هي «الجزائر ـ إندونيسيا ـ إيران ـ العراق ـ الكويت ـ ليبيا ـ نيجيريا ـ قطر ـ السعودية ـ الإمارات ـ وفنزويلا» في محاولة لتشكيل تجمع من الدول المنتجة يعادل شيئاً ما قوة المستهلكين، ورغم ذلك لم تتأثر إمدادات النفط للدول المستهلكة ولا أسعار النفط أيضاً.
وفي عام 1973 حدثت أزمة النفط التاريخية المعروفة في أعقاب حرب أكتوبر، وارتفعت أسعار البترول بصورة كبيرة، وكان ذلك بالطبع خيراً كبيراً؛ لأن عوائد النفط لو استخدمت منذ ذلك الوقت في بناء قاعدة صناعية واقتصادية للدول المنتجة لكان الأمر مختلفاً عندما حدثت أزمة النفط، حيث قررت الولايات المتحدة الأمريكية ـ التي تستهلك 1/4 إنتاج النفط العالمي وحدها، والتي كانت ولا تزال أكبر قوة عسكرية واقتصادية والتي يشكل النفط من ثَمَّ عاملاً هاماً من عوامل قوتها ورخائها ـ قررت ألا تترك إمداداتها النفطية للظروف، وأنشأت خزانات لادخار كميات نفط تشكل احتياطياً إستراتيجياً يكفيها 84 يوماً، وقد صدر قرار بذلك من الرئيس الأمريكي وقتها «جيرالد فورد» عام 1975، وفي الوقت نفسه قررت الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة بطريقة أو أخرى على منابع النفط الأساسية في العالم وخاصة منطقة الخليج، وتم إعداد خطة في عهد الرئيس (كارتر) عام 1976 سميت (خطة كارتر) تقول: إن أمريكا على استعداد للتدخل الفوري والمباشر عسكرياً في أي نقطة في العالم تمثل تهديداً للنفط. وقال كارتر: «إن تهديد منابع النفط يعني مباشرة تهديد الأمن القومي الأمريكي، وإننا على استعداد لندفع الدم مقابل ضمان استمرار تدفق النفط» . وهكذا كان (كارتر) أول من صك عبارة «الدم مقابل النفط» .
في نهاية السبعينيات 1979 اندلعت الثورة الإيرانية وكان ذلك مؤشرَ خطرٍ على المصالح البترولية في الخليج، وفي المصالح البترولية المتوقعة في بحر قزوين، وكانت الولايات المتحدة قد نجحت في احتواء ارتفاع أسعار النفط، وأمَّنت لنفسها إمداداً آمناً منه من منطقة الخليج تحديداً، ودخل الاتحاد السوفييتي أفغانستان مهدداً بالوصول إلى «المياه الدافئة» . وهكذا تحركت الولايات المتحدة بسرعة لاحتواء هذا الخطر المتفاقم، وانتهى الأمر بإثارة قوى كبيرة ضد الاتحاد السوفييتي انتهت بهزيمته وسقوطه في بداية التسعينيات من القرن الماضي، بل وتفكك المنظومة الاشتراكية برمتها، كما أشعلت الولايات المتحدة وشجعت الحروب ضد إيران، وخاضت ضدها حرباً دعائية وسياسية انتهت بتقليم أظافرها الثورية.
جاءت حرب الخليج الثانية ـ احتلال العراق للكويت ـ لتقدم فرصة ذهبية إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإدخال قواتها العسكرية إلى منطقة الخليج بدعوى إخراج العراق من الكويت، ثم حماية دول الخليج من الخطر العراقي، ولم تخرج تلك القوات من يومها، بل ازداد انتشارها، وظهرت القواعد الأمريكية في دول الخليج والبحر، وتم احتلال العراق سنة 2003؛ وعلينا أن نرصد الآن قوات أمريكية وقواعد بالإضافة إلى الدول السابقة في أفغانستان التي دخلتها بحجة مسؤولية تنظيم القاعدة عن أحداث 11 سبتمبر، ومسؤولية طالبان عن حماية تنظيم القاعدة، ولم تخرج القوات الأمريكية من هناك رغم الإطاحة بنظام طالبان وإقامة نظام تابع للولايات المتحدة الأمريكية هناك.
وتوجد أيضاً في جورجيا وطاجيكستان والجمهوريات المحيطة ببحر قزوين من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وهي موجودة في تركيا وباكستان ثم جيبوتي واليمن والقرن الإفريقي والفلبين وهي كلها مناطق نفط، أو على طرق المواصلات المتصلة بالنفط. ونلاحظ أن القوات الأمريكية لم تتجه إلى دول أمريكا اللاتينية بحثاً عن إرهابيين مؤكدين أو داخل الولايات المتحدة في الغابات التي تعج بالجماعات والمنظمات الأمريكية المسلحة التي تهدف إلى الأضرار المؤكدة بالحكومة الأمريكية.
ماذا تريد أمريكا من نشر قواتها حول مناطق إنتاج البترول أو الطرق المؤدية إليها أو تمر بها إمدادات النفط؟ ولماذا تنشر أمريكا قواتها الآن؟ الإجابة عن السؤال تقتضي الأخد بالاعتبار: نهاية الاتحاد السوفييتي، انفراد أمريكا بالهيمنة على العالم، تصاعد موجات العولمة أو الأمركة، بروز قوة الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً واقتصادياً، التنافس الاقتصادي والعسكري المحتمل مع أوروبا ـ اليابان ـ الصين ـ روسيا؛ وهكذا فإن المطلوب احتواء روسيا والصين، ووضع الرأسماليات الأوروبية واليابانية تحت السيطرة الأمريكية بالتحكم في إمدادات النفط.
وإذا كان النظام الأمريكي يمثل تحالف الرأسماليين والعسكر الذين يرغبون في مناطق تمدد جديدة وحروب جديدة، وإذا كانت التقارير تصب يومياً تتحدث عن قوة أمريكية عسكرية هائلة لا يستطيع أحد الوقوف أمامها أو منافستها، وقوة اقتصادية هائلة تمثل 1/3 الاقتصاد العالمي «11 تريليون دخل قومي سنوي في أمريكا» ، وأن تلك الحالة الدولية السائدة يمكن أن تنتهي في عضون سنوات، كان من الطبيعي أن تستغل الحكومة الأمريكية الفرصة للتمدد في العالم، والسيطرة على البترول، واحتجاز مكان مضمون للسيطرة الدائمة على العالم ولو لمدة قرن. وهكذا جاء الحديث عن القرن الحالي (الواحد والعشرين) على أنه قرن الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي إطار السيطرة على الرأسماليات الأخرى في أوروبا واليابان وتحديد مستوى نموها بما لا يهدد المصالح الأمريكية كان لا بد من التحكم في البترول حتى تكون تلك الرأسماليات تحت رحمة السيد الأمريكي «يبلغ الناتج القومي الأوروبي 9 تريليون دولار سنوياً والألماني منه 2.5 تريليون دولار سنوياً؛ في حين يبلغ الناتج القومي الياباني 5 تريليون» . وبالنسبة لروسيا والصين يجب احتواؤهما بالقوات الأمريكية في كوريا وأفغانستان وباكستان والفلبين والخليج والقرن الإفريقي، وعبر مظلة حلف الأطلنطي شرقاً حتى حدود روسيا، وذلك لمنع روسيا من إعادة بناء نفسها واستعادة دورها القديم، ومنع الصين من التطور خارج الإطار.
النفط والصراع على النفط يفسر كثيراً من معادلات الصراع والحروب والانتشار العسكري والسياسي. وإذا وضعنا أمامنا خريطة احتياطيات النفط العالمي حالياً لوجدنا أن الخليج العربي يمتلك 64% من الاحتياطي المؤكد للنفط؛ فالسعودية مثلاً تمتلك 262 مليار برميل احتياطي، والعراق من 115 ـ 220 مليار حسب اختلاف التقديرات، وفنزويلا 65 ملياراً؛ أما بحر قزوين ففيه من 15 إلى 40 مليار برميل حسب اختلاف التقديرات، وهناك مشاكل بين الدول المحيطة به حول الإنتاج وحقوق الاستغلال (روسيا ـ إيران ـ أذربيجان ـ كازاخستان ـ تركمانستان) ، وهناك أيضاً مشاكل في النقل عن طريق تركيا أو الخليج عبر إيران؛ وهكذا فالمجال المفضل أمام الولايات المتحدة هو منطقة الخليج، وهذا يفسر احتلالها للعراق الذي لا علاقة له بموضوع أسلحة الدمار الشامل، أو موضوع الديمقراطية المزعومة، والولايات المتحدة أيضاً ذهبت إلى أفغانستان وجورجيا وكازاخستان من أجل بترول بحر قزوين.
ويمكن أن يكتمل فهمنا لمعادلات الصراع إذا أدركنا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تمتلك سوى 21 مليار برميل احتياطي، وإنتاجها حالياً 7 ملايين برميل، وهي تحتاج 17 مليون برميل يومياً حالياً. وهكذا فإنها تستورد 10 ملايين برميل يومياً، ومن المتوقع أن تصل احتياجاتها إلى 26 مليون برميل يومياً عام 2020 وهو ما يعني أنها بحاجة إلى 17 مليون برميل يومياً؛ حيث لن يصل إنتاجها المحلي إلا إلى 9 ملايين برميل فقط وهو سقف يصعب تجاوزه؛ أي أنها تريد استيراد 66% من حاجتها اليومية للبترول والغاز، وإذا كان الإنتاج العالمي حالياً يصل إلى 74 مليون برميل يومياً يفيض عن حاجة المستهلكين، فإن من المتوقع أن يصل الإنتاج إلى 92 مليون برميل يومياً عام 2020، في حين يصل الاستهلاك إلى 111 مليون برميل يومياً، أي أن هناك فجوة ستحدث، ومن لا يستطيع أن يؤمِّن حاجاته البترولية فسيتراجع صناعياً واقتصادياً وعسكرياً، وإذا هيمنت الولايات المتحدة على البترول فسوف تتحكم بالآخرين فضلاً عن تأمين حاجاتها.
لم تترك الولايات المتحدة فرصة للسيطرة على البترول إلا سارعت إليها، وحتى بترول السودان المتوقع «3 مليارات برميل احتياطي» ، جعل الولايات المتحدة تسارع إلى التدخل في الموضوع السوداني وتضع يدها على البترول وتحقق نفوذاً هناك، وكذلك فيما تخطط له في نيجيريا والجزائر وليبيا.
والحقيقة أن ما تعلنه الولايات المتحدة من أنها تحارب الإرهاب ليس إلا حجة في موضوع البترول والهيمنة، وحتى أحداث 11 سبتمبر لم تكن سبباً لانتشار العدوان الأمريكي ومحاولات الهيمنة، بل هي فرصة استغلتها لإقناع الشعب الأمريكي بدفع الدم لصالح الآلة العسكرية والرأسمالية، والمجمع الصناعي العسكري الأمريكي الذي يسيطر على أجهزة الحكم؛ فقبل أحداث 11 سبتمبر بـ 4 أشهر كاملة أي في شهر مايو 2001 صدر تقرير السياسة الوطنية للطاقة عن مجموعة تنمية سياسة الطاقة الوطنية الأمريكية «تتكون من 14 عضواً من مؤسسة الرئاسة الأمريكية بما فيهم نائب الرئيس نفسه» وقد أشار التقرير إلى أن أمريكا تواجه أكبر نقص في البترول تعرضت له منذ 1973م، وطالب التقرير باتخاذ العديد من الإجراءات والتحركات وفي مقدمتها زيادة موارد البلاد من الطاقة عموماً والبترول خصوصاً، وزيادة مستوى تأمين المصالح البترولية في الخارج.
بالطبع فإن الصراع له أسباب متعددة، حضارية، عقائدية، سياسية، اقتصادية، استراتيجية، نفسية، ولكن البترول بدوره أحد أهم عوامل هذا الصراع، وبديهي أن حديثنا السابق عن هذا العامل لا يلغي ولا يغفل قيمة العوامل الأخرى.(225/23)
لفتات في تأليف القلوب
أبو محمد أحمد أجلان
قصّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه الكريم مقالة فرعون {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] .
وهذا الرأي الذي رآه فرعون هو قتل موسى عليه السلام. وكان هدف قتله ـ كما يزعم ـ: خشية على دين بني إسرائيل من التبديل وخوفه من إفساد موسى في الأرض.
وهكذا مذهب الطغاة على مرِّ التاريخ، إلزامُ الناس على رأيهم بقوة السلطان، بحجة الغيرة على الدين. وليس حديثي في هذا المقال عن هؤلاء الطغاة والمفسدين؛ فمذهبهم أوضح من أن يوضح، ولكنَّ العجب الذي لا ينقضي منه العجب من بعض بني جلدتنا، ممن يحمل همَّنا ويقف معنا في صفِّنا وهو يتدثر بهذا الطغيان الفكري من حيث يشعر أو لا يشعر، فتراه دائماً يدَّعي احتكاره الصواب ... ورأيه هو رأي الإسلام.
وهو الناطق الرسمي باسم سلف الأمة.
فيُدخِل من شاء إلى السنَّة، ويُخرِج من شاء منها؛ ولسان حاله: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} . [غافر: 29]
وليست المشكلة في هذا فحسب، لكن المصيبة أن يتعدَّى ذلك إلى التحزُّب والفرقة والتصنيف في مسائل يسوغ فيها النظر والاجتهاد، وهذا العمل قد ذمَّه الله في كتابه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} .
[آل عمران: 105]
{فَمَا اخْتَلَفُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الجاثية: 17] .
وأحسب أن هذا نوع من التطرف الفكري، منشؤه الجهل، وقلة العلم، وقصر النظر.
\ لنتأمّلْ هذه القواعد المهمة!
هناك قواعد يجدر بنا جميعاً الوقوف معها وتأمّلها؛ قصدتُ بها ائتلاف القلوب ولملمة الكلمة، وتوحيد الصف، فمن ذلك:
أولاً: أنَّ الاختلاف أمر طبيعي وقع في عهد النبي # والوحي ينزل من السماء، فاختلف الصحابة بين يدي النبي # في مواطن عدّة (كقصة صلاة العصر في بني قريظة) ولم يعنّف النبي # أحداً.
وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ اختلفوا بعد وفاته في أمور عدَّة في مكان دفنه، وفي قتال مانعي الزكاة، وفي كتابة الوحي، وخالف ابن مسعود الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ في مسائل كثيرة أوصلها ابن القيم إلى مائة مسألة؛ ومع هذا لم يتحزَّبوا أو يتفرقوا، ولم يُبدّع أو يُفسّق بعضهم بعضاً.
ثانياً: تضييق مذهب أهل السنَّة والجماعة أو السلف بأنَّه ما قاله فلان ـ ولو كان هذا الشخص من الأئمة المعتبرين ـ فيعمد أحدهم إلى قولٍ لأحد السلف الصالح قاله في قضية معينة وفي ومكان وزمان معين ... فيقول: هذا مذهب السلف؛ وهذه إشكالية كبيرة؛ لأنَّه بهذا المنهج سيتفرَّع لنا أحزاب كثيرة كلها سترفع الشعار نفسه.
والأمر الذي يُقرّه العقل والمنطق أن لا يُنْسَبَ إلى السلف إلا في المسائل العامة كأصول الاعتقاد التي أجمع عليها السلف وكان قولهم وعملهم فيها واضحاً ـ وإن حصل شذوذ من بعضهم لا يُذكر ـ.
ثالثاً: التفريق بين النص وفهم النص؛ فإذا كان النص حمَّالَ أوجه فلا ينبغي القطع بأنَّ هذا هو مراد الله وأنَّ من خالفه فقد خالف الإسلام، وبسبب هذا بُدِّع أقوام وضُلّل آخرون، نعم! أقوال العلماء لها مكانتها ومنزلتها، وهي محل الاعتبار، لكنها لا تصل في القداسة إلى درجة النص الشرعي.
رابعاً: أن كثيراً من هذه المسائل المختلف فيها يدخل فيها الهوى والحسد والانتصار للنفس ـ خصوصاً بين الأقران ـ فهذا أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ وَصَمَهُ بعض علماء زمانه بالكفر، وقيل فيه من الكذب والافتراء ما يندى له الجبين.
وهذا الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ قال عنه ابن أبي ذئب ـ وهو مَنْ هو في العلم والإمامة ـ: يُستتاب، وإلا يضرب عنقه
وهذا الشافعي ـ رحمه الله ـ يدعو عليه أحد كبار أصحاب مالك في مصر بأن يهلكه الله.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يُؤذى ويسجن عدَّة مرات، وكان الذي ألَّب عليه السلطان علماء زمانه، وما أجمل ما قاله الذهبي: كلام الأقران يطوى ولا يروى.
وقال أيضاً: طيُّه أوْلى من بثِّه.
خامساً: أنَّ من اتَّبع رأي عالم في مسألة فلا إنكار عليه؛ فالمقلد الذي لا يسعه الاجتهاد يكفيه تقليد من يثق بدينه وعلمه. يقول سفيان الثوري: إذا رأيتَ الرجل يعمل العمل الذي اختُلِفَ فيه، وأنت ترى غيرَه فلا تنهه.
سادساً: أنَّ العالم والداعية بشر معرَّض للصواب والخطأ، وقد تحدث منه الزّلة والزلاَّّت؛ فخطؤه لا يقدح في سائر فضله وصوابه، وعيب على المرء أن لا يبصر إلا بعين واحدة؛ ففي الحديث: «إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث» (1) .
يقول سعيد بن المسيب: ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب؛ ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله.
ويقول ابن القيم: فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرك جملةً وأُهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات.
ويقول الذهبي: ولو أنَّ كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه لما سلم معنا أحد من الأئمة؛ فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة.
سابعاً: في معمعة الخلاف والصراع الفكري يغيب عن الكثيرين أساسيات مهمة وأصول ثابتة لا تتغيَّر، وهو أنَّ مخالفك ما زال يحمل اسم الإسلام، فينبغي أن يسود بين المسلم وأخيه المحبة، وحفظ الحقوق والذَّبُّ عن عرضه، وعدم الفرح بمصابه؛ فأهل السنة رحماء بالخلق، نصحاء للأمة، شفقاء على الناس.
وأخيراً ... الكلام في أعراض المسلمين والطعن في منهجهم ونواياهم باب خطير، وصاحبه على شفا جهنَّم ـ والعياذ بالله ـ إن لم يتدارك نفسه ويتحلل ممن نهش في أعراضهم وأكل لحومهم.
اللهم أرِنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه!(225/24)
الحاجة الماسة للتقارير المتخصصة
د. سامي محمد صالح الدلال
منذ حوالي قرن من الزمان، وخاصة بعد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924؛ فإن المسلمين سجلوا غياباً مذهلاً عن ساحة الأحداث، محلياً ودولياً، وأصبحوا منفعلين وليسوا فاعلين.
غير أن الأعمال الجهادية في أفغانستان والشيشان وكشمير والفلبين، ثم الانتفاضة الأولى والثانية في فلسطين، قد أعادت للمسلمين شيئاً من الوعي.
وعندما أحس الصليبيون واليهود بهذا الدبيب في أمة الإسلام، زحفت الخشية إلى قلوبهم من إمكان أن يتحول ذلك في يوم من الأيام إلى قوة تمكِّن المسلمين من تهشيم الأسوار التي أحاطوها بها، والمتمثلة بالأنظمة الحاكمة التي زرعوها في بلادهم وجعلوها نائبة عنهم في قهر المسلمين في عقر ديارهم وفي مصادرة آمالهم في الاستظلال بشريعة ربهم، فراحوا يعيدون حساباتهم ويحدِّثون خططهم ويجددون برامجهم بما يضمن لهم إبقاء هذه الأمة تحت سياط الذل والمهانة، وما أحداث البوسنة والهرسك وكوسوفا وتيمور الشرقية وأفغانستان والعراق إلا بعض الصور المعبرة عن ذلك.
لقد كان لافتاً للنظر أن كثيراً من الإسلاميين لم يكونوا على مستوى الأحداث التي تقع والمكائد التي تدبر والمؤامرات التي تنفذ، ومن ثَم صاروا في غياب عن الوعي بما يجري في كثير من بقاع العالم، بل إنهم انقادوا، تحت تأثير ما أشاعه الغرب، إلى الإيمان العميق بعدم صحة نظرية المؤامرة، هكذا بإطلاق. وبناء عليه فإنه من وجهة نظرهم أن ما يحدث في العالم لم يسبقه تخطيط ولا تدبير من أعداء الإسلام، بل إنه يقع هكذا اتفاقاً، فاستتبع هذا الرأي لازمه، وهو أن لا داعي لملاحقة تلك التخطيطات والتدبيرات للتعرف عليها؛ لأنه لا وجود لها أصلاً، بحسب رأيهم.
وهكذا أصبح تصرُّف هؤلاء يخضع فقط إلى رد الفعل إزاء الأحداث المتتالية، فجاءت ردود أفعالهم وكأنهم لا يعيشون عصرهم ولا يدرون ما يُفعل بهم، أي أنهم غَيَّبوا أنفسهم تماماً عن فقه الواقع.
لقد أدى ذلك إلى عدة أمور، من أهمها:
1 - عدم فرز الأعداء عن الأصدقاء: ومن مفارقات ذلك أن الولايات المتحدة التي تقتل المسلمين وتحتل بلدانهم اعتُبرت صديقة، وأن المسلمين الذين يقاتلونها اعتُبروا أعداءً. أي إنه انقلاب كامل لمفهوم الولاء والبراء. ومن المفارقات أيضاً اعتبار انتفاضة الفلسطينيين على اليهود المحتلين غير شرعية؛ لأنها لم تحظ بموافقة ولي الأمر حينها، أي ياسر عرفات.
2 - اختلال فقه الموازنات: وهذا أمر طبيعي، بل هو تحصيل حاصل؛ ذلك أن فقه الموازنات يعتمد، في بعض ما يعتمد عليه، على المعرفة الدقيقة بالواقع، وهذا غير متحصل لدى الإسلاميين الذين أشرنا إليهم. وبناء عليه فإن مواقفهم إزاء الأحداث تجدها مجللة بالعجب العجاب، تتميز بعدم الاتزان وبالانفعال وبردود الفعل السريعة وغير المدروسة، فتحدث البلبلة وتطيش الآراء ويدب الخلاف بين الأتباع.
3 - ركوب موجة التسويغات: وسببها دخول هؤلاء في أنفاق مظلمة لم يتبينوا ما وراء أكمتها؛ فإذا ما جاءت النتائج على خلاف ما اعتقدوه أنه مقدماتها شرعوا يبررون ويعتذرون. ومن أبرز ذلك انخراطهم في المشاريع الديمقراطية، وعقدهم الصفقات السياسية مع الأحزاب العلمانية.
4 - الدفاع عن قضايا باطلة: وذلك لوقوعهم في استدراجات الخصم. ومن ذلك الدخول في تحالفات مشبوهة مع العلمانيين، أو الانجرار إلى مواقف مبرمجة مسبقاً كمشاركتهم في المؤتمرات القومية، مما ترتب عليه في كلتا الحالتين الدفاع عن أولئك لتبرير المواقف!!
وقد نتج عن كل ذلك أن الركن الأول في الفتوى، وهو فقه الواقع أو «معرفة حالهم» بحسب اصطلاح شيخ الإسلام ابن تيمية، قد أصابه الشلل وأحاط به الفشل.
وأما الركن الثاني من الفتوى وهو معرفة حكم الله في مثلهم، والمقتضي معرفة النصوص التي تتعلق بها كل حالة، ثم معرفة كيفية تنزيل النص على الواقعة؛ فقد أصابه أيضاً الخلل؛ وذلك بسبب لجوء هؤلاء في كثير من الأحيان إلى لَيِّ عنق النصوص ليوافق ما ذهبوا إليه.
من هنا؛ فإن الحاجة قد أصبحت ماسة جداً لأجل استحداث الوسائل التي تجلِّي للمسلمين، وللعلماء والدعاة منهم بالذات، ما يبين حقيقة الواقع وما تضطرم على سطحه من أحداث وتتلبس بين ثناياه من ملابسات.
وإننا نرى أن من أهم تلك الوسائل هو إعداد التقارير المنوعة، وفي كافة المجالات، التي توضح حقيقة مجريات الأمور وما يدور في الكواليس، وتعد الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية من أهم ما ينبغي أن يعلمه الإسلاميون أصحاب القرار والتوجيه؛ حيث إن هذه التقارير توفر:
1 - المعلومات الدقيقة.
2 - الإحصاءات الموثقة.
3 - التحليلات العميقة من جهة المختصين.
4 - الربط بين الواقع والمخططات الموضوعة.
5 - الاستنتاجات الضرورية.
6 - الاقتراحات المناسبة.
ولذلك نرى أنه من الأهمية بمكان الاهتمام بهذه التقارير بالمواصفات التي ذكرناها؛ حيث إنها تجعل الحقيقة مكشوفة قدر الإمكان لكل من له علاقة بالشؤون العامة والخاصة للمسلمين، علماً أن أعداء الإسلام يوظفون طاقات كبيرة وينفقون أموالاً وفيرة على المراكز الاستراتيجية التي تعد لهم مثل هذه التقارير مما يوفر لهم كافة الإمكانات ويضع بين أيديهم كافة البدائل عندما يكونون بصدد اتخاذ قراراتهم، ليس فقط الهام منها، بل حتى القرارات العادية.
ولذلك فإننا نشجع بقوة كافة المسلمين المهتمين بشؤون دينهم وأمور دعوتهم على متابعة الاطلاع على التقارير التي تعدها الجهات الإسلامية الموثوقة، ليكونوا على بينة من أمرهم، وسديدي الرأي في تنفيذ أمر ربهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(225/25)
226 - جمادى الآخرة - 1427 هـ
(السنة: 21)(226/)
إنهم يحاربون الله
شأن الظلم والطغيان أن يولِّد عند الشعوب ردَّات من الفعل لا يمكن معرفة نتائجها ولا الحدود التي يمكن أن تقف عندها، فقد كانت ثورة هائجة يدفعها ما تعانيه تلك الشعوب من التخلف والقهر والفقر والطغيان، والليل المظلم الطويل الذي أرخى سدوله على دولة الصومال تلك البقعة من أرض المسلمين، لم يكن لديها مشروع للحُكْم ولم تُعدّ للأمر عدّته، فعقيب انهيار حكم الطاغية المستبدّ محمد سياد بري عام 1991م حدث فلتانٌ أمني، وتفاقمت الظاهرة التي عرفت بـ «أمراء الحرب» ممن احترف القتل والتدمير وإهلاك الحرث والنسل، في هذا الجو الخانق قامت ثلّة من علماء المسلمين بما يجب عليهم في مثل تلك الظروف، يحاولون لملمة الأمور على قدر ما يستطيعون، استشعاراً لرسالتهم الحقيقية، وقياماً بالدور المناط بأهل العلم إذا عدم الوالي المستوفي للشروط، فظهرت المحاكم الإسلامية التي سعت لاستتباب الأمن وفصل الخصومات بين الناس بالحق، ولأن الحق لا بدّ له من قوة تؤازره وتدفع عنه «مصحف يهدي وسيف ينصر» تكونت القوات التابعة للمحاكم الإسلامية، واستطاعت هذه المحاكم أن تقوم بدور الحكومة عند غيابها الفعلي، واستتبَّ الأمن إلى حدود بعيدة، لكن أمريكا التي حملت على كاهلها محاربة الإسلام في كل بقعة من بقاع الأرض اتخذت من شعار محاربة الإرهاب ـ ذلك الشعار الذي استُبيحت به الديار وهُتكت به الأعراض وأُزهقت به النفوس وسُرقت به خيرات البلاد ـ غطاءً لإجهاض هذا التوجه، ومؤازرة لمعارضيه من تيارات العلمنة، وقامت بتشكيل تحالف من أمراء الحرب تدعمهم بالمال والسلاح وتقف خلفهم لمحاربة قوات المحاكم الإسلامية. وتدور هذه الأيام رحى الحرب بين جنود الرحمن وبين تحالف الشيطان، جنود الرحمن يسعون لنصرة الإسلام، وتحالف الشيطان يسعى لنصرة عبّاد الصليب، وخذلان عباد الله الصالحين، إنهم يحاربون الله ـ تعالى ـ، فلهم الخيبة والهزيمة والخذلان، فمن يحارب الله هو المغلوب بلا شك، ولو كان يملك كل أنواع الأسلحة التي في العالم وأضعافها {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] ، ولكن القوم لا يفقهون.(226/1)
هكذا يعبثون بالثوابت
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن مسلَّمات الدين وقطعياته من الأقوال والأعمال هي روح الإسلام والإطار الذي تقوم بقية أجزائه عليه؛ فمن أتى بها وحافظ عليها فقد استمسك بحقيقة الدين، ومن فرط فيها فقد ضيع أصل الهداية والأساس التي تقوم عليه الديانة.
ومن دعا إليها وبذل وسعه في التعريف بها والذود عنها فقد سلك طريق المرسلين، وسار على هدي مستقيم. وفي المقابل فمن دعا إلى ما يخالفها، وتبنى سَوْق الناس إلى الإعراض عنها أو تنكبها ولم يُبالِ بها فقد جعل من نفسه زعيماً للضلالة، وأحد رؤوس التغرير والغواية.
وفي عصرنا الذي ظهر فيه كثيرٌ من عوامل ضعف الأمة وهوانها وتبعيتها؛ حيث تكالب علينا أعداؤنا فيه بكل وسيلة من كل حدب وصوب انبرى بعض بني جلدتنا المتحدثين بألسنتنا ـ ممن صنعهم الغرب على عينه فأرضعهم من أفكاره، ونبتت أجساد كثير منهم واشتد عودها وذاع صيتها من سُحته ـ لاستهداف الديانة في مقوماتها الصلبة الثابتة، وإعادة تشكيل عقلية المسلم المعاصر وملامح شخصيته وفق رؤية خاضعة للهيمنة الغربية إن لم تكن مؤيدة له؛ ليكونوا بذلك مغرقين في الدعوة لجهنم بشتى السبل المعلنة والخفية، وعلى مجالات الحياة كافة وأصعدتها المختلفة، حتى صارت رسالتهم التسويق لبضاعة الغرب يوماً، والصد عن هدى الرحمن يوماً آخر، وإيذاء أولياء الله (علماء دينه ودعاة شرعه والمستمسكين بالذي أوحى به إلى رسوله) في أيام أخر.
ولو أن الأمر اقتصر على ذلك لهان الخطب وما جَلَّ؛ إذ ذاك ديدنهم والعمل المرجَّى منهم، لكن القوم بزعمهم حملوا لواء الإصلاح والتصحيح، ورفعوا عقيرتهم بأنهم ماضون في قياد الأمة لتنهض من كبوتها وتخرج من نفق الغفلة التي تمر بها، معلنين في الوقت ذاته اعتزازهم بالديانة، وحفاظهم على قيم الأمة وثوابتها؛ مما زعزع قلوباً، وحيَّر عقولاً، وشكك فئاماً من الخلق ليست بالقليلة؛ فكيف إذا انضاف إلى ذلك دغدغتهم لنفوس العامة وإلهائهم من خلال الصدع ببعض همومهم وتبنِّي بعض مصالحهم، ليتمكنوا من ضمان قبول إن لم يكن مساندة ـ غير واعية ـ شريحة كبيرة من أبناء المجتمع أثناء تنفيذهم لأجندتهم الخفية؟! لا شك أن الحال عندها سيكون أخطر والمصيبة أعم.
ومَنْ سَبَرَ أفعال القوم وتأمل صنيعهم في هذه المرحلة العصيبة من عمر أمتنا وجدهم معتمدين جملةً من السياسات، ومرتكزين على عدد من الممارسات.
وقد وجدنا ـ في ظل مسارعة تلك الفئة في استهداف الثوابت، واشتداد هجمتها الشرسة على القيم، وتنامي جهدها في تطويع الأمة وتهيئتها لتقبُّل ما يريد أعداؤها منها: إملاءً وهيمنة أو نهباً واستغلالاً ـ وجدنا أن من المستحسن أن نعرض بين يدي قارئنا الكريم إضاءات عن نهجهم، في النقاط التالية:
3 تركيزهم على الممارسة والعمل، وتبني الغموض، والتخفف من حرج التنظير، الذي استنفد منهم جهوداً كبيرة في العقود الماضية، فكان سقوطه مدوياً في سُوق الأفكار، ومحكمة النص، وحجج العقل السوي. ولأن المهم هو تحقق الأهداف وتطبيق الخطط لا الإقناع بها، ومع مرور الزمن ستكون تلك الممارسات حالة واقعة، وجزءاً مهمّاً من مكونات المجتمع الذي ستنبري فئات كثيرة من أبنائه للتقعيد لها والذود عنها دفاعاً عن ذواتهم من جهة، ورغبة في عدم وصم بيئتهم بشيء من الخلل أو التقصير.
3 تلبيسهم على عامة الناس ومن يدور في فلكهم من أنصاف المثقفين ومحدودي العلم الشرعي، عبر التسربل بالتدين، وكثرة ترديد نصوص الكتاب والسنة أثناء التحدث والكتابة ولو في غير موضعها، والتلاعب بدلالاتها وبدلالات المصطلحات الشرعية من خلال تحميلها ما لا تحتمله من المفاهيم الغربية والممارسات الدخيلة على مسلَّمات الأمة وثوابتها، استغفالا، ً وتغطيةً لعمق الصلة بالدول والمؤسسات الغربية المعنية بشأن تغريب الأمة من جهة، وتجهيزاً لخط الرجعة حين انكشاف الستر وتجلي العمالة أو التبعية الفكرية على الأقل من جهة ثانية، ولصرف جوهر خلافهم مع الأمة من مدى قدسية النص المنزَّل، ومرجعية الشريعة وحاكميتها لكافة جوانب الحياة، إلى النزاع في فهم مقاصد الشرع ودلالات نصوصه وتحديد متطلبات تطبيقه من جهةٍ ثالثة.
كل ذلك يتم في أجواء تُرفَع فيها شعارات حقة كأهمية تعميم ثقافة الحوار والمناقشة، والتحلي بسعة الأفق وتفهُّم الثقافات الأخرى والانفتاح على المفيد منها، وضرورة تشجيع ممارسة النقد وزيادة حجم دائرة الاجتهاد، وتشجيع حرية التعبير والإبداع، وحاجتنا الماسة لمراعاة التخصص، والمبادرة لكثير من عمليات التصحيح والمعالجة؛ ومحاربة العادات والتقاليد الخاطئة، ليمارس تحت سقفها مشاريع ضخمة الزيغ، كزعم نسبية الحقيقة، والتشكيك في المبادئ والمسلَّمات لتتحول إلى متغيرات قابلة للأخذ والرد، محتملة للصواب والخطأ، محتاجة إلى تقويم ومراجعة مستمرة، وتعميم حق قراءة نص الوحي المنزل وتفسيره لكل من هب ودب بعيداً عن دلالات اللغة وفهم السلف الصالح، وفتح أبواب الردة والفسق والفجور تحت عناوين: أهمية تقبُّل التعدد الفكري والثقافي، وضرورة ضمان حرية الاعتقاد والتعبير، والانطلاق في التعامل مع الناس من الإقناع لا الإجبار، والمناداة بما يسمى بالممارسة الديمقراطية كعقيدة وإطار مرجعي لا أسلوب للتعبير عن الرأي والإرادة تحت سقف ثوابت الأمة وحاكمية الشريعة، والسماح بوجود منابر مقننة لذوي الأهواء والشهوات، وتعديل مناهج التعليم الخاصة بالعقيدة الإسلامية واللغة العربية والتاريخ وبقية مواد الاجتماع أو تغييرها، وإحلال اللغات الأجنبية مواكبةً للتطوير والتغيير!! في مقابل ذلك يتم الإعراض عن الرقي بمناهج العلوم التطبيقية التي تحتاجها الأمة كمتطلب أساس لإحداث نهضة تقنية داخلها، وإعادة هندسة المجتمع وتشكيله بصورة تؤدي إلى انتهاك الفضيلة، وإشاعة التفسخ والسقوط الأخلاقي، ووجود نوعٍ من العداء لدين الأمة وتاريخها الطويل تحت شعارات وممارسات تغير النمط الاجتماعي وتعيد صياغته وفق المفهوم الغربي، مثل الحرية والترفيه ومساواة المراة بالرجل ورفع الظلم والتمييز عنها، وتمكينها من حقها في الاختيار والممارسة والعمل، وتضخيم دائرة المنفعة والتعلق بالماديات، وتعميم تطبيقات ذلك في التصور والسلوك على حساب قضايا الروح ومسائل الغيب والاعتقاد والربح الأخروي ... ، وهلم جرّاً.
وإغراقاً في التغرير والخداع لا ينسى القوم التستر بثياب النصح والشفقة والمحبة والحرص على تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وفي أحيان يتقمص القوم مرتبة الإفتاء والتوقيع عن الله تعالى، ويحرصون على إظهار بعض ممارساتهم التعبدية، إضافة إلى استثمار غفلة أو واقعية منهزمة يتسم بها بعض أهل الإسلام تُستغَل لتطويع الإسلام واستثمار بعض المواقف والأطروحات لخدمة المخطط التغريبي - ولو في إطار مرحلي على الأقل ـ ليكون بمثابة النفق الذي يُعْبَر من خلاله إلى ما يُرَاد، والقيام بنبش التراث الإسلامي طمعاً في الحصول على خلاف في مسألةٍ لفقيه أو عبارةٍ لعالم عامل يمكنهم توظيفها في المنافحة عن باطلهم كيفما لزم الحال.
ومن المفارقات في هذا الجانب أن هذه الفئة دعاة انفتاح وحرية رأي وتعبير حين يُمَكِّنهم ذلك من التحرر من المسلَّمات وتجاوز الثوابت والتشكيك في القِيَم، وهم في الوقت ذاته رواد مصادرةٍ للرأي وحجرٍ على الفكر بصورة فجة مقززة تذكِّر بعقد الستينيات من القرن الماضي وما قبلها، وذلك حين يكون الطرف الآخر مُعَرِّياً لضلالهم؛ هاتكاً لسترهم أمام أبناء المجتمع، تحت ذريعة أن من كان في السابق متسلطاً لا يستحق حرية لا يؤمن بها، ولذا نجد المنابر الإعلامية والرسمية التي بأيديهم مقصورة في الجملة على من يداهنهم أو يقف بوعي أو بدونه في نطاق تطبيق مخططاتهم.
أليست هذه حرية انتقائية؟!
وليس من الغريب القول إنك لا يمكن أن ترى للقوم سقطة واحدة تتجاوز تحقيق المصالح الغربية، وتتجه إلى تثبيت قيمةٍ خيِّرة أو الدفاع عن حق، ولو على سبيل المزايدة والتلبيس على العامة؛ وهذه قضايا الأمة الكبيرة، ونكباتها المتوالية التي تقع على يد القوى الغربية أكثر من أن تحصر، والقوم أصحاب نفوذ وحظوة؛ فهل رأى أحد لهم من موقف يستحق التقدير؟ إن لسان حال القوم يقول: لتسقط كل الأقنعة في سبيل كسب قوى التسلط والهيمنة الغربية، والأمريكية منها على وجه الخصوص!
3 تسطيحهم وعي المجتمع وثقافته، من خلال تزيين المنكرات لأفراده، وإغراقه في بحور الشهوات والملذات داخلين عليه من بوابة المباح، الذي تنسي لذته في دوائر مثل الترفيه والكسب ما يشوب القوم فيها من مخالفات؛ من أجل إطالة أمل الأفراد وإيلاجهم في أودية التسويف لتضعُف مبادرتهم إلى الخيرات، ويُلْهَوْا عن تحقيق مزيد من جوانب العبودية الواعية والخضوع المتين لله تعالى، ولأجل الحيلولة بينهم وبين استثمار الأوقات في الحفاظ على مكتسبات الأمة وهويتها، واستعادة عزها ورفعتها، وإعادة صياغة أولوياتها ـ في ظل ضحالة فكرية ـ في سياقات مثل المتعة وتضخيم النزعة الأنانية والبيئية الضيقة، والتفاني في اكتساب المال والانغماس في ملذات الدنيا وتضخيم مقدارها في التصور والممارسة على حساب عمل الآخرة ... ونحو ذلك.
ولعل من أبرز ما يمارسه القوم لتعميق التسطيح: إشغال الأفراد والمجتمعات المحلية بالهموم الخاصة، وتشتيت الاهتمام على أكثر من جانب، لتقليل التركيز على عبث تلك الفئة بالثوابت وتخفيف عمق المدافعة وسعة انتشارها.
وفي هذا السياق: يتم تهميش دور الجهات الشرعية والاحتسابية ومؤسسات التوجيه التربوي في مجتمعاتنا الإسلامية - والتي يمكن أن يكون لها دور في تعميق وعي المجتمع وصد الانحرافين: الفكري والأخلاقي، وتوثيق الصلة بالله ـ تعالى ـ أو الانحراف بها من خلال مجموعات نفعية أو بدعية لا تؤدي قوة نشاطها إلا إلى مزيد من التمكين لأولويات تلك الفئة المفسدة، ومزيد من الإضعاف لقوى المجتمع المناوئة لأطروحاتها التغريبية، ولن يعجز القوم عن إيراد حالات واقعة مضخمة الحجم معممة الوقوع، أو ركوب موجة مدافعة الإرهاب واستئصال جذوره كمبرر لمحاربة كل ما يعمق الثوابت ويجذِّر القيم العقدية والسلوكية في أوساط الأمة.
3 ممارستهم التخويف وزراعة الرعب والشعور باليأس في وجدان أفراد المجتمع ومكوناته المختلفة؛ فالحكام يُخوَّفون من العلماء والدعاة وأن نشاطهم هو باعث القلق الأمني المؤدي إلى زعزعة الاستقرار، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يُبَان لهم أن دعمهم لثوابت الأمة واتساق سياساتهم مع قيمها، يجر إلى الصدام مع الغرب والتعرض لضغوطه وإشكالاته، ولا بد من تقبل الأمر الواقع وعدم الخروج عليه وتجاوزه.
وفي هذا السياق يتم التنسيق مع الجهات الغربية للقيام ببعض الملاحظة والضغط على الحكام للبرهنة على صدق ما يشيرون به، وعندها يقومون بإكمال الباقي، ويكونون غُرُباً أكثر من الغرب نفسه.
كذلك يُخوَّف العامة من سلوك طريق الاستقامة، ومن التلقي عن العلماء الربانيين والدعاة الصادقين حتى لا يوقعوا أنفسهم تحت العين والمساءلة من جهة، وحتى لا يقع أبناؤهم في أخطاء جلية الانحراف وقع فيها بعض من قَلَّ علمه وانجرف خلف هواه من أبناء الإسلام.
أما ترهيب العلماء والدعاة ومثقفي الأمة، والذين يجب ـ من وجهة نظرهم ـ أن يصمتوا ويغضوا الطرف عما يرونه من سير حاد في عمليات التغريب؛ فالوصم بالجهل والظلامية، والاتهام بالإرهاب أو مساندته جاهزان لكل من يقوم بالصدع والتعبير، بل قد تجاوز الأمر حد التخويف إلى الممارسة، واتخذوا من النماذج المظلومة والمُسْقَطة من الدعاة وطلاب العلم نماذج تستثمر في تعميق الرعب في نفوس بعض طلبة العلم والدعاة، والتي أودت ببعضهم إلى الإحجام عن تعميق الثوابت، ونشر الخير والدعوة إليه بصورة ظاهرة.
ومن أبرز ما أعان القوم على ذلك تضافر جهود قوى كثيرة وتوجهات مختلفة ذات أهداف ونوايا متعددة تحت لواء ما يعرف بحملة مكافحة الإرهاب، وفيهم من يريد حقاً، وآخرون ـ وهم الأكثر ـ من ركب موجتها لتعزيز نفوذه وتطبيق مخططاته الهدامة، التي تصيب قيم الأمة وثوابتها في مقتل. ولذا نجد القوم قد ركبوا تلك الموجة، وتجاوزوا كثيراً من السياسات والآليات التي من خلالها يُتَّخَذ القرار في كثير من بلداننا، بذريعة معالجة الأزمة من جهة، وضرورة التفاعل مع الضغوط والقرارات الدولية المتعلقة بهذا الجانب من جهة أخرى.
ولعل من أبرز وسائل القوم في تعميق الإحباط مبالغتهم في إظهار قوة الغرب وإحداث الانبهار بقيمه وثوابته، وطرحها في سياق المسلَّمات، وعدم التعريج على شيء من جوانب ضعفه والخلل الذي لديه، وتجلية جوانب ضعف الأمة من جهة وإهمال مقومات نهوضها، وكأن القوم يُنشِدون: نحن زراع اليأس في الأمة ومزهقو روح الأمل.
3 مشاركتهم في تفتيت وحدة الأمة وتقزيم مفهومها من خلال انكفاء على الذات، والعمل عبر أطر محدودة، وولاءات ضيقة، وأهواء شخصية، وتبنِّي مبادرات بديلة، وتصنيفات ممزقة، تبذر البغضاء، وتنمي الشك، وتضعف الثقة بين الأفراد والمجتمعات والشعوب.
والعجيب أن أطروحات هذه الفئة في هذا الجانب ـ إلى فترة قريبة كانت مستهجنة إلى حد كبير من عامة الأمة فضلاً عن دعاتها ومثقفيها، أما اليوم فَمِن نُصح الأمة القول: إن تلك الأطروحات قد بدأت تتسرب إلى فكر وسلوك فئات عريضة من الأمة بما فيهم بعض طلبة العلم والدعاة؛ وما لم تُحَث خطى المعالجة فإن عمليات علاج أورام الأمة قد تأخذ مدى زمنياً ليس بالقصير.
وفي هذا المجال تكاتفت جهود قوى الشر من خارج الأمة وداخلها لإضعاف قيم الأمة وخلخلة ثوابتها وموازينها المتعلقة بالولاء والبراء، والوحدة والتواصل والتراحم، وتم تجاوز ذلك إلى القيام بتصفيات عملية للعديد من المؤسسات القومية والشعارات البراقة التي ملَّت الأمة كثرة ترديد القوم لها في العقود الماضية، وضجرت من كثرة سماع أقوال تُنَاقِضُها الأعمالُ حول المصير المشترك واللغة والدم والتاريخ الواحد وهلم جرّاً. ومن الحق القول: إن هياكل بعض المؤسسات القومية ما زالت قائمة، وبعض الشعارت ما زالت معروضة لأجل دفعها إلى الواجهة متى توفرت ظروف مواتية يُحتاج فيها إليها.
ومن سلوك القوم فالظاهر أنهم ـ في هذا الجانب ـ يدورون مع الرغبة الغربية في تذويب الهوية ومحاربة (الأنا العقدية) ، وحتى (الأنا القومية) التي لم تعد تتماشى ـ فيما يبدو ـ مع مطالب الهيمنة الغربية في المرحلة الراهنة؛ لمزيد من التهجين للأمة والقضاء على دوافع المقاومة، وكل جهود الحفاظ على الهوية والمطالبة بحقوق الأمة من جهة، وليتم تقبل ابنة الغرب المدللة ونبتة الشر التي سقاها من سُحته ورعاها على عينه في ديارنا (الدولة الصهيونية) كمهيمن وحيد على المنطقة من جهة ثانية.
ومصيبة أمتنا بهذه الفئة جلل؛ إذ تسيِّرهم في الأصل الأهواء والمصالح الشخصية أنَّى اتجهت، وقد وجد القوم أن وجاهتهم وسؤددهم وحظوتهم وبوابتهم للكسب الضخم السهل لا تقوم إلا ببيع خدماتهم للغرب وكسب رضاه، والذي يرمي في ظل التصارع العقدي والحضاري بينه وبين أمة الإسلام إلى تذويب الهوية وتفتيت الثوابت والإطاحة بالقيم أو تقزيمها على الأقل، لتبقى له الساحة خاوية من مقاومة صامدة محركها الدين وباعثها الحرص على الظفر برضا رب العالمين، وهو أمر ليس بمقدوره أن ينفذه إلا من خلال هذه الفئة المشؤومة المحسوبة على الأمة. فاشترك الهدفان وتطابق المرادان.
وإشكالية هذه الفئة تكمن في كل ابن للإسلام صادقِ الولاء لهذا الدين، عالي الانتماء لهذه الأمة، واعٍ بحقيقتهم، مدركٍ لحجم خطرهم، ساعٍ إلى فضحهم ومجابهة باطلهم ـ وهؤلاء كثر بفضل الله ومنته ـ فامتلأت قلوبهم حقداً وغيظاً على عامة الأمة، وبخاصة الدعاة والمصلحين، ولذا توجهوا إلى التشويه والإيذاء والتضييق، وتجفيف المنابع واستعداء الحكام ... وبقية قائمة الحقد والغدر والبغضاء الطويلة، ولكن الله ـ تعالى ـ حافظٌ أولياءه، متمٌ نوره، ولو كره الحاقدون.
ومن إحسان الله ـ تعالى ـ ورحمته أن قِيَم الأمة وثوابتها مصانة من التحريف والتبديل بحفظ الله ـ تعالى ـ وصيانته لها، مهما حاول المبطلون، ومن مقتضيات الحفظ الإلهي: تساقُطُ قِيَم الباطل واندثار ثوابته المزيفة أمامه متى شمَّر المشمرون لحمل لواء الحق؛ ولذا فالقضية لا تتجاوز أن تكون مرتبطة بمصداقية تديُّن هذا الجيل، المُطَالَب من مولاه القدير ـ سبحانه ـ بأخذ الكتاب بقوة: تعلماً وعملاً وتعليماً وتربيةً ودعوة، من خلال تخطيطٍ واعٍ، وعملٍ جادٍ، ومثابرةٍ متواصلة تمكن للإسلام في الأرض، وتنشر مبادئه، وتحكم شريعته، في كافة جوانب الحياة.
فهل ـ يا ترى ـ يكون جيلنا مؤهلاً لنيل ذلك الشرف العظيم؟!
إن أمل الأمة في علمائها والصادقين من أبنائها كبير، والله ناصر دينه، وغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
اللهم ألهمنا رشدنا، واحفظ علينا ديننا، وقنا شر أنفسنا وكيد شياطيننا، يا ذا الجلال والإكرام! إنك الحافظ الهادي إلى سواء السبيل، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين!(226/2)
تأملات قرآنية (من نبأ موسى وفرعون) (1 ـ 2)
د. أحمد بن عبد الله العماري
لقد أمرنا الله ـ تعالى ـ بتلاوة كتابه، وتدبره، وفهمه، والتفكر فيه؛ لما لذلك من الآثار في النفس البشرية، من الاستقامة على الصراط المستقيم، والابتعاد عن السوء، أو الأمر به، ولئلا تبقى مترددة فيما تقدم عليه من فعل الخيرات، والبعد عن المنكرات، حتى تكون في حالة اطمئنان، ويقين، وخضوع، وخشوع لمن خلق فسوى، وقدر فهدى.
وإن ّقصة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع طاغية زمانه فرعون، قد عُرضت في القرآن الكريم في مواضع متعددة، بأساليب متنوعة، فيها من الدروس، والعبر، والعظات الشيء الكثير.
كما أن عرض هذه السيرة ـ سيرة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع فرعون طاغية عصره ـ فيها دعوة لأولئك القوم الذين تكبروا في الأرض بغير حق، وطغوا، وتجبروا، واستكبروا، وسعوا في الأرض بالفساد؛ لكي يتفكروا في مصيرهم وعاقبته، فإن أخاهم فرعون ادعى الربوبية والألوهيّة: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] . وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] .
وتَهدَّدَ قومه أن يتخذوا إلها سواه، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فما استطاع أن يكف عن فمه شربة من الماء، وفي ذلك بيان لضعفه، واحتقاره، وهوانه على الله ـ تعالى ـ.
فعلى الطغاة الظالمين في كل عصر ومصر، أن يراجعوا حساباتهم، ويُعملوا عقولهم، التي وهبهم الله ـ تعالى ـ، ويُنقذوا أنفسهم من النار، قبل أن يحق عليهم القول فلا يستطيعون لأنفسهم حولاً ولا قوةً، والعاقل من اعتبر واتعظ، ونهى النفس عن الهوى.
وصدق الله القائل: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] .
والقائل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [يوسف: 111] .
ولما قرأت سورة القصص ذات يوم، تداعت لدي خواطر وتأملات، فأحببت أن أسطر بقلمي ما فتح الله عليّ به من سيرة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع ذلك العدو المتكبر «فرعون» عليه من الله ـ تعالى ـ ما يستحق؛ تذكرة وعبرة، والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل.
1 ـ واقع الناس قبل ميلاد موسى ـ عليه السلام ـ:
كان في مصر فريقان من الناس: فريق يٌسمّون «بنو إسرائيل» ومنهم موسى ـ عليه السلام ـ، وفريق آخر يٌسمّون «القبط» ومنهم فرعون الطاغية.
وكان بنو إسرائيل مستضعفين من قبل القبط، حيث كانوا يستخدمونهم في أمور الحياة كلها، استخداماً فيه امتهان واستذلال، وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك، فقد قال بنو إسرائيل لموسى ـ عليه السلام ـ: {قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] .
فقولهم (أوذينا من قبل أن تأتينا) دال على عظم ما كانوا يلاقون من الفريق الآخر، وهم القبط، لكن موسى ـ عليه السلام ـ بشرهم بهلاك عدوهم، وأن العاقبة لهم.
يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل كانوا يُسخّرون في ضرب اللَّبن، وكانوا مما حملوا من التكاليف الفرعونيّة أنهم لا يُساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه، ويُطلبُ منهم كل يوم قسطٌ معين، إن لم يفعلوه وإلاّ ضربوا وأهينوا غاية الإهانة، وأوذوا غاية الأذية» (1) .
وفي هذا الجو المحموم ولد موسى ـ عليه السلام ـ.
2 ـ ميلاد موسى ـ عليه السلام ـ:
ولد موسى ـ عليه السلام ـ في جو مملوء بالرعب، والخوف، والقتل، والتشريد.
ولد في العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر من قبل فرعون الطاغية وقومه الأقباط.
ولد موسى ـ عليه السلام ـ في طائفة مستضعفة كل الاستضعاف، متفرقة مشتة، يسومهم فرعون وقومه سوء العذاب، يُذَبِّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم.
إنّ البلاء يقع على الفرد والجماعة، ويتفاوتون في درجاته؛ لكن الذي وقع على بني إسرائيل كان من أعظم البلاء، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} . [البقرة: 49]
لكن الله هيأ له من يرعاه، ويدافع عنه، ويتولى شؤونه على مرأى ومسمع من فرعون وجنوده وهم لا يشعرون، وتتجلى بعض مظاهر تلك الرعاية لموسى ـ عليه السلام ـ في عدة أمور:
أولاً: إلهام أمه إذا خافت عليه من العدو أن تلقيه في اليم؛ حتى لا يقع في يد الظلمة ـ فرعون وجنوده ـ
قال ـ تعالى ـ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .
ثانياً: هيأ الله له آل فرعون يلتقطونه من اليم، وينقذونه من الغرق، وهم أعداؤه المتربصون به، الخائفون منه، العازمون على قتله والتخلص منه.
قال ـ تعالى ـ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] .
ثالثاً: قذف الله ـ سبحانه ـ في قلب زوجة فرعون الطاغية حبّ ذلك الطفل الرضيع، فوقفت سداً منيعاً بحبها الحاني على ذلك الرضيع الغريب الضعيف، ضد القوة والقسوة والغلظة من فرعون وجنده تجاه موسى ـ عليه السلام ـ، فاستوهبته من فرعون؛ ليكون قرة عين لها وله، فوهبها إياه مع عدم رضاه بذلك.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] .
فرفض «فرعون» هذا العرض من امرأته، زاعماً أنه ليس بحاجة إليه، ولله ـ تعالى ـ الحكمة البالغة.
وقد جاء في حديث «الفتون» : «أن امرأة فرعون أرسلت إلى من حولها من النساء؛ من أجل أن تقوم بإرضاعه، فلم تجد، حتى جاءت أخته بعد أن أرسلتها أمها؛ لكي تتحسس أخبار موسى، فلما رأته دلتهم على من يرضعه» (1) .
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 11 - 12] .
رابعاً: حرّم الله ـ تعالى ـ على موسى ـ عليه السلام ـ جميع المراضع سوى أمه.
3 ـ موقف أم موسى من الحدث والقلق على ابنها:
يعجز اللسان عن التعبير، والقلم عن الكتابة، في وصف حال تلك الأم الحنون.
3 يقول سيد قطب: (وهاهي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين، ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه، عاجزة عن تلقينه حيلة أووسيلة، هاهي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة) .
(يالله! يا للقدرة! ياأم موسى أرضعيه، فإذا خفت عليه وهو في حضنك، وهو في رعايتك، إذاخفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك، إذا خفت عليه {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} !!.
{وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} إنه هنا في اليم؛ في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لاخوف معها، اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها، اليد التي تجعل النار برداً وسلاماً وتجعل البحر ملجأ ومناماً، اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولاجبابرة الأرض جميعاً أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب.
{إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ} فلا خوف على حياته، ولا حزن على بعده، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وتلك بشارة الغد، ووعدالله أصدق القائلين.
هذا هو المشهد الأول في القصة؛ مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح، وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحروق برداً وسلاماً، ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى؟ ولا كيف نفذته؟ إنما يسدل الستار عليها ليرفعه) (2) .
(لقد سمعت الإيحاء، وألقت بطفلها إلى الماء، ولكن أين هو ياترى؟ وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدها أن تقذف به في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أمّ؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟
والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية (فارغاً) لاعقل فيه ولا وعي، ولا قدرة على نظر أو تصريف! {إن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] ، وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا ضيعته، أنا أضعت طفلي، أنا ألقيت به في اليم اتباعا لهاتف غريب!.
{لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] ، وشددنا عليه، وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود؛ {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10] المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه) (3) .
4 ـ موقف أخت موسى من الحدث والدور الذي قامت به:
إنّ النص القرآني يجمل موقف أخت موسى ـ عليه السلام ـ في أمرين:
الأول: كونها رأته من بعد، وتيقنت ذلك الأمر.
والثاني: مشورتها لآل فرعون بطريق الاستفهام، أنها تعرف من يكفله لهم، ويقوم بإرضاعه بنصح وأمانة، لكونه ـ عليه السلام ـ لم يتلق رضاعاً من أحد، ولم يلثم ثدياً بتدبير الله ـ تعالى ـ في ذلك.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 11 - 12] .
وهذه طريقة القرآن في عرض المشاهد يجمل ولايفصل، ولكن هذا الإجمال يرى فيه الناظر كأنما شاهد القصة أوالحدث كاملة أومتكاملة، وهذا من بلاغة القرآن الكريم وإعجازه.
لقد سبق الحديث عن حال أم موسى، وما كابدته، وما تعانيه من خوف وقلق على ابنها الرضيع الذي ليس له حول ولا قوة ولا حيلة.
أمّا أخته فإنها تشارك أمها في المعاناة، وفي القلق والخوف على أخيها، ولكنها هي نفسها ضعيفة مسكينة مستضعفة في قوم فرعون وجنوده، شأنها شأن بنات ونساء بني إسرائيل المستضعفات في ذلك العصر من المفسدين الظالمين، ومع ذلك كله قامت بالدور المطلوب، فلله درها من امرأة حرة كريمة، تغلّبت على المخاوف الداخلية في نفسها، والعلنية في واقعها، وتحايلت على قوم جبارين؛ حتى أنقذت أخاها من بين أيديهم بعد توفيق الله ـ تعالى ـ وتأييده.
ولقد قامت بهذا الدور في خفية، وحذر من فرعون وجنوده: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 11] . ولو شعروا أن هذه أخته، وأنها تبحث عنه ـ والله أعلم ـ لما سلمت هي منهم، ولربما نفذوا فيها وفي أخيها حكم الإعدام، ولكن الله سلّم، وله في ذلك حِكَمٌ جليلة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: «وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق، فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه، وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع» (1) .
ولما نظرت أخته إلى حال أخيها وحالهم، وهم في حيرة من أمره ودهشة، حيث لم يقبل الرضاع قالت لهم في استحياء، وخوف، ووجل؛ من أن ينكشف حالها وحال أمها بطريق الاستفهام: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ؟ فنكَّرت البيت الذي سيقوم بإرضاعه، ولم تكشف لهم عن حاله شيئاً، مع أنها زكت أهل ذلك البيت لمعرفتها بذلك، وهذا من الفطنة بمكان بعد توفيق الله ـ تعالى ـ. فما صدقوا بذلك حتى استجابوا لها، ولبّوا طلبها، وذهبت به إلى أمها في سرور داخلي غير مكشوف، وفي فرحة تغمرها برجوع أخيها معها إلى أمها. وقيل: إنهم أرسلوا إليها، فقدمت إليهم على استحياء.
وورد في حديث الفتون: «أن أخته قالت لهم من الفرح حين أعيا الظئورات (2) : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم، وهم له ناصحون؟ فقالوا: وما يدريك ما نصحهم؟ هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك! فقالت: نصحهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها، فانطلقت إلى أمها، فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريّاً، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون» (3) .
وأيّاً كان الأمر أذهبت به إلى أمها، أو أن أمها أتت إليه، وأخذته، وأرضعته؟ فالعبرة باللقاء الذي تم بين الأم والأخت والابن الرضيع، بعد تلك المعاناة الشديدة من الذهول، والخوف، والقلق من الأم والأخت على ذلك الطفل الرضيع.
وـ لله درك ـ يا أخت موسى على ذلك الدور الذي قمت به في ذلك الجو المخيف، والمجتمع الموبوء المحيط بك وبأمك وبأخيك، ذلك الدور الذي قلما يقوم به عظماء الرجال، فكيف بالنساء! وكم نحن بحاجة إلى تملي الدروس، والعظات، والعبر، واستنباطها من خلال النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة، والسيرة النبوية، وكم نحن بحاحة إلى اللجوء إلى الله الذي بيده مقاليد الأمور كلها، والأخذ بالأسباب، والتوكل عليه، والصبر في الطريق بدون تردد ولا انهزام.
وبعد تلك المعاناة عاد الرضيع الغائب إلى أمه سليماً معافىً محفوظاً بحفظ الله له، بعد تسخير أعدائه برعايته وكلاءته، فتحققت البشارة برجوع موسى ـ عليه السلام ـ إلى أمه الحائرة الخائفة الفارغة الذاهلة المتلمسة لأخباره صباح مساء.
ما أعظم فرحتك يا أم موسى بموسى! هل الأمر حقيقة أم خيال؟ عيون تدمع من الفرح، وصدر يضمه من الفرح، وثغر يقبله من الفرح، وثدي يرضعه من الفرح، وقلب ينبض من الفرح، ونفس مطمئنة من الفرح، وأيدٍ ترعش من الفرح، وأرجل تميس من الفرح.
ما أرحمك يارب بعبادك! وما أحلمك يارب بعبادك! وما أكرمك يارب بعبادك! من دعاك أجبته، ومن استغفرك غفرت له، ومن سألك أعطيته، ومن استعاذك أعذته، ومن توكل عليك كفيته، ومن خاف منك أمَّنته، ومن استنصرك نصرته، ومن استجارك أجرته، ومن تقرب إليك شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليك ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاك يمشي أتيته هرولة.
لقد لجأت أم موسى إلى الله ـ تعالى ـ فربط الله على قلبها، وهدّأ من روعها، وكادت تبدي بخبر موسى لولا وعدالله لها ـ سبحانه ـ بأنه: سيعيده إليها، وسيكون ـ زيادة على ذلك ـ من المرسلين. قال ـ تعالى ـ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .
وقالى ـ تعالى ـ: {فَرَدَدْنَاهُ إلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] .
5 ـ رحلة في النهر لرضيع في المهد:
يبرز للعيان عدة أسئلة لانجد لها جواباً، بل الجواب لها عناية الله، ورعايته، وتدبيره لحياة ذلك الطفل الرضيع؛ ومن تلك الأسئلة:
3 هل يعقل أن طفلاً رضيعاً يقتحم النهر ويعبره؟ مع أن النهر فيه من المخاوف ما الله به عليم.
لكن رعاية الله ـ سبحانه ـ تحيط به، وتحفظه من بين يديه، ومن خلفه، ومن فوقه، ومن تحته، ومن أمامه، ومن ورائه، فلا يصل إليه مكروه، فأوحى الله إلى أمه ـ وحي إلهام ـ أن ترضعه، وألاَّ تخاف ولا تحزن، فإذا شعرت أن زبانية فرعون قادمون إليها فعليها أن ترسله؛ بل تقذفه في اليم بدون تردد، ولا خوف، ولا وجل، وبَشَّرها مع ذلك بعودته إليها، وأنه سيكون من المرسلين.
وعَبَرَ الرضيع النهر يتقاذفه الموج من هنا وهناك، ويسوقه وهو في بطن ذلك التابوت في هدوء، وسكون، وفي راحة، وطمأنينة قدرية، ليس له حيلة ولا بصيرة مما هو فيه، لاعقل يفكر به، ولا بصر ينظر به، ولا سمع يميّز به ما يسمع، ولا لسان يعبر به ويبين به عما في جوفه، ولا يد يبطش بها، ولا رجل يمشي عليها، كل هذه الجوارح مسلوب العمل بها؛ لكونه لا زال في المهد رضيعاً، لكن عناية الله، ورعايته، ورقابته، تحيط به وتحفظه من كلِِّ شيء، وصدق الله القائل: {لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] ، ولكن الناس لا يعلمون.
وقد ساقته عناية الله بلطف وهدوء، وهو يسبح في تابوته على سطح اليم إلى شاطئ قريب من بيت فرعون وجنوده، فاستقبلته الجواري اللاتي يخدمن زوجة فرعون، وحملن التابوت بما فيه دون أن يكشفنه إلى سيدتهنّ، فلما كشفن عنه هيأ الله له في قلب امرأة فرعون المحبة والإجلال ـ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ـ، ولكن كيف تتعامل مع زوجها الظالم القاضي بذبح كل مولود ذكر في ذلك العام؟ هل تخفيه عن العيون وتتستر عليه؟ إنها لا تسطيع ذلك؛ لأن أمره قد ذاع وانتشر في أوساط الجند والحاشية.
إن بيوت الجبابرة قد يوجد فيها الاختراق، إمّا من داخلها أومن خارجها، وإذا قَوِيَ التوكل على الله لدى الإنسان قويت عزيمته، وإذا أخذ بالأسباب الشرعية في الوصول إلى الأهداف فإن الله ـ تعالى ـ يسهل له الطريق، ويلين له القلوب، ويجعل الله له مع العسر يسراً، انظر إلى ما هيأه الله لهذا الرضيع وهو في المهد، لا يعرف توكلاً، وليس له عزيمة ولا قدرة، ولا يعرف وسيلة، ولا هدفاً، ولا غايةً، وهو في قبضة من يريد ذبحه والتخلص منه، وليس لديه أيّ تردد في ذلك، وهو داخل داره، وبين جنوده وغلمانه، ومع ذلك هيأ الله له من يعطف عليه، ويدافع عنه، ويجادل فرعون في أمره وهو لا يشعر بذلك، فأصبح عدواً وحزناً لفرعون في داخل داره، ومع ذلك صرف الله عنه بطش فرعون، وظلمه، وطغيانه، ومع إصرار زوجة فرعون ودفاعها عن الاعتداء على ذلك الطفل؛ استجاب فرعون لها، مع تخوفه منه وكرهه لذلك، واستنفرت خدمها للعناية بموسى ـ عليه السلام ـ فكلّفتهم البحث عن المرضعات؛ لكي يقمن بإرضاعه وإطعامه، فحضرن وحاولن أن يرضعنه، لكنه امتنع عن ذلك، فلم يلقم ثديا ًعلى الإطلاق؛ لأن الله ـ تعالى ـ حرّم ذلك عليه لحكمة يريدها سبحانه. قال ـ تعالى ـ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] . وقد بيّن لنا الله شيئاً من تلك الحكمة، قد سبق ذكر بعضها.
ورجع موسى إلى الحضن الذي فارقه، وإلى اليد التي تلقته وحملته، وإلى العين التي دمعت عليه وودعته، وإلى الثغر الذي قبّله ولثمه، ثم فارقه، ثم عاد إليه مرة ثانية، كيف فرحتك يا أم موسى برضيعك البحّار، وصغيرك الغائب؟.
6 ـ نشأة موسى في بيت عدوه «فرعون» :
أما غلامنا الهادئ، والذي لازال في المهد، فجَرَت قدرة الله ومشيئته أن يلتقطه آل فرعون من اليم الذي أرسل فيه؛ خوفاً عليه، وهرباً من فرعون وآله، والذي أصدر بياناً يقضي بقتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، وقدر الله ـ وماشاء فعل ـ أن يسوق موسى ـ عليه السلام ـ وهو لازال في مهده إلى بيت فرعون؛ ليكون عدواً لهم وحزناً؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وحاولت آسية ـ امرأة فرعون ـ أن ترغب أم موسى للبقاء معها في مقر فرعون، وتغدق عليها من النعم والخيرات، لكنها رفضت ذلك وامتنعت، وعاش في كنف أمه سليماً معافى، والكفالة والرعاية تصل إليه وإلى أمه من بيت آل فرعون.
فلما كبر وترعرع طلبته (آسية) أن يقدم إليها؛ لكي تراه وتشاهده، وأمرت حاشيتها باستقباله وتكريمه بالهدايا والجوائز، وتم ذلك.
وورد في حديث الفتون: (فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريني ابني! فوعدتها يوماً تريها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها، وظئورها، وقهارمتها: لايبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة؛ لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أميناً يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم. فلم تزل الهدايا، والكرامة، والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته؛ فرحاً به، ونحلت أمه بحُسْنِ أثرها عليه) (1) .
وزهت زوجة فرعون بابنها المدعى، وفرحت به فرحاً شديداً، وأرادت تكريمه زيادة على ما فعلت، ففكرت في إدخاله على فرعون؛ ليكرمه ويرفع من شأنه؛ وليغدق عليه من الحلل والجوائز، وعزمت على ذلك، وقالت: (لآتين به فرعون؛ فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض.
فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم بنيه أنه: زعم أن يرثك، ويعلوك، ويصرعك؛ فأرسل إلى الذباحين؛ ليذبحوه) (2) .
سبحان الله! كيف وصل الحال بفرعون وبطانته السيئة إلى أن يفسروا تحركات ذلك الطفل الصغير أنها تهديدات وتوعدات بانقضاء ملك فرعون؛ على يد ذلك الطفل الرضيع؟
لقد استيقنت نفوسهم أنهم على غير الحق، لكن التكبر في الأرض بغير حق يؤدي بصاحبه إلى عدم الانصياع للبراهين والأدلة الصادقة، ولقد هرعت آسية ـ زوجة فرعون ـ حينما علمت بأمر زوجها الذباحين أن يذبحوا موسى؛ تناقشه في شأن ابنها الصغير موسى، وتريد أن تقنعه بأنه طفل صغير، لا يعقل من أمور الحياة شيئاً.
لكن فرعون أثار عليها أسئلة في شأن موسى، وزعم أنه يصرعه ويرثه، وأنه يعلو عليه؛ فلا بد من التخلص منه، لئلا يقع منه شيء من ذلك. وربط الظلمة الظالمون بين ما وعد الله ـ سبحانه ـ خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن في ذريته الملك والنبوة، وبين هذا الطفل الرضيع، وظنوا أنه سيكون من أولئك الذرية، الذين سيهدم ويحطم على أيديهم ملك فرعون وجنوده مستقبلاً، وكان الأمر كذلك.
وورد في حديث الفتون (أن امرأة فرعون جاءت إليه تسعى، فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني؟! فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً تعرف فيه الحق أنت! ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين، واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين، ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين؛ وهو يعقل.
فقرب إليه، فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة: ألاترى؟! فصرفه الله عنه بعد ما كان همً به، وكان الله بالغاً فيه أمره) (1) .
وهكذا نشأ موسى ـ عليه السلام ـ وترعرع بين أحضان أمه، وتحت رقابة زوجة فرعون آسية التي هيأها الله ـ تعالى ـ؛ لحمايته، ورعايته، ورقابته، والدفاع عنه بالليل والنهار، فصرف الله بسببها عن موسى ظلم الظالمين، وكيد الخائنين، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لايعلمون.
7 ـ موقف فرعون من موسى ـ عليه السلام ـ إلى أن بلغ أشده:
لما شب موسى ـ عليه السلام ـ عن الطوق، وبلغ أشده، صار يُذكر في المجتمع على ألسنة الرجال، وكان عوناً ونصيراً ـ بأمر الله ـ لبني إسرائيل؛ حيث خفف عنهم كثيراً من الأحمال، والأثقال، والسخرية، والاستهزاء، والامتهان، والاحتقار في أوساط المجتمع القبطي.
فبينما موسى ـ عليه السلام ـ ذات يوم يمشي على حين غفلة في تلك المدينة؛ إذ رأى رجلين يقتتلان، أحدهما: إسرائيلي من شيعته، والآخر: قبطي من أعدائه، فاستغاثه واستنصره الإسرائيلي، فأجابه، فقضى على القبطي، كما أخبر الله بذلك في كتابه، فقال ـ تعالى ـ: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15] . ولا يعلم بهذا الحادث إلا الله ـ تعالى ـ ثم موسى والذي من شيعته.
وانتشر خبر المقتول القبطي في المجتمع وصاروا يبحثون عمن قتله، وأين يكون؟ حتى يقاد، ويقتص منه على فعلته الشنيعة، ورُفع أمره إلى فرعون، واستعظم ذلك، واستنكره، وطلب منهم تقديم البينة، والبحث عن الجاني. وعلم موسى ـ عليه السلام ـ بذلك؛ فأصبح خائفاً في المدينة يترقب الأخبار، ويفكر كيف المخلص ممن يطلبه ويبحث عنه؟
وعاد موسى ـ عليه السلام ـ إلى نفسه وحاسبها، ولامها على ما أقدمت عليه، وعلم أن ما أقدم عليه؛ إنما هو ضرب من عمل الشيطان، فقال لما رأى المقتول أمام ناظريه: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15] .
ثم لجأ ـ عليه السلام ـ إلى ربه، واعترف بأنه ظلم نفسه، وطلب منه العفو والمغفرة، فهو أهل العفو والمغفرة، كما عاهد ربه أنه لن يكون عوناً ولا ظهيراً للمجرمين. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 16 - 17] .
وأصبح موقف موسى مهتزاً؛ لكونه اقترف تلك الخطيئة، فهو خائف من أن ينكشف أمره لأولئك القوم الذين تربصوا به وهو في المهد، فكم حاولوا قتله، والتخلص منه، فكيف وقد وقع منه ما يسئ إليهم؟ ولو انكشف، فأين يذهب؟، وكيف يبحث عن المخرج للهروب؛ حتى لا يقع في قبضة أولئك المجرمين؟.
وقضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن ينكشف أمر موسى لدى فرعون وجنوده بطريقة عجيبة؛ حيث لم يتعبوا في استقصاء الخبر، بل جاء الخبر إليهم دون عناء ولا مشقة.
فبينما كان موسى ـ عليه السلام ـ في مدينته خائفاً يترقب الأخبار، إذا هو بذلك الرجل الذي من شيعته الذي استنصره واستغاثه على المعاونة على قتل القبطي، ورآه موسى وهو يريد أن يبطش برجل فرعوني آخر، فطلب من موسى إعانته عليه كما أعانه من قبل على السابق، فاستنكر موسى ـ عليه السلام ـ فعل الرجل، ووصمه بالغواية، وبيّن الله ذلك في كتابه فقال: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مَوَسَى إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 18] .
نعم إن الإقدام على قتل النفس البشرية بدون مسوغ شرعي عمل لا يجوز؛ بل هو ضلال مبين، واتفقت الشرائع السماوية على المحافظة على النفس البشرية، وعدم إزهاقها إلا بحقها.
فتوقف الإسرائيلي عن الإقدام عن فعلته لما رأى موسى مستنكراً عليه، بل إن الغضب اشتد به وتملّكه؛ حتى إنه خاف من بطش موسى به، فأفشى السر الذي مضى: من قتلهما للفرعوني السابق بقوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إن تُرِيدُ إلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19] . فانفك النزاع بين الإسرائيلي والفرعوني، وانطلق الفرعوني بعد ما سمع الحوار الذي دار بين موسى والإسرائيلي إلى قومه، وأخبرهم الخبر.
ولما بدأ الجند يبثون عيونهم من أجل التعرف على مكان موسى؛ لكي يصلوا إليه، أسرع إليه الجندي المؤمن المجهول بتدبير الله ـ تعالى ـ وقضائه له، فأخبره خبر القوم، وأنهم جادون في البحث عنه من أجل أن يقتلوه، واقترح عليه أن يخرج من تلك المدينة قبل أن يصلوا إليه.
وأخذ موسى ـ عليه السلام ـ بنصيحة ذلك الرجل وخرج من المدينة، والخوف يتملكه ليس له معين ولا نصير، ولا ركن شديد يأوي إليه على وجه الأرض.
قال ـ تعالى ـ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 20 - 21] .
ولقد نجاه الله ـ تعالى ـ من قبضة أعدائه، وامتن ـ سبحانه ـ عليه بذلك، وهو صاحب الفضل والمنة.
8 ـ وما يعلم جنود ربك إلا هو:
لقد عاش نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ في المدينة خائفاً يترقب؛ بسبب ما أقدم عليه من البطش بذلك القبطي، وانتشر خبره لدى من يتربص به الدوائر. وفي غمرة الحدث وتوقع القبض عليه من الأعداء تضيع الأفكار؛ بل تهرب من صاحبها، ولا يدري ماذا يعمل؟ فيصاب بالحيرة في أمره؛ لأنه لايدري من أين يأتيه الحدث؛ لكونه لايعلم الغيب، فيدفع عن نفسه ما اطلع عليه، لكن العناية الربانية، والقدرة، والمشيئة المطلقة هي التي تسير الأمور.
إن العباد مهما أعطوا من القوة والجبروت في الواقع البشري فهم ضعاف مهازيل، وهم في قبضة الله لا يستطيعون جلب خير لأنفسهم، ولا دفع شر عنهم.
فلماذا التكبر، والتجبر، والإعراض، ولماذا المؤتمرات والمؤامرات الجوفاء على بعضهم البعض، والتصريحات الفجة؟.
لقد هيأ الله ـ تعالى ـ لعبده موسى ـ عليه السلام ـ من ينقل إليه خبر أعدائه، ويمحضه النصح، ويرشده إلى الطريق الأسلم. وما أجمل النصح والإرشاد في ساعة الكرب والاختناق.
إن موسى ـ عليه السلام ـ يعيش حالة كرب من تربص أعدائه به، ومتابعتهم له، وبحثهم عنه، وليس له من يعينه بالرأي والمشورة، وهو فرد أعزل من كل شيء. فيأتي ذلك الرجل من مكان بعيد (من أقصى المدينة) تهيأة من الله ومنة منه لعبده الخائف المترقب الوجل، بعد أن علم بخبر القوم، وأنهم يبحثون عن موسى ـ عليه السلام ـ من أجل القضاء عليه، فينطلق مسرعا تجاه موسى يخبره الخبر.
إنه رجل؛ لأنه اخترق الملأ (فرعون وملأه) ، وعرف خبرهم، وعرف خطتهم نحو موسى ـ عليه السلام ـ فأخبره خبرهم.
وإنه لرجل؛ لكونه لم يأبه بفرعون وجنوده، ذلك الرجل الذي ادعى الربوبية والألوهية، ويا ويل من يخالفه في الرأي، أو يخرج عن قانونه! فذهب إلى موسى؛ لكي يخبره، وينقذه من الوقوع في قبضتهم.
كم تحتاج الأمة إلى الرجال الصادقين الصالحين الذين يفكرون لها؛ ويتشاورون في قضايا أمتهم ودينهم، ويكشفون مخططات الأعداء، ويعدون العدة؛ لإنقاذ أمتهم من الوقوع في براثنهم، ويحفظون دينهم من التشويه، والنقص أو الزيادة، ويبلغونه كما جاء من عند الله.
لقد استجاب موسى ـ عليه السلام ـ لنصيحة ذلك الرجل؛ ولا شك أنها وقعت على قلبه برداً وسلاماً، ونفَّست عنه كرباً، وهماً، وحيرة من أمره.
فخرج من تلك المدينة، وربما يكون الهاجس الأمني يسيطر على موسى في طريقه، فربما يلحقون به في الطريق، فينتقمون منه.
خرج موسى ـ عليه السلام ـ وحيداً في طريقه من مدينته الظالم أهلها إلى مدينة مدين، ولسانه يلهج بالدعاء لربه أن يهديه السبيل الأقوم، وأن ينجيه من أولئك القوم الظالمين.
ليس معه من يؤنسه في طريقه، ولا ينفس همه وكربته، ولا يهدّئ من روعه وخوفه، ولا يتجاذب معه أطراف الحديث، ولا يدله على مسالك الطريق، وليس له خبرة من قبل ذلك، وما كان يتوقع أن يصل به الأمر إلى ذلك؛ حيث عاش منعماً مدللاً في بيت الملك والعظمة.
هذه حياة الأنبياء وسيرتهم، وهذه أقدار الله ـ تعالى ـ لهم، تولى الله ـ تعالى ـ تربيتهم، وابتلاهم قضاء وقدراً منه لهم؛ ليكونوا قدوة لمن بعدهم من أمتهم؛ وليعلم ورثة الأنبياء أن الطريق الصحيح هو طريق الأنبياء، فليصبروا، وليحتسبوا على ما يلاقون في طريقهم، وليدعوا ربهم أن يهديهم السبيل المستقيم، وأن ينجيهم من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين، ومكر الماكرين، أسوة بالأنبياء في ذلك، ولا يستعجلوا الطريق، فإن النصر بيد الله ـ تعالى ـ: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] .
9 ـ الرحلة البرية الأولى لموسى ـ عليه السلام ـ الخروج من الوطن:
ولقد خرج نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ من بلده الذي ولد ونشأ فيه «مصر» إلى بلد آخر لا يعرفه، ولا يعرف الطريق إليه، يسمى «مدين» خرج وحيداً لا أنيس معه في الطريق من قريب ولا من بعيد يتجاذب معه أطراف الحديث، ويؤنسه وحشة الطريق. ولم يخرج آمناً مطمئناً ينظر في صفحات الكون المشاهد، ويرى عظمة الله ـ تعالى ـ في مخلوقاته المتعددة والمتنوعة، بل خرج خائفاً وجلاً من قوم تمالؤوا عليه؛ ليقتلوه، ويُنزِلوا به أشد العقوبة، وكان يترقب الانقضاض عليه من كل جانب؛ لأنه لايعرف مسالك الطريق، وما تعود ذلك.
آه من وحشة الطريق! وانعدام النصير، وقلة السالك، وجور الباغي، ومطاردته!.
ومن كان هذه حاله ـ خوف يتملكه، وعدو يطارده، ويتهدده ـ يبقى في حالة قلق، وتربص مستمر، وتفكير مضطرب، لايدري متى يبطش به العدو، ويقع في قبضته؟ ولايدري متى يصل إلى قوم يأنس برؤيتهم، ويزيلون عنه شيئاً من العناء، والوحشة، والرجفة، والقلق؟ ولا يدري متى يعود إلى وطنه الذي أخرج منه وهو غير راض بذلك؟.
إنها معاناة في داخل النفس، ومعاناة في الطريق، ومعاناة من قلة الزاد وأنيس الطريق، ومعاناة ممن سيلقاهم أمامه، كيف يأوي إليهم، وكيف يقص خبره عليهم، وكيف يستقبلونه؟.
لكن الرجل المؤمن بالله، والواثق بنصره، والمتوكل عليه حق التوكل، يلجأ إليه، ويعتصم به، ويتضرع إليه، فهو الخالق الرازق، وهو المحيي والمميت، وهو النافع وبيده مقاليد الأمور، لا راد لما قضى، ولا مانع لما أعطى، ولا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل.
لقد لجأ موسى ـ عليه السلام ـ بجلال الله وعظمته، ودعاه؛ فحماه، وهيأ له من الأسباب وطرق الخير الشيء الكثير.
لما خرج ـ عليه السلام ـ من مدينته وهو خائف يترقب، بعد أن علم علم اليقين: أن القوم يبحثون عنه، وقد عقدوا مؤتمرهم للقضاء عليه، وجاءه الناصح بذلك الخبر، شد عزمه، وخرج من مأزره، وطلب من ربه أمرين عظيمين:
الأول: طلبه النجاة من الظالمين. قال ـ تعالى ـ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] .
الثاني: طلبه أن يرشده، ويهديه إلى الطريق المستقيم. قال ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] .
إن اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ في حالة السراء والضراء هو المطلوب؛ لأن الله سبحانه هو مسبب الأسباب، ومقدر الأمور، وبيده مقاليد كل شيء.
إن البشر مهما أعطوا من القوة، ومهما أعدوا من العدة، فإنهم لايساوون شيئا أمام قدرة الله وعظمته، فالخلق خلق الله، والأمر أمره.
وإن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ لجأ إلى قوة ما بعدها قوة، وإلى رعاية ما بعدها رعاية، وإلى رقابة ما بعدها رقابة، وإلى إرادة ما بعدها إرادة، لجأ إلى الله ـ تعالى ـ، ونعم بالله، ماخاب من دعاه، ولا خاف من توكل عليه، ولا ذل من لاذ بجانبه.
إن الظالمين نسوا قدرة الله، وظنوا أنهم خارجون من قبضة الله ـ سبحانه ـ، إنهم في غيهم يعمهون، وفي ظلالهم يسدرون، إنهم جاهلون بحقيقة أنفسهم، ومن كان حاله كذلك؛ فهو ظالم لنفسه ولغيره.
ولذا يجب الحذر منهم، وكشف حالهم، والبعد عن العيش في كنفهم، فإنهم لا يزيدون الناس إلا ضلالاً وتباراً.
وعلى المسلم أن يدعو ربه أن يوفقه في أقواله وأعماله، وأن يهديه إلى الطريق، والسبيل القويم؛ فإنه لا يهدي لذلك إلا هو ـ سبحانه ـ، ويجب أن يكون هذا ديدن المسلم، ويزداد ذلك في حالة الكرب والشدة؛ كما فعل نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ.
وبينما نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ ماشياً في طريقه إلى (مدين) ، وقبل أن يصل إلى تلك المدينة، وجد في طريقه ماءً يسمى (ماء مدين) يَرِدُ إليه الناس يسقون رعاءهم، ويروون غليلهم، وإن منظر الرعاة وهم يسقون رعيتهم ـ من الماشية ـ لَيُثيرُ الدهشة لمن ينظر في أمرهم، ويشاهد حالهم.
ولقد لفت انتباه نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ من تلك الأمة المجتمعة على السقي، وقد ابتعد عنهم؛ امرأتان تذودان غنمهما عن ذلك المجتمع، فلا تزاحمان القوم في السقي، وتنتظران صدورهم حتى تتمكنا من السقي بدون مزاحمة ولا مشادة؛ حياءً وخجلاً من مزاحمة القوم؛ أو ضعفاً وعدم قدرة على ذلك، وكلاهما من طبيعة المرأة. فالمرأة العاقلة تقدر وتحترم نفسها ومن وراءها، فكيف إذا كانت من بيت عز ومكانة؛ كهاتين المرأتين؟.
فإن مزاحمة المرأة للناس في منتدياتهم، وفي قضاء حوائجهم ليس من طبيعتها، بل إذا حصل منها شيء من ذلك فإنه سلوك مشين، وخارج عن طبيعتها التي خلقها الله عليها.
ولقد رحم نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ تلك المرأتين اللتين ابتعدتا عن مزاحمة الرعاة، ولما سألهما موسى ـ عليه السلام ـ عن سر بعدهما عن الرعاء؟ أجابتا بأمرين:
الأول: أنهما لا يسقيان أصلاً حتى يصدر الرعاء.
الثاني: أن أباهما شيخ كبير.
ويبدو ـ والله أعلم ـ أن أباهما رسم لهما الخطة في السقي، فلكونه لا يستطيع أن يرد معهما الماء لمساعدتهما في السقي، ولعدم وجود محرم لهما؛ أرشدهما إلى التريث، والبعد عن المزاحمة للرعاء حتى يصدروا، ثم تردان بعدهم الماء، فطبقتا ذلك، وربما يكون ذلك التصرف صادراً منهما؛ لرجاحة عقليهما، وتغلب الحياء والخجل عليهما، حتى لا تقعان في مزاحمة الرعاة، فلله درهما، وشكر الله سعيهما.
وهكذا شأن المسلمات المؤمنات القانتات السائحات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ويبتعدن عن مواطن الرجال في أي مكان كنَّ.
فتقدم موسى ـ عليه السلام ـ إلى الماء، وكشف الغطاء عنه، وأدلى دلوه، ونزع لهما من الماء، وسقى لهما، وعاد إلى الظل مناجياً ومنادياً ربه في خضوع وافتقار، وسكون وانكسار.
أخرج ابن أبي شيبة بسنده عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «أن موسى ـ عليه السلام ـ لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون. قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ـ ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ـ فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ماخطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم» . قال ابن كثير: إسناده صحيح.
إن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ حباه ربه قوة في جسمه، وفي عقله، وإيمانه، ومع ذلك يلجأ إلى من حباه تلك القوة، فيعترف بالتقصير والفقر، وألاَّ ملجأ من الله إلا إليه. قال ـ تعالى ـ: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .
إن هذه المبادرة من نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ في إعانة الضعيف، ومساعدته في قضاء حاجته لهو خلق عظيم حثّ عليه الدين الحنيف.
إن موسى ـ عليه السلام ـ خرج من مدينته خائفاً يترقب، ومن كانت هذه حاله؛ فإنه يبحث عن مكان خفي لايراه الناس، ولا يحب أن يروه؛ حتى لاينكشف أمره؛ خشية أن يدلّوا عليه أعداءه، لكن موسى ـ عليه السلام ـ يبادر إلى فعل الخيرات، ويساعد المحتاج، ويعين الضعيف على قضاء حاجته، مفوضاً أمره إلى خالقه، ومتوكلاً عليه، ومعترفاً بضعفه وفقره أمام ربه وخالقه.
وهكذا يجب على الذين يقتدون برسل الله الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وينتهجون نهجهم، ويسيرون على طريقهم غير عابئين بالعوائق والعقبات التي يلاقونها في طريقهم إلى الله ـ تعالى ـ.
لقد رجعت المرأتان إلى مستقرهما، وإلى أبيهما، وهما تحملان شعوراً عجيباً عن ذلك الرجل الذي بادر إلى السقي لهما وإعانتهما بعدما استفسر عن حالهما، وأخبرتا أباهما بحاله، وربما أنهما سمعتا مناجاته لربه، ونقلتا تلك المناجاة إلى أبيهما.
10 ـ موسى ـ عليه السلام ـ والشيخ الكبير:
لما قام موسى ـ عليه السلام ـ بالسقي لتلك المرأتين الضعيفتين تولى إلى الظل وحيداً فريداً، أين يؤمم وجهه؟ وأين يتوجه؟ وأين يأوي، ويختفي من الأعداء الذين يتابعون أخباره، ويقتفون أثره كي؛ يبطشوا به؟ لجأ إلى ربه العظيم البصير، والسميع العليم، والعزيز الحكيم، واللطيف الخبير، فشكا إليه حاله ـ وهو سبحانه أعلم به ـ فإن الإنسان مهما أعطي من الخير؛ فإنه لازال ولايزال فقيراً إلى خالقه، ورازقه، ومحييه، ومميته، قال ـ تعالى ـ: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .
ويذكر بعض السلف: أن المرأتين سمعتا هذا الدعاء من موسى ـ عليه السلام ـ، ولما قفلتا راجعتين إلى مقرهما ومسكنهما، واجهتا أباهما بما رأتا وشاهدتا من تصرف ذلك الفتى نحوهما، فأُعِجبتا بقوته، وبأدبه الجم، وبمبادرته لإعانتهما، وذكرتا لأبيهما ما سمعتا منه من ذلك الدعاء الذي يدل على قوة الصلة بالله ـ تعالى ـ، والاعتراف لله ـ تعالى ـ بحاجته إليه؛ مهما أعطي من الخير سواء كان كبيراً أو صغيراً.
إن ذلك يدل على وحشة يعيشها موسى في طريقه. فلما شرحتا لأبيهما حال ذلك الفتى، وصفته إحداهما بأمرين:
الأول: القوة.
والثاني: الأمانة.
وقلما تتوفر في شخص. ثم طلبتا من أبيهما أن يستأجره؛ فإنه قوي أمين. قال ـ تعالى ـ: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] .
ولقد لفت كلام تلك الفتاة ذهن أبيها ـ ذلك الشيخ الكبير ـ وأمرها بالذهاب إلى موسى؛ لدعوته، والإتيان به، ويبدو أن مكانه الذي آوى إليه ليس بعيداً عنهم.
وانطلقت تلك الفتاة نحو كليم الله موسى ـ عليه السلام ـ في خطى حثيثة، وأدب جم، وستر كامل، ولسان طلق، وعزيمة قوية؛ لتبلغه دعوة أبيها، ولعلها قد تفرست في موسى ـ عليه السلام ـ وهو يسقي لهما؛ الغربة، والمشقة، والعناء، زيادة على ما رأت منه، وشاهدت من القوة والأمانة، فأرادت الاستفادة منه والعطف عليه، وهذا من الأسباب التي هيأها الله ـ سبحانه ـ لموسى ـ عليه السلام ـ، ولما وصلت إليه أبلغته الدعوة في أدب رفيع، ومنطق سليم، وأخبرته أن والدها يريد: أن يجازيك، ويحسن إليك مقابل ما قدمت لنا من الخدمة في السقي. قال ـ تعالى ـ: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] .
فاستجاب موسى ـ عليه السلام ـ لتلك الدعوة وانطلق معها إلى أبيها، كيف لا؟ وهو يعيش وحشة الطريق وغربتها، لا يعرف من يأوي إليه، ويستأنس بالحديث معه! ولاشك أن ذلك من تنفيس الكربات عن النفس خاصة، وهي تعاني من أمور كثيرة، من أعظمها مطاردة الأعداء، وقلة الناصر.
فلما وصل إلى ذلك الشيخ الكبير عرَّفه بنفسه، وعرض عليه أمره، وقص عليه خبره، فكان من كرم الضيافة، ومواقف الرجال، وحسن الاستقبال، وحماية الضيف والجار، ونصرة الضعيف والمظلوم، والوقوف ضد الباطل وأهله، أن قال ذلك الشيخ الكبير مسرياً عن موسى، ومطمئناً وناصراً له، قال:
{فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] .
ما أجمل العبارات المضيئة! بل المشرقة، وهي تقرع الأسماع، وتسلي النفوس، وتثبت العقول، فتعيد للنفس هدوءها وسكونها وأمنها، بعد قلقها ورجفتها وخوفها.
وكأني بموسى ـ عليه السلام ـ يتهلل وجهه بالبشر والضياء، وينطلق لسانه أكثر بالشكر والثناء لله رب العالمين، ويزداد شموخاً وثباتاً في الطريق، وتنقلب الغربة والوحشة ألفةً، والخوف أمناً، والقلق والوجل هدوءاً وسكوناً، والضعف قوةً، والفقر غنى، والتنقل والترحال استقراراً، والحزن فرحة، وشظف العيش رخاء.
إنّ النفس الأبيّة لا ترضى أن تعيش على فتات العيش، وموائد الآخرين؛ بل لا بد أن تبحث عن وسيلة تكدح من خلالها، وتشعر بالعزة والاستعلاء بعيداً عن المسألة والاستجداء، وهذا ما وقع لموسى ـ عليه السلام ـ حيث عاش مع الشيخ الكبير عيشة عمل وكدح، يرعى له الغنم مقابل تزويجه إحدى ابنتيه، واتفقا على مدة العقد اللازم والكامل برضىً واختيار.
ومرت الأيام، وانتهت المدة الزمنية المتفق عليها بين الرجلين، فأدى موسى مهمته في قوة وأمانة، واختار أتم الأجلين وأكملهما، ووفى الشيخ الكبير بما اتفق مع موسى عليه من التزويج لإحدى ابنتيه.
إن موسى ـ عليه السلام ـ عاش فترة زمنية مع الشيخ الكبير، والله وحده هو الذي يعلم ماذا حصل له فيها من المواقف والمشاهد؟ والذي نعلمه نحن البشر من خلال النص القرآني الكريم، أنه قضى أتم الأجلين وأكملهما عشر سنوات، لأن الاتفاق بينهما كان على ثماني سنوات، فإن أكملها عشراً فذلك تفضل منه، وكرم، وليس بإلزام.
قال ـ تعالى ـ: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . [القصص: 27 - 28]
ولما قضى أكمل الأجلين وأتمهما، ودَّع مضيفه هو وأهله؛ ليعود إلى أهله وبلاده التي غادرها منذ زمن؛ وليقضي الله أمراً كان مفعولاً؛ ولتبدأ حياة ومرحلة جديدة من حياة موسى ـ عليه السلام ـ أعظم مما مرَّ عليه من قبل.
__________
(1) البداية والنهاية، لابن كثير (1/263) .
(1) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير (1/301) .
(2) في ظلال القرآن، لسيد قطب (5/2678 ـ 2679) .
(3) في ظلال القرآن (5/2680) .
(1) في ظلال القرآن (5/2680) . (3) البداية والنهاية (1/301) .
(2) جمع ظئر. والظئر: هي المرأة التي تقوم بالإرضاع.
(1) البداية والنهاية (1/301) . (2) المصدر نفسه.
(1) البداية والنهاية (1/301) .(226/3)
الديمقراطية حقيقة أم وهم؟
(2-2)
محمد بن شاكر الشريف
تحدث الكاتب وفقه الله ـ تعالى ـ في الحلقة الماضية عن مفهوم كلمة الديمقراطية، وبين الأساس النظري الذي تستند إليه، وأنه أساس غير مقبول شرعاً؛ لوضعه الشعب في المكانة التي لا تليق إلا لله ـ تعالى ـ، وذكر أن هناك من الإسلاميين من يريدون قبول الديمقراطية والتعامل معها من خلال كونها آليات لتداول السلطة، وحفظ حقوق الرعية من غير التزام بأساسها النظري، ويناقش الكاتب في هذه الحلقة هذه القضية.
آليات الديمقراطية: يراد بالآليات التي تتبعها الديمقراطية في عصرنا الحاضر: مجموعة من الإجراءات والتصرفات التي منها: حرية الدعوة إلى الأفكار وتكوين الآراء، وحرية تكوين الأحزاب، وحق المعارضة للسلطة القائمة، وحق الاقتراع العام، وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم، وتداول السلطة بين أفراد الشعب، واعتماد مبدإ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين.
- تلك الآليات لم تنشأ من فراغ:
دعوى الأخذ بآليات الديمقراطية دون التقيد بأساسها النظري، فيها قفز على الواقع وتجاوز للمعقول، فإن هذه الآليات لم تتبلور إلا انطلاقاً مما استقر في الفكر الديمقراطي من الاعتماد على نظرية السيادة الشعبية؛ تلك النظرية المرفوضة إسلامياً.
ولا يمكن في الحقيقة تصور: أن يقوم نظام له أصول وقواعد تُتبع، ويُحتكم إليها عند الاختلاف، ولا تكون لهذا النظام جذور فكرية يرجع إليها هي التي حتمته، وأوجبته، فهذا أمر مخالف لطبيعة الأشياء، وما مثله إلا كمثل من يزعم وجود شجرة لها ثمار، وهي مع ذلك معلقة في الهواء من غير جذور ترتبط بها.
فالديمقراطية لا تعمل في فضاء أو فراغ قِيَمِي، ولنضرب مثالاً على ذلك، بـ (حق الاقتراع العام) وهو حق كل مواطن ـ ذكراً كان أو أنثى، عالماً كان أو جاهلاً، تقياً براً كان أو فاجراً شقياً ـ في أن يكون له صوت انتخابي متساوٍ مع صوت الأفراد الآخرين تماماً بتمام.
إن هذه الآلية إنما بنيت على أساس نظرية السيادة الشعبية، وأن الشعب كله هو الذي يملك السيادة، وأن كل فرد له نصيب من هذه السيادة متساو بالتمام والكمال مع نصيب غيره، بغض النظر عن التفاوت بين الأفراد من حيث العلم أو الجهل، ومن حيث الصلاح أو الفساد، ومن حيث الذكورة أو الأنوثة، ومن حيث الحكمة أو السفه، وإلا فما الحجة في التسوية في الصوت الانتخابي بين المتقين والفجار، وبين العلماء والجهلاء، وبين الذكور والإناث، وبين الحكماء والسفهاء؟ ولو قامت جماعة من المسلمين اليوم ترفض المساواة بين العلماء والجهلاء، وبين الأتقياء والفجار، فهل يمكن أن يقبل هذا منهم، أم يعترض عليهم بأن هذا يخالف نظرية السيادة الشعبية؟.
ويترتب على هذه النظرية ـ التي تُرْجِع أصل السلطة إلى العنصر البشري فقط ـ نسبية الحقيقة؛ لأنه ليس أحد من البشر يمتلك الحقيقة الكاملة، وهذا يتيح لكل فرد الحرية الكاملة في أن يقتنع بما يشاء، وأن يعبر عما يراه بدون ضوابط أو حدود؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يقول له: إن ما تراه خطأ. ومن ثم فإنه يحق له الدعوة إلى ما يرى صوابه، وأن يجمع الأنصار حوله، كما يحق له تكوين حزب للدعوة بين الناس إلى هذه الآراء، ومحاولة الوصول من خلاله إلى سدة الحكم؛ لتنفيذ ما يرى صوابه، فإذا انهار الأساس الذي تبنى عليه هذه الآليات ـ وقد بينا بطلانه ـ فعلى أي شيء يعتمد الذين يأخذون بهذه الآليات؟.
والقارئ في تفصيلات الفكرة الديمقراطية، والنظم الانتخابية المنبثقة عنها، وما يوضع من أفكار ونظريات في تفسيرها يجد التخبط الشديد، والتناقض فيها. ولذا فهم يتقلبون من فكرة إلى أخرى، فقد كان أول أمرهم يفسرون السيادة بأنها للأمة بمجموعها، وليس بآحادها، ولا يمكن تجزئتها، ثم عدلوا عن ذلك بأن جعلوا السيادة للشعب بآحاده، بحيث يكون لكل فرد جزء من السيادة، ثم تداخل المعنيان معاً، ولم يعد هناك من فرق بينهما عند التطبيق، وكانوا يقولون بوكالة النائب عن الناخبين، ثم عدلوا عن ذلك، وقالوا: لا داعي لهذه الوكالة، والنائب نائب عن الشعب، وليس عن أفراد، وهذه الأفكار والتصورات قد تَرَتَّب عليها أمور متعارضات. وهكذا ففي كل فترة يتخبطون محاولين إيجاد مسوغ مقبول عقلاً لما اختاروه آلية أو طريقة عملية، ولن يجدوا من الناحية العقلية مثل هذا المسوغ؛ لأنه لم يُبْنَ على أساس متين، وإنما بُني على أساس التصورات الشخصية، والتفسيرات العقلية، وهي تختلف من مفكر لمفكر آخر، ومن زمن لزمن غيره.
قد يقول البعض: أنا آخذ هذه الأشكال والنماذج، وأحشوها بمضمون ذي أصل إسلامي. وهذا في الحقيقة قول غير ممكن الحدوث، لكن لو تنازلنا عن هذه الجزئية، فكيف يقبل أصحاب هذا القول التنازل عن المضمون المستند إلى الأصل الديمقراطي، ويصرون على التمسك بشكلها؟ ويقال لهم: إذا أقررتم بأن الشريعة لديها المضمون الصالح الذي لا تحتاج معه إلى الاعتماد على الغير، أفلا يوجد عندها الشكل الملائم لذلك المضمون؟.
إن الأشكال أُطُرٌ حاوية للمضامين، فإذا قيل: إنه لا توجد أطر إسلامية يمكن أن تحتوي المضمون، حتى يُحتاج إلى استعارتها من النظام الديمقراطي؛ كان ذلك قدحاً في وجود المضمون نفسه.
يحاول بعض الناس إيجاد أصول لهذه الآليات بعيدة عن تلك المسوغات الفلسفية المتقدمة، حيث يذكرون أن من مسوغات الدعوة إلى الديمقراطية التنوع الذي خلق الله عليه الإنسان، فتعدد طرق تفكير الإنسان، وتنوع المشارب والاهتمامات، واختلاف ردود الأفعال تجاه الأحداث، تبين أهمية تمكين الإنسان من التعبير عن رأيه وأحاسيسه، وامتلاكه لحريته الكاملة في الاختيار المطلق، دون قيود تمنع من ذلك أو تعيقه (1) ، لكن هذا التصوير الذي يربط حقيقة وجود الإنسان بامتلاكه لحريته الكاملة في الاختيار المطلق دون قيود، هو في حقيقته معارض لفكرة «الدولة» ، التي يقبل بها الديمقراطيون، بل جُلُّ جهدهم منصب على الوصول إلى حكمها والسيطرة عليها.
ومهما قيل عن تسويغ فكرة الدولة، فهي تضع في النهاية حدوداً وعوائق على الحرية المطلقة، ومهما قيل عن عقلانية هذه القيود، وأنها قيود لصالح الإنسان، ولمنع الفوضى في المجتمع، لكنها في النهاية تضاد فكرة الحرية المطلقة، مما يعني أن هذا الأساس الذي تحاول الديمقراطية المعاصرة أن تقيم مشروعها عليه هو أساس منقوض، وما دام أن الفكر الديمقراطي بكل ما عنده من حديث عن الحريات المطلقة قد قَبِل مبدأ تقييدها، فهذا يدعونا إلى عدم تقبل فكرة الحرية المطلقة، كأساس تبنى عليه الديمقراطية المعاصرة، كما يدعونا في الوقت نفسه أن نحدد مَنْ الذي له الصلاحية في وضع هذه القيود.
والقيد يعني: الحجر على التصرفات بحيث لا تتجاوز نطاقه. والقبول به هو في حقيقته نوع من الخضوع لمن يضع هذه القيود، ولا يكون الإنسان كامل الحرية حقاً إلا عندما يكون غير خاضع لمن هو مثله، وهو يقود في النهاية إلى أن القيود لا بد أن تأتي من خارج المصدر الإنساني، ولا يكون ذلك إلا من الله ـ تعالى ـ، عن طريق رسله الذين اصطفاهم من خلقه؛ لهداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
ويترتب على الأخذ بتلك الآليات المذكورة إجمالاً أمور تفصيلية كثيرة منها:
3 الدعاية: الدعاية للنفس، وبيان إمكاناتها، وتفوقها على غيرها أحد التصرفات التي يستخدمها الفكر الديمقراطي؛ لتعزيز طلب الثقة من الشعب، والوصول إلى الحكم، وهذا التصرف مرفوض شرعاً؛ إذ لا يجوز للمسلم أن يُزَكِّيَ نفسه، ولكن الإنسان الصالح أعماله هي التي تخبر عنه وليس أقواله، فإذا اجتهد المسلم في العناية بالشأن العام، وبالعمل الاجتماعي ابتغاء وجه الله، وعرفه الناس من خلال ذلك، ومدحوه على فعله وأحبوه، فتلك عاجل بشرى المؤمن، فعنْ أَبِي ذَرٍّ قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن» (1) ، لكن لا ينبغي له هو أن يعلن عن نفسه، أو يزكيها، قال الله ـ تعالى ـ: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] ، ولا يصلح أن يقال: لا يدعو هو لنفسه؛ بل يتولى ذلك الأمر أحد غيره لأن هذا التصرف نابع من الأسر النفسي الذي أسر به النظام الديمقراطي نفوس الناس، وما هذا التصرف إلا تحايل على الشرع في هذه المسألة، ومع ذلك فقد ورد في الشرع ما يبين النهي عن ذلك، فقد أخرج مسلم في صحيحه: «عن همام بن الحارث: أن رجلاً جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد، فجثا على ركبتيه ـ وكان رجلاً ضخماً ـ، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» (2) كما لا يصلح في هذا المقام أن يحتج محتج بقول يوسف ـ عليه السلام ـ: {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] ، لما سنبينه في الفقرة القادمة.
والدعاية اليوم صارت صناعة محكمة، تحتاج إلى نفقات عظيمة لا يقدر عليها إلا أفراد قلائل جداً، ولو أخذنا مثالاً من العالم الغربي: فإن تكلفة الدعاية الانتخابية في انتخابات الرئاسة الأمريكية قد بلغت أكثر من 500 مليون دولار للمرشح، ولو أخذنا مثالاً من محيطنا العربي: سنجد أن تكلفة الدعاية الانتخابية لانتخابات مجلس الشعب المصري قد كلفت جماعة ـ كالإخوان المسلمين ـ ما يزيد عن أربعين مليون جنيه مصري، فمن أين يأتي الأفراد العاديون بمثل هذه المبالغ الطائلة؟ وما الذي يدفعهم ـ حقيقة ـ لبذل هذه الأموال الضخمة؟ هل الرغبة في نفع الشعوب والسهر على مصالحها؟ وماذا يكون موقفهم لو طولب المرشحون لإنفاق جزء منها على الشعب في غير زمن الانتخابات احتساباً لله؟.
إن هذا الإنفاق الضخم يقود إلى أحد أمرين، الأمر الأول: إما ألاّ يرشح نفسه، ويخوض غمار هذا العمل إلا من كان من كبار الموسرين المستعدين لبذل هذه النفقات الكبيرة، وهو ما يحرم الفقراء، وأصحاب الدخول العادية وهم الغالبية في الشعوب، ويحولهم فقط لمجرد مانحي أصوات للأغنياء الأثرياء، ومن ثم تصير الديمقراطية ديمقراطية الأغنياء، وأصحاب النفوذ والثروات، وهي بذلك تكون انتقائية لا يمارسها إلا النخبة الغنية، والأمر الثاني: أن يقايض المرشح أو الحزب الشركات الكبرى، ويدعوها لدعمه وفق معادلة معلومة: ساعدني في الانتخابات أعوضك عن ذلك عند النجاح، وأساهم في التشريعات التي تخدم مؤسستك وشركاتك (وكل هذا يتم على حساب الشعوب) ، أو أن المرشح لا يمكن أن يخوض غمار هذه الانتخابات إلا من خلال حزب ينفق على حملته الانتخابية، وفي هذه الحالة يصبح العضو أسيراً لدى الحزب، لا يتمكن من التعبير عن رأيه الحقيقي إذا كان مخالفاً لحزبه، وإلا تعرض للفصل أو عدم ترشيحه مرة أخرى، ومساندته في الانتخابات.
3 طلب الولاية: يقوم الفكر الديمقراطي على طلب الولاية للنفس، بل وعلى الصراع من أجل ذلك، فما تكوين الأحزاب، ونشر الدعايات، وخوض الانتخابات؛ إلا للحصول على الولاية، وهذا أمر منهي عنه، فالمسلم منهي عن طلب الإمارة لنفسه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنا ـ والله ـ لا نولَّي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه» وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لن، أو لا نستعمل على عملنا من أراده» وقال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة أوكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» (3) ، وهذا يشمل طلب الولاية بكل الطرق: سواء كان بطريق القهر والغصب لأمور الناس، كما هو الحاصل في كثير من البلدان، أو كان بطريق الطلب ممن له أن يعطي ذلك ويمنع، أو كان بطريق الترشيح في الانتخابات وطلب التأييد من الناس لذلك، ولا يصلح معارضة هذه الأدلة وهديه -صلى الله عليه وسلم- في إسناد الإمارة بقول يوسف ـ عليه السلام ـ: «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» وذلك لأمرين: الأمر الأول: أن هذا من شرع من قبلنا، والعلماء في شرع من قبلنا لهم قولان: الأول: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأتِ شرعنا بخلافه، والثاني: أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا إلا إذا ورد في شرعنا، وعلى الرأيين كليهما لا يصلح أن يحتج بما فعله يوسف ـ عليه السلام ـ في شرعنا، فإن طلب الإمارة لم يأت في شرعنا إلا على سبيل النهي عنه، والأمر الثاني: أن يوسف ـ عليه السلام ـ قال ذلك في ظروف غير اعتيادية، وما جاء مخالفاً للأصل فإنه يقتصر به على مورده ولا يتعداه لغيره، كما يقرر ذلك أهل الأصول، فكيف يمكن أن يؤسس على الحالة الاستثنائية نظاماً اعتيادياً؟.
3 التعددية: من الآليات المعتمدة في الفكر الديمقراطي التعددية، وهي أوسع من السماح بتشكيل أحزاب متباينة في رؤاها، فالتعددية التي ظاهرها عند البعض السماح بالاختلاف في الرؤية حول بعض التصورات المتعلقة بأمور المصالح ونحوها، هي في حقيقتها إباحة لجميع المعتقدات، والأفكار، والتصورات في المجتمع، وبأحقية كل فرد أو جماعة في تكوين الآراء والمعتقدات الخاصة. ولعلم جماعة إسلامية تخوض في لعبة الديمقراطية بأن التعددية في الديمقراطية تعني ذلك، وأن عدم الموافقة عليه يعني عدم الموافقة على الديمقراطية، فقد صرحت تلك الجماعة أنه: لا مانع لديها حتى بعد وصولها إلى الحكم من السماح بقيام حزب شيوعي، وهو ما يتعارض تعارضاً واضحاً مع المقررات الإسلامية إذ من الثابت أن من ارتد عن دينه فعليه أن يتوب، أو يواجه الحد الشرعي، لا أن يُسمَحَ له بتشكيل حزب ينظر إلى الأمور من خلاله، ويدعو الناس إلى تصوراته.
وتعد حرية تكوين الأحزاب السياسية أحد أهم مظاهر السماح بالتعددية السياسية في المجتمعات وخاصة بعد تقرير مبدأ الاقتراع العام، لكن على أي شيء يبنى هذا التعدد أو ما المسوغ له؟ هو تعارض الإرادات، والرؤى، والتصورات تعارضاً بيناً؛ بحيث لا يسع الجميع أن يكونوا في حزب واحد. فالديمقراطية على ذلك تُفَرِقُ ولا تجمع، وهو واضح حتى من الممارسات داخل الحزب الواحد؛ فإن الحزب يظل حزباً واحداً متماسكاً ما دام أعضاؤه متفقين في أسسه العامة، وتوافقت تصوراتهم إزاء القضايا المهمة، فإذا حدث خلاف مهم في هذه الرؤى؛ فإن الحزب يتحول إلى هيئة عامة تظلل عدة أجنحة متباينة فيما بينها، وقد يصل الاختلاف إلى درجة لا يتمكن معها الأعضاء من التعايش، فينشق الحزب إلى حزبين أو عدة أحزاب، مما يعني: أن الديمقراطية لا تنمو إلا في ظل الاختلاف.
3 الأغلبية: عند اختلاف الرؤى في النظام الديمقراطي يُنْظَرُ إلى الأغلبية على أنها ممثلة للإرادة الشعبية العامة، وهذا يعطيها صفة العصمة أو صفة الصواب، بينما يلتصق برأي الأقلية صفة الخطأ، لكن من حق الأقلية أن تحاول ضم من تستطيع إلى صفوفها، والقبول بأطروحاتها؛ لتحقيق الأغلبية لتلك الآراء، حتى تتحول من صف الرأي الخاطئ إلى صف الرأي الصواب، ويحدث العكس، ويتبدل الحال للأغلبية السابقة، وهذا بدوره ينشئ صراعاً كبيراً بين فئات الشعب في محاولة ضم أكبر عدد للصفوف؛ لتكتسب رؤيتهم العصمة؛ ولتكون معبرة عن الإرادة العامة، مع ما يصاحب ذلك من كل الظواهر التي توجد في ظل الصراع، وهكذا يمر الحق والصواب بدورات متتالية متعاقبة، فما يكون اليوم صواباً قد يصبح بعد حين خطأ لا لشيء؛ سوى أن القائلين به تمكنوا من استقطاب شريحة كبيرة من الناس للموافقة عليه، وما كان بالأمس صواباً قد يصير خطأ لا لشيء؛ سوى أن القائلين به لم يستطيعوا المحافظة على الأغلبية التي كانت معهم، وذلك بغض النظر في الحالين كليهما عن مدى صواب تلك الأقوال أو خطئها من الناحية الحقيقية، ثم هذه الأغلبية قد تصبح أغلبية مستبدة أكثر من أي نظام استبدادي، وليس هناك من وسيلة ديمقراطية لإيقاف هذا الاستبداد؛ إذا استطاعت أن تحافظ الأغلبية على وضعها في المؤسسات السياسية. ويظهر هذا بجلاء في الشعوب التي تتكون من أكثر من عرقية، فالعرقية ذات الغالبية العددية على ما سواها من العرقيات الأخرى مؤهلة للاستبداد، في حين لا تملك العرقية الأخرى أية وسيلة ديمقراطية لمنع هذا الاستبداد، ويبقى الطريق المفتوح هو الصدام مع الأغلبية، أو التعاون مع أعداء الوطن، ويصبح المحافظة على حقوق الأقليات العرقية مرهوناً بالحالة الأخلاقية للأغلبية.
فآليات الديمقراطية تعمل على توطين الفساد، وإعطائه الصبغة الشرعية حيث يكثر التحايل بهذه الآليات عبر التصويت، ويتم تغيير القوانين، ويصبح هذا التغيير مشروعاً ليس إلا لصدوره عن الأغلبية حتى وإن كان مجافياً للصواب، فتستطيع الأغلبية تغيير القانون الذي يُجَرِّمُ بعض تصرفاتها لتصبح تلك التصرفات بعد التصويت صوابا، والأمثلة كثيرة؛ فآليات الديمقراطية لا تمنع من تقنين الظلم وجعله شريعة ينبغي على الناس قبولها والعمل بها.
وهناك وجه آخر لمشكلة الأغلبية، فإنه من المستقر المعلوم حتى في المجتمعات المتقدمة أن شريحة الأكثرية ليست مثقفة عالمة فاعلة، وأن الطبقات الدنيا والمتوسطة هي التي تمثل الغالبية أو الأكثرية، أما الطبقات العليا فهي تمثل الأقلية في الناس، وفي هذا تغليب للكثرة الجاهلة، أو غير المثقفة، أو غير المؤهلة على القلة العالمة الخبيرة، حتى يستوي في ميزان الديمقراطية من وصل إلى أعلى الدرجات العلمية مع من ليس له من ذلك نصيب، ولو كان الموضوع يتعلق بتخصص ذلك العالم، كما يستوي فيها أتقى الاتقياء مع أفجر الفجار.
- آليات الديمقراطية لا تعبر حقيقة عن إرادة الناخبين:
إخفاق الآليات الديمقراطية في التعبير عن إرادة الناخبين، فبعد انتخاب النواب ينفصل النواب عن ناخبيهم فلا تكون لهم عليهم سلطة، ويظل الناخب في كل ذلك يعبر عن آرائه وتصوراته، أو آراء الحزب وتصوراته، كما أن فكرة تعبير النائب عن آراء ناخبيه هي في الحقيقة فكرة ساذجة، فإن الناخبين للنائب قد يتجاوزون العشرات من الآلاف، ولكل منهم رأيه بحكم ثقافته، ومصالحه، التي تختلف في قليل أو كثير عن آراء الآخرين، فكيف يكون النائب معبراً عنهم؟ ناهيك عن الذين لم ينتخبوه، وإذا قيل: بأن الناخبين إنما ينتخبونه من أجل البرنامج الذي يعلنه، لكان هذا القول لا قيمة له؛ لأنه لا يوجد شيء يلزم النائب بعدم الخروج على برنامجه، ثم إن هناك أموراً قد تَجِدُّ لم تكن موضوعة من قبل في برنامج النائب، ففي هذه الحالة فإنه يتكلم فيها بمجرد تصوراته، والتي قد تكون معارضة لآراء كثير أو قليل من منتخبيه، وإذا قيل: بأنه يرجع لناخبيه ويستطلع آراءهم. فإن هذا قول مغرق في الوهم فكيف يجمع هذه الآلاف؟ وكيف يستطلع رأيهم؟ وكيف يحسم الخلاف إذا اختلف الناخبون فيما بينهم؟، وهل المداولات التي تتم في البرلمان سوف تنتظر كل نائب حتى يرجع إلى ناخبيه؟.
- الفراغ الأخلاقي:
الديمقراطية نظام بلا أخلاق، إذ أنه لم يُؤَثِّرْ في الدول التي تبنته، وعملت به، ودعت إليه، فهو كالجسد الذي لا روح فيه، بل إن أكثر الدول استغلالاً لغيرها وظلماً لها هي الدول التي تعد رائدة في هذا المجال، فالديمقراطية البريطانية ـ كما يقال ـ هي أم الديمقراطيات، والثورة الفرنسية هي التي أشاعت نظرية السيادة الشعبية، وأمريكا اليوم تتربع على عرش الدول الديمقراطية العاملين بها والداعين إليها، ومع ذلك فلم تحجز هؤلاء ديمقراطيتهم عن الظلم، والطغيان، وسرقة ثروات الدول الأخرى، وقد تعرضت دول العالم العربي والإسلامي للاحتلال من هذه الدول الثلاث، وغيرها، وعانت من ذلك الكثير، وتعرض رجالها للقتل، وثرواتها للسرقة والنهب، وما زال هذا النهج مستمراً، فهل كان في الديمقراطية خُلُقٌ يمنعهم أو يحجزهم عن ارتكاب كل هذه القبائح؟.
- قبول الحل الديمقراطي يقضي على الحل الإسلامي:
وقبول الحل الديمقراطي هو في حقيقته الموافقة على كونه بديلاً عن الشريعة، فلا يمكن مع وجود هذا الحل أن يطالِبَ المسلمون حكامهم بتطبيق الشريعة؛ لأنه يقال لهم والحالة هذه: أمامك الشعب، وهو حجة يفصل في هذه المسألة، وهنا يقول أصحاب الحل الديمقراطي: هذه فرصتنا التي ننتظر حيث يخلى بيننا وبين الناس، فنقنعهم بما لدينا من التصور الإسلامي للسياسة. لكن كأن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن كل النظم في الدول الإسلامية التي سلكت هذا الطريق الديمقراطي تنص في قوانينها على: عدم جواز إنشاء أحزاب على أسس دينية، وهذا مما يبين أن الديمقراطية في فهم الساسة تقترن بالعلمانية، والغرب الديمقراطي (الغاطس في ديمقراطيته إلى الأذقان) لن يقف مع المسلمين (الديمقراطيين) في هذه الحالة، بل سيقف مع أصحاب الحلول غير الديمقراطية إذا تعلق الأمر بالإسلام، ولسنا ندعي علم الغيب بذلك، فأمامنا موقف الغرب من وصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ للحكم في الجزائر، والمثل القريب في فلسطين وموقفهم من حركة حماس.
- مقارنة الديمقراطية بغيرها مقارنة ناقصة:
هناك من يقر بأن الديمقراطية بها أخطاء كثيرة، ويُسلِّمون بكل ما ذكر من عيوبها، لكنهم يرونها على ما فيها من شر وأخطاء هي خير من غيرها بمرات كثيرة، وهؤلاء إنما يقيمون هذا الكلام على أساس مقارنة ناقصة، فهم يقارنون ذلك بالأنظمة الاستبدادية القائمة على القهر والظلم، أو على بعض النماذج التي تعد هي خارجة عن أصولها وليست مطبقة لها، لكن لو قورنت الديمقراطية بما يقدمه الإسلام في مجال نظام الحكم لظهرت عيوبها، وسوآتها في مقابل النظام الكامل المتكامل، ولعل بعض من يقول بخيرية النظام الديمقراطي يقول: نحن لم نضعه في مقابل الإسلام، وإنما نحن نطالب به للخروج من حالة الاستبداد التي تعيش فيها الشعوب. لكان يقال لهم: إن الذي ينقص في هذه الحالة ليس هو النظام العملي حتى نأتي به من خارج محيطنا، ولكن الذي ينقص هو الرغبة والإرادة في تمكين الشعوب، وإيجاد الرغبة والإرادة لا يكون بالدعوة إلى الديمقراطية؛ لأنه توجد من الوسائل الديمقراطية ما يكفي لجعل الديمقراطية حبراً على ورق عند عدم الرغبة في تطبيقها، أما إذا وجدت الرغبة، فلماذا اللجوء إلى نظام فاسد، وترك العودة إلى النظام الإسلامي؟.
- تعدد صور الديمقراطيات:
ولو أن هؤلاء انعتقوا من ربقة المتابعة للغرب لما احتاجوا إلى كل هذا العناء، فإن الديمقراطية ليست شيئاً واحداً أو محدداً، ولم ينزل بها تشريع من عند الله، بل كانت تتغير وتتبدل في صور ممارساتها، بإزاء العقبات، والمشاكل، والتناقضات التي كانت تقابلهم، كمشكلة التوفيق بين مصالح الفرد، ومصالح الأقلية، ومصالح الأكثرية، وكانت كل الصور التي ظهرت فيها الديمقراطية على مدار تاريخها تمثل حلولاً أو محاولات للتغلب على هذه المشكلات التي تعترضهم، لكن ذهنية التابع الذي لا يصدر عن رؤية أصيلة، تجعله ينظر إلى الديمقراطية وكأنها شريعة محددة، لا يملك بإزائها إلا المتابعة التامة، والنقل عنها من غير تصرف.
- ماذا يعني رفضنا للديمقراطية؟
لكن رفضنا للديمقراطية لا يعني ـ كما يصور ذلك الديمقراطيون ـ إقرار التسلط والرضا به، وإهدار مكانة الشعوب، والاستهانة بإرادتها، فإن تصوير الأمور على أنه: إما القبول بالديمقراطية، وإما القبول بالديكتاتورية! هو تسطيح مخل بالمسألة، وهو نوع من الإرهاب الفكري الذي يحاول أن يجر الناس إلى قبول الديمقراطية بالإكراه، وهو مشابه لقول بوش ـ عندما أراد أن يجر الدول معه في العدوان على الآخرين ـ: من ليس معنا فهو علينا.
لقد حرر الإسلام الناس من عبوديتهم لبعضهم البعض حينما أخرج سلطة التشريع من أيدي البشر والخلائق جميعاً، وجعل ذلك من خصائص الربوبية، فالإنسان في ظل الإسلام هو حر حقاً؛ لأنه لا يخضع إلا للذي خلقه ورزقه، وحتى المسائل التي لم يأت بشأنها نص قاطع، فإن الرأي فيها لا يكون قولاً بالاختيار عن طريق أكثرية الأصوات، وإنما يكون بحثاً في النصوص والدلائل للوصول إلى أشبه الأشياء، بما يريده الله ـ تعالى ـ الذي خلقنا ورزقنا، وأحْياناً بعد أن لم نكن شيئاً مذكوراً.
فالمسلم في كل أحواله يتمتع بالحرية الحقيقية، لا الحرية الصورية في الديمقراطية، والتي يكون فيها الإنسان عبداً للسلطة التشريعية، فكل الذي فعله الفكر الديمقراطي في هذا الباب أنه نقل الإنسان من عبودية الفرد في الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، إلى عبودية الجماعة في النظام الديمقراطي.
إن كل ما يمكن أن تقبله النفوس السوية أو تدعو إليه، مما دل عليه الفكر الديمقراطي، قد دلت عليه من قبل شريعة الإسلام، لكن على نحو صافٍ خالٍ من الشوائب العالقة بالديمقراطية، ـ فمثلاً ـ عمد الفكر الديمقراطي في سبيل الحد من طغيان السلطات أن دعا إلى ما عُرف بمسألة الفصل بين السلطات الثلاث: (التشريعية ـ التنفيذية ـ القضائية) ، ورغم أن الفكر الديمقراطي لم يستطع أن يحقق ذلك فعلا تحقيقاً كاملاً، ومع ذلك فقد جعل السلطة التشريعية في يد البشر (المجلس التشريعي) وهذا من أشد الطغيان، وأما في شريعة الإسلام فإن التشريع ليس من اختصاص البشر بل هو لله وحده، وكل ما للبشر في هذا المجال هو الاجتهاد في ضوء الشريعة الإلهية، على أمل إدراك حكم الشارع في هذه المسائل التي تحتاج إلى الاجتهاد.
وأما السلطة القضائية في الشريعة فهي سلطة مستقلة حقاً، ليس لأحد عليها سلطان خارجي حتى لو كان الأمير، ولا يملك أحد إلزامه بشيء خارج عما شرعه الله ـ تعالى ـ، بل لو أراد الأمير أن يلزمه بالقضاء على أحد المذاهب الإسلامية لم يكن له ذلك. يقول ابن قدامة: «ولا يجوز أن يُقَلَّدَ القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب الشافعي ولم أعلم فيه خلافاً، لأن الله ـ تعالى ـ قال: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع» (1) ، وقال ابن القيم: «صرح أصحاب الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ بأن الإمام إذا شرط على القاضي ألَّا يقضي إلا بمذهب معين بطل الشرط، ولم يجز له التزامه، وفي بطلان التولية قولان مبنيان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة» (2) ، وقال ابن حزم: «واتفقوا على أنه لا يحل لقاضٍ ولا لمفتٍ تقليد رجل بعينه» (3) ، وقال الماوردي: «فلو شرط المولِّي وهو حنفيٌّ أو شافعيُّ على من ولاَّه القضاء ألاَّ يحكم إلاَّ بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يشترط ذلك عموماً في جميع الأحكام، فهذا شرطٌ باطلٌ سواء كان موافقاً لمذهب المولِّي أو مخالفاً له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطاً فيها، وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال: قد قلّدتك القضاء، فاحكم بمذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ على وجه الأمر، أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي، كانت الولاية صحيحة والشرط فاسداً، سواء تضمَّن أمراً أو نهياً، ويجوز أن يحكم بما أدَّاه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه، أو خالفه، ويكون اشتراط المولِّي لذلك قدحاً فيه إن علم أنَّه اشترط ما لا يجوز، ولا يكون قدحاً إن جهل، لكن لا يصحُّ مع الجهل به أن يكون مولِّياً ولا والياً، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية، فقال: قد قلدتك القضاء على ألا تحكم فيه إلاَّ بمذهب الشافعي، أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرطٍ فاسدٍ، وقال أهل العراق: تصحُّ الولاية ويبطل الشرط» (1) .
وهو ما يبين استقلال القضاء في الإسلام، وأنه ليس لولي الأمر أن يتدخل فيه، بل لو قضى القاضي بما يخالف اجتهاد ولي الأمر، لم يكن له لينقض كلام القاضي، يقول ابن القيم: «وعن عمر أنه لقي رجلاً، فقال: ما صنعت؟ قال: قضى عليٌّ وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك. فلم ينقض ما قال عليٌّ وزيد» (2) .
وأما السلطة التنفيذية فإنه لا يجوز اغتصابها، والتغلب عليها، واستخدام القوة للحصول عليها، وإنما يشرع أن يكون ذلك برغبة المسلمين، ورضاهم، وشوراهم من غير إجبار أو إكراه، وقد بينت في مقال سابق (3) دور الأمة في ذلك، وسقت على ذلك العديد من الأدلة.
ويبين أهل العلم أن السلطة التنفيذية (الخلافة) لا تمنحها لمستحقٍ إلا الأمة، فقد أجمع أهل العلم على أن نصب الإمام فرض كفاية على الأمة (4) ، وهذا يعني أنه مفروض على الأمة من حيث مجموعها لا من حيث أفرادها، ولا يمكن أن يقال: أن الأمة مفروض عليها القيام بذلك العمل، بينما لا يكون لها دور في العمل نفسه. هذا كلام متناقض يدفع بعضه بعضا، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: «ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله، واتبعه على رأيه ومذهبه» (5) ، وقال النووي: «وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة» (6) .
وقد تحدث الماوردي عن حالة ما إذا وقع الإمام في أسر يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، ثم قال: «وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة» (7) ، وبيَّن أنه لو عقدت الخلافة لرجلين، وأشكل معرفة المتقدم منهما، فلو تنازعاها، وادعى كل واحد منهما أنه الأسبق، لم تسمع الدعوى، وعلل ذلك بقوله: «لأنه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حق المسلمين جميعاً» (8) ، فكون نصب الإمام واجباً على الأمة، يعني أن الأمة هي التي يصح منها ذلك، وأنه لو استبد بذلك واحد أو جماعة بدون موافقتها لم يصلح ذلك، وهذا هو الذي يليق بمكانة هذه الأمة الشريفة التي هي خير أمة أخرجت للناس من ذرية آدم ـ عليه السلام ـ، وقد قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الخليفة الراشد الملهم على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة بمحضر من الصحابة كلهم: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه؛ تغرة أن يقتلا» (9) .
ثم إن للمسلمين الحق في الاحتساب والإنكار على أمرائهم إذا خرجوا عن الجادة بطرق الإنكار المعروفة التي أقرتها الشريعة، فقد أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- محاسبة خالد ـ رضي الله عنه ـ من قبل جنوده عندما امتنعوا من تنفيذ أمره الباطل، عندما أخطأ في اجتهاده، وقتل الذين قالوا: صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين.
وهذا أبو بكر ـ رضي الله تعالى ـ عنه يقر مبدأ الحسبة السياسة عقب توليه الخلافة مباشرة إذ خطب الناس، وقال لهم: «إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني» ، مما يبين أن الحسبة ليست قاصرة على الرعية دون الولاة؛ لأن الكل في ميزان الشرع عبد لله، والحاكم والمحكوم كلاهما مطالب بعبادة الله وحده، وطاعته، واتباع ما شرعه، وما طلبه أبو بكر ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ من الصحابة لا يتأتى منهم إلا بعد المتابعة والمراقبة التي بها يتمكنون من معرفة الإحسان أو الإساءة، وهذا عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقول: (إني والله ما أرسل عمالي إليكم؛ ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم؛ ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فُعِلَ به شيء سوى ذلك، فليرفعه إليَّ فوالذي نفسي بيده إذاً لأقصنّه منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين! أَوَ رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه؟ قال: أي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم (1) ؛ فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم؛ فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض (2) ؛ فتضيعوهم) (3) فعمر ـ رضي الله عنه ـ يحض رعيته على عدم السكوت على ظلم الولاة، ويوجه الولاة بعدم منع المسلمين حقوقهم، والعمل على راحتهم، والحفاظ عليهم.
لكن مع ذلك فإن النظام الإسلامي لا يفصل بين السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وأما السلطة التشريعية فهي أصلاً ليست للبشر، وبالنظر إلى ما يقدمه النظام الإسلامي لمنع الطغيان والاستبداد أنه لم يجعل التشريع بيد البشر، بينما النظام الديمقراطي لم يفعل شيئاً أكثر من أن يجعل التشريع ـ بعدما كان في ظل الاستبداد في يد فرد أو فئة ـ جعلت الديمقراطية التشريع في يد مجلس يزيد عدده قليلاً عن الحالة الأولى، وأما أصل الاستبداد، والظلم، والجور فلم تتخلص منه إذ جعلت التشريع بيد البشر.
وإذا تبين لنا هذا، فما الحاجة إلى ما يدعيه البعض حول أسلمة الديمقراطية؟ فإن كانت الأسلمة تعني: إقرار ما جاءت به الديمقراطية مما يوافق الإسلام، ومما يخالفه كان هذا من قبول الباطل، ونشره بين المسلمين باسم الإسلام، وإن كانت الأسلمة تعني: أنه لا يقبل منها إلا ما يقره الإسلام، فلماذا الحرص على نسبته للديمقراطية، ولا ينسب للإسلام نفسه؟ على أنه ما من شيء حَسَن أتت به الديمقراطية بدون عيوب، إلا وفي الإسلام ما هو أفضل منه وأكمل، فما دمنا أقررنا أن الإسلام دين ودولة، وأن الإسلام أكملُ الشرائع، فكيف يقوم في الذهن أن شريعة الإسلام تخلو عن بعض الأمور التي يحتاج إليها المسلمون في تنظيم دولتهم، بحيث يأخذونها من غيرهم؟.(226/4)
العمل المؤسسي في العائلة
أحمد بن عبد العزيز الفايز
بات العمل للدين، والسعي لنيل الشرف بركابه هاجساً لدى فئات كثيرة من الناس، وتعددت مؤسساته ووسائله؛ نظراً لتعدد المجتمعات وقطاعاته المدنية والأهلية فضلاً عن الحكومية.
وكانت بداية الدعوة المحمدية بقوله ـ تعالى ـ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] مقترنة بقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» رواه الترمزي.
والمتأمل لحال كثير من الدعاة قديماً وحديثاً تجد لديهم نشاطاً في عشيرته وأهل رحمه إلا ما ندر ممن اختل عنده فقه الأولويات، والجمع بين الحُسنيين؛ لذا كان من المستحسن أن ينطلق العامل وفق عمل منظم يرسم أهدافه وينفذها؛ ليقطف ثمارها في الدنيا بلذة النجاح وفي الآخرة بالفلاح،،، وإليك أيها القارئ الكريم خطوطاً عريضةً في ملامحه هذا البرنامج.
تعريف العمل المؤسسي في العائلة:
هو نظام يتجه نحو تحقيق الأهداف وفق علاقة مترابطة في وحدات إدارية ذات خطوط محددة، وقيم تضمن الاستمرار والنمو.
أهمية العمل المؤسسي في العائلة:
1 ـ يحقق هذا البرنامج ضمان الاستمرارية في الأداء:
فكثير من الأعمال والبرامج التي يقوم بها العاملون في محيط عوائلهم لا تتجاوز ردود أفعال، أو عواطف إيمانية، أو تفرغ يتأتى بين حين لآخر، أما العمل المؤسسي فهو عبارة عن: منظومة ونظام يُلزِم العامل بالعمل ويتابع استمراره، ويحاسب على التقصير في أدائه فضلاً عن إهماله، عبر لجان الاجتماعات، وجداول عمل مسبقة التدوين.
2 ـ يساعد على تقييم الأداء ومن ثم تقويمه:
فمن الطبيعي لكل عمل أن يصحبه كثير من الإخفاق وعقبات الفشل، لكن العمل المؤسسي يراجع أعماله؛ ليُقيِّمَها، فيعرف نقاط القوة فينميها ويزيد في تفعيلها، ونقاط الضعف فيصوب ما يناسب التصويب، أو يعدل، أو يستبدل، وهكذا ... (شعاره أن الفشل خطوة نحو النجاح) .
3 ـ يوزع المهام والتكاليف:
وهذا أكبر معوق يشتكي منه كثير من العاملين؛ وهو قلة المعين. بينما العمل المؤسسي يضع الوصف الوظيفي لكل عامل، ويحدد له المهام، ويمنحه الصلاحيات مصحوباً بالمساندة والتحفيز المستمر، مثال:
- مهمات اللجنة الثقافية:
1 ـ إعداد مفكرة خاصة بالبيانات الأسرية لبيوت العائلة وتحديثها دورياً.
2 ـ خدمة العائلة إعلامياً، وتعزيز علاقتها بالأسر الأخرى.
3 ـ إصدار مطبوعة دورية تُعنَى بشؤون العائلة.
4 ـ رعاية موقع العائلة على شبكة الإنترنت، والعمل على تطويره، وتحديث معلوماته.
5 ـ إصدار مفكرة دورية لهواتف أفراد العائلة.
6 ـ متابعة ما يخص شجرة العائلة، وتحديثها دورياً.
7 ـ الترتيب لعمل برامج متنوعة خلال الملتقى السنوي العام.
8 ـ التنسيق مع الأمانة؛ لما يُرى مناسبة نشره من قرارات المجلس.
9 ـ ترتيب بعض المناشط التي تخدم الجانب الثقافي للعائلة.
10 ـ تكريم المتفوقين والمتفوقات من الطلاب، والموظفين، وأصحاب الإنجازات المتميزة.
11 ـ الاحتفاء بالمتزوجين والمتزوجات من أفراد العائلة.
12 ـ ترتيب رحلات خاصة بالشباب والبراعم من أبناء العائلة.
4 ـ زيادة اكتشاف الطاقات:
في المحيط العائلي الكبير وفي التجمعات الاجتماعية لا يمكن التعرف على الكوادر ومن ثم تطويرها. وبالعمل المؤسسي ستجد أنك بحاجة إلى العشرات من الشخصيات التي تناسب المهام المحتاجة، مما يتيح له ميدان عمل وتجربة يخفق فيه عدد، وتلمع فيه نجوم يزيدها ظلمة الليل بريقاً ولمعاناً.
5 ـ تحقيق مفهوم العمل الجماعي، وروح الفريق الواحد:
فرأي الواحد مهما كان ثاقباً فهو أقل درجة من رأي الاثنين فضلاً عن الجماعة، مما يضمن صواباً في العمل، وقبولاً لدى المتلقي، وتَبَعَةٌ أقل، ويكفي فيه البركة، «وتعاونوا على البر والتقوى» ، «وأمرهم شورى بينهم» . فكل قرار لم يصدر برأي جماعة تمَّ اتخاذه عبر اجتماع منظم؛ فهو غالباً مرتجل محفوف بالخطأ.
- آليات العمل المؤسسي:
1 ـ وضع النظام واللوائح ومتابعة تنفيذها:
ـ رسم الأهداف بشكل دقيق وواقعي:
فمن الضروري كتابة الأهداف، وتحديدها بشكل واضح وفق الضوابط التالية:
0 الواقعية في التطبيق.
0 مراعاة الظروف الاجتماعية ونحوها.
0 بعيدة النظر.
0 تُعْنى باستمرار العمل لا قيامه فقط، مثال:
1 ـ التعارف المؤدي إلى صلة الرحم.
2 ـ التكافل الاجتماعي بين العائلة.
3 ـ نشر الخير بين أفراد العائلة.
ـ صياغة النظام الأساسي، واللوائح التنفيذية:
فالنظام يحدد: اختيار مجلس الإدارة وتكوينه، والهياكل، وطرق اتخاذ القرار واجتماعاته. أما اللوائح التنفيذية ففيها تُحَدَّدُ: اللجان العاملة، والوصف الوظيفي مع المهام المناطة بها، والصلاحيات الممنوحة لها، كاللجنة الثقافية، والعلاقات العامة، والزكاة، والمالية، وحبذا أن تُمْنَح هذه اللجان صلاحية إقامة لجان فرعية، كلجنة الشباب والإعلام ونحوها، ضمن اللجنة الثقافية.
ـ المتابعة المستمرة:
فالتنظير كثيرٌ من يحسنه، لكن التنفيذ ومتابعة التنفيذ قلة من يتقنه. فالمتابعة المستمرة بالأساليب الآتية تضمن استمرار العمل العائلي:
0 المشاركة في المهام مع الآخرين إذا دعت الحاجة.
0 التحفيز للعاملين.
0 التواصل في تنفيذ المهام.
0 القدوة العملية؛ فتقديم النموذج العامل الذي يحتذى به أكبر أسلوب للمتابعة.
2 ـ العناية الفائقة بالأفراد:
وهي على مراحل ست:
1 ـ تحديد الوصف للعامل.
2 ـ البحث في الشخصيات ذات الصفات المناسبة.
3 ـ حُسْنُ الاستقطاب والإقناع.
4 ـ التدريب بشتى طرقه الفردية والجماعية.
5 ـ التحفيز المستمر.
6 ـ التركيز على الصف الثاني لكل عامل.
3 ـ وضوح الجانب المالي وأثره الملموس في العائلة:
المال عصب الحياة، ووسيلة من أهم وسائل العمل العائلي؛ لذا فإن من ركائز العمل المؤسسي في العائلة أن يتحلى بالآتي:
ـ الشفافية والوضوح في الواردات والمصروفات.
ـ إيجاد الموارد المالية، والتركيز على الدائم منها ولو قلَّ، ومنها:
0 الاشتراك السنوي للموظفين.
0 التركيز على أهل اليسار في العائلة.
0 الاستثمار المنضبط شرعاً، ونسبة حصول الأرباح فيه عالية ولو قلت نسبة الربح.
0 تفعيل الزكاة.
- أسلوب إدارة العمل:
1 ـ الانطلاق من الخطط:
فالنشاط عندما تحدد برامجه المنبثقة من الأهداف الأساسية، ويحدد زمن تنفيذها، والتكلفة المالية، والشخص المسؤول؛ يَنْظُمُ، ويسهل التنفيذ، ويقاس الأداء، ويستقيم التقويم.
2 ـ تنظيم العمل:
العمل المؤسسي من أولوياته: خط سير الإنتاج بطريقة انسيابية؛ تُجَدَّدُ فيه الاجتماعات بشكل دوري لكل مجلس، ولجنة ومكان الاجتماع، وتُرْسَمُ جداول الأعمال من الأمين مسبقاً، وتُعَدُّ الأوراق المطروحة للنقاش قبل الاجتماع؛ ليتم استيعاب الأفكار؛ ويتخذ القرار بكل سهولة وعلمية محكمة، يدون خلالها الأمين القرارات، ويتابع بعد الاجتماع المتابعاتِ التي تم تكليف الأفراد بها.
3 ـ الرئيس القائد:
فلكل عمل رجاله؛ فوجود الشخصيات التي تتمتع بالقيادة العائلية أمر ضروري، والتي من أهمها:
0 الجوانب الشخصية في القيادة، كالتفكير السليم، والحكمة، وإدارة الأفراد، ونحوها.
0 التفاؤل، فالعمل العائلي بحاجة كبيرة إلى المتفائلين؛ لأنه يتعامل مع شريحة متفاوتة التفكير والطبقات؛ لأن الأمر يعنيهم، فهو يعمل باسمهم؛ لذا ينبغي ألاَّ يتطرق له اليأس والإحباط.
0 التحفيز المستمر للعمل والعاملين بأساليبه المختلفة.
0 القَبُول في العائلة علمياً ووظيفياً، ومكانته في العائلة، ولباقته في التعامل والحديث.
0 الوضوح والشفافية.
0 العناية بالأفراد في العائلة عموماً، وحضور المناسبات الاجتماعية والعاملين خصوصاً.
0 التطوير الذاتي المستمر.
مثال خطة اللجنة الثقافية:
وبالله التوفيق،،،،(226/5)
عبادتُ السِّر!!
فيصل بن علي البعداني
فإن حقيقة التدين تتمثل بمحبة الله ـ تعالى ـ وتعظيمه، ومخافته ورجائه، والتذلّل له، والخضوع التام لأمره واجتناب نهيه، قولاً وعملاً، خفية وعلناً.
فهو تسليم مطلق، وانقياد كامل، في الاعتقادات والأقوال والأعمال، برغبة جيّاشة، واختيار واعٍ، وتشرف وافتخار.
فالتدين حالة مركبة من المعرفة والشعور والسلوك، يكون غاية مطلوب العبد منها: الظفر برضا مولاه ـ عزَّ وجلَّ ـ، ونيل رحمته، والسلامة من غضبه.
وفي أجواء التدين ومجتمعات الدعاة تكون الصورة العامة المقبولة هي الالتزام والمحافظة الظاهرة التي من خرج عنها وُوجه باللوم والمذمّة، وهي ـ لا شك ـ حالة فضل وإنعام تحتاج إلى شكر لله ـ تعالى ـ من الفرد والمجتمع على توفيقه وتيسيره.
لكن المحكَّ العملي الذي تتجلى من خلاله حقيقة تلك الاستقامة العلنية يكون في عبادات السرّ المتضمنة لعبادات الخلوة والخفاء (1) ولعبادات القلب.
فأما عبادة القلب فهي أجلُّ عبادات السِّر وأعظمها، فالله ـ عزَّ وجلَّ ـ لا يناله من عبده إلا التقوى، ولا ينظر إلى الصور والأموال وإنما إلى القلوب والأعمال، ولا ينفع عنده يوم تبلى السَّرائر مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والإيمان ليس بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقرَ في القلب وصدَّقه العمل، كما يشهد لذلك قوله #: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (2) .
وأما عبادات الخفاء وقُرَب السِّر المشتملة على تعظيم أمر الله ـ تعالى ـ ونهيه، والإكثار من مناجاته فهي عمل آخر جاءت النصوص والآثار مكثرة من الحثّ عليه، فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18] ، أي: يخافونه ـ سبحانه ـ حال خلوتهم به بعيداً عن أعين الخلق (3) ، وقوله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] ، والآية الكريمة ظاهرة في تفضيل صدقة السِّر، والتي ثبت أنها تطفئ غضب الرب ـ سبحانه ـ (4) ، وجاء من السبعة الذين يظلّهم الله ـ تعالى ـ يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: «رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» (5) . وعن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله # يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة» ، قال الترمذي: «ومعنى هذا الحديث أن الذي يسرُّ بقراءة القرآن أفضلُ من الذي يجهر بقراءة القرآن؛ لأن صدقة السِّر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية» (6) .
وما ذاك إلا لما في قُرْبَة السِّرِّ ـ بعيداً عن رؤية الخلق ـ من عظم إيمانٍ، وكمال أدبٍ مع الله ـ تعالى ـ وتعظيمٍ له ـ سبحانه ـ، ولما فيها من حضور قلبٍ واجتماع هَمٍّ وابتعادٍ عن القواطع والمشتتات، وثقةٍ بالله ـ تعالى ـ، وأُنْسٍ به، واطمئنانٍ إليه، ومراقبةٍ له، ومخافةٍ منه، ومطالعة مِنَّتِه، وتطلعٍ للظفر بمحبته وثوابه، ولما فيها من تخليصٍ للنفس من الطمع بثناء الخلق وحب مدحهم وكراهية ذمّهم، وضمان سلامتها من بعض دسائس السوء من رياء وسمعة وتصنُّع، فهي أبلغ في التضرع والخشوع، وأمكن في التذلّل والخضوع.
ولذا؛ فقد جاء التوجيه النبوي الكريم بحثِّ العبد المؤمن على أن يكون له عبادة في السِّر، فعن الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً قال: «من استطاع منكم أن يكون له خِبءٌ من عملٍ صالحٍ فليفعل» (1) ، وكان الفضيل بن عياض يقول: (كان يقال: من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرةِ قلوبهم خلائقُ ثلاثة: الحلم، والأناة، وحظٌّ من قيام الليل) (2) ، ويحكي الخريبي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها (3) ، وقال مسلم بن يسار: (ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ) (4) .
ومن تأمَّل سير السلف وجد اهتماماً بليغاً بعبادة القلب، التي هي روح العبودية ولبّها، بل هي الأصل وإنما أعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة لها (5) ، فهذا الصحابي الجليل والإمام الجِهْبِذ ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: «من صلى صلاة عند الناس لا يصلي مثلها إذا خلا، فهي استهانة استهان بها ربه» ، ثم تلا قوله ـ تعالى ـ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] (6) ، وفي يوم قال ـ رضي الله عنه ـ لأصحابه: «أنتم أكثر صلاة وأكثر جهاداً من أصحاب محمد #، وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: ِبمَ ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة» (7) .
ويقول وهب بن منبه: (يا بُنيّ أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق الله فيها فعلك في العلانية،.. ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السَّريرة، فإن مَثَلَ العلانية مع السَّريرة كمَثَلِ ورق الشجر مع عِرْقها: العلانية ورقها، والسَّريرة عِرْقها. إن نُخِر العِرْق هلكت الشجرة كلها؛ ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها؛ ثمرها وورقها، فلا يزال ما ظهر من الشجرة في خير ما كان عِرْقها مستخفياً لا يُرى منه شيء. كذلك الدين لا يزال صالحاً ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانيته، فإن العلانية تنفع مع السَّريرة الصالحة كما ينفع عِرْقَ الشجرة صلاحُ فرعها، وإن كان حياتها من قبل عِرْقها فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السَّريرة هي ملاك الدين فإن العلانية معها تُزَيِّن الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عزَّ وجلَّ» (8) ، وهذا الإمام أحمد يوصي ابن المديني قائلاً: (ألزم التقوى قلبك، وانصب الآخرة أمامك) (9) ، فمراد الله ـ تعالى ـ ومطلوبه من عباده صلاح قلوبهم، والتي لا صلاح لها إلا بأن يستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، ويمتلئ من ذلك (10) ، يقول ابن رجب: (فأفضل الناس من سلكَ طريق النبي # وخواصّ أصحابه في الاقتصاد في العبادة البدنية والاجتهاد في الأحوال القلبية؛ فإن سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان) (11) .
كما يجد المطالع لسيرهم عنايةً فائقة بعبادة السِّر وعمل الخفية، فعن محمد بن إسحاق قال: (كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل) (1) ، وعن زائدة: (أن منصور بن المعتمر مكث ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها، وكان يبكي، فتقول له أمه: يا بني! قتلت قتيلاً؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي. فإذا كان الصبح كحل عينيه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس) (2) . وقال محمد بن واسع: (لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خدّه من دموعه لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جانبه) (3) ، وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله، ويخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته، كأنه قام تلك الساعة (4) ، والأمر أكثر من أن يحصر.
والمتأمل في واقع الدعاة ومحاضن التدين وبيئاته اليوم يلحظ مظاهر عدة تدل على تقصير في عبادة القلب، وضعف بيِّن في القيام بكثير من القربات في الخفاء، والتي يدّخرها صاحبها لوقوفه بين يدي ربه ـ عزَّ وجلَّ ـ يوم تُبلى السرائر، مما وَرَّث هشاشة بيّنة في الاستقامة، وضعفاً جلياً في الجدِّية، وفتوراً ظاهراً في أخذ الكتاب بقوة تعلّماً وعملاً ودعوة، وهو أمر ما لم يشعر بخطره القائمون على الشأن الدعوي والتربوي - مؤسسات وأفراداً - ويولوه ما يستحق من أولوية في التصحيح والمعالجة، فإن أجيال الاستقامة القادمة ستكون أكثر بَهَتَانَاً وأشدّ ضعفاً.
وفي ظنِّي أن مسؤولية معالجة هذه الظاهرة تقع بدرجة أكبر على الفرد نفسه على اعتبار أن عبادة القلب وعمل السِّر هي بوّابة نجاته وطريق رفعته، فإن اعتنى بها وأصلح من حاله فيها ففي ذلك سعادته، وإن قصَّر بإلقاء نفسه في بحور الغفلة ودركات البطالة والشهوات فقد أساء إلى نفسه، والإنسان على نفسه بصيرة.
ولعلَّ من أبرز ما يعين العبد على الوصول إلى مقصوده في هذا الجانب: مراقبة من لا تخفى عليه خافية والسِّر عنده علانية، ومخافته ـ تعالى ـ والحياء منه، والتعرف على جلاله وعظمته ـ سبحانه ـ، وترك الاشتغال بما لا يعني من فضول الطعام والمنام والكلام والنظر والخلطة ونحوها، والزهد في متع الدنيا وملذّاتها وإيثار الآخرة على الدنيا، وخشية عدم قبول العمل، والشعور الدائم بالتقصير والزّلل في القيام بحق الباري ـ سبحانه ـ، والاهتمام بأعمال القلوب وعدم قصر العبد جهده على أعمال الجوارح، وتذكّر الموت والبلى، ومطالعة سيرة النبي #، والإكثار من القراءة في تراجم العلماء الربّانيين والعُبّاد الزاهدين، ومحاسبة النفس، وإدراك ثمار وفوائد قُرَب السِّر، وتنمية الحياء من النفس وجعله في رتبة أعلى من رتبة الحياء من الخلق، ومرافقة من تنفع مرافقته في الآخرة وتزيد صحبته المرء قرباً من الله ـ تعالى ـ، وتخصيص أوقات للخلوة بالله والأنس به والعيش في كنفه من اعتكاف وقيام ليل وخلوات للتفكر في ملكوت الله ـ سبحانه ـ والذكر والدعاء والقراءة ونحو ذلك (5) .
فهيّا إخواني إلى بذل الوسع في إتيان قُرَب السِّر وتكميلها فإنها أقوات الروح، وليكن لأحدنا حظ من عبادة لا يعلم بها أحد إلا البَرُّ الرحيم، إذ السائر إليه ـ سبحانه ـ لا بد له (من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكّره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره) (6) ، فعبادات الخفاء من أعظم أسباب الثبات التي تحول بين المرء وحالات الضعف والانتكاس، فالحذر الحذر من أن نتغافل عنها، فإن ثمارها عظيمة، والصوارف عنها كثيرة، وعلينا من الله عين ناظرة، والشاهد هو الحاكم، والموفَّق من هداه الله ـ تعالى ـ وأعانه.
اللهم ارزقنا خشيتك ومحبتك والقرب منك، والبصيرة في دينك، والمداومة على طاعتك، وعافِ نفوسنا بمنّتك، وأصلح حال أمتنا، وارزقها الرّفعة والتمكين على أيدينا، إنك على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) المراد بعمل الخلوة ما كان بين العبد وربه بعيداً عن أعين الناس، لكن تحقيق ذلك بإطلاقٍ متعذر، ولذا فقد عدّ بعض أهل العلم عمل الرجل مع رفيقه الملازم ومع أهله عملاً في السِّر؛ لأنه لا يقدر أن يكتم منهما.
(2) البخاري (52) .
(3) يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير (9/173) : (أي: يخشون ربهم في خاصتهم، لا يريدون بذلك رياء، ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمّة من الناس) .
(4) انظر: المعجم الصغير للطبراني (1033) ، صحيح الجامع للألباني (3759) .
(5) البخاري: (1428) .
(6) الترمذي: (2919) ، وحسَّنه، وصححه الألباني، ومقولة الترمذي في جامعه عقبه، والملحوظ أن النصوص لم تكتف بالحثِّ على عبادة السِّر، بل تجاوزت ذلك إلى التحذير من خيانة السِّر، وعصيان الله ـ تعالى ـ في الخفاء، ومن ذلك: قوله # عند ابن ماجه بسند صحيح (4245) من حديث ثوبان ـ رضي الله عنه ـ قال: «لأعلمنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله ـ عز وجل ـ هباء منثوراً، قال ثوبان: يا رسول الله! صِفهم لنا، جَلِّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» ، ولأن جوهر المقالة لا يتحدث عن هذا الجانب فلن يتم التركيز عليه.
(1) تاريخ بغداد، للخطيب: 11/262، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6018) ، ورجّح الدارقطني وقفه، انظر: العلل المتناهية لابن الجوزي (1376) .
(2) حلية الأولياء، لأبي نعيم: (8/95) .
(3) انظر: تهذيب الكمال، للمزي: (14/464) .
(4) حلية الأولياء، لأبي نعيم: (4/272) .
(5) ولذا قرّر أهل العلم أن معرفتها أهم، والقيام بها أجل وأعظم، وذلك لأن مقصود الشرع من الأعمال كلها ظاهرها وباطنها إنما هو صلاح القلب وكماله وقيامه بالعبودية لربه ـ عز وجل ـ، ولذا فإن عبادة الجوارح إذا خلت من عبودية القلب لم تكن عبادة، ولم ينتفع صاحبها بها البتة، يقول ابن تيمية في فتاويه (10/355) : (الدين القائم بالقلب من الإيمان علماً وحالاً هو الأصل، والأعمال الظاهرة هي الفروع وهي كمال الإيمان) ، ويقول ابن القيم في بدائع الفوائد (3/710) : (ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما؟ وهل يمكن أحداً الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت) .
(6) تفسير ابن أبي حاتم 4/346، وقد روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً أيضاً، وفيه إبراهيم الهجري، صدوق، كثير الوهم في رفع الموقوفات، وقد حسَّنه الحافظ ابن حجر في المطالب 9/260، وضعّفه جماعة، منهم الألباني، كما في ضعيف الجامع (5355) .
(7) المعجم الكبير، للطبراني: (9/153) .
(8) حلية الأولياء، لأبي نعيم: (4/69-70) .
(9) حلية الأولياء، لأبي نعيم: (9/173) .
(10) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 75.
(11) المحجة في سير الدلجة، لابن رجب: 56.
(1) تهذيب الكمال، للمزي: (20/392) .
(2) انظر: حلية الأولياء، لأبي نعيم: 5/41، تهذيب الكمال، للمزي: (28/554) .
(3) حلية الأولياء، لأبي نعيم: (2/347) .
(4) تذكرة الحفاظ، للذهبي: (1/131) .
(5) وقد جاءت في ذلك أقوال عدة عن السلف، ومنها: قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: «خذوا بحظِّكم من العزلة» ، وقول أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «نِعْمَ صومعة الرجل بيته يكفّ فيها بصره ولسانه، وإياكم والسوق فإنها تلهي وتلغي» ، وقول ابن المسيب: (العزلة عبادة وذكر) ، وقول مسروق: (إن المرء لحقيق أن تكون له مجالس يخلو فيها يذكر فيها ذنوبه فيستغفر منها) ، انظر: الزهد، لأحمد: 135، المصنف لابن أبي شيبة: 7/148، التمهيد لابن عبد البر: 17/446، وليس المراد من الحث على اتخاذ خلوات للتعبد الحث على العزلة المطلقة عن الناس، إذ ذاك أمر تأباه نصوص الشرع وقواعده، والحق أن من العزلة ما هو مشروع، ومنها ما هو ممنوع، فالعزلة المشروعة ما كان مأموراً بها أمرَ إيجاب أو استحباب كاعتزال الأمور المحرمة وترك مخالطة من يخوض في آيات الله ـ عز وجل ـ حتى يخوض في حديث غيره، واعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع في الآخرة، والاختلاء الوقتي بالنفس للمحاسبة والتأمل والصلاة، والقراءة والدعاء والاعتكاف ونحو ذلك. والعزلة غير المشروعة ما أدَّت إلى إضاعة حق الحق أو النفس أو الخلق كإضاعة الجُمَع والجماعات، وجهل ما يجب علمه، وعدم تعاونٍ على البر والتقوى، وتضييعٍ لحق الأهل والوالد والولد، وترك كسب ما يحتاج إليه العبد من نفقة، ونحو ذلك. انظر في ذلك: الفتاوى لابن تيمية: (10/393-407) ، والبحث القيم الموسوم بـ (العزلة والخلطة) ، لـ د. العودة.
(6) الفتاوى، لابن تيمية: (10/426) .(226/6)
لا تغضب
د. نايف بن أحمد الحمد
«الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة قلَّما يتمكن منه إلا اغتاله» (1) ، والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منه أحد، بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال ـ كما سيأتي بيانه ـ «والغضب ينسي الحرمات، ويدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات» (2) وقد قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا (3)
كما قيل:
وعين البغض تبرز كل عيب وعين الحب لا تجد العيوبا (4)
ü تعريف الغضب:
عَرَّف الغضبَ جمعٌ من علماء اللغة وغيرهم، واختلفت العبارات، واتفقت الثمرة؛ فكلمة (الغضب) يدرك معناها الصغير والكبير بلا تكلف أو تعب؛ فتوضيح الواضحات ـ كما يقال ـ من الفاضحات، وقد يزيد غموضاً وإشكالاً. قال المناوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «الغضب كيفية نفسانية وهو بديهي التصور» ا. هـ (5) . ومع ذلك لا بد من ذكر شيء من ذلك:
قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «الغضب في اللغة: الشدة، ورجل غضوب أي شديد الخُلُق، والغضوب الحية الخبيثة؛ لشدتها، والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض سميت بذلك لشدتها» ا. هـ (6) .
وقيل في معناه: تغيُّر يحصل عند فوران دم القلب ليحصل عنه التشفي في الصدر (7) .
وقيل: الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه.
ü أسباب الغضب:
بواعث الغضب، وأسبابه كثيرة جداً، والناس متفاوتون فيها؛ فمنهم مَن يَغضب لأمر تافه لا يُغضِب غيره؛ وهكذا؛ فمِن أسباب الغضب:
أولاً: العُجْب: فالعُجْب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة؛ فالعجب قرين الكِبْر وملازم له. والكِبْر من كبائر الذنوب؛ فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبر» (8) .
وجاء أن يحيى بن زكريا لقي عيسى بن مريم # فقال: أخبرني بما يُقرِّب من رضا الله، وما يُبعد من سخط الله! فقال: «لا تغضب!» . قال: الغضب ما يبدؤه وما يعيده؟ قال: «التعزز والحميَّة والكبرياء والعظمة» (9) .
ثانياً: المِراء: قال عبد الله بن الحسين: (المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب) ا. هـ (10) . وللمِراء آفات كثيرة منها: الغضب؛ ولهذا فقد نهى الشارع عنه. قال النبي #: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً» (1) .
ثالثاً: المزاح:
إن المزاح بدؤه حلاوة
لكنما آخره عداوة
يحتد منه الرجل الشريف
ويجتري بسخفه السخيف (2)
فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه: إما بكلام لا فائدة منه، أو بفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ، ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح؛ لذا قال النبي #: «لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جاداً ولا لاعباً» (3) .
وقال أبو هقان:
مازح صديقك ما أحب مزاحا
وتوقَّ منه في المزاح مزاحا
فلربما مزح الصديق بمزحة
كانت لباب عداوة مفتاحا
ذكر خالد بن صفوان المزاح فقال: يَصُكُّ أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، ويُنشقه أحرق من الخردل، ويُفرغ عليه أحرَّ من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك!
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ: «إياك والمزاح؛ فإنه يجر القبيح، ويورث الضغينة» (4) .
واحذر ممازحة تعود عداوة
إن المزاح على مقدمة الغضب
وقال ميمون بن مهران ـ رحمه الله تعالى ـ: «إذا كان المزاح أمام الكلام كان آخره اللطم والشتام» .
رابعاً: بذاءة اللسان وفحشه:
بشتم أو سب أو تعيير مما يوغل الصدور، ويثير الغضب، وقد قال النبي #: «إن الله يبغض الفاحش البذيء» (5) .
ü أنواع الغضب:
الأول: الغضب المحمود: وهو ما كان لله ـ تعالى ـ عندما تنتهك محارمه، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان؛ إذ إن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان.
قال ـ تعالى ـ عن موسى ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ بعد علمه باتخاذ قومه العجل: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
[الأعراف: 150]
أما غضب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله ـ تعالى ـ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ما ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل (6) .
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: «خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على أصحابه وهم يختصمون في القدر؛ فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: «بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؛ بهذا هلكت الأمم قبلكم» فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه» (7) . وما أكثر ما تنتهك محارم الله ـ تعالى ـ في هذا الزمان علناً وسراً؛ فكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا همَّ لها سوى نشر الرذيلة، ومحاربة الفضيلة، وإشاعة الفاحشة، وبث الشبهات، وتزيين المنكر، وإنكار المعروف، والاستهزاء بالدين وشعائره؛ فهذا كله مما يوجب الغضب لله ـ تعالى ـ وهو من الغضب المحمود، وعلامة على قوة الإيمان، وهو ثمرة لحفظ الأوطان، وسلامة الأبدان، وتظهر ثمرة الغضب هنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد على الشبهات. أما السكوت المطبق مع القدرة على التغيير فسبب للهلاك؛ فعن زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ استيقظ من نومه وهو يقول: «لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب! فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» ـ وحلَّق بأصبعه وبالتي تليها ـ قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم! إذا كثر الخبث» (8) .
وكذلك من الغضب المحمود: الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء، وانتهاك للأعراض، واستباحة للأموال، وتدمير للبلدان بلا حق.
الثاني: الغضب المذموم:
وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالحميَّة الجاهلية، والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية وانتشار حِلَق تحفيظ القرآن الكريم، ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور، وسفر المرأة بلا محرم، ويظهر ذلك جلياً في كتابة بعض كُتَّاب الصحف، فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك، ولا همَّ له سوى مسايرة العصر، سواء وافق الشرع المطهر أو خالفه؛ فالحق عندهم ما وافق هواهم، والباطل ما حدَّ من مبتغاهم. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ #^46^#) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ #^47^#) وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ #^48^#) وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ #^49^#) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ #^50^#) إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ #^51^#) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 46 - 52] .
الثالث: الغضب المباح:
وهو الغضب في غير معصية الله ـ تعالى ـ دون أن يتجاوز حدَّه كأن يجهل عليه أحد، وكظمه هنا خير وأبقى. قال ـ تعالى ـ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] . ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله ـ عز وجل ـ يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} فقال لها: قد عفا الله عنك. قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهبي فأنت حرة (1) .
وقال نوح بن حبيب: كنت عند ابن المبارك فألحوا عليه، فقال: هاتوا كتبكم حتى أقرأ. فجعلوا يرمون إليه الكتب من قريب ومن بعيد، وكان رجل من أهل الري يسمع كتاب الاستئذان، فرمى بكتابه فأصاب صلعةَ ابن المبارك حرفُ كتابه فانشق، وسال الدم، فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن، ثم قال: سبحان الله! كاد أن يكون قتال، ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه (2) .
ü علاج الغضب:
«ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء» (3) . ومن الأدوية لعلاج داء الغضب:
أولا: الاستعاذة بالله من الشيطان:
قال ـ تعالى ـ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] .
عن سليمان بن صرد ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت جالساً مع النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ورجلان يستبان؛ فأحدهما احمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان؛ ذهب عنه ما يجد» فقالوا له: إن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «تعوَّذْ بالله من الشيطان» فقال: وهل بي جنون؟ (4) . قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة، وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته» ا. هـ (5) .
ثانياً: تغيير الحال:
عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» (6) .
ثالثاً: ترك المخاصمة والسكوت:
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك وخصوصاً في الأقوال السيئة لا تضرك بل تضرهم؛ إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها، وسوغت لها أن تملك مشاعرك؛ فعند ذلك تضرك كما ضرتهم؛ فإن أنت لم تصنع لها بالاً، لم تضرك شيئاً» (7) .
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلماً
كعود زاده الإحراق طيبا
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «علِّموا وبشِّروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت» (1) . قال ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ: «وهذا أيضاً دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيراً، من السباب وغيره مما يعظم ضرره، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده، وما أحسن قول مورق العجلي ـ رحمه الله ـ: ما امتلأتُ غضباً قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت» ا. هـ (2) .
قال سالم بن ميمون الخواص:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخيرٌ من إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظن أني
عييتُ عن الجواب وما عييتُ
شرار الناس لو كانوا جميعاً
قذى في جوف عيني ما قذيتُ
فلستُ مجاوباً أبداً سفيهاً
خزيتُ لمن يجافيه خزيتُ (3)
رابعاً: الوضوء:
عن عطية السعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «إن الغضب من الشيطان؛ وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء؛ فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» (4) .
وفي حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم؛ أما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض» (5) .
خامساً: استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ:
فمن استحضر الثواب الكبير الذي أعده الله ـ تعالى ـ لمن كتم غيظه وغضبه كان سبباً في ترك الغضب والانتقام للذات. وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة نجد جملة من الفضائل لمن ترك الغضب منها:
1 ـ الظفر بمحبة الله ـ تعالى ـ والفوز بما عنده: قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين.
وقال ـ تعالى ـ: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ #^36^#) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} .
[الشورى: 36 - 37]
2 ـ ترك الغضب سبب لدخول الجنة:
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: «لا تغضب! ولك الجنة» (6) .
3 ـ المباهاة به على رؤوس الخلائق:
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «مَن كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره في أي الحور شاء» (7) .
4 ـ النجاة من غضب الله تعالى:
عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: قلت: يا رسول الله! ما يمنعني من غضب الله؟ قال «لا تغضب» (8) . فالجزاء من جنس العمل، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله ـ تعالى ـ خيراً منه.
وقال أبو مسعود البدري ـ رضي الله عنه -: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط فسمعت صوتاً من خلفي: «اعلم أبا مسعود!» فلم أفهم الصوت من الغضب. قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود! اعلم أبا مسعود!» قال: فألقيت السوط من يدي. فقال: «اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام» قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً (9) .
5 ـ زيادة الإيمان:
قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «وما من جرعة أحب إليَّ من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً» (10) .
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «ما من جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» (1) .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى-: «ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حِلْم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة؛ وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم، وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم، والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمرُّ الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة، ويصفرُّ عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز» ا. هـ (2) .
سادساً: الإكثار من ذكر الله تعالى:
قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] فمن اطمأن قلبه بذكر الله ـ تعالى ـ كان أبعد ما يكون عن الغضب. قال عكرمة ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] : «إذا غضبت» (3) .
سابعاً: العمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً قال للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: أوصني! قال: «لا تغضب!» فردد مراراً قال «لا تغضب!» (4) . وهنيئاً لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها، ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بكلام كلي، ولهذا ردد. فلما أعاد عليه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عرف أن هذا كلام جامع، وهو كذلك؛ فإن قوله: «لا تغضب» يتضمن أمرين عظيمين: أحدهما: الأمر بفعل الأسباب والتمرن على حسن الخلق والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخلق، من الأذى القولي والفعلي؛ فإذا وفق لها العبد، وورد عليه وارد الغضب، احتمله بحسن خلقه، وتلقَّاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه؛ فإن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه، وهذا منه. الثاني: الأمر ـ بعد الغضب ـ أن لا ينفذ غضبه: فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه. فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يقتضيها الغضب. فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة، فكأنه في الحقيقة لم يغضب. وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية، والقوة القلبية» ا. هـ (5) .
قال ميمون بن مهران: جاء رجل إلى سلمان ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أبا عبد الله! أوصني! قال: «لا تغضب!» . قال: أمرتني أن لا أغضب، وإنه ليغشاني ما لا أملك. قال: فإن غضبت فاملك لسانك ويدك (6) .
ثامناً: النظر في نتائج الغضب:
فكثير الغضب تجده مصاباً بأمراض كثيرة كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص، كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب. روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم» (7) . وقيل: من أطاع الغضب أضاع الأرب.
وقال الكريزي:
ولم أرَ في الأعداء حين اختبرتهم
عدواً لعقل المرء أعدى من الغضب (8)
وكثيراً ما نسمع أن والداً قتل ولده، أو ولداً قتل والده فضلاً عن غيرهم بسبب الغضب، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام، ووقع الطلاق، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان. عن وائل ـ رضي الله عنه ـ قال: «إني لقاعد مع النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله! هذا قتل أخي. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «أقتلته» ؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال: نعم قتلته! قال: «كيف قتلته» ؟ قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته» (9) .
قال مروان بن الحكم في وصيته لابنه عبد العزيز: «إن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة؛ فإن أول من جعل السجن كان حليماً ذا أناة» ا. هـ (1) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحلم؛ فإنه كلب إن أفلت أتلف» ا. هـ (2) .
تاسعاً: أن تعلم أن القوة في كظم الغيظ ورده:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «ليس الشديد بالصُّرَعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (3) ، قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «أي مالك نفسه أوْلى أن يسمى شديداً من الذي يصرع الرجال» ا. هـ (4) .
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح؛ فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد» ا. هـ (5) .
ليست الأحلام في حال الرضا
إنما الأحلام في حال الغضب
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مر بقوم يصطرعون فقال: «ما هذا» ؟ فقالوا: يا رسول الله! فلان ما يصارع أحداً إلا صرعه. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «أفلا أدلكم على مَن هو أشد منه: رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه» (6) .
ألا إن حلم المرء أكرم نسبة
تسامى بها عند الفخار حليم
فيا ربِّ هب لي منك حلماً فإنني
أرى الحلم لم يندم عليه كريم
قال المسترشد بالله في وصيته لقاضيه علي بن الحسين الزينبي «أن يجعل التواضع والوقار شيمته، والحلم دأبه وخليقته، فيكظم غيظه عند احتدام أُواره واضطرام ناره مجتنباً عزة الغضب الصائرة إلى ذلة الاعتذار» ا. هـ (7) .
عاشراً: قبول النصيحة والعمل بها:
فعلى من شاهد غاضباً أن ينصحه، ويذكِّره فضل الحلم، وكتم الغيظ، وعلى المنصوح قبولُ ذلك. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: استأذن الحر بن قيس لعيينة فأذن له عمر؛ فلما دخل عليه قال: هِي! يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزْل (أي العطاء الكثير) ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ به. فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين؛ واللهِ ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله (8) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «وهكذا الغضبان فإنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول، ويفعل ما يفعل؛ ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك، وكذلك يلطم وجهه، ويصيح صياحاً قوياً، ويشق ثيابه، ويلقي ما في يده؛ دفعاً لألم الغضب، وإلقاء لحمه منه، وكذلك يدعو على نفسه وأحب الناس إليه؛ فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء، وهو غير طالب لذلك في الحقيقة؛ فكذلك يتكلم بصيغة الإنشاء وهو غير قاصد لمعناها، ولهذا يأمر الملوك وغيرهم عند الغضب بأمور يعلم خواصهم أنهم تكلموا بها دفعاً لحرارة الغضب وأنهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم، بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك إذا سكن غضبهم، وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده أو صديقه، فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة» ا. هـ (9) .
والحلم آفته الجهل المضرُّ به
والعقل آفته الإعجاب والغضبُ
الحادي عشر: أخذ الدروس من الغضب السابق:
فلو استحضر كل واحد منا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده. قال ابن حبان ـ رحمه الله تعالى ـ: «سرعة الغضب من شيم الحمقى كما أن مجانبته من زي العقلاء، والغضب بذر الندم؛ فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسد به بعد الغضب» ا. هـ (1) .
الثاني عشر: اجتناب وإزالة أسباب الغضب: وقد ذكرت جملة منها:
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم: السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم، وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى من المكاره التي لا يمكنه ردُّها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون» ا. هـ (2) .
الثالث عشر: معرفة أن المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة؛ فتركه إغلاق لباب من أبواب العصيان:
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة، وكان نهاية قوة الغضب القتل، ونهاية قوة الشهوة الزنى جمع الله ـ تعالى ـ بين القتل والزنى، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام، وسورة الإسراء، وسورة الفرقان، وسورة الممتحنة، والمقصود أنه ـ سبحانه ـ أرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة» ا. هـ (3) .
الرابع عشر: قال ابن حبان ـ رحمه الله تعالى ـ: «لو لم يكن في الغضب خصلة تذم إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب» ا. هـ (4) ؛ لذا فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» (5) . قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة أقوال وهي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد: أحدها: لا يصح ولا ينفذ؛ لأن النهي يقتضي الفساد. والثاني: ينفذ. والثالث: إن عرض له الغضب بعد فهم الحكم نفذ حكمه، وإن عرض له قبل ذلك لم ينفذ» ا. هـ (6) وقال معللاً المنع: «إنما كان ذلك؛ لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد» ا. هـ (7) . لهذا كان من وصية أمير المؤمنين عمر لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ في القضاء: «وإياك والغضب والقلق والضجر» (8) .
ü صور من هدي السلف عند الغضب:
سب رجلٌ ابنَ عباس ـ رضي الله عنهما ـ فلما فرغ قال: يا عكرمُ! هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى (9) .
وقال أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ لغلامه: لِمَ أرسلتَ الشاةَ على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغيظك. قال: لأجمعن مع الغيظ أجراً: أنت حر لوجه الله تعالى (10) .
وأسمعَ رجلٌ أبا الدرداء ـ رضي الله عنه ـ كلاماً، فقال: يا هذا! لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعاً؛ فإنَّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
قال الأحنف بن قيس ـ رحمه الله تعالى ـ لابنه: يا بنيَّ! إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه؛ فإن أنصفك وإلا فاحذره (11) .
وأختم بما رواه عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خففت أو أوجزت الصلاة، فقال: أما على ذلك؛ فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما قام تبعه رجل من القوم هو أُبَيٌّ غيرَ أنه كنى عن نفسه، فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمتَ الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمتَ الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين» (12) .
والله ـ تعالى ـ أعلم، وصلى الله وسلم وزاد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) قاضي بالمحكمة العامة بمحافظة رماح.
(1) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان 49.
(2) قرى الضيف 4/224 يتيمة الدهر 4/224.
(3) صبح الأعشى 9/196 جمهرة الأمثال 1/356 الأغاني 12/250 ونسبه لعبد الله بن معاوية الجعفري.
(4) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب 1/327 المستطرف في كل فن مستظرف 455.
(5) فيض القدير 6/81.
(6) تفسير القرطبي 1/150.
(7) التعريفات 168.
(8) رواه مسلم (91) من حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(9) الزهد (44) .
(10) البيان والتبيين 1/208.
(1) رواه أبو داود (4800) من حديث أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أدب الدنيا والدين 309.
(3) رواه أحمد 4/221 وأبو داود (5003) والترمذي (2160) من حديث يزيد بن سعيد ـ رضي الله عنه ـ وقال الترمذي: «حسن غريب» .
(4) رواه ابن أبي شيبة 7/243.
(5) رواه الترمذي (2003) وابن حبان (5693) من حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ وقال الترمذي: «حسن صحيح» .
(6) رواه مسلم (2328) .
(7) رواه أحمد 2/178 وابن ماجه (85) واللفظ له. قال البوصيري ـ رحمه الله تعالى ـ: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» ا. هـ مصباح الزجاجة 1/14.
(8) رواه البخاري (3402) ومسلم (2880) .
(1) رواه البيهقي في الشعب (8317) .
(2) رواه البيهقي في الشعب (8320) .
(3) البخاري (5354) .
(4) رواه البخاري (3108) .
(5) التبيان في أقسام القرآن 265.
(6) رواه أحمد 5/152 وأبو داود (4782) وصححه ابن حبان (5688) .
(7) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة 25.
(1) رواه أحمد 3/239 والطيالسي (2608) والبخاري في الأدب (245) .
(2) جامع العلوم والحكم 1/146 وأنظر قول مورق في الزهد 305.
(3) روضة العقلاء 140.
(4) رواه أحمد 4/226 وأبو داود (4784) .
(5) رواه أحمد 3/61 والترمذي (2191) والحاكم 4/551 وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .
(6) رواه الطبراني في الأوسط (2353) وفي مسند الشاميين (21) قال المنذري: «رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح» ا. هـ الترغيب والترهيب 3/300 وروى نحوه ابن حبان في روضة العقلاء 138.
(7) رواه أحمد 3/440 وأبو داود (4777) والترمذي (2493) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(8) رواه ابن حبان (296) .
(9) رواه مسلم (1659) .
(10) رواه أحمد 1/327 من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(1) رواه أحمد 2/128 والبخاري في الأدب (1318) وابن ماجه (4189) واللفظ له. قال البوصيري ـ رحمه الله تعالى ـ: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» ا. هـ المصباح (1496) .
(2) الاستقامة 2/272.
(3) رواه ابن جرير 15/226 والبيهقي في الشعب (8296) .
(4) رواه البخاري (5765) .
(5) بهجة قلوب الأبرار 136.
(6) خرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (610) وانظر: جامع العلوم والحكم 1/147.
(7) المستطرف 406.
(8) روضة العقلاء 222.
(9) رواه مسلم (1680) .
(1) جمهرة خطب العرب 2/191.
(2) الفوائد 50.
(3) رواه البخاري (5763) ومسلم (2609) .
(4) حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود 13/271.
(5) الاستقامة 2/271.
(6) رواه البزار قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «البزار بإسناد جيد» ا. هـ فتح الباري 10/519.
(7) صبح الأعشى 10/275.
(8) رواه البخاري (4366) .
(9) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان 47.
(1) روضة العقلاء 138.
(2) الوسائل المفيدة 16.
(3) زاد المعاد 2/463.
(4) روضة العقلاء 140.
(5) رواه البخاري (6739) ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.
(6) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان 65.
(7) إعلام الموقعين 1/217.
(8) رواه الدارقطني 4/206 ووكيع في أخبار القضاة 1/70 و283 وابن عساكر في تاريخ دمشق 32/70.
(9) المستطرف 201.
(10) البيان والتبيين 1/456 المستطرف /201.
(11) المستطرف 203 وروي ذلك عن لقمان ـ عليه السلام ـ كما في روضة العقلاء 91.
(12) رواه ابن أبي شيبة 6/44 وأحمد 4/264 والنسائي (1305) واللفظ له وصححه ابن حبان (1971) .(226/7)
إلى متى نربي؟
محمد بن عبد الله الدويش
ارتبطت التربية بالعمل الدعوي ارتباطاً وثيقاً، واحتلت مساحة واسعة في أدبيات الصحوة الإسلامية المعاصرة؛ مما جعل الملف التربوي أحد الملفات الساخنة فكرياً؛ وبالأخص حين تناقش مناهج التغيير والإصلاح.
وكان السؤال (إلى متى نربي) ؟ يثار بين وقت لآخر لفظاً أو معنى، وستبقى هذه الأسئلة مثار جدل تتسع دائرته أو تضيق، ومن الوهم أن نفترض أننا سنقضي على هذه التساؤلات من خلال إجابات قاطعة؛ فعوامل إثارتها لا تزال وستبقى قائمة.
وأحسب أن ما يمكن تقديمه حول هذه التساؤلات هو: مزيد من التحليل والنقاش لظروفها وعوامل إثارتها.
ارتبط هذا التساؤل من خلال نظرة نمطية للتربية في العمل الدعوي، وهي تلك التي تفترض أن العمل التربوي في المجال الدعوي هو: ذلك النموذج المحدود الذي يرعى فئة من المستجيبين للدعوة وفق برامج وآليات محددة، ومن ثم فالتغيير في المجتمع سيتم من خلال اتساع هذه الأعداد إلى أن تستوعب الواقع وتحدياته.
ولئن حقق هذا النموذج التربوي قدراً من النجاح في تربية فئات من الشباب على التدين، وفي إعداد عناصر دعوية؛ فليس بالضرورة هو الجهد التربوي الوحيد، فلِلتربية معنى أوسع من اختزالها في هذا المجال وحده.
كما ارتبط هذا التساؤل من خلال افتراض العمل التربوي بنموذجه السابق بديلاً للخيارات الإصلاحية الأخرى، والمراهنة على نجاحه وحده في إحداث التغيير.
ومن هنا تبدو النجاحات في سائر المجالات مرجحة لكفة من يثير هذا التساؤل.
كما ارتبط هذا التساؤل بقراءة نتائج العمل الدعوي في الواقع، ومقارنتها بما يفعله التيار المضاد من جهد في التغريب، ولا شك أن هذه القراءة ستقود البعض على الأقل إلى الاقتناع بهذا التساؤل.
لكن:
| حين نفهم الإصلاح التربوي الدعوي بمفهوم أوسع لا يمثل النموذج الذي يثار حوله الجدل إلا أحد مفرداته وممارساته.
| وحين يبقى الخيار التربوي أحد الخيارات التي ينبغي أن تسير جنباً إلى جنب مع المسارات الأخرى في الإصلاح والتغيير.
| وحين تتحول الاختلافات والرؤى حول برامج الإصلاح إلى اختلاف تنوع لا تضاد وصراع.
حين يتحقق ذلك يمكن أن نستوعب إجابة أرحب عن هذا التساؤل.
إن التطرف في إثارة هذا السؤال، أو التطرف في الجانب الآخر يقود إلى نتائج متطرفة.
فالنموذج الأول من التطرف يقود إلى: تهميش مشروعات البناء الحيوية، وإلى التقليل من شأن الأعمال بعيدة المدى، والمراهنة على النتائج السريعة وحدها، وليس العنف غير المشروع إلا أحد هذه الخيارات.
والنموذج الثاني من التطرف يقود إلى: جمود، وعقلية انكفاء على الذات، وإغراق في رسم صورة مثالية لخيار التغيير.(226/8)
شباب الصحوة بين العطاء والفتور
إعداد: خباب بن مروان الحمد
غير أنَّ هذا العطاء قد يتعرَّضُ أحياناًً إلى مدٍّ وجزر، كما هي طبيعة النفس الإنسانيَّة، أو يشوبه شيء من التعكير لصفائه، ممَّا يحدث إشكالية في واقع الدعوة والعمل الإسلامي.
وفي هذا التحقيق نتناول عرضاً وتحليلاً لدور الشباب في نشر الصحوة الإسلاميَّة، والبواعث المحرِّكة لجهود الشباب في المسيرة الدعويَّة المعاصرة، يليه أسباب إخفاق الشباب في تحقيق أهدافهم المنشودة لخدمة الأمَّة الإسلاميَّة، كما يلقي الضوء على ما يَعْتَوِرُ الدعوة من فتور يؤدِّي إلى انتكاس الشباب عن لزوم الجادَّة، وكيف يتمُّ التخفيف من تلك الآثار الناتجة عن الفتور، إلى غير ذلك من المحاور التي أحسب أنَّها أمسكت بزمام القضيَّة وأجابت عنها.
وقد شاركنا في بحث تلك المحاور نخبة من الدعاة والمصلحين، المنتظمين في سلك الدعوة الإسلاميَّة، من بعض الأقطار الإسلاميَّة، والذين كان لهم دور رائد في الدعوة إلى الله، ومشاركة فعَّالة في توجيه الحشود، ومخاطبة الجماهير.
نرجو من الله أن يجد القارئ لهذا التحقيق النفع والفائدة، والله من وراء القصد، هو حسبنا ونعم الوكيل.
ü المشايخ الدعاة المشاركون في التحقيق حسب الترتيب الهجائي:
1 ـ الشيخ: سعد الغنَّام ـ السعودية.
2 ـ الشيخ: عبد العزيز الجليِّل ـ السعودية.
3 ـ الدكتور: عدنان النحوي ـ فلسطين.
4 ـ الدكتور: علاء الدين الزاكي ـ السودان.
5 ـ الدكتور: علي مقبول الأهدل ـ اليمن.
6 ـ الشيخ: محمد حسين يعقوب ـ مصر.
7 ـ الشيخ: محمد الدويش ـ السعودية.
8 ـ الدكتور: محمد يسري ـ مصر.
9 ـ الشيخ: مدَّثر إسماعيل ـ السودان.
10 ـ الشيخ: مصطفى العدوي ـ مصر.
11 ـ الشيخ: هيثم الحدَّاد ـ فلسطين.
ü ما مظاهر دور الشباب في نشر الصحوة الإسلامية لتكون فاعلة ومؤثرة؟
يفتتح الشيخ «محمد الدويش» الحديث حول هذه المظاهر قائلاً: يمكن أن تتمثل مظاهر ذلك الدور في مجالين رئيسين، هما:
المجال الأول: العطاء في محيطهم وواقعهم في المدارس والجامعات والأحياء.
المجال الثاني: إعداد النفس وبناؤها للمستقبل ليتأهلوا للعطاء الأفضل.
ويلفت الشيخ «مدَّثر إسماعيل» في إجابته النظر لمنحى آخر من مظاهر نشر الصحوة من قِبَلِ الشباب بقوله: شهد العقدان الماضيان صحوةً مباركةً بدأت بظهور قيادات علمية شرعية التفَّ حولها الشباب في المقام الأول وتبعهم بقية الشرائح. وكان لالتفاف الشباب حول تلك القيادات أثر كبير، حيث قاموا بلفت أنظار المجتمع بوسائل مختلفة بأن للأمة مرجعيات وقيادات شرعية تتمثل في العالم الفلاني والداعية الفلاني.
ويكمل الشيخ «مدَّثر» كلامه مبيناً أبرز تلك المظاهر بقوله: ومن أبرز ما قام به الشباب اجتهادهم لإبراز جهود العلماء عن طريق نسخ الدروس المسجلة ومن ثَم عرضها عليهم، وحثّ المحسنين والتجار على تبنّي طبعها خيرياً، فكانت جهوداً مباركة، ثم ظهرت التسجيلات الإسلامية وظهر على إثرها وبقوة نشر الشريط الإسلامي، فذاع صيت كثيرٍ من العلماء والدعاة وطلبة العلم.
وأضاف الشيخ «مدَّثر» أن أعظم ثمرة جنتها هذه الصحوة هي ربط جلّ قطاعات الأمة بعلمائها ودعاتها، حتى إذا اشتد عود هؤلاء الشباب ونضجوا فكرياً وإدارياً واجتماعياً استحدثت برامج دعوية وخطط جيدة تمثلت في إنشاء مندوبيات الدعوة، فدعوة الجاليات وقبلها مراكز التحفيظ والمراكز الصيفية.
وتابع حديثه بقوله: وقد أدرك قادة الصحوة أن شبابها بحاجة إلى نمط جديد من التفاعل يتعدى حضور المحاضرات ونسخ أشرطتها وطبع النشرات وتوزيعها، إلى الجلوس في مجالس العلم والتربية، فكانت سلاسل الدورات الشرعية، وبحمد الله قد عمَّت البركة تلك الأعمال والبرامج، وأثمرت تلك الجهود شرائح من الشباب الواعي توجّه إلى المؤسسات الرسمية للدولة والتحق بسلكها الوظيفي في شتى المجالات، ومن أبرزها: مجال التعليم. والمؤسسات العدلية حينما دخلها شباب الصحوة فتح الله على أيديهم أبواباً للخير.
ويضيف الدكتور «علاء الزاكي» بأنَّ الشباب المسلم يضطلع بدور بارز ومؤثر في الصحوة وبخاصة أنهم وقودها وشعلة فتيلها، وأبرز المظاهر الدَّعويَّة للشباب:
أـ تحريك الجمعيات العلمية في الجامعات حتى أصبحت ظاهرة بادية للعيان.
ب ـ إقامة أسابيع للمحاضرات بمساجد الأحياء الداخلية التي كان لها الدور في نشر الوعي في المجتمع عامة ووسط الشباب بصفة خاصة.
ج ـ إدارة المنظمات العاملة في حقل الدعوة إلى الله تعالى، وإعداد الدورات العلمية الدعوية.
د ـ العمل وسط الشباب بوسائل فعالة ومؤثرة كالنشرات والملصقات وغيرها.
وننتقل إلى ما طرحه الشيخ «العدوي» حول جهود الشباب في نشر الصحوة الإسلاميَّة حيث يقول فضيلته: ومن الشباب من تكون وجهتم خيرية، فتراهم يطعمون الطعام، ويجمعون الأموال من الأغنياء ويوزعونها على الفقراء، ويتفقدون أحوال الفقراء في القرى والأحياء، ويذهبون لأهل الخير يدلونهم على ذلك، ويرسلون للمحتاجين المعونات، وإذا دخل علينا رمضان فترى طائفة كثيرة تسعى لإفطار الصوّام وجمع الأطعمة والملابس من أهل الثراء والفضل للفقراء والمساكين.
وحتى بالنسبة لما نراه الآن من الجهاد في سبيل الله في شتى الأمصار كان للشباب فيه دور كبير في الدفاع عن بلاد الإسلام بغضِّ النظر عن الخلل الذي وقع من بعض الشباب في بعض البلاد من تَنَكُّب الطريق السليم أحياناً؛ ومن عدم تقدير المصالح والمفاسد أحياناً؛ إلا أنهم ـ أيضاً ـ في الوقت ذاته لهم دور بارز وناجح جداً في كل بقاع العالم في النواحي الإنقاذية والإغاثية؛ ولله الحمد.
وعن دور الشباب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول فضيلته: يذهب الشباب إلى العلماء كبار السّنّ؛ حيث يصيب بعض العلماء أحياناً تكاسل، فترى الشاب حاراً متوقداً يزكي في أولئك العلماء روح البحث العلمي وروح الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويختزل الشيخ «العدوي» حديثه حول هذه الفقرة قائلاً: وعلى العموم فللشباب المسلم أثر بالغ في عموم أعمال البر؛ فلا تكاد ترى عملاً من أعمال البرّ، إلا ولهم دور مؤثر فيه؛ ولله الحمد.
ü البواعث المحرّكة لجهود الشباب في المسيرة الدعوية المعاصرة:
حين سألت الشيخ «محمد الدويش» حول الباعث الرئيس المحرّك لهذا الجهد؛ أجاب بقوله: الباعث هو الشعور بالمسؤولية الدعوية. وقال متابعاً كلامه: ومما يغذي هذا الشعور النبيل:
1 ـ وجود مجالات عمل مقنعة وملائمة.
2 ـ وجود نتائج إيجابية مشجعة.
3 ـ وجود الدعم والتأييد من القيادات العلمية والدعوية.
وحول ذلك يقول الشيخ «مدَّثر إسماعيل» : كان وراء ذلك الجهد والنشاط الإيجابي لشباب الصحوة بواعث، منها:
1 - وحدة الجهة والمرجعيَّة التي يتلقون منها؛ فكبار الشيوخ كانوا هم المرجعيات عند أيّ ظرف أو نازلة.
2 - سهولة الاتصال والتلقي من أولئك المشايخ.
3 - التفاعل مع قضية محددة والتركيز عليها دون إغفال بقية القضايا، حيث ينصبّ عطاؤهم الأكبر وهمّهم الأجلّ على تلك القضية حتى يحققوا المراد.
بينما يتحدَّث الدكتور «عدنان النحوي» من منطلق آخر فيقول: جهد الشباب الإيجابي في المسيرة الدعوية المعاصرة، لا تكون بواعثه إلا باكتمال ثلاثة أشياء:
1 ـ صفاء الإيمان.
2 ـ صدق العلم بمنهاج الله.
3 ـ وضوح الدرب والأهداف أمامهم، ولذلك يختلف الجهد في واقعنا اليوم بين جهد إيجابي ملتزم بذلك وجهد سلبيّ متفلّت أو مضطرب.
ومن جهته تحدث الشيخ «محمد حسين يعقوب» عن الدوافع والبواعث المحركة لجهود الشباب، فقال: أولها: السّأم من الضجيج الفارغ، وثانيها: الإحساس بالضياع؛ لذلك أقول: إن انتقال هؤلاء الشباب للمنهج الإسلامي الصحيح؛ لأن هناك مناهج أخرى معروضة عليه ولكنه شعر أن هذه المناهج لا تنقله النقلة القوية.
ويعطينا الشيخ «العدوي» إزاء حديثه عن الدوافع بُعداً آخر فيقول: البواعث المحركة للشباب على المسيرة الدعوية تتمثل في تذكيرهم بالله واليوم الآخر بثواب ما يصنعون؛ وهذا يشجعهم على البذل والعطاء. ويضيف مستدلاَّ على ذلك: ولا يخفى علينا أن صحابياً جليلاً هو عمير بن الحمام ـ رضي الله عنه ـ لما ذُكِّرَ بجنة عرضها السموات والأرض، قال: بخٍ بخٍ! إنها والله لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات.. فألقى التمرات وتقدم لجهاد الأعداء قاتلهم حتى قُتل.
أمَّا الشيخ «علاء الزاكي» فيذكر أنَّ البواعث المحركة للشباب في المسيرة الدعوية المعاصرة عدَّة أمور، منها:
1 ـ القناعات التي توفرت لكثير من الشباب بضرورة العمل للإسلام.
2 ـ ظهور بعض الأفكار المناهضة للإسلام ممَّا ولَّد الغيرة على الدين عند الشباب.
وحين ننقل وجهتنا لإجابة الدكتور «محمد يسري» عن البواعث المحرِّكة يقول: حين نتحدث عن البواعث يجب أن نذكر:
أولاً: ما يلقيه الله ـ عز وجل ـ من الهدى؛ فالله هو الهادي والموفِّق الذي أخذ بأيدينا وأيديهم إلى طريقه، والله ـ عز وجل ـ يقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] ، وهذا يدل على أن الإسلام هو قَدَر هؤلاء الشباب.
ثانياً: الغيرة التي تتّقد في قلوب الشباب على دينهم وما يقدمونه من تضحيات على حساب أنفسهم وأموالهم وأحبابهم.
ثالثاً: ما يتلقاه الشباب من دعاتهم وعلمائهم ومربّيهم من هذا البناء العلمي والتربوي والفكري الذي يعمل على إنهاض الشباب في مواجهة التحديات المختلفة التي يواجهها في هذا المجال سواء كان ذلك في المجال العلمي أو الدعوي أو التربوي.
رابعاً: الانتصارات وبوارق الأمل التي تظهر في زمن الانكسار أيضاً من البواعث التي تبعث الشباب على أن يبذل ما في وسعه، ولو كان في ذلك انتصارات جزئية أو في مجالات محدودة إلا أنها تبعث على استمرار التحرك للدين.
خامساً: معرفة فضل التمسك بهذا الدين وأن التمسك به في زمان غربته له فضل عند الله عظيم، وفضل الدعوة إلى الله في زمن الغربة لا تخفى قيمته، كما قال الرسول #: «فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو الذين يصلحون عند فساد الناس» ، فهذه المعاني هي التي تتّقد في قلوب الشباب فتدفعهم للبذل في الدين وممارسة الدعوة إلى الله على بصيرة.
ü الأمور التي تمكن من المحافظة على استمرارية جهد الشباب الدعوي:
اتفق جمع من الدعاة المشاركين في التحقيق على أنَّ أبرز أمر يمكِّن من المحافظة على استمرارية الجهد الدعوي للشباب، هو الإخلاص لله ـ تعالى ـ وتصحيح النيَّة كما ذكر ذلك الشيخ «محمد الدويش» والشيخ «هيثم الحداد» ووافقهم الشيخ «محمد يسري» حول ذلك بقوله: الإخلاص مع الصدق؛ فإن العمل إذا باشره الإخلاص أحياه وأبقاه وأدامه؛ وليست العبرة بمن سبق، ولكن بمن صدق وأخلص لله ـ عز وجل ـ العمل. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ، وقد قيل: ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله زال وانفصل، والصدق هو مطابقة هذه الأقوال للأعمال.
وثاني النقاط التي أكَّد عليها أولئك الدعاة: هداية الله ـ تعالى ـ وتوفيقه ورحمته؛ حيث أشار إلى ذلك الدكتور «عدنان النحوي» ، وأيَّده الشيخ «هيثم الحدَّاد» بقوله: توفيق الله ـ تبارك ـ وتعالى، وهذا أُسّ الأسباب وأهمها، وواللهِ لولا توفيق الله لما استطعنا تحقيق عُشْر ما حققناه على الصعيد الفردي وعلى صعيد الصحوة بشكل عام.
ومن الأمور التي لفت الدعاة المشاركون النظر إليها من المحافظة على استمرارية جهد الشباب الدعوي ما أدلى به الدكتور «علي مقبول» حيث قال: قرب العلماء من الشباب ومناقشتهم والجلوس معهم ومعرفة ما يجول في خواطرهم، ويؤكِّد على ذلك الشيخ «العدوي» قائلاً: هناك بلاد كثيرة تجدُ فيها بين الشباب وبين أهل العلم هوةً واسعة سببها عدم بذل الجهد المناسب لهم وعدم الصبر عليهم، فترى عالماً كبير السّنّ يُؤْثِر البعد عن الشباب خشية أن يصيبه أذى مع أنَّه يعلم قوله ـ تعالى ـ: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] ، وقد ذكر الشيخ «العدوي» أنَّ من فوائد التصاق الشباب الدعاة بأهل العلم أنَّ من الشباب مَنْ يرجع إلى طريق الله المستقيم بعد أن تتم المناقشة معه، وكم من شاب كان يفهم المسائل على وجه خطأ فبمجالسته لأهل العلم يتمُّ تقويم مسلكه؛ ولله الحمد.
وعودة للدكتور «عدنان النحوي» حيث أبدى رأيه في هذا الإطار بعدَّة نقاط حول استمرار الجهد الإيجابي للشباب بتأكيده على ما يلي:
1 ـ صدق الالتزام.
2 ـ وضوح الدرب والأهداف.
3 ـ لقاء الجميع على صراط مستقيم.
4 ـ متابعة عملية البناء والتربية المنهجية.
5 ـ التوجيه الإيماني المستمر.
6 ـ مراجعة المسيرة وتقويمها.
7 ـ تنمية الأساليب والمناهج إلى ما يلبِّي حاجة الواقع.
كما تحدَّث الدكتور «الزاكي» عن نقطتين تحافظان على الاستمراريَّة في مسيرة الصحوة فيقول:
1 ـ لا بدّ من التركيز الجادّ على ترشيد هذه الصحوة بالعلم الشرعي الذي يُبَصِّرُ الشباب بوسائل الدعوة المؤثرة، والذي يولِّد استقراراً فكرياً للشباب بمنعهم من الانحراف.
2 ـ الاهتمام بجانب التربية حماية للشباب من سقوط الأخلاق، خاصة وأن المغريات قد كثرت وتنوعت وسائلها إفساداً لأخلاق الشباب.
ويعرض الدكتور: «علي مقبول» أطروحته حول المحافظة على جهود الشباب الدعويَّة، في عدَّة نقاط:
1 ـ توجيه الشباب والقرب منهم.
2 ـ معرفة نفسيات الشباب.
3 ـ ابتكار وسائل دعوية مناسبة تستوعب هؤلاء وتوجِّه طاقاتهم نحو المفيد.
4 ـ التذكير بفضل الدعوة إلى الله وأهميتها؛ وآثارها المترتبة على الفرد والأمة.
5 ـ الخروج بالمسيرة الدعوية من الجانب النظري إلى الجانب العملي.
6 ـ التعرف على وسائل الدعوة وطرقها وبرامجها وتقديم الوسائل الناجحة للاستمرار والتطوير لهذه الوسائل.
7 ـ دراسات تجارب السابقين واللاحقين للاستفادة من برامجهم.
وفي مشاركة للشيخ «العدوي» حول هذا الجانب يقول: من المعينات على استمرار العطاء لدى الشباب:
1 ـ مساعدة الشباب بأنواع الدَّعم لتنفيذ ما يوجههم إليه العلماء من الأعمال الصالحة، فإن ذلك مدعاة للاستمرار في مسيرتهم الدعوية.
2 ـ توفير أعمال مناسبة لهم، لا تستقطع كل الوقت وتوفر لهم المال الحلال.
وانتقالاً لرأي الشيخ: «هيثم الحدَّاد» حول الاستمراريَّة يقول:
1 ـ التعاون الذي تحقق شيء ملحوظ منه في هذه المشروعات الناجحة، والله قال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] .
2- استفادة الدعوة من بعض التقنيات الحديثة وعلم الإدارة، وهذا يدلُّ على مرونة الصحوة وقابليتها للتطور، مع استيعاب فئات شتى من الشباب الحاصلين على درجات علمية في علوم متنوعة تهيّئهم للاستفادة من هذه العلوم الحديثة، واستخدامها في تطوير الصحوة.
3- روح النقد الموجودة لدى شرائح كبيرة من الصحوة تلك الروح التي أجبرت المسؤولين عن المشروعات الدعوية على تطوير أنفسهم ومشاريعهم.
ويزيد هذه القضيَّة جلاءً الشيخ: «سعد الغنام» بنقاط مهمَّة، أوَّلها:
1 ـ بناء العمل المؤسَّسي الذي يجعل جهود الأفراد تصبُّ في مجرى واحد يشكِّل تيَّاراً مؤثِّراً في السَّاحة بإذن الله.
2 ـ القوَّة العلميَّة للأفراد العاملين، حيث يكون عندهم بصيرة بالأولويَّات وتقدير المصالح والمفاسد، ووزن خطوات التحرك بشكل عام بميزان الشريعة.
3 ـ القوَّة الإيمانيَّة التي هي الزاد والمعين عند الملمَّات والصعوبات. قال ـ تعالى ـ: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] بعد أمره بقيام الليل ممَّا يدلُّ على ثقل الأمانة لكون قيام الليل يساعد على ذلك.
4 ـ القوة الإدارية والوعي بالتخطيط، يوفر الكثير من الجهود وييسر كثيراً من الخطوات، ويوظِّف الطاقات في مصارفها الشرعية.
ويتَّفق الشيخ «مدَّثر إسماعيل» مع الشيخ «الغنَّام» في هذه النقطة ويضيف: إنَّ الشباب بحاجة إلى تنسيق الجهود؛ فلو حددت الأولويات وتقاسمها الشباب فيما بينهم وركّزوا في العطاء كل فيما يليه لكان خيراً، أما أن تتكرر الجهود فذلك من دواعي فوات الوقت وضياع الفرص.
ü أسباب إخفاق بعض الشباب في تحقيق أهدافهم المنشودة التي تخدم قضايا أمتهم:
بداية يتحدَّث الشيخ «محمد الدويش» عن أنَّه يجب أن نعلم أن طبيعة البشر القصور، ومن ثم فهناك قدر من الإخفاق، وتخلّف تحقيق الأهداف هو أمر طبيعي.
وأمَّا أسباب الإخفاق: فمنها: ما يكون أثناء التخطيط، كالمثالية في رسم الأهداف والتخطيط لها، والتركيز في التخطيط على الأهداف على حساب الاعتناء بالوسائل والأدوات وخطوات العمل، وعدم وضوح الهدف.
ومنها: ما يكون اثناء التنفيذ للعمل، ومن ذلك: ضعف الاعتناء بإتقان العمل، وضعف التزام الشخص بما خططه لنفسه.
ومنها ما يكون أثناء التقويم، وأبرز ما في ذلك المبالغة في النظرة السلبية عند تقويم الشاب نفسَه وعمله.
ويرى «د. محمد يسري» أنَّ من أسباب الإخفاق ضعف الإخلاص الذي يؤدي إلى انقطاع المدد الرباني؛ فمن تخلّف عن نصرة الله ـ عز وجل ـ فلا يؤتيه الله النصر؛ فإن النصر من عند الله.
ومن أسباب الإخفاق ضعف متابعة العلماء والمربين للشباب المبتدئين، وهذه المتابعة هي ضمانة من الضعف، وهي تعني حث الشباب على البذل والعطاء وتعني تقوية جانب الصلة مع الله والاطمئنان إلى قضاء الله وقدره وتعظيم أمره واجتناب حرماته وهذه المتابعة هي من أعظم الضمانات.
ويضيف «د. يسري» : كذلك من أسباب الإخفاق: العفوية والارتجالية في العمل، وترك مراعاة الأولويات؛ فحديث الرسول # لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ حينما أرسله لليمن فيه بيان الأولويات وبيان أهمية تقديم المهم.
ومن الأسباب الاستعجال؛ فالكثير من الشباب ينوي الخير ولا يقوم به؛ وذلك لاستعجاله. وهذه العجلة لا تفضي بالإنسان غالباً إلى غايته، ويتفق الشيخ «علاء الدين الزاكي» مع «د. محمد يسري» على أنَّ العجلة من أسباب الإخفاق عند كثير من الشباب لرؤية الثمرة والتي لا شك أنها تؤدي إلى فشلهم.
ويكمل «د. يسري» حديثه حول الأسباب فيقول: ومن تلك الأسباب: ترك التعامل مع الدعوة بالسنن الجارية والبحث عن السنن الخارقة ... ولا شكَّ أنَّ الأصل أن الله ـ عز وجل ـ جعل في المجتمعات سنناً إلهية لا تتغير ولا تتبدل؛ ومنها سنة التدافع {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} [البقرة: 251] ، وكذلك سنة الاستبدال والاستخلاف: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [النور: 55] ، وكذلك سنة التداول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، وأيضاً سنة المجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، ومن أسباب الإخفاق أن بعض الشباب لا يعرف قدرته فيتكلَّف من الأعمال ما لا يطيق، أو يتحمل من الجهد ما لا يقدر عليه، فيأتي عمله ضعيفاً وجهده محدوداً، ثمَّ قد ينقطع عن طريقه.
وانتقالاً إلى جواب الدكتور «الزاكي» حيث يرى أنَّ من أسباب إخفاق الشباب في تحقيق أهدافهم: التعامل بردود أفعال، وهذا يفقد الشباب توازنه ويجعله يتصرف بعواطفه لا بفكره وعقله. ثانياً: الغلو عند كثير من الشباب، حتى يكون الشاب كالمنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
وينهي «د. عدنان النحوي» الحديث حول هذه القضية، إذ يقول:
من أسباب الإخفاق: ما يتعلق بالزاد الذي يحمله الشباب ومدى نقائه، ومنها: ما يتعلّق بقدراتهم، ومنها: ما يتعلق بالأهداف ذاتها؛ إذ المفروض في الشباب المؤمنين أن تكون أهدافهم ربّانية، أهداف دعوة وأُمّة ورسالة، وليست أهدافاً خاصة ينشدونها. فيجب أن تكون الأهداف جليّة، يلتقي عليها الجميع، ويجاهدون من أجلها في سبيل الله.. وإذا لم يتحقّق ذلك فإن بعض الجهد يعطّل بعضاً آخر، أو قد تختلط الأهداف الربانية بالهوى أو المصالح أو الفتنة.
ü المعايير والأسس التي يُقوَّم الشباب من خلالها:
حول هذه القضية يقول الدكتور «عدنان النحوي» : المعايير والأُسس مقرّرة في منهاج الله، وعلى المسلم أن يصدق الالتزام بها، ومن خلال الآيات والأحاديث التي تحدثت عن ذلك نستطيع أن نضع ميزاناً للمؤمن يمكن إيجازه بما يلي:
ü الإيمان والتقوى.
ü العلم.
ü المعدن والفطرة.
ü المواهب والقدرات.
ü السّنّ والخبرة المكتسبة وعلاقة ذلك بالعمل الذي يُجرى له الميزان.
ü التزام المؤمن وعطاؤه في الدعوة الإسلامية، وتبليغها وتعوُّد الناس عليها.
ü البيت ومدى التزامه، ومدى التزام مجلس الأسرة الإيماني.
ويوجز الشيخ «الدويش» ذاكراً ما يراه حول المعايير بقوله: تقويم الشاب لدوره ينبغي أن يتم في ضوء الأهداف والإمكانات الفعلية التي يمتلكها، ومن الإمكانات ما يتصل بقدرات الشخصية، ولهذا ينبِّه الشيخ «العدوي» إلى أنَّه يلزم الشاب أن يعرف ما المطلوب منه وما قدراته لتحقيق المطلوب.
ü الآثار الناجمة عن حالات الفتور المؤدّية إلى انتكاس بعض الشباب عن لزوم الجادة:
يستهلُّ الحديث مبتدئاً عن هذه القضيَّة الشيخ «محمد الدويش» حيث يؤكد أنَّ أبرز الآثار الناجمة عن الفتور: ضعف الصلة بالله تبارك وتعالى، وهذا له أثره على استقامة الشاب، وعلى تأثيره الدعوي في أوساط الآخرين، وعلى استمراره وثباته على طريق الدعوة، كما أن له أثراً بالغاً على توفيق الله له وإعانته.
ومن جهته يرى «د. محمد يسري» أن من الآثار الناجمة:
أولاً: الحرمان من عون الله ـ عز وجل ـ ومدده لعباده.
ثانياً: تطاول أعداء الإسلام على العمل الإسلامي والصحوة وتشويه صورتها والعمل على إضعافها وتحريف وجهتها؛ سببه الانتكاس؛ فحينما نضعف يقدر علينا أعداؤنا.
ويرى الشيخ «عبد العزيز الجليّل» ـ وقد خصَّنا بهذه الإجابة ـ أنَّ الفتور الذي يتعرَّض له المسلم ينقسم لقسمين، حيث يقول:
الأول: فتور طبيعي لا يكاد يسلم منه أحد، وهذا النوع من الفتور هو الذي أشار إليه رسول الله # بقوله: «إنَّ لكل شيء شِرَّة، ولكل شرَّة فترة؛ فإن صاحبها سدد وقرب فأرجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه» (الترمذي/2583 وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 1995) .
ثم ذكر الشيخ «الجليِّل» شيئاً من علامات الفتور قائلاً: ومن علامات الفتور أنَّه لا يدوم ولا يستمر؛ فإن دام واستقر فإنه يُخشى على صاحبه، ومن علاماته أنه يكون في مجال المستحبات والمكروهات؛ وذلك بأن يترك المستحبات التي كان يداوم عليها، أو يفعل بعض المكروهات التي كانت تتجنب من قبل.
ومن علامته فَقْدُ بعض الأعمال القلبية كالخشوع ورِقّة القلب ولذة العبادة، لكن هذه العلامات لا تستمر وتستقر دائماً؛ فلو استقرت ولم تنقشع فهذا فتور خطير يجب تداركه، والتخلص من أسبابه.
النوع الثاني: فتور خطير غير طبيعي يقود صاحبه في الغالب إلى الانتكاسة، والزيغ، والعياذ بالله ـ تعالى ـ. وعلامة هذا الفتور أن يصل صاحبه إلى ترك واجب أو فعل محرم ويصرّ على ذلك ويستمر، أما أن يفعل محرماً فيبادر بالتوبة إلى الله ويقلع عن المعصية؛ فكل يتعرض لهذا وخير الخطَّائين التوّابون.
ومن الفتور ما يكون كامناً في النفس ولا يعلم به أحد إلاَّ الله، لكنَّه يظهر في ظروف معيَّنة، وذلك عند ورود الشهوات، أو الشبهات، أو الشدائد والمحن.
ويعدد «د. علاء الدين الزاكي» الآثار السلبيَّة للفتور بقوله:
1 ـ تمكُّن دعاة الباطل من ساحات المسلمين.
2 ـ وجود مساحات فارغة لا شك أنَّها إن لم تستغل فسيجد العدو فرصة سانحة لملئها.
3 ـ إن الفتور يولد الإحباط لدى الشباب ويقعد بالهمم.
4 ـ تنكب الصراط، وتساقط عدد من الشباب بسبب ضعف الصحوة وقوة الباطل.
ü كيف يمكن التخفيف من تلك الآثار الناتجة عن الفتور؟
عن هذا الموضوع أجاب الشيخ «الجُليِّل» واضعاً النقاط على الحروف بقوله: للتخلّص من هذا النوع من الفتور أنصحُ نفسي وإخواني بالأسباب التالية:
1 ـ صدق اللّجوء إلى الله وحده لا شريك له، وسؤاله الهداية والثبات؛ لأنه لا أحد يملك التوفيق والتثبيت إلاَّ الله وحده، وقد وردت عن النبي # أدعية جامعة ينبغي للمسلم أن يحافظ عليها، وبخاصة في أوقات الإجابة.
2 ـ التسلّح بالعلم الشرعي والبصيرة في الدين؛ لأنَّ من أسباب الزيغ والانتكاس؛ الشبهات، وهذه تُعالج بالعلم والبصيرة.
3 ـ تقوية الصلة بالله ـ عزَّ وجل ـ بالأعمال الصالحة بداية من الحفاظ على الفرائض وإتقانها، والإكثار من النوافل التي يحبُّها الله عزَّ وجل؛ لأن ثمرة ذلك حفظ الله ـ عز وجل ـ لعبده المتقرب إليه؛ ومَنْ حَفِظَه الله ـ تعالى ـ فلا طريق إلى انحرافه كما جاء في حديث: «وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتَّى أحبَّه ... » .
4 ـ الصحبة الصالحة والعيش معها بالبرّ والتقوى ورؤية القدوات الصالحة، واجتناب جلساء السوء والمجالس التي يُعصى الله ـ تعالى ـ فيها.
5 ـ كثرة ذكر الله في اليوم والليلة، ومعاهدة القرآن الكريم تلاوة وحفظاً وتدبّر آياته. قال ـ تعالى ـ في الحديث الشريف: «أنا مع عبدي حيث ذكرني ... » الحديث.
وقد تناول الشيخ «محمد يسري» الحديث حول النوع نفسه قائلاً: يمكن تفادي ظاهرة الانتكاس ـ ولا نقول منعها؛ لأنها ظاهرة قديمة وباقية ما بقيت النفس والمعوقات والشيطان والهوى وفتن الدنيا ـ ولكن علينا أن نكثِّر سواد الطائعين ونقلّل سواد المنحرفين؛ وذلك بعدَّة أمور: أوَّلها: الفهم الدقيق لحقيقة الدنيا والآخرة، وفهم قول الله ـ تعالى ـ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] ؛ فالمسلم لا يرى الآخرة طريقاً منفصلاً عن الدنيا بل يرى الدنيا ممرّاً للآخرة التي هي دار القرار، ثم يعرف طبيعة الطريق في الدنيا كما في الحديث: «حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات» أخرجه الترمذي.
ويواصل «د. يسري» حديثه: كذلك معرفة مداخل الشيطان والتحذير منها، وأيضاً دراسة سِيَر المصلحين والعلماء بعد دراسة سير الأنبياء والمرسلين؛ لأن هذه القصص تثبت القلب، وكذلك مما يعين على تجاوز الوهدة والخروج من مرحلة الضعف والشتات معرفة فضل الاجتماع والتزام الجادة والاستقامة، والحذر من الاختلاف والفرقة؛ فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» .
كما ينبغي نشر الوسطية والاعتدال والتمسك بأهدابهما معاً، وهما اللتان تقيان ـ بإذن الله ـ من الغلو في الأفكار والمواقف والأفعال.
ويضيف الشيخ «الدويش» حول الخروج من أزمة الفتور أنَّه لا يتمُّ إلاَّ بالاعتناء بالتربية الإيمانية، ووجود القدوات في التقوى والصلاح والسّمت اللائق بالدعاة.
ويزيد على ذلك «د. الزاكي» بقوله: لا يمكن تجاوز هذه الآثار إلا بعلوّ الهمة والعمل الدؤوب.
ü انتشار البطالة الدعوية في أوساط كثير من جيل الصحوة، فهل وحدهم المسؤولون عنها، وكيف يمكن إخراجهم منها؟
يتوافق المشايخ على أنَّه ليس المسؤول عن البطالة الدعوية هم جيل الصحوة فقط، بل هناك عدَّة أسباب، وفي ذلك يرى الشيخ «الدويش» أنَّه لا يمكن اختزال المسؤولية في سبب واحد أو طرف واحد، ويضيف قائلاً: فالشباب يتحمّلون جزءاً من المسؤولية؛ إذ عليهم المبادرة والبحث عن الفرص، كما أن التربية التي تلقوها تتحمّل قدراً من المسؤولية؛ إذ يقل في هذه التربية تنمية الدافع الذاتي وتنمية مهارات العمل الدعوي، وتركز على التوجيه المعرفي حول أهمية الدعوة. والجزء الآخر يتصل بالمؤسسات والجهات الدعوية التي ينبغي أن تتوسع في فتح الفرص والمجالات العملية للشباب للممارسة الدعوية.
ويوافق «د. علاء الدين الزاكي» ما يراه الشيخ «الدويش» ويقول: أظن ـ والله تعالى أعلم ـ أن المسؤول عنها ليس الشباب وحدهم، بل قادة الدعوة من ناحية والمجتمع المسلم من ناحية أخرى.
أمَّا الشباب: فلأن كثيراً ممن يُعتبر منهم سلبياً ليس لديه القدرة على المبادرة، أو أن بعضهم يحتقر نفسه ويقلّل من مكانتها، وبعضهم يُعطي الدعوة فضل وقته، فتحصل البطالة.
أما قادة العمل الدعوي: فبإهمالهم بعض الطاقات وعدم تسخيرهم الشبابَ للعمل والدعوة، وعدم إيجادهم برامج تستوعب الشباب وهو الشيء الذي يولِّد زهداً عند كثير من الشباب في العمل الدعوي.
وأمَّا المجتمع: فلأنَّه تأثّر بالثقافات الوافدة، فأصبح يشكل ضغطاً شديداً على شباب الصحوة، ولربما وجَّه إليهم أوصافاً غير لائقة، ولربما وقعت الأُسَر في قطيعة بعض أفرادها إذا كانوا من شباب الصحوة، فاستسلم كثير منهم، وقعد آخرون عن تصدّر المنابر والمبادرة وآثروا السلامة.
وعن كيفية إخراج شباب الصحوة من أزمة البطالة الدعوية يقول الشيخ «علي مقبول» : أمَّا الخروج من البطالة الدعوية فأرى ـ والله أعلم ـ أنه يكون بما يلي:
أن تكون هناك برامج دعوية وعلمية، وتقسَّم على النحو الآتي:
1 ـ برامج الجوانب الإيمانيَّة.
2 ـ برامج الجوانب العملية والعقلية.
3 ـ برامج الجوانب الدعوية.
4 ـ برامج الجوانب الخلقية والسلوكية.
5 ـ برامج الجوانب المعيشية والنفسية والعملية.
وهذه البرامج لا بدّ أن تتكامل وتتكاثف ولا يتسع المجال لتفصيل هذا؛ وإنما هي خطوط عامة على العاملين للإسلام أن يضعوا البرامج والخطط والدراسات لتنفيذها، وإلاَّ فإنَّ البطالة الدعوية ستزيد وتنتشر.
ويستكمل الشيخ «محمد يعقوب» الحديث حول الخروج من أزمة البطالة الدعوية قائلاً: المطلوب أن يدخل الشباب في محاضن تربوية فيبربَّوْا كأشخاص؛ لنصنع منهم الشخصية الربانية المطلوبة.
ü للشباب حقوق وواجبات لدى العلماء وقادة الفكر، ولدى مؤسسات التوجيه في المجتمع؛ فهل تم القيام بتلك الواجبات؟ وما أبرز الحقوق التي يمكن أن تسهم بفاعلية في تحقيق الشباب للأدوار المنوطة بهم؟
اختلفت رؤى المشايخ والدعاة حول هذه القضيَّة، فجمعٌ منهم يرى أنَّ العلماء وقادة العمل الإسلامي قاموا بواجباتهم تجاه الشباب، وفريق آخر يخالف ذلك برؤية مغايرة؛ فالشيخ «محمد يعقوب» وكذا الدكتور «علي مقبول» يريان أنَّ الطرفين لم يقوما بالحقوق والواجباتِ لدى الشباب إلا القليل منهم.
بينما يرى الشيخ «الدويش» أنَّ هناك جهداً لا بأس به يقوم به العلماء وقادة الفكر، ولكنَّه يتمنى أن يرى أكثر من ذلك؛ حيث قال: وإن كنا نتطلع للمزيد من هذه الجهود.
وأمَّا عن سؤالي للدكتور «يسري» عن الحقوق والواجبات التي تسهم بفاعلية في تحقيق الشباب للأدوار المناطة بهم أجاب فضيلته قائلاً: أمَّا الحقوق فأولها: وقاية الشباب من هذه البطالة، ولا يتأتّى هذا إلا بوضع المناهج والخطط التربوية والدعوية وتنفيذها معهم والإشراف على تنفيذها.
وثانيها: البرامج والمناهج التي تتميز بالمرحلية والتدرج والملاءمة لكل ظرف ومكان؛ بحيث يتدرج فيها الشباب ليكون الشاب المناسب في المكان المناسب. وحول هذه القضية يتواءم «د. الزاكي» مع «د. يسري» في أهميَّة إيجاد برامج عملية لدى الشباب تستوعب طاقاتهم، مع بذل النصح والتوجيه لهم؛ لتكون هذه البرامج واقية لهم من السقوط والانزلاق عن ركب الدعوة ـ بإذن الله ـ.
ويكمل «د. يسري» حديثه حول الحقوق قائلاً: وثالثها: المشاركة في الميدان؛ فإن الداعية الحق لا يكون كذلك إلا حينما يكون إماماً للعامة، وعلى سبيل المثال: فالإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ كان إماماً للعامة بذل نفسه للناس، فخالط الشباب والكبار والصغار، وربَّى الناس عملياً على أرض العمل، فأصغت إليه الآذان واشرأبّت إليه الأعناق؛ فمن حقوق الشباب على علمائهم أن ينزلوا معهم إلى الميدان ويشاركوهم في العمل ويصححوا أخطاءهم.
ü ما الدور المنتظر من الشباب في مواجهة التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة المسلمة؟
حول الدور المرجو من الشباب يوضِّح «د. النحوي» ذلك بقوله: هذا الدور لا يتمُّ إلاَّ إذا تلاحمت جهود الشباب والشيوخ معاً على منهج واضح محدد؛ ولهذا فإنَّه يرى أنَّ التصوّر الذي يعزِل الشباب ويحمّلهم المسؤوليَّة وحدهم تصوّر يحتاج إلى مراجعة، ويضيف قائلاً: إن الإسلام ينظر إلى أجيال الأمّة كلها نظرة ترابط وتكامل؛ ليكون هناك أمّة مسلمة واحدة تجتمع فيها الأجيال وتتلاحم، وتتكامل الجهود وتتساند.
من جهته يتحدَّث الشيخ «محمد حسين يعقوب» عن أنَّ دور الشباب هو في أن يصنع نفسه صناعة جيدة ولا ينتظر، فيكون قوياً: إيمانياً وعقلياً وفكرياً وفهماً ويقيناً، وهذا متاح الآن بوسائل الإنترنت والاتصالات والكتب والرسائل والتعلم عن بُعْد؛ فالتحديات المعاصرة تحتاج لرجال، والحل في الخطوط العريضة للإسلام المذكورة في سورة العصر: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] .
أما الشيخ «سعد الغنَّام» فإنه يرى أنَّ من أعظم الأدوار التي يقدِّمها الشباب لأمَّته أن ينزل للميدان، ويلتقط جميع الطاقات الجيِّدة، وينظمها في عمل جادّ مفيد للأمَّة.
وعودة لرؤية «د. يسري» حيث يرى أنَّ الشباب يد الأمة الفاعل التي تفعل وتؤثر وتغيّر، ويبقى العلماء بمثابة من ينظم المسيرة ويحرك إيمانهم ويبعثهم للقيام بدورهم، لكن ينبغي على كل شاب أن يوقن بأن له دوراً يتعلق بذاته ودوراً يتعلق بمجتمعه وبإخوانه، وأن هذا الدور لا يمكن أن يؤدَّى على وجهه الأكمل حتى يدرك الشاب أولاً حقيقة الإسلام، ثم يصلح نفسه، ثم يقيم علاقته مع من يعمل معه في حقل الدعوة برشد، وخاصة أننا نلمس ندرة في العلماء والمربين؛ فحينئذ يقع على الشاب دور مضاعف في تربية نفسه وفي زيادة إيمانه وفي متابعة قلبه وفي إصلاح عيبه وخلله.. وبعد ذلك معرفة واقع مجتمعه بماضيه وحاضره، والاطلاع على وسائل الإعلام وأساليبها، ومتابعة الأحداث الجارية، وأين تقف من الإسلام؟ وأين يقف الإسلام منها؟ حتَّى لا يكون بمعزل عن واقعه.
وأضاف فضيلته متحدثاً: كما يحتاج الشباب أن يقتحموا التخصصات العملية حتى تتحقق في مجتمع المسلمين الكفاية في تلك التخصصات، والتي لا يُعدّ مجتمعٌ من المجتمعات حاضراً قوياً حتى يكتفي أهله بعلم الهندسة والطب والزراعة والصناعة وغير ذلك، فلا يكونون عالة على غيرهم.
ويضيف الدكتور «علي مقبول» على ما ذكره «د. يسري» بقوله: من الأدوار المنتظرة للشباب المسلم، ما يلي:
1 ـ وجود أهداف عليا يسعى للوصول إليها.
2 ـ وجود قناعة بضرورة التغيير مهما وصل بنا الحال.
3 ـ الشعور بالمسؤولية.
4 ـ الإرادة الصلبة؛ فالشعور بالتحدي يؤدي إلى العمل الجادّ.
5 ـ العمل الجماعي المرتَّب والمنظَّم لمواجهة التحديات العالمية.
6 ـ التربية الذاتية على الصعيد الخاص.
ويقول «د. الزاكي» في جوابه عن واجبات الشباب والدور المرجو بأنَّه يُنْتَظَرُ من الشباب دور فعال ومؤثر؛ لأن الشباب هم مستقبل الأمة وهم قادة المستقبل وهم الدماء الحارة التي لها القدرة على الحركة والانطلاق، لذلك يُنتظَر منهم الكثير، وعلى سبيل المثال:
أـ مقاومة الثقافات الوافدة من خلال البرامج العملية البديلة.
ب ـ مزاحمة دعاة الباطل وعدم فسح المجال لهم.
ج ـ نشر الوعي بين الشباب باستخدام وسائل فعالة ومؤثرة.
ü يشكك بعض المهتمين بعدم وجود توازن بين توفير متطلبات الشباب واحتياجاتهم العُمرية، وبين المطالب الكبيرة المطلوبة منهم تجاه مجتمعاتهم وأمّتهم؛ فما مدى صحَّة ما ذكر؟ وما الطريق إلى تحقيق ذلك بأفضل صورة ممكنة؟
يتَّفق الشيخ «محمد الدويش» : مع هذه الوجهة، ويرى أن السبب يكمن في أن برامج التربية الموجهة للشباب لم تُبنَ وفق أسس علمية متخصصة تراعي متطلبات المرحلة التي يعيشونها.
ويوافقه الرأي «د. علي مقبول» قائلاً: نعم! هناك عدم توازن بين توفير متطلبات الشباب، تجاه مجتمعاتهم وبين المطالب المرجوَّة منهم عُمْرياً، والسبب أنه في هذا الزمن قلَّ المتخصصون في قضايا الشباب ومشاكلهم. ومشاكل الأمة ـ اليوم ـ أعجزت العلماء والمفكرين؛ فما ظنّك بالشباب المتحمِّس فعلاً الذي يجد تناقضاً واضحاً بين الجانب النظري والجانب الواقعي؟ ويسوق الدكتور «علي مقبول» النقاط التي يراها مهمَّة في حل هذه الإشكاليَّة:
1 ـ أن تبدأ القضية بالتدرج المتأنّي.
2 ـ تجزئة مشكلات الأمة، وتفهيم الشاب أنه قد يقوم بحل قضية معينة، كأن يتخصص في حلّها ودراستها.
3 ـ إشاعة روح التعاون الجماعي في حلّ أزمات الأمة.
4 ـ الأمة كالجسد الواحد، والجميع يشارك في بنائه.
5 ـ الالتزام بالمنهج الرباني في حدود الطاقة.
6 ـ الانضباط والدقّة مع العمل الدؤوب؛ ليكون ذلك مقياساً للنجاح مهما قلّ العمل.
وفي إطلالة للدكتور «عدنان النحوي» يلفت فيه نظر مراكز التعليم ومحاضن التربية إلى أنَّ أهم ما يجب أن توفره هذه المراكز هو شعور الشباب أنهم جزء من أمتهم التي أخرجها الله لتكون خير أمة أُخرجت للناس، ومن خلال جميع مراحل البناء يجب أن يتعلّم الشباب المسلم ما هي مهمتهم في الحياة، ولماذا خلقهم الله، وأنّ الله لم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم سدى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] ، فلا بد أن يستقرّ في شعور الشباب أنهم خُلِقوا للوفاء بمهمة رئيسة سيُحاسبون عليها بين يدي الله، وأن الله بيّن لهم هذه المهمّة وفصّلها في كتابه الكريم وسنة نبيه محمد # تفصيلاً وافياً لا يترك عذراً لمتفلّت.
أما «د. علاء الدين الزاكي» فيضيف رأيه إلى آراء المشاركين قائلاً:
أرى أن الصحوة الإسلامية إذا استطاعت أن تربي الشباب على متطلباتهم الحياتية، والجمع بينها وبين الأمور الدينية فهذا خير، ولنا مثال في ذلك من الصحابة الكرام كمصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ الذي كان يُعرَف بالفتى المدلّل، ولما وقَرَ الإيمان في قلبه زهدَ في كل المتطلبات الدنيويَّة.
وهذا هو الحل الوحيد من وجهة نظر «د. الزاكي» ، وإلاَّ فستشكل المتطلبات عائقاً أساسياً في سبيل إصلاح الشباب.
وحول هذا السياق يختتم «د. يسري» هذه الفقرة بقوله:
لا شك أن للشباب مطالب واحتياجات، وهذه المطالب بعضها مادي وبعضها معنوي، بل قد يكون المطلوب الواحد له بُعدان: بُعْدٌ مادي، وبُعْدٌ معنوي؛ فلو قلنا ـ مثلاً ـ: لطلب العلم، ما الذي يحتاجه الشباب؟ يحتاج لكتب علمية وموسوعات دراسية وأشياء لا يتوصل إليها إلا ببذل المال، فنقيم في نفوس الشباب قواعد تتعلق بالحياة الدنيا وطلب الرزق والدعوة إلى الله وطلب العلم، فلا بد من الحث على طلب الزرق، وألا يكون الإنسان كَلاًّ على أحد، وأن طلب العلم لا يشغل عن العمل لطلب الرزق؛ فالعلماء منهم من كان خبّازاً وحدّاداً وقفّالاً ومع ذلك كانوا أهل علم، لذلك ننبّه على أخطاء بعض الطلبة بما يتعلق بمفهوم الزهد والإنتاج؛ فليس الإنتاج في هذه الحياة متعارضاً مع الزهد، فيكون الإنسان نافعاً لغيره وعاملاً محترفاً، ويكون في الوقت نفسه زاهداً يزهد في الدنيا فلا تملك الدنيا قلبه.
ü وأخيراً: ما أبرز الطموحات والآمال التي ننتظرها من الشباب؟
يتحدث «د. الزاكي» قائلاً: ننتظر من الشباب الكثير ومن أهمِّ ذلك أن يهيّئ نفسه لقيادة الأمة مستقبلاً قيادة صحيحة تعيد للأمة مجدها وعزّتها.
ويشارك «الشيخ الدويش» قائلاً: أبرز الطموحات المنتظرة منهم تتمثل في: الاستقامة والثبات، وأن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم، وأن يعتنوا بتربية أنفسهم وبنائها، وأن يُسهموا في الدعوة والإصلاح في مجتمعاتهم بإيجابية.
ويؤكِّد «د. محمد يسري» على أهميَّة الحرص على الدعوة إلى الله ونشر هذا الدين؛ فإنهاض هذا المجتمع مرهون بجهد الشباب. ويضيف فضيلته أنَّ الذين سافروا للتجارة عبر الآفاق وفتحوا الأطراف من البلاد كانوا من الشباب.
ومن ذلك أن يدرك الشباب دورهم في نصرة هذا الدين، ونشر القضايا الملحَّة؛ فمثلاً: قضية فلسطين مرهونة مع تحقيق حق سيادة الله على خلقه وحق ألوهيته على عباده والتطهير من أرجاس الشرك والوثنية.
والخلاصة التي يراها «د. يسري» في ذلك هي أن يبذل الشباب من جهدهم ووقتهم ما يصل بأمتهم إلى مكان الصدارة والريادة والقوة بدلاً من التبعية والتخلف والانهزامية، وخاصَّة أنَّ أمام الأمة عقبات كثيرة، ومنها: الأمية والجهل والتبعية والضعف والفقر وغير ذلك، ولا يتصور الخروج من ذلك إلا بجهد وعطاء ودأب.. واجتهاد وثقافة وعلم وعمل، هذا الذي يُخرِج الأمة من وهدتها بعد إيمان بالله ـ عز وجل ـ عميق، وبعد صبر وإخلاص وثبات على الحق دؤوب كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [النور: 55] . ويختتم «د. يسري» حديثه حول هذا الإطار قائلاً: هذه قاعدة معلومة ووعد لا يتخلف، والله ـ عز وجل ـ أصدق وأقوم قيلاً وأحسن حديثاً.
ويدلي الدكتور: «علي مقبول» في هذا السياق بدلوه قائلاً:
ما يُطلَب من الشباب هو الكثير، ومن ذلك:
1 ـ شاب مؤمن جادّ طموح مهما ادلهّمت الخطوب.
2 ـ التعمق في معرفة الواقع.
3 ـ التربية الجادة لنفسه ومجتمعه.
4 ـ التواضع في رفعة، والترفّع عما بأيدي الناس.
5 ـ الشجاعة الأدبية والكرم.
6 ـ القناعة الكاملة بهذا الدين ومنهاج الدعوة.
7 ـ تحديد الهدف المراد تحقيقه.
8 ـ اختيار الوسائل والأساليب المناسبة.
9 ـ تجديد الوسائل والأساليب وتنويعها وتطويرها.
10 ـ لا قيمة للعمل بدون عقيدة ومنهج صحيح.
11 ـ ترك المستحبات أحياناًً تأليفاً للقلوب.
واللهَ نسأل أن يأخذ بيد الشباب إلى الخير، ويمنع كل شر وضير، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تحقيقات ـ شباب الصحوة بين العطاء والفتور
الدعوة إلى الله؛ رسالة الأنبياء والمرسلين، وسنة الدعاة والمصلحين، حثَّ عليها الشارع الحكيم وحفَّز على نشرها فقال ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وحسبنا الثناء الربَّاني بتبيين فضلها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]
وقد كان للدعوة إلى الله وبخاصة من شباب الصحوة قدم السبق في تقديم الجهود المتميّزة في ساحات العمل الإسلامي، وميادين السبق الحركي، وقد أثمرت وأثَّرت إيجابيّاً في تصحيح المفاهيم، وهداية الضَّالين؛ حتى انشرحت لذلك صدور المسلمين، مباركين لأعمالهم ومشجّعين.
__________
قام بتغطية التحقيق في مصر -خالد عبد الله - مراسل المجلة في مصر -(226/9)
تطوع.. حتى آخر قطرة!!
إبراهيم بن سليمان الحيدري
لولا أن عينيه رمشتا من خلف تلك النظارة المقعرة لقلت إن الذي أمامي ما هو إلا عجوز تجاوز الثمانين عاماً؛ فتجاعيد وجهه وانكماش شفتيه واحديداب ظهره جعلتني أشك في مدى حياة ذلك الرجل..! كما أنه عندما تكلم كان هذا دليلاً آخر على أنه ما زال على قيد الحياة، وانتهى شكي بحياته عندما ابتسم، فأيقنت أني أمام كائن حي متفاعل مع البيئة التي حوله.
ذلك الرجل الطاعن في السن كان بائعاً في (بوفيه) صغير تعود ملكيته إلى جمعية خيرية داخل إحدى المستشفيات البريطانية. كل ما سبق استرعى تعجبي، إلا أن ما استدعى إعجابي تلك القطعة الصغيرة التي علقها الرجل على صدره، وقد كتب عليها بخط واضح: (متطوع) . ثم كتب تحتها (يرجى الكلام بوضوح عند مخاطبته) .
نعم! لقد كان هذا الشخص متطوعاً في جمعية خيرية ينفق من وقته ثلاثة أيام في الأسبوع بلا مقابل مادي سوى أنه متطوع.
عرفت بعد حديثي معه أنه يتطوع لصالح تلك الجمعية الخيرية إيماناً منه بأهمية الدور الذي تقوم به، وأيضاً ليخالط الناس ويخاطبهم حفظاً على ما تبقى من حاسة السمع لديه.
كان هذا هو المشهد، وإليكم التحليل:
إن توظيف طاقات الناس واستثمارها في الأعمال التطوعية ليست فقط كلمات تُشحَذ بها الهمم وعبارات تُهَيَّجُ بها العواطف، إنه نظام إداري متكامل يراعي قدرات المتطوع وإمكانياته ليسد بها حاجات محددة مسبقاً لدى المنظمة أو المجتمع. هذا النظام الذي يمزج بين قدرات المتطوعين وحاجات المنظمات الخيرية قائم على الإجابة عن أسئلة منطقية مثل: مَنْ، وكم، ومتى، وأين نريد المتطوعين؟
إن كثيراً من حالات فشل بعض المنظمات الخيرية في استثمار طاقات المتطوعين والمحافظة عليها ناتج من عدم وجود رؤية واضحة في التعامل مع المتطوعين، والمؤمَّل أن تتحول القناعات الذهنية المحمودة التي يحتفظ بها رواد العمل الخيري الإسلامي بأهمية المتطوعين إلى برامج وأنظمة إدارية تمارَس على أرض الواقع.
إنه إبداع ولا شك عندما تُستَثمَر طاقات متطوع ناهز الثمانين عاماً في وقت تفشل فيه كثير من منظماتنا الخيرية في جذب طاقات شباب يحملون بين جنباتهم رغبة وقدرة ومتسعاً من الوقت.
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(226/10)
الوسطية لا التميعية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
قلت في مقال الشهر الماضي: إن بعض الناس ـ اليوم ـ يعمدون إلى ألفاظ عربية إسلامية فيفرغونها من مدلولاتها الإسلامية، ثم يحشونها بمدلولات كلمات غربية يجعلونها ترجمة لها. من هذه الكلمات: كلمة الوسطية، التي شاع في هذه الأيام استعمالها عند أمثال هؤلاء بمعنى لكلمة moderate. نعم، إن المعنى اللغوي لكلمة مودريت قريب من معنى المعتدل وغير المتطرف، لكن ينبغي أن نتذكر أن الاعتدال والتطرف من المفاهيم النسبية التي لا يتضح المقصود منها إلا حين توضع في إطارها التصوري؛ فالله ـ تعالى ـ يدعونا لأن نأخذ ديننا بقوة، وأن نعتقد أن ما جاءنا به رسوله هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن ما خالفه لا يكون إلا باطلاً وضلالاً. لكن المسلم المودريت عند الغربيين ولا سيما الأمريكان، هو الذي لا يأخذ دينه بقوة، بل يجامل فيه ويداهن، ويغير ويبدل بحسب ما تقتضيه أهواء الثقافة الغربية، بل ومصالحها السياسية والاقتصادية. فهو إنسان لا يأخذ النصوص ـ ولاسيما نصوص السنة النبوية ـ مأخذ الجد إلا ما كان منها موافقاً لهواه، ويرى الحوار مغنياً عن جهاد القتال، فيطلب من المسلمين أن يظلوا يحاورون ويحاورون، ويحاورون ... حتى لو كانت قنابل من يحاورونهم تتساقط على رؤوسهم، ولا يدعوهم لأن يحاوروا فحسب؛ بل يطلب منهم أن يكون حوارهم مع الآخر مبنياً على الاعتراف به. فهو حين يحاور يقول للكافر أو المنافق متلطفاً: هذا رأيي وهذا اعتقادي، ولا حرج عليك في أن ترى غيره، وتعتقد سواه، فنحن جميعاً طلاب حقيقة، يدرك كل منا قدراً منها، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه قد وجدها كلها.
مما يدلك على نسبية هذه المفاهيم أن بوش لم يكن يرى نفسه، ولا رآه الغربيون، بل ولا رآه عبيدهم ممن يدعون الليبرالية في بلادنا، لم يره واحد من هؤلاء متطرفاً حين ألقى قبل أيام خطاباً في غاية الحماسة، دعا فيه دفعة من الضباط من خريجي الأكاديمية العسكرية بكلية وست بوينت: أن يستعدوا لقتال عدوهم ـ الإسلام الراديكالي ـ لأن هذه ستكون أعظم مهامهم، ولا حين قال لهم: إن أمريكا لن تنتظر حتى تهاجم، بل ستبادر بالهجوم على من يستعد للهجوم عليها، وتقضي عليه في الخارج لئلا تضطر لمواجهته في الداخل. حين يقول بوش هذا كله لا يكون متطرفاً، لكن إذا دعا زعيم مسلم خريجي كلية عسكرية في بلده أن يستعدوا لإعلاء كلمة الله، ومحاربة أعدائه فإنه يعد من أكبر المتطرفين، ويكون من أكبر الدعاة إلى الكراهية.
من الخطأ إذن أن تعطى الألفاظ القرآنية الدلالات الأيديولجية التي تعطى للكلمات الغربية، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بقضايا في أصول الدين، حتى لو كانت المعاني اللغوية متقاربة. وعليه فإن ما تشير إليه كلمة الوسطية في إطار الهدي الإسلامي لا بد أن تكون مخالفة لما تشير إليه كلمة مقاربة لها لغوياً في إطار أيديولجية مخالفة للإسلام.
دلالة الوسطية في المفهوم الإسلامي يجب أن تلتمس في مصادرها الإسلامية، في كتاب الله، وسنة رسوله #. فما الذي تقول لنا عنها هذه المصادر؟
الوسطية التي وردت في كتاب الله صفة خص الله بها المسلمين من أتباع محمد #، فقال ـ تعالى ـ عنهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] .
جعلهم ـ سبحانه ـ كذلك بالرسالة التي بلَّغهم إياها نبيهم، فكلما كان الواحد منهم أعلم بها وأكثر عملاً بها كان أقرب إلى الوسطية، فالوسطية ليست ـ إذن ـ موقفاً يتخذه الإنسان من الدين، ولا طريقة يفهم بها الدين، فيقول مثلاً: بما أنني وسطي فأنا لا أكفر أحداً، أو بما أنني وسطي فأنا لا أرى تحريم الموسيقى. كلا إنما الوسطية صفة يكتسبها المسلم نتيجة لتمسكه بدينه، هذه الصفة هي التي تؤهله لأن يكون من الشهداء على الناس، الشهداء الذين يقبل الله شهادتهم.
ما هذه الصفة؟ قال الإمام ابن كثير:
والوسط ها هنا الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي خيرها. وكان رسول الله # وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] .
ذكر الإمام الطبري أقوال السلف في تفسير هذه اللفظة، فوجدها لا تخرج عن قولهم: إنها الخيار أو العدل، لكنه قال:
وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين ... وأرى أن الله ـ تبارك وتعالى ـ إنما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى ... ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود ... ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه.
وقد جمع الشيخ السعدي بين القولين جمعاً جميلاً في عبارة موجزة فقال: عدلاً خياراً، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر.
ومسألة أخرى مهمة هي أن الله ـ تعالى ـ أعطانا مثالاً حياً واقعياً لجماعة معينة تمثلت فيها هذه الوسطية، فقد شهد ـ سبحانه ـ كما شهد رسوله لصحابة محمد # بأنهم ممن تحققت فيهم صفة الوسطية. وإذن فكما أننا نعلم المعنى الصحيح للوسطية، فإننا نعرف جماعة معينة تمثلت هذه الصفة فيها، في معتقداتها، وعباداتها، وأخلاقها، ومعاملاتها، ومواقفها من غيرها، وهكذا. وعليه فإن كل من كان أقرب إلى منهجها في فهمه للدين وعمله به، وكان حريصا على التأسي بها، كان أقرب إلى الوسطية.
ولذلك قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن الصحابة رضوان الله عليهم:
فإن الحق لا يعدوهم و (لا) يخرج عنهم إلى من بعدهم قطعا، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم: لو كان حقا ما سبقونا إليه. (إعلام الموقعين، 4/166ـ 67) .
الجماعة الوسط هي إذن: جماعة معتزة بدينها، متأسية بسلفها، شاهدة بالعدل على غيرها، تقول لهذا: إنك على الحق، وتقول لذاك: إنك على باطل. جماعة تعمل لإعلاء كلمة الله على بصيرة بحقائق دينها، وبصيرة بواقع عصرها، جماعة تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجادل بالتي هي أحسن إلا من ظَلَم، ولكنها تؤمن في الوقت نفسه بأنه كما لا يقوم الدين إلا بالكتاب الهادي، فإنه لا يقوم إلا بالسيف الناصر. فهي إذن جماعة أبعد ما تكون عن التميع والمداهنة، والخضوع والاستكانة.
ولكن بما أنها جماعة تؤمن بأن العدل واجب على كل أحد مع كل أحد في كل أمر، فإنها لا تُكَفِّر من لا دليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله على تكفيره، ولا من لم تُكَفِّره الجماعة التي شهد الله لها بالوسطية ـ أصحاب رسول الله #، ومن سار على منهجهم، واقتفى أثرهم ممن جاء بعدهم من أئمة أهل السنة ـ، وكما أنها لا تُكَفِّر بلا دليل، فإنها لا تَهَابُ أن تقول لمن قام الدليل على كفره: إنه كفر وخرج على الملة؛ لأنه إذا لم يكن من العدل أن يخرج إنسان من هذه الملة الشريفة بغير دليل، فإنه من الظلم أن يحسب منها من قام الدليل على خروجه منها، ومعاداته لها.
وهي جماعة يمنعها عدلها أن تعتدي على الأبرياء حتى لو كانوا كفاراً.
هذه أمثلة للصفات التي تتحلى بها كل جماعة تتصف بالوسطية بالمفهوم الإسلامي الصحيح لها.(226/11)
دورٌ متزايد للمعرفة
د. عبد الكريم بكار
عند التأمّل في موروثنا الثقافي على المستوى الشعبي ـ على الأقل ـ نجد احتفاءً كبيراً بالعقل والذكاء على حساب الاحتفاء بالعلم والمعرفة. وربما كان ذلك بسبب ضآلة دور المعرفة في تطوير الحياة آنذاك وقلّة تطبيقاتها العملية. أما اليوم فإن الأمر آخذ في التبدّل على نحو جذري. إن الله ـ جلَّ وعلا ـ وزَّع الذكاء على مستوى الأمم والشعوب بالتساوي، إذ ليس هناك شعب مكوَّن من النابهين والأذكياء الأفذاذ، كما أنه ليس هناك شعب عبارة عن مجموعات من البُلهاء والمعتوهين. في الماضي كان الفارق بين أمم الأرض على مستوى المحصول المعرفي والمنتج الحضاري ليس كبيراً، لكن اليوم هناك فروقات واسعة، تجعل المقارنة غير ذات معنى. إن في العديد من دول العالم شعوباً تعيش حياة لا تختلف كثيراً عن حياة أسلافها قبل عشرة قرون، كما أن بين دول العالم اليوم من يفكرون النقل في الأشياء عبر الأثير بعد أن تمكّنوا من نقل الأفكار والمعلومات والأموال..
هذا الفارق بين أمم الأرض ليس من صناعة العبقرية والتفوق الذهني، وإنما هو من صناعة البحث واكتساب المعرفة وتوظيفها واعتماد منهج التجريب. وصار من الواضح ـ اليوم ـ أن الذي ينفق أكثر على البحث العلمي يكتشف سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق، ويتعرف على طبائع الأشياء، ويحصل ـ من ثم ـ على المزيد من براءات الاختراع. وأودُّ من أجل تدعيم هذه النظرة أن أوضِّح الآتي:
1 ـ الذكاء نعمة كبرى من الله تعالى، ولكن العقل مهما كانت إمكاناته كبيرة لا يعمل على نحو منتج وموثوق من غير أن نزوِّده بمعلومات جيدة وملائمة؛ إنه أشبه بالرّحى، حيث إنها مهما كانت ممتازة، فإنها لا تطحن، ولا تقدِّم لنا شيئاً من غير تزويدها بشيء من الحبوب. وإذا زوّدناها بقمح فاسد ـ مثلاً ـ فإنها تعطينا دقيقاً فاسداً. الاختراعات الموجودة والمتزايدة مدينة لعمل العقل في المعرفة وللمناهج التطبيقية التي توصَّل إليها النابهون من أهل الاختصاصات المختلفة. ولذا؛ فإن من الممكن القول: إن العقل من غير معرفة هباء.
2 ـ إن الإنسان من خلال الإمكانات الذهنية التي زوّده الله ـ تعالى ـ بها ومن خلال المبادئ التي يؤمن بها، ومن خلال المعارف والخبرات التي اكتسبها يشكّل إطاراً مرجعياً، يحاكم إليه المواقف والأحداث والأشياء، كما يحلّل من خلاله الماضي، وينظر إلى المستقبل، أي: يمتلك عقلانية خاصة به. وما دام هناك تفاوت بين كل مكونات العقلانية لدى الناس، فإن لنا أن نقول بنسبية (العقلانية) ، وإذا كان الأمر كذلك فإنه ليس من حق أحد أن يتخذ من عقلانيته مَحْكمة لإدانة عقلانيات الآخرين.
لا شك أن هناك تصرفات يدينها كل العقلاء مهما كانت نوعية تكوينهم العقلاني، فالاستدانة من الناس من أجل الإنفاق في أشياء ترفية وعلى نحو مسرف، لا يلقى القبول من أحد، وكسر يد طفل من أجل ردعه عن عمل قبيح، شيءٌ يدينه كل العقلاء ... لكن إلى جانب هذا هناك أشياء كثيرة ينظر إليها الناس على أنها أشياء قبيحة، وينظر إليها آخرون على أنها تدخل في نطاق الحرية الشخصية، وهم في كل ذلك يحكمون من خلال تكوينهم الثقافي. حين غزا الأوروبيون أفريقية في القرن التاسع عشر، أبدوا استياءهم من تبذل وتكشف المرأة الأفريقية؛ لأنهم نظروا إليها من خلال المرأة الأوروبية والتي كانت وقتها محتشمة، ثم تغيرت الأحوال، وتجاوزت المرأةُ الأوروبية المرأة الأفريقية بمراحل، دون وجود استنكار يذكر من قِبَل المجتمعات الأوروبية. وينظر كثير من الغربيين إلى عفّة الفتاة قبل الزواج على أنه يعبِّر عن تزمّت أو عن مرض نفسي أو عن نقص في اللياقة الاجتماعية. وكل هذا بسبب أن عقلانيتهم ومعايير الحَسَن والقبيح لديهم نسبية ومتحركة، بسبب عدم استنادها إلى ثوابت وأصول (لا بشرية) .
بناءً على كل هذا فإن ما نسمعه من بعض الكُتّاب والمفكرين في وصف سلوكيات الآخرين بأنها غير عقلانية أو غير منطقية أو غير عصرية أو غير حضارية، يجب أن يتلقى على أنه يعبِّر عن مرجعية فكرية خاصة، قد تكون صحيحة، وقد لا تكون صحيحة. ونحن هنا وفي أمور كثيرة أخرى نواجه مشكلة غموض المصطلحات ونسبيتها وقابليتها للتحيّز والتوظيف غير النزيه، وعلينا دائماً أن نحاول بلورة المصطلح وتوضيحه إلى أقصى حدٍّ ممكن، ثم نتحدث عن الأسس التي يقوم عليها المصطلح.
3 ـ كل مرجعية ثقافية أو عقلية تظل نسبية ونزّاعة إلى أن تكون شخصية وخاصة، ما دامت تقوم على خبرات البشر ورُؤاهم وتقديراتهم. والحقيقة أن العقل البشري ليس مؤهلاً لإنتاج المبادئ الكبرى، فهو (عقل أداتي) في المقام الأول. ونحن المسلمين نحمد الله ـ تعالى ـ الذي ملّكنا الأصول والمبادئ التي تشكل الإطار الذي يعمل خلاله العقل، حيث ننعم باليقين تجاه الكثير من الأمور، وهناك مرشدات وموجِّهات كثيرة تجعل معظم أعمالنا أقرب إلى الصواب. والذي علينا أن ننشط فيه هو أن نثقّف أنفسنا، ونمدّ عقولنا بالمعلومات الحديثة، ونحاول الإلمام بطبيعة عمل العقل والأخطاء التي يمكن أن يقع فيها. إن الشريعة الغرّاء تمنحنا القواعد والأصول والمبادئ الكبرى، وعلينا أن نثقّف عقولنا كي نبدع في إيجاد الأساليب والأدوات التي نخدم من خلالها ديننا، ونصلح دنيانا. والله ولي التوفيق.(226/12)
اللقاء الأخير
حمدي عبد القادر أحمد
أسرعتُ الخطا نحو ذلك الكوخ المهجور في طرف القرية، والذي يعلو تلاً يطلُّ على جزء كبير من بيوتها، تلفّتُ حولي في حذر؛ لأرى إن كان أحد يتبعني.
كنت أحمل بين جوانحي شوقاً لا حدود له، إنه موعد اللقاء الأول بها، أحسست بنشوة عارمة تسري في كياني، تذكرت عندما رأيتها لأول مرة.
... يومها، أحسست بشعور عجيب نحوها، تمنيت لو اختطفتها وحلّقت بها في سماء بلدتي الصغيرة.
كانت تتحدث، وكنت أستمع إليها في شغف، وظللت أنظر إليها مشدوهاً طيلة مدة حديثها، كان لصوتها وقع عجيب في قلبي وعقلي ووجداني، فقد أحسست أنها الأمل، وكنت أراهم يخرّون صرعى لحديثها المتدفق بلا انقطاع، ظلت تتكلم لوقت طويل، سقطت منهم أعداد كبيرة.
فجأة، انقطع كلامها، نظرت إليها في توسّل أن تستمر، لكنها لم تنطق، وكأنما سلبت منها الحياة.
رأيتهم ينطلقون نحوها من كل صوب، عدد كبير، أحسست عليها بالخطر، آه ... لو استطعت إنقاذها! إنهم يقتربون نحوها أكثر وأكثر، ما زالت صامتة لا تريد الكلام.
كادوا يصلون إليها، لولا أن ظهر ذلك الفتى الملثم من خلفها تماماً، وكأنما كان هناك منذ البداية، لا بد أن سحرها أعماني، حتى لم أنتبه إلى وجوده. حملها، وانطلق هارباً، اختفى تماماً. ظلّوا يبحثون ويبحثون، حتى أعياهم البحث، لم يجدوها.
أطلقت تنهيدة حارة، فقد نجت، ونجا صاحبها. تُرى! من هو؟! أحسست بشيء من الغيرة، تمنيت لو عرفته، وطلبت منه أن يخلي بيني وبينها.
يومها، قررت أن أعرفه، فالشوق يعصف بي، إنني أعرف جميع فتيان بلدتنا، كلهم أصدقائي.
فكرت قليلاً، من منهم قوي الجسم سريع الحركة كذلك الذي رأيته؟ تذكرت لون بشرته.. بيضاء مشربة بحمرة ... إن «فارس» هو أقربهم لهذه الصفات، سأذهب إليه لأتأكد.
وفي الليل، تسلّلتُ من بيتنا بعد أن نام مَنْ في المنزل، ناموا مبكرين كالعادة.
انطلقت إلى بيت «فارس» ، تلفّت حولي في حذر، إن الخروج في هذه الساعة خطر، ولكن لا يهم، فلذّة اللقاء ستنسيني كل هذا العنت.
وصلت بعد سير طويل، كان بيتهم متواضعاً كبيتنا، وكبقية بيوت القرية، يبدو أنهم نيام أيضاً، فالأنوار مطفأة، هممت بمناداته، لولا أن سمعت أصواتاً خافتة خلف البيت.
درت حول البيت في حذر، تماماً كما ظننت، إن «فارس» هو صاحبها، فها هو أمامي، وهي بالقرب منه.
خفق قلبي في عنف ... إنها أمامي الآن. ظللت أحدق فيها، حتى لم أشعر بما حولي، ولا بذلك الذي تسلّل من خلفي. أحسست بيد قوية تكتم أنفاسي، نظرت ناحية «فارس» لأستنجد به، لم يكن هناك، حاولت الصراخ، لم أفلح.
كان يدفعني ناحية الضوء ليرى وجهي، و ...
«عاصم! ما الذي تفعله هنا في هذه الساعة؟» . كان «فارس» هو الذي يكمم فمي، أرخى يده.
«إذاً؛ فهو أنت يا «فارس» ! أنت الذي هربت منهم، كنت أعلم أنه أنت» .
كان يكبرني بأربعة أعوام، لكنه يعاملني كأخيه.
«اخفض صوتك يا عاصم! لا أدري عما تتحدث!» .
قلت في عناد: «لا تكذب! لقد حملتها وابتعدت سريعاً، ها هي هناك» ، وأشرت إليها.
أحسست بارتباكه، «حسناً يا عاصم! لقد كشفت أمري، ولكن لا تخبر أحداً، فحتى والداي لا يعلمان» .
«اطمئن، ولكن أرجوك، أرجوك ... أريدها، أرجوك» . نظر إلي متعجباً «تريد ماذا؟!» . أشرت إليها ... ظهر الغضب في عينيه «هل جننت؟! أنت لا تعلم أي خطر يتهددني بوجودها معي، لو علموا لقتلوني وشردوا أهلي» .
قلت في رجاء: «أرجوك! أريد أن أكون بطلاً مثلك، أريد أن أكون رجلاً، أرجوك! سأكون حذراً، إنني أسرع منك، وعضلاتي مفتولة» ، وكشفت عن عضلاتي الهزيلة.
هزّ رأسه في عنف «لا ... لا ... لا يمكنني ذلك، فهذا يعرضك للخطر، وأنت ما زلت صغيراً» .
حينها، أحسست بآمالي تتحطم أمامي، إن بيني وبينها بضع خطوات، ولا أستطيع الاقتراب منها.
غمغمت في صوت أقرب للبكاء «أرجوك يا فارس! أرجوك» ، ثم انخرطت في بكاء عنيف، حاول تهدئتي فلم يفلح.
كانت نفسي تموج بمشاعر شتى، ظللت أبكي وأبكي، ويبدو أنه أحسَّ بالشفقة علي، أو أحسَّ بصدقي في طلبها، فقال في استسلام: «حسناً.. حسناً.. كفّ عن هذا» .
توقفت عن البكاء، انتعش الأمل في صدري: «أشكرك، أشكرك كثيراً» .
استدرك «ولكن، ليس الآن، فلا بد من تدريبك أولاً» . فكّرَ قليلاً، ثم أردف: «القني قبل الفجر بساعة في ذلك الكوخ المهجور على التل، واحذر أن يتبعك أحد» أومأت برأسي متفهماً، ألقيت عليها نظرة أخيرة، ثم تسللت إلى منزلنا، كان منزلنا بين بيت «فارس» والتل.
لم يغمض لي جفن، فالانفعال يملأ كياني، أخذت أنسجُ أحلاماً وبطولات، وعشت فيها، حتى حانت ساعة اللقاء، فانطلقت إلى المكان المنشود، أتحسس طريقي في حذر.
... أفقت من تفكيري لأجد الكوخ أمامي، تلفّت في حذر، طرقت الباب ثلاث طرقات متتالية، ثم ثنتين متواليتين، ثم واحدة.
مضت دقيقة قبل أن يفتح باب الكوخ، ولجتُ متلهفاً، رأيت ثلاثة من أصدقائي، هذا «خالد» ، وهذا «عمر» ، وذاك «يوسف» .
كانت البسمة تعلو وجوههم، جلت ببصري متلهفاً حتى رأيتها، لم أطق صبراً، أسرعت إليها، حملتها بين يدي، احتضنتها في قوة، لم أشعر بمن حولي، كانت النشوة تخدر جسدي.
سمعتهم يضحكون، لم أعرهم اهتماماً، فها قد نلت ما تمنيت. سمعت «عمر» يقول: «رويدك يا عاصم! ستقتل نفسك» ، ولكن لم ألتفت إليه.
دخل «فارس» ، كان أكبرنا، ابتسم لمرآي، همس في أذني: «ألم أقل لك إنك ما زلت صغيراً؟» ثم أردف في صرامة: «حسناً يا عاصم! قبل أن تصبح واحداً منا، يجب أن تقسم على الولاء الكامل، وعدم إفشاء سر، صغيراً كان أو كبيراً، حتى لو مزّقوك إرباً إرباً» .
أقسمت على ذلك بصدقٍ وإخلاص، أطلقوا زفرات ارتياح.
قال «فارس» : «سنبدأ تدريبك فور طلوع الشمس، أما الآن فسوف نصـ ... » . شق كلامه صوت سيارات عسكرية تحيط بالكوخ، نظروا إلي في ارتياع، حلفت لهم أني لم أخنهم وأن أحداً لم يتبعني، قال «فارس» في حزم: «حسناً يا عاصم! سنضطر لتدريبك على أهداف حية ... وقاتلة» ، ثم أردف: «دافعْ عن نفسك بكل قوتك، اليوم يومك» .
حملتها في قوة واعتداد، التمعت عيناي ببريق العزم والتصميم، وكذلك كان أصدقائي، اليوم سأثبت رجولتي وبطولتي.
اقتحموا الكوخ في عنف، اشتعلت المعركة، أصدقائي يتميزون ببسالة لا حدود لها وشجاعة لا نظير لها، لن أكون أقل منهم.
أمسكت بها في عزم، حثثتها على النطق، فلا ينفعهم سوى حديثها البليغ، بدأت تتكلم، سمعت صوتها الهادر القوي، رأيتهم يتساقطون.
سقط «عمر» مضرجاً بدمائه ... ما زالت تصبُّ غضبها وحممها عليهم.
سمعت تكبير «فارس» ، رأيته يسقط ... اشتد لهيبه أكثر وأكثر ...
«خالد» سقط هو الآخر، تبعه «يوسف» ، لم يبق سواي. أرديت ثلاثة آخرين.
أحسست بعمود من النار يخترق كتفي، وآخر يصيب بطني.
انثنيت من الآلام، تلاشى صوتها، لقد سكتت.
تكاثروا حولي، ألمٌ شديد في قلبي، لا أقوى حراكاً، الألم ينتشر في جسمي، تشبّثت بها أكثر.
تقدم أحدهم وركلها من بين يدي، حاولت ضمّها إليّ، لكني أفلتها رغماً عني.
دفعني أحدهم بقدمه، سقطت على وجهي، يبدو أني ألفظُ أنفاسي الآخيرة.
نظرت بصعوبة عبر باب الكوخ؛ لأودّع بلدتي الحبيبة، غمغمت في ضعفٍ: «الوداع يا قلقيلية!» .
حوّلت نظري نحوها في وهن شديد.
كانت بين أيديهم يعبثون بها، كأنها تتألم لوجودها بين أيديهم.
كانت تزين ملابسهم تلك النجمة البغيضة.
ألقيت عليها نظرة وداعٍ، همستُ: «الوداع ... الوداع ... يا.. يا.. بندقيتي ... » ، تمتمت بالشهادتين، ثم أظلم كل شيء.(226/13)
لقاء مع فضيلة الشيخ محمد الحسن الددو
العلماء هم أمناء الله على وحيه، ولم يكن سبحانه ليأتمن المفلسين
حاوره في البحرين: خباب بن مروان الحمد
وهكذا ... كان لقائي مع فضيلة الشيخ الحافظ: محمد الحسن الددو الشنقيطي ـ حفظه الله ـ على هامش مؤتمر البحرين لنصرة رسول الله #. وحقاً كان حديث الشيخ وأجوبته ممتعاً، كما قال الشاعر:
في متعة الأقوال بثَّ شجونه فحديثه وكلامه إمتاعُ
ولمن لا يعرف فإنَّ الشيخ: محمد الحسن الددو، يشغل مدير مركز تكوين العلماء في نواكشوط بموريتانيا، وله باع طويل في تعليم العلم ونشره، والله نسأل أن يبارك في جهود الشيخ، ويجعلها مكلَّلة بالنجاح والفلاح والتوفيق ... والآن أدع القارئ لمتابعة هذا الحوار مع الشيخ الددو، حيث كان أول سؤال لفضيلته:
^: حبا الله شيخنا الكريم باعاً واسعاً في علوم الشريعة؛ فكيف كان طلبكم للعلم؟
- بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
مستواي في العلم ليس كما ذكرتم وإنَّما هذا من حسن ظنِّكم، وإنَّما أنا من المتوسطين في طلب العلم، وقد ابتدأت الطلب وأنا صغير بالدراسة على والدتي وجدتي، وحفظت القرآن في الصبا قبل أن أتم الإدراك ببلوغ ثماني سنين، وقرأت مبادئ بعض العلوم، ثمَّ بعد أن بلغت العاشرة من عمري صحبت جدي العلاَّمة الشيخ محمد بن عبد الودود الهاشمي ـ رحمة الله عليه ـ ولازمته حوالي إحدى عشرة سنة، وسمعت منه فيها أكثر ما تعلمته، ودرست عليه بعض الكتب، وحفظت عليه وبحضرته بعض ما حفظت، وكنت خلال ذلك أدرس على جدتي وأمي وأبي وأخوالي، وبعد وفاة جدي ـ رحمة الله عليه ـ درست على خالي الشيخ محمد يحيى، والشيخ محمد فالي بعض العلوم، وهم أحياء إلى الآن ـ بحمد الله ـ.
^: شيخنا ـ أحسن الله إليكم ـ تُعَدُّ بلادكم شنقيط قلعة شامخة من قلاع تلقي العلم في المغرب العربي؛ فما أبرز الأساليب التعليمية التي تُشتهر بها في نشر العلم وتعليمه؟
- اشتهرت هذه البلاد بحفظ العلوم وتنوع المعارف؛ فهم يدرِّسون من العلوم الشرعيَّة تقريباً خمسة وأربعين علماً؛ فلا يكون الإنسان عالماً حتى يكون حافظاً للكتب في تلك العلوم، ويكون متقناً لتدريسها، وقبل ذلك قد يكون فقيهاً، أو مدرساً، أو يكون طالب علم، ولكن لا يكون عالماً، إلاَّ إذا كان محيطاً بهذه العلوم، مستطيعاً لتدريسها جميعاً، وطريقتهم في ذلك هي البداية من الصبا، وإتقان الحفظ والمذاكرة والمراجعة، وإتقان مهارات التدريس؛ فهي مراحل كلها لهم فيها اجتهادات وآراء، ومقرراتهم تختلف من مَحْضَرَة إلى محضرة، والمحضرة مكان التعليم، كالكتاتيب.
^: لفضيلتكم باع في تأويل الرؤى؛ فما الضوابط الشرعية لتأويلها، وما مدى جواز بناء الأحكام والمواقف ونظم التصورات وَفقها؟
- بالنسبة للرؤى، فهي على خمسة أنواع:
النوع الأول: رؤيا من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهي الرؤية الصالحة التي يراها الرجل الصالح، أو تُرى له وهي من المبشِّرات التي تسر ولا تغر، وهذا النوع عادة يكون تبشيراً أو إزالة حزن أو إدخال سرور أو نحو ذلك، وهذا النوع هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من أجزاء النبوَّة في حق من هو أصدق الناس، وجزء منه أقل من ذلك إلى أن يصل إلى جزء من ثلاثة وسبعين جزءاً من أجزاء النبوَّة في حق أقلِّ الناس صدقاً.
النوع الثاني: اللَّمَّة الملَكيَّة في نوم الإنسان أو يقظته، فيقذف في روعه أمراً وينصحه بشيء، من حيث لا يشعر؛ فهذه مثل الرؤيا السابقة تقريباً.
النوع الثالث: الرؤيا التي هي من النفس؛ فنفس الإنسان ترى ما تهواه، فإذا نام وهو عطشان أو ظمآن أو جائع، رأى الطعام والشراب، وإذا نام وهو يهوى شخصاً معيناً رآه في نومه؛ فهذا نوع من تخيلات النفوس.
النوع الرابع: الرؤيا بسبب مرض أو الأخلاط مثل ما يحصل لمن هو مصاب بغلواء في صفراء أو قحط في المعدة أو زيادة حموضة فيها، فيرى الحرائق ويرى الألوان الصفراء بسبب انطباعه، ومن يرى الأمطار والمياه، وهذه حسب الأمزجة.
النوع الخامس: ما كان من الشيطان وهو المسمَّى بالحلم، وهو ما كان عادة يرجع لثلاث علامات:
الأولى: أنَّه يخالف العقل، كما ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً قال للنبي #: رأيت كأنَّ رأسي قُطِع فتدحرج فتبعته. فقال: «لا تقصص عليَّ ألاعيب الشيطان بك» . فهذا مخالف للعقل؛ لأنَّ الرأس إذا قطع لا يتبعه صاحبه.
الثانية: أن يكون مخالفاَ للشرع كمن يرى أنه يفعل محرَّماً، أو أنَّه يؤمر به، أو يترك واجباً.
الثالثة: أنَّه لا يضبطه الإنسان ضبطاً كاملاً، بل يستيقظ على جزء منه فقط، فهذه علامة الحلم الذي هو من الشيطان. وعلامة الذي هو من النفس أنَّه تنبثق عنه لذَّة وشهوة، فيجد الإنسان احتلاماً، أو ألماً كذلك، فيستيقظ الإنسان ويجد نفسه يبكي ونحو ذلك، فهذا من النفس غالباً.
فهذه الرؤيا عموماً كلها لا ينبني عليها أي حكم ولا تصوُّر، بل هي إذا كانت صحيحة فهي من المبشرات: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] وهي تسر ولا تغر، والإنسان لا يدري تفسيرها بذاته، ومع ذلك كثير من الناس يبني عليها أموراً، يظنُّ أنَّها تقتضيها وهي لا تقتضيها أصلاً، حتى لو قُدِّر أنَّها يمكن أن تدل على شيء، فإنَّها لا تكفي بمفردها لأن يُبنى عليها خطط وأعمال، حتَّى للعابرين والذين يدرون معاييرها؛ لأنهم قد لا يدركون معناها تماماً؛ فالنبي # قال لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً» فدلَّ ذلك على أنَّ المعبِّر قد يصيب في بعض تعبيره وقد يخطئ في بعضها الآخر.
وإذا كان أبو بكر الصديق وهو من هو في صدقه وإيمانه، أصاب بعضاً وأخطأ بعضاً بحضرة النبي #؛ فكيف بنا نحن ومن دونه من المعبِّرين؟ فإذا أصاب أحدنا في أي جزئيَّة فإن هذا يعتبر خيراً كثيراً، إذا قورن بغيره؛ فلذلك لا بدَّ من التريُّث فيها.
وعليه فإنَّ الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم أنَّ رسول الله # قال: «إنَّ الرؤيا معلقة على جناحي طائر؛ فإن فُسِّرت وقعت» فالتفسير المقصود هنا أنَّه لا بدَّ أن يكون من معبِّر للرؤيا، وعلى مقتضى التفسير الصحيح.
^: للعلماء دور بارز في الإصلاح والبناء، ولا بدَّ لذلك أن يكونوا من الربَّانيين؛ فما الملامح الرئيسة للعلماء الربَّانيين من وجهة نظر فضيلتكم؟
- بالنسبة للعلماء هم أمناء الله على هذا الوحي الذين ائتمنهم الله على هذا الدين، الذي هو أشرف ما في الأرض، ولم يكن الله ليأتمن على وحيه المفلسين؛ فأحدنا الآن إذا كان رشيداً، لا يمكن أن يأتمن المفلسين على ما يحبه مثل أمواله، لأنَّه يعلم أنَّهم مفلسون، والله ـ تعالى ـ هو علاَّم الغيوب، وهو يعلم السرَّ وأخفى، فلذلك لا يمكن أن يأتمن على وحيه المفلسين؛ فالذين يؤتمنون على هذا الوحي هم أمناء الله على دينه، ولكن لا بدَّ أن يكونوا مستكملين لحقيقة الائتمان بأن يكونوا عاملين بعلمهم، ويخشون الله ـ تعالى ـ حقَّ خشيته كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وإذا كان الإنسان من هذا النوع فعليه مسؤوليات كثيرة وكبيرة، منها: الصدق بالقول. قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، ومنها: أن يقوم ويقول بالحق حيث كان لا يخاف في الله لومة لائم كما قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب: 39] .
^: كيف ترون حاجة العالم إلى فهم واقعه؟ وهل قيام العلماء بواجبهم شرط في حصول التغيير؟
- العلماء لا بدَّ أن يدرسوا واقعهم وأن يستشعروا حال أمَّتهم، ويسهروا على مصالحها، وأن يعطوها جزءاً من اهتمامهم؛ فكل قضية شرعية هي مؤكدة من قضيتين؛ فالقضية الكبرى من الوحي، والقضية الصغرى من الواقع الذي يعيشه الناس؛ فالترتيب بينهما يحتاج إلى مهارة وإتقان، ولذلك أحال الله إلى فهم الذين يستنبطونه فقال: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ولم يقل: لعلموه جميعاً.
وبالنسبة لدور العلماء في التغيير فإنَّه ما حصلت نهضة قط في هذه الأمَّة ولا في غيرها من الأمم إلاَّ بجهد العلماء الربَّانيين الذين يقومون لله بالحق، ويقدِّمون النماذج للناس فيهتدي بهم المصلحون.
^: من يتأمِّل الواقع عقب أحداث 11/9/2001م يلحظ هجمة شرسة ومغرضة على منهج أهل السنة والجماعة في أصقاع المعمورة، بغرض تشويهه وإفقاده كافة المواقع والمكتسبات الواقعية والمعنوية التي يمتلكها. وفي المقابل يرى عملاً دؤوباً لتمكين الصوفية المغالية ذات النهج البعيد عن هموم الأمة، وجعلها التيار المؤثر في واقع الأمة العلمي والدعوي والتعليمي؛ فما قراءة فضيلتكم للواقع في بلاد أفريقيا في هذا الجانب؟
- نحن لا نعيش في بروج عاجية، بل نعيش فيما يعيشه الناس؛ وما تذكره من الأمور الواقعيَّة لا يختلف فيها بلد عن آخر؛ فالعالَم اليوم يراد له أن يكون قرية واحدة، والمؤامرة على الدين هي هي في كل مكان، وأعداء الإسلام لا يريدون الإسلام الحي المتحرك والفعَّال الذي يدافع عن نصرة دينه، ويتشبَّث بصفائه ونقائه، وإنَّما يبحثون عن الإسلام الوديع الذي يكيَّف بكيفهم، ويقيسونه على مقاسهم وتبعاً لأهوائهم، وهذا ما لا يكون ولا يتحقق أبداً؛ فالإسلام لن يكون ولن يتجدد إلاَّ بما كان به من قبل، كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: إنَّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلاَّ بما صلح به أوله، وما سوى ذلك من البدع والمحدثات، تذهب جفاء كغثاء السيل.
^: هل تعد هذه الكلمة أصلاً ملزماً، أم اجتهاداً غير ملزم، فيسع تجاوزه، كما قد يُدّعى؟
- لا، يا أخي! لكنَّ القضيَّة هنا هي قضيَّة الدين؛ فما يتعلَّق بالدين قطعاً فنجتمع عليه جميعاً، ولا يمكن أن يُختلَف في ذلك؛ فالدين أفضله وأكمله هو ما كان على منهج السلف الصالح؛ فقد أحال الله على اعتقادهم فقال: {فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137] وأحال النبي # إلى تقواهم وعملهم فقال: «خير أمتي القرن الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وأحال # إلى جهادهم وكفاحهم، فقال: «يغزو فئام من الناس، فيقال: هل كان فيكم من رأى محمداً رسول الله؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم، ثمَّ يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى، من رأى، من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم» وهذا يؤكِّد أهميَّة الأخذ بمنهاج السلف الصالح حيث أُكِّدت لهم الخيريَّة.
^: منَّ الله ـ تعالى ـ عليكم ـ أنتم وبعض إخوانكم ـ بالتخرج في (مدرسة يوسف عليه السلام) وتجاوزتم مرحلة كان ظلمكم فيها ظاهراً؛ فما أبرز ما تعلمه فضيلتكم من تلك المرحلة؟
- بالنسبة للسجن فيه كثير من الدروس والعبر، والإنسان فيه يشعر براحة كبيرة وسعادة حين يخلو بالله ولا ينتظر فرجاً إلاَّ من عنده، وحين يخلو بالقرآن وهو ممنوع من الكتب، وممنوع من كلام الناس، فيلجأ إلى كلام الباري جلَّ وعلاً. ومن أهم ذلك: ما يفتح الله به في الاستنباط بالقرآن والتلذذ به واكتشاف بدائعه وعجائبه، وقد ظهر لنا في السجن كثير من بدائع القرآن التي لو جُمعت لكانت كتاباً، في مختلف الجوانب، منها ما يتعلق بالإعجاز العلمي، ومنها ما يتعلق بالإعجاز العددي، ومنها ما يتعلق بترتيب الآيات، ومنها ما يتعلق بترتيب السور، ومنها ما يتعلق بالمعاني، ومنها ما يتعلق بالإعراب والنحو.
وهناك أمر آخر يتعلمه المسجون وهو أنَّ الوقت أهم ما يواجه السجين؛ فإذا شغله لم يكن لديه أي مشكلة؛ فإذا وضع برنامجاً لليل وبرنامجاً للنهار، فستبادر غروب الشمس لتكمل برنامجك قبل أن يتم غروب الشمس، وتبادر طلوع الفجر حتى لا يأتيك طلوع الفجر ولم تكن قد أنجزت عملك، فتبقى مشغولاً لا تحس بتعب ولا نصب ولا إعياء؛ فلذلك كان البرنامج المكثف دائماً، من الختم بالصلاة كل ست ليال، والختم بالقراءة كل ثلاثة أيام، والصلاة مائتي ركعة في أربعة وعشرين ساعة، ووِرد الذكر ومراجعة ما يحفظه الإنسان من الحديث في الصباح وما يحفظه من المتون في المساء ونحو ذلك، ومن المنظومات والأشعار في المساء أيضاً. وهذا كله يقضي على الفراغ؛ فلهذا ما كنَّا نحس بتعب ولا نصب، بل يسوؤنا حين يُسمَع الباب يحرَّك؛ لأننا نعلم أن في ذلك قطعاً لبرنامجنا، ولذلك تمضي الشهور دون أن يشعر الإنسان بالفراغ.
وأمر آخر، وهو أن المسلم إذا تذكَّر أنَّ بجنبه كثيراً من السجناء الذين منهم من هو متَّهم بالقتل، ومن هو متهم بالخمور والمخدرات؛ فمن هو متَّهم بنصرة دين الله، فإنَّه من باب أوْلى أحق أن يثبت، ونحن كانت تهمتنا: التهمة الأولى: أنَّنا لسنا مالكيين ولسنا أشعريين ولسنا جنيديِّين، بل نحن خارجون من هذا الثالوث؛ لأنَّا سلفيُّون، وفي كل وسائل الإعلام كانوا يشيرون لنا بأنَّنا وهابيُّون خارجون من الملَّة، ونحن صدَّقناهم وقلنا لهم: نعم! نحن خارجون من الملَّة التي انحرفت عما جاء به محمد #! كما قال شعيب ـ عليه السلام ـ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89] ومن التهم كذلك: أنَّنا وراء بناء سبعة آلاف وخمسمائة مسجد! ومن وراء نشر الحجاب بين النساء! وهي تهم لا نتوب منها، ونسأل الله أن يتحقق مرادنا منها.
^: هل من كلمة أخيرة توجهونها لمجلة البيان؟
- أشكر مجلة البيان وأهلها الذين أعد نفسي منهم، وألحظ أن بين كل عدد وآخر تطوراً ملحوظاً إيجابياً، وأسأل الله أن يوفقهم لكل خير، ويبارك في جهودهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حين يمنُّ الله على المرء بالجلوس إلى هؤلاء الأعلام من رجالات الأمَّة، فإنَّه لا محالة سيشعر بأنَّ وقت اللقاء الذي دام قليلاً من الزمن، مضى كأنَّه نظم خرز انفرط فلم يشعر كم هي مدَّة الوقت الذي تساقطت فيه حبيبات الخرز!(226/14)
أزمة الخليج الرابعة هل تعيد الصراع بين الفرس والروم..؟!
د. عبد العزيز كامل
كثيراً ما تختلط الأمور، وتختلف التفاسير، وتتعدد الاحتمالات في قضية من قضايا الأحداث المعاصرة، حتى يذهب الناس بسبب ذلك إلى تصور «سيناريوهات» متناقضة وضرب تخمينات متعارضة، تحت التأثر بتحليلات مرتجلة أو تسريبات متعمدة، وعند ذلك؛ ربما يكون الحل للوصول إلى رؤية أقرب للصواب، أن يلتجئ الباحثون إلى أمهات الحقيقة قبل بناتها، وإلى أصول الطريق بدل بُنَيَّانها، وإلى الثوابت والأصول قبل المتغيرات والتفريعات، حتى لا نتشعب في شؤون القضية أو نتيه في شجونها.
وقد مرت في العقود القليلة الماضية قضايا وأحداث كثيرة من هذا القبيل، تضاربت آراء الناس حولها من عامة وخاصة، حتى ضربت الأحداث الجميع بما كان الأكثرون لا يتوقعون ولا يصدقون، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما كان في حرب الخليج الأولى بعد الثورة الإيرانية، وما كان في حرب أفغانستان الأولى بعد الانسحاب الروسي، وما كان في حرب الخليج الثانية بعد الغزو العراقي للكويت، وما كان في حرب أفغانستان الثانية بعد أحداث سبتمبر، وما كان في حرب الخليج الثالثة، بعد الإرجاف بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل؛ فقد كان الناس في كل مرة يتساءلون بقلق: أتقع الحرب أم لا تقع ... ؟ أتثبت الأطراف على مواقفها أم تتراجع ... ؟ أيحدث الدمار والاحتلال، أم يتغلب العقل ويسود السلام ... ؟
واليوم تتجدد ظروف مشابهة، في أحوال مقلقة، تتعلق بكل من القضية الفلسطينية بعد فوز حماس، والقضية العراقية بعد بشائر الهزيمة الأمريكية، والمسألة الإيرانية بسبب ما استجد في ملفاتها النووية، وقبل ذلك كان الانشغال بالقضية السورية بعد اغتيال الحريري، لكن الشاغل الأكبر، والتساؤل الأخطر، تفرضه تداعيات الأزمة الإيرانية؛ لأنها باتت تمثل خطراً يفوق ما سبقه من الأخطار، أياً كانت الاحتمالات في الحرب أو تأجيلها أو حتى في إلغائها.
والظاهر أن الأزمة ـ ولا أقول الحرب ـ سيطول الجدال حولها، ولهذا فلا بأس من إطالة النَّفَس حول الغوص في خلفياتها؛ لمحاولة استجلاء مستجداتها وتداعياتها؛ فالقضية ليست تصعيداً ثنائياً بين طرفين يمكن أن تقتصر عليهما الأضرار والأوضار، ولكنها قضية ذات مخارج ومداخل إلى غيرها من القضايا والساحات.
ولا بد من العودة ـ كما سبقت الإشارة ـ إلى أصول المواقف وثوابتها لدى الأطراف، مع الإلمام بخلفياتها العقدية أو العنصرية والمصلحية، والإلماح إلى تطوراتها التاريخية.
والأزمة الإيرانية الحالية، لها أطراف متعددة؛ فالطرف الرئيسي فيها ـ بعد إيران ـ هو الولايات المتحدة الأمريكية، والطرف الثالث هم العرب، وبخاصة دول الجوار الإيراني، والطرف الرابع هو دولة اليهود (إسرائيل) ، والطرف الخامس هو ما يسمى بـ (المجتمع الدولي) ، وأبرز أعضائه فيما يتعلق بتلك الأزمة هو أوروبا وروسيا والصين.
ü نظرة في الخريطة الاعتقادية والعنصرية:
بالعودة إلى ثوابت المواقف في ضوء ذلك سنراها على ما يلي:
1 ـ هناك نِدِّيَّة تقليدية بين كل من الغرب النصراني والطرف الإيراني، وهذه الندية الضدية تعد امتداداً لما كان في سالف الزمان من صراع اعتقادي وعنصري بين الفرس والروم.
2 ـ أن هذا الصراع بين الطرفين؛ كانت ساحته التقليدية عبر التاريخ، تمتد على طول المسافة بينهما من أقصى شرق العراق، إلى أقصى غرب الشام، وما يحاذيهما من أراضي شمال الجزيزة العربية، إضافة إلى ضفافها الشرقية.
3 ـ أن الطرفين المتصارعين على الرغم مما بينهما من بغضاء وعداء على مر التاريخ، كانا ـ ولا يزالان ـ يشتركان في النظر إلى العرب نظرة دونية، ملؤها الاحتقار، وهاجسها السيطرة والاحتكار، وفق مصالح الطرفين فقط.
4 ـ أن هذه الكراهية المشتركة والممتدة عبر التاريخ للعرب، كانت تمزج دائماً بين الحقد العنصري، والبغض العقائدي. فالفرس كانوا قبل الإسلام يزدرون العرب عنصرياً، وبعد الإسلام كانوا ـ إلا من طهره الله بالدين الصحيح ـ يتعالون على العرب دينياً ومذهبياً، ويحاولون أن يجعلوا من أنفسهم حماة دين الإسلام الذي اختصروه كله في محبة أهل البيت بزعمهم. وأما النصارى الغربيون، فقد كانوا قبل الإسلام وبعده يجمعون في موقفهم من العرب بين بغض عنصري وحضاري وبُعد ديني.
5 ـ وأما الطرف الرابع، وهم اليهود، فلا يشك أحد في أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، سواء كانوا عرباً أو عجماً؛ غير أن بغضهم للعرب أشد؛ لأنهم يبغضونهم دينياً كمسلمين، وعنصرياً كعرب، وموقف هؤلاء المغضوب عليهم من النصارى الضالين معلوم، فهم ـ دائماً ـ يتخذون منهم حميراً تُركب للوصول إلى مآربهم، وموقف اليهود من الفرس قبل الإسلام كان فيه تقارب بسبب إعادة الفرس ليهود السبي البابلي إلى فلسطين، وأما بعد الإسلام، فإن بغض العروبة كعنصر، والسنَّة كمذهب، كان عاملاً مشتركاً بين اليهود وجمهور من الفرس المتشيعين، وهذه هي الأرضية التي بنى عليها عبد الله ابن سبأ اليهودي دعائم المذهب الشيعي، حيث حملها فئام من الفرس بحماس، وتصدروا لها بإصرار؛ لأنها ـ باختصار ـ تقوم على بغض يهودي فارسي للعرب، وكل ما يتفرع عن ذلك مجرد تفاصيل.
6 ـ وأما ما يسمى بـ «المجتمع الدولي» بدوله الكبرى، فإن الكِِبْر يجمعها، والمصالح تفرقها، وهي وإن تلاقت مصالحها مع العرب حيناً، فإن غلبة العداوة تتغلب عليها أحياناً، ولا نستثني من ذلك الروس أو الصينيين، فلم يحدث أن أنصفوا المسلمين عموماً والعرب خصوصاً في أية قضية من قضاياهم المعاصرة، مع كامل قدرتهم على ذلك، لا بل إن سياسة الروس على وجه الخصوص، كانت دائماً الطعن في الظهر، مع التبسم في الوجه.
وخلاصة تلك المواقف، هي أن أهل السنة بعامة، والعرب منهم خاصة، هم مجمع عداء الجميع، وموضع مكر الجميع، في الماضي والحاضر والمستقبل، وعليهم جميعاً أن يعوا درس التاريخ في ذلك.
ü بين الفرس والروم ... إطلالة تاريخية ضرورية:
ربما يحتاج المقام في هذا المقال إلى إعادة وصفي (الفرس) و (الروم) للتعبير بهما عن الإيرانيين وأشباههم من جهة، وعن الأوروبيين والأمريكيين من جهة أخرى، ولا غضاضة عندنا ولا عند الأطراف المعنية في ذلك، فالإيرانيون لا يزالون ينتسبون إلى الفرس عنصرياً، وكان الفرس على مرّ الزمان فيهم مؤمنون أبرار، وفيهم منافقون، وفجار، وكفار، والإيرانيون اليوم يتيهون فخراً بحضارة فارس، ولغتها، ومقدساتها. وقد كانت إيران حتى مجيء الشاه رضا بهلوي تسمى (بلاد فارس) ، ولا يزال العالم يستغرب من إصرار إيران على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي.
والعرب قبل الإسلام، كانوا يبادلون الروم الشعور بالتعالي العنصري، فقد كانوا على ذلتهم وقلتهم يستنكفون أن يصاهروا العجم، حتى ولو كان العرب أدنى منهم وتحت هيمنتهم، ولما طلب (كسرى إبرويز) إحدى النساء من أسرة (ابن المنذر) ليتزوجها، رفض النعمان تزويجها لأعجمي، فاستعظم ذلك من أحد عماله، وعزم على الفتك بالنعمان، فتحالفت القبائل العربية مع المناذرة ضد الفرس، ووقعت معركة (ذي قار) التي انتصر فيها العرب على الفرس لأول مرة في التاريخ.
وقد درجت الشعوب على الاعتزاز بأصولها العنصرية مهما اختلفت أطوارها الاعتقادية، فالفرس سيظلون فرساً، والعرب سيبقون عرباً، والروم هم الروم، إلا أن الإسلام أراد قطع دابر التدابر والاختلاف والتفاضل بشأن تلك الانتماءات العنصرية التي لا اختيار للإنسان فيها، ودلَّ الناس على التنافس بما هو في وسع الإنسان وقدرته. قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام. قال راوي الحديث: قلت: الروم؟ قال: نعم!» (1) ، وقال #: «تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون الروم، فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله» ، قال نافع: يا جابر! لا أرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم» (2) ، وقال #: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ» (3) ، وقال #: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس» (4) وقال: «ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم» (5) .
وأما الروم الأوربيون الغربيون، ومن تفرع عنهم من الأمريكيين، فوصفهم بالروم قديماً، يبدو أنه سيعاد استعماله كلما تقارب الزمان، وقد قال النبي #: «ستصالحون الروم صلحاً آمناً، وتقاتلون معهم عدواً من غيركم ... » (6) .
والروم عند العرب هم: الأمة التي تتكون من اليونان والرومان، المنحدرين من الأصل اللاتيني، وأول مواطنهم إيطاليا حالياً بعاصمتها (روما) . وبعد انتشارهم شرقاً وغرباً، كان العرب يطلقون على سكان أوروبا وآسيا الصغرى اسم الروم، دون نظر إلى الأصل اللاتيني، وباستمرار اتساع وجود الروم؛ هيمنوا على منطقة الشام، وكان العرب ينظرون إليها على أنها جزء من سلطان الروم.
وأما الفرس، فموطنهم القديم هو أرض إيران، فإيران تنسب إلى قبائل (الآريين) التي هاجرت من موطنها الأصلي جنوبي بحر الآرال إلى الهضاب المرتفعة أسفل بحر قزوين، فإيران معناها: موطن الآريين.
والجنس الآري والجنس السامي، هما الجنسان الرئيسان اللذان يعدهما العديد من المفكرين الغربيين أساس تقسيم شعوب العالم، ويذهب الكثير منهم إلى أن الجنس الآري متفوق على الجنس السامي، عقلياً ونفسياً، وهذه النظرة العنصرية التي تنطلق من تفوق العرق أو العنصر الآري، هي نفسها التي كان ينظر بها هتلر والنازية الألمانية، في سلوكهم العنصري المتعالي على البشر، وهي ذاتها التي كان ينظر بها الفرس إلى كل من: العرب والروم.
«يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (7) .
ولقد كانت الصراعات سجالاً بين الفرس والروم، وكانت أكثر الأطراف الحاضرة في الصراع القديم هي نفسها الأطراف المتنافسة حالياً عرقياً ودينياً: فرس، وروم، وعرب، ويهود، ووثنيون، وكانت ساحة الصراع في الغالب تلك الأراضي الممتدة بين العراق، والشام، ومصر، وشرق جزيرة العرب.
ولما وقعت المنازلات بين المسلمين والروم في صدر الإسلام، كانت على أرض الشام، ولما أقبل المسلمون على نزال الفرس كانت المعارك الأولى على أرض العراق. فرحى التنافس التاريخي بين الفرس والروم، كانت دائماً تلك المناطق الثلاث من بلاد العرب، واليوم تكاد تتكرر الصورة، ونرى العراق أصبح ساحة تنافس بين الفرس والروم المعاصرين، دون أي اعتبار لسكان البلاد الأصليين، وكذلك تزداد ملامح التنافس بينهما على الشام وشرق الجزيرة العربية لتكشف أن هناك استقطاباً بين المتحالفين مع الفرس، وبين المتحالفين مع الروم.
ومن العجيب أن فارس والروم سيظلان عدواً للمسلمين في العراق والشام، حتى إن الحصار الشديد الذي يفرض وسيفرض على المسلمين في البلدين، سيكون منهما، كما قال النبي #: «يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أىن ذلك؟ قال: من قِبَل العجم، يمنعون ذلك، ثم قال: يوشك أهل الشام ألا يجلب إليهم دينار ولا مدى، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل الروم» (8) .
وهناك فصول من التاريخ: قديمه، ووسيطه، وحديثه تحكي طبيعة ذلك الصراع المزمن، الذي إن تجمَّد مرة بين بعض الأطراف، فإنه سرعان ما يعود مرات وكرات. وسأذكر أبرز تلك المحطات بدءاً من الزمن القديم، مروراً بالوسيط، ووصولاً للعصر الحديث؛ لكي نربط ذلك بعصرنا الراهن، وربما ما يأتي بعده.
ü حرب الخليج الأولى وبواكير الصراع الجديد:
بدأت دورة جديدة من الصراع بين الفرس والروم بمجيء الخميني، فبعد أقل من عام على بدء الثورة، اقتحم الطلبة الإيرانيون (الطالبان الشيعة) سفارة أمريكا في طهران واحتجزوا 52 رهينة من الأمريكيين، وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية تحريرهم بالقوة في عملية عسكرية خاطفة، إلا أن العملية فشلت، وتسبب فشلها في إسقاط الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر) في الانتخابات الثانية، وقطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، وبدأت تمارس عليها ضغوطاً اقتصادية شديدة، فرد (الخميني) بإعلان ثورة ثقافية؛ لتخليص إيران من آثار الحقبة البهلوية التي أغرقت البلاد في التغريب، وقد اقتضت هذه الثورة أن تغلق الجامعات والمعاهد العليا لمدة عامين، ريثما تتغير البيئة التعليمية ليعاد بناؤها على أسس شيعية فارسية صرفة، وهو ما أنشأ جيلاً كاملاً حاملاً للتعصب الشيعي بخلفيات فارسية عنصرية.
وقد أثارت الأحداث الملتهبة للثورة الإيرانية، موجة من الحماس في العالم الإسلامي مع تلك الثورة، إلا أن الوعي العام للأمة لم يكن كافياً لإدراك أن تلك الثورة «الإسلامية» لم تكن إلا ثورة مذهبية شيعية، تعمل لحساب الشيعة فقط؛ بل لحساب الشيعة الفرس فقط، وهذا ما أثبتته الأيام والوقائع، ولا زالت تثبته.
شاء الله ـ تعالى ـ أن تكون إلى جوار تلك الدولة الفتية الناشئة على القومية الفارسية بغلو ظاهر، دولة أخرى تحاول تَزَعُّم العرب تحت راية القومية العربية بغلو لا يقل عن غلو الفرس في قوميتهم. وحاول الروم استغلال نتن الجاهليتين: الفارسية والعربية، غير مغفلين تأجيج الخلافات المذهبية للإيقاع بينهما في حرب ضروس، تستنزف أرواح، وأموال، ومقدرات البلدين، بل ما حولهما من البلدان.
وفي وقت كان فيه (صدام حسين) أحد «عمال» الروم في بلاد العرب، أغرت أمريكا (صدام) بالتحرش بإيران، فاستغل (صدام) بعض النزاعات الحدودية، وهاجم غرب إيران في 22 سبتمبر 1980م؛ لتبدأ بعدها حرب طويلة بين العراق وإيران، كانت صورة مصغرة من الحروب القديمة بين الفرس والروم، حيث وقف الروم بكل ثِقَلِهم وراء العرب، أو بالأحرى وراء الضغط على العرب؛ لكي يحرز الروم الجدد انتصاراً ضد الفرس الجدد، بدماء وأرواح العرب والمسلمين وفي أكثر بلدانهم ثراء ورخاء. واستمرت الحرب في شدّتها وحدتها مدة ثمانية أعوام؛ لتكون أطول حروب القرن العشرين.
وبما أن العرب والفرس معاً كانوا ولا يزالون من ألد أعداء الروم على التاريخ، فقد حرصت الولايات المتحدة على ألا تسفر هذه الحرب عن انتصار أحد من الطرفين؛ بل كانت سياستها المعلنة أن يُهلك كل من الطرفين الآخر، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي اليهودي الأسبق (هنري كيسنجر) عندما قال: «استراتيجيتنا في هذه الحرب، ألا تنتصر إيران، وألا يهزم العراق» . وظل الأمريكيون يؤججون نيران هذه الحرب بأشلاء ودماء الضحايا من الطرفين، حتى زاد عدد قتلاها عن مليون قتيل، والسلاح الذي كان يتقاتل به الطرفان كان يأتيهما من أعداء الأمس، روسيا وأمريكا، فأمريكا كانت تدعم العراق بسلاحها، وروسيا كانت تدعم إيران. بل كانت الولايات المتحدة تمد الطرفين معاً بالسلاح، في فضيحة اشتهرت بفضيحة «إيران كونترا» .
وقد تسببت تلك الحرب في تعطيل المد الثوري الإيراني، وتفنن (صدام حسين) في كسر كبرياء الشيعة الفرس، وهو ما أمد شياطين الفُرقة بطاقة رهيبة من البغضاء والحقد، صبوها مباشرة في أفئدة الشيعة في العالم على كل ما يمت إلى العرب السُّنة بصلة؛ مع أن السنة والعروبة بريئان من تلك العنجهية الجاهلية التي قاتلت باسم القومية العربية ضد القومية الفارسية لحساب الروم.
وانتهت حرب الخليج الأولى بلا غالب ولا مغلوب كما أحب الأمريكان، وتجرع (الخميني) مرارة الهزيمة التي عبر عنها أثناء توقيع الهدنة بأنها: أسوأ من كأس السم؛ ليضاف ثأر آخر من ثارات الشيعة أو «ثارات الحسين» التي ظلت تنتظر ظرفاً مناسباً تنفّس فيه عن نفسها.
وقد خرج (صدام حسين) من هذه الحرب أقوى مما كان قبلها، برغم عدم إحرازه نصراً حاسماً على إيران، ولم تكن هذه القوة العراقية الجديدة داخلة في حسابات الأمريكان، فأغروا (صدام) بمغامرة أخطر من مغامرته ضد إيران، بأن أعطوه ضوءاً أخضر لاحتلال إحدى أكثر الدول دعماً له أثناء حربه مع إيران وهي الكويت، وعندما ألمح الرئيس العراقي (صدام حسين) للسفيرة الأميركية في بغداد (أبريل جلاسبي) بأنه: قد يقوم بعمل ضد الكويت لاعتدائها على نفط العراق، ألمحت تلك السفيرة له بأن: هذا شأن عربي داخلي، لا شأن لأمريكا به!! والتقم (صدام) الطعم طائعاً، وسارع إلى تحريك قواته لغزو الكويت، فدخل عاصمتها في شهر أغسطس 1990م. ووفر بذلك فرصة نادرة للولايات المتحدة؛ لتحشد حلفاءها من الروم، والعرب، والعجم؛ كي تقضي على قوة (صدام) التي أنفقت لبنائها مئات المليارات من ثروات العرب والمسلمين.
وكان طبيعياً أن تفرح إيران بتلك الحرب، وتستغل أجواءها وأصداءها.
وقد حاول (صدام حسين) أن يحسِّن من علاقته مع إيران، فأمر بالإفراج عن آلاف الأسرى، ثم أرسل عدداً من الطائرات الحربية المقاتلة لتأمينها في إيران من القصف الأمريكي، غير أن إيران صادرتها ولم تُعِدْها للعراق.
وبعد حرب الخليج الثانية، وإخراج (صدام) من الكويت، بدأت الولايات المتحدة مرحلة من التحرش بالبلدين معاً، وبدأت استراتيجية احتواء مزدوج لهما، ففرضت على العراق حظراً جوياً، وبحرياً، وتجارياً، استمر حتى حرب الخليج الثالثة عام 2003م. وتسبب الحصار في إعادة العراق إلى حالة من الفقر والتخلف لم تمر عليها قط، وتسبب ـ أيضاً ـ في قتل الآلاف المؤلفة من العراقيين لعدم توافر الدواء، وكان منهم نحو نصف مليون طفل عراقي.
وفرضت أمريكا أيضاً حظراً على جميع أنواع التجارة مع إيران في 6 مايو 1995م، وبعد ذلك بعام أصدرت قانوناً يعاقب أي شركة في العالم تستثمر في إيران، وبدأت أمريكا في الوقت نفسه تدعم توجهاً بدا مسالماً للغرب داخل إيران، وهو التيار الإصلاحي الذي جاء بـ (محمد خاتمي) إلى السلطة في 23 مايو 1997م. وقد وقعت إيران بعد مجيئه في حالة استقطاب بين: من يرغبون في التهدئة مع الغرب وهم الإصلاحيون، ومن يرغبون في التشدد معه، لكن أجواء الأحداث العالمية غلبت صوت المتشددين، خاصة بعد أن وضعت الولايات المتحدة الأمريكية إيران كضلع ثانٍ في محور الشرِّ الثلاثي: العراق، وإيران، وكوريا الشمالية، وهو محور يرمز إلى عداوة الفرس، والعرب، والصينيين، أشد الأعداء مع الأمريكان من النواحي الدينية والعنصرية، وبدا أن الولايات المتحدة التي قضت على الضلع الأول من المحور وهو العراق من خلال حربي الخليج الثانية والثالثة، تريد أن تهيئ لحرب خليج رابعة، تقضي فيها على الضلع الثاني من محور الشر كما أسمته.
وقد أفرز هذا الجو المشحون، مجيء قيادة إيرانية ثورية، أعادت الصراع بين إيران والغرب بقيادة أمريكا إلى المربع الأول ... ليبدأ الفصل الأكثر إثارة وجسارة، وربما خسارة بين الفرس والروم المعاصرين، غير بعيد عن أرض العرب، وثروات العرب، وشعوب العرب.
فما هي الاحتمالات؟ وما هي الاستعدادات؟ وما هي التداعيات؟
هذا ما سوف نتناوله في عدد قادم بإذن الله.(226/15)
النفط مقابل الغذاء على الطريقة الفلسطينية
د. يوسف كامل إبراهيم
في الوقت الذي احتفل فيه العالم بيوم العمال العالمي كتجسيد من الشعوب بوقفتهم إلى جانب العمال ـ في هذا الوقت ـ ليس أفضل وأدل من الوقوف إلى جانب العامل من إعطائه حقه قبل أن يجف عرقه؛ كما دلت عليه الشرائع الإلهية، ونصت عليه القوانين الدولية في نصوص العهد الاقتصادي والاجتماعي لحقوق الإنسان.
ولكن الأمر مختلف مع أبناء الشعب الفلسطيني الذي يعاقب فيه الشعب بأكمله من عمال وموظفين بحرمانهم من مرتباتهم؛ وذلك؛ لأنهم مارسوا العملية الديموقراطية ببراعة تامة، وبنجاح منقطع النظير، وتحت إشراف دولي وشخصيات أمريكية. ولأن نتائج الانتخابات الفلسطينية لم تأتِ على المقاس الأمريكي والأوروبي؛ بدأت أمريكا ـ ووقف خلفها دول أوربية ـ بالتفنن بملاحقة الحكومة الفلسطينية الإسلامية ومحاصرتها؛ للضغط عليها، وابتزازها سياسياً، وبسبب وقوف أبناء الشعب الفلسطيني إلى جانب حكومته المنتخبة، والصبر عليها في ترتيب أوضاعها حتى يتسنى بها السير قدماً؛ فوجئ العالم بوصول الحقد الأمريكي والأوروبي إلى حد تهديد البنوك التي ترغب في مساعدة الحكومة على تخطي أزمتها المالية؛ بالحصار والملاحقة في حال تعاملت مع الحكومة الجديدة. ووصلت آخر الابتكارات لحل أزمة الرواتب إلى اقتراحات من بينها: تأسيس صندوق مالي بإشراف البنك الدولي لدفع الرواتب، أو عن طريق جامعة الدول العربية التي ستقوم بضخ الأموال في حساب كل موظف على حده؛ وكأن الحكومة الفلسطينية ليس لها دخل في ذلك، وأن الموظفين الفلسطينيين هم موظفون في البنك الدولي أو جامعة الدول العربية، وأن الذي سيتحكم في المرتبات والعلاوات بعد ذلك هو البنك الدولي، أو جامعة الدول العربية، ومن ثم في المستقبل سيتم التحكم في الموظفين الجدد من حيث، عددهم، والوزارات التي ينتمون لها، وقد يصل الأمر للسؤال عن الانتماء السياسي للموظف؛ لكي ينزل له المرتب أو لا؟ ومن ثم التحكم في الموظف بناء على المعلومات التي يحصل عليها البنك الدولي، أو أي جهة كانت قد تشرف على التحكم في مرتبات الموظفين في المستقبل.
وباستشراف صورة وحال هذا الابتكار فمن المتوقع أن يكون هدف هذا البرنامج: سلب صلاحيات الحكومة من حيث الجوانب المالية، والإدارية للموظف، وهو الأمر الذي قد يدفع الموظف للتمرد على المسئولين المباشرين له؛ اعتقاداً منه أن راتبه قادم له من البنك الدولي، أو جامعة الدول العربية، وقد يكون لذلك انعكاساته السياسية فيما بعد. ولم يكن هذا الاقتراح إلا على شاكلة برنامج النفط مقابل الغذاء والذي نفذته الأمم المتحدة على العراق، وأصبح برنامج النفط مقابل الغذاء من أكبر البرامج في تاريخ الأمم المتحدة. وفي إطار توجيهات مجلس الأمن، تم تخصيص 72% من عائدات صادرات النفط العراقي لتمويل برنامج النفط مقابل الغذاء، أما الباقي فلا يُعرف أين يذهب؟ وقد اكتشف لاحقاً حجم الفساد الذي أصاب هذا البرنامج، وحجم خطورته السياسية والاقتصادية، فقد كشفت اللجنة المستقلة التي كلفتها الأمم المتحدة للتحقيق في التلاعب في برنامج النفط مقابل الغذاء، حيث اتهمت شخصيات بحصولها علي عمولات مالية، وحصول بعض الشركات النفطية على النفط بأسعار زهيدة جدا. ولم يكن حال الشعب العراقي وأطفاله في رخاء وسخاء من وراء هذا البرنامج، وإنما بقي أطفال العراق يتعرضون للموت؛ بسبب نقص الكثير من المواد الغذائية، والحليب، والأدوية التي لم يكفل هذا البرنامج بتوفيرها حسب حاجات الشعب العراقي؛ وبسبب الفساد الذي أصاب هذا البرنامج، وهكذا كانت فضيحة النفط مقابل الغذاء والذي ذهب ضحيتها العراقيون بهدر ثرواتهم وحرمانهم منها.
ولم يكن يقصد من هذا البرنامج سوى التحكم في لقمة العيش مقابل التحكم في موارد العراق، والتحكم في قراره السياسي. فالإدارة الأمريكية تشرف وتتابع الحياة السياسية في العراق، وتفرض من الشخصيات والقيادات على الحياة السياسية ما تريد.
وعلى الصورة نفسها تأتي الحالة الفلسطينية حيث إرهاصات برنامج المرتبات مقابل التخلي عن الحكومة، أو المرتبات والغذاء مقابل التنازل والتخلي عن الحكومة. ولكن التجربة تقول: أن الشعب الفلسطيني لم يكن في يوم من الأيام الحصارُ الاقتصادي أو التجويعُ سبباً في تنازله؛ فقد صبر سنوات طويلة تحت الحصار، والملاحقة، والتدمير للبيوت والمنشآت والمصانع، وتجريف الأراضي من قبل المحتل، وأنه قادر على تخطي هذه الظروف، وانتصاره في معركة الإيرادات تنبئ بأن هذا الشعب قادر على الصمود في معركة التجويع أو إذلاله. وأثبتت التجربة عبر التاريخ أن الشعب ـ فيما نحسب ـ سيبقى ـ بإذن الله ـ متمسكاً بقيادته وحكومته الحالية، كما أثبت عبر السنوات الماضية تمسكه بحكومته، وسيكون كذلك في ظل الحصار الخارجي التي تقوده أمريكا والدول الأوربية في الوقت الحالي.
العدد 226
__________
(*) أستاذ الجغرافيا البشرية، جامعة الأقصى، غزة.(226/16)
خلفيات وقائع وأحداث مقديشو
(1-2)
الشيخ محمود عيسى
لم يكن خافياً في يوم من الأيام أن زعماء الحرب الأهلية في الصومال ـ خصوصاً أولئك الموجودون في مقديشو ـ لهم علاقات مشبوهة مع أجهزة استخبارات عالمية وإقليمية، وكانت أبرز تلك العلاقات المشبوهة ما أشار إليه تقرير مجموعة الأزمات الدولية ernational Crisis Group (I.C.G) التي ذكرت بأن: مقديشو يتصارع فيها أجهزة استخبارات إثيوبية وأوربية وأمريكية، وبلغت العلاقات المشبوهة ذروتها بعد المواجهات الدامية بين: زعيم الحرب (بشير راجي شيرار) وبين التاجر المعروف (أبي بكر عمر عدان) رئيس مرفأ عيل معان الواقع قرب العاصمة مقديشو من ناحية الشمال، وقد تمكن (بشير راجي) من الاستيلاء على معاقل التاجر المذكور، وبعض سياراته المُصفَّحة وما عليها من أسلحة وذخائر، وبما أن الرجلين ينتميان إلى عشيرة واحدة فقد حاول الأعيان تدارك الموقف واحتوائه، واتصلوا بـ (بشير) ، وطلبوا منه أن يرد ما استولى عليه؛ إلا أنه رفض معللاً: بأن الأمور قد خرجت من يديه؛ لأنه قد أبلغ الأمريكيين بأن هذه السيارات وما عليها لخلية تابعة للقاعدة، وعوضاً عن ذلك فإنه على استعداد تام لدفع قيمة السيارات. وكان رد (أبي بكر عمر) بأنه: ليس في حاجة إلى تعويض مالي، وأنه قادر على استرداد كل ما فقده بعينه؛ إلا أنه يود أن يعطي فرصة لأعيان العشيرة. وبعد أن باءت جهود العشائر بالفشل الذريع لإصرار (بشير) بأن الولايات المتحدة هي التي ترفض ذلك؛ توجه مندوب من (أبي بكر عمر) إلى السفارة الأمريكية في جيبوتي للوقوف على حقيقة تلك المزاعم، والتقى بمسئولين أمريكيين في السفارة الذين طلبوا منه بدورهم التنازل عن الأسلحة والسيارات لصالحها واعتبارها في حوزة أمريكا، ورفض المندوب ذلك قائلاً: بأن سياراته في يد (بشير) ، ولا يزال قادراً على استردادها، وليست في يد أمريكا كما تزعمون. وعلى العموم رجع المندوب إلى مقديشو، وقد تأكد لديه ضلوع السفارة الأمريكية في الحرب.
وفي 18/2/2006 م أعلنت مجموعة من زعماء الحرب تتكون من 9 عناصر عن تأسيس تحالف سموه بـ (تحالف محاربة الإرهاب وإعادة الأمن) ، وهذه أسماؤهم:
1 ـ (محمد قنيري أفرح Qanyare) وزير الأمن الوطني في الحكومة الانتقالية الحالية.
2 ـ (موسى سُودِي يلَحُو) وزير التجارة في الحكومة الانتقالية الحالية.
3 ـ (عمر محمد محمود «فنش» Finish) وزير الأوقاف والشئون الدينية في الحكومة الانتقالية الحالية.
4 ـ (بوتان عيسى عالم) وزير وزارة نزع السلاح، وتأهيل المليشيات في الحكومة الانتقالية الحالية.
5 ـ (بشير راجي شيرار) أحد أمراء الحرب في مقديشو.
6 ـ (عبد الرشيد آدم شري «القيتي» Ilqayte) رجل الأعمال، ومالك الفندق الصحفي.
7 ـ (وعبد الشكور علي حرزي) زعيم حرب جديد.
8 ـ (عبدي نوري زياد «عبدي وال» Abdi Waal) .
9 ـ (عيسى عثمان) زعيم حرب جديد.
وقد انضم إليهم اثنان آخران، وهما:
10 ـ (محمد عمر حبيب «محمد طيري» Mohamed dheere) حاكم محافظة شبيلي الوسطى.
11 ـ (عبد حسن عواله «قيبديد» qeybdiid) المرشح لتولي منصب قائد البوليس.
وأشار الإعلان إلى أن هذا التحالف كان قد بدأ معاركه حتى قبل تأسيسه، وأن المواجهات التي حدثت بين (بشير راجي شيرار) عضو التحالف وبين (أبي بكر عمر عدان) كانت الشرارة الأولى للحرب، وفي اليوم نفسه شن التحالف حرباً على المحاكم الإسلامية، وهاجم معاقلها في الأجزاء الغربية من العاصمة، وكان الصِدام مروعاً، وشديد الوطأة، أسفر بعد حرب دامت أربعة أيام عن هزيمة ثقيلة للتحالف، وانتصار كبير لقوات المحاكم الإسلامية، ولعل أبرز ما أدى إليه يتمثل في الآتي:
1 ـ إغلاق مطار داينيلي Daynile التابع لـ (محمد قنيري أفرح) زعيم الحرب البارز ووزير الأمن الوطني والركن الركين للتحالف.
2 ـ تشديد الخناق على مقره.
3 ـ سيطرة المحاكم الإسلامية على معظم الطرق الرئيسة في مقديشو.
4 ـ بروز الولاء الذي يكُنُّه أهل العاصمة للمحاكم الإسلامية حيث تطوع الآلاف من أجل الدفاع عنها.
وكما هي عادة الحروب في البلاد فإن العشائر حاولت إخماد نار الحرب، وأعلن اتحاد المحاكم الإسلامية ترحيبه بأي مبادرة تؤدي إلى حقن الدماء بشرط: أن يمتنع قادة التحالف عن محاولاتهم الفاشلة من قتل وتسليم قادة المحاكم الإسلامية وعلماء الإسلام في البلد إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من السعي الحثيث من قبل زعماء العشائر نحو الصلح إلا أن جهودهم كلها باءت بالفشل؛ بسبب تعنت قادة التحالف الذين رفضوا مقترحات الحل، وضربوا بها عرض الحائط.
وكانت مقترحات الحل كالتالي:
1 ـ حَلُّ التحالف الذي لم يؤدِ إلا إلى إراقة الدماء.
2 ـ الموافقة على المصالحة مع المحاكم الإسلامية.
3 ـ إعلان وقف إطلاق النار شفاهة عبر الإذاعات أو الكتابة في الصحف.
وكل هذه المقترحات رفضها التحالف قائلاً:
1 ـ أنه لا يمكنهم حل هذا التحالف أو نقضه بحجة أنه اتفاق مع الولايات المتحدة.
2 ـ كما أنهم لا يستطيعون إعلان الصلح مع من سمَّوَهم بـ (الإرهابيين) .
3 ـ أن إعلان وقف إطلاق النار لا يمكن؛ لأنه يتناقض مع أهداف التحالف.
وبطبيعة الحال فإن الحرب توقفت بعد أن عجز التحالف عن الاستمرار فيها، وجاء زعماء العشائر المقربون لـ (محمد قنيري) وتعهدوا بأنهم: يمارسون الضغط عليه، حتى لا يطلق نارًا تجاه قوات المحاكم، ووافقت المحاكم الإسلامية على ذلك.
وحينما وصلت الأمور إلى طريق مسدود تشاور وجهاء العاصمة من: مشائخ، وزعماء العشائر، والتجار، ومؤسسات المجتمع المدني، وبعد لقاءات مطولة توصلوا إلى قرارين:
1 ـ الاعتبار بأن هذه الحرب حرب بالوكالة؛ حيث إن الأموال الأمريكية هي السند الوحيد لزعماء الحرب (إياهم) لمواصلة حربهم.
2 ـ تشكيل وفد رفيع من هذه الشرائح يتوجه إلى جيبوتي لعقد لقاء مع قائد القوات الأمريكية المتمركزة في جيبوتي.
وبناءً على ذلك تم تشكيل هذا الوفد من ممثلي شركات الاتصالات، والحوالات، والمشائخ، وزعماء العشائر، ومؤسسات المجتمع المدني، والتقوا بمسئولين أمريكيين، ونقلوا إليهم تصور أهل مقديشو للأحداث الأخيرة، وكانت كالتالي:
1 ـ إننا نعتقد أنكم المشعلون هذه الحرب علينا بالوكالة.
2 ـ إننا نطلب منكم أن توقفوها، وتدفعوا تعويضاً عن الخسائر التي نتجت عنها.
3 ـ إننا لا نعادي أمريكا، ولا نريد أن تتضرر مصالحنا في ذلك.
4 ـ إن الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الأمور في العاصمة هم الوجهاء، وليس زعماء الحرب المكروهين من قبل الشعب.
وقد أنكر الجانب الأمريكي هذه الحقائق كلها، وقالوا: إن الصومال لا تقع ضمن نطاق عملهم، ولا علاقة لهم بزعماء الحرب، ثم أردفوا بسؤالين هما:
1 ـ ما موقفكم من الحكومة الصومالية الانتقالية؟
2 ـ ما الذي نستطيع أن نساعدكم عليه؟
وكان الرد بأن: الحكومة حكومة صومالية ونحن نؤيدها، وأن أفضل مساعدة يمكنكم أن تقدموها لنا هي تأييد حكومتنا، وتمكينها من بسط سيطرتها على ربوع البلاد حتى تتمكن من إعادة الأمن، والاستقرار، وقمع كل الخارجين على المجتمع.
والخلاصة: أن هذا اللقاء كان لتوضيح المواقف، وإن لم يؤدِ إلى نتائج ذات قيمة.
وبعدها بأسابيع اندلع القتال بين المحاكم الإسلامية والتحالف في الضاحية الشمالية من العاصمة، وبعد مواجهات عنيفة ولمدة خمسة أيام مُنِيَ التحالف بهزيمة لا تقارن بالسابق سواءً من حيث الإصابات والعتاد والمواقع التي فقدها، وكان أبرز نتائجها:
1 ـ إغلاق مطار زعيم الحرب (بشير راجي شيرار) .
2 ـ طرد التحالف من المواقع التي استولوا عليه في المواجهة السابقة مع رجل الأعمال (أبي بكر عمر عدان) .
3 ـ تكبد التحالف خسائر في الأرواح غير مسبوقة؛ إلا أن هذه المواجهات حصدت من أرواح الأبرياء أعداداً كثيرةً بلغت المئات.
هذا وقد اتضح للتحالف أن المواجهات التي تقع في المناطق المكشوفة ليست لصالحهم، وبالتالي اتخذوا استراتيجية مفادها القتال وسط المدنيين؛ اعتقاداً منهم بأن ضراوة الحرب ستؤدي إلى نفور الناس من المحاكم الإسلامية، ولكن خاب ظنهم؛ إذ أن هذه المعارك مازادت الناس إلا التفافاً حول المحاكم، مما مكَّن المحاكم من بسط سيطرتها على معظم العاصمة (حوالي80%) .
وفي يوم السبت 13/5/2006م حدثت مواجهات افتعلها التحالف وسط منطقة آهلة بالسكان أدت إلى خسائر فادحة في الأرواح لا سيما بعد أن استخدم التحالف مدافع الهاون المخصصة لإخراج القوات المعادية من الخنادق؛ إلا أنهم استخدموها لضرب المدنيين بصورة عشوائية مما أوقع خسائر بشرية فادحة في صفوف المدنيين، والإصابات أعلى بكثير مما بثته أجهزة الإعلام، فالوفيات تجاوزت المئتين.
وعلى الرغم من تلك الخسائر لهذه المعركة إلا أنهم يصرون ـ أيضاً ـ على عدم إيقاف الحرب، ولا يرغبون في التفاوض مع من يسمونهم بـ (الإرهابيين) ؛ بل رفضوا حتى وقف إطلاق النار.
وفي يوم الخميس 25 مايو 2006 م شن التحالف هجوماً مفاجئاً على قوات المحاكم الإسلامية من ست جبهات متعددة من داخل العاصمة مقديشو وضواحيها؛ وتصدت قوات المحاكم الإسلامية التي تتلقى دعماً من الشعب تلك الهجمات بضراوة، وكبّدت بعد حرب دامت أربع ساعات قوات التحالف خسائر فادحة، فقد التحالف من جرائها السيطرة على مناطق حيوية في مقديشو، وقتل ثلاثة من قادته الميدانيين، إضافة إلى الأسلحة والدخائر التي استولت عليها قوات المحاكم الإسلامية، كما حققت انتصارات ـ أيضاً ـ في المواقع الأخرى، وكانت النتيجة كالآتي:
1 ـ الاستيلاء على تقاطع الطرق الرئيسة ذي الأهمية الاستراتيجية في مقديشو (4 كيلو متر) ؛ الرابط الوحيد بين مواقع عناصر التحالف؛ مما وضع عائقاً على تحركاتهم وأنشطتهم العسكرية، واحتبست قواتهم على أجزاء متفرقة من العاصمة.
2 ـ الاستيلاء على معاقل ثلاثة من التحالف، وهم: عبد الرشيد آدم شري (القيتي) ، وعبدي نوري زياد (عبدي وال) ، وعبد الشكور علي حرزي.
3 ـ السيطرة على الفندق الصحفي معقل التحالف الذي غالباً ما يعقد فيه اجتماعاته، ويتلقى تعليماته من المخابرات الأمريكية، ويكيد مؤامراته ضد الشعب الصومالي المسلم.
4 ـ الهزيمة النفسية التي لحقت بأفراد قوات التحالف بعد الهزائم المتلاحقة في ميادين القتال كلها، إضافة إلى الشكوك التي تنتاب قواته؛ حيث ينمو بينهم شعور أنهم إن قتلوا في هذه الحروب يخسرون الدنيا والآخرة.
6 ـ الحصول على الثقة من قبل الشعب الذي ازداد إداركه من أن الدافع الحقيقي للتحالف على هذا الحرب هي الأموال التي يتلقاها من أمريكا؛ لإبادته على سبب مزاعم وهمية لا حقيقة لها؛ وأن هذه الحرب انتقام من أمريكا على ما فقدته من جنودها في الصومال عام 1993م، كما أنه جزء من الحرب التي تُشن على الشعوب الإسلامية.
وبعد هذا كله لم يفق قادة التحالف عن غيهم العميق، ولم ينتهوا عن بغيتهم الشنيعة من مطاردة، وقتل، وتسليم قادة المحاكم والعلماء للمخابرات الأمريكية؛ بل أصروا على ذلك، ولم يلقوا بالاً لمطالب الوسطاء من الشعب الذين ينادون دائماً بوقف إطلاق النار، والالتقاء على طاولة المفاوضات، وحل القضية سلمياً.
وفي يوم الأربعاء 31 مايو 2006 م واصلت قوات المحاكم الإسلامية زحفها نحو مواقع التحالف، واصطدمت مع مليشياته في حي سوق المواشيAnimal market الواقع شمال مقديشو الذي يسيطر عليه وزير نزع السلاح وتأهيل المليشيات في الحكومة الانتقالية الحالية (بوتان عيسى عالم) العضو البارز من التحالف، وبعد فترة وجيزة ـ قامت فيها حرب ضرورس ـ انتصرت قوات المحاكم على أعدائها، وألحقت بهم خسائر كبيرة، واستولت على عدد من العربات، والأسلحة الثقيلة، والخفيفة، والذخائر، وكانت النتيجة كالآتي:
1 ـ الاستيلاء على معقل عنصر التحالف (بوتان عيسى) الوزير المذكور، وجميع مواقع قواته.
2 ـ السيطرة على طريق بلعد الرئيسي الذي يربط العاصمة مقديشو بوسط البلاد وشمالها.
كما أن الانتصارات التي تحققها قوات المحاكم الإسلامية المساندة من قبل الشعب تتوالى كل يوم، فسيطرت يوم 4/6/2006م على مدينة بلعد الواقعة على نهر شبيلي على بعد 30 كلم شمالا من مقديشو، وعدد كبير من القرى المحيطة بها الواقعة على طول الشارع الرئيسي الذي يربط العاصمة بالمحافظات الوسطى والشمالية، إضافة إلى القاعدة العسكرية (هيل وين) .
ونظمت الجموع الغفيرة من سكان بلعد والقرى المجاورة لها مسيرات شعبية واسعة تعبيراً عن فرحتها، وتأييدها، وترحيبها لقوات المحاكم الإسلامية التي ما زالت تطارد فلول مليشيات التحالف المشئوم من قبل المواطنين؛ لأن أعضاءه صاروا دائماً عقبة أداء أمام كل مصالحة وطنية شاملة.
وكان في طليعة الفارين (محمد قنيري) و (بوتان عيسى عالم) اللذين وصلا في آخر مرحلة إلى مدينة (جوهر) عاصمة شبيلي الوسطى التي كان يسيطر عليها (محمد عمر حبيب «محمد طيري» ) العضو الكبير من التحالف، وتمركزت مليشياتهم هناك على الرغم من أن قوات المحاكم الإسلامية على مقربة منها، ويمكن في أي لحظة أن تصطدم معها لتحرير مدينة جوهر نفسها ومحافطة شبيلي الوسطى عموماً، وتطهيرها من دنس التحالف الذي ما زال يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقادته يبحثون عن ملجأ ومأمن لأنفسهم.
وعلى صعيد آخر داخل مقديشو؛ استولت قوات المحاكم الإسلامية على داينيلي وبعض جيوب أخرى في مقديشو التي كانت تحت نفوذ التحالف وخاصة (محمد قنيري أفرح) بعد أن استسلمت المليشيات الموجودة هناك، وسلمت أسلحتها كلها للمحاكم بدون أي مقاومة تذكر، كما يرجى أن تحذو حذو ذلك أحياء أخرى في مقديشو مازالت تحت قوة مليشيات التحالف.
الجدير بالذكر أن العاصمة مقديشو تشهد تحولاً تاريخياً بعد انهيار قوة زعماء الحرب، وبروز قوة إسلامية تعتزم إعادة الأمن في مقديشو مما يبعث الأمل في سكانها بعد 16 سنة من الفوضى وعدم الاستقرار، وتعتزم هذه القوة الإسلامية تشكيل هيكل إداري في العاصمة مقديشو، وأيضاً بدء حوار مع كل الأطراف المعنية بالمصالحة الصومالية، وقال رئيس اتحاد المحاكم الإسلامية (شريف الشيخ أحمد) في مؤتمر صحفي عقده يوم الأحد بتاريخ 4/6/2006م: (إنه يقدم الشكر بعد الله إلى الشعب الصومالي الذي وقف مع المحاكم الإسلامية في حربها مع التحالف الذي انتهك حقوقه وكرامته) ، وقال في معرض حديثه: (إننا لا نريد أن نستأثر بالسلطة وإدارة البلاد دون مشاركة الأعيان، والوجهاء، والمثقفين) ، وعبَّر عن: (أن المحاكم الإسلامية مستعدة للتفاوض مع كل من يعمل لمصلحة الشعب الصومالي) في إشارة واضحة إلى الحكومة الصومالية الانتقالية التي تتخذ مقراً مؤقتاً لها في مدينة (بيدوا) على بعد 240 كلم من مقديشو.
ü موقف قادة التحالف من الحكومة المؤقتة:
من المعلوم أن أربعة من عناصر هذا التحالف هم وزراء في الحكومة وأعضاء في البرلمان الذي تشكل في كينيا، ولكنهم كانوا العقبة الرئيسة أمام انتقال الحكومة الفيدرالية إلى العاصمة، ثم رفضوا الانتقال إلى مدينة جوهر عاصمة محافظة شبيلي الوسطى باستثناء (محمد عمر حبيب) الذي استقبل الحكومة في مدينة جوهر، إلا أنه اختلف ـ لاحقاً ـ مع الحكومة التي اتخذت من (بيدوا) مقراً مؤقتاً لها فيما بعد.
ولم ينتقل أي من هذه المجموعة إلى (بيدوا) ، بل وأعلن بعضهم أنهم لا يعترفون بالحكومة، وقد قال (محمد قنيرس) وزير الأمن الوطني بالحرف الواحد: (إنه ليس هناك رئيس، ولا رئيس وزراء ولا يرى نفسه وزيراً) ، كما تساءل (موسى سودي يلحو) وزير التجارة: (ما هو الوزير؟ وما هي الوزارة؟ وما هي الحكومة؟ حكومة تمتنع أن تعمل في العاصمة!! ... لا أعترف بها ... ) . وبعد اندلاع حروب التحالف مع المحاكم أعلن رئيس الوزراء: بأن التحالف غير شرعي وغير معترف لديه، وأن المحاكم الإسلامية غير إرهابية بل هي أجهزة أمنية، وستتعاون معها الحكومة. واعتبر حرب التحالف بأنها حرب تشن ضد المدنيين في مقديشو، وتلاه خطاب رئيس الجمهورية الذي أدان التحالف، وطلب من الولايات المتحدة الأمريكية بألا تدعم زعماء الحرب الذين يمارسون الإبادة ضد الشعب، ودعاها بدلاً من ذلك: إلى التعاون مع الحكومة حتى تتمكن من بسط سيطرتها على البلاد.
وفي خطاب آخر أعلن: بأن بقاء أعضاء التحالف كوزراء في الحكومة غير مقبول؛ بسسب مسلكهم الدموي، ولكنه اعتبر أن البت في ذلك من اختصاصات البرلمان ورئاسة الوزراء.
وفعلاً حدث ذلك في مساء 4/6/2006م بعد اجتماع عقده رئيس الوزراء مع أعضاء حكومته؛ وأصدر قراراً بإقالة الوزراء الأربعة الذين كانوا يمثلون المحاور الرئيسة للتحالف عن مناصبهم الوزارية، وهم: وزير التجارة (موسى سودي يلحو) ، ووزير الأمن القومي (محمد قنيري أفرح) ، ووزير نزع السلاح وتأهيل الميليشيات (بوتان عيسى عالم) ، ووزير الأوقاف والشئون الدينية (عمر محمد محمود «فينيش» ) ؛ وذلك بسبب مخالفتهم للدستور، ودورهم في قتل الأبرياء، ونقضهم اتفاقات سابقة لوقف إطلاق النار.
وصرح رئيس الوزراء: أن حكومته سوف تفتح حواراً مع المحاكم الإسلامية التي تقود الثورة الشعبية، وجميع ممثلي المؤسسات التجارية، وشرائح المجتمع في مقديشو.
ü ماهية المحاكم الإسلامية:
منذ سقوط النظام العسكري في الصومال خاضت البلاد حروباً أهلية طاحنة تدهورت بسببها الأوضاع الأمنية، وفشل قادة المليشيات في التغلب على هذه الفوضى طيلة الأعوام الماضية، وفرّ أعداد غفيرة من المواطنين من ديارهم خوفاً على أرواحهم وممتلكاتهم، وانتشرت ظاهرة قُطَّاع الطرق، ووضع الحواجز على معظم شوارع مقديشو؛ لابتزاز المارين حيث وصلت الأمور إلى درجة يصعب التغاضي عنها.
وكرد فعل لهذا قامت قيادات شعبية من زعماء العشائر ورجال الأعمال والمواطنين في العاصمة مقديشو لمعالجة الوضع المتأزم، وجلسوا لبحث القضية وطرح الحلول الناجعة لها، وأخيراً تم التوصل إلى الحل الأخير؛ وهو العودة إلى كتاب الله وتطبيق الشريعة الإسلامية.
وبناءً على ذلك أنشئت المحاكم الإسلامية التي كانت تتمتع بدعم وتأييد شعبي، وخاصة رجال الأعمال، والمؤسسات التجارية؛ إلا أن الطابع القبلي كان يغلب عليها؛ إذ أن كل محكمة كانت تعمل في الحي الذي تقطنه قبيلة معينة، وكان الهدف منها يوم ذاك درء عدوان أبناء القبيلة على القبائل الأخرى، وعلى داخل القبيلة نفسها؛ حيث أصبحت الجهة الوحيدة التي تفصل الخصومات، وتعتقل الجناة، وأنيط بها إيقاف عمليات القتل، والنهب، والاغتصاب، والخطف، ونجحت في ذلك إلى حدّ بعيد، وكانت تعتمد هذه المحاكم في مصروفاتها على ما يقدم لها أفرادها طبقاً للائحة تأسيسها.
وبمرور الزمن شعرت المحاكم الإسلامية أنه لا بد من وجود جهاز إداري واحد يربط بينها، وأنها إن عملت على هيئتها الحالية، وعلى طابعها القبلي فإن دورها سوف يضعف، وإنها لن تجدي ثمارها المطلوبة.
وعلى هذا تشكلت المحاكم الإسلامية تحت مظلة اسمها «اتحاد المحاكم الإسلامية في مقديشو» .
الذي هو عبارة عن أجهزة أمنية وقضائية أسهمت إلى حد كبير في إعادة الأمن والاستقرار إلى أجزاء كبيرة من العاصمة مقديشو، ومحاربة الفساد الأخلاقي والرذائل.
واستحوذ ـ ولله الحمد ـ اتحاد المحاكم الإسلامية على ثقة الشعب الصومالي المسلم بعد الخراب الذي حلّ بالبلاد، وسقوط كل المؤسسات الشرعية والرسمية، وساعد في ذلك محبة الناس للشريعة الإسلامية، وتقديرهم للعلماء وما يقومون به لصالحهم؛ في ظل غياب حكومة حقيقية قادرة على حمايتهم، ومنع أي إعتداءات عليهم، إضافة إلى ما تتمتع به المحاكم الإسلامية من قوة تنظيمها، ونزاهة قادتها وقواتها، وأن سيطرتها على 90% من مقديشو تقريباً يوحي بمستقبل باهر.
وفي الختام نفيدكم بأنه يجري حالياً جلسات مع شيوخ القبائل، والعلماء، والمحاكم، وقادة المجتمع المدني لمناقشة المستجدات الأخيرة في العاصمة، وتشكيل نظام يحكمها؛ لذا نهيب بالعالم الإسلامي والعربي الوقوف إلى جانب هذه القيادة الجديدة في العاصمة، ومساعدة الشعب الصومالي المنكوب للخروج من أزمته، والعودة بالبلاد إلى سابق عهدها؛ حيث الأمن والأمان(226/17)
حماس بين الصمود السياسي والعودة إلى السلاح
ممدوح إسماعيل (*)
منذ أن ظهرت حركة المقاومة الإسلامية حماس عام 1987م في انتفاضة الحجارة، وهي تشغل اهتمام الجميع سواء العدو المحتل الصهيوني، أو المؤيدين له سواء من الولايات المتحدة وأتباعها، وـ أيضاًًً ـ الحركات الفلسطينية العلمانية. في حين أنها نالت تأييداً من الشعب الفلسطيني. وهذا الانشغال جعل حركة حماس تهتم بهذه الجبهات المعادية كلها على قدر متنوع؛ تبعاً لشدة الهجوم منها، ونوعه، ودائماً كانوا حاضرين في أجندة حركة حماس. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر عام 2000م تبوأت حركة حماس ريادة المقاومة على الأرض الفلسطينية بجهادها، وتضحياتها بكل ما تملك. وقد سجلت الإحصائيات تفوقاً ملحوظاً لحماس على حركات المقاومة كلها في عدد العمليات ضد العدو، وعدد ما ألحقته من الخسائر في صفوف العدو، وـ أيضاًًً ـ كان أكبر عدد من الشهداء في صفوف حماس، ولم يبخل قادتها أن يكونوا في مقدمة صفوف الجهاد بصدور مكشوفة؛ حباً للشهادة، وعلى رأسهم قائد حماس، وأمير شهداء فلسطين الشيخ أحمد ياسين ـ رحمه الله ـ نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدا.
وخلال خمس سنوات من الجهاد المتواصل وضح بشدة داخل الصف الفلسطيني وجود ثغرات صنعها عملاء متنوعون بأوجه كثيرة منهم:
أولاً: المفسدون للجهاد العسكري، وهم صنفان:
1 - عملاء متعاونون مع العدو على قتل المجاهدين، وهم الأخطر. وقد تسببوا في مقتل الكثير من المجاهدين.
2 - عملاء متعاونون مع العدو اليهودي على إفشال العمليات الجهادية.
ثانياً: المفسدون سياسياً:
وهم عملاء متعاونون مع العدو على الانقلاب على الجهاد الفلسطيني، والالتفاف عليه بعمليات تسوية سياسية تضيع فيها حقوق الشعب الفلسطيني.
ثالثاً: المفسدون اقتصادياً:
وهم السارقون لأموال الشعب الفلسطيني، المخربون لاقتصاده، ورغم ذلك كله تَوَاصَلَ الجهاد الفلسطيني، واهتز كيان العدو، وترنح، وضغطت الولايات المتحدة الأمريكية لإنقاذه عبر ما يسمى بخطط التسوية السياسية، وانصاعت كثير من الدول العربية للضغط الأمريكي وضغطت على المقاومة الفلسطينية، وقدمت مشروعات سياسية استسلامية بشكل عربي، ووصل الضغط إلى ما يعرف باتفاق الهدنة في القاهرة والذى لم يلتزم به العدو الصهيوني، وكان ملفتاً أن حماس التزمت بالاتفاق، وظهرت بأجندة سياسية، وبلا شك أن لها ظروفها واستراتجيتها، وكان واضحاً أنها لن تتخلى عن سلاح المقاومة العسكري مطلقاً، ولكن وضعت أولوية مؤقتة لنضال سياسي خاضت على أساسه الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ونجحت وحصلت على أغلبية برلمانية.
وهنا وقفة هامة؟
فعلى قدر الفرحة التي غمرت قلوب المحبين والمتعاطفين لصعود حماس السياسي، على قدر ما كان هناك الكثير من التخوفات، وقد أثبتت الأيام والأحداث أن صعود حماس على قدر ما كان صعوداً على الأشواك؛ على قدر ما كان ينتظرها من وحوش ضارية على قمة السلطة السياسية في فلسطين.
والتخوفات لم تكن من فراغ؛ لعدة أسباب:
الأول: أن المشاركة السياسية في أىة دولة تحت الاحتلال، تُقوي من كيان الاحتلال ولا تضعفه، بل الذى يَضعُف وَيقِل هي المقاومة المسلحة المزعجة لها. ويحسب للاحتلال أمام المجتمع الدولي سماحه بالعملية السياسية لأعدائه من المقاومة.
ثانياً: المشاركة السياسية لحركةٍ مجاهدةٍ تضعف من قوة الجهاد للمحتل، وهو السبيل الأنجح في طرد المحتلين على مدار الزمان، والأيام؛ وتجارب البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها تنظق بأن سلاح المقاومة العسكرية كان السبيل الناجح لطرد المحتلين، وتحرير الارض.
ثالثاً: يشهد بذلك تجارب بعض المحسوبين على الإسلاميين في المشاركة السياسية في دول إسلامية محتلة، في العراق، وأفغانستان، التي أحدثت صدعاً في صف جهاد المحتل.
رابعاً: من المعلوم أن التجربة الوحيدة في العالم العربي التي حصل الإسلاميون فيها على أغلبية عبر الصناديق، واقتربوا من السلطة كانت في الجزائر، وأن أعداء الإسلام ووحوش السلطة لم يمهلوا الشعب الجزائري أن يفرح باختياره الحر، ولا حتى دعوى الديمقراطية الزائفة أن تهنأ بصعود الإسلاميين السياسي فانقلبت الجرائر إلى حمامات من الدماء.
وأخيراً: سيطرة حركة فتح العلمانية على مقاليد السلطة عسكرياً، وأمنياً، واقتصادياًً، وعلاقتها السرية السياسية والأمنية مع أطراف كثيرة، لن تجعل حكومة حماس تهنأ ولا تستقر سياسياً، ولا أمنياً، ولن تتردد في ضرب حكومة حماس بكل الوسائل لإظهار فشلها ... وخلاف ذلك نجد أن الساحة السياسية العربية شهدت صراعاً متنوعاً بين العلمانيين في العالم العربي والإسلاميين، فنجد في بعض الدول مساحة محدودة لمشاركة الإسلاميين البرلمانية، والسياسية، ترتفع في بعض الدول كالكويت إلى توزير شخص أو اثنين من الإسلاميين، وتنخفض في بعض الدول إلى معارك طاحنة من أجل الوصول فقط إلى البرلمان؛ كما حدث في مصر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي حصل فيها الإخوان المسلمون على ثمانية وثمانين مقعداً، وخلاف ذلك يوجد حضور برلماني، وسياسي هادئ وملفت للإسلاميين في المغرب، والأردن، والسودان، واليمن، وتواجد نسبي في البحرين، ولبنان، والجزائر.
والتجارب الإسلامية السياسية كلها تنطلق من نطاق المتاح والممكن، وتقدير المصلحة في ظل ظروف، وضغوط كثيرة متنوعة؛ ولكن يبقى أن الأمر كله اجتهادي، وقابل للجدل، واختلاف الرأي مع تقدير، واحترام جميع الآراء المختلفة واجتهادها.
أما صعود حماس لقمة السلطة السياسية في فلسطين بحصولها على الأغلبية البرلمانية التي أعطتها حق تشكيل الوزارة، فكان ملفتاً جداً من عدة وجوه:
أولاً: أنه صعود سياسي لجماعة إسلامية في ظل احتلال؛ في الوقت الذى فشلت فيه الجماعات الإسلامية كلها في العالم الإسلامي في الصعود السياسي في ظل نُظُم حكم علمانية وطنية، ودول مستقلة بشكل رسمي إلا في تركيا؛ ولها ظروفها الخاصة. والفشل له أسباب متنوعة منها:
أ - عدم وجود تطبيق حقيقي، ونزيه لما يدعونه من ديمقراطية.
ب - التزوير المفضوح ضد الإسلاميين في الانتخابات.
ثانياً: أن آليات صعود حماس كان جهاد المحتل، وتضحيات عظيمة من دماء الشهداء، عكس كل برامج السياسيين في العالم التي تقدم برامج من الخدمات المتنوعة، والمنافع؛ للحصول على أكبر نسبة من التصويت، ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أنه: من حق حماس أن تحصل على هدنة تكتيكية تطول أو تقصر بحسب ظروفها التي تعلمها وتعييها قيادتها جيداً.
ثالثاً: أن صعود حماس كان في ظل قوة حركة فتح العلمانية؛ قوتها تنبع ـ فقط ـ من الهيمنة على مقاليد العملية السياسية، وخباياها، وـ أيضاًً ـ على كل مقاليد السلطات الأمنية العسكرية، ولها ارتباطاتها الدولية التي تقويها باستمرار.
رابعاً: جاء الصعود في وقت تقود فيه أمريكا حرباً ضد ما أسمته هي بالإرهاب، ووضعت حماساً على قائمة الإرهاب؛ فكان صعودها السياسي المدعم شعبيا شوكة في حلق الأمريكان.
خامساً: حماس أول جماعة إسلامية في العالم العربي تتمكن من تشكيل وزارة؛ ويعتبر إسماعيل هنية أول رئيس وزارة في العالم العربي ينتمي لجماعة إسلامية.
سادساً: دخلت حماس الانتخابات بشعار «يد تقاوم، ويد تبني» وهو إصرار وتأكيد على شرعية المقاومة، ورفض الاحتلال، والرغبة في بناء سليم، ونظيف لفلسطين ... وقد استلمت حكومة حماس السلطة في ظل:
1 - خراب اقتصادي، وخزانة فارغة؛ بفعل الاحتلال والمفسدين الفلسطينيين.
2 - حرب داخلية متنوعة من جبهة كبيرة في حركة فتح، ومن سار على دربها من الحركات العلمانية الداخلية الفلسطينية.
3 - حرب متنوعة دولية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن سار على دربها من الدول. ومن المثير للسخرية أن أمريكا تدَّعي سعيها لفرض الديمقراطية في العالم العربي، ثم ترفض الاعتراف بحكومة حماس التي جاءت إلى السلطة عبر انتخابات حرة، وديمقراطية؛ بل تزيد على ذلك قيادة حرب ضد حكومة حماس.
4- الحرب المتواصلة الشاملة من الاحتلال الصهيوني، ومواصلة سياسة الاغتيالات، والاعتقالات، والتوغل العسكري داخل مناطق الحكم الذاتي.
وقد شمرت حكومة حماس عن ساعديها لمواجهة كل تلك الضغوط الصعبة جداً على أية سلطة في دولة مستقلة تملك مقومات؛ فما بالكم؛ وحكومة حماس لاتملك أية مقومات إلا قوة عقيدتها، وتأييد شعبي ممزوج بحب جارف؟ إلا أنها قاومت وجاهدت كل تلك الضغوط الرهيبة؛ السياسية، والاقتصادية، والعسكرية.
فنجحت حماس بدايةً في الآتي:
1 - تشكيل الحكومة رغم كل المعوقات التي وُضِعَتْ عمداً.
2 - الحصول على اعتراف سياسي عربي يشبه الإجماع، واعتراف ـ أيضاً ـ من كثير من الدول الإسلامية، وبعض الدول الأجنبية.
3 - نجحت حماس عبر قيام قيادتها بجولات في الحصول على وعود بمعونات مالية عربية.
4 - الصمود أمام المحاولات الداخلية المستمرة من رئيس السلطة الفلسطينية، ومن عاونه؛ لسحب القرار السياسي من الحكومة، وتهميش عمل الحكومة تماماً.
5 - الخروج الآمن حتى الآن من محاولات الجرجرة إلى كمين الحرب الأهلية الداخلية؛ رغم بعض المواجهات المؤسفة.
ورغم كل تلك المقاومة من الحركة إلا أن الحرب الأمريكية على حكومة حماس تواصلت، وضغطت بقوة، فتسببت؛ فىما يأتي:
1 - وقف وصول الدعم العربي إلى الشعب الفلسطيني تحت شعار «التجويع للتركيع» .
2 - أضعفت الاعتراف السياسي العربي بحكومة حماس، وجعلته هشاً، وكان من الملفت كـ «مثال» في هذا الصدد عدم استقبال وزير الخارجية المصري لنظيره الفلسطيني محمود الزهار.
3 - وجود لوبي عربي يضغط على حكومة حماس؛ لتغيير ثوابتها، والقبول بما تريده أمريكا، ومن سار على دربها في المجتمع الدولي من تنازلات عن الحقوق الفلسطينية. والموقف العربي ليس بالجديد؛ فقد ركعت كثير من الأنظمة العربية للولايات المتحدة الأمريكية؛ سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً.
4 - عمل الأمريكان لتقوية مراكز المعارضين لحماس في الداخل الفلسطيني، وأصبح المشهد الفلسطيني كأن فيه حكومتين: حكومة رسمية منتخبة ومؤيدة شعبياً؛ وهي حكومة حماس، وحكومة مفروضة على القرار السياسي الفلسطيني ومؤيدة أمريكياً؛ وتتمثل في رئيس السلطة الفلسطينية، ومن معه. ومن أمثلة ذلك: محاولة شل سلطة وزير الداخلية في حكومة حماس، وإحداث فلتان أمني، ومحاولة إخضاع الأجهزة الأمنية كلها لرئيس السلطة فقط. مثال ذلك: مشكلة القوة الخاصة التي شكلها وزير الداخلية لمواجهة الفلتان الأمني في 17 //5 2006م، فكان رد الفعل من رئيس السلطة أنه أمر بنزول القوات الأمنية التابعة له إلى الشارع وجهاً لوجه أمام القوة الخاصة؛ مما خلق حالة توتر، وانقسام في الشارع الفلسطيني.
5 - ازدياد النشاط العسكري الإجرامي الصهيوني في الاغتيالات، والتصفية، والاعتقالات، والشروع في تنفيذ خطة ما أطلق عليه «الانسحاب الأحادي» .
6 - محاولة تشويه حماس داخلياً؛ بالقبض على ممثل حماس عند معبر رفح في 18 //5 2006م، وبحوزته أموال مساعدات للفلسطينيين، وتشويه سبب حيازته لذلك المال، أما التشويه خارجياً؛ فتم عن طريق تلفيق قضية؛ فأُعلِن زوراً أنه تم تهريب سلاح من إيران عبر سوريا إلى داخل الأردن؛ لتنفيذ عمليات ضد الأردن، ومصالحها، ومواطنيها.
المشهد الفلسطيني لايحتاج إلى تدليل حول قوة الحصار المفروض على حكومة حماس من الداخل والخارج. فالحرب؛ اقتصادية، وسياسية، وعسكرية.
وحكومة حماس بين خيارين لا ثالث لهما:
الأول: الصمود؛ مستمدةً القوة من تأييد الشعب الفلسطيني الصامد، متحملةً كافة تكاليف، ومشاق الصمود.
الثانى: التراجع عن العمل السياسي، وترك جهاد الفنادق إلى جهاد الخنادق، وهو لن يضرها بل يزيدها قوة، ويفيدها ويُعَرِّي فساد أدعياء الديمقراطية المزعومة داخلياً وخارجياً، ويبقى أنه ربما يقول جهبذ سياسي: أن أمامها طريقاً ثالثاً؛ ألا وهو القبول بكل ما تمليه شروط، وقواعد لعبة التسوية السياسية السلمية، والجلوس على مائدة المفاوضات مع المحتل الصهيوني، والإذعان لما تمليه الأم الأمريكية على الابن الصهيوني لفعله بالضحية «فلسطين» .
وهذا الطريق الثالث له عدة مخاطر:
الأول: على حماس؛ فهو طريق الانتحار. وحماس تعلم ذلك جيداً، وهي تعلم أن هذا الانتحار، كفر بكل الثوابت؛ لذلك لن تمشي في هذا الطريق، حتى لو قامت بمناورات لاستكشاف الطريق الذى تعلمه. وأتمنى ألا تُخْدَعَ بأية أنوار مبهرة في هذا الطريق الثالث، وـ الحمد لله ـ حماس متيقظة لكل أنواع الخداع.
ثانياً: مخاطره متعدية على أعداء الإسلام من اليهود، والصليبين، ومن والاهم؛ حيث يفتح باباً لصعود تنظيمٍ جهاديٍ إسلاميٍ ثالثٍ بعد حماس والجهاد؛ ألا وهو تنظيم القاعدة؛ المتطلع للتواجد عبر بياناته الإعلامية، ثم محاولة التواجد داخل العمل الجهادي الفلسطيني، والذي ظهر في بداية صغيرة عبَّر عنها بإطلاق صواريخ من جنوب لبنان أزعجت حزب الله اللبناني الشيعي، ثم بيانات مختلفة تحمل اسم «جيش القدس تنظيم القاعدة في أرض الرباط» وأخباره متناثرة، وخطورة هذا التنظيم على اليهود والصليبيين أنه:
1 - رافض بقوة لأية مهادنة، أو أي عمل سياسي.
2 - سوف يحتوي المثقفين من أعضاء حماس الرافضين للعمل السياسي.
3 - أن أجندته لاتقف عند قتال اليهود فقط؛ إنما تشمل من والاهم من الفلسطينيين، فضلا عن استهدافه الأمريكان؛ لذلك خطورته تنبع من أنه: يقلب جميع الخطط على الجميع. لذلك يوجد خطة منظمة عند فريق من أعداء حماس لإبقاء حكومة حماس، مع العمل بقوة على تهميشها، وابتزازها، والضغط عليها بكل الطرق، والوسائل الممكنة الخفية وهي الكثيرة، والعلنية وهي القليلة؛ وذلك لاستمرارها كشكل وديكور فقط، وحماس تعي ذلك وتقاومه حتى الآن.
وختاماً: الضغط على حكومة حماس للتراجع عن الصمود السياسي وإرغامها على اللعب السياسي ـ لا قدر الله ـ في الطريق الثالث؛ سيضر الجميع، أولهم حركة حماس والقضية الفلسطينية.
وحتى الآن الحركة تعي ذلك جيداً، ومصممة على الصمود بفضل الله، وتحتاج إلى دعم شعبي إسلامي، أما إذا اختارت التراجع عن العمل السياسي، والتخلي عن الحكومة الفلسطينية؛ بسبب ما يحدث ضدها وحولها، فليس فشلاً مطلقاً؛ إنما هو فضيحة للديمقراطية، وأدعيائها، ولن يقلل من شأنها أبداً بل يزيد؛ علاوةً أنه يغلق الباب تماماً أمام أي حل سياسي مع القوة الإسلامية الأقوى على الارض الفلسطينية، أما عودتها لحمل السلاح فهو خيار هي صاحبته ولم تتركه؛ وهو الطريق الواضح للتحرير.
ويبقى أمران:
الأول: أن صمود حماس السياسي رغم كل المؤامرات الداخلية والخارجية فخر للتجربة السياسية الإسلامية، ونصر لإرادة الشعوب.
الثانى: أن تجربة حماس السياسية بكل مافيها يجب على كل الحركات الإسلامية الاستفادة منها، واستيعاب الدروس حتى تكون على وعي تام، وإدراك لما في الواقع.
__________
(*) محامٍ وكاتب إسلامي ـ مصر.(226/18)
وماذا بعد مقتل الزرقاوي؟
إبراهيم العبيدي
بعد مطاردة متواصلة دامت أكثر من ثلاث سنوات لزعيم تنظيم القاعدة في العراق من قبل قوات التحالف والحكومة العراقية على السواء، تمكنت القوات الأمريكية والعراقية وبمساعدة استخباراتية مجاورة أعلن عنها، من اغتيال الزرقاوي «الأسطورة» مؤخراً، في مدينة هبهب الواقعة في بعقوبة شمال بغداد، من خلال غارة جوية بطائرتين إف 16 استخدمت فيها قنبلتين زنة الواحدة 250 كغم، مستهدفة البيت الذي كان فيه الزرقاوي وسبعة من معاونيه بحسب البيان المذاع عبر وسائل الإعلام.
بداية ما أود التذكير فيه هو: أن الإدارة الأمريكية منذ بداية ظهورالزرقاوي وتنظيمه في العراق، كأحد فصائل المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال، سعت هذه الإدارة ومعها الحكومة العراقية الموالية لها، بتضخيم هذا التنظيم إعلامياً، وجعلته «شماعة» علقت عليها كل إخفاقاتها الأمنية في العراق.
لأسباب وأهداف مهمة منها:
1 ـ إيهام العالم من أن العراقيين لايقاومون الاحتلال، وأن الاحتلال الأمريكي مرحب به عراقياً «كما أوهمتهم بعض الشخصيات والتنظيمات التي جاءت مع المحتلين؛ كالجلبي وأمثاله من أن العراقيين سيستقبلونكم بالورود والرياحين» ؛ لتبرير الوجود الأمريكي في العراق.
2 ـ كذلك كان الهدف من تضخيم الزرقاوي وتنظيمه هو اختزال المقاومة العراقية الكبيرة والمتنامية في تلك الشخصية، والقول: بأن المقاومة يقوم بها بعض العرب الأجانب.
3 ـ منع وتضييق الدعم، والتأييد الشعبي والإقليمي، للمقاومة من خلال وصفها «بالأجنبية الإرهابية» بخلاف لو أنها كانت عراقية وطنية.
4 ـ تثبيت وترويج وصف «الإرهاب» على مقاومة الاحتلال ـ الذي أقرته الشرائع السماوية كلها، وحتى القوانين الوضعية ـ كون الزرقاوي وتنظيمه هو امتداد لتنظيم القاعدة المحظور «دولياً» ، والاستفادة من هذا الحظر الدولي للقاعدة في مقاومة كل من يقاوم، والذي بسببه أطلق الأمريكيون لأنفسهم العنان في البطش غير المسبوق في تعاملهم مع المقاومين والمدن التي تنطلق منها المقاومة بدعوى «كونهم إرهابيين» ، وما حصل في الفلوجة من تدمير همجي غير مسبوق أكبر شاهد على ذلك.
ولكن الأيام والوقائع سرعان ما كذَّبت دعوى الأمريكيين هذه، وتبين فيما بعد ـ وعلى لسان القادة العسكريين الأمريكيين أنفسهم بعد أحداث الفلوجة الدامية، وما تردد من تصريحاتهم الرسمية عبر وسائل الإعلام من ـ أن مجمل المقاومة عراقية. ومع ذلك بقيت تلك المصادر نفسها تعزف على وتر «الزرقاوي وجماعته» ، وتحمله كل ما يحدث من تردي للوضع الأمني في العراق متجاهلة دور العراقيين في المقاومة، على الرغم من إعلان المقاومة لأسماء الفصائل، والجماعات الرئيسة التي تقاوم وهي: جيش أنصار السنة، وجيش الراشدين، وكتائب ثورة العشرين، والجيش الإسلامي، وجيش الفاتحين، وكتائب المقاومة الإسلامية.
أهم مؤشرات الحدث وتداعياته:
1 ـ أن البهجة والفرح والسرور الذي تظاهرت به الحكومة العراقية والقوات الأمريكية في إعلان خبر مقتل الزرقاوي ـ وكأنه الإنجاز الأكبر لهذه القوات، التي يبلغ تعدادها مجتمعة أكثر من مئتين وتسعين ألف جندي مع كافة الإمكانيات العسكرية بكل أنواعها ـ هذه الفرحة المصطنعة بدَّدها الرئيس الأمريكي نفسه في خطابه بالمناسبة بقوله: «مقتل الزرقاوي لا يعني زوال كل الصعوبات أمامنا في العراق» . والدليل العملي كان سريعاً وهو عشرات القتلى والجرحى في تفجير ثلاث سيارات مفخخة في مناطق متفرقة من بغداد.
2 ـ اغتيال الزرقاوي كان أمراً متوقعاً جداً، ومثل هؤلاء الأشخاص أمنيتهم الوحيدة في الحياة أن يموتوا «شهداء» بحسب اعتقادهم، وأنهم ما ذهبوا للعراق كونه بلد العيش الرغيد؛ بل كونه ساحة للجهاد ضد الغزاة المحتلين.
3 ـ قطعاً أن مقتل الزرقاوي لن يؤثر على عمليات المقاومة ـ بإذن الله ـ وهو ما أكده الناطق الرسمي باسم الجيش الإسلامي أحد أكبر فصائل المقاومة العراقية (إبراهيم الشمري) من: أن غياب الزرقاوي لن يؤثر على عمليات المقاومة. فربما يعود التنظيم ويندمج ضمن المقاومة العراقية وإمرتها، مما يعني عنصر قوة جديد للمقاومة وللقاعدة وليس العكس.
4 ـ بمقتل الزرقاوي فقد الأمريكيون والحكومة العراقية الموالية لها «شماعة» مهمة لتعليق جميع إخفاقاتهم الأمنية في عموم العراق، وسيكشف تورط الحكومة العراقية «الطائفية» في إذكاء روح الاحتقان الطائفي من خلال ممارسات المليشيات الشيعية المسلحة ضد العرب السنة قتلاً وخطفاً وتهجيراً على أساس طائفي، وبتوجيه إيراني أصبح واضحاً عند العراقيين.
5 ـ ربما يكون اغتيال الزرقاوي ذا مردود إيجابي على المقاومة العراقية عموماً، وسيعطي زخماً معنوياً وشعبياً كبيراً لها، كونها تخلصت من كل ما كان يتُهم به (الزرقاوي) بحسب وصف الحكومة العراقية والأمريكان. وهو الأمر نفسه الذي كان يقال قبل اعتقال (صدام) من: أنه كان يقود المقاومة؛ مما جعل كثيراً من العراقيين يترددون في الانخراط بصفوف المقاومة بسبب هذا التشكيك، وبعد إلقاء القبض على (صدام) زاد حجم المقاومة زيادة مطردة، واتسعت بصورة كبيرة لتشمل أجزاء كبيرة من العراق، وأعلن عنها بأن التيار الإسلامي يمثل أكثر من 80% من مجمل المقاومة، وهي الحقيقة التي أرعبت الأمريكان كون الحرب ستكون طويلة الأمد؛ بسبب «أيدلوجيتها» .
6 ـ لقد أثبتت الأحداث أن ذهاب مثل هؤلاء القادة في التنظيمات، لايمثل شرخاً كبيراً في بنية التنظيم؛ بل سرعان ما يتم سد الفراغ، والدليل أن ملاحقة العديد من القادة البارزين وعزلهم عن العالم منذ سنوات، لم يمنع من ظهور الكثير من الحوادث التي أربكت القوات الأمريكية والحكومة في العراق. ومثله فصائل المقاومة الفلسطينية؛ فسد الفراغ في استشهاد قادتها أمر مشاهد ملحوظ.
7 ـ من غير الموضوعية، ومن الإجحاف تقزيم مشكلة العراق وتردي الأوضاع فيه على كافة الأصعدة، ونسبتها للزرقاوي وتنظيمه متناسين المشكلة الحقيقية والرئيسة لكل مأساة العراقيين وهو الاحتلال وما خلفه من أزمات عديدة، منها: سَنُّ وتكريس (الطائفية) من خلال تشكيلة مجلس الحكم الانتقالي، بإشراف الحاكم المدني السابق (بول بريمر) .
8 ـ التاريخ يعيد نفسه؛ فقبل سنتين وبعد إعلان القبض على (صدام) وما صاحب هذا الإعلان من بهرجة إعلامية مشابهة لحملة إعلان قتل الزرقاوي، يومها أوهموا العراقيين من أن القبض على (صدام) سينهي نشاط «المقاومة» كما يقولون وسيهدأ البلد؛ لأن (صدام) كان هو الرأس المدبر والداعم لهذا التمرد، ثم تبين بعد ذلك العكس، حيث ازدادت عمليات المقاومة أضعاف ماكانت عليه من قبل، وهو ما سيتكرر ـ والله أعلم ـ بعد اغتيال الزرقاوي، والأيام القادمة ستكشف ذلك، وستتغير النبرة الإعلامية فقط في ملاحقة المقاومة والمقاومين بوصفهم «الزرقاويين» هذه المرة على غرار وصف «الصداميين» من قبل.
9 ـ الرئيس الأمريكي (بوش) يعيش أدنى مؤشرات استطلاعات الرأي لتدني شعبيته؛ نتيجة حرب العراق، وتعثر العملية السياسية فيه، وكابوس المقاومة العراقية الذي أَقَضَّت مضجع البنتاجون. الأمر الذي جعله يبدي احتفالاً كبيراً هو وقادة حربه في الإعلان عن مقتل الزرقاوي؛ للتخفيف عن أزمته، ورفع مايمكن رفعه من المعنويات المنهارة لقواته.
10 ـ تأخير الإعلان عن مقتل الزرقاوي ما يقرب 48 ساعة ليكون متزامناً مع إعلان الحكومة العراقية للتصويت على المناصب الإمنية الثلاثة: الدفاع، والداخلية، والأمن القومي في الحكومة الجديدة؛ لإعطائها دفعة تشجيعية متفائلة لمهام الوزراء الجدد.
وأخيراً أُسدِل الستار على الزرقاوي «الأسطورة» بهذه العملية العسكرية الكبيرة، ووصَفَه أهله وأنصاره بالشهيد البطل والفارس الذي ترجل، ووصفه أعداؤه بالمجرم الذي لقي حتفه المحتوم، والسؤال المطروح والمهم ماذا بعد رحيل الزرقاوي؟
لذلك نقول: إن مقتل الزرقاوي ـ وإن كان إنجازاً أمنياً ـ ربما يكون كبيراً لقوات التحالف والحكومة العراقية، ولو بعد أكثر من ثلاث سنوات! غير أن هذا الإنجاز ربما ستبدده الوقائع القادمة على الأرض، من استمرار عمليات المقاومة العراقية ضد القوات الأمريكية والحكومية الموالية لها.
ومرة أخرى ماذا بعد رحيل الزرقاوي؟
هل برحيل الزرقاوي سيهدأ الوضع الأمني في العراق، وينتهي العنف الطائفي، وظاهرة الخطف، وقطع الرؤوس التي تقوم به ميليشيات «القوم» ؟ وهل سيتوقف مسلسل سرقة النفط العراقي المنظم من قبل هذه المليشيات في البصرة بتنسيق كامل مع الطرف الإيراني؟! وهل ستخرج بعض المرجعيات عن صمتها المطبق، وُتحِّرمُ ما يقوم به أتباعها من ممارسات القتل، والتشريد، والخطف، والسرقة ضد العراقيين وثروة العراق؟ وهل سيحل الأمن والأمان اللذان باتا أمنية كل عراقي قبل الخدمات الأخرى كالكهرباء، والماء، والوقود، والوظيفة؟ سننظر إن كان الزرقاوي كان سبباً لكل ذلك؟! إذن فليبشر العراقيون بعيش رغيد قريب في عراق الاحتلال والانفلات!.(226/19)
أخرجوا آل حماس من قريتكم!
أحمد فهمي
يقول المنسق الأمريكي السابق في الشرق الأوسط دينيس روس: «يجب أن لا تُترك حماس متجنبة الاختيار بين أمرين عسيرين وتأخذ كل الأرباح، فآمال تغيُّر حماس سوف تتبخر في الهواء إذا ما استطاعوا إثبات أن التغير لن يكون ضرورياً» .
إنها إذن حرب أعصاب وإرهاب، يلعب الزمن دوراً كبيراً فيها، والخطة هي: لندع حماس تفز، لكن لا ندعها تهنأ بالفوز، لديها أشهر قليلة، إما التنازل وإما التصفية والإبادة بعد أن يكون قادتها قد خرجوا للعلن وأصبحوا أهدافاً سهلة.
ولنمسك خيوط المؤامرة واحداً واحداً، إيهود أولمرت أعلن أنه سينتظر شهرين اثنين، بل حتى ستة أشهر، وإذا لم يلاحظ أي تغيير لدى الفلسطينيين فسوف يتحرك بمفرده، حسب قوله، وهذه الشهور الستة تنتهي في شهر يوليو القادم اعتباراً من تاريخ فوز حماس نهاية يناير الماضي.
وتصاعدت الضغوط العربية على حماس على نحو مريب؛ فالأموال لم تُمنع، ولكنها أُرسلت إلى البنوك التي امتنعت عن الصرف نيابة عن الأنظمة العربية، ثم طُولبت حماس علانية بالاعتراف بإسرائيل، وسربت واشنطن إلى حلفائها العرب أن حكومة حماس سوف تسقط في يوليو القادم حسبما ذكرت صحيفة المنار الفلسطينية.
وعندما حُبكت لعبة الاستفتاء اختار لها أبو مازن 26 يوليو القادم موعداً، إذن كل الطرق تؤدي إلى يوليو على نحو عجيب، وهذا يُنبئ أن الأسابيع القادمة سوف تكون حاسمة في مستقبل حماس السياسي.
هناك شواهد أخرى توحي بحقيقة ما يجري، منها على سبيل المثال تصريح (محمد دحلان) أن «حماس أصبحت حركة مشلولة لا تفاوض ولا تقاوم» فهو يعبر دون قصد منه عن الوضعية المستهدفة لحماس بالفعل، وأيضاً فإن المتتبع لمواقف حركة فتح يلاحظ تصعيداً واضحاً منذ شهرين تقريباً، بلغ حد العصيان المدني والخروج على الحكومة، وهذا أمر لا تجسر عليه فتح ما لم تكن مدعومة من جهات عربية.
وبينما يعاني الفلسطينيون من تأخر رواتبهم فإن حرس أبو مازن الرئاسي تتدفق عليه عشرات الملايين من أوروبا وأمريكا تحضيراً للمرحلة القادمة مع حماس.
ومثلما كان يحدث مع رئيس الوزراء السابق آرئيل شارون الذي كانت لقاءاته العربية تُختم بقصف الفلسطينيين، فإن أولمرت أنهى جولته العربية الأخيرة بموجة قصف وحشية، واغتيال أحد رموز فتح - جمال أبو سمهدانة - الذي نجحت حماس في استمالته، وهو ما دفع حماس إلى التأكيد على إنهاء الهدنة ومواصلة عملياتها، ولتكتمل مرحلة أخرى من المؤامرة وهي: محاولة استدراج حماس بعيداً عن الغطاء السياسي للهدنة، وكان الملاحظ أن أي استنكار عربي لم يصدر تعليقاً على القصف الوحشي الأخير، وهو ما يلقي بعلامات استفهام إضافية على حقيقة ما يجري، ويدفع لاستحضار قول الكاتب فهمي هويدي: «المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته من تردي مستوى التلفيق والتدليس في العالم العربي» .
إنها خيوط دقيقة لمؤامرة مكشوفة يتوافق عليها أطراف عديدة داخل فلسطين وخارجها من أجل شيء واحد هو دفع حماس للاعتراف بإسرائيل، وحتى من دون تنازلات مقدمة من الطرف الإسرائيلي، بل إن أولمرت أعلن بوضوح أن وثيقة الأسرى بعيدة جداً عن الشروط الإسرائيلية؛ فلماذا إذن تقدم التنازلات؟ لأنهم لا يريدون أن يبقى في الساحة من يذكِّرهم بتخاذلهم واستسلامهم، إنها الدعوة القديمة تعود من جديد: أخرِجوا آل حماس من قريتكم! إنهم أناس يتطهرون؛ والطهر لم يعد مقبولاً في زمن الشذوذ السياسي، زمن أصبحت فيه الخيانة فخاراً لأصحابها، وكما كتب الدكتور عبد الستار قاسم: «هل يستطيع أحد أن يتخيل كيف تدهور الوضع الفلسطيني إلى حد أن الاعتراف بإسرائيل قد أصبح مطلباً وطنياً؟» فالذي يستمع إلى خطاب الاستفتاء لأبي مازن يشعر وكأن الاعتراف بإسرائيل تعبير عن الصمود والتصدي؛ فالشعب يُحاصَر ويُذَل ويُنحَر، ثم يأتي أشاوس فتح ليطلبوا منه التوقيع على الاعتراف بذابحه، بل يتبجحون أيضاً بأن ذلك عمل بطولي.
ولعل (محمد دحلان) يمثل نموذجاً فتحاوياً معبراً، وقد نشرت حماس في موقعها على الإنترنت تسجيلاً صوتياً له، يوجه فيه السباب والشتائم إلى حماس والمقاومة وحتى قيادات فتح، فيقول دحلان عن حماس: «أنا راح استلمهم خمسة بلدي من هان لآخر الأربع سنين» ، ويقول: «شغل المشايخ والجوامع بيمشيش، انسولي الهبل تبعكو» ثم يقدم دحلان وصفاً دقيقاً لحالة فتح قائلاً: «فتح خربانة من الـ 72 ومحطمة ومدمرة وعايشة على دم الشهداء والأسرى والبادرات الشخصية والفردية» . أليست حماس إذن على حق؟(226/20)
المتشاكسون
د. يوسف بن صالح الصغير
تعتبر العلاقات الإيرانية الأمريكية حالة فريدة تصلح لدارسي العلوم السياسية والخبراء والباحثين في استشراف المستقبل؛ فنحن أمام شبكة معقدة من عوامل الالتقاء والاختلاف؛ فمن ناحية الولايات المتحدة فإن مشروعها الإمبراطوري للسيطرة على العالم يستند في تحقيقه إلى شبكة من الحلفاء مثل دول حلف الأطلسي بالإضافة إلى أستراليا، ودولة اليهود في فلسطين، والهند، وإلى مجموعة من الأتباع مثل باكستان وبعض الدول العربية. أما إيران وأتباعها في المنطقة فهم بالنسبة لها أدوات أساسية لتحقيق مشروعها في المنطقة، ولكن المشكلة أنهم ليسوا حلفاء ولا أتباعاً، بل يمثلون تجمعاً طائفياً له أهدافه الخاصة في المنطقة. وأكبر ما يغيظ الأمريكان أن يحسوا أنهم مضطرين للسماح لآخرين بأن يشاركوهم في ما يحصلونه من غنائم. وقد وصف الرئيس الروسي (بوتين) في خطابه السنوي أمريكا بـ (الذئب المفترس) الذي لا يريد أن يشاركه أحد. ولا شك أن أمريكا كانت تنوي إخضاع إيران وإعادتها لبيت الطاعة، ولكن معضلة أمريكا في المنطقة أن المقاومة السنية في العراق من الشدة بحيث لا تستطيع أمريكا الاستغناء عن الدور الشيعي، وخاصة مع فشل محاولات إدخال قوات من البلدان السنية المحيطة بالعراق؛ ولذا فمهما كان غيظ أمريكا من تنامي القوة الإيرانية وامتلاكها برنامجاً نووياً متطوراً مع تسريبات إيرانية دفعت المفتشين لإعلان العثور على عينات يورانيوم عالية التخصيب قد تكون صالحة لإنتاج أسلحة نووية؛ فإنها لا تملك القدرة على الاستمرار في مغامرتها في المنطقة دون الدعم الإيراني. ولا أشك شخصياً أن برنامج التسلح الإيراني قائم على فرضية وجود سلاح نووي لديها؛ فلا توجد دولة تنفق على برامج الصواريخ بعيدة المدى دون أن يكون لديها سلاح غير تقليدي؛ إنها معادلة اقتصادية بسيطة؛ فلا قيمة لقنبلة نووية لا تكون قادرة على الوصول لأهداف تؤثر على الخصم، ولا تأثير لصواريخ مداها 2500 كم ولا تحمل سوى كمية بسيطة من المتفجرات التقليدية. أما من جهة إيران فإنها تعرف أن احتواءها يعتبر من الأولويات في السياسة الأمريكية لعقود كثيرة؛ ولذا فقد تم إسقاط الغرب حكومة (مصدّق) لما أراد تأميم النفط وانتهاج سياسة وطنية، وأُعيد الشاه الشاب إلى السلطة، ومثَّلت إيران في تلك الفترة جزءاً مهماً في حلقة الحصار المحكمة حول الاتحاد السوفييتي، وأصبحت تمارس دور شرطي الخليج. ولما بدأ الشاه يعمل لحسابه الخاص تُرِكَ ليسقط؛ وكانت الحرب بين العراق القومي البعثي وإيران الثورة الشيعية وسيلة لاحتواء البلدين، ولم يمنع الصراخ الإعلامي المتبادل بين نظام (الآيات) و (الشيطان الأكبر) من قيام علاقات من تحت الطاولة ظهر منها فضيحة (إيران غيت) ويمكن تبسيط السياسة الإيرانية بأن هدفها تفعيل التجمعات الشيعية، ومن ثم تشييع ما يمكن من أهل السنة في العراق والخليج ولو بالقوة، وهنا ينبغي التنبيه إلى حقيقة تاريخية وهي أن كُل المشاريع الكبرى للشيعة اعتمدت على قوى أجنبية في محاولة تحقيقها؛ فمثلاً مشروع إسقاط الخلافة العباسية تم عن طريق إغراء التتار بمهاجمة بغداد ومساعدتهم في تدميرها عن طريق (نصير الدين الطوسي) و (ابن العلقمي) وعندما قامت (الدولة الصفوية) كان من أهدافها السيطرة على العراق، وفي سبيل ذلك تم عقد تحالفات مع الدول الأوروبية والتنسيق معها في شن الحروب المتتالية على الدولة العثمانية، وقد تمكنت من احتلال بغداد لفترة محدودة عانى فيها أهل السنة الويلات. ويلاحظ في مشروع (ابن العلقمي) أنه يقوم بشكل شبه كلي على قوة أجنبية كافرة. وكان للشيعة دور كبير في إنجاح المشروع المغولي، ولكن محاولة (ابن العلقمي) تحقيق الجزء التالي من المشروع والخاص بالشيعة حمل التتار على التخلص منه وقتله شر قتلة؛ وهكذا فشل المشروع الشيعي قبل هزيمة التتار. أما (المشروع الصفوي) فإن ما جرى في العراق كان صراعاً مباشراً بين الصفويين والعثمانيين وكان الدعم الأوروبي غير مباشر، ولم يكن لهم في ذلك الوقت اهتمام خاص بالعراق، وانتهى المشروع في ذلك الوقت بهزيمة الصفويين. أما المشروع الحالي فنحن أمام مشروعين: شيعي: تتبناه دولة إيران وأتباعها في العراق. وأجنبي: تتبناه أمريكا. وإذا كانت المرحلة الأولى قد انتهت بسقوط بغداد وقيام سلطة احتلال أمريكية تدعمها حكومة شيعية إيرانية التوجه؛ فإن المرحلة الثانية وهي قطف الثمار التي دونها خرط القتاد؛ فهم شركاء متشاكسون لا يمكن أن يتفقوا على قسمة عادلة للغنيمة، ولا يبدو أن أمريكا تملك سوى القوة الطاغية؛ فقد أعترضت على (الجعفري) وذهب (الجعفري) وجاء (المالكي) بديلاً وكلاهما من حزب الدعوة، أي أنه تنازل صوري من إيران. أما البرنامج النووي فإن المظلة الروسية تضمن عدم إمكانية منح أمريكا مظلة أممية، ويبدو من تصريحات الرئيس الأندونيسي المؤيدة لإيران، ودعوة عنان أمريكا للتفاوض المباشر مع إيران وعرض الاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع أمريكا حزمةً من الهدايا الاقتصادية مقابل التخصيب خارج إيران، وإصرار إيران على الاعتراف بحقها بامتلاك تقنية نووية سلمية ـ يبدو من ذلك كله أن ليس أمام أمريكا سوى التسليم بانضمام إيران للنادي النووي، ومن ثَم التعامل معها بندِّية حول تقاسُم النفوذ في المنطقة بدءاً من العراق، أو أن تضرب بهراوتها وتحصل ملاحم تذكِّر بحديث الرسول # حول (انحسار الفرات) والله المستعان.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية.(226/21)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
مفكرة الشهر
10 ربيع الثاني/ طهران تطمئن دول الخليج حول برنامجها النووي.
11/ مقتل ثلاثة فلسطينيين إثر اعتداءات فتحاوية ضد عناصر حماس.
12/ الدول الخمس تفشل في الاتفاق على قرار بشأن إيران.
13/ السودان ترفض إرسال قوات دولية إلى دارفور.
14/ اعتقال عشرات من المتضامنين مع القضاة في مصر.
15/ علماء مسلمون في مؤتمر نصرة فلسطين يفتون بوجوب مساعدة الفلسطينيين اقتصادياً.
16/ واشنطن مستعدة للتعاون مع أي جماعة تحارب القاعدة في الصومال.
17/ نجاد يرفض أي عرض أوروبي لوقف النشاط النووي.
18/ بنازير بوتو ونواز الشريف يشكلان جبهة مشتركة ضد برويز مشرف.
19/ رئيس الوزراء العراقي يعلن: الخريطة الوزارية شبه كاملة.
20/ المحكمة الإدارية العليا في مصر توقف الاعتراف بالبهائية رسمياً.
21/ مظاهرات بالقاهرة واعتقال المئات بينهم إخوان مسلمون.
22/ افتعال مشكلة مع الناطق باسم حماس لنقله تبرعات مصرية إلى غزة.
23/ المالكي يعلن الحكومة العراقية الجديدة بدون الدفاع والداخلية.
23/ مدير الاستخبارات الفلسطينية يتعرض لمحاولة اغتيال داخل مبنى المخابرات.
24/ الجبل الأسود تختار الاستقلال عن صربيا، وكوسوفا لا بواكي لها.
25/ مقتل عشرات الأفغان في قصف أمريكي لجنوب أفغانستان.
26/ أولمرت في واشنطن وسط ترحيب كبير واستقبال في الكونجرس.
27/ عبد العزيز بلخادم رئيساً للوزراء في الجزائر خلفاً لأويحيى.
27/ إسرائيل تقتل ستة فلسطينيين وتصيب العشرات وتعتقل 12.
28/ تجدد الاشتباكات في مقديشيو بين ميليشيات المحاكم الإسلامية والموالين لأمريكا.
29/ الخرطوم توافق على زيارة فريق دولي إلى دارفور.
1 جمادى الأولى/ الشيخ رائد صلاح: الحفريات الحالية تحت الأقصى هي الأخطر.
2/ أكثر من ستة آلاف قتيل في زلزال بجزيرة جاوة الإندونيسية.
3/ القوات الأمريكية تقصف مسجداً وتقتل عشرات الأفغان.
4/ الصراع على النفط في البصرة يفجر صراعاً شيعياً شيعياً.
5/ واشنطن تعلن استعدادها للانضمام إلى مفاوضات النووي الإيراني بشروط.
5/ عباس يهدد باستفتاء على وثيقة الأسرى لو فشل الحوار الوطني، وحماس ترفض.
6/ حركتان متمردتان في دارفور ترفضان توقيع اتفاق السلام.
7/ الجيش الإسرائيلي يقتل ضابطين مصريين على الحدود عشية زيارة أولمرت للقاهرة.
7/ حماس والجهاد ترفضان استفتاء عباس.
8/ كارتر يطالب إدارة بوش بالتفاوض مع طهران دون أية شروط.
9/ 32 امرأة كويتية يترشحن للانتخابات البرلمانية.
10/ ميليشيات المحاكم الشرعية تعلن انتصارها في مقديشيو على أنصار واشنطن.
علامة تعجب
هذا الرجل يحكم أمريكا
في عام 2003 رد بوش على سؤال بشأن المقاومة العراقية التي بدأت تظهر بقوله: «دعهم يأتون» ، ولكن بعد 3 سنوات قتل فيها أكثر من 2400 أمريكي حسب التعداد الرسمي، وعشرات الآلاف من العراقيين، قال بوش: «إن ذلك التصريح كان نوعاً من الحديث المتشدد الذي بعث برسالة خاطئة إلى الناس» وأضاف: «تعلمت بعض الدروس بشأن التعبير عن نفسي ربما بطريقة أكثر نضجاً، مطلوب حياً أو ميتاً، هذا النوع من الحديث أعتقد أنه في بعض الأجزاء في العالم تم تفسيره على نحو خاطئ» .
[موقع الشرقية تي في 26/2/3006م]
شعبية القاعدة في أمريكا
في تبرير غريب صرح الرئيس الأمريكي جورج بوش أن اطلاع أجهزة الاستخبارات على سجلات الاتصالات الهاتفية لملايين الأمريكيين كان ضمن جهود مطاردة القاعدة، وأكد: «من المهم أن يعي الأمريكيون أن نشاطاتنا موجهة حصراً ضد القاعدة وشركائها المعروفين» وهذا يعني أن القاعدة أصبحت ذات شعبية كبيرة ربما تنافس الحزب الجمهوري. [بتصرف عن صحيفة الرياض 14/5/2006م]
قنوات منزوعة الدسم
في برنامج الاتجاه المعاكس ـ فضائية الجزيرة ـ هاجم أحد الضيوف أغلب القنوات الدينية التي تبث على قمر النايل سات، وقال إنها قنوات منزوعة الدسم لا تتحدث عن قضايا الأمة، وقال: العجيب أن من ينشئون القنوات الدينية هم من ينشئون قنوات الفساد. [فضائية الجزيرة الاتجاه المعاكس 6/5/2006]
السجن له بابان
أفرج نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي عن مئات السجناء العراقيين في قرار لقي ترحيباً مبرمجاً، وعلق بعض المحللين بالقول: إن أعداد المعتقلين الجدد ربما تفوق أعداد المفرج عنهم، بينما المطلوب وقف الاعتقال التعسفي وليس الإفراج فقط، كما يبدو أن الحكومة العراقية والاحتلال يُؤْثِرون القتل على الاعتقال في الوقت الحالي، حيث بلغ عدد القتلى في بغداد وحدها منذ بداية العام ستة آلاف قتيل.
مجلس الحراس العراقي
في دلالة على مستوى الأمن في العراق، اتخذ مجلس النواب العراقي قراراً بتخصيص 20 حارساً شخصياً لكل عضو من أعضائه و30 حارساً شخصياً لكل وزير من وزراء الحكومة؛ وهذا يعني أنه سيتم التعاقد مع 6610 حراس شخصيين لهذا الغرض، وإذا ما تم التعاقد مع حراس من شركات الحراسة الأجنبية فإن مبلغاً باهظاً ستتكفل بدفعه خزينة الدولة العراقية قد يصل إلى حدود مليار ونصف مليار دولار أمريكي في السنة إذا ما علمنا أن الحراس الأجانب يتقاضون في العراق بحدود 600 دولار أمريكي يومياً. [صحيفة المنارة العراقية]
تحذير: يُنصَح الفلسطينيون بعدم قراءة الخبر
قال تقرير مالي دولي إن العرب يمتلكون أصولاً بقيمة 700 مليار دولار في أسواق السندات الأميركية، وأشار التقرير الذي وضعه خبراء في إدارة الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولي إلى أن هذه الأموال ساهمت في توفير مصادر تمويل لإنفاق الحكومة والمستهلك الأميركيين، وأوضح أن الإقبال الكثيف لدول الخليج على شراء سندات الخزينة الأميركية يدعم وضع الدولار أو على الأقل يوقف انزلاقه.
وتبين من واقع التقرير أن الخزانة الأميركية نجحت العام الماضي في اجتذاب 70 مليار دولار من استثمارات دول الخليج في الخارج، وأن ما يعادل هذا المبلغ اندمج في الأسواق الأميركية تحت مسميات غير عربية هرباً من الملاحقة الأمريكية للأموال بدعوى الإرهاب.
وقال مدير إدارة الشرق الأوسط في صندوق النقد الدولي (محسن خان) لمجلة ماريان الفرنسية في عددها الأخير: إن دول الخليج وبعد عمليات الشراء للشركات الغربية حققت فائضاً العام الماضي مقداره 200 مليار دولار. وقال صندوق النقد الدولي: إن دول الخليج تجني نصف مداخيل النفط في العالم بواقع 400 مليار دولار سنوياً.
وذكر أن نصف هذا المبلغ يتم إنفاقه في شراء الشركات الغربية إضافة إلى الاستثمارات الداخلية وبند الواردات، أما النصف الثاني من العائد السنوي فيتوجه نحو الاستثمار في أسواق المال العالمية حسب التقرير.
[الجزيرة نت 27/5/2006م]
لندنستان
ضمن موجة الاستعداء الأوروبي ضد الوجود الإسلامي، صدر كتاب للكاتبة البريطانية (ميلاني فيليبس) بعنوان «لندنستان» وتزعم فيه أن «العاصمة البريطانية تحولت إلى معقل رئيسي للتطرف الإسلامي» .
وتبدأ (ميلاني) حكاياتها من عام 1988 عندما اندلعت مظاهرات غاضبة في عواصم العالم الإسلامي وفي مدن بريطانية احتجاجاً على نشر كتاب «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، وتقول: إن هذه الحادثة كانت نقطة تحول في طريقة تعبير المسلمين في بريطانيا عن أنفسهم «حيث أصبحوا أكثر تسييساً وربطوا إيمانهم بالعنف» ، ثم تعرج (ميلاني) إلى الحرب في البوسنة وتقول: «إن هذه الحرب أدت إلى جعل مسلمي بريطانيا أكثر راديكالية حيث شاهدوا كيف قُتِلَ البوسنيون المسلمون من قِبَل جيرانهم المسيحيين، وما جعل هذه المذابح أكثر سوءاً أنها حدثت في وسط أوروبا وفي منطقة كان يفترض أنها علمانية ومتعددة الثقافات والعرقيات» . وتواصل (ميلاني) قائلة إنه «في هذا الوقت بدأ إسلاميون عرب في الوفود من العواصم العربية إلى لندن في أعداد كبيرة، ومنهم من حارب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وعندما عادوا إلى أوطانهم تمت مطاردتهم فجاؤوا إلى لندن، وجاءت معهم أيديولوجياتهم الراديكالية، وهو ما أثر على أفكار بعض المسلمين في بريطانيا» .
[بتصرف عن موقع بي بي سي 28/5/2006]
وفي نيجيريا أيضاً.. الشيعة يواجهون السنة:
وقعت مواجهات بين الطائفتين السنية والشيعية في مدينة سوكوتو ـ شمال غرب نيجيريا ـ وقال شهود عيان لوكالة فرانس برس إن عناصر من الشيعة اتهموا آخرين من السنّة بالتعرض لنسائهم، وأكد مسؤول رسمي حصول المناوشات التي أوقعت عدداً من الجرحى وتدمير عددٍ من المنازل، وقال أحد التجار (سعدو لابو) : إن مجموعة من الشيعة المتطرفين هاجموا مجموعة من السنّة في حي مارمارون ـ غارو بعد اعتداء على امرأة شيعية، وأكدوا أن المعتدين على نسائهم لن يفلتوا من العقاب، وأضاف أنهم دمروا ثلاثة منازل للسنّة متهمين بأنهم وراء الاعتداء على المرأة، وجرحوا عدداً من الأشخاص، وقال متحدث باسم الطائفة الشيعية في سوكوتو (إبراهيم اتيكو) إن مجموعة من الشيعة المتطرفين قررت بمبادرة منها مهاجمة أي شخصٍ يتعرض لأي شيعي في المدينة.
[فرانس برس 11/5/2006م]
الجزاء من جنس العمل
أعلنت المتحدثة باسم النائبة الهولندية الصومالية الأصل حرزي علي ـ 36 عاماً ـ أنها ستتوجه إلى الولايات المتحدة؛ حيث ستعمل مع معهد أمريكان أنتربرايز الذي يعبر عن فكر المحافظين الجدد، وذلك بعد أن أعلنت النائبة استقالتها من البرلمان إثر انكشاف تزويرها أوراقاً من أجل الحصول على اللجوء السياسي في هولندا عام 1992م ثم الجنسية.
وعُرفت (حرزي) بإساءتها للإسلام وارتدادها عنه ومهاجمتها الدائمة للشعائر الإسلامية والمسلمين، وكانت قد شاركت في تزوير برنامج وثائقي قصير يشوه صورة الإسلام من إخراج الهولندي (ثيو فان جوخ) الذي قتل بعدئذٍ بسبب ذلك البرنامج، ويفترض أن يتم تجريد (حرزي) من جنسيتها الهولندية بعد اعترافها بالتزوير، ما لم تتدخل جهات سياسية.
وقالت (حرزي علي) إنها تستقيل بعد أن أبلغتها (ريتا فيردونك) وزيرة الهجرة عن الحزب نفسه الذي تنتمي إليه وهو حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية أنها قد تفقد جواز سفرها؛ لأنها دوَّنت بيانات كاذبة في طلب الحصول على اللجوء السياسي، وتدعي (حرزي) أنها دوّنت اسماً وتاريخ ميلاد مزيفين عندما وصلت إلى هولندا عام 1992 كي لا تستطيع أسرتها العثور عليها؛ لأنها هربت من، وأعلنت سفارة واشنطن في هولندا أن مشاكل الجنسية التي تواجهها (حرزي علي) لن تكون عقبة أمام انتقالها إلى الولايات المتحدة.
[بتصرف عن رويترز 17/5/2006م]
علمانية رغم أنف الدستور
«مصر دولة علمانية» هذا التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء المصري الدكتور أحمد نظيف فجَّر ردود فعل واسعة النطاق، عندما قال إن مصر دولة علمانية تفصل الدين عن السياسة، لكنها تعتمد الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع، وقال الدكتور طارق البشري نائب رئيس مجلس الدولة السابق في سياق رده على ذلك: كيف تكون مصر علمانية وهذا النص موجود بوضوح في دستورها؟ ولا أدري ماذا يقصد ـ د. نظيف ـ بالعلمانية في هذا الشأن؟ فإذا كانت الشريعة الإسلامية بنص الدستور هي المصدر الرئيسي للتشريع، والإسلام هو دين الدولة.. فكيف يمكنه تفسير هذه النصوص وهي التي تحدد الهوية المصرية بأنها عربية وإسلامية، وتحدد أيضاً المرجعية للقوانين والنظم، واستطرد المستشار البشري قائلاً: إن النصوص الأولى في أي دستور تحدد الهوية الخاصة بالجماعة الوطنية والسمة الغالبة فيها من الناحية الثقافية، وتحدد أيضاً المرجعية وهذا ما صنعته المادة الأولى والثانية والثالثة من الدستور المصري الساري حالياً. وقال: إن نص المادة الثانية من الدستور يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن مصر ليست دولة علمانية وهذا معروف للكافة.
[بتصرف عن العربية نت 23/5/2006م]
فرنسا.. هل تعلن إسلامها قريباً؟!
شهدت ظاهرة الزواج المختلط في فرنسا ارتفاعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة خاصة في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، وبينما اعتبر المركز الوطني للإحصاء الفرنسي ذلك مؤشراً على أن فرنسا مهيأة لأن «تجدد دماءها بجيل جديد» ، أثارت الظاهرة جدلاً بين اليمين المتطرف الذي حذر من «طمس الهوية الفرنسية» ، واليسار الذي اعتبر ذلك علامة على «الاندماج الكامل» .
وفي إحصائيات وصفتها وسائل إعلام فرنسية بـ «المذهلة» ، كشف وزير العدل الفرنسي «باسكال كليمان» عن ارتفاع كبير في نسبة الزواج المختلط في فرنسا؛ حيث ارتفعت النسبة إلى 62% في عام 2005 عنها في عام 1999، وأضاف الوزير على هامش مناقشة قانون الهجرة الجديد الذي قدمه وزير الداخلية «نيكول ساركوزي» أوائل الشهر الجاري أن من جملة 275 ألف زيجة تمت في فرنسا العام الماضي، بلغت عدد الزيجات المختلطة 50 ألف حالة، وأشار التقرير إلى أن «طفلاً من بين 10 أطفال ولدوا في فرنسا السنة الماضية هو نتيجة زواج مختلط، وأن زواجاً من بين كل 5 زيجات هو زواج يتم بين فرنسية أو فرنسي وأجنبي» . [إسلام أون لاين 28/5/2006م]
إيران وتخصيب أهل السنة في العراق
كشف موقع على الإنترنت معلومات تفيد أن أحد السجون السرية التي تديرها المخابرات الإيرانية في البصرة يقع في منطقة الجمعيات مقابل الحيانية، وتمارس فيه شتى صنوف التعذيب والتصفيات الجسدية؛ ورغم تبعيته للداخلية العراقية، غير أنه يدار من قِبَل عناصر المخابرات الايرانية الذين يستخدمون أسماء حركية عراقية للتضليل، ويتكلمون اللغة العربية بلكنة إيرانية، ومن بينهم حسبما ذكر الموقع:
1 ـ العقيد كريم: وهو قائد العناصر العاملة في السجن، وهو إيراني وتعيش أسرته في إيران، وعلى اتصال مباشر مع عقيد في المخابرات الإيرانية يدعى (شمس) يتلقى منه التعليمات الواردة من طهران.
2 ـ سيد علي الحياني: هو احد ضباط التحقيق في السجن والمشرف الرئيسي على أعمال التعذيب ضد المعتقلين، وكان قد أقام في إيران لفترة 20 عاماً وانضم إلى المخابرات الإيرانية وقوات القدس في إيران، ويتلقى حالياً راتبه من قوات القدس.
3 ـ نقيب حسان: كان يعمل في طهران مع وزارة المخابرات الإيرانية، ولغته العربية ضعيفة وحديثه غالباً يكون بالفارسية، هو يدخل العراق اعتيادياً عبر منطقة التنومة، ويقيم لدى منتسبي (منظمة ثأر الله) الإيرانية في العراق.
4 ـ غانم: يعتبر من اقدم قادة فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى الذي يقوده عبد العزيز الحكيم، وهو المسؤول عن قسم التحقيقات في السجن، وكان مقيماً في إيران قبل سقوط النظام العراقي، وتجند منذ ذلك الوقت لدى قوات القدس التابعة للحرس الإيراني.
[صحيفة دار الحياة 25/5/2006م]
من هنا وهناك
ـ حذّر صلاح الدين حافظ الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب من خطورة الاختراق الأمريكي لعدد من الصحف وأجهزة الإعلام العربية عن طريق دعم مراكز ومؤسسات صحفية واعلامية في صورة مراكز بحثية وتخفي وراءها أبعاداً أخرى تتعلق بمهنة الصحافة والإعلام.
[صحيفة الجزيرة 11/5/2006م]
ـ قال النائب الديموقراطي الأمريكي (جون مورتا) تعليقاً على مجزرة حديثة العراقية على أيدي القوات الأمريكية: «إن قواتنا تقتل مدنيين أبرياء بدم بارد» وقال معلقاً على نشر مجلة تايم الأمريكية أن عدد قتلى المجزرة كان 14 عراقياً: «إن حصيلة ضحايا هذا الحادث أكبر من ذلك بمرتين» .
[وكالات 19/5/2006م]
ـ فصلت حركة فتح (خالد أبو هلال) الناطق باسم وزارة الداخلية من عضويتها بدعوى أنه ارتكب مخالفات مستمرة ولم يلتزم بالتعليمات الحركية، كونه أصبح ناطقاً باسم الحكومة الفلسطينية التي شكلتها حماس، رغم تكرر لفت نظره، كما أعلنت الحركة أنها غير مسؤولة عن ألوية الناصر صلاح الدين، الذراع العسكري للجان المقاومة الشعبية.
[صحيفة الحياة الجديدة 9/5/2006م]
ـ قال الرئيس الإيراني (أحمدي نجاد) في حشد من الإيرانيين: «إنهم يقولون إنهم يريدون إعطاء الإيرانيين حوافز، لكنهم يتصورون أنهم يتعاملون مع طفل عمره أربع سنوات ويقولون له إنهم سيعطونه الحلوى والجوز مقابل ما معه من ذهب» . [إسلام أون لاين 17/5/2006م]
ـ اتهم محافظ البصرة محمد مصبح الوائلي ـ من قياديي حزب الفضيلة الشيعي ـ قيادات في الجيش والشرطة بالوقوف وراء موجة الاغتيالات التي شهدتها مدينة البصرة خلال الفترة الأخيرة، وأعلن تجميد عمل مدير الشرطة وطالب بإقالة المسؤول من الجيش في المنطقة، وقال الوائلي: «إننا اليوم نقف أمام مرحلة خطيرة من مسيرة بلدنا ومدينتنا، وتكمن خطورة هذه المرحلة في حجم التحديات التي تحيط بمدينتنا الناتج عن تطلعات وأطماع قوى واتجاهات لها ارتباطاتها المعروفة خارج العراق» وتدور في المدينة صراعات بين الأحزاب الشيعية.
[أخبار الخليج، 14/5/2006م]
ـ دفعت الخارجية البريطانية 110 ملايين جنيه لشركات الأمن الخاصة خلال عامين ونصف العام، حيث يتقاضى حارس الأمن صاحب الخبرة الذي يعمل في العراق 340 جنيهاً إسترلينياً في اليوم الواحد، وذكرت التايمز أن حراس أمن بريطانيين في العراق هدّدوا بالإضراب عن العمل بسبب ضعف أجورهم، وأن هذه الخطوة من شأنها أن تحدّ من تحركات الدبلوماسيين البريطانيين في بالعراق. [الجزيرة 28/5/2006م]
ـ كشف (عصام الراوي) رئيس رابطة المدرسين العراقيين أن 217 أستاذاً جامعياً قد تمت تصفيتهم منذ احتلال العراق إلى الآن، وقال: إذا أضفنا إلى هؤلاء الكفاءات من حملة شهادتي الماجستير والدكتوراه الذين تم اغتيالهم في الفترة نفسها فإن العدد سيتجاوز 500 قتيل، وقال: إن الأرقام الحقيقية ربما تكون أكبر من ذلك بكثير. وأكد أن جميع عمليات القتل سُجلت ضد مجهول، وحمَّل قوات الاحتلال والمرجعيات الدينية والسياسية المسؤولية عن تلك الجرائم.
[صحيفة الأحداث المغربية 25/5/2006م]
ـ نشرت منظمة العفو الدولية (امنيستي) تقريراً أوضحت من خلاله، أن تجار السلاح الإسرائيلي يغذون معظم الحروب الدائرة في أنحاء المعمورة، وذكر التقرير أن إسرائيل تحتل المرتبة الخامسة أو السادسة على قائمة الدول المنتجة والمصدرة للسلاح في العالم، وهي ترفض التوقيع على ميثاق تعده الأمم المتحدة لمراقبة تجارة السلاح، وكانت صحيفة هآرتس العبرية، قد كشفت مؤخراً عن قيام شركة إسرائيلية بتزويد نيجيريا بطائرات استطلاع بدون طيار، لتغذية الصراعات الأهلية هناك.
[صحيفة الجزيرة 12/5/1006م]
ـ أعلن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أنّ القوات العراقية من الممكن أن تتولى مسؤولية أغلب أجزاء البلاد بحلول نهاية 2006م، ويبلغ أفراد الجيش والشرطة نحو 250 ألف فرد، ومن المقرر أن يبلغوا 325 ألف نهاية العام، ولكن يشكك محللون في ذلك حيث رصدت حوادث اشتباك بين بعض الوحدات داخل هذه القوات، ورفض (توبي دودج) وهو محلل في شؤون العراق بـ (جامعة كوين ماري) خطة المالكي قائلاً: «هذا ما يتمنونه.. إنها دعاية وليس جدولاً زمنياً واقعياً للتسليم» ويقول (سيمون هندرسون) الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى: «هناك دائماً احتمال في تحوُّلهم إلى فصائل عرقية، وهذا يحدث جزئياً بالفعل» . [موقع طريق الشعب، 24/5/2006م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
«قالت تقارير أمنية لجهاز الأمن الداخلي «الشاباك» إن الجهاز يواجه مأزقاً حقيقياً منذ انسحابه من قطاع غزة في منتصف أغسطس الماضي، يكمن في عدم قدرته على جلب المعلومات من داخل القطاع حول حركة حماس، بسبب صعوبة تجنيد العملاء» .
[صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية 1/6/2006م]
«من المرات القليلة في تاريخ ساستنا أن يكشف وزير ورئيس حكومة سابق، عن الفساد الذي عاينه خلال منصبه، فرئيس حزب الليكود (بنيامين نتنياهو) كشف عن قيام جهات كبرى ـ لم يسمها ـ بعرض رشوة كبيرة عليه في اليوم الثاني لتوليه وزارة المالية»
[موقع «نيوز فرست كلاس» الإخباري العبري]
«سنعمل ما في بوسعنا لمكافحة معاداة السامية؛ فبولندا لا تتحمل معاداة السامية» .
[الرئيس البولندي «ليتش كاتشينسكي» تضامناً مع كبير حاخامات البلاد «مايكل شودريتش» خلال اجتماعهما بقصر الرئيس بوارسو 31/5/006 2م] .
«في الحقيقة، ليس هناك لوبي واحد نيابة عن إسرائيل لكن الكثير، والعلاقة بين اليهود الأمريكان والإسرائيليين متشابكة» .
[لاري جاربير المدير التنفيذي لصندوق إسرائيل الجديد صحيفة هآرتس 30/5/2006م] .
أخبار التنصير
تنصير الأكراد وإعدادهم للعمل في كنائس العراق
شهدت المحافظات الكردية خلال شهر أبريل الماضي 2006، حملة تنصير واسعة النطاق تقوم بها منظمات وجماعات تنصيرية بلغ عددها في المحافظات الكردية نحو 50 ألف نصراني، وقامت منظمة تدعى «إيكورن» تابعة للفاتيكان بتنصير عشرات الأكراد المسلمين وأرسلت بعضهم إلى دورات تنصيرية في كنائس خاصة بالعاصمة بغداد، بعد إغرائهم بمرتبات تراوحت بين 500 إلى 600 دولار، ويتم اختيار المتميزين وإرسالهم إلى الفاتيكان للتدرب على ممارسة التنصير، وقد توسعت «إيكورن» في فتح مقرات لها بدأت بثلاثة في العام الماضي وأصبحت الآن ثلاثة عشر مقراً في المحافظات الكردية الثلاث: أربيل والسليمانية ودهوك. [الشروق ـ الجزائر ـ 9/5/2006م]
هجمة تنصير كورية في الخليج والأردن
يحتل المنصِّرون الكوريون الجنوبيون موقع الصدارة حاليّاً في الأنشطة التنصيرية الإنجيلية التي تستهدف المسلمين في الدول العربية مستخدمين أساليب سرية، ومستندين إلى دعم مالي لا نهاية له.
وتعتبر المنظمات التنصيرية بكوريا الجنوبية الآن المصدر الثاني للمنصرين في العالم بعد الولايات المتحدة، بينما تسبق بريطانيا التي تأتي في المرتبة الثالثة.
وتقول صحيفة الكتيبة الطيبية: إن العاصمة الكورية سيول نشرت 12 ألف منصّر في الخارج خلال العقدين الماضيين فقط، لا يستخدمون لغتهم أثناء تحويل الأشخاص عن دينهم الأصلي، بل إنهم يستخدمون لغة البلاد التي يمارسون فيها نشاطهم التنصيري، أو يلجؤون إلى اللغة الإنجليزية.
ونقلت الصحيفة عن منصِّر كوري جنوبي في الأربعينيات من عمره قوله: «هناك مقولة تشير إلى أنه حينما يصل الكوريون إلى مكان ما فإنهم ينشئون كنيسة، أما الصينيون فينشئون مطعماً، واليابانيون ينشئون مصنعاً» .
وعن طرق التنصير التي يتبعونها، قال: «كل منصِّر يتناول الطعام مع 3 أو 4 مسلمين، ثم يدع الحديث يتدفق عن المسيح» ، لافتاً إلى أنه لا يتم ذكر كلمة «منصر» أو «داعٍ إلى الإنجيل» على الإطلاق.
وأكدت الصحيفة المسيحية أن حصول أي منصر على تأشيرة دخول إلى بلد عربي أو مسلم يُعَدّ أمراً صعباً، لكنهم يلجؤون لطرق أخرى، مثل الحصول على تأشيرة دراسية، أو للعمل كمبرمج حاسب آلي أو غير ذلك، ثم يمارسون أعمال التنصير سراً.
[صحيفة الكتيبة الطيبية المسيحية ـ القاهرة ـ عدد مايو 2006م]
أمريكا وبريطانيا تدعمان التنصير بمليارات الدولارات
كشف تقرير صادر عن البيت الأبيض أن الإدارة الأمريكية قدمت خلال عام 2005م أكثر من ملياري دولار كمنح للجمعيات الدينية المسيحية، وذكرت الجارديان البريطانية الصادرة يوم 16/3/2006م «أن هذا الرقم الذي تم الكشف عنه لا يشمل كل المنح التي قدمتها الإدارة الأمريكية، وأنه تم تحويل ما يعادل 4 مليارات جنيه إسترليني لدعم برامج الرهبنة، كانت مخصصة لمكافحة مرض الإيدز» .
وأشارت (زينت) لإحصائية نشرتها جمعية NCRP الأمريكية لدعم العمل التطوعي ومقرها واشنطن عام 1998م أن حجم التبرعات لعام 1998م فقط بلغ 175 مليار دولار يذهب تسعة أعشارها لدعم الكنائس والأنشطة الدينية الأخرى، ومنها التنصير بالطبع، بينما بلغ حجم المال الذي تداولته المؤسسات الخيرية في بريطانيا عام 2005 ما قيمته 28 مليار دولار. [الفاتيكان ـ زينيت 28/5/2006م](226/22)
الاغتيالات الجارية في البصرة (نزيف مستمر)
عبد الله علوان البدري
موقف ـ الاغتيالات الجارية في البصرة «نزيف مستمر» ـ الشيخ الدكتور مثنّى بن حارث الضاري يتحدث عن عمليات القتل والتهجير واستهداف رموز السُّنّة في البصرة قائلاً:
الأوضاع في البصرة ليست جديدة، وما حصل في البصرة هو تصعيد استطاع الإعلام هذه المرة أن يبرزه، وذلك بسبب تصاعد الخلافات السياسية بين القوى الموجودة في البصرة، وغالبها قوى داخلة في العملية السياسية، وأيضاً الصراع بين ميليشيات مختلفة، وهذه الميليشيات لها صلة قريبة أو بعيدة من القوى السياسية الداخلة في العملية السياسية، أو لها صلة بجهات دولية وإقليمية وخاصة دول الجوار ذات العلاقة.
الوضع في البصرة سيِّئ جداً، فمنذ بداية الاحتلال وعمليات القتل على الهوية قائمة فيها، وإن أولى عمليات التهجير في العراق سُجّلت في هذه المدينة، وهناك شواهد كثيرة على ذلك؛ تتضح بالرجوع إلى الصحافة العراقية التي ظهرت بعد الاحتلال حيث نجد مؤشرات كثيرة على ذلك.
وبالاتصال بالكثير من العوائل في المحافظات العراقية ـ ولا سيما محافظات الوسط والشمال والجهة الغربية وحتى خارج العراق ـ نجد أن عشرات العوائل البَصْرية قد هُجّرت منذ الأشهر الثلاثة الأولى للاحتلال، وبقي الوضع في البصرة محتقناً إلى فترة، ثم سادَ نوع من الهدوء بعد انشغال الجميع بما يحدث في المركز في بغداد، ولكن هذا أعطى فرصة ـ خاصة في السَّنَة الأخيرة ـ لتصاعد أعمال القتل والتهجير ـ التي لا يُعلن عنها ـ من خلال ميليشيات جديدة إضافة إلى الميليشيات القديمة وميليشيات صغيرة، حتى بلغ عدد الميليشيات في محافظة البصرة ما يقارب (13) إلى (14) ميليشيا، بل ربما يكون العدد أكثر من ذلك، ومجموع الميليشيات في العراق تجاوز الثلاثين ميليشيا أغلبها في البصرة؛ بحكم انفتاح البصرة على من جاورها وعلى إيران وبُعْدها عن المركز.
وفي مناسبات سابقة صرَّح عدد من محافظي البصرة ومديري الشرطة فيها بخطورة الوضع، وآخرها كان تصريح مدير الشرطة قبل أشهر بأن الميليشيات التي تعمل بدون غطاء شرعي هي سبب مشكلة البصرة ومعاناتها.
كل هذا غضَّت الحكومات المتوالية في بغداد الطرفَ عنه إلى أن تفاقمت المشكلة عندما حصلت المشكلة بين القوى السياسية والميليشيات نفسها في المدينة، وآخرها المشكلة التي حصلت بين إحدى عشائر البصرة والشرطة بعد قتل شيخ هذه العشيرة ومداهمة أبناء العشيرة مراكز الشرطة واستفحال الأمر.
إن المشاورات حول تشكيل الحكومة والمحاصصات الطائفية والعِرْقية ألقت بظلالها أيضاً على البصرة، وخاصة فيما يتعلق في موضوع النفط، وكما أُعلن أن الوزارة السابقة قامت بتوزيع المناصب الوزارية على أساس اتفاقات قامت في الجزء الأساسي على المحاصصة الطائفية والعِرْقية؛ ولكن قامت في جزء آخر بعد احتواء هذه المحاصصة على توزيع وزارات معينة لقوى سياسية محددة، ومنها وزارة النفط التي كانت تابعة لإحدى القوى السياسية في البصرة التي منها محافظ البصرة، وسيطرة هذا الحزب على القطاع النفطي ولّد مشكلات وخلافات في البصرة، إضافة إلى انتشار عمليات تهريب النفط إلى خارج العراق من خلال عمليات كثيرة غير مشروعة.
أحدثَ ذلك نوعاً من القلاقل في المدينة، وصاحبه اضطراب الوضع الأمني، وازدياد عمليات الاغتيال وما إلى ذلك، فبدأت الاتهامات تُلقى من هذا الطرف على ذلك الطرف على خلفية تصفية الخلافات التي عادة ما تكون خلافات مالية أساساً ذات واجهة سياسية.
أجَّجت الاضطرابات تلك الأوضاع في البصرة، واستطاعت أن تحول البصرة إلى مدينة ساخنة جداً مع بداية فصل الصيف، وطالت هذه الأحداث كل سكان البصرة، ومنهم ـ طبعاً ـ بشكل خاص أهل السنة، وكلنا يعلم أن عدد أهل السنة في البصرة عدد كبير جداً يقارب المليون شخص، رغم عمليات التهجير الكثيرة والنزوح الاضطراري لكثير منهم.
تتمثَّل هذه المضايقات الأخيرة في استهداف رؤوس الأموال هناك، خاصة الحادثة المشهورة في استهداف شركة الفيحاء التي هي أساس لإعالة عدد كبير من العوائل البَصْرية بغضِّ النظر عن انتمائها الطائفي، ولكن يبدو أن هذه الشركة صُنّفت على أنها شركة سنّية، لذلك استهدفت وقُتل عشرة من مهندسيها في ساحة عامة في مدينة البصرة، الأمر الذي أجّجَ الأوضاع فيها، ولكن تمّ إخفاء هذا الخبر تماماً ولم يظهر إلى الإعلام إلا في وسائل قليلة جداً، بعد ذلك تمّت مداهمة هذه الشركة وإبعاد وفصل موظفيها؛ من خلال الضغط عليهم واضطرارهم إلى النزوح خارج المدينة، وبدأت أحداث (الزبير) المأساوية والتي تطورت بشكل سريع واستهدفت أولاً بعض الأئمة والخطباء وبعض ممثّلي القوى السنّية حتى الداخلة في العملية السياسية، كما حصل للشيخ خالد السعدون ورفاقه، وقبل ذلك بعض الأئمة والخطباء، وأخيراً عضو هيئة علماء المسلمين الشيخ وفيق الحمداني.
تطوّرت الأمور مما جعل أهالي هذه المنطقة يفكرون في الرحيل عن المدينة، وقد ساهم في هذا التفكير بروز صيغة جديدة للضغط على المواطنين ألا وهي اقتحام البيوت وقتل من فيها، وقد سجلت هذه الحوادث في هذا الصدد وأشرنا إليها في بيان للهيئة في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي.
عموماً الأوضاع في البصرة لا زالت متوترة، والدليل على ذلك: أن الحكومة في بغداد حاولت التعتيم على هذا الموضوع والقول: بأن الأحداث طبيعية، وأرسلت عادل عبد المهدي، ثم بعد ذلك اضطرت أخيراً إلى أن يتوجه رئيس وزراء الحكومة الجديدة ونائب رئيس الجمهورية إلى البصرة لمعاجلة الأمور، ولأول مرة تُفرض رسمياً حالة الطوارئ في البصرة، مع العلم أن العراق كله أشبه ما يكون بحالة طوارئ، مما يدل على أن هناك مشكلة كبيرة.
عموماً نحن نستقي الأخبار من خلال متابعتنا للواقع ولكن مع ذلك لدينا مصادر خاصة ومنها مصادر الهيئة في البصرة، ولعب فرع البصرة في الفترة الماضية دوراً كبيراً في التقريب بين وجهات النظر، ولعلَّ من الأمور التي لا يعلمها الجميع أن كثيراً من النشاطات الدينية والسياسية التي تقتضي جمع كل المكونات السياسية والقوى السياسية والدينية في البصرة غالباً ما تكون في مقرِّ هيئة علماء المسلمين هناك، وذلك لأن الهيئة في البصرة تمثل عاملاً مشتركاً بين الجميع بصفتهم العراقية، وقد حلّت حالات كثيرة جداً كان الفيصل فيها هو الاجتماع في مقر الهيئة في الجامع الكبير في مدينة البصرة.
يحاول ويسعى فرع الهيئة في البصرة ـ طبعاً ـ دائماً إلى إطلاع المقرّ العام في بغداد على ما يجري، ويحاول أن يهدِّئ الأمور، وأن يوصل تقارير متوازنة تصف الحالة كما هي دون رتوش، وفي الفترة الأخيرة توجّه رئيس الفرع في البصرة إلى بغداد، وزار المقرّ العام، ثم التقى ببعض الأعضاء الآخرين حيث شرح الحالة وقال: الوضع في البصرة وضع مؤلم، والأمور يجب أن يوضع لها حدّ، وأن تدخّلات الحكومة قد لا تنهي الأمور؛ لأن هناك أطرافاً أخرى سلطتها أقوى من سلطة الحكومة المركزية تسرحُ وتمرحُ في البصرة، وهذه الأطراف ـ طبعاً ـ معروفة، ولا داعي للخوض في تفاصيلها؛ لأن أهالي البصرة هم أكثر من غيرهم معرفة بها.
ما نريده من الإعلام العربي والإعلام الإسلامي أن يحاول الوصول إلى أصل المشكلة ومعرفة الدوافع الحقيقية لتوتير الأوضاع.
وقد يتساءل بعض المراقبين: لِمَ لا يوضع مرصد لأحوال أهل السنَّة في البصرة؟ وهل هناك شيء من هذا القبيل؟ فأقول: هذا الدور موجود فعلاً؛ لأنه يوجد عندنا في الهيئة قسمان مختصان بذلك، قسم الإعلام الذي يرصد كل هذه الحالات بالتواصل مع الفروع وخاصة فرع البصرة، وقسم حقوق الإنسان الذي يسجل كل التجاوزات التي تقع للعراقيين عموماً ومنهم أهل السُّنة، ولدينا تسجيل لتجاوزات كثيرة، ولعلَّ من أوائل تلك التجاوزات التي أشرنا إليها ونبّهنا عليها في بداية الاحتلال ما تعرَّض له أبناء البصرة من أهل السُّنة، وأذكر أنه في صحيفة (البصائر) وهي الجريدة الناطقة باسم الهيئة في فترة متقدمة جداً وفي عددها العاشر في أواخر 2003 كانت هناك تغطية واسعة حول هذه القضايا، ولذلك لدينا رصد كامل، وفرع الهيئة في المنطقة الجنوبية ـ أيضاً ـ لديه توثيق لتلك الأحداث، مع أننا ـ دائماً ـ نتكلم عن هذا الموضوع باعتباره انتهاكاً لحق الإنسان في الحياة، بغضِّ النظر عن انتماء الشخص سنِّياً كان أو شيعياً، عربياً كان أو كردياً أو تركمانياً حتى لو كان مسلماً أو نصرانياً؛ لأن لدينا ـ أيضاً ـ تسجيلات واختراقات على حق الإنسان غير المسلم في البصرة، وقد لجأتْ إلينا بعضُ الجهات والكنائس ـ على سبيل المثال ـ وشكت مراراً وتكراراً من ذلك.
وزارتنا وفود كنسيّة للهيئة لبثِّ الشكوى، ومن الوفود كذلك وفد الصابئة، والآن هناك موعد سيحدد قريباً لزيارتهم لمقرِّ الهيئة لإبلاغنا ببعض التجاوزات عليهم، إذاً؛ الهيئة تسعى إلى هذا الموضوع ولديها توثيق وتعلن هذا من خلال مؤتمراتها الصحفية وبياناتها الإعلامية واتصالاتها بالجهات الخارجية.
وحول سؤالنا للشيخ: ماذا يمثّل لكم اغتيال علماء أهل السُّنة؟ أجاب فضيلته قائلاً:
الوضع في العراق الآن وضع منفلت، والاغتيالات التي تقوم على أساس الهوية كثيرة جداً، والحالات التي بدأت باغتيال بعض الأئمة والخطباء والعلماء بدأت في البصرة ثم في بغداد، ونحن رصدنا ذلك منذ زمن، فأول من استشهد من أعضاء الهيئة كان في شهر 2 عام 2004، في فترة مبكرة جداً قبل أن يستحر موضوع القتل في العلماء عموماً والخطباء وعلماء الشرع تحديداً.
والقتل الآن يطالُ الكفاءات العراقية عموماً مهندسين وأطباء وعسكريين وأساتذة جامعات. ورابطة الأساتذة الجامعيين تُصدر بين فترة وأخرى بيانات مهمة حول هذا الموضوع، ونحن في الهيئة رصدنا كل هذه الحالات.
والذي حصل في الفترة الأخيرة أن ازدياد عمليات قتل الأئمة والخطباء قد كثر وخاصة أعضاء الهيئة وفي البصرة تحديداً، وهذا مرجعه يعود إلى أن هناك دوراً نشطاً لأئمة وخطباء المساجد في وَأْد الفتنة في العراق عموماً وفي البصرة تحديداً، والهيئة تبثّ روح التقريب بين وجهات النظر والجهات المختلفة سياسياً، ويبدو أن هذا السلوك من الأئمة وخطباء المساجد وعلماء الهيئة في البصرة لم يرضِ بعض الأطراف التي أرادت أن تبقي الأمور على حالها، وهذا لا يتم إلا من خلال استهداف أهل العلم والرأي وأئمة وخطباء المساجد؛ لأن استهدافهم سيُخْلي هذه الواجهات العلمية والدينية والسياسية ممن يتحدث بالحق وممن يحاول أن يصلح بين الناس. وأنا أضرب مثالاً واحداً على ذلك فبعد أحداث سامراء وما حصل فيها من مشكلة هدم المرقدين وغيرها كانت إحدى القوى الدينية العراقية خارج العراق وتحديداً في إيران، وعادت إلى العراق عن طريق البصرة، حيث اختارت أن تتوجّه إلى مقرّ هيئة علماء المسلمين من أجل بيان وجهة نظرها حول ما حصل في سامراء والتداعيات بعدها، وفعلاً توجّه إلى مقر الهيئة ولكن سماع الناس بتوجّه هذه الشخصية الدينية إلى مقرّ الهيئة جعلهم يحتشدون أمام مقرّ الهيئة انتظاراً لوصوله، الأمر الذي أحدث نوعاً من الخلل الأمني مما اضطره إلى تعديل مساره، والقصد من هذا أن الهيئة في تلك الأحداث المأساوية التي مرَّ بها العراق كانت قبلة للشخصيات الدينية غير السنّية من أجل بيان وجهة نظرها، فمن الطبيعي أن الهيئة لها دور في البصرة، ولذلك تحاول بعض الجهات تقزيم هذا الدور واستهدافها.
وحول سؤالنا للدكتور مثنَّى عن ماهيَّة الحلول الممكنة قريباً أو لاحقاً للوضع العراقي وخاصة ما يتعرض له أهل السُّنة؟ أجاب فضيلته:
الوضع العراقي ـ عموماً ـ لا يمكن أن يصلح إلا من خلال مشروع وطني، وأقصد به مشروعاً عراقياً؛ لأنَّ هذا المشروع طُرح مراراً وتكراراً، وكل الأطراف الموجودة في الساحة تعلم أن المشروع قد تبنّته القوى الرافضة للاحتلال، وفي مقدمة هذه القوى الرافضة للاحتلال هيئة علماء المسلمين، وطُرِحَ المشروع على الأخضر الإبراهيمي عندما زار العراق أوائل عام 2004، ثم طُرح على الجامعة العربية في السنة نفسها، ثم طُرح في مؤتمر الوفاق في القاهرة، ولا زلنا بين فترة وأخرى نؤكد عليه.
يقوم هذا المشروع على أساس خروج الاحتلال وفق جدولة زمنية معقولة ومقبولة دولياً، وفي أثناء ذلك تُختار حكومة من المستقلين البعيدين عن كل القوى السياسية؛ لأن أساس البلاء هو الصراع بين هذه القوى السياسية، وتتولَّى هذه الحكومة الإعداد لانتخابات عامة يشارك فيها جميع العراقيين؛ لأنها ستكون بإشراف دولي وبعد خروج قوات الاحتلال، وهذا هو الحل الشامل الذي نطرحه دائماً ونؤكد عليه، ويبدو أن كثيراً من هذه القوى السياسية لا تريد لهذا الحل أن يتمّ، وعلى رأس هذه القوى ـ طبعاً ـ الاحتلال؛ لأنه يرى بأن هذا المشروع هو إقرار منه بالهزيمة وفشل لمشروعه في العراق، ولذلك تراه يحاول أن يفشل هذا المشروع كلما طُرح، إضافة إلى جعل القوى السياسية الموجودة في الساحة في غالبها مستفيدة من بقاء قوات الاحتلال وإن أعلنت خلاف ذلك، والدليل: هو أعمالها ثم إعلانها قبل فترة أن القوات الأمنية العراقية لن تستلم زمام الأمور إلا في نهاية عام 2007، فإذاً؛ عندنا سنة ونصف بقاء للقوات المحتلّة، أو تطلب من قوات الاحتلال البقاء بصورة غير مباشرة، فلذلك لا أظن أن الحلول الجزئية التي تقوم بها الحكومة الحالية وتحت ضغط قوى سياسية معينة ـ إقرارها في البصرة وفي غير مناطق في العراق ـ ستوصلنا إلى أي نتيجة، فالنتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال حل عراقي شامل، ولا أظن أن الأطراف السياسية الموجودة الآن تقتنع بأن الحلول الجزئية حلول قائمة على أساس مصالح للأسف، ولا نتّهم أحداً، وإنما واقع الحال أثبت ذلك، والدليل: المشكلة الأخيرة بين حزب الفضيلة في البصرة والحكومة في بغداد وموضوع النفط فإنها تبين بأن القضية قضية مصالح حزبية وذاتية وليست قضايا وطنية.
ختاماً: أسأل الله ـ تعالى ـ أن يلطف بالعراق وأهله، وأن يكفيهم المحن، ما ظهر منها وما بطن، إنه سميع مجيب.
__________
(1) الناطق الرسمي باسم هيئة علماء المسلمين في العراق، والمسؤول عن قسم الثقافة والإعلان فيها.(226/23)
قد أذّن الأحرار
رمضان زيدان
فجرٌ تألّق في الربوع ولاحا
شمخ العرين بـ (زأرة) الأُسْد التي
نحو الصدارةِ قد توغّل ثلّةٌ
طبعوا على حَبِّ الرمالِ ظلالَهُم
روح الحماس قد استمدت عزمها
قد أذَّن الأحرار في أصلابها
جعلوا من الليل الوديع عبادةً
قوْمٌ إذا دعت البلادُ لنُصرةٍ
في موكبِ النور المرصّع بالمنى
هم نجم ليلٍ للطريق يقودنا
وهم الظلال قد استطال بأرضنا
وهم السواعد تستعيدُ حصونها
وهم النسورُ على المرابع كلها
وهم الدعاة إلى الفضيلةِ والهدى
سبقوا إلى درب الجهاد بفرحةٍ
قسَّامُ يأبى أن يكون مفرطاً
وشهيدُ حقٍ (1) قد أطل بروحه
عياشُ يبقى في الخوالج نابضاً
لله نضرعُ أن يوفّق جمعهم
عرفوا الطريق فما تراجعت الخُطى
يا رب عزِّز بالجهاد مقامهم
كشفَ الظلام وعانقَ الإصباحا
قامت تُعبِّد ربوةً وبطاحا
صنعوا من النهج القويم فلاحا
وعلى الطريق تبنَّوُا الإصلاحا
بالدين تُجْنى درةً ورباحا
وبكل منعطفٍ يروْن نجاحا
ومن النهار عزيمةً وكفاحا
لبُّوا وجاؤوا قوةً وسلاحا
قهروا البغاةَ وطاردوا الأشباحا
هم نبضُ حبٍّ للحياةِ رواحا
حتى يَزُف عبيرهُ فواحا
لتقيم في قلب السَّما مصباحا
لمس النسيم من النسور جناحا
عكفوا هناك ليعبدوا الفتَّاحا
همست تطبب حرقةً وجراحا
ياسينُ أسهب في الحديث وباحا
حتى يعانقَ في السماءِ براحا
عزماً يُؤجِّج للنفير رماحا
وهم الذين تأهّبوا إصلاحا
عن كل دربٍ يهلك السفاحا
واجعل من النصر القريب مُتاحا
(1) يقصد الشهيد عبد العزيز الرنتيسي.(226/24)
سياسات منظمات العولمة الاقتصادية في ضوء الشريعة الإسلام (2 ـ 2)
د. ناصح بن ناصح المرزوقي البقمي
مدخل:
بيَّن الكاتب في الحلقة الأولى حقيقة العولمة؛ ذلك المصطلح الغامض، وأوضح معانيها المختلفة، وهل المراد أحدها؟ أم أنها هي هي مجتمعة؟ وما أهدافها وآثارها؟
وتحدّث عن سياسات منظمات العولمة الاقتصادية ومحاورها، متناولاً سياسات معالجة
ü المطلب الثالث: سياسات منظمات العولمة الاقتصادية لمعالجة العجز في ميزان المدفوعات:
ميزان المدفوعات هو بيان إحصائي تسجل فيه معاملات الدولة المالية بين المقيمين فيها والمقيمين في غيرها من دول العالم لفترة زمنية معينة تُقدَّر عادةً بسنة.
وينقسم ميزان المدفوعات إلى قسمين رئيسين:
1 ـ الحساب الجاري: ويبين صادرات الدولة ووارداتها من السلع والخدمات، ويشمل ما يلي:
أـ الميزان التجاري: ويبين الصادرات والواردات السلعية، ويسمى حساب التجارة المنظورة.
ب ـ حساب الخدمات: ويبين الخدمات المختلفة من وإلى البلد، كالشحن والسياحة والخدمات المصرفية، ويسمى حساب التجارة غير المنظورة.
ج ـ حساب التحويلات: ويبين تحويلات العاملين، وعوائد الاستثمار، من وإلى البلد.
2 ـ حساب رأس المال: ويبين تحركات رؤوس الأموال من الدولة وإليها، ويشمل ما يلي:
أـ الاستثمارات والقروض من وإلى البلد.
ب ـ احتياطات الدولة من وسائل الدفع التي تسوى بها التزامات الدولة مع الدول الأخر، مثل: الذهب، والعملات الصعبة، وحقوق السحب الخاصة، من وإلى البلد أيضاً.
وأهم سياسات منظمات العولمة الاقتصادية المقترحة لمعالجة العجز في ميزان المدفوعات هي: تخفيض قيمة العملة الوطنية، وتحرير الاستيراد من القيود وفتح الأسواق، وإلغاء الرَّقابة على سوق الصَّرف الأجنبي. وفيما يلي عرض لها بإيجاز:
أولاً: تخفيض قيمة العملة المحلية:
يمكن تعريف قيمة العملة بأنها «مقدار الأشياء عامة التي يمكن مبادلتها بوحدة النقود» .
ويطالب خبراء الصندوق بتخفيض قيمة العملة الوطنية، بدعوى أن الدول النامية تضع لعملاتها أسعاراً مبالغاً فيها، حيث يكون السعر الرسمي للعملة أكبر بكثير من السعر الحقيقي الذي يتحدد بالعلاقة بين متوسط الأسعار الداخلية ومتوسط الأسعار الخارجية لو ترك تحديد السعر للعرض والطلب.
وحجة خبراء الصندوق أن تخفيض قيمة العملة المحلية سيجعل قيمة الوحدة النقدية من العملة المحلية مساوية لعدد أقل من وحدات النقد الأجنبي، فتصبح أسعار صادرات البلد بالنقد الأجنبي رخيصة، مما يزيد من الطلب الخارجي عليها، كما يؤدي إلى زيادة دخول منتجي السلع المصدرة بالنقد المحلي مما يشجعهم على زيادة إنتاجهم، فتزيد بذلك صادرات البلد من ناحية الكمية والقيمة، مما يحسن وضع السيولة النقدية من النقد الأجنبي ويمكِّن البلد من الوفاء بالتزاماته الخارجية. ومن ناحية أخرى فإن تخفيض قيمة العملة المحلية، يعني أن ثمن العملات الأجنبية مقوّمة بالنقد المحلي يصبح مرتفعاً، مما يجعل أسعار الواردات من السلع الأجنبية مرتفعة مقوّمة بالأسعار المحلية، وهذا يقلِّل من الطلب المحلي عليها، فتكون النتيجة النهائية لقرار تخفيض العملة المحلية هي زيادة الصادرات وانخفاض الواردات، مما يعني تضييق الفجوة أو العجز في الميزان التجاري، ومن ثم الحساب الجاري، فيتحسن وضع ميزان المدفوعات.
وهذه النقطة ـ أعني: تخفيض سعر العملة ـ غالباً ما تكون حجر عثرة في وجه المناقشات والمفاوضات بين بعثة الصندوق وحكومة البلد المعني؛ لما لها من خطر كبير على الاقتصاد.
ثانياً: إلغاء الرَّقابة على سوق الصَّرف الأجنبي:
سوق الصَّرف الأجنبي أو سوق النقود كما عرفها البنك الدولي هي: سوق تتداول فيها أوراق مالية قصيرة الأجل، مثل: أذونات الخزانة وهي أدوات الدين قصيرة الأجل التي تصدرها الحكومة من أجل سدِّ العجز في موازنتها، كما تشمل العملات العالمية كالدولار والجنيه الإسترليني. وتفرض الدول النامية رقابة على الصَّرف الأجنبي لما يلي:
1 ـ للاستفادة من العملات الصعبة في دفع فاتورة الاستيراد، وقضاء الديون الخارجية.
2 ـ تحسين وضع ميزان المدفوعات بالحدِّ من الواردات وبخاصة الواردات الاستهلاكية الكمالية.
3 ـ حماية الصناعة المحلية وبرامج التنمية المحلية.
4 ـ المحافظة على استقرار أسعار الصرف، ومنع المضاربة على العملة.
وقد فرضت الدول النامية نظاماً رقابياً على سوق الصرف واشترطت موافقة سلطات الرقابة في الدولة على المعاملات الاقتصادية والمالية مع الدول الأخر، متَّبعة الوسائل التالية:
1 ـ بيع العملات الأجنبية جميعها لسلطات الرقابة، كما يشترى منها المتطلبات من الصَّرف الأجنبي. ويسمح أحياناً لبعض المعاملات أن تجري في السوق الحرة، لكنها معاملات قليلة.
2 ـ جعل سعر صرف العملة المحلية الرسمي مثبتاً، إلا في حالات المعاملات التي تجري في قطاع السوق الحرة إن وجدت، ويكون السعر الرسمي للعملة المحلية عادة أعلى من سعر السوق.
3 ـ إلزام المصدّرين ومن يحصلون على عملات أجنبية أو سندات أو أسهم مقوّمة بعملات أجنبية عند بيعها على البنك المركزي بالسعر الرسمي للعملة المحلية.
4 ـ لا تحوّل رؤوس الأموال المودعة بالمصارف إلا بعد استئذان الجهات المختصة. وتضع الدولة حدوداً للأموال التي يسمح للأفراد حملها معهم عند خروجهم من الدولة، كما تحدد الأموال التي يسمح للأفراد إدخالها معهم.
5 ـ تدفع الدولة مالاً للمصدّر للمحافظة على سعر الصرف الرسمي دون تغيير، وأما المستورد فيدفع رسماً إلى الدولة للحصول على العملات الأجنبية بالأسعار الرسمية.
6 ـ الأخذ بسعر الصَّرف المتعدد، ويقصد به تحديد مستويين أو أكثر لأسعار الصرف، يتلاءم كل منهما مع طبيعة النشاط الذي يستعمل فيه. ويهدف هذا النظام إلى تشجيع بعض الأنشطة الاقتصادية والحدّ من أنشطة أخر. فمثلاً: بينما يُفرض سعر صرف مرتفع للعملة لتقليل استيراد الكماليات، يفرض سعر صرف منخفض لتشجيع استيراد المواد الخام والسلع الرأسمالية والغذائية.
ويوصي خبراء الصندوق والبنك بإلغاء الرقابة على الصرف الأجنبي أو تقليصها إلى أدنى الحدود، بحيث يكون تحويل الأموال من وإلى البلد دون قيود؛ مع إيجاد سوق حرة للنقد الأجنبي؛ مما يحقق المزايا التالية:
1 ـ تمويل عجز الموازنة العامة للحكومة بأدوات السوق المفتوحة، دون اللجوء إلى زيادة العرض النقدي الذي يؤدي إلى التضخم.
2 ـ ممارسة السياسة النقدية من خلال السوق المفتوحة.
3 ـ تهيئة مرجعية لمعدلات الفائدة.
4 ـ تهيئة مصادر أموال بالنسبة إلى الشركات والبنوك، وإمكانية إصدار أوراق تجارية قصيرة الأجل.
ثالثاً: تحرير الاستيراد من القيود وفتح الأسواق:
تطالب منظمات العولمة الاقتصادية بتحرير الاستيراد من القيود وخصوصاً بالنسبة إلى القطاع الخاص؛ لأن تلك القيود تعرقل التجارة وتعيق انسيابها على حدِّ زعم خبراء تلك المنظمات. وأهمّ ما تطالب به هذه المنظمات بالنسبة إلى تلك القيود هو إلغاء القيود الكمية، وتخفيض الرسوم الجمركية، وفتح الأسواق. وفيما يلي استعراض لها بإيجاز:
1 ـ إلغاء قيود الاستيراد الكمية:
تفرض الدول النامية قيوداً كمية على الواردات من أجل حماية الصناعة المحلية وتخفيض العجز في ميزان المدفوعات، ومن هذه القيود الكمية ما يلي:
أـ الطلب من المستوردين الحصول على تراخيص لاستيراد السلع.
ب ـ تقييد الاستيراد بكمية معينة وهو ما يسمى بنظام الحصص.
ج ـ منع استيراد بعض السلع منعاً باتاً.
د ـ منع استيراد بعض السلع من مناطق معينة.
وتطالب منظمات العولمة الاقتصادية بإلغاء هذه القيود، وغيرها من القيود المعرقلة للتجارة الدولية.
2 ـ تخفيض الرسوم الجمركية:
الرسوم الجمركية هي الأموال التي تفرض على السلع المستوردة وتُحصَّل عند دخول تلك السلع إلى موانئ الدولة المستورِدة، فهي رسوم منتقاة تفرض على المبيعات من السلع الأجنبية، وتشبه إلى حدٍّ ما ضرائب الإنتاج التي تقدَّم الحديث عليها. وقد تفرض هذه الرسوم على بعض السلع الصادرة للاحتفاظ بها داخل البلد لحاجة الناس إليها.
ويهدف فرض الرسوم الجمركية إلى تحقيق ما يلي:
أـ حماية الصناعات المحلية وبخاصة حديثة النشأة من المنافسة الخارجية في السوق الداخلي، حيث إن رسوم الواردات تصبح عنصراً من عناصر قيمة السلعة المستوردة فتصبح قيمتها مرتفعة، مما يجعل المستهلك يتحوَّل إلى السلع المحلية مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج المحلي.
ب ـ الحدّ من الاستهلاك وبخاصة استهلاك السلع الكمالية والترفية التي يكون معظمها مستورداً، مما يوفر العملات الأجنبية اللازمة لاستيراد السلع الضرورية الاستهلاكية منها والرأسمالية.
ج ـ تحقيق التوازن في ميزان المدفوعات. فإن فرض الرسوم الجمركية على الواردات يكون أداة مهمة في تقييد حجم الواردات؛ مما يخفف من العجز في ميزان المدفوعات، ومن ثم يخفف من استنزاف الموارد الاقتصادية.
د ـ تحقيق موارد للدولة ربما تصل في بعض الدول النامية إلى ثلث موارد الموازنة العامة.
ووجهة نظر خبراء الصندوق بشأن قيود الاستيراد، أن البلدان النامية في محافظتها على نسب جمركية مرتفعة، واتِّباعها لنظام الحصص، بهدف حماية بعض المنتجات في السوق الداخلية من المنافسة الخارجية، تكون قد شجعت الإنتاج في القطاعات غير المربحة التي لا يتوافر للبلد فيها مزايا نسبية. فهذه القطاعات المحمية تحصل على موارد كان يمكن أن تكون ذات فائدة أكبر لو وجهت إلى قطاعات التصدير. إضافة إلى ذلك، فإن القطاعات المشار إليها، تنتج منتجات للسوق الداخلية بأسعار أعلى، يمكن الحصول عليها بأسعار أقل بالاستيراد.
ويتطلب تحرير الاستيراد من القيود ـ في نظر خبراء الصندوق ـ الأخذ بالإجراءات التالية:
أـ توحيد هيكل الرسوم الجمركية وتسهيله، وترشيد منح الإعفاءات الضريبية، وجعل الرسوم على عدد محدد من السلع.
ب ـ فرض حدٍّ أدنى من الرسوم الجمركية على الواردات اللازمة لتنشيط إنتاجية قطاع التصدير، إضافة إلى التخلِّي عن نظام حصص الاستيراد، والتحول التدريجي إلى نظام التراخيص الحرّ، لتخفيف قيود الاستيراد.
ج ـ عدم المبالغة في الرسوم الجمركية على المحاصيل والمنتجات الزراعية الأجنبية.
د ـ عدم المبالغة في سعر الصرف.
3 ـ فتح الأسواق:
هذا المبدأ هدفت إلى تحقيقه سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وشجعت الدول على الاتجاه نحوه. وعندما أنشئت منظمة التجارة العالمية اهتمت بهذا المبدأ أو الهدف اهتماماً كبيراً، وجعلته محور مبادئها التجارية، على نحو يتكامل وسياسات المنظمتين السابقتين ولا يعارضهما. ويمكن إجمال أهم مبادئ المنظمة وقواعدها في هذا المجال على النحو التالي:
أـ مبدأ الشفافية:
ويقصد به: نشر المعلومات المتعلقة بالاتفاقيات، والقوانين، واللوائح الوطنية، والممارسات الشائعة التي قد تضرّ بالتجارة الدولية. كما تعني الشفافية أيضاً الالتزام بكون الرسوم الجمركية هي الوسيلة الوحيدة للحماية وتقييد الواردات من الدول الأخر، دون اللجوء إلى نظام الحصص الكمية.
فهذا المبدأ يطالب بأهمية اتِّباع البلدان الأعضاء سياسات تجارية تحررية مفتوحة، ولكنه يتيح لها حماية إنتاجها الوطني من المنافسة الأجنبية، بفرض الرسوم الجمركية لكن بمعدلات منخفضة. غير أن هذا المبدأ يخضع لاستثناءات محددة، منها: استثناء البلدان التي تعاني مصاعب في ميزان مدفوعاتها، بالحدِّ من الواردات بغية حماية مركزها المالي الخارجي، باستعمال القيود الكمية على الواردات، إذا كانت هذه القيود ضرورية لتفادي الهبوط الحادّ في احتياطاتها النقدية، أو تواجه تدفّقاً مفاجئاً أو ضخماً من سلع مستوردة معينة، على نحو يلحق ضرراً بالغاً بالمنتجين المحليين لهذه السلع، أو يهدّد بوقوع مثل هذا الضرر. ويشترط أن يتبع هذا الإجراء الوقائي، لحماية الصناعة المحلية التي لا تقدر على المنافسة، لاكتساب هذه القدرة، وإعطائها فرصة لترتيب أوضاعها، دون تمييز بين الدول المتعاقدة، على أن تتعهد الدولة العضو بتخفيف هذه القيود تدريجياً حتى تنتهي تماماً، عندما تزول الأوضاع التي استدعت فرضها، وذلك باتخاذ السياسات الاقتصادية الكلية الكفيلة باستعادة التوازن في ميزان المدفوعات.
ب ـ مبدأ الدولة الأكثر رعاية:
ويقصد به: أن أية ميزة أو معاملة تفضيلية، يمنحها طرف متعاقد لمنتج دولة أخرى متعاقدة أو غير متعاقدة، يجب منحها دون قيد أو شرط، لكل الدول الأخر المتعاقدة في المنظمة. ويستثنى من هذا المبدأ ما يلي:
ـ الترتيبات التجارية الإقليمية: كالاتحادات الجمركية ومناطق التجارة الحرة.
ـ حالات الأفضليات المقررة من جانب واحد لمصلحة الدول النامية: كنظام الأفضليات المعمَّم الذي بموجبه تستورد الدول المتقدمة منتجات صناعية وزراعية مختارة من البلدان النامية على أساس الأفضلية والإعفاء من الضرائب.
ـ قاعدة التمكين، ومعناها أن الأطراف المتعاقدة في (الجات) مجتمعة، قد تمكن الدول النامية من اتِّباع إجراءات خاصة لتشجيع تجارتها وتنميتها، والمشاركة على نطاق واسع في التجارة العالمية، والحصول على مزايا تجارية من الدول المتقدمة لا تعمم على بقية الأطراف المتعاقدة، وهو يعني الإعفاء من الالتزام بمبدأ الدولة الأولى بالرعاية، كما يمكن الدول النامية من تبادل المزايا فيما بينها دون تعميمها على بقية الأطراف المتعاقدة.
ج ـ مبدأ المعاملة الوطنية:
ويعني: عدم اللجوء إلى قيود غير الرسوم الجمركية، من أجل حماية المنتج الوطني ومنع المنتج المستورد، مثل: فرض الضرائب، أو القوانين، أو القرارات والإجراءات التنظيمية الأخر. فالدول المتعاقدة في (الجات) تلتزم أن تعطي السلعة المستوردة معاملة لا تقل عن تلك التي تعطيها للسلعة المناظرة لها المنتجة محلياً، فمثلاً: لا تفرض تلك البلدان على السلع المستوردة ـ بعد أن تكون قد دخلت أسواقها المحلية ودفعت الرسوم الجمركية عليها عند الحدود ـ أية ضرائب محلية، مثل: ضريبة المبيعات، أو ضريبة القيمة المضافة، بنسب أعلى من النسب التي تفرضها على منتجاتها المحلية.
د ـ مبدأ عدم الإغراق:
ويعني: تعهد الأطراف المتعاقدة بعدم تصدير منتجاتها بأسعار أقل من السعر التوازني لهذه المنتجات في الدولة المصدّرة، إذا كان ذلك يؤدي إلى إيقاع ضرر بالغ بمصالح المنتجين المحليين في الدولة المتعاقدة المستوردة، أو مجرد التهديد بإيقاع مثل هذا الضرر. ولذلك تطلب المنظمة من الدول الأعضاء التعهّد بتجنّب دعم الصادرات، وتعدّه من الإغراق، حيث إن تقديم طرف متعاقد إعانة للصادرات وبخاصة الصادرات المصنعة، قد يؤدي إلى إيقاع ضرر بطرف متعاقد آخر. وفي هذه الحالة، يحق للطرف المتعاقد المتضرر، فرض رسم جمركي تعويضي لإلغاء أثر الإغراق.
ü المبحث الثاني: حكم سياسات منظمات العولمة الاقتصادية في الشريعة الإسلامية:
هذه أهم السياسات التي تنادي بها منظمات العولمة الاقتصادية. ويلاحظ أن بعض تلك الإجراءات يحقق الأهداف المعلنة لتلك السياسات وبعضها لا يحققها، ومن ناحية أخرى قد يكون ذلك الإجراء مقبولاً اقتصادياً وليس مقبولاً اجتماعياً. ولنا بعض الوقفات والانتقادات لهذه السياسات.
ففيما يتعلق بسياسات معالجة العجز في الموازنة العامة للدولة يلاحظ ما يلي:
1 ـ أن تخفيض النفقات العامة يخفض العجز في الموازنة العامة وهو إجراء لا بأس به، وبخاصة أن القطاع العام في الدول النامية يعاني بطالة مقنعة، وفساداً إدارياً ومالياً، مما يتطلب تخفيض النفقات العامة، وتقليص حاجة الدولة إلى الاقتراض وبخاصة من القطاع المصرفي. إلا أنه قد يترتب عليه عزل بعض العمال والموظفين الحكوميين، ومن ثم زيادة نسبة البطالة في المجتمع وما يترتب على ذلك من مشكلات.
2 ـ أن مسألة تحرير الأجور والأسعار وجعلها خاضعة للعرض والطلب، يؤدي إلى توزيع الموارد الاقتصادية توزيعاً أفضل، إلا أن بعض الإجراءات المقترحة ـ كإلغاء الدعم وزيادة أسعار المنتجات العامة ـ قد تؤدي إلى زيادة التضخم وليس إلى تخفيضه كما هو معلن، وذلك يؤدي إلى عواقب وخيمة من الناحية الاجتماعية، إذا لم يصاحبه حلول وسياسات تخفف من وطأة هذه الإجراءات على الفئات الفقيرة في المجتمع، وهو ما لا وجود له في سياسات منظمات العولمة الاقتصادية.
3 ـ يلاحظ المطالبة بتخفيض الضرائب المباشرة على أرباح الشركات والاستثمارات الأجنبية، مما يخف العبء عن الأغنياء، وفي الوقت نفسه، المطالبة بزيادة الضرائب غير المباشرة مع أن عبئها الأكبر يقع على الفقراء.
أما سياسات منظمات العولمة الاقتصادية لمعالجة أو تضييق الفجوة بين الادّخار والاستثمار فلا تسلم أيضاً من بعض المآخذ على النحو التالي:
1 ـ أن معدل الفائدة، سياسة غير مجدية؛ لأن ارتفاع الفائدة يجعل المستثمرين يحجمون عن الاقتراض ومن ثم الاستثمار، فالبنوك تضع معدلاً مرتفعاً للفائدة من أجل تشجيع أصحاب الأموال على إيداع أموالهم لديها، إلا أن هذا المعدّل المرتفع يجعل المستثمرين يمتنعون عن اقتراض تلك الأموال من البنوك؛ لأن ارتفاع معدل الفائدة سيزيد سعر إنتاجهم من السلع والخدمات، إضافة إلى عدم التأكد من نجاح المشروع، فتبقى المدخرات حبيسة البنوك، أو تحوّل إلى أسواق المال العالمية بحثاً عن معدل فائدة أعلى من المعدل المحلي، مما يؤدي إلى انخفاض المتاح من الموارد المالية وتقليص الاستثمارات المحلية والأجنبية، بل إن رفع معدل الفائدة قد لا يؤدي إلى رفع سعر العملة وإنما إلى انخفاضها، ويضر النمو الاقتصادي.
فالفائدة والحال هذه تؤدي إلى ظهور فجوة في الاقتصاد بين الادخار والاستثمار، وليس تضييق هذه الفجوة.
2 ـ أن تطوير السوق المالية وحرية حركة رؤوس الأموال سلاح ذو حدّين، فقد يؤدي إلى توجيه المدخرات إلى أوجه الاستثمارات المطلوبة كما هو معلن، وقد يؤدي إلى خروج هذه المدخرات إلى الأسواق العالمية التي تعلن فرصاً أكثر وعائداً أكبر، ومن ثم تبقى الفجوة بين الادّخار والاستثمار كما هي، بل ربما تزداد.
3 ـ ومثله أيضاً تشجيع الاستثمارات الأجنبية، فإنها تعتمد على سيطرة الدولة المضيفة واستقلاليتها في اتخاذ القرار وقدرتها على الاستفادة من تلك الاستثمارات، وإلا فإنها لن تكون إلا لمصلحة البلدان التي جاءت منها؛ لأن فتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية، سيجعلها تستفيد من مزايا ليست موجودة في بلدانها، مثل: رخص الأيدي العاملة في البلدان النامية، الذي يحقق لها أرباحاً كبيرة تحوّلها إلى بلدانها، ولا يحصل البلد المضيف إلا على جزء يسير منها.
والملاحظ أن هذه السياسات يرتبط بعضها ببعض ويكمل بعضها بعضاً. فترك معدل الفائدة في الدول النامية يتحدد حسب العرض والطلب سيؤدي ـ في نظر خبراء هذه المنظمات ـ إلى ارتفاع سعرها لكي يغطي معدل التضخم، مما يؤدي إلى جذب المدّخرات إلى أسواق المال في البلدان النامية، وتلك الأسواق المالية يجب أن تُطوّر وتُعطى مزيداً من الحرية وعدم التقييد؛ لكي يكون انسياب الأموال إليها سهلاً وخروجه منها سهلاً كذلك، وفي الوقت نفسه، فإن جذب المدّخرات وتحرير الأسواق المالية في تلك البلدان، سيسهل جذب الشركات الأجنبية، التي ينبغي إزالة الحواجز التي تعترضها، لكي تستطيع استيعاب تلك الأموال وتوجيهها إلى الاستثمار، وتكون النتيجة في النهاية هي القضاء على فجوة الموارد المحلية في الدول النامية أو على الأقل تضييقها إلى أقل ما يمكن.
إلا أن هذا التحليل النظري، لا يكفي لإزالة الشكوك في مدى صدق تلك السياسات. وإذا دقّقنا النظر، وجدنا أن فيها فوائد منها توفير المزيد من الموارد، إلا أن آثارها السيئة قد تفوق فوائدها، فالمحصلة النهائية لذلك، هي ارتفاع الأسعار في وقت تنخفض فيه الأجور، ويعزل فيه المزيد من العمال والموظفين الحكوميين، وهذا يعني ـ اقتصادياً على الأقل ـ انخفاض الطلب، مما يؤثر تأثيراً سيئاً في الإنتاج ومن ثم في الناتج الإجمالي. بل إن الأثر الاجتماعي قد يكون أهم من الأثر الاقتصادي، فمستويات المعيشة ستنخفض، ومستويات الفقر ستزداد، والتفاوت الطبقي ـ أي: التفاوت بين الأغنياء والفقراء ـ سيزداد، كما هو حاصل في المجتمعات الرأسمالية الغربية. أما الأثر السياسي فهو أهم تلك الآثار، فكما هو مشاهد في واقع البلدان النامية عند تنفيذ تلك السياسات، تظهر الاضطرابات الاجتماعية التي يعبر عنها أحياناً بالمظاهرات وأعمال العنف، التي ربما أسقطت حكومات أو أحرجتها، وعدم الاستقرار السياسي ربما يكون من أكبر العوائق أمام التقدم الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان، وفي النهاية ربما وجد البلد النامي أن تلك السياسات كانت في مصلحة غيره، ولم تكن في مصلحته، وربما وجد نفسه قد رُبط بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الغربي ربطاً لا يستطيع الفكاك منه.
وأخيراً: يلاحظ على سياسات معالجة العجز في ميزان المدفوعات ما يلي:
1 ـ أن تخفيض سعر صرف العملة المحلية، فيه بعض الفوائد، إلا أن نجاح هذه السياسة يعتمد على مرونة كل من الصادرات والواردات في البلدان النامية. والواقع أنها غير مرنة؛ لأن أغلب صادرات الدول النامية صادرات زراعية أو مواد أولية، وكلاهما قليل المرونة. كذلك فإن الواردات أغلبها سلع ضرورية وهي قليلة المرونة أيضاً، ومن ثم فإن التخفيض لن يترتب عليه تخفيض الطلب على الواردات أو زيادة الطلب على الصادرات بالصورة المطلوبة. إضافة إلى أن نجاح تأثير تخفيض العملة في قطاع الصادرات والواردات يتطلب بقاء العوامل الأخر على ما هي عليه، ومن ذلك عدم اتخاذ الدول الأخر إجراءات مماثلة، وهو أمر لا يتحقق في الغالب.
2 ـ مسألة تحرير الاستيراد من القيود، مثل: إلغاء القيود الكمية، وتخفيض القيود الجمركية، هذا سيؤدي إلى تشجيع التجارة الدولية، إلا أنه سيكون لمصلحة الدول الكبرى، كما أنه سيؤدي إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات، وليس معالجته كما تقترح منظمات العولمة الاقتصادية. ذلك أن إزالة تلك الحواجز، ستؤدي إلى اكتساح منتجات الدول المتقدمة لأسواق البلدان النامية، أي: زيادة الواردات إلى الدول النامية وانخفاض صادراتها؛ نتيجة لزوال الحماية؛ ولشدة المنافسة من البضائع والخدمات المستوردة. ومن المعلوم أن زيادة الواردات وانخفاض الصادرات سيؤدي إلى زيادة العجز في الميزان التجاري ومن ثم في ميزان المدفوعات وليس تخفيض ذلك العجز.
أما أهم النتائج التي توصلت إليها بشأن حكم سياسات منظمات العولمة الاقتصادية أن أغلبها داخل في إطار السياسة الشرعية وحكمها من ناحية الأصل هو الجواز، أما من ناحية التطبيق فيتوقف حكمها على مدى تحقيق المصالح فيها ودَرْء المفاسد في كل دولة على حدة. وفيما يتعلق بالنتائج التي توصلت إليها بشأن حكم سياسات معالجة عجز موازنة الحكومة فهي كما يلي:
1 ـ أن سياسة إلغاء دعم الأسعار أو تخفيضه، لا تعارض الإسلام فيما أرى؛ لأن الأصل في الإسلام هو عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي إلا عند الحاجة. لكن يشترط لقبول هذه السياسة شرعاً زيادة الدولة لدخول الفقراء، زيادة تقابل أثر إلغاء دعم الأسعار، وتمكنهم من تلبية حاجاتهم، وذلك بتحويل الأموال التي كانت تدفع دعماً للأسعار، إلى زيادات في دخول الفقراء.
2 ـ جواز الخصخصة من ناحية الأصل، أما من ناحية التطبيق فإن الحكم يختلف من دولة إلى أخرى بحسب العقود المبرمة. فإذا تحققت فيها المصالح، وروعيت الأضرار المترتبة على تلك السياسة وبخاصة فيما يتعلق بالعمال والموظفين فهي جائزة. أما إذا لم تتحقق تلك المصالح أو تحقق بعضها لكن كانت المفاسد فيها أكثر، فإنني أرى منع تلك السياسة، حتى لا تكون وسيلة لمنظمات العولمة الاقتصادية، تستعملها لتحقيق الأهداف الخفية لمشروع العولمة الاقتصادية.
3 ـ الراجح أن فرض قدر زائد في مال المسلم على ما فرضه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام منه: ما يكون بحق، ومنه: ما يكون بغير حق. فالأول: هو الوظائف المالية وهو ما توافرت فيه شروط معينة، أهمها: تقييد فرضها بالحاجة وينتهي بانتهاء تلك الحاجة، ومن ذلك: الضرائب المعاصرة إذا التزم فيها تلك الشروط عند الفقهاء المتقدمين. وأما الثاني: فهو فرض الضرائب بصورتها الحديثة كما تنادي بذلك منظمات العولمة الاقتصادية، دون التقيد بتلك الشروط، فلا تجوز حينئذ؛ لما فيها من أخذ أموال الناس بالباطل وإرهاق الفقراء بسبب دفع الضرائب غير المباشرة على المبيعات والاستهلاك ونحو ذلك، فتكون من المكوس المحرمة، ولأنها والحال هذه تكون وسيلة لتحقيق الأهداف الخفية للعولمة الاقتصادية.
أما النتائج التي توصلت إليها بشأن حكم سياسات معالجة فجوة الموارد المحلية فهي كما يلي:
1 ـ أن الفائدة المصرفية محرمة تحريماً مطلقاً، فلا يجوز العمل بها ولا تحريرها وجعلها خاضعة للعرض والطلب. وبناء عليه؛ فإن الفائدة المصرفية التي تطالب بها منظمات العولمة الاقتصادية لا تجوز بأنواعها كلها؛ لأنها من الربا المحرم بنصوص القرآن والسنة. وهذه السياسة غير ناجحة من الناحية الاقتصادية كما بينت، بل الأهم من ذلك أنها لا يمكن أن تنجح في المجتمعات الإسلامية التي تؤمن أن هذه الفائدة المصرفية من الربا المحرم في كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
2 ـ لا يمكن قبول سياسات منظمات العولمة الاقتصادية بشأن الأسواق المالية مطلقاً ولا ردّها مطلقاً، بل لا بدّ في قبولها من توافر الضوابط التي فرضتها الشريعة الإسلامية وتحقق المصالح ودَرْء المفاسد. فإذا توافرت تلك الضوابط والمصالح، أمكن القول بجواز إقامة تلك الأسواق في البلدان الإسلامية. وأما في حالة عدم توافر ذلك، فإن إيجاد تلك الأسواق المالية في بلاد المسلمين، سيكون وسيلة لتحويل أموالهم إلى الأسواق الدولية، وتحقيق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية.
3 ـ أن حكم سياسة الاستثمار الأجنبي من ناحية الأصل هو الجواز، أما من ناحية التطبيق فهو يختلف من دولة إلى أخرى بحسب العقود المبرمة والاتفاقات الموقعة، ويتوقف على وجود المصلحة وانتفاء المفسدة. فإذا كان فتح المجال لهذه الاستثمارات في بلاد المسلمين بلا قيود أو شروط، مما يمكنها من استنزاف خيرات بلاد المسلمين، ومضايقة المستثمرين المسلمين، وربما تؤدي إلى تسلّط الكافرين على المؤمنين، وغير ذلك من المفاسد فإنها لا تجوز، وستكون تلك الاستثمارات التي تطالب بها منظمات العولمة الاقتصادية، والحال هذه، وسيلة لتحقيق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية. أما إذا انتفت تلك المفاسد، وجنى المسلمون فوائد من هذه الاستثمارات، كتوظيف العمال الوطنيين وتدريبهم، ونقل التقنية، والاستثمار في المشروعات المنتجة التي تعود بالخير على المسلمين، فهذا أمر جائز بل مطلوب ومندوب إليه.
وأخيراً: فإن النتائج التي توصلت إليها بشأن حكم سياسات معالجة عجز ميزان المدفوعات هي كما يلي:
1 ـ أن الأصل في الإسلام هو عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، ومن ذلك ترك قيمة العملة حسب العرض والطلب. فمطالبة منظمات العولمة الاقتصادية بتحرير سعر صرف العملة المحلية وجعله خاضعاً للعرض والطلب، جائز من جهة الأصل، إلا أن فيه أضراراً كبيرة على الاقتصاد الضعيف كما هو الحال في الدول النامية. فيمكنها الانتقال إلى نظام سعر الصَّرف المدار أو المرن. وإذا لم يتيسر العمل بهذا النظام، فعند الحاجة العامة يجوز تدخّل ولي الأمر بالتسعير بربط العملة المحلية بعملة قوية أو بسلة عملات أو بحقوق السحب الخاصة، ربطاً مؤقتاً. لكن لا يتركه مربوطاً على الدوام بسعر معين، فتصبح العملة مقوّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية، بل يراعي تأثير التضخم وغيره من العوامل، ويخفض قيمة تلك العملة عند الحاجة.
وبناء عليه؛ فإن تخفيض قيمة العملة المحلية الذي تطالب به منظمات العولمة الاقتصادية، في حالة ما إذا كانت العملة مقوّمة بأعلى من سعرها الحقيقي، هذه السياسة لا تعارض الشريعة الإسلامية، بل توافقها، لكن مع مراعاة ما سبق.
2 ـ أن تحرير سوق الصَّرف الأجنبي أو سوق النقود من الناحية الإدارية، وعدم وضع القيود أمام تحويلات رؤوس الأموال أمر لا بأس به في الشريعة الإسلامية؛ لأن الأصل هو حرية النشاط الاقتصادي في الإسلام. أما معاملات سوق النقود نفسها فلا ينبغي تحريرها، بل يجب ضبطها بأحكام الشريعة الإسلامية من جهة الالتزام بأحكام الصَّرف والربا ونحو ذلك، ولأن ترك تلك السوق بلا ضوابط، ليس من مصلحة الدول النامية، بل سيؤدي إلى عدم استقرار أسواقها، وجعل تلك الأسواق محقّقة لأهداف العولمة الاقتصادية الخفيّة.
3 ـ أن تحرير الاستيراد من القيود لا بأس به؛ لأن الأصل في الإسلام هو حرية النشاط الاقتصادي، ومن أهم وسائل تحرير الاستيراد من القيود: تخفيض الرسوم الجمركية، وهي تُعدّ مما يعرف في الفقه الإسلامي بالعشور التي تفرض على غير المسلمين بشروط وضوابط معينة، فلا مانع من الأخذ بهذه السياسة بناء على تلك الضوابط. وأما في حالة عدم مراعاة تلك الضوابط فإن الرسوم الجمركية تكون من المكس المحرم وعندئذ لا يجوز فرضها. كما أن مبادئ فتح الأسواق أمام المنتجات الأجنبية جائزة شرعاً؛ لعدم معارضتها نصاً من نصوص الشريعة أو أصلاً من أصولها، وبخاصة عند توافر الاستثناءات الموعودة من الدول المتقدمة للدول النامية مراعاة لأوضاعها الاقتصادية. وهذا الحكم إنما هو بالنسبة إلى بنود اتفاقية منظمة التجارة العالمية النظرية، وليس لسياسات الدول الكبرى في الواقع، فإن المتفق عليه ربما لا ينفذ كما هو معلوم، بل ربما تنفذ تلك السياسات بما يحقق مصالح الدول الكبرى وشركاتها، ويحقق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية، وعندئذ يتغير الحكم من الجواز إلى التحريم.
أما التوصيات: فأوصي ولاة الأمر في الدول الإسلامية بتطبيق الشريعة الإسلامية في مجالات الحياة جميعها؛ لاشتمالها على الحق والعدل ومصالح الدنيا والآخرة، ومن ذلك الأخذ بالسياسات الشرعية الكثيرة الواردة فيها، التي تُعدّ علاجاً شافياً لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
ومن أهم السياسات الشرعية المقترحة لمعالجة عجز موازنة الحكومة ما يلي:
1 ـ فرض الزكاة على الأموال الزكوية جميعها، بما في ذلك الأموال المستجدة التي أفتى العلماء بجواز أخذ الزكاة منها، ودفع الزكاة إلى مصارفها الثمانية في ضوء ما بيّنت في البحث، مع إعطاء الدولة الحق في جباية الأموال الباطنة على القول الراجح لأهل العلم. وقد بيّنت أن العمل بالزكاة يُعدّ بديلاً للضرائب من ناحية، حيث يؤدي دفع الزكاة إلى شريحة واسعة من المجتمع، إلى توفير ما كان مخصصاً للإنفاق على تلك الفئات من الموازنة العامة، مما يؤدي إلى تخفيف عجز تلك الموازنة، ومن ناحية أخرى يخفف من أثر إلغاء دعم الأسعار.
2 ـ تطوير المؤسسات الوقفية من جهة أنظمتها واستثمار مواردها؛ مما يزيد من ريعها وتغطيتها لأوجه كثيرة من مجالات الوقف، ويخفف أيضاً من أثر إلغاء دعم الأسعار. كما يؤدي من ناحية أخرى إلى تخفيف عجز الموازنة العامة بإبقاء الأموال التي كانت ستدفع من الموازنة العامة إلى تلك الجهات الخيرية.
3 ـ منع الفساد الإداري والمالي الذي استشرى في مجتمعاتنا الإسلامية، وذلك بتوعية الناس بأحكام الحلال والحرام، وبيان حرمة الغلول والرشوة وهدايا الموظفين وغيرها من ألوان ذلك الفساد، مما يجنّب هذه المجتمعات غضب الله وعقوبته الدنيوية والأخروية، وفي الوقت نفسه يضمن المحافظة على الأموال العامة ويخفف عجز الموازنة العامة.
ومن أهم السياسات الشرعية المقترحة لمعالجة فجوة الموارد المحلية ما يلي:
1 ـ إعادة هيكلة النظام المصرفي بما يتفق والشريعة الإسلامية، وهذا يقتضي إلغاء العمل بالفائدة المصرفية، واستبدال الأجرة بالفائدة وفق الضوابط الشرعية.
2 ـ العمل بأساليب التمويل الإسلامية في مجالات الاستثمار المختلفة، مما يساهم في توجيه الادّخار إلى الاستثمار، وتقليص الفجوة بينهما.
3 ـ نشر قيم الادّخار والاستثمار في المجتمع مع تطوير أدوات مالية إسلامية إلى جانب سندات المقارضة وسندات الإجارة، من أجل إيجاد سوق مالية إسلامية، تحلّ محلّ الأسواق المالية التي تنادي بها منظمات العولمة الاقتصادية.
وأخيراً: من أهمِّ السياسات الشرعية المقترحة لمعالجة عجز ميزان المدفوعات ما يلي:
1 ـ فرض الرسوم الجمركية مع الالتزام بأحكام العشور، بحيث تكون تلك الرسوم عادلة، وتفرض على غير المسلمين، أما المسلمون فيكتفى بأخذ الزكاة على تجارتهم عند مرورها على حدود الدولة المستوردة.
2 ـ معالجة مشكلة هروب الأموال بمنظور شرعي بوسائل منها: منع التعامل بالفائدة، وضبط سوق النقود بأحكام الصَّرف الشرعية، وعدم فرض الضرائب على الأموال إلا عند الحاجة، مع احترام أموال المسلمين وعدم الاعتداء عليها، مما يشجع بقاءها في بلاد المسلمين.
3 ـ العمل على تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية وفق المنهج الشرعي، مما يؤدي إلى تقليص العجز الخارجي أي عجز ميزان المدفوعات، مع تعزيز عمل البنك الإسلامي للتنمية في هذا المجال ليحلّ محلّ منظمات العولمة الاقتصادية بالنسبة إلى الدول الإسلامية، أو على الأقل يخفف من اعتمادها عليها اعتماداً كاملاً.
__________
(*) أستاذ السياسة الشرعية المساعد بمعهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية السعودية.(226/25)
أسلحة لا تصنعها الحضارات
محمد بن عبد الله الشمراني
إن الحرب مع الأعداء لا تكاد تعرف إلا منطق القوة، سواء أكانت هذه القوة حسية مادية أم قوة معنوية غيبية؟ لذا قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، ومن الخطأ الفادح تقويم معادلة القوة بالنظر إلى أحد جانبيها (الحسي أو المعنوي) ، مع إغفال الجانب الآخر. وأعظم من ذلك خطأ الاعتماد على جانب دون الجانب الآخر، كمن يعتمد فقط على نصر الله لعباده المؤمنين انطلاقاً من قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ #171#) إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] ، فيدعوهم ذلك إلى ترك الأخذ بالأسباب المادية، أو يرى أن عدم التكافؤ في الأسباب المادية يوجب الهزيمة والاستسلام، ويظن أنَّ مواجهة الأعداء مع عدم التكافؤ المادي الحسي (التقني) إلقاء بالنفس إلى التهلكة، والحق أن قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، جاء في سياق الآيات وهي تلفت النظر إلى الجانب الأهم للقوة، وهو جانب معية الله لعباده المتقين، قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ #194#) وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 194 - 195] ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: «ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله» (1) . ولما قام رجل من الصحابة في غزوة القسطنطينية فحمل على العدو حتى دخل فيهم، ثم خرج؛ صاح الناس، وقالوا: سبحان الله! ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري ـ صاحب رسول الله # ـ فقال: إنكم تتأولون هذه الآية، إنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار؛ إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سراً من رسول الله #: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به. فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد، قال أبو عمران: «فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية» (2) .
إذاً مواجهة أهل الأيمان لعدوهم ـ الذي يتفوق عليهم بالعدة والعدد مهما كان الفارق بينهم، ومهما ملك العدو من وسائل الحرب المتطورة ـ ليس من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة إذا بذلوا ما في وسعهم لإعداد العدة (الحسية والمعنوية) ؛ لمواجهة عدوهم ولو كان شيئاً يسيراً، فإن الغلبة والنصر إنما هي من عند الله، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] . ويزيد الأمر وضوحاً إذا عرف المؤمن أن معادلة القوة تكون لصالحه إذا كان يملك ـ إلى جانب ما يستطيع أن يعده من القوة الحسية ـ تلك الأسلحة التي لا يمكن لقوى الأرض كلها أن تقف أمامها، وهي ما يمكن أن نسميها (الأسلحة التي لا تصنعها الحضارات) ونقصد بها ما يلي:
ü أولاً: معيَّة الله لعباده المؤمنين:
لا شك أن ميزان القوى ومعادلة التكافؤ بين الأطراف المتحاربة تخضع لمن يناصر كل طرف، ومن يقف بجانبه ويؤيده، وإن كان بمجرد التأييد العاطفي والتشجيع المعنوي، فكيف تكون المعادلة إذا كان الله ـ جل وعلا ـ مع أهل الإيمان يؤيدهم وينصرهم؟! كما قال: {وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26] . وقال الله ـ سبحانه ـ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] ، وقال ـ سبحانه ـ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] .
(فهو معهم سبحانه وتعالى بالإعانة، والكفاية، والنصر، والتأييد، والهداية، والتوفيق، والتسديد ... ، وغير ذلك مما تجفو عبارة المخلوق عنه، ويقصر تعريفه دونه، وهذه هي معية الله الخاصة لأحبابه وأوليائه) (1) .
ومن كان الله معه كان النصر حليفه، مهما ملك عدوه من قوة، وأصبح ذلك العدو أحقر من الذباب في نظره، وإن كانت الأسباب المادية كلها في يده، كما قال موسى ـ عليه السلام ـ حينما خرج فرعون بغطرسته وجنوده يطاردونه هو والقلة المؤمنة معه، حتى قال فرعون: {إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] ، وهذه المفارقة العظيمة بين الطرفين جعلت بعض من كان مع نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ يقول: (إنا لمدركون) . كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ، ولكن موسى ـ عليه السلام ـ لما كان يعي حقيقة المعادلة: {قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ، ثم قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعد ذلك: {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ #^65^#) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ #^66^#) إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 65 - 67] .
وكذلك نبي الرحمة # حينما خرجت قريش بغطرستها وكبريائها تطارده #، فأوى إلى الغار ومعه صاحبه الصديق ـ رضي الله عنه ـ، وما كانا يملكان من القوة المادية شيئاً يذكر، حتى خاف أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ على النبي # حينما رأى أن القوم قد وصلوا إليهم، ولكن الثقة بموعود الله جعلت النبي # يُطَمئن صاحبه، ويقول: {لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] . كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] .
وحينما تمتلئ قلوب أهل الإيمان يقيناً بأن الله معهم لن يأبهوا بعدوهم مهما يكن معه من قوة، ولقد أخبرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه العزيز عن هذا النوع من الناس فقال: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ #249#) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ #250#) فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 249 - 251] .
ü ثانياً: قتال الملائكة في صفوف المؤمنين:
قبل أن نستطرد في الحديث عن الأسباب الغيبية لنصرة أهل الإيمان أو ما نسميه (بالأسلحة التي لا تصنعها الحضارات) ، فإنه من المهم دفع شبهة قد ترد على بعض الناس عن: ما هي الحكمة من تسخير جنود السماوات والأرض؛ لمناصرة أهل الإيمان، والله سبحانه قادر على أن يهزم أعداءه بقوله: كن فيكون؟! {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] .
فقد ذكر السبكي ـ رحمه الله ـ جواباً على ذلك فقال: (وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي # وأصحابه، وتكون الملائكة ـ وغيرها من جنود السماوات والأرض ـ مدداً على عادة مدد الجيوش؛ رعاية لصورة الأسباب وسنتها، التي أجراها الله ـ سبحانه ـ في عباده. والله هو فاعل الجميع) .
(وكلام السبكي ـ رحمه الله ـ يكشف عن طبيعة الإسلام في تحقيق أهدافه معتمداً على الجهد البشري، وفي حدود السنن والقوانين الطبيعية والاجتماعية. وهذا الكلام يدل على بصيرة نافذة، وعمق في فهم طبيعة هذا الدين) (2) .
ومما يجعل كفة المعادلة ترجح لصالح أهل الإيمان؛ أن الملائكة تقاتل في صفوفهم، فقد ثبت بالكتاب العزيز والسنة الصحيحة أن الملائكة شاركت في قتال المشركين يوم بدر كما قال ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ #123#) إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ #124#) بَلَى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 123 - 125] ، وقال ـ سبحانه ـ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] .
وقد رأى الرسول # الملائكة في غزوة بدر؛ ففي صحيح البخاري: «باب شهود الملائكة بدراً» أن رسول الله # قال: (هذا جبريل أخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) (3) . بل إن رؤيتهم لم تكن مقتصرة على النبي #، ففي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت عن يمين رسول الله # وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض، لم أرهما قبل ولا بعد» (4) .
قال ابن حجر في الفتح: «هما جبريل وميكائيل كذا وقع في مسلم من طريق أخرى» (5) . «وجاء جبريل إلى النبي # يوم بدر فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، قال جبريل: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة» (6) ، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ «بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم! إذ نظر إلى المشرك أمامه فخرَّ مستلقياً، قال: فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله #، فقال: صدقت؛ ذلك من مدد السماء الثالثة» (1) .
ولم تكن مشاركتهم مقتصرة على غزوة بدر، فقد حاربت الملائكة في مواقع أخرى، ففي غزوة الخندق (يوم الأحزاب) أرسل الله ملائكة تقاتل في صفوف أهل الإيمان، كما قال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9] .
وقد ثبت في الصحيح أنهم يقاتلون بأسلحتهم، ففي صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: لما رجع النبي # من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فقال: «أوَضعتم سلاحكم! فإننا لم نضع سلاحنا بعد. فقال: إلى أين؟ فأشار إلى بني قريظة» (2) .
وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال العباس: إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح، من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أَسَرْتُه يا رسول الله، فقال #: «اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم» (3) .
فإذا علم ذلك فإن الملائكة خلق من خلق الله ـ تعالى ـ وقد أوتوا من القدرة ما يعجز عنه الوصف، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ عن ملائكة النار: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، وفي الحديث الصحيح أن النبي # قال: «أُذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش، ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام تخفق الطير» ، وقد رفع جبريل قرى قوم لوط بطرف جناحيه إلى السماء ثم فلتهم ... كما ذكر ابن كثير في تفسيره عن مجاهد أنه قال: (أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفاها، وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن) (4) .
فسبحان الله! كيف يُهزم جندٌ يقاتل معهم الملائكة؟! وهذا من أهم الأسرار التي تجعل كفة الغلبة والنصر في أكثر الغزوات، ترجح لصالح أهل الإيمان؛ رغم عدم التكافؤ في العدد والعدة.
ü ثالثاً: مؤازرة مسلمي الجن لإخوانهم المؤمنين:
الجن خلق من خلق الله ـ تعالى ـ، خلقهم الله ـ تعالى ـ قبل خلق آدم ـ عليه السلام ـ، فكانوا أول من سكن الأرض كما قال ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ #^26^#) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 - 27] . وقد وهبهم الله ـ تعالى ـ من القدرات العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، وقد بين ـ سبحانه ـ في كتابه شيئاً من ذلك، كما في قصة سليمان ـ عليه السلام ـ حينما طلب إحضار عرش ملكة اليمن (بلقيس) من اليمن إلى بيت المقدس، فقال عفريت من الجن: أنا آتيك به في مدة لا تتجاوز قيام الرجل من مجلسه. كما في قوله ـ سبحانه ـ: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] . ويدل على ما أوتوا من القدرات الهائلة قدرتهم على اختراق الفضاء، ووصولهم إلى السماء، كما قال ـ سبحانه ـ عنهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] .
ومما لا شك فيه أن فيهم الصالحين الذين تعلقت قلوبهم بحب الله، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] .
ففي صحيح البخاري «باب إسلام عمر ـ رضي الله عنه ـ» ، عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما سمعت عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه كذا؛ إلا كان كما يظن. بينما عمرٌ جالسٌ إذ مرّ به رجلٌ جميلٌ، فقال عمر: لقد أخطأ ظني، أو إنَّ هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليّ بالرجل! فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استُقِبل به رجلٌ مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني! قال: كنتُ كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتُك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم ترَ الجنَّ وإبلاسها، ويأسها من بعد انتكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم؛ إذ جاء رجلٌ بعجلٍ فذبحه، فصرخ به صارخٌ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح! أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا أنت. فوثب القوم. قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح! أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمتُ، فما لبثنا أن قيل: هذا نبي» . (البخاري رقم 3866) .
ü رابعاً: أسباب السماوات والأرض:
ومما ينصر الله به عباده المتقين أن يسخر لهم أسباب السماوات والأرض، التي لا يحيط بعلمها إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ.
ومن هذه الأسباب ما يلي:
1 ـ الريح:
الريح من جنود الله ـ تعالى ـ التي لا يقاومها شيء، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة ـ بإذن ربها ـ دمرت المدن وهدمت المباني، واقتلعت الجبال والأشجار، وقد وصفها الله ـ سبحانه وتعالى ـ (العاتية) في قوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] ، قال مجاهد: العاتية التي عتت عن الطاعة فكأنها عتت على خُزَّانها، فلم تطعهم، ولم يقدروا على ردها؛ لشدة هبوبها (1) ؛ فقد أهلك الله بها قوم عاد.
وفي الحديث المتفق عليه «أن النبي # في غزوة تبوك قال لأصحابه: «ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يَقُمْ فيها أحد، فمن كان له بعير فليشد عقاله» فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء» (2) .
بل إن الريح قد قاتلت مع النبي # في غزوة الخندق، كما قال الله ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9] .
قال مجاهد: هي الصَّبا، أُرسِلَتْ على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم، ونزعت فساطيطهم.
ويدل على هذا ما ثبت عند مسلم أنه # قال: «نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكتْ عاد بالدَّبُور» (3) .
وقد روى مسلم أيضاً في صحيحه عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ «أن رجلاً قال له: لو أدركتُ رسول الله # لقاتلتُ معه وأبليت. فقال له حذيفة: أكنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله # ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر ... إلى أن قال حذيفة ـ كما في رواية يونس بن بكير عن زيد بن أسلم ـ: ... وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً؛ فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها، ثم خرجتُ نحو النبي # فلما انتصفت الطريق؛ إذ أنا بنحوٍ من عشرين فارساً معتمين «وهم الملائكة» فقالوا: أخبر صاحبك أن الله ـ سبحانه ـ كفاه القوم» (4) .
وقد أخبر النبي # أن الله ـ سبحانه ـ يرسلها (أي الريح) على قوم من هذه الأمة، قد تمادوا في غيهم وعصيانهم؛ فتهلكهم، كما في حديث أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي # قال: «يبيت طائفة من أمتي على أكل، وشرب، ولهو، ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير، ويُبعث على أحياء من أحيائهم ريح، فتنسفهم كما نسفت من كان قبلكم؛ باستحلالهم الخمر، وضربهم بالدف، واتخاذهم القينات» (5) .
2 ـ الزلازل:
الزلازل من أشد الأسباب الطبيعية التي يقدرها الله ـ تعالى ـ تخويفاً لعباده، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، وقال ـ سبحانه ـ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] .
والعذاب الذي يكون من فوق هو الصيحة أو الحجارة، والذي من تحت هو الرجفة (الزلازل) والخسف، كما ذكر الأصبهاني في تفسيره عن مجاهد (6) . قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وقد يأذن الله ـ سبحانه وتعالى ـ للأرض في بعض الأحيان بالتنفس، فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف، والخشية، والإنابة، والإقلاع عن المعاصي، والتضرع إلى الله ـ سبحانه ـ والندم، كما قال بعض السلف وقد زلزلت الأرض: إن ربكم يستعتبكم.
وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وقد زلزلت المدينة: (لئن عادت لا أساكنكم فيها) (7) .
فإذاً، عُلِمَ أن الزلازل الهائلة إنما تحدث بأمر ربها، بل وقد أهلك الله بها ثمود ـ قوم صالح عليه السلام ـ كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ #^77^#) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 77 - 78] .
قال الشوكاني: (فأخذتهم الرجفة) أي: الزلزلة (8) .
وهي من أوضح الدلالات على عظمة الجبار ـ سبحانه وتعالى ـ وضعف جبابرة الأرض مهما أوتوا من قوة.
كيف؟! وهي في بضع ثوانٍ تُهلِك مئات الألوف من الناس:
ـ ففي مدينة تاتجشان الصينية وقع زلزال في 14/11/1383هـ الموافق 27/مارس آذار/1964م، وقع ضحيته 000،500 نسمة.
ـ ووقع زلزال في العاصمة اليابانية في 24/2/1324هـ الموافق 18/أبريل آذار/1906م، راح ضحيته 000،142 نسمة.
ـ ووقع زلزال في ولاية جو جارات الهندية في 18/10/1421هـ الموافق 13/يناير 2001م، راح ضحيته 000،30 نسمة.
3 ـ الخسف:
مما توعد الله به الظالمين الخسف، وهو: أن يهبط جزء من القشرة الأرضية، ويغيب في الأرض. يقال: خسف المكان خسوفاً إذا ذهب في الأرض، وغاب فيها (9) .
كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل: 45] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] ، فهذا قارون، ماذا قال الله فيه؟ قال ـ سبحانه ـ: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} [القصص: 81] ، قال ابن كثير: لما ذكر ـ تعالى ـ اختيال قارون في زينته، وفخره على قومه، وبغيه عليهم، عَقَّبَ ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض.
كما ثبت في الصحيح عند البخاري ومسلم، أن رسول الله # قال: «بينما رجل يجر إزاره إذ خُسِف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» (1) .
وفي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله # قال: «سيعوذ بهذا البيت ـ يعني الكعبة ـ قوم ليست لهم َمَنَعة، ولا عدد، ولا عدة؛ يبُعثُ إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِفَ بهم) (2) .
ومما تقدم؛ يتبين أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يجعل الخسف على أعدائه؛ نصرة لأوليائه من الأنبياء والصالحين، بل قد يأخذ الله به بعض العصاة إذا تمادوا في غيهم وضلالهم ـ عياذاً بالله ـ.
وهذا مما يجعل أهل الحق على ثقة بربهم، فيعلمون أن قوى الأرض أحقر من أن يؤبه بهم، إذا كان الله معهم يسخِّر لهم أسباب السماوات والأرض، التي لا طاقة لقوة من قوى البشر بشيء منها مهما بلغت قوتها.
4 ـ إمطار الحجارة من السماء:
لقد أخبر الله ـ تبارك وتعالى ـ عن قوم لوط، كيف أمطر عليهم الحجارة من السماء، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ #^82^#) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82 - 83] ، وتأمل قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} ! قال القاسمي في تفسيره: فيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} : من ظالمي هذه الأمة (3) .
وكذلك فعل الله بجيش أبرهة الأشرم والي اليمن من قبل ملك الحشبة، فقد رأى أن يبني بيتاً في صنعاء اليمن، يدعُون العرب إلى حجه بدل حجهم البيت الحرام، والقصد من ذلك تحويل التجارة والمكاسب من مكة إلى اليمن، وعرضها على الملك الحبشي، فوافق وسره ذلك، ولما بُنِيَ البيت (الكنيسة) ، وسماها «القليس» لم يُبنى مثلها في تاريخها، جاء رجل قرشي فتغوط فيها، ولطخ جدرانها بالعذرة غضباً منها، فلما رآه أبرهة الأشرم بتلك الحال استشاط غضباً، وجهّز جيشاً لغزو مكة وهدم الكعبة، وكان معهم ثلاثة عشر فيلاً مقاتلاً، ومن بينهم فيل يدعى محمود؛ وهو أكبرهم، وساروا، ما وقف في وجههم حي من أحياء العرب إلا قاتلوه وهزموه، حتى انتهوا إلى قرب مكة، وجرت سفارات بينهم وبين شيخ مكة عبد المطلب بن هاشم جدّ النبي #، وانتهت المفاوضات بأن يرد أبرهة إبل عبد المطلب، ثم هو وشأنه بالكعبة، وأمر رجال مكة أن يخلوا البلد، ويلحقوا برؤوس الجبال بنسائهم وأطفالهم؛ خشية المعرة تلحقهم من الجيش الغازي، وما هي إلا أن تحرك جيش أبرهة ووصل إلى وادي محسر، وهو في وسط الوادي سائراً وإذا بفرق من الطير، فرقة بعد أخرى ترسل على ذلك الجيش الواحدة ما بين الحمصة والعدسة في الحجم، وما تسقط الحجرة على رجل إلا ذاب، وتناثر لحمه، فهلكوا، وفرّ أبرهة ولحمه يتناثر، فهلك في الطريق، وكانت هذه نصرة من الله لسكان حرمه وحماة بيته. ومن ثم ما زالت العرب تحترم الكعبة والحرم وسكانه إلى اليوم. وهذه الحادثة في العام نفسه الذي ولد فيه الحبيب محمد #، وفيها دلالة واضحة على قوة الجبار ـ سبحانه ـ، وانتقامه المهلك لكل طاغ وباغ ومتكبر، مما يجعل جنده وأولياءه يركنون إلى الثقة والطمأنينة بنصره: {أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ #^62^#) } [يونس: 62] .
إن إمطار الحجارة من السماء، وإن كان قد حدث لبعض الظالمين من الأمم السابقة إلا أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد توعد به المشركين من هذه الأمة، مما يدل على إمكانية حدوثه كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} [الإسراء: 68] .
فقد أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة أنه قال: الحاصب: حجارة من السماء. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير هذه الآية قال: الحاصب مطر الحجارة. وقد أخبر الرسول # أنه سوف يحدث في آخر هذه الأمة، ففي حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله #: «يكون في آخر هذه الأمة خسف، ومسخ، وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا ظهر الخبث» (4) ، وقال #: «بين يدي الساعة مسخ، وخسف، وقذف» (5) ، والقذف هو: الرمي بالحجارة، كما قال المباركفوري في تحفة الأحوذي، ومحمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه.
وهذا مما يجعل إمكانية نصر الله لأوليائه وعباده الصالحين بمثل هذا النوع من السلاح؛ وارداً وممكناً عقلاً وشرعاً.
5 ـ الصواعق المحرقة:
ومما يؤيد الله به أولياءه ويعذب به أعداءه الصواعق، وهي: الصوت الشديد يكون معه نار يرسلها الله مع الرعد الشديد، فلا تقع على شيء إلا أحرقته. قال الله ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ #^12^#) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12 - 13] . وقد أهلك الله بها أهل العناد ممن كذبوا نبي الله (هود) وهم عاد، وكذلك ممن كذب نبي الله (صالح) وهم ثمود، كما قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، وفي هذه الآية تهديد واضح للمشركين من هذه الأمة، فإن الخطاب للنبي #، أي: قل يا محمد للمشركين الذي يعرضون عن الحق: أنذرتكم أن تحل بكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. وهذا من أشد الوعيد الذي خافت منه قريش، ووجلت منه قلوبهم، كما في قصة عتبة بن ربيعة حينما أرسلته قريش إلى النبي # يفاوضه، فقد روى الإمام عبد ابن حميد في مسنده بسنده عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: «اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر؛ فليأت هذا الرجل، الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا؛ فليكلمه، ولينظر ماذا يردَّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: يا أبا الوليد! فأتاه عتبة، فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله #، ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله #، فقال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم! حتى نسمع قولك، إنا ـ والله ـ ما رأينا سخلة قط أشأم على قومها منك، فرقتَ جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى؛ أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى ننتفانى أيها الرجل! إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً، وإن كان إنما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش شئت، فلنزوجنَّك عشراً، فقال رسول الله #: أفرغت؟، قال: نعم، فقال رسول الله #: «بسم الله الرحمن الرحيم، حم تنزيل من الرحمن الرحيم» حتى بلغ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فقال عتبة: حسبك حسبك! ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: ما تركت شيئاً أرى أن تكلموه إلا قد كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم. قال: لا والذي نصبها بينة ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه قال: {أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، قالوا: ويلك، يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة» (صحيح السيرة النبوية للألباني ص 159) .
وفي هذه دلالة واضحة على إمكانية أن يرسلها الله على أعدائه، فتكون من جملة الأسلحة التي يؤيد الله بها عباده الصالحين.
6 ـ الأسقام والأوجاع المؤلمة:
ومما ينصر الله به أولياءه أن: يسلط على عدوهم الأمراض التي تفتك بهم، فيتولى الله ـ سبحانه وتعالى ـ حربهم بهذه الجنود التي لا قبل لهم بها، كما في الحديث القدسي يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... » الحديث (1) .
وهذه الأوبئة التي يسلطها الله على أعدائه تكون غالباً من النوع الذي لا يمكن للأطباء أن يقاوموه؛ حيث أنها أوبئة جديدة لم تكن معروفة لهم من قبل، فيظلوا زمناً يبحثوا عن طريقة لعلاج ذلك الوباء، ثم يسلط الله عليهم وباءً جديداً وهكذا، كما قال النبي #: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا» (2) .
ومن الأمراض التي سلطها الله ـ سبحانه وتعالى ـ على المفسدين في هذا الزمان، وما هي من المجرمين ببعيد:
ـ مرض الزهري: وعن خطورة هذا المرض، يقول الدكتور توماس: إن خطر هذا المرض لا يقل عن خطر السرطان (3) .
ـ مرض الهربس: والذي فرض نفسه شبحاً مرعباً في نفوس أولئك الذين تعدو على حرمات الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وقد أوضح تقرير لوزارة الصحة الأمريكية: أن الهربس يفوق في خطورته مرض السرطان.
ـ مرض الإيدز: وهذا المرض ـ كما يقول الأطباء ـ يقتل أكثر من 75%.
وقد سلط الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذا النوع من السلاح على كثير من أهل الفساد من السابقين، فقد سلط الله ـ سبحانه وتعالى ـ الطاعون على بني إسرائيل، فقد قال رسول الله #: «الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي # قالت: «سألت رسول الله # عن الطاعون؟ فأخبرني: أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء ... » .
قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: (ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى ـ عليه السلام ـ وفشت فيهم الفاحشة؛ أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام؛ كثرة الزنا بسبب؛ تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات) (4) .
7 ـ تسليط الحشرات أهون المخلوقات:
إن من هوان الطغاة والجبابرة على الله، أنه ربما سلط عليهم أهون مخلوقاته فتهلكهم، وفي ذلك أبلغ الدلالة على حقارتهم وهوانهم على الله، كما أن ذلك من أوضح الدلالة على عظمة الجبار القوي المتعالي ـ سبحانه وتعالى ـ، وهو مما يبعث في قلوب أوليائه الثقة والطمأنينة؛ فيصبح العدو في أعينهم أهون من الذباب. فقد سلط الله على النمرود (الطاغية) يوم أن تكبر وادّعى الألوهية، سلط الله عليه بعوضة، قال ابن كثير في تفسيره: (وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار مَلَكاً، يأمره بالإيمان بالله، فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي! فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاماً بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك، فمكثت في منخريه أربعمائة سنة، عذبه الله بها، فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله بها) (1) .
ومن ذلك ما سلطه الله ـ سبحانه وتعالى ـ على بني إسرائيل حينما عاندوا موسى عليه السلام. فأرسل عليهم الجراد، والقمل، والضفادع ... كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ #130#) فَإذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ #131#) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ #132#) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: 130 - 133] .
قال سعيد بن جبير: «لما أتى موسى ـ عليه السلام ـ فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل. فلم يرسلهم؛ فأرسل الله عليهم الطوفان، وهو المطر، فصب عليهم منه شيئاً خافوا أن يكون عذاباً، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك، يكشف عنا المطر؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنو، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمار والكلأ، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى؛ فأرسل الله عليهم الجراد، فسلطه على الكلأ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك، فيكشف عنا الجراد؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فداسوا وأحرزوا في البيوت، فقالوا: قد أحرزنا. فأرسل الله عليهم القمل، وهو السوس الذي يخرج منه، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك، يكشف عنا القمل؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل، فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا؟ فقال: وما عسى أن يكون كيد هذا؟! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويَهِّمُ أن يتكلم فتثب الضفدع في فيه، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك، يكشف عنا هذه الضفادع؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه؛ فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، وأرسل عليهم الدم، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، وما كان في أوعيتهم وجدوه دماً عبيطاً، فشكوا إلى فرعون، فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب، فقال: إنه قد سحركم، فقالوا: من أين سحرنا! ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً، فأتوه، وقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك، يكشف عنا هذا الدم؛ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه؛ فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل» (2) .
ومما يدل على أن هذه المخلوقات وغيرها من جنود الله ـ سبحانه وتعالى ـ يسلطها على من يشاء قوله #: «لا تقتلوا الجراد؛ فإنه من جند الله الأعظم» .
وهذا مما يبعث الثقة في نفوس المؤمنين بأنَّ الله ناصرهم، وجاعل الغلبة لهم، والدائرة على أعدائهم؛ فلا ترعبهم الصواريخ الذكية، ولا القنابل العنقودية، ولا أسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] .
ü خامساً: الرعب:
وهو أن يقذف الله ـ سبحانه وتعالى ـ في نفوس أعدائه المهابة، والخوف الشديد الذي تخور معه قواهم، وتضطرب أفكارهم، وتتوتر أعصابهم.
وهو من أعظم الأسباب نصرة؛ لأنبيائه وأوليائه، فإن القوة الحقيقة هي قوة الفؤاد، وثبات الجأش، وقد جعله الله من خصائص هذه الأمة المباركة.
ففي صحيح البخاري عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي # قال: «أعطيت خمساً لم يعطها أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (3) .
والحديث واضح الدلالة في أن هذه الخاصية هي له #، ولمن كان على هديه من أمته، وقد ورد الحديث عند الدارمي بلفظ (ويرعب منا عدونا مسيرة شهر ... ) .
وقال السندي في حاشيته على سنن النسائي: وقد بقي أثر هذه الخاصة في خلفاء أمته ما داموا على حاله.
وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] ، وقال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا #^25^#) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا #^26^#) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25 - 27] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ، وفي المقابل فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يربط على قلوب المؤمنين، وينزل عليهم السكينة حتى يصل بهم الحال إلى النعاس؛ لما يجدونه في قلوبهم من الطمأنينة والسكينة: {إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11] ، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، أن أبا طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط فآخذه (1) .
ü سادساً: التكبير:
وهو أن يهتف أولياء الله وأحباؤه من المؤمنين: بلا إله إلا الله والله أكبر؛ فيكون لها من الأثر الحسي والمعنوي في أعداء الله ما لا تثب أمامه قوى الأرض، بل تتلاشى وتضمحل أمام تكبيرات أهل الإيمان الصادقين المخلصين، الذين نصروا الله في أنفسهم؛ فانتصروا، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] .
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي # قال: «سمعتم بمدينة: جانب منها في البر، وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم، يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر؛ فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر؛ فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر؛ فيفرج لهم، فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ! فقال: إن الدجال قد خرج؛ فيتركون كل شيء، ويرجعون» (2) . فقال النووي في شرحه (المدينة التي بعضها في البر، وبعضها في البحر: القسطنطينية، وقوله #: «يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق» ، قال القاضي: هو كذا في جميع أصول صحيح مسلم، «من بني إسحاق» والمعروف المحفوظ من «بني إسماعيل» ، وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه؛ لأنه إنما أراد العرب) (3) .
وفي يوم القادسية قال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ لجيشه: «الزموا مواقفكم، لا تحركوا شيئاً، حتى تصلوا الظهر، فإذا صليتم الظهر، فإني مكبر تكبيرة، فكبروا، واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم، واعلموا إنما أعطيتموه تأييداً لكم، ثم إذا سمعتم، فكبروا، ولتستَتِمَّ عدتكم، ثم إذا كبرت الثالثة، فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس؛ ليبرزوا، وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة، فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله» (4) .
ولا شك أن التكبير من جملة الذكر الذي أمر الله ـ تعالى ـ به عند ملاقاة العدو، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] ، ولكن له ميزة خاصة كما تقدم.
ü سابعاً: التقوّي بإقامة الصلاة وحسن الصلة بالله ـ تعالى ـ:
الصلاة هي الصلة بقيوم السماوات والأرض، فإذا اتصل العبد بالملك القدوس السلام المؤمن المهيمن الجبار المتكبر ـ سبحانه وتعالى ـ وكان حَسَنَ الاتصال بربه؛ فإنه يفوز بكل ما يصبو إليه، فإن دعا استجيب له، وإن استنصر نُصِرَ، ومن هنا فقد كان # إذا حزبه أمر؛ فزع إلى الصلاة، وكيف لا يكون؟ والله ـ جل وعلا ـ يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] ، ولهذا قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «لقد رأيتنا يوم بدر وما منا إلا نائم، إلا رسول الله # فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو حتى أصبح ... » .
ü ثامناً: الدعاء:
وهو طلب النصر والغلبة على الأعداء من الله الواحد الأحد ـ جل في علاه ـ، وقد كان نبينا # يفزع إلى ربه ـ جل وعلا ـ في غزواته، ويلح عليه بالدعاء.
ففي غزوة بدر بات رسول الله # يدعو ربه، ويقول: «اللهم إن تهلك هذه الفئة لا تُعبَد» (5) .
وفي صحيح مسلم أن النبي # يوم بدر استقبل القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تُعبد في الأرض» ، فما زال يهتف بربه، ماداً يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله ـ سبحانه ـ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (1) .
ولا شك أن الدعاء سلاح لا يقاوم، كما قال الشاعر:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه؟
وما تدري بما صنع الدعاء؟
سهام الليل لا تخطي، ولكن
لها أمد، وللأمد انقضاء
وقد كان السلف الصالح يعدون الدعاء من الأسلحة التي لا غنى لهم عنها في حروبهم وغزواتهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء، (أي البراء بن مالك) أَقسِمْ على ربك! فيقول: «يا رب أقسمت عليك لما منحتني أكتافهم؛ فيهزم العدو. فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد؛ فمنحوا أكتافهم، وقُتِلَ البراء شهيداً» (2) .
وكان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة، ما دعى قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق (3) .
ü تاسعاً: التخلق بأخلاق الصالحين:
هذا النوع من السلاح الذي ينصر الله بسببه؛ أهل الإيمان من المجاهدين في سبيله، وهو من أعظم الأسلحة، بل إن كل الأسلحة والأسباب المتقدمة مبنية على هذا النوع المبارك، فإن معية الله الخاصة لأوليائه، إنما تكون لأولئك، وكذلك نصرة الملائكة وغيرهم من جنود الله، إنما تقاتل؛ نُصرةً لعباد الله الصالحين.
والمقصود بالصالحين أي: من وحد الله التوحيد الخالص، ونظر إلى أوامر الله فاتبعها، ونظر إلى نواهيه فاجتنبها، وكان عمله خالصاً لوجه الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلم يصر على فعلِ صغيرةٍ، فضلاً عن الكبيرة، ولم يصر على تركِ واجبٍ فضلاً عن الفرائض، وكان مكثراً من النوافل والمستحبات، مستخفياً بعمله قدر الإمكان، لا يطلب الأجر والثواب، ولا الإطراء والثناء إلا من الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
وهكذا كان دَأبُ الصالحين: فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الرازي قال: «حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سريَّة مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادَفَنَا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو، فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فطارده ساعة، وطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكُمّه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنّع علينا (يعني يفضحنا) » (4) وهذا كثير جداً في أخبار الصالحين.
وقد كان القادة من أهل الإسلام يعتنون بهذا النوع من السلاح أيما عناية.
وحين أبطأ على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فتحُ مصر؛ كتب إلى عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: «أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر! تقاتلونهم منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله ـ سبحانه ـ لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، (وهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد ـ رضي الله عنهم ـ) فإذا أتاك كتابي هذا، فاخطب الناس، وحضهم على الصبر والنية، وقدَّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس أن يكون لهم صدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة؛ فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة وقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وليسألوه النصر على عدوهم» . فلما أتى عَمْراً الكتابُ، جمع الناس، وقرأ عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا، ويصلوا ركعتين، ـ ثم يرغبوا إلى الله ـ سبحانه ـ ويسألوه النصر ... ففتح الله عليهم (5) .
ومن هنا نهمس في أذن كل مسؤول ممن ولاه الله أمراً من أمور المسلمين، وخاصةً قادة الجيوش الإسلامية، فنقول: اعلموا أن أوجب الواجبات عليكم، أن تربّوا جنودكم على تقوى الله، وطاعته، مبتدئين في ذلك بأنفسكم، ومن هو دونكم، فإن أنتم فعلتم ذلك نصركم الله على عدوكم، ومكن لكم كما نصر أسلافكم ومكن لهم ... وإن لم تفعلوا كنتم سبب تخلف النصر عن أمة الإسلام، وتمكين الأعداء من أمتكم، وبؤتم بإثم ذلك، ثم يستبدلكم الله بقوم يحبهم ويحبونه؛ فيجعل الله النصر والتمكين على أيديهم. فكونوا أنتم أولئك يكتب لكم النصر ... و {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] .
وهذا بالطبع لا يعني الاستغناء عن الأسلحة التي تصنعها الحضارة، لقول الله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . صدق الله.
__________
(1) جامع البيان 2/201. (2) جامع البيان 2/204.
(1) معارج القبول 1/206. (4) البخاري رقم 4054، ومسلم 2306.
(2) فتح الباري 7/311 ـ 312. (5) الفتح 7/455.
(3) البخاري رقم 3995، والفتح 7/395. (6) البخاري رقم 3992، والفتح 7/395.
(1) مسلم 1763. (3) أخرجه أحمد 1/117، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(2) البخاري رقم 4117، والفتح 7/518. (4) تفسير ابن كثير 2/414، طبعة العبيكان.
(1) فتح القدير للشوكاني 5/322. (5) رواه الإمام أحمد، وهو في سلسلة الصحيحة برقم 1604.
(2) البخاري 1481، ومسلم 1392. (6) مجلة البحوث الإسلامية العدد 51، ضمن تصحيح للشيخ ابن باز رحمه الله.
(3) مختصر مسلم 450. (7) تأملات ابن القيم في الأفعى والأفاعي ص 273.
(4) مسلم 1788، ومختصر البخاري 4123، ومختصر ابن كثير للرفاعي 3/480. (8) فتح القدير 2/252.
(9) أشراط الساعة ليوسف الوابل 381.
(1) تفسير ابن كثير 3/375. (4) رواه الترمذي، انظر: (صحيح الترمذي للألباني برقم 2185) .
(2) مجمع الأوائل 6/133. (5) صحيح ابن ماجه للألباني رقم 3269.
(3) فتح القدير 2/587.
(1) البخاري رقم 6502. (3) التدابير الواقية من الزنا في الفقه الإسلامي ص 72.
(2) صحيح الترغيب والترهيب للألباني 764. (4) الطرق الحكيمة ص 259.
(1) تفسير ابن كثير 1/275.
(2) تفسير ابن كثير 2/224.
(3) البخاري 327.
(1) فتح الباري 4068.
(2) شرح النووي لمسلم 18/360.
(3) تاريخ الطبري 3/47.
(4) حياة الصحابة 4/77.
(5) صحيح مسند الإمام أحمد 21/30، 36.
(1) صحيح مسلم 1763.
(2) الفتاوى لابن تيمية 11/277.
(3) الفتاوى لابن تيمية 11/278.
(4) سير أعلام النبلاء 8/393، صفة الصفوة 4/128.
(5) حياة الصحابة 4/474.(226/26)
نحو رؤية استراتيجية مستقبلية للمشروع الإسلامي
عبد الرحمن فرحانة
لا شك أن حِراك الصحوة الإسلامية قد نجح في إفراز ظاهرة إسلامية إحيائية امتدت عبر جغرافية العالم الإسلامي؛ تخللت في عطاءاتها تأثيرات بارزة شملت كافة مناحي الحياة؛ ولكن بوتائر متفاوتة. وقد نجحت في تحقيق إنجازات عديدة عبر العقود الماضية من أبرزها:
ـ تخصيب ظاهرة التدين وخاصة في الوسط الشبابي الفاعل، وتحقيق تواصل حيوي بين الجيل والفكرة الإسلامية؛ مما أدى إلى إنتشار الوعي، وانحسار مساحة الأمية الدينية التي كانت تتسيّد واقع المسلمين.
ـ أسلمة بعض مناحي الحياة، وتوليد نخب إسلامية تعمل لخدمة المشروع الإسلامي، والدفع باتجاه استئناف الحياة الإسلامية، وإحياء مفهوم الأمة الذي غيبته الدولة القُطْرية.
ـ إحياء نموذج سلفي لفريضة الجهاد الغائبة في صيغة حديثة، ترجمتها حالات المقاومة والممانعة التي يعيشها العالم الإسلامي على امتداد جغرافيته.
وفي سياق حِراك الظاهرة؛ تمكنت مدرسة «البنا» من نقل الفكرة الإسلامية من دائرة النخب إلى ساحة الجماهير، وكذا نجح التيار السلفي بفاعلية واضحة بدور التنقية والتوعية في الوسطين الشعبي والنخبوي، مضافاً إليهما مدارس ورموز أخرى قامت بأدوار جليلة في خدمة الفكرة الإسلامية.
ü إخفاقات:
رغم الإنجازات الجليلة التي حققتها الظاهرة الإسلامية، إلا أن العين النقدية تلتقط محطات إخفاق عديدة أثرت على فرص الاستثمار الفاعل للمنجزات طوال عقود الصحوة، وأدت كذلك إلى عجزٍ بيِِّن في نَظْم الحصاد المنجز في تدرج بنائي يخدم الأهداف الاستراتيجية للمشروع الإسلامي.
وفي المجمل عجزت الظاهرة عن تقديم صورة مترابطة للمشروع الإسلامي بنسيج ثقافي وفكري متسق، بل تنازعت الأفقَ الإسلاميَ تياراتٌ مدرسية بحِراك غير تكاملي، تخلل ذلك تشوشٌ، وعدمُ وضوح للصورة حتى في أذهان ممثلي ورموز المشروع تجاه قضايا كلية في حقول الإجتماع والسياسة والإقتصاد.
عانت الظاهرة ـ أيضاً ـ من تميّع في الرؤية لدى بعض منسوبيها على الصعيد السياسي، إلى الحد الذي وصل ببعضهم إلى أن ينتقل من خندق المواجهة مع المشروع الاستعماري الغربي إلى المشاركة معه أحياناً في أداء مرتبك، يؤشر على غياب الحاسة اللازمة والرؤية الضابطة للتفريق بين المرونة السياسية وتكتيكاتها، وبين الثوابت الاستراتيجية العامَّة للمشروع الإسلامي.
ü ضرورة الرؤية الاستراتيجية للمستقبل:
الظاهرة الإسلامية لا تعاني من قلة الإنتاج وضعف الحِراك الإسلامي؛ فالجغرافية الإسلامية تكتظ بمناشط متنوعة بمعيار «الكم» تكاد تملأ الأفق الإسلامي؛ إنما داؤها في غياب الحِراك النوعي الموجه على هدي رؤية ناضجة؛ تحدد المسار، وترشد نحو النهايات المستهدفة لكل مرحلة.
إزاء تلك الطاقات ـ التي تُستنفد؛ بسبب غياب منظومة الأولويات الموجهة للعمل الإسلامي، وكذلك في مواجهة المشروع الحضاري الغربي الذي يحاول راهناً استدراج الظاهرة الإسلامية؛ لاستفراغ جهودها في محطات سياسية وثقافية لا تتسق في المحصلة مع أهداف المشروع الإسلامي الاستراتيجية ـ ينبغي لقادة الظاهرة بأطيافها المختلفة أن يبادروا للتوافق على ميناء لرسو سفينة الظاهرة وتحديد مسارها، إذ لا يكفي أن يمنَّوا أنفسهم بأن هدف المرحلة هو حماية السفينة من الغرق؛ لتبقى السفينة عائمة في عرض البحر.
من أجل مهمة الإنقاذ اللازمة ينبغي لقادة المشروع الإسلامي أن يلتقوا لبحث الظاهرة الإسلامية؛ لتحديد إنجازاتها بهدف مراكمتها في سياق بنائي؛ ولرصد الفرص الفائتة لاستخلاص العبر؛ ولسبر التحديات والفرص المتاحة؛ من أجل صياغة رؤية مستقبلية للمشروع الإسلامي يتحدد في مضمونها منظومة الأولويات الموجهة للبناء الاستراتيجي للمشروع الإسلامي، وببساطة؛ كي يجيبوا على أسئلة سهلة ولكن بمضامين استراتيجية: أين نحن الآن؟ وماذا نريد؟ وكيف سنصل لما نريد؟
وفي إطار المناقشة الاستراتيجية لمكونات الرؤية المستهدفة ينبغي مناقشة ملفات هامة للتوافق النظري حولها، وبذهنية مرنة تستوعب سنة التنوع، وتتناغم مع الإيقاع التاريخي للمرحلة.
ومن المُِلحِّ أن يطرح على أجندة النقاش بعض المفردات التي أرى ضرورة بحثها:
ـ في مواجهة طغيان الأجندة القُطْرية لحركات العمل الإسلامي؛ يلزم مناقشة صناعة مرجعية إسلامية عامة بآلية معاصرة؛ لإيجاد قواسم مشتركة تكسر حدة التجزؤ القُطْري والتباين المنهجي بين تيارات الظاهرة الإسلامية؛ تمهيداً لصناعة خطاب إسلامي موحد واضح المعالم ومتسق في مفرداته وأهدافه.
ـ بحث ظاهرة العنف المسماة «الإرهاب» ؛ لمعالجة الظاهرة بمواقف مستقلة عن (الأجندة الغربية) ؛ وللخروج بموقف واضح وجريء تجاهها. ولكن بعيداً عن استراتيجية الغرب التي تقسم التيار الإسلامي بين متطرفين ومعتدلين، وتهدف إلى استخدام أحدهما في مواجهة الآخر، والحذر من الوقوع في هذا المأزق.
ـ التوافق على نظرية التغيير الملائمة للمرحلة؛ لتحديد منهج التعامل مع الواقع بحذر، وتسويق النظرية المتفق عليها في أوساط الظاهرة الإسلامية.
ـ تحرير العلاقة مع الغرب وبحث خيارات التعاطي معه؛ بهدف التلاقي على منهجية متسقة للتعامل معه.
ـ التوافق على استراتيجية عامة للمقاومة وللممانعة؛ بأدوات مختلفة تستغرق معظم طاقات الأمة السياسية والاجتماعية والثقافية؛ لمواجهة المشروع الصهيوني وظهيره الاستراتيجي الغربي، إذ لا ينبغي أن تُختزل القوة في الوعي العربي والإسلامي بمفردة القوة العسكرية فقط؛ حيث للأمة مفردات قوة أخرى تستطيع من خلالها أن تقاوم وتمانع الهيمنة الغربية.(226/27)
227 - رجب - 1427 هـ
(السنة: 21)(227/)
اغتيال (باسييف) لن يوقف الجهاد
بدأ الاحتلال الروسي للدول الإسلامية لِمَا كان يعرف بـ (ما وراء النهر) منذ عهد بطرس الأول منذ عام (1188هـ ـ 1714م) واستمر الروس في ابتلاع أراضي الشعوب الإسلامية والتي تشكل العديد من (القوميات) أمثال الأوزبك والكازاخ والطاجيك والشيشان والأبخاز.. إلخ، حيث حكمت بالحديد والنار، وقتلوا عشرات الألوف من المسلمين، واتبعوا سياسة التجزئة، وهجَّروا الألوف منهم إلى المناطق النائية وبخاصة الجليدية للقضاء عليهم. وقد نشطت الحركات الجهادية للدفاع عن الإسلام ضد المحتلين النصارى ثم الشيوعيين، وقدموا صوراً رائعة للجهاد نادرة المثال، وبعد تفتت الاتحاد السوفييتي استمرت المقاومة رغماً عن استمرار البعضٍ في العمالة للروس ومقاومة إخوانهم في الدين، وعرف الجهاد الشيشاني بعد إعلان الزعيم المجاهد (جوهر دوداييف) الاستقلال، وقام الروس المحتلون بالحرب ضد المجاهدين باغتيال قادة الجهاد آمثال (باندراييف) و (مسخادوف) و (عبد الرحيم اللاييف) بعد أن أبلوا بلاءً حسناً وكبدوا الروس آلاف الضحايا؛ فما زادت تلك الحرب المجاهدين إلا قوة ومضاءً.
وأخيراً أعلنت وكالة الأنباء الروسية (إيتار تاس) نبأ اغتيال القائد المجاهد (شامل باسييف) في عملية سرية للقوات الأمنية الروسية في مساء الإثنين 14/6/1427هـ الموافق 10/7/2006 بالقرب من أنجوشيا بغرب الشيشان والذي وصفته الوكالة الروسية أنه القائد لأعنف حركة مقاومة شيشانية.
وقال (علي الخانوف) رئيس الحكومة الشيشانية العميلة للروس إن مقتل (باسييف) خطوة كبيرة إلى الأمام في مواجهة المجاهدين الشيشان في إشارة إلى أهمية ذلك القائد البارز ودوره العظيم في مواجهة المحتلين الروس؛ فقد كان له عمليات مقاومة أثخنت الجسد الروسي من أشهرها (عملية احتجاز الرهائن في مدينة بودينوفسك) وحصار (مسرح موسكو) . وهذا القائد العظيم ـ رحمه الله ـ تدرب في الجيش السوفييتي السابق أداءً لخدمته العسكرية، ثم أنضم إلى (الوحدة العسكرية التابعة لكونفدرالية الشعوب) القوقازية، وشارك في الجهاد الأفغاني ضد الروس، وعمل قائداً للقوات الشيشانية، وقاوم الجيش الروسي، ثم استقال من القوات الشيشانية وترشح للرئاسة، واحتل المرتبة الثانية، ثم عينه الرئيس السابق (مسخادوف) رئيساً للوزراء، ثم استمر في الجهاد والمقاومة حتى اغتياله. ولا شك أن استشهاده ـ رحمه الله ـ كارثة على الجهاد الشيشاني؛ لكن ذلك لن يفت في عضد المجاهدين ـ بإذن الله ـ فالشعب الشيشاني المجاهد قادر ـ بإذن الله ـ على إخراج أمثال ذلك المجاهد الكبير الذي ما زال مؤمناً بدينه ومستمراً في شجاعته ونبله لاسترداد حريته وكرامته؛ ومن ثم لن يوقف الجهادَ اغتيالُ فرد من ذلك الشعب المؤمن المجاهد.(227/1)
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن أمر القلوب أمر عجيب؛ فبينما ترى الأمور واضحة جليَّة في الدلالة على أمر ما، بحيث يتفق على دلالتها كل من يشاهدها، تجد في المقابل آخرين قد سُدَّت عليهم منافذ العلم والمعرفة ـ بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد ـ فيروا عكس ما يراه الناس، ويستنبطوا منها ما لا يستنبطه أحد غيرهم، انظر إلى الآيات البينات، والدلائل الواضحات، والمعجزات الخارقات، التي أيد الله ـ تعالى ـ بها رسله إلى خلقه، كيف عميت عنها أبصار الكفار وقلوبهم، فلم يروا منها إلا أنها أساطير الأولين، وسحر الساحرين، وكهانة الكهان، وجنون المجانين؟
لقد أظهر الله ـ تعالى ـ على يد موسى ـ عليه السلام ـ من الأمور العجيبة جدّاً؛ والتي لا يقدر على الإتيان بها إلا نبي مرسل من عند الله ـ تعالى ـ، ورغم هذا الأمر البيِّن لم يؤمن فرعون ـ لعنه الله ـ. لقد تحدى فرعونُ موسى ـ عليه السلام ـ وخسر فرعون التحدي؛ بل خسر ما هو أكبر من ذلك، حيث خسر القوم الذين كان يتحدى بهم موسى ـ عليه السلام ـ؛ إذ ظنّ أنَّ ما يأتي به موسى ـ عليه السلام ـ هو من السحر، فجمع السحرة ووعدهم بالقرب منه والأعطيات الجزيلة إن هم تغلبوا على موسى، وهذا الاحتياج منه إلى غيره في منازلة موسى ـ عليه السلام ـ يبطل دعوى ربوبيته وألوهيته التي كان يدَّعيها، وقد كان يكفيه هذا ليعَلمَ ضعفه وعدم قدرته وقلة حيلته التي تنافي دعوته، وقد كان في هذا ما يكفي له أن يؤمن لو كان له قلب، وبعد ذلك تغلبت آيات الله على سحر السحرة فآمن السحرة بالله رب العالمين، وقد كان في هذا ـ أيضاً ـ ما يكفي لفرعون أن يؤمن؛ لكن تلك القلوب المقفلة المحجوبة عن إبصار الحق ورؤيته، والتي لا تنفذ إليها بينات الحق ودلائل الهدى، من أين لها أن تدرك ذلك؟
لقد ابتلى الله ـ تعالى ـ فرعون وقومه بالآيات المفصَّلات كما قال ـ تعالى ـ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ} ومع ذلك لم يؤمنوا بل: {فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: 133] ، وقد كانت هذه الآيات كافية في أن يعلموا صدق موسى ـ عليه السلام ـ وكَذِبَ فرعون فيما يدَّعيه، ثم بعد ذلك حدث أمران مهمَّان يبيِّنان حقيقة الأقفال التي تكون على القلوب، حتى تحجبها حَجْباً كاملاً عن المعرفة والعلم والانقياد لمدلولهما، فقد أرسل الله ـ تعالى ـ عليهم العذاب، ولم يجدوا مخرجاً من ذلك إلا باللجوء إلى موسى ليدعو لهم الله ـ تعالى ـ، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134] ، وقد كشف الله ـ تعالى ـ عنهم الرجز بدعوة موسى ـ عليه السلام ـ، أفلم يكن ذلك كافياً لهم ليعلموا أن موسى ـ عليه السلام ـ مرسل من ربه، وأن فرعون عبد مربوب ليس رباً ولا إلهاً؟ لكن القفل الذي يسدُّ على القلب منافذ الخير كلها يفعل ما هو أكثر من ذلك، ثم جاءت الحادثة الثانية والتي فاقت في دلالتها كل دلالة، فعندما طارد فرعونُ ـ لعنه الله ـ موسى ـ عليه السلام ـ وأتباعه، خرج موسى ومن معه وضاقت عليهم السبل، حتى كانوا في وضع صعب فالبحر أمامهم وفرعون وجنده خلفهم، ولا سبيل غير ذلك، وفي هذا الوضع الصعب، أعطى الله موسى آية من أعظم الآيات؛ حيث شق لهم البحر، وجعل فيه طريقاً يَبَساً يمشون عليه، هذا البحر العظيم الذي تغوص في لججه السفن العظام يجعل الله فيه بضربة عصا من موسى طريقاً يبساً، وانفلق البحر حتى كان كل فرق كالجبل العظيم، ألم يكن في هذا ما يكفي لفرعون أن يرعوي، أو حتى أن يكفَّ عن مطاردة موسى، ويعلم أنه ليس ثَمَّ سبيل إلى النيل منه؟ لكن القلب العجيب الذي كان يملكه فرعون قاده إلى أن يسلك على الطريق اليبس نفسه، فسبحان الله! إذا كان الله ـ تعالى ـ قد جعل لموسى وأصحابه هذا الطريق الخارق لكل قدرات البشر؛ لكي يفلت من فرعون وجنده، أيقوم في عقل عاقل أنه يمكن أن يستخدمه في ملاحقة موسى ـ عليه السلام ـ والتمكن منه؟ لكن القلوب التي أُغلِقَتْ عليها الأقفال لا تتصرف إلا بهذا السبيل.
وقد أُقفِلت على اليهود قلوبهم من الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كانوا يعرفونه كما يعرف أحدهم ابنه، ومع ذلك لم يؤمنوا قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] ، وتروي السيدة صفية ـ رضي الله تعالى عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتقول: «لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء ـ قرية بني عمرو بن عوف ـ غدا إليه أبي وعمي (أبو ياسر بن أخطب) مُغْلِسَين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاتِرَيْن كسلانَيْن ساقطَيْن يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمي (أبا ياسر) يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله، قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت» (1) .
وقد يتعجب الإنسان من ذلك أشد التعجب، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المُبَشّرُ به والذي يجدونه عندهم في التوراة والإنجيل، ويرونه، ويعرفونه بصفته، ويتأكدون، ويقسمون بالله على ذلك، ومع ذلك تغلق قلوبهم عن الإيمان به ومتابعته! بل الأغرب من ذلك أن الكفار الذين يدخلون جهنَّم ـ أعاذنا الله منها ـ بعدما عاينوا من عقاب الله الأليم العظيم المهين، يطلبون من الله أن يردّهم إلى الدنيا ولا يعودون لشركهم أبداً! ولكن الله ـ تعالى ـ يقول عنهم: {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] ، وقد بيَّن القرآن السبب الكامن وراء ذلك كله وهو قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فالقلوب عليها أقفالها التي تمنع من وصول الهدى لهم، وقد جاءت الأقفال في اللفظ القرآني مضافة هاء الضمير الراجع إلى القلوب؛ وكأن القفل مخصوص بها أو أن لكل قلب قفلاً يخصه.
أخرج الطبري بسنده من حديث هشام بن عروة، عن أبيه قال: «تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ؛ فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله ـ عزّ وجلّ ـ يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حتى ولي فاستعان به» (2) .
واليوم يعيد التاريخ نفسه، وتتكرر دورته؛ فهاهم أعداء الله ودينه لم تتفتَّح قلوبهم، وما زالوا يأملون في القضاء على الإسلام وأهله، وكأنهم ما دروا أن هذا دين الله، وأن الله ـ تعالى ـ قد جعله الرسالة الخاتمة، وأنه قد تكفل بحفظه، وأنه سخَّر من عباده من يقوم بمهمة الحفظ، كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم-، فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة» ، وها هي أمريكا قد جاءت بخيلها ورَجْلِها وكبريائها وجبروتها، تأمل تغيير الدين، فشنَّت على أهله حرباً ظالمة، وقد كان لها عبرة ـ لو كان لها قلب يعقل ـ فيما كان يسمَّى بالاتحاد السوفييتي وما فعل الله به وكيف مزقه تمزيقاً، لكن القوم على قلوبهم أقفالها، وسيأتيها من الله ـ تعالى ـ ما يأتي الأمم التي تحاربه وتحارب دينه وأولياءه لو كانوا يعلمون.
أما نحن ـ معاشر المسلمين ـ فعلينا اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ في أن يصلح قلوبنا حتى لا يطبع الله علينا بسبب معاصينا ومخالفاتنا، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه؛ ألا وهي القلب» ، وكان كثيراً ما يدعو ويقول: «ثبت قلبي على دينك» ؛ فعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثِر أن يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلت يا رسول الله: آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أُصبُعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء» . وعن عبد الله بن عمر قال: «أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: لا ومقلِّب القلوب» .
فاللهم يا مقلب القلوب بعدلك وحكمتك، ثبت برحمتك قلوبنا على دينك، وأقمها على الحق، ولا تزغها بسوء أعمالنا بعد إذ مننت علينا وهديتنا إلى الإسلام، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] .(227/2)
إنه دعوة للخلود
محمد بن شاكر الشريف
هناك من الأمور ما يُنظر إليها من عدة أوجه بعضها أظهر من بعض، ويلمس كثير من الناس المعنى الأكثر ظهوراً بحكم الاستعمال أو القرب، في حين أن المعنى الأقل ظهوراً قد يكون هو المعنى الأشد لصوقاً وتأثيراً وقوة؛ فعندما يتأمله الناس حق التأمل أو حينما يشرحه شارح أو يفسره مفسر يتعجبون كيف خفي عليهم ذلك، ولم يدركوه مع أن النصوص قد تناولته وبينته.
ينطبق هذا الأمر بشدة على لفظ (الجهاد) في سبيل الله تعالى؛ فكثير من الناس، بل أكثرهم في عصرنا الحاضر ما إن يطْرُق سمعهم هذا اللفظ حتى يستدعي في ذهنه وخياله، صورة نمطية ترسخت في وجدانه؛ حيث يطِنُّ في أذنيه هدير المدافع وأزيز الطائرات وفرقعات القنابل، ويرتسم أمام ناظريه ميدان المعركة بلونه الأحمر القاني؛ حيث تتطاير الرؤوس وتتقطع الأعضاء وتسيل الدماء، وتُدَكُّ الحصون وتُخرَّب الدور العامرة، فيقتَل الرجال وتترمل النساء ويتيتم الأطفال، وتفسد الزروع والثمار.
وإذا كان هذا حظ المفسدين المضلِّلين من أعداء الإسلام، ومن تبعهم من الضالين من أبناء جلدتنا، الذين لا يرون في (الجهاد) إلا هذه الصورة دون غيرها مع قطعها عن كل ما يلامسها؛ فإن المؤمنين الصادقين يعلمون أن (الجهاد في سبيل الله) فريضة دينية لتكون كلمة الله هي العليا في واقع الحياة ودنيا الناس، كما هي العليا في حقيقتها وإن كفر بها الناس.
والقتال باستخدام آلاته المعروفة، وإن كان أعلى مراتب الجهاد، إلا أن الجهاد لا ينحصر في القتال، بل هو أعم من ذلك وأوسع بكثير؛ فالقتال ما هو إلا صورة متقدمة من صور الجهاد، والجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ في معناه الأعم الأشمل هو المبالغة في استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل في سبيل الله تعالى. قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (حَقِيقَتُهُ الاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِن الإيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَمِنْ دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ) (1) ، وقال الكاساني: (الجهاد في اللغة: (عبارة عن بذل الجُهد ـ بالضم ـ وهو الوسع والطاقة، أو عن المبالغة في العمل من الجَهد ـ بالفتح ـ وفي عُرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله ـ عزـ وجل ـ بالنفس والمال واللسان، أو غير ذلك، أو المبالغة في ذلك) (1) فالجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ أنواع، وله وسائل متعددةٌ القتالُ أحدها، وليس الوسيلة الوحيدة.
فالجهاد منه: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وجهاد باللسان، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم» (2) ، والأدلة على تنوع كيفيات الجهاد ووسائله كثيرة جداً. وقد فرض الله ـ تعالى ـ الجهاد على المسلمين وجعله فرضاً دائماً عليهم إلى قيام الساعة، وأكده بأنواع متعددة من التأكيدات، حتى غدا الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ من أكثر الفرائض الدينية والتكليفات الشرعية التي استفاضت في ذكرها نصوص الشريعة من الكتاب والسنة، وبينت فرضها وفضلها؛ فالجهاد مطلوب على جميع مستوياته، ومطلوب من المسلمين المكلفين جميعهم، لا يُعفى من ذلك أحد، ومن لم يقدر على نوع فإنه يقدر على نوع آخر، ولا يُعْذر أحد في ترك الجهاد بالكلية. قال الله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91] ، فمن كان ضعيفاً أو مريضاً لا يقدر على الجهاد بنفسه، أو كان لا يجد نفقة يخرج بها للجهاد؛ فإن هؤلاء لا حرج عليهم في عدم الخروج، ولكنَّ نفي الحرج مقيد بشرط وهو قوله ـ تعالى ـ: {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ، والنصح: إخلاص العمل من الغش.
وتكون النصيحة بأمور منها: تعلُّق قلوبهم بالجهاد، والدعوة للمجاهدين بالنصر والتأييد، ومنها خلافة المجاهدين في أهليهم بخير، ومنها عدم الإرجاف بالناس أو التثبيط لهم، وقد تضافرت أقوال أهل العلم على ذلك، فقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: « {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} : إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه، وأبغضوا أعداءه» (3) ، وقال الآلوسي: « {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} : بأن أرشدوا الخلق إلى الحق» (4) ، وقال أبو حيان: «وشرط في انتفاء الحَرَج النصح لله ورسوله، وهو أن تكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة لله من الغش، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين، داعية لهم بالنصر والتمكين» (5) ، وقال الشوكاني: «ويدخل تحت النصح لله دخولاً أولياً: محبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه» (6) ، وقال الرازي: «إنه ـ تعالى ـ شرط في جواز هذا التأخير شرطاً معيناً، وهو قوله: {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ، ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف، وعن إثارة الفتن، وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا، إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم، وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم؛ فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد» (7) . فمع قيام الأعذار المانعة للخروج إلى الجهاد، فإن الله ـ تعالى ـ لم يضع عنهم الحَرَج إلا بقيد النصح لله ورسوله.
وقد بلغ من فضل الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له: «دلني على عمل يعدل الجهاد!» فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا أجده» فكأن الصحابي من كثرة ما سمع عن منزلة الجهاد وفضله، وربما لم تكن لديه القدرة على الجهاد فأراد ـ حباً في الخير ـ أن يعوِّض عن هذا النقص بعمل مكافئ للجهاد، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، بيَّن له أنه لا يجد عملاً يكافئ الجهاد، ثم قال له وكأنه يبين له ما يمكن أن يكافئ الجهاد: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تَفْتُر، وتصوم ولا تُفطِر؟» فقال الرجل: «ومن يستطيع ذلك؟» (8) . وفي رواية قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مَثَل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى» (9) قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وفي هذا الحديث عظيم فضل الجهاد؛ لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات؛ ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: لا تستطيعونه. والله أعلم» (10) .
وقد يعجب الإنسان من هذا الفضل العميم والثواب العظيم، فيحدوه ذلك إلى البحث عن السبب الذي لأجله وقع الجهاد من الدين هذا الموقع العظيم، وقد أجاب عن هذا التساؤل ابن دقيق العيد باختصار فقال: «الْقِيَاس يَقْتَضِي أَنْ يَكُون الجِهَاد أَفْضَل الأعْمَال الَّتِي هِيَ وَسَائِل، لِأَنَّ الجِهاد وَسِيلَة إِلَى إعْلان الدِّين وَنَشْره، وَإِخْمَاد الْكُفْر وَدَحْضه، وَفَضِيلَته بِحَسْب فَضِيلَة ذَلِكَ، وَاَللَّه أَعْلَم» (11) ، ومعرفة سبب تفضيل الجهاد، أو الحكمة من تفضيله أمر ذو فائدة كبيرة، حيث تجعل المسلم في جهاده عاملاً على تحقيق ذلك، ولا يكون مجرد عمل آلي.
وسوف نحاول بإذن الله ـ تعالى ـ أن نفصل ما اختصره ابن دقيق ـ رحمه الله تعالى ـ في الكلمات التالية:
1 ـ الجهاد دعوة للحياة وليس للموت: فهو دعوة للحياة الحقيقية التي يعبد الإنسان فيها ربه خالقه ورازقه، لا يشرك به شيئاً، حياة حقيقية يشعر فيها بالكرامة التي أكرمه الله بها، والمنزلة التي رفعه إليها، فيقوم بنشر الفضائل وإقامة العدل وعمارة الأرض، لا الحياة الحيوانية الشهوانية التي لا يكون للإنسان فيها من همٍّ سوى إشباع متطلبات بطنه وفرجه، ثم لا يلوي على شيء بعد ذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12] . وقد بين القرآن الكريم أن الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ هي دعوة إلى الحياة الحقيقية ذات القمة السامقة التي لا تدانيها حياة، فقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] ؛ فهذا نداء من الله العلي الكبير للمؤمنين أن يستجيبوا لدعوة الله ورسوله لهم لما يحييهم. قال عروة بن الزبير: «أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم» (1) ، وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إلى ما يحييكم، أي يحيي دينكم ويعلمكم، وقيل: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحدونه، وهذا إحياء مستعار؛ لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهٍ؛ ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الجهاد؛ فإنه سبب الحياة في الظاهر؛ لأن العدو إذا لم يُغْزَ غزا، وفي غزوه الموت، والموتُ في الجهادِ الحياةُ الأبدية. قال الله ـ عز وجل ـ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] والصحيح العموم كما قال الجمهور» (2) .
وعلى كِلا القولين؛ فالآية دالة على أن الدعوة للجهاد دعوة للحياة؛ فإن كان الصواب قول من قال: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الجهاد، كان هو المطلوب، وإن كان الصواب القول بالعموم، فإن الجهاد هو أحد أفراد العموم، ولذلك قال ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ: «استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق؛ وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلاً فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب، أما في الدنيا؛ فبقاء الذكر الجميل، وذلك له فيه حياة، وأما في الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها» (3) .
والجهاد دعوة للحياة؛ إذ يخرج به كثير من الناس من دائرة الأموات إلى دائرة الأحياء؛ فالكافر ميت وإن لم يكن في جوف الأرض مع أنه يدب عليها ويأكل من خيراتها. قال الله ـ تعالى ـ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] ؛ فبالجهاد يهتدي كثير من الناس ويدخلون في دين الله تعالى. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عَجِبَ الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» (4) ؛ فهؤلاء قوم من الكفار وقعوا في الأسر بين أيدي المسلمين فهداهم الله ـ تعالى ـ للإسلام.
والجهاد دعوة لحياة طائفتين: المجاهِدين، والمجاهَدين. فأما المجاهَد فإنه إذا قَبِلَ دعوة الله واستجاب لها نفعه الله ـ تعالى ـ بها، وكان ذلك حياة له وإحياء لنفسه.
وأما المجاهِد فإن جهاده حياة له في كِلا الحالين: النصر على الأعداء، أو الشهادة في سبيل الله. وحياته بالجهاد في الدنيا بعد النصر أعظم من حياته قبل الجهاد وأكمل، وأما إن قُتِلَ المجاهد في سبيل الله ـ تعالى ـ فهو حي أيضاً، حتى وإن كان تحت التراب أو في بطون السباع. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وقد أكد القرآن حياتهم بقوله: يرزقون؛ لأن الرزق للأحياء دون الأموات، لكن لما كانت حياة الشهداء في سبيل الله غير مدرَكة بالحواس؛ فقد يظن بعض الناس أنهم موتى كغيرهم، وقد جاء النهي من الله ـ تعالى ـ بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] فهم أحياء لكننا لا نشعر بحواسنا بحياتهم، وإنما نعلم ذلك بإخبار الله لنا.
والجهاد ليس دعوة لحياة الأفراد فحسب، بل دعوة لحياة المجتمعات والأمم؛ لأنه باهتدائها تمتنع أسباب انهيارها وهلاكها وزوالها؛ فعن زينب بنت جحش ـ رضي الله تعالى عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فَزِعاً يقول: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب! فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه. وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم! إذا كثر الخَبَث» (5) ، فكثرة الخبث مُؤْذِنة بهلاك المجتمعات ودمارها حتى وإن كان فيها صالحون، وإنما يقلُّ الخبث في المجتمعات وينقص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أحد صور الجهاد.
والجهاد دعوة للحياة في كِلا نوعي الجهاد: جهاد الطلب، وجهاد الدَّفْع. فجهاد الطلب يُنقِذ الكفار من كفرهم، ويهديهم ـ بإذن ربهم ـ إلى الحياة الحقيقية، وجهاد الدفع ينقذ المسلمين من كفر الكافرين؛ فالكفار إذا غزوا المسلمين في ديارهم فإما أن يقتلوهم وإما أن يردُّوهم عن دينهم، وكِلا الأمرين موت، وقد تناهى إلى أسماعنا ما حدث من مقتل أكثر من مائة ألف من العراقيين عندما غزت أمريكا وبريطانيا ديارهم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] فالدعوة إلى جهادهم في كِلا الحالين: الطلب والدفع، دعوة للحياة.
وفي الجهاد دعوة للحياة وإطالة عمر الدنيا؛ فبدوام الجهاد تظل الطائفة المنصورة باقية، ووجود المؤمنين أمان من هلاك الدنيا ودمارها؛ فإذا تغلب الكفار على العالم وطبَّق الكفر الأرض كلها؛ فقد حان قيام القيامة ودنت الساعة؛ فبقاء الدنيا رهين بوجود من يعبد الله، حتى إذا لم يوجد من يعبد الله ـ تعالى ـ ويقول: «الله الله» قامت القيامة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» (1) ، وكون الجهاد مع ما يوجد فيه من القتال دعوة للحياة؛ فهذا من عظيم تقدير الله وحكمته الذي جعل في الموت طريقاً وسبيلاً للحياة.
2 ـ ومن أسباب تفضيل الجهاد كونه طريقاً لبقاء الدين محفوظاً من التغيير والتبديل: فلولا الجهاد في سبيل الله لتصدع بنيان الدين وتهدمت أركانه، وهذا الأصل تبينه سُنَّة الله ـ تعالى ـ في المدافعة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] ، وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] ، وقد بين القرآن أن الجهاد يتحقق به جعل الدين كله لله، قال الله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] ؛ ولهذا يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتِلُ عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعة» (2) .
3 ـ نصرة المستضعفين وإخراجهم من إذلال الظالمين: الجهاد في الإسلام فريضة دينية، وهو في الوقت نفسه عمل أخلاقي أصيل؛ فهو ليس عملاً للمغنم أو السيطرة بالباطل أو العلو في الأرض بغير الحق، وليس رغبة في احتلال أراضي الناس وسرقة خيرات بلادهم، وإنما هو جهاد في سبيل نصرة المستضعفين وحمايتهم وإنقاذهم من ظلم الظالمين وبطش المعتدين، فإن كان هؤلاء المستضعفون من المسلمين فقد جاءهم بهذه النصرة العز والتمكين والتأييد، وإن كان المستضعفون من الكافرين؛ فقد أزيل عنهم بطش الظالمين وسلطان المتجبرين الذين يصدونهم عن معرفة الحق والاهتداء به، ثم لا يجبرهم المسلمون بعد ذلك على الإسلام فإنه: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وإنما يبينون لهم الحق ويدعونهم إلى اتباعه؛ فمن شاء منهم الإيمان آمن، ومن رفض تُرك ودينَه وأَمِن على ماله ونفسه وعرضه.
وهذه شهادات التاريخ ومدوَّناته قائمة موجودة ليس فيها حالة إكراه على دخول الدين، ثم الواقع أيضاً شاهد على ذلك؛ فلو كان الناس يُكْرَهون على الدخول في دين الإسلام بعد فتح البلدان لتحولت شعوب البلدان المفتوحة إلى الإسلام، ولم نجد في بلاد المسلمين يهودياً أو نصرانياً، ولا شك أن وجود أهل الكتاب من اليهود والنصارى في بلاد المسلمين منذ بدأ الإسلام إلى يومنا هذا لهو الدليل الواقعي الذي لا يمكن جحده على أنه لم يكن هناك إكراه في الدين. لقد كان الجهاد لمنع إكراه الكفار على البقاء على الكفر من قِبَل أنظمتهم الظالمة، وليس على إكراههم على الدخول في دين الإسلام.
وإذا كان هذا هو العمل الأخلاقي في قيام المسلم بفرض الجهاد؛ فإنه لمن العجب ما يقوله أناس من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا يقولون: إن الجهاد في الإسلام هو جهاد الدفع فقط، أي جهادٌ من أجل الدفاع فقط عن أنفسنا وأوطاننا؛ فأي أنانية هذه التي يريد هؤلاء أن يلصقوها بديننا وأخلاقنا! وهل من النبل والشهامة والرجولة والخُلُق الحسن أن يرى المسلمون الأرض وهي تعج بالكفر والظلم والقهر والاستعباد لخلق الله، ثم لا يحرك المسلمون ساكناً لا لشيء إلا لأنه لم يصبهم من ذلك شيء، وأن هذا الطغيان لم ينلهم؟ فأي خسة ودناءة ولؤم طبع هذه التي يلصقها بنا هؤلاء!
إن الأمة الإسلامية أمة ذات رسالة تحمل الأمانة، وعلى عاتقها تقع مسؤولية نشر التوحيد والعدل في الأرض، ومنع الظلم والطغيان. قال الله ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] ، فقد استمدت الأمة خيريتها من كونها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس قاصراً أو محدوداً بالمجتمع الإسلامي، ولكنه عامٌّ يشمل كل أرض يمكن أن يصل إليها المسلمون؛ فهو يشمل الأمر بالتوحيد في مجال الإيمان، والعدل في مجال الحياة، في مقابل النهي عن الشرك والظلم. قال أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام» (1) ؛ فهم خير الناس للناس وليس لأنفسهم فقط.
وإنه لمن الشيء الغريب من بعض هؤلاء أنك تجدهم يقبلون مثل هذا التصرف من دولة مثل أمريكا بزعمهم الدفاع عن حقوق الإنسان والعمل على نشر الديمقراطية، فيقبلون منها تدخلها في شؤون الدول بهذه الحجة، ويرفضون قيام المسلمين بواجبهم الديني والأخلاقي تجاه المظلومين والمقهورين في العالم بزعم أن هذا تدخل في حرية واختيار الآخرين! وأمريكا اليوم تنقل عشرات الآلاف من جنودها وآلياتها تقطع بهم آلاف الكيلو مترات، وينتقلون بين القارات ويقطعون الفيافي والقفار، وتجوب سفنهم البحار والمحيطات يحملون معهم كل أسلحة الدمار، يغزون البلاد ويحتلون الأرضين، ويزهقون الأنفس المعصومة من الرجال والنساء والولدان، ويزيلون الأنظمة، وينشرون الفساد؛ كل ذلك بزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، وقد أثبتت الوقائع والأحداث أنه لا يحركها لذلك غير المطامع، والاستيلاء على ثروات البلاد، واستغلال خيراتها وفرض إرادتها وثقافتها على الشعوب، والعلو في الأرض بغير الحق. كيف لا تستحي أمريكا ولا من يؤيدونها من القتال تحت مبادئ هم اخترعوها بغير حجة صحيحة، ولا برهان مستقيم، بينما يستحي أناس من بني جلدتنا من الجهاد التزاماً بحكم شرعي شرعه رب العباد للعباد؟
إن خروج المسلمين من ديارهم تاركين أهليهم وأموالهم ومصالحهم قاصدين ديار الكفار لهدايتهم ودعوتهم إلى دين الله، وإزالة الأنظمة التي تحول بينهم وبين الاستجابة لدعوة الحق، وإدخالهم إلى السعادة الأبدية التي لا تنتهي بنهاية الحياة الدنيا، مع ما يتعرض له المسلمون من جراء ذلك من البلاء والشدة بل والقتل، لهو عمل يكشف بكل وضوح عن الخُلُق الإسلامي النبيل، وعن الوجه الحضاري المتميز لفريضة الجهاد في سبيل الله تعالى، كما يكشف عما رباه الإسلام في نفوس أتباعه في أنهم لا يعيشون لأنفسهم وكفى.
4 ـ وفي الجهاد منافع وفضائل أخرى: قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يُحصَر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع كما دل عليه الكتاب والسنة ... وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه، وهو ظاهر عند الاعتبار؛ فإنَّ نَفْعَ الجهاد عامٌّ لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة؛ فإنه مشتمل من محبة الله ـ تعالى ـ والإخلاص له والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله سائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر.
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائماً: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة؛ فإن الخَلْق لا بد لهم من محيا وممات؛ ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما؛ فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قله منفعتها؛ فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة، وهي أفضل الميتات.
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزَّمِن ونحوهم فلا يُقتَل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالاً للمسلمين، والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله» (2) .
5 ـ عون الله ومدده للمجاهدين في سبيله: وقد وعد الله ـ تعالى ـ المجاهدين في سبيله بالإعانة والمدد، فقال ـ سبحانه ـ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] ، وقال ـ تعالى ـ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، وجعل في ذلك المدد البُشرى والطمأنينة للمجاهدين؛ فقال ـ تعالى ـ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] .
والقتال يكون جهاداً مشروعاً يحبه الله ويرضى عن القائمين به إذا كان في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا. والجهاد عمل منظم لا يكون فوضى، وإنما لا بد فيه من الأمير وإذن ولي الأمر إذا كان جهاد طلب، أما إذا كان الجهادُ جهادَ دَفْعٍ لدفع العدو الذي غزا بلاد المسلمين ونزل بساحتهم فلا يُشترَط شيء من ذلك، ويُدفَع كيفما أمكن الدفع، حتى تخرج المرأة بغير إذن زوجها والولد بغير إذن والديه. قال في الهداية: «فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع: تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى؛ لأنه صار فرض عين» (3) .
إن من أكبر الخيانة وإضاعة الأمانة الحيلولة بين الأمة وبين إعداد العدة للجهاد الحق الذي جعل الله ـ تعالى ـ فيه حياة الأمة وعزها، وما لم تستعد الأمة لمثل هذا الأمر؛ فكأنما سلمت عنقها لعدوها باختيارها.
__________
(1) مجموع الفتاوى ابن تيمية 2/363.
(1) بدائع الصنائع للكاساني 6/57.
(2) أخرجه النسائي كتاب الجهاد رقم 3045، وأبو داود كتاب الجهاد رقم 2143، وأحمد رقم 11798، والدارمي كتاب الجهاد رقم 2324.
(3) تفسير القرطبي 8/225. (4) تفسير الآلوسي.
(5) التفسير المحيط. (6) فتح القدير للشوكاني.
(7) مفاتيح الغيب. (8) أخرجه البخاري كتاب الجهاد رقم 2785.
(9) أخرجه مسلم كتاب الإمارة رقم 3490. (10) شرح صحيح مسلم 13/35.
(11) فتح الباري.
(1) تفسير ابن كثير 2/298.
(2) تفسير القرطبي 7/389.
(3) تفسير ابن جرير 12/463.
(4) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد رقم 10/30.
(5) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء رقم 3346.
(1) أخرجه مسلم كتاب الإيمان رقم 221.
(2) أخرجه مسلم كتاب الإمارة رقم 2546. عصابة: جماعة.
(1) أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن رقم 4557.
(2) مجموع الفتاوى 28/352. (3) الهداية 1/378.(227/3)
التباكي على الآثار
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
تكاثرت ـ هذه الأيام ـ أصوات المطالبين بتعظيم ما يسمّى «الآثار الإسلامية» ، والمنادين بالعناية والاحتفاء بها وتشييدها، وأن تكون معالم سياحية يؤمّها القاصي والداني مع أن الكثير منها لم يصح تاريخياً.
تباكى أولئك على «الآثار النبوية» ، وأظهروا العويل والنحيب على اندراس هذه المقدسات والآثار، بل إن صحفاً أجنبية شاركت القوم في هذا «التأبين» فوصفتْ إزالة هذه الآثار والمشاهد بأنها مأساة تاريخية إنسانية لا مثيل لها (1) !
بل أفضى الأمر بهؤلاء المولعين بالآثار إلى تأليب الحكومات على من خالفهم، واتّهموهم بأنهم «وهابية جفاة» ! أو «طالبان» والذين هدموا الأوثان في بلاد الأفغان (2) !
ولنا مع هذه الظاهرة المتزايدة التعليقات الآتية:
ـ إن هذا النشاط المحموم في سبيل إحياء ونبش الآثار الإسلامية ربما كان سبيلاً إلى إحياء الوثنية الجاهلية من جديد؛ فشياطين الإنس والجن يزيّنون الشرك، ويخرجونه في قوالب برّاقة، فأول شرك وقع في الأرض كان باعثه الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم، فإنّ وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً رجال صالحون من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً (3) ، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبِدت (4) .
وفي بعض الروايات أن التشوق إلى عبادة الله هو الباعثُ على اتخاذ هذه الأوثان (5) .
وتعظيم الآثار وتقديسها في هذه الأيام يحاكي تعظيم الصالحين والغلو فيهم عند قوم نوح ـ عليه السلام ـ، فالانحراف والضلال قد يُسمّى بغير اسمه، كما أنه يأتي متدرجاً خطوة تلو خطوة كما حصل في قوم نوح وأشباههم.
ـ يدعو بعضهم إلى المحافظة على الآثار وحمايتها عن جهل بالموقف الشرعي من تلك الآثار، فلا يعلم هؤلاء أن للشرع نصوصاً وأحكاماً تجاه هذه الآثار، ولسان حالهم: أن الأمم الأخرى تحافظ على آثارها؛ كالحمامات الرومانية، والملاعب الإغريقية، والتماثيل الأثرية، والأصنام المنحوتة ... فعلينا أن نحافظ على آثارنا كشأن الأمم المجاورة.
فالكثير من المهتمين بسياحة الآثار، ومن أساتذة أقسام الآثار في الجامعات يجهلون الأحكام العقدية والفقهية المتعلقة بتلك الآثار، بل إن بعضهم لا يظن أن للدين موقفاً أو صلة بتلك الآثار.
ـ أن الآثار الإسلامية منها ما اعتبره الشارع وبيّن فضله ورفع قدره؛ كالمساجد الثلاثة (المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى) ، وكذا الأعياد المكانية المشروعة؛ كمنى، وعرفة، ومزدلفة. وأما سائر الآثار الأخرى فلم يكن السلف الصالح يحتفون بها، ولم يشتغلوا بتجديدها فضلاً عن تشييدها أو صيانتها، فلم يُنقل عنهم مع توفر دواعي النقل شيئاً من الاحتفاء أو الإكرام.
ولما رأى عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ أقواماً يبتدرون مسجداً، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعاً، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمضِ (1) .
وكان إمام دار الهجرة (مالك بن أنس) وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قباء وأحد، كما أخرجه (ابن وضاح) .
يقول (ابن تيميّة) : «إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يبنوا قط على قبر نبي ولا رجل صالح، ولا جعلوه مشهداً أو مزاراً، ولا على شيء من آثار الأنبياء مثل؛ مكان نزل فيه أو صلَّى فيه، أو فعل شيئاً من ذلك» (2) .
ويقول ـ أيضاً ـ: «كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان أو حجر أو شجر أو بُنية، يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة» (3) .
ـ لا يزال تجديد هذه الآثار «المفتعلة» والمشاهد المحدثة محلّ شك كبير ونزاع كثير بين المؤرخين، مما يؤكد أن ليس من دين الإسلام التعرّفُ على تلك المواطن، وإذا كانت آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- كالشَّعَرَات ونحوها؛ والتي يُشرع التبرك فيها تحتاج إلى برهان واضح في إثبات بقائها، لا سيما مع مرور مئات السنين على تلك الآثار، وكثرة الدعاوى في شأنها، فكيف الشأن بتحديد أماكن محدثة أعرض السلف الصالح عن الاحتفاء أو الاشتغال بها؟!
يقول العلامة (أحمد تيمور) ـ عن الآثار النبوية ـ: «لا يخفى أن بعض هذه الآثار محتمل الصحة؛ غير أنّا لم نرَ أحداً من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله أعلم بها. وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب ويتنازعها في الشكوك» (4) .
وكتب علامة الجزيرة العربية الأستاذ المؤرخ (حمد الجاسر) بحثاً بعنوان «الآثار الإسلامية في مكة المشرَّفة» (5) ، وبيَّن اختلاف المؤرِّخين وتعدد أقوالهم في تحديد موطن مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وساق الأستاذ الجاسر مقالة الرحالة (العياشي، ت 1037هـ) ـ في هذا العدد ـ: «والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة، سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك بعد مجيء الإسلام؛ فقد عُلِم من حال الصحابة وتابعيهم ضعفُ اعتنائهم بالتقيد بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي؛ لصرفهم اعتنائهم ـ رضي الله عنهم ـ لما هو أهم من حفظ الشريعة، والذب عنها بالسّنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام، فما بالك بما وقع في الجاهلية؟!» .
وحكى (الجاسر) أن قبر أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ كان مجهولاً لدى مؤرخي مكة حتى القرن الثامن الهجري، ثم أصبح معروفاً محدد المكان في القرون المتأخرة حتى ذلك اليوم، بعد أن رأى أحد العارفين في النوم! كأن نوراً ينبعث من مقبرة (المعلاَّة) ، ولما علم أمير مكة آنذاك بخبر تلك الرؤيا أمر ببناء قُبَّة فوق المكان الذي رأى ذلك العارف أن النور ينبعث منه، جازماً ذلك الأمير أن ذلك المكان هو قبر خديجة! وهكذا تُصيّر الخرافات إلى حقائق بيّنات. والله المستعان.
ـ الولع بالآثار المكانية و «الهيام» بالموالد والمشاهد، أضحى ذلك كله سبيلاً إلى التفلت من الشرائع، والتنصل من سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، واتباع الهوى، وصَدَقَ الله ـ تعالى ـ القائل: {فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] ، فترى القوم عاكفين على موالد محدثة، متعبدين عند آثار مبتدعة، قد عمروا المشاهد وهجروا المساجد ... فإن في النفوس ميلاً إلى الانحلال من الاتباع.
وكما قال (أبو الوفاء ابن عقيل) : «لمّا صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم كفار عندي بهذه الأوضاع؛ مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي! افعل بي كذا وكذا، وأَخْذِ التراب تبركاً ... » (6) .
وقال شيخ الإسلام (ابن تيميّة) : «إن النفوس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري ـ رحمه الله ـ: «ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه» ، ثم هذه مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً» (7) .
وأخيراً فإن إظهار السنن وتبليغ رسالات الله كفيل بدحض شبهات دعاة الآثار على الاطلاق.
كما أن إظهار الأبحاث التاريخية الجادة التي تكشف عوار هذه الدعاوى العريضة من أرباب الآثار، والسعي إلى تحرير العقول من رقِّ التقليد والعواطف الساذجة، والاحتساب على هذه الدعاوى وفق القدرة والمصالح الشرعية. كفيل بإذن الله بايضاح الحقيقة التي هي رائد الجميع.
والله حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم (العقيدة والمذاهب المعاصرة) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) انظر: صحيفة الإندبندت البريطانية للكاتب دانيال هودن 1/9/2005م.
(2) هدم الأوثان والأبنية على القبور ونحوها من شعائر الشرك هو سبيل المؤمنين تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ألاَّ تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» أخرجه مسلم.
(3) الأنصاب: الأصنام. (4) أخرجه البخاري، ح (4920) .
(5) انظر: تفسير الطبري (29/98) .
(1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وعبد الرزاق في مصنفه.
(2) مجموع الفتاوى (17/466) .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (1/477) .
(4) الآثار النبوية، ص 78.
(5) انظر: مجلة العرب، السنة السابعة عشر، الجزء الثالث والرابع.
(6) تلبيس إبليس، ص 455.
(7) اقتضاء الصراط المستقيم (2/612) .(227/4)
تأملات قرآنية (من نبأ موسى وفرعون) (2 ـ 2)
د. أحمد عبد الله العماري
تحدث الكاتب وفقه الله تعالى في الحلقة الماضية عن ميلاد موسى ـ عليه السلام ـ وما صاحب ذلك من الأمور العظام حتى اضطر إلى الهجرة خوفاً من دعوته وملته، ويواصل في هذه الحلقة الحديث عن عودة موسى ودعوته لفرعون، والمصير الذي لاقاه فرعون لرفضه هداية الله.
13 ـ (الرحلة البرية الثانية لموسى ـ عليه السلام ـ رحلة العودة إلى الوطن) :
إن من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه حنين الإنسان إلى وطنه مهما كان في ذلك الوطن من العنت والشقاء. وإن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ لمّا غادر وطنه بغير رضىً منه أو اختيار، وغاب عنه سنين عديدة، بسبب جور الظالمين عليه، أعد عدَّته وعاد إلى وطنه، بعد ما قضى ذلك الأجل الذي تمّ بينه وبين ذلك الشيخ الكبير، والذي يُقدَّر بعشر سنوات، ويسدل الستار على تلك السنوات العشر، لا ندري ماذا تلقَّى فيها موسى، وماذا عمل فيها؟ إلاّ رعيه للغنم فقط، ثم عقد العزم على الرجوع إلى أهله وبلاده، مستصحباً معه في طريقه أهله ومتاعه، ويلقى في تلك الرحلة من المشاهد والمواقف الشيء العظيم، والنص القرآني يبين ذلك ويوضحه بدون تفصيل.
قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يَعْقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 29 - 32] .
إن هذا النص القرآني الكريم يحمل في طياته أخبار تلك الرحلة بإيجاز، ويعرض لنا مشاهدها باختصار، مع التمام في المعنى، وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته وعظمته.
لقد عاد موسى ـ عليه السلام ـ إلى بلاده برفقة أهله وبعض متاعه، يحثُّ الخطو إلى بلاده ـ عادة كل غائب يعود إلى أهله وأرضه ـ لكن يفاجأ ـ عليه السلام ـ بنداءات ومشاهدات وبراهين لم يعهدها من قبل في طريقه، ممّا أثار في نفسه الخوف والوجل والقلق والحذر، ومن تلك المواقف:
1 ـ مشاهدته لنار بعيدة عنه وهو في ليلة مظلمة مطيرة؛ قاصداً الاستضاءة بها، والتصلية، والتدفئة.
2 ـ سماعه النداء من الشجرة في البقعة المباركة الصادر من الله رب العالمين.
3 ـ رؤيته لعصاه بعد إلقائها وهي متغيرة عليه في صورتها وخلقتها وحركتها، وخوفه منها.
4 ـ منظر يده بعد أن أخرجها من جيبه وهي بيضاء نقية من غير سوء.
5 ـ وجود الاطمئنان والسكون بعد أن يضع يده على قلبه، رحمة من الله ـ تعالى ـ به.
هذه المواقف العظيمة التي شاهدها موسى ـ عليه السلام ـ وهو في طريقه إلى أهله وبلاده، ما كانت تخطر بباله، ولا كان يتوقع رؤيتها وسماعها، وبناءً على ذلك أصيب بالخوف وعدم الاطمئنان، لكن عناية الله ـ تعالى ـ لعبده وتكريمه له، ترافقه من المهد إلى اللحد.
إن أعظم مشهد وموقف قابله موسى ـ عليه السلام ـ في هذه الرحلة البرية هو تكليف الله ـ تعالى ـ له بالرسالة إلى عدوه اللدود «فرعون» الذي هرب منه في أول الأمر، وهجر أهله وأرضه من أجله، وهذا تحقيق لوعد الله ـ تعالى ـ الذي لا يخلف الميعاد حيث طمأن أمّه بأنه ـ سبحانه ـ سيرُدُّه إليها، وفوق ذلك سيجعله من المرسلين. كما قال ـ سبحانه ـ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .
ومن المواقف العظيمة التي لاقاها موسى في طريقه، كون ربه الذي خلقه يناديه، ويتكلم معه بدون واسطة، هذا هو الفضل العظيم، وهذا هو العطاء الجزيل، الذي لا منّة فيه ولا نفاذ.
أيّ تكريم، وأيّ تشريف هذا ترجع به يا موسى إلى أمك وأهلك وأعدائك بعد رحلتك المضنية، وغربتك المتعبة؟! فارقت أمك وأهلك ووطنك، وأنت في حالة يرثى لها من الخوف والمطاردة، والغربة والوحشة، تمكث في غربتك عشر سنين، والشمس تشرق عليك وتغرب، وأنت خلف غنيمات تغدو بها وتروح، والله هو الوحيد الذي يعلم ما يكُنُّه صدرك، وما يلوح في ذهنك، وما تأمرك به نفسك.
إن ما حصل لك في طريقك وأنت في رحلتك الأولى، وفي رعيك للغنم هو نوع من الابتلاء، كما أن ما حصل لك في طريقك وأنت عائد إلى أهلك ووطنك من المواقف والمشاهد العظيمة هو نوع من الابتلاء أيضاً، وإن كان هناك فرق بين الابتلائين، وتلك الابتلاءات هي سبيل التمكين.
إنّ هذا هو اختيار الله ـ تعالى ـ لك، ونِعمَ المختار، ونِعمَ الاختيار. قال ـ تعالى ـ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} .
[طه: 13]
وهي محبة الله ـ تعالى ـ ترعاك وتكلؤك. قال ـ تعالى ـ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] .
وهو اصطفاء الله ـ تعالى ـ لك من دون الناس بالرسالة والكلام. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] .
ما أعظم هذه القدرة التي تحيط بك ياموسى! وما أعظم هذا التكريم الذي فزت به من بين خلق الله، اختيار واصطفاء، ومحبة وكلام، ونصر وتأييد، وعلو وتمكين، كل ذلك يأتي بعد ذلك العناء الذي لا قيته في أول حياتك، ما عقلت منها وما لم تعقل، والأعمال بالخواتيم.
ولقد حُرِم أهل الابتداع من الإيمان بهذه الصفات الإلهية ـ المحبة والكلام والرؤية والسماع ـ التي امتنَّ الله بها على عبده موسى ـ عليه السلام ـ وغيرها من الصفات الأخرى، التي ُتشِعر برحمة الله ـ تعالى ـ من خلالها، وبعزته وحكمته، وعلمه وسمعه وبصره، وقدرته ومشيئته، وإحاطته بكل شيء، وهيمنته وجبروته، وعلّوه واستوائه على عرشه، وأنه بائن من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ وذلك لفساد المدرسة التي نشأوا عليها، مدرسة الزيغ والإلحاد، والتحريف والتأويل، والتعطيل والتشبيه، والتجسيم والحلول.
وصدق الله ـ تعالى ـ القائل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
[الأعراف: 180]
14 ـ مطالب موسى ـ عليه السلام ـ من ربه:
ولما علم موسى ـ عليه السلام ـ بتكليف الله ـ تعالى ـ له بالرسالة، لم يتردد في حملها، لكنه تذكر شيئاً من ماضيه مع فرعون وقومه، إنه عاش أول حياته في قصر فرعون، ورأى من طغيانه وجبروته الشيء الكثير، ومع ذلك حفظه الله من بأسه وبطشه، وهو في حالة ضعف وغربة، وطلب موسى من الله ـ تعالى ـ مطالب تُحققُ له، لكي يستطيع أن يقوم بأداء ما كُلِّف به خير قيام، بعضها معنوي، وبعضها حسي، ومن تلك المطالب ما ذكره الله ـ تعالى ـ في قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَرُونَ أَخِي} .
[طه: 25 - 30]
وقال ـ تعالى ـ: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34] .
وقد استجاب الله ـ تعالى ـ لعبده موسى ما طلب، قال ـ تعالى ـ: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] .
وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] .
إنّ هذه الإجابات من الله ـ تعالى ـ لعبده موسى تحمل في طياتها الرحمة والنصرة والغلبة على العدو؛ نصرة من الله ـ تعالى ـ لموسى وهارون على عدوهما فلا يصل إليهما، ونصرة من هارون لأخيه موسى ـ عليهما السلام ـ تتمثل في شد أزره وعضده، وفي الفصاحة والبيان، وفي الأنس من وحشة الطريق، وكل هذا رحمة من الله ـ تعالى ـ كما قال ـ سبحانه ـ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] .
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ تعالى ـ: (لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره ... وانشراح الصدر يُحوِّل مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة، ويجعله دافعاً للحياة لا عبثاً يثقل خطى الحياة.
وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره ... وتيسير الله للعباد هو ضمان النجاح. وإلا فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير؟ ماذا يملك وقواه محدودة، وعلمه قاصر، والطريق طويل وشائك ومجهول؟!
وطلب إلى ربه أن يحل عقدة لسانه فيفقهوا قوله ... وقد روي أنه كانت بلسانه حبسة، والأرجح أن هذا هو الذي عناه. ويؤيده ما ورد في سورة أخرى من قوله: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص: 34] .
وقد دعا ربه في أول الأمر دعاءً شاملاً بشرح الصدر وتيسير الأمر، ثم أخذ يحدد ويفصل بعض ما يعينه على أمره وييسر له تمامه.
وطلب أن يعينه الله بمعين من أهله؛ هارون أخيه. فهو يعلم عنه فصاحة اللسان، وثبات الجنان، وهدوء الأعصاب ...
لقد أطال موسى سؤله، وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه، وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير، وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه. فها هو ذا الكريم المنان لا يُخِجلُ ضيفه، ولا يرد سائله، ولا يبطىء عليه بالإجابة الكاملة: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] .
هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة. فيها إجمال يغني عن التفصيل، وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل ... كل ما سألته أعطيته، أعطيته فعلاً؛ لا تُعطاه ولا ستعطاه؟ وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم وإيناس بندائه باسمه «يا موسى» ، وأيّ تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد؟) (1) ا. هـ.
ثم كلَّفه الله ـ تعالى ـ وأخاه هارون بالذهاب إلى «فرعون» الطاغية، وأمرهما أن يُلينا له في القول، لعل رحمة الله ـ تعالى ـ تدركه، ويعود عمَّا هو فيه من الظلم والطغيان، ما أحلم الله بعباده؟! بيَّن لهم عظمته سبحانه في مخلوقاته، الدالة على وحدانيته وتفرده بالأمر والنهي، والخلق والتدبير، وبعث فيهم رسلاً منهم، مبشرين ومنذرين، فخيره إليهم نازل، ولا يصعد منهم عمل صالح.
15 ـ الموقف الثاني لفرعون وملئه من موسى ـ عليه السلام ـ:
قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص: 36] .
إن هذا الموقف يختلف عن الموقف الأول تماماً، من الضعف إلى القوة، ومن التخفي إلى الظهور، ومن المطاردة إلى المواجهة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الوحشة في الطريق إلى الأنس، ومن ضيق الصدر إلى الانشراح، ومن التلعثم إلى الفصاحة، ومن التردد إلى الانطلاقة، يحمل موسى وهارون إلى «فرعون» المعجزات الباهرات، والدلالات القاهرات، التي لو أٌلقيت على الجبال الرواسي لخشعت وخضعت وانقادت؛ بل لصارت دكاء. لكن القلوب القاسية والمغلقة تنكر الحقائق وتشكك فيها؛ بل تقف ضدها بغياً وعدواناً، وعناداً وجحوداً، بل أنكر «فرعون» الصانع كما حكى الله ذلك عنه؛ فقال: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] .
وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49] .
إنها صيغة استفهام إنكاري صادرة من «فرعون» . إن موسى وهارون أول ما بادرا «فرعون» في دعوتهما دعياه إلى الاعتراف بالصانع الخالق المالك المدبر لهذا الكون كله، كما قال ـ تعالى ـ: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] .
وقال ـ تعالى ـ: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] .
ومن اعترف بذلك فقد اعترف بألوهية ذلك الصانع إلزاماً، وأنه صاحب الأمر والنهي، والأسماء والصفات الحسنى، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع العليم.
لقد تلطف موسى وهارون في دعوتهما «فرعون» وذلك بتوجيه من الله ـ تعالى ـ لهما؛ لأن الهدف من دعوته هدايته، وإخراجه من الظلمات إلى النور.
قال ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 42 - 44] .
إن في هذا التوجيه سنة ربَّانيَّة لمن يقوم بحمل المنهج الرباني ويدعو إليه، وهي أن يتلطف بمن يدعوه، ويُبيّن له بالدلائل البينات، والبراهين الساطعات ما يدعو إليه، لعله يتذكر أويخشى، فيخرج من الظلمات إلى النور، ومن الرق إلى الحرية؛ حرية العبودية لله ـ تعالى ـ. وإن الرفق واللين في بيان الحق والوصول إليه أنفع وأوقع في النفس البشرية.
يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره لهذه الآية: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألاَّ يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللين، وأن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل؛ ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} » [النحل: 125] .
إنّ مواجهة أهل الباطل المتمكنين في الأرض كـ «فرعون» وغيره، لهو أمر صعب على النفس، خاصة وأن الله ـ تعالى ـ بين لهما أنه طغى، لأن الذي لا يستحي ممن خلقه ورزقه، وبيده محياه ومماته، فإنه من باب أولى لا يستحي من مخلوق مثله، فقد يبطش به، أو يسفّهه، أو يسجنه، أو يسلط عليه السفهاء، وإن هذه المواقف ما غابت عن «موسى وهارون» ـ عليهما السلام ـ فقد حكى الله عنهما ذلك فقال ـ تعالى ـ: {قَالا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: 45] .
لكن من كان الله ـ تعالى ـ معه فلا يخاف ظلماً ولا بخساً، ولقد وجه الله ـ تعالى ـ عبديه الصالحين بعدة توجيهات في مواجهة «فرعون» الطاغية، وأخبرهما أنه ـ سبحانه ـ معهما يسمع ويرى، ومن تلك التوجيهات الربانية:
1 ـ السرعة في تنفيذ حجج الله ـ تعالى ـ وبراهينه ومعجزاته. قال الله ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] . وفسَّر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ذلك بقوله: لا تُبطئا. وبقوله: لا تضعفا. وأياً كان الشأن فالتوجيه لهما بالصمود أمام فرعون، والمبادرة في بيان دلائل الحق والإعجاز، وعدم الفتور في عرضها وبيانها. والواجب على كل من عرف شيئاً من معالم هذا الدين أن يبادر إلى تنفيذها وإرشاد الناس إليها، وألاَّ يصاب بالكسل، أو الخور والجبن في تبليغها مهما قُوبل في الطريق من الصعاب والعقبات، فهذه سُنَّة الأنبياء، بتوجيه لهم من الله ـ تعالى ـ.
2 ـ اللين في القول. لقوله ـ تعالى ـ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] .
إن الرفق في جميع الأمور ما كان في شيء إلا زانه، كما أن الغلظة والشدة ما كانتا في شيء إلا شانتاه، وكما أن هذا التوجيه من الله لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ جاء أيضاً لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال ـ تعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .
[آل عمران: 159]
3 ـ وهذه سُنَّة شرعية لمن يحملون المنهج الرباني ويبلغونه عباد الله؛ لأن الهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتعريفهم بخالقهم، والخضوع والتذلل له.
4 ـ عدم الخوف في القيام بالرسالة الربانية. إن من طبيعة النفس البشرية أن يعتريها شيء من الخوف، وهو على درجات متفاوتة، والذين يحملون المنهج الرباني يدركون تبعاته وما يترتب على تبليغه ونشره، وموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ وقع لهما شيء من الخوف من طاغية عصرهما «فرعون» أن يبطش بهما، ويعتدي عليهما لأول وهلة يلتقيان معه، لجهله من جانب، ولظلمه وطغيانه وجبروته من جانب آخر، والله ذكر ذلك في كتابه فقال ـ تعالى ـ: {قَالا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45 - 46] .
إن الله ـ تعالى ـ اختار من خلقه من يحمل رسالته، ويقوم بنشرها وتبليغها، وفي مقدمة هؤلاء الأنبياء والرسل ـ عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ وجاء في وصفهم في كتاب الله العزيز: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39] .
يقول ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «يمدح تبارك وتعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} أي: إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها، {وَيَخْشَوْنَهُ} أي: يخافونه ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي: وكفى بالله ناصراً ومعيناً.
وسيّد الناس في هذا المقام ـ وفي كل مقام ـ محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فإنه قد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وأما هو ـ صلوات الله عليه ـ فإنه بُعِث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
ثم ورَّثَ مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه، بلَّغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسِرِّه وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم» ا. هـ.
ما أجمل سيرة السلف الصالح من الأنبياء والرسل، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم، وكيف يخشى أو يخاف من كان الله ـ تعالى ـ معه بالنصر والتأييد، أنقذ نوحاً، وموسى، ويونس من الغرق، وإبراهيم من النار، وعيسى ومحمد من القتل، وأهلك من عاداهم، ولم يستجب لهداهم، وأخذ كلاً بذنبه، وصدق الله القائل: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] .
16 ـ العاقبة الوخيمة لفرعون وملئه:
لقد اقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن يكون لكل مخلوق من خلقه بداية ونهاية، ولا يبقى إلاّ وجهه الكريم، قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] .
وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] .
وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] .
وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57] .
ولقد ذكر الله ـ تعالى ـ لنا في كتابه أحوال كثير من خلقه ـ أفراد ومجموعات ـ من الذين طغوا وتجبروا وتكبروا في الأرض بغير الحق، بل بغياً وعدواناً، كما جاء في وصف فرعون وجنوده، في قوله ـ تعالى ـ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] .
وبيَّن لنا ـ سبحانه ـ كيف أخذهم، وأنه ـ سبحانه ـ أخذ كلاً بذنبه، فقال بعد أن ذكر الله ـ تعالى ـ نوحاً، وإبراهيم، ولوطاً، وشعيباً، وهوداً، وصالحاً، وموسى ـ عليهم السلام ـ وقومهم: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] .
وقد وعد الله ـ تعالى ـ عباده الصالحين بالنصر والفوز المبين، والغلبة والتمكين، فقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] .
ولقد بذل رسول الله موسى ـ عليه السلام ـ جهداً عظيماً مع فرعون وملئه، لكنهم أعرضوا عنه وتنكروا له، بل ضاقوا ذرعاً به وبدعوته، ووقفوا ضده يحاورونه ويجادلونه، ويناقشونه ويشوهونه، ومع ذلك وقف نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ وقوف الجبال الرواسي على دينه، ولم يقصّر في تبليغ ما كلّف به من ربه، وترفق بفرعون وملئه في دعوته، وصبر على ما لاقى منهم في الطريق من المتاعب والمطاردة والمشاق والأذى، ووقفوا ضده مواقف مخزية، ومن تلك المواقف السيئة:
1 ـ التكذيب بآيات الله ـ تعالى ـ، والاستكبار عنها.
قال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11] .
وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52] .
وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} .
[الأنفال: 54]
قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [يونس: 75] .
وقال ـ تعالى ـ: {إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 46] .
وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 36 - 37] .
وقال ـ تعالى ـ: {مِن فِرْعَوْنَ إنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} .
[الدخان: 31]
2 ـ وصمٌهم لموسى ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر ومسحور. وأن ما جاء به سحر.
قال ـ تعالى ـ: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23 - 24] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} .
[الإسراء: 101]
وقال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76] .
3 ـ اتهموا موسى وقومه بالفساد في الأرض.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} .
[يونس: 79]
4 ـ قتلهم لأبناء بني إسرائيل، واستحياء نسائهم.
قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف: 141] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6] .
5 ـ الإنكار لربوبيّة ربِّ الأرباب.
قال ـ تعالى ـ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] .
6 ـ العزم على قتل موسى، والتخلص منه.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] .
7 ـ ادعاء فرعون الربوبيّة.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38] .
8 ـ ادعاؤه الكمال في الرأي والدلالة.
قال ـ تعالى ـ: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] .
إلى غير ذلك من المواقف المشينة من فرعون وقومه في حق الله ـ تعالى ـ وأنبيائه ورسله.
وقد أخذ الله ـ تعالى ـ فرعون وقومه أخذ عزيز مقتدر، وبيّن الله لنا في كتابه أنه طغى، فأخذه الله ـ تعالى ـ بالغرق ليكون عبرة لمن خلفه.
فقال ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} [طه: 24] .
وقال ـ تعالى ـ: {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} [طه: 43] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 50] .
وقال ـ تعالى ـ: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] .
وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11] .
وقال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] .
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52] .
وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} .
[الأنفال: 54]
ومن العاقبة السيئة لفرعون وجنوده، أنهم يُعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم القيامة يذوقون أشدَّ العذاب.
قال ـ تعالى ـ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] .
ولم يقع ما حلَّ بهم إلاّ بعد ما أُنذِروا، قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر: 41] .
17 ـ الدروس والعبر المستفادة.
| إنَّ عَرضَ سير الأنبياء والمرسلين الذين اختارهم الله ـ تعالى ـ، واصطفاهم من خلقه على الأسماع لهو أمر مهم ومطلوب، فهم القدوات الطيبة الذين حملوا المنهج الرباني وطبقوه في أنفسهم، ثم دعوا البشر إلى اعتناقه وتطبيقه، ولاقوا في سبيل ذلك من المتاعب والمشاق ما الله به عليم، ومع ذلك حفظهم الله ـ تعالى ـ، ومكَّنهم في الأرض، وصرف عنهم كيد عدوهم، وفي معرفة سيرهم خير زاد في الطريق إلى الله ـ تعالى ـ.
| إنّ الصراع بين الحق والباطل سُنَّة من سنن الله ـ تعالى ـ، ما دامت السماوات والأرض، لا يزول هذا الصراع إلاّ بزوال هذا الكون. وما وقع بين موسى ـ عليه السلام ـ وفرعون وملئه من هذا الباب.
| إن الله ـ تعالى ـ أخبر أن التمكين في الأرض سيكون لموسى وملئه، وأن الدائرة السيئة ستكون على فرعون وملئه. قال ـ تعالى ـ: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6] .
| إنّ طريقة القرآن في عرض المشاهد أو الأحداث يجمل ولايفصل، ولكن هذا الإجمال يرى فيه الناظر كأنما شاهد القصة أو الحدث كاملة أومتكاملة، وهذا من بلاغة القرأن الكريم وإعجازه، وهذا يؤخذ من قصة أخت موسى من الحدث حيث تجلَّى ذلك في عدة محاور:
الأول: الأم وابنتها وما دار بينهما في شأن موسى ـ عليه السلام ـ.
الثاني: الدور الذي قامت به أخت موسى.
الثالث: الحوار الذي دار بين أخت موسى وآل فرعون.
الرابع: رجوعها إلى أمها بالبشارة العظيمة برجوع موسى ـ عليه السلام ـ إليهما.
| إنّ الله ـ سبحانه ـ خلق الجن والإنس لعبادته وحده دون من سواه، وهداهم النجدين، وأوضح لهم الطريقين بواسطة رسله الكرام، وقد بلغوا الناس ما أنزل إليهم، وأول تكليف طلبوه منهم عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.
| جَعَلَ ـ سبحانه ـ من سنته ابتلاء الناس بعضهم ببعض. كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4] .
كما جعل من سنته التدافع فيما بينهم. كما قال ـ تعالى ـ {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
| إنَّ من عدل الله وفضله ومنَّته أنه حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً. قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] . وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
وفي الحديث القدسي الصحيح: «ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا» رواه مسلم. وقد ظلم فرعون وقومه نبي الله موسى وقومه، والمظلوم هو المنتصر في النهاية. سواء في الحياة الدنيا أو الآخرة.
| إنّ بعض خلق الله كُتِبت عليه الشقاوة في الدنيا والآخرة، فيشقى به من كان تحت ولايته، أو حوله، ومن أولئك «فرعون المثبور» ذلك الرجل الطاغية، الذي ادّعى الربوبية، كما حكى الله عنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] .
ووصفه الله بالطغيان وكثرة الفساد في الأرض، قال ـ تعالى ـ: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 10 - 14] .
وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] .
| إنّ من أعظم فساد فرعون ادعاؤه الربوبية والألوهية، ثم ذبحه لأبناء بني إسرائيل خوفاً على ملكه ونفسه منهم. ولو استسلم لله ـ تعالى ـ واستجاب؛ لسَعِدَ في الدارين، ولكن لله ـ تعالى ـ الحكمة البالغة.
| إن المخاوف البحرية أيّاً كانت؛ سواء كانت أمواجاً أو غرقاً، أو حيوانات من حيوانات البحر، أوظلمات، أو غير ذلك ممَّا يتصوره الإنسان على مثل ذلك الرضيع الصغير الضعيف أو غيره، ترجع أمناً وطمأنينة وهدوءاً وسكينة بتدبير الله ـ تعالى ـ لها، فهو الخالق المصرّف الذي بيده ملكوت كل شئ، إذا أراد شيئاً قال له: كن. فيكون.
| إن بيوت الجبابرة قد يوجد فيها الاختراق، إمّا من داخلها أومن خارجها، وإذا قوي التوكل على الله لدى الإنسان قويت عزيمته، وإذا أخذ بالأسباب الشرعية في الوصول إلى الأهداف فإن الله ـ تعالى ـ يُسَهل له الطريق ويلين له القلوب ويجعل الله له مع العسر يسراً، انظر إلى ما هيأه الله لهذا الرضيع وهو في المهد! لا يعرف توكلاً، وليس له عزيمة ولا قدرة، ولا يعرف وسيلة ولا هدفاً ولا غايةً، وهو في قبضة من يريد ذبحه والتخلص منه، وليس لديه أيّ تردد في ذلك وهو داخل داره وبين جنوده وغلمانه، ومع ذلك هيّأ الله له من يعطف عليه ويدافع عنه، ويجادل فرعون في أمره وهو لا يشعر بذلك، فأصبح عدواً وحزناً لفرعون في داخل داره، ومع ذلك صرف الله عنه بطش فرعون وظلمه وطغيانه، ومع إصرار زوجة فرعون ودفاعها عن الاعتداء على ذلك الطفل استجاب فرعون لها، مع تخوفه منه وكرهه لذلك، واستنفرت خدمها للعناية بموسى ـ عليه السلام ـ فكلّفتهم البحث عن المرضعات؛ لكي يقمن بإرضاعه وإطعامه، فحضرن وحاولن أن يرضعنه، لكنه امتنع عن ذلك، فلم يلقم ثدياً على الإطلاق؛ لأن الله ـ تعالى ـ حرّم ذلك عليه لحكمة يريدها سبحانه.
| إن من يرتكب خطيئةً ـ مهما كانت ـ فإنه يصبح ضعيف الموقف، خائف النفس، وهذا يؤخذ من موقف موسى ـ عليه السلام ـ لما اقترف تلك الخطيئة ـ وهي قتل القبطي ـ فأصبح خائفاً من أن ينكشف أمره لأولئك القوم الذين يتربصون به وهو في المهد، فكم حاولوا قتله، والتخلص منه، فكيف وقد وقع منه ما يسئ إليهم؟ فعلى العاقل أن يصون نفسه من الوقوع في الزلات، حتى يكون عزيز الجانب، مطمئن النفس وإن ظُلِم؛ كما حصل لنبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ.
| إن الله ـ سبحانه ـ إذا أراد شيئا هيأ له أسبابه، وإن الله ـ سبحانه ـ قادر على إيجاد ذلك الشيء من دون أسباب، ولقد سبق في علم الله ـ تعالى ـ الأزلي أن عبده موسى ـ عليه السلام ـ سيكون من المرسلين. كما سبق في علمه ـ تعالى ـ أنه سيقع في أيدي أعدائه وهو طفل رضيع ليكون لهم عدواً وحزناً. فهيأ الله ـ تعالى ـ لعبده الضعيف من يحفظه ويكفله، ويرعاه من داخل بيوت أعدائه، وهم لايشعرون ماذا تكون العاقبة.
| إن الإنسان مهما ارتكب من الذنوب والخطايا فإن أبواب الله مفتوحة بالليل والنهار، فلا يقنط الإنسان ولاييأس من عفو الله ورحمته ومغفرته، وإن أعظم ذنب عُصيَ الله به هو الشرك.
فعلى كل من وقع في خطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة أن يتوب إلى الله ـ تعالى ـ، ويستغفره، ويتوب إليه، ويندم على ذلك، ويخلص في توجهه إلى الله ولا يعود إلى ذلك.
| ليعلم ورثة الأنبياء أن الطريق الصحيح هو طريق الأنبياء؛ فليصبروا، وليحتسبوا على ما يلاقون في طريقهم، وليدعوا ربهم أن يهديهم السبيل المستقيم وأن ينجيهم من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين، ومكر الماكرين، أسوة بالأنبياء في ذلك، ولا يستعجلوا الطريق، فإن النصر بيد الله ـ تعالى ـ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] .
| إن الرجل المصلح في هذه الحياة قد يجد معاناة في داخل النفس، ومعاناة في الطريق، ومعاناة من قلة الزاد وأنيس الطريق، ومعاناة ممَّن سيلقاهم أمامه، كيف يأوي إليهم، وكيف يقص خبره عليهم، وكيف يستقبلونه؟
لكن الرجل المؤمن بالله، والواثق بنصره، والمتوكل عليه حق التوكل، يلجأ إليه ويعتصم به ويتضرع إليه، فهو الخالق الرازق، وهو المحيي والمميت، وهو النافع وبيده مقاليد الأمور، لا رادَّ لما قضى، ولا مانع لما أعطى، ولا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل.
لقد لجأ موسى ـ عليه السلام ـ بجلال الله وعظمته فدعاه؛ فحماه الله ـ سبحانه ـ وهيأ له من الأسباب وطرق الخير الشيء الكثير.
| إن من طبيعة المرأة الخجل والحياء والضعف، وعدم القدرة على مزاحمة الرجال، وهذا يؤخذ من حال تلك المرأتين اللتين تذودان غنمهما عن ذلك المجتمع، فلا تُزاحمان القوم في السقي، وتنتظران صدورهم حتى تتمكنا من السقي بدون مزاحمة ولا مشادة. فالمرأة العاقلة تقدر وتحترم نفسها ومن وراءها، فكيف إذا كانت من بيت عز ومكانة؟ فإن مزاحمة المرأة للناس في منتدياتهم وفي قضاء حوائجهم ليس من طبيعتها، بل إذا حصل منها شيء من ذلك فإنَّه سلوك مشين، وخارج عن طبيعتها التي خلقها الله عليها.
| إن الإنسان مهما أعطي من قوة في جسمه، وفي عقله، وفي جميع جوارح، فهي من الله ـ تعالى ـ، فعليه أن يلجأ إلى من حباه تلك القوة فيعترف بالتقصير والفقر، وأن لا ملجأ من الله إلا إليه. وهذا يؤخذ من موقف موسى ـ عليه السلام ـ بعد ما سقى للمرأتين. قال ـ تعالى ـ: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ، مفوضاً أمره إلى الله، ومتوكلاً عليه، ومعترفاً بضعفه وفقره أمام ربه وخالقه.
| إنّ إعانة الضعيف ومساعدته في قضاء حاجته لهو خلق عظيم، حثّ عليه الدين الحنيف، وإن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ بادر إلى فعل الخيرات، وساعد المحتاج، وأعان الضعيف على قضاء حاجته.
وهكذا يجب على الذين يقتدون برسل الله الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وينتهجون نهجهم، ويسيرون على طريقهم غير عابئين بالعوائق والعقبات التي يلاقونها في طريقهم إلى الله ـ تعالى ـ.
| إن القوة والأمانة قلّمَا تتوفر في شخص، وقد وُصف بهما موسى ـ عليه السلام ـ في قوله ـ تعالى ـ على لسان إحدى الفتاتين: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] .
| إن المرأة لها أن تبدي رأيها، وتسعى في تحقيقه، وهذا يؤخذ من موقف ابنة ذلك الشيخ الكبير التي قصَّت على أبيها خبر موسى، فأمرها أبوها أن تدعوه، فذهبت إليه، في خطى حثيثة، وأدب جم، وستر كامل، ولسان طلق، وعزيمة قوية، لتبلغه دعوة أبيها، ولما وصلت إليه أبلغته الدعوة في أدب رفيع، ومنطق سليم، وأخبرته: أن والدها يريد أن يجازيك ويحسن إليك مقابل ما قدمت لنا من الخدمة في السقي. قال ـ تعالى ـ: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] .
| إن من مواقف الرجال الكبار وحُسنِ أخلاقهم كرمُ الضيافة، وحسن الاستقبال، وحماية الضيف، واحترام الجار، ونصرة الضعيف والمظلوم، والوقوف ضد الباطل وأهله، وهذا يؤخذ من موقف ذلك الشيخ الكبير عندما عرض عليه موسى ـ عليه السلام ـ أمره وحاله، فقال مسرياً عن موسى، ومطمئناً وناصراً له، قال: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] .
| إنّ النفس الأبيّة لاترضى أن تعيش على فتات العيش وموائد الآخرين، بل لابد أن تبحث عن وسيلة تكدح من خلالها، وتشعر بالعزة والاستعلاء بعيداً عن المسألة والاستجداء، وهذا ما وقع لموسى ـ عليه السلام ـ حيث عاش مع الشيخ الكبير عيشة عمل وكدح يرعى له الغنم مقابل تزويجه إحدى ابنتيه، واتفقا على مدة العقد اللازم والكامل برضىً واختيار.
| إن الوفاء بالعقود والالتزام بها من الإسلام، ولا يجوز الإخلال بها، أو نقضها، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... } [المائدة: 1] الآية؛ ونبي الله موسى ـ عليه السلام ـ وفّىّ بما التزم به مع ذلك الشيخ الصالح، وأدى أكمل الأجلين.
| إن من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه حنين الإنسان إلى وطنه، فعلى كل مغترب أن يفكر في العودة إلى أهله وبلاده؛ لكي يقوم بما يستطيع عليه من الإصلاح، بين أهله وذويه، اقتداء بنبي الله موسى ـ عليه السلام ـ فإنه لما قضى أكمل الأجلين وأتمهما ودَّع مضيفه هو وأهله ليعود إلى أهله وبلاده التي غادرها منذ زمن بعيد.
| إن الابتلاءات التي قد تحصل للإنسان في الطريق قد تكون هي سبيل التمكين في الواقع.
| إن التكاليف الربانية ليست بالشيء اليسير، إنها تكاليف عظيمة وكبيرة وثقيلة، تحتاج إلى رجال أقوياء في حملها، وفي تبليغها إلى الآخرين، وتحتاج إلى صبر ويقين، وتوكل على الله، وهمّة عالية، وموسى ـ عليه السلام ـ من أولئك الرجال العظماء، فقد صنعه الله ـ تعالى ـ على عينه، وغذاه ورباه ومحّصه حتى بلغ أشده، واستوى على سوقه، فكلّفه وأرسله، بعد أن أعطاه الله ـ تعالى ـ الحكم والعلم، فقام بما كلّف به خير قيام.
| لقد سبق في علم الله ـ تعالى ـ الأزلي أن فرعون لا يؤمن، ومع ذلك أمر عبديه ونبييه ـ موسى وهارون عليهما السلام ـ أن يذهبا إليه ويترفقا به في الحوار والنقاش لعله يتذكر أو يخشى، كل ذلك من أجل أن يرسما طريقاً في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ لمن يأتي بعدهما، من إلانة في القول، وترفق بالآخر، والصبر على المعاناة في الطريق من القريب والبعيد، والصديق والعدو، والأخذ بالأسباب، وعدم اليأس أو القنوط، فإن القلوب علمها عند الله ـ تعالى ـ يصرفها ويقلبها كيف يشاء.
| يجب على من يدعو الناس إلى دين الله ـ تعالى ـ أن يحرص على هدايتهم؛ وإن لم يهتدوا، وأن يبلغهم دين الله ـ تعالى ـ برفق ولين، كما مرّ في قصة موسى وهارون مع فرعون، وأن يلجأ إلى الله ـ تعالى ـ بالذكر والتسبيح والدعاء، وأن يطلب من الله ـ تعالى ـ التوفيق والسداد.
| إن التعاون بين أفراد البشر على تبليغ دين الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور لهو أمر مطلوب، سواء كان ذلك وفق نشاط منهجي، أو لا منهجي مادام أن النتيجة واحدة والغاية واحدة، وإن شدَّ الأزر في الطريق إلى الله ـ تعالى ـ وتوزع الأدوار، والتعاون على القيام بها، لهي من الأسباب التي تجعل العمل ناجحاً، وتجعل النفوس وثَّابةً إلى المعالي كلما حققت شيئاً من أهدافها وغاياتها.
وإن قصة موسى ـ عليه السلام ـ وطلبه من ربه ـ سبحانه ـ أن يشد أزره بأخيه هارون ـ عليه السلام ـ خير شاهد على ذلك.
| إن الله ـ تعالى ـ ليمهل للظالم ولا يهمله، ثم يأخذه بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر، وهذا ما حصل لفرعون وغيره من الأمم الظالمة، وقد أخبرنا ربنا ـ سبحانه ـ بذلك في كتابه، ولا يظلم ربك أحداً.
فقال ـ تعالى ـ: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
[العنكبوت: 40]
| إن الحق قد ينتصر بجهد الضعفاء قبل جهد الأقوياء، فلا يحقرن الإنسان أيّ جهد يقوم به، فإن مؤمن آل فرعون، وأخت موسى، وأمه، وآسية، كانوا ضعفاء، ومع ذلك قاموا بأدوار عظام في نصرة الحق.
| إن الله ـ تعالى ـ وعد عباده الصالحين بالنصر والفوز المبين، والغلبة والتمكين، فقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] .
فلا يتعجل الصالحون طريقهم، أو تمل نفوسهم، ولا يستوحشوا من قلة الناصرين أو السالكين، فإن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بدؤوا طريقهم فرادى، فما وهنوا لما أصابهم، وما ضعفوا وما استكانوا، ولنا فيهم الاقتداء والاتساء، والله ـ تعالى ـ ولي الصالحين.(227/5)
فن القيادة عند السلف الصالح
سلطان بن محمد الدويش
يزخر تاريخ الأمة الإسلامية بمواقف وقصص، المتأمل فيها يجدها نبراساً في طريقه للإصلاح، ولعلِّي أقدم من خلال هذه السطور نموذجاً من تلك القصص؛ فقد أورد الذهبي في السِّيَر: (عن محمد بن كعب، قال: جمع القرآنَ خمسةٌ: معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأُبَيٌّ، وأبو أيوب. ِ
فلما كان زمن عمر، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان (الأول) : إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي برجال يُعلمونهم.
فدعا عمر الخمسة، فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا.
فقالوا: ما كنا لنتساهم؛ هذا شيخ كبير ـ لأبي أيوب ـ وأما هذا فسقيم ـ لأُبيّ ـ فخرج معاذ وعُبادة وأبو الدرداء.
فقال عمر: ابدؤوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يَلْقن؛ فإذا رأيتم ذلك، فوجِّهوا إليه طائفة من الناس؛ فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، ولْيَخْرُجْ واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين.
قال: فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس، أقام بها عبادة بن الصامت، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين) (1) .
«وعن مسلم بن مِشكم: قال لي أبو الدرداء: اعدُدْ من في مجلسنا. قال: فجاؤوا ألفاً وستمائة ونيِّفاً. فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة؛ فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً، فيُحْدِقون به يسمعون ألفاظه» (2) .
«وقيل: الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقِّن، وكان أبو الدرداء يطوفُ عليهم قائماً، فإذا أحكمَ الرجلُ منهم، تحول إلى أبي الدرداء ـ يعني يعرض عليه ـ» (3) .
بعد إيراد هذه القصة لعلك أخي القارئ تتساءل: ما أبرز الفوائد المستنبطة منها؟ فأقول مستعيناً بالله: إن هذه القصة تضيء للإخوة الدعاة والقادة طريقهم نحو الإصلاح؛ ففيها أسلوب التعامل مع الأتباع، وفن توجيه الناس للهدف المراد، وأسس صناعة الصف الثاني في العمل، وغيرها الكثير، وأدعك أخي القارئ العزيز تتأمل بعض ما تم استنباطه (4) من هذه القصة:
1 ـ علاقة القائد مع أتباعه هنا هي علاقة ود واحترام وتقدير؛ حيث نجد ذلك واضحاً في أسلوب طلب يزيد بن أبي سفيان عندما كتب: (إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم، فأعنِّي برجال يُعلمونهم) حيث أبرز حيثيات الطلب، مع طلب العون في المساهمة لحل هذه القضية. كما نجد وضوح هذه العلاقة في عرض عمر ـ رضي الله عنه ـ على الخمسة، مع علمه بأن هذه المهمة تحتاج إلى مواصفات تنطبق على بعضهم؛ وذلك ليبادر القادرون على أدائها، ولا يُلزِمهم بها؛ كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني» . قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله! فأعطاه إياه. وتتضح هذه العلاقة أيضاً في قوله: (فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا) فالقائد هنا يطلب العون من الأتباع، مع دعائه لهم بالرحمة.
2 ـ تهيئة الأتباع لتقبُّل أصعب المهام في الأزمات؛ فالناظر في هذه المهمة التي تتطلب فراق الأهل والأصحاب، يرى أنه بمجرد عرض الموضوع عليهم، بادر ثلاثة بالموافقة على أداء المهمة؛ وهذا يؤكد لنا أنه لا بد من تربية الأتباع لاستقبال المهام الشاقة في الرخاء، حتى إذا أتت المهمة الشاقة في الأزمات، يبادرون لأدائها، ولا يتقاعسون؛ كما في إرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- حذيفة بن اليمان يوم الأحزاب؛ فإنه شاهد على ذلك.
3 ـ رجوع القائد للمصدر الرئيس في القضايا، فنجد عمر ـ رضي الله عنه ـ يرجع في حال إلى القرآن الكريم، وفي حالٍ آخر إلى السنة، وفي أخرى يرجع للمتخصصين ـ كما فعل هنا ـ مع وجود من هو أفضل منهم كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، إلا أنه رجع لهؤلاء الخمسة؛ لأنهم المرجع في هذه المسألة؛ وعليه فإنني أؤكد للقادة أن تكون الاستشارة بناء على الموضوع، وألا يخصصوا مستشاراً واحداً لكل المسائل، بل لكل موضوع أهله.
4 ـ رسم القائد رؤية واضحة، بعد دراسته للواقع وتبيينها لأصحاب المهمة؛ ففي قوله: (ابدؤوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة ... ) إلى قوله: (والآخر إلى فلسطين) ، فكان فقه عمر ـ رضي الله عنه ـ للواقع واضحاً وجلياً، ولذا بدأ بحمص لوجود مشكلة في المنطقة يجب التغلب عليها قبل انتشارها؛ وهنا فسر سبب اختياره هذه المنطقة. إن رسم الخطط الاستراتيجية في العمل، وإطلاع العاملين علبها؛ يساهم في اختصار الجهود والأوقات، وزيادة الحماس للعمل.
5 ـ توجيه القائد لأتباعه بالبدء لصناعة صف ثانٍ في العمل، وهذه النظرة الثاقبة لعمر ـ رضي الله عنه ـ تؤكد لقادة العمل الخيري أهمية هذا الأمر؛ ولذا رسم لهم سياسة سير العمل، بانتقاء المميزين من الطلاب، كما في قوله: (منهم من يَلْقن (1) ؛ فإذا رأيتم ذلك، فوجِّهوا إليه طائفة من الناس) . ويأتي التطوير بعد الانتقاء، ثم التقييم، كما في قوله: (فإذا رضيتم منهم) ، وهنا نجد اللفتة العمرية المهمة، بأن يكون التقييم جماعياً وليس فردياً. بالإضافة إلى ذلك نجد وضوح أسس التقييم بين القائد والعاملين، وبعدها يتم تفويضهم لإدارة العمل مع بقاء أحد القادة للمتابعة (فليقم بها واحد) .
6 ـ القائد يرسم السياسات ويترك التفاصيل للعاملين؛ فعندما رسم خطة صناعة الصف الثاني، كما ذكرنا سابقاً، لم يحدد من يبقى ومن يذهب كما في قوله: (فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين) . وفي هذا يقول أحدهم: (القائد ينقش الأهداف على الصخر، والوسائل على الرمل) . إن إعطاء الصلاحيات للأتباع بتحديد الوسائل والبرامج، يساهم في زيادة الولاء للمنظمة.
7 ـ تقرير مبدأ الأولويات في العمل؛ فقد وجههم بالمسير إلى حمص ثم دمشق وفلسطين، كما في قوله: (ابدؤوا بحمص) .
8 ـ إبقاء عدد من المتخصصين في العمل الأصلي، ولم يستهلك جميع الطاقات؛ لأن المدينة المنورة مركز القيادة والعلم؛ ولذا أبقى اثنين منهم.
9 ـ مراعاة القائد للعامل النفسي للأتباع، وذلك عندما أرسل ثلاثة؛ فهذا سيعطي لهم تسلية وقوة في العمل وأقدر على النجاح؛ حتى يتهيأ لكل واحد أتباع، ثم يفترقوا.
10 ـ السعي للاكتفاء بالموارد الداخلية في المنطقة؛ فإن التأكيد على الانتقال إلى دمشق وفلسطين يدل على أهمية الاكتفاء بأهل المنطقة من الموارد البشرية، وأؤكد على أهمية الموارد المالية؛ فمن المهم أيضاً السعي للاكتفاء بالموارد المالية من المنطقة.
11 ـ ارتباط تعليم القرآن بالفقه بالدين، كما في قوله: (واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم) ، قال الضحاك: (حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً) وتلا قوله ـ تعالى ـ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] .
12 ـ استمرار بناء الإنسان لذاته، وألا يكون شمعة يحرق نفسه ليضيء للآخرين، كما ذكر مسلم بن مِشكم في قوله: (فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً) ، يجب على الدعاة والعاملين في الحقل الخيري أن يستمروا في التعلم؛ ومهما وصل الإنسان إليه من العلم؛ فمطلوب منه الاستمرار؛ فهذا أبو حنيفة قال: (قدمت البصرةَ فظننتُ أني لا أُسأل عن شيء إلا أجبتُ فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة) (1) . وفي دراسة على تسعين قائداً، تحدث هؤلاء القادة بأن أهم صفة للقائد هو التعلم المستمر، والله ـ عز وجل ـ يقول: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37] . فكل كائن يكفُّ عن النمو يبدأ في الموت.
13 ـ تقدير حجم العمل وتقسيمه بناء على الموارد المتاحة؛ وذلك عندما قال: (اعدُدْ مَنْ في مجلسنا) ، وفي قوله: (ولكل عشرة منهم ملقِّن) .
14 ـ المتابعة من أهم أسس نجاح العمل، كما جاء عن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: (أرأيتم إن استعملت خيركم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ؟ قالوا: نعم! قال: لا؛ حتى أنظر: أعمل بما أمرت، أم لا؟) .
15 ـ التدرج في التعلم، كما في قوله: (فإذا أحكمَ الرجلُ منهم، تحوَّل إلى أبي الدرداء ـ يعني يعرض عليه) ، حيث لم ينشغل أبو الدرداء بالجميع، بل ينتقل إليه من أحكم الحفظ.
أخيراً: فإن السيرة مليئة بالقصص والأحداث؛ فلنستفد منها، ونستخرج الكنوز من أعماقها. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(*) باحث ومدرب في العمل الخيري.
(1) نزهة الفضلاء من سير أعلام النبلاء، تأليف: محمد حسن عقيل موسى (مختصر موسوعة سير أعلام النبلاء للذهبي) ، (158/4) . (2) نزهة الفضلاء (159/3) .
(3) نزهة الفضلاء (161/5) . (4) تم استنباط عدد من الفوائد، بمشاركة مجموعة من قيادات العمل الخيري، وذلك أثناء حضور دورة صناعة الصف الثاني.
(1) جاء في لسان العرب: (غلامٌ لَقِنٌ: سريعُ الفهم. وفي حديث الهجرة ويَبيتُ عندهما عبدُ الله بن أَبي بكر وهو شابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، أَي فَهِمٌ حسَنُ التَّلْقِين لما يسْمَعه. وفي حديث الأُخْدُود: انظروا لي غلاماً فَطِناً لَقِناً) .
(1) نزهة الفضلاء (550/3) .(227/6)
هيَّا إلى الاحتساب!
فيصل بن علي البعداني
ترمي الشريعة إلى إشاعة الخير ودروس الشر، ولذا علت منزلة الاحتساب، وجلَّت رتبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا غرو فهو أصل من أصول الشريعة، وركن عظيم من أركانها المنيعة، مفتاحٌ للإصلاح، وبوابةٌ لاستقرار المجتمع وظفره بالأمن والسعادة، وضرورةٌ كبرى تُحمَى به العقيدة، وتصان الفضيلة، ويُدافَع الباطل، وتُحْمَى الأمة من عبث ذوي الأهواء والشهوات، ويُوقَى أفرادها من اتِّباع الهوى وولوج سوق الرذيلة. يقول الغزالي: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوِي بساطه، وأُهمِل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد) (1) .
وكيف لا يكون الاحتساب بهذه المنزلة وقد جعله الله ـ تعالى ـ شعار هذه الأمة ومناط خيريتها، فقال ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110] ، وأبان ـ عز وجل ـ أن القيام به عنوان السعادة وبوابة الفلاح، وأن تركه سبيل استحقاق لعنته، والطرد من رحمته فقال آمراً به: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ، وقال ـ عز من قائل ـ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79] .
وأوضح النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن القيام به شرطٌ للنجاة، وأن الإعراض عنه سببٌ للهلاك، وتعرُّضٌ للعقوبة، وحرمانٌ من إجابة الدعوة فقال -صلى الله عليه وسلم-: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (2) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» (3) .
وأمام ذلك الترغيب العظيم والتهديد الشديد بادر المصلحون على امتداد تاريخ الأمة الطويل على اختلاف مواقعهم إلى الاحتساب في كافة مستويات المجتمع وطبقاته، ولكثرة الشواهد وسعتها فسأكتفي بذكر بعض ذلك من خلال سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحياته العطرة، من خلال ما يلي:
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- في محيطه الأسري:
لم تُلْهِ المهام الجسام التي كانت موكلة بنبينا الكريم ـ من تعليم الناس الكتاب والحكمة، وتدبير شؤون الأمة، ومواجهة الأخطار المحدقة بها، والانكسار بين يدي ربه آناء الليل وأطراف النهار ـ لم تلهه -صلى الله عليه وسلم- عن تربية أسرته الكبيرة، وتوجيهها إلى الابتعاد عما يُغضِب ربها، ويحول بينها وبين الظفر برحمته ـ عز وجل ـ وإحسانه، ومن ذلك: ما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي البيت قِرَام فيه صور، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصوِّرون هذه الصور» (4) ، وما روته ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا ـ تعني قصيرة ـ فقال: «لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته، قالت: وحكيتُ له إنساناً، فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا» (5) ، وما رواه خادمه أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي؛ ففيمَ تفخر عليك؟! ثم قال: اتقي الله يا حفصة!» (1) .
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه المحيطين به:
عُنِي -صلى الله عليه وسلم- بتزكية أصحابه الكرام ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وبخاصة القريبين منه، المكثرين من خلطته، وعمل على تنقيتهم من المعاصي والذنوب، وتحليتهم بالفضائل من أعمال القلوب والجوارج، مبادراً إلى نهيهم عن كل خطأ يراه عليهم أو زلة يستجرهم إليها الشيطان برفق ولين ينبتان المحبة دون تنفير، وحكمةٍ تبني دون أن تهدم، ومن ذلك ما رواه أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: «إني ساببت رجلاً فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا ذر! أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» (2) ، وحديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ حين أَهَمَّ قريشاً شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتشفع في حدٍ من حدود الله؟! ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأَيْم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (3) ، وحديث أبي مسعود البدري ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلمْ أبا مسعود! فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود! اعلم أبا مسعود! قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام! قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً» (4) .
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذوي الفضل من العلماء والعُبَّاد:
لأهل العلم وأرباب الطاعة والمستكثرين من العبادة شأن رفيع، ومنزلة سامقة في هذه الأمة، ولكن ذلك لم يَحُلْ بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين الإنكار عليهم، ومواجهة أحدهم حينما يقع في خطأ أو يصدر منه زلل دون أن يُنزِلهم ذلك عن رتبهم أو يحط من أقدارهم، ومن شواهد ذلك: حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ: «أن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فَتَجَوَّز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجلَ، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! إنَّا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة فتجوَّزت، فزعم أني منافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا معاذ! أفتَّان أنت؟ (ثلاثاً) ، اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، ونحوها» (5) ، وحديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: «زوَّجني أبي امرأة، فجاء يزورها، فقال: كيف ترين بعلك؟ فقالت: نِعْم الرجل من رجل! لا ينام الليل ولا يفطر النهار. فوقع بي، وقال: زوَّجْتك امرأةً من المسلمين فعضلْتَها، قال: فجعلت لا ألتفت إلى قوله؛ مما أرى عندي من القوة والاجتهاد، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لكني أنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فقم ونم، وصم وأفطر! قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، فقلت: أنا أقوى من ذلك، قال: صم صوم داود ـ عليه السلام ـ صم يوماً وأفطر يوماً، قلت: أنا أقوى من ذلك. قال: اقرأ القرآن في كل شهر، ثم انتهى إلى خمس عشرة وأنا أقول: أنا أقوى من ذلك» (6) .
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأمراء وأصحاب الولايات:
عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- ألوية الإمارة لجماعة من أصحابه الكرام -صلى الله عليه وسلم- ممن توسَّم فيهم القدرة على القيادة، وسياسة الآخرين، والقيام بالمهام الموكلة إليهم بإتقان وأمانة، ولكن توليته -صلى الله عليه وسلم- لتلك الفئة المتميزة، وثقته الكريمة بها لم تَحُلْ بينه وبين أن ينكر على أحدهم ما قد يقع منه من خطلٍ ومخالفةٍ لنهج الصواب، ومن ذلك حديث علي ـ رضي الله عنه ـ: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث جيشاً وأَمَّر عليهم رجلاً، فأوقد ناراً، وقال: ادخلوها! فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكروا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين: لا طاعة في معصيةٍ، إنما الطاعة في المعروف» (7) ، وحديث أبي حميد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: «استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً على صدقات بني سليمٍ يُدعَى ابن الْلَّتْبِيَّة؛ فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالُكم، وهذا هدية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً! ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاَّني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أُهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! واللهِ لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر، ثم رفع يده حتى رُئي بياض إبطه يقول: اللهم هل بلَّغت، بَصَر عيني وسَمْعَ أذني» (1) .
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- على عامة المجتمع:
لم تَحُلْ مشاغل النبي -صلى الله عليه وسلم- العظيمة وأعماله الجسيمة بينه وبين الاحتساب على فئات المجتمع قليلة المخالطة له -صلى الله عليه وسلم-، حين يحصل داعٍ لذلك، ومن الشواهد: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على صُبْرَةِ طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعُه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟! قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس؟! من غشَّ فليس مني» (2) ، وحديث سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ «أن رجلاً أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله، فقال: كُلْ بيمينك! قال: لا أستطيع، قال: لا استطعتَ. ما منعه إلا الكِبْر، قال: فما رفعها إلى فيه» (3) . وحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟ فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا واللهِ! لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» (4) ، وحديث عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حنَّ، وذرفت عيناه، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذِفْرَاه فسكت، فقال: مَنْ ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله! فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتُدْئِبُه» (5) .
وبالجملة: فقد كانت الحسبة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكوِّناً أساساً من مكونات شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تفارقه في كل أدواره ومواقفه، وفي كافة صِلاته وعلاقاته، وفي جميع مواقع وجوده، وهو موضع عظيم للتأسي والاقتداء فهمه الصحابة الكرام ومارسوه في عامة أحوالهم وأدوارهم حتى في الحالات الخاصة؛ كحداثة الإسلام كما في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي، الذي من حين أسلم خرج مسرعاً إلى قومه داعياً لهم ومحتسباً عليهم، حتى أقلع عن الشرك والمنكرات معه من قبيلته دوس العدد الغفير (6) ، وكحالات المرض الشديد كما في قصة عمر ـ رضي الله عنه ـ حين دخل عليه في مرض موته شابٌ يعوده، فلم يلهه فراش الموت والتفكير في كيفية تدبير شأن الدولة من بعده أن يأمر الفتى برفع الإزار وترك الإسبال (7) .
والمتأمل في واقعنا المعاصر يلحظ ظاهرة إحجام كثير من خيار رجال الأمة ونسائها الفضليات عن القيام بهذه الشعيرة العظيمة، مما تسبب في كثرة شيوع الخبث، وذيوع المعاصي والمخالفات، والمجاهرة بالفساد، وتجذُّر كثير من المظاهر السيئة، والتعلق بالكفرة والفساق وتقليدهم، وانتشار الجهل والظلم والتناحر، وعلو أهل الأهواء والمنكرات وتسلطهم وكثرة عبثهم بالخير والفضيلة ومخالفتهم لأحكام الشريعة؛ مما يهدد سفينة المجتمع بالغرق، وقوة الأمة وتماسكها بالضعف والهوان والفرقة، وفقدان العزة والإغراق في التبعية.
ويعود ذلك التقصير والإحجام إلى أسبابٍ عدةٍ، من أبرزها: الغفلة عن جلالة هذا الأمر وضرورته وعلو منزلته، وتحقير النفس والنظرة الدونية للأثر، والتسويف والتواني، والتواكل وتبرئة النفس وإلقاء المسؤولية على الآخرين، والاستخفاف العملي بخطورة المعاصي والمنكرات وعدم تقديرها حق قدرها، وإيثار السلامة والجنوح إلى الدعة وعدم الرغبة في الولوج في تبعاتٍ قد تنجم عن الاحتساب وتحتاج إلى تحمُّلٍ وصبر، والتخوُّف من ملامةٍ قد تحصل من جراء تسرعٍ أو اجتهادٍ خاطئ، والابتعاد عن الناس وضعف معايشتهم مما أدَّى إلى الجهل بحدوث المنكرات وعدم العلم بوقوعها، وغير ذلك كثير.
لكن السبب الأكبر في حدوث ذلك التواني والخمول يعود بدرجةٍ أساسٍ إلى فتورٍ إيمانيٍ ظاهرٍ، وإلى محدوديةٍ جليةٍ في فهم الدين وتصوره كما جاء به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وإلى تقصيرٍ بيِّنٍ لدى المحاضن التربوية بدءاً بالمنزل ومروراً بالمدرسة والمسجد والبيئات التربوية المتنوعة في تفقيه الجيل وتربيته على ممارسة هذه الشعيرة العظيمة في إطارٍ فاعلٍ منضبطٍ بحسب علم كل فردٍ وحدود قدرته، وهي أمورٌ بالغة الخطورة، وسيؤدي التمادي فيها إلى تسيُّد الباطل وشيوع المنكر وانحسار كثير من معالم الحق ومظاهر المعروف في مدى زمني قريب قد لا يخطر على بال كثير من أهل العلم والدعوة فضلاً عن جماهير مجتمعاتنا الخيِّرة.
فيا قوم! هيَّا إلى الاحتساب والقيام بواجب التواصي بالحق ومدافعة المنكر، وتشجيع كل جهدٍ خيِّرٍ يصب في هذا الاتجاه قولا ًوعملاً، حساً ومعنى، تعظيماً لله تعالى، وامتثالاً لأمره سبحانه، وتأسياً بنبيا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، طلباً للثواب، وخشيةً من العقاب، وإصلاحاً للمجتمع، وحفاظاً على مسيرته من الزيغ والانحراف؛ فالمسؤولية عظيمة، والجهود المبذولة فيه قليلة، ولا تفي بالغرض المطلوب.
اللهم يسر لأمتنا من أمرها رشداً! إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله؛ عليه توكلت، وإليه أنيب.
__________
(1) إحياء علوم الدين، للغزالي: 2/306. (2) البخاري (2493) .
(3) الترمذي (2169) ، وحسنه الألباني. (4) البخاري (6109) . (5) سنن أبي داود (4875) ، وصححه الألباني.
(1) الترمذي (3894) ، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.
(2) البخاري (30) ، والخَوَل: الخدم، سموا بذلك؛ لأنهم يتخوَّلون الأمور أي: يصلحونها.
(3) البخاري (3475) . (4) مسلم (1659) .
(5) البخاري (6106) .
(6) البخاري (5052) ، النسائي (1390) ، واللفظ له. (7) البخاري (7257) .
(1) البخاري (6979) .
(2) مسلم (102) .
(3) مسلم (2021) .
(4) مسلم (2090) .
(5) سنن أبي داود (2549) ، وصححه الألباني.
(6) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير: 3/99 ـ 100.
(7) انظر: البخاري (3700) .(227/7)
التكامل والتوازن في التربية
أحمد المنصب
إن الحديث عن أهمية إنقاذ الأمة، وعن ضرورة رسم المنهج ذي المعالم الواضحة في إحياء الأمة، وإنقاذها حديثٌ أحسب أننا قد تجاوزناه، وأصبح من البدهيات لدى كل مسلم يشعر بواقع الأمة، ويدرك دوره في إنقاذها.
إنما مدار النقاش والحديث حول المناهج ووسائل التغيير، وأحسب أن الأغلب من قطاع الصحوة يوافق على أن التربية ضرورة ملحّة؛ لغرس المعاني والتوجيهات في صفوف الناشئة وعلى صعيد الأمة أجمع، وضرورة ملحّة لغسل أوضار الماضي وآثاره السيئة.
وهي حينما تسعى للقيام بهذا الدَّور وأداء هذا الواجب فلا بد أن تكون مؤهّلة لهذه المنزلة، ولا أظن أننا نملك بديلاً غير التربية، لذا فهي تستحقّ منا الحديث الكثير عن ضرورتها، والمطالبة بها والسعي في نشر آثارها، وهناك جوانب كثيرة؛ منها:
أولاً: ينبغي أن نعتني به جميعاً لا على مستوى رجال الصحوة فحسب، بل على كافة الطبقات والمستويات التي تعتني بهذا الجانب، ونحن حين نتحدَّث حول هذا الموضوع الشموليّ، عن جوانب كثيرة سواء أكانت جوانب فردية أم جوانب على مستوى الأمة، وسواء أكانت جوانب تخص الفرد بحد ذاته، أم كانت تخصّ الأسرة ودور الأب والأم، أم كانت تتعلَّق بالمؤسسات التربوية، إننا حين نتحدَّث هذا الحديث فإننا لا نعدو أن نذكر خواطر مجرَّدة؛ فالحديث عن هذه القضية مجال واسع.
ثانياً: حين نتحدث عن القضايا التربوية، علينا أن نطرح منهجاً نظريّاً، وربما يكون قابلاً للصواب وللخطأ؛ لكن هذا شيء، وتطبيقه على آحاد الأفراد شيء آخر؛ فنحن نتحدّث عن أسلوب ومنهج، أو عن برنامج، وهذا لا يعني أن محمداً من الناس أو زيداً من الناس ينطبق عليه هذا الكلام أو ذاك؛ ذلك أن كثيراً من الإخوة الأساتذة والمربِّين يطبق ما يسمع حرفاً بحرف، وما يقول قد يكون حالة من الحالات يعيشها المربي مع من يربِّيه، مع تلميذه، أو مع ابنه، وقد تكون حالة فريدة؛ وهذا راجع إلى إلقاء أسلوب المربي في التعامل مع تلاميذه وأبنائه.
ثالثاً: التربية ليست مسؤولة عن مشكلات لم تكن هي السبب في إحداثها ووقوعها. إنك مثلاً، قد تجد البعض من الآباء يعرض مشكلة ابن من أبنائه، أو بنت من بناته قد بلغ سن التكليف، واستعصى على التوجيه وشب عوده؛ فلم يعد قادراً على تربيته؛ فهنا يعجز الأب عن حل هذه المشكلة، فيعرض عليك مشكلته ويطلب منك حلاًّ لها، قد تجد حلاًّ وقد تنجح، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه المشكلة من أسبابها سوء التربية ابتداءً. فنحن حين نتحدث عن التربية نرى أنها كفيلة - بإذن الله - بحل كثير من المشكلات والعقبات، وهي ليست مسؤولةً عن حل مشكلاتٍ لم تكن هي السبب في حدوثها.
إن المفترض أن تبدأ تربية الشاب من صغره وطفولته، بل أن يتربى وهو حمل في بطن أمه؛ فضلاً عن طفولته ومراهقته وشبابه، وحين يسار به وفق المنهج الشرعي والتربوي السليم، فالأغلب حينئذ - بإذن الله - أن يستقيم وفق المنهج القويم، وحين يفلت فلان أو فلان فالقلوب بيد الله عز وجل.
رابعاً: حين نتكلم عن هذه القضايا التربوية التي تخص فئة، وقطاعاً عاماً من الناس فهي تعني المعلم، وتعني الأب، وتعني الأم، تعني الكثير من الناس. حينئذ فنحن لسنا نتحدث حديثاً أكاديمياً، ولسنا نتحدث للمختصين؛ فلا بد حينئذ أن يكون حديثاً عامّاً يأخذ طابع العمومية، وحينئذ أرجو ألَّا يؤاخذني أهل الاختصاص والاصطلاح حين أسطو على مصطلح من مصطلحاتهم، فأستخدمه أوسع أو أضيق مما يريدون هم، أو يستخدمونه هم في قضية من قضاياهم.
ü مسوغات المطالبة بالتربية المتكاملة المتوازنة:
إننا نطالب أن تكون التربية متكاملة، وأن تكون متوازنة في الوقت نفسه، سواء على مستوى الأفراد أو على المجتمع ككل. وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا إلى هذا الأمر مسوغات عدة:
| طبيعة الإنسان:
فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الإنسان بجوانب كثيرة متنوعة (جسم، وعقل، ومشاعر ... ) وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان ينبغي أن يكون متوافقاً مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير المصدر الشرعي محكوماً عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلقهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] وغالباً ما ترى تشريعات البشر وآراءهم تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء، إذن! فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق أصلاً مع خلق الإنسان ومع فطرته التي فطره الله عليها.
ولأضرب على ذلك مثلاً: إننا حين نربي الناس على الخضوع وعلى التسليم لكل الآراء التي تُطرح عليهم أياً كان مصدرها، ونطلب من الناس أن يعطلوا عقولهم، وألاّ يفكروا مطلقاً فيما يُقال لهم؛ إننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي خلقه الله - عز وجل - له، وما خلقه الله - سبحانه وتعالى - إلا لحكمة، ولو كانت أمور الناس تستقيم على التقليد والتبعية لخلق الله - عز وجل - لنخبة من الناس عقولاً دون عقول سائر الناس؛ حتى يخضع بعضهم لبعض ويكونوا تابعين لغيرهم.
أما وقد خلق الله العقول للناس جميعاً فهذا يعني أن تُربى العقول، وهذا يعني أن يُربى الناس على أن يستخدموا عقولهم ويحكّموها داخل الدائرة الشرعية التي لا تخرجهم عن حدودها. وحين نأخذ منهجاً تربويّاً يتعامل مع جانب العقل والمعرفة وحدها، ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان، يعيش في تناقض يحكم عليه بالفشل والبوار، كما هو الحال في المجتمعات الغربية المعاصرة، وقُلْ مثل ذلك في أي منهج يتعامل مع جانب واحد من جوانب الإنسان.
| التوازن والتكامل سُنة الله في الحياة:
فالجنون مثلاً نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والحسية؛ ولهذا يقال عن المجنون: «إنسان غير متوازن» ، «والصرع العضوي من أسباب زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان» ، «وفقر الدم أو ضعفه يحصل عن عدم توازن كريات الدم الحمراء والبيضاء في الدم» ، «ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في حالة إغماء لدى الإنسان» ، «كما يتسبب ضغط العين أو القلب على انعكاسات صعبة خطيرة» . هذه بعض النتائج التي يخلّفها عدم التوازن في الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك.
أما حدوث عدم التوازن في الكون والحياة فهي أكثر من أن تحصى ... «إن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً، وقد تجعله سمّاً قاتلاً» ، «وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثيرٌ من الأمور أقلها اختلال نظام الليل والنهار، وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحياة بكاملها» .
وما يصنعه بنو الإنسان من آلات وما ينشئونه من بنايات، فجميعه محكومٌ بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية.
وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تُخرج إنساناً غير متناسق؛ فجمال الوجه - مثلاً - فيه توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس؛ بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة هزيلة أو ناقصة. وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الرئيسة؛ بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والفيتامينات والأملاح والمعادن ... إلى غير ذلك.
والإخلال بالتوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور؛ فحين يسعى الإنسان لتجميل منزله فيبالغ فيه أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً.
وتقرأ في كتاب الله - عز وجل - الحديث عن هذا الكون وأنه محكوم بهذه السنة. قال ـ تعالى ـ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] ، ويقول: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإذْنِهِ} [الحج: 65] ، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] ، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4] .
| الشرع قائم على الوسطية والتكامل:
إن شرْع الله - عز وجل - قائم على الوسطية في كل الأمور: الوسط في الاعتقاد، الوسط في العبادة، الوسط في السلوك، فشرْع الله - عز وجل - قائم على هذه القاعدة.
وهو كذلك تبدو فيه ظاهرة التكامل مَعْلماً بارزاً؛ فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حُكم؛ فإنك ترى للشرع حُكماً في معتقد الإنسان، وترى للشرع حُكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وترى للشرع حُكماً في عبادة الإنسان، ترى له حُكماً في سلوكه، وترى له حُكماً في أخلاقه، وفي الاقتصاد والسياسة وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم ... إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلاّ وفيه حُكم واضح للشرع، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل.
إذاً! حينما نريد أن نربي الناس على هذا الشرع ينبغي أن نربيهم تربية متكاملة ومتوازنة؛ ولهذا أنكر الله على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 85] ، {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151] .
ومن إعجاز القرآن أن الله - سبحانه وتعالى - حذَّر نبيه من صورة نراها في واقعنا؛ فحين أمر الله نبيه أن يحكم بشرع الله قال بعد ذلك: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49] وكأن هذه الآية تنطق بواقع القرون المتأخرة، وأن هناك من يساوم على بعض شرع الله، فيأخذ بعض شرع الله ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله - عز وجل - في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب.
إن هذا دليل على أن هذا الشرع جاء للحياة كلها، وهذا يعني أن أي منهج تربوي يريد تربية الناس على خلاف هذا المنهج فهو منهج غير متكامل وغير متوازن، ومعارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة.
| كثرة التحديات التي تواجه الأمة:
الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربويّاً من أبواب شتى؛ فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، وكذلك الرجال والنساء، والصغير والكبير، بل حتى الطفل المسلم تُعد له أفلامٌ وتُكتب له قصصٌ ومجلاّت يُقصَد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي.
وحياة الناس في عقيدتهم، وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها تحديات، فنحن نواجه تحدياً شاملاً، تحدياً متكاملاً في جوانب الحياة كلها لخلع الأمة عن دينها، ثم تربيتها على غير شرع الله عز وجل. فالتربية التي تهدف إلى إنقاذ جيل الأمة، والوقوف في وجه هذا التيار الوافد ما لم تكن آخذةً بالتكامل والتوازن فإنها حينئذٍ لن تكون مؤهلة للمواجهة، ولن تكون مؤهلة لصدّ هذا السيل الجارف من الغزو الذي تواجَه به الأمة.
(*) طالب في كلية العلوم ـ جامعة حضرموت.(227/8)
التربية الذاتية ومسؤولية هم الأمّة
عبد العزيز بن عبد الله الحسيني
واقع أمتنا مرير، وأمرها عظيم، وخطبها جسيم، ومسؤوليتنا إزاء ذلك ضخمة، وأعباء إخراجها من وهدتها التي اركتست فيها جسيمة، ويخطئ كثيراً من يظن أن تلك مسؤولية الحكام، أو العلماء، أو الدعاة، أو المجامع العلمية، أو الهيئات الشرعية ... ، ونحو ذلك فحسب. والحقيقة التي يجب أن نقف عندها طويلاً: أن كل مسلم مسؤول ـ أيضاً ـ أمام الله ـ تعالى ـ، وهذا هو قَدَرُه، وليس له خيار في قبول ذلك أو رفضه، قال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] . وقال: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم: 38 - 42] ، فكل إنسان وُلد فرداً، وكُلف فرداً، وسيُقبر فرداً، ثم يبعث فرداً، وسيقف بين يدي الله ـ تعالى ـ فرداً ليس بينه وبين الله ترجمان، وسيُسأل كل فرد: ماذا عمل، وماذا قدم؟ قال ـ تعالى ـ: {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95] .
هذه المسؤولية تفرض على كل فرد أن يبادر إلى الدعوة والعمل ـ كلٌ في مجاله ـ دون الالتفات إلى الآخرين، هل عملوا أم لم يعملوا؟ هل أدّوا واجبهم أم تراخوا؟ هل قاموا بالأمانة أم تكاسلوا؟
فكل هذا لا يضير الداعية ما دام أنه مسؤول عن ماذا قدم فقط؟ وماذا عمل فحسب؟ ومن رحمة الله أنه ـ سبحانه ـ لم يُكلف الداعية بالثمرات والنتائج، وإنمّا بالاحتساب والعمل على قدر الوسع والاستطاعة، قال ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إنْ عَلَيْكَ إلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى: 48] ، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [البقرة: 272] .
وحينما نتحدث عن واجب الفرد في تجاوز الهزيمة والنهوض بالأمة؛ فإننا لا نقصد أن يعمل فوق طاقته وإمكاناته؛ وإنما المقصود: الإسهام حسب الوسع والاستطاعة؛ فما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَكُ جُلُّه، وإذا كان ذلك يحتاج إلى جهود جبارة، وهمم عالية؛ فإنه يحتاج قبل ذلك إلى إعداد النفس وتهيئتها لهذه المهمة العظيمة.
ü الإعداد الذاتي:
التربية الذاتية (الفردية) ليست هينة ولا هي سهلة، فهي تحتاج إلى الصبر على شوائب الطريق وفقد الرفيق، والمثابرة على إعداد النفس، والسير على ذلك بخطىً ثابتة متدرجة متكاملة، حتى يصبح للشخص في مستقبله شأن أي شأن، ويكون له في هداية غيره نصيب أي نصيب.
ولا منهج في تربية النفس وإعدادها مثل منهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فسيرته أصل من أصول التربية الذاتية التي ينبغي الرجوع إليها، واستلهام الدروس والعبر منها لإعداد النفس وتربيتها تربية ذاتية جادّة، مبنية على أسس شرعية متوازنة، بعيداً عن الاجتهاد الممزوج بالعواطف والحماس في الإعداد والتكوين.
وإن المتأمل للسيرة النبوية، يجد أن الله ـ تعالى ـ قد أعدّ رسوله وهيأه منذ بزوغ فجر الدعوة وبداياتها الأولى، لتكون الأساس والمنطلق له، ولمن آمن معه، ولمن بعده إلى قيام الساعة.
ü أسس التربية الذاتية:
وليتبين لك أهمية دراسة السيرة واستلهام المنهج التربوي الذاتي منها؛ تأمل سيرته -صلى الله عليه وسلم- وكيف أعد الله ـ تعالى ـ رسوله لحمل راية هذا الدين، من خلال الآيات الأولى التي أُنزلت عليه في صدر سُوَرِ (اقرأ ـ المزمل ـ المدثر) ؛ لتقف على أهمية هذه الآيات في الإعداد والتهيئة والتكوين، وأنها بمثابة الأساس المتين الذي يقوم عليه البناء الفردي لكل مسلم يريد تكوين نفسه وإعدادها لحمل راية هذا الدين، والعمل على رفع ثقة الأمة بنفسها وبدينها، لرفع آثار الهزيمة النفسية التي أحبطت معنوياتها، وجعلتها تعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وإن من أهم هذه الأسس في إعداد النفس وتكوينها ما يأتي:
الأساس الأول: الإعداد العلمي:
يذكر البخاري ـ رحمه الله ـ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يخلوا بغار حراء «جاءه جبريل، فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني، فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3] (1) .
وتأمل أول كلمة أُنزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- تجد أنها كلمة «اقرأ» ! ثم انظر كيف تكررت تلك الكلمة، وتساءل: لماذا كانت كلمة (اقرأ) أول كلمة أُنزلت من القرآن الكريم؟ ولماذا التربية على العلم أولاً؟ ولماذا هي المحطة الأولى في إعداده وتكونيه -صلى الله عليه وسلم-؟
وفي هذا مغزى كبير ودلالة واضحة على أهمية العلم وأثره، وأنه الأساس الذي يُبنى عليه كل إصلاح: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] ، فالعلم أولاً ثم يأتي العمل بعد ذلك. ولهذا فقد وضع الإمام البخاري عنواناً لباب العلم فقال: «باب العلم قبل القول والعمل» (2) ، وهذا من تمام فقهه رحمه الله.
وعليه؛ فإن كل عمل وكل دعوة لا تقوم على العلم دعوة ناقصة فيها من الخلل والقصور الشيء الكثير، وقد تُفِسدُ أكثر ممّا تُصلِح، وقد تجلب على الدعوة عواقب وخيمة وآثار موجعة. ولهذا فقد أكَّد -صلى الله عليه وسلم- على أهمية العلم وأثره في صحة العمل فقال: «من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين» (3) .
والفقه في الدين يتطلب نفساً جادة طموحة، تتحمل مشاق تعلمه، ومعاناة طلبه، وتعب تحصيله. وهو مطلب ضروري ومُلِحٌّ للبناء الذاتي للشاب المسلم.
والتحصيل العلمي مطلب لا غنى عنه لأي داعية يُعِدُّ نفسه ويُهيئها لنفع أمته؛ ليكون بصيراً في دعوته، عالماً بما يدعو إليه، قوياً في حجته، مثمراً في عمله، ناجحاً في أسلوبه، ثابتاً في مسيرته ... ، ولهذا يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «تفقهوا قبل أن تسودوا» (4) .
وإذ كان ثمة قدر من العلم الشرعي لا غنى عنه لمن يتصدى لأمر الدعوة، فإن كل علم بعد ذلك يمكن أن ينفع هذه الأمة ويعلي شأنها هي بأشد الحاجة إليه، وإذا كانت أمتنا بحاجة إلى العلم الشرعي، فإنها بحاجة ـ أيضاً ـ إلى العالِم في الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والفلك والذرّة وغيرها ... ، وتلك العلوم وأمثالها ضرورة لا غنى عنها لنهضة الأمة وتقدمها، والكل على ثغر من ثغور الإسلام بحسب مكانه وأثره.
الأساس الثاني: الاستعانة على عقبات الطريق بالعبادة:
الاستقامة على هذا الدين بلا تردد ولا انحراف، والصبر على عقباته وتكاليفه يحتاج إلى زاد ووقود يشحن الطاقات ويغذي القلوب للاستمرار والثبات، ولا وقود كقيام الليل وترتيل القرآن بالأسحار.
ولهذا فقد هيأ الله ـ تعالى ـ رسوله -صلى الله عليه وسلم- لذلك، وأوجب عليه ومن آمن معه قيام الليل وقراءة القرآن بالأسحار، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 1 - 5] .
وتأمل! الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته، ويأتيه الأمر السماوي: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} أي: «قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك ... قم للجهد والنصب والكد والتعب ... قم فقد مضى وقت النوم والراحة ... قم فتهيأ لهذا الأمر ... قم للاستعانة على ما سيواجهك من أعباء الدعوة ومشكلاتها بالعبادة المتواصلة.
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه -صلى الله عليه وسلم- من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخِضَمِّ بين الزعازع والأنواء، بين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً؛ ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير ... فماله والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الأمر، وقدّره حق قدره؛ فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد النوم يا خديجة» . أجل مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق» (1) .
ومنذ أن أتاه التكليف بـ: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} ظلَّ قائماً هو وأصحابه الكرام حولاً كاملاً، كل فرد منهم كان يقوم حتى تتورم قدماه، ويحدودب ظهره، وكان واجباً عليهم في البداية، حتى خُفف عنهم إلى التطوع ـ كما في نهاية السورة ـ ومع ذلك استمر قيامهم، ولم نسمع أو نقرأ أن أياً منهم قد توقف عن هذا الإعداد والزاد، لعلمهم ويقينهم بأثره وقيمته في مواصلة الطريق، وفي تحمل المصاعب والمشاق بكل ثبات وعزيمة.
ولماذا قيام معظم الليل بالصلاة والتهجد؟ ولماذا كان واجباً على كل فرد بعينه في البداية؟ ولماذا الإكثار من ترتيل القرآن؟ ولماذا الذكر الخاشع؟ ولأي شيء يُعدّهم له؟ ولأي شيء يُربيهم عليه؟ كل هذا تهيئة وتربية وإعداد للقول الثقيل: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] ، وسيترتب عليه من الدعوة إليه من العقبات والمشكلات والكيد والتنكيل والإيذاء ما يحتاج إلى هذا الإعداد وهذه التربية وهذا الزاد: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] .
الأساس الثالث: المثابرة في الدعوة:
هذا الإعداد بالعبادة المتواصلة من (الذكر وقراءة القرآن وقيام الليل) كان بمثابة الزاد والوقود المُعين للاستمرار على الطريق، وتَحَمُّل الكيد والإيذاء الذي ينتظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه. ولهذا فقد كُلف -صلى الله عليه وسلم- أثناء هذا الإعداد بالنبوة. يقول -صلى الله عليه وسلم-: «بينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 10] (2) .
ولما رأت زوجه خديجة ـ رضي الله عنها ـ فزع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذته إلى ابن عمِّها (ورقة بن نوفل) الذي قال له: «هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك» . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَوَ مخرجيَّ هم؟!» قال: «نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ... » (3) . وهذا من سنن الله الجارية في تمحيص الدعوة والدعاة، فكل من سيدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سيتعرض لشيء من الإيذاء والتضييق، ولهذا فقد أوصى لقمان ابنه؛ فقال له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] ، ولن يثبت على ذلك إلا من كان لديه زاد يعينه على تحمل عقبات الطريق ومشاقّه.
وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن يكون هذا هو طبيعة الطريق، فهو طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب «تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتزها أنت باللهو واللعب!» (4) . فهذا الطريق لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال.
وتأمل مطلع سورة المدثر، تلك الآيات التي تضمنت النداء العلوي بانتداب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الدعوة والجهاد والكفاح والمشقة. ومنذ أن قال الله ـ تعالى ـ لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قُمْ فَأَنذِرْ} قام بالأمر خير قيام، فبلّغ ودعا وأدّى الأمانة التي أشفقتْ منها وأبت أن تحملها السماوات والأرض، وحملها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وظل قائماً بعد ذلك لأكثر من عشرين عاماً ... لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله ... قام وظل قائماً على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به ... عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض ... عبء البشرية كلها ... عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى ... ، وعَلِمَ عِلْمَ يقين أنه لم يعد هناك راحة أو نوم، وأن هناك تكليفاً ثقيلاً وجهاداً طويلاً (5) ، فدعا إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، سلماً وحرباً، وكان يقطع المفاوز والقفار، ويتسلق الجبال، وينزل الوديان طمعاً في إسلام رجل أو بضعة رجال، وواجه في سبيل ذلك أنواع الإيذاء والصدود، والعناد والرفض، والإيذاء والضرب؛ بل والعذاب وقتل الأصحاب ... فصبر واحتسب، ولم يفتر أو يلين، أو يضعف أو يستكين.
ü صفاء الابتداء:
تلك الأصول المهمة في التربية والإعداد الفردي تدل دلالة أكيدة على أهمية البدايات الأولى في الإعداد والتنشئة. ومن القواعدة المسلّم بها: أن المقدمات إذا صحت؛ أعقبها نتائج مثمرة باهرة.
فالتربية الذاتية الناجحة متعلقة في بداياتها، وإذا صحت تلك البدايات وروعيت أولوياتها؛ أعقبتها نتائج مشرقة. وكما قيل: من كانت بدايته متعبة كانت نهايتة مشرقة.
أما الإعداد الفوضوي الذي لا يلتزم بسلم الأولويات ولا يقوم على أسس ثابتة منهجية، فهو إعداد عاطفي هش، لا يحقق غاية ولا ينتج ثمراً، وسرعان ما يمل ويفتر صاحبه. ولهذا قيل: الفتور بعد المجاهدة من فساد الابتداء.(227/9)
المربي بين التلقائية والإعداد
محمد بن عبد الله الدويش
ليسوا قليلاً أولئك الذين تميزوا بحسن الأداء التربوي، وكم رأينا من أب أو أم لا يملك رصيداً ذا بال من المعرفة والخبرات المنظمة ومع ذلك كانت تربيته مضرب المثل.
وفي ميدان التعليم سمعنا كثيراً عن مربين كان عطاؤهم وتأثيرهم التربوي المتميز لا يقاس بإعدادهم التربوي، وربما كانوا أقل ممن حولهم في المعرفة التربوية.
ولعل الجدل الذي كان يدار فيما مضى: هل التدريس فن أو علم؟ ومثله: هل الإدارة فن أو علم؟ ... لعل جزءاً من أسباب ذلك الجدل يمكن تفسيره من خلال هذه الظواهر.
وربما قادت هذه الظواهر بعض المهتمين بالشأن التربوي ـ عملياً ـ إلى التقليل من أهمية المعرفة التربوية وإعداد المربين استشهاداً بهذه النماذج.
وفي ميدان إدارة الأعمال الاقتصادية أو الخيرية يحقق من يملكون قدراً من السمات الشخصية نجاحاً ملموساً، لكن كلما تقدم الوقت وتعقدت الحياة زاد ارتباط النجاح بالمعرفة والتدريب على حساب السمات الشخصية.
والتربية عمل أكثر تعقيداً؛ إذ هي بناء للإنسان، وتنمية لشخصيته، في عالم مليء بالمؤثرات والتعقيد.
وفي عصر الانفتاح الهائل الذي يعيشه العالم اليوم ـ ونحن جزء منه ـ هل يمكن أن تتم المراهنة على نجاح التربية من خلال السمات الشخصية للمربين فحسب؟
وماذا لو عاد بعض المربين المتميزين ممن عاشوا قبل عقود قليلة؟ ماذا لو عاد هؤلاء ليربوا أولادهم أو تلامذتهم في هذا العصر؟
هل نتوقع أنهم قادرون على النجاح بمجرد ما يملكونه من تميز شخصي؟ هل يمكن أن يحققوا الإنتاج التربوي نفسه بالأساليب والأدوات التربوية التي كانوا يمارسونها في الماضي؟
مع تقدم الوقت وتعقد الحياة تزداد الحاجة للمعرفة والتعليم والتدريب، حتى في إطار المهن والحرف التي كانت تُتَلقى من خلال الممارسة الشخصية؛ فقد غدت بحاجة إلى تدريب منهجي منظم.
إن الارتقاء بخبرات المربين وتأهيلهم مطلب يزداد أهمية مع ازدياد تعقُّد الحياة، ومن ثمَ تعقُّد العملية التربوية.
وهذا يفرض على المهتمين بالشأن التربوي أن يسهموا في تقديم ما يرتقي بالمربين وخبراتهم وأدائهم.
ويفرض الاعتناء ببرامج التأهيل والتطوير للمربين، ويفرض أن يرتقي تناول القضايا التربوية فيتجاوز مجرد التأكيد على أهميتها وخطورة إهمالها، ويتجاوز مجرد الحديث عن تجارب شخصية وآراء فردية.
يمكن أن نقدم للمربين آراء واقتراحات عديدة، وربما يجدون فيها ما يفيدهم ويطور بعض ممارساتهم، لكن هذا لا يغني عن البناء المنهجي العلمي الذي لا يستهدف تحويل الناس إلى مختصين في التربية، لكنه يوظف التخصص في تطوير معارفهم وأدائهم وخبراتهم.(227/10)
الممكن والمعهود والمستحيل
أ. د. جعفر شيخ إدريس
الممكن أوسع دائرة من المعهود، وأوسع دائرة مما يمكن تفسيره في حدود معارفنا العلمية الحالية. لكن كثيراً من الناس تضيق أعطانهم عن هذا فيسارعون إلى إنكار ما لم يعهدوا، ويسارعون إلى إنكار ما لا تفسير له في حدود ما عندنا من علم، بل إن بعضهم يظن أن غير المعهود، أو غير ما يمكن تفسيره في حدود العلم المعهود مستحيل عقلاً. ويزداد الأمر عجباً حين ترى أن ضيقي الأفق هؤلاء كثيراً ما يدَّعون العقلانية، أو يدَّعون العلمية.
المعهود هو ما عرفناه وعهدناه واقعاً، كطلوع الشمس من جهة الشرق، وكمقدرة الناس على الكلام بألسنتهم، وكإرواء الماء للظمآن. الممكن هو ما يمكن وقوعه وإن لم يقع. فوصول الناس إلى القمر كان ممكناً قبل أن يقع، وكذلك السفر بالطائرات، والحديث بالهواتف. المستحيل ما لا يمكن أن يحدث بأي حال من الأحوال، كوجود الشيء الواحد نفسه في مكانين مختلفين، وكاجتماع الإيمان والإلحاد في قلب واحد، وكالكلام والصمت.
من الأمثلة التي ذُكرت في القرآن الكريم لهذه المستحيلات قوله ـ تعالى ـ ردًا على الذين زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً: {وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلاَّ مِنْ بَعْدِهِ}
[آل عمران: 65] .
وقوله: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] .
أي أنه من المستحيل أن يكون ولد له أب وليس له أم. وأما قوله ـ تعالى ـ: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4] .
فليس المقصود به ولداً يلده ـ سبحانه ـ فهذا يتناقض مع الآية السابقة، وإنما المقصود به ولد متبنى بدليل قوله ـ تعالى ـ {مِمَّا يَخْلُقُ} .
إن كون الشيء ممكناً لا يعني كونه لا بد أن يقع؛ لأن الممكن إنما يقع إذا تحققت شروط وقوعه، وإذا لم تتحقق فقد لا يقع أبداً وإن ظل وقوعه ممكناً.
المعهود نوعان: معهود طبيعي، ومعهود ثقافي. المعهود الطبيعي هو الذي يقع بحسب ما وضع الله ـ تعالى ـ في الكون من قوانين. وأما المعهود الثقافي فأعني به ما يعتاده الناس باختيارهم سواء كان حسناً أو سيئاً. وإذا كانت أعطان بعض الناس تضيق فتنكر ما لم تعهد في الطبيعة، فإن بعض الأعطان تكون أضيق من ذلك فتنكر كل ما لم تعهده في ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وتعده منكراً.
الناس بالنسبة للمكن غير المعهود نوعان: نوع يستغرب وقوعه لكنه لا يعتقد استحالته، ونوع يعتقد أن وقوعه غير ممكن، أي يعتقد استحالته.
إنه لأمر طبيعي أن يستغرب الإنسان ما لم يُعهد وأن يتعجب منه إذا ذكر له.
لذلك كان من الطبيعي أن يستغرب نبي الله زكريا ـ عليه السلام ـ أن يكون له ولد من امرأة عاقر ورجل قد بلغ من الكبر عتياً مع أن الذي أخبره بذلك هو الله الذي أرسله.
{يَا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 7 - 9] .
وكان من الطبيعي أن تستغرب مريم ابنة عمران قول المَلَكِ لها: {قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم: 19] ، وكان من الطبيعي أن تسأله مستغربة: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] ، وكان من الطبيعي أن يقول قوم مريم لها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] ، مثل هذا الاستغراب أمر لا بد منه، وإلا استوى كون الشيء معهوداً معروفاً وكونه ليس بمعهود ولا معروف، وكان من لوازم ذلك أن يصدِّق الإنسان كل ما يقال له من غرائب. ولذلك فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يذم زكريا ولا ذم مريم على استغرابهما، وإنما بيَّن لهما أن ما استغرباه أمر ممكن وأنه داخل في قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه سيقع فعلاً.
التصديق بمثل غير المعهودات هذه التي يخبر بها الله ـ تعالى ـ أناساً لم يشهدوها هو من علامات حسن العلم به سبحانه، وقوة الإيمان به.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أُخلَق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! ـ تعجباً وفزعاً ـ: أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فإني أومن به وأبو بكر وعمر» .
وقال أبو هريرة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بينما راع في غنمه، عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري؟» (1) فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر» .
وفي رواية لهذا الحديث: «وما هما ثَمَّ» . يعني لم يكونا موجودين حين ذكرهما الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
الخلط بين الممكن والمعهود والمستحيل هو أساس الحجج التي اعتمد عليها كل الذين أنكروا بعض حقائق الدين التي بلَّغتهم إياها الأنبياء.
كان هو أساس حجج العرب الجاهليين ومن سبقهم ممن كفر برسل الله، ومن جاء بعدهم من الزنادقة المنافقين والملحدين إلى يومنا هذا. انظر إلى الحجج التي اعتمدوا عليها في إنكارهم للبعث: {أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً} [النازعات: 11] .
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 49 - 51] .
فهؤلاء قوم ظنوا أنه من المستحيل على عظام أرمت وتفتت أن تدب فيها الحياة من جديد. لكن القرآن الكريم أعطاهم أدلة على أن هذا أمر ممكن، بل هو أمر لازم. كان القرآن الكريم يخاطب أناساً يؤمنون بأن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء، فبين لهم أنه إذا كان ـ سبحانه ـ قد خلقهم أول مرة؛ فلماذا يستغربون أن يعيد خلقهم مرة ثانية، مع أن الإعادة أهون من البداية؟ وبيَّن لهم أن في ما يشاهدون من إحيائه الأرض بعد موتها ما يدلهم على إمكانية البعث ويقربه إليهم، ثم بين لهم أن هذا البعث أمر تستلزمه صفات الله تعالى. كيف يرسل الله ـ تعالى ـ رسلاً فيؤمن بعض الناس بهم ويصلحون وقد يضحون في سبيل ذلك ببعض المكاسب الدنيوية، بينما يكفر آخرون ويعيثون في الأرض فساداً، ثم يساوي بين مصير الفريقين؟
{إنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 34 - 36] .
من أمثلة إنكار الناس لما يخالف ما عهدوه من أمور ثقافية قول العرب الجاهليين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .
ومن أمثلته: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} . [الزخرف: 23 - 24]
لا تظنن أن هذا أمر خاص بالعرب الجاهليين، بل هو ضعف بشري عام، وهو الآن من أكبر سمات الحضارة الغربية السائدة في العالم اليوم. فالغربيون في جملتهم يعتقدون أن ما ألفوه من قيم وتقاليد في الأكل والشراب واللباس والتعامل والحكم والاقتصاد وغير ذلك هو الأمر الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه الناس، بل هو المعيار الذي يقاس به مدى صلاحية ما عند الآخرين.
لقد كان من فوائد الكشوف والمخترعات العلمية الحديثة أنها وسَّعت من تصور الناس لدائرة الممكن لإتيانها كشفاً أو اختراعاً بأشياء ما كان الناس سيصدقون بها لولا قيام الأدلة الحسية أو العقلية على وجودها. من كان سيصدق في شيء كالهاتف الجوال، أو الأقراص التي تحوي من الكلام ما يساوي آلاف الصفحات. وأظن أن كثيراً من الناس كانوا سيعدُّون وجود ما يسمى بالثقوب السوداء أمراً مستحيلاً؛ إذ كيف يوجد شيء حسي مادته أكثر من المادة التي في عدد من الجبال وهو مع ذلك لا يمكن أن يشاهَد بشيء من الحواس الخمس؟
ولكن مع قيام الأدلة العقلية التي جاء بها الشرع، ومع وجود هذه الغرائب التي جاء بها العلم الطبيعي، فإن بعض الناس ما زالوا ينكرون أشياء مثل عذاب القبر، ووجود يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه السلام. بل إنهم ما يزالون يجدون حرجاً في الإيمان بكل ما ليس بمعهود في الحضارة الغربية السائدة، فيُحرَجون من قضية الردة ويحاولون أن يجدوا منها مخرجاً بتحريف النصوص الدالة عليها، ويُحرَجون من كل شيء في تاريخهم السياسي لم يكن سائراً على قواعد الدمقراطية، ويودون أن يساووا بين الناس مسلمهم وكافرهم ما داموا أبناء وطن واحد، وهكذا.
نسألك اللهم عقلاً نيِّراً، وعلماً نافعاً، وفقهاً واسعاً.(227/11)
الخطيب وعلاقة التأثير والتأثر
كمال الدين رحموني
ل قد خاطب الله ـ سبحانه ـ المؤمنين في كتابه العزيز آمراً إياهم بالاستجابة لنداء الجمعة، ناهياً إياهم عن البيع والتجارة، وعلق الخير كله على تحقيق هذه الاستجابة، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللََّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9 - 10] ، بعد ذلك عاتب المنشغلين بالدنيا بقوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] .
إن الأمر بالسعي إلى الجمعة ـ وهي المقصودة بذكر الله على قول بعض المفسرين - والنهي عن البيع في الآية، فيه دليل صريح على أن القرآن الكريم يجزم أن هناك علاقة طبيعية بين البيع والتجارة وبين الجمعة، هذه العلاقة التي يُعتَبَر البيئة الاجتماعي المجال الخصب الذي تتجاذب فيه هذه العلاقة بين التجارة وذكر الله، أو بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة، ومن ثم يتبين أن المنهج القرآني يراعي المجال أو البيئة الذي يعتبر المسجد والخطيب ضمن مكوناته البارزة في المجتمع الإسلامي. ومما يزيد الأمر بياناً في الاحتفاء بالبيئة، تحذير القرآن الكريم من أن يغدو البيئة عاملاً سلبياً، فينقلب إلى أداة استهواء وركون في حياة الناس، يستبدلون بالأدنى الذي هو خير، فقال الله ـ عز وجل ـ: {وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . وتحذير القرآن من الانشغال بالتجارة يوم الجمعة هو إقرار ضمني بتأثير البيئة؛ ذلك أن التجارة تمثل جانباً مهماً من جوانب هذا البيئة، ولذلك سعى القرآن إلى إحداث التوازن المطلوب بين مطالب الدنيا التي تتحقق في البيئة، وبين مطالب الآخرة فقال ـ تعالى ـ: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللََّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، فالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله بعد انقضاء صلاة الجمعة يعزز الاقتناع بأهمية الأرض ـ البيئة ـ في حياة الناس في مستواها الإيجابي، كما أن الاستغراق في طلب الدنيا والافتتان بها يكرس سلبية هذا البيئة وآثارها الوخيمة على الناس.
وإذا كان القرآن يتنزل في كثير من الأحيان استجابة لعوارض تعرض، أو حوادث تحدث في واقع الناس ومحيطهم، فإن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوي يشهد على استحضار البيئة العام باعتباره عاملاً أساسياً في التبليغ والدعوة والتوجيه، ولذلك كانت الخطبة ـ إلى جانب القرآن الكريم ـ أداة متميزة في تحقيق التواصل مع شرائح المجتمع، وخير دليل على حضور البيئة الاجتماعي في منهجه -صلى الله عليه وسلم-، أن كثيراً من خطبه كانت استجابة لمعاناة أو انشغالات مصدرها البيئة العام؛ فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأتيه الناس يشكون القحط والجفاف، فيقوم فيهم خطيباً يستسقي ربه، ويُهرَع إليه آخرون يشكون الفاقة والمخمصة، فيقوم في الناس خطيباً حاثّاً إياهم على البذل والإنفاق والتصدُّق، ويأتيه أحدهم يزعم أن له حقاً في المال الذي كُلِّف بجبايته، فيقوم -صلى الله عليه وسلم- في الناس خطيباً مفنداً للزعم، دافعاً للوهم، إلى غيرها من المواقف النبوية الكريمة التي تؤكد هذا الارتباط الوثيق بين الخطبة والبيئة، انطلاقاً من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- القولية والفعلية. إذن نستطيع القول: إن الإسلام قد احتفى بالبيئة من خلال استهدافه الإنسان نفسه داخل هذا البيئة، وبذلك يتحقق المبدأ الأول في مقاربة موضوع البيئة.
أما ثاني المبادئ، فيتمثل في البيئة ذاته من حيث اتساعه، وحجم التعقيدات التي يفرزها العصر، ونوعية هذا البيئة، ومن ثم تتضاعف قيمة البيئة، وتزداد أهميته بالنسبة للرسالة التي يضطلع بها خطيب الجمعة؛ حيث إن الوعي بحقيقة تطور هذا البيئة يعد أولوية بالغة، وحاجة ماسة لإحداث التأثير المطلوب، وتربية مكونات هذا البيئة وفق الرؤية الإسلامية الشاملة التي تقيم فعل المجتمع انطلاقاً من ثابت الإسلام في إطار الواقع والعصر، وكل عمل إصلاحي يستهدف الإنسان والمجتمع لا يستحضر هذين البعدين أو يكتفي بأحدهما فإنه يبقى محدود الأثر، ضئيل النتائج أحياناً، أو مكرساً لمحيط مريض أحياناً أخرى.
إن كلمة «البيئة» تحمل دلالة الزمان والمكان، ولعل الكلمة نفسها في الدلالة اللغوية تفيد هذا المفهوم وتضيف إليه معنى مجازياً آخر. يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته: «حوط: الحائط الذي يحوط بالمكان. والإحاطة تقال على وجهين: أحدهما: في الأجسام ... أو تستعمل في الحفظ ... » ؛ فالبيئة هو مجال مكاني محدد يتراوح بين الامتداد والانحسار، لكننا لا نكتفي بهذا المفهوم اللغوي للمحيط فقط، وإنما نعني به كل ما يحيط بالإنسان زماناً ومكاناً، حاضراً ومستقبلاً، كما نستعير له ردائف رائجة في العصر الحديث، مثل الواقع والبيئة والمجال.
ولما اقتضت مشيئة الله أن يخلق الناس من أصل واحد فتختلف أجناسهم وتتباين لغاتهم، وتمتد في الأرض بلدانهم، ناسب أن يتعدد البيئة الذي يضمهم؛ فمنه البيئة المحلي، والقطري، والعالمي.
إن الوعي بهذه الأبعاد الثلاثة لدى الخطيب شيء لازم؛ لأن مسيرة الإنسان المستهدَف بالتغيير والإصلاح في محيط ما، يتعذر عزلها وتحديدها في إطار ضيق، ولذا نأمل أن تراوح رسالة الخطيب الدعوية بين هذه الأبعاد الثلاثة لتحقيق التكامل المطلوب؛ فمظاهر الخلل التي تعتري محيطاً محلياً ما، لا يمكن ـ إطلاقاً ـ عزلها عن العوامل القطرية أو العالمية، ولنضرب مثالاً على ذلك:
إن الخطيب صاحب الصلة الوثيقة بالبيئة المحلي حين يلحظ مظاهر الانحراف في جانب من جوانب الأسرة المسلمة (عقوق أو إهمال الأبناء أو انحلال المرأة أو غيرها) ـ وهو يسعى للتنبيه وإصلاح الخلل ـ لا يمكنه منهجياً أن يعالج هذا الخلل مجرداً من السياق العالمي العام الذي أفرز هذا الاختلال ويحصره في حيزه الأسري أو المجتمعي الضيق، وإنما ينبغي أن يربط النتائج بالأسباب الظاهرة التي قد تعود إلى الأسرة نفسها: جهلاً، أو تقصيراً، أو إهمالاً، دون أن يغفل العوامل الخارجية التي تتحمل نصيباً من المسؤولية في إحداث هذا الانحراف، وتسعى لحمايته من أجل الكيد للأسرة المسلمة من خلال وسائل الإعلام وبرامج التعليم ونمط الاقتصاد وغيرها من الوسائل. من هنا تتضح ملامح العلاقة الوطيدة بين أبعاد البيئة الثلاثة، والأمثلة كثيرة يضيق المقام باستعراضها.
إننا نقصد بالبيئة المحلي ذلك الفضاء الذي يُعتَبَر الخطيب جزءاً منه، قد يضيق وقد يتسع، قد يكون جهة بأقاليمها، أو مدينة بأحيائها، أو قرية بشعابها وأوديتها، وهو أيضاً محيط بشري يضم الفرد: ذكراً وأنثى، ويستوعب الجماعة: أُسَراً ومؤسسات وهيئات، هذا البيئة المحلي يصبح قطرياً وطنياً كلما تكاملت وتضامَّت هذه البيئةات المحلية، وكلما اتسعت المساحة الجغرافية كلما تمدد البيئة ليصبح عالمياً يضم العالم الإسلامي وغيره. ولعل البيئة الذي يهم الخطيب بشكل إجرائي هو محيطه المحلي الذي هو بمثابة المحرار الذي يقيس به الخطيب مستوى الصلاح والضلال في المجتمع، كما يقيس من خلاله درجات الالتزام الإسلامي الصحيح لدى الناس، وسيلته في ذلك الوعظ والإرشاد والخطابة؛ ويذلك تتأسس العلاقة بين الخطيب ومحيطه وفق نسق تبادلي أساسه التأثير والتأثر.
إن الخطيب الحاذق هو الذي يتعامل مع البيئة بنظرة شمولية متوازنة تتأسس على ما يلي:
1 ـ التشخيص الميداني:
إن تشخيص واقع البيئة، وتوصيف مظاهر الخلل فيه وتلمُّس درجات هذا الخلل كفيل بأن يذلل جملة من الصعوبات أمام الخطيب؛ ذلك أن الإدراك الواعي لمواطن الانحراف تفيد الخطيب في الإلمام بحقيقة التحديات والعقبات التي هو مدعو لتجاوزها: فهل البيئة يعاني خللاً في جانب العقيدة أو العبادة أو الأخلاق؟ وما حجم هذا الانحراف وما أسبابه؟ وما الوسائل التي ترسِّخ هذا الانحراف في البيئة؟ وهل هذه الوسائل موضوعية أم ذاتية في البيئة، أو خارجية؟
أسئلة تُعَدُّ الإجابة عنها عاملاً مهماً من عوامل التأثير الإيجابي، أي أن الخطيب مدعو لمراعاة ما يُعرف عند العلماء بفقه الأولويات أو بفقه مراتب الأعمال بتعبير بعض الدعاة المعاصرين. ويُعنى بفقه الأوليات «أن يضع الداعية ـ والخطيب ـ كل شيء في مرتبته بالعدل سواء كانت أحكاماً فقهية ـ إذا كان الخطيب فقيهاً ـ ثم يقدم الأوْلى فالأوْلى بناء على معايير شرعية صحيحة ينير سبيلها نور الوحي ونور العقل، فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل ... بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم بلا طغيان ولا إخسار ... » في فقه الأولويات ص 9. وما يقال في المأمورات يقال في المنهيات، وإن لكل محيط أولوياته الآنية التي تتطلب من الخطيب أن يفقهها ويعمل على جعلها محاور للمعالجة في خطبه.
2 ـ تعرُّف الجمهور:
إن الخطيب يجد نفسه أمام جمهور من الناس تختلف نوعياتهم، وتتعدد مشاربهم، وتتفاوت مسؤولياتهم ومؤهلاتهم؛ فمنهم الأمي والمتعلم والمثقف، ومنهم الرجال والنساء والشباب؛ ولذلك فإن دراسة البيئة تقتضي من الخطيب معرفة هذا الجمهور عن قرب، ومراعاة مستوياته المختلفة حتى يتيسر له أن يخاطب الناس على قدر عقولهم لتحقيق الهدف والقصد. إن معرفة الجمهور المستهدف عن قرب لا تتحقق بعفوية وتلقائية فحسب، وحتى إذا حصلت هذه العلاقة العفوية، فإنها لا تعتبر مقياساً في الحكم، وإنما نقصد المعرفة المبنية على أسس علمية وخلقية تسهل للخطيب السبيل لتعرف جمهوره حقيقة لا توهماً، وذلك ما لا يتأتى إلا إذا حرص الخطيب على بناء علاقة متميزة مع جمهوره، يطبعها الود والاحترام المتبادل، وحب الخير لهذا الجمهور، والإحساس بمعاناته، والسعي في مصالحه، وتذليل الصعاب أمامه، والصبر على أذاه، والتجاوز عن خطئه، والعفو عن زلاته، كل ذلك لا محالة، يكسب الخطيب ثقة في نفوس الناس، ويقوي آصرة التواصل والالتحام بينه وبين محيطه، وبذلك يكون لتوجيه الخطيب وقع في نفوس سامعيه، تظهر ثماره الإيمانية بمرور الزمن، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة والمثل الطيب؛ فلقد كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يسع الناس بخُلُقه قبل أن يسعهم بدعوته، وذلك هو المنهج الذي ينبغي للخطيب أن يسلكه في التعامل مع الناس بعيداً عن الانحياز أو الانعزال، ساعياً إلى الانفتاح على جميع مكونات البيئة.
3 ـ القدوة الحسنة:
وهي حجر الزاوية وقطب الرحى في مهام الخطيب، وإذا فُقِدَ هذا العامل ضاع الجهد وشحت الثمار وتعطل سبيل الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ لأن مصداقية الخطيب تظهر على محك الواقع والبيئة؛ فالخطبة قبل أن تعني الجمهور، فهي تعني الخطيب أولاً، ولذلك ينظر الناس ـ في العادة ـ إلى الخطيب باعتباره رمزاً للاستقامة وحسن الامتثال، وتلك هي الصورة التي يراها البيئة في الخطيب ويريد أن تبقى ملازمة له باعتباره المَعِين الذي ينهل منه الناس معرفتهم بالإسلام ويتعلمون منه أمور دينهم، ولذلك ما وجدنا أبلغ الخطباء ـ عليه السلام ـ يأمر بشيء إلا كان أسرع الناس إليه، ولا ينهى عن شيء إلا كان أبعد الناس عنه؛ وذلك هو القبس الذي ينير طريق الخطباء العاملين، الذين يسعون لتزكية القول بالعمل الصالح. إن مطلب القدوة الحسنة ليس شرطاً قاصراً على الخطيب وحده؛ لأنه يصيب ويخطئ كسائر الناس، وإنما تزداد الحاجة إلى هذا المطلب بالنسبة للخطيب، باعتبار موقع الإمامة الذي يدعوه إلى تحقيق الانسجام بين القول والفعل. إن عمل الخطيب وسلوكه يخلِّف أثراً في البيئة أكثر مما يتركه القول والوعظ والإرشاد؛ ذلك لأن أكثر الناس في البيئة يقتفي أثر الخطيب. وإذا كان الخطيب معنياً بتمثُّل القدوة الحسنة في نفسه، فهي في أهله وأسرته أشد إلحاحاً؛ فأسرة الخطيب هي محيطه الصغير داخل البيئة العام الذي يستهدفه الخطيب بالتربية والتوجيه.
4 ـ أهمية البيئة في اختيار الموضوع:
إن اختيار موضوع الخطبة له أهمية بالغة، فهو عامل حاسم إذا راعى الخطيب الأسس الشرعية، وفقه الواقع الذي أتينا على ذكر بعض تجلياته؛ فتشخيص البيئة ودراسة الواقع يتيح أمام الخطيب فرص الوقوف على أهم مظاهر الاختلال وعواملها، ومن ثَم يجعله يركز في خطبه على حفز البيئة على الانتباه إلى هذه المظاهر والعمل على تجاوز أسبابها، وسيلته في ذلك، الأسلوب المؤثر الذي يقع في النفس موقع الماء العذب من التربة الخصبة، معززاً خطبه بالحجج القاطعة والأدلة الناصعة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومنهج الأنبياء عليهم السلام، وسيرة السلف الصالح، واستخلاص العبر من تجارب الأمم. وإن معرفة الخطيب بفقه الأولويات تجعله موفقاً في اختيار موضوع الخطبة من حيث التقديم والتأثير، حسب ما يناسب البيئة؛ فالخطيب بمثابة الطبيب الذي لا يصف العلاج حتى يتعرف مواطن الداء وأعراضه، ويتفهم نفسية المريض.
إن التركيز على عوامل الخلل في البيئة لا يعني خلوَّ هذا الأخير من مظاهر الصلاح إطلاقاً؛ ولذلك فإن منطق العدل والقسط يقتضي أن يثمِّن الخطيب عناصر الصلاح ـ وإن قلَّت ـ ويدفع الناس نحو تنميتها والالتزام بها.
وبهذه المقومات الضرورية يستطيع الخطيب أن يجد لخطابه آذاناً صاغية وقلوباً واعية تتفاعل مع رسالة الخطابة التي تستهدف الإنسان المسلم عقيدة وفكراً وخلقاً؛ والحمد لله رب العالمين.(227/12)
من أجل الدين والأمة
د. عبد الكريم بكار
يمكن القول إن العالم الغربي يقوم اليوم ببناء صورة ذهنية جديدة عن الإسلام والمسلمين، وهذه الصورة تميل إلى أن تكون سلبية في مجملها؛ حيث يترسخ في قناعات الغربيين يوماً بعد يوم أن المسلمين يحلّون مشكلاتهم عن طريق العنف، كما أن الإسلام نفسَه دينٌ يحثُّ على استخدام القوة ضد الخصوم والمناوئين، وتعاليمه توجِّه للتحيز ضد المرأة، وتحول بين المسلمين وبين التحديث والتطوير ...
وهم يستعينون على تشكيل تلك الصورة بثلاث وسائل:
1 ـ المناهج الدراسية والتي يطلّع عليها عشرات الملايين من الأطفال والشباب في الغرب، وتُتلقّى على أنها شيء عالي المصداقية.
2 ـ الإعلام بآلياته الرهيبة، والتي توّجت أخيراً بالبثَّ الفضائي والإنترنت.
3 ـ الواقع السيِّئ ـ في معظم المجالات ـ لأمة الإسلام، والسلوك غير المشرِّف لكثير من المسلمين في الغرب؛ حيث إن المعنى المستبطَن لدى كثير من الغربيين هو: أن الإسلام لو كان يشكل حبل الإنقاذ، أو سفينة النجاة لصلح به حال أهله.
بعد أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) استيقظ الوعي الشعبي الغربي على الإسلام بوصفه شيئاً موجوداً بقوة، ويمكن أن يؤثر في إعادة ترتيب أوضاع العالم، وإعادة توجيه قواه الضاربة؛ ونتيجة لذلك الاستيقاظ زاد عدد الداخلين أسبوعياً في الإسلام؛ حيث يتجاوز في أمريكا ـ مثلاً ـ الألف شخص. وفي الوقت نفسه زاد عدد المناوئين للإسلام والباحثين عن الثغرات في حياة المسلمين، حيث لا يمضي أسبوع إلا ويُطرح في الأسواق الغربية ثلاثة أو أربعة كتب تتناول بعض القضايا والشؤون الإسلامية والعربية على نحو سلبي، والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً: ما العمل؟
حين تتضح الرؤية، ويتم إدراك موطن الداء ونوع التحدي على نحو صحيح؛ فإنه يمكن عمل الكثير، ولعلّ من الكثير الذي ينبغي عمله إقامة تحالف إسلامي عالمي يكون له هدف واحد، هو إقامة معارض ثابتة ومتنقلة تستهدف تعريف الشعوب كافة ـ والغربية خاصة ـ على الإسلام وحضارته والجوانب المشرقة من تاريخ الأمة وواقعها ... إن المعارض تتحدث دائماً عن منجزات ووقائع ومعطيات، ومن ثم فإن مصداقيتها تكون أقوى، والناس اليوم يحبون أن يروا شيئاً بعد أن سمعوا الكثير، فعلينا أن نساعدهم على رؤية تجسيدات عملية لبعض ما نتحدث عنه. ومما يمكن عرضه في تلك المعارض:
1 ـ مخطوطات ووثائق تعكس الجانب الخلقي في الإسلام ولا سيما الأخلاق التي تتصل بالعلاقات الدولية والتي تتصل بالمعاملات التجارية. ومن المهم دائماً عدم الاقتصار على الجانب التنظيري، والتركيز على الوثائق والمخطوطات التي تعكس الواقع والأحداث التاريخية على ما هي عليه؛ لأن المطلوب هو الحديث عمَّا وقع وحدث، وليس عمَّا يمكن أن يحدث، أو ينبغي أن يحدث.
2 ـ عرض صور مع شرحها عن الأربطة والأوقاف الإسلامية، والتي تعكس الجانب الخيري لدى الأمة، وتوضيح الدور الذي قام به الوقف الإسلامي في حل مشكلات الناس ومساعدتهم على الاستمرار.
3 ـ عرض صور ووثائق تحكي التاريخ العلمي للمسلمين، والتركيز على دور الكتاتيب والمدارس والمكتبات في تثقيف الناس، ودور الشعب والجمهور في دعمها.
4 ـ عرض الأدوات الطبية والفلكية ... التي صنعها المسلمون الأوائل، وعرض صور لغير المتوفر منها، وتوضيح دورها في مساعدة العالم على التغلّب على الأمراض، ودورها في التقدم العلمي العالمي.
5 ـ التعريف بالجانب الأسري من الحياة الإسلامية، وعرض الأحكام والأعراف والتقاليد التي تتصل بالحياة الأسرية وما فيها من دفء ورحمة وتضحية إلى جانب عرض صور من الواقع الإسلامي في برِّ الوالدين وصلة الأرحام.
6 ـ عرض لتجارب الأعلام الذين أسلموا حديثاً من السفراء وأساتذة الجامعات والأطباء والفنانين وغيرهم، وشرح التغيرات الإيجابية التي طرأت على حياتهم بعد دخولهم في الإسلام، ويُفضَّل أن يقوم أولئك الأشخاص بشرح ذلك بأنفسهم في محاضرات وندوات تقام على هامش المعارض.
7 ـ توضيح الرؤية العامة للإسلام في القضايا التي تثير الجدل في العالم اليوم، مثل: الديموقراطية، وحقوق المرأة، والعولمة، وتلوّث البيئة، والإرهاب، وما شاكل ذلك.
8 ـ إبراز دمج الإسلام للنشاط البشري سواء أكان تعبّدياً أو دنيوياً في سياق واحد من خلال النية، ومن خلال الالتزام بالإطار الشرعي.
من المهمّ دائماً عرض كل ذلك بأمانة وموضوعية ودقّة وتواضع، ومن المهم كذلك أن يتولى المسلمون من أهل البلد الذي يُقام فيه المعرض التقديم والعرض والشرح.
والبداية في تأسيس هذا التحالف تكون بإقامة عدد من المؤتمرات والندوات وورش العمل التي تهتم ببلورة هذا المشروع الإسلامي الكبير، وأنا على ثقة بأننا قادورن من فعل ذلك بكفاءة وجدارة، وأن النتائج التي سنحصل عليها ستكون أكبر مما نظن، لكن بشرط أن نمتلك ما يكفي من الإخلاص والهمة والاهتمام.
وعلى الله قصد السبيل.(227/13)
الأديب الإسلامي الدكتور صابر عبد الدايم في حوار مع البيان
حاوره في الرياض: محمد شلاّل الحناحنة
ـ الشعر هو الأفق الأرحب الذي تنطلق فيه أسراب انفعالاتنا ومعاناتنا مع الواقع المحموم الذي نعيشه!
ـ دعائم الأدب الإسلاميّ ومقوماته لا تنفصل عن خصائص التصوّر الإسلاميّ بكلّ شموليّته.
ـ الأديب المسلم يسمو بوجدانه فوق الرغبات الدنيا بكلّ ما يحمله من خير للإنسان.
ـ الأدب الإسلاميّ أدب عالمي؛ فلا تعوقه أسوار، ولا محيطات، ولا تأشيرات!
ـ مُلتقى الأدباء الشباب برابطة الأدب الإسلاميّ يعدّ حقلاً خصباً لنمو أشجار الإبداع نموّاً صحيّاً!
الأديب الإسلاميّ الدكتور (صابر عبد الدايم) له أكثر من عشرين كتاباً: شعراً ونقداً، كما أنّه أستاذ للأدب بجامعة الإمام محمد بن سعود، ويُشرف على ملتقى الأدباء الشباب بالمكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلاميّ العالمية بالرياض، فهو عضو بهيئة تحرير مجلّة الأدب الإسلاميّ، ويحمل الكثير من الآراء وهموم الأدب الإسلاميّ، وقد التقيناه بعد ندوة ثقافية بمدارس الرشد بمشاركة الأديب د. (ناصر الخنين) ، وكانت بعنوان: (الفصحى من الدِّين) حضرها جمهورٌ من المهتمينَ والمثقفين، فكان لنا معه هذا الحوار:
^: قالوا: «في شعر (صابر عبد الدايم) غُرْبةٌ روحية خاصة، ووجدان إنساني مفتوح على هموم الأمة في الوقت نفسه» ، ما مدى صحة هذه المقولة؟
معلقٌ بين تاريخي وأحلامي
وواقعي خنجرٌ في صدر أيامي
أخطو فيرتدُّ خطْوي دون غايته
وما بأفقي سوى أنقاض أنغامي!
تناثرتْ في شعاب الحلم أوردتي
وفي دمائي نمَت أشجار أوهامي!
مدائنُ الفجر لم تُفتح لقافلتي
والخيل والليل والبيداءُ قُدَّامي
والسيف والرمح في كفَّيَّ من زمن
لكنني لم أغادرْ وقْع أقْدامي!
وفي انكسار المرايا حُطِّمت سُفني
وفي انحراف الزوايا غاب إقدامي!
وغبت يا وطناً ضاعَتْ هويَّتُهُ
والأرضُ تنْبُشُ عن أشلاء أقوام!
^: أنْتَ أديب إسلامي، لكن مصطلح الأدب الإسلاميّ ما زال غائماً وغير متفق عليه كما يقال حتى لدى رابطة الأدب الإسلامي، إذْ يثار أحياناً، كيف ترد على ذلك؟
فالأديب المسلم في غمرة تجاربه الإيمانية والتأملية لا يكون بمعزل عن واقع الحياة، ومشاغل الإنسان وآماله وأحلامه؛ فهو في سلوكه الإيماني يتأمل ما خفي من أسرار الكون، وهو في تأملاته يستجلي أسرار الحياة، ويبحث عن منافذ الخلاص للإنسان عبْر رؤية إسلامية متميزة منفردة تُصاغُ معالمها في قالب فني مؤثر. وأرى أن دعائم الأدب الإسلامي ومقوماته لا تنفصل عن خصائص التصور الإسلامي التي تمثل إطاراً حضارياً لأبعاد الشخصية المسلمة في كل أحوالها، وهي: التوحيد ـ الربانية ـ الثبات ـ التوازن ـ الشمولية ـ الواقعية ـ الإيجابية.
والأديب المسلم حين يمتزج وجدانه بأضواء الحقائق السابقة، وتتشرب مشاعرُه معالمها تأتي تجاربه شاملة متنوعة مؤثرة، تتجاوز الخاص إلى العام، تسموا فوق الرغبات الدنيا، وتشتاق إلى معانقة الوجود ـ المثال ـ؛ الوجود المسلم بكل ما يحمله من خير للإنسان، وخصوبة للمشاعر، ونقاء للأحاسيس، وبذلك ندرك أهمية تعرف الشباب المسلم على هذه الخصائص، والسير في ظلالها، وفي أضوائها حين يسافر في مدائن التجارب الإبداعية محمَّلاً بشحنات العواطف وثمار الأقطار.
ودلالة المصطلح ليست غائمة ـ كما يثار ـ لدى رابطة الأدب الإسلامي. ومن يقرأ ويتأمّل ويعي «النظام الأساس» لرابطة الأدب الإسلامي العالمية يدرك أن المصطلح ليس غائماً، وإنما تؤطره عدة مبادئ وردت في المادة «الثانية عشرة» من مواد النظام الأساسي، وهي مبادئ تشكل نسيجاً متكاملاً متجدداً لمصطلح الأدب الإسلامي، ولا بُدَّ من تكامل هذه المبادئ لدى من يلتزم بالمنهج الإسلامي في مشروعه الأدبي والنقدي، وهذه المبادئ هي:
1 ـ الأدب الإسلامي: هو التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفْق التصور الإسلامي.
2 ـ الأدب الإسلامي حقيقة واقعة منذ انبلج فجر الإسلام، وهو يستمد عطاءه من مشكاة الوحي وهدي النبوة.
3 ـ الأدب الإسلامي ريادة للأمة، ومسؤولية أمام الله عزَّ وجل.
4 ـ الأدب الإسلامي أدب متكامل، ولا يتحقق تكامله إلا بتآزر المضمون مع الشكل.
5 ـ الأدب الإسلامي يفتح صَدْره للفنون الأدبية الحديثة، ويحرص على أن يقدمها للناس وقد بَرئت من كل ما يخالف دين الله ـ عزَّ وجل ـ، وغنيت بما في الإسلام من قيم سامية، وتوجيهات سديدة.
6 ـ الأدب الإسلامي يرفض النظريات والمذاهب الأدبية المنحرفة.
7 ـ النقد الأدبي الإسلامي ضرورة لترشيد مسيرة الأدب وترسيخ أصوله.
8 ـ الأديب الإسلامي مؤتمن على فكر الأمة ومشاعرها، ولا يستطيع أن ينهض بهذه الأمانة إلا إذا كان تصوره العقدي صحيحاً، ومعارفه الإسلامية كافية.
9 ـ الأدباء الإسلاميون متقيدون بالإسلام وقيمه، وملتزمون في أدبهم بمادئه ومثله.
^: لك الكثير من الدراسات النقدية الجادة؛ تُرى: أين يمضي النقد الأدبي مقارنة بالإبداع؟ أليس هناك فجوة بين الناقد والمبدع؟
والمنهج المتكامل اعترف به كثير من النقاد العرب والغربيين، وفي مقدمتهم (ستانلي هايمن) في كتابه «النقد الأدبي ومدارسه الحديثة» .
وقد أشاد بهذا المنهج (الدكتور. شوقي ضيف) والأستاذ: (سيد قطب) ، وغيرهما من النقاد العرب المحدَثين، وأرى أن النقد الأدبي قد أَغْرق النقادَ في المصطلحات الغربية، أو غرَقوا هم فيها.
والنقد في توجهاته الحديثة لم يعد استكشافاً للنص؛ وإنما أصبح تعقيداً للنص؛ وذلك لأن النقاد لا ينطلقون في تحليلاتهم من داخل النص في ضوء جماليات اللغة العربية، وإنما يُكَرِّسون كل جُهْدهم النقدي في إخضاع النصوص للرؤى والمصطلحات المستوردة. وأزمة النقد تتمثل في تعصب بعض النقاد لمنهج واحد لا يعترف إلا بلون واحد من الإبداع، وتعصب هذا الفريق ناشئ من الانتماء إلى بعض المذاهب النقدية الغربية التي ازدهرت في بلادها، ثم خبا وتوارى شعاعها.
وأرى أن النص الأدبي يحتاج في تحليله إلى رصيد معرفي وجمالي وتراثي، وإلى مَلَكَة نقدية، وكل ناقد عليه أن يحدد مدخله الجمالي إلى النص من خلال الرؤية النقدية التي يتبناها، فهناك: (النقد التكويني) ، و (النقد القائم على التحليل النفسي) ، و (النقد الموضوعاتي) ، و (النقد الاجتماعي) ، و (النقد النصِّي) ، وكلها مداخل يمكن أن يستقل الناقد بمدخل منها، ويمكن أن تتآزر عدة مداخل في استشكاف معالم النص وإضاءته.
وجهود بعض النقاد تضيع في التنظير، ولا تثمر شيئاً ذا قيمة جمالية في التطبيق.
وإذا نظرنا إلى تقسيمات النقد النظرية، وما يتفرع عنها سندرك سرَّ أزمة النقد والنقاد.
فالنقد الواقعي تندرج تحته هذه المعالم والظواهر النابعة من الكلاسيكية الجديدة، والظواهر هي:
التجريبية، الصورة الذهنية، الصورة البصرية، المحاكاة، نقد الصورة.
والنقد التاريخي: تتموج في دائرته هذه المعالم والمذاهب:
الوضعية، الطبيعية، البرناسية، الصورة، النقد التاريخي.
والنقد الشكلي: يئن تحت ركام هذه الضغوط المذهبية، والعوالم الفنية، ومنها:
الوضعية المنطقية، التحليل اللغوي، وظيفة اللغة، الصورة، البناء الفني، المفارقة، التناقض، التوتر.
وأما النقد المضموني: فيرزح تحت أثقال هذه الاتجاهات:
الفلسفة الماركسية، المادية الجدلية، المادية التاريخية، المضمون والإيديولوجية.
وهناك اتجاهات نقدية أخرى تضاف إلى هذه الغاية النقدية ومنها: النقد الرومانسي، والنقد الرمزي، والنقد التعبيري، والنقد التفسيري، والنقد الموضوعي.
وهذه الاتجاهات السابقة تندرج في إطار النقد المثالي، كما يرى مؤرخو النقد، وهناك النقد المعتمد على السيرة، والنقد القائم على الموروث الشعبي، وهناك البنيوية، وما تفرع عنها وما تصادم معها.
إن هذه التيارات والمناهج المتعددة أحدثت فجوة بين الناقد والمبدع، وكان من المنتظر أن تحدث مصالحة ـ وقرباً جمالياً ـ إذا أخلص النقاد في تعاملهم مع النص الإبداعي، وانطلقوا من رؤية نقدية تجمع بين القراءة الجيدة لمعالم التراث النقدي عند العرب وبين التفتح على آليات النقد الحديث، واصطفاء القيم والمصطلحات التي تتسق مع طبيعة اللغة العربية وجمالياتها، ومع جماليات البيئة وأعرافها، وتطور الدلالات والمفاهيم والرؤى والتصورات.
^: يقولون: «أضحت العولمة واقعاً نعيشه في جوانب كثيرة» ، كيف تنظر إلى مستقبل الأدب الإسلامي في ظل هذه العولمة؟
وهذه الهيمنة الطاغية تضع أمام الأدباء المسلمين معوقات أكثر طغياناً، وعليهم أن يثبتوا، وأن يقاوموا، وأن يقدموا أدبهم تقديماً فنياً جمالياً متفتحاً على هموم الإنسان المسلم في كل بقاع الأرض.
وهذا التفتح الإبداعي والنقدي لا بد له من وسائل ودوافع تضمن له التواصل والبقاء ومن هذه الوسائل والدوافع:
1 ـ تجويد الإبداع ومواكبة كل حركات التجديد العالمي في فنون الإبداع.
2 ـ تقوية الصلات بين أدباء العالم العربي وكل أدباء العالم الإسلامي في الشرق والغرب.
3 ـ العناية بحركة ترجمة الأعمال الإبداعية والنقدية من العربية إلى كل لغات الشعوب الإسلامية وإلى اللغات العالمية الحيَّة، وكذلك ترجمة آداب الشعوب الإسلامية إلى اللغة العربية.
4 ـ إنشاء المواقع الخاصة بالأدب الإسلامي على الإنترنت، وتبادل المعرفة والإبداع بين الأدباء الإسلاميين عن طريق هذه المواقع.
5 ـ واستكمالاً لمسيرة رابطة الأدب الإسلامي في ترسيخ دعائم الأدب الإسلامي؛ عليها أن تقوم بمدِّ الجسور بين الرابطة، والجامعات العربية والإسلامية والهيئات الفكرية والأدبية.
6 ـ تقوية الصلات الفكرية بين المفكرين الإسلاميين، والأدباء الإسلاميين، والمشاركة في المؤتمرات التي تعقدها الهيئات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي؛ لأن كبار المفكرين والدعاة الإسلاميين لا يَعْرفون قيمة الحركة الأدبية الإسلامية، ولا يدركون قيمتها، ولا يعرفون الأدباء والنقاد الإسلاميين، والرابطة تبذل جهوداً كثيرة في مجال الاتصال بالهيئات العلمية والفكرية، والتعرف على أنشطتها الإسلامية، والتعاون معها في الجهود الدعوية عن طريق الكلمة المبدعة.
ومن البارزين في هذا المجال (الدكتور عبد القدوس أبو صالح) ، و (الدكتور عبد الرحمن العشماوي) ، و (الدكتور وليد قصاب) ، و (الدكتور عماد الدين خليل) ، و (الدكتور عبد الحليم عويس) ، وغيرهم، ولكن على الرابطة أن تضاعف جهودها في هذا المجال؛ لأن الفكر الإسلامي هو الأفق الأرحب التي تتضوأ في عوالمه تجارب أدباء الإسلام.
^: منذ سنة تقريباً، وأنت تشارك في نقد «ملتقى الأدباء الشباب» برابطة الأدب الإسلامي العالمية، ما رأيك بهذا الملتقى؟ وما تقويمك لإبداعات الشباب فيه؟
وهذا الملتقى مضمار للتنافس بين شباب الأدباء في مجال الإبداع، وتقديم التجارب الجمالية السامقة في ظل الرؤية الإسلامية المتفتحة على ما في السماوات وما في الأرض من مظاهر جمالية تنطق بقدرة الخالق عزَّ وجل.
وكذلك عالم الإنسان، وصراعاته، وما يموج به العالم من فتن وحروب، وما يموج به الوجدان من رؤى وأحلام، تتصادم مع الواقع أو تتصالح معه.
كل هذه الآفاق يقدمها الشباب في هذا الملتقى ـ وهم القادمون من كل فج ـ تجمعهم الكلمة المؤمنة، والوجدان الإسلامي.
ففي المتلقى الواحد تجد أدباء من: السودان، وسوريا، وفلسطين، والأردن، ومصر، والسعودية، واليمن، والمغرب، ولبنان، وهذا أمر يدعو للإعجاب.
ومما يعطي لهذا الملتقى قيمته؛ التفاعل بين الأدباء والمشرفين على اللقاء الذين يشاركون في تقويم تجارب الأدباء تقويماً إيجابياً بدافع من الحب والطموح إلى الأفضل، ومشاركة (الدكتور حسين علي محمد) ، و (الأستاذ محمد شلاّل الحناحنة، و (الأستاذ شمس الدين درمن) في الإشراف على هذا الملتقى بصفة دائمة يعطيه مزيداً من التواصل والإيجابية.
وللدكتور (وليد قصاب) ، وكاتب هذه السطور جهود في إثراء هذه الملتقى، وأدعو الزملاء الكرام من أساتذة الجامعة لمزيد من المشاركة في هذا اللقاء الأدبي الذي قدم مواهب أدبية جادة واعدة تعد بمستقبل إبداعي مرموق في جميع الفنون الأدبية من: شعر، وقصة، ومقالة، وخاطرة أدبية، وغير ذلك من الفنون القولية.
^: أخيراً: ليتك تعرفنا على آخر مشاريعك الأدبية الجديدة.
1 ـ ديوان «الأعمال الكاملة» وهي الأعمال الشعرية، ولكن متى يَصْدر؟ وكيف يُوزَّع؟ ومن سيطبع؟
2 ـ ديوان «العمر والريح» قيد الطبع بالهيئة العامة للكتاب بمصر منذ أكثر من أربع سنوات، وينقصه الغلاف!
3 ـ «الشيخ: محمد متولي الشعراوي» ، وهو قيد الطبع بدار الشروق بالقاهرة، وينقصه الغلاف منذ ثلاث سنوات!
4 ـ كتاب «العصف والريحان» ، وهو محاورات ومواجهات معي أعدها الشاعر (د. حسين علي محمد) ، وقد صدر بحمد الله عن سلسلة أصوات بمصر/ يناير 2006م، ونسأل الله التوفيق والسداد.(227/14)
الغريب
محمد بن صالح الشمراني
احتوى كفي بين راحتيه، وشدّها بتحنان ولطف..
ـ إني أحتاجك يا محمد!
أرجو ألا تتخلى عني، وتُظهر لي سوءَة الجحود والنكران، وتقذف بكل توسلاتي في غَيابةِ نسيانك.
عاينتُ دمعةً تكشَّفتْ بحياءٍ وتمنُّع، كانت تخشى الشماتة والملامة، وتأنف الأسْر والحبس!
ـ أرجوك يا محمد!
أشاح عني بناظريه، ونصبهما في زاوية الحجرة العتيقة.
أراد أن يُغافلني.. ليُميطَ هذه الدمعةَ الجائرة، ويسحقها في غورٍ ُلِّجيّ.
لم يزل يُعنِّفني بقبضته، ويُرسل أشواقه الحرّى، ويبثُّ طرفاً من مخبوءِ ذاته.
ـ إني أعيشُ يا محمد غربة مُوجعةً، قاسية، تتقاذفني فيها سهام النكوص، وذكريات الماضي البائس، أُحسّ بأن قوةً شيطانيةً تتغلغلُ في كياني، وتجذبني من ناصيتي بجفاءٍ وقسوة، لتسوقني ذليلاً إلى درب الغواية القديم.
كل من حولي يؤزني نحو الخطيئة أزاً، ويُراود نفسي بجرأةٍ وقحة.
أرى كلَّ المغريات، وذكريات الأمس، وطيش الصبا.. تتلقفني في طريقي، وتعترضُ مسيري.
وإني يا محمد! ما زلتُ أُصارعُ وأُصارع، أُجاهدُ نفسي وأُغالبها، أُحاولُ إشغالها بالطاعات والمباحات، ولكني يا صديقي.. أخشى وأخاف.
وربِّي.. إني أخاف من ذلك اليوم المشؤوم؛ حين تتناقلون فيه خبري، وتقولون إني قد غيَّرتُ وبدَّلت، وصرتُ (شيئاً) آخر!
أُقسم لك يا صديقي إنني أُحب الصالحين، ولا أرى نفسي إلا في حماهم، ولا تطمئن روحي إلا بالقرب منهم، وكم نافحتُ وخاصمتُ كلَّ من يلمزهم ويمسهم بسوء.
صدِّقني.. بأني لا أفكر في العصيانِ ابتداءً، ولا أسعى للخطيئة سعياً حثيثاً!
وإني على عهدي معك، وميثاقي الذي عقدته بين يديك؛ لم أَحِد عنه طرفة عين، ولكني يا صديقي حين أخلو بنفسي، وأُنادمها وحدي، دونَ رقيبٍ ولا حسيب.. يطرقُ الشيطانُ الرجيمُ بابَنا، حاملاً في كنانته كلَّ الذكريات والملذّات التي هجرناها، وخلَّفناها في الدار الخربة.
يَلجُ علينا بكلِّ ما أوتيه من مكرٍ وتزييف.. فيصيرُ ثالثنا.
فما ظنك يا محمد! باثنين مُتلازمين على فراش الفتنة.. والشيطانُ ثالثهما؟!
ولعمرُ الله ـ ياصديقي ـ لقد وقفتُ طويلاً في ظلام الليل، وفي يدي قرآني، سجدتُ، وأذللتُ نفسي لبارئها، مرّرتُ جبيني، ودثَّرته بأديم الأرض.
بكيتُ والله! سححتُ الدمع مدراراً، استجديتُ ربي الثبات على دينه، لزمت الخضوعَ لياليَ وأياماً طِوالاً.
وإني دون ذلك.. لأرقبُ خيالَ الشهوةِ، وأُبصرها ترفع عقيرتها من وراءِ تلك الأكمة القريبة!
في كلِّ أصيلٍ ـ يا صديقي ـ أذكرُ حديثك عن غُربة آخرِ الزمان، وتناثر الفتن بين يدي الناس أجمعين.
والذي نفسي بيده! إني لأحس بحرِّ الجمرةِ الموعودة في قبضتي.
لا أستطيعُ لها فِكاكاً، ولا منها هرباً ولا تخفِّياً.
وكيف أُطيق ذلك؛ وأنَّى اتجهتُ رأيتُ داعي الأرضية يتلقفني.. في دربي، وغرفتي، وجامعتي، وفي الدكان القريب مني؟
حتى حينما أكون بين أهلي وقرابتي؛ فإني أكاد أُنكر نفسي، وأُطاوع شهوتي، ورفقاء دربي.
محمد!
أتُبصرُ تلك الشجرة العملاقة؟!
أرأيتَ أصلها الثابت، المتجذِّر في عمق الأرض، وفرعها الذي يُعانق السماء؟!
أتبصرها يا محمد؟!
كنتُ ـ ولعمرُ الله ـ مثلها، طينتي من الأرض، وروحي متصلة بالسماء، كنتُ مخلوقاً آخر، لو رآني الليلةَ لأنكرني، وأظهر البراءة مني!
كانت يُمنايَ تحملُ المصحف، وقلبي يحويه ويحفظه، كانت الروضة تألفُ هامتي، وتنظر قدومي، كان محرابي يبكي معي في السحر، ويُنصتُ لي إذا رتّلتُ، ويضطربُ فرَقاً إذا هجرت.
كنتُ يا صديقي مؤذناً؛ أرفع نشيد العزة في الحي، وأُنادي المسلمين لموعد الرب، كنتُ أغشى دور العلم، ومحاضن التربية.
يا صديقي محمد! والذي نفسي بيده.. إني لا أستطيبُ النوم، ولا أتلذذ بالفراش؛ كلما ذكرتُ اسوداد حاضري أمام حُسن الماضي وبهائه!
محمد! إني لا أطلب منك شيئاً.
لا مالاً، ولا جاهاً، ولا سلطاناً.
أريدك أن تُلحّ على الله بالدعاء، وترجوه أن يثبتني على الحق حتى الممات، وإن سبق في علمه أنني لن أقوى أمام الفتنة، وبأني سأتهاوى صريعاً بين يديها؛ فأرجوك أن تلح على الله أن يقبضني إليه، ويُمسك روحي عن عناء هذا كله.
وإني لأعلمُ أن سُؤلي عليك عسير، ولكني وازنتُ الأمرين، وقايستُ الضدين، فطاشتْ كِفّةُ لُقياه في عمر الزهور طائعاً.. على أن آتيه مُكبلاً ذليلاً بين الزبانية الغلاظ الشداد!(227/15)
المرآة اللبنانية وانعكاسات الأزمة العربية
أحمد فهمي
يقول إبراهيم أمين السيد من علماء الشيعة اللبنانيين المؤسسين لحزب الله: «نحن لا نقول إننا جزء من إيران، نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران» . ويقول الشيخ حسن طراد من علماء الشيعة: «إن إيران ولبنان أمة واحدة ووطن واحد» . وفي المقابل يقول أحد كبار علماء إيران: «نحن ندعم لبنان سياسياً وعسكرياً كما ندعم إحدى محافظات إيران» . [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي] .
هذه الأقوال المتحمسة تطرح تساؤلاً مهماً حول الأزمة اللبنانية التي أشعلتها عملية «الوعد الصادق» التي نفذها حزب الله اللبناني الشيعي، ونتج عنها مقتل ثمانية جنود إسرائيليين وأسر جنديين، وهذا التساؤل هو: هل هذه الحرب التي أشعلها حزب الله، حرب لبنانية أم إيرانية؟ وهل هي حرب بين حزب الله والاحتلال الصهيوني، أم بين طهران وواشنطن؟
وهناك تساؤلات أخرى أثارتها ردود الأفعال الإقليمية والدولية، ويمكن تلخيصها في أمرين:
ـ لماذا أتى الرد الصهيوني على هذا النحو العنيف والمدمر؟
ـ لماذا أتى الرد العربي عاجزاً ومنتقداً لأداء حزب الله في الوقت نفسه؟
ونقدم في هذا المقال محاولة للإجابة عن التساؤلات الثلاثة.
ü إيران وسياسة تصدير الحروب:
لتحديد الهدف الحقيقي من عملية حزب الله الأخيرة لا بد من توضيح الإطار السياسي والعقدي الذي يحكم العلاقات المتبادلة بين ثلاثة أطراف محورية في المنطقة، وهي: إيران، سورية، حزب الله؛ لأن هذه العلاقات المتبادلة أصبحت العنصر الأكثر تأثيراً على الساحة اللبنانية، وإذا كانت العلاقة بين سورية وإيران محكومة منذ الحرب العراقية الإيرانية بتحالف «العدو المشترك» وهو صدام حسين؛ فإن إطار هذه العلاقات يتوسع حالياً ليتضمن بُعداً عقدياً من ناحية، وسياسياً من ناحية أخرى تجاه خصم مشترك آخر هو الولايات المتحدة، وقد أثمرت العلاقة المتنامية توقيع اتفاقية للدفاع المشترك بين البلدين، إضافة إلى استخدام حزب لله كأداة سياسية وعسكرية لضبط التوازن داخل الساحة اللبنانية والمنطقة على إيقاع طهران أولاً ودمشق ثانياً.
أولاً: حزب الله وصلته بالحرس الثوري:
في عام 1982م اتفقت طهران ودمشق على إرسال وحدات من الحرس الثوري الإيراني للمشاركة في مقاومة الاحتلال الصهيوني للبنان، وعندما وصلت الوحدات الإيرانية إلى دمشق تراجع نظام حافظ الأسد خشية تنامي نفوذ الحركات الشيعية الدينية في لبنان، وجرى الاتفاق على أن يقتصر دور الوحدات على التدريب دون المشاركة الفعلية في القتال، ووصل إلى الجنوب اللبناني في أسابيع قليلة 1500 عسكري إيراني، تم اختيارهم بعناية ليكونوا مدربين عسكريين وكذلك دعاة دينيين يرسخون مبادئ الثورة الخمينية في الجنوب اللبناني، ويؤسسون للسيطرة الشيعية على الجنوب، وكان لهذه الوحدات الدور الأكبر في تأسيس حزب الله بصورة فعلية من النواحي التنظيمية والعسكرية والدعوية، وكانت تلك بواكير ثمار سياسة تصدير الثورة التي تبنتها جمهورية الخميني.
يقول إبراهيم أمين السيد: «لقد نقل الإخوة الحرسيون من الجمهورية الإسلامية إلى لبنان الروح الثورية والاستشهاد وخط الثورة وقيادة الإمام الخميني إلى حد أنه بدا وكأننا مرتبطون جغرافياً ارتباطاً مباشراً بالجمهورية الإسلامية ولا نرى حدوداً تفصلنا عنها» . [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي] .
وكانت غالبية الصفوف الأولى المؤسسة لحزب الله من تلاميذ العالم الشيعي العراقي محمد باقر الصدر مؤسس حزب الدعوة العراقي، وكانوا يحملون فكراً ثورياً شيعياً لم تتحمله المؤسسة الرسمية الشيعية في لبنان وهي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بزعامة محمد مهدي شمس الدين وقتها، وحسن نصر الله نفسه تلقى العلوم الدينية على يد محمد باقر الصدر في النجف، ثم رحل إلى قم وتتلمذ على مرجعياتها قبل أن يعود إلى لبنان.
ثانياً: حزب الله يدين بالولاء المطلق لخامنئي:
يقول الحزب في كتيب أصدره لبيان تاريخ نشأته ووجهات نظره: «نحن نلتزم بولاية المرجعية الرشيدة التي يجسدها الولي الفقيه. وهذه المرجعية ليس لها صفة جغرافية أو مصلحية أو قومية أو غير ذلك» . ويقول حسن نصر الله: «الفقيه هو (ولي أمر) زمن الغيبة، وحدود مسؤوليته أكبر وأخطر من كل الناس. نحن ملزمون باتباع الولي الفقيه ولا يجوز مخالفته» . ويوضح إبراهيم السيد أن هذه التبعية للولي الفقيه ليست قاصرة على الشؤون الدينية فقط، بل تتعداها إلى القرار السياسي: «نحن لا نستمد عملية صنع القرار السياسي لدينا إلا من الفقيه، والفقيه لا تعرفه الجغرافيا؛ فنحن في لبنان لا نعتبر أنفسنا منفصلين عن الثورة في إيران، نحن نعتبر أنفسنا ـ وندعو الله أن نصبح ـ جزءاً من الجيش الذي يرغب الإمام في تشكيله من أجل تحرير القدس الشريف» . ويقول حسين الموسوي من قيادات حزب الله: «نحن على المستوى السياسي والديني والعقائدي نتبع عقيدة الإمام الخميني وفكره» .
وبعد موت الخميني انتقلت التبعية لخليفته علي خامنئي الذي عيَّن في العام 1995م كلاً من محمد يزبك عضو مجلس شورى حزب الله، وحسن نصر الله الأمين العام للحزب وكيلين له في استلام الحقوق الشرعية من شيعة لبنان وفي مقدمتها الخُمْس بالطبع، كما أن مؤسسات خامنئي هي إحدى أهم مصادر تمويل الحزب الخارجية، وقد صرح خامنئي تعليقاً على المطالبة بنزع سلاح حزب الله كشرط أساس بالقول: «الولايات المتحدة طالبت بنزع سلاح حزب الله، هذا لن يحصل» [صحيفة الحياة]
ثالثاً: حزب الله وسورية من العداء إلى التحالف:
كانت حركة أمل الشيعية في لبنان تحمل وجهات علمانية، أو على الأقل لم تكن تحمل فكراً دينياً متشدداً مثل حزب الله، وكانت حركة أمل حليفاً لدمشق في لبنان، وعندما برز حزب الله للعلن بدأ في سحب البساط من تلك الحركة بتأييد إيراني، ونشأ عن ذلك صراعات وخلافات تطورت إلى حد القتال المباشر نهاية الثمانينيات ولمدة عامين متصلين، ونتج عن التقاتل الشيعي 2500 قتيل و5000 جريح أغلبهم من حركة أمل، إلى أن تم احتواء الموقف من قِبَل دمشق وطهران مطلع التسعينيات، وأصبح حزب الله الأقوى في الساحة الشيعية، وبدأ النظام البعثي في مد جسور التعاون مع الحزب بدعم إيراني لتكوين إطار شيعي ممتد من إيران إلى لبنان، وتأسست العلاقة بين الحزب وسورية على أساس المصالح السياسية المشتركة في لبنان. يقول أبو سعيد الخنساء من عناصر حزب الله: «إن بعض أصدقائنا كانوا ينظرون إلى سورية كعدو ولو لم يتدخل السيد القائد ـ علي خامنئي ـ مباشرة لما صححت هذه النظرة» . [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي] .
ومؤخراً تلاقت المصالح بين الطرفين على وجوب السعي لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة، وخاصة أن مستوى الجرأة الصهيونية تجاه دمشق يتزايد باضطراد، والتهديدات لا تتوقف بخصوص الوجود الفلسطيني الفصائلي في دمشق، كما أن الخلافات السياسية اللبنانية تفاقمت وبات من الصعب توجيهها بالصورة التي تخدم مصالح الطرفين، فكان لا بد من البحث عن وسيلة لإعادة ترتيب الأوضاع وفق ترتيبات جديدة.
رابعاً: طهران وسياسة تصدير الحروب:
دخل نظام الملالي منذ عدة أشهر في صراعات سياسية مع الغرب وأمريكا تحديداً، بعد الإعلان عن تخصيب اليورانيوم في المفاعلات الإيرانية، ولأن الطرفين يحرصان على عدم تصعيد النزاع إلى الصدام المباشر، فقد أصبح العراق ميداناً غير مباشر للتنافس بين البلدين، وصدَّرت إيران سياستها التصادمية عبر الأحزاب والميليشيات الشيعية، ولكن مع تصاعد الضغوط الغربية وتوقع تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن واحتمال فرض عقوبات اقتصادية، كان لا بد من البحث عن ساحة أو وسيلة إضافية لتفريق الضغوط الغربية، وكان أحد الخيارات المطروحة استخدام ما يعرف بـ «خيار شمشون» في مواجهة فرض حصار جوي واقتصادي على إيران، حيث تقوم طهران بمنع وصول الإمدادات النفطية من الخليج إلى بقية دول العالم. يقول محمد نابي روداكي عضو في مجلس الأمن القومي ولجنة السياسة الخارجية في البرلمان الإيراني: «في حال اتخاذ قرار بالحظر الجوي أو الاقتصادي فلن يتم تصدير ولو قطرة نفط واحدة من المنطقة. إن جمهورية إيران لديها المقدرة على منع تصدير النفط من ساحل الخليج ومن نفطنا إذا ما أخفقت أوروبا في تناول القضية النووية بحكمة. [دورية مختارات إيرانية، العدد 71] .
ولكن كان هناك خيار آخر هو «الحرب الاستباقية عن بُعد» التي تشعل المنطقة وتصرف الأنظار عن الملف النووي الإيراني، وتكسب طهران ورقة تفاوضية جديدة، كما تدعم تأثيرها الإقليمي من خلال قدرتها على إثارة المشكلات والأزمات، ولعل من الشواهد المؤيدة لهذا التحليل الحرص الإيراني على توفر البعد العسكري لدى الأقليات الشيعية التي تدعمها في دول أخرى، وهذه حقيقة ثابتة لا يمكن التشكيك فيها.
خامساً: الهدف الحقيقي من عملية حزب الله:
أعلن حزب الله عن عمليته التي سماها «الوعد الصادق» وذلك نسبة إلى الوعد الذي قطعه حسن نصر الله على نفسه أن يشارك سمير قنطار المعتقل في السجون الصهيونية في احتفالات التحرير القادمة 25 مايو، وبذلك يكون الهدف الرئيس المعلن من العملية تنفيذ عملية تبادل موسعة للأسرى في سجون الكيان الصهيوني.
ولكن هذا التخريج للأحداث يبدو عسيراً على القبول، وذلك لتوفر مؤشرات وشواهد كثيرة تدعم تحليلاً آخر يقول إن حزب الله نفذ حرباً بالوكالة نيابة عن طهران، وأن الهدف لم يكن تنفيذ عملية تبادل للأسرى، أو حتى تغيير قواعد اللعبة من خلال تفعيل أسلوب الاختطاف باعتباره وسيلة ردع، ولكن كان الهدف الأساس من كل ذلك هو استدراج العدو إلى حرب مكشوفة تكون الخيارات فيها مفتوحة لقصف المدن الصهيونية بالصواريخ ـ الإيرانية والسورية ـ وهو ما يعني ابتكار وسيلة ردع جديدة يفتتحها حزب الله، وهي القصف المتبادل في العمق المدني والعسكري. وكان واضحاً منذ بدء الأزمة أن حزب الله لديه أجندة محددة وخطوات مرتبة، وتصعيد مدروس ومتدرج في تنفيذ عمليات القصف على المدن، بل وفي إدراجها في سياق رد الفعل ـ الردعي ـ على القصف الصهيوني، كما كان هناك تقسيم دقيق للأهداف لا يحرقها جملة واحدة، وبذلك أصبح وارداً ومحتملاً وقريباً أن يتعرض العمق الصهيوني للقصف بصواريخ أقوى تأثيراً في حال تعرض إيران وسورية لهجمات أمريكية أو صهيونية، ولدى البلدين صواريخ تصل إلى عمقها بسهولة، وقد كان واضحاً تطور مستوى الدقة في إصابة صواريخ حزب الله لأهدافها.
وبذلك تكون عملية الوعد الصادق ليس المقصود بها تحرير الأسرى، ولكن تقديم صورة لما يمكن أن يحدث في حال تعرض إيران أو سورية لهجمات أمريكية، وأيضاً تفعيل وسيلة الردع الجديدة. وهناك كما قلنا شواهد تؤيد هذا التحليل نذكر أهمها فيما يلي:
1 ـ عملية «الوهم المتبدد» التي نفذتها حماس قدمت نموذجاً ومثالاً عملياً واضحاً لرد الفعل الصهيوني لا يمكن أن يغيب عن أي متخذ للقرار داخل حزب الله، وبذلك لا يمكن أن يكون الحزب قد فوجئ بمستوى رد الفعل الصهيوني كما يرجح بعض المراقبين.
2 ـ أسرى الحزب في سجون العدو تراجع عددهم كثيراً وأبرزهم ثلاثة فقط هم يحيى سخاف، وسيم نصار، سمير قنطار. ولا يبدو معقولاً أن يُقْدِم الحزب على مغامرة خطيرة كهذه من أجل تحرير قنطار من الأسرى وليس أسيراً واحداً، وخاصة أن الحزب نجح بالفعل في إتمام صفقة تبادل لـ 314 أسيراً لبنانياً وفلسطينياً مع الكيان الصهيوني منذ سنوات مقابل ثلاث جثث متحللة لجنود صهاينة، وكان يمكن بسهولة الاحتفاظ ببضع جثث من عملية الوعد الصادق لمبادلتها لاحقاً، وذلك بلا شك سيكون أخف وطأة.
3 ـ امتلكت الترسانة العسكرية لحزب الله كميات كبيرة ومتطورة من الصواريخ في الفترة الأخيرة، وقدرت مصادر مخابراتية صهيونية عدد الصواريخ بنحو 10 آلاف إلى 15 ألف صاروخ، من بينها فجر 3 وفجر 4 وفجر 5 ويصل مداها إلى أبعد من مدينة حيفا التي تبعد 40 كم فقط عن حدود لبنان، ويمتلك الحزب صاروخاً يصل مداه إلى 150 كم وهو قادر على الوصول إلى العاصمة تل أبيب التي تبعد 120 كم فقط عن حدود لبنان، وترجح التقارير امتلاك الحزب لـ 100 صاروخ فقط من هذا النوع، وقالت تقارير أخرى إن الحزب أطلق صاروخ أرض بحر من نوع سي 208 يتخطى مداه 100 كم وهو من الصواريخ المتطورة جداً في العمليات البحرية. [صحيفة المصري اليوم 17/7/2006م] .
4 ـ في حوار مع صحيفة الحياة قال وليد جنبلاط: «الجواب الفارسي لموضوع التخصيب ما حصل في لبنان» وأضاف: «هذه الترسانة المتطورة لا تأتي من العبث، تقول إيران لأمريكا تريدون محاربتي في الخليج أو ضرب المنشآت النووية، نصيبكم في عقر داركم في أرض العدو المحتلة، وساحة المعركة طبعاً لبنان» . [الحياة 21/6/1427هـ] .
5 ـ توقيت عملية الوعد الصادق في حال افترضنا صحة الهدف المعلن لها، سيكون عجيباً جداً، وخاصة أن هناك عملية سابقة نفذها الفلسطينيون ولم يقبل الكيان الصهيوني حتى الآن بتنفيذ عملية تبادل للأسرى، وعملية نوعية كهذه تحتاج إلى تخطيط طويل المدى وتنتظر فقط قراراً سياسياً، وقد قال حسن نصر الله بصراحة: «نحن الذين نختار الزمان والمكان، ولا يستطيع العدو أن يفرض علينا الوسيلة أو زمن اختيار الوسيلة» إنه إذن اختيار عجيب. [صحيفة الحياة] .
ü الرد الصهيوني القوي دليل على الضعف:
كان إيهود أولمرت رئيس وزراء دولة العدو في زيارة لمنزل الجندي المخطوف في غزة يعد والده بقرب إطلاق سراحه، عندما جاءه السكرتير العسكري للحكومة بخبر اختطاف جنديين آخرين في جنوب لبنان، وكانت الصدمة قوية لدرجة أن اتخاذ قرار الحرب المفتوحة على لبنان جاء سريعاً جداً ودون دراسة كافية لأبعاده، وقد نقلت الصحافة الصهيونية أنه في مجلس الوزراء المصغر الذي اتخذ قرار الحرب على لبنان، كان شيمون بيريز الوزير الوحيد المعترض، وكان سؤاله لرئيس الأركان دان حلوتس عن الخطوات التالية، وقال إنه يفهم الخطوة الأولى والثانية، ولكن لا يفهم الثالثة والرابعة، وجاء رد حلوتس معبراً، فقال: إن الخطوة الثالثة مرتبطة بالخطوة الثانية، وإن الرابعة مرتبطة بالثالثة، وكلها مرتبطة بما سيحدث على أرض الواقع. [صحيفة الفجر 17/7/2006م] . وقد جاء تهديد وزير الدفاع الصهيوني (عامير بيرتس) المفاجئ بأن دولتهم يمكن أن تحتل لبنان عشرين عاماً، ليبرز مدى التخبط حول الخطوات التالية بالفعل، كما أن حزب الله نجح في أن ينافس الجيش الصهيوني في منظومة الفعل ورد الفعل؛ فبعد أن كان الحزب يهدد بأن قصف الضاحية الجنوبية سوف يكون خطاً أحمر، صرحت حكومة العدو بأن ضرب حيفا خط أحمر، ولما ضُربت حيفا أمر الجيش سكان الجنوب اللبناني بالرحيل إلى الشمال، كما هدد الحزب بضرب المنشآت البتروكيماوية في حيفا وغيرها.
والمثير في المشهد السياسي الصهيونيي والذي يكشف عن مستوى المفاجأة أن الحكومة التي يرأسها ويشغل منصب وزير دفاعها مدنيان للمرة الأولى في تاريخ الكيان الصهيوني منذ عام 1948، كانت قد وافقت بإجماع 18 وزيراً وامتناع 8 عن التصويت على تخفيض ميزانية وزارة الدفاع بمبلغ نصف مليار شيكل، ولا شك في أن تعديلاً سيطرأ على الميزانية بعد أن تضاف تكلفة شن حرب مفتوحة ضد لبنان لا يعلم على وجه التحديد متى تنتهي وما تبعاتها.
وقد ذكرت صحيفة هآرتس اليهودية خبراً لو تأكد فسوف يكون مؤشراً على مستوى الضعف السياسي الذي بلغته الحكومة الحالية بقيادة أولمرت والتي تعرضت لخمس طلبات لسحب الثقة منها في الأيام الماضية من أحزاب المعارضة بما فيها الليكود.
قالت هآرتس: إن يوفال ديسكين رئيس جهاز الشاباك الذي التقى (أبو مازن) سراً في الأردن نقل إليه رسالة شبه رسمية مفادها أن تل أبيب لديها استعداد للتفاوض حول صفقة لإطلاق أسرى مقابل الجندي الأسير ولكن مع (أبو مازن) وليس مع حماس. وقال ديفيد وولش مساعد رايس في مؤتمر صحفي عقب محادثاته مع أبو مازن في رام الله: إن قضية الأسرى قضية عاطفية بالنسبة للفلسطينيين ولا بد من معالجتها بين عباس والجانب (الصهيوني) بعيداً عن التدخلات الخارجية. [صحيفة المصري اليوم 16/7/2006م] .
ü المرآة اللبنانية والعجز العربي:
أخطر ما في الحرب أنه لو نتج عنها نصر واضح للجيش الصهيوني فسوف يكون ذلك بادرة غير مسبوقة لها انعكاساتها على المنطقة في المرحلة القادمة؛ حيث سيعني ذلك أن حكومة العدو نجحت في تنفيذ سياسة ردع جديدة وفعالة عن طريق استخدام رد فعل هائل يتضمن كل الأعمال الوحشية من قتل وتدمير وتهجير، في مواجهة فعل متوسط أو محدود، ومع استحضار ردود الفعل العربية والدولية الباهتة فإن مستقبل المقاومة سيكون في خطر كبير، وستكون هناك حسابات جديدة ربما تؤدي إلى تقهقر المقاومة، وخاصة أن الانتقال من استهداف المدنيين إلى التركيز على الأهداف العسكرية لم يخفف من الضغوط على المقاومة، بل تأتي الأحداث الأخيرة لتدفع بمسار المقاومة في اتجاه معاكس تماماً، وبذلك تكون الحسابات الإيرانية في المنطقة العربية قد أحدثت ضرراً كبيراً للمقاومة التي تزعم طهران تبنيها ودعمها.
وعلى الجانب العربي أصبحت الدول ذات المشكلات الطائفية والعرقية تعكس بوضوح مستوى الفعل السياسي العربي المتدهور دائماً، والذي انتقل من سياق رد الفعل الذي كان مثار الانتقاد إلى سياق الفعل المُعادي، بحيث إن وزير شؤون الهجرة الصهيوني (زئيف بويم) رحب بالضغوط المتصاعدة التي مورست على حزب الله بشكل شجاع جداً داخل لبنان، وكذلك من جانب الدول العربية المعتدلة [صحيفة المصري اليوم 16/7/2006م] .
ويمكن تلخيص دلالات الموقف العربي تجاه الحرب على لبنان في المؤشرات التالية:
1 ـ تحولت بعض الدول العربية إلى ساحات للصراع وميادين للحروب بالوكالة بين أطراف دولية وإقليمية، وتطور نفوذها داخل الدول العربية إلى التفاوض المشترك بعيداً عن أي طرف عربي حتى لو كانت مصالحه مرتبطة بالدولة محل النزاع، وبعد أن دعت واشنطن طهران إلى مفاوضات مباشرة حول العراق، تسعى إيران حالياً للمشاركة في أي مفاوضات تتعلق بلبنان، وقد كشف الرئيس المصري أن طهران كانت ترغب في المشاركة في جهود الوساطة العربية لدى حزب الله، وقال: «إن الإيرانيين طلبوا حضور اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب وتشكيل لجنة مشتركة تضم حزب الله وحماس، لكن مصر أدركت أن هذا فخ» . (الحياة 21/6/2006م) .
2 ـ لا تزال الدول العربية عاجزة عن التعامل مع الأمر الواقع، وتصر لاعتبارات الرأي العام ولافتقاد كل قدرة على الفعل على تداول مصطلحات ومسميات لم تعد ذات قيمة في الصراعات الدولية، مثل: دور المجتمع الدولي ـ دور الأمم المتحدة ـ وساطة الولايات المتحدة ـ المصالح العربية المشتركة.
3 ـ الدور المصري منذ استلام شارون للسلطة في عام 2001م طرأ عليه تغير إستراتيجي لم يهتم به كثير من المراقبين، وهو الانتقال من دور اللاعب والمفاوض الرئيس إلى دور الوسيط، والذي تتمثل قيمته في ممارسة الضغوط على الطرف الفلسطيني أو العربي.
4 ـ لم يعد بالإمكان تجاهل حقيقة أن الأقليات العرقية والطائفية بمثابة قنابل تنتظر تفجيرها من قِبَل أعداء العالم العربي، وقد انضمت إيران إلى قائمة الدول التي تسعى إلى اللعب بهذه الورقة لتحريك الأحداث داخل الدول العربية بما يتوافق مع مصالحها.
5 ـ رخص الدماء العربية وتراجع مستوى ردود الفعل حتى لدى الرأي العام المحلي والعالمي مؤشر ينذر بالخطر؛ فهذا يعني أن طابور الطامعين سوف يزداد مع رخص الثمن، وأن المنطقة ستظل معرضة لافتعال حروب جديدة يمكن أن تثور لأتفه الأسباب وأسرعها أيضاً، ولا شك أن دخول إيران على الخط سوف يدفع بدول أخرى للتنافس على الكعكة العربية، وخاصة أن هناك بعض الآراء الغربية التي تدعو للقبول بإيران نووية، فقد صرح بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في عهد الرئيس جيمي كارتر خلال مشاورات الوكالة الدولية للطاقة مع واشنطن بشأن اتخاذ موقف ضد إيران قائلاً: «إن الغرب مضطر أن يتعايش بجوار إيران النووية» [مختارات إيرانية 71] .
6 ـ حكومة حماس أصبحت على مفترق طرق، فرغم أن مركز الحدث انتقل إلى لبنان إلا أن الخطر يكمن في النتيجة التي يمكن أن تسفر عنها الأزمة الحالية، وقد بدأت دول عربية بالفعل في التجهز لهذه المرحلة التي يتوقعون فيها انتصاراً صهيونياً، وستكون حماس أولى الضحايا، ولعل المؤشرات بدأت بالظهور؛ فقد تم إلغاء مؤتمر صحفي لمحمد نزال القيادي في حماس كان مقرراً عقده بالقاهرة التي كان يزورها للالتقاء مع اللواء عمر سليمان مدير المخابرات، وأُخبر نزال أن حياته في خطر؛ لأنه مدرَج على قائمة الاغتيالات الصهيونية، فاضطر للعودة إلى دمشق. [صحيفة الأسبوع المصرية 17/7/2006م] .
ويبقى في النهاية تساؤل بسيط في ألفاظه عميق في دلالاته، وهو: ما هي الخطوط الحمراء لدى الدول العربية التي لا يسمح بتجاوزها من قِبَل الولايات المتحدة، أو العدو الصهيوني؟ وهل يمكن القول إن العالم العربي قد تحول بأسره إلى أفق أخضر؟
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يلطف بأمتنا المسلمة، وأن يكفيها شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.(227/16)
رسالة مفتوحة إلى رئاسة المحاكم الصومالية
هيثم بن جواد الحداد
تواردت الأنباء عن سيطرة رئاسة المحاكم الصومالية على أنحاء العاصمة (مقاديشو) ، ولا شك أن هذا خبر مفرح للغاية، إذ لا شك أن كل طالب للأمن يتمنَّاه لغيره، ويسعد به إن تحقق في أي بقعة من الأرض. ناهيك عن أن هذا الأمن إذا تحقق، فإنه أمن حقيقي يجلب سعادة الدنيا والآخرة للبشر، إنه أمن الإسلام، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124 - 127] .
وقد يقول قائل: إنه من المبكر الحديث عن تداعيات هذا الخبر ونتائجه. إلا أن خطورة الموقف، وحجم النتائج المتوقعة عليه تُوجب سرعة التحرك مع شيء من العجلة في إبداء الرأي الذي إن لم ينفع فإنه لن يضر بإذن الله ـ تبارك وتعالى ــ ... والمسلمون في الصومال بأشد الحاجة إلى نصحٍ من إخوانهم المسلمين في كل مكان؛ لترشيد المسيرة، والمحافظة على هذه المكتسبات التي أُريق دونها دماء كثيرة خلال ما يقارب العقدين من الزمن.
وهذه بعض معالمٍ، مساهمة في النصح عسى الله أن يكلل هذه الجهود بالنجاح.
1 ـ لا شك أن الشعب الصومالي شعب مسلم أبِيُّ، لا يقبل بغير الإسلام ديناً مهما عادت عليه العوائد وطحنته الحروب، بل إن المحن التي تمر به ـ كما هي الحال في كل بلد مسلم ـ لا تزيده قناعة إلا بأن الإسلام هو الحل لنيل سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، وهذا هو شعب الصومال يفصح عن هذه الحقيقة بكل جلاء ووضوح، فقوات المحاكم لم تكن لتبسط سيطرتها على العاصمة، ولم تكن لتكسب جولات القتال الذي استمر قرابة الأربعة أشهر؛ دون دعم لوجستي ومعنوي من أبناء الصومال، وهذا فيه دلالة أكبر من دلالات نتائج الانتخابات على أن الشعب لا يريد إلا الإسلام، ولا يثق إلا بالعلماء والدعاة وأهل الصلاح، فهذا الدعم الذي قدَّمه لهؤلاء العلماء والدعاة لا يقتصر على مجرد ورقة يضعها في صندوق الاقتراع، بل إنه يعكس رغبة الشعب الصومالي (على الأقل في مدينة مقاديشو) في التضحية بالنفس والمال من أجل أن يحكمه الإسلام.
2 ـ يبدو بعد هذه الحوادث ـ ومثلها دلالات وصول حركة حماس للسلطة ـ أنّ أكبر مشكلة يواجهها الإسلاميون ليس كسب الثقة، وليس الوصول إلى سدة الحكم؛ ولكن كيفية المحافظة عليه في ظل عالم تحكمه قوى تعمل بكل ما تستطيع لإفشال أي مشروع إسلامي صادق، وهذا تحدٍ شرعي سياسي يتطلب قدراً عالياً من العلم بأصول السياسة الشرعية، وكيفية تنزيلها على هذا الواقع المعقد ... ولهذا فإن أي حركة إسلامية تتأهل إلى مثل هذا المنصب لا بد أن تراجع حساباتها بكل دقة وصراحة لتكشف لنفسها أولاً: عن درجة استيعابها لهذا العلم، فهماً وتطبيقاً ... وهنا لا بد أن نقول بأنه: قد لا يكفي أن تعتمد الحركة على المصادر الخارجية أو الأجنبية من علماء ومشايخ عند التعامل مع قواعد السياسة الشرعية فيما يتعلق بما تواجهه من مشكلات وتوازنات صعبة، بل لا بد أن يكون منها نفسها علماء في هذا المجال يجمعون بين العلم بقواعد الشريعة لاسيما علم أصول الفقه، مع العلم بالواقع الذين يعيشون فيه.
3 ـ قد يكون من السياسة الشرعية في ظل الواقع المعاصر، ولمرحلة مؤقتة أن يتجنب الإسلاميون الوصول إلى السلطة، أو الاستمرار فيها إن وصلوا إليها؛ لأن حجم المؤامرات التي ستحاك ضدهم، وحجم المعاناة التي ستواجههم، وحجم المسؤوليات التي ستناط بهم من الضخامة بحيث تجعلهم عرضة ـ من ناحية ـ إما للتنازل عن بعض ثوابتهم التي بسببها منحهم الشعب ثقتهم فوصلوا إلى السلطة، وعندئذ سيكون الفرق بينهم وبين مخالفيهم يسير، بل إن الشعوب ستنظر إلى المشروع الإسلامي بعين الريبة؛ إذ قد تستدل بذلك على فشله في مواجهة الواقع ... وإما ـ من ناحية أخرى ـ قد تجعلهم عرضة للفشل في إدارة البلاد في ظل هذه الأعباء والصعوبات المتزايدة ... والخروج بحكم أو قرار نهائي في هذه المسألة ليس بالأمر الهيّن، ويحتاج إلى مشورة واسعة، وفهم عميق، ومن قبل ومن بعد استعانة بالباري ـ جلّ وعلا ـ للهداية إلى سواء السبيل، وهو لا شك من أمور الاجتهاد التي لا يثرب فيها على المخالف، لكن سلوك جانب السلامة وعدم المخاطرة في مثل هذه الأمور هو المتعين.
وعليه فقد يكون من السياسة الشرعية في الشأن الصومالي ـ وأي شأن مشابه له مشترك معه في مناط الحكم ـ أن يعمد الإخوة القائمون على حركة المحاكم الإسلامية بالتنازل عن السلطة، أو بتسليم مقاليد الأمر للحكومة المؤقتة أو من يقوم مقامها، ولو كمرحلة أولى، بعد أخذ الضمانات الكافية في عدة أمور، من أهمها: التأكيد على هوية البلاد الإسلامية من خلال الدستور، وكذا التأكيد على نص الدستور لتحكيم الشريعة الإسلامية، ومنح ميزات للجهاز القضائي من أهمها استقلاله ـ بنص الدستور كذلك ـ، ووضع الضمانات الكافية لعدم اختراق أهل الحل والعقد ـ وهم العلماء والقضاة ـ لضمان استقلاليتهم، ومقدرتهم على الأخذ بزمام المبادرة إذا ما عصفت بالبلاد العواصف.
وعليه فقد يكون من السياسة الشرعية كذلك، أن يعمل الإخوة هناك بقاعدة التدرّج في تطبيق بعض الأحكام الشرعية. ومسألة التدرج هذه من أعوص المسائل وأشكلها، وتحتاج إلى بحث مستقل، حبذا أن ُتبحث من قبل أهل الحل والعقد الذين يواجهون مشكلات قد تتطلب إناطة كيفية تطبيق الأحكام بها. فمنع المنكرات ـ مثلاً ـ لاسيما هذا القات الذي ابتلي به كثير من أهل الصومال، لا يمكن أن يتم دفعة واحدة، فقاعدة تزاحم المصالح والمفاسد هنا توجب التَّرّوي في منع هذا المنكر بالكلية وعلى البت، وهذا يُعمل به حتى مع القول بعدم الأخذ بالتدرّج في تطبيق أحكام الشريعة بعد المرحلة المكية، فيمكن مثلاً ـ وأنتم لا شك أعلم بذلك ـ وضع رسوم باهظة على بيع القات، ووضع عقوبات على من ارتكب جرماً بسببه، ولنا في الطريقة القرآنية في منع الخمر خير مثال، فيمكن ـ مثلاً ـ منع تعاطي القات في أوقات معينة مع ما تقدم، وهكذا ... المقصود ألاَّ يأخذنا الحماس في تطبيق الشريعة، أو منع المنكر لفعل ما يؤدي إلى منكر أعظم، وهذا ممّا اتفقت عليه كلمة العلماء، وقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «إنما نزل أول ما نزل من سورة المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء «لا تشربوا الخمر» لقالوا: لا نترك الخمر أبداً. ولو نزل «لا تزنوا» لقالوا: لا ندع الزنا أبداً.» . ومن خير الأمثلة التي تشبه واقعنا ووصول الإسلاميين إلى الحكم في بعض البلاد؛ وصول الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز إلى سدة الحكم بعد فترة من الابتعاد ـ النسبي ـ عن نهج النبوة في الحكم، فقد قال له ابنه عبد الملك يوماً: «ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق» وكأنه قال له: لِمَ لا تطبق الشريعة تطبيقاً فورياً؟ بصرف النظر عن النتائج! فجاءت إجابة فقيه مسدد حكيم: «لا تعجل يا بني! فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرَّمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة» .
ولنتذكر جميعاً أن الشعب الصومالي رزأَ أزمنة في ظل أوضاع ومؤثرات تفرز خليطاً غريباً من الشخصيات، فقد عاش الجيل مدة طويلة تحت حكم طاغية، ثم نشأ جيل آخر منه لا يعرف إلا العَوَز، ولا يفهم إلا لغة العنف والأخذ بقوة، الأمر الذي يوجب صبراً طويلا في التعامل مع هذا الجيل، والعمل بقاعدة {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، لاسيما مع الأفراد ... وربما تحتاجون لدراسة شرعية عميقة تتعلق بأحكام المظالم والدماء التي وقعت بين الناس أثناء فترات الحروب تلك.
ثم ليُعلم أن تطبيق أحكام الشريعة لا يقتصر على منع المنكرات، وإقامة الحدود، وتطبيق العقوبات الشرعية، كما يساء فهمه؛ بل الأمر أعم من ذلك بكثير، فهناك توفير احتياجات الناس الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن، فالتوزيع العادل للثروة، وأخذ الزكاة وصرفها على المستحقين، ومنح الناس الحرية المضبوطة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم، وحتى عن نقدهم للحكام والمسؤولين، وتوفير آليات فعَّالة للتظلم، والسهر على مصالح الخلق، كل ذلك من تطبيق الشريعة ... ولا شك أن الأمر أوسع من أن يحويه مقال كهذا.
4 ـ لا يخفى ـ على ما شرَّفكم الله به من علم وفقه ـ أن انتصاركم هذا ليس مجرد انتصار محدود في شأن داخلي؛ بل إنما هو حدث قد يكون مفصلياً في تاريخ القرن الأفريقي، فالصومال تمثل دولة من أهم دول هذا القرن، لعدة أمور لا تخفى على أحد؛ فنسبة المسلمين المقاربة لـ 100% ومساحة البلاد الشاسعة، وموارده التي حباها الله له، وسواحله التي تعتبر أطول سواحل لبلد إفريقي، وقربه من منطقة البحيرات، ومنابع نهر النيل، وقربه كذلك من (السودان) بتوجهه الإسلامي، والذي يمكن أن يمثل معكم فكَّيْ كماشة لكل من (إريتريا) و (الحبشة) وربما (كينيا) ، وكل ذلك يجعل أعين القوى الصليبية يقِظة كل اليقَظة لجميع ما يجري فيه، وغير بعيد عنكم الوجود الأمريكي في بلادكم، الأمر الذي يوجب يقَظَةً غير عادية في التعامل مع ما وصلتم إليه، وما ينتظركم.
5 ـ حذارِ كل الحذر ـ وأنتم خير من يعلم؛ وإنما هي من باب فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ـ من التصريحات العنترية التي تثيرها أحياناً نشوات النصر والتي اعتاد بعض الإسلاميين على استعمالها في خطاباتهم لاسيما عند الحديث عن العلاقة مع الغرب، أو مع أعداء الله، فدولة ناشئة لا تريد أن تفتح جبهات كثيرة عليها، ويكفيها تحدي تلك الجبهة الداخلية التي تواجهها، ولا أقصد بالجبهة الداخلية هنا مجرد الجبهة العسكرية، ولكن ثمَّت ما هو أكثر صعوبة من تلك الجبهة العسكرية؛ فالمصاعب الاقتصادية الداخلية، وتوفير الحياة الكريمة للمواطنين قد تكون أكبر من التحديات الخارجية، بشقَّيْها العسكري والسياسي، وعليه فلا داعي أبداً لما يثير كل من يتربص بكم وبالإسلام، والعمل بالمداراة والتروية أصل شرعي عند الحاجة إليه، وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها عشرات الأمثلة على ذلك ... فلا داعي ـ مثلاً ـ للحديث عن الجهاد في خارج حدود حكمكم في هذا الوقت، ولا داعي ـ أيضاً ـ للحديث عن الانتصار للمستضعفين من المسلمين مثلاً ... وهكذا، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يتحدث عن الجهاد أبداً في مرحلته المكية، وصبر على رؤية صحابته وهم يعذبون أثناء تلك المرحلة.
6 ـ لا شكّ أن الحديث عن الوحدة أخذ حظاً وافراً ممَّا يصلكم من كتابات، ولو لم يكن إلا قول الله ـ جلَّ وعلا ـ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} مذكراً وواعظاً لكفى بذلك كل صاحب لب، وفي ضوء ذلك فإنه يجب على الجميع أن يتذكر أن النزاع في مثل حالتكم، والعدو يتربص بكم الدوائر يعد خيانةً لله ورسوله وللأمة، ولا يقوم به إلا خائن عميل، حيث لا مجال لإحسان الظن بنية من يقوم به، ولذا فإن الواجب على أهل العقد والحل فيكم نبذ كل وسيلة تؤدي إلى النزاع، ومن وجد في نفسه رفضاً لاتجاه الجماعة أو الأمير، فعليه إمَّا أن ُيلِزم نفسه بالعمل بما لم يقبله رأيه، وإما أن يعتزل ولا يُحِدث أي فتنة أو شق للصف، وليحتسب في ذلك الأجر، هذا هو السبيل العملي للوحدة، ولا بد لنا جميعا أن نتعلم التنازل عما نراه الحق ـ ولو ظننا أن الأدلة دامغة عليه ـ في مقابل المصالح العليا للأمة، فإنْ عَجَزنا عن مثل هذا الموقف، فلا أكثر من أن ننسحب بهدوء.
7 ـ لا شك أن هذا الانتصار التي حققته تلك القوى الإسلامية سيفصح عن رسالة صارمة وقوية لكل القوى التي تحارب الإسلام في هذه الأيام: بأن الأمة المسلمة لا ترغب إلا في الإسلام، ولن تسلم رقبتها إلاّ إلى للإسلام، وأنها لا تمانع يوماً من الأيام أن تضحي بحياتها وكل ما تملك من أجل الإسلام. فعلينا أن تعترف بالإسلام، وعليها أن تحترم ـ وهنا نحن نخاطبها بلغتها ـ رغبة الشعوب، وعليها أن تدرك أن الإسلام قادم لا محالة، فبرغم جميع المحاولات الصليبية لدحر الإسلام وأهله، إلا أنه يعود وبصورة أقوى ممَّا كان عليه قبل، فتجويع الشعوب وإدخالها في حروب طاحنة أعادها إلى الإسلام وبقوة، كما أن المحاولات العكسية من إغراق الشعوب في الترف أعادها إلى الإسلام، فلتعترف القوى الصليبية بهذا، ولتكفَّ عن مزيد من استثارة الإسلام وأهله، وإلا ستكون العاقبة وخيمة عليها، وعلى من يدور في فلكها.
8 ـ وهنا لا بد من التذكير ـ أيها الفضلاء ـ أن الغرب لا يفهم إلا لغة القوة، فحذار حذار من الانبطاح له بحجة الحكمة وما يسمَّى بفقه الاستضعاف، ففرق بين الاستعداء وبين الانبطاح، وما رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منبطحاً للكفر، وحاشاه أن يفعل ذلك، بل على العكس من ذلك، فلا بد أن تكون رسالتكم للغرب واضحة، بأنكم لستم طرفاً في أي صراع دولي، ولستم امتداداً لجهة معينة، لكنكم مع ذلك لن تقفوا مكتوفي الأيدي عن أي تدخل في شؤونكم، وستدفعون كل ما تملكون من مال ونفس لصيانة كرامتكم، وحفظ بلدكم، فلا بد أن تطالبوا الغرب باحترامكم، والكف عن استثارتكم وإيقاد نار الفتنة بين شعبكم، ولا بد أن يعلم الغرب أنه سيخوض معركة خاسرة بكل المقاييس إذا ما حاول التدخل في الشأن الصومالي، فشعب خاض أكثر من ستة عشر عاماً من الحرب الأهلية أعتى على المحتل من شعب مسالم لا يعرف الحرب، وشعب خسر كل شيء لن يكون لديه ما يحرص على ألاَّ يخسره، وسيحاول جهده إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالطرف الآخر.
9 ـ لا شك أن ثمة رسالة قوية تنبعث من ثنايا هذا الانتصار لتصل وبطريقة غير مباشرة إلى أهل العلم، والقضاة، والدعاة، وأهل الخير، بأنهم هم القادة الحقيقيون للأمة المسلمة مهما عدت عليها العوائد، وإنه والله لأمر يثير عشرات الأسئلة أن نرى هذا الشعب الذي طحنه الاقتتال والقبلية، والفقر، وربما الجهل، طحنه ذلك لأكثر من ستة عشر عاماً بل ربما أكثر ـ ولا نريد أن ننسى فترة حكم الهالك زياد بري ـ يقرر أن الحل يكمن في تسليم رقبته لحفنة من «المشايخ، التقليدين، الذين لا يفقهون في السياسة، ولا في الأمور العصرية» كما يُوصَمون دائماً ... إنها رسالة قوية وبليغة لكل عالم، وقاضٍ، وداعية، وشيخ، أنه ـ شاء أو أبى ـ من قادة الأمة، وأن مسؤوليات ضخام ستلقى على عاتقه يوماً ما، وأن الشعب يوماً سيمنحه ثقته، وأن هذا ليس ببعيد في ظل عالم إسلامي عرضة للحرب والدمار في أي وقت من الأوقات، إنها رسالة صريحة، ومباشرة، وصارمة، فعليهم أن يعوا مضمون هذه الرسالة، وأن يكونوا بقدر تلك المسؤولية ... والله من قبل ومن بعد محاسبهم.
نسأل الله بكل اسم هو له سمَّى به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علَّمه أحداً من خلقه أن يُكَلِّل هذا النصر بالنجاح، وأن يحُفَّه بانتصارات أخرى من قبل مسلمين آخرين، والله يتولى الجميع بحفظه، ورعايته، هذا ما تيسر، وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى والرحمة.(227/17)
والعرب حاضرة ... والفرس عائدة ... والعرب نائمة ...
أمير سعيد
اندثار الدول وظهورها رهين مقادير الله ـ سبحانه ـ تمضي بها سننه ووفقها تسير، أيام يداولها الله بين الناس، فتارة هذه تَغِْلب، وأخرى تدافعها تلك فتُغلَب.
مد وجزر، غلبة واندحار، هكذا تجري الأحداث بالدول والأمم، ومنها دولتا الفرس والروم، القوتان العظميان على مدى قرون طويلة، واللتان تبدوان الآن للعالم بثياب أكثر إبهاراً وأوفر تقنية، من دون أن تفارقهما خصوصية لازمت علاقتهما عبر الزمان، فلا التاريخ يعود القهقرى، ولا السنن تفارق مستجدات الحاضر.
{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 1 - 7] .
هكذا تُليت حلقة واحدة من حلقات الصراع المزمن بين الفرس والروم في محكم التنزيل على أسماع العالم، وفي أول مرة كان التأثير العربي مقتصراً على الرصد والمتابعة والميل لانتصار هذا الطرف أو ذاك، سواء أكان هذا الرصد من كفار قريش أم من المسلمين، فالغلبة الفارسية أسعدت من يناظرها من أهل الأوثان، والكرَّة الرومية فرح لها المسلمون برغم أنهم كانوا على موعد قريب مع منازلة الروم.
التفاعل حينئذ كان سيداً وإن ارتدى لبوس المراقب؛ كون الفريقين (المسلم والوثني القرشي) أقل استعداداً للدخول كخصم قوي لأي من القوتين الأعظم حينئذ، فهو مراقب حذق يرمق المستقبل بعين ثاقبة.
لم يكن يعيب المسلمين العرب يومها ألاَّ يشاركوا في هذه المعركة، فتلك ليست معركتهم الآن؛ ففي الأفق معركتهم قادمة، ومن بين سنابك الخيل كان الغبار يوشك أن يطامن بعد أن أثارته كتائب الفتوح ليكشف عن نصر على تلكما الدولتين العتيدتين، أَلَقُ النصر الإسلامي وعبقه غمر المدائن الفارسية وأنطاكية الرومية حاضرتي الإمبراطوريتين المتراميتين الأطراف، سنوات قليلة ما لبثت أن انقضت على نزول الوحي بهذه الآيات حتى ارتفعت البيارق الخضراء في الشرق والغرب، وقرون مضت بعد ذلك، وكاد التاريخ يكرر نفسه في مناخ مختلف، استطالةٌ فارسية ورومية وانكماشٌ عربي رهيب، بَنَتْ الإمبراطوريتان نفسيهما، وأعادتا توطيد أركان حكميهما، ولم يعد العربُ ـ استراتيجياً ـ للفترة المكيّة بل إلى مجاهل التاريخ؛ فدولتا الحيرة الموالية للفرس والمناذرة الموالية للروم قبل الإسلام كانتا أحسن حالاً من الحالة العربية المزرية.
هنا الروم غُلبت من جديد، مُنِيَت بهزيمة تكتيكية نافذة من دون طلقة واحدة، وبعد هيمنة شبه مطلقة رومية (غربية) على العالم وعلى قلبه المتوسط؛ لملمت فارس (إيران) جراح إمبراطوريتها الضائعة لتضع الحصان أمام العربة الأمريكية الطائشة، ومهما قيل من بعد عن تنسيق (إيراني/ أمريكي) أو (فارسي/ رومي) استصحاباً لجملة من المعطيات المؤكدة في هذا المضمار؛ فإن الضربة الفارسية كانت أسبق من كل حدس رانه باحث استراتيجي أو خبير أممي تغص بهم مراكز الدراسات الأمريكية، إذ الحاصل قنوات إيرانية قد سالت فيها مياه الخليج ودجلة والفرات والليطاني، وأوراق طاشت من الحقيبة الأمريكية في لحظة دولية فارقة، وفي حاضر أمريكي مأزوم.
الروم حاضرة، والفرس عائدة، والعُرب غائبة، هذه المعادلة وذاك المشهد، والتاريخ يطرق الأجراس ويقرع الطبول؛ بيد أن الآذان بعدُ صماء، أو ربما سمعت بـ (مهران بن بهرام) القائد الفارسي في (عين التمر) التي كانت تضم إلى جواره القائد النصراني العربي (عقة بن أبي عقة) على قبائل (تغلب) النصرانية إبان زحف (خالد بن الوليد) إليها (12هـ) ، ولم تأبه لشرحه لقادته الفرس لما نزل عن دعوة (عقة) له بترك القتال له، متخلياً عن القتال للأخرق (عقة) : «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم (أي للفرس) وشر لهم (أي الروم) ، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم (أي المسلمين) ، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على (خالد) فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء» ، فما قاله (مهران) لم يكن يحمل إلا أجندة يقرأ منها (ملالي فارس) في هذه اللحظة سياستهم في العراق وغير العراق، «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم (أي لإيران) وشر لهم (أي الأمريكان) ، إنه قد جاءكم من أضاع إمبراطوريتكم، وفل حدكم، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على المقاومة فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء» !
ثمة تعاون بغير جدل، لكنه أفضى إلى إيجاد حالة صراعية جديدة، الصوت الأعلى فيها انفراداً وتمايزاً للإمبراطورية الصاعدة التي غلبت الروم في معركة إقليمية وتسليحية نوعية، وجازت بها من إستراتيجية الاحتواء المزدوج الأمريكية (لإيران والعراق) إبَّان حكمَيْ (ريجان وبوش الأول) ، وتفادت إستراتيجية الحروب الاستباقية ـ إلى أمد ـ في عهدَيْ (كلينتون والأولى لبوش الثاني) إلى إستراتيجية الاحتواء المزدوج من جديد، ولكن هذه المرة بلاعب مختلف هو اللاعب الفارسي الذي بضربة واحدة نفذ إستراتيجيته الخاصة باحتواء الولايات المتحدة والعراق!
إن هناك بالتأكيد أكثر من اعتراض قد ينشأ على هذا التفسير؛ فدونه تفسيرات أخرى ترى الإمبراطورية الفارسية الجديدة مقدمة على حتفها باستعداء الروم بكل جبروتهم العسكري ونفوذهم الواسع، وأن صعودها هو عنوان تآكلها بعد أن أصبحت خطراً على حلف الأطلسي برمته، من الشرق التركي صاحب أكبر قوة أرضية في أوروبا إلى الغرب الأمريكي صاحب أكبر آلة عسكرية جوية وبحرية ودفاعية في العالم، وهذا مفهوم ومعتبر، وآخر يرمي كراته دوماً في سلة تتسع لقواسم تجمع الدولتين (الإيرانية والأمريكية) في معاداة العرب، وعلى مرمى البصر ترى حاجة الأخيرة للأولى في فك الدول العربية، وإعادة تركيبها وفقاً لـ (سايكس بيكو) جديدة لا تضمن أمريكا استقرارها دون الارتكان لشريك آخر غير «إسرائيل» ، ضارباً الذكر صفحاً عن انطلاق السياستين (الإيرانية والأمريكية) من أجندتين غير متطابقتين بطبيعة الحال والمصالح والأيديولوجيات المختلفة، وهو تفسير أيضاً معتبر ـ لكنه مفرط في أحادية منطقه بعض الشيء ـ وتعززه عدة شواهد، منها:
هذه التفسيرات وتلك الاعتراضات لها وجاهتها بالتأكيد كما أسلفت، ولكن ما الذي يدعونا لئلا نصهر هذه الاعتراضات والتفسيرات في بوتقة تجمع الشواهد لا للتعارض؛ وإنما لمحاولة النظر من جديد للأمور بنظرة أكثر شمولاً مستصحبة تجربة تاريخية ثرية وموحية؟ يقول (أ. د محمد السعيد عبد المؤمن) أستاذ الدراسات الإيرانية بجامعة (عين شمس) عن المشروع النووي منذ بدايته في زمن (الشاه) : «يبدو أن (الشاه) قد استطاع أن يعزف على أوتار عقائدية وقومية عند الإيرانيين، فالطاقة النووية تمثل في الوجدان الإيراني قمة الوصول بـ (النار) ذات القيمة الخاصة التي تصل إلى درجة التقديس لغايتها، فلم ينظر الإيرانيون إلى ما سوف ينفقه (الشاه) على هذا المشروع نفس نظريتهم لما أنفقه على احتفال مرور ألفين وخمسمائة عام على تأسيس الإمبراطورية الفارسية، فرغم أن كليهما يمجدان الشخصية الإيرانية إلا أن الأول أدخل إلى الوجدان والعقائد من الثاني، وعندما نجحت الثورة الإسلامية في إسقاط (الشاه ونظامه) قضت على آثار الملكية كلها، وأوقفت مشروعاتها إلا ما ارتبط منها بالجانب الوجداني العقائدي للإيرانيين، ومنها المشروع النووي الذي أصبح إرثًا قوميًّا، على نظام الجمهورية الإسلامية أن يتحمل تبعاته، وإلا فقد أهليته في نظر الشعب» ، فلوعة غياب الدولة الفارسية بجبروتها ونارها المقدسة ما زالت تعمل مفاعيلها التأثيرية النافذة في الوجدان الإيراني، ولم تندمل الجراح التي خلَّفَها انطفاء النار المقدسة قبل أربعة عشر قرناً باتقادها نفطياً من جديد مع الثورة النفطية التي اجتاحتها قبل نصف قرن، وإنما استوجب تأمينُها قوة نووية وصعوداً (تسليحياً وسياسياً) موائماً للرغبة العارمة في إعادة الإمبراطورية الفارسية مجدداً.
ولنرجع ثانية إلى التفسيرات المتعارضة في ظاهرها، جاهدين في لملمتها في صيغةٍ من خلالها يمكن المزج بين التاريخ والحاضر؛ فمن حيث المبدأ لابد من الإقرار بأن الإمبراطوريتين (الرومية والفارسية) وجدتا محطات التقاء على مر التاريخ؛ تخندقتا فيها ضد عدو مشترك، ففي العام الثاني عشر للهجرة وإثر انتصار المسلمين في (ذات السلاسل) كان على القائدَيْن الفارسيين (الأندر زغر) و (بهمن جاذويه) أن يتحالفا مع نصارى الحيرة وقبائل بني تغلب بـ «مباركة» من الدولة الرومية التي تربطها بهما روابط دينية في معركة أليس الصغرى (نهر الدم) ، ولم يكن هذا إلا تكراراً لما تم قبل أربعة أشهر في معركة (عين التمر) ، من «تفاهم» بين الفرس والمتعاطفين مع الروم.
وبعد انهيار الإمبراطورية الفارسية بستة قرون شهد العالم (650 هـ) تحالفاً قوياً بين الدولة الصفوية (وريثة الإمبراطورية الفارسية والبرتغاليين ضد العثمانيين، يقول الدكتور (محمد عبد اللطيف هريدي) : «وهكذا بدلاً من أن يضع الصفويون يدهم في يد العثمانيين لحماية الحرمين الشريفين من التهديد البرتغالي، ولتطهير البحار الإسلامية منهم وضعوا أنفسهم في خدمة الأسطول البرتغالي، لطعن الدولة العثمانية من الخلف، ورغم انتصار العثمانيين عليهم؛ فإن الحروب معهم كانت استنزافاً لجهود العثمانيين على الساحة الأوروبية، وعرقلة للفتوح الإسلامية» [الحروب العثمانية الفارسية ص 70] ، بيد أن التاريخ سائده يتحدث عن تعارض في المصالح بين الإمبراطوريتين، يتحدث ـ أيضاً ـ عن حضارة (بالمعنى المدني لها) لأرض فارس تؤهلها لأن تصعد أو تسعى بإصرار لأن تتبوأ مكانها قوة عالمية مرهوبة في العالم وإن وجدت نفسها في حقبة رومية ـ إن جاز التعبير ـ، فقبل أن نطنب في عرض أدوات فارس لكسر هيمنتها أو اختصار مدتها الزمنية، نعود إلى صفحات التأريخ الصراعية الأبرز هذه المرة:
{الم* غُلِبَتِ الرُّومُ ... } [الروم: 1 - 2] سنة 614 م.
{وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 5] ، وحدث في يوم بدر، أو يوم بيعة الرضوان، أو يوم الحديبية، مثلما ذكر (الإمام القرطبي) في تفسير الآية.
وهو ما يشي بالحالة الأرِقة الدائمة في السجال الحربي بين الإمبراطوريتين العظميين على مر القرون السالفة للإسلام.
والآن تسعى دولة الفرس من جديد للصعود بأدوات تؤهلها لأن تعود إلى الواجهة من جديد، لتغييرها للمعادلة النووية في العالم، واستخدام لغة دبلوماسية بارعة، ومراكمة أوراق لعبتها مع الروم بذكاء مَرَدَ عليه حكماء فارس على مر القرون، ولئن ضيَّقت الولايات المتحدة الأمريكية عليها الخناق في زمن بسطت فيه قوتها العسكرية والاقتصادية الضخمة على العالم، لقد وجدت دولة الفرس ما يعوضها عن هذا الجفاف مع الدولة العظمى، فمدت علاقاتها المتينة مع أوروبا وآسيا، فإيران الآن تشتري الآلات من ألمانيا، والحاسبات والأجهزة العلمية من فرنسا، والمصانع العسكرية من روسيا والصين وما يرافقها من تجهيزات لا عسكرية، ألم يك لافتاً أن تعارض روسيا والصين بشدة قراراً أممياً ضد إيران؟ وأن يعتبر رئيس الوزراء الفرنسي (دومينيك دو فيلبان) أن العمل العسكري «ليس الحل» موضحاً: «لقد اختبرنا سابقاً سيناريو مماثلاً لا يؤدي إلى نتيجة كما حصل في العراق» . (الوكالات 5/5/2006م) ، وأن يُشِير الرئيس الأمريكي فور إعلان نظيره الإيراني عن دخول إيران النادي النووي إلى التباحث مع الشركاء في أوروبا خاصة وألمانيا تحديداً؟ ففي الحقيقة إيران تدير معركتها مع الولايات المتحدة الأمريكية نيابة عن روسيا والصين، وهذه الأخيرة تتساوق سياستها الحالية مع تاريخها الذي كانت فيه ضنينة بالحروب، وتسعى لاستخدام أدوات أخرى للاحتفاظ بقوتها العسكرية لوقت الضرورة، كلا الدولتين لهما مصالح عسكرية واقتصادية جَمَّة لا تقفان عند حد الصفقات التسليحية الهائلة ولا الاستثمار والإمداد النفطي؛ وإنما تتعدى ذلك إلى نشاطات اقتصادية وسياسية أخرى (نسأل عرضاً: لماذا وجدت فارس اليوم ضالتها في دول غير كتابية؟!) ، أما فرنسا التي أدار مرشد الثورة السابق (الخوميني) معركته مع (الشاه) انطلاقاً منها، فهي تحتفظ بعلاقات نفطية متميزة تخترق بها شركة (توتال) الفرنسية جدران الحظر الأمريكية وهمهمات حقوق الإنسان الأوروبية، وأما ألمانيا فإمدادها لإيران بالمعدات الثقيلة لم يبرئ ساحتها من التورط في تزويد إيران بمعدات الطرد المركزي اللازمة لتخصيب اليورانيوم.
إذن الفرس تعود بحبال من الناس متينة، وحين نتحدث هنا عن الفرس فليس بدافع رغبة في جلب تسمية أضحت غوراً في أغماق التاريخ؛ بل لأن هذه التسمية حاضرة فعلاً في لغة السياسة الإيرانية ذاتها، وإلا فلماذا رهنت إيران مشاركتها الرياضية في دورة الألعاب بـ (قطر) هذا العام بعدول الدولة المنظمة عن تسمية الخليج العربي بـ «الفارسي» ؟ ولماذا احتجت لدى مجلة (انترناشيونال جيوجرافيك) العالمية لتدفعها إلى تسمية الخليج بالفارسي بدلاً من العربي ـ أو حتى الإسلامي ـ برغم كون جميع حواضره من العرب بدءاً من الأهواز إلى الإمارات؟ ولماذا تكاد تخلو قيادة إيران من غير الفرس ـ فيما عدا (خاتمي) وقلة أخرى ـ برغم كونهم لا يتجاوزون (52%) من الإيرانيين؟
الحالة الدولية تتبدل ملامحها هذه الأيام، وفي غياب الفضائيات وأدوات التخاطب والمعلوماتية عبر الإنترنت وأجهزة الاتصالات الحديثة، كان المسلمون والعرب معنيّين بتشكل خريطة الصراع في محيطهم وأبعد من محيطهم، الأدوات كانت بدائية والنفوس كانت طموحة أبيّة، ثمة إدراك لدائرة الدول ومدى تأثيرها على موازين الصراع، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4 - 5] ، ليس فرح المتفرجين الصائحين كما في ملاعب الكرة، بل فرح نصرٍ يرومونه من خلال مشاركة في صناعة الأحداث، يبدأ من هنا، من قلب مكة، من مركز الأرض إلى «أدنى الأرض» ؛ إذ الأحداث لا يصنعها النائمون، وحيث لا غرو أن يكون المسلمون في مهد دعوتهم خارج المعادلة الدولية حينئذ؛ فإن انكسار النفوس لابدّ وأن يلازم قوماً تسيَّدوا، وأذابوا ملح الإمبراطورتين العظميين في بحار حضارتهم، ثم نكسوا على رؤوسهم، وقد غار الماء وعاد الملح.
وصارت المعادلة الدولية تخلو إلا من الروم وفارس، وحتى كرَّة مرجُوَّة سيظل الحاضر بدوننا، وسنظل بانتظار مخبوء القدر، {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 4 - 7] .(227/18)
أمريكا ومشروع التقسيم في العراق
هواجس أم تصميم
محمد الزواوي
كما دخلت الإدارة الأمريكية في أزمة جديدة بعد المواجهة الإيرانية في مجلس الأمن، مع تملُّك إيران لجزء كبير من مفاتيح اللعبة في العراق، وبات ظاهر الوجود الأمريكي في العراق أنه يمثل مأزقاً للإدارة الأمريكية، وأنها دخلت مستنقعاً لا تستطيع الخروج منه، وأن الوضع ينتقل من سيئ إلى أسوأ، ولكن مسؤولي التخطيط الاستراتيجي في الإدارة الأمريكية يرون عكس ذلك.
فالاستراتيجيون ينظرون إلى العالم بخرائطه كنقاط مضيئة من النفط والذهب والموارد والمصادر الطبيعية، ثم بعد ذلك ينظرون إلى تلك الأراضي وسكانها وسبل السيطرة عليهم، وينظرون إلى الاختلافات العرقية والمذهبية والقبلية وكيفية استغلالها سواء بالتحريش بينهم أو نصرة طرف على الآخر، أو عن طريق السيطرة على الأطراف معاً. ولا أعتقد أن الاستراتيجيين الأمريكيين يرون نقطة أكثر إضاءة على الخريطة من شمال العراق الغني بالموارد الطبيعية.
فشمال العراق من أغنى مناطق العالم بالثروة النفطية، مثل آبار الموصل وكركوك وخانقين، وتقدر كمية المخزون الاحتياطي
المسلمون والعالم ـ أمريكا ومشروع التقسيم في العراق هواجس أم تصميم؟
للسنة الرابعة للحرب على العراق وسقوط بغداد، وما يزال القادة العسكريون الأمريكيون يطالعوننا بتصريحات يؤكدون فيها على عدة أشياء: لا لتقسيم العراق، لا للقواعد الأمريكية الدائمة، لا للانسحاب السريع قبل تجهيز الجيش العراقي، لا للتخفيض الكبير لعدد الجيش الأمريكي بالعراق. ولكن من ينظر إلى الأوضاع على الأرض يعلم أن الولايات المتحدة لن تستطيع المضي قُدُماً في وجودها بالعراق على هذا الوضع المضني والمرهق لجيشها، في ظل انحسار الدعم الشعبي بالداخل الأمريكي، والروح المعنوية المتدنية للجنود الذين لا يرون نوراً في نهاية النفق المظلم.
لحقول النفط في كركوك وحدها بأكثر من 10 مليارات برميل، بقدرة إنتاجية تصل إلى ما مقداره 750 ألف برميل إلى مليون برميل يومياً، وفي عام 2002م كان خط الأنابيب ينقل نحو مليون برميل من النفط الخام يومياً من حقول كركوك النفطية إلى ميناء جيهان التركي، كما كان الاستيلاء على مدينة كركوك من أهم أهداف قوات الاحتلال الأمريكي بمشاركة الميليشيات الكردية منذ بدء العمليات العسكرية في شمال العراق.
كما يوجد العديد من الأنهار ومصادر المياه العذبة التي تعد محورية وهامة لكل دول المنطقة، ويتوقع أن تكون مصدراً للصراع في القرن الحالي، كما تحوي المنطقة العديد من الثروات الأخرى مثل النحاس والكبريت والكروم والملح، كما أن شمال العراق الذي يسيطر عليه الأكراد يمثل فراغاً استراتيجياً كبيراً للإدارة الأمريكية من الحماقة ألا تسيطر عليه؛ فالأكراد يقبعون وسط محيط معاد من تركيا وإيران وسورية، وسيرحبون بشدة بأن يدخلوا في «الحماية الأمريكية» ، وهو ما خططت له الإدارة الأمريكية منذ البداية.
وقد أشار العديد من المراقبين والمحللين إلى أن الإدارة الأمريكية «فشلت في التخطيط لمرحلة ما بعد غزو العراق» ، ولكن الأيام أثبتت أن هذا منافٍ للحقيقة؛ فالولايات المتحدة خططت تحديداً لهذه المرحلة وبكل دقة وتصميم، واستطاعت الوصول إلى هدفها الأسمى في العراق بعد احتلالها، هذا الهدف هو إيجاد مناخ من الفوضى وَضَعَ بيئةً يكون الكل فيها خاسراً في العراق، من انتشار الفوضى والسلاح واليأس بين جميع أطراف المعادلة العراقية. وليس خافياً على ذي لُبٍّ المصلحة الأمريكية في تدمير الأضرحة والمزارات الشيعية؛ فهذا هو المناخ المناسب لإشعال حرب أهلية في العراق، هذه الحرب التي من شأنها تعميق فكرة انفصال تلك الأطراف بعضها عن بعض، وتحقيق حكم ذاتي لكل من السنة والشيعة والأكراد، ومن هذه النقطة سوف تبدأ الإدارة الأمريكية في الدخول في المرحلة الجديدة، في دويلات ما بعد العراق.
فتقسيم العراق سيكون بمنزلة طوق النجاة للإدارة الأمريكية في العراق؛ وقد لا يكون هناك ترحيب بالقوات الأمريكية في المناطق السنية، أو حتى في المناطق الشيعية بسبب المواجهة النووية مع إيران والأبعاد الاستراتيجية الأخرى للمد الفارسي في المنطقة، وسمعة إيران والشيعة في العالم الإسلامي على المدى البعيد. وفي ظل وجود تركيا وإيران وسورية الذين يعارضون وجود دولة كردية، فسوف تكون الولايات المتحدة هي خير نصير «للمظلوم الضعيف المضطهد الشعب الكردي» الذي يطالب بحق من حقوق الإنسان، ألا وهو «حق تقرير المصير، وحق الانفصال» كما حدث في تيمور الشرقية التي انفصلت عن إندونيسيا بنفطها ومواردها، وسنغافورة التي انفصلت عن ماليزيا بحق تقرير المصير، وسترحب أمريكا بوجود قواعد دائمة لها في المنطقة الكردية بشمال العراق، كما أن الأرقام تؤكد أن المنطقة الكردية هي أكثر مناطق العراق أمناً للأمريكان، وتشهد المنطقة أقل العمليات العسكرية ضد الاحتلال ووجوده بالعراق.
وخُطَطُ تقسيم العراق ليست وليدة اليوم أو العام الماضي أو حتى الأيام التي سبقت غزو العراق، ولكن تقسيم العراق كان مطروحاً على الأجندة الأمريكية منذ عهد طويل، ومنذ صدور وثيقة Clean Break الشهيرة عام 1996 التي كانت تهدف إلى تأمين «الدولة الصهيونية» ، كما نادى بتقسيم العراق العديد من المفكرين والمؤرخين الصهاينة، أمثال (بيني موريس) و (روبرت بلاكويل) و (برنارد لويس) وغيرهم كثير، والذين كانوا يطالبون بتصحيح الخطأ الذي وقعت فيه بريطانيا عندما كانت تحتل العراق؛ فقد صرح المؤرخ الصهيوني (بيني موريس) في عدد من الإذاعات الأمريكية قبيل الحرب على العراق أن «العراق دولة مصطنعة رسمها الإنجليز وخلطوا فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة أن تتعايش مع بعضها» . كما اعتبر المؤرخ اليهودي الأمريكي (برنارد لويس) العراق دولة مصطنعة، وأن احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، بإعادة تقسيمه عرقياً وطائفياً.
كما اتخذت الولايات المتحدة خطوات أخرى من أجل تحقيق هدفها في تقسيم العراق، بالرغم من أن كل التصريحات العلنية من الإدارة الأمريكية كانت تنفي تقسيم العراق، وأن أمريكا تريد الحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه، ولكن الدستور العراقي الجديد الذي تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر 2005م ليجسد مفهوم التقسيم من خلال تسمية الدولة بالدولة الاتحادية أو الفيدرالية، قد جاءت عبارة (اتحادي) 61 مرة في هذا الدستور، كما فرق ما بين الدستور الاتحادي ودستور الأقاليم، بالرغم من تأكيده على عدة عبارات مثل: الهوية الإسلامية، والحفاظ على سلامة أراضي العراق، والالتزام بميثاق الجامعة العربية، إلى آخر هذا الكلام الذي لا يهم أمريكا في شيء؛ فما كان يهم الولايات المتحدة فيه هو عبارة واحدة فقط: وهي أنه دستور اتحادي؛ مما يجعل الباب مفتوحاً أمام الانفصال بعد أن تتشكل هوية كل «اتحاد» وإقليم على حدة، وصياغته لقوانين وتنظيمات خاصة به وبإدارة ثرواته.
كما يحمل هذا الدستور في طياته بذور الفرقة والخلاف، بأن وضع بعض العبارات غير الواضحة من أجل أن تكون هناك مقدرة على إشعال الخلافات في أي وقت، مثل تلك الفقرة في المادة (109) التي تقول: «تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة؛ على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لفترة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منه بصورة مجحفة من قِبَل النظام السابق والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمِّن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون» ، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الأكراد بالمطالبة بما يرون من حصة تعويضاً لهم وإنصافاً لشعبهم، وهو ما يمكن أن يكون فتيل أزمة في أي وقت من الأوقات.
وكافة التقارير تشير إلى وجود حالة من الرغبة الكردية الشعبية في الانفصال، ويظهر ذلك من خلال تصريحات كافة الأكراد حول العالم الذين يطالبون بحقهم في تقرير المصير والعيش في ظل دولة بثقافة ولغة كردية خاصة بهم، ويقولون إنهم لديهم كافة مقومات وجود الدولة؛ ولكنهم نسوا الإشارة إلى أن اللبنة الأخيرة في تلك الدولة الكردية أنه يجب أن تكون الحماية الأمريكية لهم، والذي لن يكون بلا مقابل بالطبع؛ وبذلك ستستطيع أمريكا أن تفرض إملاءاتها على الدولة الكردية، وستقوم شركات السلاح الأمريكية بإنشاء خطوط إنتاج كاملة لتوفير حاجات الدولة الناشئة التي تقع في بيئة معادية، كما أن «الدولة الصهيونية» لن تكون بعيدة عن تلك المعادلة.
فالكيان الصهيوني من أكبر المستفيدين من وجود دولة كردية في تلك المنطقة، كما أشارت صحيفة (هآرتس الصهيونية) بتاريخ 16/5/2005 أن هناك أنبوباً نفطياً مقترحاً سينقل النفط من كركوك والموصل إلى ميناء حيفا عبر الأردن، وطلب مسؤول كبير في البنتاجون من وزارة الخارجية الأمريكية بحث تكلفة ضخ النفط من كركوك إلى حيفا، وترميم خط النفط الذي كان يستعمل قبل عام 1948 في نقل النفط، وصرح مسؤول صهيوني أن القرار ينتظر موافقة الأردن، الذي سيحصل على حصة مقابل اختراق الأنبوب لأراضيه.
كما ستنتظر «الدولة العبرية» أول ضربة من مِعْوَل التقسيم الذي سوف يحدث شرخاً عميقاً في المنطقة العربية، هذا الشرخ الذي سيمتد إلى دول الجوار وربما إلى كافة دول المنطقة، وسيظل هذا الشرخ يتشعب ويتسع ويؤدي إلى تمحور دول واستقطاب كيانات بناء على ضربة المعول الأولى تلك، مما سيغير من الصورة التي عليها المنطقة العربية في عالم اليوم، بوجود دولة أخرى شيعية من ورائها مد فارسي، مما سيجعل المواجهة حتمية بين السنة والشيعة، وهو المطلب الأسمى لأمريكا و «الصهاينة» ، كما كانت الحرب العراقية الإيرانية هي الأوزة التي تبيض ذهباً للإدارة الأمريكية، وكان (رامسفيلد) ذاته هو الممول الرئيس لتلك الحرب بالأسلحة الكيماوية وغير التقليدية.
ويمكن لأمريكا في هذا الوقت أن تظل على الحياد، وأن يكون أملها هو حماية تلك الدولة الكردية المستضعفة، كما سوف تستطيع الولايات المتحدة أن تهدئ مخاوف الأقطاب العالمية الأخرى، مثل الصين التي تعتمد على النفط الإيراني والذي سيظل يتدفق بلا توقف، وسوف تظل أمريكا حريصة على إرضاء كافة الدول الكبرى التي سترضى بقسمة من الكعكة العراقية، وعلى مستوى شعوب العالم ستكون لأمريكا «قضية أخلاقية» أخرى، غير تلك الخاصة «بتحرير الشعب العراقي» ، فتلك القضية سوف تصبح إعانة الشعب الكردي الصديق على نيل استقلاله وحق تقرير مصيره.
وقد بدأ التحضير الإعلامي الأمريكي والبريطاني لقضية التقسيم منذ وقت طويل، ومؤخراً كتبت (جاريث ستانسفيلد) في «الصنداي تيليجراف» البريطانية مقالاً صباح الأحد 19 مارس 2006 بعنوان: «هل ينقذ التقسيم العراق من نُذُر حرب أهلية؟» تقول فيه: «ومهما كانت الأسباب؛ فما من شك في حرج الموقف الذي يقف فيه العراق الآن. وبالرغم من الجدل الدائر بين السياسيين والأكاديميين بشأن ما إذا كانت هناك حرب أهلية تدور في العراق بالفعل، فإن الحقيقة هي أن العنف يظل موجوداً، ولا يزال هناك قدر كبير من الأمل بين عامة العراقيين» ، وهذا الأمل فيما تراه هو التقسيم.
وكتبت الصحيفة ذاتها خبراً ينقل عن (رامسفيلد) قوله: «نحن نحاول معرفة ماذا سنفعل إذا سقط العراق في دوامة حرب أهلية» ، ثم يضيف: «مجتمع الاستخبارات يفكر بشأن هذا ويحلله» . وبالطبع فإن مجتمع الاستخبارات هذا لم يبدأ اليوم ولا أمس، ولكنه بدأ منذ وقت مبكر للغاية، قبل غزو العراق بعدة سنوات، وتم تتويجه بمباحثات سرية مع الجانب الإيراني، وقد خرجت الكثير من التصريحات الإيرانية التي تصب في هذا الاتجاه أيضاً على لسان (عبد العزيز الحكيم الطبطبائي) وغيره، وقد صرح المذكور في 11 أغسطس 2005 في خطابه بمدينة النجف بمطالبته بإقامة إقليم فيدرالي يضم جنوب ووسط العراق.
ولا ريب أن أمريكا تدرس الآن كافة الحلول والخيارات الممكنة مع إيران؛ فما كان إرسال الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن إلا مقدمة للضغط على إيران قبل إجراء أي مفاوضات بشأن العراق، وربما تضغط أمريكا على إيران بأن تجمد الأخيرة برنامجها النووي نظير سماح أمريكا بقيام دولة شيعية في العراق المقسَّم، ونظير السماح لإيران أيضاً باستمرارها في ضخ النفط وتصديره إلى الصين، وبهذا تكون أمريكا قد ضربت عصفورين بحجر واحد: تجميد النووي الإيراني، وبسط نفوذها العسكري على المنطقة من خلال الدولة الكردية، وإرضاء الصين أحد أهم الأقطاب العالمية.
ويبدو أن الجانب الإيراني قد وصلته الرسالة الأمريكية من خلال الاجتماعات السرية بينهما؛ فقد صرح السفير الإيراني في أنقرة (فيروز دولت أبادي) لصحيفة «ميلليت» التركية بتاريخ 5 أبريل 2006 أن هدف الولايات المتحدة من مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تسعى لتأسيس دول عرقية صغيرة تخضع للسيطرة الأمريكية، وأوضح السفير الإيراني أن مشروع كردستان الكبير تم طرحه خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن السياسات الرامية لتنفيذ هذا المشروع «لا تزال سارية حتى الآن» ، وأضاف أن أمريكا تتحرك لإقامة دولة كردية مستقلة على أن تقوم بعد ذلك باستقطاع جزء من الأراضي التركية والإيرانية لضمها لهذه الدولة.
كما أن أمريكا لن تجد فرصة لتأديب سورية أفضل من إقامة الدولة الكردية في المنطقة، كما أن تأليب أكراد سورية سيكون من أهم وسائل زعزعة النظام في البلاد، ولن تعدم أمريكا «جلبي» آخر، كردياً سورياً هذه المرة ليكون رأس الحربة في المنفى لزعزعة النظام، أو استغلال الآخرين لتحقيق مصالحها التي بدأت أبعادها تتضح في المنطقة. وسيكون لدى أمريكا العديد من الخيارات الاستراتيجية لتضخيم وتعزيز تلك الدولة الكردية التي ستنشأ عملاقة بعد الدعم الأمريكي لها وبسبب مصادرها الطبيعية الهائلة، وستكون بمثابة الدولة الأم: داعمة لكافة الأكراد في دول الجوار.
أما تركيا والتي صرحت مراراً وتكراراً بأنها لن تسمح بقيام دولة كردية في المنطقة فلن تستطيع مواجهة دولة تدعمها الولايات المتحدة دعماً مباشراً، كما أن الولايات المتحدة من خلال قنواتها الدبلوماسية تمتلك ورقة دخول تركيا للاتحاد الأوروبي؛ فهي كدولة رائدة في حلف شمال الأطلنطي «الناتو» تمتلك زمام دول أوروبا، ولا يخرج عن فلك أمريكا سوى فرنسا وألمانيا، وتستطيع طمأنة مخاوف تركيا بأنها لن تسمح للأكراد بانتزاع شبر من أراضيها، كما ستغض أمريكا الطَّرْف عن أية عمليات قمعية للجيش التركي لتطهير أراضيها من الأكراد الذين سيفرون إلى الدولة الجديدة، وبذلك تنعم تركيا ـ ولو مؤقتاً ـ بأمن قومي داخلي خالٍ من الانفصاليين الأكراد.
وربما تمتلك أمريكا الكثير من أوراق اللعبة في المنطقة بوضع أقدامها في أفغانستان والعراق، من خلال قواعد عسكرية وجوية في الخليج العربي وتركيا، وكلها نقاط تماس تستطيع أمريكا استغلالها استراتيجياً بصورة جيدة، سواء كان ذلك وسيلة للضغط، أو حتى وسيلة لإلهاب المنطقة في حالة حدوث أي مواجهة عسكرية مع إيران، مثل قيام «الدولة الصهيونية» بقصف المفاعلات الإيرانية بمساعدة أمريكية؛ فأمريكا تستطيع تأليب تركيا والخليج العربي كله على إيران في حالة قصف إيران لأي من القواعد العسكرية في تركيا أو الخليج، مما سيجعل الجميع يفكرون ألف مرة قبل الدخول في خيار عسكري مع الولايات المتحدة.
إن الولايات المتحدة تسير بخطى ثابتة تجاه إنشاء الدولة الكردية في المنطقة، وتنتظر ضربة المعول الأولى لتقسيم العراق ورفع علم كردستان لتشكيل ما يمكن وصفه بـ «إسرائيل الثانية» . ولا يزال المجتمع المخابراتي والاستراتيجي وقوافل التضليل الإعلامي يعملون على تحقيق هذا الهدف بأجندة واضحة تمضي بخطى متأنية، وبأساليب مغرقة في الخداع الاستراتيجي، وبتصريحات علنية ترفض أفكار التقسيم والقواعد على لسانَيْ وزير الدفاع ووزيرة الخارجية، بل على لسان الرئيس الأمريكي ذاته، الذي لا يزال يلعب باقتدار دور الببغاء الأبله الذي يقف على قمة جبل الجليد الأمريكي الذي لا يظهر منه شيء إلا قمته وفوقها هذا الببغاء الملون، الذي ينقل تلك الخطابات التي تُطلب منه لتوصيل رسائل تضليلية بعينها، والذي لا يفتأ يؤكد على ما يُطلَب منه تأكيده.
وتسير المخططات الأمريكية في المنطقة على وعي وإدراك تام من جانب إيران وتركيا وربما سورية أيضاً، ولكن يظل البعد العربي غائباً عن تلك المعادلة بسبب طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد العربية، ولا تزال المنطقة تغط في سبات عميق، حالة من النوم الإرادية أو الإجبارية، ولكنها لا تزال حالة سبات عميق، وتغافل تام عن أهم قضايا الأمن القومي العربي، وملاحقة للأهداف الشخصية والإقليمية وتغليب الخلافات البينية على المصلحة العليا للأمة العربية والإسلامية، في ظل حالة من التصفيق الحاد والانحناء إعجاباً وإكباراً بسياسات (بوش) التي تحرِّم سحب القوات الأمريكية من العراق بدعوى أن ذلك سيمثل خطراً على الأمة العربية، و «سيخلق حالة من الفوضى في المنطقة» .(227/19)
سياسة عض الأصابع
د. يوسف بن صالح الصغير
لا تزال أحداث فلسطين المتلاحقة تطغى إعلامياً على أحداث مهمة في المنطقة مثل تسلُّم إيران الملف العراقي، وعقد مؤتمر دول الجوار في طهران الذي من أهم أهدافه المعلنة تسهيل الانسحاب الأمريكي والمساهمة الجماعية في سد الفراغ؛ بالإضافة إلى تصاعد وتيرة العمليات في أفغانستان وبداية تحوله إلى مستنقع قاتل للإنجليز الذين أجبرهم الأمريكان على دفع ثمن تحالفهم؛ بحيث تركز أمريكا على العراق، وتتولى بريطانيا مسؤولية قيادة قوات التحالف في أفغانستان التي يتوقع سريعاً أن تنسحب منها قوات حلف الأطلسي الأوروبية وتبقى فقط قوات الأنجلوساكسون. إنها مواضيع مهمة جداً ولكنها تحتمل التأجيل على عكس الملف الفلسطيني الذي يشهد تفاعلات متلاحقة يزيد من أهميتها كونها مؤثرة بشكل مباشر على تفاعل الأحداث في العالم الإسلامي؛ حيث تمثل سياسة الغرب حول فلسطين والقائمة على تبنِّيها لإسرائيل نقطة ضعف مميتة تزيد من التهاب الأحداث المضادة للغرب في العالم الإسلامي؛ ولم يعد سراً إحساس الغرب أن إسرائيل بدأت تمثل عبئاً ثقيلاً عليه، وأنقل هنا تصريحاً لأحد مسؤولي المخابرات المركزية الأمريكية السابقين (مايك شوار) الذي رأس الوحدة الخاصة بالسعي للقبض على (بن لادن) في أواخر التسعينيات من القرن الماضي؛ فقد قال في مقابلة خاصة لبرنامج (إنترفيو) التابع للبي بي سي «الخدمة الدولية» : «إنه يتعين على السياسة الخارجية الأمريكية أن تتغير، إننا ندعم إسرائيل دون تحفُّظ، وهو وضع كارثي بالنسبة لأمريكا، كما ندعم بلداناً معروفة تماماً بقمعها للمسلمين في أنحاء العالم» . وأضاف: «هذه السياسة يمقتها المجتمع الإسلامي بكل مستوياته، وطالما ظل هذا هو الوضع فسنظل في هذه الحرب» . وأخيراً فإنه يحدد شروط دعم إسرائيل بتقييد حريتها في التعامل مع الفلسطينيين، ومنعها من اتباع سياسات تدفع أمريكا ثمنها غالياً في أماكن أخرى؛ وذلك بقوله: «أعتقد أننا لو أردنا أن نكون حلفاء لإسرائيل، فإننا ينبغي أن نكون من نعطي الأمر ونأخذ القرار، وليس من يتم جره من أنفه» . نعم! إنها محاولة متأخرة للثور الأمريكي للتخلص من حلقة الأنف، ولكنها تساعدنا في فهم ثقل القيود الحالية المفروضة على القيادة الإسرائيلية في التعامل مع الملف الفلسطيني.
ذكرت في مقالة سابقة أن انتخاب حماس وتشكيلها الحكومة قد ألغى عملياً الاعتراف الفلسطيني بشرعية وجود إسرائيل؛ ولذا نلاحظ أن السياسة الإسرائيلية تركز على الاستفادة القصوى من بقايا السلطة المتمثلة في الرئاسة الفلسطينية؛ وذلك عن طريق دفع الجميع إلى تجاهل الحكومة المنتخبة والتعامل فقط مع الرئاسة، بل وصل الأمر إلى محاولة تضخيم الحرس الرئاسي وتزويده بالأسلحة الحديثة تمهيداً لتنفيذ مخطط إشعال الصراع الداخلي عسكرياً والذي بدأت ملامحه بما يسمى (وثيقة الأسرى) التي تعترف بإسرائيل، وما تبعها من جعلها أساساً للحوار الوطني، وقرار الرئيس محمود عباس عرضها في استفتاء شعبي على أنها خطة محكمة تخيِّر الشعب بين الموت جوعاً أو الاعتراف بإسرائيل، وتضع أيضاً حماس ومن يتبنى المقاومة بين خيارين اثنين هما الاعتراف بالكيان الصهيوني أو مواجهة الحرب مع قوات الرئاسة بدعوى تنفيذ خيار الشعب والحفاظ على مصالحه العليا، ولكن هذا الوهم تبدد بعملية نوعية قادتها حماس وشاركت فيها فصائل أخرى، إنها عملية محسوبة همَّشت الرئاسة من جديد، ولم يعد أمام إسرائيل سوى إعادة احتلال القطاع مما يعني قيام حرب عصابات وهو أمر لا تستطيع إسرائيل تحمل نتائجه أو القبول بالوضع الجديد؛ أي القبول بهدنة مع سلطة لا تعترف بشرعية وجودها.(227/20)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
مفكرة الشهر
13/5: الاحتلال الأمريكي يعلن مقتل أبي مصعب الزرقاوي.
14: الاحتلال الإسرائيلي يغتال أبا سمهادنة قائد لجان المقاومة الشعبية.
15: البنتاغون يزعم انتحار سعوديَيْن ويمني في معسكر جوانتانامو.
16: عبد العزيز الحكيم يدعو لإقامة إقليم جنوب ووسط العراق لترسيخ الفيدرالية.
17: وزير الدفاع الإسرائيلي يأمر بإعداد خطة لاغتيال واعتقال قيادات حماس.
18: بوش يصل إلى العراق في زيارة مفاجئة ويلتقي المالكي.
19: المحاكم الإسلامية في الصومال تسيطر على آخر معاقل الميلشيات شمال مقديشو.
20: الكونجرس يقر 66 مليار دولار للإنفاق العسكري في العراق وأفغانستان.
20: حرس أبي مازن يتسلم ألف قطعة سلاح من إسرائيل.
21: قادة أوروبا يقرّون برنامج مساعدات للفلسطينيين شرط ألاَّ يمر بحماس.
22: موسكو تعلن اغتيالها عبد الحليم سعيدو اللايف خليفة مسخادوف في الشيشان.
23: إيران تعلن أنها غير مهتمة بالتفاوض مع واشنطن حول العراق.
24: الإدعاء يطلب إعدام صدام وبرزان وياسين رمضان.
25: موسكو تعلن أن الروس الأربعة المختطفين في العراق من رجال المخابرات.
26: بلير يؤكد بقاء قواته في العراق وأن الانسحاب غير وارد.
26: اغتيال خامس محام عن صدام بعد رفع الحراسة الأمريكية.
27: المحاكم الإسلامية والحكومة الصومالية توقعان اتفاقاً للاعتراف المتبادل.
28: واشنطن تعترف بتجسسها على التعاملات المصرفية الدولية طيلة خمس سنوات.
29: الرئيس اليمني يعلن ترشحه للرئاسة.
30: أغلبية الموريتانيين يوافقون على الدستور الجديد.
30: المقاومة تنفذ عملية نوعية معقدة وتقتل عسكريين وتأسر جندياً إسرائيلياً.
1/6: قائد الاحتلال الأمريكي يقدم خطة للانسحاب من العراق نهاية 2007م.
2: الفصائل الفلسطينية توقع على اتفاق الوفاق الوطني بالأحرف الأولى.
3: القوات الإسرائيلية تبدأ حملة «أمطار الصيف» لتحرير الجندي الأسير.
4: إسرائيل تعتقل ثلث حكومة حماس وعشرات من نوابها في الضفة وغزة.
5: الإسلاميون يتقدمون في انتخابات الكويت وسقوط جميع المرشحات.
5: هيئة العلماء ترفض مبادرة المالكي وتصفها بحملة علاقات عامة.
6: اختطاف نائبة سنية عراقية، والحزب الإسلامي يعلق مشاركته في البرلمان.
7: أولمرت يأمر قواته بألاَّ تدع سكان غزة ينعمون بالنوم.
8: الإندبندنت: المخابرات البريطانية تتجسس على ثمانية آلاف مسلم في بريطانيا.
9: المالكي يتهم شركات عربية وهمية بدعم المقاومة العراقية.
10: أبو مازن يقرر تجميد الاستفتاء على وثيقة الأسرة بعد اتفاق الفصائل.
11: المالكي يعترف بممارسة أجهزة أمنية لحملات قتل ضد العراقيين.
12: وزير إسرائيلي يلوح بإمكانية تبادل الأسرى مع الفلسطينيين.
13: هنية يطرح مبادرة تهدئة من خمس نقاط وإسرائيل ترفض.
علامة تعجب
آداب الذبح
صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي (عامير بيرتس) : أن الجيش الإسرائيلي يدير حرباً مع الفلسطينيين مع الحفاظ على أخلاقيات لا يحافظ عليها أي جيش آخر في العالم، وقال (بيرتس) الذي يتزعم حزب العمل الإسرائيلي: إن الجيش دخل إلى غزة مع شرعية دولية، وأن كل عاقل في العالم يعرف أن إسرائيل جرّبت كل شيء قبل الدخول إلى غزة. [وكالات 9/7/2006م]
التتار الصدري يكستح بغداد
صرّح (عبد الهادي الدراجي) المسئول البارز في تيار الصدر: أن جيش المهدي هو أول من قاوم المحتل في العراق. واتّهم مقاتلين سُنّة بأنهم يتخفون في زي جيش المهدي الأسود، وينفِّذون عمليات عنف. وقال: إن (الزرقاوي) وجماعته كانوا يفعلون ذلك. واتّهم دولاً عربية مجاورة بأنها تسرب مقاتلين عرب لنشر العنف في العراق. وحسب اتهامات (الدراجي) فإن المقاومة السنية تكون هي من ينفذ عمليات القتل والاختطاف والتعذيب المنسوبة إلى مقاتلي جيش المهدي، والتي تحدث في المناطق السنية خاصة في بغداد.
[التصريح لقناة الجزيرة 9/7/2006م]
«تثليث» الأحلام أم تفسيرها
يحاول الأقباط في مصر جاهدين الاستفادة من وسائل وأساليب الدعوة كما يمارسها الإسلاميون، طبعاً مع تغيير مضمونها، وبعد أن اكتشف الأساقفة الأقباط أن تفسير الأحلام يحتل مكانة كبيرة في الثقافة الشعبية الدينية، سعوا لاقتحام هذا المجال عن طريق كتاب ألّفه (يونس كمال) وعنوانه «وجهة نظر مسيحية: تفسير الأحلام» وقدم فيه اجتهادات طريفة موظفة دينياً بطريقة ساذجة، مثل: أن من رأى في أحلامه راهباً فسوف يحظى بمقابلة مهمة، ومن يرى ديراً فستأتيه أخبارٌ حسنة، ومن يرى صليباً فهذا يعني: أن هناك خيراً وأملاً أو تعويضات قادمة. والعجيب أن المؤلف حذّر في نهاية قاموسه من الجري وراء هذا الكلام ... الذي كتبه! [بتصرف عن روز اليوسف 9/7/2006م]
الإمبراطورية البريطانية لا يغيب عنها «الكيف»
كشفت صحيفة (ذي غارديان) البريطانية أنَّ إقليم (هلمند) الأفغاني الذي يقع تحت الهيمنة البريطانية سينتج هذا العام ثلث الهيروين على الأقل في العالم. ونقلت الصحيفة عن مسؤول بريطاني في المخدرات قوله: «سيكون المحصول ضخماً» ، مشيرة إلى أن وفرة المحصول في (هلمند) يعكس إخفاق الجهود الغربية لمكافحة المخدرات التي كلفت حتى الآن ملياري دولار منذ عام 2001م، مقارنة بنظام طالبان الذي تمكّن من وقف الإنتاج تقريباً في أعوام قليلة.
[الغارديان 14/6/2006م]
الزواج في مصر يقترب من سن المعاش
كشف الدكتور «أحمد المجذوب» الأستاذ بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر: أنّه حسب الإحصاءات الرسمية يوجد في مصر 9 ملايين شاب وفتاة فوق الـ35 عاماً لم يتزوجوا، وقال: «إن فقدان الرجل لدوره داخل الأسرة في ظل الدعاوى المستمرة للمساواة بين الرجل والمرأة فاقم المشكلة، وقال: «إن أحد أسباب انتشار العنوسة في مصر يرجع إلى تردي مناهج تعليم المرأة، حيث جعلتها هذه المناهج ذات شخصية تناطح الرجل في كل شيء» .
وقال الدكتور «محمد الأنسي» الأستاذ بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية: إن معدل العنوسة في مصر يمثل 17% من الفتيات اللاتي في عمر الزواج. ولكن هذه النسبة في تزايد مستمر، وتختلف من محافظة لأخرى، وأرجع ذلك: إلى ارتفاع معدلات البطالة في مصر، وكذلك مشكلة الإسكان، وارتفاع معدل التعليم بالنسبة للإناث، إضافة إلى تراجع مستوى دخل الأسرة طبقاً لآخر نشرة رسمية حول معدلات الفقر في مصر، والتي تبّين أن شريحة الفقراء في تزايد مستمر حيث هناك 13 مليون فقير، و 4 ملايين تحت خط الفقر، ممّا أدى لتراجع معدلات الزواج وارتفاع معدلات الطلاق. [الشرق الأوسط 25/6/2006م]
الولايات المتحدة الإيرانية
كتب الصحفي البريطاني «سيمون تيسدال» في صحيفة (الغارديان) البريطانية مقالاً بعنوان: «التاريخ يزوِّد رؤية إيران للعراق بوقودها» ، وقال في المقال: إن الزعماء الإيرانيين ـ وإن اختلفوا مع إدارة بوش ـ ممتنون لها؛ لأنها خلصتهم من حكم صدام حسين. ونقل عن «علي أكبر رضائي» ـ وهو دبلوماسي إيراني سامٍ ـ قوله: «إننا ممتنون للأميركيين لأنهم مهّدوا الطريق أمامنا في العراق وأفغانستان وحتى في لبنان؛ التي تعاظم نفوذنا فيها بعد انسحاب السوريين، هذا فضلا عن رفعهم أسعار النفط» .
[الغارديان 30/6/2006م]
أمطار الصيف تجف على الإنترنت
قال موقع صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية على الإنترنت: إن أكثر من 750 موقعاً إسرائيلياً على شبكة الإنترنت قد ّتم اختراقها وإتلافها، وذلك مباشرة بعد بدء العملية العسكرية الإسرائيلية «أمطار الصيف» في قطاع غزة، وبحسب الصحيفة فإن المقتحمين هم مجموعة مغربية.
ومن المواقع التي هوجمت: الموقع الفرعي لبنك (هبوعليم) الإسرائيلي، موقع بنك (أوتسار هحيال) ، موقع مستشفى (رمبام) ، موقع BMW الإسرائيلي، موقع (سوبارو) الإسرائيلي، وكذلك موقع (شبيبة كاديما) حزب رئيس الوزراء الإسرائيلي «إيهود أولمرت» ، وذكرت الصحيفة: أن قسماً كبيراً من هذه المواقع لا يعمل حتى الآن، وأشارت إلى: أن المهاجمين المغاربة تركوا رسالة على المواقع التي أتلفت تقول: أنتم تقتلون الفلسطينيين ونحن نقتل السرفرات الإسرائيلية.
[الجزيرة نت 29/6/2006م]
البشير ... قائد المقاومة السودانية
في سياق رفضه إرسال قوات دولية إلى إقليم دارفور، أكد الرئيس السوداني الفريق «عمر البشير» لي: أنه سيقود المقاومة بنفسه ضد هذه القوات إذا دخلت الإقليم، وقال: «سأقود المقاومة بنفسي» ، مضيفاً: «إن السودان ـ الذي مثَّل أول دولة تنال استقلالها من دول جنوب الصحراء ـ لن يكون الدولة الأولى التي يعاد استعمارها الآن» .
وقال المتحدث باسم الخارجية الاميركية «آدم ايريلي» : «لن نوافق على رد سلبي ... ينبغي أن نواصل العمل على كل أوجه المشكلة بقوة وثبات لضمان رد دولي فعّال على أزمة مستمرة منذ وقت طويل جداً» .
واتهّمت مساعدة وزيرة الخارجية الاميركية للشؤون الأفريقية «جنداي فريزر» الحكومة السودانية بأنها تعتمد «مناورات للتسويف» ، وقالت «فريزر» للصحافيين: «ينبغي أن تتذكروا أن الخرطوم كانت قد أعربت قبل وصول الاتحاد الإفريقي إلى دارفور عن معارضتها لمجيء القوات الافريقية. واليوم؛ تعلن الحكومة السودانية أنها تريد فقط قوات أفريقية» . [العربية نت 21/6/2006م]
أغلبية الأمريكيين يكرهون المسلمين
نشرت صحيفة (غارديان) البريطانية نتائج استطلاع للرأي أجراه معهد (بيو) في 13 بلد حول المواقف المتبادلة بين المسلمين وغير المسلمين في هذه البلدان، وكشف الاستطلاع أن 63% من البريطانيين عبّروا عن رأي جيد تجاه المسلمين، وهي نسبة أكبر من نسبة قبولهم بين الأميركيين والألمان والإسبانيين (الذين لا تتعدى نسبة الذين يتخذون موقفاً إيجابياً من المسلمين بينهم 29%) ، وهي مساوية تقريباً لنسبة قبولهم بين الفرنسيين، وبيّن الاستطلاع: أن أقل من ثلث البريطانيين اعتبروا أن المسلمين يتّسمون بالعنف مقابل 60% في إسبانيا و52% في ألمانيا و45% في الولايات المتحدة و41% في فرنسا. [الجزيرة نت 23/6/2006م]
مرصد الأخبار
الصرب الأمريكيون يقتلون السنة والهرسك
ظهرت على أحد المواقع على شبكة الإنترنت أغنية عنصرية تظهر رجلاً يرتدي زيّ (المارينز) الأمريكي وهو يعزف على غيتار، ويغني أغنية عن قتل العراقيين، بينما يضحك آخرون مبتهجين، وقالت البحرية الأمريكية: «إنها لم تتأكد بشكل فوري إن كان شريط فيلم الأغنية حقيقياً» . وتذكر كلمات الأغنية قتل العراقيين المدنيين بالرصاص ولاسيما الأطفال، كما تشير الأغنية إلى العراقيين باسم «الحُجّاج» ؛ والذي يستخدمه الجنود الأمريكيون لوصف العراقيين على سبيل التهكم، ومدة الأغنية أربع دقائق ونصف، ويظهر فيها رجل يرتدي زيّاً عسكرياً، ويغني قائلاً: «أمسكت بأختها الصغيرة، ووضعتها أمامي» ، ومن كلمات الأغنية أيضاً: «وما إن بدأ الرصاص يتطاير انفجرت الدماء من بين عينيها، فضحكت بشكل هستيري» ، وحتى الآن «لم يتم إصدار أمر فيما إذا كان يجب البدء في تحقيق رسمي» ؛ كما قال الناطق الأمريكي.
[البي بي سي 14/6/2006م]
(وترجون من الله ما لا يرجون)
قرّر المستثمر الملياردير «وارن بوفيت» أن يهب معظم ثورته الشخصية ـ أي حوالي 37 مليار دولار أمريكي ـ لجمعية «بيل غيتس» الخيرية، وسيعطي «بوفيت» عشرة ملايين سهماً من حصته في شركة «بيركشاير هاثاواي» لجمعية «بيل ومليندا غيتس» فيما يُعتقد أنه أكبر تبرّع خيري في تاريخ الولايات المتحدة، وبحلول تموز/ يوليو 2008م، سيتفرّغ «غيتس» للجمعيّة التي تساوي قيمتها حوالي 30 مليار دولار، وكانت مجلة «فوربس» قد قيّمت ثروة «بوفيت» بـ 44 مليار دولار، وكان «بوفيت» قد أكد على قراره في رسائل وجّهها إلى المستفيدين، وقال: «إنه سيُعيد كتابة وصيّته لضمان أن يُستكمل توزيع التبرّعات بعد وفاته» . ومن شروط الهِبة أن يستمر أحد زوجي غيتس على الأقل بالتعاطي في الجمعية، وقد أصبحت جمعية «غيتس» واحدة من أهم الجمعيات الخيرية في العالم. [البي بي سي 26/6/2006م]
هل هي حرب شاملة ضد السُنّة؟ ... نعم
انتقد مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ «محمد رشيد قباني» بشدة أساليب التعذيب ضد أهل السُنّة الموقوفين في أحداث 5 شباط (فبراير) في (الأشرفية) بعد التظاهرة ضد الرسوم المسيئة إلى الإسلام. وقال: هذه الأساليب لم نسمع بمثلها في سجن (أبو غريب) ، مهدداً بتنفيذ اعتصام مفتوح في دار الفتوى.
وكان المفتي «قباني» استقبل أهالي الموقوفين في حضور سياسيين وعلماء سُنّة، واستمع إلى شرح من الأهالي إلى معاناة أولادهم من التعذيب والإهانات.
وقال الشيخ «قباني» : «هذا نداء إلى رئيس الحكومة الأستاذ «فؤاد السنيورة» أولاً ثم إلى وزير الداخلية الدكتور «أحمد فتفت» ورئيس مجلس النواب الأستاذ «نبيه بري» ، ومخابرات الجيش، والمحكمة العسكرية، والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والأمن العام وكل المسؤولين، كلمة موجزة وقصيرة، حازمة وحاسمة، وهي: أن دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية لن تقبل بعد اليوم باستمرار فتح ملفات الموقوفين لأهل السنة في لبنان، ولن تقبل باستمرار التأجيل والمماطلة فيها ... لقد اطّلعنا على أساليب التعذيب الإرهابية التي لم نسمع بمثلها في سجن (أبو غريب) على أيدي الأمريكيين المحتلين في العراق؛ الكهرباء، الضرب، التصرفات الداعرة اللا أخلاقية، كلها تمارس مع الموقوفين في لبنان. أنا أطلب طلباً واحداً من جميع المسؤولين: لا بد من أن يأتي أي مسؤول إلى دار الفتوى ليتكلم مع مفتي الجمهورية» .
وقال المفتي في ختام كلمته: «لقد أحوجنا المسؤولون لأن أقول لأول مرة: إننا لن نقبل بعد اليوم بالتنكيل بأهل السنة في لبنان. أقول ذلك وليكن ما يكون، فإن لكلمة الحق مقالاً، وإن كلمة الحق لا تقدم أجلاً ولا ترفع رزقاً، وبعد أيام إن لم يتحقق شيء ممّا طالبت به فسوف أدعو أهالي الموقوفين إلى اعتصام مستمر في دار الفتوى ليلاً ونهاراً، وفي مرحلة ثانية إن لم يتحقق شيء من ذلك فسوف أدعو جميع المسلمين للاعتصام في دار الفتوى» .
[القدس العربي 28/6/2006م]
سين وجيم
س: تضاربت التقارير حول تلقي حرس الرئاسة الفلسطيني أسلحة من إسرائيل، ونفى «أبو مازن» ذلك نفياً قاطعاً، فما صحة هذه التقارير؛ وما هو سبب الدعم إن صح؟
ج: أعلن «أولمرت» في كلمة ألقاها أمام مجلس العموم البريطاني الثلاثاء (13/6) : أنه بالرغم من الأوضاع السائدة في قطاع غزة، أقرّت حكومته مساء الإثنين (12/6) نقل أسلحة وذخيرة إلى الحرس الرئاسي لـ «محمود عباس» لـ «تقويته» . موضحاً «أنّ الوقت قد نفد، ويجب مد يد العون لـ «أبي مازن» في مواجهته حركة حماس» ، على حد تعبيره، وقد حظي القرار بتأييد واسع من قبل الجهات الأمنية والسياسية الإسرائيلية.
ونُقل عن مصادر أمنية إسرائيلية رفيعة المستوى قولها: إنّ تسليح الحرس الرئاسي الفلسطيني إنما هو «مصلحة إسرائيلية هامّة» ، ملمحة إلى: «أنه عندما يواجه الفلسطينيون بعضهم يخف الضغط على الاحتلال الإسرائيلي» ، وقال «عاموس جلعاد» رئيس الشعبة السياسية والأمنية بوزارة الدفاع الإسرائيلية: «إنه يجب إتاحة المجال لنقل الأسلحة لقوات رئيس السلطة الفلسطينية (الحرس الرئاسي) ، من أجل تنفيذ القرار الشجاع الذي اتّخذه لمواجهة حماس» ، وكان جهاز الاستخبارات الإسرائيلي قد أوصى ببيع السلاح إلى السلطة الفلسطينية، ضمن عدد محدود، وبشرط أن يكون السلاح قيد الاستخدام في قطاع غزة فقط، بزعم أن «السلطة الفلسطينية ستحتاج إلى هذا السلاح في الصراع ضد حركة حماس» وبحسب ما نُشر في الصحف العبرية؛ فإنّ هذا السلاح سيُموّل من دول أوروبا.
[موقع أخبار الشرق 13/6/2006م]
س: هل توجد دراسة علمية للشخصية الاستشهادية الفلسطينية، صفاتها ودوافعها، وما صحة ما يقال عن كون الفقر من أبرز دوافع العمل الاستشهادي؟
ج: أعدّ الباحث يوسف سلامة «أبو راس» دراسة موسعة عن شخصية الاستشهادي الفلسطيني، ونال بموجبها درجة الماجستير في الإرشاد النفسي من جامعة القدس، وشملت الدراسة 173 من أسر الاستشهاديين من مجموع 335 أسرة في فلسطين لغاية يوليو/تموز 2005م.
وتوصل الباحث إلى عشر سمات هي أبرز ما تتمتع به الشخصية الاستشهادية وهي: التضحية والإيثار، التواضع، الوفاء بالوعد، المسارعة لتلبية أوامر الله، الإتقان والإخلاص في العمل، القدرة على التحمل والصبر الشديد، الإرادة القوية، احترام كل من عرفه له، الشعور بالآخرين ومساعدتهم، المثابرة والجدية.
في المقابل ذكرت الدراسة جملة سمات مفترضة لا تتمتع بها الشخصية الاستشهادية أهمها: الشعور بالفشل، الحديث عن القصص غير الواقعية، سهولة السيطرة عليه من قبل الآخرين، رؤية وسماع أصوات غير مألوفة للآخرين، الخوف من الأمراض الخطيرة والمعاناة من المشاكل النفسية.
وعن دوافع الاستشهاديين خلصت الدراسة إلى أن أبرزها الدافع الديني، وممارسات الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني، والرغبة في المساهمة بتحرير الأرض المغتصبة من الاحتلال، والانتصار لكرامة الشعب الفلسطيني، والتضحية بالنفس من أجل العيش الكريم لشعبه، والرغبة الجامحة في نيل الجنة، والشعور بواجب الدفاع عن الأرض المقدسة والمسجد الأقصى.
وأظهرت الدراسة أن 35.8% من الاستشهاديين من ذوي الدخل المتوسط (بين 460 ـ 700 دولاراً شهرياً) ، و 30.6% من ذوي الدخل المرتفع (700 دولار فما فوق) .
أما عن الحالة الاجتماعية فبينت أن 71.1% منهم عزاب، و 12.7% منهم خاطبون، و 15.1% منهم متزوجون. كما بينت أن 63.0% منهم تتراوح أعمارهم بين 17 ـ 24 عاماً، و 31.2% بين 25 ـ 30 عاماً، و 5.8% منهم 31 عاماً فأكثر. وبخصوص المستوى التعليمي أظهرت الدراسة أن 46.8% منهم جامعيون. وبخصوص الانتماء، كشفت الدراسة أن 72.3% من الاستشهاديين من الاتجاه الإسلامي، و 5.2% من الاتجاه اليساري، و 22.5% من حركة فتح.
[موقع الجزيرة نت 25/6/2006م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
«أولمرت يقف الآن في بداية الامتحان الحقيقي نحو تأكيد مكانته كزعيم لإسرائيل، وإذا ما فشل في تحرير الجندي «جلعاد شاليت» من أيدي الفلسطينيين فعليه أن يقدم استقالته مبكراً قبل أن يلفظه الشعب الإسرائيلي مع أول انتخابات مبكرة» .
[صحيفة هاأرتس 28/6/2006م]
«النتيجة الأهم التي يمكن استخلاصها من عملية "كرم أبو سالم" هي أنه على رغم من الاستثمار الكبير من طرف إسرائيل في التجهيزات الخاصة لاكتشاف وتصفية الأنفاق فإنه لا يوجد ـ عملياً ـ جواب عملياتي مُقنع حول هذه المشكلة» .
[زئيف شيف خبير الشئون الأمنية بصحيفة هاأرتس 27/6/2006م]
«عملية (الوهم المُتبدد) تؤكد وجود خلل كبير في العلاقات والمعلومات بين أجهزة الاستخبارات وقسم العمليات بالجيش الإسرائيلي» .
[المعلق العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» ، أليكس فيشمان، 26/6/2006م]
«اللغة المنطوقة الوحيدة والمعروفة في منطقتنا هي لغة القوة» .
[المعلق السياسي لصحيفة معاريف، عامير ريبورت، 27/6/2006م]
«لن نتردد في اتخاذ خطوات متطرفة من أجل استعادة «جلعاد» . إن دولة إسرائيل لن تجري أبداً مفاوضات حول الإفراج عنه» .
[رئيس الوزراء الصهيوني، إيهود أولمرت، للصحفيين الصهاينة 28-6-2006م] .
«المجموعة الفلسطينية خدعتنا، وجاءت من جهة الشرق، وعندما أعطبوا الدبابة التي كنت أقودها، طلب منا قائدنا الخروج من الدبابة لقتالهم، لكنهم نجحوا في تقل جنديين وفر الباقي على وقع المفاجأة» .
[الجندي الصهيوني، روعي أميتي، لوسائل الإعلام العبرية 26/6/2006م مُعلقاًً على عملية الوهم المتبدد الفلسطينية بمعبر «كرم أبو سالم» ] .
«لنصلِّ جميعاً من أجل الجندي «جلعاد» وسلامته» .
[حاخام الكيان الصهيوني، شلومو عمار، صحيفة معاريف 28/6/2006م]
«تواجه إسرائيل حالياً إحدى المراحل الحاسمة فيما يخص تحديد قواعد اللعبة بينها وبين العناصر الإرهابية في السلطة الفلسطينية» .
[وزيرة الدفاع الصهيوني، عامير بيرتس، لكبار الضباط، الإذاعة الصهيونية 29/6/2006م]
أخبار التنصير
75 عاماً على إنشاء إذاعة الفاتيكان
عقد مؤتمر صحفي بمناسبة مرور «خمس وسبعون سنة على تأسيس إذاعة الفاتيكان في خدمة المسيحية» ، وفي مداخلة ألقاها خلال المؤتمر الصحفي تحدّث المدير العام للإذاعة الأب اليسوعي «فيديركو لومباردي» عن الرسالة الموكلة إلى إذاعة الفاتيكان، وهي نشر تعاليم يسوع، وتغطية نشاطات الكرسي البابوي، وأشار إلى أن تعدد الأقسام اللغوية في إذاعة الفاتيكان يعكس شمولية الكنيسة، ورغبتها في جعل الإنجيل جزءاً من كل ثقافات العالم، وأوضح المدير العام للإذاعة أن إذاعة الفاتيكان تطورت عبر السنوات الماضية من البث على الموجات القصيرة والمتوسطة إلى استخدام موجة الـ «إف إم» .
تجدر الإشارة إلى أن إذاعة الفاتيكان تضم حالياً ثلاثمائة وأربعة وثمانين موظفاً، بينهم مائتان وأربعة عشر صحفياً يمثّلون تسعاً وخمسين دولة، وتبث الإذاعة بخمس وأربعين لغة مدة أربع وستين ساعة ونصف في اليوم (عبر قنواتها المتعددة) ، فيما يشمل موقعها الرسمي على شبكة الإنترنت ثلاثين لغة.
[إذاعة الفاتيكان 6/6/2006م]
السفير البابوي في دمشق يجتمع مع وزير الشؤون الدينية السوري
بتكليف مباشر من بابا روما قام السفير البابوي في سورية المطران «جوفاني باتيستا موراندي» بزيارة خاصة لـ «زياد الدين الأيوبي» وزير الشؤون الدينية في حكومة دمشق، وناقش معه سبل مشاركة المؤسسات الدينية بدمشق في منظومة التسليم بحرية التنصير في بلاد المسلمين والتي تحمل شعاراً إعلامياً هو «الحوار بين الأديان» ، وأشاد السفير البابوي خلال اللقاء الذي عُقد لأيام خلت بالدور الذي يضطلع به رجال الدين السوريين من أجل نشر ثقافة الصداقة والسلام. [وكالة الأنباء السورية 24/5/2006م]
مؤتمر صحفي لتقديم الخطوط العريضة لسينودس أفريقيا
عُقد مؤتمر صحافي في دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي، قدّم خلاله الكاردينال «فرانسيس أرينزي» عميد مجمع العبادة الإلهية وتنظيم الأسرار، والمطران «نيكولا إيتروفيتش» أمين عام سينودس الأساقفة «الخطوط العريضة» لثاني سينودس (مؤتمر ديني) خاص بالقارة الأفريقية.
تطرق الكاردينال «أرينزي» في مداخلته إلى حياة الكنيسة في أفريقيا، والمشاكل والتحديات المطروحة أمام المصالحة والعدالة والسلام في المجتمع الأفريقي، إضافة إلى الدور الذي لعبته وتلعبه الكنيسة الكاثوليكية في هذه القارة، وذكّر بأنّ الأوضاع السائدة في الصومال، ودارفور، وساحل العاج، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومنطقة البحيرات العظمى، ونيجيريا تحمل على القلق.
أما المطران «نيكولا إيتيروفيتش» أمين عام سينودس الأساقفة فذكّر إلى: أنّ الخطوط العريضة تنقسم إلى خمسة محاور عناوينها: «أفريقيا في فجر القرن الحادي والعشرين» ، «يسوع المسيح، خبز الحياة وسلامنا» ، «الكنيسة، سر المصالحة والعدالة والسلام في أفريقيا» ، «شهادة كنيسة تعكس نور المسيح في العالم» و «الموارد الروحية من أجل تعزيز المصالحة والعدالة والسلام في أفريقيا» .
وأشار المطران «إيتيروفيتش» إلى وجود لائحة من 32 سؤالاً تسهّل التأملات في الكنائس والأبرشيات (المجامع الكنسية) والمجالس الأسقفية، استعدادًا للسينودس الذي سيحدد البابا موعده في الوقت الملائم. [موقع الفاتيكان 27/6/2006م](227/21)
راحلون
محمد المقرن
طال الطريق وملَّنا الترحالُ
الراحلون إلى المدى المجهول لا
خلف الظهور ديارُنا، وأمامَنا
هل ذقتمُ الإخراج من أوطانكم؟!
هذي قوافلنا يسير بها الأسى
بغداد نبراسُ الحضارة دُنِّستْ
تبكي بلادُ الرّافدين وملؤها
الليل رعبٌ، والصبَّاح مذابحٌ
يهمي رصاصُ القاذفات كأنّه
ويخرُّ بيتُ الآمنين بأهلِهِ
البعدُ ـ يا وطني ـ عسيرٌ، والهوى
ما زلتُ أذكر في الطفولة مرتعي
صرنا أُسَارى الذكرياتِ فعالنا
من لم يَمُتْ من قومنا عاش الأسى
هل تعرفون عن الحصار؟ وما الذي
قد خاننا الأحباب، يا لِمُصابنا
هذي خيولُ الحرب تركض وحدَها
سأعود ـ يا أمّاه ـ فاحتسبي دمي
سأعودُ كي تردَ المعالي أمّتي
ما حرَّكَتْني ثورةٌ عربيةٌ
بل جئت للإسلام أنقذ أهله
سَيَرَى البُغَاةُ بأنني من أمَّةٍ
لي في الجهاد معالم وعزائمٌ
هذه غصونُك ـ أمتي ـ قد أَوْرَقَتْ
إن غاب بدرُكِ، واشتكى الساري الدُّجى
وتغلَّقتْ في وجهنا الآمالُ
هادٍ ولا زادٌ ولا أبطالُ
تبكي على أيامنا الأطلالُ
هل تعرفون الدمع كيف يُسَالُ؟
وتحفُّها الأخطارُ والأهوالُ
قَهْراً، وعاث بمجدها الأنذالُ
تلك الدماءُ وهذه الأوصالُ
والوَعْرُ صعبٌ، والسهولُ قتالُ
وبلٌ على هاماتِنا هَطّالُ
ويموتُ تحتَ سُقوْفهِ الأطفالُ
بقلوبنا بَعْد النَّوى قتَّالُ
نلهو وتحمل حُلْمَنَا الآمالُ
إلا أسىً وتفكرٌّ وخيالُ
وسقاه مرَّ كؤوسِه الإذلالُ
صنعته في أعناقنا الأغلالُ؟
من عثرة الأحبابِ كيف تُقَالُ؟!
ياقوم أين الفارسُ الخيَّالُ؟!
إن سال فهو كرامةٌ وجلالُ
وتظلُّ تذكرُ صولتي الأجيالُ
سقطت ... ولا صنمٌ ولا تمثالُ!
شبلاً تتوق لِزميَ الأشبالُ
أَعْلَى عُلاها «مصعبٌ» و «بلالُ»
مثلُ الجبال ... فهل تُدَكُّ جبال؟!
وشَدَتْ على أوراقها الآمالُ
فغداً سيُولدُ في السماء هلالُ(227/22)
معاناة معتقلي غوانتانامو وواجبنا نحوهم
د. مفلح بن ربيعان القحطاني
تتابع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان وبقلق شديد منذ نشأتها وضع المعتقلين السعوديين في غوانتانامو والبحث في كل السبل الكفيلة بإنهاء معاناة هؤلاء المعتقلين وأسرهم على حد سواء، ووضع نهاية لهذه المأساة الإنسانية؛ حيث ورد للجمعية شكاوى وتظلمات من العديد من أسر المعتقلين يطالبون فيها بمساعدتهم في وضع حد لمعاناة أبنائهم المعتقلين التي استمرت لما يزيد عن 4 سنوات دون النظر في وضعهم ومحاسبتهم إذا كانوا بالفعل مذنبين على حد ادعاء السلطات الأمريكية؛ فمثل هذه القضية تعتبر انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، ومن هذا المنطلق وبحكم اختصاصاتها قامت الجمعية بالعديد من الوسائل للبحث عن حلول لهذه القضية الإنسانية؛ حيث رصدت الجمعية ما تناقلته وسائل الإعلام عما يتعرض له المعتقلون من انتهاكات لحقوقهم وآدميتهم من قِبَل مسؤولي المعتقل، وقامت الجمعية بمخاطبة سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى المملكة تطالب فيها الحكومة الأمريكية بسرعة التدخل للوقوف على أوضاع المعتقلين هناك، وقد طالبت الجمعية بأن يتم التنسيق مع الجهات المختصّة في الحكومة الأمريكية لتمكين بعض أعضاء الجمعية من زيارة معتقل غوانتانامو والالتقاء بالمعتقلين، والتأكد من صحة ما تناقلته وسائل الإعلام عن وقوع انتهاكات وتجاوزات لحقوقهم؛ إلا أن هذا الأمر لم يتم لعدم التجاوب مع طلب الجمعية، بالإضافة إلى قيام الجمعية بوضع إطار عام للعمل من أجل توحيد وتضافر الجهود بهدف سرعة الوصول لحلول عاجلة ومنهية لهذا الوضع المأساوي المخالف لأبسط حقوق الإنسان؛ حيث قامت الجمعية بالتواصل مع العديد من الجهات داخلياً وخارجياً بالإضافة إلى الاجتماع بأهالي المعتقلين وبعض وكلائهم للتباحث حول آخر المستجدات والتطورات فيما يتعلق بقضية المعتقلين، ومناقشة الآليات الواجب اتباعها لمساعدتهم وأسرهم. وقد تم اتخاذ العديد من الإجراءات والخطوات التي من شانها المساعدة في إنهاء وضع هؤلاء المعتقلين بالإضافة إلى ضمان التواصل مع أسرهم والعمل على الاستفادة من تجارب الجمعيات الحقوقية المماثلة والمهتمة بقضايا معتقلي غوانتانامو.
وعندما لاحظت الجمعية أن بعض أسر المعتقلين لا تمكنهم ظروفهم من معرفة تطورات القضية وما هو وضع أبنائهم إما بسبب عدم وجود القائم على شؤونهم أو لأي سبب آخر؛ فقد جرى الاتصال ببعض أسر المعتقلين وطلب الاجتماع بهم، وكان الهدف من الاجتماع هو التباحث مع الأهالي لتكثيف الجهود والعمل من أجل خدمة القضية وعودة جميع المعتقلين السعوديين في غوانتانامو، والبحث في الوسائل التي تمكِّن الأهالي من معرفة أوضاع أبنائهم بشكل مستمر، وكذلك إطلاع الأهالي على جهود الجمعية وأعضائها في هذا الجانب، وقد خرج المجتمعون بالتوصيات الآتية:
- مناشدة القيادة الأمريكية لإطلاق سراح المعتقلين.
- الدعوة إلى إقامة مؤتمر في المملكة يدعى له مجموعة من الحقوقيين والناشطين في حقوق الإنسان للمطالبة بإنهاء وضع هؤلاء المعتقلين.
- مخاطبة الجهات المؤثرة في القيادة الأمريكية للتدخل من أجل وضع حل نهائي لقضية هؤلاء المعتقلين.
- التأكيد على أهمية دور الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان لمساعدة هؤلاء المعتقلين.
- العمل على تمكين ممثلين من الأهالي للوصول للمؤتمرات الدولية التي تناقش أوضاع معتقلي غوانتانامو.
- تكثيف التواصل مع الجمعيات والمنظمات الدولية المعنية في هذا الشأن.
- استمرار السعي لضمان السماح من قِبَل الحكومة الأمريكية لبعض أعضاء الجمعية وذوي المعتقلين لزيارتهم في سجن غوانتانامو.
- تشكيل لجنة لمتابعة أوضاع المعتقلين وتتبع أحوالهم والتأكد من حصولهم على حقوقهم من خلال القنوات الرسمية، وقد تم تشكيل اللجنة وتحديد أسماء أعضائها وعددهم (12) عضواً تجتمع بشكل دوري ومنتظم، وقد تشكلت هذه اللجنة بهدف التعريف بقضية المعتقلين السعوديين في غوانتانامو من خلال وسائل الإعلام الغربية المختلفة، والتواصل مع أهالي المعتقلين من حيث موافاتهم بأخبار المعتقلين عند توفرها، والتواصل مع المعتقلين المفرج عنهم سواء كليّاً أو من لا يزالون تحت التحقيق في المملكة، أو من لا يزالون داخل المعتقل في غوانتانامو؛ بالإضافة إلى سعي الجمعية لإنشاء رابط خاص على الموقع الرسمي للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان يتم تخصيصه لقضية المعتقلين السعوديين في معتقل غوانتانامو يُعنَى بهذه القضية؛ بحيث يتم توفير بيانات عن أسماء المعتقلين السعوديين وصورهم، ومراسلات المعتقلين لأهلهم وذويهم، ومراسلات الأهالي للمعتقلين، بالإضافة إلى أبرز القوانين والمعاهدات الدولية الخاصة بأوضاع المعتقلين والأسرى، وأخبار اللجنة المشكّلة، وأخبار الأسرى وأهاليهم، وأخيراً التصريحات والأخبار الرسمية التي تصدر عن الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان فيما يتعلق بالمعتقلين وكل ما من شانه خدمة هذه القضية.
وفي خضم هذه الأعمال التي تقوم بها الجمعية في سبيل توفير جميع الوسائل اللازمة لتحقيق الهدف المنشود من هذا العمل ألا وهو إطلاق سراح جميع المعتقلين أو محاكمة من ثبت تورطه منهم أمام محاكم مدنية تفاجأت الجمعية والعالم بأسره بما أُعلن من قِبَل السلطات الأمريكية والمسؤولين عن المعتقل أن ثلاثة من المعتقلين أقدموا على الانتحار؛ فكيف يمكن لثلاثة من المعتقلين بحسب الرواية الأمريكية الانتحار؟ أليس هناك حراس مكلفون بالمرور كل دقيقتين على زنزانة كل معتقل بالإضافة إلى كاميرات مراقبة تراقب كل ما يدور في كل زنزانة؛ ناهيك عن غياب الوسائل المساعدة على أي محاولة لإيذاء النفس؟ ومع ذلك تقول وزارة الدفاع الأمريكية إن هؤلاء المعتقلين انتحروا!!! ولذلك فإن الجمعية تشكك في صحة الرواية الأمريكية؛ فما قيل على لسان بعض المسؤولين الأمريكيين من تبريرات غريبة غير مقنع؛ فموت هؤلاء المعتقلين تقع مسؤوليته على الإدارة الأمريكية سواء نُحروا بالوسيلة أم بالنتيجة؛ لأنه ليس من المعقول ولا من المقبول، فضلاً عن عدم المشروعية القانونية احتجاز مجموعة من الناس لمدة تزيد عن أربع سنوات دون إثبات تُهَم ضدهم.
ولا زالت الجمعية تتابع وضع هؤلاء المعتقلين وتطالب بإغلاق هذا المعتقل.
__________
(*) نائب رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان.(227/23)
التهاون مع الأقليات وأثرها في تفتيت الشدول
(الدولة العثمانية أنموذجاً)
حمدي عبد العزيز
لم يكن التسامح مقصوراً على عهد الراشدين أو المسلمين في القرون المفضلة، كما يظن ذلك بعض الناس، بل بقي هذا التسامح صفة أصيلة ملازمة للمجتمع المسلم وللحكم الإسلامي في كل عصر وفي كل مكان أياً كان الحاكمون. وكان المحكومون ـ حتى في أشد العصور اشتهاراً بالعصبية الدينية ـ يجدون في الدولة الإسلامية الملاذ. ولما هرب اليهود الإسبانيون فراراً من الاضطهاد الصليبي في جموع هائلة لم يجدوا لهم ملجأ إلا الدولة الإسلامية العثمانية في نهاية القرن الخامس عشر.
وفي وقت كان العالم يضج فيه بالممارسات الوحشية من قِبَل أي جماعة مسيطرة ضد الجماعات الأخرى التي تتجاور معها في المجتمع الواحد بسبب مخالفتها لها في الدين أو المذهب، كانت الدولة العثمانية المسلمة تقف في شموخ حضاري وقيمي وأخلاقي لا تمارس فيه ضد مخالفيها أي ممارسة متحيزة ... ولم يكن ذلك إلا بسبب قدرة مؤسسات الدولة العثمانية على التعامل مع التعدد والتنوع بفعالية وكفاءة.
وبهذا لم يكن العثمانيون مجرد غزاة، بل كانوا بناة حضارة وفاتحين تحكمهم أهداف استراتيجية مرتبطة بنشر عقيدتهم الإسلامية؛ لذا فقد راعوا عادات شعوب البلدان المفتوحة ولم يستخدموا الإكراه أو العنف في معاملة الأهالي.
وقاموا بتنظيم مؤسسة «الملة» لغير المسلمين بهدف تنظيم شؤونهم الداخلية بحرية تامة وأداء الجزية للدولة في مقابل الدفاع عنهم. ولكن مع تعاظم ضعف الدولة العثمانية وازدياد قوة النفوذ الخارجي داخلها وسعي هذه القوى الخارجية لكسب الأنصار والأتباع بدأ نظام المِلَل يتفتت وينفجر ليحل محله نظام طائفي ملغوم ومهدد للاستقرار وللهوية معاً.
وعلى مدار التاريخ الإسلامي فإن أكثر الظواهر السلبية التي شابت علاقة المسلمين بغيرهم لم تكن ناشئة فقط عن اعتداء الأغلبية على حقوق الأقلية لأي سبب كان، ولكن تلك الظواهر السلبية نشأت أيضاً إما عن سوء استخدام للحق مارسته الأقلية، أو إحساس سرى بين تلك الأقلية تحديداً في حالات الضعف أو الانكسار دفعها إلى محاولة قلب الميزان والتصرف بمنطق الأغلبية، وخصوصاً أن المحتلين لم يكفُّوا عن محاولة استمالة الأقلية من باب الإخلال بذلك الميزان الواجب الإحكام.
أولاً: نظام الملة:
في مرحلة قوة الدولة عبَّرت الخلافة العثمانية عن نموذج إسلامي لإنصاف غير المسلمين عن طريق تأسيس نظام سياسي داخلي يقوم على العدل والتسامح من ناحية، ويستند إلى قدرة تنظيمية ومؤسسية حيوية من ناحية أخرى.
وكانت الدولة العثمانية وقتذاك، دولة غير قومية؛ فلم يكن التمييز بين مواطنيها يتم على أساس العرق أو القوم، وإنما كان يتم على أساس الدين أو الملة، وكان هذا التمييز وظيفياً، ولم يكن في شيء منه عنصرياً؛ إذ كان الذين يختلفون مع الدين الرسمي للدولة هم رعايا للسلطان أيضاً يربطه بهم عقد يتبادل فيه الطرفان الحقوق والواجبات.
و (نظام الملة) الذي يقوم على تحديد هذه العلاقة، هو استمرار تاريخي وقانوني لمصطلح (أهل الذمة) ، وهو تعبير عن الخبرة العثمانية.. يركز على الانتماء الديني الذي لا يتعارض مع مفهوم الأمة، وقد قنن هذا النظام السلطان أبو الفتوح محمد الفاتح العثماني (1451 ـ 1481) ويقضي (نظام الملة) بمنح رؤساء الطوائف حق إدارة الشؤون الشخصية والعامة لرعاياهم عبر الدولة، وكان هؤلاء الرؤساء الدينيون يُنتخَبون من قِبَل أفراد ملتهم، ويُعَيَّن البطريرك المنتخَب بصورة براءة سلطانية.
وتم بموجب هذا النظام منح غير المسلمين حق الاستقلال بانتخاب رؤسائهم الدينيين، وحق ممارسة شؤونهم الخاصة في التعليم والقضاء (الجنائي والمدني) والضرائب تحت إشراف هؤلاء الرؤساء، وكانت كل مجموعة من غير المسلمين تمثل طائفة مستقلة يتحدد وضعها ووضع المنتسبين إليها وفقاً لانتمائهم الديني.
وأرسى هذا النظام العثماني، حق كل طائفة دينية في تنظيم شؤونها الداخلية عن طريق رؤسائها الذين كانوا يفصلون في المنازعات الداخلية بين أعضائها، كما كانت قضايا الأحوال الشخصية مثل: الميراث والزواج والوصايا والتركات يقوم بالفصل فيها رؤساء الطوائف المعترف بهم لدى الدولة، لكن الوثائق العثمانية تشير إلى أن النصارى واليهود كانوا يلجؤون إلى القاضي المسلم في كل أحوالهم الشخصية بلا استثناء.
وقام هذا النظام أساساً لتقوم كل طائفة بتحصيل الجزية عن طريق رؤساء المؤسسة، وبالرغم من أن الجزية كانت تسقط عمّن يؤدي خدمات خاصة للدولة كالأطباء مثلاً، ولا يؤدي الجزية القساوسة ورجال الدين غير المسلمين، كما لا يؤديها العاجزون عن حمل السلاح كالأطفال والنساء والعجزة وكبار السن، حتى المشاركون في الدفاع عن الدولة كان يتم إعفاؤهم من الجزية؛ ومع كل هذه المبادئ العالية في تعامل الدولة الإسلامية مع رعاياها غير أننا نجد أن المؤسسات الملية كانت تستغل تسامح الدولة معها في خفض مبالغ الجزية والتلكؤ في أدائها في أحيان أخرى.
وبموجب هذا النظام شاركت الأقليات في الأعمال التجارية والزراعية والصناعية بجميع أشكالها، ولكن لأن الدولة الإسلامية دولة عقيدة توظف كل إمكانياتها من أجل مبادئها؛ فإنها راعت أن يباشر توجيه الدولة لأهدافها، أُناس من المؤمنين بهذه العقيدة دون أن يعني ذلك تمييزاً ضد غيرهم من الرعية.
وكان غير المسلمين يزاولون جميع المهن والأنشطة التجارية والزراعية والحِرْفية دون أي تمييز أو تضييق؛ فالنقابات المهنية كانت تشمل المسلمين والذميين معاً، أما من حيث تولي الوظائف في الجهاز الإداري للدولة، فنلحظ أن غير المسلمين قد شاركوا الجيش العثماني بكتائب مستقلة في الفتوحات العثمانية وفي الدفاع عن الدولة.
وكانوا أيضاً يبرعون في مهن معينة كأقباط مصر الذين شكلوا معظم صناعات الصاغة والجواهر والتطريز في العهد العثماني، كما توضح وثائق المحكمة الشرعية وغيرها إقبال الأقباط على النشاط الزراعي بصورة كبيرة وبأشكال عديدة، سواء بالإيجار أو الإدارة الزراعية أو شراء الحدائق وتجارة وتسويق الفاكهة، ويمارسون ذلك إما بمفردهم أو بالمشاركة مع مسلمين، كما أجمعت العديد من الدراسات على أن الأقباط قد مارسوا التجارة في جميع المجالات تقريباً، وامتهنوا كل الحرف التي كانت تعرفها مصر آنذاك.
ويمكن القول: إن الخبرة العثمانية تعاملت مع غير المسلمين باعتبارهم جزءاً من النسيج العام للمجتمع الإسلامي، ولم تمارس تجاههم أي سلوك تمييزي أو إكراهي، ومن ثَم فإن المفردات التي يهتم بها علم الأقليات المعاصر مثل التعصب والتحيز والتحامل والتمييز والاضطهاد والتفرقة لم تعرفه الخبرة الإسلامية عامة والخبرة العثمانية خاصة.
ونظراً لأن هذه الخبرة قدمت نموذجاً إسلامياً وُصِف بأنه المدافع عن حقوق البسطاء، وأنه الموسوم بالعدالة والكمال، وأن حلوله في أي بلد يعني نهاية الشرور؛ فلقد ظهرت في أوروبا نفسها أدبيات الحب والحنين للعثمانيين، ودفعت آثار هذا التسامح المؤرخ الفرنسي (فرنان بروديل) إلى القول: «أصيب النصارى المجاورون للبلدان الإسلامية بدوار الردّة؛ فقد بدؤوا ينقلبون من النصرانية إلى الإسلام أفواجاً أفواجاً طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر» .
وبموجب نظام «الملة» تقلصت سلطات الدولة مكانياً ووظيفياً على المدن والسواحل والأودية النهرية والسهول، بحيث لم يكن على الجماعات الراغبة عن الخضوع لها إلا الانسحاب إلى حيث يصعب الوصول إليها. ومن جهة أخرى تحددت سلطات الدولة ببعض الاختصاصات التي جعلت منها نموذجاً للدولة الحارسة التي لم تكن تُعنَى بغير استتباب الأمن الداخلي والخارجي، وجباية الضرائب، وحفظ الدين وإقامة شعائره دون إلحاح بها على غير أهله.
غير أن هذا النظام الذي عبَّر عن نجاح الدولة العثمانية في التعامل مع التنوع والتعدد على المستوى الاجتماعي والثقافي قد تحول ـ في فترة الضعف والاختراق الخارجي ـ إلى المستوى السياسي ليكون أساساً لبرنامج انفصالي يهدد وحدة الدولة والمجتمع، وهذا ما حصل.
ثانياً: ظروف تحوُّل الأقليات من الديني إلى السياسي:
لقد ظل نظام الملل واحداً من الشواهد على سماحة الإسلام مع مخالفيه في العقيدة، ولكن لما كانت السماحة سلاحاً في يد القوي مصوَّباً إلى قلب الضعيف فإنه ما إن بدأت الإمبراطورية العثمانية تضعف قواها وتخور حتى وقع الاختراق الغربي لأراضيها بعد توظيف مجموعة التأثيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كان قد تم التمهيد لها من قبل.
وظلت الإرساليات التنصيرية شاهداً على هذا الاختراق، كما لعبت المؤسسات التعليمية المرتبطة بالبعثات التنصيرية المختلفة دوراً بارزاً في نمو وعي طائفي مرتبط بالخارج.
ومهد ذلك لخطوة تالية هي التدخل بالضغط على الدولة العثمانية للحصول على امتيازات للأقليات، كما في نظام الامتيازات، والذي منح الأجانب الذين يقيمون في أراضي الدولة العثمانية حصانات وحقوق وإعفاءات مميزة، كذلك عدم خضوعهم لقوانين الدولة العثمانية، وإنما لقوانين البلاد التي ينتمون إليها، ولقد اتفق تاريخياً على أن الامتيازات التي منحها السلطان سليمان القانوني سنة 1535 إلى (فرانسوَا الأول) ملك فرنسا هي البداية للاختراق الاقتصادي للمنطقة وإلحاقها بالغرب.
وتلا هذه الامتيازات تدخلات من جانب دول أوروبية معينة في الدولة العثمانية بحجة حماية الأقليات وتحسين أوضاعها، ويمثل (الخط الهمايوني) الذي أصدره السلطان عبد المجيد في 18 من فبراير سنة 1856 قمة تأثير التدخل الخارجي في توجيه السياسة العثمانية وتشكيلها؛ فرغم أن إعلان (الخط الهمايوني) هو شأن داخلي لتنظيم العلاقة بين السلطان ورعاياه، إلا أن معاهدة دولية هي معاهدة باريس سنة 1856 قد تضمنت الإشارة إليه ضمن بنودها ـ البند 9 ـ وهو ما اعتبر مساساً بشرف الدولة وكرامتها.
ومن ذلك (إلغاء الجزية) سنة 1857، لكن فرض التجنيد الإجباري على الأقليات غير المسلمة لم يطبق إلا سنة 1908 وكانت الخدمة العسكرية تمثل واجباً ثقيلاً؛ إذ كانت تبلغ عشرين سنة، وكان القانون يقبل البدل النقدي مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية، وكان غير المسلمين يدفعون البدل مقابل إعفائهم من الخدمة، وكان رؤساء الطوائف هم الذين يقومون بجباية الإعانة العسكرية، ولكنهم كانوا يتلكؤون في تحصيلها ودفعها بانتظام.. أي أن الأقلية غير المسلمة استفادت من المزايا ولم تشأ أن تتحمل ما يقابلها من الواجبات والتكاليف.
وعدم اشتراك غير المسلمين في الجيش العثماني جعلهم يتخصصون في الأنشطة الاقتصادية بحيث صار كثير منهم وكلاء وقناصل فخريين للدول الأجنبية، مما جعلهم مراكز قوى داخل الدولة العثمانية استعانت بهم الدول الأجنبية لاختراقها ثم تفتيتها. والثابت أن الأقباط قد أعرضوا عن التعاون أو الاستفادة من التوسع التجاري الأوروبي، كما أن بيوت التجارة الأوروبية عندما بحثت عن عناصر يعملون معهم كوكلاء وتراجمة ومقاولين للتجار الفرنجة اختارت في الأساس أن تستعين باليهود وبعض الأقليات الأخرى.
ü التحول العلماني التركي يثير صراع الأقليات:
وبانقضاء «الفترة المثالية للحكم العثماني» مع كثافة التدخل الاستعماري المواكب لبدء سياسة «التتريك» أخذت صراعات الأقليات أشكالاً ثلاثة:
الأول: الصراع بين الأقليات الدينية بعضها مع بعض بتأثير رغبة كل منها في ترجمة ما تتمتع به من حماية إلى مزيد من النفوذ والامتيازات، ومن ذلك ما اصطُلح على تسميته بمذابح الدروز والموارنة في عام 1860م. وارتبط هذا الصراع بما عرف بالرعاية المذهبية التي سعت الدول الأوروبية لتنفيذها بحيث ترعى كل دولة أوروبية مجموعة من غير المسلمين تبعاً للتوافق المذهبي.
ومن المفارقات أن النمسا تدخلت لحماية الكاثوليك، والملاحظة الجوهرية هنا هي أن الرعايا الذين تريد النمسا حمايتهم ليسوا من الكاثوليك، بل هم أرثوذكس مجاورون للحدود النمساوية/ الصرب، الأفلاق، البغدان، الجبل الأسود.
أما الثاني: فهو الصراع بين الأقليات المختلفة وبين السلطنة العثمانية طلباً للاستقلال أو لبعض التنازلات، وكان من نماذجه تحالف الأرمن مع روسيا ضد العثمانيين في عام 1894م.
وبدأت روسيا تستخدم بفعالية ورقة الأقليات في تفجير الدولة العثمانية من الداخل، ويمكن القول: إن انفصال اليونان والأفلاق والبغدان وصربيا والجبل الأسود عن الدولة العثمانية يرجع إلى المساندة الروسية بشكل أساس. والهدف الروسي الواضح من إثارة الأرمن كان الوصول إلى بلغاريا واقتطاع أرض جديدة، وكان لحركة الاتحاد والترقي دور في مساندة الأرمن أيضاً، وهو ما أثار السلطان عبد الحميد، فذكر أنه لم يكن يدهش: «لهيام الأرمن بحب الاستقلال خاصة بعد معرفة إثارة الدول الكبرى لهم بلا توقف، لكني أدهش لأن بعض أفراد تركيا الفتاة الذين هربوا إلى أوروبا وأصدروا هناك صحفاً ضدي كانوا يتعاونون مع أعضاء المنظمات والجمعيات الأرمنية.. كانوا يقولون: إنهم يريدون إنقاذ الدولة العثمانية من التمزق، ثم يتعاونون مع الذين يعملون على تفتيت الدولة» .
أما الثالث: فيتمثل في الصراع بين الأقليات وبين السلطات الاستعمارية ذاتها. وللخبرتين البريطانية والفرنسية دلالات كبيرة، ويقوم الصراع بعد أن تسعى هذه السلطات إلى فصل الأقلية عن محيطها الاجتماعي بسن القوانين أو المعاملة التمييزية أو الإعلان عن الانتماء المشترك مثلما قامت فرنسا بإصدار الظهير البربري في الحقبة الاستعمارية للمغرب بهدف استقطاب الأقلية البربرية وفرنستها غير أن البربر رفضوا ذلك وطالبوا بالوحدة والشرع الإسلامي.
ثالثاً: دور الأقلية اليهودية في تفتيت الدولة:
يمكن تقسيم الأقلية اليهودية إلى شريحتين:
الأولى: الجماعات اليهودية التي وجدت في الأراضي العثمانية قبل وصولهم إليها وهم يتألفون من يهود ينتمون إلى الإمبراطورية البيزنطية القديمة.
الثانىة: الجماعات اليهودية التي هاجرت إلى الدولة العثمانية بسبب اضطهادها في العالم الغربي.. لكن هذه الهجرة بلغت مداها بعد قرار طرد اليهود من أسبانيا عام 1492 وقد استقبلتهم الدولة العثمانية بتسامح شديد.
وهذه الهجرة قد أدت إلى انقلاب في حجم الملة اليهودية في الدولة العثمانية؛ ففي جميع المراكز الحضرية التي تتميز بقدر من الشهرة وجدت جاليات يهودية مهمة؛ ففي (سالونيك) كان أكثر من 60% من سكانها يهوداً، وفي القرن السادس عشر أصبحت العاصمة الأم لليهود في الدولة العثمانية.
وقد تميزت تلك الحركة بالامتداد والتشعب والتعقيد؛ إذ وجدت في هذه الحقبة عوامل عديدة متشابكة مثل حدوث الأزمات الاقتصادية ومحاولات تغريب النظام الاجتماعي للمجتمع التركي، وإثارة القوى الغربية للقوميات والنعرات الطائفية وإقامة تحالفات مع الأقليات، وكان أكثرها تأثيراً التحالف مع بعض التنظيمات داخل الجماعات اليهودية.
وقد شهدت تلك الفترة ميلاد حركتين: الأولى: ظهور الحركة الصهيونية كمنظمة سياسية عام 1897، أما الحركة الثانية: فكانت في ظهور حركة الاتحاد والترقي التي هيمنت على مجريات الأمور في تركيا، وقد استعانت بها الصهيونية. في إلغاء منصب الخلافة الإسلامية بكامل رسومه ورمته، وتحويل الدولة التركية من دولة إسلامية إلى دولة علمانية.
وكان يهود الدونمة من أبرز الطوائف التي استجابت لتلك الحركة على أساس أنها أقرب طوائف اليهود لفلسطين، كما أنها يمكنها أن تقوم بدور إيجابي، وقد تمخض نشاطهم داخل تركيا عن ميلاد حزب تركيا الفتاة الذي كانت أغلب تشكيلاته من يهود الدونمة الماسونيين الذين هيمنوا على مجريات الحياة الاقتصادية والإعلامية.
والاتحاد والترقي نشأ أولاً كلجنة في حزب تركيا الفتاة في سنة 1889 وعقد اجتماعاته ونظم تشكيلاته داخل المحافل الماسونية في تركيا، كما فتحت السفارات الأجنبية أبوابها داخل تركيا وخارجها لأعضائها بهدف تشجيعهم على معارضة السلطان.
و (الدونمة) كلمة تركية أطلقها الأتراك على اليهود الذين هاجروا من أسبانيا إلى تركيا بعد اضطهادهم وطردهم على أيدي محاكم التفتيش الأسبانية.. ومعنى الكلمة: (إظهار خلاف الباطن) وقد اختارها الأتراك، وأطلقوا على هؤلاء اليهود الذين تظاهروا بالإسلام وأضمروا اليهودية وعاشوا بوجهين وكأنهم يعنون بها النفاق والزندقة.
ومن أجل العمل لإسقاط الخلافة اتبعوا في ذلك خطة ذات شعبتين:
الأولى: إبراز السلطان عبد الحميد ووصفه بالحاكم المستبد، وأن نظام الخلافة الإسلامية هو السبب في تخلف المسلمين، وفي الوقت ذاته عملوا على تمجيد الغرب مستغلين تيار التغريب الذي يدعو لإصلاح الحال على منهج الغرب، وراح هذا التيار التغريبي يدعو إلى تقليد أوروبا في كل شيء، فانزلقت قدمه في الفساد قبل أن يحاول تثبيتها بالتقدم العلمي والتقدم المادي.
أما الثانية: فكانت بيع الخلافة الإسلامية ... والذين قاموا بإجراء تلك الصفقة هم جماعة الاتحاد والترقي، وقد ظهر ذلك جلياً في مؤتمر الصلح الذي انعقد في مدينة لوزان، وقد مثَّل تركيا في لوزان (الحاخام ناحوم قره صو) رئيس الوفد، وهو الذي قدم للسلطان عبد الحميد قرار عزله، وكل من (رضا نور) و (عصمت إينونو) ويعترف (رضا نور) بأنه هو الذي أعلن علمانية تركيا في مؤتمر الصلح، ثم يقول: « ... كانت هذه أهم نقاط الارتكاز التي اعتمدنا عليها في لوزان ... أن صفقة بيع وشراء الخلافة والتنازل عن الموصل قد تم بين لندن وأنقرة، وما حضور وفد تركي إلى لوزان إلا للتمويه والتوقيع» (1) .
وما كادت تستقر الأمور للاتحاديين والكماليين تحت زعامة مصطفى كمال؛ حتى قام بإلغاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية وطرد الخليفة من البلاد، وتنكَّر لكل القيم الإسلامية، فتخلى عن القرآن الكريم للقانون المدني السويسري، وأباح زواج المسلمات من غير المسلمين، ومنع السفر للحج، وجعل يوم الأحد العطلة الرسمية، ووضع على صدر دستوره كلمة «القرآن دستور البداوة» .
وبناء على ما سبق يمكن القول: إن من أهم الآثار السياسية في الخبرة العثمانية:
ـ أن مفهوم الأقلية السياسية عرفته الدولة العثمانية عندما عنّ للقائمين على شؤونها (الاتحاد والترقي) أن يعملوا على تتريك كافة عناصرها، فكان ذلك بمثابة الضوء الأخضر لعديد من القوى الاستعمارية التي كانت تتحين الفرصة لتقويض الإمبراطورية وإقامة العديد من الدول والكيانات على أنقاضها. وكانت سياسة التتريك ضمن خطة لبعث القوميات في الخلافة العثمانية، مما أدى في نهاية المطاف إلى انقسامها إلى أكثر من ثلاثين دولة تواجه كل منها مصيراً محفوفاً بالمخاطر والمطامع الاستعمارية إلى اليوم.
ـ بروز الخطر اليهودي عقب كل مواجهة مع القوى الخارجية، بحيث كان المجتمع يتعرض لمواجهة خطر خارجي يعقبها مواجهة داخلية للتخلص من الأقلية التي نبذت ولاءها للدولة في أثناء الخطر الخارجي.
وهذا يعني شيئين: أحدهما: أن خطر الأقلية يميل للتعاظم حين مواجهة خطر خارجي. ثانيهما: أن الاستجابة لإغراء استغلال الخطر الخارجي من جانب الأقلية ضد الدولة التي تعيش فيها الأقلية سيجعلها تدفع ثمن ذلك غالياً وهو وجودها في كثير من الحالات.
ـ في الحالة العثمانية أطاحت الأقلية بالدولة وقامت بتفتيتها إلى دول كثيرة، ومهدت كذلك إلى إقامة دولة للجماعات اليهودية في فلسطين. وتلعب هذه الدولة الدور نفسه الذي لعبه «يهود الدونمة» في الدولة العثمانية؛ فاستغلال مسألة الأقليات بالنسبة للعدو الصهيوني في الوطن العربي، عبارة عن وسيلة وغاية ومبدأ؛ فإلى جانب الإضعاف والاستنزاف والتفتيت للأقطار العربية المعنية فإن العدو الصهيوني باستغلاله لهذه المسألة حدد مبدأً أيديولوجياً في صلب العقيدة الصهيونية، هذا المبدأ هو إرساء القاعدة الإثنية كأساس مشروع لقيام «الدولة الشرق أوسطية» .
فقد تلقفت الدولة العبرية بعض الاجتهادات الاستشرافية وصاغت منها ما يعرف بـ (نظرية المجتمعات الفسيفسائية) أو (مجتمعات الموزاييك) وتذهب هذه النظرية إلى أن الشرق الأوسط هو عبارة عن مجموعات دينية وطائفية وعرقية ولغوية تتعايش معاً بحكم التاريخ والضرورة، ولا يربط بينها جميعاً أي رابط وطني أو قومي.
وهذا هو (مشروع الشرق الأوسط الكبير) عينه؛ فهل نعي الخطر المحدق بنا إن لم نكن أمة واحدة كما أمرنا ربنا؟
مصادر المقال:
1 ـ الأقليات والممارسة السياسية في الخبرة الإسلامية، دراسة حالة الدولة العثمانية (رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاقتصاد والسياسية بجامعة القاهرة (1995م) للأستاذ: كمال السيد حبيب.
2 ـ مواطنون لا ذميون، للأستاذ فهمي هويدي، دار الشرق 1990م.
3 ـ من العثمانية إلى المصرية، د. وليم سليمان قلادة، مركز البحث والدراسات السياسية (جامعة القاهرة) 1999م.
4 ـ الأقليات والاستقرار السياسي في الوطن العربي (مركز الدراسات والبحوث السياسية ـ جامعة القاهرة) 1988، د. نيفين عبد المنعم مسعد.
5 ـ دور يهود الدونمة في إسقاط الخلافة العثمانية، د. محمد زغروت (دار التوزيع والنشر الإسلامية) 1991م.
6 ـ تأملات في مسألة الأقليات، د. سعد الدين إبراهيم (مركز ابن خلدون) بالقاهرة 1993.
__________
(*) باحث سياسي.
(1) من المفيد الاطلاع على مذكرات (رضا نور) التي نشرتها مجلة (المجتمع) في عدة حلقات توضح دوره المشبوه ضد الخلافة العثمانية. ^.(227/24)
مأساة مبتعث في بلاد العم سام
أحمد عبد العزيز العامر
يكفل الدستور الأمريكي في تعديلاته المعروفة باسم (وثيقة الحقوق) للأفراد حقوقهم وحرياتهم، وهذه الوثيقة التي أضيفت للدستور الأمريكي عام 1791م تتضمن نصوص حرية القول والصحافة والعبادة، وحقوق المواطنين في عقد الاجتماعات السلمية، وحرمة المساكن ضد التفتيش بغير موجب، أو احتجاز من فيها من أشخاص أو ما تحويه من ممتلكات، وإن من حق كل شخص توجه إليه تهمة خرق القانون أن يحظى بمحاكمة سريعة أمام هيئة محلفين مشكلة من مواطنين عاديين.
وجاء في وثيقة إعلان استقلال الأمريكيين: «إننا نعتبر هذه الحقائق بديهية وهي أن الناس جميعاً خلقوا متساوين، وأن خالقهم منحهم حقوقاً ثابتة غير قابلة للتصرف بها، وأن من بينها حق الحياة والحرية ونشدان السعادة» فما مدى صحة ما جاء في تلك النصوص؟ وما مدى صحة تطبيقها في الواقع المعاش؟ هذا ما سنراه في هذه المأساة (1) .
أمامنا قضية الأخ (حميدان التركي) الطالب السعودي المبتعث من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لنيل درجة الدكتوراه في الصوتيات بعد نيله درجة الماجستير بامتياز من جامعة (بولدر) بولاية كلورادو، بعد اتهامه بمزاعم بدأت بدعوى مخالفة أنظمة الإقامة ودعوى الإرهاب؛ ففي شهر نوفمبر 2004 اقتحم منزله ثلاثون من مكتب التحقيقات الفدرالية ورجال مكتب الهجرة وبادروا على الفور بتهديد زوجته مع تصويب السلاح إلى رأسها مستفسرين عن مكان سلاح زوجها المزعوم! ثم قاموا باعتقال زوجته الفاضلة (سارة الخنيزان) وفُرِّق بينها وبين أطفالها الخمسة 12 يوماً ثم سمح لها بالخروج لبلدها بشرط تنازلها عن حقوقها القانونية!! وانتهت قضية الأخ حميدان التركي باتهامات مزعومة في حق العاملة الأندونيسية لديه، ونحسب تلك التهم لا يمكن أن يرتكبها شاب مسلم مثله، وهو يعيش مع زوجته وأطفاله والعاملة بمنزل واحد، والأعجب أن التحقيقات مع العاملة تكررت (12 مرة) من قِبَل المباحث الفيدرالية وكانت في كل مرة تشيد بمعاملة تلك العائلة معها، وفي المرة الـ (13) تغيرت أقوالها بنسبة 180درجة، هل تدرون ما السبب؟ ذلك يعود في نظرنا لما يلي:
1ـ العداء للمسلمين كما هو معروف بعد أحداث 11 سبتمبر خاصة.
2 ـ العنصرية الممقوتة التي يتبنّاها بعض الأمريكان من رجال القضاء الذين ناقشوا تلك الحادثة بتلك الخلفيات.
3 ـ قيام (دار البشير) التي يملكها المتهم بجهد ريادي في الدعوة والتعريف بالإسلام ودحض شبهات الإرهاب عنه، فضلاً عن التأثير الإيجابي (لموقعه الإلكتروني: www.al-basheer.com) على الجالية الإسلامية في أمريكا.
4 ـ أما المخفي والأعظم فقد تحدثت عنه الأكاديمية السعودية (أميمة الجلاهمة) في مقال لها عن هذه الواقعة نشرته صحيفة الوطن في العدد 2108 الصادر في 12/6/1427هـ الموافق 8/7/2006م، وحيث إن علم الصوتيات أثبت أن البصمة الصوتية الأصلية تختلف عن البصمة المصطنعة، وهذا العلم قد يكون له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالشؤون الأمنية، وما ذكر من أن مكتب التحقيقات الفدرالية سبق أن عرض على الأخ الباحث التعاون معه لكنه رفض، والنتيجة هي ما حصل من معاناة تفضح عدالة القوم وديمقراطيتهم ذاتها.
فقد أسيء لهذه الأسرة من السجن إلى الإقامة الجبرية ثم تفريق أطفالهما الخمسة عن والديهم بما يخالف أدنى حقوق الإنسان، والأغرب أن يسمح الأمريكان لزوجته بالعودة لبلادها بشرط تنازلها عن حقوقها القانونية، مع أن للطالب جهوداً متميزة بتعرية العنف والفكر المتطرف كما هو واضح في موقعه الإلكتروني.
لكن القضاء الأمريكي أنهى تلك المسرحية بالإدانة بعدما أعلن المحلَّفون أن المتهم مذنب بتهم من قبيل الاختطاف والتآمر على الاختطاف والتحرش؛ مع وعد بالنطق النهائي في 31/7/2006م، حيث لوَّحوا بالسجن المؤبد للمتهم والتي قال عنها المحامي (راتشيلينو) إن الحكم يتعارض مع قوانين العدالة، وأن المحاكمة باطلة لخروجها عن المسار المحدد لها؛ فالديمقراطية والقضاء الأمريكيان بهذا الحكم أو بهذه المهزلة سقطا بامتياز، مع العلم أن تقرير منظمة (هيومان رايتس ووتش) لعام 2006 اتهم الإدارة الأمريكية، بأنها في ديمقراطيتها الكاذبة تضعف تيار الدفاع عن حقوق الإنسان عبر العالم، حينما جعلت التعذيب والسلوكيات والمعاملة السيئة، جزءاً مكملاً لاستراتيجيتها المناهضة لما يسمى بالحرب على الإرهاب. ألا ترون موقفهم من الحرب الهمجية النازية ضد الفلسطينيين وتأييدهم لها؟ هل هذه هي الديمقراطية الأمريكية؟ خاب وخسر من يطلب الخير في مثل تلك الديمقراطية.
ويوضح ذلك بصورة جلية شهادة المفكر الأمريكي الشهير (نعوم تشومسكي) في زيارته الأخيرة للبنان حيث هاجم الديمقراطية الأمريكية ووضح عوارها بما لا مزيد عليه.
ونحن على ثقة أن الباطل لا يدوم (وحسبنا الله ونعم الوكيل) .
__________
(1) انظر: كتاب (هذه هي أمريكا) من منشورات وكالة الإعلام الأمريكية.(227/25)
أساليب الدعاية المعاصرة (الغاية تبرر الوسيلة)
أحمد دعدوش
مع تطور وتوسع دَوْر وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال التي تجتاح عالمنا اليوم، تتماهى باطِّراد تلك الحدود التي كانت تفصل في الماضي بين دور كل من الإعلامي والمعلِن؛ إذ يضطر كل منهما للتحايل على ارتفاع مستوى الوعي الاجتماعي، مستفيدَيْن من تطور مهارات الاتصال وتقنيات الإبهار، مما دفعهما للانتقال إلى مستويات أعلى من الإسفاف في نقل الصور المؤدلجة عن الواقع، أو الإمعان في ترسيخ صور أخرى في ذهن المتلقي.
وتلعب الفلسفة العملية البراغماتية دوراً رئيساً في تشكيل العقل الجمعي المُجبَر على الانصياع للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد في العالم الغربي، وبما يصب أساساً في مصلحة النخبة المتنفذة، وهو الأمر الذي يتم تعميمه في مجتمعات العالم كافة مع تزايد وطأة العولمة وفق صياغة «عالم القطب الواحد» .
يعتمد الإعلاميون والمعلنون - على حد سواء - على التطور الملفت في تقنيات الإعلام والتسويق؛ حيث تستفيد معظم الجامعات المختصة بهذين الفرعين من دراسات تقنيات التأثير والاتصال، والتي تتركز في معظمها على النفوذ إلى العقل الباطن والتأثير اللاواعي على اهتمامات المتلقي ورغباته، ثم توجيهها وفق مصالح النخبة. ويمكن تلخيص أكثر الأساليب الدعائية شيوعاً في النقاط التالية:
1 - القولبة والتنميط: لعل هذا الأسلوب من أكثر أساليب الدعاية شيوعاً ووضوحاً؛ إذ تقدم لنا وسائل الإعلام وجهات نظر أصحابها الخاصة في كل شيء، كأن يُحرَص على تقديم المسلم في صورة رجل طويل اللحية غريب الملبس، أو في صورة امرأة تتشح بالسواد وتجلس على مقعد السيارة الخلفي؛ حيث يعمل تكرار هذه الصورة على الربط التلقائي لكل ما تستدعيه من توابع قد لا يُصرَّح بها، فيغدو الإسلام مرتبطاً في ذهن الغربي بكل الصفات السلبية التي تستبطنها تلك الصورة دون البحث عما يمكن أن يخفيه المظهر الخارجي من قيم ومبادئ تُقصَى عمداً عن الطرح والمناقشة.
2 - تسمية الأشياء بغير مسمياتها: بما أن وسائل الإعلام تُمسِك اليوم بزمام الرأي العام، وتعمل على توجيهه وصياغته على النحو الذي تريد؛ فإن ذلك يستتبع بالبداهة تحكُّمها في المفاهيم والمصطلحات التي تتداولها وتسعى لتدويلها بين الناس؛ إذ تتجنب غالباً التعرض المباشر للقضايا التي ترغب في تحويرها أو تغييرها، وإنما تعمل على إعادة صياغتها بلغة جديدة تتناسب مع سياساتها وبثها بين الناس الذين يتقبلونها لا شعورياً على المدى الطويل. ومن ذلك مثلاً إطلاق كلمة الدين على كافة الأديان دون تمييز، تمهيداً لتقبُّل النقد العلماني للإسلام على أنه دين لا يختلف في شيء عن ذلك الدين الذي وقف عائقاً في وجه النهضة الأوروبية لعشرة قرون، أو تعميم كلمة الأصولية على كل من يعدّ الأصول (النصوص) مرجعية له، للوصول إلى حتمية الربط بين الدين والعنف، وينطبق الأمر على مسميات كثيرة يتم العبث بها كتعدد الزوجات وحقوق المرأة وحجابها وحقوق الإنسان، إلى غير ذلك.
3 - إطلاق الشعارات: وهو أسلوب شائع في الدعايات التجارية والسياسية على السواء كما هو معروف؛ إذ غالباً مَّا يتم تعميم أحد الشعارات المنتقاة بعناية كعنوان عريض لكل حملة إعلانية، ومن ذلك مثلاً تأكيد أحد أشهر معاجين الأسنان في أمريكا على شعار (النَّفَس المنعش) أكثر من التذكير بالهدف الرئيس من تنظيف الأسنان وهو حمايتها من التسوس؛ إذ دلت الدراسات التي قام بها المنتجون على أن اهتمام المستهلك ينصبُّ عادة على رائحة الفم الطيبة أكثر من صحة الأسنان. وهكذا يعتمد المعلنون على ربط أهدافهم الإعلانية بأكثر الشعارات جاذبية، وبغض النظر عن مصداقيتها، وصولاً إلى الربط اللاشعوري بين الشعار والمعلَن عنه حتى يغدو مجردُ تذكُّر المستهلك لرائحة الفم الطيبة محرِّضاً تلقائياً على استحضار صورة ذلك المعجون بالرغم من أن كل المعاجين تشاركه في هذه الخاصية.
4 - التكرار: لا يكتفي المعلنون عادة بمجرد التنميط والكذب، بل يعمدون كثيراً إلى التكرار المستمر لشعاراتهم وحملاتهم الإعلانية التي تلاحق الناس أينما ذهبوا، وقد يلجأ البعض إلى التكرار في عرض إعلاناتهم غير المباشرة ليحصدوا نتائج أكثر فعالية من الإعلان المباشر عندما يكون التصريح مثيراً للحساسية أو الرفض؛ إذ دلت إحدى الدراسات على أن تكرار ظهور أحد ممثلي السينما وهو يدخن خلال الفيلم لأربع مرات، قد يؤدي إلى زرع صورة إيجابية للتدخين عند المراهقين المعجبين بهذا الممثل، مما يعطي دلالة واضحة على أثر الإعلان غير المباشر في بث الرسائل الإعلانية مع التكرار المستمر، وهو أمر يزداد خطورة عندما يقترن بالتصريح المباشر والموجه.
5 - الاعتماد على الأرقام والإحصائيات ونتائج الاستفتاء: وهذا الأسلوب يضفي الكثير من المصداقية على الخبر المراد ترويجه؛ إذ تعمد وسائل الإعلام - الأمريكية منها على وجه الخصوص - إلى دعم الكثير من الأخبار والإعلانات باستفتاءات وإحصائيات تنسب عادة إلى بعض الجهات المتخصصة ذائعة الصيت، وبالرغم من شيوع القول بأن هذه المؤسسات البحثية والإحصائية قد اكتسبت شهرتها بسبب مصداقيتها ونزاهتها، إلا أنه من غير الممكن أيضاً التأكد من ذلك بأي وسيلة كانت.
6 - الاستفادة من الشخصيات اللامعة: وهو أسلوب شائع وشديد الخطورة، ولا نقصد به هنا الاقتصار على جذب مشاهير الفن والرياضة للإعلان التجاري، مع ما في ذلك من تبعات سيئة على الجيل الناشئ الذي يتخذ من هؤلاء قدوة في السلوك، ولكن الأمر قد يصل إلى حد الخداع بالاستفادة من بعض الانتهازيين من المفكرين والعلماء الذين لا يتورعون عن الممالأة وتقديم بعض الآراء في قوالب فكرية مصطنعة، مع التأكيد على إبرازها تحت أسماء هؤلاء المشاهير بما يحملونه من ألقاب قد تصاغ خصيصاً لإضفاء المزيد من التأثير. وهنا نشير إلى أسلوب انتهازي يُسْرِف الإعلام الغربي - أو العربي المستغرب - في تطبيقه عبر تمرير الكثير من الأفكار والتوجهات تحت أسماء عربية وإسلامية يراد لها أن تتبوأ مركز الريادة والتوجيه، ويتم تقديمها تحت مسميات من قبيل: «الباحث الاستراتيجي» ، «الخبير في شؤون كذا» ، «المفكر الإسلامي المستنير» ، وتكمن الخطورة هنا في بث الأفكار المستوردة بألسنة محلية وأسماء مقبولة ومعروفة، بدلاً من الاستعانة بأسماء وألقاب أجنبية قد تثير بعض الحساسية.
7 - عدم التعرض للأفكار السائدة: يؤكد الباحثون في مجال الإعلان اليوم على ضرورة تجنب الصدام مع المتلقي؛ إذ فشلت الكثير من المحاولات السابقة في فرض بعض التوجهات والآراء على الرأي العام عنوة، ومن ذلك مثلاً قرار تحريم الخمر الذي صدر عام 1920 في الولايات المتحدة بجهود «رابطة مقاومة الحانات» التي قامت بحملة إعلانية كبيرة طبعت من خلالها أكثر من 157 مليون نشرة ومليوني كتاب وخمسة ملايين نسخة من الكتيبات ومليوني ملصق (بوستر) وثمانية عشر مليوناً من البطاقات، تدعو جميعها إلى توعية الناس بأضرار الخمور على جميع الأصعدة، فكانت النتيجة أن نشأت جمعية أخرى مناهضة لهذا القرار، ومع أنها لم تكن تملك من الإمكانيات الإعلانية ما تملكه الجمعية الأولى، فإن الغلبة كانت لهذه الثانية بعد أن تحول تجار الخمور من التجارة المشروعة إلى الاحتكار والابتزاز والتحايل على السلطات، وربما انتشر تداول الخمور بين العامة بصورة أكبر من ذي قبل، مما أدى من ثَم إلى إلغاء القرار بعد ثلاثة عشر عاماً من صدوره، وعدم التجرؤ على الاصطدام الحاد بالأفكار السائدة في المجتمع.
8 - التظاهر بمنح فرص الحوار والتعبير عن الرأي لجميع الاتجاهات: فمع أن الحرية الفكرية أمر محمود ومطلوب في كل المجتمعات، إلا أن هذه الدعوى قد تبدو كلمة حق أريد بها باطل؛ إذ إنها كثيراً ما تؤدي إلى نتيجتين على قدر من الخطورة:
أولاهما: منح أصحاب الآراء والتوجهات الشاذة فرصة الظهور على مسرح الأحداث وكأنهم أصحاب تيار حقيقي كامل، يملك الحق في الوجود والتعايش مع الآخرين، ويبحث عن موطئ قدم مريح وهادئ، تماماً كما يقدم الإعلام الغربي الشاذين جنسياً على أنهم مجرد «مِثْليين» يتمتعون بحس عاطفي بريء تجاه أمثالهم في الجنس، ويسعون لاكتساب احترام الآخرين وتفهُّم رغباتهم النفسية والجسدية.
النتيجة الثانية: هي كسب تعاطف المتلقي عبر تقديم هذه التوجهات الشاذة في صورة عاطفية تداعب الأحاسيس، بدلاً من طرحها للنقاش العلمي والفكري كأن تجري مداولتها في مناظرات علمية حقيقية تعطي الحق للمخالفين في تفنيدها بالتساوي مع حق أصحابها في الطرح.
وقد قدمت هوليود مؤخراً فيلماً سينمائياً يعرض قصة اثنين من رعاة البقر الشاذين جنسياً في صورة إيجابية تدفع المشاهد للتعاطف اللاشعوري، وهو الأمر الذي أكدته ردود أفعال الكثيرين ممن شاهدوا الفيلم كما ورد في مجلة (النيوزويك) واعترفوا بتغيير نظرتهم كلياً تجاه الشذوذ الجنسي.
9 - التأكيد بدلاً من المناقشة والبرهنة: بالرغم من تساهل وسائل الإعلام مع أصحاب الآراء الشاذة في عرض وجهات نظرهم، إلا أنها غالباً ما تُغفِل الآراء التي لا تتفق مع مصالحها بشكل شبه تام، فتقدم وجهات نظرها على أنها من المسلَّمات التي يتفق عليها الجميع دون نقاش، وتتجنب حتى الرد على الرأي الآخر خشية تسليط الضوء عليه والمساعدة على انتشاره بلفت الأنظار إليه. ومن ذلك تقديم الديمقراطية الليبرالية الغربية على أنها الحل المجمَع عليه في الكثير من وسائل الإعلام العربية وكأن المجتمع العربي- الإسلامي بكافة أطيافه قد قال كلمته في ذلك.
10 - عدم التعرض للقضايا الحساسة: امتداداً لما سبق؛ فإن الإعلام الموجه يتجنب غالباً التعرض للقضايا المثيرة للخلاف، بل يتجاوزها إلى ما هو أبعد منها ليتعامل مع الواقع من حيث هو، مما يؤدي لا شعورياً إلى ترسيخ هذا الواقع في وجدان المتلقي إلى درجة التعايش معه وتقبُّله دون التساؤل عن صحته وحقه أصلاً في الوجود فضلاً عن الاستمرار، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ومن أهمها إغفال حقيقة دولة (الكيان الصهيوني) واغتصابها للأرض والمقدسات، والتعامل معها على أنها دولة موجودة على أرض الواقع وتملك كافة مقومات الوجود، دون التعرض لحقيقة قيامها المصطنع، وقد أدى هذا التعامل السيئ للإعلام العربي مع القضية الفلسطينية إلى تقبُّل الرأي العام العربي لوجود دولة صهيونية في قلب العالم العربي - الإسلامي، دون أي تبعات نفسية أو فكرية عميقة.
11 - إثارة الغرائز وادعاء إشباعها: لعل إثارة الغرائز في وسائل الإعلام هي من أكثر الأساليب وضوحاً لدى المتلقي؛ إذ يستغل المعلن والإعلامي الغربي مساحة الحرية التي يتيحها النظام الليبرالي في العبث بغرائز المتلقي لتلقينه ما يريد. وقد تهدف الدعاية هنا إلى مجرد لفت الانتباه للترويج لسلعةٍ مَّا كاستخدام الصور الخليعة في الإعلانات المصورة، أو يمتد الأمر لربط الشيء المعلن عنه بغريزةٍ مّا كأن يصبح إشباعها متعلقاً بهذا الشيء، ومن ذلك ربط تدخين السجائر بالرجولة، واستخدام بعض العطور بالجاذبية الجنسية، واقتناء أحد الهواتف النقالة بالمكانة الاجتماعية المرموقة. ولكن الخطورة هنا ليست مقتصرة على الترويج الرخيص لهذه السلعة أو تلك، بل استحلال إثارة غرائز الناس لأهداف فئة معينة في المجتمع، وتنميط صورة المرأة التي لم تعد تعني أكثر من جسد تتحدد قيمته بمدى تقبُّل الرجل؛ علماً بأن الكثير من المنظمات والفعاليات الحقوقية في الغرب تسعى لمناهضة هذا الاستغلال غير الإنساني للمرأة في وسائل الإعلام، ومن ذلك احتجاج إحدى المنظمات النسائية الأسبانية مؤخراً بعد تلقيها 342 شكوى ضد المعلنين في العام الفائت، إلا أن الثقافة الليبرالية الطاغية التي قامت في البداية على الاعتراف بحقوق المرأة قد وقعت في مأزق لا يمكن الخروج منه، ويؤكد ذلك مسعى بعض المفكرين الغربيين الحالي لإنقاذ مبادئ الحرية من براثن الانفلات الأخلاقي.
12 - ادعاء الموضوعية: يعترف المؤرخون للإعلام الغربي بأن الإعلام المطبوع الذي بدأ في القرن الخامس عشر الميلادي لم يكن يهدف بالأساس إلى تقديم الصورة الصحيحة للواقع؛ فحتى الأخبار كانت تتعرض للتزوير حسب مصالح القائمين على النشر، وعندما بدأت الصحافة الحرة في بريطانيا في القرن السابع عشر لم تكن تعكس إلا وجهات نظر أصحابها وتصبُّ في مصالحهم، إلا أن اتساع رقعة الحرية والليبرالية وتزايد الاستقلال الفردي للمواطن العادي، دفع الإعلاميين إلى التزام المزيد من الموضوعية والشفافية كسباً للإعلان التجاري الذي يبحث عادة عن الصحف ذات القبول الشعبي، وهكذا ارتبطت الشفافية الإعلامية بمدى تقبُّل المتلقي وإيمانه بموضوعية وسائل الإعلام، مما ألزم الإعلاميين بالبحث عن وسائل جديدة تحتفظ لهم بحق نشر قِيَمهم وتأمين مصالحهم دون المساس بولاء المتلقي. وقد كان الاهتمام منصبّاً في الأساس على المظهر العام الذي يضفي شعوراً بالموضوعية والكفاءة؛ إذ يميل الناس عادة إلى الثقة بالمذيع الإخباري أنيق الملبس ولبِقِ الحديث، كما تضفي التجهيزات المبهرة للأستديوهات ومواقع التصوير، أو الطباعة الراقية للصحف والمجلات، شعوراً بالاحتراف. فإذا أضفنا إلى هذه العوامل الجذابة ما سبق الحديث عنه من أساليب دعائية كفتح مجال الحوار للرأي المخالف وعدم التعرض للقضايا الحساسة، فإن ذلك سيعطي صورة إيجابية للمتلقي تمنعه من مجرد التشكيك في مصداقية كل ما يرد إليه من هذه الوسائل الإعلامية.
أخيراً: تبرز خطورة هذا التأثير الإعلامي - الدعائي المؤدلَج في توجيه الرأي العام مع توسع دائرة اتصاله بالمتلقي الذي بات يعتمد اعتماداً شبه كلي على وسائل الإعلام في اتصاله مع العالم الخارجي، حتى في تلقي أبسط المعلومات التي يحتاجها في حياته اليومية؛ إذ بات الكثير من المثقفين؛ فضلاً عن غيرهم؛ يضعون ثقتهم في وسائل الإعلام التي ساعدت الثقافةَ الشعبيةَ على التأثير في النخبة المثقفة بدلاً من العكس، مما أدى إلى انخفاض المستوى الثقافي بشكل عام، وترسيخ قاعدة «هذا ما يريده الجمهور» كدستور يضطر لمراعاته كل من يطمح إلى الاستمرار في «سوق» الإعلام، وهي النتيجة الحتمية لطغيان سياسة السوق الحر والليبرالية المحتكرة في أيدي القلة، وخدعة كبيرة يشترك الجميع في مسؤولية إحكام سيطرتها على كرامة الإنسان.
وتبقى الآمال معقودة على دور العلماء وأصحاب الضمير الحي في كسر هذه الحلقة المفرغة، والإفادة الواعية من تقنيات وسائل الإعلام المذكورة في خدمة الإنسان والارتقاء به بدلاً من الدفع إلى المزيد من الانحطاط.(227/26)
التكامل التربوي بين الإعلام والتعليم
د. حياة بنت سعيد با أخضر
نِعَمُ الله ـ تعالى ـ تترى علينا صباح مساء، والعقل البشري من أعظم تلك النِّعم بعد نعمة الإسلام. فالعقل قد كُرِّم به الإنسان وجُعل مناطاً لتكليفه، ومن ثم الجزاء على أعماله. ويظل العقل يقدِّم لنا ـ بتوفيق الله تعالى ـ مخترعات شتّى في أوقات قياسية توفر علينا مجهودات ضخمة، ومن أبرزها: تلك الأجهزة متعددة الاستخدام والأحجام، ولكن التلفاز (الرائي) يظل في قمة تلك المخترعات سهلة الانقياد، حيث يدخل المنازل دون استئذان، ويحتلُّ مكانة في النفوس والأذهان. وهذا مما حفّز الكثيرين على استغلاله وإدارة دفّته نحو دروب ومسالك ومعاقل عدة، ومن ثم أفرز ذلك اضطرابات وتناقضات في التربية والسلوك، وحطَّم الكثير من القيود والثقافات، وزعزع ـ أحياناً ـ العقائد في بعض النفوس. لذا؛ فإن الوعي بأهمية شراكة التلفاز في التربية لا تقلُّ أهمية عن أيِّ مؤثر آخر. فإن برامجه المتدفّقة والمتشابهة والمترابطة ـ أحياناً ـ في الأهداف تقدم لنا أنموذجاً صارخاً للقضاء على الاستقرار النفسي لدى الناس، وتمثل مِعْوَلاً هدّاماً في يد حفنة من مؤسسي القنوات الفضائية والشركات التجارية التي لا همّ لها إلا الربح المادي على حساب كل شيء وأيّ شيء.
فتقف التربية ومسؤوليها ـ من ثم ـ في وضع المدافع دائماً أمام طوفان الهلاك الأخلاقي الذي تقذف حُمَمَه القنواتُ الفضائية طوال اليوم، وهذا يحتِّم على عقلاء أمتنا التنبّه لأهمية الإعلام في وقتنا الحالي، مما يعني إيجاد تعاون مثمر وجادّ بين أصحاب القرار من مسؤولي التربية والتعليم والإعلام ورجال الأعمال المتميزين دينياً والهيئة العالمية للإعلام الإسلامي في صورة لجنة عليا للإعلام تعتني بالتالي:
1 ـ وضع برامج ودورات علمية شرعية للعاملين في القطاع الإعلامي بجميع صوره (تلفاز ـ مذياع ـ صحافة) ، وتقوم هذه الدورات بتدريس تخصص أصول الفقه ووسائل الدعوة لعلاقتهما بمقاصد الشريعة وجوانب سدّ الذرائع والمصالح المرسلة وغير ذلك، مع دورات في علوم الاجتماع والنفس والأخلاق القائمة على أسس إسلامية، فعندنا ما يغنينا عن التزوّد من النظريات البشرية، ويمكن الاستعانة في ذلك بمناهج كليات وأقسام الإعلام في الجامعة الإسلامية وجامعة الإمام محمد بن سعود وكلية الدعوة بجامعة أم القرى لما كان الإعلام قسماً ملحقاً بها.
2 ـ وضع البرامج التعليمية الجادة لجميع طبقات المجتمع من الأطفال والناشئة وغيرهم. ولعلَّ تجربة (قناة المجد) تعتبر رائدة في ذلك، حيث أثبتت أن الإعلام الإسلامي الجادّ يمكنه المنافسة دون اختلاط وموسيقى ومحرّمات على وجه العموم.
3 ـ الدعم المادي لوضع برامج إعلامية تقدم دورات تدريبية في فنون التربية الصحيحة وعلاقة أفراد المجتمع ككل بذلك، وربط كل ذلك بنظام الجودة الشاملة، ولن يستقيم ما سبق إلا بتأسيس قناعات عقدية لدى المجتمع بأهمية الترابط بين التربية ووسائل الإعلام وأهمية الوعي لمدى الانفصام الحقيقي في هذا الترابط المأمول، ولن يتمّ هذا إلا بنشر الأسس والثوابت الشرعية في النفوس؛ لأنه بدونها سنظل نحفر في الهواء ونبني على الماء. وديننا غني بكل ما نريد، وعلماؤنا ورعاتنا أهلٌ لذلك، ولنجعل همّنا أن لا صوت يعلو على الحق: {فأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17] .
__________
(*) أستاذ مساعد بمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.(227/27)
بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه
معن بن حسين نعناع
إن المطّلع على الصحف والمجلات وباقي وسائل الإعلام (المسموعة والمرئية والمقروءة) يجد أن موضوع تخفيف الوزن «الريجيم» قد طغى على هذه الوسائل الإعلامية؛ وذلك بسبب ما نشرته الإحصائيات العالمية من ارتفاع نسبة السمنة في المجتمعات وخاصة العربية منها، وأن للسمنة أضراراً كبيرة وعظيمة، من أمراضٍ تصيب القلب، وأمراض السكري، وانسداد الشرايين، وتراكم الدهون القاتلة، والمرض الخبيث «السرطان» ، وغير ذلك من الأمراض العديدة. وهذه بادرةٌ جيدة من الوسائل الإعلامية أن تُولي اهتمامها بهذا الموضوع الذي هو بحقّ موضوع ضروريٌّ.
ولكن الذي أحزنني في طرح هذا الموضوع «تخفيف الوزن» أن الطرح لم يكن ذا طابع إسلامي أو شرعي. فتراهم يتكلمون عن هذا الموضوع، ويصولون ويجولون، ويستشهدون بأقوال أطباء الغرب وما توصلوا إليه من اكتشافات تخص هذا الموضوع، دون أن يذكروا ولو آية واحدة، أو حديثاً واحداً نبوياً، أو قولاً لأحد الصحابة الكرام أو لأحد علماء السلف من أطباء وغيرهم، أو يذكروا قصصاً من السيرة النبوية العطرة تحفزّ الناس على إنقاص وزنهم وعدم النّهم في الطعام، ولو أنهم رجعوا إلى ذلك لوجدوا أن الطبيب الأول -صلى الله عليه وسلم- قد تكلم عن تلك الاكتشافات التي يفخر بها أطباء الغرب اليوم قبل ألف وأربعمائة عام، فكم وكم من أحاديث قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحذّر بها من السمنة، وأن على الإنسان أن يأكل بمقدار الحاجة، وبمقدار ما يعينه على طاعة الله وعبادته، والمضي في هذه الأرض وطلب الرزق، ومن قبله ذكر ذلك ربُّه ـ تبارك وتعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] . فالإسراف في الطعام والشراب جاء به النهي من قِبَل الله ـ تعالى ـ، والله لا ينهانا عن شيء إلا لعلمه بأنّ فيه ضرراً علينا.
ومن تلك الأحاديث التي جاءت عن النبي ما أخرجه الترمذي وأحمد (1) ، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أُكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِهِ» ... فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يخبرنا أن الآدمي ما ملأ وعاءً في يوم من حياته أعظم شرّاً وضرراً من ملئه لبطنه من الطعام والشراب، وأن الإنسان حسبه بعض الأُكلات، وقد أتى بهذه اللفظة بصيغة التصغير والتقليل (أُكلات) زيادة في الحثّ على تناول كميّة أقلّ، وأشار إلى أن هذه الأُكلات تكون بمقدار ما يقيم الصلب والجسد على طاعة الله وعبادته، والمشي في مناكب الأرض والسعي في الرزق، ومع ذلك كله فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من رحمته العظمى أوجد الحلّ لمن لا تكفيه هذه الأُكلات بأن يقسم معدته ثلاثة أقسام: قسم لطعامه، وقسم لشرابه، وقسم لنَفَسه فلا يملؤها كلها بالطعام فلا يدع بذلك مكاناً للشراب والنَّفَس كما هو حال الناس اليوم، فترى الواحد منهم يلتهم الطعام التهاماً دون أن يذكر اسم الله عليه، وبعد أن يملأ معدته من الطعام يقول لك: هناك آخرة، ويقصد بالآخرة الحلويات والفواكه وغير ذلك؛ ممّا لا يدع مجالاً لهضم الطعام ولخروج النَّفَس، فيقع بذلك في مشكلة مرضية قد تكون عُضالاً أحياناً. ولو كان للمستشفيات لسانٌ لأخبرتنا: كم تعاني من أولئك الذي يزدحمون على أبوابها في أيام الأعياد والمناسبات! والتي يعتبرها الناس أيام طعام وشراب فقط كشهر رمضان، ولأخبرتنا ـ أيضاً ـ: كيف أن ساعة الإنذار والخطر تدقُّ في تلك الأيام معلنةً الاستنفار العام.
والسؤال يطرح نفسه: ألم يلتفت أولئك القوم ولو لمرّة في حياتهم إلى سيرة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ويروا كيف عانى عليه ـ الصلاة والسلام ـ هو وأصحابه من شدّة الجوع وقلّة الزاد؟ ألم يسمعوا ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (1) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض -صلى الله عليه وسلم-» ؟ ألم يسمعوا ما أخرجه الشيخان وغيرهما (2) من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ قدم المدينة من طعام البُرّ ثلاث ليال تباعاً حتى قُبض» ؟ ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه البخاري وغيره (3) من حديث قتادة قال: «كنا عند أنس وعنده خبّاز له، فقال: ما أكل النبي -صلى الله عليه وسلم- خبزاً مرقّقاً ولا شاة مَسمُوطةً ـ أي مشوية ـ حتى لقي الله» ؟ ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه الترمذي وغيره (4) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا ربّ، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ـ وقال ثلاثاً أو نحو هذا ـ فإذا جعتُ تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» ؟
ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه الترمذي وغيره (5) من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبيت الليالي المتتابعة طاوياً ـ أي جائعاً ـ وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير» ؟
وأين هم من قوله عليه ـ الصلاة والسلام ـ فيما أخرجه الترمذي (6) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تجشّأ رجلٌ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «كُفّ عنا جُشاءك! فإن أكثركم شبعاً في الدينا أطولكم جُوعاً يوم القيامة» ؟ والجشاء: هو الصوت الذي يخرج من الفم مصحوباً بهواء ورائحة الطعام نصف المهضوم، وباللهجة العامية (التدريع) ، وهذا الجشاء لا يكون إلا بسبب كثرة الطعام ممَّا يؤدي إلى عسر الهضم.
وأين هم ـ أيضاً ـ من قول الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ: «إياكم والبطنة! فإنها مكسلة للصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السّقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فهو أبعد من السرف، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة» ؟ وكلمة (بالقصد) تذكّرني بالحديث الذي قرأته مرة ووجدت له ثماني روايات، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما عال امرؤ اقتصد» أي: ما افتقر امرؤ اقتصد في معيشته ووضع المال الذي يصرفه في مكانه دون إسراف فيه، وهذا المعنى موجود في قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29] .
ألم يسمعوا إلى غير ذلك من الأحاديث؟ التي لا نريد بسردها دعوة الناس إلى العيش في فقر وفاقة، ولكن نريد بسردها دعوة الناس إلى تذكّر ما كان عليه نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأن يتقوا الله فيما يأكلونه، وفيما يرمونه من الزائد من طعامهم في أماكن رمي القاذورات، وما أكثر ما نشاهد ذلك في زماننا! وللأسف.
وكان أحرى بهم أن يقتصدوا على ما يكفيهم، وكان أحرى بهم ـ أيضاً ـ لو كان هناك زائد من الطعام أن يحتفطوا به في أماكن التبريد والثلاجات، أو يعطوه للفقراء والمحتاجين وما أكثرهم، وكأنّهم عند رميهم للطعام لم يسمعوا قول الله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} . [الإسراء: 26 - 27]
هذا هو حال مجتمعاتنا، ليس همّها سوى الطعام والشراب؛ بينما نجد غيرنا من الأمم من حولنا قدر رسموا لأنفسهم برنامجاً في الطعام لا يتزحزحون عنه قدر أُنملة، فنجدهم قد سبقونا في التطور العلمي والتكنولوجي بكل جزئياته وتقسيماته، وكل ذلك من قلّة الطعام الذي يتناولونه لأنهم يعلمون حق العلم أن كثرة الطعام تؤثر على استيعاب الفكر والذهن فتجعله يتوقف عن العمل والعطاء، واليابان أكبر مثال على ذلك، فقلّما ترى فيهم رجلاً بديناً سميناً، بل إن العكس حاصل فيهم، وكم أدهشني ما سمعته من أحدهم: أن صاحب شركة تويوتا اليابانية لصناعة السيارات، إذا أراد الذهاب إلى عمله لا يذهب بسيارته؛ إنما يستقلّ دراجته الهوائية؛ وذلك لكي يحافظ على صحته ورشاقته! فإن ركوب السيارات كثيراً ما تجعل الإنسان سميناً، وهذا ما نشاهده اليوم.
وما أجمل قول الشاعر، وهو يضع يده على الجرح واصفاً حال المرء الأكول ـ الذي لا يهمّه خروج النَّفس أو عدم خروجه ـ وصفاً جميلاً ورائعاً، حيث قال:
أكبَّ على الخِوان وكان خفّاً
فلما قام أثقَلَه القيامُ
ووالى بينهما لُقَماً ضِخَاماً
فما مَرِئتْ له اللُّقَمُ الضخامُ
وعاجلَ بلعَهُنّ بغير مضغٍ
فهنّ بِفِيه وضعٌ فالتهامُ
ألا إن الطعام دواءُ داءٍ
به ابتُليت من القِدم الأنامُ
فداوِ سقامَ جوعك عن كفافٍ
فإكثارُ الدواء هو السِّقامُ
وأغبى العالمين فتىً أكولُ
لفطنته ببطنته انهزامُ
__________
(*) ماجستير في الحديث الشريف ـ جامعة أم درمان الإسلامية.
(1) أخرجه الترمذي واللفظ له: رقم (2380) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد: رقم (17186) عن المقداد بن معدي كرب رضي الله عنه.
(1) أخرجه البخاري واللفظ له: رقم (5374) ، وأخرجه مسلم: رقم (2976) .
(2) أخرجه البخاري واللفظ له: رقم (5416) وانظر: (6454) ، وأخرجه مسلم: رقم (2970) .
(3) أخرجه البخاري: رقم (5385) ، وانظر: (5421 ـ 6457) . (4) أخرجه الترمذي: رقم (2347) ، وقال: هذا حديث حسن.
(5) أخرجه الترمذي: رقم (2360) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (6) أخرجه الترمذي: رقم (2478) ، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.(227/28)
هل حقاً المصحف الشريف يُدَنَّس في بلد مسلم؟!
محمد الهادي بن مصطفى الزمزمي
صار معلوماً لدى القاصي والداني خبر الحرب التي تشنّها الحكومة التونسية على الإسلام ومقدّساته؛ فمن قانون المساجد إلى خطة تجفيف منابع الدين مروراً بالمنشور (108) القاضي بـ «تحريم الخمار، ولباس النساء الشرعي» ، إلى تدنيس المصحف الشريف! أي والله! فيما روي عن تعمّد الضابط مدير سجن برج الرومي ـ الواقع بمحافظة بنزرت ـ الاعتداء بالعنف على أحد السجناء كما أخذ المصحف الشريف وضرب به السجين، وأثناء الضرب سقط المصحفُ من يده على الأرض، فركله وداسه برجليه، وهو ما أثار حفيظة السجين المذكور واستنكاره. ولقد شَهدتْ بهذه الواقعة بيانات فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بمدينة (بنزرت) ، ومما جاء فيها: «وبلغ لعلم الرابطة أنه كان من نتيجة ذلك تعرّض ذلك السجين لاعتداء جديد من طرف المدير نفسه وأعوانه الذي ـ زيادة على الاعتداء الجسدي ـ عاقبه مدير السجن بوضعه في السيلون ـ زنزانة انفرادية ـ ومنع عائلته من زيارته» . وقد قدّم أهالي السجين المذكور شكوى ممّا جرى عليه من تعذيب وتدنيس المصحف إلى فرع الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان بمدينة (بنزرت) ، كما أبلغ بذلك نقيب الهيئة التونسية للصحافيين. ولما شاع خبر تدنيس المصحف واستنكرت الهيئتان المذكورتان وغيرهما من الهيئات الجريمة، سارعت الحكومة إلى تكذيب خبر الواقعة متعهدةً بإجراء تحقيق في الواقعة، وهو ما ينمّ عن تناقض في الموقف؛ إذ كيف يعقل أن تنفي الحكومة وقوع الحادثة مع التعهد بالتحقيق فيها؟! وقد ردّت الرابطة على نفي الحكومة بتأكيد حصول الواقعة بما لديها من وثائق وبيانات. وإزاء إصرار الرابطة قامت الحكومة باعتال رئيس فرع الرابطة بـ (بنزرت) ، وإحالته إلى التحقيق بتهمة نشر أخبار زائفة من شأنها تعكير صفو النظام العام، وإهانة موظف عمومي!
وما جرى بسجن برج الرومي جرى مثله وأضعاف أضعافه في سجون أخرى؛ ولولا خشية الإطالة لسردنا عشرات الوقائع! ولكن حسبنا هذه الواقعة بل الفاجعة التي حصلت في سجن «الهوارب» بالقيروان! فقد روى أحد السجناء: «أنه كان بهذا السجن رفقة ما يقارب سبعين سجيناً من شباب النهضة التونسية، وكان من جملة الإجراءات الصارمة التي اتخذتها إدارة السجن ضدّنا أن: حرّمت علينا مسك المصاحف أو قراءة القرآن تحريماً قاطعاً!
وفي صباح يوم من الأيّام أجمعنا أمرنا ـ نحن المساجين الإسلاميين ـ على مطالبة إدارة السجن بردّ مصاحف القرآن التي جرت مصادرتها منّا وحجزها عنّا.
حضر مدير السجن إلينا ـ حين بلغه طلبنا ـ وسألنا في حنق وغضب متلفّظاً بعبارات الكفر والفحش والبذاء:
- آش بيكم يا أولاد ... ! آش تحبّوا ... ؟ آش طالبين ... ؟
فأجابه مساعده:
- هاهم طالبين المصاحف؛ ليقرؤوا القرآن.
فالتفت المدير إلينا، وردّ على الفور قائلاًَ:
- «نعم ... ! لحظة ... ! توا تجيكم المصاحف» !
راح المدير، وتركنا متلهّفين لاستقبال مصاحف القرآن لهفة الظمآن لقطرة ماء. مضت بضع دقائق، عاد إثرها ومن ورائه فرقة من أفراد الطلائع السجنية مدجّجين بالعصيّ والهراوات! وللتوّ جرّدونا تماماً من أثوابنا، وأمرونا بالجري في ساحة السجن في شكل طابور دائري، طوّقونا وطفقوا بنا ضرباً مبرّحاً حتى أسقطونا أرضاً، وقد أنهكنا الجري والتعب والأذى والألم، وأمرنا المساعد بالجثيّ على ركبنا الدامية! ولّى المدير وتركنا ونحن على تلك الحال حفاة عراة، ثمّ عاد ومعه أحد الأعوان يحمل بين يديه مجموعة من المصاحف الشريفة. وبأمر من المدير ألقى العون المذكور بالمصاحف على الأرض! وطرحها بساحة السّجن! ثمّ صاح المدير في وجوهنا قائلاً:
ـ «هاهي المصاحف اللي طلبتوها ... » وأخذ يمشي عليها! ويدوسها بنعليه! في صلف وكبرياء وعنجهية واعتداء! متلفظاً بشتم الدين! والاعتداء على العقيدة! هزّنا ذلك المشهد هزّاً عنيفاً، واعتصر الحزن قلوبنا؛ فما قدرنا على فعل شيء ندفع به ذلك الاعتداء الأثيم على كتاب ربّنا؛ وما إن صاح الطاغية بنا للالتحاق بعنابرنا مهدّداً ومتوعّداً لنا بمزيد من العذاب والنكال والانتقام إن نحن طالبنا بمصاحفنا مرة أخرى؛ حتى عدنا وقد انفجرت منّا العيون تهمل بالدّموع باكية على الحال الذي آلَ إليه القرآن في تونس بلاد الإسلام» !
ليس من قبيل المصادفة أن يتكرّر هذا الصنيع الشنيع المتمثل في تدنيس المصحف الشريف في السجون التونسية؛ فما هو إذن بحادث عرضي ولا تصرف فردي منعزل؛ فقد تكررت هذه الجناية الفظيعة النكراء من أعوان البوليس والحراس في مختلف السجون والمعتقلات؛ وهو ما يميط اللثام عن سلوك لدى الحكومة وأعوانها في انتهاك الحرمات وتدنيس المقدّسات.
إنه سلوك متعمَّد يأتي في سياق حرب شاملة تشنّها الحكومة التونسية بكافّة دوائرها وأجهزتها ومؤسّساتها على الدين الإسلامي ومقدَّساته.
إن ركل المصحف الشريف لهو جريمة عظمى تكاد السماوات يتفطّرن منها وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا! فكيف يرضى مسلم أن يُدنَّس أقدسُ مقدّساته؟! أو كيف يغضي عن منتهكي أعظم حرمات ربّه؟! إن الجناية على كتاب الله جناية على أمّة الإسلام بأسرها! فعلى هذه الأمّة إذن واجب النصرة! {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ:40] .(227/29)
228 - شعبان - 1427 هـ
(السنة: 21)(228/)
أين العرب..؟!
التحرير
مجازر متتابعة تفوح منها روائح الدماء والأشلاء، ولا يُرى إلا الدمار والقتل..!
مئات القتلى وآلاف الجرحى، والرعب يملأ المنطقة، والقصف الذكي لا يعرف إلا النساء والأطفال والشيوخ، أكثر من عشرين طفلاً تتناثر أجسادهم في مجزرة قانا وحدها..!
عوائل بأكملها تُسحق وتُدمّر، قرى واسعة تُدك وتُسوى بالأرض ولا يُسمع إلا أنين المخنوقين تحت الأنقاض تنقله الفضائيات أمام بصر العالم وسمعه..!!
الطغيان (الصهيوأمريكي) يدمر البنى التحتية في غزة ولبنان، ويتوسع في استخدام القنابل العنقودية والفسفورية التي يزعم بعضهم أنها محرمة دولياً..!!
وتأتي فتوى حاخامات اليهود، رداً على الأنتقادات الدولية لمجزرة قانا قائلة: (إن كل الكلام حول الأخلاق يضعف الروح المعنوية للجيش والأمة، ويكلفنا دماء جنودنا ومدنيينا) .
وتذكرنا هذه الفتوى بخطاب رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) الذي خاطب به الشعب الأمريكي قائلاً: (لا تخجلوا من قِيَمكم) !
وتنفرد الولايات المتحدة الأمريكية في صياغة الموقف الدولي لتبقى المنظمات الدولية وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة عاجزة حتى عن مجرد الإدانة.
وبالتأكيد لا زال الأمريكيون يتساءلون بكل غطرسة: لماذا يكرهوننا..؟!
أمَّا إن سألت عن العرب! فنبشرك أن العنتريات العربية لا زالت تقف مرابطة بكل صلابة عند قاعدة بطولات الشجب والاستنكار، لكنها هذه المرة جاءت على استحياء، لتزداد الهوّة بينها وبين شعوبها المقهورة تارةً بعد أخرى.
ولسان حال اليهود يقول للعرب:
لا تنطقوا حرفاً ففي قانوننا أنَّ الثغور الناطقات تكممُ
وإذا ضربناكم فلا تتحركوا وإذا سحقناكم فلا تتألموا
عربٌ وأجمل ما لديكم أنكم سلمتمونا أمركم وغفلتمُ
إن فضائح النظامين الدولي والعربي تجاوزت الحدود، ولا نظنها بحاجة إلى مزيد من الإيضاح، لكن ما المخرج من هذا المأزق..؟!
نحسب أن الشعوب قد اختارت طريقها، وانحازت لخيارها الإسلامي، لكنها أحوج ما تكون للعلماء الربانيين والدعاة المخلصين الذين يرتقون بجماهير الأمة، ويوظفون طاقاتهم في نصرة الدين وأوليائه الصالحين، بعلم راسخ ونهج سديد.(228/1)
عندما تذهب السكرة ... وتجيء الفكرة
التحرير
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فقد فجَّر العدوان اليهودي على أرض لبنان المسلمة عدداً من القضايا والتساؤلات والاختلافات على ساحات مختلفة، لكون هذا العدوان جاء من طرف متفَق على عداوته ووجوب محاربته، بينما جاءت المواجهة من طرف مختلَف عليه من حيث أمانته على مصالح الأمة العامة، وتزايد الشكوك حول أجندته الخاصة.
وربما يظل هذا الاختلاف قائماً لأمد غير قريب، حتى تُظهر الأحداث الواقعة على الأرض، ما تخفيه الخطط والتدابير، مما هو مغيَّب مستور؛ فهذا شأن الفتن: إذا أقبلت لا يعرفها إلا العقلاء، وإذا أدبرت عرفها كل الناس. والفتنة هنا تتلخص في أن (حزب الله) هو صناعة إيرانية خالصة في أهدافها ووسائلها وإمكانياتها، ولا يكاد يجادل في ذلك إلا مكابر. وقد أدرك العارفون من خاصة وعامة أن الدولة الإيرانية لم تكن يوماً أمينة على مصالح الأمة بشكل عام؛ فالأمانة لا تتجزأ ولا يمكن أن تُخلِص إيران للأمة في لبنان بينما هي تخونها في العراق وأفغانستان، ولا يمكن في الوقت نفسه أن يقاتل الإيرانيون أعداء الأمه - لصالح الأمة - في لبنان، بينما يقاتلون إلى جوار أعدائها في العراق وأفغانستان.
ومما زاد في الفتنة والالتباس أن ما يعرف بـ (المقاومة اللبنانية) اليوم، هي نفسها التي زرعتها إيران وأحلَّتها محل المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان بدءاً من عام 1982م، وشارك الشيعة من خلال (منظمة أمل الشيعية) في حرب المخيمات ومجازر صبرا وشاتيلا، في محاربة الفلسطينيين واقتلاعهم من الجنوب اللبناني بالتحالف مع النصارى والنصيريين الذين يحكمون سورية. واليوم يرفع شيعة لبنان شعار (تحرير جنوب لبنان) على أنقاض شعار (تحرير كل فلسطين) الذي أُنهِيَ بإخراج المقاومة الفلسطينية (حركة فتح) من الجنوب اللبناني بعد تشتيتها في تونس واليمن والسودان؛ حيث لم تعد بعدها إلا رافعة الراية البيضاء مكان راية النضال والفداء، سالكة دروب الاستسلام من مدريد إلى أوسلو. ولم يكن هذا الدور التآمري الواضح ضد الفلسطينيين بالاشتراك مع اليهود والنصارى والنصيرية؛ إلا لقطع الطريق على المشروع الجهادي الفلسطيني السُني، لحساب المشروع اللبناني الشيعي، ليبقى الشيعة في واجهة القضية الإسلامية الكبرى في عالم اليوم، وهي قضية فلسطين. لكن أقدار الله ـ تعالى ـ جاءت على عكس ما يشتهي المتآمرون؛ حيث انبعثت من داخل فلسطين مقاومة جديدة سنية، مارست خلالها منظمة حماس مقاومة حقيقية تحت راية نقية لا تتخفى وراء تقية أو أجندة خفية.
وللحقيقة فإن اختلاف الناس في شأن الحرب التي اندلعت بين دولة اليهود المعتدية وبين (حزب الله) لم يأت من فراغ ... فالمتعاطفون معذورون؛ لأنهم لم يروا من كل الدول المحيطة بدولة الأعداء الصهاينة من ينكي فيهم بهذا الشكل من الإقدام والجرأة رغم ما لدول المواجهة تلك من جيوش جرارة على الحدود، تقف وراءها جيوش جرارة أخرى خلف الحدود، لها من الإمكانيات الإضافية ما كان يكفي للتنكيل بهذا العدو الجبان على مدى أكثر من خمسين عاماً أضعاف أضعاف ما حدث على أيدي المقاتلين من شيعة لبنان رغم ضعف قوتهم وضعف معداتهم مقارنه بقوات ومعدات تلك الجيوش.
3 أما المحذِّرون المتحفظون فهم يرفضون ابتداءً الطغيان الصهيو أمريكي في المنطقة، ويدركون أبعاد مشروع الشرق الأوسط الكبير ثم الجديد، ويوجبون مقاومته بكل ألوان المقاومة، ويفرحون بكل نكاية تثخن العدو وتزيد من جراحه وآلامه؛ ويرفضون أيضاً استهداف لبنان بالتدمير الوحشي الذي أهلك الحرث والنسل، كما يرفضون سلبية الأنظمة العربية وعجزها.
3 وهؤلاء المحذرون المتحفظون لديهم قناعة راسخة بطغيان اليهود واستكبارهم ونقضهم للعهود والمواثيق، ويدركون أن لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الأعداء؛ فالضعفاء والعجزة لا مكان لهم في ظل شريعة الغاب.
3 ومع تحذيرهم من الانسياق الكامل وراء العواطف والظواهر فإنهم معذورون؛ لأنهم لم يستطيعوا تجاهل الحقيقة القائلة بأن دماء مئة ألف من أهل السنة التي تراق في العراق على أيدي أولياء إيران في العراق لم تلقَ أي إدانة من أولياء إيران في لبنان.
3 وهم معذورون كذلك عندما يرون أن هناك مزايدة واضحة على المجاهدين الحقيقيين المخلصين للأمة سواء كانوا في فلسطين أو العراق أو أفغانستان؛ فبينما كان موقف المقاومة اللبنانية الشيعية مخزياً من المقاومة الإسلامية في العراق حتى قال (نصر الله) عنهم إنهم (صداميون تكفيريون) ؛ فإنه أيضاً - أي نصر الله وأتباعه - لم يُعرَف لهم موقف تضامني واضح من المقاومة الفلسطينية غير الشعارات والتصريحات التي قصارى ما تفعله في النهاية أن تصور المقاومة اللبنانية على أنها هي القدوة والمثل الأعلى للمقاومة الفلسطينية، كما ردد زعيم (حزب الله) غير مرة.
3 والمحذِّرون المتحفظون معذورون أيضاً وهم يرون أن (النعرات الطائفية) التي ينادي بعضهم بعدم إثارتها مع (إخوانهم الشيعة) لم يثرها إلا هؤلاء المتشيعون، ليس بالكلمات والتصريحات فقط، وإنما بالاغتيالات والتحرشات والتحالفات مع كل الأعداء ضد مخالفيهم في الفكر والمذهب، دون أن تكون هناك أي مبادرة لإيقاف هذه النعرات من إيران، ولا ممن يأتمر بأمر إيران.
3 والمحذرون المتحفظون معذورون كذلك وهم يرون خيوطاً واضحة تربط بين توقيت ما حدث في لبنان، مع توقيت ما يحدث في العراق ولبنان؛ حيث غطت غيوم تلك الحرب على أخطر ملفات المرحلة الراهنة وهي ملف اغتيال الحريري والملف النووي الإيراني وملف (التطهير) العرقي في العراق، وكلها ملفات تصب فقط في مصلحة الطائفة الشيعية إماميةً كانت أو علوية (نصيرية) .
3 والمحذِّرون المتحفظون أيضاً معذورون وهم يشاهدون ويسمعون ويفهمون بما يصل إلى اليقين، أن منظومة الفكر الشيعي هي منظومة مناوئة لأهل الحق في الأمة بدءاً من أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة وغيرهم من عموم الصحابة رجالاً ونساءً ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ إلى حد تكفيرهم والمناداة بالبراءة منهم ومن تابعيهم، ومن سار على نهجهم من أهل السنة في كل مكان بزعم أنهم (النواصب) أعداء أهل البيت، مع التوعد الشديد والأكيد بالثأر والانتقام منهم رجالاً ونساءً، أمواتاً وأحياءً ... هذه المنظومة الفكرية المنحرفة بل الموغلة في الانحراف والابتعاد هي هي ... نعم! هي هي المنظومة الفكرية نفسها التي يدين بها ويعمل لها شيعة اليوم ومن ضمنهم منسوبو (حزب الله) ، هؤلاء الذين اختطفوا لأنفسهم تسمية قرآنية، حسم القرآن أوصاف حامليها، ملخصاً إياها في قول الله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56] .
فالذين (يتولون) الله ورسوله والذين آمنوا - وعلى رأسهم الصحابة - هم حزب الله، ولا يمكن أن ينطبق وصف (حزب الله) على الذين (يتبرؤون) من الذين آمنوا وعلى رأسهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هذا منطق القرآن الذي لا يُقْبَل تجاوزه او الجدال فيه.
3 والمحذِّرون المتحفظون يخافون على الأمة من أن يتحول الانبهار بـ (بطولات ما يعرف بـ «حزب الله» ) إلى انبهار بالمنظومة الفكرية التي يتبناها ويعمل لحسابها هذا الحزب؛ وفي هذا ما فيه من خطر يعلم الجميع ضرره الفادح، وهو خطر المد الفكري الشيعي الذي يُتَوَقَّع أن ينتعش بعد انتهاء الحرب؛ حيث ستنحسر آثارها العسكرية عن آثار فكرية سيحرص القوم على استغلالها واستثمارها. والتاريخ يثبت في القديم والحديث أنه ما من بطولة شخصية، حقيقية كانت أو وهمية، إلا وتحولت في الغالب إلى (منظومة) فكرية أو روَّجت لها، هذا ما حدث مع (كمال أتاتورك) الذي مهدت بطولاته المزيفة للقومية الطورانية والفكرة العلمانية في الديار التركية، وهو ما حدث أيضاً مع (جمال عبد الناصر) الذي ساهمت بطولاته الوهمية أو المضخَّمة في دفع فكرة القومية العربية، ويقال مثل هذا أيضاً عن (هتلر) والنازية، و (ستالين) والشيوعية، و (الخميني) والأفكار الثورية الشيعية، ونحو هذا كثير.
3 والمحذِّرون المتحفظون، يشفقون على الأمة من أن تقع في إثم خذلان المجاهدين الحقيقيين في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وغيرها؛ أولئك الذين لن يضرهم - بإذن الله - من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قائمون، فهؤلاء هم الأبطال حقاً، وهم أنصار الدين حقاً، وهم حزب الله حقاً، شرعاً وعقلاً؛ لأنهم هم الذين يجاهدون ويبذلون ويضحون، دون حسابات خاصة، ودون تبعية أو عصبيه لأية حمية، عنصرية كانت أو مذهبية، ودون أن تكون وراءهم أيضاً قوة دولية أو إقليمية أو محلية، تقف معهم أو تدربهم أو تسلحهم أو تمولهم، ودون أن يكون لهم ظهير ونصير غير الله تعالى، في عالم يتنكر لهم، وعامةٍ لا تعرف قدرهم، وخاصةٍ قلما تنتصف لحقهم. إن أولئك الأحرار الأبرار، هم أرباب البطولة الحقة الذين أرغموا أنف العدو الكبير - أمريكا - التي تساند العدو الحقير ـ الصهاينة ـ دون أن يكون لهم جيش ولا دولة ولا أرض ولا مصدر دائم للإعداد والإمداد.
3 والمحذرون المتحفظون ـ مع ذلك كله ـ يرون المبادرة إلى إغاثة المنكوبين المستضعَفين، ومدّ يد العون للشيوخ والنساء والأطفال، وتخفيف جراحاتهم ومعاناتهم؛ فرفع الظلم مطلوب شرعاً.
ستذهب السكرة وتجيء الفكرة، وعندها:
3 سيرى الناس أن هذه الحرب قد خطط لها طرفان رئيسان، هما المستفيدان الوحيدان مما جرى بسببها من دمار وخراب:
الطرف الأول: هم الأمريكيون الذين قال مسؤولوهم: إن هذه الحرب، هي البداية لتشكيل (الشرق الأوسط الجديد) الذي يريدون فيه تأمين قاعدتهم العسكرية الكبرى (في الأرض المحتلة) .
والطرف الثاني: هو إيران التي أرادت أن تشغل العالم عن مخططها الإجرامي في العراق، وعن برنامجها الرامي إلى امتلاك السلاح النووي في أقرب وقت ممكن؛ حيث اشترت وقتاً ثميناً بهذه الحرب، وتركت للشعب اللبناني دفع فاتورته من دمائه وأمواله واستقراره ومقدراته.
3 وعندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة: سيكتشف الناس أن أحداث لبنان، ما كانت إلا بداية لمرحلة جديدة من مشروع مد شيعي قديم جديد، يريد ضم لبنان إلى هيمنة إيران، مثلما حدث في العراق ليتحقق بذلك ما سبق أن خطط له أصحاب مشروع (إيران الكبرى) الممتدة من البحرين إلى حدود فلسطين، في هلال شيعي يسمح بتطويق الجزيرة العربية مهد الإسلام الصحيح.
3 وعندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة: سيعلم الناس أن هناك مشروعين يتنافسان على قيادة الأمة نحو التغيير: أحدهما: يقوم على الحق والسُّنة، والآخر: يقوم على الباطل والبدعة، وأن المشروع الأول الذي أُسِّس على الحق من أول يوم، هناك إصرار على الإضرار به، والتغطية عليه لحساب (مشروع الضِّرار) الآخر المشيَّد على أنقاض أعراض الصحابة، حَمَلَة الدين، وواسطة الرسالة، وسادة أهل الجنة بعد الأنبياء.
إن الحق أبلج والباطل لجلج، وحُق لقوم جعلهم الله شهداء على الناس ليكون الرسول عليهم شهيداً ألا يضيع الحق فيهم، انسياقاً وراء العواطف، والتفافاً على الصواب، بما يسوِّغ في الناس تعظيم البدعة، وتوهين السنة مع من يحمونها من مجاهدين وعلماء ومصلحين، تطاولت عليهم الألسن التي تقاصرت عن غيرهم من الذين لا يُرجى نفعهم ولا يُتوقع إخلاصهم للسواد الأعظم من الأمة.
فاللهم ألهمنا رشدنا، واهدنا سواء السبيل، وثبتنا عليه حتى نلقاك، غير خزايا ولا مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين ... آمين!(228/2)
بين سد الذرائع والعمل بالمصلحة
عبد العزيز بن إبراهيم الشبل
ـ فضيلةَ الشيخ: شاع بين الناس في الآونة الأخيرة ما يعرف بـ ... ، ولا يخفى على فضيلتكم ما في ... من الأخطار؛ فما رأيكم في حكم هذه المسألة؟
ـ حرام.
ـ يتساءل البعض عن دليل التحريم، ويزعم البعض الآخر أن هذا من التشدد في الدين.
ـ لا يوجد دليل صريح في هذه المسألة، وكما تعلم فالنصوص الشرعية لا تحيط بجزئيات الأحكام، وإنما تدل على الأحكام بعمومها، والنص الشرعي له منطوق ومفهوم، و..، يقول ابن تيمية: «ولو تأملنا هذه المسألة لوجدناها ذريعة لإفساد المجتمع، فهي حرام لذلك» .
وفي الجانب الآخر:
ـ فضيلةَ الشيخ: ... فما الحكم الشرعي لهذه المسألة؟
ـ حلال.
ـ لكن بعض المفتين يقول: إن هذا العمل حرام، ويذكر قول النبي # ... ، فما رأي فضيلتكم؟
ـ صحيح أن الحديث المذكور ورد عن النبي #، ولكن لو نظرنا إلى المجتمع، وتغير حاجات الناس ومصالحهم، لرأيت أننا لا بد أن نقول بالجواز مراعاة لمصلحة المجتمع ...
ـ حتى لو ورد عن النبي # ما يفيد التحريم؟
ـ يا أخي! الحديث المذكور لا يدل صراحة على حكم هذه المسألة، صحيح أنه يدخل في عمومه، وهو ما يتبادر إلى الذهن من الحديث، لكن لا بد أن تكون لنا قراءة جديدة للنصوص الشرعية، ولا يمكن أن نقرأ النصوص الشرعية بعيداً عن المقاصد الشرعية لها، يقول الشاطبي: «وكما تعلم فالدين كله راجع إلى إعمال المصالح ودرء المفاسد» .
المشهد السابق مشهد متكرر في ساحة الفتوى، وكثيراً ما يعلل بعض المفتين فتاواهم بسد الذرائع، أو بإعمال المصالح، وبات بعضهم إذا أراد أن يحرِّم شيئاً ـ لا يجد دليلاً على تحريمه ـ يتكئ على سد الذرائع، ومن أراد أن يبيح شيئاً ـ ووقف الدليل الشرعي في وجهه صريحاً بالتحريم ـ يذهب إلى إعمال المصالح، حتى غدا عندنا منهجان واضحا المعالم في الفتوى ـ بالإضافة إلى المناهج الأخرى ـ: منهج: يوسِّع دائرة الذرائع فيضيق على الناس ما أباحه الله. ومنهج: يتمسك بالمصالح المزعومة مغفِلاً النظر فيما سواها.
وحدث نتيجة ذلك ردة فعل طبعية لهذين المنهجين: فتبرَّم بعضهم بسد الذرائع حتى عدّه أكبر سد في العالم، وعد آخرون المصالح طاغوتاً يضاف إلى الطواغيت الجاثمة على صدور المسلمين.
وهذا أدى ببعض الباحثين والمفتين إلى التحرُّز من تعليل الأحكام الشرعية بسد الذرائع، حتى لو كانت الذريعة واضحة كالشمس؛ فلو وُجدت معاملة مالية مستحدثة تؤدي إلى الربا وإلى ما حرمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ وكانت الحيلة فيها أوضح من حيلة اليهود في صيدهم الحيتان يوم السبت ما تجرأ أن يقول بالتحريم؛ خوفاً من أن يوصم بأنه (صاحب أكبر سد في العالم) .
وعلى الطرف الآخر تجد مسألة من المسائل لا يوجد فيها دليل صريح، بل قد يوجد دليل يشير إلى الإباحة، ومع ذلك تجد بعض الباحثين والمفتين يتحرز من القول بالإباحة استناداً إلى المصلحة الشرعية، خوفاً من أن يوصم بأنه (قليل علم بالنصوص، ولَمَّا أعيته النصوص اتجه إلى المصالح) و (أنه مفتٍ عصراني) .
ولو أخذت فتوى لمن يستخدم (سد الذرائع) بكثرة، وأردت أن تستدل لكلامه بالمصالح لما أعجزك ذلك، وكذلك العكس، وخذ مثالاً لذلك: ما يسمى بالتورُّق المبارك، فإنك تستطيع أن تقول بالإباحة استناداً إلى المصالح؛ فالناس محتاجون إليه، ومصالحهم تتعلق به، وإن أردت التحريم قلت: إنه ذريعة واضحة إلى الربا، وتستطيع أن تعكس فتقول: إنه مباح، ولو لم نقل بذلك لانسدت وسائل التمويل في وجوه المسلمين مما يؤدي إلى تركهم للمصارف الإِسلامية واتجاههم إلى البنوك الربوية فنقول بالجواز سداً لذريعة اتجاه الناس إلى الربا، وتقول: إنه محرم؛ فمن مصلحة الاقتصاد الإسلامي أن نقول بذلك، ولو قلنا بهذه الوسيلة لألغينا (كل أو جل) وسائل التمويل الإسلامية الرائدة التي جعلت المصارف اِلإسلامية تنافس حضارياً البنوك التقليدية، وجعلت المسلمين يشاركون في تقديم حلول لمشاكل العالم المعاصر، وهذه الطريقة تلغي الفروق بين المصارف الإسلامية والربوية، مما يجعل المصارف الإسلامية عديمة الجدوى (1) .
وعاد الخلاف إلى التلاعب بالألفاظ، لا الاستدلال بالأصول الشرعية.
فهل المشكلة في العمل بسد الذرائع، أم المشكلة في العمل بالمصالح الشرعية؟
ü أين تكمن المشكلة؟
الحقيقة أن المشكلة ليست في (سد الذرائع) وليست كذلك في (إعمال المصالح) ، وكلاهما قاعدة شرعية قررتها أصول الشريعة، وعمل بها العلماء الراسخون.
ولكن المشكلة تكمن في تحديد المصطلح، ثم في التطبيق الخاطئ للقاعدة الشرعية، وأحياناً لا توجد مشكلة أصلاً؛ إذ المسألة لا تعدو أن تكون من الخلاف اللفظي، أو الخلاف السائغ.
وهذا الكلام ينطبق على أصول شرعية أخرى: كالعمل بالرأي والاستحسان واعتبار العرف.
فالعمل بالرأي نجد في كلام السلف ذمه ومدحه، ولكننا إذا حققنا كلامهم ـ كما فعل ابن القيم رحمه الله ـ (2) نجد أن الذم والمدح لم يردا مورداً واحداً.
فمن ذمه قصد به الرأي الفاسد المصادم للنصوص أو القول في الدين بالخَرْص (3) والظن مع التفريط في معرفة النصوص، ومن مدحه أراد به الرأي الصحيح الموافق للنصوص الشرعية، كآراء الصحابة، أو الآراء التي فيها تفسير النصوص، أو إعمال الرأي في المسألة عند عدم الدليل بعد بذل الجهد في البحث عنه.
وإذا تقرر ما سبق فإن من ذم الرأي كان مصيباً، ومن مدحه كان مصيباً، ولكن كلام هؤلاء وهؤلاء لم يرد مورداً واحداً، وعند تحرير المصطلح يتبين لنا أن الخلاف لفظي.
ومع اتفاقهم على هذا التأصيل إلا أنه وقع الخلاف بينهم في المسائل التي أعملوا فيها الرأي، إما لاشتراط أحدهم ما لم يشترطه الآخر، وإما لاختلاف أفهامهم أو اختلاف الظروف المحيطة بكل مسألة..، (4) فلو أخذنا ـ على سبيل المثال ـ مسألة من مسائل الفرائض وهي مسألة الجد والإخوة لوجدنا أن المسألة ليس فيها دليل قاطع، والصحابة عملوا فيها بالرأي مع اتفاقهم على حدود الرأي الذي يُعمل به، ومع ذلك اختلفوا في هذه المسألة؛فمنهم من عدّ الجد أباً وحرم الإِخوة من الميراث، ومنهم من شرَّك بين الإخوة والجد.
وكذلك إذا نظرنا إلى مسألة العمل بالاستحسان، فقد ردّه بعض الأئمة وشنَّع القول فيه، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرَّع. ومع ذلك نجد أن بعض الأئمة الكبار كأبي حنيفة يقول به، بل نجد في كلام من رده العمل به، ووُجد في كلام الإمام الشافعي نفسه الأخذ به، فهل اختلافهم حقيقي؟
عند إمعان النظر في كلامهم نجد أن من ردّه فإن كلامه يدور حول معنى من المعاني، وهو: العمل بالتشهِّي والهوى من غير دليل، وهذا لم يقل به أحد ممن يعتد بقوله لا أبو حنيفة ولا غيره، والأئمة ـ رحمهم الله ـ أجلّ من أن يقولوا بذلك، وكذلك من فسر الاستحسان على أنه دليل ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع التعبير عنه.
وأما من عمل به فقد أراد العدول عن الحكم أو الدليل إلى حكم أو دليل أوْلى منه، أو القول بأقوى الدليلين.
وهذا المعنى لا ينبغي أن يخالف فيه أحد، فعاد الخلاف إلى اللفظ لا إلى الحقيقة، وتبين أن الكلام لم يرد مورداً واحداً (5) .
ولهذا قال أبو حامد الغزالي: «وردُّ الشيء قبل فهمه محال، فلا بد أولاً من فهم الاستحسان ... » (6) .
وقال الشيرازي: (فإن كان مذهبهم على ما قال الكرخي «أي العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها لدليل يخصها» وعلى ما قال الآخر، وهو القول بأقوى الدليلين، فنحن نقول به، وارتفع الخلاف) (1) .
وقال ابن قدامة: (فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى) (2) .
وقال ابن السمعاني: (ذكر الأصحاب أن القول بالاستحسان في أحكام الدين فاسد.. وكذلك القول بالمصالح والذرائع والعادات من غير رجوع إلى دليل شرعي باطل.. ثم قال: واعلم أن مرجع الخلاف معهم في هذه المسألة إلى نفس التسمية، فإن الاستحسان على الوجه الذي ظنه بعض أصحابنا من مذهبهم لا يقولون به، والذي يقولونه لتفسير مذهبهم: أنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه؛ فهذا لا ننكره..) (3) .
وعلى ذلك فلا يجوز للمفتي أو الباحث أن يترك هذه الأصول الشرعية؛ لأن فلاناً قال بها، أو لأن القائل بهذه المسألة هم من أصحاب التوجه الفلاني، بل على المفتي أن يصدع بالحق أياً كان، إذا كان يرى أن هذا هو الحق، وأن هذا الحق يجب قوله الآن.
حتى لو كان الحق فيه تيسير على الناس؛ ففي عمل الناس آصار لم يأمر بها الله؛ فهل الشريعة جاءت بالحَرَج والأغلال والآصار حتى نمتنع عن قول الحق من أجل ذلك؟
وحتى ولو كان الحق مخالفاً لأهواء الناس وما أَلِفوه ولانت جلودهم له؛ إذ الشريعة لم تأتِ موافقة لأهواء الناس، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: 71] .
ولنتخيل لو جاء أحد المفتين فقال بجواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، ودفع الزكاة للكفار دفعاً لأذاهم المتحقق عن المسلمين، وما موقف بعضهم لو سمع من يقول بعدم قتل بعض المنافقين والمرتدين لئلا يتحدث الناس أن (المسلمين) يقتلون أصحابهم، وما عمله لو عقد بعض الولاة صلحاً كصلح الحديبية، أو نهى عن سب آلهة المشركين لئلا يترتب على ذلك ضرر أكبر، أو امتنع عن إقامة حد السرقة لسبب شرعي مقبول ـ كما وقع عام الرمادة ـ أو أجاب دعوة لأحد قسس النصارى، أو سمح بإقامة بعض الأنشطة في المساجد ـ وإن كانت رياضية ـ كما فعل الحبشة في المسجد النبوي، أو اتبع الأعراف الدولية السائدة ـ التي لا تخالف أصول الشريعة ـ كما اتخذ النبي # خاتماً، وامتنع عن قتل الرسل، وأخبر أنه لو دُعي إلى الحلف الذي عُقد في بيت ابن جدعان ـ حلف لنصرة المظلوم ـ لأجاب، وخاطب هرقل بعظيم الروم، ألن يرمى هذا المفتي بالتساهل وتمييع الدين، والإعراض عن النصوص الشرعية؛ تمسكاً بالمصالح؟
وعلى النقيض لو قال أحد العلماء بتحريم بعض الألفاظ لئلا يتوهم منها معنى آخر (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ولو هدم مسجد ضرار كما هدم النبي # مسجد الضرار، أو أمر امرأة ـ حتى وإن كانت موثوقة ـ بعدم إلانة القول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، أو قطع شجرة أو هدم حجراً خوفاً من تبرك الناس به كما فعل عمر بشجرة الرضوان، أو منع من الحيل الربوية، ألن يوصف بالتشدد، واتخاذه لأكبر سد في العالم؟
بل لو تغير اجتهاده من وقت لآخر؛ لأنه أمعن النظر في المسألة مرة أخرى، كما تغير اجتهاد عمر بن الخطاب في مسألة الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم (المسألة اليَمِّيَّة أو الحمارية) ، أو تغير اجتهاده بناء على تغير العلة التي بني عليها الحكم، كما منع عمر المسلمين عن القتال في البحر، لعدم خبرتهم به، ثم أقدموا عليه لما وُجِد في المسلمين ـ بعد عمر ـ من يستطيع القيام بذلك، لو تغير اجتهاده من أجل ذلك ألن يوصم بالتناقض؟
ومع ذلك فكل ما سبق وسائل شرعية لا يجوز لنا تركها؛ لأنه يوجد في الناس من يعيب ذلك، أو لأنه يوجد من يستخدمها استخداماً خاطئاً، أو يتخذها وسيلة لهواه؛ فقد يوجد من يريد تعطيل الحدود استناداً إلى عدم قتل النبي # للمنافقين، وترك عمر لحدِّ السرقة عام الرمادة، لكن ذلك لا يعني أن ننطلق إلى الجانب الآخر، فنحرم الاقتداء بالنبي # في هذا الأمر، وقد يوجد من يهدم المسجد؛ لأنه لا يوافق توجهه السياسي؛ ولأن المسجد لم يعد بوقاً له، لكن لا يعني ذلك عدم هدم مساجد الضرار، وقد يوجد من يريد إلغاء الولاء والبراء استناداً إلى ما سبق، لكن ذلك لا يعني أن نترك سُنَّة النبي # أو نظلم الكفار لكي لا نقع فيما وقع فيه.
وكذلك يوجد من يمنع المرأة من الحقوق المشروعة ظناً منه أن في ذلك صوناً للمجتمع من الفساد، ولكن ذلك لا يعني أن نجعل المرأة تعمل في كل مجال، وأن نترك الحبل على الغارب، لئلا نوصف بأننا متحجرون، وكذلك لا يمنعنا ذلك من أن ندعو إلى إنصاف المرأة وإعطائها حقوقها لئلا نوصف بأننا عصرانيون.
ü سد الذرائع:
المراد بسد الذرائع: أن يكون الفعل غير محرَّم، ولكنه يوصِل إلى المحرَّم. يقول القرافي مبيناً معنى سد الذرائع: «حسمُ مادة وسائل الفساد دفعاً لها؛ فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور ... » (4) .
الاستدلال لمسألة سد الذرائع (5) :
من الأدلة على العمل بسد الذرائع قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
[الأنعام: 108] .
فسبُّ آلهة المشركين ليس محرماً في ذاته، وإنما هو محرم لما يفضي إليه.
وما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي # قال في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: فلولا ذاك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يُتَّخَذَ مسجداً (1) .
تحرير محل النزاع:
الذريعة تنقسم إلى أقسام:
1 ـ الذريعة التي توصل إلى المحرَّم قطعاً؛ فهذه محرَّمة قطعاً، كحفر بئر أو حفرة في الطريق العام، أو وضع المواد السامة في مياه المسلمين.
2 ـ الذريعة التي لا تفضي إلى المحرَّم إلا نادراً، كزراعة العنب؛ فمع أنه قد يُتَّخذ خمراً، لكن ليس هذا الغالب في استعماله، وعلى ذلك فلا يقال بحرمته، وكذلك لا يمنع من المجاورة في البيوت خوف الوقوع في الزنا، وهذه غير محرَّمة بالإجماع.
3 ـ الذريعة التي بين القسمين، كالحِيَل الربوية في البيوع، وهذه محل النزاع؛ فمالك ـ رحمه الله ـ كثر عنده المنع منها، حتى اشتُهِر بسد الذرائع.
ولهذا يقول القرافي بعد أن قسَّم الذرائع إلى مُجْمَع على سده ومُجْمَع على عدم سده ومُخْتَلَف فيه: (وليس سد الذرائع خاصاً بمالك - رحمه الله - بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه) (2) .
ü آراء العلماء في مسألة سد الذرائع:
اشتهر العمل بقاعدة سد الذرائع عن الإمام مالك (3) والإمام أحمد (4) ، وعمل بها أصحابهما.
وكذلك اشتهر عن الإمام الشافعي أنه لا يعمل بسد الذرائع، وكذلك الحنفية اشتهر عنهم العمل بالحِيَل، وظاهر ذلك أنهم لا يقولون بسد الذرائع؛ فهل الحنفية والشافعية لا يعملون بسد الذارئع؟
الحقيقة أننا نجد عند الحنفية في فروع عدة تعليل بعض الأحكام بسد الذرائع، منها: البدء بقتال البغاة؛ فالبغاة مسلمون؛ والأصل ألا يقاتل المسلم ابتداء بل لا يقاتل إلا دفعاً، لكن المذهب عند الحنفية البدء بقتالهم إذا تحيَّزوا وتهيؤوا للقتال؛ وذلك لئلا يكون عدم قتالهم ذريعة لتقويتهم، ولعلهم إذا قووا لا يمكن دفعهم (5) .
وعندهم يُكرَه لمن خاف الحَيْف أن يتولى القضاء لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الظلم (6) .
ومرادهم بالكراهة هنا كراهة التحريم؛ لأن الغالب الوقوع في المحظور (7) .
وعللوا تركَ المعتدَّةِ الطيبَ والزينةَ والكحل والدهن المطيب وغير المطيب بأن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة من النكاح فتجتنبها كي لا تصير ذريعة على الوقوع في المحرم (8) .
وفي مسألة مصادرة السلطان لأرباب الأموال ذكروا أن ذلك محرم، ولا يجوز إلا لعمال بيت المال، والمراد بعمال بيت المال خَدَمَتُه الذين يجبون أمواله، ومن ذلك كَتَبَتُه إذا توسعوا في الأموال؛ لأن ذلك دليل على خيانتهم، وألحقوا بهم كَتَبَة الأوقاف ونُظَّارها إذا توسعوا وتعاطوا أنواع اللهو وبناء الأماكن..، لكن مع ذلك قال بعض الحنفية: «هذا مما يُعْلَم ويُكْتَم، ولا تجوز الفتوى به؛ لأنه يكون ذريعة إلى ما لا يجوز؛ وذلك لأن حكام زماننا لو أُفتوا بهذا وصادروا مَنّ ذُكِرَ لا يردون الأموال إلى الأوقاف ... » (9) .
وأما الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ فهو الذي اشتهر عنه عدم العمل بسد الذرائع، ولكن عند النظر في بعض المسائل التي ذكرها نجد أنه يعمل بسد الذرائع، مثل ما ذكره في مسألة منع فضل الماء؛ حيث قال ـ رحمه الله ـ: (منعُ الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله (10) عامٌّ يحتمل معنيين: أحدهما: أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى ...
(ثم قال) : فإن كان هذا هكذا؛ ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام، ويحتمل أن يكون منع الماء إنما يُحَرَّم؛ لأنه في معنى تلف على ما لا غنى به لذوي الأرواح والآدميين وغيرهم، فإذا منعوا فضل الماء منعوا فضل الكلأ، والمعنى الأول أشبه. والله أعلم) (11) .
فهل الشافعي لا يراعي الذريعة إلى المحرم مطلقاً، وهل مراعاته للذريعة في بعض المسائل يعدّ تناقضاً منه؟
قال تقي الدين السبكي بعد أن قرر مذهب الشافعي في مسألة العِينة، وبعد أن ذكر كلام الشافعي السابق في مسألة منع فضل الماء: (قد تأملته (أي النص السابق) فلم أجد فيه متعلقاً قوياً لإثبات قول سد الذرائع، بل لأن الذريعة تعطى حكم الشيء المتوصَّل بها إليه، وذلك إذا كانت مستلزمة له كمنع الماء؛ فإنه مستلزم لمنع الكلأ، ومنع الكلأ حرام، ووسيلة الحرام حرام.
والذريعة هي الوسيلة، فهذا القسم وهو ما كان من الوسائل مستلزماً لا نزاع فيه، والعقد الأول (أي في بيع العِينة) ليس مستلزماً للعقد الثاني؛ لأنه قد لا يسمح له المشتري بالبيع أو ببذلهما، أو يمنع مانع آخر؛ فكل عقد منفصل عن الآخر لا تلازم بينهما؛ فسدُّ الذرائع الذي هو محل الخلاف بيننا وبين المالكية ـ أمرٌ زائد على مطلق الذرائع وليس في لفظ الشافعي تعرُّض لهما، والذرائع التي تضمنها كلام لفظه لا نزاع في اعتبارها. (ثم ذكر كلام القرافي السابق ثم قال) :
فالذرائع هي الوسائل وهي مضطربة اضطراباً شديداً: قد تكون واجبة، وقد تكون حراماً، وقد تكون مكروهة ومندوبة ومباحة. وتختلف أيضاً مع مقاصدها، بحسب قوة المصالح والمفاسد وضعفها، وانغمار الوسيلة فيها وظهورها، فلا يمكن دعوى كلية باعتبارها ولا بإلغائها، ومن تتبع فروعها الفقهية ظهر له هذا، ويكفي الإجماع على المراتب الثلاث المذكورة في كلام القرافي ... ) (1) .
إذن الشافعي يوافق الإمام مالك والإمام أحمد في المنع من الذرائع المستلزمة للمحرم.
وإذا تقرر ما سبق فإن الذرائع المستلزِمة للمحرَّم محرَّمة إجماعاً، والذرائع التي لا توصِل إلى المحرم إلا نادراً مجمَع على عدم المنع منها، وما بين هاتين المرتبتين وقع الخلاف فيه بين أهل العلم.
لكن إذا كان يغلب على الظن إفضاء الذريعة إلى المحرَّم؛ فهل نقول بأن المنع منها محل إجماع بين أهل العلم؛ لأنه كثيراً ما يلحق العلماء الظن الغالب بالقطع في الأحكام؟
لا أستطيع القطع بذلك، لكن المظنون بأهل العلم القول بالمنع منها، وقد قال العز بن عبد السلام الشافعي: (ما يغلب ترتُّب مسبَّبُه عليه وقد ينفك عنه نادراً فهذا أيضاً لا يجوز الإقدام عليه؛ لأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أكثر الأحوال) (2) .
فإذا كان هذا هو رأي إمام من أئمة الشافعية في كتاب ألفه في مصالح الأنام فغيره من باب أوْلى أن يقول به.
والخلاف الذي يقع بين أهل العلم في بعض المسائل التي مردّها إلى مسألة سد الذرائع، إما أنه خلاف راجع إلى خلافهم في بعض شروط العمل بسد الذرائع، وإما أنه خلاف راجع إلى اختلاف نظرهم وفهمهم للمسألة أو للأمور المُحْتَفَّة بها، كما نجد الخلاف عند علماء أهل السنة الذين يوجبون العمل بما صح من الأحاديث في الأحكام الشرعية؛ ومع ذلك نجد الخلاف عندهم في بعض المسائل التي اطَّلعوا كلهم على دليلها؛ وذلك لاختلافهم في بعض شروط الحديث الصحيح؛ فمنهم من يقبل زيادة الثقة إذا لم تخالف رواية من هو أوثق، ومنهم من لا يرى ذلك بل له تقعيد آخر في مسألة زيادة الثقة، أو أن خلافهم راجع إلى فهمهم أو طريقة استنباطهم الحكم من الحديث، مع أن الحديث واحد، والحديث قد اطلع عليه كلا الطرفين.
تنبيه ذكره القرافي: (اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح؛ فإن الذريعة هي الوسيلة؛ فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة) (3) .
ü إعمال المصالح (4) :
والمصالح عموماً تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ قسم شهد الشرع باعتباره، وهذا لا شك في إعماله؛ لأنه القياس.
2 ـ قسم شهد الشرع بإبطاله، كالمصلحة الموجودة في الخمر والميسر من متاجرةٍ بها وإنعاشٍ لاقتصاد البلد وجلبٍ للسياح، {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فهذا القسم لا شك في إبطاله.
3 ـ ما لم يشهد نص معيَّن من الشارع باعتباره ولا بإهماله، وهو ما يسمى بـ (المصالح المرسلة) ككتابة المصحف بعد وفاة النبي #، وعهدِ أبي بكر إلى عمر بالخلافة، وحرقِ عثمان المصاحفَ سوى المصاحف التي كتبها، وتدوين الدواوين، واتخاذ السكة (5) ، قلت: ومثلها في الوقت الحاضر الأنظمة التي تصدرها بعض الدول محققة لمصلحة الناس غير مصادمة للشرع.
وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به؛ فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعُبَّاد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع.. وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعاً بناء على أن الشرع لم يَرِدْ بها، ففَّوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه) (6) .
وهذا القسم ـ إن قلنا بإثباته (1) ـ نجد أن العمل به موجود في المذاهب كلها، ولكن الإشكال كالإشكال السابق؛ فإنه يوجد من توسع فيه، وأكثرُ من توسع فيه مالك ثم أحمد، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتبار هذا الأصل في الجملة (2) .
والفقهاء الذين يمنعون العمل بالمصالح المرسلة سيضطرون إلى القول بموجبها عند التطبيق الفقهي وإن سموا عملهم هذا قياساً أو استحساناً أو غير ذلك؛ فالمؤدى واحد، وخذ مثلاً على ذلك إمام الحرمين فقد كاد يوافق الإمام مالك مع مناداته عليه بالنكير (3) .
وقال القرافي: (المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك، ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة: أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد الاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير (ثم ساق أمثلة من فعل الصحابة، ثم قال) : وذلك كثير جداً لمطلق المصلحة، وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى بالغياثي أموراً وجوَّزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها، وجسر عليها وقالها للمصلحة المطلقة، وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة) (4) .
وفي الشروط التي وضعها بعض الفقهاء ـ كاشتراط الغزالي (5) أن تكون المصلحة كلية قطعية ضرورية ـ تضييق لنطاق العمل بالمصالح قد يؤدي إلى إغلاق باب العمل بها، وعند التطبيق سيكون أوَل التاركين لتلك الشروط مَنْ وضعها.
وعند التأمل في التطبيق الفقهي للمصالح سنرى أن الصحابة والتابعين وأئمة الفقه عملوا بالمصالح وإن اختلفت ألفاظهم في الاستدلال لهذه المصالح، وسبب الخلاف الموجود في كتب الأصوليين يعود ـ كما ذكر بعض الباحثين (6) ـ إلى عدم تحديد المراد باعتبار الاستصلاح أو عدم اعتباره عند نقلهم للخلاف، وكذلك إلى عدم التثبت في نقل الآراء.
ولا يعني ذلك اعتبار المصالح مطلقاً من دون ضابط، بل لا بد للعمل بالمصالح من شروط:
1 ـ فلا بد أن تكون موافقة لمقاصد الشارع محافظة على الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والعرض والمال) .
2 ـ ويُشترَط لها ألا تعارِض دليلاً شرعياً.
3 ـ وألا تفوِّت مصلحة أعلى منها (7) .
4 ـ كما يُشترَط للمصلحة أن تكون حقيقية ـ تجلب نفعاً وتدفع ضراً ـ لا موهومة، فلا بد لها من إطالة النظر والتأمل في جميع الأوجه قبل الحكم بالمصلحة.
5 ـ ويُشترَط لها أن تكون عامة للناس أو لأكثر الناس، لا مصلحة لفئة معينة من الناس كمصلحة السادة أو التجار على حساب غيرهم (8) .
ولكن ـ ومع ما سبق ذكره ـ فسيبقى هناك إشكال في تحرير بعض الشروط وفي مجال تطبيق المصلحة. ومن المجالات التي ستكون سبباً للخلاف في بعض المسائل:
ـ التدرج في تطبيق أحكام الشريعة في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية؛ فهل التدرج في الشريعة يعدّ مصادماً للنصوص الشرعية التي أمرت بالعمل بالشريعة جملة وتفصيلاً، فلا بد من الأخذ بالشريعة جملة وتفصيلاً دون الانتقاء منها، والتدرج انتقاء؛ فهو أخذ لبعض الكتاب دون بعض، أم أنه موافق للشريعة التي جاءت أحكام عديدة منها بالتدرج كتحريم الخمر ومشروعية الجهاد؟ وهل الأحكام التي نزلت قبل الهجرة ونزل بعد الهجرة خلافها منسوخة؟ أم أنه يمكن للمسلمين إذا كانت حالتهم قريبة من المرحلة المكية أن يأخذوا ببعض أحكامها؟
ـ ترك بعض الأحكام الشرعية تركاً مؤقتاً مراعاة لمصلحة أعظم: هل يُعَدُّ ذلك مصادماً للنصوص الشرعية، أم يكون هذا الترك كترك قتل المنافقين، وترك حد السرقة عام الرمادة، فيكون مستنداً إلى دليل آخر ولا يعدّ مصادماً للدليل؟ وهذا ما يسميه كثير من الأصوليين بالاستحسان، ولكن حتى مع القول بمشروعية ذلك، ما ضوابطه؟
ـ الضرورة والحاجة العامة وتأليف القلوب ومراعاة الأوليات أمور يُعلل بها كثيراً ترك ظواهر النصوص، ولهذه الأمور ما يشهد لها شرعاً، لكن ـ أيضاً ـ هذه الأمور تحتاج إلى ضبط.
ـ أفعال الرسول # منها ما فعله بحكم العادة والجِبِلَّة، ومنها ما فعله من أجل التشريع، والذي فعله من أجل التشريع منه ما فعله لكونه مفتياً، ومنه ما فعله لكونه قاضياً، ومنه ما فعله لكونه إماماً اتبع فيه المصلحة الحالية. وعلى ذلك سيقع خلاف في تفسير بعض الأفعال: هل فعله لكونه مفتياً أم لكونه إماماً؟ ولعل من أوائل القضايا التي وقع فيها الخلاف قسمة الأرض المفتوحة؛ فقد كان النبي # يقسمها، ومع ذلك عمر لم يقسم أرض السواد، وخالفه في ذلك بعض الصحابة.
هذه لمحة عامة عن سد الذرائع والعمل بالمصالح، لم أرد منها الاستقصاء، ولكني أردت أن أبيِّن أن هذين الأصلين أصلان مهمان لا بد أن يفهمها المفتي جيداً ويعمل بهما وفق الضوابط الشرعية دون الالتفات إلى ما يقوله الناس، ومن دون ذلك سيضيع المستفتي بين سد الذرائع والعمل بالمصلحة.
والله أعلم، وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(228/3)
مفهوم الدين بين الحقيقة والتحريف!
د. عدنان علي رضا النحوي
www.alnahwi.com
كلمة «الدين» كلمةٌ عمّت الشرق والغرب والتاريخ البشري واللغات المختلفة، والأمم والشعوب كلٌّ يدَّعي أن له ديناً ثم يعرض دينه الذي لديه.
ولكن هذه اللفظة في اللغات الأخرى غير العربيّة لها معنى خاص يختلف كلّ الاختلاف عن المعنى الذي تحمله هذه الكلمة في اللغة العربيّة. ومع ضغط الغزو الغربيّ على العالم الإسلامي، غزواً فكريّاً وعسكريّاً، تأثر كثير من المسلمين بالفكر الغربي ومصطلحاته ومدلولاته، واختلطت المعاني في كثير من الأذهان، وحسب الكثيرون أن كلمة «Religion» في الإنجليزيّة مثلاً، وأمثالها في لغات أخرى، تحمل نفس معنى كلمة «دين» في الإسلام وفي اللغة العربية. ولكنّ الحقيقة هي أن هنالك فرقاً واسعاً جداً بين كلمتي «دين» و «Religion» . كلمة «دين» في اللغة العربيَّة تحمل عِدَّةَ معانٍ وردت كلها في القرآن الكريم: الجزاء، المكافأة، ومنه: يوم الدين، ومنه اسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ الدّيان. والدين: الملك، الحكم، السلطان، الطاعة، والمدينة: الأمّة، المدين: العبد، والدين: الجمع.
والكلمة الإنجليزية «Religion» لا تحمل إلا معنى الطقوس، ولا تحمل المعاني التي تحملها كلمة «الدين» ؛ فمن الخطأ أن نترجم كلمة «Religion» بـ «دين» ؛ فالفرق واسع، ولا يوجد لدى غير العرب لفظة تعادل كلمة «دين» . والإسلام دينٌ يحمل جميع المعاني السابقة، لتجتمع كلها في المعنى الرئيس لكلمة دين: منهج كامل تام للحياة كلها، الدنيا والآخرة:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
فمن مسؤولية المسلمين جميعاً أن يبيّنوا للعالم كله ما هو الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، وما معنى كلمة دين، وكيف أنها لا تُترْجم ولكن تشْرح معانيها، ليكون الشرح جزءاً من التعريف بدين الإسلام، الدين الذي يجمع أمور الحياة كلها: الاجتماعية، والتربوية، والنفسيّة، والاقتصادية، والسياسية، والتشريع الكامل، والحكم ونظامه، والدولة وسلطانها، والمسؤوليات للفرد والأسرة والأمة كلها، وجميع التكاليف التي نزل بها الوحي الكريم على محمد #، والشعائر، والعبادة كلها، والأمانة، والعمارة، والخلافة، وتعاون الشعوب على أساس إقامة دين الله، الإسلام، والدعوة إلى الله ورسوله وتبليغ الإسلام وتعهّد الناس كافة عليه لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن النار إلى الجنّة بإذن الله تعالى، وجهاداً في سبيل الله، وسائر المسؤوليات التي وضعها الله أمانة في عنق الأمة المسلمة:
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] .
ومن أهم المسؤوليات التي كلّف الله بها عباده أن يحملوا هذا الدين دعوة وبلاغاً وتعهّداً وجهاداً في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا في الأرض كلها. فهذه هي حقيقة الأمانة والعبادة والخلافة والعمارة التي خَلَقَ الله الإنسان للوفاء بها في هذه الحياة الدنيا من خلال ابتلاء وتمحيص، ومن خلال عهد وميثاق، ليُحاسَب عليها الناس يوم القيامة.
إنّ هذا الدين الإِسلامي جاء لهذه الغاية، ليحَدِّد مُهمَّة الإِنسان في الأرض، والغاية التي خَلقَه الله من أجلها.
والناحية الأخرى التي ترتبط بهذه القضيّة هي أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهو الواحد الأحد، ما كان ليبعث لعباده أدياناً مختلفة يتصارع الناس عليها، حين يريد الله من عباده كلهم أن يؤمنوا إيماناً واحداً ليدخلوا جميعاً في طاعته ورحمته ما أطاعوا والتزموا. فالدين عند الله واحد هو الإسلام، دين جميع الأنبياء والرسل الذين خُتموا بمحمد #.
{إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] .
أما المصطلح الذي شاع بين الناس: «الأديان التوحيدية السماوية» ، وما شابهه، فهو مصطلح خاطئ متناقض، لا يتناسب مع معنى التوحيد ولا معنى الألوهية، ولا معنى الدين، فالدين عند الله دينٌ واحد هو الإسلام.
ومن ذلك نرى أنه ـ خارجَ دين الله، خارجَ التوحيد ـ قد توجد أديان يصنعها البشر، إِما من عند أنفسهم أو من تحريف دين الله مع الزمن. وهذه الأديان غير التوحيدية يمكن أن نضعها كلَّها في إطار «دين غير توحيدي» لا يدعو إلى الله ورسوله، ولا يتبنّى الوحي المنزّل من عند الله على رسله الذين خُتموا بمحمد #، خاتم الأنبياء والمرسلين. فهنالك إذاً دين الله، دين التوحيد، دين واحد جاء برسالات متعدّدة مع الرسل والأنبياء، ودين غير دين الله:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ #! 1! #) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ #! 2! #) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ #! 3! #) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ #! 4! #) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ #! 5! #) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6] .
مفاصلةٌ وحسمٌ في الدين والمعتقد، لا مجال فيه للمراءاة أو المجاملات أو المساومات: دين الله دين واحد هو الإسلام، ودين الكافرين، ولا يوجد أديان متعددة، إلا في نطاق دين الكافرين!
وعند الخروج عن هذا التصوّر يضطرب الفكر ويختلط، وتضطرب التصورات، وتخرج أفكار ومصطلحات!
فحوار الأديان مثلاً مصطلح غريب حسب ما يُطْرَح في واقعنا اليوم، وغريب من حيث كلمة «الأديان» ! والله يقول: دين واحد! أفنكذّب الله سبحانه وتعالى؟!
وغريب من حيث كلمة «حوار» ؛ ففي الإسلام دعوةٌ وبلاغ لتبليغ الدين الحق الواحد، وتعهُّد الناسِ عليه، كما أمر الله! فلا حاجة لحوار الأديان؛ فالأديان معروفة، وأصحاب كلّ دين يدعون إلى دينهم ولا يحاورون حوله. ولكن الحوار يمكن أن يدور حول طريقة التعامل لا حول الدين نفسه، ويظل الإسلام يدعو الناسَ كافة إلى الإسلام بوضوح وجلاء.
ولما كان اليهود والنصارى قد حرّفوا رسالة أنبيائهم، فخرجوا بذلك عن الدين الواحد للأنبياء والرسل جميعهم، سماهم الله «أهل الكتاب» إقراراً بأن الله أنزل على إبراهيم الصحف، وعلى موسى التوراة، وعلى عيسى الإنجيل، من عند الله رسالات متعدّدة لدين واحد هو الإِسلام، دين جميع الرسل والأنبياء.
هذا ما نصّ عليه القرآن الكريم والسنة في سور متعددة، وآيات متعددة، وأحاديث واضحة، نصّاً صريحاً بيّناً لا خلاف فيه ولا يحتمل التأويل. وإذا كان هناك اختلاف فهو في الرسالات من حيث بعض التشريع، فقد كان كلُّ نبيٍّ يُرْسَل إلى قومه خاصّة، يبلّغهم دين الإسلام، دين التوحيد الواحد، ويضع لهم من التشريع ما يحتاجه كل قوم.
ولما جاء النبيّ الخاتم بمثل ما أتى به الأنبياء والرسل من الدين والتوحيد، مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، بأن جَمَعَ التشريع كله تشريعاً ربّانيّاً واحداً للبشريّة كلها إلى يوم القيامة، تشريعاً كاملاً وتامّاً وكافياً!
لا بدَّ من تثبيت هذا المفهوم في قلوب المسلمين وفي قلب كل مسلم، ليعي المسلم حقيقة دينه ومداه ومستواه، فلا يأخذه الضعف أو الجهل إلى أن يلهث وراء العلمانيّة والديمقراطية والحداثة، حتى يَعيا ويسقط دون أن يكسب الدنيا ولا الآخرة، ولا رِضا أهل الديمقراطية إلا رِضا استدراج مؤقت، ولا رِضا الله!
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن الرسول # قال: «مثلي في النبيين كمثل رجلٍ بنى داراً، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لَبِنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويعجبون منه، ويقولون: لو تمَّ موضع هذه اللبنة؛ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة» أخرجه أحمد والشيخان والترمذي (1) .
فالدين، من حيث الواقع والحقيقة والعقل، هو الحقيقة الكاملة لهذا الكون كلِّه، مشهدِه وغيبِه، دنياه وآخرتِه، خلقِه كله، خالقُه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، خالق كل شيء، له الملك كله، وله الأمر كله؛ وله الحمد كله. من هنا يُصبح الدِّين رسالةَ الأنبياء والرُّسل على مرِّ الزمن، خُتموا كلُّهم بالنبيّ الخاتم محمّد #، وخُتمت الرسالات بالكتاب والسنّة كما جاءا باللغة العربية، ليكون كتابُ الله منهجَ حياة كاملاً تاماً للإنسان، للبشرية.
ومن خلال هذا المنهج الرَّباني الكامل يبيّن الله لعباده كلِّهم مهمّة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، المهمّة التي خلقه الله للوفاء بها، ولتكون جزءاً رئيساً من هذا الدين العظيم، ليعرف كلُّ إنسان أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي خلقه، وهو الذي كلَّفه بمُهمَّةٍ عظيمةٍ يقوم بها في الدنيا من خلال ابتلاءٍ وتمحيص، ومن خلال عهد وميثاق، فتكون الطريق أمام الإنسان في هذه الحياة الدنيا مشرقةً جليّةً، يمضي المؤمنون بذلك على صراط مستقيم واحد، ممتدٍّ إلى الدار الآخرة.
لذلك يعيش المؤمن في هذه الحياة الدنيا مطمئنّاً راضياً، واعياً لمهمته وتكاليفه الربَّانيَّة التي سيحاسَب عليها يوم القيامة بين يدي الله، يوم يضع الموازين القسط فلا تُظلَم نفسٌ شيئاً، ثمَّ يمضي الإنسان إما إلى جنَّة أو إلى نار.
هذا هو الدين الحق الذي يبيّن للإنسان كلَّ ما يحتاجه حتى ينجو من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة.
نعم! هذا هو الدين الذي جعله الله رحمةً منه لعباده، وفضلاً منه عليهم، وهدى ونوراً. فلا تجد فيه تناقضاً بل تماسكاً، وتجده ميسَّراً للذكر لمن ملك بفضل الله مفتاحين يفتحان له كتاب الله بإذن الله وبهدايته. هذان المفتاحان هما: إتقان اللغة العربية، وصفاء الإيمان وصدقه (1) . فإذا توافرا عند أي إنسان فإنَّ كتاب الله ـ تعالى ـ يُفتح له بهداية من الله. ولهذين المفتاحين آيات وأحاديث تدل عليهما وتبين أثرهما في تيسير القرآن للذكر:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] .
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] .
فلا يُعقل أبداً أن يكون الدين طقوساً تؤدَّى على صورة ما، تنفصل بعد ذلك عن واقع الحياة الدنيا وأحداثها وميادينها، ثمَّ يصبح الإنسان بعد هذا الانفصال هو الذي يقرر، يعبد العقل حيناً، أو ما يسمّيه عقلاً، أو يعبد الأهواء والشهوات، أو يعبد المصالح المتضاربة المتنافسة، أو يعبد الأوثان وما يوحي به شياطين الإنس والجن.
هذا هو الدين! منهج حياة متكامل، يصل الدنيا بالآخرة، ليصبح عمل المؤمن الصادق كلُّه عبادةً صادقةً لله: أكلُه وشربُه وسعيُه، وجهادُه، ورضاه وغضبُه، وحبُّه وكراهيتُه، وعلمُه، وعملُه، كلُّه عبادةً خالصةً لله إذا صدقتْ النيَّة لله، وإذا خضع العمل كلّه لشرع الله، شرطان لا يُغني أحدهما عن الآخر، شرطان يجب أن يعملا معاً في وقت واحد.
هذا هو الدين! نجاةٌ في الدنيا والآخرة. بدونه يصبح الناسُ وُحُوشاً، يفتك بعضهم ببعض، ويهلك بعضهم بعضاً. لا تقوم بينهم عدالة ولا أمانة، ولا حُرِّية ولا مساواة، إلا من حيث الشعارات يطلقها المجرمون الوحوش، ليزيّنوا بها باطلهم، وليفتحوا بها ثروات الأمم لينهبوها، وليستأثر المجرمون الوحوش بخيراتها، ويَدَعُو الناس فقراء عالة عليهم!
هذا هو الدين الحق، دين الله، دين الإسلام، الدين الذي يقيم الحقَّ في الأرض بين الناس، ويقيم العدل الصادق الأمين، ويقيم الحريَّة المنضبطة لتوفّر الحريّة المنضبطة، لتحقّق المساواة العادلة بين الناس.
وبغير هذا الدين الحق لا تقوم عدالة أبداً، ولا حريّة، ولا مساواة، فهذا كلّه يقيمه شرع الله.
كثير من الناس غاب عنهم التصوّر السليم للدين، ولمهمته في الحياة، فاضطربت تصوّرات الناس، أو بعض الناس اضطراباً واسعاً؛ فمنهم من جعل من الدين ومن معنى العبادة الطقوس والشعائر فقط. ومنهم من نادى بعزل الدين عن السياسة والحكم، أو عزل السياسة والحكم عن الدين. ومثل هذه التصوُّرات ابتدأت في الغرب على أثر اصطدام النصرانية بالوثنية، ثمَّ اصطدام الكنيسة برجال العلم وبالدولة والحكام، ثمَّ أخذت تمتدُّ إلى العالم الإسلامي بين المسلمين، حين انتشر الجهلُ بالكتاب والسنَّة واللغة العربيَّة، وقويت دعاية الغرب وغزوه الفكري والعسكري.
ومن أهمِّ التصوّرات الدينية التي غابت عن الناس معرفة الإنسان لمهمته في الحياة الدنيا، وللتكاليف الربّانيّة التي أمره الله بالوفاء بها، والتي سيحاسَب عليها بين يدي الله يوم القيامة. نسي الناس هذه المهمة الحقيقية ولهثوا وراء مصالحهم الدنيوية حتى يوافيهم الأجل وهم لم يوفوا بعهدهم مع الله ولا بالأمانة ولا بالعبادة ولا بحق الخلافة في الأرض.
وإذا كان القرآن الكريم قد أوجز مهمة الإنسان التي خلقه الله للوفاء بها في الحياة الدنيا بمصطلحات أربع: العبادة والأمانة والخلافة والعمارة؛ فإنه مع هذا الإيجاز فصَّل المهمّة تفصيلاً كاملاً، ثمَّ جمعت المهمة كلها في نشر دين الله في الأرض، ودعوة الناس كافَّة إليه، حتى تكون كلمة الله هي العليا وشرعه هو الأعلى. ومن أجل تحقيق ذلك شرع الله القواعد والوسائل والأساليب وفصّلها حتى يتيسَّر للإنسان الوفاء.
فمعرفةُ الدين وفهمه، وفهم تصوُّراته كاملةً سليمةً من مصدره الحق ـ المنهاج الربَّاني ـ أمرٌ أساسيٌّ في حياة الإنسان. وبغير هذا الفهم والعلم والالتزام يهلك الإنسان.
إنها مهمّة الإنسان المؤمن، الإنسان الداعية الصادق، أن يوفي بالأمانة بالتبليغ والتعهد وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ومن الهلاك إلى النجاة. وإن أي امتداد للفتنة وسوء فهم هذا الدين، يحمل المسلمون مسؤوليّته عن ذلك، ويحمل الدعاة والعلماء مسؤولية أكبر.
إنَّ البلاغ والبيان، والتعهد والبناء، والقوة والإعداد، مهمة كبيرة والتقصير بها إثم كبير، فلا يُشْغَلنَّ الدعاة عنها بزخارف الدنيا وزينتها، فَيَهْلَكُوا ويُهْلِكُوا. إنَّ هذا الدين هو الحياة، هو النور، هو الهدى:
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122](228/4)
الوقف فضيلة إسلامية وضرورة اجتماعية
أ. د. بركات محمد مراد
حظي الوقف باهتمام خاص من طرف علماء الفقه الإسلامي، باعتبار ما ورد في الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، من الحض على الإنفاق في سبيل الله، والترغيب فيه. قال ـ تعالى ـ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] . والوقف يعتبر باباً مهماً من أبواب البر والخير والإحسان؛ لأنه يجمع لصاحبه بين الحسنيين: جميل الذكر في الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، وهذا أقصى ما يتغياه المؤمن، ويتضرع إلى ربه للحصول عليه، وباعتباره أيضاً فرصة لاستدراك بعض ما فاته من واجبات فرّط فيها، أو من حقوق لم يؤدها، قبل أن يدركه الموت، فضلاً عن الدور الذي يقوم به في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
والدارس للحضارة الإسلامية يقف معجباً كل الإعجاب بدور الأوقاف في المساهمة في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة. وإن من يقرأ تاريخ الوقف ليجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الجامعات والمستشفيات إلى الأوقاف الخاصة بالحيوانات (مثل خيول الجهاد) التي لم تعد صالحة للاستعمال؛ فحينئذ تحال إلى المعاش وتصرف لها أعلافها وما تحتاج إليه من هذه الأوقاف ... إلى الأوقاف على الأواني التي تنكسر بأيدي الخادمات حتى لا يعاقبن، فيجدن بدائل عنها في مؤسسات الوقف.
كما يشمل الوقف (1) الكثير من أوجه المنفعة للمجتمع؛ إذ يشمل وقف المساجد والحوانيت والأراضي والخانات، ودور العلم والمدارس والمستشفيات، والحبس على المقابر بتوفير الماء واللَّبِن وخلافها، والأوقاف للغرض الحسن، ووقف البيوت الخاصة للفقراء، والسقايات، والمطاعم الشعبية التي يصرف فيها الطعام للفقراء والمحتاجين، ووقف الآبار في الفلوات لسقاية المسافرين والزروع والماشية، ووقف عقارات وأراضٍ زراعية يصرف من ريعها على المجاهدين أو يصرف ـ في حال عجز الدولة ـ على إصلاح القناطر والجسور.
وكثير من الأوقاف كان يصرف ريعه على اللقطاء واليتامى والمقعدين والعجزة والعميان والمجذومين، بل إن الوقف شمل ما حبس ريعه لتزويج الشباب والشابات الذين تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج والمهر، وشمل ما يقدم من حليب وسكر، حتى لقد جعل صلاح الدين الأيوبي في أحد أبواب القلعة بدمشق «ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من السكر والحليب» (1) حسب آليات ذلك الزمان.
ويمكن القول إن معظم دور العلم التي تأسست في القرن الرابع الهجري الذي يصفه آدم ميتز بـ (عصر النهضة في الإسلام) ثم المستشفيات والبيمارستانات والمدارس التي تأسست في العهد السلجوقي وحكم آل زنكي والأيوبيين في المشرق قامت بشكل أساس على الأوقاف. ثم إن مئات المؤسسات الاجتماعية والدينية كالجوامع والمدارس والخوانق والرُّبُط والزوايا والتكايا التي يعددها «محمد كرد علي» في مدن بلاد الشام التي يعود بعضها إلى ما قبل العهد العثماني وبعضها الآخر إلى المراحل العثمانية الأولى، إنما نشأت واستمرت بفعل الدعم الذي أمّنته لها مؤسسة الوقف (2) .
ولذلك يعد الوقف خاصية ملازمة للمجتمع الإسلامي عبر تاريخه الطويل، وكان بمثابة الطاقة التي دفعت به نحو النماء والتطور من خلال توفير المعينات المؤدية إلى تكوين مجتمع حضاري، تؤكد على ذلك الشواهد النصية المتناثرة في كتب التاريخ والسجلات والوثائق الخاصة بالأوقاف والمخلفات الآثارية التي توضحها نماذج الأبنية التي شيدت لتكون محوراً لأعمال الوقف من مثل المساجد والمدارس ومكاتب الأيتام والأسبلة والآبار والعيون. ومن الجدير بالذكر أنه كانت هناك أوقاف غاية في الطرافة والدلالة على سمو العاطفة الإنسانية في المجتمع الإسلامي، لا يعرف لها مثيل في المجتمعات الأخرى، فيما يذكر الدكتور مصطفى السباعي (3) .
من ذلك هذه الأوقاف التي كانت بطرابلس لبنان لتوظيف شخصين يمران كل يوم على المرضى في المستشفيات للتسرية عن المرضى، وقد يتعمد هذان الشخصان الحديث بصوت خافت فيما بينهما عن تحسن صحة المريض لمساعدته على البرء إن كان مثل هذا الحديث مفيداً لحالته.
ولم يكن الوقف الأهلي الخاص بذرية الواقف بعيداً عن هذه الأهداف النبيلة؛ حيث كان المنتفعون به في أكثر الأحوال من المحتاجين، كما كان الواجب فيه النص في إنشاء الوقف على انتهائه إلى جهة خير لا تنقطع عند انقراض الذرية الموقوف عليهم. ولعل انتشار الأوقاف وتغلغلها على هذا النحو وأسسها القانونية المميزة لها عن الأوقاف المعروفة في الحضارات الأخرى قبل الإسلام هو الذي كان في ذهن الإمام الشافعي عندما قال قولته المشهورة: «لم يحبس أهل الجاهلية داراَ ولا أرضاَ تبرعاً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام» (4) .
وارتبط مسار الوقف في الإسلام بدرجة رئيسة بالفعل الاجتماعي؛ فكل أنماطه كانت موجهة نحو خدمة الإنسان، وتيسير الحياة له والتخفيف من معاناته؛ فهو بذلك يسبق التوجه الغربي المعاصر الذي يتركز على تقليص حجم الضرائب المقررة على ثروات الأفراد والشركات عندما تخصص جزءاً منه لصالح المجتمع، كما أنه يفوقه إنسانية؛ لأنه ينبع عن عقيدة وإيمان مصدرهما الإحساس بالآخر، والشعور بأن المال بغض النظر عن المتوافر منه لدى الأفراد، يجب أن يسخر لما فيه فائدة المجتمع عامة، ومن هنا كان ناتج الوقف مثمراً في تاريخنا القديم والوسيط؛ إذ تسابقت على تطبيقه فئات المجتمع كافة دون تحديد، فشارك فيه الحاكم والأمير والوزير والثري والعالم والإنسان العادي، فكانت الحصيلة هذه الثروة الحضارية التي ازدهرت مشرقة مشعة بالخير، استمرت في عطائها إلى زمن قريب عندما قلَّت العناية بأمره حين ألقى الجهل بأهمية الوقف ودوره بظلاله على المجتمع الإسلامي، فتراجع الاهتمام به، وانحسر التوجه إلى استخدامه وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فظهرت كثير من المعضلات المعيقة لرقي المجتمع من مثل الأمية والمرض والفقر.
ولكن مع تزايد الصحوة الإسلامية في الربع الأخير من القرن المنصرم، وتعاظم آثارها الإيجابية على مختلف مقومات الحياة للأمة الإسلامية، بدأت الكثير من مظاهر الحياة الإسلامية تعود إلى ما كانت عليه، وكان من الطبيعي الاهتمام بأحد أهم السمات الإنسانية للأمة الإسلامية والتي صاحبت كل العصور الإسلامية ـ حتى في عصور الانحطاط ـ وهو الوقف.
ولذلك شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين الميلادي المنصرم نشاطاً ملحوظاً وتدفقاً مستمراً في الحديث والتنظير والتنظيم لإقامة الفعاليات والأنشطة الوقفية؛ فمن إقامة مؤتمرات وندوات تنادي بضرورة إيجاد آليات لتنشيط دور الوقف في المجتمعات الإسلامية، كما كان الحال في العصور الإسلامية السالفة، إلى بروز تيار أكاديمي في الرسائل الجامعية والكتب الثقافية ينوه بضرورة نظام الوقف في عصرنا الحاضر، وصولاً بتأسيس مجالس وأمانات واتحادات للوقف في بعض الدول العربية والإسلامية، بدأت بالممارسة الفعلية في تنظيم وترتيب أوضاع الأملاك الوقفية في هذه الدول، بعدما غُيِّب الوقف كقيمة إنسانية بعد تخلف الأمة الإسلامية، وتمكن الاستعمار الغربي من هدم كثير من مقومات الحياة الإسلامية (1) ، مما أدى إلى اضمحلال الوقف في عالمنا الإسلامي المعاصر. وعلى الرغم من ازدهاره في بلاد عربية وإسلامية قليلة مثل السعودية والكويت ومصر والإمارات والمغرب إلا أن هنالك فروقاً متسعة إن لم تكن شاسعة بين هذا وذاك، وشتان بين الكائن وما يمكن أن يكون!
ü حقيقة الوقف ومشروعيته:
وقد دلت السنَّة الشريفة على مشروعية الوقف؛ فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن عمر أحب أرضاً له من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله! إني أحببت أرضاً بخيبر، لم أحب مالاً ـ قط ـ أنفس عندي منه؛ فما تأمرني؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً غير متمول مالاً» (*) قال الإمام أحمد: «قد وقف أصحاب رسول الله # وهو فيهم بالمدينة ظاهرة؛ فمن رد الوقف فإنما رد السنة» (2) .
ومن نماذج الوقف المبكر، ما روي أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقفت داراً اشترتها وكتبت في شرائها: «إني اشتريت داراً وجعلتها لما اشتريتها له؛ فمنها مسكن لفلان وعقبه ما بقي، ولفلان وليس فيها لعقبه، ثم يرد إلى آل أبي بكر ... » (3) . ولم يمنع الفقر محمد بن ناصر بن محمد بن علي، أبا الفضل، وكان من العلماء البارزين في بغداد وصفه ابن النجار بأنه كان ثقة ثَبْتاً حسن الطريقة متديناً فقيراً متعففاً نظيفاً منزَّهاً، في المشاركة في خدمة مجتمعه فوقف كتبه» (4) .
ثم وجدنا كثيراً من الصحابة يصنعون صنيع عمر بن الخطاب، ووقفوا أموالهم على طريقته ومنهم أبو بكر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وأسماء بنت أبي بكر، وغيرهم كثير. حتى قال جابر بن عبد الله: «ما أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبَّس من ماله صدقة مؤبَّدة لا تشترى أبداً، ولا توهب ولا تورث، فكان هذا اتفاقاً عملياً من الصحابة، فلو كان الوقف غير لازم لرجع بعض هؤلاء الواقفين عن وقفه، ولكنه لم يحدث، ولو رجع أحد منهم عما أوقف لنُقل إلينا، إضافة إلى أن فكرة حبس الأعيان عن التصرف التملكي والتصدق بمنفعته فيها أكبر ضمان للتمكن من إقامة دور العبادة والعلاج والعلم، والبر بالفقراء ومعالجتهم وتثقيفهم والتعاون على البر والتقوى، وتوثيق الصلة بذي القربى، ومد يد العون الدائمة لهم (5) .
ويؤكد الدكتور خالد عبد الحكيم إسماعيل (6) أن جمهور الفقهاء يرى أن الوقف لازم بمجرد صدوره من الواقف، وليس له الرجوع فيه؛ ذلك أن النبي # قال لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب ولا يورث» . وقد اتفق العلماء على أنه يصح الوقف على الأولاد والأقارب والفقراء والمساكين، وعلى سبل البر من بناء المساجد والقناطر، وعلى كتب العلم والفقه والقرآن، والمقابر والسقايات، وسبيل الله وغيرها.
إن الوقف له دور رئيس في سد حاجات المجتمع الإسلامي، فأسمى أهداف الوقف ترتيب الأجر والثواب المستمر للعباد في حياتهم وبعد مماتهم، من خلال الإنفاق والتصدق والبذل في وجوه الخير والبر. وهذا سبيل إلى مرضاة الله ورسوله، وطريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار. فالوقف نوع من القربات التي يستمر بها صدقة جارية إلى قيام الساعة. ويحقق الوقف مبدأ تكافل المجتمع وإيجاد عنصر التوازن بين الأغنياء والفقراء، ويضمن الوقف بقاء المال وحمايته ودوام الانتفاع منه، ويوفر سبل التنمية علمياً وعملياً بمفهوم تكاملي شامل.
وتعد الجوامع والمساجد أهم الأنماط التي حظيت بعناية الواقفين؛ حيث سُعِيَ إلى تعميرها وتشييدها وتزويدها باحتياجاتها من الفرش والبسط وخزائن الكتب والصرف على العاملين فيها. كما أن الحرمين الشريفين حظيا بنصيب وافر من الاهتمام من الواقفين على مر العصور، ولم يقتصر الوقف على عمارتهما وتوفير سبل الراحة لقاصديهما، بل تعدى ذلك إلى الاهتمام بالوقف على كافة أمور الحياة في المدينتين الشريفتين مكة والمدينة.
وقد اقتضت كثرة الأوقاف وتشعب جهات المنتفعين بها التفكير في إنشاء تنظيم إداري للإشراف على الأموال الموقوفة وضمان حسن التصرف فيها بما يحقق المصلحة العامة ومصلحة المنتفعين على السواء. ويرجع أقدم تنظيم إداري للأوقاف إلى العهد الأموي؛ إذ يذكر الكندي أن (توبة بن نمير) لما ولي قضاء مصر عام 115هـ (1) اتجه إلى تسجيل الأحباس في ديوان خاص بها، وجعل ذلك تحت إشرافه، بناء على ما رآه من أنها صدقات مرجعها إلى الفقراء والمساكين، فقرر أن يلي الإشراف عليها حفظاً لها من أن يضع المنتفعون بها أيديهم عليها ويتوارثونها، فتضيع ثمرتها أو لا تصل إلى مستحقيها. ولم يكن صنيع (توبة) في الإشراف على الأوقاف عملاً فردياً، فقد تتابع القضاة على تولي شؤون الأوقاف بالنظر والإشراف ومحاسبة المسؤولين.
وفي العصر العباسي تنوعت الأوقاف واتسعت، بحيث أصبحت تجري في الأراضي الزراعية بعد أن ظلت منحصرة في الدور، وهذا هو ما يذكره (المقريزي) حيث قال: «إن الأحباس لم تكن إلا في الرباع وما يجري مجراها، وأما الأراضي فلم يكن سلف الأمة يتعرضون لها، حتى إن أحمد بن طولون لما بنى الجامع والمارستان والسقاية وحبَّس على ذلك الأحباس الكثيرة لم يكن فيها سوى الرباع ونحوها بمصر، ولم يتعرض لشيء من أراضي مصر (أي الزراعية) (2) .
ولم يعد في وسع القضاة الإشراف على الأوقاف لكثرتها بمرور الوقت، فقامت الدولة العباسية بتخصيص جهاز إداري لمتابعة الأوقاف والإشراف عليها، وكان رئيس هذا الجهاز يسمى (صدر الوقوف) وقد قوي هذا الجهاز الإداري في عهد الدولة العثمانية وزادت فروعه وصدرت له القوانين المنظمة لاختصاصه وأعماله وكيفيات ممارسة مسؤولياته والمحاسبة عليها (4) ، وقد انتقلت أكثر هذه التنظيمات والتشريعات إلى قوانين الأوقاف الحديثة المعمول بها في البلاد العربية والإسلامية التي كانت تضمها دولة الخلافة العثمانية.
وقد تضخم الجهاز الإداري المسؤول عن الأوقاف الأولى، وانقسم إلى ثلاثة دواوين أساسية: ديوان لأحباس المساجد، وديوان لأحباس الحرمين الشريفين وجهات البر الأخرى، وديوان للأوقاف الأهلية. وقد بلغت أحباس المساجد وحدها في مصر في عهد الناصر محمد بن قلاوون 130 ألف فدان، فأراد هذا السلطان الاستيلاء على نصف هذه المساحة، ولكنه قُبِضَ قبل أن يتم له ما أراد طبقاً لما يذكره المقريزي في خططه.
ü شروط اختيار النظار:
اهتم الفقهاء بأمر ناظر الوقف وحرصوا على التدقيق والتحري في حسن اختياره، فاشترطوا في توليته مجموعة من الشروط تتناسب وخطورة منصبه، وهذه الشروط منها ما هو محل اتفاق. فأما الشروط التي حظيت باتفاقهم فيمكن حصرها في العقل والرشد والأمانة والكفاية؛ فهم يحرصون على اشتراط العقل في الناظر؛ لأن فاقد العقل عاجز عن النظر لنفسه، عديم التمييز لما فيه المصلحة، فاسد التدبير، وليس أهلاً لأي عقد أو تصرف قولي، لعدم اعتبار عبادته؛ إذ لا يترتب عليها أي أثر شرعي.
ويشترطون فيه الرشد؛ لأن السفيه محجور عليه في إدارة امواله، وأموال غيره بالأوْلى. وأما عن كفاية الناظر (4) ؛ فهي من الشروط العامة في الوظائف والولايات لا فرق في ذلك بين الولاية على الوقف وغيرها، وهي من الشروط المهمة التي ينبغي توافرها في الناظر، حتى يتاتى له القيام بمهامه على الوجه الأكمل. ولما كانت الولاية على الوقف تدخل في باب التعاون على البر والتقوى، ولا ينهض بحمل ثقلها إلا الأمين القوي، فإن الفقهاء يرون أن الأمانة من الشروط المطلوبة في اختيار النظار، فهي لا تقل أهمية عن شرط الكفاية. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] ؛ فبهذا الشرط نضمن سلامة الوقف من السرقات وما ينجم عن ذلك من تبعات، كما أننا نضمن وصول المنافع والغلل إلى ذويها كاملة.
كما يضيف الفقهاء شروطاً أخرى لا غنى عنها مثل العدالة والإسلام. وليس للناظر أن يفعل شيئاً من أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه ان يفعل الأصلح فالأصلح، كما هو الشأن في وصي اليتيم؛ فإن هذا الأخير وناظر الوقف ووكيل الرجل في ماله، عليهم أن يتصرفوا بالأصلح فالأصلح، قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] ، ولذلك ينبغي على الناظر «أن يتحرى في تصرفاته النظر للوقف والغبطة (*) ؛ لأن الولاية مقيدة به» (1) ، ومن مظاهر التصرف وفق المصلحة الابتعاد عن الإسراف والتبذير لأموال الوقف.
ü وقف الكتب والمكتبات:
وكأنموذج من أنماط الوقف الإسلامية التي ساعدت على ازدهار العلم والثقافة في العالم العربي والإسلامي في العصور الوسطى، الكتب والمكتبات، ويعد وقف الكتب الأساس الذي قامت عليه المكتبة العربية، وهو يشمل وقف المكتبات بأكملها، ووقف الكتب على المدارس والمساجد والمشافي والمراصد والرُّبُط والخانقاهات. كما كان هناك نوع من الوقف يتمثل في وقف كتب عالم بعد وفاته على أهل العلم أو على ورثته، واهتم واقفو المكتبات المستقلة أو تلك التي كانت في مدارس أو مساجد بتوفير دخل مادي ثابت لها لصيانتها وترميمها، وتحمُّل التكاليف المادية للعاملين فيها، وخصص بعضهم ريعاً يساعد على نماء المجموعة وازدهارها عبر السنين.
وانتشرت خزائن كتب الواقفين في أجزاء العالم الإسلامي منذ القرن الهجري الرابع، وأصبحت تلك المكتبات قبلة لطلاب العلم تعينهم على التزود بكل جديد، وتوفر لهم فرص مواكبة الأفكار والآراء المدونة لمؤلفين من أصقاع العالم الإسلامي، وبلغ من انتشارها أن (أبا حيان النحوي) كان يعيب على من يشتري الكتب ويقول: «اللهُ يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف» (2) .
وللدلالة على ضخامة عدد المكتبات الوقفية وشيوعها، نشير إلى أنه كانت في مدينة (مرو الشاهجان) خزائن للوقف، وذلك في القرن السابع الهجري، يقول عنها (ياقوت الحموي) : «لم أرَ في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع إحداهما يقال لها «العزيزية» وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر الزنجاني. وكان فقاعياً للسلطان سنجر.. وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها «الكمالية» .. وبها خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعيد محمد بن منصور في مدرسته، وخزانة نظام الملك الحسن بن إسحق في مدرسته للسمعاني، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية، وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها، والخزائن الخاتونية في مدرسته، والضميرية خانكاه هناك، وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثره بغير رهن، تكون قيمتها مائتي دينار، فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبها كل بلد وألهاني عن الأهل والولد، وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته، فهو في تلك الخزائن» (3) .
وهناك مئات من العلماء والمفكرين والأدباء قد وقفوا كثيراً من الكتب والمكتبات الكاملة أحياناً، نطالعها في معجم الأدباء لياقوت الحموي، وكتاب سِيَر أعلام النبلاء للذهبي، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني. ويقول الدكتور «يحيى محمود بن حيدر» (4) : وتحمل النصوص الوقفية على الكتب في الغالب معلومات تدل على عمق الحرص على هذه الظاهرة والاهتمام باستمرارها بوصفها وسيلة من وسائل توفير العلم لأبناء المجتمع؛ فمن ذلك تعيين ناظر يتولى التصرف في الكتاب وإتاحته للمستفيدين، وعدم حجزه أو منعه، والتشديد على من قد يتصرف في تغيير صفة الوقف عنه، وفي بعض الأحيان السماح بإعارته مدة محددة، كما أن بعض نصوص الوقف فيها ما يدل على تراجع عن التصرف في كتاب وقفي، وإعادة صفة الوقف إليه مرة أخرى، نزولاً على الحق، مما يدل على احترام المجتمع لهذه الظاهرة والحرص عليها.
ü الحفاظ على قيمة الوقف واستثماره:
ولا ننسى أهمية الحفاظ على قيمة الوقف وعدم إهمال تنميته ورعايته؛ وذلك بالحفاظ على العقارات وما في حكمها من منشآت يتم بالصيانة والرعاية وعدم الإهمال، خاصة حين يكون الوقف أشجاراً ونباتات تحتاج إلى رعاية شاملة. وأما النقود فيكون الحفاظ عليها بوضعها في أوعية استثمارية عالية مضمونة القيمة، بعيداً عن التضخم وتقلبات الأسعار أو إقراضها للمؤتمنين حسب شروط الواقف. وأما الحفاظ على الحلي المخصص للوقف فيتم عن طريق وضعه في مكان أمين وعدم تسليمه إلا إلى المؤتمنين عند الإعارة.
ومن هنا يرى الباحث «د. علي محيي الدين القره داغي» (1) أن على الدولة الإسلامية أن تضع الأنظمة والأجهزة لحماية أوقاف المسلمين والحفاظ عليها، وهو واجب كذلك على ناظر الوقف ومتوليه، بل على المسلمين جميعاً كل حسب إمكانه وصلاحياته.
وقد نص الفقهاء على إعطاء الأولولية من رَيْع الوقف لإصلاحه وتعميره وترميمه وصيانته بما يحافظ على قدرته على الانتفاع به، حيث يوجه الريْع الناتج من الوقف إلى إصلاحه أولاً ثم إلى المستحقين، حتى إن الفقهاء قد نصوا على أنه إذا شرط الواقف ان يصرف الريع إلى المستحقين دون النظر إلى التعمير؛ فإن هذا الشرط باطل، وقال المرغيناني: «والواجب أن يبتَدَأ من ارتياع الوقف بعمارته شَرَط ذلك الواقف، أو لم يشترط؛ لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبداً، ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة، فثبت شرط العمارة اقتضاءً» 0
وقال ابن الهمام: «ولهذا ذكر محمد ـ رحمه الله ـ في الأصل في شيء من رسم الصكوك، فاشترط أن يرفع الوالي من غلته كل عام، ما يحتاج إليه لأداء العُشر والخراج، والبذر، وأرزاق الولاة عليها، والعمالة، وأجور الحراس والحصادين والدارسين؛ لأن حصول منفعتها في كل وقت لا يتحقق إلا بدفع هذه المؤن من رأس الغلة» . وقال شمس الأئمة: «وذلك وإن كان يستحق بلا شرط عندنا، لكنه لا يُؤْمَن جهل بعض القضاة فيذهب في رأيه إلى قسمة الغلة؛ فإذا شرط في صكه يقع الأمن بالشرط» . ثم قال: «ولا تؤخر العمارة إذا احتيج إليها» (2) . فالواجب هو بقاء الوقف على حالته السليمة التي تستطيع أن تؤدي دورها المنشود، وغرضه الذي أوقفه الواقف لأجله؛ وذلك بصيانته وعمارته والحفاظ عليه بكل الوسائل المتاحة، بل ينبغي لإدارة الوقف (أو الناظر) أن تحتفظ دائماً بجزء من الريع للصيانة الدائمة والحفاظ على أموال الوقف.
أما استثمار الوقف؛ فإن الوقف نفسه استثمار؛ لأن الاستثمار يراد به إضافة أرباح إلى رأس المال لتكون المصاريف من الربح فقط، فيبقى رأس المال محفوظاً بل مضافاً إليه من الربح الباقي ليؤدي إلى كفاية الإنسان وغناه. وكذلك الوقف حيث هو خاص بالأمول التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء أصلها؛ ولذلك فالأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها مثل الطعام، لا يجوز وقفها (3) .
ولا شك أن استثمار أموال الوقف يؤدي إلى الحفاظ عليها حتى لا تأكلها النفقات والمصاريف، ويساهم في تحقيق أهداف الوقف الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، والتنموية، إضافة إلى أن الوقف الذي يراد له الاستمرار، ومن مقاصده التابيد لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال الاستثمارات الناجحة، وإلا فالمصاريف والنفقات والصيانة قد تقضي على أصله إن لم تعالج عن طريق الاستثمار المجزي النافع.
ومواكبةً لسُنَّة التطور لا بد من إنشاء أوقاف جديدة وبأشكال قانونية متعددة، ودخولها مجالات حيوية عصرية تحتاجها الأمة الإسلامية، وبأنماط متطورة قد تجاري المؤسسات الخيرية الحديثة المقتبسة من الأنظمة الغربية، وإن كان لا بد أن تخضع لضوابط أساسية مستخلصة من الأحكام الشرعية، ومن تراثنا الفقهي، تساعدنا في تطوير المؤسسات الوقفية، وتحديث أساليب العمل بها، وولوجها مجالات أخرى متقدمة، لتؤدي رسالتها الإنسانية المجيدة.
ولذلك يؤكد الدكتور أحمد شوقي الفنجري أن الإسلام أهدى للبشرية مؤسسة مالية هي مؤسسة الوقف؛ لكن تم تعطيلها في العالم الإسلامي، في حين نهضت في العالم الغربي تحت مسميات أخرى، حيث لا توجد أسرة أوروبية أو أمريكية إلا وتخصص تلقائياً نسبة 2% من دخلها للمنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية، كما ان رجال المال والأعمال في بلاد الغرب يوقفون من أملاكهم وأموالهم على أوجه البر، مثل الجمعيات والمستشفيات. ومن هنا ضرورة تفعيل دور هذا النوع من الأعمال الخيرية المتمثلة في الوقف والتي يمكن أن تخفف العبء عن ميزانية الدولة التي ارتفع العجز لديها إلى أرقام كبيرة، كما يمكن أن يمتد نشاط الوقف إلى مجالات هامة جداً في العصر الحديث مثل تمويل أبحاث علمية هامة صناعية أو طبية أو تنموية، إضافة إلى تفعيل مشاريع ثقافية هامة، مثل الإنفاق على التعليم، ومحو الأمية لملايين من المسلمين الذين يرزحون تحت وطأة الجهل والفقر والمرض.
ü الضوابط الشرعية للاستثمار:
وقد حدد بعض العلماء الضوابط الشرعية لاستثمار أموال الوقف بعدة ضوابط هامة (4) :
1 ـ المشروعية: ويقصد به أن تكون عمليات استثمار أموال الوقف مطابقة لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية؛ حيث يتم تجنب استثمار الأموال الوقفية في المجالات المحرمة شرعاً كالإيداع في البنوك بفوائد، أو شراء أسهم شركات تعمل في مجال الحرام.
2 ـ الطيبات: ويقصد به توجه أموال الوقف نحو المشروعات التي تعمل في مجال الطيبات؛ لأن الوقف عبادة، ويجب ان تكون طيبة؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
3 ـ الأولويات الإسلامية: أي ترتيب المشروعات المراد تمويلها وفقاً لسلم الأولويات الإسلامية: الضروريات فالحاجيات فالتحسينات؛ وذلك حسب احتياجات المجتمع الإسلامي والمنافع التي سوف تعود على الموقوف عليهم.
4 ـ التنمية الإقليمية: فتوجه الأموال للمشروعات الإقليمية للبيئة المحيطة بالمؤسسة الوقفية ثم الأقرب فالأقرب، ولا يجوز توجيهها إلى الدول الأجنبية ما دام الوطن الإسلامي في حاجة إليها.
5 ـ تحقيق النفع الأكبر للجهات الموقوف عليهم: ولا سيما الطبقات الفقيرة، وإيجاد فرص عمل لأبنائها.
6 ـ تحقيق العائد الاقتصادي المرضي الذي يمكن الإنفاق منه على الجهات الموقوف عليها: فالتوازن بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية ضرورة شرعية في المؤسسات الوقفية.
7 ـ المحافظة على الأموال وتنميتها: أي عدم تعريض الأموال لدرجة عالية من المخاطر والحصول على الضمانات اللازمة المشروعة للتقليل من تلك المخاطر، وإجراء التوازن بين العوائد والأمان.
8 ـ التوازن: أي تحقيق التوازن من حيث الآجال والأنشطة والمجالات لتقليل المخاطر وزيادة العوائد، والاهتمام بالاستثمارات القصيرة والمتوسطة والطويلة الأجل.
9 ـ تجنب الاستثمار في دول معادية ومحاربة للإسلام والمسلمين: وأن تكون الأولوية للاستثمار في الدول الإسلامية.
10 ـ توثيق العقود: أي أن يعرف كل طرف من أطراف العملية الاستثمارية مقدار ما سوف يحصل عليه من عوائد أو مكاسب، أو ما يتحمل من خسائر، وأن يكتب في عقود موثقة حتى لا يُحِدث جهالة أو غرراً، فيؤدي إلى شك وريبة ونزاع.
11 ـ المتابعة والمراقبة وتقويم الأداء: للأطمئنان على أن الاستثمارات تسير وفقاً للخطط والبرامج المحددة مسبقاً.
أما في المجالات والمشاريع التي يمكن الاستثمار فيها في العصر الحديث، فهي كثيرة مثل: الاستثمار العقاري، أو الاستثمار في إنشاء المشروعات الإنتاجية، أو الاستثمار في المشروعات الخدمية: التعليمية والطبية والاجتماعية، ومكاتب تحفيظ القرآن، والمستوصفات والمراكز الصحية، ودور الضيافة ودور اليتامى والمسنين والمرضى، ونحو ذلك.
ü المحاسبة والمراجعة:
ولإنجاح مؤسسة الوقف لا بد من الاهتمام بالمحاسبة والمراقبة باعتبارها صِمَام الأمان للاستثمارات الوقفية. والتدقيق في هذه المحاسبة يردع أيادي النُّظَّار المطلقة، حتى يدركوا أن هناك رقابة مرصدة عليهم، فيجنبهم الخوف من نتائجها السير في طريق الاستغلال غير المشروع لخيرات الوقف.
ومسألة المحاسبة هذه ليست أمراً غريباً عن الشرع؛ فقد ثبت أن النبي # كان يستوفي الحساب على عماله فيحاسبهم على المستخرَج والمصروف، بدليل ما جاء في الصحيح ان النبي الكريم استعمل (ابن اللتبية) على صدقات (بني سليم) فلما جاء رسولَ الله # وحاسبه، قال: هذا الذي لكم، وهذه هدية أُهديت لي، فقال رسول الله #: «فهلاَّ جلستَ في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً!» . ثم قام رسول الله # فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: إني أستعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاَّني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي! فهلاَّ جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً» (1) .
وقد علق ابن حجر العسقلاني على هذا الحديث بقوله: «وفي الحديث من الفوائد أن ... ومحاسبة المؤتمن» وفي موضع آخر قال ـ نقلاً عن غيره ـ: «حديث الباب أصل في محاسبة المؤتمن» . والملاحظ ان الفقهاء قد درجوا في محاسبة نُظَّار الأوقاف على فرض حسن الظن بهم، وترجيح جانب الثقة على الشك، والعدالة على التهمة، وغلَّبوا رجاء الخير فيهم على توقُّع الشر منهم؛ ولذلك ـ كما يقول الدكتور محمد المهدي (2) : «نجدهم لم يوجبوا المحاسبة في أدوار زمنية محددة، خوفاً من التظنن بهم إلى الزهد في قبول إدارة الأوقاف، فتفوت بذلك المصالح المبنية على هذا الأمر» .
ولهذه الاعتبارات جاءت اجتهاداتهم بخصوص أسلوب المحاسبة مختلفة من مذهب لآخر، وأفضل هذه الأساليب ما قرره الإمام ابن تيمية (3) من أنه يمكن لولي الأمر أن ينصب ديواناً لمحاسبة النُّظَّار ويقتطع من أموال الوقف لذلك الديوان ما يستحقه من نفقات مالية للعاملين فيه، ليؤدي عمله على الوجه المطلوب ... فقد سئل ـ رحمه الله ـ عن أوقاف مختلفة على مدارس ومساجد ورُبُط وغيرها: هل لولي الأمر أن يقيم ديواناً لمحاسبة النظار والنظر في تصرفاتهم، ويحقق عليهم ما يجب تحقيقه من الأموال المصروفة والمتبقية؟ فأجاب: نعم! لولي الأمر أن ينصب ديواناً عليهم لحساب الأموال الموقوفة عند المصلحة، وله أن يفرض على عمله ما يستحقه مثله من كل مال يعمل فيه، بقدر ذلك المال واستيفاء الحساب، وضبط مقبوض المال ومصروفه من العمل الذي له أصل» (1) .
فهذا النص ـ وكما يقول الباحث محمد المهدي ـ يفيد بوضوح تام أن لولي الأمر إنشاء ديوان لمحاسبة النظار، وأن البيان الذي يقدمه الناظر لا بد أن يكون مفصلاً مستوفياً للحساب، لا إجمال فيه؛ ليعرف منه موارد الوقف ومداخيله، ووجوه الإنفاق. ويرى الباحث أن هذا الجواب الذي جاء به ابن تيمية أَوْجَهُ ما قيل في محاسبة النظار؛ لأن فيه احتياطاً يمكن أن يسهم إلى حد كبير في إنجاح مؤسسة الوقف في التطبيق المعاصر، ولا سيما وهو يلتفت إلى صفة الناظر من كونه أميناً أو متهماً.
والديوان بطبيعة الحال لا يحكم بصدق أو تكذيب ما جاء في ذلك الكشف إلا بعد التأكد بالحجج والمستندات، وهذا ما جنح إليه الشيخ (أبو زهرة) حيث رأى ألا يُقبَل من النظار شيء من الصرف للموقوف عليهم أو غيرهم ممن له ولاية على مرافق الوقف ومصالحه، إلا إذا كان معه ما يثبته من أدلة لا شك فيها، ولا مجال للظن في مدى حجيتها، ولا مطعن لطاعن في قبولها، سواء كان الناظر معروفاً بالأمانة أم لا (2) . فمحاسبة النظار يجب ألا تقام على فرض حسن الثقة، بل يجب أن تقام على أساس الاحتراز من الخيانة، وتوقيها قبل حدوثها.
ü الوقف ضروة اجتماعية:
إن الوقف بكونه نوعاً من التمويل الذي جاء به النظام الإسلامي، يمكن الاستفادة منه في تحريك المال وتداوله؛ وذلك لأن الأموال المدخرة عند الأغنياء إذا أوقفوها بحيث تستغل استغلالاً تجارياً يدر ربحاً على الموقوف عليهم، فإننا بذلك الاستغلال التجاري وجهنا جزءاً من المال إلى السوق التجارية، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة في الطلب، وعندما تحدث الزيادة في الطلب يترتب على ذلك زيادة في الإنتاج لتلبية رغبات الطالبين، وينشأ عن زيادة الإنتاج قلة في التكاليف بالإضافة إلى المنافسة التي تتوجه اتجاهين ـ على ما يذكر الباحث (أيمن محمد عمر) (3) : تنافس على النوعية، وتنافس على الكمية. هذا التنافس ينتج عنه إقامة هذه المنشآت التجارية مما يترتب على ذلك تشغيل أيدٍ عاملة كانت في السابق تعاني البطالة وقلة العمل، وهذه الأيدي العاملة يتحرك في يدها المال ويصبح لديها احتياجات، فتزيد الطلب على السلع في الأسواق بسبب توفر السيولة النقدية، وهكذا نلاحظ ان العملية أصبحت متوالية ونشطة.
يقول الدكتور شوقي دنيا: «شيوع ظاهرة الوقف في المجتمع الإسلامي والتنوع الكبير في الأموال الموقوفة والجهات الموقوف عليها، ولّد حركة استثمارية شاملة من خلال إنشاء الصناعات العديدة التي تخدم أغراض الوقف، ومن ذلك على سبيل المثال: صناعة السجاد، وصناعة العطور والبخور.. هذه الصناعات خادمة ومكملة، ومن عمل فيها من عمال وفنيين، وما تولد عنها من دخول ومرتبات وأثمان، كل ذلك يعد إضافات مستمرة إلى الطاقة الإنتاجية القائمة، أو بعبارة أخرى: يعد مزيداً من الاستثمارات الإنتاجية، التي تعتبر دعامة لأي تقدم اقتصادي (4) .
وبذلك يكون النظام الاقتصادي الإسلامي في تشريعه للوقف قد حقق عنصر التوازن من خلال التوزيع العادل للثروة بإيجاد مصارف متعددة لتقليب وتدوير المال في الأيدي، وعمل على إعادة دوران لحركة المال، لا سيما إذا أخذنا باعتبارنا أن الفقراء أكثر عدداً من الأغنياء، ومن ثَمَّ سيكون بذلهم للأموال الداخلة عليهم متوافقاً مع عددهم ومتطلباتهم الكثيرة، مما يؤدي إلى تداول المال بين أكبر عدد من المنتفعين (5) .
ولكن يجب توجيه أموال الوقف توجيهاً سليماً نحو المشاريع ذات النفع العام وما يحقق مصلحة المجتمع بأسره؛ فإذا كانت حاجة الأمة إلى نوع محدد من المشاريع، كالمشاريع الزراعية أو الصناعية أو التجارية، كان من الواجب أن توجه هذه الأموال إلى الاستثمار في هذه المجالات ولا سيما أن الوقف يهدف فيما يهدف له توليد دخل نقدي مرتفع، بحيث يضمن فرصاً أفضل لخدمة المجتمع وتلبية احتياجاته على الوجه الأكمل.
ومن المفيد أن ننبه إلى خصوصية مؤسسة الوقف النامي التي تتمثل أساساً في نقدنة Monetisation الأصول الوقفية بغية استثمارها في مشاريع مربحة وتحقيق عوائد إضافية تساعد على تعزيز التراكم في المصب Accumulation enaval بعد التراكم في المنبع Accumulation en amont الذي يحدث عند تعبئة الموارد الوقفية ايتداء.
ولا ننسى دور الوقف في تنمية رأس المال البشري، والذي يقصد به: كل ما يمتلكه الإنسان في نفسه من مقومات تسهم في النشاط الاقتصادي وتنميته، مثل: الخبرة والمهارة والمعرفة والقدرة البدنية (1) . هذه المقومات التي يقوم عليها رأس المال البشري لا تقل أهمية في التنمية الاقتصادية عن المقومات المالية ولا سيما إذا علمنا أن الفكر الاقتصادي المعاصر عد الإنفاق على التعليم والصحة إنفاقاً استثمارياً. وكما علمنا أن الأوقاف شملت جوانب متعددة بما فيها التعليم والصحة من خلال وقف المدارس ودور التعليم المختلفة، والمصحات والمستشفيات، أو الإيقاف عليها.
ففي مجال الصحة مثلاً كان في المجتمع الإسلامي وقوف عديدة على المستشفيات والمصحات العامة، كفلت لنزلائها العلاج والغذاء وكل ما يُحتاج إليه للمحافظة على صحتهم ووقايتهم من الإصابة بالأمراض، وتجاوز الوقف ذلك إلى وقف المستشفيات التعليمية التي تهدف إلى تطوير الخبرات العملية لطلبة العلوم الطبية، بل بلغ الأمر في بعض المراحل إلى وقف مدن بأكملها على الطب وأهله، خدمة لهم ولمن ينتفع من ورائهم من مرضى ومحتاجين (2) .
ولا شك أن الخدمات التعليمية والصحية وملحقاتها تستهلك نسبة كبيرة من الإنفاق العام، فكان للوقف على الشؤون التعليمية والصحية أثر واضح في تخفيف العبء عن الميزانية العامة للدولة، ولا سيما أن الفئة الكادحة في المجتمع تمثل النسبة العالية من أفراده، وهؤلاء في الغالب يعتمدون على ما توفره لهم الدولة من خدمات تعليمية وصحية، ومن هنا كان الوقف كفيلاً بتحمل جزء لا يستهان به من الخدمات التعليمية والصحية لأفراد المجتمع والتي تعد من أهم مقومات التنمية البشرية التي يسعى المجتمع الإسلامي إلى الارتفاع بها، خاصة مع عدم توفر العلاج الجيد أمام الجماهير الفقيرة من الأفراد. فالمستشفيات والمراكز الطبية الحكومية آخذة في الانكماش من جهة، كما أن خدماتها الطبية متدنية من جهة أخرى، لقلة الإمكانات وسوء الإدارة، كما أن المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة (الاستثمارية) باهظة العبء والتكلفة، وهو ما يحول بين الفقراء ودخولها والاستفادة منها. ومن ثم يشيع المرض ويتوطن بين الفقراء، فيضعف من قدرتهم الإنتاجية، ومن ثَمَّ يزيدهم فقراً، فلا مناص من كسر هذه الحلقة المفرغة من اللجوء إلى المؤسسات المدنية والجمعيات الوقفية الخيرية للإسهام الجاد في العلاج وتقديم الخدمات الطبية، ويعتبر الوقف مرشحاً للقيام بهذا الدور الذي طالما قام به في تاريخ الأمة البعيد، والآن يمكن أن تنشأ مشاريع وقفية حديثة ذات طابع خاص.
ومن الأهمية أن نعلم ـ وفي ظل الأوضاع الدولية الراهنة ـ أن العالم الإسلامي المعاصر يعيش تخلفاً خطيراً في التعليم والبحث العلمي، وما يرصد لذلك في موازنات الدول الإسلامية من الضآلة بمكان، وهو الأمر الذي يعمق من التخلف العلمي في هذا العالم، مما يزيد من تخلفه الاقتصادي ويرمي بعقبات كؤود أمام تقدمه وتنميته. واختلال اقتصاد العلم والمعرفة وما يطلق عليه الاقتصاد الجديد للمكانة الأولى في مقومات تقدم الأمم المعاصرة أمر معروف مشهود؛ فكيف تُموَّل هذه المرافق والمراكز البحثية في ظل شح الإيرادات العامة؟ فلا مناص للوقف من القيام بهذه المهمة، وخاصة أن الواقع المعيش للمجتمعات الإسلامية يؤكد أن أكثر فئات المجتمع فاعلية هي تلك التي نالت نصيباً من العلم والمعرفة؛ فالتجار والكتبة والمحاسبون والصيارفة، وغير ذلك من المهن التي عرفتها المجتمعات المتحضرة، هم في غالبيتهم من الطبقة المتعلمة، ولعل نجاحها في قيادة التقدم يرجع إلى أنهم سخروا قدراتهم العلمية لتطوير اعمالهم وصناعاتهم ومهنهم، بما يعود نفعه عليهم بالخصوص إذا صادف موهبة بشرية، ارتقى بها في سلم الإبداع والتطوير.
وهكذا نجد أن الوقف بفاعلية نظامه (3) قد أوجد إطاراً تكاملياً تضامنياً مشتركاً بين المجتمع والدولة؛ حيث لا يعمل هذا النظام لحساب مصلحة طرف دون طرف آخر؛ فلم يعمل على تقوية المجتمع في سبيل إضعاف الدولة، أو بسط نفوذ الدولة على حساب الحقوق الاجتماعية، وإنما عمل على إيجاد التوازن، بل وتقويته بين المجتمع والدولة، مما كان له الأثر الأكبر في استقرار وقوة الكيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة.
__________
(1) الوقف يعني لغة (الحبس) مطلقاً سواء كان حسياً أو معنوياً، وهو مصدر وقف بمعنى حبست وأوقفت لغة غير مقبولة، حتى إن بعض العلماء أنكر وجودها في لغة العرب، ثم اشتهر إطلاق المصدر على الشيء الموقوف نفسه من قبيل إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، فنقول هذا البيت وقف أي موقوف، ولهذا جمع على أوقاف. انظر: زهير يكن: أحكام الوقف، ص 11، بيروت المطبعة العصرية، بدون تاريخ. أما في الاصطلاح الفقهي فهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهو على نوعين: أهلي ويقصد به وقف المرء على نسله أو ذريته أو أقربائه أو أولاده أو بعضهم. وخيري وهو الوقف على جهة بر ومعروف مثل المساجد والمدارس والملاجئ والمستشفيات، وغير ذلك. انظر نزيه حماد: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا الولايات المتحدة الأمريكية ص 288 عام 1993م.
(1) انظر عبد العزيز الخياط: المجتمع المتكامل في الإسلام، ص 233، مؤسسة الرسالة، بيروت، عمان مكتبة الأقصى عام 1981م، وانظر أيضا وجيه الكوثراني: المجتمع المدني والمجتمع الهلي في الحضارتين العربية والإسلامية ص 32، مجلة التسامح العدد 8، سلطنة عمان، خريف عام 2004م.
(2) يذكر محمد كرد علي نبذة عن كل مؤسسة من هذه المؤسسات ويورد ذكراً لـ 611 مؤسسة في مدن الشام وحدها، من بينها 30 مدرسة في دمشق وحلب، وعدد من المستشفيات، انظر محمد كرد علي: خطط الشام ج 3، ج 6 ص 45 ـ 167 دار العلم للملايين عام 1969م والمرجع السابق ص 33.
(3) انظر كتابه: (من روائع حضارتنا) حيث فعل بالعديد من الأساليب الوقفية المختلفة.
(4) الإمام الشافعي: الم 2/275، وانظر د. محمد أحمد سراج: أحكام الوصايا والأوقاف في الفقه الإسلامي ص 138، 139، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية عام 1998م.
(1) د. سامي محمد الصلاحات: التجربة الوقفية لدولة الإمارات العربية المتحدة، مجلة أوقاف العدد 5، السنة الثالثة أكتوبر عام 2003م.
(*) (رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف 1982/ 2 رقم: 2586) .
(2) الزركشي: شرح مختصر الحزفي 4/27.
(3) القحطاني، ص 23، 24.
(4) شمس الدين الذهبي: تذكرة الحفاظ 4/ 129.، بيروت، دار إحياء التراث العربي عام 1377هـ، وانظر يحيى محمود بن جنيد: الوقف والمجتمع، كتاب الرياض العدد39، مارس 1997م.
(5) انظر أحمد فراج حسين: أحكام الوصايا والوقف في الشريعة الإسلامية ص 237، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية عام 1997م
(6) د. خالد عبد الحكيم إسماعيل: الوقف الخيري أنموذج التكافل الاجتماعي، العالمية العدد 181، الكويت مايو 2005م.
(1) الكندي: تاريخ القضاة، ص 244.
(2) المقريزي: الخطط 4/83 نقلاً عن محاضرات في الوقف لأبي زهرة، ص 13. والربع الدار، جمعها رباع وربوع، كما جاء في القاموس المحيط.
(3) انظر محمد محمد أمين: تاريخ الأوقاف في مصر في عهد السلاطين المماليك؛ ومحمد عبيد الكبيسي: أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية ص 29 وما بعدها.
(4) المقصود بالكفاية قوة الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر فيه: انظر الخطيب الشربيني، مغني المحتاج 2/393. وانظر د. محمد المهدي: كيف تنجح مؤسسة الوقف، الوعي الإسلامي، العدد 468 الكويت عام 2004م.
(*) الغِبْطة: هنا بمعنى: حُسْن الحال.
(1) الونشريسي: المعيار المعرّب 7/258.
(2) أحمد بن محمد المقري: نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس ج 2 ص 543 دار صادر 1968م.
(3) ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق أمين الخانجي 8/ 36 مطبعة السعادة، الخانجي عام 1916م.
(4) انظر كتاب: الوقف والمجتمع، كتاب الرياض العدد 39 مارس عام 1997م.
(1) د. علي محيي الدين القره داغي: تنمية موارد الوقف والحفاظ عليها، مجلة أوقاف العدد 7 ص 18 ـ 19 الكويت، نوفمبر عام 2004م.
(2) ابن الهمام: الهداية مع فتح القدير، 6/ 221 ـ 222.
(3) نقلاً عن د. رفعت العوضي: منهج الادخار والاستثمار، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ص 73.
(4) د. حسين حسين شحاته: المنهج الإسلامي لدراسة جدوى المشروعات الاستثمارية، دراسة مقدمة إلى بنك فيصل الإسلامي، إدارة البحوث والتدريب عام 1992م، وانظر للباحث أيضاً: استثمار أموال الوقف، مجلة الوقف العدد 6 يونيو عام 2004م، ص 78، 79.
(1) من حديث أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب محاسبة الإمام عماله 8/465.
(2) د. محمد مهدي: كيف تنجح مؤسسة الوقف، الوعي الإسلامي، العدد 468.
(3) محمد أبو زهرة: محاضرات في الوقف، ص 361.
(1) المصدر السابق ص 36، 361.
(2) المصدر السابق ص 163.
(3) د. أيمن محمد عمر: الوقف ودوره في التنمية الاقتصادية، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد6.، الكويت مارس عام 2005م.
(4) شوقي دنيا: أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ص139، وانظر فاروق بدران، بحوث مؤتمر الإسلام والتنمية ص 105، أنس الزرقا: الوسائل الحديثة للتمويل والاستثمار، ص 187.
(5) انظر فؤاد السرطاوي: التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص، ص 44، بابالي: خصائص الاقتصاد الإسلامي وضوابطه الأخلاقية ص 18. نقلاً عن د. أيمن محمد عمر: الوقف ودوره في التنمية الاقتصادية.
(1) د. محمود بو جلال: دور المؤسسات المالية الإسلامية في النهوض بمؤسسة الوقف في العصر الحديث، مجلة الوقف العدد7، الكويت ص 116 نوفمبر عام 2004م.
(2) انظر شوقي دنيا: أثر الوقف في إنجاز التمية الشاملة، ص 136.
(3) انظر إبراهيم البيومي: فاعلية نظام الوقف في توثيق التضامن بين المجتمع والدولة في دول الخليج العربي، ص 8، 9، وانظر د. أيمن محمد عمر: الوقف ودوره.(228/5)
الدعاة بين التحجيم والتأطير
ماجدة محمد شحاته
مخطئٌ من يظن براءة أي منظومة دعوية من أي عيب، أو خلوها من أي خلل أو دخن، بدءاً من القيادة حتى قاعدة المثلث الهرمي الذي يمثل المنظومة بكل صفوفها؛ إذ إن ذلك يجافي الفطرة وطبائع الأشياء.
قد تتباين الأخطاء والعيوب في كمِّها وحجمها، ولكن تبقى هذه الحقيقة التي لا بد أن نعيها بصدر رحب يتسع لقلم ناقد، وعين ناقدة، ولسان آخذ، أولاً: على مستوى أفراد المنظومة، وثانياً: على مستوى الآخر. فليس هناك من هو مبرأ من العيب، ولا يوجد من هو مكتمل الأخلاق كامل العقل، فمن كلٍّ يُؤخذ ويُرد إلا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. وليس معنى تكامل المنظومة الدعوية في أن قيادتها، أو صفوفها العليا والدنيا تتساند فيما بينها بحيث يسد كلٌ فراغاً في جانب من الجوانب، حتى تبدو في صورتها النهائية خِلْواً من الخلل والنقص، ليس معناها أن المنظومة تصبح عصيّة على النقد، أو يصبح أفرادها ـ اتكالاً على ذلك ـ فوق النقد والأخذ والرد.
إن المسيرة الدعوية ما لم يسلِّم أفرادها بحقهم جميعاً في التعبير عن رؤاهم الناقدة، وحق الآخر في مؤاخذات نافذة، فإنها بلا شك راكدة؛ وإن ظن الكثيرون أنها تسير بلا معوق ... وأنها ماضية إلى بر أمانها.
وما ركودها إلا لانغلاقها على وجوهٍ بعينها يُطَمِئن بعضهم بعضاً ألا مساس بالدعوة، وهي في مسيرتها إنما تلفظ فاعلية أخرى، ووقوداً فاعلاً لظنها خطر الرأي الجريء، والمبادرة الشجاعة تلفظ طاقات كان لا بد من توظيفها، وإن كان فيها جرأة على رأي، طاقات لا بد من استثمارها لتجري بها دماء جديدة؛ إذ في طموحها علو همة، وفي تصوراتها سمو فكرة، كان يمكن تأطيرها لا تحديدها؛ لتنطلق وفق إطار منظم نحو فكر مبدع وعقل محلق، ففرق كبير بين التحديد والتأطير، الأول: منطلقه العداء النفسي لطاقة متميزة يراد لها أن تخمد، فلا يكون لها وجود يفرض نفسه.
والثاني: يثق بنفسه، ولا يهمه إلا أن تتسع دائرة المشاركة، وأن يصبح الجنود جميعاً بخصال القواد وملكاتهم، لذا فهو يريد للطاقة أن تؤطر فلا تنحرف، يريد لها أن تنطلق بلا نزق أو تهور، يريدها أن تعلو في غير جنوح يُردي، أو طموح إلى فساد واستعلاء قد يُفضي إلى خسار.
3 التحديد: إيقاف للمد؛ لأنه على غير الرغبة، والتأطير: إطلاق للمد على عين تبصر، ووعي يرقب ويوجه.
3 التحديد: إعلان عن إفلاس فكري وعقلي وأخلاقي، والتأطير: بيان عن سمو نفسي يرجو الخير للناس جميعاً.
3 التحديد: انغلاق على الفكرة من غير تجديد، والتأطير: انفتاح من غير تحديد.
3 التحديد: يؤدي إلى التهميش، ورفض الآخر؛ وربما قتله واغتياله معنوياً، والتأطير: يؤدي إلى التفريخ، واستقطاب الآخر، وربما استعماله واستمالته.
3 التحديد ركود بالمنظومة حتى تتوقف فلا تجد من يحركها، فإذا حُرّكت احتاجت إلى جهد كبير لا يملكه ساعتها ولو آحاد من أفرادها.
3 التأطير سير بالمنظومة هادئ متزن، قد يكون بطيئاً؛ لكنه أكيد في فاعليته؛ إذ يضم كل يوم كل ذي طاقة متميز. وبينما يعالج الخلل ويرسخ قيم الاستعلاء على النفس والذات نجد التحديد لا يعترف أو يقر بخلل، فهو يعمق الغرور من خلال ثقة كاذبة بفكرة مبهرة لكنها حُملت على أكتافٍ ظنت أنها وحدها الجديرة بها، وما سواها إنما يريد بها شراً، وما تدري أنه في مرحلةٍ ما لن تجد أكتافاً أخرى فلا تندثر؛ لأنها بالفعل مبهرة؛ إذ يلتقطها مؤمن بها، فيبعث فيها الروح من جديد وفق ضوابط أخرى، ومنهجية أكثر سعة، وأكثر إيماناً بجدوى المشاركة وتفعيل الطاقات بعيداً عن الخصوصية وحب الاحتكار.(228/6)
غياب ثقافة الموارد البشرية في الجهات الخيرية
محمد يحيى مفرح
- مدخل عبر الواقع:
ليس لدى الكثير من الجهات الخيرية المتميزة إدارة خاصة بالموارد البشرية تهتم بالعنصر البشري قبْل دخوله إلى الجهة الخيرية من خلال ممارسة وظائف معينة مثل: توصيف الوظائف، وتخطيط القوى العاملة، والاختيار. كما تهتم بالعاملين أثناء وجودهم بالجهة الخيرية من خلال ممارسة عدد من الوظائف الأخرى أهمها: الأجور والحوافز والتدريب والترقية وتقويم الأداء. كما تهتم بالوظائف المتعلقة بترك العمل كالفصل أو الاستقالة أو الوفاة.
لا شك أن كافة أنشطة الجهات الخيرية وإداراتها تدار بواسطة الأفراد؛ ولذلك فهؤلاء الأفراد (موظفين ومتطوعين) لا بد أن يكونوا على مستوى مرتفع من الكفاءة حتى يمكنهم النهوض بأعباء هذه الإدارات، وممارسة أعمالهم بفاعلية. وقد أضحت كل أدبيات الإدارة المعاصرة تشير إلى أن نجاح أي منظمة إنما يبنى ـ بعد توفيق الله ـ على مورد بشري فعّال ذي مهارات ذهنية قادر على أن يواكب التطورات والتغيير السريع.
ü الأهداف الرئيسية لإدارة الموارد البشرية:
1 ـ رفع مستوى إنتاج العاملين من حيث الكمية، أو الجودة، أو كليهما.
2 ـ العمل على زيادة درجة رضا الأفراد العاملين عن العمل، وتحسين علاقتهم بالإدارة، وتحسين علاقاتهم ببعضهم من خلال معاملة الجميع بعدالة وموضوعية؛ مما يؤدي إلى رفع الروح المعنوية.
3 ـ تحقيق التكامل والتوازن بين الهدفين السابقين (حيث ينشأ بينهما الكثير من التعارض) .
ü اختصاصات إدارة الموارد البشرية في الجهات الخيرية:
1 - العمل على توفير الطاقات اللازمة للعمل، وتوظيفهم بما يتناسب مع قدراتهم ومؤهلاتهم، وهو الأمر الذي تحتاجه كثير من الجهات ذات المشاريع الطموحة والرائدة التي لا تجد من يشرف عليها.
2 - العمل على تهيئة أفضل الظروف الملائمة للعمل (بيئة العمل المادية) حتى يبذل الموظفون قصارى جهدهم لزيادة الإنتاج.
3 - تشخيص الروح المعنوية ودرجة الفاعلية للموظفين من خلال البحوث والملاحظة، واقتراح الأساليب الفعّالة والمناسبة للتعامل معهم.
4 - الاحتفاظ بسجلات منتظمة لأفراد قوة العمل بالجهة تشمل كل معلوماتهم.
5 - مساعدة الإدارات التنفيذية في كل ما يتعلق بشؤون العاملين (إجازات، وحل مشكلات، وتدريب..) ، وتطوير خاص لمديري الإدارات.
6 - تقديم الرعاية اللازمة (صحية، واجتماعية..) لضمان استقرار العاملين.
7 - نصح الإدارة العليا فيما يتعلق بالسياسات المطلوبة تجاه العاملين.
8 - وضع نظام خاص للمتعاونين والمحتسبين بالعمل.
ü أسباب ودوافع نشوء الفكرة:
أولاً: تعاني الجهات الخيرية من فترة طويلة ـ ولا زالت ـ من كثير من المشكلات التي تعيق تحقيق انطلاقة نوعية للنهوض بمستوى الجهات الخيرية، وتحويل أهدافها الرائدة والطموحة إلى واقع ملموس. هذه المشكلات تنصب في كثير منها حول العاملين أو المورد البشري للجهة. وفيما يلي محاولة استقصاء لهذه المشكلات:
1 - مشكلة ضعف ولاء العاملين في الجهة الخيرية، ويترتب عليه عدة مشكلات منها: عدم عنايتهم بتوفير التكاليف، أو تسويق أنشطة الجهة، وإحضار الدعم لها، وانتقالهم للعمل في مكان آخر متى سنحت الفرصة.
2 - عدم وجود نظام، أو سلّم للرواتب والبدلات بشكل عادل ومريح للإدارة التنفيذية والعاملين.
3 - وجود الكثير من الأفكار والمشاريع وعدم وجود كفاءات ذات تأهيل مناسب لتحمل مسؤوليتها.
4 - مشكلة اشتراطات الأنظمة الرسمية حول العاملين (مثل: توطين العمالة) .
5 - مشكلة انعدام روح الإبداع والتجديد في الأنشطة والمشاريع.
6 - انعدام روح المبادرة لتحمل المسؤوليات وأعباء المهام.
7 - المشكلات المتعلقة بالمتطوعين (غير الموظفين) مثل: البحث عن الأفضل، توظيف الطاقات، ضمان الالتزام، تحديد المهام التي يمكن تكليفهم بها، متابعة إنجاز المهام، المحافظة على انتمائهم.
8 - عدم وجود نظام عادل للحوافز (المادية والمعنوية والفردية والجماعية..) .
9 - عدم وجود توصيف وظيفي يساعد في ضبط أمور العمل، وتقويمه، ومتابعته.
10 - عدم وجود نظام تقويم دقيق وعادل يساعد في تطوير العاملين، وإنجاز الأهداف بشكل جيد.
11 - ضعف علاقات العاملين ببعضهم؛ ومن ثم ضعف عملهم بروح الفريق الواحد بشكل جماعي يكمل بعضه بعضاً.
12 - مشكلة عدم وجود فرق عمل متجانسة للمهام والمشاريع، وعدم وجود جهة مسؤولة عن شحذ روح الفريق في بيئة العمل بشكل إيجابي.
13 - عدم إمكانية وضع خطة واضحة لترقية الموظفين (خطة التطور الوظيفي) .
14 - عدم وجود برامج تدريب تلبي الاحتياجات الحالية والمستقبلية لتطوير الجهة.
15 - ضعف تخطيط القوى البشرية المطلوبة، فتجد أعداد العاملين أكثر من اللازم؛ مما يسبب هدراً وفوضى، ووجود فراغ لدى بعض العاملين في بعض الأحيان، أو أقل من اللازم؛ مما يسبب ضغطاً على الموجودين واستياءً نفسياً ينشأ عنه ضعف إنجاز واهتمام بالصغائر فقط.
16 - عدم وجود برامج رعاية تعتني بالموظفين في نفس الجهة مثل: برامج رعاية صحية (خصومات أو تأمين) ، وبرامج اجتماعية (تهنئة أو مواساة أو برامج للعوائل) ، وبرامج تعليمية للأبناء.
17 - انشغال الإدارات التنفيذية والعليا بكثير من مشاغل ومشكلات الأفراد.
18 - تأخر حل مشكلات العاملين التي تقع بطريق الخطأ مثل: تأخر نزول راتب أحد الموظفين.
19 - مشكلات الحضور والغياب ومحاسبة الموظفين على التأخر، وعدم تعويضهم عن الوقت الزائد الذي يتطلبه العمل.
20 - عدم العناية بشكاوى العاملين، واقتراحاتهم، وأفكارهم، خاصة العاملين في المستويات الدنيا.
21 - عدم وجود برامج خاصة للتنمية الذاتية لدى العاملين مثل: مكتبة شخصية، مجلات وإصدارات دورية، بريد إلكتروني وإنترنت.. إلخ.
22 - مشكلة عدم وجود بيئة عمل مادية تساعد الموظف في إنجاز ما يتطلبه عمله بفاعلية.
23 - مشكلة عدم وجود صلاحيات كافية للموظف حتى ينجز أعماله ومسؤولياته.
24 - مشكلة عدم وضوح الأهداف العامة للجهة الخيرية عند كل العاملين، وعدم اطلاع الموظفين على المعلومات الهامة والمستجدة.
25 - مشكلة عدم وجود أنظمة واضحة للعقوبات، والخصومات، وإنهاء الخدمة.
26- مشكلة صعوبة الاستغناء عن العاملين ذوي الكفاءة المتدنية لأسباب إنسانية.
27 - مشكلات التحيز في التوظيف، وتحديد الرواتب، وإعطاء المميزات.
28 - مشكلة عدم وجود تغذية راجعة مباشرة تساعد على تعديل السلوكيات الخاطئة، خاصة للمديرين مثل: سوء تعامل بعض الرؤساء مع المرؤوسين، وعدم التفويض بشكل سليم.
29 - مشكلة غياب كثير من المعلومات الهامة عن كثير من العاملين بلا مسوِّغ.
30 - مشكلة عدم اكتشاف طاقات العاملين، وتفجير مكامن الإبداع، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب وفق نظام مرن لا يخل بالعمل.
31 - مشكلة عدم العناية بالمتميزين، والمحافظة عليهم، وتطويرهم لخدمه الأهداف الكبيرة.
إن جميع هذه المشكلات وما يترتب عليها ترتبط في كونها جميعاً تتعلق بالعنصر البشري الذي يعمل في الجهة الخيرية. وتوجد هذه المشكلات في الجهات المختلفة بنسب مختلفة، ولنا أن نتخيل كم يتسبب وجودها في تعطيل إنجاز الأهداف الحقيقية للجهات الخيرية، وإشغال المسؤولين فيها؟
ثانياً: تفتح الجهات الخيرية أبوابها لسد احتياجات خيرية موجودة في المجتمع (دعوة أو إغاثة أو تعليم أو تربية..) ، ولا تنتبه أنها تفتح أبواباً أخرى بوجود عاملين لديها يقاسون ظروفاً غير جيدة، ولا يجدون من يساعدهم في حلها.
ثالثاً: مفهوم خاطئ:
يعتقد بعض الناس أن كل المشكلات المتعلقة بالعاملين في الجهات الخيرية إنما هي بالدرجة الأولى مشكلة مالية (انخفاض رواتب أو بدلات أو حوافز مادية..) ، ومن ثم فحلُّها الوحيد هو تجاوز هذه المشكلات، وهذا غير متاح لكثير من الجهات الخيرية نظراً لمحدودية الموارد. ولكن الدراسات والواقع يؤكدان أن جملة كبيرة من هذه المشكلات لا تتعلق بتاتاً بالجانب المادي، بل هي بالدرجة الأولى متعلقة بما فطر عليه كل إنسان من حب التقدير وإرضاء الذات بإنجاز العمل الذي يليق به، والشعور بأنه يعامل بعدالة ضمن المنظمة والأفراد الذين يعمل معهم، وهذا ما تعتني به الموارد البشرية.
رابعاً: أصبحت كثير من الجهات الخيرية ـ بفضل الله ـ تهتم بنوع من القضايا لم يكن الاهتمام به قائماً إلى فترة قريبة سابقة، من أبرز هذه القضايا ما يتعلق بتدريب الموظفين والاستفادة من المتطوعين، ولكن هذا الاهتمام وهذه الجهود قد لا تؤتي أكلها ما لم تأت متناسقة في إطارها الحقيقي الكامل، وهو إطار تكامل أعمال الموارد البشرية، وهو أمر يحتاج إلى تفرغ وتخصص.
ü الوضع الحالي في الجهات الخيرية:
هناك جهات خيرية كبيرة واسعة النشاط تملك إدارة خاصة للشؤون الإدارية تقوم بجزء من مهام الموارد البشرية، ولا تقوم بجزء كبير وهام آخر، بل هي مشغولة غالباً بالقضايا الإدارية البحتة.
وهناك جهات خيرية صغيرة يتولى العمل فيها نفس المسؤول الرئيس، أو أحد المساعدين بشكل ارتجالي، وحسب الاحتياج وفي غياب كثير من مهام الموارد البشرية.
وهناك جهات خيرية لديها إدارة خاصة للموارد البشرية، أو التدريب، أو المتطوعين يديرها أشخاص غير متخصصين ولا متفرغين، ومن ثم فهم منغمسون في الأعمال العادية، ومشغولون عن جوهر إدارة الموارد البشرية.
وإجمالاً فليس هناك جهات ستبدأ من الصفر على الغالب، لكن هناك حاجة للمزيد من الجهود المرتبة.
ü فكرة عملية لتأسيس الموارد البشرية في الجهات الخيرية:
إن إنشاء إدارة موارد بشرية بشكل منهجي وعلمي يستلزم وجود خبير وتكاليف، والمقترح هو تأسيس لجنة مركزية برئاسة شخص ذي اختصاص وخبرة إدارية في مجال الموارد البشرية، وعضوية أفراد من عدة جهات خيرية يرشح كل منهم لإدارة الموارد البشرية في الجهة التي ينتمي إليها. تقوم هذه اللجنة على مدار فترة محددة بتأهيل أفرادها، وإنشاء إدارة مثالية للموارد البشرية في كل الجهات الخيرية، مع الاستفادة من عنصر الجماعية في تخفيض كل التكاليف الممكنة ودفع أجور الخبراء.
ü أوجه استفادة الجهات الخيرية من تطبيق هذه الفكرة:
1 ـ توفير تكاليف الخبراء والمتخصصين في الموارد البشرية من خلال العمل المشترك.
2 ـ توفير تكاليف الأعمال المشتركة للموارد البشرية مثل: برامج التدريب، واستقطاب العاملين، والمقابلات، وقواعد البيانات، والاستفادة من المتطوعين.
3 ـ قوة التفاوض للحصول على تسهيلات وخدمات خاصة للعاملين مثل: خدمات صحية، واجتماعية، وتعليمية.
4 ـ ضمان إنشاء إدارة موارد بشرية مثالية بشكل مستقر ومستمر لا يتأخر بسبب الأحداث الداخلية في الجهة الخيرية والانشغالات الطارئة.
5 ـ تخفيف العبء الإداري عن الإدارة العليا في الجهات الخيرية.
غياب ثقافة الموارد البشرية
ü لماذا نريد نشر هذه الثقافة؟
أولاً: لأن الجهات الخيرية بحاجة ماسة في هذه الفترة بالذات ـ حيث الأحداث والتقلبات المتتابعة ـ إلى نوعية خاصة ومتميزة من العاملين والمتطوعين لا تشغلهم مشاكل العمل عن أهدافه، بل يعينهم العمل على إطلاق قدراتهم وإبداعهم لمواجهة الواقع ذي الإيقاع السريع.
ثانياً: لأننا نرى الكثير من الجهات الخيرية قد بدأت ـ بفضل الله ـ خطوات مباركة وكبيرة وواضحة في مجالات مهمة، ولكنها لم تأت في إطارها الصحيح المتكامل، وأبرز مثال على ذلك اهتمام بعض الجهات الخيرية بمجال التدريب في معزل تام عن أي أعمال أخرى تتعلق بنفس المتدرب، مثل: اختياره ابتداءً بشكل صحيح للعمل، ثم تقويمه وفق معايير تحدد لاحقاً فيم يجب أن يدرب؟(228/7)
التفاؤل.. حياة
فيصل بن علي البعداني
(أنا محبَط، فاقد للثقة بإمكانية نهوض أمتنا وخروجها من حالة الغيبوبة الراهنة!!
لا أتوقع أن بوسعنا فعل شيء أمام هجمة أعدائنا الشرسة؛ إذ إن أمتنا ممزقة، وغير قادرة على تجاوز ضعفها؛ فكيف بقياد البشرية وهدايتها؟!
أمتنا مشلولة، وسيطرة الغرب وربائبه على كل عوامل القوة ومنطلقات النهوض محكمة.
جميع ما يعمله الدعاة والمخلصون أمور ضعيفة أو هامشية، لا تمكِّن من استرداد العزة، والخروج من حالة الغفلة المطبقة.
المتفائلون حالمون يعيشون في أبراج عاجية بعيداً عن الواقع، أو أنهم يخادعون الأمة، ويحاولون إيهام أبنائها بأن بإمكانهم فعل شيء، ولكن هيهات!) .
تصدر تلك المقولات ونحوها من بعض شباب أمتنا المخلص الحريص على بعث الأمة واسترداد مجدها، وبخاصة في أوقات الأزمات والمحن ومراحل صولة العدو وهيجانه.
وبادئ ذي بدء لا بد من التسليم بأن أمتنا تعيش أزمة حقيقية، وتمر بأوقات عصيبة، وفترة ضعف بينة؛ فقد ضعف تمسكنا بديننا، وعظمت غفلتنا، وكثر لهونا، وشكك عدونا (الداخلي والخارجي) بالأصول والمنطلَقات، وبث فكره المناقض، ومكَّن للمناهج البدعية الدخيلة على الأمة، وأزهق الأرواح، واستباح الحرمات، ونهب الخيرات، وعمَّق الفرقة، واستهدف بشدة بواعث المجابهة ومقومات النهوض المعنوية والمادية.
ومن حق كل من يعيش همَّ الأمة، ويشعر بمسؤولية نحوها أن يحزن ويتألم، وأن يُكثِر من التضرع والدعاء وسكب العبرات. وليس ذلك مجرد أمر يمكن فعله، بل هو إلى هذا الحد جانب مطالَب به كل صادق غيور.
ولا تعارض بين هذا، وبين ما نحن بصدد تقريره من حرمة اليأس، وبيان خطر الإحباط. ومن ضرورة التفاؤل، ووجوب القيام برفع راية الأمل، ومناداة الدعاة والمصلحين، بل وكافة أبناء الأمة: ذكوراً وإناثاً، شباباً وشيباً إلى الانضواء تحتها، وعدم الابتعاد كثيراً عن ظلالها.
لقد جاء الإسلام حاثّاً على الرجاء والأمل، وداعياً إلى التفاؤل الإيجابي الدافع للانطلاقة والعمل من أجل التصحيح والتطوير، بل إن اليأس والقنوط والإحباط والتشاؤم جوانب ليست بداخلة في نسيج التفكير الإسلامي البتة، مهما أحاطت بالمؤمن الشدائد، وادلهمت الخطوب، وغيم الجو وتلبد.
ونصوص الشريعة شديدة الصراحة والوضوح في هذا الجانب. قال ـ تعالى ـ على لسان نبيه يعقوب ـ عليه السلام ـ مخاطباً أبناءه: {وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] ، وقال ـ سبحانه ـ على لسان خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «إن رجلاً قال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ قال: الشرك بالله، والإياس من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله» (1) ، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله» (2) .
ولذا نجد التفاؤل، والثقة بموعود الله ـ تعالى ـ وحسن الظن به ـ سبحانه ـ أصل راسخ، وسِمَة ثابتة، ومَعْلَم بارز، قوي الحضور في حياة نبينا الكريم #؛ وشواهد ذلك في السيرة العطرة أكثر من أن تُحصَر، ومن ذلك:
حديث خباب بن الأرتّ ـ رضي الله عنه ـ حين جاء بعض الصحابة الكرام إلى النبي # في صدر الإسلام، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، يستنصرونه، ويشكون إليه الحال، وقد كانوا في فترة يُضرَبون فيها، ويُجوَّعون، ويُعطَّشون، حتى ما يقدر أحدهم أن يستوي جالساً من شدة الضر، فأنكر # عليهم استعجالهم الفرج، ووجَّههم إلى الصبر الآمل الفاعل، الذي يستمر صاحبه في المدافعة، ويبادر بجد ونشاط وحزم إلى تجاوز الأزمة، ومواصلة الدعوة والتربية والعمل، والاجتهاد في الأخذ بأسباب النصر والتمكين، مهما اشتدت الوطأة، وعظمت المشقة، وتفاقمت المحنة، وطال زمن الإصلاح والتغيير، قائلاً: «كان الرجل فيمن قبلكم، يُحفَر له في الأرض، فيُجعَل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضَع على رأسه، فيُشَق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. واللهِ ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (1) .
وفي طريق الهجرة، وهو # طريدٌ مُهْدَر الدم، نجده في غاية الثقة والاطمئنان، فيقول لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ حين قال له - وهما مختبئان في الغار -: «يا رسول الله! لو أن أحدهم رفع قدمه لرآنا، فقال #: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (2) ، ونجده يخاطب سراقة بن مالك أحد متعقبيه، الطامعين في قتله أو أسره قائلاً له: «كيف بك إذا لبست سوارَيْ كسرى؟» (4) .
وفي الخندق، وهو # وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ محاصرون في المدينة من الأحزاب، من كل صوب، وأحدهم لا يأمن على نفسه حين يذهب إلى الغائط، ويمكث # من الفاقة ثلاثاً بدون طعام مع ضخامة الجهد المبذول في حفر الخندق، ومشقة العمل، وقيامه بترتيب شؤون الناس وإعدادهم للنزال، وحمله همََّ الولوج في معركة فاصلة، تداعى لها الأعداء من كل حدب، وحال المؤمنين كما وصف ربنا ـ تعالى ـ: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] ، نجده # يبعث الطمأنينة في نفوس أصحابه الكرام، ويعمق ثقتهم بالله ـ تعالى ـ ويستنبت التفاؤل والأمل في دواخلهم، فيقول #: «أُعطيت مفاتيح الشام ... أُعطيت مفاتيح فارس ... أُعطيت مفاتيح اليمن» (4) .
وما ذاك منه # إلا إدراك لخطورة الإحباط، والشعور بالخيبة، واعتقاد العجز؛ إذ تُقتَل الإرادة، ويُقضَى على المبادرة، ويُزرَع القلق والجزع، ويحدث الاضطراب والتوتر، ويُحال بين المرء وبين الجد والمثابرة، إضافة إلى ما يتضمنه ذلك من ظن ما لا يليق بالله ـ سبحانه ـ وغير ما يليق بحكمته، ورحمته، ووعده الذي سبق لرسله من أن جنده هم الغالبون، وأن أعداءه هم المخذولون.
وفي المقابل يأتي ذلك إدراكاً منه # لعلو كعب الرجاء، وارتفاع منزلة التفاؤل، وضرورة العيش بنفسية آملة، طامحة بالنجاح، ناشدة تحقيق الأهداف، حسنة الظن بالله ـ تعالى ـ واثقة من تنزُّل نصره، وحدوث فَرَجه، وأن الأمر لا يعدو مرحلة استكمال الأمة لما هي مطالبة به من القيام بما عليها من تحقيق متطلبات النصر والابتعاد عن موانع التمكين.
ولوصول المرء إلى هذه الوضعية المنتجة، القادرة على الانطلاق بإصرار وعزم نحو المستقبل، فإن عليه:
ـ أن يتعرف على الله ـ تعالى ـ ومدلول أسمائه وصفاته حق المعرفة؛ حتى يتمكن - واقعاً وسلوكاً لا مجرد دعوى - من إحسان الظن به ـ سبحانه ـ والاطمئنان إلى تحقق موعوده ـ عزّ وجل ـ الذي تضافرت به نصوص الوحيين، مبشرةً هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين، وأن الله ناصر لجنده، حافظ لأوليائه.
ـ وأن يقرأ في تاريخ البشرية الطويل، ويطالع سِيَر الأنبياء والمصلحين، والذين كانوا يتحسسون في الدجى مفاتيح الفرج وسط أكوام القش، ويثابرون في البحث عنها؛ حتى يكرمهم الله ـ تعالى ـ بما نذروا أنفسهم له؛ من هداية أقوامهم، وإخراج أممهم من الظلمات إلى النور، وكيف أن الله ـ تعالى ـ كان معهم بنصره وتوفيقه وحفظه، وخذلانه لمن عاندهم؛ فتنكب طريقتهم، وسلك غير جادتهم.
ـ وأن يتعرف على نفسه الأمَّارة بالسوء: داعية الشر، ومركبة الجهل والظلم، فيجاهدها، ويعيد هندرة (5) حياته بصورة تمكنه من استثمار طاقته، وتركيزها في جانب يبقيه في دائرة الأهم ويجنبه ما دونها؛ من مشتتات النفس، ومبعثرات الجهد والوقت، وملهيات المرء عن القيام بالأعمال الأكثر إلحاحاً وضرورة.
ـ وأن يبتعد عن الأطروحات المثالية غير القابلة للتنفيذ بمفردها أو بمجموعة الجوانب التي تتكامل معها في دنيا الواقع، وينتقل للعيش في بيئة يقوم فيها بعمل أفضل ما يمكنه تنفيذه، سواء أكان ذلك بذاته أم من خلال الشراكة مع من يمكنه العمل معهم من إخوانه في حدود الهمم الحاضرة، والإمكانات المتاحة مهما كانت ضعيفة؛ لأن استثمار الفرص المتاحة هو المولِّد للفرص، والمهيئ للمعالجة وقبول النصيحة، وقد جرت سنة الله ـ تعالى ـ أن من واصل المضي في دربه الصحيح نحو هدفه قدر على تحقيقه ولو بعد حين.
ـ وأن يتقي أحاديث اليائسين ومرافقة المحبَطين: زراع الهزيمة، ومطيلي فترة الانكسار وأمد التخلف، ويستعيض عن ذلك بأسر نفسه في محيط أهل المبادرة، ودائرة أهل الإنجاز والعمل: وجه الأمة المشرق، وطليعتها المباركة نحو الإصلاح والتغيير.
ـ وأن يتجنب رسم صورة دونية لقدرات نفسه وأمته، ويدع التركيز على عوامل ضعفها والغفلة عن عوامل قوتها من جهة. ولا يغرق في تضخيم جوانب قوة الأعداء، والتغاضي عن جوانب ضعفهم.
ـ وأن يفرق أثناء نظراته التقويمية للجهود الخيرة بين آمال التحسين وطموح التطوير، وبين غمط رواد الأمة وطلائع نهضتها المباركة جهودَهم العديدة، وكأن شيئاً من البناء والمعالجة ومقارعة الباطل والخطو نحو النجاح الكبير لم يحدث.
ـ وأن يحذر في مسيرته من سمات القانطين؛ من سطحيةٍ في النظرة، وتسرُّعٍ في الحكم، واستعجالٍ للنتائج، وحِدَّةٍ في المواقف، وتعميمٍ، وإكثارٍ من القول والتشكي مع تأخرٍ في المبادرة وتقاعسٍ عن العمل، وعدم توازنٍ في التفكير، والقيام بالنظر إلى الأمور والتعاطي مع الأشياء على اعتبارها لا تقبل التفريق والتجزئة، ولا تحتمل المرحلية، ولا يمكن النظر إليها عملياً إلا من خلال زاوية واحدة.
ـ وأن يتأمل في قوة الإسلام الذاتية وما يتضمنه من نور وبهاء، ويمتلكه من إبهار وجاذبية ونقاء، في مقابل إفلاس المناهج الوضعية والأطروحات التغريبية في علاج مشاكل الإنسانية بعامة، وأمتنا بصفة خاصة.
ـ وأن يفرح ويستبشر بإقبال الأمة على الإسلام من جديد، واستعدادها حين يُحسِن المصلحون مخاطبتها والقيام بإثارتها للبذل والتضحية في سبيل تمكين دينها والذود عن حياضه من أن يُمَس من قِبَل أعدائها.
ـ وأن يقوم بنشر ثقافة التفاؤل، وفتح بوابات الأمل، ومد جسور المبادرة والحيوية والنشاط أمام أبناء الأمة لخدمة هذا الدين، كلٌ في المجال الذي يمكنه ويجد نفسه فيه؛ ليفيض الرجاء، ويعم البِشْر، وتنفرج الأسارير، وتتدفق الحماسة، وتعظم الجدية، وتتبدد ظلمات اليأس والقنوط، مدركاً أن الليل مقدمة الإصباح، والظلمة أول بشائر النور، وأن الجدب يتلوه الغيث، والحياة في أحيان كثيرة لا تنبثق إلا من باطن الأرض الموات.
إن من أهم ركائز الأمل ومتطلبات التفاؤل: سعة الأفق، وبُعد النظر، وطول النَّفَس، والصبر والمصابرة، وإعطاء المعالجة والبناء المدى الزمني الذي يحتاجان إليه، وقد كان ذلك جلياً في حياة من جعله الله ـ تعالى ـ أسوة حسنة لنا، وانظر إليه # وهو في (قرن الثعالب) يمشي مهموماً بعد أن طرده بنو عبد ياليل وآذوه ورجموه حتى أدموه، والملأ من قريش مصممون على منع عودته إلى مكة، وقد جاءه مَلَك الجبال فقال: «إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين» ، فأجابه #، وكله تفاؤل وأمل، وصبر، ورحمة، وبُعد نظر، واستشراف عميق للمستقبل: «بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً!!» (1) .
فكن من جيل التجديد: رواد النهوض وصناع التاريخ؛ فإن القانطين هم الضالون، والآيسين هم طائفة التخاذل، وجماعة التشاؤم، وركب الإحباط والعجز، ورافعو راية الاستسلام والهزيمة. لم يستطيعوا بناء الحياة السوية في نفوسهم وفي أجواء أسرهم؛ فكيف يصنعونها لغيرهم؟! وقديماً قيل: فاقد الشيء لا يعطيه.
فهيَّا إلى التفاؤل وقراءة الأحداث والمواقف بنفسية متزنة، ورؤية واعية عميقة، متفائلة غير مغرقة في نظرية المؤامرة؛ فإنه لا سبيل لركوب دروب العزة، والوصول لساحة الكرامة في الدنيا والسعادة في الآخرة إلا من خلال ذلك.
ولنحذر من الغرور والتمني الكاذب الذي يعيش صاحبه في أجواء السذاجة والغفلة، ويكتفي بالتغني بالأمجاد السالفة، ويرى أن كل الأمور خيِّرة، وكأنَّا لا نعيش في أجواء التبعية، وأن أعداءنا لم يعبثوا بقيمنا، ولم يستولوا على مقدساتنا، ولم يزهقوا أرواحنا، وينتهكوا أعراضنا، ويقتطعوا من أراضينا، ويستولوا على خيراتنا.
ودون أن يصاحب تمنيه اندفاع في تلقي العلم، ومثابرة في تقوية الإيمان، وأخذ النفس بالعزم، ودون أن يرافقه اجتهاد في تحصيل جوانب القوة، وامتلاك أسباب النصر، فإن في ذلك من تخدير الأمة، وتعييشها في أجواء التقاعس والغفلة ما يتوازى في أثره مع فعل غارسي أشواك الإحباط والقنوط.
ولْنَتَوَقَّ القيام بزراعة اليأس، واستنبات القنوط في دواخل نفوسنا وأوساط أمتنا؛ إذ لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط هو في ذاته من رحمته ـ تعالى ـ (2) ولا أن يُحبِّط الناس وييئِّسهم من فرجه ـ سبحانه ـ فإن من قال: هلك الناس، فهو مهلكهم وأهلكهم.
ولنتذكر أن تباشير النصر قد بدت، وطلائع الضياء قد بزغت، والنصوص الثابتة وأحداث التاريخ يخبراننا بجلاء أن العسر يعقبه اليسر، وأن الكُرَب متى اشتدت انفرجت، وأن الحادثات متى تناهت فموصول بها الفرج القريب، ولكن أنَّى للمحبَطين الغارقين في دوامة اللحظة، والذين لا يرون إلا في حدود محيطهم الضيق أن يدركوا ذلك فضلاً عن أن يشاهدوه؟!
فاللهمَّ برحمتك وجودك بُثَّ الأمل والتفاؤل فينا؛ فإن حياتنا وركيزة انطلاقتنا في ذلك، وارزقنا بفضلك حسن الظن بك، والثقة بموعودك، والاجتهاد في التمسك بشرعك، والعمل لدينك، ومقارعة أعدائك، إنك على كل شيء قدير.
^
العدد 228
__________
(1) قال ابن كثير في تفسيره: 2/ 279، وفي إسناده نظر، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 1/294 (رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجاله موثوقون) ، وحسنه الألباني في الصحيحة (2051) .
(2) مصنف عبد الرزاق (19701) ، وقال ابن كثير في تفسيره: 2/ 279: (وهو صحيح بلا شك إليه) .
(1) البخاري (6943) .
(2) البخاري (4295) ، مسلم (4389) .
(3) الإصابة، لابن حجر: (3/41) .
(4) أحمد (18716) ، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (7/397) ، وصححه عبد الحق، كما في تفسير القرطبي (14/116) ، وضعف إسناده الأرناؤوط.
(5) الهندرة: الهندسة.
(1) البخاري (2992) .
(2) انظر: فتح المجيد، لعبد الرحمن بن حسن (359) .(228/8)
دور المعلم وآليات عمله
أ. د. مصطفى رجب
قال ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 41 - 45] .
إنها خمس آيات تضمّنت إحدى وخمسين كلمة، تخشع أمامها قلوب المؤمنين، وتقشعرُّ لسماعها جلود المخبتين، والآيات الخمس تضمُّ فنوناً من التربية متنوعة، وأساليب للدعوة بديعة باهرة.
إنه الإعجاز التربوي للقرآن الكريم في صورة من صوره: صورة الحوار بين مربٍّ وجهول، وعالم وعنيد، ونبي وكافر. إعجاز يقوم على أسس من الإقناع والتبصير ومحاولة تعديل السلوك الخاطئ، مستعيناً في سبيل ذلك بكل ما آتاه الله ـ تعالى ـ من حكمة وحسن تقدير.
وفيما يلي تحليل لبعض جوانب هذا الإعجاز التربوي الفذّ في مجال من أهمِّ مجالات التربية، وهو ذلك المجال المتصل بأدوار المعلم:
ü أولاً: استثارة الدافعية:
من المسلَّم به عند التربويين أنه (لا تعلُّم بدون دافعية) فالمعلم مهما بلغ من النبوغ والبراعة، لا يمكنه دفع طلابه إلى التعلُّم إذا ما كانوا عنه معرضين، وفي العلم زاهدين، أما إذا توفر لديهم دافع داخلي يحفزهم فإنهم يُقبِلون على التعليم بعقول متفتِّحة، وقلوب واعية؛ لأن الدافعية تبعث في النفوس طاقة انفعالية، وتتحول هذه الطاقة إلى نشاط محسوس. ويرتهن نجاح المعلِّم في عمله بقدرته على استغلال دوافع تلاميذه من أجل تحريك نشاطهم وتعديل سلوكهم من أجل تحقيق أهداف يحدِّدها لهم.
وقد بدأ أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ حواره مع أبيه بأن وضع له هدفاً يمسُّ حياته مسّاً مباشراً، وهو النفع أو المصلحة المبتغاة من عبادة الآلهة. فإذا كان الإله الذي يعبده المرء لا يسمع ولا يبصر؛ فكيف يمكنه أن يساعد من يعبدونه؟! أو يحقق لهم نفعاً؟! أو يدفع عنهم ضرراً؟!
بدأ إبراهيم حواره بإثارة النشاط العقلي عند أبيه؛ لكي يحرِّك عنده طاقة انفعالية تجعله يفكر بالصورة الصحيحة في تلك الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر.
ü ثانياً: استعمال الحوافز:
ينجح المعلِّم بقدر تمكُّنه من استعمال الحوافز مع طلابه، فإذا آنسَ فيهم شروداً، أو عناداً، أو خروجاً على المألوف، أو صُدوفاً عن التعليم، احتال لذلك بما يتوفر لديهم ولديه من حوافز مادية أو معنوية، كأن يعدُهم بمكافأة أو نزهة أو حفل أو ما شابه ذلك مما تتوق إليه النفوس، وتنشط له الأبدان.
وسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد أن سعى إلى تنشيط عقل أبيه بالتفكير في جدوى عبادة الأصنام، أدرك أن هذا التفكير عملية عقلية معقدة بالنسبة لإنسان جامد الفكر، فأراد أن يقدِّم له حافزاً يشجِّعه به على المضيّ في عملية التفكير، فأخبره بأن ما منَّ الله به عليه من العلم سوف يجعله في خدمة أبيه، وأن أباه لو أطاعه، وأعمل عقله فيما يعبد، لوصل إلى الحقيقة التي يتهرب منها، وهي أن هذه الأصنام التي ورث عبادتها عن آبائه وجدوده لا تنفع ولا تضرُّ، ولا بد أن لهذا الوجود خالقاً يجلُّ عن التجسيم. وهذا الخالق ـ جل وعلا ـ هو الذي رزق إبراهيم العلم.
فسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ في هذا النداء الثاني: {يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] يحفز أباه على الدخول معه في دنيا الإيمان الصافي بالخالق القادر.
ü ثالثاً: بسط الحقائق والتبصير بها:
ومن مهمات المعلِّم أن يبسط أمام طلابه حقائق الموقف التعليمي، ويبصِّرهم بما لتلك الحقائق من أبعاد مختلفة تتصل بهم، وبحياتهم، واهتماماتهم، ومصالحهم، حتى يحقق لهم بذلك البسط والتبصير القانون الذي يسميه التربويون (قانون التعرُّف) ؛ بمعنى أن المتعلِّم إذا كان ذا معرفة بعناصر الموقف المراد تعلُّمه، فإن هذا يسهل عليه استيعاب هذا الموقف الجديد والتكيّف معه. وهذا ما فعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين ربط لأبيه بين عبادة الأصنام، وعبادة الشيطان. وهذا أمر قد يغيب عن ذهن ذلك الأب الذي أعماه التقليد عن إدراك حقائق الموقف الجامد الذي يقفه من دعوة ابنه. فهو لا يدرك أن عبادته للأصنام ما هي إلا عبادة للشيطان في الحقيقة؛ لأن الأصنام حجارة لا قدرة لها على التأثير في نفسها ولا في غيرها. أما الشيطان فله سلطان على النفوس الضعيفة، فهو الذي يسوِّل لها، ويزيِّن لها، ويوسوس لها، وقد عصى ربه ـ سبحانه وتعالى ـ فمن أطاعه فقد أطاع عاصياً لله، فهو عاصٍ بالتبعية.
ü رابعاً: التهديد بالعقاب:
ومن شأن المعلِّم إذا أخفق أسلوب التنشيط العقلي، واستعمال الحوافز، وبسط الحقائق، أن يلجاً إلى ما ترتدع به النفوس الشاردة، وترعوي به القلوب الجاحدة، وهو أسلوب العقاب، أو التهديد باستخدام العقاب.
وهذا ما فعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ في نهاية حواره، حين لم يلمح في وجه أبيه اطمئناناً إلى حديثه، ولا ثقةً بحججه، ولا رغبةً في اتِّباعه، فبادرَ بتخويفه من عذاب الله ـ تعالى ـ ومن موالاة الشيطان الذي هو عدو لله وعدو للمؤمنين.
وقد أوضحت الآيات التالية من الحوار، ما ردَّ به الأب الجهول على ابنه النبي العالم الصالح القانت الراغب في إنقاذ أبيه، من براثن الجهل، ووهاد الضلال، ودركات التّبعية العمياء: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] ، وهكذا.. كانت عماية الجهل، وغواية الانقياد الأعمى للموروث الثقافي المتهافت، غشاوةً على عقل الرجل، فلم يستجب لنداء الحق والإيمان، وختم الله على سمعه وبصره وبصيرته فلم يتبين أنوار الهداية التي تذرعت بكل أساليب الإقناع:
ـ بالدعوة إلى إعمال العقل.
ـ وبالتحفيز على اتّباع العلم.
ـ وبشرح أسباب الغواية.
ـ وبالتخويف من العقاب.
وبالرغم من هذا الجفاء، وتلك الغلظة، لم يفقد سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حلمه، ولا أساء الأدب في حواره مع أبيه، ولكنه استسلم لمشيئة هذا التحجر الجاثم على بصيرة الرجل، وقال له في محاولة أخيرة لاستدرار عاطفته وإنذار عقله: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] !!
أين هذا المستوى الرفيع من الخُلُق النبيل؟! إننا نرى في المجتمعات المعاصرة شباباً يتنكرون لآبائهم وأمهاتهم، وفيما تنشره الصحف وتذيعه الإذاعات من قضايا الأسرة ما يشيب لهوله الوِلْدان؛ فهذا شاب أُوتي قسطاً من التعليم يستكبر على أبيه؛ لأن أباه رجل بسيط فقير الحال، فكأنه يتنكر لأصله. وهذا شاب أبوه غني ولكن الأجل يمتدُّ به، والابن يتعجّل الميراث فإذا به يقاضي أباه أمام المحاكم ويطلب الحجر عليه!! والأكثر بشاعة حين تمتد أيدي الشباب الفاسد إلى الوالدين بالضرب والإهانة.
إن أبا إبراهيم هنا يهدّده بالرجم والطّرد من المنزل.. والابن يرد في حلم العالم وعلم الحليم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] !!
ü آليات عمل المعلّم التربوية كما تظهر من الحوار:
إن الآيات الخمس على وجازتها تتضمن معالم تربوية يحسن إبرازها في صورة نقاط تتعلق بمهام المعلِّم وأدواره وآليات عمله كما تظهر في حوار سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه. ومنها:
1 ـ استدرار عاطفة المتعلم:
إن تكرار كلمة (يا أبتِ) أربع مرات في الآيات الأربع التي توجه فيها سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بالخطاب إلى أبيه يدل على أهمية أن يكون تركيز المعلِّم في أسلوبه التربوي على ما يثير عواطف المتعلِّمين ويحرّك مشاعرهم الانفعالية الإيجابية نحو الموقف التعليمي. فهو بهذا النداء المتكرر، يستدر عاطفة الأبوة، ويمدُّ جسراً من الثقة بينه ـ وهو النبي العالم ـ وبين أبيه وهو الجاهل الكافر العنيد، وكأن علاقة الأبوّة والبنوّة ـ في تقديره ـ ستسهم في تحريك مشاعر الرجل ومن ثم تحريك عقله.
2 ـ أسلوب الاستفهام منشط للفكر:
{إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42] ؟ هكذا بدأ سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حواره مع أبيه؛ إدراكاً منه أن ما يسميه التربويون بـ «الإثارة» أو «التمهيد» للدرس عنصر جوهري من عناصر العملية التعليمية، إنه بدأ الحوار الهادئ بسؤالٍ لا هدوء فيه على الإطلاق، سؤال يتصادم مع معتقدات موروثة تشبه بُحيرة آسنة ساكنة، رانَ عليها السكون قروناً وآماداً طوالاً، فهو يلقي فيها بحجر من الحجم الثقيل ليحرِّك سكونها. وهكذا.. من واجب المعلِّم أن يكون بدء تدريسه قوياً مثيراً فعَّالاً بأسئلة تهزُّ الوجدان وتزلزل العقول وتدفع المتعلِّم دفعاً إلى التفكير المستقلّ الحرّ.
3 ـ ثقة المعلِّم بنفسه ضرورية:
إن قوة شخصية المعلِّم تقوم بالدرجة الأولى على مدى ثقته بنفسه، وبمادته العلمية، ورسالته الإنسانية، فإذا ما توفرت له ثقة بنفسه، وأحسن إعداد مادته العلمية، وآمن بنقل رسالته وصدقه مع نفسه في أدائها، كان ذلك أدعى إلى تحقيق أهدافه، وإنجاح عمله التربوي. ونحن نلمس هذا واضحاً في حوار سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه من خلال:
أـ التصريح بأن ما عنده من العلم يفوق ما عند أبيه.
ب ـ استعمال أسلوب التوكيد الذي يعكس ثقته بنفسه من جهة، ويسعى إلى كسب ثقة الطرف الآخر بما يقوله من جهة أخرى: {يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] .
ج ـ تنويع أساليب الخطاب من سؤال، إلى تحفيز، إلى تهديد بالعقاب.
4 ـ الحلم وسعة الصدر:
لا ينجح المعلِّم في أداء مهمته إذا كان عجولاً، يؤوساً، مقهوراً. وإنما ينجح بقدر ما يتحلّى به من صبر ومصابرة، وقدرةٍ على التحمّل؛ فإن المتعلِّمين قد يصدر منهم سوء أدب، أو فظاظة في الحوار، أو غلظة في الردّ، أو تعدٍّ على المعلِّم باليد أو اللسان، وعلى المعلم أن يكون قادراً على امتصاص ذلك كله وإحسان التعامل معه.
وتدلنا الآيات على أن سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد أن استنفد كل وسائل الإقناع والتأثير، لم يجد من أبيه أذناً صاغية ولا قلباً مفتوحاً، بل وجد إصراراً على الكفر، وسوءَ ردٍّ، وغلظةً في الحديث؛ فهو يقول أربع مرات: (يا أبت) ، وهو أسلوب نداء ترغيبي؛ لأن ياء المتكلم في قوله (يا أبي) أُبدلت تاءً. والمقام بينهما لا يحتاج إلى نداء؛ لأن الحوار مباشر وهما متقابلان وجهاً لوجه، لكن تكرار النداء بالأبوة فيه تحنين للقلب الجامد، ومحاولة متكررة لاستحضار ملكات السمع والذهن الشاردة. ومع ذلك فإن الأب الجهول يستكثر أن ينادي ابنه بقوله (يا بنيَّ) مسايرة لخطابه إياه بقوله (يا أبت) ، بل إنه يقول له: يا إبراهيم؛ ليؤكد أن بينهما أمداًَ بعيداً من الانفصال العقلي والوجداني.
5 ـ التنويع في أساليب التعليم:
على المعلِّم لكي ينجح في عمله أن ينوِّع أساليبه التدريسية حتى يصل إلى أهدافه. وسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ في هذا الحوار، سعى إلى استمالة والده وكسب ثقته بالسؤال، والتحفيز، والبسط والشرح، والتهديد بالعقاب. ونستفيد من هذه الأساليب وتقديرها أنها هي الأسلوب الأمثل لما يجب أن يكون عليه المعلِّم من سعة أُفق، وقدرةٍ على التكيّف، ومرونةٍ في الأداء. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(228/9)
المعايشة التربوية
سالم أحمد البطاطي
إن التربية المنتجة عملية صعبة ومستمرة تحتاج إلى معايشة مع المتربين، والتربية التي تعتمد على لقاء عابر أو جلسة أسبوعية أو مناسبة عامة ـ فقط ـ تربية فيها نقص وخلل، ومن ثَمَّ لا يكون البناء متكاملاً، فلا نستغرب بعد ذلك من تلك المخرجات المتذبذبة والمتهلهلة التي من أبرز سماتها الالتزام الأجوف. والناظر في سيرة المصطفى # يجد أن قضية المعايشة قضية بارزة في حياته #. يؤكد هذا المعنى عبد الله بن شقيق ـ رضي الله عنه ـ عندما سأل عائشة ـ رضي الله عنها ـ: هل كان النبي # يصلي وهو قاعد؟ قالت: «نعم! بعدما حطمه الناس» (1) . فقد كان # يتصدى للناس، ويعايشهم، ويخالطهم، يستقبلهم ويودعهم، ويتحمل أخطاءهم؛ لذلك حطمه الناس، وأثَّروا في بدنه # حتى أصبح يصلي جالساً، وأسرع إليه الشيب ـ بأبي هو وأمي ـ #. ويؤكد هذا المعنى أيضاً حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: «إن كان رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟» (2) . ويؤيد هذا المعنى أيضاً حديث سماك بن حرب؛ حيث قال: قلت لجابر بن سمرة: كنت تجالس رسول الله #؟ قال: نعم! كان رسول الله # إذا صلى الفجر جلس في مصلاَّه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية، ينشدون الشعر، ويضحكون، ويبتسم #» (3) .
وحسبنا في هذه الورقات أن نلقي الضوء على هذا المفهوم التربوي المهم، وأنا مؤمن بأنها لن تشبع هذا الموضوع حقه، ولكن هي إشارات عابرة، وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم.
1 ـ مفهوم المعايشة:
إن مفهوم المعايشة هو: أن يُظهِر المربي استعداده لمعايشة المتربين واستقبالهم والجلوس معهم، وأن يُشعِرَهم بتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم، وتتمثل أيضاً في إظهار أوقات الاستقبال وتحديدها؛ كالساعات المكتبية، والساعات المنزلية، والأيام، والأوقات المتوفرة للخروج مع المتربين في نشاطاتهم ورحلاتهم، وزياراتهم، وتيسير سبل الاتصال به؛ كالاتصال الشخصي، والكتابي، والهاتفي، ومدى الاستعداد لتذليل وسيلة النقل؛ كالسيارة ونحوها عند الحاجة. والخلاصة: أن كل ما يُظهِرُه المربي من استعداد ليكون قريباً من تلاميذه؛ لتربيتهم، والعناية بحاجاتهم، وحل مشكلاتهم فهو من خاصية المعايشة.
2 ـ لماذا المعايشة في العمل التربوي؟
إن من أعظم المسوِّغات والدوافع التي تدفعنا لتحقيق هذا المبدأ في واقعنا التربوي وتطبيقه ثقلَ الأمانة المنوطة بعاتق المربين. إن عظيم الموقع الذي تبوأه المربي، وثقلَ الأمانة التي تحملها تجعله يجتهد غاية الاجتهاد في نصح من يربيهم، وتوجيههم، والارتقاء بهم، كيف لا؟ وهو المعنيُّ بتلك النصوص العظيمة التي يقول فيها #: «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بِرُّه، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة» (4) . ويقول # أيضاً: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة» (5) ، ويقول # أيضاً: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته ... » (6) ويقول # أيضاً: «ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولاً حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور» (7) . إن هذه النصوص لتدفع كل مربِّ صادق إلى الاجتهاد فيمن يربيهم، والنصح لهم، والسعي الجاد في برهم والإحسان إليهم، وإن تطبيق هذا المفهوم التربوي في الواقع لهو سبيل لتحقيق تلك الأمور المنشودة.
3 ـ المربي الأول # والمعايشة:
يقول #: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم» (1) .
لقد كان للنبي # أوفر الحظ والنصيب من هذا الحديث، وكان الرائد في هذا المجال؛ فقد بُعِثَ معلماً، يتوفر لطلابه في معظم أحيانه، فهم يجدونه في المسجد، فإن لم يكن ففي السوق أو الطريق، فإن لم يكن ذهبوا إلى بيته، وكان # يستقبلهم ويعلمهم ويجيب عن أسئلتهم، ولم يكن من عادته حجب الناس عنه أو ردهم بل كان يستقبلهم، ويبتسم لهم دائماً. عن جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما حجبني رسول الله # منذ أسلمت، ولا رآني إلا ابتسم في وجهي» (2) .
وكان # يعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الخاصية (المعايشة) في الاتصال بالمدعوين والمتربين، والتعرف عليهم والتقرب إليهم، والتأثير فيهم. فهو يعرف أسماءهم، وبعض خصائصهم، وأسماء قبائلهم، وتاريخ تلك القبائل، وأسماء بلدانهم، وخصائص تلك البلدان، ويعرف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذا فيما يتعلق بالأبعدين والمستجدين، أما أصحابه ممن حوله، والمقربون منه، فيعرف كل شيء عنهم تقريباً، حاجتَهم واستكفاءَهم، مرضهم وصحتهم، سفرهم وإقامتهم، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والحكمية والدعوية، ويتحدث مع كلٍ بما يناسبه، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته. عن أنس ابن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله # قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح» (3) .
4 ـ فوائد المعايشة:
للمعايشة فوائد كثيرة يجنيها المربي متى ما طبق هذا المفهوم على أرض الواقع، ولعلنا نشير إلى أهم هذه الفوائد والثمار.
أـ الحصول على الأجر والثواب من عند الله ـ عز وجل ـ:
قال #: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم» (4) .
فمتى ما استشعر المربي هذا الحديث، واستشرف لهذا الأجر العظيم كان ذلك دافعاً له لتحقيق هذا المفهوم مع من يربيهم، فتجده لا يألو جهداً في معايشة ومخالطة المتربين، والصبر عليهم في تربيتهم، والصبر على ما يجده من أذى منهم مقابل ذلك الفضل العظيم.
ب ـ تهذيب أخلاق المربي:
فالمعايشة تهيئ المربي أن يكون قدوة حسنة يقتدى به، ويؤخذ هذا من قوله #: «ويصبر على أذاهم» ففي المعايشة نوع من تحسين المربي لذاته، وتهذيب لخُلُقه وسلوكه خاصةً أنه في مصاف القدوة. إنه لا يكفي أن يكون عند المربي ما يعطيه؛ بل لا بد أن يكون حَسَنَ العطاء حتى يترك عطاؤه أثراً في نفس المتربي.
ج ـ معرفة طاقات المتربين وقدراتهم:
يستطيع المربي من خلال معايشته ومخالطته لمن يربيهم اكتشاف طاقاتهم وقدراتهم ومؤهلاتهم؛ ومن ثَم يستطيع توجيه هذه الطاقات فيما يناسبها، ويوجه هذه القدرات في مظانها، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب من خلال تلك المؤهلات، ولهذا شاهد من السيرة؛ كما في حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ الذي مر قبل قليل: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ... » (5) . وقال #: «خذوا القرآن عن أربعة: عن ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة» (6) .
د ـ معرفة جوانب الضعف في المتربين ومن ثَمَّ معالجتها:
يجتهد المربي ويسعى في تطوير المتربي والارتقاء به. ومن محاور التطوير والارتقاء معرفة ضعفه؛ وذلك من أجل تزويده بالعلاجات المناسبة فيتجاوز هذا الضعف ويرتقي. ومخالطة المتربين ومعايشتهم توفر للمربي ذلك كله. ولقد استطاع # بمعايشته لأصحابه معرفة نقاط القوة لديهم ونقاط الضعف أيضاً، فأثنى على نقاط القوة خيراً ـ كما مر معنا ـ وحذر ونصح وحث في نقاط الضعف من أجل تجاوزها، وإليك هذا الشاهد:
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان الرجل في حياة النبي # إذا رأى رؤيا قصها على النبي #، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي #، وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي #، فرأيت في المنام مَلَكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار. فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لم تراعَ. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي #، فقال: نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل. قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً (7) .
هـ ـ التقويم الصحيح للمتربين:
يحتاج المربي في مسيرته التربوية إلى وقفات تقويمية لمن يربيهم؛ من أجل الارتقاء بهم وإصلاحهم، ولا يستطيع شخص غير المربي أن يصيب التقييم الصحيح في المتربين؛ إذ هو أقرب الناس للمتربين من غيره؛ وذلك بمعايشته لهم، ومخالطته إياهم، والقرب منهم. ولهذا شاهِدٌ من السيرة النبوية؛ فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً على عهد النبي # كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِكُ النبي #، وكان النبي # قد جلده في الشراب، فأُتيَ به يوماً، فأَمَرَ به، فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي #: لا تلعنوه! فوالله ما علمت: إنه يحب الله ورسوله» (1) . لقد زجر النبي # الذي سب ولعن حماراً ـ رضي الله عنه ـ مع أن حماراً كان يشرب الخمر، إلا أن النبي # كان أقرب الناس إليه بمعايشته له، وكان أعلم بأعمال حمار من غيره؛ لذا قال #: «لا تلعنوه! فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله» وهذا يعني أن لحمارٍ محاسنَ وحسنات في الإسلام قد لا يعلمها البعيد عنه، لا يعلمها إلا من كان معايشاً ومخالطاً له، وقريباً منه، وهذا كان متمثلاً في النبي #.
وـ معرفة الخصائص النفسية للمتربين:
النفوس تختلف وتتباين، ولكل نفس خصائصها المجبولة عليها، والمربي الفطن هو الذي يتعرف على خصائص النفوس المتربية، فيبني عليها ماهية التعامل والأسلوب المناسب لكل نفسية، ولا يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين؛ إذ يستطيع المربي معرفة تلك الخصائص، ومن ثَمَّ معرفة الأسلوب المناسب في التعامل مع تلك النفسيات، ولهذا شاهد من السيرة النبوية؛ فعن عمرو بن تغلب ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله # أُتِيَ بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالاً، وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فوالله! إني لأعطي الرجل وأدَعُ الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب» . قال عمرو بن تغلب: «فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله # حمر النعم» (2) .
فتأمل نفاذ نظر الرسول # في معرفة خصائص أتباعه، وتربية كل منهم بما يناسب فطرته وميوله ودوافعه الخاصة به. وعلى ذلك فالمربي ملزم بمعرفة أتباعه وخصائصهم النفسية عن قرب؛ حتى يستطيع التعامل معهم والقيام بتربيتهم على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا بمعايشتهم ومخالطتهم.
ز ـ حل مشاكل المتربين الخاصة والأسرية:
يسعى المربي الناصح في برنامجه التربوي أن يوفر للمتربي الاستقرار النفسي الذي يساعده على الاستجابة، ومن ثم العطاء والإنتاجية، ولكن تبقى المشاكل الخاصة أو الأسرية في المتربين عائقاً لهذا الاستقرار. وبإمكان المربي من خلال معايشته، ومخالطته لمن يربيهم، وبقربه منهم، واهتمامه بهم حل تلك المشكلات وتذليلها، وتجاوز تلك العقبات. ولقد كان # كذلك معايشاً لأصحابه قريباً منهم مهتماً بهم وبحل مشاكلهم، يسأل عن أحوالهم، وعما يكدر خواطرهم، ويظهر ذلك مما يلي:
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: «دخل رسول الله # ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة! ما لي أراكَ جالساً في المسجد في غير وقت صلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» . قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وغمي، وقضى عني ديني» (3) .
5 ـ أثر المعايشة في الاستجابة:
معايشة المتربين ومخالطتهم له الأثر الفاعل في استجابتهم، فبقدر ما يعطي المربي من اهتمام لهذا المفهوم في واقعه التربوي بقدر ما تكون استجابة المسترشدين له، والإقبال عليه.
ففي قصة أصحاب الأخدود تروي لنا الأحاديث أن: الغلام كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، حتى ذاع صيته، وانتشر خبره؛ فأقبل الناس عليه أفواجاً، واستطاع بمعايشته الناس، والقرب منهم أن يكوِّن رصيداً مباركاً من حب الناس له والإقبال عليه، لقد قدم لهم وقته، وجهده، وما أعطاه الله من موهبة وطاقة، وقدموا المهج من أجل الدين الذي أتى به اعتقاداً واستمساكاً. فينبغي للمربي أن يوجه ويذلل طاقاته، وقدراته التي يمتلكها في سبيل الله، وأن تكون مفتاحاً لمعايشة الناس، ودعوتهم بعد ذلك.
ولقد كان لهذه الخاصية (المعايشة) أثر بارز في تفاعل الناس مع الرسول #، وإقبالهم عليه، وتقبلهم منه، ورغبتهم في العلم والعمل الذي يوجههم إليه عن قناعة ومحبة، وكان التلاميذ مندمجين بشخصيته # أيما اندماج، دونما تبذُّل أو تكلُّف، مما جعل الناتج التربوي أصيلاً وعميقاً من جهة، وواسعاً ومنتشراً من جهة أخرى.
«وقد تناول الباحثون في مجال علم النفس وفي مجال العلاقات الاجتماعية هذه الخاصية بالدراسة، وافترضوا أن لها علاقةً ما بمدى إقبال المتعلم أو المتلقي على الأستاذ؛ ليأخذ منه، أو يسأله، أو يقيم علاقة شخصية معه تتجاوز الاستفادة الوظيفية في المجال الأكاديمي إلى الاستشارة الشخصية والاجتماعية. وكان من بين الافتراضات التي توقعها بعض الباحثين، وكانت صحيحة أن: المعايشة، وقرب المربي، وإظهاره لهذا القرب بتوفير الساعات المكتبية يمكن أن يكون متغيراً مهماً يقع بين عزيمة المسترشد على الذهاب للمربي واستشارته، وبين حدوث الاسترشاد فعلاً، ومن ثَمَّ يكون ظهور المربي قريباً منهم مكاناً ووقتاً وشخصاً عاملاً مهماً في التفاعل والتأثير والإقبال، وهذا أيضاً ما أيدته بعض الأبحاث الأخرى، فقد وجد «ولسن وودز» أن هناك علاقة مؤثرة بين توفر الأستاذ أو المربي في ساعات معينة، وظهوره بمظهر المستعد لاستقبال المتعلمين، وقضاء وقت معهم، وبين إقبال هؤلاء المتعلمين عليه واستعانتهم به، وعرض مشكلاتهم عليه؛ وعلى هذا الأساس كانت الأبحاث النفسية التربوية توصي كثيراً بتوفير الوقت وتنظيمه وتحديده للمسترشدين، وأن يواكب هذا استعداد شخصي ونفسي من المربي والمرشد؛ لاستقبالهم والتعامل معهم، مهما صعبت الظروف وتنوعت» (1) .
6 ـ مساوئ كثرة المعايشة:
هل لكثرة المعايشة سلبيات ومساوئ؟
نعم! إن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، والمعايشة ما لم تخضع لما يضبطها فإنها تصبح نقمة بعد ذلك.
وإليكم بعض هذه المساوئ:
1 ـ إلْفُ المتربين للمربي، وإسقاط الكلفة بينهم وبينه؛ قد تؤدي إلى استنفاد المتربين لما عند المربي من طاقة روحية وذخيرة تربوية، خاصة إذا وافق ذلك تفريط من المربي في تربية نفسه.
2 ـ ربما يتحولون من مرحلة التأثر إلى مرحلة النقد.
3 ـ سقوط قضية التوجيه والتربية من يد المربي، فلا تكن بعد ذلك استجابة من قِبَل المتربين.
7 ـ ضوابط المعايشة:
يجتهد المربي الناصح في تحقيق هذا المبدأ في واقعه التربوي ويسعى جاهداً في ذلك، ولكن ثمة ضوابط تضبط تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع يجدر بنا الوقوف معها وتوضيحها إزاء تطبيق هذا المبدأ التربوي، حتى يكون المربي على بصيرة من أمره، وحتى لا يقع في إفراط أو تفريط، وحتى نحفظ للمربي دوره المنشود في ظل هذه الضوابط:
أـ ألا تؤدي إلى التعلق المذموم بالمربي:
الأصل في العملية التربوية أن الفرد الذي يُدعى يجب أن تتركز الجهود التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين، وأن تكون صلته القوية بالله ـ تعالى ـ وبمنهجه القويم وألاَّ يتعلق بالبشر، ولكن كثرة المعايشة والمخالطة غير المنضبطة بالمتربين والقرب منهم قد يسبب ذلك التعلق، لا سيما إن لم تكن لتلك المعايشة أهداف تربوية يسعى المربي لتحقيقها، واستحضارها في معايشته لمن يربيهم. فيجب على المربي التفطن لهذا الأمر، وأن تكون معايشته منضبطة بحيث لا يُكثِر منها، وأن تكون بحدود المعقول، وأن تكون مرسومة الأهداف، مستحضراً لها في معايشته، ومتى ما وجد المربي ظهور هذه الظاهرة في أحد المتربين، فيجب عليه تذكيره بالله، وتحذيره من خطورة هذا التعلق، وربطه بالله، وبالقدوة المعصوم #، وطرق بعض المفاهيم العلاجية كمفهوم الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وغيرها من المفاهيم التربوية (2) .
ب ـ ألا يتغلب جانب التربية الجماعية على التربية الفردية:
التربية تقوم على عنصرين مهمين: الجماعية والفردية، ومتى اتكأت التربية على أحد العنصرين فهي تسعى لتبني قصراً في الرمال. ومعايشة المتربين ومخالطتهم والإكثار من ذلك قد يسبب الاتكاء على جانب الجماعية فقط، فيتربى المتربي على هذا العنصر الجماعي فقط، والذي يعيش الجانب الجماعي وحده سيبقى سمكة في ماء ما تلبث حين تفارقه أو تخرج منه أن تلفظ أنفاسها، وحين يعيش الشاب على التربية الجماعية وحدها، فهو مع ما يحمل من ثغرات كبيرة في شخصيته ما يلبث أن يفقد المتربي إخوانه يوماً، فيرى نفسه أمام عَالَمٍ لم يعتد عليه. فلم يعتد أن يبقى فارغاً، ولم يتربَّ على اغتنام وقته والاستفادة منه.
فيجب على المربي التفطُّن لهذا الأمر خلال معايشته المتربين بحيث يكون هناك توازن في تطبيق المعايشة، وألاّ يكثر منها كثرةً تغلِّب الجماعية على الفردية، وينبغي عليه أن ينمي في المتربين الشعور بالمسؤولية الفردية، وأهمية التربية الفردية وأنها لا تقل أهمية عن الجماعية، متى ما شعر أن هناك تفريطاً في هذا الجانب.
ج ـ ألا تطول بالقدر الذي يؤدي إلى جرأة الشاب على من يربيه، وزوال الكلفة بينهم، بحيث تذوب شخصية المربي بين المتربين:
لأنَّ من فوائد المعايشة ومخالطة المتربين، كسر الحاجز الوهمي بين المربي والمتربين، ومن ثَمَّ تكون الشفافية والأريحية في التعامل فيما بينهم. ولكن هذا لا يسوِّغ أن تكون المعايشة سبيلاً إلى سقوط الهيبة بين المربي والمتربين؛ بحيث تصبح القضية أُخُوَّةً خاصةً مجردةً من معاني القيادة والتوجيه والتربية، فينبغي للمربي التفطن لهذا الأمر، وأن يكون هناك قدر من التقدير والاحترام والهيبة التي تكون بوابة لمعنى القيادة والتوجيه مع المتربين، وألاَّ تذوب شخصيته بكثرة المعايشة؛ بحيث تسقط من يده قضية التوجيه والتربية، فلا تكون بعد ذلك الاستجابة.
د ـ ألا تؤدي إلى إهمال المربي نفسه في الارتقاء:
في خضم معايشة المربي لمن يربيهم، ومخالطته إياهم، والسعي الجاد في تقديم النصح والتوجيه الذي يساهم في الارتقاء بهم، قد ينسى المربي نفسه وأن لها حقاً من الاهتمام والارتقاء بها، فمتى ما أهمل المربي نفسه في جانب الارتقاء بالنفس فلربما قاده ذلك إلى فقدان رصيده في يوم من الأيام، حتى يصبح المربي ليس عنده ما يعطي المتربي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثَمَّ يفقد المربي صفة هي من أهم الصفات؛ وهي صفة العطاء؛ فنحن لا نريد أن يكون المربي كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، إنما نريده أن يكون كالشمس تضيء للآخرين مع حفاظها على خاصية التوهج في نفسها. فينبغي للمربي التوازن بين معايشة المتربين والارتقاء بهم، وبين الارتقاء بنفسه، والتزود بما فيه صلاحها وتزكيتها، وقربها من الله.
لذلك هناك نوع من العزلة الجزئية، يُقْصَد من ورائه العزلة للتربية، حيث يخلو المرء بنفسه ـ أحياناً ـ بقصد التعبد، أو التزود من العلم، أو محاسبة النفس، أو نحو ذلك من الأغراض والمقاصد التربوية. وقد كان من صنع الله لنبيه # أن وفقه قبل نزول الوحي عليه لهذا النوع من العزلة، وحبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء (1) .
هـ ـ البعد عن الدخول في الخصوصيات:
كل الكائنات الحية تحتفظ لنفسها بمجال حيوي تعد اقتحامه نوعاً من العدوان عليها، ويأتي الإنسان على رأس القائمة. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ، ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من هذه الآية: هو السؤال عمَّا لا يعني من أحوال الناس؛ بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم، والاطلاع على مساوئهم (2) .
ولعل مع المعايشة قد يغفل المربي عن هذا الضابط، فيُسَوِّغُ لنفسه السؤال عما لا يعني، والاطلاع على ما يخص من يربيهم دون إذنهم، وكل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12] .
وـ ألا يهمل الوَرَعَ الشرعي الواجب:
ومن ذلك ما يتعلق بصحبة ومعايشة الأمرد؛ فقد يخلُّ المربي بالوَرَع الشرعي في ذلك فيخلو به، أو يسافر معه وحده، أو يبيت معه، أو غير ذلك بمسوغ المعايشة، وهي أمور قد ينشأ عنها نتائج غير محمودة؛ لذا شدد السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ في صحبة الأمرد، والآثار في ذلك كثيرة ومنها:
1 ـ ما رواه البيهقي في الشُّعَب عن بعض التابعين قال: «كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل» (3) .
2 ـ روى أيضاً عن بعض التابعين: «ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه» (4) .
3 ـ روي عن الحسن بن ذكوان أنه قال: «لا تجالسوا أولاد الأغنياء؛ فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى» (5) .
«قد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحَّة، ولا يسوغ أن يُهمَلوا، أو ينهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا، فلم يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس المفسدين، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد.
ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها: عدم الخلوة، أو السفر مع الأمرد لوحده، ومراعاة المبيت وما يتعلق به» (6) .
وـ ألا تؤدي إلى إشغال المتربي معظم وقته، فلا بد من ترك قدر من وقت الفراغ يُعَوِّدُه فيه على استغلال الوقت في تربية ذاته، ويتيح له فرصة الاعتناء بدراسته، وارتباطاته الاجتماعية.
ز ـ التقليل من اللقاءات الفردية في غير البرامج العامة؛ بحجة معايشة المتربي والقرب منه أكثر؛ فكثير منها يتحول إلى علاقة شخصية بحتة تفقد أثرها التربوي.
ح ـ الاقتصاد في المزاح والهزل، وعدم الخروج فيه عن حد الوقار والهيبة.
8 ـ المربي بين المعايشة والعزلة القلبية:
يقول الدكتور سلمان العودة ـ حفظه الله ـ: «هناك العزلة القلبية التي يقصد بها أن المؤمن الملتزم بالمنهج الصحيح، وإن خالط الناس وعاشرهم ببدنه؛ فإنه مزايل لهم بعلمه وقلبه، مفارق ما هم عليه من التعلق بالبدع، أو الولع بالدنيا، أو اتباع الهوى، ساع لنقلهم عما هم فيه إلى حيث السلامة والأمان. فهو يخالط الناس لغاية واضحة، هي العمل على انتشالهم من الضلال إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنَّة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يستطيع أن يؤدي ذلك بصورة صحيحة مؤثرة إلا من دَاخَلَ الناس وعاشرهم، وعرف أحوالهم، وأحسن إليهم بلسانه ويده ـ ما استطاع سبيلاً ـ.
وهذه المخالطة المقصودة تجعل في قلب المخالط شعوراً متميزاً يحميه من التأثر بأعمال الناس وأهوائهم وانحرافاتهم إلى حد بعيد، وبذلك يتمكن من اكتساب الخصائص الخيرة الجميلة التي قد تنقصه، ومن الانتفاع بالتجارب التي تزكي العقل الغريزي وتنميه، ومن الاطلاع على أحوال الزمان وأهله، ومعرفة حقيقة الانحرافات وأبعادها، ليقوم ـ بعدُ ـ بمدافعتها، وعلاجها بالأسلوب الأمثل، دون أن يؤدي به ذلك إلى الذوبان في المجتمع المحيط به، أو التخلي عن علمه، ونيته ودعوته.
وبذلك يجمع بين الخلطة والعزلة، الخلطة بجسده ومدخله ومخرجه، والعزلة بقلبه وعمله ومشاعره، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «خالطوا الناس، وزايلوهم، وصافحوهم، ودينكم لا تَكْلَمُوه» (1) .
9 ـ برامج عملية وخطوات إجرائية للمعايشة:
لعل البعض يطالب بتحويل هذا الكلام النظري إلى برامج عملية وخطوات إجرائية يمكن قياسها وتقويمها، ولا شك في أهمية هذا المطلب، خاصةً أن البعض قد يجيد التنظير والتقعيد الكلامي ويعجز عن ترجمته (كلامياً) في أرض الواقع؛ لذا كان لزاماً علينا أن نضع بعض البرامج العملية والخطوات الإجرائية في معايشة المربي لمن يربيهم، وننبه إلى أهمية استثمار تلك المحاور والخطوات في التوجيه والتربية، وهي كالتالي:
1 ـ مرافقته في بعض الشعائر التعبدية؛ كالصلاة معه، وأخذه لذلك، ومرافقته في العمرة والحج، واتباع الجنائز، وغير ذلك، واستثمار الرفقة في التوجيه والتربية.
2 ـ توثيق الصلة معه بالإقبال والسلام عليه، والتبسم في وجهه، والسؤال عنه وعن أهله، والاتصال به هاتفياً من أجل ذلك، وزيارته في بيته، والسؤال عنه إذا غاب أو تأخر، والقرب منه عند وحدته، وإهدائه، وإجلاسه بجوارك عند مقابلته، والأخذ بيده، وتبادل أطراف الحديث معه في حال اللقاء به، ومناداته بأحب الأسماء إليه، وتكنيته، ومرافقته معك في السفر، ومراسلته، ومعرفة اهتماماته ومحبوباته، وغير ذلك.
3 ـ مشاركته وجدانياً وذلك بالفرح لفرحه؛ كزواجه، أو زواج قريب له، أو نجاحه، أو حصول نعمة له، أو تجددها، أو غير ذلك، وكذلك مشاركته وجدانياً بالحزن لحزنه؛ كموت قريب له، أو مرضه، أو فقدان عزيز عليه، أو غير ذلك، والوقوف معه لمواساته.
4 ـ إشعاره بأن له قيمة ومكانة؛ وذلك بعيادته إذا مرض وتصبيره، والوقوف معه، والتنزه معه، وإجابة دعوته، وإكرامه، والاستماع إلى همومه ومشكلاته، والسعي في حلها، والسعي في قضاء دَيْنِه وحاجاته، وإشعاره أنك تحترم رأيه، وغير ذلك.
5 ـ مرافقته في بعض وسائل الارتقاء والتعلم؛ كحضور الدروس العلمية معه، والمحاضرات، والدورات الشرعية، وزيارة المخيمات الدعوية، والمكتبات الإسلامية، والتسجيلات، ومعارض الكتاب، وغير ذلك.
الخاتمة: وبعدُ: فهذه أخي المربي كلمات وخواطر سطرها أخ لك في الله، لا تعدو أن تكون أراءً شخصية، إن أصاب فيها فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه والشيطان، والله ورسوله بريئان مما يقول.
أيها المربي! شمِّر عن ساعديك، واعزم على العمل، وابحث عن المُعِين، وتوكل على الله، وليكن هدفك سامياً، وهمتك عالية؛ لكي تستطيع أن تنتج بأقصى طاقة، ولا ترضَ بالقليل من العمل، واصدق الله يصدقك.
أيها المربي! إنه لا يكفي للقيام بواجب التربية والتوجيه الكلمات العاجلة، أو البرامج المرتجلة؛ فمن حق الشباب علينا وهم فلذات أكبادنا أن نُعنَى بتربيتهم، فهلاَّ نبادر في خطوات جادة للوصول إلى أسلوب أمثل في التوجيه والتربية! نأمل ذلك ونسأله سبحانه الإعانة ...
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
^
العدد 228
__________
(1) رواه مسلم، صلاة المسافرين وقصرها (1209) . حطمه الناس، أثقلوه وأضعفوه. (2) رواه البخاري، كتاب الأدب (5664) .
(3) رواه النسائي، شرح السيوطي (3/80 ـ 81) . (4) صحيح الجامع (5718) ، السلسلة الصحيحة (349) .
(5) مختصر صحيح مسلم (1211) ، صحيح الجامع (5740) . (6) رواه مسلم، كتاب الإمارة (3408) .
(7) السلسلة الصحيحة (349) ، المشكاة (3697) ، صحيح الجامع (5695) .
(1) صحيح الجامع (6651) . (2) رواه البخاري فتح الباري (7/164) ، (3822) .
(3) صحيح ابن ماجه بتحقيق الألباني (1/3) ، حديث رقم (125) . (4) صحيح الجامع (6651) .
(5) صحيح ابن ماجه، بتحقيق الألباني (1/31) ، رقم (25) . (6) صحيح سنن الترمذي (3/230) .
(7) رواه البخاري (3738 ـ 3739) .
(1) رواه البخاري، كتاب الحدود (6282) .
(2) رواه البخاري، كتاب الجمعة (871) .
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، في باب الاستعاذة (2/94 ـ 95/ح 1555) . وفيه: غسان بن عوف المازني البصري: وهو لين الحديث ـ التقريب. ويشهد له حديث أنس وقد أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب من غزا بصبي للخدمة (6/10 ح 2893) بلفظ نحوه، وأحمد في مسنده (3/159) ، وأبو داود (ح 1541، 1546) ، والترمذي (34844، 3503) ، والبيهقي (6/304) (9/125) ، والحاكم (1/533) ، والنسائي (4/467، ح7973 ـ الكبرى) .
(1) «علم النفس الدعوي» ، د. عبد العزيز النغيمشي، 309 ـ 310، بتصرف يسير.
(2) لمقيده مقال في مجلة البيان بعنوان: «التعلق بالأشخاص لا بالمنهج» ، ينصح بالرجوع إليه في العدد 157، رمضان 1421هـ.
(1) الحديث عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ رواه البخاري في بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله # (1/3) .
(2) تفسير القرطبي (6/332) . (3) شعب الإيمان [ (5395) 4/358] .
(4) شعب الإيمان [ (5396) 4/358] . (5) شعب الإيمان [ (5397) 4/358] .
(6) مقالات في التربية، محمد الدويش، المجموعة الأولى، ص (42) . (1) العزلة والخلطة ـ د. سلمان العودة ـ ص (50 ـ 51) .(228/10)
مستقبل التعليم االشرعي سؤال جريء
محمد بن عبد الله الدويش
كان من أكبر إيجابيات الدعوة الإسلامية المعاصرة ومنجزاتها نشر العلم الشرعي وإحيائه، وقد تمثل ذلك في مظاهر عدة، أبرزها:
ـ إقبال الشباب والفتيات على العلم الشرعي ورغبتهم فيه.
ـ نمو الدراسات الشرعية في التعليم النظامي والإقبال عليها.
ـ انتشار أدوات العلم الشرعي ووسائله من كتاب ومواد صوتية ومرئية.
ـ انتشار حِلَق العلم ودروسه، وإعلاء شأن المنتسبين إليه.
وتمثل الكليات والمعاهد الشرعية مصدراً مهماً في نشر العلم الشرعي؛ فهي تقدم دراسة متخصصة وفق برنامج مدروس يستوعب مجالات العلم الشرعي وتخصصاته، ويبني طالب العلم بناء علمياً متكاملاً.
وهي تتيح تخريج عدد من طلبة العلم ممن يتولون التعليم والتدريس فيها.
كما تسهم في إنتاج العديد من الدراسات الشرعية في برامج الدراسات العليا، والأنشطة العلمية للهيئة التدريسية فيها.
ولقد أسهم اتساع فرص عمل خريجي الدراسات الشرعية في زيادة الإقبال ونموه كمّاً ونوعاً.
لكن سوق العمل بدأت تضيق عن استيعاب خريجي التعليم الشرعي، حتى أصبح العديد منهم يبقى فريسة للبطالة أو يعمل بعيداً عن تخصصه.
إن هذا يفرض على القائمين على التعليم الشرعي والمهتمين به التفكير جيداً وتقويم الواقع بموضوعية، بدلاً من الاكتفاء باتهام الآخرين بأنهم يسعون لتقليص التعليم الشرعي، وبدلاً من الاكتفاء بمزيد من مطالبة الناس بالتوجه للتخصصات الشرعية دون تقديم حلول جديدة لهذه المشكلة.
والذين يسعون إلى تقليص التعليم الشرعي منهم فئة تنطلق من فكر وموقف سلبي تجاه العلم الشرعي، ومنهم من لا يحمل سوءاً لكنه لا يعي الحاجة لهذا النوع من التعليم، فلا ينبغي أن نحشر الجميع في فئة واحدة، ولا أن ننشغل بذم المغرضين بدلاً من الحل والبناء والإصلاح.
وحلول هذه المشكلات تحتاج إلى تفكير جماعي، وإلى جهود من المختصين والمهتمين، وهي تستحق أن تعقد لها ندوات ومجالس ومؤتمرات علمية.
ومما يمكن تقديمه في ذلك ما يلي:
وفي النهاية: ينبغي أن ندرك أننا مسؤولون عن العمل الجاد على نشر العلم الشرعي، وعلى تقديم الحلول لمشكلاته؛ فإن تغير الواقع وتعقده يفرض علينا أن نبحث عن موقع جديد وأدوات جديدة تلائمنا.(228/11)
عندما يكون دين خرافي أساساً لسياسة دولة كبرى
أ. د. جعفر شيخ إدريس
أعني بالدين الخرافي الدين غير العلمي؛ بمعنى أنه لا يقوم على حقائق واقعية، ولا يلتزم بمكارم خلقية. وعليه فليس هنالك من دليل عقلي ولا علمي على دعاواه، بل في العقل والعلم ما يدل على بطلانها. وكلما كثرت مثل هذه الدعاوى في دينٍ ما أو في طائفة تنسب إليه، كان ذلك الدين أو كانت تلك الطائفة أقرب إلى الخرافة. وكلما كان اعتماد من يؤمنون بمثل هذا الدين عليه في تصرفاتهم ومعاملاتهم وسياساتهم، كان ضررهم على أنفسهم وعلى غيرهم أكبر. إن ضرر الخرافات والانحرافات الخلقية يكون أكبر حين ترتبط بالدين، حين يعتقد القائلون بها أنها مما أنزله الله ـ تعالى ـ وأمر به:
{وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ #^28^#) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 28 - 29]
إن السياسة، داخلية كانت أم خارجية، لا تكون مفيدة، بل تكون بالغة الضرر على من تمارَس ضدهم، ثم على من يمارسونها إذا ما أُرسيت على الأباطيل وعلى الظلم.
وهذه الآن هي أكبر مشكلة تعاني منها الولايات المتحدة، ويعاني منها العالم بسببها؛ ذلك أن ساكني بيتها الأبيض اليوم يؤمنون بخرافات دينية ويقيمون عليها سياساتهم الداخلية والخارجية. وقد خرج إلى السوق قبل أشهر كتاب اسمه (الثيوقراطية الأمريكية) (1) ، بيَّن فيه مؤلفه مدى تأثُّر السياسة الأمريكية الراهنة بمعتقدات دينية خرافية، ومدى خطورة هذه السياسة الدينية على الولايات المتحدة. وسأنقل فيما يلي بعض ما جاء في هذا الكتاب ليعلم من لا يعلم أن القول بالتأثير البالغ للمعتقدات الدينية في السياسة الأمريكية ليس تهمة ظالمة يلصقها بها المتطرفون من المسلمين، ولكنها حقيقة يعرفها ويخشى مخاطرها كثير من الأمريكيين.
يبدأ الكاتب الجزء الثاني من كتابه الذي جعله خاصاً بمشكلة التطرف الديني بقوله: «إنه ليس هنالك من أسئلة أهم بالنسبة لأمريكا القرن الواحد والعشرين من السؤال عما إذا كان البعث الديني الجديد وما يصحبه من غرور سياسي سيكون في صالح أمريكا أم في ضررها؟» والكاتب يرجِّح أنه سيكون في ضررها. البعث الذي يشير إليه الكاتب هو العمل الدؤوب الذي تقوم به جماعات دينية توصف بالمتطرفة لجعل معتقداتها أساساً للسياسة الأمريكية. من هذه المعتقدات التي ذكرها الكاتب عن بعض هذه الجماعات إيمانهم بالاتصال المباشر بـ (عيسى) باعتباره إلهاً. ولما كان بوش من المنتمين إلى الجماعة التي تقول بهذا فإنه كثيراً ما يصرح بأن الله (يعني المسيح) هو الذي أمره بغزو أفغانستان، وبغزو العراق، بل ذهب إلى حد القول ـ كما روى عنه الكاتب نقلاً عن إحدى الصحف ـ في بعض الاجتماعات: «أعتقد أن الله يتكلم بوساطتي، ولولا ذلك لما استطعت أن أؤدي مهمتي» . ولم ينفرد بوش بمثل هذه الدعاوى، بل إن (توم دي لاي) الذي كان رئيساً للأغلبية الجمهورية في الكونغرس قال ذات مرة: «إن الله يستعملني دائماً وفي كل مكان للدفاع عن نظرة الكتاب المقدس العالمية في كل ما أفعل وحيثما كنت. إنه هو الذي يدربني» . وكان قد علق لوحة على مكتبه تقول: «قد يكون هذا هو اليوم» أي اليوم الذي ينزل فيه عيسى.
أقول: وقد كانت مثل هذه العقائد الفاسدة هي السبب الجوهري في معاداتهم الشديدة للدين الإسلامي وللمسلمين والتصريح بهذا العداء والدعوة إلى مواقف شديدة العداء للعالم الإسلامي. يقول الكاتب إنه عندما انهار الاتحاد السوفييتي بين عامي 1989 و 1991 سارع المتدينون المحافظون إلى تقديم قائمة بالبدائل: الإسلام قوى الشر الكبرى، العراق بابل الشريرة، صدام حسين المسيح الدجال. هذا أمر لم يصرح به إلا عدد قليل من المسؤولين. أما المبشرون الأصوليون فإن الكثيرين منهم صرحوا به. فهذا (رتشارد سزك) نائب رئيس رابطة المبشرين القومية يقول لجريدة النيويورك تايمز في عام 2003: «إن المبشرين قد استبدلوا الإسلام بالاتحاد السوفييتي. لقد صار المسلمون اليوم هم إمبراطورية للشر» . ويقول: «إن الجماعات التبشيرية الأمريكية تكرر اليوم تجربة الجماعات التبشيرية البريطانية في عداوتها للمسلمين وحماسها للحرب ضدهم. لقد تضاعف عدد المنظمات التبشيرية في العالم الإسلامي. ويقول: «إنه بحلول عام 2003 لم تعد المنظمات التبشيرية مجرد مؤيدة للحرب كما كانت رصيفاتها البريطانية، بل أصبحت من المخططين له» . فبعد عام من استيلاء الجيش الأمريكي على بغداد كانت هنالك ثلاثون منظمة تبشيرية، ويقول: «إن المدير الإداري لرابطة المبشرين القومية صرح لجريدة (لوس أنجلس تايمز) أن العراق سيكون المركز الذي تنتشر منه رسالة المسيح عيسى إلى إيران وليبيا وكل مكان في الشرق الأوسط» . وقال مسؤول في منظمة أخرى: «إن الحال في العراق هي حرب من أجل الروح» . ولهذا فإنه في غضون سنتين انطلقت سبع منظمات تبشيرية في بغداد وحدها.
أقول: إن عاقبة هذه المعتقدات الفاسدة لن تؤدي فقط إلى مثل هذه المواقف العدوانية على المسلمين، بل سيكون ضررها في النهاية على الولايات المتحدة نفسها كما يرى ذلك بعض العقلاء من الأمريكان. فأصحاب هذه المعتقدات لا يرون الحقائق كما هي. فما يراه عامة الناس في الغرب دَواهيَ وكوارث كاضطرابات الشرق الأوسط، وارتفاع أسعار البترول، والسونامي، يرونه هم ـ كما يقول الكاتب ـ مبشرات بقرب مجيء المسيح
وكما أنهم يستبشرون بهذه الكوارث، فإنهم لا يؤمنون بحقائق العلوم الطبيعية التي كانت السبب الأساس للتقدم المادي الذي ينعم به الغرب؛ فهم لا يصدقون بما يقوله العلماء عن الارتفاع العالمي في درجات الحرارة، ولا يلقون بالاً لما يقوله علماء الجيولوجيا من أن النفط بدأ ينضب، وهكذا. وبقولهم هذا يقول الرئيس بوش ويبني عليه مواقفه السياسية.
أقول: ولا يلقون بالاً لما توصلت إليه الدراسات العلمية الأكاديمية بأنه يستحيل أن يكون كل ما في الكتاب المقدس ـ كما يسمونه ـ من كلام الله، لأسباب كثيرة منها أن به اخطاء في وصف الواقع، وهو أمر لا يمكن ان يصدر عن خالق الكون، وأن فيه تناقضاً لا يتناسب مع علم الله المحيط، وهكذا لا يلقون بالاً لمثل هذه الدراسات، بل يحتقرونها ويستمرون في اعتقادهم بأن كل ما في الكتاب المقدس كلام الله، وأنه ليس فيه من خطأ.
وهم لا يؤمنون بمبدأ فصل الدين عن الدولة، بل يريدون لأمريكا أن تكون دولة نصرانية؛ لأنهم يعتقدون أن الشعب الأمريكي هو شعب الله المختار. وهذا هو الذي دعا المؤلف أن يسمي كتابه (أمريكا الثيوقراطية) . وهو الذي يخشى كثير من الأمريكان أن يؤدي إلى انقسامات حادة في المجتمع قد تؤدي إلى العنف وحمل السلاح. ولذلك فإن الكثيرين ممن كانوا يعدون من قادة المحافظين الفكريين والسياسيين ـ ومنهم مؤلف هذا الكتاب ـ بدؤوا يعلنون اعتراضهم على سياسة الحزب الجمهوري بعد أن استولت عليه هذه الفئة ممن يسمون بـ (المحافظين الجدد) ويحذرون من مغبة عواقبها الوخيمة على البلاد. وقد كان من أبرز من اتخذوا هذا الموقف الكاتب الشهير (فوكوياما) في كتاب له جديد.
الغريب أن الدولة التي تسيِّرها مثل هذه المعتقدات هي التي تطلب من بعض البلاد الإسلامية أن تكون أكثر تسامحاً، وأن تنقِّي مناهجها الدراسية من مبادئ الولاء والبراء، وكل ما يرون مثيراً للكراهية.
(1) Kevin Philips, American Theocracy: the Peril and Politics of Radical Religion, Oil, and Borrowed Money in the 21st Century, Penguin Viking, 2006.(228/12)
الطمأنينة الاجتماعية
د. عبد الكريم بكار
مهام أهل البصيرة الاجتماعية عديدة ومتنوعة، ولعل من أجلِّها مراقبة توجهات المجتمع وفتح العين بقوة على الاختلالات الأخلاقية والسلوكية التي تحدث نتيجة التنمية السريعة والتغيرات المتلاحقة. والملاحظ اليوم تعرُّض شيء أساسي في حياتنا للنضوب؛ وهو السكينة والطمأنينة الاجتماعية، وهذه الطمأنينة تتولد في الأساس من الثقة التي يتبادلها الناس في تعاملاتهم. تشكل الثقة جزءاً مهماً من رأس المال الاجتماعي والذي إذا اضمحل فقد لا نستطيع استرجاعه إلا بعد أجيال عديدة. وتلعب (العولمة) دوراً جوهرياً في تراجع الطمأنينة والثقة الاجتماعية بما تشيعه من أخلاق (الصفقة) بما تنطوي عليه من المساومة والخديعة، وإبراز المحاسن، وإخفاء العيوب؛ والأداة التي تستخدم في ذلك هي فن (الدعاية والإعلان) ؛ حيث ينفق العالم اليوم على الدعاية ما يزيد على خمسمائة مليار دولار سنوياً. حين تثق بإنسان فإنك تعتقد أنه متين الخلق وصادق وناصح، وغير مخادع، وأعتقد أن من المسؤوليات الأساسية للخطاب الإسلامي اليوم تقديم نموذج يساعد على تدعيم الثقة الموجودة، واستعادة ما فُقد منها، وهذا النموذج يقوم على السعي إلى التزام الصدق بشكل مطلق، وخدمة الحقيقة والنصح الخالص للناس فيما يُصلح أمور دينهم ودنياهم. وأدنى درجات الصدق يتمثل في موافقة كلام المرء لمعتقده، فإذا كان صانع الخطاب يعتقد أن الأمة تمر بمرحلة حرجة جداً فعليه أن يجهد بذلك، ولو أنه بذلك قد يعرِّض نفسه لأن يوصم بأنه متشائم، وإذا كان يعتقد أن الجانب الروحي من حياة المسلمين يحتاج إلى عناية خاصة فعليه أن يعلن ذلك، ولو علم أنّه بهذا سوف يثير عليه من يرى أن الحديث في المسائل الروحية كثيراً يخفي وراءه نوعاً من الانحراف العقدي ... وهكذا.
هناك إلى جانب هذا درجات من الصدق أسمى وأرقى، وهي تساعد على نحو قوي في تقوية الثقة وإنعاش الطمأنينة الاجتماعية، ومنها:
1 ـ الحرص على أن يكون الكلام مطابقاً للواقع، حيث إنّ الناس حتى يثقوا بنا لا يحتاجون إلى الاطمئنان إلى أننا نتحرى الصدق في كلامنا فحسب، وإنما يحتاجون إلى شيء آخر؛ وهو الثقة بأننا حيث نتحدث في أمرٍ مَّا فإننا نعرف عن أي شيء نتحدث، ونعرف مسؤولية الكلمة، ونتحسس الآثار التي تترتب على الخطاب الجماهيري الواسع الانتشار. ويؤسفني القول في هذا السياق: إن كثيرين منّا يقرؤون الواقع قراءة متعجلة أو ناقصة أو سطحية، ولا يعرفون أنهم يفعلون ذلك، ومن ثم فإنهم لا يتهيبون إطلاق العبارات والكلمات الكبيرة! ومن الملاحظ اليوم أن كثيراً من الناس يهتمون بالاتساق الشكلي للتعبير بوصف ذلك جزءاً من (ثقافة الصورة) التي ترسخها الحضارة الحديثة على نحو واضح، وهذا كثيراً ما يكون على حساب عمق المضمون ودقة المعنى، وهذا يولِّد لدى الناس شعوراً بعدم الثقة بجدية ما يقال ومصداقيته.
2 ـ حين يجد صانع الخطاب نفسه عاجزاً عن قول الحق والإعلان عن الحقيقة، فإن عليه حينئذ أن يسكت، حيث لا يُنسَب إلى ساكتٍ قول. وأعتقد أن الحالة المثالية في مثل هذه الوظيفة تكمن في الحرص على اختيار المجال الذي يستطيع فيه المرء أن يتحدث عن كلِّ أو جلِّ ما يريد. ولا ريب في وجود مشكلة في هذا؛ لكنه يظل أخف ضرراً من أن يقول المرء ما لا يعتقد، أو يشوّه الحقيقة، أو يولِّد لدى الناس انطباعات خاطئة.
3 ـ يُبدي العقل البشري كثيراً من الارتباك أثناء التعامل مع العبارات والجمل والكلمات التي تتحدث عن الكيف أو الصفة؛ وذلك بسبب عدم تمكن الإنسان من صياغة مصطلحات وتعبيرات دقيقة وحاسمة في التعبير عن هذا الأمر، وعلى سبيل المثال فإننا حين نقول: إن فلاناً كريم جداً، أو جبان أو حسن التدبير. فإننا نتحدث في الحقيقة عن معان نائمة، وعن أشياء نسبية، ولهذا فإن درجة اطمئنان الناس لتوصيفاتنا تظل منخفضة، وقابلة للاهتزاز في أي وقت. والأمر معكوس تماماً في حالة استخدام (لغة كمية) حيث إن العقل يُبدي براعة نادرة في الفهم حين نتحدث عن الأعداد والمساحات والمكاييل والأحجام، ومن ثم فإن بلاغة الرقم هي بلاغة العصر الحديث، وإذا أردنا للناس أن يثقوا بما نقول فلنكثر من استخدام الأرقام الموثوق بها قدر الاستطاعة، مع الانتباه إلى ما يمكن أن نسمّيه (المتاجرة بالأرقام) ، بسبب قابليتها الشديدة للتزوير والتزيُّد والمبالغة.
شيء آخر يعزز الطمأنينة الاجتماعية ويدعم التلاحم الأهلي؛ وهو عمل الخير، حيث إن روح التطوع والعطاء المجاني حين تصبح سمة ظاهرة في المجتمع، فإنها تخفف من حدة الشعور بالمنافسة، وحدة الشعور بارتهان الناس للمصالح والمنافع الشخصية، والذي كثيراً ما يدفع إلى الكذب والخديعة والقطيعة، ومن هنا نجد النصوص الكثيرة التي تحث الإنسان المسلم على بذل المعروف، وقضاء حاجات إخوانه، ومساعدة ذوي الظروف الصعبة، والاحتياجات الخاصة. كما نجد النصوص التي توضِّح الثواب العظيم لفاعل الخير ومقدم الخدمة المجانية.
بناء الثقة الاجتماعية يتطلب حرصاً أقل على الأمور المادية، واهتماماً أشد بالمعنويات والاعتبارات الأخلاقية، وهذا يشكل تحدياً كبيراً لنا جميعاً.
... والله المستعان في كل حال.(228/13)
هدى غزة
علي العيسى
الجريمة التي اقترفها الصهاينة المعتدون تحت سمع العالم وبصره والعرض مستمر
وصرختِ صرخةَ موجَعٍ
وأعدْتِ.. لكنْ لا صدَى
وأعرْتِ سمعك علّه
يلقى جواباً للنِّدا
قولي بربك يا هُدى:
أوَجدتِ شهماً مُنْجِدا؟!
* * * * *
ماذا فعلتِ بنا هدى؟!
عرّيتِ.. فانكشف الصّدا
وبدت مهازلُ ضعفنا
بل ما تستّر قد بدا
متنا.. ومات ضميرنا
هَزَأت بنا رِمَمُ العِدى
وتتابعتْ صفعاتهم
وهواننا فَقَدَ المدى
«عشنا» معيشة تافهٍ
وحقارةٍ فوق الردى
وجهادنا في غِمده
أمسى سجيناً مفرَدا
وطموحنا نسي الشجاعة
فاستقلّ المرقدا
نلهو مع الماضي بلا
وعيٍ.. ليوقظنا غدا
والقدس أمسى فكرنا
عنها بعيداً مبعَدا
فينا شجاعة عنترٍ
لكن على أهل الهدى
* * * * *
بئس الذليل لـ «شيكلٍ»
والمقتدي والمقتدَى
«مَهْرُ البغيِّ» لمخبرين
عقولهم ذهبت سدى
أُلْهُوا بغثِّ مطامعٍ
شُغِلوا بزيف المنتدى
هم لاحقوا أبطالهم
ممن أحبّوا أحمدا
لكنهم ما أدركوا
أنّ الكرام المحتدا
وَعَدُوا العدوَّ بدحره
أخذوا لِعَدْنٍ موعدا
لا ترجُ خيراً في الذي
تجفو خطاه المسجدا
لا تيأسي أختي هدى
فلسوف يندم مَنْ بدا
صبراً.. فإن الصبر آ
خره جوائزُ للفدا
صبراً جميلاً.. بأسه
للنصر أضحى مُنشِدا
حبلٌ قصيرٌ عنفهم
وكفاحنا أقوى يدا
فرجٌ قريبٌ قادمٌ
ولسوف يعقبه الندى
الصبر نِعْم المنتهى
والصبر نِعْم المبتدا
الله أقدرُ يا هدى
والله أكبر يا هدى(228/14)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
من هنا وهناك
- ذكرت مصادر في الخارجية الأمريكية أن هناك ارتباطات واتصالات بين تيار الصدر في العراق وبين حزب الله، وأن إيران تحاول استعمال الصدر كقناة اتصال ولتمرير المساعدات عبر العراق وسورية إلى الحزب في لبنان. [الحياة 28/7/2006م]
- صرح وزير العدل الإسرائيلي حاييم رامون للإذاعة الإسرائيلية قائلاً: «الواقع أننا حصلنا في روما على إذن لمواصلة عملياتنا حتى لا يعود حزب الله موجوداً في لبنان وينزع سلاحه» . [وكالات 3/7/1427هـ]
- ذكرت وكالة فرانس برس أن خمسين جندياً إسرائيلياً بمجرد أن عادوا من معركة بنت جبيل انهاروا على الأرض منهكين ووجوههم لا تزال مطلية باللون الأسود للتمويه، وعيونهم كانت تائهة وأبصارهم شاخصة، وأدى اثنان منهم الصلاة بجوار مدرعاتهم. [27/7/2006م]
- قال رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني الدكتور عزيز الدويك من سجن عوفر الصهيوني إن معتقليه قيدوه وعصبوا عينيه لمدة خمس ساعات. وحول إمكانية مبادلة أعضاء التشريعي بالجندي الصهيوني الأسير، قال الدويك: «والله لو قضيت بقية سني عمري وراء القضبان فلن أكون بديلاً ولا ورقة مساومة» . [المركز الفلسطيني للإعلام]
- ذكر تقرير صهيوني صادر عن عن مركز جافي للدراسات الاستراتيجية والسياسية في جامعة تل أبيب أن عدد المسلمين الذين يخدمون بالجيش الصهيوني، يصل إلى نحو 12 ألف مسلم، بزيادة تصل إلى 77 % عما كانت عليه عام 1984، بينهم ما يقرب من 1300 مصري في سن الشباب ينخرطون في الأعمال الشاقة، وتشير معلومات إلى أن هناك ما بين 10 إلى 12 ألف مصري يعملون داخل الكيان الصهيوني، يتركز معظمهم في القدس والناصرة. [موقع مصريون]
- ذكر تقرير رسمي أمريكي أنه أرسل ما يقرب من 3500 من الأمريكيين المسلمين إلى العراق وأفغانستان للقتال مع القوات الأميركية، قتل سبعة منهم ومنح 212 منهم ميدالية العمل القتالي.
[الشرق الأوسط 8/8/ 2006م]
- يرفض الرئيس الباكستاني برويز مشرف الاستماع لنصائح مستشاريه الأمنيين حول ضرورة تقليص حركاته وزياراته لمختلف أنحاء باكستان، مما يتطلب من الأجهزة الأمنية بذل مجهودات مضاعفة لضمان أمنه ولا سيما أنه تعرض قبل ذلك لعدة محاولات فاشلة لاغتياله. ولوحظ مؤخراً أن مشرف يحرص على حمل مسدسه حتى في حفلات الزواج والحفلات المدنية الخاصة والألعاب الرياضية. [الوطن 14/7/1427هـ]
- ذكرت صحيفة صنداي تليجراف البريطانية ان غالبية الأسلحة التي يملكها حزب الله وصلت إليه عن طريق معسكر الزبداني، وهي قاعدة تابعة للحرس الثوري الإيراني في سورية قريبة من الحدود اللبنانية، وأن إسرائيل كانت على علم بشحنات الأسلحة تلك لكنها قررت عدم التدخل انطلاقاً من رغبتها بعدم فتح جبهة جديدة. [السفير اللبنانية 6/8/6..2م]
علامة تعجب
وزيرة الإنجاب
اعتبرت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أن ما يحدث في لبنان هو أحد علامات ميلاد الشرق الأوسط الجديد.
لبنان في العناية المركزة
صرح دان غيلرمان سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة بأن الجيش الإسرائيلي «حساس» فيما يتعلق بالأهداف، وقال للصحافيين في نيويورك: «صدقوني! لدينا القدرة العسكرية والتقنية على محو كل لبنان والحرص على ألا يعيش أحد يوماً آخر، لكن ليست هذه نيتنا، الأمر يتطلب وقتاً أطول ويكبدنا خسائر أكثر؛ لأننا نقوم بذلك بعناية» . [وكالات 3/8/6..2م]
من فضلك: اقلب الشريط
الرئيس الأفغاني حميد كرزاي، عندما سئل عما إذا كان سيطلب المزيد من القوات الأمريكية لمواجهة تصاعد نفوذ طالبان، رد بالقول: «أجل، سنطلب المزيد وسنظل نطلب المزيد، ولن نكف إطلاقاً عن هذا الطلب» .
[وكالات 12/8/2006م]
.. الجيش لم ينتصر
ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن «شعار الحرب كان بداية أن الجيش منتصر» ، وبعد يومين أصبح الشعار «الجيش سينتصر» ، وبعد عدة أيام أصبح الشعار «الجيش يستطيع أن ينتصر» ، ثم تحول الآن إلى «الجيش يجب أن ينتصر» . [الأسبوع القاهرية]
القراءة بالمقلوب
غضب الشيخ أوس خفاجي وهو رجل دين شيعي معروف، من تناول جواد المالكي رئيس الوزراء العراقي الطعام مع مسؤولين أمريكيين أثناء زيارته لواشنطن، وقال للصحافيين: إن كل الرعب الذي يعانيه الشيعة في العراق بسبب السيارات المفخخة والأعمال الإرهابية يستمر تحت حماية الخطط الصهيونية الأمريكية. [وكالات]
مرصد الأخبار
هل تستنسخ الهند التجربة الإسرائيلية في جنوب لبنان؟
في أعقاب التفجيرات في قطار مومباي الذي قتل جراءه نحو 200 قتيل الشهر الماضي، واجه رئيس الوزراء الهندي صيحات متزايدة للانتقام من باكستان سياسياً على الأقل، المحققون ومسؤولو الحكومة الهنود لم يدينوا إسلام أباد مباشرة، غير أنه في المقابلات التلفزيونية وفي مقالات الصحف وعلى مواقع الإنترنت فإن الهنود الغاضبين يطالبون بأن تدمر بلادهم المواقع المشتبه بأنها تابعة لحركات إسلامية جهادية داخل الأراضي الكشميرية الواقعة تحت سيطرة باكستان، مثلما تفعل إسرائيل مع حزب الله في جنوب لبنان، ويطالب حزب بهاراتيا جاناتا - كان في الحكم قبل حزب المؤتمر الحاكم - علناً بأن يعتمد رئيس الوزراء سياسة «الملاحقة الساخنة» ضد الميليشيات التي تتخذ من باكستان مقراً لها، وقد دفعت صيحات المطالبة بالعقاب وارتفاع صوتها الرئيس الباكستاني برفيز مشرف أن يصرح بأن: «لا أحد يستطيع أن يتخذ إجراءات تأديبية ضد باكستان» ، وحذر قائلاً: «إن دفاع البلاد في أيد قوية» .
وكان رئيس الوزراء الهندي أشار بشكل غير مباشر بإصبع الاتهام إلى باكستان بعد يوم من الهجوم على القطار قائلاً إنه ليس بإمكان الإرهابيين القيام بتفجيرات مومباي من دون تأييد من «عناصر عبر الحدود» .
[النيوزويك 8/8/6..2م]
إطلاق الرصاص على القرآن قبل إلقائه على مسجد بولاية تناسي
طالب مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) وزارة العدل الأمريكية بالتحقيق في حادثة شهدتها ولاية تناسي الأمريكية قام فيها معتدون بإلقاء نسخة من القرآن الكريم على مدخل أحد مساجد الولاية بعد أن مزقوها بإطلاق عدة أعيرة نارية عليها، وقالت كير في بيان لها إن مرتكبي الحادثة السابقة صوروا ما قاموا به ووضعوه على شبكة الإنترنت، ويصور شريط الفيديو المنشور رجلين وهما يطلقان عدة أعيرة نارية على نسخة من القرآن الكريم مستخدمين سلاحاً آلياً غير مصرح للمدنيين باستخدامه، حيث قام أحدهما بعد ذلك بإلقاء النسخة الممزقة على مدخل أحد المساجد وهو يتصايح باسم المسيح، وللاطلاع على نسخة من شريط الفيديو يمكن زيارة كير على الموقع التالي: http://www.cair.com/video/kill%5Fthe%5Fkoran ويقول صاحب الموقع إنه يعتبر «أي شخص يقتل مسلماً أو يحاول على الأقل أن يقتل مسلماً» من الأبطال، كما يحتوي الموقع على تعبيرات عنصرية ضد الأفارقة واللاتينيين الأمريكيين، وكانت حوادث مماثلة تعرض لها أمريكيون من أصول عربية وإسلامية في الآونة الأخيرة، منها على سبيل المثال قيام أحد الأشخاص بولاية ماين بإلقاء رأس خنزير أمام المصلين بأحد المساجد.
[1/7/2006م]
الصهاينة بين الخوف والتدمير
يعيش الكيان الصهيوني حالة من الخوف خشية ما يمكن أن تسفر عنه نتائج صراعه مع حزب الله الشيعي في لبنان، وهو ما يدفعهم إلى ممارسة مزيد من القصف والتدمير الوحشي للبنى التحتية والبشرية في لبنان.
وقد دعا رئيس تحرير صحيفة معاريف الإسرائيلية أمنون دانكنر إلى تسوية البيوت والأزقة في البلدات اللبنانية بالأرض وهدم الاستحكامات فوق ساكنيها وتدمير القرى اللبنانية بالكامل، وكتب بالمشاركة مع المعلق في الصحيفة دان مرغليت أنه حان الوقت: «لقساوة القلب وعدم إبداء حساسية مفرطة تجاه القرويين في لبنان، واستغلال تفوقنا الكبير في المدفعية والجو حتى لا يبقى زقاق أو بيت، ولتتحول الاستحكامات في الأرض قبراً وركاماً» ، وكتبت صحيفة هآرتس أنه يجب وقف إطلاق النار فقط بعد تسجيل نصر واضح وباهر وحسم المعارك، ونقلت يديعوت أحرونوت عن مسؤول عسكري إسرائيلي كبير دعوته إلى تحقيق نصر يشفي الغليل ولو تطلب الأمر محو قرى لبنانية بأكملها من أجل وقف الصواريخ.
لكن في المقابل يقول درور إتكس، الناشط في حركة السلام الآن إن «العبرة التي سيأخذها العالم العربي والإسلامي هي أن التطرف مجد» ، ويقول المؤرخ أماتزيا بارام: «لا يمكن أن نظهر على أننا الطرف الخاسر، العالم الإسلامي يضم 1.2 بليون شخص في حين أن إسرائيل تضم ستة ملايين نسمة، إذا توقفنا الآن، فهذا يعني أننا خسرنا» . وكتب المعلق الإسرائيلي بن كاسبيت في صحيفة معاريف: إن إسرائيل أمامها خيار بسيط إما أن تجري أو تقاتل، واستطرد: في كل الأحوال كل العيون مسلطة علينا الآن، هل ستركع إسرائيل وتستسلم أمام صواريخ الكاتيوشا وتزحف عائدة إلى ديارها وهي تنزف، حينها سيبدأ العد التنازلي للحريق التالي.
[نقلاً عن الحياة والنيوزويك والوطن]
إيرانيون يحرقون مساجد السنة في العراق
ذكر موقع هيئة علماء المسلمين نقلاً عن برلماني من السنة أنه تم اعتقال 12 إيرانياً في المقدادية كانوا يستقلون سيارة مدير شرطة قضاء الخالص برفقة أخيه، وكان في داخلها كمية كبيرة من الأسلحة منها القاذفات والبي كي سي ومفرقعات تفجير، وقد تدخل مدير شرطة ديالى لدى مدير شرطة المقدادية لغرض الإفراج عن هؤلاء الإيرانيين والسيارة، وفعلاً تم الإفراج عنهم، وكانوا يقومون بإحراق وتفجير المساجد في المقدادية وتحديداً الاعتداء على مسجد المقدادية الكبير داخل المدينة، كما قاموا بإحراق مجمع تجاري في السوق في المقدادية أيضاً وهذا ما اعترفوا به.
[14/7/2006م]
الجيش العراقي ينتقم من نائب سني بقتل أقاربه
قال محمد الدايني النائب السني في البرلمان العراقي إن وحدات من الجيش نفذت حملة انتقامية على عشيرته بسبب موقفه من كشف الفظائع التي ترتكب ضد السنة في سجن بعقوبة.
وقال محمد الدايني: «بعد كشف حقيقة الأمر في سجن بعقوبة. وكيف تحصل انتهاكات حقوق الإنسان في هذا المعتقل من اغتصاب ومن خلال قلع الأظافر والصعق بالكهرباء بإدارة من هم يعملون ضد الخط الوطني أو الدخلاء على العراق والذين لديهم أجندة خارجية إيرانية؛ حيث كان لهذا الفعل ردة فعل معاكسة، وبعد ساعات من إعلاني عن هذه الانتهاكات قامت قوة من الجيش الحكومي في ديالى وتحديداً اللواء الثاني في الفرقة الخامسة بحملة مداهمات كبيرة على قرى وعشائر الداينية التي أنتمي إليها في بلدروز فاعتقلت عشرات من أبناء عمومتي، وأحرقت الكثير من بساتين أهلي في هذه القرية، ثم بعد 72 ساعة أعقبتها تم قتل 10 من أبناء عمومتي؛ حيث كلفت فرقة من فرق الموت التي تعمل ضمن الأجندة الإيرانية ولها وجود علني في العملية السياسية حيث قامت هذه الفرقة من فرق الموت باختطاف أبناء عمومتي العشرة، وتم الاختطاف بالقرب من السيطرة القريبة من المجمع الصناعي عند مدخل المدينة وقد أعدموهم فرداً فرداً أمام انظار السيطرة الحكومية؛ علماً أن هذه الفرقة كانوا يلبسون ملابس رسمية وسيارت حكومية تستخدمها اجهزة الدولة.
[موقع هيئة علماء المسلمين 14/7/2006م]
طريقة حراس الخميني في قتل السنة
نشر مراسل لمجلة النيوزويك الأمريكية تقريراً عن ارتكاب الميليشيات الشيعية مذابح في حق السنة، وقال كاتب التقرير إن الهجمات في الكوفة والمحمودية فقط خلفت أكثر من 100 قتيل في أسبوع، بينما شهدت بغداد وحدها ارتفاعاً بلغ 40 بالمائة في نسبة التفجيرات وعمليات إطلاق النار، وأكد تقرير للأمم المتحدة هذا «التوجه الصاعد» ، إذ قال إن أكثر من6000 مدني قتلوا في العراق في مايو ويونيو الماضيين فقط.
مشرحة بغداد المركزية ــ التي تتلقى أكثر من 80 جثة يومياً ــ باتت هي الأخرى مسرحاً للمعارك. فهي الآن تحت سيطرة الزعيم الشيعي الراديكالي «مقتدى الصدر» . وأحصى مراسل نيوزويك أكثر من عشرة من أعضاء ميليشيا الزعيم الشيعي هناك، بعضهم يرتدون اللباس الرسمي التقليدي الأسود الذي يرتديه أفراد هذه الميليشيا المسماة بجيش المهدي، وقال أحد العاملين في المشرحة الذي رفض الكشف عن هويته خوفاً من الانتقام إن مهمة هؤلاء مهمة دعائية جزئياً: لضمان عدم صدور معلومات عن المشرحة تتهم جيش المهدي وغيره من الميليشيات الشيعية بأعمال القتل.
وقد اتضح أن معظم الجثث التي سلمت للمشرحة كانت لشباب سنيين، وهو ما يشير إلى أنهم قُتلوا على أيدي ميليشيات شيعية مثل جيش المهدي. وكذلك فإن طريقة القتل أثارت الاستهجان. وقال الأطباء إنه في الأسابيع القليلة الماضية، وصل الكثير من الضحايا أيديهم وأرجلهم مقيدة وأعينهم معصوبة وأفواههم مكممة بالأشرطة اللاصقة. ويبدو أن هؤلاء ماتوا ببطء، بعد قطع أوردتهم أو رسغ أيديهم. ووصف طبيب سني طلب عدم كشف اسمه لأسباب تتعلق بأمنه الشخصي ذلك بـ «طريقة حراس الخميني» وهي الطريقة التي كان يُقتَل بها الجنود العراقيون على يد الجنود الإيرانيين في الحرب العراقية الإيرانية. وبالنظر إلى العلاقة الوثيقة لجيش المهدي بطهران، فإن موظفي المشرحة ليست لديهم أي شكوك بشأن الأسباب التي تدفع مسؤولي ميليشيا الصدر إلى إخفاء مثل هذه التفاصيل. وقال الطبيب: «الحكومة العراقية الشيعية تتهم جماعات المقاومة (السنية) بارتكاب مثل هذه الأعمال. ولكن جميع العراقيين يعرفون أن هذه أفعال جيش المهدي» .
وتنفي وزارة الصحة العراقية رسمياً أي علاقة لجيش المهدي بإدارة المشرحة، مع أن موظفي المشرحة تحدثوا عن مناسبات قام فيها أعضاء تلك الميليشيا الموجودون في المشرحة بتوجيه الأوامر إليهم بعدم وضع بعض الجثث غير المعروف أسماء أصحابها في ثلاجات المشرحة» مثل تلك الجثث التي لأصحابها لحى، على سبيل المثال، وهي التي قد تكون لأئمة سنيين ينظرون إليهم بازدراء. وأسوأ من ذلك، يقولون أيضاً إن أفراد تلك الميليشيا قاموا في بعض المناسبات بالاستيلاء على الهواتف الخلوية للضحايا والاتصال بذويهم لإبلاغهم بمصائرهم. وحين يأتي ذوو الضحايا إلى المشرحة للتعرف إلى الجثث، يقوم أفراد الميليشيات هؤلاء بتتبعهم حيث يقومون بقتلهم أيضاًً.
[نيوزويك 1/8/2006م]
نصف الفلسطينيين يرفضون التخلي عن هدف تدمير (إسرائيل) ف
ي تأييد واضح لمنهج حركة المقاومة الإسلامية حماس، أظهر استطلاعٌ للرأي أنّ الفلسطينيّين يؤيّدون بشكلٍ متزايدٍ التزام حركة المقاومة الإسلامية «حماس» التي ترأس الحكومة الفلسطينية بتدمير الكيان الصهيونيّ، وأظهر الاستطلاع الذي أجرته شركة الشرق الأدنى للاستشارات أنّ 55% من الفلسطينيين يعتقدون أنّ على «حماس» التمسّك بتوعّدها بسحق الكيان الصهيونيّ لترتفع نسبة المؤيّدين عن 44% في أواخر يونيو/حزيران، و25% في يناير/كانون الثاني حين فازت حركة المقاومة الإسلاميّة «حماس» في الانتخابات البرلمانية.
كما أظهر الاستطلاع أنّ أغلبيةً ضئيلة من الفلسطينيين يؤيّدون التسوية السلمية مع الكيان الصهيونيّ في انخفاضٍ كبيرٍ عن استطلاعات سابقة، كما أجابت أغلبية ساحقة ممّنْ تمّ استطلاع آرائهم (97%) بأنّهم يؤيّدون موقف حزب الله من الكيان الصهيونيّ، وقال الاستطلاع: إنّ 91% من الفلسطينيّين يعتقدون أنّه يجب ألا يتمّ الإفراج عن الجنديّ الصهيونيّ الأسير في قطاع غزة دون شروط.
[المركز الفلسطيني للإعلام 7/8/6..2م]
إعلان الحرب على البضائع الإيرانية
أعلنت مجموعات من المقاومة في بغداد ومدن عراقية أخرى عبر آلاف المنشورات بدء الحرب الاقتصادية على إيران، ودعت المواطنين وأصحاب المحلات التجارية إلى مقاطعة البضائع الإيرانية نهائياً، وهددت بمعاقبة كل من يخالف هذه التعليمات ويروِّج لتلك البضائع، ولم تعلن هذه الجهات عن هويتها ولكنها نفذت تهديداتها وحرقت عدداً من المتاجر، وهاجمت التجار المخالفين.
[مجلة الوطن العربي عدد 1524]
الخطوة التالية: غلق المساجد
«اليوم نحن على موعد مع نكتة عربية جديدة، في ظروف عربية ليست جديدة؛ فهناك؛ مسؤول عربي هو الهادي مهنى، يعمل كوزير للداخلية في بلد عربي (مسلم طبعاً) فاجأ بقية المواطنين بقرار يفطس من الضحك، ويدل إلى أي مدى تدهورت أخلاق ونفوس الناس، ويقنعك على الفور أننا أمة تستحق ما يجري لها. إننا، شعوباً وحكاماً، نجري بسرعة الصاروخ نحو المتحف، فمكاننا محجوز إلى جوار الديناصورات والماموث (حيوان غير مهم ومنقرض) .
عقد سيادة الوزير مؤتمراً صحفياً كبيراً ألقى فيه القنبلة وقال: إن تونس أقرت نظاماً جديداً لتنظيم صلاة المسلمين، وشرح جنابه كيف قرر الحاكم صانع التغيير أن ينظم للناس كل شيء، حتى مكان وزمان الصلاة.
فقد ذكرت صحيفة (صوت الحق والحرية) التونسية أن وزير الداخلية حذر المواطنين من مخالفة هذا القرار الخطير، وقال إنه يتعين على كل تونسي الحصول على بطاقة مصلٍّ، وأن يودعها عند أقرب قسم شرطة أو حرس وطني، وستحمل البطاقة صورة المصلي وعنوانه واسم المسجد الذي ينوي ارتياده، وحسب الإجراءات الجديدة يتعين وجوباً على المصلي اختيار أقرب مسجد لمكان إقامته، أو عمله.
وزير الداخلية التونسي حرض أئمة المساجد على المصلين وحذرهم من اختراق هذا القرار، وطالبهم بطرد أي مواطن ليس معه بطاقة صلاة، وأن ينبهوا على هؤلاء المصلين بإبراز البطاقة على باب الجامع كي يُسمح له بالدخول!!
الأجمل أن البطاقة لا تجوز إعارتها ويمنع التنازل عنها للغير، وإذا قرر صاحبها الانقطاع عن الصلاة فإنه مطالب بتسليم بطاقته لأقرب مركز شرطة.
شدد الوزير ونبه وعمل ما عليه، وقال للناس حتى تفهم: من حق كل مصل أداء الصلوات الخمس طبعاً والنوافل، لكن في مسجد واحد فقط.
ولم يترك ثغرة في القرار، ولم يفتهم شيء، حتى زوار تونس من المسلمين أبناء البلاد المنكوبة الأخرى فسيطبق عليهم القرار فور دخولهم، بل عليهم أن يطلبوا بطاقاتهم من نقاط شرطة الحدود، لكن يا لحظ وسعادة الزوار؛ فقد سمح لهم الرئيس ووزيره بالصلاة في أي مسجد، أي مسجد؛ فالبطاقة التي يحملونها مثل الماستر كي تفتح أي باب، لكن عليهم إعادة البطاقة قبل المغادرة.
وللأسف اختلط الأمر على بعض المواطنين ممن لم يفهموا ويستوعبوا، واختلط علينا كذلك كمسلمين في دولة إسلامية وعربية مجاورة لتونس.
فلم نعرف حتى الآن هل يسري القرار على صلاة الفرد في منزله أو في أي مكان؟ وماذا لو صلى جماعة بأهله أو زملائه مثلاً؟ هل يقبل الرئيس صلاته ويضمها إلى ميزان حسناته كمواطن أم تعد لاغية لأنها من غير بطاقة؟!» [خالد الدخيل، الأسبوع القاهرية 7/8/6..2م]
أخبار التنصير
التنصير يفترس كوريا الجنوبية
بثت قناة GOD TV الكورية الجنوبية، وقائع مهرجان مسيحي كبير جرى في أحد الملاعب الضخمة بعنوان (مهرجان النمو المسيحي) حضره قادة كبار وعشرات الآلاف، في اجتماع صلاة كبير، قدموا لهذه الغاية من كل أنحاء كوريا.
ومن المعلومات التي تحدث بها أحد القادة الكنسيين على الهواء مباشرة، أنه في دولة كوريا الجنوبية: لم يكن عدد الذين يعرفون «الرب يسوع» عام 1900 أكثر من مئات محدودة، بينما في العام 2000 الماضي (بعد مائة سنة فقط) سمعنا أن ما يقرب من 95% من أهل كوريا الجنوبية أصبحوا مسيحيين مؤمنين.
وقال مقدم المهرجان إن شعب كوريا الجنوبية مؤمن بنشر الإنجيل، وأن معظمهم رهبان صلاة، في البيت، في المكتب، في المدرسة، في المصنع، ولذلك فهم يدفعون العشور (كما أمر المسيح بحسب زعمهم) أو 10 % من دخلهم، لنشر كلمة الله في قارة آسيا حسب قوله.
في سورية
فشل مؤتمر الحوار الأرثوذكسي الكاثوليكي (مستجدات وتصورات) . [وكالة الأنباء السورية ـ 7/7/2006]
استجابة لتسليم المنطقة العربية بالنشاط التنصيري في أرجائها، استضافت مطرانية الروم الأرثوذكس بمدينة حلب السورية يوم الجمعة 7/7/2006، مؤتمراً عالمياً بكنيسة النبي إلياس، للتنسيق بين الجهود الأرثوذكسية والأخرى الكاثوليكية في المنطقة، تحت عنوان: (الحوار الأرثوذكسي الكاثوليكي. مستجدات وتصورات) ، حضره أكثر من (400) شخصية كنسية عليا، أملاً في توحيد الجهود؛ لكن الرياح أتت بما لم تشته السفن؛ حيث تأججت عدة خلافات عقدية بين الطرفين، أفشلت التنسيق فيما بينهما.
وكانت الحكومة السورية قد استجابت قبل شهرين فقط من هذا المؤتمر (الجمعة 12 يونيو) ، لتنظيم مؤتمر تنصيري رسمي، يهدف إلى تنشيط الوجود الرمزي لبعض الطوائف المسيحية القديمة، تحت عنوان (القديس إفرام والمدى الحضاري) ، وبرعاية الرئيسين السوري بشار الأسد، واللبناني إميل لحود، وحاضر فيه القس البروفسور سيبستيان بروك من جامعة أكسفورد عن جذور النصرانية في بلاد الشام.
مؤتمر تنصيري لوضع خطط الانتشار السريع
[حامل الرسالة 2/7/2006]
وسط حضور ديني وسياسي ومدني حاشد في المركز الملكي بمدينة مونتريال الكندية، وعلى مدى أسبوع متواصل، نظمت كنيسة أنطاكيا الأرثوذكسية في بلاد المهجر، واحداً من أخطر المؤتمرات التي عقدت خلال السنوات العشر الأخيرة، برعاية البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم.
احتل المؤتمر الترتيب الخامس في سلسلة المؤتمرات السنوية لبطريركية أنطاكيا، وعقد تحت عنوان: (الدعوة في بلاد الانتشار) ، وجاء في توصياته الختامية:
- يعمل الآباء على إيجاد وسائل جديدة وجذّابة لإحياء العمل الرعويّ ونشر البشارة.
ـ وضع رؤية مستقبليَّة لكنيستنا في الانتشار.
ـ إنشاء ميزانيّة خاصَّة لتأمين مصاريف نشر البشارة.
ـ إقامة الصلوات الرعويَّة باللغات المحلِّيَّة، مع المحافظة على اللغة العربيَّة.
وبعد المؤتمر، دار حوار موسع مع المشاركين ـ بحسب تعبير المصدر الإعلامي ـ تناول العمل الحركي في مختلف وجوهه.
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
ü «الحقيقة أن السوريين هم طرف في هذا الصراع بين إسرائيل وحزب الله، لكنهم ليسوا مفتاح الحل» .
[ضابط بجيش الاحتلال الصهيوني لصحيفة هآرتس 19/7/2006م]
ü «زعيم حزب الله يجلس الآن تحت أحد مباني مكاتبه التي دمرت بالكامل جنوبي بيروت، لكن يمكنه الهرب وإدارة أعماله كالمعتاد» .
[رئيس الأركان العسكرية الصهيوني، دان حالوتس، بمؤتمر صحفي الإذاعة الإسرائيلية 20/7/2006م]
ü «إذا اضطررنا للعمل ضد الرئيس السوري فسنعمل بكل ما نملك من أسلحة، وبدون المناورات البهلوانية التي نقوم بها بين الحين والآخر فوق قصره» .
[رئيس حزب «إسرائيل بيتينو» اليميني المتطرف أفيجدور ليبرمان - صحيفة هتسوفيه 17/7/2006م]
ü «إن موعد اعتداء حزب الله في الشمال تم تنسيقه مُسبقًا مع إيران بغية تحويل أنظار المجتمع الدولي عن الملف النووي الإيراني» .
[رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، للصحفيين الصهاينة 18/7/2006م]
ü «إذا لم نستيقظ مبكراً لما يحدث الآن من تطورات في البنية التحتية لحماس بغزة، فسنجد أنفسنا بعد عامين في نفس أوضاعنا الحالية أمام حزب الله» .
[رئيس جهاز الأمن العام الصهيوني، الشاباك، صحيفة معاريف 23/7/2006م]
متفرقات عبرية
ü «إيهود أولمرت يريد في الحقيقة وقف الحرب في لبنان، خاصة بعد التطورات على أرض المعركة ومقتل عدة جنود في الجنوب، لكن وزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس، حذرته من إعلان ذلك وإلا فستتوقف جميع المساعدات الأمريكية» .
[صحيفة معاريف - 23/7/2006م]
ü «الحرب تُعكر شمال وجنوب إسرائيل فشركة مايكروسوفت الإسرائيلية طلبت من عمالها بحيفا وعددهم 180 الجلوس في بيوتهم، وأغلقت الشركة، وشركة كوكا كولا فرع إسرائيل ألغت حفلها السنوي في شوارع إسرائيل» .
[صحيفة زي ماركر الاقتصادية العبرية 19/7/2006](228/15)
التعليم ودوره في التغريب العقائدي والسلوكي
د. محمد بن عبد الله الشباني
الواقع المعاصر لحال الأمة الإسلامية تجاه الحملة الشرسة على مقوماتها الدينية، والسلبية تجاه هذه الحملة، واستسلام الأمة بكل فئاتها بقبول مقولات الغرب الصليبي ـ بل لقد تعدى الأمر إلى مساندته في إذلال الأمة، وقبول مقولاته، والسعي الحثيث إلى تبني برامجه الاقتصادية والسياسية والثقافية ـ يثير في النفس السوية كثيراً من التساؤلات عن الأسباب التي جعلت الأمة تشرب كوؤس المهانة دون شعور بالذل؛ حيث تنتهك حرماتها وتسلب خيراتها فلا يتحرك عضو ليهشَّ عن جسد الأمة ما تُصفع به ليل نهار، بل لقد استمرأت الهرولةَ خلف الغرب الصليبي مسلوبة الإرادة؛ حيث احتجبت الحقيقة عن الأنظار، فلا تسمع الأمة إلا ما يقوله الغرب، ولا ترى إلا ما يرغب الغرب أن يراه، إن قال أنصتت الآذان لقوله، وإن أَمَر سارعت الأقدام لتنفيذ أَمْره، فهو السيد المطاع فلا اعتراض على حكمه، الحكيم الذي تؤخذ الحكمة منه، وما علينا إلا أن نسمع فنطيع، فمن خالف أمره، أو شكّك في قوله أو انتقد تصرفه، أو طلب من الأمة رفع هامتها وإزالة الوهن الذي ران على قلبها؛ فهو إرهابي يجب نبذه، ومريض ينبغي عزله؛ حتى لا تنتشر عدوى مرضه إلى الآخرين.
ü مراحل الصراع الأربع مع الغرب:
الإجابة عن تلك التساؤلات مرتبط بمعرفة وإدراك نوع وحجم الصراع مع الغرب النصراني؛ فالصراع معه قد مرّ بأربع مراحل منذ بعثة رسولنا الأكرم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وحتى يومنا هذا؛ كما حدّدها الشيخ (محمود محمد شاكر) ـ رحمه الله ـ (1) .
الأولى: سمّاها صراع الغضب لهزيمة (النصرانية) في أرض الشام ودخول أهلها في الإسلام.
والثانية: مرحلة صراع الغضب المنفجر المتدفق من قلب أوروبا مشحوناً ببغضاء وجاهلية عاتية، وتغطي هذه المرحلة فترة الحروب الصليبية.
والثالثة: سمّاها صراع الغضب المكظوم الذي أورثه اندحار الكتائب الصليبية على العالم الإسلامي.
أما المرحلة الرابعة: فقد سمّاها صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية وتغلل النفوذ الإسلامي في أوروبا من الشرق، بعد أن تراجع النفوذ الإسلامي من الغرب، وخروج المسلمين من الأندلس. لقد نتج عن هذه المرحلة ـ أي: المرحلة الرابعة ـ أنْ حدّدت أهداف القضاء على الإسلام، والاستعداد لحرب صليبية رابعة ـ والتي نحن نعيشها في عصرنا الحاضر تحت ما يسمى بـ «محاربة الإرهاب» ـ بعد أن يتمّ القضاء على المقومات الدينية والحضارية للمسلمين.
ü سياسة الغرب في حربنا:
لقد اتبع الغرب النصراني سياسة طويلة النَّفَس في المرحلة الرابعة؛ والتي تمثّلت في التغريب الثقافي من خلال ما يعرف بحركة «الاستشراق» التي مهّدت للاستعمار، واحتلال البلاد الإسلامية، وتنفيذ المخطط الذي قام على صنع أجيال انفصمت عراها عن الإسلام، ووفق الاستراتيجية التي رسمها الغرب النصراني، والتي أشار إليها القس (زويمر) خلال مؤتمر المبشرين الذي عقد في القدس عام 1935م حيث قال: «إن مهمة (التنصير) التي ندبتكم دول (النصرانية) للقيام بها في البلاد المحمدية ليس إدخال المسلمين في النصرانية، إن مهمتكم أن تُخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، ومن ثَم لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها بذلك، وبذلك تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية» (2) .
ويقول المبشر (تكلي) : «يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني؛ لأن كثيراً من المسلمين قد زُعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية» . ويشير (زويمر) إلى أن التعليم على النمط الغربي هو الوسيلة التي يجب اتباعها. وفي هذا الصدد يقول: «ما دام المسلمون ينفرون من المدارس النصرانية فلا بدّ من أن ننشئ لهم المدارس العلمانية ونسهل التحاقهم بها، هذه المدارس هي التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب» (1) ، ويشير إلى دور التعليم في تغيير الهوية الإسلامية بقوله: «لقد فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية، وأخذت دائرة نفوذه تضيق شيئاً فشيئاً، وانحصرت في طقوس محدودة، وقد تمّ معظم هذا التطور تدريجياً عن غير وعي وانتباه، وقد مضى هذا التطور الآن إلى مدى بعيد ولم يعد من الممكن الرجوع عنه، لكن نجاح هذا التطور يتوقف إلى حدٍ بعيدٍ على القادة والزعماء في العالم الإسلامي وعلى الشباب منهم خاصة، كل ذلك نتيجة النشاط التعليمي والثقافي العلماني» (2) .
لقد بدأ التنفيذ لهذا المخطط النصراني في علمنة العالم الإسلامي والعربي من خلال التعليم والبعثات التعليمية، ووضع المناهج التعليمية بعد غزو (نابليون) لمصر وقيام دولة (محمد علي) في مصر؛ فقد بدأت البعثات إلى فرنسا عام 1805م، وكان لأولئك المبتعثين دور في نشر الفكر الإلحادي الغربي، كما تمّ إنشاء أول مدرسة على النمط الغربي العلماني في مصر وهي مدرسة (الألسن) عام 1836م، وفي هذه السنة تمّ إعداد نظم التعليم في مصر والتي اقتبست من التعليم الفرنسي، حيث كونت لجنة من الفرنسيين الذين وضعوا اللوائح لمراحل التعليم الثلاث؛ والتي هي السمة البارزة في نظم التعليم العربية المقتبسة من النظام المصري.
ü سياسة إفساد الأجيال:
إنّ الناظر في واقع الأمة الإسلامية إلى ما أنتجه التعليم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين من تحقيق لأهداف الاستعمار الصليبي بحرف الأمة عن قيمها وموروثها الحضاري والعقائدي بعد أن دُجِّنت من خلال غسل أدمغة أبنائها من خلال المناهج التعليمية، وتمكُّنِ المدجَّنين من قيادة الأمة في مختلف المجالات، وإبعاد العناصر المدركة لسياسة الغرب النصراني من تسنم مراكز القيادة، لهذا نجد القبول المطلق والتنفيذ السريع لجميع السياسات التعليمية والتربوية التي يمليها الغرب النصراني.
لقد اتّبع الغرب في سياسته التغريبية للعالم العربي والإسلامي أسلوب إفساد المناهج التعليمية بجعلها وسيلة لنشر الفكر الإلحادي، عن طريق بثّ الأفكار الإلحادية في ثنايا المواد الدراسية لمختلف مراحل التعليم، مع العمل على تقليص الفترة الزمنية الخاصة بالمواد الدينية إلى أقصى حدٍّ ممكن، وتجنب تدريس النصوص ذات الارتباط بالانحراف النصراني، مع العمل على تحريف النصوص الشرعية من خلال بترها وتحويرها بالشكل الذي يظهرها على أنها تقدس العقل وحرية التفكير، وإبراز النصوص التي تؤيد حرية التفكير مع فصلها عن سياقها وحرف معانيها، والإشادة بالعلماء المسلمين العقلانيين أو ما يعرف بـ (المدرسة العقلية في التفسير) . ولقد كان من نتيجة ذلك أن ظهرت الدعوة إلى التقارب بين الأديان وقبول الفكرة من علماء يُنسبون إلى الإسلام، ويتسنمون مراكز قيادية في الهيئات العلمية الدينية الإسلامية، وهذه الدعوة إلى التقارب بين الأديان، واعتبار اليهودية والنصرانية ديانات سماوية غير محرفة يخلط المفاهيم، كما أنه مخالفة صريحة للوصف الذي أطلقه القرآن على اليهود والنصارى بأنهم كافرون، فهذا التقارب بين الأديان والقبول به خطأ عقائدي حيث يخالف أهم أساس من أسس العقيدة الإسلامية؛ وهي عقيدة الولاء والبراء.
ومن الأساليب التي اتّبعها الغرب النصراني في إفساد التعليم صرفه عن أن يخدم الأمة في تربية أبنائها وإعدادهم للحياة لخدمة الأمة بخلق التماسك؛ بحيث تتّجه نحو مرمى واحد وتنزع إلى غاية واحدة. فأصبح غاية ما يهدف إليه هو حرف أبناء الأمة وتحقيق ما أوصى به (لويس التاسع) ملك فرنسا من ضرورة إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية؛ بالرشوة والفساد والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمة، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال استخدام التعليم وسيلةً لصرفها عن تحقيق تماسكها، والعمل على أن يكون التعليم وسيلة لغرس الضعف الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي، ومنعه من أن يؤسس على تلبية الحاجات السياسية والاقتصادية والثقافية للأمة.
لقد عمد التغريب إلى التمكين للغة الاستعمارية من خلال نشر اللغات في مختلف مراحل التعليم وإلزاميته؛ وخاصةً اللغة الإنجليزية. ولقد أدّى هذا إلى إضعاف الروابط القائمة بين اللغة العربية والدِّين من خلال إضعاف القدرة اللغوية للأفراد بإضعافه للغة العربية من خلال منافسة اللغة الإنجليزية لها في مختلف مجالات الحياة، وتهميش اللغة العربية في موطنها الأصل. ولا شكّ أن تغلغل اللغة الإنجليزية في حياة الأمة أدى إلى نقص في فهم الدين، ومعرفة أحكامه، والاعتماد على فهمه من خلال فئة محدودة ممن يلتحق بالجامعات الإسلامية والتي أُفسدت أيضاً مناهجها بإدخال كثير من العلوم المزاحمة للعلوم الشرعية، بحيث ضعفت القدرة العلمية لدى خريجي العلوم الشرعية مما أدى إلى ضعف الفاهمين للشريعة الإسلامية ومقاصدها، وقد تولى كثير منهم قيادة الإفتاء؛ فكثيراً ما سمعنا عجباً فيما يتعلق بكثير من الفتاوى المتعلقة بالعديد من القضايا، والمشاكل المعاصرة المستجدة.
لقد نتج عن إفساد المناهج التعليمية القبول والالتزام بما تقرره منظمات الأمم المتحدة، والتي أصبحت النافذة التي من خلالها دلج الصليبيون لتخريب البقية الباقية من قيم الأمة، بالعمل على صرفها عن معتقداتها وتغيير سلوكيات أفرادها، فمثلاً: قامت الأمم المتحدة من خلال منظماتها التعليمية والاجتماعية في السنوات الأخيرة بعد أن تمكّنت فكرة (العولمة) من السيطرة على الأفكار، وأصبح الجميع يلهث للالتحاق بقطار منظمة التجارة العالمية، وفُرِضت الثقافة والقيم الأمريكية على من يركب هذا القطار، فعُقِدت المؤتمرات، وأُصدِرت الوثائق التي تلزم بموجبها طمس معالم ثقافة الأمم. فمن تلك الوثائق التي تبنتها الأمم المتحدة وطُلب من أعضائها الالتزام بها ما يعرف بـ «اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة» فالقبول بهذه الوثيقة من قِبَل الدول العربية والإسلامية، وإقرارها، وتنفيذ بنودها لم يتحقق إلا بعد أن تشربت قيادات الأمة ثقافة الغرب وقيمه من خلال التعليم الذي قام بتشكيل عقولها وتأطير سلوكياتها. فقبول ما جاء في هذه الوثيقة ـ من توجهات والتزامات تُخالف الأسس العقائدية كما نصت عليه مواد تلك الوثيقة ـ إنما يعود في أساسه إلى انحراف في الأفكار وإيمان بما يقوله الغرب ويُطالب به؛ فمن ذلك مثلاً: ما نصّت عليه المادة الخامسة في الفقرة (أ) حيث نصت على: «ضرورة إجراء تغييرات في الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، تمهيداً لتحقيق القضاء على التحيزات والعادات الدينية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الاعتقاد الذي يكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة» وهذه الفقرة تخالف أُسُس وقيم الإسلام من حيث دور الرجل والمرأة في المجتمع. يقول الله ـ تعالى ـ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] ، وقوله ـ تعالى ـ حين أوضح أفضل الوسائل لمقرّ المرأة التي تجب أن تكون فيه في قوله ـ تعالى ـ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] . والمادة العاشرة الفقرة (ج) والتي جاء فيها: «القضاء على أي مفهوم يخص دور المرأة ودور الرجال في جميع مراحل التعليم بجميع أشكاله عن طريق تشجيع التعليم المختلط وغيره من أنواع التعليم» ، والمادة الخامسة عشرة الفقرة (4) ، التي أشارت إلى منح المرأة الحقوق نفسها فيما يتعلق بالتشريع المتصل بحركة السفر، وحرية اختيار السكن، وفي حق الإقامة. وكذا المادة السادسة عشرة الفقرة (ج) ، التي أعطت حق المساواة بين الرجل والمرأة في الطلاق.
ü التعليم حينما يكون في خدمة الغرب:
ولأهمية التعليم كوسيلة لمسح الهوية فقد تبنّت منظمة الأمم المتحدة الخاصة بالتعليم ووضع السياسات التعليمية ـ والتي تعمل على تحقيق أهداف الحركة الصليبية المعاصرة بزعامة أمريكا ـ الدعوةَ إلى برمجة التعليم وفق التصور العلماني الغربي. فمن تلك المؤتمرات ما عُرف بالمؤتمر العالمي (التعليم للجميع) ، الذي عُقِد في العاصمة السنغالية (دكار) في الفترة من 26 ـ 28 إبريل عام. 200م الموافق 21 ـ 23 محرم 1421هـ؛ والذي شارك فيه أكثر من 180 بلداً، وقد صدر عن هذا المؤتمر توصيات تهدف إلى محو الهوية الدينية للدول الإسلامية، ومن أهم الأهداف التي أشير إليها في توصيات ذلك المؤتمر: (العمل على القضاء على أوجه التفاوت بين الجنسين في التعليم الابتدائي والثانوي بحلول عام 2005م، وذلك مرحلة أساسية نحو تحقيق المساواة بين الجنسين في البرامج والمؤسسات والنظم التعليمية بحلول عام 2015م) ، فهذا الهدف هو جعل التعليم يخدم ما يعرف بالمساواة بين الرجل والمرأة، بحيث تسود النظرة التي يتبناها الغرب. وليس هناك دور للمرأة يختلف عن دور الرجل، إنما دورهما دور واحد. وهذا المفهوم يخالف في حقيقته الأسس والأُطر التي قام عليها التشريع الإسلامي في تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة، وهذا الهدف الذي تبناه مؤتمر (دكار) وبدأت الدول الإسلامية بتنفيذه من خلال إعادة صياغة برامج ومناهج التعليم والنظم التعليمية من حيث محتوياتها وأهدافها؛ ومن ثَم إكمال الهدف الذي سعى إليه الغرب الصليبي بتحقيق التغريب الفكري والسلوكي.
ولقد التزم المشاركون في ذلك المؤتمر لتحقيق أهدافه بالعمل على تنفيذ ما جاء في التوصية (و) ، والتي نصت على: «تنفيذ استراتيجيات قطاعية متكاملة تستهدف تحقيق المساواة بين الجنسين في التعليم، وتنطوي على الإقرار بضرورة إحداث تغييرات في المواقف والقيم والممارسات» .
إن القبول بتلك الأهداف والخطط التنفيذية من قِبَل قادة التعليم في الدول العربية والإسلامية التي شاركت في ذلك المؤتمر وغيره؛ إنما تم بعد تمكن التغريب من صياغة المناهج التعليمية التي تم تنفيذها في العالم العربي والإسلامي، وإخراج أجيال من الرجال الذين أصبحوا أكثر اهتماماً بتبني المناهج التعليمية الغربية ونشر الفكر التغريبي من الغرب نفسه، فغاية هذا المؤتمر هو زيادة التغريب الفكري والسلوكي والقضاء على البقية الباقية من التعليم الإسلامي وجعل التعليم وسيلة لهدم مقومات الأمة.
ü القابلية للاستعمار:
إن من مظاهر التغريب التي نتجت عن تبني المناهج التعليمية الغربية ظهور ما سمّاه المفكر الإسلامي (مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ) القابلية للاستعمار؛ حيث نجد أهم مظاهر تلك القابلية تتمثل في حب اللغة الإنجليزية، وتقديمها، وجعلها لغة ثابتة، والعمل على نشر ازدواجية اللغة الأجنبية في المجتمع بمزاحمتها للغة العربية، حتى إن من الغريب ـ مثلاً ـ حين تنظر إلى اللوحات الإرشادية والإعلانية في مدن وطرق الدول العربية والإسلامية تجد اقتران اللغة الإنجليزية باللغة المحلية؛ بل ترجمة الألفاظ الإنجليزية بنطقها لتصبح علامةً أو اسماً تجارياً، وكتابتها باللغة العربية.
ومن تلك المظاهر السلوكية انتشار محاكاة الغرب في مطعمه ومشربه وملبسه، وهكذا.
وفي الفكر نجد بروز الأفكار الحداثية في الشعر والنثر، وتعظيم فلاسفة ومفكري الغرب، وحثالات الممثلين وغيرهم، واعتبارهم قدوة لكثير من شباب الأمة.
إن حماية الأمة من هذا الانحدار لا يمكن أن يتمّ إلا بإعادة صياغة المناهج التعليمية من جديد، وإعادة إحياء الثقافة العربية الإسلامية، وطرد الفكر والثقافة الغربية من مناهجنا ووسائل إعلامنا، وبث وغرس روح الانتماء للفكر والعقيدة الإسلامية.
__________
(1) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، للشيخ (محمود محمد شاكر ـ رحمه الله ـ وقد نشرت ضمن سلسلة كتاب الهلال) ، وهي في الأصل مقدمة طويلة لبحث الشيخ عن الشاعر المتنبي.
(1) «قادة الغرب يقولون: دمِّروا الإسلام، أبيدوا أهله» ، جلال العالم، الطبعة التاسعة، 1970م.
(1،2) «قادة الغرب يقولون: دمِّروا الإسلام، أبيدوا أهله» ، جلال العالم، الطبعة التاسعة، 1970م(228/16)
تأسيس رابطة الصحافة الإسلامية
مندوب المجلة
تداعت مجموعة من الصحف والمجلات الإسلامية للاجتماع في العاصمة اللبنانية بيروت في الفترة من (4 ـ 5/ 6/1427هـ الموافق 30/6 ـ 1/7/2006م) ، حيث تم الاتفاق على إنشاء «رابطة الصحافة الإسلامية» وإقرار نظامها الداخلي، وانتخاب مكتبها الإداري.
النظام الداخلي للرابطة أشار إلى أنها «إطار صحفي تنسيقي مستقل، يضم صحفاً ومجلات إسلامية ملتزمة مرخصة وتصدر بشكل دوري، يسعى إلى التعاون بين المؤسسات الصحفية الأعضاء لخدمة العمل الصحفي المهني وقضايا الأمّة، مع الحفاظ على الاستقلالية الخاصة لكل مؤسسة» .
وحدد الأعضاء المشاركون في الاجتماع التأسيسي للرابطة أهدافها في «النهوض بواقع الصحافة الإسلامية وتطوير أدائها، وتحقيق التعارف بين الصحف والمجلات الإسلامية وتعزيز العلاقات فيما بينها، وتبادل الخبرات، وتنسيق الجهود الإعلامية المشتركة، وتقريب الرؤى والمواقف إزاء القضايا الكبرى، وتشجيع وتحفيز الأبحاث والدراسات العلمية التي تخدم رسالة الصحافة الإسلامية» .
وانتخب أعضاء الرابطة مكتباً إدارياً لمدة عامين ضمّ رئيس تحرير مجلة البيان السعودية (أحمد الصويان) رئيساً للرابطة، ورئيس تحرير مجلة فلسطين المسلمة (رأفت صالح) أميناً للصندوق، ومدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية (شعبان عبد الرحمن) مسؤولاً للاتصالات، ورئيس تحرير صحيفة السبيل الأردنية (عاطف الجولاني) مقرراً.
الصحف والمجلات المشاركة في الاجتماع التأسيسي لرابطة الصحافة الإسلامية:
1 ـ مجلة الأسرة ـ السعودية. 2 ـ مجلة الإسلام اليوم ـ السعودية. 3 ـ مجلة الأسرة العربية ـ مصر.
4 ـ مجلة الإصلاح ـ البحرين. 5 ـ مجلة آفاق عربية ـ مصر. 6 ـ مجلة الأمان ـ لبنان.
7 ـ صحيفة البصائر ـ العراق. 8 ـ مجلة البلاغ ـ الكويت. 9 ـ مجلة البيان ـ السعودية.
10 ـ مجلة البيان ـ الجزائر. 11 ـ صحيفة التجديد ـ المغرب. 12 ـ مجلة الحقائق ـ العراق.
13 ـ صحيفة دار السلام ـ العراق. 14 ـ مجلة الرسالة ـ فلسطين. 15 ـ صحيفة السبيل ـ الأردن.
16 ـ صحيفة الصحوة ـ اليمن. 17 ـ مجلة الفرقان ـ الكويت. 18 ـ مجلة فلسطين المسلمة ـ فلسطين.
19 ـ مجلة منارات ـ السعودية. 20 ـ مجلة المنار الجديد ـ مصر. 21 ـ صحيفة المحرر ـ السودان.
22 ـ مجلة المجتمع ـ الكويت. 23 ـ مجلة المختار الإسلامي ـ مصر. 24 ـ مجلة المستقبل الإسلامي ـ السعودية.
25 مجلة المنتدى ـ اليمن.(228/17)
التيار الأنثوي تراجع الرموز.. بعد زمن التيه!!
آي جي ويلكنسن
نشأ التيار الأنثوي أو ما يسمى بالإنجليزية feminism بسبب تردي أوضاع المرأة في القرن التاسع عشر في الغرب، وقد بدأت الحركة بالسعي إلى الحصول على حقوق المرأة وتحسين أوضاعها، ثم انتقلت بعد انتشار الفكر الاشتراكي من حركة لتحرير المرأة إلى الأنثوية أو التمركز حول الأنثى، ورفضت تقسيم عمل المرأة على أساس الجنس، وركزت على علاقات القوة في الأسرة والكنيسة في المؤسسات التي أسمتها: (تقليدية) . وتشككت في مضمون الذكورة والأنوثة؛ فأكدت أنها مفاهيم نسبية راجعة للبيئة والتنشئة لا لحقيقة قدرات الطرفين، وركزت على الصراع بين الجنسين، ورفعت شعارات مثل (الحرب بين الجنسين) و (الرجال طبقة معادية) و (القتال من أجل عالم بلا رجال) ، ونادت بتفكك الأسرة وانتقدت العلاقات داخلها، وحصر دور المرأة في الأمومة والإنجاب بأنه مجال بيولوجي وهو مجال خاص؛ في حين يعمل الرجل في المجال العام، واعتبرت أن قيم العفة والأمومة إنما هي لتزييف وعي المرأة لتقنع بالمجال الخاص، ونادت باستقلال المرأة مالياً لتتحرر من سيطرة الرجل، ودعت للشذوذ والتلقيح الصناعي كبديل لإقامة علاقة مع الرجل، ثم انتقلت بعد ذلك إلى أفضلية المرأة وطرحت الأمومة بدلاً عن الأبوة.
إن التساؤل الهام الذي يفرض نفسه هذه الايام في خضم مطالبة رائدات الحركة الأنثوية بحقوق المرأة هو: هل نجحت الفلسفة الغربية والحركة الأنثوية في تحقيق طموحات المرأة والتخفيف من معاناتها؟! الإجابة تتضح من خلال التجربة؛ ففي الغرب تخضع فلسفة الثورة الأنثوية إلى مراجعة خطيرة شاملة على ضوء تجربة التطبيق العملي، ومحور تلك الفلسفة كما عبرت عنها (بتي فريدان) في كتابها (سر الأنوثة الغامض) في عام 1963 أن حصر عمل المرأة في البيت وما يتطلبه ذلك من طبخ وحياكة ونظافة، وخدمة زوجها وطاعته والعناية بتربية أطفالها، ضرب من العبودية واستغلال للمرأة وتعويق لقدراتها الفكرية والإبداعية يحولها إلى عالة على الغير وإلى مخلوق سلبي تعس. واستجاب لهذه الدعوة مئات الألوف من النساء خرجن ينشدن السعادة والحرية بعيداً عن مسؤولية البيت والزوج والولد. وبعد سنوات طوال من التجربة المريرة وخيبة الأمل ومحاولة تحقيق المستحيل، وفقدان مشاعر الأمومة، وتفكك الأسرة وتفشي الطلاق والفساد والعنف والانحلال الخلقي والجريمة والانتحار، يعود الغرب إلى مراجعة حساباته، ويبدأ موسم العودة إلى البيت والأسرة لا قهراً ولا إذلالاً، ولا تسليماً بتدني المرأة عقلياً وخلقياً، ولا إنكاراً لإنسانيتها ودورها في الحياة، ولا رفضاً لحقها في الاختيار وفقد خصوصيتها وظروفها، بل عن قناعة رسختها التجربة. وخرجت أفلام سينمائية تلفزيونية أبرزها (زوجة الأب) و (الشيء الحقيقي الوحيد) وكلها تمجد دور المرأة كأم وربة أسرة.
وبرزت كاتبات شهيرات منهن (كارولين جراقليا) و (دانييل كريتندال) يهاجمن الحركة الأنثوية، ويؤكدن أن استرجال المرأة لم يؤد بها إلا إلى التعاسة واليأس، وأنهن لن يحققن طبيعتهن وتطلعاتهن إلا من خلال رعاية أطفالهن وربط أسرهن؛ والعودة إلى البيت لا تقلل من شأنهن ولا تحرمهن حقاً دستورياً أو قانونياً من دون الرجل.
وقد تعرضت الحركة الأنثوية للهجوم في عقر دارها، وهناك منظمات كثيرة مناوئة لها شاركت في مؤتمر المرأة العالمي الرابع، منها على سبيل المثال لا الحصر (منظمة اتحاد المرأة والطفل) و (المنظمات الكاثوليكية) و (منظمة ميرج) ولكن الأمم المتحدة اختارت هذا الفكر في مؤتمراتها؛ لأنه يخدم مصالحها العالمية. وقد اعتمدت الأمم المتحدة في مؤتمرات المرأة المساواة الكاملة والتماثل التام بين الرجل والمرأة في العمل وفي كل شيء متجاهلين أن المرأة قد تحمل وتلد وترضع؛ زاعمين أنه إذا لم تخرج كل النساء للعمل فلن تتحقق التنمية؛ فإذا أُخرجت جميع النساء من بيوتهن للعمل المأجور، وتدرجن جميعاً في سلك الوظائف حتى وصلن إلى مراكز اتخاذ القرار فسيتضرر المسنُّون والعجزة والأطفال في الأسر، وستجد المرأة العاملة نفسها مضطرة إلى استخدام موانع الحمل للتقليل من نسلها لتَعارُض الحمل المتكرر مع التقدم في السلك الوظيفي نسبة لمعاناة الحمل ورعاية الأطفال في السنين الأولى من أعمارهم مع مهام المنزل ومسؤوليات العمل، وهذا ما توصلت إليه الأمم المتحدة في الإحصاء الذي أجرته في أربعين دولة نامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ولاحظت ان العاملات ينجبن عدداً من الأطفال أقل من المتفرغات، وأنهن لا يستخدمن الرضاعة الطبيعية كوسيلة لمنع الحمل لطول غيابهن عن المنزل، وأنهن يملن لاستخدام الموانع الصناعية التي تحتوي على مخاطر صحية كبيرة.
وهناك محاولات في العالم الإسلامي تحذو حذو الأفكار السائدة في الغرب على تغيير اجتماعي يقود إلى آثار سلبية منها:
1 ـ رفض حقيقة وجود اختلاف أو تمايز بين الرجل والمرأة والدعوة إلى القضاء على مثل هذه المفاهيم.
2 ـ تحقير دور الأم المتفرعة لرعاية أطفالها والزوجة المتفرغة لعمل البيت وتسميتها بـ (الأدوار التقليدية والنمطية) والدعوة إلى القضاء عليها.
3 ـ الدعوة إلى التعليم المختلط، وعدم السماح بوضع مستويات تعليمية خاصة بالذكور، والمناداة بتدريب المرأة في المجالات الصناعية، والنص على التلمذة الحرفية والتدريب المهني المتقدم والمتكرر في مادتي التعليم والعمل على قدم المساواة مع الرجل.
4 ـ وصف الأمومة بأنها وظيفة اجتماعية، والدعوة إلى وضع نظام إجازة للآباء لرعاية الأطفال، وإنشاء شبكات من دور رعاية الأطفال حتى تتفرغ الأمهات للعمل.
5 ـ عدم توجه المرأة إلى عمل المرأة التقليدي، والدعوة إلى وضع أنماط ثقافية واجتماعية بديلة تجعل المجتمع يقبل وجود المرأة في مهن مختلفة كثيرة أسوة بالغربية التي قادت التاكسي والشاحنة.
6 ـ الدعوة إلى تعميم استخدام موانع الحمل والترويج لها والدعوة إلى التثقيف بها ضمن مناهج التعليم، والدعوة إلى تحديد النسل ووصفه بأنه حق من حقوق المرأة.
وفي ما يلي عرض لشيء من كتابات بعض المفكرات والكاتبات الغربيات اللاتي خضعن لأفكار الحركة الأنثوية وتأثرن بها لمدة من الوقت ثم تركنها عندما تبين لهن أن هذه الأفكار تجر وبالاً على المجتمع بكل فئاته، وتأتي بمصائب وأزمات نفسية واجتماعية وصحية لا حدود لها؛ سائلين المولى ـ جل وعلا ـ أن ينفع بها.
1 ـ روز ميري تشادويك:
تقول (روز ميري تشادويك) : «لقد نجحت رائدات الحركة الأنثوية في إقناع المرأة والرجل على حد سواء بأن تكريس الجهد للبيت والأطفال تضحية عظيمة بحياة الحرية، وسعي عديم الجدوى لا يعطي أية فرصة لاستعمال الطاقات والذكاء حتى عند المرأة العادية، وأقنعت المرأة بأن الزواج اتفاق قاسٍ وظالم بالنسبة للفتاة التي تتزوج في سن المراهقة أو في بداية العشرينيات من عمرها، ودائماُ ما يذكّرونها وباستمرار بالفرص التي ستفوتها إذا ما أقدمت على الزواج؛ ونتيجة لهذا فقد أصبحت كثيرات من النساء أنانيات ومنهمكات في شؤونهن الذاتية إلى حد يعزين أسباب كافة مشكلاتهن إلى الرجال أو المجتمع أو الزواج. لقد فطنت النساء في الغرب إلى زيف هذه الأقوال والادعاءات، وأُلفت كتب كثيرة، كما ظهرت مقالات كثيرة في هذا المجال لكشف حقيقة هذه الشبهة» .
2 ـ كارولين جاركليا:
هذه المرأة محامية مؤهلة، ولكنها تركت وظيفتها لتكون ربة بيت باختيارها؛ لصرف اهتمامها لزوجها وأطفالها الثلاثة. وتبين في كتابها «الراحة المنزلية» زيف خرافة القول بالمساواة بين الجنسين. تقول (كارولين) : «إن البقاء في البيت ليس في حقيقة الأمر تضحية بحياة الحرية. إن التضحية الحقيقية هي التضحية بالأطفال والزوج؛ وذلك عندما تقصر في العلاقة الحميمية بينها وبين أطفالها. لقد أجبَرَنا أطفالُنا على المكوث معهم في البيت بسبب الجاذبية العاطفية القوية التي يمارسونها علينا. إن قضاء حياتنا في الاهتمام بالأطفال مفيد لنا نحن أيضاً. والمجتمع يكنّ لنا كل التقدير والاحترام بسبب قيامنا بهذا العمل الجليل الذي لا يُقوَّم بمال. لقد حطمت الحركة الأنثوية ثقة المرأة بنفسها عندما اتهمتها بكونها زوجة صالحة وأماً» .
3 ـ دانييل كريتندن:
تقول الكاتبة (دانييل كريتندن) في كتابها «الأشياء التي لم تطلعنا أمهاتنا عليها» (ص 35) :
«لقد كانت لجداتنا حياةٌ جنسية نظيفة ومستورة عن طريق الزواج، وفي الوقت ذاته قمن بمنع الاختلاط الجنسي من الحدوث. فقد قمن بوضع قواعد للمارسة الجنسية، وذلك بممارسته في إطار الزوجية فقط، وكل من تسوِّل له نفسه خرق هذه القواعد من الرجال أو النساء فإنه يتعرض لدفع ثمن غال مقابل ذلك بفرض عقوبة عليهم سواء بإجبارهم على الزواج أو نبذهم وحرمانهم من الصحبة الجديرة بالاحترام. تؤدي القواعد الجنسية إلى خلق تضامن جنسي بين النساء. ولهذا إذا وجد الرجال الفرصة مهيأة لهم للانتقال من امرأة إلى أخرى فإنهم سيفعلون ذلك لا محالة، وسوف يتمتعون بنا ما دُمنا متاحات وميسرات لهم ويستغلوننا استغلالاً فاحشاً لتحقيق مصالحهم. ولكن إذا تضامنت النساء وبدأن يطالبن بالالتزام الحقيقي المتمثل في الزواج بدلاً من ممارسة الجنس مع كل من هب ودب، عندئذ فقط ستتغير الأمور لصالح النساء» .
وتقول الكاتبة في كتابها آنف الذكر: «لن تدرك المرأة حقيقة الحرية حتى تقوم بوضع طفلها الذي من أحشائها بين ذراعيها، ولن تحرز شعور الثقة بالنفس الذي تتوق إليه حتى تصمد أمام ثقل المسؤولية الذي تضعه عليها الأسرة وتتفوق عليها، وهو ثقل يجعل الأعمال التي تقوم بها في المكتب تبدو خفيفة للغاية وليس لها أهمية تذكر. وينطبق الشيء نفسه على الرجل. إننا نعمل على تقوية عضلة من العضلات باستعمالها، وهذا صحيح أيضاً بالنسبة للحب والعاطفة؛ فإنه بطول الانتظار وبدون نتيجة للاقتران بشخص وإظهار المودة له تضمحل قوة الحب والعاطفة وتتلاشى. وهذا لا يعني بأية حال من الأحوال أن يقوم الرجل أو المرأة بالزواج من أي شخص يريد الزواج، أو الاقتران بشخص لا يبعث شكله ومظهره على الحب؛ ولكن ينبغي أن ندرك في سن مبكرة من حياتنا خطورة ضرب المواعيد للِّقاء بشخص من الجنس الآخر ونشرع في الاستعداد للاستقرار في ظل الحياة الزوجية؛ لأنه بلعب الأدوار التي تعلمنا من الصغر تفاديها أو تأخيرها، أي أدوار الزوجة والزوج والأم والأب، سنقيم هويتنا الذاتية، ونقوم بتوسيع مجال حياتنا وتحقيق الشخصية الكاملة التي نرنو إليها.
«ولكن ما زال النقاد يحاولون البرهنة على أن الطريقة التقليدية في التعامل مع الجنس ـ أي بالزواج ـ ليست بحال أفضل مما هو عليه الأمر اليوم من التسيب والحرية الجنسية غير المقيدة، وأن الخسارة الفادحة التي تتعرض لها المرأة بسبب تأخير الزواج أو الأمومة أرجح وزناً من فداحة الخسارة التي تتعرض لها المرأة بإقدامها على الزواج المبكر. إن إعادة النظر في الزواج على أنه عقد ظالم وقاس بالنسبة للمرأة عادةٌ راسخة في المجتمع حتى وسط النساء اللاتي لا يدعين أنفسهن من القائلات بالمساواة بين الجنسين، وقد رأيت عرائس وقد بدا عليهن منظر السعادة والابتهاج يعتذرن إلى ضيوف حفلة الزفاف عن استسلامهن للتقاليد وكأن بعضاً منهن لا زلن يشعرن بالارتباك والضعف عند موافقة امرأة ذكية وطموحة على الزواج. ولكن هل هذا الشعور حقيقي أم أنه عذر سلمته لنا الأجيال السابقة من النساء لتبرير حياة العنوسة المريرة وغير السعيدة؟
وقد كتبت (دي بوفوار) بخصوص المرأة التي تنفق كل شيء في سبيل أنوثتها «بأنها في مرحلة من مراحل عمرها سترسم خطاً عبر الصفحة لتحسب حساباتها؛ وذلك برصد الحساب والمقارنة بين جانبيه السلبي والإيجابي؛ وعندئذ سترتاع عند معرفة القيود الضيقة التي فرضتها عليها الحياة. ولكن الحياة ليست أقل ضيقاً إذا قمت بتضيق كل شيء لمحاولة الهروب من قيود التكوين البيولوجي كما اكتشف هذا الجيل من النساء. وفي آخر المطاف ستشعرين بالاستعداد لتصبحي أماً في سن الأربعين، وسترتاعين بأنك لن تصبحي أبداً كذلك، أو قد تطلّقين زوجك في سن الخمسين، وسترتاعين بأنك لن تتمتعي برفقة حميمة مع رجل آخر ثانيةً. أو قد تحرمين أطفالك من صُحبتك عندما يكونون في طور النمو وذلك لمزاولة وظيفة من الوظائف، وعندئذ سترتاعين عندما يعاملونك باللامبالاة وعدم الاكتراث أو حتى العداء والكراهية عندما تلتمسين صُحبتهم وأنت امرأة عجوز. ولعل هذه أسوأ نتيجة تتعرض لها المرأة عندما تحاول تجاهل أهمية تكوينها البيولوجي. إن محاولة المرأة تجاهل أهمية تكوينها البيولوجي لن يعرض حياتها إلا للمزيد من الخطر والتهديد كلما تقدم بها السن» .
وتقول في الصفحة 135:
«على الرغم من ادعاء رائدات الحركة الأنثوية بأن زمن مكوث المرأة في البيت ولى إلى غير رجعة فإن الحقيقة التي تفرض نفسها هي أن النساء أنفسهن يتمنين البقاء في البيت مع أطفالهن إذا تيسر لهن ذلك؛ فقد جاء في استفتاء أن ثلثاً واحداً فقط من مجموع 7.2 ملايين امرأة متزوجة لهن أطفال يقل سنهم عن ثلاث سنوات يعملن طوال ساعات الدوام. كما أظهرت نتيجة استفساء (روبر ستارتش) حول وجهة نظر المرأة بخصوص العمل أن الأغلبية الساحقة من النساء المتزوجات يفضلن البقاء في البيت إذا تيسر لهن ذلك، وأن هذه الأغلبية في تزايد مطرد منذ عام 1985م» .
وتقول في الصفحة 140:
«تحكي الكاتبة (آن رويف) في كتاب لها عن الأمومة يحمل عنوانFruitful الذي نُشِرَ عام 1996 القصة التالية: «في مدرسة بنات خاصة ومعروفة بالامتياز الأكاديمي في الجهة الشرقية العليا من (جزيرة مانهاتن) الأمريكية قبل عدة سنوات، عقدت مديرة المدرسة لقاءً خاصاً لتتمكن الطالبات من لقاء محامية شهيرة كانت شريكة في مؤسسة قانونية رئيسية في أمريكا، وكان قد طُلب منها حديثاً العملُ في لجنة مدينة مهمة ... وقد تحدثت هذه المحامية إلى الطالبات عن عملها، وتدريبها في مجال المحاماة واهتمامها بالمواضيع التي تطرقت إليها التعديلات الأولى في الدستور الأمريكي. وعندما انتهت من حديثها كان أول سؤال وُجّه إليها عن الساعة التي تصل فيها إلى البيت عائدة من العمل. وكان السؤال الثاني عمَّن يتولى أمر الإشراف على تربية أطفالها أثناء النهار، وكان السؤال الثالث عمَّا يمكنها القيام به إذا تعرض أحد أبنائها للمرض، غير أن الطالبات اللاتي كان معظمهن بنات نساء عاملات ومهنيات تُرِك أمر رعايتهن لخادمات من جامايكا وترينداد لم يُظْهِرْن وداً ولا إعجاباً بهذه المحامية أو بإنجازاتها، ولكنهن بدأن يهمسن بإجاباتها على هذه الأسئلة على سبيل التهكم والسخرية» .
وتقول الكاتبة ما بين صفحتي 69 و 70: «عندما تؤجل المرأة الزواج أو الأمومة فإن هذا التصرف لا يمنعها من صرف تفكير أقل في موضوع الحب كلما تقدم بها السن، بل إن هذا التفكير في هذا الموضوع يكون في ازدياد مطرد يصل في بعض الأحيان إلى حد تسلط هذا الشعور عليها تسلطاً مقلقاً غير سوي. وتتساءل قائلة: لماذا لا زلت وحيدةً؟ لماذا لا أستطيع أن أجد أحداً يكون مرافقاً لي في درب الحياة؟ ما هي مشكلتي بالضبط، وأين الخلل؟ أما صديقاتها اللاتي تزوجن فقد حصل لهن تقدم في حياتهن: فقد بدأن في ادخار ما يكفي لشراء السيارات والبيوت، والأطفال ملؤوا البيت بهجةً وسروراً. قد لا تحب زواج بعض صديقاتها؛ فقد تظن أن زوج أقرب صديقاتها غبي أو أحمق، أو أن تصرف إحدى صديقاتها تغير إلى الأسوأ منذ أن تزوجت، ولكن مع ذلك ستكون متأكدةً بأن حياتهن تقدمت إلى الأمام على الأقل؛ أما حياتها هي فتوقفت تماماً. وكلما تقدم بها الزمن كلما أصبحت أكثر انشغالاً واهتماماً بنفسها وبالعيوب المحتملة في أعين الرجال لتفاديها حتى تكسب ودهم إلى درجة تصير لا تكاد تفكر في شيء آخر غير ذلك» .
5 ـ الأنوثة الساحرة للكاتبة هيلين آندولين:
تقول هذه الكاتبة في كتابها «الأنوثة الساحرة» (ص 286) :
«ألقى نجم الأوبرا ومدير الفرقة الشهير (بيفيرلي سيلز) كلمة أمام خريجات كلية برنارد بنيويورك جاء فيها: لقد تم إقناع المرأة بأنها تستطيع أن تحصل على كل شيء: على الوظيفة والزوج والأطفال. إن الذي تحتجن إليه لتحققن آمالكن هو التعهد والالتزام. لِتُلْقِ إحداكن نظرة وجيزةً على أطفالها. إن أطفالكن لا يريدونكن أن تكنّ ذكيات أو موهوبات أو أنيقات، أو أي شيء آخر من هذا القبيل؛ إنهم فقط يريدون منكن الحب. وسوف يكون هؤلاء الأطفال هم الذين يدفعون الثمن غالياً؛ لأنكن ترغبن في الحصول على كل شيء. فكّرن جيداً في إنجاب مثل هؤلاء الأطفال الذين سيتعرضون للحرمان بسبب بحثكن عن أشياء لا طائل من ورائها. ثم إن عدم الرغبة في الإنجاب ستكون خسارة كبيرة، وتأخير الإنجاب سيزيد من الخطورة على صحتكن وصحة أطفالكن، كما أن إنجاب الأطفال دون تحمل المسؤولية الكاملة تجاههم ستكون مأساةً كبيرة» .
وتقول الكاتبة نفسها (ص 285) وهي تقدم نصيحة للنساء:
محاولة التخفيف من أعباء الزوج:
«عندما ترين زوجك يعاني من وطأة الضغوط والإجهاد، همه في ذلك العمل على تحمل مصاريف الأسرة المتنامية، فإنه قد يخطر ببالك أنه من واجبك البحث عن عمل لمساعدته. لكن على الرغم من أن هذه النية طيبة وتهدف إلى النفع العام على ما يبدو إلا أنه ليس من الضرورة القيام بذلك وليس هناك تبرير لهذا العمل. لقد حبا الله الرجل بالقوة والقدرة على التحمل والبنية العاطفية ليقوم بعمله على أحسن وجه، ولهذا بدلاً من محاولة القيام بمشاركته هذه الأعباء قدمي له العون ليقوى على تحملها. قدّري ما يقوم به حق قدره؛ لأن هذا سيقوي ثقته بنفسه وسيساعده على النجاح في عمله. خفّفي أعباءه في البيت، وذلك بالتقليل من كثرة الطلب على وقته وماله وكذلك بتوفير جو هادئ وخالٍ من الاضطراب يمكّنه من الشعور بالانتعاش» .
وفي حديثها عن أدوار المرأة والرجل كتبت (هيلين آندولين) في كتابها آنف الذكر (الصفحات 100، 101، 102 و103) :
«دور الرجل والمرأة:
دور الرجل:
القائد، الحامي، العائل.
دور المرأة:
الزوجة، الأم، مدبّرة المنزل.
وعلى الرغم من اختلاف دور المرأة والرجل من حيث الوظيفة إلا أنهما يتساويان من حيث الأهمية. ويشبّه (هنري بومان) في كتابه (الزواج للمعاصرين شراكة الزواج بين المرأة والرجل بالقفل والمفتاح اللذين يلتحمان تماماً لخلق وحدة وظيفية) . يقول هنري بومان: «يمكنهما (المفتاح والقفل) معاً تحقيق شيء لا يمكن لأحدهما أن يحققه بمفرده، ولا يمكن بأية حال من الأحوال تحقيق الشيء نفسه باجتماع قُفلين أو مفتاحين؛ فكل واحد منهما مختلف ومتميز عن الآخر ولكن لا يرقى إلى درجة الكمال وحده إلا بوجود الآخر. فدورهما ليسا متشابهين ولا متعاوضين بحيث لا يمكن استعمال أحدهما مكان الآخر. كما أنهما لا يتفوقان على الآخر؛ لأن كلاهما ضروري. كلاهما يحظى بالأهمية نفسها، وكل واحد منهما يمكن الحكم عليه من خلال الوظيفة المنوطة به. إنهما يكمّل بعضهما بعضاً» .
6 ـ تايلر كالدويل:
تعد (تايلر كالدويل) من الكاتبات الذائعات الصيت اللواتي ألَّفن كتباً باللغة الإنجليزية، وقرأ لها الكثير من الناس. وقد كتبت التصريح التالي في الصحافة: «لا يوجد البتة إرضاء تام في أية وظيفة مهما كانت لامرأة مثلي. ليس لديَّ بيت ولا حرية حقيقية ولا أمل ولا سعادة ولا تطلُّع للمستقبل ولا قناعة. إن الأحرى بي أن أطبخ وجبةً لرجل وآتي له بحذائه وأشعر بحماية ساعديه في مقابل ذلك على الحصول على كل الإنجازات التي حققتها والجوائز التي حصلت عليها في الكثير من بقاع الأرض بما في ذلك وسام جوقة الشرف الذي حصلت عليه وأملاكي وكافة حساباتي البنكية. إن هذه الأشياء لا تعني شيئاً بالنسبة لي، وأنا فقط واحدة من ملايين النساء اللاتي يشعرن بالحزن والأسى مثلي» .
ü تقسيم العمل:
من الملاحظ أن تصميم الأسرة الإنسانية يقوم على تقسيم العمل، ومن الملفت للنظر حقاً أن البحوث التي أُجريت في العصر الحديث أثبتت أن هذا التصميم التقليدي هو أفضل طريقة يمكن للذين يعملون معاً أن يتبنوها. فقد شاركت مجموعة من الشركات الصناعية الكبيرة في أمريكا في السبعينيات في القيام بمشروع بحث للتوصل إلى معرفة أفضل نظام للعمل في مجموعات وصولاً إلى حصول الانسجام مع الآخرين في المجموعة وتجنب الخلافات. وقد أُجري جزء من هذا البحث في مجموعات (الهبيز) التي كانت قد ظهرت كحركة في فترة سابقة في الستينيات. يجب الإشارة إلى أن مجموعات (الهبيز) المثالية هذه لا تعتمد على مبدأ تقسيم العمل ولكن على ما يسمّونه: المساواة. ولهذا تجد المرأة تشارك الرجل في كافة المهام اليومية، وتعمل جنباً إلى جنب مع الرجل في الحقول والمصانع، ويشارك الرجل المرأة في أعمال البيت والاهتمام بتربية الأطفال.
والنتيجة المشوّقة التي أسفرت عنها هذه الدراسة هي أن المساواة لم تتلاءم والفروق الموجودة بين الرجال والنساء. فقد برعت النساء في بعض الأعمال في حين برع الرجال في أعمال أخرى. فقد ثبت أن النساء قمن بأعمال الإصلاح والخياطة وتثبيت الأزرار على أحسن وجه وبشكل أفضل بكثير من الرجال بسبب التكوين الرقيق لأيديهن، في حين ثبت أن الرجال قاموا بأعمال خشنة كالدفع والسحب على أحسن وأفضل من النساء. إلا أن الاكتشاف الأكثر إثارة هو أنه عندما عملت النساء جنباً إلى جنب مع الرجال في مجموعات تبين بأنهم لم ينسجم بعضهم مع بعض إطلاقاً؛ فقد ظهر الشقاق بينهم وظهرت العداوة بل الضغينة، وأدى هذا الشقاق في آخر المطاف إلى سقوط تقسيمات إدارية بكاملها.
ويمكن أن نستنتج من هذا البحث أن أفضل طريقة لنجاح العمل في مجموعات هو تقسيم العمل؛ وذلك لأن هذا التصميم تصميم إلهي كامل لا يرقى إليه النقص.
ويُكتب للحياة الزوجية النجاح عندما يقوم الزوج والزوجة بأدوارهما المنوطة بهما بكل تفان ٍوإخلاص؛ كما أن المشاكل الزوجية المستعصية الحل تحصل عندما لا يقوم أحدهما بالأدوار المنوطة به أو عندما يقوم أحدهما بتجاوز حدود أدواره ويقوم بدور الشريك الآخر، أو عندما يُظهِر مبالغة في القيام بهذه الأدوار أو عدم القيام بها إطلاقاً.
ü ثلاث حاجات رجولية:
ولتحقيق المزيد من النجاح في حياتِكِ الزوجية، ساعدي زوجك ليقوم بدوره؛ وذلك بتفهّم ثلاث حاجات رجولية؛ هذه الحاجات الرجولية وما تتطلبه هي الآتي:
ـ حاجته للقيام بدوره الرجولي كقائد وحامٍ وعائل.
ـ حاجته للشعور بأن أسرته تحتاج إليه للقيام بدوره هذا.
ـ حاجته بتفوقه على المرأة في القيام بهذا الدور.
1 ـ حاجته للقيام بدوره الرجولي: يحتاج أولاً: إلى أن يؤدي عمل رب الأسرة وإلى إجلال ودعم أسرته أثناء قيامه بهذه الوظيفة. ويحتاج ثانياً: إلى النجاح في الحصول على لقمة العيش وإلى سد الحاجات الأساسية لأسرته وإلى القيام بهذا العمل بمفرده دون الحاجة إلى مساعدة الآخرين. ويحتاج ثالثاً: إلى القيام بدور الحامي؛ وذلك بتوفير الأمان لأسرته من كل أذى أو خطر أو صعوبة.
2 ـ حاجته للشعور بأن أسرته تحتاج إليه للقيام بدوره: يحتاج للشعور بأن أسرته تحتاج إليه فعلاً كقائد وحامٍ وعائل. وعندما تصبح المرأة قادرةً على إعالة نفسها ومستقلةً عن زوجها فإنها تفقد الشعور بالحاجة إليه، وهذا بالنسبة إليه خسارة فادحة.
3 ـ حاجته بتفوقه على المرأة في القيام بهذا الدور: لا يدرك الرجل دائماً حاجته إلى التفوق على المرأة إلا عند ظهور ظرف يهدده، كأن تتفوق عليه امرأة بذكائها في مجال تخصصه أو عند ارتقائها إلى منصب أعلى أو حصولها على راتب أعلى، أو تتفوق عليه في أي عمل يتطلب القوة أو المهارة أو الكفاءة أو القدرة التي عند الرجال.
ü الفشل الاجتماعي:
مما يُؤسف له أن نرى هذه المبادئ مهجورة بل ومُنتهكة في عصرنا الحاضر؛ فهناك أجيال من الأمّهات الموظفات اللاتي يتنافسن مع الرجال من أجل تحقيق إنجازات أكبر أو مناصب أعلى أو مرتّبات أفضل.
ويبدو الوضع في البيت بنفس الدرجة من السوء تقريباً. فتجد المرأة تتحكّم في الأمور وتحاول إدارة الأمور بطريقتها الخاصة. والشيء المفقود في البيت هو الزوجة التي تثق بزوجها وتتوق إلى توجيهاته الرشيدة وساعده القوي الذي يمكنها الاعتماد عليه. فالساعد الرجولي موجود ولكنها لا ترغب في الاعتماد عليه. فتراها تقوم بالكثير من الأعمال الرجولية بنفسها؛ ولهذا فإن استقلالها بذاتها يجعل من الاهتمام والحماية الذكورية أمراً غير ضروري، وهذا في الحقيقة يعتبر خسارةً لكليهما معاً.
وإذا حُرِم الرجل من وظيفته الذكورية داخل البيت فإنه يشعر بأن أسرته في حاجة أقل إليه كما يشعر أيضاً بأن هناك خللاً مَّا في رجولته. وعندما تقوم المرأة بأعمال رجولية فإنها تنتحل خصائص ذكورية من أجل القيام بهذا العمل على أتم وجه. وهذا يعني فقدانها لأنوثتها ونعومتها. كما أن المسؤولية الرجولية التي تتبناها تزيد من إجهاد حياتها وإلى المزيد من التوتر والقلق. وينتج عن هذا كله فقدان خاصية الهدوء والسكون النفسية التي تحتاج إليها لتقوم بتدبير أمور بيتها بنجاح تام. كما أنها عندما تقضي وقتها وتفني جهدها في القيام بأعمال الرجل فإنها تُهمِل وظائف مهمة في الدور الخاص بها كامرأة.
ü رسائل نابعة من القلب من متخصصين:
وجاء في مقال مطول للكاتبة (كاثي ميرز) ظهر عام 1998 بعنوان (رسائل نابعة من القلب من متخصصين) :
في عشية مؤتمر رعاية الأطفال الذي عُقد في البيت الأبيض، نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية مقالاً يحمل عنوان «أسباب اعتمادنا على دور الحضانة بشكل أخف» بقلم (الدكتور ستانلي جرين سبان) وهو طبيب نفساني وطبيب أطفال وكاتب. وكان آخر كتاب صدر له هو «نمو العقل ومصادر الذكاء المعرّضة للخطر» الذي أصدرته دار إيدسن ويزلي عام 1997م. وفيما يلي مقتطفات مما جاء في هذا المقال:
«في الوقت الذي نسعى فيه لتحسين الرعاية بالطفولة وزيادتها فإننا في الحقيقة نتجاهل حقيقةً أساسية وهي أن معظم محاولات الرعاية بالطفولة المتوفرة في هذا البلد ـ ببساطة ـ ليست جيدة لهم ... فبدلاً من زيادة الاعتماد على دور الحضانة يجب علينا الشروع أساساً في إعادة النظر في طريقة تنظيم العمل والرعاية بالطفولة.
ولقد شاهدنا في أرقى دور الحضانة كثيراً من الأطفال الذين يبلغون ثمانية شهور ييأسون من رؤية المربية، وبدلاً من استقبالها بوجه بشوش يُعرضون عنها وينظرون إلى الجدار؛ ذلك أنها ما إن تمر على أسِرّتهم حتى تتركهم سريعاً لتستجيب لبكاء طفل آخر.
والأسوأ من ذلك أن المربيات في هذه الدور لا تتمكنّ من إنشاء علاقات طويلة مع الأطفال الذين يشرفن عليهم، والسبب في ذلك تغيير المربيات كل سنة في معظم هذه الدور عندما ينتقل الرضع إلى حجرة أخرى. كما تستبدل المربيات بشكل مستمر في دور الحضانة التي تتوفر على تدريب أقل وأجور متدنية، والعدد الكبير للأطفال الذين يلتحقون بهذه الدور.
قام (المعهد الوطني لصحة الطفولة ونموها) بدراسة لدور الحضانة، وقد أظهرت نتائج الدراسة التي لا تَدْعو إلى التفاؤل والارتياح أن الأطفال الرضع الذين يلتحقون بدور الحضانة بكامل ساعات الدوام نسبياً معرضون لفقد الصلة بآبائهم وفقد مودتهم إذا لم يهتم آباؤهم بحاجاتهم ومحاولة إدراك الإشارات العاطفية في المساء عندما يجتمعون بهم، أي إذا لم يوفروا لهم أنواع التجارب التي افتقدوها في دور الحضانة.
إننا في حاجة إلى إعادة تقييم أهمية الأطفال التي ندّعيها. يجب أن يحظى الأطفال بالرعاية والنظر إلى ذلك بالأهمية القصوى وإعطاء الأولوية لهذا الأمر، على نطاق الأسرة والمجتمع على حد سواء.
لقد ثبت لنا أن التفاعلات المستمرة والمتواصلة بين الأطفال وآبائهم أساسية لنمو سليم وصحيح لدماغ وعقل الطفل. وتؤدي أنواع التفاعلات هذه إلى إيجاد مواطنين تأمليين بالإضافة إلى إنشاء روح التناغم والانسجام التي توفر الأجواء للمجتمعات للقيام بعملها بنجاح» .
ويقول الدكتور (جوزيف زنكا) الذي عُين مؤخراً رئيساً للأكاديمية الأمريكية لأطباء الأطفال:
«ليس من المهم الوقت الذي نقضيه ـ نحن أطباء الأطفال ـ مع الأطفال، بل المهم في نهاية الأمر هو الوقت الذي يقضيه الوالدان مع أطفالهما، وأقصد بالوقت هنا الوقت الحقيقي لا الوقت الذي يقضيانه معهم في نهاية اليوم بعد عودتهم من الحضانة. فقد بدأ يظهر للعيان وبشكل واضح أن توفير أفضل البرامج في دور الحضانة لرعاية الطفولة لا يمكن أن يحل محل الوقت الذي يحتاجه الطفل من أبيه وأمه.
نسمع كثيراً هذه الأيام عن حقوق الأطفال، ولكن على الرغم من أهمية ضمان هذه الحقوق لهم إلا أن الشيء الذي نادراً ما يطرح على بساط النقاش هو حقهم في آباء ملتزمين بتحمل مسؤولية تربيتهم تربية كاملة.
يعتبر أطفال اليوم صحياً وبدنياً أفضل من الأطفال في الماضي بكل أنواع المقاييس، إلا أن صحتهم النفسية سيئة وتزداد سوءاً، وهذا انعكاس واضح لسوء معاملة الأطفال وإهمالهم واستخدام العنف في سلوكهم معهم، ولانتشار الأمراض الجنسية والحمل غير الشرعي والمبكر للفتيات المراهقات.
لقد أظهرت نتائج استبيان دوري أُجرِيَ قبل بضع سنوات على أعضاء الأكاديمية أن معظمنا يعتقد وبشدة أنه من المهم جداً أن يتفرغ أحد الوالدين للبقاء مع الأطفال في البيت، وتشتد الحاجة مع صغر سن الأطفال.
وتتحدث الدراسات الواحدة تلو الأخرى في نشرات العلوم الطبية والاجتماعية عن أهمية دور الوالدين الحيوي في تربية الأطفال ...
لا حاجة للاعتذار، فالأمهات غير الموظفات سعيدات بالبقاء في البيت.
تقول (هايدي برينان) الرئيسة السابقة لـ (جمعية الأمهات المختارات البقاء في البيت) : «الأمهات اليوم متعلمات ومنجزات أكثر من نساء الأجيال السابقة من الأمريكيات، وبعد قضاء ما يقرب من عقدين من الزمن في محاولة الموازنة بين البيت والعمل اتجهت الكثير من هؤلاء الأمهات إلى وظائف بساعات عمل أقصر من السابق حتى يتاح لهنَّ قضاء أكبر وقت ممكن مع أطفالهن. وبعكس ما يعتقده الكثير من الناس فإن الأمهات اللاتي اخترن البقاء في البيت بدلاً من الالتحاق بالعمل خارجه اكتشفن أن تربية أطفالهن جهد حسن وعمل معطاء. كما لوحظ أن سبعة ملايين امرأة اخترن ترك العمل والتفرغ لتربية أطفالهن، وهذه النسبة في تزايد مستمر.
وفي الوقت الذي يولي فيه الرأي العام اهتماماً أكثر بالبيت والأسرة؛ حيث يقرر الكثير من الأمهات قضاء وقت أكثر في البيت، تعتقد (جمعية الأمهات المختارات البقاء في البيت) بأننا لا نزال نعيش في مجتمع يجعل الأمر صعباً للنساء من ناحية مالية ونفسية لاختيار البيت. وعلى الرغم من أن العديد من استطلاعات الرأي التي اُجريت في الآونة الأخيرة تشير إلى أن الآباء والأمهات في طول البلد وعرضه يرغبون في قضاء وقت أطول مع أطفالهم، إلا أنه لم يتم الاعتراف ولا دعم اتجاه العمل لساعات أقل وقضاء وقت أطول مع الأطفال في حلبة السياسة العامة. بل حقيقة الأمر أن تشريعات رعاية الطفولة المقترحة تتجاهل اتجاه معظم أولياء الأمور إلى تفضيل توفير كافة الرعاية اليومية لأطفالهم أو معظمها.
ü الإيجابيات قصيرة الأجل وطويلة الأجل للتربية في البيت:
أصدرت (شبكة الأسرة والبيت) مقالاً بعنوان «الإيجابيات قصيرة الأجل وطويلة الأجل للتربية في البيت» جاء فيه:
يمارس الوالدان أكبر تأثير في تشكيل الجانب الأخلاقي لأطفالهم:
لقد تلقينا خطابات من آلاف الأمهات في كافة أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1984، وجاء في هذه الخطابات قناعات الأمهات التالية:
وبعد:
إن عدم زواج المرأة سواء أكانت مطلقة أم لم تتزوج أصلاً يعتبر تعطيلاً لها عن وظيفة هامة من وظائفها. ومن المعلوم أن الزواج هو أكبر وظيفة للمرأة بعد عبادة الله جل ذكره، وزواجها عبادة، والإنسان خُلق لعبادة الله بدليل قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
وعلى الفتاة ألا تمتنع عن الزواج بأسباب غير مقنعة، وألا تجعله مستحيلاً بشروطها الواجب توفرها في فارس أحلامها، ومن المشاهَد الملموس أن هناك بعض الفتيات لا يرغبن في الزواج متذرعات بأعذار واهية أو غير مقنعة؛ فمثلاً هناك من تمتنع عن الزواج حتى تكمل تعليمها الجامعي فإذا حصلت على الجامعة رفضت الزواج إلا بعد الحصول على الماجستير وربما الدكتوراه؛ مما يجعل قطار الزواج المبكر يفوتها فينظر على أنها كبيرة في السن فلا يميل إليها أحد فتلتحق بركب العنوسة، وهي السبب الرئيسي؛ حيث كان يمكنها أن تتزوج ثم تشترط مواصلة تعليمها الجامعي أو العالي.
أما إذا كان تعليمها سيصبح سبباً في عنوستها فإنه والحال هذه يصبح غير ضروري؛ لأنه قد يؤدي إلى مشاكل لا تحمد عقباها؛ وهذه المشاكل يعلمها الجميع: انحرافات عن الطريق السوي، والإصابة بالأمراض العصبية والنفسية والحرمان من الأبناء الذين هم زينة الحياة الدنيا.
فالزواج ليس سجناً بل هو قمة السعادة؛ حيث تصبح المرأة ربة أسرة وتملك بيتاً وأبناءً وشريك حياة يحقق لها من الراحة والسكنى ما لا يحققه الوالد أو الأخ. يقول الله ـ تعالى ـ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فأين كانت ستجد السكنى والرحمة والمودة؟!
يظهر داء العنوسة وينتشر في مجتمعنا المسلم بسبب الانحراف عن الطريق السوي؛ حيث انتشرت هذه الظاهرة بين بناتنا؛ وكما هو معروف أن الإسلام يحث على الزواج في سن مبكرة ويحارب العزوبة؛ لأنها تتعارض مع الفطرة السليمة، ومن المؤكد أن لها آثاراً سيئة؛ حيث إنها إذا انتشرت في المجتمع فإن هناك أمراضاً ستطل برأسها، أمراضاً نفسية، وأمراضاً عصبية، وأمراضاً أخلاقية وغيرها من الأمراض التي تؤثر على الصحة العامة للأفراد والمجتمعات.
ومن المعلوم أن الوالد إذا انشغل عن تربية أبنائه، وكذلك إذا أدى عمل المرأة إلى انشغالها عن الأولاد؛ فهذا بلا شك سيحرم الطفل من عطف أبويه ورعايتهما له وحنانهما عليه، وسيكون مثل اليتيم؛ فهل هناك مبرر يجعل الأمور تصل إلى هذه الدرجة؟!
يجب على الأم ألا تترك تربية الأولاد «وهي مهمة جليلة» للخادمات والمربيات من أجل خروج المرأة للعمل الذي تحفه محاذير كثيرة ينبغي عليها أن تتحرز منها، وترجع إلى كلام أهل العلم الذين أسهبوا في التحدث عنها.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة لدى عديد من الرجال عدم الرغبة في الزواج من الطبيبات وبعض الموظفات؛ وذلك لأنهم ينظرون إلى الطبيبة على أنها لا يمكن أن تحقق الاستقرار الزوجي المطلوب؛ نظراً لمشاغلها في وظيفتها وما يترتب على ذلك من مناوبات ليلية ونهارية مما يضطر الزوج للجلوس في البيت وحيداً، وكذلك متاعب الأزواج في إيصال الزوجات إلى أعمالهن ذهاباً وإياباً وقد يكون ذلك في أوقات غير مناسبة بالنسبة للزوج، وإذا خرجت الزوجة لعملها الليلي وتركت الأطفال والزوج فإن الزوج سوف يصاب بخيبة أمل؛ لأن الزوج لا يصلح للتربية كما تصلح الأم، وقد يقول قائل: إن هذه المسألة يمكن أن تحل بواسطة الخادمات؛ ولكن هل الخادمة مثل الأم؟ وهل كل خادمة مخلصة؟
إننا رأينا المرأة في أحيان كثيرة تمسكت بحقها في العمل، وخرجت تبحث عن نفسها وزاحمت فيه الرجال، وبحثت عن أم بديلة لأولادها، وأقنعت نفسها بأنهم في يد أمينة، حتى لا يتكدر صفوها ولا يحول شيء دون خروجها، وأجادت تحسين مظهرها وضيَّعت في ذلك كثيراً من وقتها ومالها، وتباهت بأنها عاملة ناجحة، وأم ناجحة أيضاً، وانطلى ذلك الكلام عليها وعلى أمثالها؛ وذلك لأنها اعتبرت عملها أسمى غاية وأعظم حق لها لا ينبغي التفريط فيه أو الرجوع عنه.
يقول «هبرت مونتاجنر» العالم الفرنسي المهتم بسلوكيات الأطفال: «وقد لاحظت أن الأطفال الذين يتمتعون بروح قيادية هم في معظم الأحوال أطفال من أسر متفاهمة تسودها روح الحب، تقوم الأم دائماً بالتحدث مع طفلها بلطف وحنان، ولا تقوم بأي عمل عدواني نحوه إن هو أخطأ، بل تعرف كيف توجهه بحزم، ولا تدلله إلى حد التسيب» ، ويوجه نصيحة للأم فيقول: «إن طفلك يردد اللغة التي تعلمها منك، فأي لغة تلقنينه..؟» .
أجريت في أمريكا دراسة عن انحراف الأحداث، اشترك فيها علماء في التعليم وبعض أعضاء الكونجرس ومسؤولون حكوميون، وقد أشارت هذه الدراسة إلى أن أحد أسباب انحراف المراهقين هو أن الوالدين يقضيان أوقاتاً طويلة في العمل، كما أشارت أيضاً إلى أن عدد الأسر ذات العائل الواحد أصبح كبيراً مما يعني قضاء وقت أقل مع الأطفال، وقد أجريت الدراسة على عدد من المراهقين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والرابعة عشرة، وقال (25%) منهم إنهم تناولوا مشروبات كحولية، كما أن أكثر من (18%) منهم يدخنون السجائر، و (13%) يدخنون الحشيش، وأثبتت الدراسة أن واحداً من كل أربعة أشخاص اشترك في نوع ما من الأعمال المؤذية قبل بلوغه السابعة عشرة.
فالأسرة التي يعمل فيها الرجل والمرأة تحطمت؛ لأنها فقدت رباطها العاطفي والوجداني الذي كان يمسك بالأطفال في ترابط، ويبذر في قلوبهم الحب والمودة.
إن لنا في الإسلام ما يغنينا عن كتابات هؤلاء الغربيين بهذا الموضوع، ولكن نود أن نعرِّف بأن الكثير من النساء الغربيات اللاتي كن ينادين بالمساواة بين الجنسين ويتبنين أفكار الحركة الأنثوية الهدامة، بل إن بعضهن كن منظّرات لهذه الحركة، قد ثُبن إلى رُشدهن وعرفن حقيقة هذه الحركة المفلسة؛ فهل فكرت بعض نسائنا ممن تأثرن بهذه الحركة في العودة إلى دينهن ونبذ أفكار هذه الحركة الهدامة؟
آي. جي ويلكِنسُن (*)
__________
(*) مسلمة بريطانية مقيمة في المملكة العربية السعودية.(228/18)
صفوان.. يطارد الجراد
عبد الغني محمود عبد الهادي
اعتاد صفوان حياة حرّة كريمة على تُراب وطنه، حيث عاشَ حالماً كفراشة نيسان. وكان دَخْلُ والده يكفل له من العيش أحسنه.
فقد كان لوالده حقل مزروع بالأشجار المثمرة؛ من برتقال وإجَّاص وليمون وتفاح وغيرها ... ذات يوم رأى صفوان في الحلم أن الجراد يغطي أرض مزرعته، فقام مذعوراً بعينين مفتوحتين متوقّدتين، يحدّث والديه بما رأى.
طمأنه والده وهو يرى في ولده معاني الرّجولة والانتماء، وطلب منه أن يرافقه حيث مخزن الحبوب التابع لهم.
هناك أطلعه أبوه على كافّة الاحتياطات، التي اتّخذها لمواجهة مثل هذه الحالة من غزو جراد وحشرات وغيرها، قد تزحفُ إلى الحقل.
كان أبو صفوان قد اشترى أصنافاً عدّة من المبيدات والرشاشات ليضمن سلامة حقله. كبرت الدَّهشة في عيني صفوان مما قاله أبوه، وبحماس الرجال طلب من والده أن يدرّبه على كيفية استعمال المبيدات وإعدادها لرشّ النبات، وبعد أن اطمأن لمعرفة ابنه بالطريقة أثنى عليه وراح يُعدّه ليومٍ لا بُد منه!
في أحد الأىام، قام صفوان مع أصدقائه برحلةٍ مدرسيةٍ إلى أحد المروج المترامية فوق جبل الكرمل ... هذا الجبل الفلسطيني الذي يقف بشموخ وإباء في شمال الوطن الفلسطيني، مثل شعبه النبيل الأبي منذ أن خلقه الله.
هُناك وعلى ربوع هذا الجبل، وفي شعاب مروجه الوسيعة، جال صفوان وهام وكاد أن ينسى نفسه بين أزهار الكرمل ونوّاره، أخذته الدّهشة والإعجاب وجعلته يُطرِق مليّاً لجمالِ هذا الجزء العزيز من بلاده الحبيبة، وراح يحدّث أصدقاءه كمحاضر بهم عن ضرورة الحفاظ على هذا التّراب الذهبي، وتلك الرائحة التي تفوحُ بالأريج الزَّاكي.
قام صفوان مع رفاقه فرِحين جذلين يمرحون طوال اليوم، حيث عاد مع رفاقه الأتراب، ومنافذ إحساسه قد ازدادت شرعةً وانفتاحاً.
في المساء جلس صفوان يُحدّث أهله بما رآه وشاهده خلال رحلته ... كان يتحدّث بفرح طُفوليّ عذب، نقل لهم الصُّور الرائعة التي أحضرها في نفسه، وراحَ يُمنّي نفسه ببقاء هذه المناظر، وهذه المروج التي سرحت بخاطره الصّغير المفعم بكلّ جميل ساحر.
وفي صباح يوم آخر، صحا صفوان على حقيقة مُرّة مؤلمة! فقد وجد نفسه مع أسرته خلف أسوار ذلك الوطن الذي طالما جرى لسانه وصدقت أحاسيسه في الحديث عنه، وبات صفوان الآن في مشكلة من نوع آخر.
لقد أصبح يتحدّث عن موجة غزو جديد من موجات الجراد الزّاحف؛ إنها أسرابُ الطامعين غزت حقله، لا لتأكله فحسب؛ بل لتجتثّه من أصوله ... فتبقيه أثراً بعد عين، ولكنَّ السؤال الذي ما زال يبحث له عن جواب هو:
إلى متى يظلّ صفوان يحلم بمطاردة جراد العصر؟!
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي(228/19)
الدعاة بين وصايا المثقفين والأتباع
ماجد الحمد
لا شيء أشقّ على نفس الداعية الأبيّ من أن يُرى مأسوراً بوصاية تحُكِم الطوق حوله، يغدو معها عاجزاً عن البوح بما يعتقد أحقِّيته، فلا السكوت يسعه والأمة تتخبط في ظلمة البدع والأهواء، ولا نفسه تجيبه لما في الانعتاق من هذه الوصاية من أذى يناله، فيعيش حالة قلقة مع هذا الواقع المأزوم.
ولا شكَّ أن الواقع ـ بمكوِّناته الاجتماعية والسياسية ـ يفرض على الداعية وصاية توجب عليه حسن التعامل معه، فالخضوع الكامل له يكبِّل الداعية بأغلال تمنعه من الحركة والعطاء، والإعراض عنه بالكلية لا يخفى على أحد ما فيه من خطورة قد تكون سبباً في فشل مشروعه الدعوي برُمَّته، ونفور الناس من قبول الحق الذي يحمله ويدعو إليه.
والداعية الذي آتاه الله موهبة مؤثرة في جماهير الناس وعامّتهم؛ ترى الكل يسعى لاحتوائه وفرض وصايتهم عليه؛ ليكون رجع صدى لما يقولون.
والمتابع للمشهد الدعوي الراهن في زمن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني والحوار مع الآخر التي نقلتها رياح التغيير الغربية يلحظ أن الدعاة يتجاذبهم تياران: تيار الأتباع، وتيار المثقفين.
فالأتباع هم منظومة الداعية الفكرية التي رضع لِبَانها في صغره، وجماعته التي درج في محاضنها التربوية، ونهل من معينها القَرَاح، وهم أحبابه الذي يشاطرونه أفراحه وأتراحه، لذا يرون لهم من الحق عليه ما يوجب ردَّ الجميل منه حين نضج فكره واستوى سوقه أن يكون حامياً للمنهج الذي اجتمعوا عليه لا أن يكون عوناً للخصم في هدم ما شيَّدوه سوياً.
وليس بخافٍ أن الداعية والأتباع يتبادلون وصاية أبوية حانية، فهو يعلّم جاهلهم ويقوِّم معوجّهم ويكبح جماع غلوّهم، وهم إن رأوا منه ضعفاً قوّوه وشدّوا من أزره، أو ميلاً عن الحق قوّموه بالنصح والتوجيه؛ إذ لا معصوم إلا خير الخلق #، في وصاية خفية حين يكون هناك تناغم بينهما، ولكنها تطفو على السطح إذا صدر من أحدهما صوت نشاز خرج به عن المألوف الفقهي أو الدعوي.
فبعض الدعاة لا يمكن توقّع ما يفعل، ولا أي طريق سيسلك، إنما أتباعه يلهثون خلفه لرَتْق ما يفتق، ولتدارك الشقوق التي تحدث؛ لرَقعها قبل أن تتّسع، فهم في كَبَدٍ ونصب معه.
وبعض الأتباع فيهم من الجمود والانغلاق على ما ألفوه، فهم أشبه بالعامّة، يعيش الداعية معهم في عَنَتٍ ومشقة، لا يطرح رأياً ـ بذل جهده وأفرغ وسعه في بحثه ـ إلا أنكروه واستهجنوه، شعارُهم: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104] .
وليس ثمَّة شك أن في حذر الأتباع من بعض الآراء المستجدة لدى فئة من الدعاة له ما يبرّره؛ ففي حالة العراك الفكري مع خصم يستقوي بعدِّو الأمة؛ ما يجعلهم يحذرون من كل جديد ويجفلون من كل رأي ملبس، خوفاً أن يكون هذا قمة جبل الجليد الطافية، أو أنه مشروع انتكاسة في طور التكوين.
أما المثقف فهو يعيش أزمة مع مجتمعه؛ لما يحمل من أفكار نخبوية لا تلامس هموم العامة عادةً، مع توجّس يلحظه في أعينهم نحوه، حيث هو موضع شكٍّ ورِيبة عندهم، بسبب الأفكار المصادمة لثوابت الشرع عند بعض المحسوبين في عِداده، لذا لا يستغرب ـ مع استماتته في فرض وصايته ـ محدودية تأثيره في عامّة الناس.
لذا يلجأ المثقف عادة ـ لنشر أفكاره ورُؤاه ـ إلى البحث عن قناة يتسلّل لواذاً من خلالها إلى المجتمع المحيط به، تحمل طهراً ولا تبعث ريبة، ولن يجد خيراً من داعية يسلّمه قياده.
فهم قد عجموا عيدان الدعاة؛ فمتى ما رأوا من أحدهم قابلية للتأثير أقبلوا إليه يخادعونه تارة ويغرونه تارات وتارات!
يزعمون أنهم سيخرجونه من ضيق المحلّية إلى سعة العالمية، ومن محدودية التأثير إلى وهج الإعلام الجماهيري!
فيبدؤون بزحزحته عن بيئته التي أحبها وأحبته وعاش في كنفها سنوات عمره الأولى، فيكثرون فحيحهم عن وصاية أتباعه عليه وأنه أسير فكرهم، لذا كثيراً ما يشيعون ـ في زمن الانكسار ـ أن ذا الداعية أو ذاك يحمل همّاً تجديدياً ورُؤى إصلاحية يبثّها إلى خاصّته ولا يجرؤ على البوح بها علانية خوفاً من نفور أتباعه أو من سياط النقد التي يوجهها إليه مريدوه، وحقيقة مرادهم رمي الواقع المعاش بالفساد؛ والدعاة بالجُبْن.
فإن هو أصاخ بسمعه إليهم ورضي قولهم وأشرب قلبه شبهتهم، دعوه إلى مصادمة أتباعه ومحبِّيه، إذ لا يمكنه الانعتاق من إسار وصايتهم عليه إلا بالمجاهرة بمخالفته، فيبدأ مشروعه معهم بالترويج لفتاوى فقهية ليس عليها العمل في بلاده تكون متّكأ لما بعدها، فإن رأوا منه إحجاماً أو تردّداً عادوا لتعييره بخوفه من وصاية أتباعه، فأصبحت هذه الوصاية فزاعة ينخسونه بها كلما تلكّأ، حتى تراه يخوض في ثوابت الشرع والعقيدة، فإذا هو يردّد ما يقولون ويكتب ما يملون، ما إن تقع معركة فكرية بين أتباعه الإسلاميين وخصومهم إلا وجدته حيث ينبغي أن تفقده، وهو بعمله هذا يحسب أنه كسر طوق الوصاية عنه، وما علم أنه ما زاد أن استبدل وصاية الأدنى بالذي هو خير، وصاية أشد حدية وأكثر شراسة وقمعية للآخر المخالف لنَسَقِها الفكري، وهم بعد لا يُؤمن لهم جانب، فساعة حاجته لهم يخذلونه، فكم داعية أجابهم لبعض ما يريدون ظنّاً منه أنّ تنازلَه هذا سيخفِّف من كَلَبهم على الدعوة ويمنحه صورة مشرقة لديهم، فإذا هم يبتزّونه كل ساعة حتى يتبع منهجهم ويكون أُلعوبة في أيديهم وإلا هدّدوه بالإقصاء والهجر من قنواتهم الإعلامية.
بل متى ما رأوا أن هذا الداعية فَقَدَ بريقه الإعلامي واحترقت أوراقه، وأنكرته قلوب العامّة ـ لكثرة لهاثه خلف رغبات أعداء الأمة ـ قلوه وأقصوه واستبدلوه بداعية آخر يتصيدون به دهماء الناس.
وكثيراً ما يستشهد أولئك المثقفون على أن الأتباع عديمو الفائدة ـ فهم يكثرون عند الطمع ويقلون عند الفزع ـ بقصة الإمامين أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية، كيف أن الأمة خرجت تشيع جنازتهما وتظهر الحزن على فقدهما، فبغداد كلها خرجت في جنازة الإمام أحمد حباً وإجلالاً لهذا الإمام القدوة، وشيخ الإسلام ابن تيمية خرجت دمشق عن بكرة أبيها تعلن محبتها لهذا الإمام الذي وافته منيته سجيناً.
فيتساءل أولئك: أين هذه الحشود عندما سجن الإمامان؟!
ألا تجيد هذه الحشود إلا عمل النائحة التي تتنظر موت صاحبها ـ بفارغ الصبر ـ حتى تبدأ في ممارسة عملها بجدارة؟!
والمصيبة تشتد حين تتسق نظرة بعض المثقفين الإسلاميين مع نظرة العلمانيين حيال الدعاة وطلبة العلم، فهم في نظر البعض سُذج وبُلْهٌ ولا يدركون كُنْه الواقع وفقهه، ولا يحسنون التعامل مع المخالف، لذا على الدعاة أن يصدروا عن رأي هذا المثقف، وأن يوقّعوا على بياناته في وصاية مقيتة وأستاذية متعالية، فإن رأى من الدعاة رفضاً لمشروعه الدعوي لما فيه من مخالفة لقطعيات الشرع، عاد باللوم عليهم ورماهم بالهلع من الأتباع تبرئةً لمشروعه المتهالك، فأصبح الأتباع مشجباً يعلق عليه كل استعصاء أو تمنّعٍ يبديه الدعاة على ما يطرحه المثقف.
وإذا كان المثقف يرى خضوعه لوصاية واقعه السياسي حكمةً وبُعْد نظر؛ أفلا يعذر الداعية حين يلين لوصاية أتباعه تأليفاً لهم وحسن سياسة منه نحوهم؟
فعلى الداعية أن لا يلتفت إلى مثل هذه التخرّصات، وأن يحرص على تأليف قلوب أتباعه، والبُعْد عما يكدر صفو الودِّ بينهما، إذ هم سنده بعد الله، فهم ناشرو علمه، وحاملو فكره، والذابّون عن عِرْضه حين يسلقه خصومه بألسنة حِدَاد، خصوصاً في زمن هذا المخاض العسر الذي تعيشه الأمة، فدَرْءُ مفسدة الخلاف داخل الصف الإسلامي مُقدَّم على مصلحة اجتهاد تنفر منه القلوب، فإن فساد ذات البَيْن هي الحالقة.
وله أسوة حسنة بسيد ولد آدم #، الذي حبُّه إيمان وبغضه كفر ونفاق؛ وطاعته واجبة وأمره ونهيه معصومان من الزّلل والخطأ، حيث كان يترك بعض الاختيار مخافةَ افتتان بعض أصحابه، فقد ترك هدم الكعبة وإعادتها إلى قواعد إبراهيم ـ عليه السلام ـ لحداثة عهد قريش بجاهلية، وترك # مصلحة قتل المنافقين ـ مع عِظَم خطرهم على الإسلام ـ لمفسدة أعظم منها؛ كي لا يتحدث الناس أنه # يقتل أصحابه، أفلا يسع الداعية ذلك وهو لا يَبْلغ مُدّ أحد أصحاب محمد # ولا نصيفه؟(228/20)
229 - رمضان - 1427 هـ
(السنة: 21)(229/)
حمى الإسلامو فوبيا
التحرير
سياسة التخويف من الإسلام والمسلمين هو ما تطلق عليه الدوائر الغربية وكُتَّابها (الإسلاموفوبيا) وفق خطط مرسومة يقوم بها نفر من المنظرين من قبَل ما يعرف بالمحافظين الجدد لتحويلها إلى ظاهرة نفسية تتحكم بالرأي العام الغربي، وأبرز القائمين على رعاية هذه السياسة وقيادتها هم العصابة الحاكمة في الحزب الجمهوري الأمريكي الحالي، ومن أشهرهم (ديك تشيني) نائب الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع (دونالد رامسفيلد) المكلفان بإدارة السياسة الخارجية الأمريكية، ومن ورائهما مخططون بارزون منهم (كارل روف) و (بول وولفويتز) وهما من أعدى أعداء الإسلام، وهذا ما نلمسه في استراتيجيات وخطط الرئيس الأمريكي (بوش) ، لذلك لا يُستغرب ما ينشر من تهجماته الحاقدة على الإسلام والمسلمين في الآونة الأخيرة ولمرتين متقاربتين وهما:
1 ـ ما نسب للمذكور بعدما قيل من كشف خطة لتلغيم طائرات في بريطانيا متوجهة لأمريكا، وأن هذا الفعل هو من صنع المسلمين الفاشيين!!
2 ـ ما جاء في خطابه الأخير في (ولاية يوتاه) المحافظة قبل شهرين من بداية حملته الانتخابية من لمز للمسلمين وتشبيههم بالفاشيين والنازيين والشيوعيين!!
والحقيقة أن الفاشية صناعة غربية بامتياز يعرفها كل من له اطِّلاع على المعاجم والموسوعات الغربية، ولا صلة لها بالإسلام. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فالنازية مثلها مثل الفاشية مفهوم غربي تمثل اليمين الغربي المتطرف؛ مما يؤكد جهل كثير من القادة الغربيين بالتاريخ وافتقارهم للإنصاف السياسي. وهذه الاتهامات لا شك أنها من صنع كتبة تيار المحافظين الجدد، وهم يرددونها بوقاحة وحقد أعمى بناءً على الصور النمطية المفتراة ضد أمتنا الإسلامية وبخاصة بعد الفشل الكبير لسياساتهم وحروبهم العدوانية الخاسرة في شتى المواقع مما كان محل مقت الكثيرين من الشعب الأمريكي بعد هلاك الآلاف منهم في حروبهم العدوانية، ولخوفهم أن ينعكس ذلك سلبياً على موقفهم المهزوز في الانتخابات القادمة، ويؤدي بهم للفشل المنتظر ـ إن شاء الله ـ وهذا ما يجعلهم يخترعون مثل تلك الأكاذيب والاتهامات المصطنعة ليسيئوا لديننا الحنيف ويخوِّفوا بها شعوبهم، وهذه الحرب العدوانية ليست وليدة 11 سبتمبر 2001م كما هو مشهور، بل هي أبعد من ذلك بكثير ولعلها من تداعيات الحروب الصليبية السيئة الذكر.
ومعلوم أن التحالف المشبوه بين اليهود الصهاينة في الدولة العبرية والأصوليين النصارى ليس حباً في اليهود ولكنه نتيجة عقيدة نصرانية تقوم على تجميع اليهود في الأرض المحتلة (فلسطين) حسبما جاء في أسطورة (هرمجدّون) حيث يحارب النصارى المسلمين وينتصرون عليهم ـ بزعمهم ـ وتنتهي بنزول المسيح عليه السلام؛ وهذا ما ذكرته الباحثة (غريس هالسل) في كتابها الشهير (يد الله) وكذلك لرغبة نصارى أمريكا في طرد اليهود والتخلص منهم؛ واليهود يعرفون ذلك، لكنهم بمكر ودهاء سياسي لا يلتفتون إلى مشاعر الكراهية تلك، وإنما يهمهم التأييد الكبير لهم من اليمين الأمريكي المتطرف المعروف لما يحظون به الآن من دعم لهم بشكل جلي.
والعودة الحقيقية للمسيح # مُؤْذِنة بنصر الإسلام؛ حيث يحطم الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق نبينا محمد # في حديث متفق عليه (*) .
__________
(*) صحيح البخاري 6/4990، ومسلم 155/1.(229/1)
هل نستفيد من أخطائنا..؟!
تباينت مواقف الإسلاميين إزاء الأزمة اللبنانية تبايناً واضحاً، سواء أكان هذا التباين في توصيف وتكييف الواقع السياسي، أم في الموقف الشرعي منه. وقد بيّنا في مجلة البيان رؤيتنا في هذه القضية في افتتاحية العدد السابق (*) . لكن هذا التباين كشف عن عمق الشرخ الذي تعاني منه الصحوة الإسلامية؛ فالاختلاف في الآراء أدى في بعض المواقع إلى التهارش والبغي وتسفيه الآخرين، وظهر في هذه الفترة سيل من الحوارات والمقالات المتشنجة المتوترة التي تغلِّب جانب الهجوم والاتهام. وربما أثر ذلك على بعض الأصوات الهادئة المنصفة التي تزن الأمور بموضوعية وحكمة.
وعندما ترتفع الأصوات، وتتشنج النفوس، تصبح قدرة الإنسان على رؤية الحقيقة ضعيفة جداً؛ فلا المصيب يكون قادراً على إقناع إخوانه بوجه الصواب عنده، ولا المخطئ يكون قادراً على إدراك الخطأ والنظر فيه بعين البصيرة والإنصاف.
وفي ظل هذه الأجواء القلقة المشحونة قد يضطر بعض العلماء وأهل الرأي إلى مجاراة الجماهير والاستسلام لعاطفتهم المحدودة التي لا تقوى على رؤية الحدث بعين البصيرة، فضلاً عن قراءة جذوره وخلفياته واستشراف مستقبله، فيكون العالم صورة لرأي الجماهير والأتباع.
وفريق آخر من العلماء وأهل الرأي لما رأى اندفاع الجماهير وحماسهم، ورأى اضطراب الناس واختلافهم، آثر الانكفاء والانسحاب ظناً منه أن العزلة في مواطن الفتن هي الحل بإطلاق، ونسي أن بيان الحق بدليله والصبر على الأذى فيه من أوجب واجبات أهل العلم والدعوة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] .
وبين هؤلاء وأولئك قلة قليلة من العلماء وأهل الرأي قائمة بالحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
ومن المحزن حقاً أنه بعد كل نازلة تعصف بالأمة يزداد تفرقنا وتنازعنا، وبدلاً من أن تقودنا تلك العواصف للتآلف والتكاتف، أصبحت تدفعنا إلى البغي والتطاول.
إن الاختلاف في الاجتهادات منه ما هو سائغ لا حرج فيه، ومنه ما هو مذموم لا خير فيه، وفي كثير من الأحيان يختلط عند بعضنا السائغ بالمذموم، ولا نحسن تحرير محل النزاع، فتستحكم الأزمة، ويتجذر التعصب في صفوفنا.
أما وقد هدأت العاصفة الآن نسبياً، وسكنت النفوس، فيحسن بنا أن نذكِّر أنفسنا وإخواننا من جميع الاتجاهات الفكرية والحركية بمسألتين مهمتين:
\ المسألة الأولى: تعظيم ميزان الشرع:
فمن نافلة القول التأكيد على أن المعيار الذي توزن به الاجتهادات والآراء هو معيار الشرع المطهر؛ فكل شاردة أو نازلة تمر بها الأمة يجب أن يُحْتَكَم فيها إلى الكتاب والسنة. قال الله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] . وما أجمل قول الإمام الشافعي: «ليس تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها» (1) .
ولا يجوز بحال أن يكون الموقف السياسي بمعزل عن النص الشرعي، وعندما يفقد الدعاة والمفكرون هذا الإطار المرجعي فإن حالة من الارتباك والاضطراب سوف تطغى على الواقع وتقفز إلى السطح، كما هو حاصل الآن. قال الإمام الشاطبي: «ولقد زلّ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادّة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم؛ فضلوا عن سواء السبيل» (2) .
وبالتأكيد لا نقصد في هذا السياق الغفلة عن دراسة الواقع السياسي بكل أبعاده وأطرافه الإقليمية والدولية؛ فهذا أمر ضروري، ولكننا نؤكد على أهمية التلازم بين معرفة حكم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ومعرفة الواقع الذي يراد تطبيق حكم الله فيه (3) .
إن ثمة حقيقة جديرة بالتأمل والتدارس وهي أن الرؤية السياسية الشرعية المنطلقة من مُحْكَمات الكتاب والسنة أصبحت غريبة، نعم! غريبة؛ فكم رأينا من بعض إخواننا من الإسلاميين من يستهين أحياناً بالنص الشرعي ـ بلسان الحال ـ ولا يجعله معياراً لقراءة الواقع، ولا حَكَماً يستسلم لحدوده، ولا نقصد ها هنا ما حدث في الأزمة اللبنانية من اختلاف فحسب، بل نراه في مشروعنا السياسي برمته.
والعجيب أن بعض الإسلاميين ظنَّ أن النصوص الشرعية في الجانب السياسي قليلة جداً، ثم جعل الأصل في المعاملات السياسية هو الاعتماد على تقدير المصالح والمفاسد فحسب، وبنى ذلك في معزل عن الضوابط والقواعد العلمية التي حررها علماء أصول الفقه!
\ المسألة الثانية: الوحدة الإسلامية المنشودة:
إن الوحدة الإسلامية مطلب مهم تتعلق به أفئدة جميع المسلمين، خاصة عندما يظهر تنازعهم واختلافهم من جهة، وتكالب الأعداء عليهم من جهة أخرى.
وما كانت الأمة في وقت من الأوقات بحاجة إلى الوحدة كما هي الآن، ولهذا يجب على العلماء والدعاة والمربين أن يؤكدوا على أهمية الوحدة الإسلامية، ويرسموا الرؤية العلمية والعملية التي تبني ذلك في جميع أقطار المسلمين، ليتحول الخطاب العاطفي إلى خطاب عملي يتجسد في واقع الحال.
ولن يتحقق هذا المطلب إلا بإقامة الدين والاعتصام بحبله المتين، كما تواترت بذلك النصوص. قال الله ـ تعالى ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}
[الشورى: 13] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] .
والعجيب أن بعضنا عندما طرح هذه القضية وقع في مشكلتين:
المشكلة الأولى:
التهوين الشديد من شأن الخلاف بين السُّنَّة والشيعة، لدرجة أن بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة زعم أن ذلك خلاف تاريخي عفَّى عليه الزمان، وحصل لظروف وصراعات سياسية، ثم سعى المتعصبون من الطرفين إلى إلباسها لباس الخلافات العقدية والمنهجية، وهؤلاء يطالبون بتجاوز الماضي ونسيانه..!
وعلى الرغم من الخطأ العلمي الفادح في هذا الرأي، إلا أننا ـ جدلاً ـ لو تناسينا الماضي السياسي أو الانحراف العقدي لقدماء الشيعة؛ فماذا نقول فيما يحدث الآن على أرض الواقع، بعيداً عن عقيدة التقية أو المزايدة السياسية؟!
إن المتابع البصير للقنوات الفضائية الشيعية في العراق خصوصاً، وللمجلات والجرائد ومواقع الشبكة العالمية، وخطابات المراجع العلمية الشيعية، يصاب بالذهول والحيرة للكمِّ الهائل من العقائد المنحرفة في الأصول والفروع على حد سواء، ويدرك حجم الاختلاف معهم في مصادر وطرق الاستدلال والتلقي والاستنباط، ويعجب المرء أشد العجب من جرأتهم على كتاب الله ـ تعالى ـ وفحشهم في تجريج وذم الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ فكيف يمكن أن نتجاوز ذلك؟! وهل يصح أن يقال: إن خلافنا معهم خلاف تاريخي ذهب وقته؟!
وقد أحسن فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حينما بيَّن هذا الانحراف في عقيدة الشيعة في محاضرته الأخيرة في نقابة الصحفيين بمصر.
أما العداء السياسي فقد أضحى الآن حقيقة مدوية لا يتجاهلها إلا مكابر؛ فها نحن نرى دماء أبناء السُّنَّة وأعراضهم في العراق تُنتهك جهاراً، ونرى العلماء والدعاة وخطباء الجوامع من أهل السنة يُسْحَقون بدم بارد، ويهجَّرون من ديارهم وقراهم بكل صلف وجبروت!
فواعجباً! هل يظن ظانٌ بعد ذلك أن خلافنا معهم خلاف تاريخي..؟! أو أن الشيعة قد تغيروا؟!
ولهذا نقول بكل وضوح وصراحة: إنَّ التحذير من الشيعة ليس دعوة عصبية أو طائفية، وليس مناقضاً للأصل الشرعي في الدعوة لوحدة الأمة الإسلامية؛ بل نعتقد أن بيان ذلك من مقتضيات الوحدة الواجبة، خاصة أننا نشهد الآن اختراقاً شيعياً ملحوظاً لمناطق السُّنَّة تجاوز دول الأطراف الإسلامية في أفريقيا وأندونيسيا ونحوها، إلى دول العمق الإسلامي في مصر والسودان وسورية وغيرها.
فهل يعي العلماء والدعاة تبعات هذه المرحلة..؟!
المشكلة الثانية:
هي الحماس الزائد في الكلام عن الوحدة والتقارب من الشيعة مع التجاهل الواضح للوحدة أو التقارب مع بقية فصائل أهل السنة، مع أن الخلاف بين فصائل السنة أهون بكثير من الخلاف مع الشيعة؛ فالتفرق واضح في صفوف أهل السنة، وهم أوْلى بنداء الوحدة في وقت النوازل، ونحسب أن تفرقهم من أعظم ما ابتلي به المسلمون اليوم.
والرزية كل الرزية أن يصاب الدعاة والمصلحون وأبناء الصحوة الإسلامية بهذا الداء العضال، ويتجذر في صفوفهم، ثم لا نجد دعوات ومبادرات عملية جادة لرأب الصدع، ولمِّ الشعث، وتقريب وجهات النظر..!
وليس من الشرع، بل ولا من العقل، أن نرى الحزبية البغيضة والتنازع الدعوي يضربان بجذورهما في أعماقنا التربوية والحركية، ثم نقف مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكناً، بل ربما يسهم بعضنا في زيادة الشقة بين الدعاة، ويثير كوامن التعصب والتنازع.
من السهل جداً أن ندعو إلى الوحدة الإسلامية، لكن المهم هو أن يكون ذلك بفقه وبصيرة، وأن نزرع في نفس المسلم ولاءه ومحبته لإخوانه المسلمين، ويكون ذلك جزءاً من تكويننا التربوي والعلمي.
والأخلاق ليست صوراً وعظية باردة تُستخرَج من بين صفحات الكتب، بل هي ممارسة عملية حية تظهر في سلوك العلماء والدعاة وأهل الرأي ممَّن يُقتدَى بهم. وإذا كان أبناء الصحوة الإسلامية ـ الذين هم صفوة الأمة ـ لم يحسنوا بعدُ بناء صفوفهم؛ فكيف نتطلع إلى وحدة شاملة للأمة بما فيها من أمراض ومشكلات..؟!
ونحسب أن من أهم الدعائم الأساسية لرأب الصدع وتقليل هوَّة الاختلاف والنزاع: إحياء ثقافة التناصح بين الدعاة والعاملين في الحقل الإسلامي، تحقيقاً لقول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] .
والنصيحة الصادقة ليست باباً من أبواب التشهير أو التشفي أو الاعتداء على حرمات الآخرين.
النصيحة المخلصة ليست لوناً من ألوان الاستعلاء أو التعالُم على المخالفين.
النصيحة الصادقة المخلصة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان، وتجريد القصد لله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له؛ إنها آية من آيات المحبة يُسَدُّ بها النقص، وتصحَّح بها المسيرة، وتأتلف بها القلوب، وتتوحد عليها الصفوف.
وإذا كانت كذلك؛ فلن يستنكف طلاب الآخرة عن قبولها، بل يفرحون بها، وما أروع كلام الحسن البصري ـ رحمه الله ـ عندما قال: «قد كان من كان قبلكم عن السلف الصالح يلقى الرجلُ الرجلَ فيقول: يا أخي! ما كلَّ ذنوبي أُبْصِرُ، ولا كلَّ عيوبي أَعرفُ؛ فإن رأيتَ خيراً فمُرْني، وإذا رأيتَ شراً فانهَني» (1) .
اللهم وحِّد صفوفنا على السُّنَّة، واجمع قلوبنا على الطاعة!
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
(*) والتي كانت تحت عنوان (عندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة) ، العدد 228.(229/2)
واجب المسلمين عند اختلاف المفتين
عبد الله بن صالح العجيري
الناظر في أمر الفتيا، وحال الإفتاء يجد فوضى عريضة، وتناقضات غريبة، وتعالماً مزرياً، وجرأة عجيبة؛ فهذا يهدم بفتياه أصلاً شرعياً مقرراً، وذاك يتقدم ليفتي في نازلة وما هو لها بأهل، وثالث يفتي فتضحك الثكلى لفتواه، فلا عقل لهؤلاء يردعهم عما هم فيه، ولا دين يمنعهم من جرأتهم المحرمة هذه على الشرع، (فاسمع ما شئت من فتاوى مضجعة، محلولة العقال، مبنية على التجري لا التحري، تُعنت الخلق، وتشجي الحلق، لا تقوم على قدمي الحق، بل ولا على قدمي باطل وحق، حتى هزأ بهم كبار الأجراء، وقالوا: فتوى بفرخة) (1) ، ولو شئت أن أنقل صوراً ونماذج في هذا الباب لأصاغر قد تقدموا لسد ثغرات العلم ـ زعموا ـ لنقلت لك صفحات طوالاً.
أما الجرأة على العلماء الأكابر الأفذاذ فلا تسل عن الحال، والله المستعان، وصدق رسول الله # إذ قال: «إن من أشراط الساعة أن يُرفَع العلم ويكثر الجهل» (2) ، ولكن دع ذا؛ فليس ذا المقصود من هذا المقال، وإنما هي نفثة مصدور مما يرى ويسمع، ورحم الله دمعة (ربيعة) حين سأله رجل عنها قائلاً: أَدَخَلَتْ عليك مصيبة؟ قال: لا، ولكن استُفتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السُّرَّاق (3) . وهكذا فقد تتابعت دمعات الأئمة من بعده يرددون كلمته هذه كابن الجوزي (4) وابن الصلاح (5) وابن حمدان (6) وابن القيم (7) وغيرهم، كل يبكي أحوال زمانه، ويتحسر من أوضاع العلم والعلماء؛ فكيف لو رأوا زماننا، وما نحن فيه؟ اللهم فغفراناً وستراً.
والمقصود أن ما يُرى من فوضى في عالم الفتيا قد سبَّب اضطراباً في المواقف؛ فما عاد كثير من المسلمين يعرفون من يُستَفتى، وما عادوا يعرفون الحق من الباطل في خضم هذه المتناقضات، فسلك الناس في هذا الباب مذاهب شتى، منهم من أخذ بالأيسر والأسهل متى ما وقف عليه ممن كان، وحيث كان، لسان الحال يقول: والله ما أُخَيَّرُ بين أمرين إلا اخترت أيسرهما وإن كان إثماً! وآخر ذو طبع جامد متشدد قد ألزم النفس الأشد وإن كان مرجوحاً، ثم تراه يُلزِم ذلك أهله وولده ومن يعول، ومن لا يعول؛ فموضع التهمة وسوء الظن، فأوقع نفسه وأهله في حرج وضنك وما ذاك بطيب ولا مشروع، وثالث متردد حائر يريد ما يريده الله، ويطلب حكمه، لكنه لا يدري أيُقْدِم أم يُحْجِم، يظن في نفسه أنه إن أقدم فلهوى، وإن أحجم فَلِهوى، قد ضاقت نفسه بالخلاف، وود لو لم يكن خلاف، أو لو أُلزِمَ الجميع بفتوى واحدة، هي الرأي المتبع، والقول المسدد، إذن لاستراح وهان عليه الإحجام أو الإقدام.
ولذا صار من الواجب التعرف على الموقف الشرعي الصحيح تجاه اختلاف المفتين، والطريقة الشرعية الصحيحة للاستفتاء.
وإن أمر الفتيا وما يترتب عليها من أحكام لا شك عظيم، وموقف صعب جليل يقفه العالم المفتي، والعامي المستفتي، ولكل أحكامه وما يجب عليه؛ فالعامي واجبه السؤال عما يجهل {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ، والعالم واجبه الإبانة والجواب: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159] ، وليس يبرئ ذمة هذا أو هذا أي استفتاء ولا أي فتيا، بل لكل ضوابطه ومعالمه التي متى ما روعيت، كانت الإصابة للأجر، وإن كان الخطأ، ومتى أغفلت كان الشخص مخطئاً أصاب الحق في الفتيا والعمل أو أخطأ.
وهذه المقالة معنية ببيان ما يتصل بأحوال المستفتي وما يتعلق به من أحكام خصوصاً عند اختلاف المفتين لمعرفة المخرج الشرعي الصحيح من الاضطراب الواقع في عالم الفتيا، ولتطمئن النفوس وتهدأ عند الوقوف على اختيار من الاختيارات أخذاً به واطِّراحاً لما سواه، وهذه المعالم مستفادة في الجملة من كلام أهل العلم المصنفين في أصول الفقه، تحت أبواب الاجتهاد والتقليد، وأحكام الإفتاء والاستفتاء؛ فليست هذه المقالة إلا محاولة لتقريب كلام أولئك الأجلَّة من أهل العلم إلى المقصودين به أصالة من المستفتين، وهذا واجب ينبغي أن يعتني به طلبة العلم والعلماء، في تقريب العلوم الشرعية إلى جمهور الأمة، خصوصاً فيما يتعلق بها من أحكام كشأن هذا الباب. ولا أزعم أن هذه المقالة كافية في هذا المجال، لكنها مقاربة أرجو أن تكون موفقة، وحلقة في سلسلة هذا المشروع المبارك، ومحاولة لتسهيل هذا الباب على جمهور أوسع، بدل أن تكون هذه المعالم حكراً على المهتمين بعلم أصول الفقه وكتبه، والأمر يحتاج إلى مزيد تسهيل وتبسيط لتكون هذه المعالم في تناول كل مسلم. أسأل الله أن تكون هذه المقالة محل نفع وإفادة، ويتحقق بها شيء من المقصود. فإلى هذه المعالم المتعلقة بباب الاستفتاء والمستفتي:
المَعْلَم الأول: تفهم حقيقة الخلاف وطبيعته:
إن مما ينبغي أن يُعلَم أن الخلاف بين البشر جميعاً، في دائرته الواسعة ـ بين أهل الإسلام ومخالفيهم ـ أو دائرته الأضيق ـ بين أهل الإسلام على صوره وأشكاله حقيقة واقعة، وسنة ربانية ماضية، لا يمكن رفعها، ولا إزالتها، ولا إعدامها من الوجود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ #118#) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119] ، فـ (وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إراداتهم وأفهامهم وقدرات إدراكهم) (1) ، ولذا فإن التذمر من وجود الخلاف، والحيرة عند كل اختلاف، مذهب غير حميد، ومسلك غير رشيد، بل الواجب أن تُتفهم طبيعة هذا الخلاف في إطاره الشرعي الصحيح، وتُدرس أسبابه، فإن العلم بها يخفف من حدة الاختلاف ويُحسن ظن المرء بالعلماء (2) ، كما ينبغي أن يُتعرف على المنهج السليم في التعاطي مع مسائل الخلاف والتعامل معها، وإعطاء كل مسألة حقها ومستحقها، فلا يُتعامل مع الكل تعاملاً واحداً، فتعطى الأصول أحكام الفروع، وتعطى الثوابت أحكام المتغيرات، بل يحسن بالمرء التعامل مع كل مسألة بما يليق بها، وبما يناسبها، ومتى ما حصل ذلك، وكان القصد طاعة الله ورسوله، والمتابعة حاصلة للمنهج الشرعي، لم يضر ذلك الاختلاف شيئاً، بل يصير سعة ورحمة لا فرقة وعذاباً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفْضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتاباً سماه: كتاب الاختلاف، فقال أحمد سَمِّه: كتاب السعة) (3) ، (وبهذا يظهر أن الخلاف الذي هو في الحقيقة خلاف ناشئ عن الهوى المضل لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل وهو الصادر عن أهل الأهواء، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصاً على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع؛ ولذلك سميت البدع ضلالات، وجاء أن كل بدعة ضلالة؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب) (4) .
وأنت سائلي بعد ما تقدم:
كيف يمكن التعرف على الثوابت والمتغيرات، وما يصح فيه الخلاف مما لا يصح، ولسنا بعلماء ولا مجتهدين؟
والجواب:
1 ـ أن جملة واسعة من الأصول والثوابت مما يعلمها أهل الإسلام جميعاً ضرورة: وهي من الدين الجامع الذي لا يصح الاختلاف فيه؛ فلو قدر مخالفة البعض في هذه؛ فالواجب رد هذا الاختلاف رأساً، ولا يصح أن يُلتفت إليه، أو يُتأثر به، أو يُحكى في المسألة خلاف بناءً عليه، وهذه المسائل مما يتفاوت الناس في إدراكها بحسب الأحوال والأزمنة والأماكن؛ فدائرة العلم بها والإحاطة بها في أماكن العلم ومحال انتشاره أوسع من أماكن اندراس العلم وقلته وخفائه؛ فكل يلزمه من ذلك ما يلزمه بحسب حاله، وبحسب الحال يكون العذر وعدم الإعذار.
2 ـ أن يَعرف المسلم: أن مسائل الشريعة لا تخرج عن قسمين:
أـ مسائل إجماعية، لا خلاف فيها.
ب ـ مسائل خلافية.
فمسائل الإجماع كاسمها مسائل إجماع، فلا يصح فيها خلاف، والمعتبر فيها أقوال العلماء المجتهدين، ومتى ثبت لزم، ولم يجز العدول عنه أو الخروج لرأي شخص كائناً من كان. ومن الإجماع ما هو مدرَك لجميع المسلمين وهو من إجماعهم، ومنه ما يختص بمعرفته العلماء؛ فشأن الأول بَيِّنٌ من جهة العلم به ولزومه وعدم جواز العدول عنه، أما الثاني فلازم كذلك لإجماع العلماء عليه، ويندر جداً أن تجد عالماً مجتهداً يخرج عنه أو يفتي بخلافه؛ فالعلم به من جهة المفتي بَيِّنٌ كذلك، والعدول عنه محرم لا يجوز.
أما مسائل الخلاف فعلى ضربين:
أـ ما يسوغ فيه الخلاف، وللمستفتي في مثل هذه المسائل موقف شرعي سيأتي بيانه مفصلاً، وهو محل الإشكال غالباً، وهو المقصود بهذه الأوراق أصالة.
ب ـ ما لا يسوغ فيه الخلاف، وذلك لشذوذ في القول، أو بُعد عن الدليل، أو ضعف في الاستدلال، وهو المشار إليه في مثل قول ابن الحصار:
فليس كل خلاف جاء معتبراً
إلا خلاف له حظ من النظر
فهذا اللون من الخلاف متى استبان أمره للمستفتي، لم يصح له الأخذ بالمرجوح ولا العدول عن القول الصحيح الراجح إليه. وله أمارات وعلامات، كالتفرد برأي يخالف المشهور المستقر بين جماهير أهل العلم، أو المخالفة البينة لنص المسألة وهكذا. وهذا اللون من المخالفة هو المسمى عند العلماء بـ (زلة العالم) وهي التي يحرم متابعته عليها، واعتماد قوله فيها. يقول الإمام الشاطبي في ضابط هذا اللون من الاختلاف مقرباً إياه لغير المجتهدين من المتفقهين: (إن له ضابطاً تقريبياً وهو أن ما كان معدوداً فى الأقوال غلطاً وزللاً قليل جداً فى الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها قلَّما يساعدهم عليها مجتهد آخر؛ فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين) (1) .
ومن نظر في أحوال من تقدم وتورعهم عن الفتيا إلا بما يعتقدون صحته يرى أن ذلك خفف كثيراً من وقوع الخلاف الشاذ بينهم؛ فلو أن المفتين التزموا مثل هذا الأصل ـ أصل التورع ـ ولم يفتوا إلا بما يعرفون متى وجب؛ لخفَّ الأمر على المستفتين، ولسلموا من العمل بالأقوال الشاذة التي لا يصح أن يفتى بها ولا العمل بمقتضاها.
وفي الجملة: فما جعل الله الباطل كالحق، بل أقام على هذا وهذا علامات وآيات تدل عليه، يدركها المخلصون المجاهدون فيه جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] ، ومع ذلك فلو قدر وقوعه ولم يستبن أمره للعامي، فتابع مفتيه عليه فإنه يُعذَر متى كان الحق طَلِبَته، واجتهد في تطلُّب المفتي الصالح، ومتى ما استبان له شذوذ القول بمخالفة آخر بنص بَيِّن؛ فاتباع النص ألزم وأوجب. يقول شيخ الإسلام: (والعالم إذا أفتى المستفتي بما لم يعلم المستفتي أنه مخالف لأمر الله فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصياً، وأما إذا علم أنه مخالف لأمر الله فطاعته في ذلك معصية لله) (2) ، وإن لم يتضح له فالأمر من قبل ومن بعد معلق بقوله ـ تعالى ـ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ، «فإنما شفاء العي السؤال» (3) ، وسيأتي مزيد بيان وتفصيل.
فإذا اتضح ما تقدم ـ ولو نظرياً ـ وهو متضح في بعض المسائل عملياً مع تفاوت بين الناس في ذلك؛ فإن التعامل الشرعي الصحيح يكون بإعطاء كل مسألة الوزن الذي تستحقه.
وليس هذا التقسيم المتقدم ذا حدود مانعة، بحيث تفصل بين المسائل بضابط قطعي، بل الأمر يتفاوت من عالم لآخر ومن مسألة لأخرى؛ فمن مسائل الخلاف مثلاً ما يكاد أن يكون إجماعاً لضعف الخلاف جداً، ومنها ما يتأرجح بين الخلاف السائغ وغير السائغ، وهكذا.
3 ـ أن تصرفات المفتين عادة تكون مركبة من قضيتين: حكم شرعي مستنبط، ثم تنزيل لهذا الحكم على واقعة مخصوصة (4) ؛ وعليه فالفتيا قد يدخل عليها الخطأ إما من قصور في إدراك الحكم، أو تقصير في معرفة الواقع، ولذا فالاختلاف الحاصل بين المفتين قد يكون أحياناً في تحرير حكم المسألة، وقد يكون في تنزيلها على الواقع. وبناء على هذا؛ فمن الفتاوى ما يمكن أن يجهل المستفتي خطأ الحكم المضمَّن في الفتوى لقصوره عن رتبة الاستنباط، لكنه لا يجهل مخالفة التنزيل للواقع، إما لعلمه بحقيقة الحال والواقع لتعلقه به، وعدم مطابقة الفتيا له، أو لغموض في السؤال أدى إلى إشكال في عملية التنزيل، وقد يكون للمستفتي مزيد اختصاص بعلم الواقعة من المفتي، مما يجعله أقدر على تفهمها، ومعرفة صحة التنزيل من عدمه، والاجتهاد في تحقيق المناط مما يشترك في بعض صوره العامة والخاصة، وفي بعض صوره لا يقدر بعض الخاصة على دقة التنزيل بخلاف بعض العامة للاختصاص، ولا تثريب في ذلك، كتمييز المرأة لدم الحيض مثلاً، ومعرفة المريض للمشقة الواقعة عليه من مرضه، ودراسة القوائم المالية لشركة لمعرفة حكمها وهكذا؛ فلو قدر أن مفتياً ألزم من جامع زوجته في نهار رمضان بالصوم، وادعى المستفتي عجزه، لم يكن للمفتي أن يلزمه بذلك، بل ينتقل به إلى ما دونه من صدقة، ويكل أمره وباطنه إلى الله؛ فإن كان صادقاً، وإلا أثم، وسلم المفتي. وكم من مسألة معلقة بالعرف مثلاً يتكلم فيها العالم باعتباره واحداً من أهل العرف فيخالفه غيره بالاعتبار ذاته، فتحقيق هذا إنما يكون بتحقيق طبيعة الواقعة ومناط الحكم.
وعليه؛ فاستبانة الخطأ في مثل هذه الفتاوى قد يتضح بما تقدم، ولا يصح إن اتضح للمستفتي خطأ في التنزيل الأخذ بالفتيا، بل الواجب توضيح الواقع على صورته للمفتي، أو الانتقال لمفت آخر؛ إذ المقصود ليس العمل بأي فتيا تتيسر، وإنما طلب الفتيا الموافقة لشرع الله والحاصلة في محلها، وليس القصد من هذا التقليل من شأن العلماء أو الطعن عليهم أو تخطئة تنزيلاتهم بإطلاق كلاَّ، وكلاَّ، وإنما القصد وضع الأمر في نصابه، وبيان وجهٍ من أوجه اختلاف العلماء، والذي ينبغي أن يُراعى ويُتفهم في إطاره الشرعي الصحيح، وفرق بين فهم النص وفهم الواقع؛ فكم أحاط شخص بأحدهما ونقص حظه من الثاني، وإن كان حد الكمال الأدنى من هذا وهذا مطلوباً في الإفتاء. والله أعلم.
المَعْلَم الثاني: طلب المؤهَّل للفتيا:
إن من الواجبات الشرعية المتعلقة بالمستفتي أن يتطلَّب المفتي الصالح للإفتاء؛ وذلك عملاً بقوله ـ تعالى ـ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ، فلا تبرأ الذمة بسؤال أي شخص، بل لا تبرأ إلا بسؤال أهل الذكر من العلماء؛ فالواجب أن يتحرى المستفتي في هذا، ويجتهد لإصابة المفتي المؤهَّل مجرداً عن صنوف الهوى، والتعصب لشخص، أو طائفة، أو إقليم، طلباً لإصابة مراد الله ـ جل وعلا ـ وحكمه. وإذا كان الرب قد استشهد العلماء على أجلى حقيقة شرعية، وأظهر الأصول الدينية، وهي الشهادة له بالوحدانية، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ، فلا يصح للعباد أن يستشهدوا على أحكام رب العباد إلا أهل العلم والديانة، فلا يصح استفتاء أهل الجهالة والغباوة، ولو تَصدَّروا أو صُدِّروا، ولا يجوز أن يُستفتى متساهل خارج عن الحد طلباً للترخُّص والتيسير، ولا جامد متعنت متشدد يسلَّط على أهل التقصير، بل يُطلب من يُظَن أنه يصيب حكم الرب ومراده، وقد قال الإمام محمد بن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (1) ، ولو أن أهل الجهالة مُنِعوا فتيا الناس لقل الشذوذ، وضعف أمره، ولخفَّت وطأة الخلاف على كثير من المستفتين؛ فإنهم لجهلهم وبجهلهم قد كثَّروا الدَّخَن لا كثرهم الله، وصدق من قال: (العلم نقطة كثَّرها الجاهلون) (2) ، و (إذا ازدحم الجواب خفي الصواب) (3) ، و (اللغط يكون منه الغلط) (4) و (لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف) (5) ، يقول ابن حزم: (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويقدِّرون أنهم يصلحون) (6) ، (فأضحى، وأمسى، وبات، وأصبح لزاماً على كل غيور أن تكون منه نفثة مصدور، لبيان عُوار البضاعة، والتبر من (الفبر) ، فليس كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة، وترى الرجل كالنخل، وما يدريك ما الدخل) (7) . فالاحتساب على أولئك واجب شرعي على من بيده حق الاحتساب من عالم أو أمير طلباً لكف شرهم عن الناس؛ والحَجْرُ عليهم فريضة لازمة صيانة للدين والعلم؛ إذ (الحَجْرُ لاستصلاح الأديان أوْلى من الحَجْر لاستصلاح الأموال والأبدان) (8) ، يقول ابن القيم: (من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً. قال أبو الفرج ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية؛ وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبُّب من مداواة المرضى؛ فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ وكان شيخنا ـ رضي الله عنه ـ شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلتَ محتسباً على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟!) (9) ، وصدق رحمه الله، والأمر كما قال ربيعة: وبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق.
وقد تكلم العلماء في صفة المفتي وشروطه، وفصَّلوا الكلام فيه، ليُعرَف المحق من المبطل، والصادق من الكاذب، والعالم من الجاهل؛ فمما ذكروه، ونبهوه عليه، مما يهم المستفتي، ما قاله الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: (لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله ـ عز وجل ـ إلا رجل عارف بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أُنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله #، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، وإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي) (10) . ويقول ابن الصلاح في شروط المفتي وصفاته: (أن يكون مكلفاً مسلماً، ثقة مأموناً، منزهاً عن أسباب الفسق، ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظاً) (11) . فهذا زبدة ما هنالك من صفات المفتي، وتفصيل هذه والتدليل عليها مما يطول فيه الكلام (12) .
ولعل مما يسهل الأمر ويقربه إلى الذهن أن يعتبر المستفتي في هذا الباب بالمثال؛ فإنه يقرب مدلول ما تقدم، ويسهِّل عليه المقايسة لمعرفة العالم من غيره، وذلك بمطالعة أحوال من تقدم من العلماء وسِيَرهم كسعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وابن عيينة، والأئمة الأربعة، وهكذا في جمع كثير جداً، وكذا من تأخر من أهل العلم ممن وُقِفَ عليهم بالمعاينة والمشاهدة كالشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني وغيرهم، فإنه سيعرف حقيقة العالم، وما يختص به من صفات تؤهله للنظر والاستنباط، وتصحح للمستفتي فتياه.
وقد نص العلماء على أن الطريق إلى التعرف على العالم شهرته بالعلم والعدالة بحيث يستفيض ذلك بين الناس، ونص بعضهم على أنه يُكتفى في هذا الباب بشهادة عدلين على أن فلاناً مفتٍ ولو لم يشتهر؛ لأنها من جنس الشهادة، بل قال بعضهم بواحد قياساً على جواز الواحد في نقل الإجماع، وبالغ بعضهم فاكتفى بشهادة الرجل العدل لنفسه بالفتيا ليُستفتى، وأحسب أن مثل هذه الطرائق في التجوُّز بشهادة الواحد والاثنين لو تسومح فيها في عصر متقدم لصلاح الأحوال، وشهرة العلماء، والقيام على المتعالمين الجهلاء لكان له وجه، أما وأن الحال قد تغير، والأمر قد اضطرب واختلط الحابل بالنابل، والليل بالنهار، لكثرة التعالم، وقلة العلماء، وظهور الجهل، وضعف العلم؛ فإن التحري في هذا الباب آكَد، وهو يستدعي من المستفتي اجتهاداً ومجاهدة، وجِدّاً ومثابرة في تطلُّب العالم الثقة، كما يستدعي من علماء الحق، وحراس العلم، أن يقوموا بدورهم في القيادة والحراسة، وليعلموا أن زمن العزلة والخمول قد ولَّى وراح، فلا الانعزال في حقهم جائز ولا الخمول سائغ، بل لا بد من الاشتهار قياماً بالدور الواجب المناط بهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن هذه الشهرة المشروعة لا تكون منهم إلا بالبذل من نفوسهم تعليماً وإرشاداً، بالوعظ، والتدريس، والخطابة، والتأليف، والخلطة، والمجالسة، وقوفاً على أحوال الناس، وسعياً في حل مشكلاتهم.
ومما يعين الإنسان على الوقوف على العالم الصادق، تحصيل العلم، ومجالسة العلماء وطلبة العلم؛ فإن من له ذائقة علمية يستطيع من خلالها تذوق ما عند الرجل من علم وجهل، ويميز بها العالم من الجاهل، والشيء يحن إلى الشيء؛ فليكن لك من العلم ما يؤهلك للنظر والتأمل، وليس القصد محاكمة العالم البحر، أو امتحانه بما يحصل من علم يسير، وإنما الشيء يدل على الشيء، والمثال يُعرف بالمثال، كما أن في مجالسة العلماء ومخالطة طلبة العلم ما يدل المرء على من يستحق أن يستفتى بتزكية أو ثناء أو إشارة، وإياك والاغترارَ بالمناصب، أو الرتب العلمية الحادثة ـ الماجستير والدكتوراه ـ فليس كل من حصَّل شيئاً من هذه بالضرورة فقيهاً، وليس كل بيضاء شحمة، فليكن منك هذا الأمر على بال، ومن نظر واختبر ومحَّص عرف. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالماً مجتهداً عالماً مجتهداً، ولو كان الكلام في العلم والدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحقَّ بالكلام في العلم والدين وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين؛ فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدعي ذلك لنفسه، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله؛ فمن هو دون السلطان في الولاية أوْلى بأن لا يتعدى طوره) (1) .
وخلاصة هذا المَعْلَم: التأكيد على لزوم اجتهاد المستفتي في أعيان المفتين، لمعرفة من يستحق أن يستفتى ممن لا تجوز فتياه، وأنه متى ما استفرغ وسعه، وأجهد نفسه في تطلُّب المفتي الحق، فقد أدى الذي عليه؛ فإن أصاب المستحق فالحمد لله وهو المظنون، وإلا كان معذوراً إذ تطلَّب الحق وكان إثمه على من أفتاه، وفيه يقول النبي #: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه» (2) . ومعلوم أن المستفتي إن استفتى من يعلم جهله، أو لا يعلم علمه، كان مخالفاً للأمر {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فلا يكون الإثم قاصراً على المفتي وحده بل يعمهما. يقول السندي: (إِذَا كَانَ هَذَا الْمُفْتِي مَعْلُومًا بِالجْهلِ وَبِالْفَتْوَى بِهِ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ يَسْأَلهُ) (3) ، وهذا بين واضح بحمد لله.
المَعْلَم الثالث: ليكن الحق هو طَلِبَتك ومقصودك:
وهذا المَعْلَم هو أمُّ المعالم وأصلها، وهو الذي إن صح صح للمرء مسلكه في الاستفتاء، واتضح الحق له، واستنار قلبه، وأشرقت روحه، ومتى ما كان مُقْصىً مبعداً، كانت الوحشة والظلمة، وكان الحق بمعزل. وقد تقرر أن واجب المستفتي عند الجهل بالشرع سؤال أهل الذكر، وهذا السؤال عبادة يشترط فيها ما يشترط في العبادة من إخلاص ومتابعة، فتجريد الإخلاص أن يكون الرب هو المقصود، والمتابعة الواجبة تكون بسؤال أهل الذكر، على وجه يوصل إلى الحق. ومن الأصول المقررة أن مرجع المسلم أياً كان ـ عالماً أو عامياً ـ عند الاختلاف هو الكتاب والسنة طلباً لإصابة الحق وتحقيق مراد الرب. يقول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ، ويقول ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ؛ فالرد لله ورسوله واجب من الجميع، وهو مَعْلَمٌ بدهي مستقر عند المسلمين جميعاً، بل هو مقتضى وحقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وعليه فالعالم يطلب حكم الله ـ جل وعلا ـ بنظره واجتهاده في دلائل الكتاب والسنة، والعامي يطلب ذلك بتوسيط العالم في فهم الكتاب والسنة لعجزه وقصوره عن هذه الرتبة. يقول يزيد ابن هارون: (إن العالم حجتك بينك وبين الله تعالى؛ فانظر من تجعل حجتك بين يدي الله تعالى) (1) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله، ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم) (2) ، وهذا الرد للكتاب والسنة هو المخرج للإنسان من داعية هواه ليكون عبداً لله. يقول الإمام الشاطبي: (إن في مسائل الخلاف ضابطاً قرآنياً ينفي اتباع الهوى جملة، وهو قوله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا المقلِّد قد تنازع في مسألته مجتهدان، فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة؛ فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة؛ مضاد للرجوع إلى الله والرسول) (3) ، والعالم المجتهد متى ما استفرغ وُسْعَه وبذل الجهد الواجب في تطلُّب الحق كان مأجوراً بكل حال أصاب الحق أو أخطأه؛ فإن كانت الإصابة فقد أصاب أجرين؛ وإلا كان له أجر واحد وخطؤه مغفور. يقول النبي #: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (4) ، فإن قصَّر في الاجتهاد وفرط في النظر وأفتى دون إعمال الفكر الواجب كان الإثم، أصاب الحق بفتياه أو أخطأه.
ويقال في المستفتي ما قيل في المفتي، إن استفرغ وُسْعَه في تطلُّب العالم الصالح لأن يفتي، وأحسن السؤال، وتجرد عن دواعي الأهواء أن تحرفه عن تطلب الحق، وكان الحق هو طَلِبَته ومقصوده، كان مأجوراً بكل حال أصاب الحق أو أخطأه. أما إن كان الحق غير مقصود بل المقصود غيره؛ فنية فاسدة يأثم بها أصاب الحق أو أخطأه. والله المستعان. يقول الباجي مبيناً حال هذا الصنف من المستفتين: (وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيْمان ونحوها: لعل فيها رواية؟ أو لعل فيها رخصة؟ وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به، ولا طلبوه مني ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذى يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله ـ تعالى ـ في حكمه؛ فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه، والله ـ تعالى ـ يقول لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] الآية، فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتى بما يشتهي، أو يفتي زيداً بما لا يفتي به عَمْراً، لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه وينهاه أن يخالفه وينحرف عنه. وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته؟) (5) .
وإذا نظرنا في أمر الاستفتاء نلحظ أنه ما وُضِع أصلاً إلا طلباً لحكم الله ـ جل وعلا ـ خروجاً من تحكيم الهوى، وإلا لو كان الهوى هو المطلوب وهو المقصود، لكان الاستفتاء عبثاً، ولذا يقول الإمام الشاطبي في كلام نفيس: (وأما إن كان عامياً فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه؛ واتباعُ الهوى عينُ مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكَّم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأُنزلت الكتب؛ فإن العبد في تقلباته دائر بين لَمَّتين: لمةِ مَلَك، ولمة شيطان؛ فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين، وقد قال ـ تعالى ـ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا #! 7! #) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 9] ، {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] ، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] ، وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات والهوى لا يعدوهما؛ فإذا عرض العامي نازلته على المفتي فهو قائل له: أخرجني عن هواي، ودلني على اتباع الحق؛ فلا يمكن والحال هذه أن يقول له: في مسألتك قولان، فاختر لشهوتك أيهما شئت! فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلت إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحِيَل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليطُ المفتي العاميَّ على تحكيم الهوى؛ وبعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمى به في عماية وجهل بالشريعة وغش في النصيحة) (6) .
وإن إخلاص القلب لله طلباً لإصابة أمره وحكمه واجب، ومتى ما اتضح للمستفتي هذا الوجوب، وامتلأت به نفسه وروحه، فإنه سيحمله على بذل ما يقدر عليه في سؤال من تبرأ الذمة بسؤاله، ولا يضيره بعد ذلك أصابه أو أخطأه، كما سيحمله على الترجيح الشرعي الصحيح عند اختلاف المفتين، فلا يأخذ بالأيسر لمجرد الترخُّص، أو بالأشق لمجرد الاحتياط، أو بقول الأكثر؛ لأنه قول الأكثر، بل لا يأخذ بالقول إلا طلباً للحق، فيرجح بين أقوالهم بلون من ألوان الترجيح. يقول الشاطبي: (وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين فكذلك أيضاً لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ومصادفة العامي المفتي؛ فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد؛ فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معاً ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح؛ كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معاً ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح) (1) ، ويقول: (فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد؛ فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف فكذلك المقلد، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع) (2) .
فيقال فيمن اختلف عليه مفتيان ما يقال في مريض اختلف عليه طبيبان مثلاً: أحدهما يقول في ورم أصابه: أمره سهل يسير ولا تشغل بالك، وأعطاه بعض المراهم. وآخر يحذره مغبتها، وأنه ورم سرطاني ينبغي المبادرة في استئصاله؛ فكيف ستكون حاله: أتراه يبادر إلى الأخذ بقول الأخف منهما؛ لأنه ما يتمناه في الباطن، أم سيسعى في الترجيح بينهما بالأخذ بقول الأعلم، أو الأخبر، أو المختص، أو بالنظر في دلائل هذا وهذا وما يقدمه كل من براهين، أو بسؤال ثالثٍ يرجح قول أحدهما؟ وهكذا، بل لو قُدّر أنه لم يستطع الترجيح بين القولين المتعارضين إلا بشيء يقع في قلبه، أو برؤيا منام، لساغ له العمل به وهو خير من الإقدام على أحد القولين بغير مرجح البتة. يقول الخرقي: (إذا اختلف اجتهاد رجلين اتبع أوثقهما في نفسه) (3) .
ويقول الإمام ابن القيم: (فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر فهل يأخذ بأغلظ الأقوال، أو بأخفها، أو يتخير، أو يأخذ بقول الأعلم، أو الأورع، أو يعدل إلى مفت آخر فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها، أو يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ فيه سبعة مذاهب، أرجحها السابع، فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين) (4) ، ويقول في مسألة العامي إذا لم يجد من يفتيه: (والصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله ـ تعالى ـ على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين ما يحبه وبين ما يسخطه من كل وجه بحيث لا يتميز هذا من هذا، ولا بد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق مؤثرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجحة ولو بمنام أو بإلهام؛ فإن قدر ارتفاع ذلك كله وعدمت في حقه جميع الأمارات فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة، ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلفاً بالنسبة إلى غيره؛ فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم والقدرة. والله أعلم) (5) ، وهذا كلام علمي عالٍ لو وجد طريقه إلى الجمهور وتحقق العمل به لزال كثير مما يُرى من اضطراب في أبواب الاستفتاء، ولامّحت كثير من صور التضجر من اختلاف العلماء، ولهان الخطب، لكن المشكلة أن تطلُّب الحق قليل، والهوى غلاب، والنفوس ضعيفة والله المستعان، واعلم أن تطلُّب الحق هذا إنما يكون بالتجرد عن كل طَلِبَةٍ إلا هو، فلا هوى يُقدَّم، ولا عادة تُحكَّم، ولا عصبية تُعمي وتُصم.
وقضية التجرد هذه ليست بالسطحية ولا بالسهولة التي يظنها البعض؛ إذ الأهواء أهواء ظاهرة جلية وأهواء دقيقة خفية؛ فلو سلم من الهوى الظاهر فأنَّى له أن يسلم من خَفِيِّه إلا بمجاهدة ومصابرة ومحاسبة وعسى، وليس المقصود الإعنات أو التعسير كلاَّ، وإنما التنبيه لما يعتري البعض من هوى خفي دقيق لا يُتنبه له فيكون سبب الانحراف وأصل الهلاك، كإلف قول، أو محبة متبوع، أو كراهية مفت، أو تشدد طبع، أو تساهل نفس، أو عجب وغرور، أو تقدم ورياسة، أو مال وعيشة، أو مراعاة لمذهب، أو تعصب لطائفة، أو ابتلاء بمسألة، أو نشأة على رأي، أو اختيار متقدم، أو حاجة إلى حكم وهكذا؛ فمتى ما حصن المرء نفسه من هذه جميعاً وتوجه للحق بكليته، كانت الإصابة وكان الأجر، وإن لم يوفق للحق في المسألة، فقد أصاب المطلوب منه بما بذله من نفسه وعقله وروحه وقلبه في تطلب الحق، ومثل هذا القلب المستنير بمثل هذه المعاني جدير أن يستفتى ويراعى ساعة الاستفتاء، ومثله مقصود بقول النبي #: «استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» ، ولا بد من وقفة مع هذا الحديث، فإلى المَعْلَم الرابع.
المَعْلَم الرابع: استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك:
هذا المَعْلَم متصل بالمعلم السابق ومفرَّع عليه، وأصله مأخوذ من حديث وابصة الأسدي أنه قال: أتيت رسول الله #، وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البِر والإثم إلا سألته عنه، وإذا عنده جمعٌ، فذهبت أتخطى الناس، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله #! إليك يا وابصة! فقلت: أنا وابصة دعوني أدنو منه؛ فإنه من أحب الناس إليَّ أن أدنو منه، فقال لي: «ادنُ يا وابصة! ادن يا وابصة!» فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته، فقال: «يا وابصة! أخبرك ما جئت تسألني عنه، أو تسألني؟» فقلت: يا رسول الله، فأخبرني! قال: «جئت تسألني عن البر والإثم» ، قلت: نعم! فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: «يا وابصة! استفت نفسك (6) ، البِرُّ ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس. قال سفيان: وأفتوك» (7) ، وقد تباينت مواقف العلماء من هذا الحديث، ومدى إعماله، وكيفية ذلك، والصواب أن النص ثابت صحيح، وأنه محل للعمل؛ وذلك في مجالات وأحوال، ترجع إلى طبيعة المستفتي وقلبه، وحال المفتي، وطبيعة الاستفتاء، وحال الفتيا، وتفصيل هذا الإجمال فيما يلي:
1 ـ أنه يشترط لتفعيل هذا النص أن يكون القلب سليماً كما تقدم، فالقصد هو الرب جل وعلا، لا تحصيل فتيا معينة، متابعة لهوى النفس ورغباتها؛ إذ القلب المشحون بالهوى مصروف به عن الحق؛ فأنى له أن يُستفتى، وهذا بيِّن بحمد الله؛ فهذا الحديث حرام على كل قلب مريض بشبهة أو شهوة.
2 ـ أن يعرض للمفتي أمر يدل على ضعف علم، أو قلة صدق، أو متابعة هوى أو غير ذلك، مما يطرح الثقة عنه، ويجرده عن لزوم المتابعة؛ إذ إن من اتصف بهذه الأوصاف فالأصل عدم الأخذ بفتياه، بل استفتاء القلب إن عرض للمستفتي أمر وظهر على المفتي أمارات تعجُّل أو فتيا بظن أو ميل إلى هوى أو بغير حجة ولا دليل مشروع، بشرط أن يكون القلب سليماً من الآفات كما تقدم، وفي ذلك يقول الحافظ ابن رجب: (وهذا ـ أي الحديث السابق ـ إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يُفتي له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعي) (1) ، ويقول الغزالي: (واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح الشيء أما حيث حرم فيجب الامتناع ثم لا يعوَّل على كل قلب؛ فرب موسوس ينفي كل شيء، ورب متساهل نظر إلى كل شيء؛ فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق المراقب لدقائق الأحوال، فهو المحك الذي تُمتحن به حقائق الصور وما أعز هذا القلب!) (2) ، ويقول فخر الدين الرازي: (والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله ـ تعالى ـ كان حسناً وإلا فلا، وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر: «استفت قلبك ولو أفتاك المفتون» فليتأمل الرجل تأملاً شافياً أن الذي أتى به: هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا؟ فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة) (3) .
3 ـ أما إن لم يظهر على المفتي المؤهل شيء يشي برد فتواه، وليس ثَمَّ معارض شرعي صحيح يحمل المستفتي على رد الفتيا، فليس له رد الفتيا استفتاءً للقلب، بل الواجب حمل القلب على قبول الأمر كما هو، والأصل أن المفتي هو العالم، والمستفتي جاهل؛ فأنى لهذا أن يرد كلام ذاك. يقول ابن رجب: (فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرُّخَص الشرعية، مثل الفطر في السفر، والمرض، وقصر الصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال؛ فهذا لا عبرةَ به، وقد كان النَّبيُّ # أحياناً يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم، فيمتنعون من فعله، فيغضب منْ ذلك، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم، والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية، فكرهوه، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم) (4) ، وهذا كلام جيد، وضابط مهم، وبين أنه ليس مما قبله في شيء؛ إذ عدم انشراح القلب ذاك لعلم أو شك معتبر شرعاً كما قد تبين. أما (ما ورد النصُّ به، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، وينبغي أنْ يتلقى ذلك بانشراح الصَّدر والرِّضا؛ فإنَّ ما شرعه الله ورسولُه يجبُ الإيمانُ والرضا به، والتَّسليمُ له، كما قال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وأما ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله ولا عمَّن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة؛ فإذا وقع ـ في نفس المؤمن المطمئنِّ قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين ـ منه شيءٌ، وحكَّ في صدره لشبهة موجودة، ولم يجد مَنْ يُفتي فيه بالرُّخصة إلاَّ من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يُوثَقُ بعلمه وبدينه، بل هو معروفٌ باتباع الهوى، فهنا يرجعُ المؤمن إلى ما حكَّ في صدره، وإنْ أفتاه هؤلاء المفتون) (5) ، ولو قدر أن المستفتي شك في فهم المفتي للسؤال، وحقيقة الحال، فليس له الأخذ بفتواه ما دام يعلم من نفسه وقلبه أنه طالب للحق، وطالب الحق إن وقف في مثل هذا الموقف لن يأخذ إلا بفتيا تنفعه مثلاً؛ لأن الحق مقصوده ومطلوبه، وهذا أمارة الصدق وعلامته، وإلا فكم من المستفتين غير الصادقين ممن يجزمون بعدم فهم المفتي للواقعة بل قد يلبِّسون عليه في صورة الاستفتاء طلباً لفتيا معينة فيفتيهم بها فيتهللون ويفرحون ويحسبون أنهم على شيء، وأنهم قد تخلصوا من الإثم والمغرم، وأنهم قد جعلوها في رقبة عالم، ويقولون: من قلد عالماً لقي الله سالماً، ألا ساء ما يصنعون، ولا والله! ما هذا الصنيع بنافعهم في شيء، والله يعلم السر وأخفى، والله عليم بذات الصدور. يقول الغزالي: (فالمفتي يفتي بالظن، وعلى المستفتي أن يستفتي قلبه، فإن حاك في صدره شيء فهو الإثم بينه وبين الله؛ فلا ينجيه في الآخرة فتوى المفتي؛ فإنه يفتي بالظاهر، والله يتولى السرائر) (6) . ويقول ابن القيم في كلام جامع نفيس: (لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها لقوله #: «استفت نفسك، وإن أفتاك الناس وأفتوك» فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك كما قال النبي #: «من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار» ، والمفتي والقاضي في هذا سواء ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن أو لشكه فيه أو لجهله به أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحِيَل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها؛ فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة؛ فإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة) (1) .
المَعْلَم الخامس: حسن السؤال نصف الجواب:
أركان الفتيا أربعة: مفت، ومستفت، وفتيا، واستفتاء. وواجب المفتي أن يؤدي فتيا مطابقة للاستفتاء في ضوء الشريعة، وواجب المستفتي أن يعطي سؤالاً طالباً حكم الشريعة، فإن أحسن فباب الغلط في الفتيا سيضيق، وإن كانت الأخرى فقد وسَّع باب الغلط، فواجب على المستفتي أن يؤدي سؤالاً صادقاً يعبر عن صدقه في تطلب الحق، وأن يصدق في وصف المسألة، وإلا كان ذلك أمارة وإشارة إلى كدرة بالقلب، وظلمة في النفس، وطمع في جواب يحقق للشخص مقصوده خارج إطار الحق، وهذه آفة لا حل لها إلا تصحيح النية، وإصلاح القلب، ومتى ما صلح القلب صلح سائر العمل ومتى فسد فسد سائر العمل، وإن آفة الآفات في كثير من الاستفتاءات، أن تكون مضمَّنةً معاني وإشارات إلى جواب معين محدد، يطلبه المسفتي محاولاً استصدار فتوى معينة من العالم؛ فتراه يسأل مثلاً عن أمر معين معدداً من الفواحش والمنكرات فيه ما يستوجب أن يكون فتيا العامي بالتحريم فكيف بالعالم، أو يهوِّن ويهوِّن طلباً للإباحة والترخيص، وأنَّى لهم الرخصة؟ فهذا النوع من الأسئلة الملغومة، والذي يُعرف وجه الجواب قبل استكمال السؤال، غير جائز ولا مشروع، إلا إن كان تعبيراً صادقاً مطابقاً للواقع، فإن كان بخلافه فكذب على الواقع، وتضليل للمفتي، ودَخَن في النية، وأضرب لك مثلاً منه، وما أكثره في عالم الاستفتاءات، يدل على المقصود، وينبه على الفطنة التي يجب أن يتحلى بها المفتي، فلا ينجرف مع مثل هذا السؤال، فيقع الغلط والخلط. سئل الشيخ بن عثيمين في لقاء الباب المفتوح ما نصه: (فضيلةَ الشيخ: بالنسبة لمنظمة حماس الموجودة الآن في الأرض المحتلة وما تقوم به من عمليات انتحارية وغيرها ضد اليهود، هل هذا العمل شرعي؟ علماً بأنها قد تكون سبباً في انتقام اليهود بأشد مما قام به أعضاء هذه المنظمة، وكذلك قيامهم ضد دولتهم الجديدة هل هو شرعي؟) فكان جواب الشيخ ـ رحمه الله ـ: (نسمع أنهم يقومون بعمليات ضد اليهود، ونحن نرى أن اليهود أهل غدر وخيانة، ولا يمكن أن يفوا لأحد، وإن تظاهروا بما يتظاهرون به، فوراء هذا التظاهر ما وراءه من الشر، وإذا كانوا لم يفوا بالعهد لأشرف البشر محمد # فكيف بمن دونه؟! نفهم أن اليهود أهل غدر وخيانة، وأما عملية حماس أو غيرها فنقول للسائل: إذا كنت مندوباً عنهم، فأثبت لنا ذلك ونحن نفتيك إن شاء الله) (2) .
والمقصود أن المخلِص الصادق في السؤال يجب عليه أن يصوغ سؤاله في قالب محايد لا يوجه المفتي لقول دون آخر، بل يتجرد في المَخْبَر والصورة ليتجرد له الحق بإذن الله، فإن الفتيا متى ما وقعت على وجهها وصورتها في الواقع ففتيا صحيحة، وإلا كانت فتيا باطلة لا يعذر المستفتي بالعمل بها، وكم ترى من خلاف تظنه بين العلماء والمفتين، وحقيقته أنه عائد إلى اختلاف أسئلة المستفتين، وما يرومونه من إجابات.
وخاتمة المقال وزبدته ولبابه، والذي عليه المدار في شأن الاستفتاء إصلاح الباطن؛ فإنه متى ما صلح صلح الظاهر، ومتى ما فسد فسد الظاهر جزاء وفاقاً، وإن هذا الصلاح والإصلاح واجب متعين على المستفتي، إن أداه وصدق فيه؛ فهو الموفق في أمر استفتائه، أصاب الحق أم أخطأه، وإن ضل عنه لم ينفعه صلاح الفتيا، بل عليه وزر الفساد، وواجب المستفتي لا يخرج عما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في كلمة مختصرة له حيث قال: (وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان) (3) ؛ فهو يطلب من يفتيه بشرع الله ورسوله لا لشهوته وهواه.
أسأل الله الكريم أن يصلح نياتنا وأعمالنا وأحوالنا إنه خير مسؤول، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) التعالم 31. (4) تعظيم الفتيا 113.
(2) رواه البخاري 5231، ومسلم 2671، والترمذي 2205، وابن ماجه 4045، والإمام أحمد في المسند 12395. (5) أدب المفتي والمستفتي 80.
(3) أدب المفتي والمستفتي 80. (6) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي 11.
(7) إعلام الموقعين 6/118.
(1) الصواعق المرسلة 2/5119.
(2) ومن الكتب المصنفة في هذا: الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف لابن السيد البطليوسي، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، والإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي، والخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه للشيخ ابن عثيمين.
(3) الفتاوى 14/159. (4) الموافقات 5/221.
(1) الموافقات 5/140.
(2) الفتاوى 19/261.
(3) رواه أبو داود 336، وابن ماجه 572، والإمام أحمد في المسند 3048، صححه أحمد شاكر في تحقيقه على المسند 5/22، وحسَّن إسناده الألباني في صحيح أبي داود 337.
(4) وقد تتجرد من الثاني، إن كان القصد معرفة الحكم فقط، وذلك بحسب السؤال، وطبيعة الاستفتاء.
(1) وقد رفعه بعضهم للنبي #؛ لكنه ضعيف جداً. انظر السلسلة الضعيفة 2481، كما رواه الحاكم عن أبي هريرة من لفظه، وكذا الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/195 لكنه ضعيف، العبارة مشهورة عن محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ رواها عنه الإمام مسلم في مقدمة الصحيح، انظر شرح صحيح مسلم 1/84، ومن العبارات القريبة منها قول أنس بن سيرين: اتقوا الله يا مشر الشباب! انظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث؛ فإنها من دينكم. رواه الخطيب في الجامع 1/196.
(2) وينسب لعلي رضي الله عنه، انظر تاج العروس 20/153، وسبل السلام 4/187، ومما ذكره صاحب إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، كتاب لعبد الغني ابن إسماعيل النابلسي بعنوان زيادة البسطة في بيان العلم نقطة، وللشيخ أحمد الجزائري رسالة في شرحها.
(3) جامع بيان العلم وفضله 1/148. (8) التعالم 10، 41.
(4) جامع بيان العلم وفضله 1/148. (9) إعلام الموقعين 6/131.
(5) جامع بيان العلم وفضله 1/148، ولا يخفى أن الإطلاق غير مقصود، لكن لو سكت من لا يعلم لسقط الكثير بلا ارتياب. (10) تعظيم الفتيا 70.
(6) مداواة النفوس 23. (11) أدب المفتي والمستفتي 1/86.
(7) وغاب عني الآن قائل هذه الكلمات. (12) وتجد الكلام مفصلاً في جمهور كتب الأصول.
(1) مجموع الفتاوى 27/296.
(2) رواه أبو داود 3657، وابن ماجه 53، والإمام أحمد في المسند 8558، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه على المسند 16/118، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 3657.
(3) شرح سنن ابن ماجه، القزويني 1/27.
(1) الفقيه والمتفقه 2/378.
(2) مجموع الفتاوى 20/224.
(3) الموافقات 5/81.
(4) رواه البخاري 7352، ومسلم 1716، وأبو داود 3574، والترمذي 1326، والنسائي 5381، وابن ماجه 2314، والإمام أحمد في المسند 17320.
(5) الموافقات 5/90.
(6) الموافقات 5/96.
(1) الموافقات 5/76. (2) الموافقات 5/81. (3) روضة الناظر 1/385.
(4) إعلام الموقعين 6/205. (5) إعلام الموقعين 6/136. (6) وعند الدارمي 2533 وغيره (قلبك) .
(7) رواه الإمام أحمد في المسند 17540، وحسَّن إسناده النووي في الأذكار 504، والأربعين النووية 27، والشوكاني في إرشاد الفحول 2/284، والألباني في صحيح الترغيب 1734.
(1) جامع العلوم الحكم 2/102.
(2) البحر المحيط في أصول الفقه 4/402.
(3) التفسير الكبير 18/84.
(4) جامع العلوم والحكم 2/102.
(5) جامع العلوم والحكم 2/103.
(6) إحياء علوم الدين 2/103.
(1) إعلام الموقعين 6/192.
(2) لقاء الباب المفتوح 3/178.
(3) الفتاوى 20/209.(229/3)