خريف الليبرالية نظرات في أزمة الليبراليين مع حدث الاستهزاء بالنبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-
عبد الله بن صالح العجيري
إن في حالة الغضب التي تعيشها الأمة اليوم تعبيراً صادقاً عن المحبة التي تملأ النفوس، وتعتلج في القلوب، وتسري في الأرواح، تجاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أشرف الناس، وأحسن الناس، وسيد الناس، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا الغضب هو الحق الأول الذي تقدمه الأمة نصرةً لنبيها الكريم -صلى الله عليه وسلم-، والذي يستتبع حقوقاً وواجبات أخر؛ إنه الغضب الواجب الذي سنّه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نرى محارم الله تنتهك، وهو الغضب الذي يزعج البدن للتحرك، والعقل للتفكير طلباً للنصرة، كلٌّ بحسبه، وحسب موقعه، وعلى وسعه وطاقته، بالحكمة التي تصلح ولا تفسد، وتبني ولا تهدم، فلا تهوُّر ولا طيش، ولا كسل، بل وضع للشيء في موضعه المناسب، وفي وقته الصحيح.
وإن فيما يرى من مظاهر الغضب والنصرة لدليل على الخير المتأصل في كيان هذه الأمة والمستقر في وجدانها، وهل كان يُنتظر من أمة الإسلام إلا هذا؟ وهل كان يُظن بها إلا ما وقع؟ إنها أيام الغضب والفرح، الغضب للرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى أعداء الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والفرح بنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما تحقق للأمة من مكاسب ونجاحات، لكن مما يؤلم ويؤذي ما يُرى من إعراض بعضٍ عن مشاركة الأمة غضبتها، بل نصرتها لنبيها -صلى الله عليه وسلم-، فخنسوا وسكتوا، ثم سكتوا، ثم نطقوا فبئس ما نطقوا؛ وليتهم ما فعلوا؛ فلا هم بالذين نصروا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا هم بالذين تركوا الأمة وخيارها يعملون في نصرته، إنهم مسوخ بشرية القالب ناطقة بالعربية والضاد لكن القلب غربي الهوى، قد ركبوا موجة الأحداث لكن في الوقت الضائع، وسبحوا في بحرها لكن بعكس التيار، ليثبتوا للأمة أنهم في واد والأمة كلها في واد آخر؛ فلا الهمُّ هو الهمُّ، ولا القضية هي القضية، ولا المصالح هي المصالح. لهم برنامجهم الخاص الذي يريدون تمريره، ولهم خطتهم التي يريدون تنفيذها، قد وجدوا في الأحداث تعطيلاً للمخطط، وعائقاً لتمرير المشروع، فأخذوا في الالتفاف حول الحدث محاولين تجاوز العوائق، ولملمة المشروع، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فخرجوا من بعد صمت ليدعوا الأمة إلى التسامح والعفو والتهدئة، في وقت يأبى العدو أن يتقدم باعتذار، بل يزيد من سخريته وباستهتار، وكتبوا ليجرُّوا الأمة لمعركة داخلية، بدل توحيد الصف لصدِّ الهجمة الخارجية، ونطقوا بالسوء لتصفية الحسابات وتوزيع التهم وكيْل الشتائم، وكان الظن أن مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- محل وفاق وكلمة إجماع، وأن هذا المقام متى مُسّ فالكل سيقول كلمته الواضحة البينة في نصرته -صلى الله عليه وسلم-؛ لا التواء فيها ولا غموض، فخيّب القوم الظن وأظهروا قبيح ما تكنّه الأفئدة والقلوب، فطعنوا الأمة في الظهر، وحاولوا الاصطياد في الماء العكر، وأقدموا على تفريق الصف في ظرفٍ الأمة كلها مستنفرة في وجه عدو واحد، فأضحى كشف هذا التوجه المشؤوم واجبنا نصرةً للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ونصحاً للأمة، وفضحاً لهذا التيار، وتسجيلاً لمواقف السوء هذه ليحفظها التاريخ: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .
من دعوات التيار الليبرالي ـ والتي بدأت تتضح أبعادها، وتتكشف ملامحها ـ دعوتهم إلى (التسامح مع الآخر) والتي علا صوتهم بها، وتتابعت كتاباتهم فيها، والتسامح متى وضع في موضعه الصالح له واللائق به كان خُلُقاً إسلامياً مندوباً إليه، لا شك في ذلك ولا ارتياب، شأنه في ذلك شأن غيره من الأخلاق، لكنهم بما يسطرون اليوم يكشفون عن حقيقة دعوتهم المشبوهة هذه، وأن التسامح المطلوب ليس هو ذاك التسامح الشرعي الذي جاء الحضُّ عليه والأمر به، كلاَّ؛ إنما هو لون جديد من التسامح أبعد مدى وأوسع مساحة، إنه التسامح مع من اعتدى، وأذلّ، وأهان، ووجّه الصفعة بعد الصفعة، وأعظم في الفِرية، ويدَّعون أن هذا سنة نبوية، وطريقة محمدية؛ فهل على الآخذ به من ملام؟ وما علم القوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حكيماً بل سيد الحكماء، يزن الأمور بالعدل، ويضع الدواء على الجرح، ويقدِّر المصالح والعواقب؛ فكما ترك عبدَ الله بن أبيّ بن سلول ـ زعيم المنافقين ـ بلا عقاب، أخذ عقبةَ بن أبي معيط بما أساء. وكما قال لقريش: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» أمر بقتل ابن خطل ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة. وهكذا، فليس الأمر ـ كما يراد تصويره ـ تسامحاً مطلقاً، أو عقاباً مطلقاً، وإنما الأمر إلباس كل حدث لبوسه، وإعطاء كل مسألة حقها. وأحسب أن ما يجري اليوم من انتهاكات صارخة لدين الإسلام ونبي الإسلام لا محل فيه للتغافر والمسامحة والتجاوز، وإنما الواجب القيام بالنصرة، والغضب لله، واستيفاء الحقوق.
أما دعوة الأمة إلى التغافل عن حجم المأساة، والإعراض عن عظم الجريمة، وفتح أبواب التسامح والمسامحة للمخطئين، وأن يقتصر النقد ـ إن كان ـ على الكلمة الطيبة، والعبارة اللينة، والأسلوب الهادئ، من غير جرح شعور ولا إيلام، وكأن الأمة هي الجانية لا المجني عليها، وكأننا مَنْ ظَلَمْنا لا من ظُلمنا، وكأن الاعتداء واقع منا لا بنا؛ فليس بصحيح ولا مشروع، بل بَذْلُه والحالة هذه مناقضة لمثل قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:] ، والقوم ظالمون ما في ذلك من شك.
إن التسامح المشروع لا يكون إلا إذا صادف محلاً مناسباً، وإن أولئك المستهزئين بمقامه -صلى الله عليه وسلم- ليسوا موضعاً صالحاً للتسامح، وإن التسامح مع أولئك المجرمين جريمة شرعية لا يجوز أن يكون بحال، وليس للأمة الحق في التنازل عن حقه الشريف -صلى الله عليه وسلم- تحت لافتة التسامح والمسامحة، وليت شعري أي عيش يبقى وأي حياة تطيب يوم يمس جناب النبي -صلى الله عليه وسلم- والأمة تقف موقف المتفرج المتسامح، المتغاضية عن صفعات الخصوم، والتي لا تطالب بحقها، فإن طلبته فعلى استحياء؟ إن إجماع الأمة عامة منعقد على حرمة التسامح مع من سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما قال عالم ولا شبه عالم بمثل ما يريده هؤلاء منا، وفي كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول» لشيخ الإسلام ابن تيمية عظة وعبرة.
والقوم بدعوتهم للتسامح والتغافر والتجاوز عن الإساءة يلملمون ما تبقى من مشروعهم الخاسر (التقارب والتقريب بين المسلم والكافر) تحت شعارات التعايش والتسامح والسلام، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخطط إلغاء عقيدة الولاء والبراء، وهم معذورون فيما يفعلون، فالخطب جلل، والأمر عظيم، والأحداث تجري على خلاف الهوى والمخطط، فليس لهم إلا هذا المركب الصعب ليركبوه ولعل وعسى. لقد ظهر للجميع حقيقة حال (الآخر) ! منا، واستبان للناس مدى الاحترام الذي تكنّه صدروهم وقلوبهم لنا ولديننا، وأن الأحقاد الصليبية لا تزال تتسكع على الجسد الأوروبي، وأن النظرة السلبية للمسلمين لا زالت المسيطرة على المشهد الغربي، وأنهم لا زالوا يعانون من عقدة (الإسلاموفوبيا) ، وأقوال عقلائهم ومنصفيهم شاهدة بهذا وما أكثرها! وتاريخ الأمة السابق وواقعها المعاش خير شاهد، وإن تغافل عن هذا كله المستغربون ولجوا وجعجعوا. بالله عليكم! أي حقد وبغض أظهر مما وقع وجرى حيال نبي أمة المليار مسلم؟ وأي طعنة أنفذ وأنكى من هذه الطعنة؟ وأي إهانة وصفعة وركلة أشد من هذه الإهانة؟ ثم يكبر على أولئك الظالمين بعد هذا كله أن يقدموا كلمة (اعتذار) ؛ فكيف بما فوقه؟ وقد اتضح للجميع أن مقام نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأمته من بعده لا تساوي عندهم شيئاً في مقابل حقهم ـ المزعوم ـ في ممارسة حرية التعبير، وإن فيما نرى من تسارع محموم لنشر صور الإفك هذه، وذلك التعاضد والتناصر الذي يُرى، والتصريحات العدائية التي نتلقاها عن اليمين والشمال لدلالة على أن الأمر أكبر مما نظن، وأنه أوسع دائرة مما نحسب، وصدق الله القائل: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] .
من غرائب المواقف المثبَتَة على هذا التيار تبرير ما وقع من اعتداء، والاعتذار عما حصل من إساءة، والمدافعة عن المجرمين المعتدين، في محاولة لامتصاص الغضب والتهدئة، وذلك بمختلف التبريرات، وأنواع الاعتذارات؛ فبعضهم (1) يصرح بأن المسلمين هم السبب فيما وقع، على قاعدة «لعن الله من لعن والديه، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أم الرجل فيسب أمه» ! فما وقع من اعتداء على جناب النبي -صلى الله عليه وسلم- حلقة في سلسلة من الاعتداء المتبادل والذي انتهى إلى ما انتهى إليه، هكذا والله يسطرون، وهكذا يحمّلون أهل الإسلام تبعة ما جرى، ويجري، وكأنهم ليسوا منا، وكأنهم الناطق الرسمي باسم المعتدين، إنهم بمنطقهم الغريب هذا يقلبون الطاولة على أهل الإسلام فيجعلونهم معتدِين بعد أن كانوا مُعتدَى عليهم، ويُظهرونهم في مظهر الظالم بدل أن يكونوا مظلومين، و (البادي أظلم) ! إن الدعاوى من أسهل الأمور، ووضع (السيناريو) على حسب المزاج من أيسر الأشياء، لكن الصعب تقديم الأدلة، ووضع البراهين، وسياق الحجج، وإلا فليخبرونا عن هذا المسلسل المزعوم في الدانمارك والذي أدى إلى ما نرى ونسمع: متى ابتدأ، وكيف كانت حلقاته، وأين مجال الاعتداء من الطرف الإسلامي الذي استفز مخالفيه فقالوا ما قالوا، وأقدموا على ما أقدموا عليه؟ فإن عجزوا وخرجوا من هذه صفر اليدين ـ وإنهم لخارجون بها ـ فسقطة تستدعي تراجعاً وأوْبة، ولا يخفى أن المسألة أعمق غوراً من مجرد التهارج والجهل بين فئات محدودة من هنا وهناك كما يظهر لكل ناظر في مسلسل الأحداث.
والقوم في دفاعهم المشبوه هذا يذهبون إلى أبعد من هذا في تحميل المسلمين مسؤولية الأحداث، وأن السبب في استفحال الأمر عدم كفاءة القيادات الإسلامية بالدانمارك في معالجة المشكلة بالأساليب القانونية، وفشلهم في رفع الدعاوى القضائية (2) ، وكأن المسكين لا يعلم أن المسلمين هناك قد بذلوا الجهد في إيصال صوتهم لكنهم قوبلوا بالغطرسة والعنجهية الدانماركية، هذه الغطرسة التي تأبى على القوم تقديم الاعتذار الصريح مع التصعيد الحاصل؛ فكيف ولمّا يتم التصعيد؟ إن طلب المسلمين ـ يا أستاذ ـ برفع القضية قد رُفض، بل رفض رئيس الوزراء الدانماركي استقبال السفراء العرب، لقد سدت الأبواب، وأغلقت المنافذ، وهُمّش المسلمون؛ فكيف يحملون تبعة هذه الجريمة يا فهيم؟
وأطرف من هذا وأغرب ما سطره آخر زاعماً أن جميع ما يرى من أحداث إنما هو بتدبير جماعات ذات صلة بتنظيم (القاعدة) ! إي والله! وذلك لتعكير أجواء الصفاء بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، ولئلا يقال متقوّل أو مفتر أسوق هذا النص لأحدهم بحروفه يقول: (وتقول مصادر مخابرات أوروبية، وبلد إسلامي أفريقي أنها حذرت بلداناً الإسلامية من خطة يدبرها «ناشطون دانماركيون» مع «منظمات سرية» يحتمل اختراقها من القاعدة، تهدف لصدام بين الغرب والمسلمين، وهو من أهداف زعماء الإرهاب، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وبدلاً من أن تأمر الحكومات الإسلامية مخابراتها بالتحقيق في مصادر تمويل حملة «أئمة كوبنهاجن» وصلاتهم بالإخوان والطالبان وجماعات تخريب أخرى تعمل في الظلام، استغل بعضها الأزمة لصالح أجندتهم السياسية) (3) ، أرأيتم كيف يتم الاستغفال، وتمرر الأكاذيب، وتنشر الشائعات؟ ألم أقل لكم إن الخطب جلل، وإن الأمر صعب، وإن الأحداث قد آذت أهل هذا التيار، فولجوا هذا السبيل، وسلكوا هذا الطريق، لعلهم يثوِّرون في سماء الحقيقة الغبارَ، أو يغطون شمسها عن الأبصار، لكن للناس عقول، ولعل عقول القوم في إجازة.
ومن غريب ما يعتذر به القوم عن الإساءة الواقعة، وما يقدمونه من تبريرات، الزعم بأن ما وقع من سخرية واستهزاء عائد إلى طبيعة الدانماركيين المتفلتة، وهوسهم بالتحرر والانطلاق، وعشقهم لحرية التعبير، مع عدم التدين، وعدم الإيمان، وأنه ليس ثمة حقد مزعوم، ولا عداوة متوهمة، ولا قضية بينهم وبين رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فلا ينبغي أن تُضخَّم المسألة، وأن تُخرَج عن هذا السياق؛ فالأمر لا يعدو أن يكون سوء تفاهم، وعدم تقدير للعواقب ليس إلا، وأن إخراج القضية عن هذا الإطار تصعيد لا مصلحة فيه، بل هو تصعيد مقصود لأهداف تحتية، ومصالح شخصية، ومكاسب فئوية (4) ، بل إثارة الموضوع أصلاً وإخراجه من الصعيد المحلي الدانماركي ليكون شأناً عالمياً غير صحيح، وأن الواجب محاسبة المسؤولين عن هذه (الشوشرة العالمية) (5) التي لا فائدة فيها، ولا أدري لِمَ التغابي عما وقع، ولِمَ التعامي عما حدث، ولِمَ لا ينصف القوم ويُقرون بالحقائق كما هي بموضوعية وعدل، وينظرون فيما يجري على الأرض كما هو، لا أن يسعوا في ليّ عنق الأحداث لأفكار مسبّقة، ويحمِّلوا الواقع ما لا يحتمل. ما نُشِر إساءةٌ، وما نُشِر دليل على صورة نمطية سلبية للإسلام، وما نُشِر ينمّ عن عداوة مستقرة في النفوس، هكذا هو الأمر ببساطة ومن غير تعقيد، وبالله عليكم مَنْ نظر في تلكم الصور الآثمة هل يظن في راسمها أنه محب للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو على الأقل محايد في نظرته إليه أم أنه مبغض له معادٍ؟ ألم يصوروه مرتدياً عمامة على صورة قنبلة إشارة إلى دمويته، وأنه لا يعدو أن يكون إرهابياً، والإرهابي عدو؟ ألم يصوروه بصورة قبيحة حاملاً في يده خنجراً كأنه جزار ومن خلفه امرأتان منقبتان؟ بل صوروه بما هو أقبح وأشنع؛ بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-. أهكذا يصورون نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ثم يأتي من يزايد علينا، ويريد إقناعنا بأنه ليس ثمة عداوة ولا حقد ولا كراهية ولا شحناء؟! إن في هذا الاستهزاء المشين بمقام نبينا الأمين لدليل على قبيح ما يضمرونه حيال نبينا وديننا، وفي تصريحاتهم وكلماتهم ومواقفهم ما يدل على أن الأمر ليس تسلية بريئة، أو تجاوزاً ينبغي أن يتغاضى عنه، كلاَّ، إنه خطأ، وإنه اعتداء، وإنه جريمة لا ينبغي السكوت عليها، فأقصروا عن التبرير والمدافعة، وانأوا بأنفسكم عن السقوط في هذه الهوة؛ فإنها سقطة يوشك أن لا تقوموا بعدها؛ فالناس تحفظ، والتاريخ يسجل، ولا مخرج لكم إلا إعلان البراءة مما سطرتموه، ولعل وعسى.
من قبائح هذا التيار وأهله أنهم سعوا في مثل هذا الظرف الذي تعيشه الأمة إلى افتعال المعارك، وإشعال الخصومات، في محاولة لصرف المعركة الحاصلة بين المسلمين والمعتدين على جناب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لتحول المسألة إلى لون من الاحتراب الداخلي، هذا منتصر غالب، وذاك منهزم خاسر، هذا (ربيع المتطرفين) (1) ، وهذا أوان المتشددين (وصناع الكوابيس) (2) ، تصفية للحسابات، وإلقاء للاتهامات، وإنقاذ لما يمكن إنقاذه من مشاريع ومخططات، فصوَّروا ما يُرى من ردة الفعل الشعبية، وهذا الحراك العام تجاه ما وقع من عداء سافر، بأنه كان بمؤامرة وتخطيط، وأن الأمر قد بُيّت بليل بهيم، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تحريكاً من صناع الكوابيس أهل التباغض والعداوة والشحناء، وأن الأمة قد تبعتهم كالقطيع يتبع راعيه، من غير فكر ولا تروٍّ، سمعوا لهم وأطاعوا، وأنصتوا إليهم وأجابوا، وما علم القوم أن هذه الحمية التي وقعت، وهذه الكراهية التي ظهرت، إنما هي بسبب الغضبة الإيمانية التي تجري في شرايين هذه الأمة، غضباً لله ورسوله، والذي لا يكون المؤمن مؤمناً إلا به؛ فليس ثمة استلاب مزعوم، ولا تحريك مدعى إلا تحريك عقيدة الأمة للأمة؛ وإلا فبالله عليكم من حرّك جمهور المسلمين للمقاطعة مثلاً: أفتوى أطلقها فلان أو فلان، أو توجيه من علاّن؟ أم الواقع شاهد بأنها حركة شعبية عامة ابتدأت منها وانتهت إليها، ووجد المسلمون أنفسهم منقادين لها قياماً بواجب نصرته -صلى الله عليه وسلم- وذباً عن حياضه؟ إن الموقف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قضية جوهرية مشتركة بين كل منتسب للإسلام، سنّياً كان أو بدعياً، عدلاً كان أو فاسقاً، فلا يُلام مسلم على غضب يغضبه أو كراهية وبغض تقع في قلبه متى مُسّ مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتعدٍّ واستهزاء، بل الملام من لم يغضب ولم يمتلئ قلبه من الكراهية والبغضاء لكل متسبب فيها، إن تصوير الحدث على هذا النحو تصوير مغلوط، وإنه لمن سوء الظن بالناس، وإنه لعقدة يجب عليهم أن يتخلوا عنها، وطريقة يجب عليهم أن يتجنبوها. إن الظرف حساس، والأمر عظيم، والانتهاك صارخ، ونحن في غنى عن افتعال المعارك، واستحداث الأزمات. إن هَمّ المسلمين الأوحد هو الانتصار للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، على مختلف مذاهبهم، وطرائقهم، وفصائلهم؛ فإن شئتم أن تكونوا معهم في سفينة النجاة فاركبوا بشرط أن تتركوها تجري وألا تسعوا في خرقها وإغراقها.
مساكين هم أدعياء الليبرالية عندنا، مستوردو القيم والأفكار والمناهج الغربية، الذين حاولوا إقناع الأمة بالإقبال على الحضارة الغربية بكليتها، بخيرها وشرها، بحلوها ومرّها، بما يُحب منها وما يُكره، وصاحوا بأنه لا محلّ للانتقاء، فليست الحضارة (بقالة) تأخذ منها وتذر، إنما تؤخذ جميعاً أو تترك جميعاً، ولا مجال للترك!
مساكين هم لطالما أُحرجوا من مصدِّري الأفكار، وبائعي القيم، تلك القيم التي شهد العالم أجمع زيفها وهزالها؛ فكم تشدق الغرب بحقوق الإنسان، وأضحى الجميع يعلم مواصفات هذا الإنسان محل الرعاية وصاحب الحقوق، شرَّقوا وغرَّبوا بالدعوة إلى الديمقراطية، ثم أرادوا فرضها بالعصا الغليظة وبالدكتاتورية، تنادوا للتسامح ثم وأدوه في معتقلاتهم وسجونهم في «أبو غريب وغوانتنامو» وغيرها، واليوم الأمة مدعوة إلى النظر إلى قيمة غربية جديدة، تظهر نفسها للعالم في أقبح صورة، وأكلح وجه، إنها (حرية التعبير) ، الحرية التي لا تعرف الحدود ولا القيود؛ ولا محرم فيها ولا محظور، حرية لا عيب فيها، حرية لا يعدلها في القداسة قيمة أخرى، حتى أضحت الحرية اليوم أقدس من الرب ـ جل وعلا ـ في الضمير الغربي؛ فلهم أن يتكلموا عن الرب بما شاؤوا، وكيف شاؤوا، ممارسةً لحرية التعبير، (نعم لنا الحق أن نرسم كاريكاتيراً عن الله) ! كما قالها شقي من أشقيائهم عليه من الله ما يستحق، أما انتقاد حرية التعبير أو المساس من جنابها المقدس، فحرام حتى على (حرية التعبير) !! لقد قالها المخلصون من قبل: «إن الحرية المزعومة عند دعاة الليبرالية ليس لها حدود تقف عندها، فلا شرع يحوطها، ولا عقل يحرسها» وانظروا كيف ينتقدون الثوابت تحت شعارات الحق النسبي!
وانظروا كيف يطعنون في المسلّمات عبر بوابة حرية التعبير! وقد دفع الليبراليون عندنا التهمة ما استطاعوا وأنكروا، وقالوا: سوء فهم لليبرالية، وسوء ظن بالليبراليين، وجهل بالثوابت، وجهل بالمسلَّمات، ثم تجيء الليبرالية الأصلية اليوم، الليبرالية الأم، والْمُصدّر الأساس للفكرة لتقولها بملء الفم: ليس لحرية التعبير حد تنتهي إليه، وليس لأحد الحق في المساس من جنابها المقدس أو النيل منها، والحرية متى قُيِّدت لم تعد حرية، وصار صاحبها أسير القيد، فلا ثوابت ولا مسلَّمات، بل الكل خاضع للنقد، بل وللاستهزاء والسخرية.
إن العالم الغربي يعيش أزمة حقيقية حيال هذه القيمة التي ضخمت وضخمت حتى غدت ديناً جديداً يعبد فيها صاحبها هواه من دون الله، ولم تعد للقيم الإنسانية والمفاهيم البشرية ما يكافئها وما يدانيها، وما أزمتنا التي نعيشها اليوم معهم حيال ما وقع وجرى لنبينا -صلى الله عليه وسلم- إلا أنموذج لتضخم هذه القيمة عندهم حتى يوشك أن يتلفهم ويهلكهم وقد فعل. لقد اعتذروا لنا عن الاعتذار بدعوى حرية التعبير، وصار السب والاستهزاء حقاً مكفولاً ترعاه الحكومات والدول الغربية تحت هذا البند (حرية التعبير) ، وصار معتنقو هذا المبدأ ـ وهم كثرة كاثرة ـ مشاريع سب وشتيمة وإن لم يمارسوه؛ إذ هم يبيحونه ويجوِّزونه وكفى بها جريمة، ومن رضي بما وقع كمن فعل وقال. لقد أظهروا تضامنهم وتآزرهم لضمان حقهم في حرية التعبير بإعادة نشر الصور هنا وهناك، وليذهب المسلمون إلى الجحيم! وأعلنوا لنا مراراً أنهم غير مستعدين للتنازل عن حقهم المزعوم هذا لأي كان، بل قال رئيس الوزراء الدانماركي: (القضية تتركز على حرية التعبير في الغرب مقابل المحرمات في الاسلام) ، وهكذا يريدون إقناعنا بقيمة حرية التعبير عندهم، وأنه لا محل للتفاوض حولها، ولا مجال للأخذ والعطاء، ثم يأتي الليبراليون ويريدون إقناعنا باعتذارهم السخيف هذا، فيقولون فيه: اعتذار (حقيقي) و (صحيح) (1) ! بل وتجاوزوا هذا ليؤكدوا على قداسة حرية التعبير وعدم تقبل فكرة التدخل في الصحافة على أي وجه وأي صورة (2) ، حتى إنهم طعنوا في مواقف بعض الكفار الإيجابية من الأزمة واتهموهم بالانتهازية وأن الواجب عليهم (التأكيد على مبادئ حرية التعبير واحترام القانون) (3) ! وأن ما يُرى من تهويل المسلمين لما وقع في جناب النبي -صلى الله عليه وسلم- عائد إلى عدم ممارستهم هذه الحرية جرَّاء ما يعانونه من قمع وكبت، ولو أنهم ذاقوا طعمها لما قاموا ولما تحركوا، فسحقاً لهم ولحريتهم المزعومة هذه، وهكذا يكون انتصار الليبراليين لقضايانا وإلا فلا! وبهذه المواقف يؤكد الليبراليون انسلاخهم عن الأمة فكراً ومنهجاً وسلوكاً.
ومع ما تقدم فمن العجيب أن فقاعة (حرية التعبير) هذه لا تلبث أن تتوارى خجلاً إن مُسّ جناب اليهود، أو طُعن في السامية، أو شُكك في محرقة (الهولكست) ، ليعلم الجميع أن الحضارة الغربية حضارة ازدواجية، حضارة الكيل بمكيالين، لا أخلاق ولا قيم تقوم عليها، ولا مبادئ تستمر عليها، إنما القيمة المقدسة الوحيدة عندهم ـ على الحقيقة ـ المصلحة ليس إلا؛ فأينما كانت المصلحة فثمّ دينهم وشرعهم، وإن داسوا في سبيل تحصيلها الأديانَ والمبادئ والقيم.
وانظر إليهم ـ اليوم ـ كيف يتواصون بحرية التعبير ويتنادون بها، ثم يستنفرون العالم للضغط على الشعوب المسلمة لوقف ثورة الغضب وإنهاء حالة المقاطعة، وكأن حق التعبير حق خاص بهم فقط، وأن الشعوب المسلمة حقها الكبت والحرمان.
إن ما يجري على الساحة من منازعة ومخاصمة حول حرية التعبير وحدوده قد كشف عن سوءة العالم الغربي والحضارة الغربية، وإن ما يُرى من التهارج حول حرية التعبير لمحرج جداً لليبراليي الداخل، الذين أفنوا أعمارهم في التغني بالقيم الغربية، والحضارة الغربية، ثم تفجؤهم اللطمة بعد اللطمة لعلهم يتنبهون، ومن غفوتهم يستيقظون، وعلى دينهم يُقبلون، فيطلعوا على زيف القيم، وهشاشة الحضارة، حضارة الغرب التي لا روح فيها ولا خُلُق، حضارة اللاّدين التي لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما أُشرب من هواها، فيتوقفوا عن التوريد، ويقاطعوا تلكم الأفكار، ويكشفوا الزيف، ويفضحوا الباطل، فيكفّروا عما تقدّم من خطايا عسى أن يُغفر لهم.
مما جعجع به الليبراليون وهوَّلوا حوله الأغلبية الصامتة في المجتمعات المسلمة؛ فما إن يقع لخصومهم من الإسلاميين انتصار إلا وتراهم يسارعون: لا تفرحوا؛ فالجمهور ليس معكم، و (الأغلبية صامتة) . والناظر في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً يشهد الحضور الشعبي الواسع الداعم للحركة الإسلامية، لكن القوم يتعامون عنه ويصمّون الآذان، موهمين أنفسهم أن (الأغلبية الصامتة) معهم، وأنها غير موافقة لما يدور على الساحة، وما يقع على الأرض، لكن اللافت للنظر في هذا الحدث أن الأمة كلها قد قالت كلمتها، وعبرت عن رأيها بوضوح (إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) ! وأجمعت على خيار المقاطعة الشعبية العامة للبضائع الدانماركية؛ فماذا كانت النتيجة حين غدت الأمة (أغلبية ناطقة) ؟ لقد وسمهم أولئك بالغوغائية، وقصر النظر، وأنهم لا عقول لهم تحركهم وإنما المحرك العواطف ليس إلا، وأنهم مسلوبو العقول، ولولا الخوف منهم لنطق العقلاء (وهم الليبراليون طبعاً) وبيّنوا الواجب، لكنهم خنسوا لجبنهم أدام الله عليهم هذا الجبن؛ فإن تشجعوا وتكلموا فإشارة هنا وكليمة هناك، وقذف للحجر من مكان بعيد، والجريء من يتستر خلف الألفاظ ويتوارى خلف المصطلحات؛ فالهجوم اليوم على (صناع الكوابيس) ، و (المتطرفين) ، و (الغوغاء) ، أما تحديد الحقائق، وتسمية الأشياء بمسمياتها، والوضوح في النقد، فهم عنه بمعزل، أليس من الغريب أن دعاة (الرأي والرأي الآخر) قد ضاقوا ذرعاً بالرأي الآخر، فانبروا لـ (مقاطعة المقاطعة) مثلاً، رافعين شعار (لا لمقاطعة البضائع الدانماركية) (1) ، متنقِّصين بحماسة ظاهرة خيار الأمة في المقاطعة بأسلوب استفزازي، تصل بصاحبها إلى حد اتهام الأمة بالسطحية والسذاجة، ومتابعة العواطف دون العقول، وأن ما يُرى لا يعدو أن يكون ظاهرة صوتية ليس إلا، وما الأمر إلا كزوبعة في فنجان، هكذا تكون حماستهم لتسجيل مواقفهم في مصادمة الأمة والسبح ضد التيار بدل تسجيل المواقف في موافقة الحق الذي عليه سواد الأمة على مذهب (خالف تعرف) ! لينكشف للجميع أنهم ليسوا المؤهلين لنقل همّ الأمة، ونبض الشارع، ومن يطالع طرحهم بهذا الخصوص يعلم أنهم ملفوظون على المستوى الشعبي، وأن ما يسطِّرونه في هذا السياق محل رفض ومقاطعة.
من المظاهر اللافتة للنظر هذا التحرك الليبرالي المشبوه لإنهاء الأزمة بأقل مكاسب ممكنة للمسلمين، وأكبر قدر من الأرباح للمعتدين، وإلا فما الذي يفسر هذا التعجل المريب في نشر وترويج وقبول كل ما يُدَّعى أنه اعتذار لمجرد أنه مصدّر بكلمة (اعتذار) ، وإن كان عند أهل البصيرة والعمى ليس اعتذاراً ولا حتى شبه اعتذار (2) ؟ وطالع ما شئت من الاعتذارات المقدمة حتى اليوم هل تجد فيها تجريماً لما وقع أو تخطئة لما جرى، غاية الأمر أنهم يقولون: إننا نأسف إن آذينا مشاعركم، لكن لنا الحق في سب نبيكم!! فهل يسمى هذا اعتذاراً يا عباد الله! أم هو جرم جديد يحتاج إلى اعتذار؟ وهل يصح أن تُنهى الأزمة بمثل هذا الكلام، وأن يقال فيهم: «خير الخطائين التوابون» ؟ (3) .
إن الأمة اليوم تقف موقف قوة يمكنها من تحقيق أكبر قدر من المكاسب، ومع كل يوم يمر يكون للأمة الحق في أن ترفع سقف المطالبات، استجابة للواقع وتفاعلاً مع الأحداث، ولو أن أصحاب البقر كانوا أذكياء لأنهوا الأزمة من أولها بالاعتذار الصريح وأغلقوا الملف قبل وصوله للعالم الإسلامي، لكن للغباء والغطرسة الدانماركية ضريبتها والتي يجب أن تؤخذ منهم، ولا يصح أن يُتنازل عنها بحال.
إننا لا نريد التعجيز أو وضع المطالبات الممتنعة المستحيلة في ظرف استضعاف تعيشه الأمة على الصعيد العالمي، لكننا نريد أن نخرج من هذه الأزمة بأكبر قدر من المكاسب والأرباح الممكنة، والتي تكفل لنا وتضمن ـ فيما تضمن ـ حقنا في عدم وقوع مثل هذا الانتهاك مجدداً، وحقنا في نشر ديننا والدعوة إليه كما هو من غير تحريف أو تشويه، وليحفظ التاريخ لنا هذا الموقف وهذه الوقفة، ولتكون الدانمارك أنموذجاً لما يمكن أن يحصل متى ما مُسّ جناب نبينا بسخرية أو استهزاء!
أما محاولة إغلاق ملف القضية بأي وسيلة وكيفما اتفق فخيانة لجناب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته ينبغي أن تكون محل المحاسبة والجزاء، وهي دليل على ضيق عطن بما يحصل. وإن تطويل الأزمة ليست في صالح القوم، ألم أقل إن المشروع الليبرالي معطل، وأن فصل الخريف هذا لا بد أن ينتهي أو يُنهى؟!(222/13)
منطلقات شرعية في نصرة خير البرية
عبد العزيز بن ناصر الجليل
إن ما يشهده العالم الإسلامي هذه الأيام من غضبة عارمة، وحملة مباركة لنصرة سيد البشر نبينا -صلى الله عليه وسلم-، والدفاع عن عرضه الشريف أمام الهجمة الشرسة القذرة التي يشنها الغرب الصليبي على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتتولى كبرها بلاد الدانمارك. إن في هذه القومة المباركة لنصرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما يثلج الصدر، ويسر الخاطر ويبث الأمل في النفوس ويؤكد أن أمة الإسلام أمة مباركة ومرحومة ولا زال فيها الخير، والرصيد العظيم في مقاومة أعدائها والنكاية بهم حتى ولو كانت ذليلة مستضعفة؛ فكيف لو كانت قوية ومتمكنة؟
ولقد ظهر في هذه الحملة قدرة الأمة على النهوض والتكاتف والتعاون على إلحاق الأذى الشديد بالعدو المتربص. وقد ظهر ذلك في هذه القومة الشاملة لمختلف شرائح الأمة رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، أغنياء وفقراء، عوامَّ ومثقفين؛ وذلك في الكتابات الكثيرة المتنوعة لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك في المقاطعة المباركة التي آتت أُكُلها وثمارها في إنهاك اقتصاد المعتدين.
أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يبارك في جهود القائمين بهذه النصرة سواء من كتب أو خطب أو قاطع وهجر منتجات القوم. وليس هذا بكثير في نصرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، والذي هو أوْلى بنا من أنفسنا، والذي قال لنا ربنا ـ سبحانه ـ عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] . والذي بلغ الكمال الإنساني في الشمائل والأخلاق وفي عبادة ربه سبحانه وتعالى. وكل هذا يفرض علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأولادنا وأموالنا، وأن نفديه بالنفوس والمهج والأولاد والأموال.
وبما أن الحديث عن نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن حقوقه، وحقيقة أعدائه وحقدهم قد قام به المسلمون في شتى بلدان المسلمين بأقوالهم ورسائلهم وكتاباتهم ومقاطعتهم، فلن أكرر ما كُتب وقيل؛ ففيه إن شاء الله الكفاية. غير أن هناك بعض الوصايا التي أنصح بها نفسي وإخواني المسلمين في ضوء هذا الحدث الجلل أرى أنها من حقوق المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهي من لوازم نصرته وموجبات محبته. ولكن قد تغيب عن بعضنا وتُنسى في زحمة الردود واشتعال المشاعر والعواطف.
\ الوصية الأولى:
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» [البخاري: 1] وعندما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟» قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [البخاري (2810) ، مسلم (1904) ] .
والمقصود من إيراد هذين الحديثين الشريفين أن يحاسب كل منا نفسه، وهو يشارك في هذه الحملة المباركة للدفاع عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتفقد نيته في قومته هذه. هل هي خالصة لله تعالى؟ أم أن هناك شائبة من شوائب الدنيا قد خالطت نيته كأن يظهر للناس غيرته وحرصه على الدين وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو تكون مجرد حمية وعصبية ومفاخرة أو إرادة دنيا ومكانة بين الناس، أو غير ذلك من الأغراض. وهذا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل. ومع إحسان الظن بالقائمين بهذه النصرة وأنهم إن شاء الله ـ تعالى ـ إنما قاموا بذلك حباً لله ـ تعالى ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أن محاسبة النفس في هذا الشأن، وغيره من العبادات أمر واجب على كل مسلم حتى يبارك الله ـ عز وجل ـ في الأعمال، ويحصل منها الأجر والثواب، وإلا ذهبت هباءً منثوراً؛ إن لم يأثم صاحبها ويعاقب على ذلك.
\ الوصية الثانية:
قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] .
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» .
«يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عند تلك الآية: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه وفي الأمر نفسه حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» . ولهذا قال: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم؛ وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ. وقال الحسن البصري وغيره من السلف زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
[آل عمران: 31]
ويقول الإمام أبن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ «لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخَلِيُّ حرقة الشجِيِّ. فتنوع المدعون في الشهود. فقيل لا تُقبل الدعوى إلا ببينة: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه» (من مدارج السالكين 3/9) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، ليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين. وهكذا أهل البدع؛ فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شَوْب من محبة المشركين واليهود والنصارى، بحسب ما فيه من البدعة؛ فإن البدع التي ليست مشروعة، وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر» (الفتاوى 8/361، 360) .
والمقصود من إيراد ألآيه التي في سورة آل عمران وكلام أهل العلم عندها، وكذلك الحديث، التنبيه في هذه الحملة المباركة إلى أن يراجع كل منا نفسه ويختبر صدق محبته لله ـ تعالى ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- في قومته ونصرته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ إن علامة حبنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصدقنا في نصرته أن نكون متبعين لشرعه وسنته، وأن لا يكون في حياتنا أمور تسيء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتؤذيه، فنقع في التناقض بين ما نقوم به من النصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أحوالنا، فيقع الفصام النكد بين القول والعمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] .
| فيا أيها الذي تعبد الله ـ تعالى ـ بغير ما شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقام لنصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: زادك الله غيرة وغضباً لله ـ تعالى ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-! ولكن اعلم أن الذي قمتَ لنصرته هو القائل: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [البخاري: 2697] وعليه فإن أي ابتداع في الدين سواء كان ذلك في الأقوال أو الأعمال لمما يؤذي نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- ويسيء إليه. فاحذر أن تكون ممن يدعي محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في نفس الوقت يؤذيه ويعصيه؛ فإن هذا يقدح في صدق المحبة والاتباع، ويتناقض مع نصرته ونصرة سنته. وأشنع من هذا من يدعي محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونصرته ثم هو يقع في الشرك الأكبر ويدعوه أو يدعو علياً والحسين وغيرهم من الأولياء من دون الله. أو يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسب أزواجه أو أصحابه؛ فإن كل ذلك يدل على كذب أولئك المدعين.
| ويا أرباب البيوت والأسر الذين قمتم لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-! إن هذا منكم لعمل طيب مشكور؛ ولكن تفقَّدوا أنفسكم فلعل عندكم وفي بيوتكم وبين أهليكم ما يغضب الله ـ عز وجل ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من آلات اللهو، وقنوات الإفساد ومجلات اللهو والمجون؛ فإن كان كذلك فاعلموا أن إصراركم عليها واستمراءكم لها لمما يسيء إلى الرسول ويؤذيه، ويتناقض مع صدق محبته؛ إذ إن صدق المحبة له تقتضي طاعته واتباعه؛ لأن المحب لمن يحب مطيع.
| ويا أيها التاجر الذي أنعم الله ـ تعالى ـ عليه بالمال والتجارة! إنه لعمل شريف، وكرم أصل أن تهبَّ لنصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتهجر وتقاطع منتجات القوم الكفرة الذين أساؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآذوه. ولكن تفقَّد نفسك ومالك عسى أن لا تكون ممن يستمرئ الربا في تنمية أمواله، أو ممن يقع في البيوع المحرمة، أو يبيع السلع المحرمة التي تضر بأخلاق المسلمين وأعراضهم وعقولهم. فإن كنت كذلك فحاسب نفسك وراجع صدق محبتك للرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي قمت لنصرته. ألا تعلم أنك بأكلك الربا تعد محارباً لله ـ تعالى ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وصدق القيام لنصرته. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279] ألا تعلم أن الأوْلى بالمقاطعة والهجر هو هجر ما حرم الله ـ عز وجل ـ من الربا والبيوع المحرمة والسلع المحرمة التي قد استمرأها الكثير من التجار؟ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (البخاري: 10) . ولا يعني هذا التهوين من مقاطعة منتجات القوم، بل أرى الصمود في ذلك، ولكن أردت التنبيه إلى ضرورة تخليص حياتنا من هذه الازدواجية، وعدم المصداقية.
| ويا أيها القائمون على المؤسسات الإعلامية من صحافة، وإذاعات وتلفزة، وقنوات فضائية في بلدان المسلمين! إنه لعمل مشكور هذا الذي تشاركون به في حملة الانتصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن ألا يعلم بعضكم أنه يعيش حالة من التناقض، إن لم يكن ضرباً من النفاق، وذلك عندما يدعي محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصرته ممن أساء إليه من الكفرة، ثم هو في نفس الوقت يبث في صحيفته أو إذاعته أو تلفازه أو قناته الفضائية ما يسيء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويؤذيه؛ وذلك مما حرم الله ـ عز وجل ـ وحرمه رسوله -صلى الله عليه وسلم- من إشاعة الفاحشة، وتحسين الرذيلة، وبث الشبهات، والشهوات، والنيل من أولياء الله ـ عز وجل ـ وأولياء رسوله -صلى الله عليه وسلم- والاستهزاء بهم وبسمتهم وهديهم وعقيدتهم والله ـ عز وجل ـ يقول: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» [البخاري: 11/292] . فكيف تعرِّضون أنفسكم لحرب الله ـ عز وجل ـ وأنتم تدَّعون نصرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- والذب عنه؟ إن الذب عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- إنما يكون بالتزام سنته، والذب عنها والتوبة من كل ما يقدح فيها، والتزام طاعته -صلى الله عليه وسلم- والصدق في محبته، وإلا كان هذا الانتصار مجرد ادعاء ومفاخرة ونفاق؛ نعوذ بالله من ذلك.
| ويا أصحاب الحل والعقد في بلدان المسلمين! إن أمانتكم لثقيلة فالحكم والتحاكم بأيديكم، والإعلام والاقتصاد بأيديكم، والتربية والتعليم بأيديكم، وحماية أمن المجتمع، وحماية الثغور بأيديكم؛ فما أعظم أمانتكم ومسؤوليتكم أمام ربكم ـ عز وجل ـ وأمام أمتكم؛ فهل تعلمون أن من رفض منكم الحكم بما أنزل الله ـ عز وجل ـ واستحل ما حرم الله ـ عز وجل ـ إنما هو من أعظم المسيئين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمناوئين له ... ؟
وفي ختام هذه الوصية: أرجو أن لا يُفهم من كلامي أني أهوِّن من هذه الحملة القوية لنصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والدفاع عن عرضه الشريف، أو أني أدعو إلى تأجيلها حتى تصلح أحوالنا حكاماً ومحكومين. كلاَّ؛ بل إني أدعو إلى مزيد من هذا الانتصار والمقاطعة والتعاون في ذلك كما هو الحاصل الآن والحمد لله رب العالمين، ولكنني أردت أيضاً الالتفات إلى أحوالنا وتفقد إيماننا، وصدقنا في محبتنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والانتصار له، بأن نبرهن على ذلك بطاعته ـ عليه الصلاة والسلام ـ واتباعنا لشريعته والذب عنها والاستسلام لها باطناً وظاهراً. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208] . وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب: 36] . وقال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
\ الوصية الثالثة:
إن ما حصل من إساءة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الإعلام الدنماركي، والنرويجي وغيرهما جرم عظيم ينم عن حقد متأصل في قلوب القوم، ولكن ينبغي أن لا تنسينا مدافعة هؤلاء القوم من هو أشد منهم خبثاً وحقداً وضرراً على المسلمين، ألا وهي طاغية العصر أمريكا حيث جمعت الشر كله، فوقعت فيما وقع فيه هؤلاء من الإساءة إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإهانة كتاب ربنا ـ سبحانه ـ وتنجيسه وتمزيقه على مرأى من العالم، وزادت على القوم بقتل أهلنا ونسائنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق وفلسطين، وسامت الدعاة والمجاهدين سوء العذاب في أبي غريب وأفغانستان، وسجونها السرية في الغرب والشرق، فيجب أن يكون لها الحظ الأكبر من البراءة والانتصار منها لربنا ـ عز وجل ـ ولكتابه ـ سبحانه ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن ننبه الناس في هذه الحملة الميمونة إلى هذا العدو الأكبر وأنه يجب أن يكون في حقه من إظهار العداوة له والبراءة منه ومقطاعته كما كان في حق الدانمارك بل أكثر وأشد.
وأتوجه بهذه المناسبة إلى المنادين بمصطلح (نحن والآخر) والمطالبين بالتسامح مع الآخر الكافر وعدم إظهار الكراهية له، أقول لهم: هذا هو الآخر الذي تطلبون وده وتتحرجون من تسميته بالكافر. إنه يرفض ودكم، ويعلن كراهيته لديننا ونبينا، وكتاب ربنا ـ سبحانه ـ فماذا أنتم قائلون؟! وهذا من عدونا غيض من فيض، وصدق ربنا ـ سبحانه ـ إذ يقول في وصفهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] .
\ الوصية الرابعة:
إن من علامة صدق النصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا نفرق في بغضنا وغضبتنا بين جنس وآخر ممن آذى نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأساء إليه أو إلى دين الإسلام؛ بل يجب أن تكون غضبتنا لله ـ تعالى ـ وتكون عداوتنا لكل من أساء إلى ربنا أو ديننا أو نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أي جنس كان ولو كان من بني جلدتنا ويتكلم بألسنتنا. كما هو الحاصل من بعض كتاب الصحافة، والرواية، وشعراء الحداثة، والذين يلمحون تارة ويصرحون تارة أخرى بالنيل من أحكام ديننا وعقيدتنا، وإيذاء نبينا -صلى الله عليه وسلم-، بل وصل أذاهم وسبهم للذات الإلهية العلية ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ. فأين غضبتنا على هؤلاء، وأين الذين ينتصرون لله ـ تعالى ـ ودينه، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من فضح هؤلاء والمطالبة بإقامة حكم الله فيهم ليكونوا عبرة لغيرهم؟ إن الانتصار من هؤلاء لا يقل شأناً عن الانتصار ممن سب ديننا ونبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- في دول الغرب الكافر. يقول الله ـ عز وجل ـ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] .
\ الوصية الخامسة:
يقول الله ـ عز وجل ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] .
يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عند هذه الآية بعد أن ذكر أقوال أهل العلم: (ومضمون ما ذكروه أن الله ـ تعالى ـ نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12] ، وفي الحديث: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث» ، وفي سنن أبي داوود: «بئس مطية الرجل زعموا» ... وقوله: {كُلُّ أُوْلَئِكَ} أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد {كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة وتسأل عنه وعما عمل فيها) ا. هـ.
وفي ضوء هذه الآية الكريمة وما ورد في معناها نخرج بمنهج عادل وقويم في التعامل مع الأحداث، والمواقف ينصحنا الله ـ عز وجل ـ به، حتى لا تزلَّ الأقدام، وتضل الأفهام، وحتى لا يقع المسلم في عاقبة تهوره وعجلته. وذلك بأن لا ينساق وراء عاطفته، وحماسته الفائرة دون علم وتثبت مما رأى أو سمع فيقول بلا علم أو يتخذ موقفاً دون تثبُّت وتروٍّ.
إن المسلم المستسلم لشريعة ربه ـ سبحانه ـ محكوم في جميع أقواله ومواقفه وحبه وبغضه، ورضاه وسخطه بما جاء في الكتاب والسنة من الميزان العدل، والقسطاس المستقيم؛ فإن لم يضبط المسلم عاطفته وحماسه بالعلم الشرعي والعقل والتروي فإن حماسته هذه قد تجره إلى أمور قد يندم على عجلته فيها.
والمقصود هنا التحذير من العجلة، والجوْر في الأحكام، والمواقف خاصة عندما تكثر الشائعات ويخوض فيها الخائضون بلا علم أو عدل، بل لا بد من التثبت ومشاورة أهل العلم والشرع وأهل الفهم بالواقع.
ومن أمثلة هذه المواقف المتسرعة في هذا الحدث ما تناقلته بعض المطويات ورسائل الجوال من وجوب المقاطعة لبضائع كثيرة بعضها ليست من منتجات القوم المقصودين بالمقاطعة، ومن ذلك التسرع في الحكم على من لم يقاطع بأنه آثم لا يحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكما جاء في قول القائل: (قاطع من لم يقاطع) . ومن ذلك الإكثار من الرؤى والمنامات، والاستناد عليها في تصحيح موقف ما أو تخطئته، فهذا غلو خطير لا مبرر له.
وبعد: فهذا ما يسَّره الله ـ عز وجل ـ من هذه الوصايا التي أخص بها نفسي وإخواني المسلمين في كل مكان؛ مع التأكيد على ضرورة الصمود والمصابرة في البراءة من القوم، ومقاطعة منتجاتهم؛ فما كان في هذه الوصايا من صواب فمن الله ـ عز وجل ـ فهو المانُّ بذلك، وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله ـ عز وجل ـ وأتوب إليه. والحمد لله رب العالمين.(222/14)
حماس بين المطرقة والسندان
أحمد فهمي
بدأت حماس في مواجهة التحديات حتى قبل الإعلان عن فوزها في الانتخابات البرلمانية؛ فالعِصيّ كانت جاهزة منذ فترة طويلة، وكان الخلاف فقط في توقيت وضعها في دواليب الحركة، فكانت حكومة شارون - أولمرت تريد وَأْدَ المشروع من بدايته والقضاء على آمال حماس في مشاركة سياسية فعالة، بينما كان البيت الأبيض يفضّل إعادة انتشار العراقيل بعد فوز حماس، رغبة منه في ضرب أحد العصفورين بالحجر ذاته: إما أن يتم ترويض حماس، وإما أن يتم إبعادها وسط أجواء إجماع دولي على محاربة الإرهاب، وهو ما يحدث حالياً بالفعل..
وتتنوع العقبات والتحديات التي تنتشر في طريق حماس السياسي في أربعة أنماط بعضها داخلي وبعضها إقليمي وبعضها دولي، وهو ما يجعل الحركة بامتياز في وضعية المطرقة والسّندان..
\ أولاً: تحدّيات شرعية ومنهجية:
تواجه الحركة أوضاعاً غير مسبوقة، من حيث التعامل مع آليات المقاومة، والتفاوض مع العدو، والتحالف مع أحزاب وشخصيات علمانية والتعامل مع دول معادية حسب المفهوم العقدي والشرعي، وينبغي أن تحرص الحركة على أن تنطلق في تحركاتها السياسية من خلال مواءمة شرعية واجتهادات مطردة يتولاها علماء ثقات لا يشترط أن يكونوا من فلسطين؛ نظراً لأن القضية لم تعد محصورة بدولة واحدة.
وفي المقابل تواجه الحركة نوعاً آخر من الاجتهادات أو الإطلاقات التي تدعو إلى ما يخالف الشرع ولكن بصيغة شرعية!!
ومن الأمثلة على ذلك: ما كتبه الدكتور نادر فرجاني ـ المشرف على تقرير التنمية العربية (صحيفة الحياة اللندنية 5/2/ 2006م) ـ حيث يقول: «ومن المفيد هنا تذكّر أحد أهمّ استخلاصات تقرير «التنمية الإنسانية العربية» الثالث عن الحرية والحكم، والاستخلاص هو أنه لا يقوم تعارض جوهري بين إقامة مجتمع الحرية والحكم الصالح والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، إلا أن إقامة مثل هذا المجتمع في الوطن العربي يتطلب إفساح مجال للاجتهاد الفقهي لوضع قواعد الاتساق بين الحرية بمفهومها الشامل، وبين المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، تجاوزاً لكثير من التأويل الفقهي الذي استشرى في عصور الانحطاط مكرّساً القهر والاستبداد.. ويتعين في تقديري، إضافة واجب الريادة في هذا المطلب على جدول أعمال ومسؤوليات حماس والإخوان» .
أمر آخر يتعلق بالتحديات المنهجية، وهو تحديد هوية ومهمة حماس في المرحلة الحالية: هل هي حركة جهادية؟ أم حزب سياسي؟ هل تتصرف انطلاقاً من وضعية الاحتلال، فيلزمها التقيد بذلك حسب الضوابط الشرعية، وأيضاًً يسعها ما لا يسع غيرها من الحركات التي لا تعاني احتلالاً؟ أم أنها تعتبر نفسها تجربة سياسية مشابهة لغيرها في الدول الإسلامية؟
ومما يدعو لطرح هذه الإشكالية ما صرح به الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، في حوار مع موقع إسلام أون لاين (31/ 1/ 2006م) حيث قال: «أعتقد أن أي شيء متعلق بالمشروع الإسلامي الحضاري، أو الإسلام السياسي بشكل مجمل وكيفية تنزيله على الواقع، أنا أعتقد أن هذه مهمات عند الإسلاميين في دول مستقلة، أكثر من المهمات عند (حركة تحرر) لا زالت تدافع عن نفسها وعن شعبها لتتحرر من الاحتلال» .
وأخيراً فإن الخطاب العام للحركة يتداخل فيه الدعوي والسياسي إلى درجة كبيرة، ورغم أن الضوابط لا تختلف كثيراًً في الحالتين، إلا أن لكل مقام كلاماً، وقد انتقد بعضٌ الحركة في وقوعها في بعض التناقضات، والتي سنشير إلى بعضها في النقطة التالية:
\ ثانياً: تحدّيات ذاتية:
(1) تناقض الموقف مع «أوسلو» :
اتخذت حركة حماس موقفاً رافضاً للانتخابات التشريعية الأولى التي جرت عام 1996م، مستندة في هذا الرفض على الثوابت الإسلامية التي ترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، وترفض اتفاق «أوسلو» الذي انبثق عنه المجلس التشريعي باعتباره يقر الاحتلال وجرائمه، كما رفضت الحركة مبدأ إقامة الانتخابات في ظل الاحتلال، وكثُرت الفتاوى في رفض هذه الانتخابات، وبذل العلماء والخطباء جهداً من خلال المساجد لشرح هذا الموقف الرافض ولإقناع الجماهير المسلمة بذلك.
ولكن تغّيَر الحال بمعدل (180) درجة في الانتخابات الثانية، رغم أن المجلس التشريعي والسلطة لا يزالان قائمين وفق اتفاق «أوسلو» ، ولا يزال الاحتلال محاصراً لغزة ومحتلاً للضفة الغربية؛ فما الذي تغير في نظر الحركة، لكي يتغير موقفها؟ علماً بأن بعض المراقبين اتهم الحركة بأنها بالغت في إبراز حجم الانتصار بانسحاب الاحتلال من غزة بغرض تسويغ المشاركة الانتخابية بعد ذلك، كما أن الاحتلال لم يتوقف عن استفزازاته المستمرة.
تجيب الحركة عن هذه التساؤلات: بأن الانتخابات الحالية تجري في ظل الاندحار الصهيوني عن قطاع غزة، وأنها تجري بعيداً عن سقف «أوسلو» الذي ماتت اتفاقياته، وأنها محكومة باتفاق القاهرة الذي يعترف بقوى وفصائل المقاومة، هذا من الناحية السياسية، ومن الناحية الشرعية، فقد نظمت الحركة حملة موسعة قام فيها العلماء والخطباء بشرح هذه القضية على الناس في المساجد.
والمشكلة أن هذه التبريرات لم تكفِ للاقتناع بأن الظروف هي التي تغيرت بينما الحركة لم تتغير، وقد واجهت حماس انتقادات شديدة، حتى من قادة فتح أنفسهم، الذين اتهموا الحركة بأنها تتلاعب في ثوابتها لمنافسة فتح، وفي مقدمة هؤلاء محمد دحلان، كما أن أبا مازن رفض القول بذوبان اتفاقات «أوسلو» ، فقال في لقاء صحفي (16/1/ 2006م) : «إن اتفاقات «أوسلو» قائمة، وإن الانتخابات ستجري على أساسها، ولا يمكن لأي حزب الادعاء بأن «أوسلو» قد انتهت، وأنه لا يخوض الانتخابات في ظل هذه الاتفاقيات، بعض الناس يقولون إن اتفاقيات «أوسلو» ماتت، ولكن دعني أقول: أن هذه أحلام وتمنيات بعض الناس، لكن اتفاقيات «أوسلو» قائمة ولم تنته أو تمُت، صحيح أن (الدولة العبرية) عطلتها ولكن ذلك لا يلغيها، إن تخريب «أوسلو» لا يعني أن «أوسلو» قد انتهت وإنما الكل آت على أرضيتها، والمجلس التشريعي أُسِّسَ على أساس بند من بنود «أوسلو» ، ولذلك كل ما يجري إنما يجري على أساس «أوسلو» ، وفيما يتعلق بموضوع اتفاق القاهرة، إن مَنْ يقولون إنهم يخوضون الانتخابات على أساس اتفاق القاهرة، فإن اتفاق القاهرة لا يتحدث عن أي من هذه الأمور، وإنما يتحدث عن الهدنة» .
والمثير ـ هنا ـ أن الدكتور موسى أبو مرزوق نفسه صرح بما يوحي ضمناً باعتراف الحركة أن «أوسلو» لا تزال قائمة.. فقال: «معروف بأن أيَّ قانون أو أي اتفاقيات يعقدها نظام تكون واقعاً على الأرض، هذا الواقع لا يمكن إلا التعامل معه، من أي قوى سياسية قادمة، ومن ثَم فإننا سوف نتعامل مع كل نتائج «أوسلو» التي استمرت على الأرض سنوات عديدة، نحن دخلنا الانتخابات التشريعية وأحد إفرازات «أوسلو» هو المجلس التشريعي نفسه، ولذلك ـ في البداية ـ نحن قاطعنا المجلس التشريعي، والدخول فيه وكان المقصود من ذلك هو شرعية النظام السياسي الذي أفرزته «أوسلو» ، أما الآن فنحن دخلنا بناء على نتائج، نتائج هذه الاتفاقية، والتي انتهى مفعولها إلى حد ما، ولكن ظلت نتائجها، ولذلك نحن نتعامل معها، بكل واقعية، أما بخصوص هذه التعاملات مع هذه الإفرازات لـ «أوسلو» فبلا شك هناك بعض القضايا مضرّة بالشعب الفلسطيني» .
والمشكلة ليست في التناقض في حد ذاته؛ فتغيير المواقف سعياً نحو الأصلح ليس عيباً، كما أن الظروف تتغير، ولكن المشكلة أن هذه التغيرات ينبغي أن يواكبها بل يسبقها تأصيل شرعي موسع، يقدم قناعة كافية للرأي العام بأن الحركة لا تتراجع، والمطلوب ليس تأصيلاً شرعياً يكفي لمواجهة الجماهير، ولكن تأصيلاً يصمد في مواجهة العلماء والمتخصصين.
(2) هل تنقسم حماس من الداخل؟
تمرّ الحركة بمرحلة جذرية في مسيرتها؛ فالانتقال من جهة المعارضة إلى تسلُّم الحكم ليس بالأمر الهين، ومنذ أكثر من عام والحركة تمر بتطورات متسارعة، وهذه الوضعية تتسبب في حراك داخلي هائل في مختلف الاتجاهات، وهذا الحراك يعني وجود رؤى مختلفة وآراء متعارضة، كما يعني تصعيد شخصيات من الظل إلى العلن، ويعني ـ أيضاًً ـ تلاحماً بين قيادتي الداخل والخارج بصورة غير مسبوقة.
ويجب أن تكون قيادات الحركة مستوعبة ومنتبهة لهذه التطورات الداخلية بدرجة كافية، ولا تشغلها التطورات الخارجية عن ذلك، وقد قدمت حماس فيما مضى نموذجاً إيجابياً على قوة التنظيم والترابط، وينبغي أن تحرص قياداتها على استمرار هذه المزية؛ فهناك أخطار عديدة، مثل: تداخل الأدوار بين قيادة الداخل والخارج، خاصة مع كثرة مشاركة القيادات الداخلية في المفاوضات واللقاءات الخارجية، والخلاف على توزيع المناصب، واختلاف الآراء حول القضايا المستجدة، والتصريحات والبيانات المتناقضة، إلا إن كان ذلك مقصوداً على سبيل المناورة.
ويبقى كذلك بعض العناصر التي تعارض المشاركة في الانتخابات، وهي وإن كانت محدودة، إلا أنه ينبغي العمل على استيعابها، ومنها: أحمد نمر، وهو عضو بارز في حماس جنوب غزة، وقد طرح تساؤلات عن مصير المقاومة وأولوية تحرير فلسطين في برنامج حماس الانتخابي، ليدفعه ذلك كله إلى إصدار فتوى تحرم المشاركة في الانتخابات التشريعية سواء بالترشيح أو الانتخاب (الموجز السياسي للمنتدى الفلسطيني السياسي 21/1/ 2006م) .
ومن جهة أخرى، فإن كتائب القسام الجناح العسكري للحركة تحتاج إلى بلورة جديدة لمهامها في المرحلتين الحالية والمقبلة، خاصة مع التزام حماس بالهدنة الحالية وعرضها هدنة طويلة الأمد، فقد يؤدي ذلك إلى تذمّر عناصر الكتائب أو تململهم، خاصة مع استمرار الاستفزاز الصهيوني، ومعلوم أن الأجنحة العسكرية عادة ما تكون السيطرة عليها ليست بالأمر الهين، وتجربة الجناح العسكري للإخوان المسلمين منتصف القرن الماضي ماثلة في الأذهان. ومن ناحية أخرى فإن الحركة تحتاج لجناحها العسكري نشاطاً وفعالية؛ تحسباً لأي تطورات، وما تردد عن احتمال ضمّ عناصره إلى الأجهزة الأمنية ليس بالأمر المناسب إن صح.
ويقدم بعض المختصين الصهاينة ـ رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن جوريون «يورام ميتال» توقعاً لمستقبل الكتائب يبدو صعب الحدوث قياساً إلى مستوى الانضباط الذي يميز حماس: «عناصر حماس الميليشياوية سوف تصرّ على الاستمرار في الحرب ضد العدو، وستنضم لتنظيم الجهاد الذي يرفض المشاركة في الانتخابات، أو في أي مفاوضات» .
\ ثالثاً: تحدّيات سياسية:
تواجه حماس في مرحلتها الحالية عدة تحديات تندرج ضمن الممارسة السياسية، ومن أبرزها:
(1) التحول المفاجئ:
يتحدث المحللون عما أسموه «البلوغ المفاجئ للسلطة» أو احتكاك النظرية بالواقع ومطابقة القول بالفعل، وتحوّل الحركة النضالية الجهادية ـ أو جزء منها ـ إلى ممارسة العمل السياسي من موقع السلطة، ويعتبر المراقبون أن هذه الوضعية تحتاج إلى فترة انتقالية لاستيعابها، وذلك لتتجنّب الحركة أحد أمرين: الانشقاق الداخلي إذا خرجت عن ثوابتها العقدية السياسية في حال مالت نحو السلام والمفاوضات، أو الفشل في إدارة شؤون السلطة.
وقد يكون من المناسب تأسيس حزب سياسي بهيكلية مستقلة ولكنها تابعة لقيادة الحركة، وتقوم بممارسة العمل السياسي، وهناك تجارب عربية ناجحة للفصل بين الحزب السياسي والحركة الدعوية.
(2) حساسية التعامل مع الحكومات العربية:
تبقى حماس ـ رغم كل شيء ـ حركة إسلامية، تمثل جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، والجماعة رغم شعبيتها تحمل إرثاً كبيراً من الحساسية السياسية ـ أو عدم القانونية ـ لدى حكومات عربية ـ مصر على سبيل المثال ـ ورغم ما قد تتلقاه من تأييد فإن فكرة أن أحد أفرع الإخوان المسلمين قدم تجربة سياسية ناجحة تتضمن ممارسة حقيقية للحكم، سوف يكون لها تداعياتها على المنطقة ولا شك، لذا أحسب أن أغلب الحكومات ـ حتى الآن ـ لم تتمكن من تحديد موقفها بوضوح من دعم الحركة، ولذلك لا يزال الغموض يحيط بحجم ومستوى الدعم المصري؛ فالمشكلة معقدة، وكل خطوة سيكون لها آثارها على المدى القريب والبعيد أيضاًً.
(3) الرجوع لنقطة الصفر:
الذي يصعّب الموقف على حماس أنها بعد تحقيق الإنجازات السياسية الخطيرة في الانتخابات الأخيرة سيكون من العسير عليها أن ترجع لنقطة الصفر، وهو المأزق الذي تواجهه أغلب الحركات النضالية التي تقتحم الميدان السياسي، حيث ألزمها ـ ويلزمها ـ هذا الاقتحام بقائمة من الاستحقاقات، من بينها في حالة حماس: الهدنة، ووقف العمليات، وإمكانية الانضمام لمنظمة التحرير، وحذف هدف تدمير الدولة المحتلة من البرنامج الانتخابي، وإمكانية التفاوض مستقبلاً، وغير ذلك، وهذه الاستحقاقات التي التزمتها حماس تجعل من الصعب عليها العودة مرة أخرى لنقطة الصفر ـ أو الفشل ـ السياسية، لذلك يغلب على ظني أن هذا الوضع الحرج في حد ذاته يمثل عنصر ضغط ذاتي على الحركة، وهو الخوف من الرجوع إلى نقطة الصفر، وحتى لو تجاسرت قيادة الحركة عند ظرف قهري واختارت الرجوع لنقطة الصفر السياسية فإن ذلك لن يتم إلا بتنازلات بمفهوم آخر.
(4) الضغوط الصهيونية:
تخوف إسرائيل من نشأة حزام إسلامي يحيط بالكيان الصهيوني، ولذلك ستكون الحكومة الجديدة في تل أبيب حريصة على حصار حماس وتفريغ تجربتها السياسية من مضمونها، وستكون وتيرة ذلك مرتبطة بمستوى المرونة الذي تبديه حركة حماس، وتتمثل أهم الضغوط الصهيونية في: مواصلة التحريض الدولي، منع الضرائب المحصلة من الفلسطينيين، وغلق المعابر والمنافذ، وتشديد الحصار، ومنع تحركات قادة الحركة، وتنشيط عمليات الاعتقال والاغتيال، وتحريض عملائها في حركة فتح، إطلاق سراح البرغوثي من أجل لملمة جراح فتح، واستفزاز الأجنحة العسكرية من أجل إحراج حماس وتشجيع الفلتان الأمني عن طريق المخابرات ... إلخ.
(5) استحقاقات «أوسلو» :
هناك استحقاقات قانونية وسياسية ترتبت على قبول الحركة المشاركةَ في السلطة الفلسطينية، ورغم أن الحركة تحاول التملص منها، إلا أنها تبقى حقيقة واقعة، وخاصة الاتفاقات التي لا يمكن إلغاؤها دون أغلبية الثلثين، وهي تستند في الأساس إلى المجلس الوطني الفلسطيني القديم ومنظمة التحرير التي يُنص على أنها الممثل الشرعي الوحيد ـ بالمفهوم السياسي ـ للشعب الفلسطيني، وحماس مضطرة للتعامل مع هذا الوضع فالمجلس التشريعي لا يغير في الاتفاقيات؛ لأن من وقّعها هو منظمة التحرير، وليس السلطة أو المجلس، وهذا ضغط جديد يدفع حماس للدخول إلى المنظمة والانغماس بصورة أكبر في البوتقة السياسية.
(6) عمليات المقاومة:
شرعت سلطات الاحتلال في تنفيذ سياسة اغتيالات ضد الفصائل الفلسطينية داخل غزة والضفة، وقد طالت حتى كتابة هذه السطور عناصر من كتائب الأقصى وسرايا القدس، أي: فتح والجهاد، وتهدف الدولة الصهيونية من عملياتها الأخيرة إلى:
ـ الضغط على حماس التي لن تستطيع الرد خاصة في الوقت الحالي نظراً للاستحقاقات الانتخابية.
ـ دقّ (إسفين) بين حماس من ناحية وفتح والجهاد من ناحية أخرى، فأعضاء الحركتين هم الذين يتعرضون للاغتيال في العمليات الأخيرة.
ـ يمكن أن يتزايد الضغط على حماس في حالة تعرض عناصرها للاغتيال.
ـ إضعاف حماس في مواجهة الرأي العام عن طريق تكبيلها عسكرياً، باعتبار أنها ستضطر للالتزام بالهدنة حتى لا تفقد الدعم العربي المحدود.
وقد بدأت عناصر من فتح بالتقاط الخيط من الصهاينة واستوعبوا الرسالة، واستدعوا خطاب الانتفاضة، وأخذوا يتحدثون عن انفراد إسرائيلي بفتح والجهاد، وذلك لإيقاع حماس في مزيد من الحرج والظهور في صورة الضحية على اعتبار أن ذلك له تأثيره في الرأي العام الفلسطيني، وربما يتفاعل هذا السلوك ليؤدي في النهاية إلى تصاعد الانتفاضة من جديد لتضييق المجال على حماس ودفعها إما للمشاركة؛ ومن ثَم التعرض لتدمير مماثل لما حدث مع فتح، وإما للاعتراض وفقد شعبيتها في الشارع الفلسطيني، وإما للسكوت والتعرض للضغوط.
ولذا ينبغي على حماس أن تحدد موقفها مبكراً بوضوح ولا تكتفي ببيانات التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في الرد، وخاصة أن تصريحات بعض قيادييها قد لا توحي بالاطمئنان رغم تأكيدها على احترام المقاومة.
يقول الدكتور أبو مرزوق: «لن يُعتقل مجاهدٌ، ولن يُعتقل مقاومٌ، سنطرح أجندة المقاومة بكل مسؤولية مع كل الأطراف، نحن صنعنا المقاومة سويّاً، والمقاومة هي لخدمة شعبنا ولإحقاق حقوقه، ولا يمكن أن تتعارض برامجنا مع المقاومة، دخولنا للمجلس التشريعي وللسلطة هو انتصار لبرنامج المقاومة، وكان أحد أهم أسباب دخولنا للمجلس التشريعي هو برنامجنا للمقاومة، ولكن لا بد أن نعرف أيضاً أنه في المرحلة القادمة لا بد من حديث مطول عن أولويات العمل الوطني، وأولويات عمل المقاومة» .
وينبغي هنا على الحركة أن تستحضر نموذج فتح التي كانت في السلطة وفي الوقت نفسه لها جناحها العسكري (كتائب شهداء الأقصى) وكان عرفات يُتهم بتمويل الكتائب، كما أن تهمة تأسيسها هي إحدى التهم الرئيسة التي اعتقل وحُوكم بسببها مروان البرغوثي، وهذا النموذج لا ريب أنه سيكون مجال مزايدة كبير لفتح في حال تجاوزته حماس.
(7) الوقت:
تراهن حركة حماس كثيراً على استغلال عنصر الزمن في تهدئة الأمور وامتصاص ردود الفعل، ولذلك تبدي ـ حالياً ـ مستوىً عالياً من المرونة، ولكن ذلك أمر لم يَفُتْ أعداءها، وهم يدركون جيداً تأثير الوقت في نجاح استراتيجية حماس.
يقول المنسق الأمريكي السابق في الشرق الأوسط دينيس روس: «لا يجب أن تُترك حماس هكذا متجنّبة الاختيار ما بين أمرين عسيرين وتأخذ كل الأرباح، فآمال تغيّر حركة حماس بعد امتلاكها زمام الحكم في فلسطين تحت ضغط الأوضاع الجديدة سوف تتبخر في الهواء إذا ما استطاع منظِّروها إثبات أن التغير لن يكون ضرورياً» .
\ رابعاً: تحدّيات تنفيذية:
(1) عقبات فتح:
التنافسية الشديدة التي تحكم طبيعة العلاقة بين حركتي حماس وفتح كان لها دور كبير في تسارع الأحداث بهذه الوتيرة، ولا تزال حركة فتح حتى الآن غير قادرة على استيعاب حقيقة الهزيمة في الانتخابات، أو تبعات تسليم السلطة إلى حماس.
وكشف قيادي بحماس عن أن وفد الحركة يبحث مع الساسة العرب التدخل لدى السلطة الحالية وحركة فتح كي لا تضع المزيد من العراقيل في طريق تجربتها الأولى، كما أن أحد أسباب تأكيد حماس على أهمية مشاركة فتح في الحكومة المقبلة هو امتصاص القدر الأكبر من دوافع إفشال حماس لدى كوادر الحركة، ورغم ذلك يُتوقع حدوث بعض المشكلات في الفترة المقبلة، ومنها:
أـ المماطلة أو رفض تسليم الأجهزة الأمنية:
والتي يتبع عدد منها رئيسَ السلطة، والبقية تتبع الحكومة، وكان أحد أسباب الخلاف الرئيسة بين أبي مازن وعرفات هو القبول بتسليم الأجهزة الأمنية إلى الحكومة، والآن يُتوقع أن تظهر مشكلة عكسية وهي الرغبة في إحالة الأجهزة الأمنية إلى رئيس السلطة، أو تعيين وزير داخلية لا ينتمي للحركة، ولكن ـ عموماً ـ وعد أبو مازن بأن يتم تسليم السلطة بشكل كامل لحماس بعد تشكيل الحكومة، ورغم ذلك يهدد عناصر من فتح بالتمرد على التسليم، وتحاول الحركة أن تهدئ الوضع من خلال طمأنة الجميع بأنه لن يكون هناك مجال للانتقام أو المحاسبة على الماضي. ويقول موسى أبو مرزوق: «لا يمكن أن يكون هناك خمسون ألفاً من قوات الأمن متهمين بالفساد، نحن لن نفتح الملفات التاريخية، ولن نكون أسرى التاريخ، ولو كان هذا التاريخ قريباً، سوف نغلِّب الصفح والتسامح على الانتقام والملاحقة» .
ب ـ تبادل المواقع والمواقف:
يستعد أعضاء فتح حالياً لممارسة كل ما واجهتهم به حماس في فترة اضطلاعهم بالسلطة، من تنفيذ للعمليات الاستشهادية، إلى عدم الالتزام بطلب تسليم الأسلحة، أو ضم الأجنحة العسكرية للأجهزة الأمنية، وغير ذلك، وبغضِّ النظر عن صواب موقف حماس حينذاك، فإن قواعد اللعبة هنا تختلف، وهذا هو أحد الأسباب التي من أجلها يرفض الفتحاويون مشاركة حماس في حكومة وطنية؛ فحماس لم تكن لتشاركهم في حكومتهم رغم أنهم طلبوا ذلك، ولم تكن حماس لتخضع لسلطان فتح مقابل بضع حقائب وزارية، وحسب المنطق نفسه ـ لا حسب الحق والباطل ـ فإن فتح تريد معاملة حماس كمعاملة الأخيرة لها أثناء حكمها، والأمر الوحيد الذي يمكن أن يكسر هذه القاعدة هو (البراجماتية) الشديدة أو الإخلاص للقضية الفلسطينية لدى عناصر من فتح، وقد ألمح القيادي في حماس يونس الأسطل أن عدداً كبيراًً من القيادات بفتح وبالسلطة الحالية أجروا اتصالات سرية مع حماس، ورحبوا بفوزها في الانتخابات، وعرضوا مساعدتهم، وهذا لا يمنع أن المجموعة الصلبة في حركة فتح ترفض التعامل مع حماس ـ قد يتغير موقفهم وفقاً للضغوط العربية ـ وأنهم يريدون أن يَدَعوا حماس تغرق بمفردها حسب توقعاتهم.
ج ـ حرق الأوراق:
فوجئ الرأي العام بإعلان النائب العام الفلسطيني عدة قضايا فساد دفعة واحدة بلغت قيمتها 700 مليون دولار، وجاء ذلك في خطوة استباقية من السلطة الحالية في محاولة لحرق ورقة محاربة الفساد على حماس، والفساد كان أحد أسباب النقمة الرئيسة التي خسرت فتح الانتخابات بسببها، كما تعبر هذه الخطوة عن رغبة لدى حركة فتح في تنقية الصفوف أو التخلص من صغار الفاسدين لتحسين الصورة أمام الناخب الفلسطيني، وخاصة أن الأعوام الأربعة للمجلس التشريعي سوف تنقضي سريعاً.
والنصيحة التي تُقدّم لحماس في هذا المجال أن تتعامل مع حركة فتح حسب فئات ثلاث: المخلصين، والمنتفعين، والمنتمين. فالأولى: تسعى جاهدة للتنسيق معها بعيداً عن تنظيم فتح، والثانية: تتعامل معها بشكل قانوني وتقدم الفاسدين منهم للقضاء بصورة تدريجية، والثالثة: هم مصدر خطر؛ لأنهم ينطلقون من أفكار ومبادئ مضادة لحماس، ويطرحون أنفسهم كمنافس جماهيري، غير أنه في ظل غيبة زعامة (كاريزمية) لا يتوقع أن يشكلوا تهديداً.
(2) التمويل:
تبلغ فاتورة الرواتب الشهرية لموظفي السلطة 116 مليون دولار، لحوالي 140 ألف موظف، منها 95 مليوناً تدفع لموظفين رسميين، في حين يُدفع الباقي لبرامج البطالة التي تشمل الآلاف من أعضاء المليشيات التابعة لحركة فتح.
وتحوّل الدولة الصهيونية مستحقات جمركية وضريبية للسلطة تبلغ قيمتها الشهرية 50 مليون دولار، وقد قامت بوقفها بعد إعلان فوز حماس، وأعلنت أنها ستواصل وقفها، ولكنها تراجعت بعد ذلك خوفاً من الاختراق الإيراني فيما يبدو، وأعلنت مواصلة دفعها حتى تتسلم حماس الحكومة، وقد أثار بعض الناس إثر ذلك شكوكاً حول احتمال ألا يتم تكليف حماس بتشكيل الحكومة القادمة.
ويقول وزير الإسكان والأشغال العامة د. محمد أشتية: إن جباية السلطة من الضرائب تكفي لسدِّ 20% فقط من فاتورة الرواتب، مشيراً إلى أن التحويلات الصهيونية من الجمارك وضرائب المشتريات تسد نحو ثلثي الفاتورة (الحياة) . وكانت الدول العربية قد تعهدت في قمة بيروت عام 2002 بتوفير دعم شهري لموازنة السلطة بقيمة خمسين مليون دولار، لكن المسؤولين في السلطة يقولون: إن السعودية كانت الدولة الوحيدة التي وفت بالتزاماتها وقيمتها 7.5 ملايين دولار شهرياً.
ولدى تفاقم العجز في موازنتها العام الماضي، لجأت السلطة إلى الدول المانحة التي وافقت على تغطية جزء من العجز بقيمة 350 مليون دولار، وهو ما يساوي ثلث قيمة العجز للسنة المالية الماضية الذي بلغ نحو بليون دولار.
غير أن هذه الدول أوقفت أخيراً تحويلات مالية لموازنة السلطة بقيمة 50 مليون دولار بعد قيام الأخيرة بخرق اتفاق سابق مع البنك الدولي في شأن الإنفاق الحكومي.
والمشكلة في قضية الرواتب أنها تشكل المحرك الأساسي لعجلة الاقتصاد الفلسطيني الضعيف، ويقول الدكتور محمود أبو رب أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح في غزة (صحيفة الحياة) : «عندما يتوقف مبلغ مثل هذا عن التدفق في شرايين السوق، فإن المصانع لن تجد من يشتري منتجاتها وستدفع بعمالها إلى الشارع، مما يؤدي إلى حدوث إضرابات واضطرابات قد تسقط أي حكومة لا تجد بديلاً» .
وفي مواجهة ذلك فإن حماس أعلنت عن عزمها اتخاذ إجراءات إصلاحية لتقليص فاتورة الرواتب، وصرح محمود الزهار: أن هناك 37 ألف موظف يتلقون رواتبهم دون أن يعملوا بصورة فعلية، يعيش عدد كبير منهم في الخارج، وأشار إلى أن كثيراً من هؤلاء هم أبناء مسؤولين في السلطة أو زوجاتهم أو أقربائهم.
وأعلن أسامة حمدان ـ ممثل الحركة في لبنان ـ عن وجود اتصالات مع دول عربية لا يُعلن عن كثير منها، وصرح محمد أبو طير النائب الجديد أن جهة عربية واحدة وافقت على دفع 100 مليون دولار من أول اتصال، وذلك للحكومة التي ستشكلها حركة حماس.
ولا يمثل القرار الأمريكي بوقف المساعدات للسلطة تأثيراً كبيراًً؛ حيث لم تتجاوز المساعدات التي قدمت من الولايات المتحدة طيلة 23 عاماً 1.2 مليار دولار، وحسب قول أحد المراقبين فإنه لو توقف المدخنون في فلسطين عن التدخين (6) أشهر لاستغنوا عن الدعم الأمريكي.
وهناك عامل آخر ربما يسهم في عرقلة التمويل، وهو الاتهامات المتوقعة مستقبلاًً لحماس أنها تقدم دعماً للإرهاب، وهذا ربما يفرض قيوداً مستقبلية على الحركة في تلقّيها الدعم، ويفرض عليها التزام قدر عال من الشفافية في الأمور المالية.
(3) نقص الخبرة:
حماس تواجه مشكلة إدارة حكم وسلطة دون خبرة سابقة، ولكن بعض المراقبين يقللون من أهمية ذلك بالقول: إن الذين استلموا مقاليد الحكم في 1994 لم تكن لديهم خبرة سابقة، وبعد عشر سنوات من السلطة، ثمّة بيروقراطية فلسطينية قد تشكلت في كافة دوائر الحكم ستسمح بانتقال السلطة في سلاسة من قوة سياسية إلى أخرى (د. بشير نافع ـ المركز الفلسطيني للإعلام) .
ولكن يبقى أن حماس ـ التي لم تمارس الحكم من قبل ـ بحاجة ماسة إلى دعم عربي وإسلامي في هذا المجال، وقد أكد القيادي السياسي بحماس الدكتور يونس الأسطل (إسلام أون لاين 6/1/2006م) : أن عدة جهات أبدت استعداداً كاملاً لتقديم خبرات واسعة في إدارة السلطات المختلفة، كما ذكر أن عدداً من عناصر فتح قد اتصل بحماس وعرض عليها وضع خبراته وإمكانياته تحت تصرف حماس.
(4) التنسيق الأمني:
التنسيق من خلال اللجان الأمنية المشتركة كان عملاً روتينياً ومهماً تمارسه السلطة السابقة، وليس معلوماً حتى الآن كيف ستتغلب حماس على هذه المشكلة كونها ترفض الاحتكاك المباشر مع الاحتلال، وهي مشكلة يشعر الصهاينة أنفسهم بها.
يقول أحد الضباط الصهاينة: «إن هناك مشاكل ستواجه جيشهم لو أصرّ على رفض الاتصال بحماس مع وجود الحركة في قيادة السلطة الفلسطينية» ، وهو ما يعني أنَّ، المشكلة نفسها قائمة بالنسبة لحماس التي ترفض التعامل، ويشرح الضابط: «نحن نعتمد على السلطة بالضبط مثلما هم يعتمدون علينا، فلو تولت حماس زمام الأمور فلربما لن نصبح قادرين على الاتصال ببوليس السلطة ونطلب منهم أن يبطلوا مفعول قنبلة زرعت بمحاذاة السياج الواقع خارج غزة» ، ويقول الدكتور موسى أبو مرزوق: «فيما يتعلق بالتنسيق الأمني فهذا الملف ستتم مراجعته والتدقيق فيه؛ لأن حماس كانت دائماً تعترض على التنسيق الأمني مع العدو، والملف هذا بشكل خاص يجب أن يُتعامل معه بدقة وشفافية وبمسؤولية» .
\ استراتيجية حماس:
تبدو في الأفق إشارات متفاوتة عن استراتيجية حماس في الفترة المقبلة، ويمكن القول إنه بصورة عامة هناك استراتيجيتان يمكن أن تعمل الحركة من خلالهما: الأولى: تمثل خياراً مقترحاً وإيجابياً، والثانية: تمثل خياراً مرفوضاً.
\ الاستراتيجية الأولى: المرونة مع التمسك بالثوابت:
المتوقع في حالة تكليف حماس بتشكيل الحكومة أن تبدأ حالة من الهدوء لامتصاص حالات الغضب وردود الفعل، كما أنها ستركز بقوة على تحقيق إنجازات مبكرة لإثبات فعاليتها وللمحافظة على تأييد الرأي العام ليكتسب قوة أكبر في مواجهة الضغوط المالية.
وحسب استراتيجية المرونة مع التمسك بالثوابت، فإن حماس ستراهن على آلية متدرجة في عملها السياسي تتكون من عدة بنود:
ـ الدفع في اتجاه تشكيل الحكومة بأسرع وقت.
ـ ترسيخ حقيقة عدم رغبة حماس في الاستقلال بالسلطة، من خلال تأكيدها على دعوة الفصائل للمشاركة، وفي مقدمتها فتح.
ـ في حالة تشكيل (حكومة تكنوقراط) فإن حماس ستدفع باتجاه طمأنة الدول العربية والغربية من ناحية الأمن والمال، وربما تتسلم وزارتي الداخلية والمالية شخصيتان من خارج حماس.
ـ ستبدأ حماس حكمها بإعادة ترتيب الوزارات التي تباشر مصالح الشعب الفلسطيني، مع الحرص على معالجة قضايا الفساد بعناية وتدرج.
ـ ستعمل الحركة على إقناع الرأي العام بأن تسلُّم الحركة للسلطة يمثل فارقاً كبيراً في الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني.
ـ ستتجنّب الحركة مرحلياً التدخل في القضايا السياسية الشائكة، مثل: التفاوض مع الصهاينة، وتنفيذ الاتفاقات.
ـ ستعمل الحركة في الفترة القادمة على الترويج والتفرقة بين إمكانية التفاوض مع المحتلين والاعتراف بالكيان الصهيوني.
ـ وفي هذا الصدد من المهم الإشارة إلى بعض النقاط:
أولاً: ثوابت حماس:
من أهم ثوابت حركة حماس: عدم الاعتراف بإسرائيل، تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، المقاومة وسيلة رئيسة للتحرير، وحق العودة لجميع اللاجئين.
وهذه الثوابت أكد عليها قادة حماس في الفترة الأخيرة، وقال خالد مشعل في تصريحات صحفية: إن حماس لن تعترف أبداً بشرعية «الدولة الصهيونية التي أقيمت على أرضنا» . وفي حفل لتخريج دفعة من مقاتلي القسام قبل أشهر قليلة، قال محمود الزهار: «ستبقى هذه الأجساد تدرّب غيرها لتحوّل كل الشعب الفلسطيني إلى مجاهدين حتى يتم تحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر» .
ثانياً: التصريحات المتضاربة:
من الملاحظات المهمة في أداء قادة حماس الإعلامي وجود تضارب في تصريحاتهم بخصوص المرحلة المقبلة، ولكن هناك رأي لبعض المراقبين أن هذا التضارب قد يكون مقصوداً بغرض المناورة، ولكن الملاحظ في الفترة التي أعقبت زيارة وفد قيادات الداخل والخارج إلى القاهرة، أن درجة التناقض هذه قد تراجعت بصورة ملحوظة، وربما يكون ذلك للتقارب الشديد الذي حدث بين عدد كبير من القيادات، وقد تكون هذه استراتيجية مقصودة من قيادات الحركة لتوحيد الموقف المعلن وبيان توافق الآراء ووحدة الصف، وإن كان الأمر كذلك فهو إجراء ناجح وفعال لا شك في ذلك.
ثالثاً: الانقلاب أم المواءمة؟
أبدت حركة حماس في الماضي قدرة عالية على الموازنة والتفريق بين الجوانب التكتيكية والاستراتيجية، أي: بين الثابت والمتغير بصفة عامة، وكانت في كل موقف يبدو وكأنه في سياق التنازل تترك لنفسها خط رجعة لاستراتيجيتها وثوابتها، وربما يدفع إتقان الحركة لهذا الأسلوب أو النمط في التعامل مع القضايا الشائكة إلى الاطمئنان، وقد تجاوزت حماس قضايا عديدة، مثل: علاقاتها العربية، والهدنة، والعلاقة مع فتح، ودخول الانتخابات، وحتى قيامها بحذف هدف تدمير دولة العدو من البرنامج الانتخابي بدون أن يثبت عليها ترك الثوابت.
وقد أعلن خالد مشعل أولويات الحركة في هذه المرحلة، فقال: إنها «تتركز في ثلاثة نقاط رئيسية، هي: إصلاح الواقع الفلسطيني وتغييره إلى الأفضل، وحماية المقاومة وحشد الجماهير حول ذلك، وترتيب مؤسسة القرار الفلسطيني على أساس الشراكة؛ وهي: المجالس البلدية، والمجلس التشريعي، ومنظمة التحرير الفلسطينية» .
رابعاً: الملف التفاوضي:
تمثل المفاوضات مع الصهاينة مشكلة عويصة في طريق السلطة المقبلة، ورغم تصريحات بعض قادة حماس بأن مبدأ التفاوض في حد ذاته ليس مشكلة، إلا أنه يوجد مؤشرات على احتمال أن الحركة تفضل في هذه المرحلة أن تنقل الملف التفاوضي إلى المنظمة، وتميل آراء داخل الحركة إلى إبقاء القضايا التفاوضية في يد فتح، حتى تتجنب أن تكون لها علاقة مباشرة مع العدو.
ولكن مع ذلك فقد أرسلت الحركة رسائل واضحة حول مبدأ عدم اعتراضها على التفاوض؛ فقد أعلنت أنها تدرس مبادرة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بالقيام بوساطة تركية بين حماس والعدو، كما قال الدكتور محمود الزهار: «إن التفاوض مع الصهاينة ليس حراماً؛ لأنه وسيلة وليس غاية، وإن المهم ألا يكون مجرد إضاعة للوقت، وإذا كان لدىهم ما يريدون قوله فلا مانع من التفاوض» .
\ الاستراتيجية الثانية: التدرج في تقديم التنازلات:
هناك تخوفات لدى كثير من المراقبين من أن حماس تتبع استراتيجية التدرج بينما هي عازمة على التراجع عن بعض ثوابتها الماضية، وذلك باعتبار أن تراجعها لا يعني نفي كون ما تراجعت عنه هو حق ديني، ولكن باعتبار أنها حركة سياسية في بلد مسلم محتل تخضع لاعتبارات متعددة تحكم الميدان السياسي عن غير إرادة منها، فهو إذن تراجع تكتيكي عن ثوابت استراتيجية.
هذه الرؤية وفيا أحسب لا شك في خطئها، وإلى الآن لم يثبت أن الحركة تتبعها أو تنوي ذلك، ولكن هناك بعض المؤشرات التي تثير قلقاً، ولذلك فإن الحركة في حاجة للتواصل بقوة مع الرموز الإسلامية والعلماء والمفكرين في الدول العربية لبلورة هذه القضية، ومن ناحيتهم ينبغي أن يحرص هؤلاء الرموز على الالتقاء بقادة حماس.
\ منابع القلق:
تُتهم بعضٌ حركة حماس بأنها تعتبر تغيير ميثاقها ورقة سياسية كبرى قد لا تعطيها للسلطة الفلسطينية، بل ستساوم عليها عربياً ودولياً لتحقيق مكاسب ذاتية، مثل: شطب اسمها من قائمة الإرهاب، أو رفع الحصار عن مصادر تمويلها، أو وقف ملاحقة قياداتها واغتيالهم، وذلك استناداً إلى ما قاله الدكتور محمود الزهار: «إذا ما كان لدى الصهاينة شيء لإعطائه للشعب الفلسطيني فسوف ندرسه، ولكننا لن نعطي شيئاً دون مقابل» .
وهناك تصريحات أخرى مثيرة للقلق، مثل: تصريحات النائب في المجلس الجديد الشيخ محمد أبو طير لصحيفة «هآرتس» ، والتي قال فيها: إن دخول حماس الانتخابات هي خطوة استراتيجية وليست تكتيكية، وكذلك إمكانية التفاوض مع الكيان الصهيوني، وإن حماس ستدير المفاوضات بشكل أفضل من الآخرين، وإنها تقبل بقواعد لعبة جديدة في الصراع، وإن الإلغاء لجمل من ميثاق حماس والمتعلقة بتدمير الدولة الصهيونية والسيطرة على الأرض من النهر إلى البحر وكلمة الجهاد كلها ليست تكتيكاً وإنما هي تغيير استراتيجي، وأن المقصود بالمقاومة في برنامجها الانتخابي ليس المقصود ـ بالضرورة ـ السلاح واستخدام القوة (الموجز السياسي للمنتدى السياسي الفلسطيني 21/1/ 2006م) .
وأيضاًً فقد صرح القيادي في الحركة محمد غزال أن الميثاق ليس قرآناً، وذلك في إشارة واضحة إلى إمكانية تغييره.
ودفعاً لهذه الشُّبَه، فإنه حتى لو كانت حماس تريد أن تقدم بعض التنازلات الشكلية والإجرائية ـ مثل: إجراء المفاوضات ـ فإن ذلك لا ينبغي أن يتم بصورة مباشرة، بل ينبغي أن يكون هناك تأصيل شرعي لهذا المسلك، ليس بصورة إجمالية فقط ولكن تفصيلية أيضاً.
وهناك إستراتيجيات أخرى قد تتبعها الحركة في المرحلة المقبلة:
(1) إلقاء الكرة في ملعب الشعب الفلسطيني:
هناك مناورة جزئية يمكن لحماس أن تلجأ إليها لمواجهة الضغوط، أو لتحميل الشعب الفلسطيني عبء الاختيار، بحيث لا يلقي أحد التبعة عليها أو يتهمها بالتنازل في حقوق الفلسطينيين، وهي إجراء استفتاء عام للوصول إلى إجماع وطني حول القضية المثيرة للجدل.
(2) تدشين عملية بناء هيكلية وقاعدية موسعة:
استراتيجية أخرى، أشك في أن الحركة قد تغفل عنها، وهذه الاستراتيجية تستند إلى فكرة أن المقاومة والعمل السياسي يعملان في دورات متتابعة، وأن المقاومة تعطي دفعة قوية للعمل السياسي، ولكن العمل السياسي يفقد قوته الدافعة بعد فترة، ومن ثم يصبح حتمياً التحول إلى المقاومة من جديد، ولذلك من المفترض أن أحد أهداف المرحلة المقبلة لدى حماس هي التحضر لدورة المقاومة التالية، وتأسيس جهد دعوي وإعلامي قوي يرسخ مكانة الحركة ويزيد من أتباعها ويسمح لها باختراق مناطق نفوذ فتح، وهذا يجعل من أسهم الحركة قوية في ظل أي تطورات قادمة، وحتى في حالة عقد أي انتخابات استثنائية.(222/15)
حماس في قلب اللعبة السياسية
عبد الملك محمود
تحدث الكثير من المحللين والكتاب والمفكرين عن ماهية التحديات الضخمة داخلياً وخارجياً والتي ستواجه حركة حماس في المرحلة القادمة، لذا فلن نفصِّل ولن نتحدث عنها كلها، وإنما سنطرح بعض التساؤلات سعياً للتذكير والمساهمة في الحل.. وهو ما نعتقد أنه ليس واجب إخواننا في حماس فقط.
هناك وعود يحلم بها الناس، لبناء الدولة المستقلة على كامل الأرض الفلسطينية، وإقامة المؤسسات الوطنية وهي آمال كبيرة، فكيف يمكن التعامل معها؟ إن مجرد الفوز بغالبية المقاعد البرلمانية لا يعني ضماناً مؤكداً أو صكاً باليد للحفاظ على ثقة الشارع الفلسطيني.. بل يضيف عبئاً أكبر على كاهل الحركة لتلبية آمال وتطلعات الناخبين الذين ملؤوا صناديق الاقتراع ببطاقات حماس، حالمين بمستقبل أفضل، وأقل فساداً.
ربما كان من أبرز المشكلات التي ستواجه حماس:
| الوضع الأمني الداخلي وأوضاع السلطة وأجهزتها الأمنية وإصلاحها وإزالة الفاسدين منها بتدرج: ويرافقه ملفا فوضى السلاح والفلتان الأمني، ثم ملف العملاء والخونة خصوصاً في صفوف الأجهزة الأمنية وبعضهم مرتبط بالموساد. لقد رأينا بروفة للتحدي الأمني من خلال اختطاف الدبلوماسي المصري يوم 10 فبراير مما شكل تحدياً ضخماً ومحرجاً للسلطة. كما رأينا التحدي الأمني في ردة فعل بعض (عناصر) فتح وشبانها حيث حصلت حالة من الفوضى وأعمال العنف ومسيرات تعيث فساداً؛ تدمر وتحرق كل شيء أمامها بعد ظهور نتائج الانتخابات مباشرة.
| هناك إشكال المقاومة: فكتائب القسام منذ تأسيسها تعتبر الذراع القوية لحماس الذي يضرب في عمق الاحتلال، وكسبت بذلك قلوب الفلسطينيين وقلوب المسلمين في العالم وتأييدهم، فهل يتوقع من حماس وهي الآن في الواجهة الرسمية أن تستمر في الخط، نفسه أم ستنزع سلاحها استجابة للضغوط الدولية؟ هل ستلتف على المأزق بدمج التنظيمات المسلحة في جهاز واحد، وهو أمر بالغ التعقيد، أم ستتكرر مأساة كتائب شهداء الأقصى وليدة فتح، التي فقدت السيطرة على ذراعها المسلح فزرعت الفوضى وأعلنت التمرد؟! هل سيكون مطلوباً من حماس المنتصرة في حلبة السياسة أن تنزع سلاحها، وأن تنخرط في اللعبة السياسية، فلا يوجد عادةً للحكومة الوطنية ميليشيات خاصة بها بعيداً عن الجيش النظامي، وسيكون مطلوباً منها أن تكون في الصف المواجه للإرهاب، ومحو كلمة المقاومة أو حتى التلويح بها من قاموسها حتى لا تعطي ذريعة لعدوها للفتك بها، وربما طلب منها تغيير ميثاقها ليتماشى مع الواقع الجديد؟ وحتى لو كانت النية المبيتة هي استمرار المقاومة ولكنها مرحلة لالتقاط بعض الأنفاس وتحيُّن الظرف المنافس؛ فمن يضمن عدم الترهل وبرود الروح الجهادية؟ إن أي عمل عسكري من قِبَل حماس سيعتبر إرهاب دولة ممّا سيؤدي إلى استهداف مرافق السلطة وقطع العلاقات والمساعدات عنها وهو ما سيفتح الباب لاستهداف النظام والشعب؛ فهل ستستغل حماس امتلاك أغلبية سياسية كي تناور من خلال دمج جناحها المسلح في أجهزة الأمن الوطني لتجنب ضغوط نزع السلاح، وقتال الصهاينة عبره إذا خرقت أو انتهكت أي هدنة أو اتفاق أو اعتدت على الفلسطينيين.
| التحدي الثالث المتعلق بمسألة التفاوض: ولو أنّ حماس حصلت على نسبة 45% مثلاً أو قاربت نسبة فتح لكان بالإمكان تخفيف الحرج بدفع فتح للواجهة في أي عملية تفاوضية فيما تشرف هي على الجهة الأمنية وتتجنب المفاوضات مع المحتلين، وتشرف على الشارع الاجتماعي لتبتعد عن الضغوط. لكن الوضع الآن مختلف؛ فالأغلبية الساحقة لصالح حماس وعليها تشكيل الحكومة. وهي تستطيع تشكيل أي حكومة مع فتح أو غيرها. لكنها ستفضل إشراك الآخرين مع سيطرتها على الحكومة في الأرجح، وفي حال حصول ائتلاف حكومي، فالمرجح استمرار المساعدات والتواصل مع الغرب بشكل أسهل. لقد كان من أكثر الشعارات البراقة: لا مفاوضات مع المحتل اليهودي، ولا حوار إلا بلغة السلاح. وقد عانت حماس في سبيل ذلك الكثير؛ فهل ستبقي هذا الشعار مرفوعاً وقد يقودها إلى عزلة دولية وعربية أيضاً؟ أم هل ستبدأ بتقديم تنازلات فتفقد ثقة الشارع الفلسطيني والإسلامي؟
| الحفاظ على الهوية: حركة حماس حركة إسلامية في الأساس، وأمامها مهمة إعداد برامج للقيام بمهمة الدعوة الإسلامية بصورة متدرجة، حيث تزرع في المجتمع لَبِنات المجتمع المسلم الصالح وبقاء هذه البذور حتى في حال سقوط حماس ـ لا قدر الله ـ سياسياً وعدم تمكنها من الاستمرار في المجلس التشريعي، وقريب من ذلك، دراسة مستفيضة لكيفية إزالة المنكرات التي توجد في المجتمع من آثار السلطة والجهل وغيرها.
| ماذا سيكون مصير شعار فلسطين من البحر إلى النهر: التصريحات القديمة عن تحرير فلسطين وكامل تراب فلسطين ما هو مصيرها؟ نحن نعلم أن حماس ستبقى محافظة على هذا الأصل، لكن قد تضطرها المرحلية إلى استخدام خطاب جديد ربما لا يفهمه عامة الناس أو ربما يستغل في الحرب ضدها.. فهل ستحافظ على شعاراتها أم تجبر على التخلي عنها وتتحمل تبعاتها السياسية والشرعية المحظورة وتتغير لا قدر الله شعارات أرض فلسطين أرض إسلامية مباركة، اغتصبها الصهاينة عنوة، ومن واجب المسلمين الجهاد من أجل استرجاعها وطرد المحتل منها؟.. والحركة تقول إنها «ليست ضد مبدأ السلام، فهي مع السلام وتدعو له، وتسعى لتحقيقه، لكنها مع السلام العادل الذي يعيد الحقوق للشعب الفلسطيني ويمكنه من ممارسة حقه في الحرية والعودة والاستقلال وتقرير المصير» مما يفتح الباب أمام الاحتمالات التي سيقال يومها إن المصلحة اقتضتها، وأنه حتى لو كان ذلك في وقت من الأوقات من قبيل المحظور الفقهي، فإن الضرورات قد تبيح المحظورات في أحيان كثيرة، وحسناً تفعل حماس الآن في تأكيدها أنها لن تعترف بإسرائيل مطلقاً (1) .
| الوضع الفلسطيني فريد من نوعه من حيث الصعوبات: فليس هناك ثمة دولة بالمعنى الحقيقي؛ فالسيادة للدولة اليهودية التي تسيطر على أكثر الأرض وتسيطر على الماء والكهرباء والاتصالات والمعابر والجمارك والأمن والجواسيس، كما أنها لا تمثل حكماَ ذاتياَ في ظل هذا الاحتلال الذي عمل على صياغة البلد معتمداً بالكامل عليه يدخل من شاء ويقتل من شاء ويعتقل من بقي، أي أنه احتلال (ديلوكس) بحسب تعبير شلومو غازيت قائد استخبارات الجيش الصهيوني سابقاً. ومن سيضمن أمن قادة حماس ومسؤولي السلطة من طائرات الأباتشي والاغتيالات؟
| من المشكلات المعقدة سلوك حركة فتح: التي ربما يسعى جزء منها إلى إفشال التجربة بكل الوسائل المشروع منها وغير المشروع، وسيكون عماد تحركها هو العمل على استمرار السيطرة على مفاصل السلطة، وعدم السماح لحماس بإحداث تغيير جوهري فيها، وهذا يعني أن غُنمها سيكون لفتح، بينما غُرمها أمام الناس على حماس. والأخطر من هذا كله: هل هناك من يسعى إلى التخطيط للانقلاب على الانتخابات مثلا؟
| ماذا لو قامت كتائب الأقصى أو حركة الجهاد ببعض العمليات العسكرية لأي سبب من الأسباب: هل سيكون موقعها كموقع حماس من السلطة سابقاً؟ فمتطلبات أوسلو تؤكد على مطاردة الفصائل وتفكيك بنيتها التحتية.
| الاتفاقيات الدولية: حركة حماس التي رفعت بنيانها على أرضية راسخة من المبادئ والقيم وتحملت في سبيل ذلك ضغوطات تنوء بثقلها الجبال، هل يمكن أن تميل عن مسارها أو تلين لبعض الضغوطات؟! كالاتفاقات والأعراف الدولية والإقليمية التي أبرمتها السلطة عبر السنين وبعضها مخالف لنهج المقاومة.
| تحدي التمويل: من التحديات الضخمة قضية توفير الأموال اللازمة لدعم السلطة القادمة وبرامجها؛ فمن أين ستأتي وما هي مصادر التمويل؟ (2) . الموارد المحلية ضعيفة جداً والميزانية تعتمد بصورة كبيرة على دعم الدول المانحة العربية والإسلامية، فضلاً عن أوروبا وأمريكا أو مواردها التي تتم عبر الدولة المحتلة، أضف إل ذلك ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالمحتلين في عدة مجالات أساسية، وللأسف فقد ساهمت السلطة السابقة بربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الصهيوني، فربطت بذلك مصير آلاف العائلات بمعبر إيريز والمناطق الصناعية المحيطة به، فأصبح اقتصاداً تابعاً (مع عدم توفير فرص عمل) ، فهل يمكن التعويل على الدعم العربي غير المنتظم والمحدود والحذر؟ ونحن نعلم أن كثيراً من المساعدات مشروطة.
| الوضع الاقتصادي معضلة حقاً: فـ (حماس) السياسة ستأتي إلى بلد بنيته التحتية مدمرة، وهي مطالبة بتوفير حلول على الأرض للمواطن البسيط: في مأكله ومشربه، وعلاجه وتعليمه، ومشكلاته اليومية المتشابكة، في ظل وضع حرج واقتصاد منهار وبطالة عالية، وفساد إداري ومحسوبية.. وتحت حراب الاحتلال المشرعة، وخناجر المنافقين المتربصة. سيكون مطلوباً من حكومة حماس أن تكون حكومة المواطنين الفلسطينيين كلهم، وأن تترجم حربها الإعلامية إلى خطوات ملموسة على الأرض، وعندئذ هل يمكن أن نتصور أن يقف طابور الفاسدين متفرجاً على مشاهد القضاء عليه؟ هناك نحو 150 ألف موظف ينتظرون رواتبهم في نهاية الشهر؛ فماذا ستفعل؟ ربما تمضي سنتان أو ثلاث قبل أن تصل حماس بالوضع إلى مرحلة الصفر. وهناك فساد متفش جاء عبر تراكم الاحتلال الطويل ثم فساد السلطة الذي زكم الأنوف، وهذا سيستدعي جهوداَ طويلة قد لا تظهر نتائجها قريباً.
| كما أشرنا قبل قليل، حماس غير مقبولة إقليمياً أيضاًً؛ فهي وسط نشاز في محيط عربي مخالف يعيش في أوضاع مختلفة منها الفلك الأمريكي.. فكيف ستكون العلاقات معها؟
| صلاحيات المجلس التشريعي: فهو أحد المؤسسات التي أفرزها اتفاق أوسلو ولا يملك أي صلاحيات تفوق سلطات الاحتلال (1) . وكون العدو يعتبر اتفاقية أوسلو ميتة عملياً، فإن ذلك يعني أنه غير معني بالالتزام بها، ولا يعني ذلك أبداً أن الفلسطينيين في حِل منها، ولنا في أسلوب تطبيق اتفاقية الهدنة لعام 2005 خير مثال. ربما يعمد البعض إلى معادلة خطرة تتمثل في منح حماس حكومة مفرغة من مضمونها، بينما قد تؤدي محاولة حماس إحداث تغيير سريع في الوضع (وهو مستبعد) إلى ردة فعل عنيفة قد تصل حدود انقلاب على شاكلة الانقلاب الجزائري، سواء أكان مباشرة أم من خلال الاحتجاج بتضارب الصلاحيات مع الرئيس المنتخب، وهو قائد فتح عملياً، وهو الأمر الذي قد يفضي إلى حل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ استناداً إلى حساسيات الوضع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
| وهناك أيضاً كوم آخر من الملفات الصعبة والشائكة: وأكثرها من موروثات سلطة فتح: بعضها كبير وبعضها كبير جداً، كمشروع الدولة الفلسطينية، وملفات اللاجئين وحق العودة، ملف القدس، ملف الأسرى في سجون الاحتلال ذلك الملف المؤلم!! كيف ستجفف المصادر المالية للفاسدين ويطبق مبدأ: من أين لك هذا؟ وأموال الشعب التي اختفت بعد عرفات، ملف إطلاق سراح الأسرى السياسيين في أريحا وغيرها، ملف العلاقات وفتح الحدود مع مصر واتفاقية اقتصادية مع مصر، ملف الوظائف الوهمية التي تبلغ أكثر من 23 ألف وظيفة تضخ أموالها في جيوب الفاسدين، ملف إعادة رسم السياسة الإعلامية الفلسطينية وإصلاح وتأهيل وسائله خصوصاً التلفزيون، رفض اتفاقية معبر رفح وإلغاء تحكم أي قرار صهيوني في المعبر، ملف المياه الفلسطينية المنصبة بأمر أحد المسؤولين المعروفين إلى مستوطنات العدو، قانون منع التحريض وأي قانون تطبيعي مع الكيان الصهيوني، ترميم العلاقات مع البلاد العربية والإسلامية، كيف سيكون التعامل مع الفصائل الفلسطينية الأخرى؟ هل ستنفذ قواها العسكرية عمليات هي الأخرى؟ هل ستتصدى للفصائل الأخرى؟ ما علاج فوضى انتشار الأسلحة واستخدامه في كل الاتجاهات؟ كيف ستتصدى للمشكلات الاجتماعية الاقتصادية والمالية في ظل الفساد المستشري؟ وكيف ستواجه المافيات المنتشرة في كل مكان؟ كيف ستتعايش مع المؤسسات المسيطر عليها من قِبَل الآخرين؟
حقاً إنها أسئلة كثيرة تمثل تحديات ضخمة أمام حركة حماس يترتب على كل إجابة وسياسة وموقف نتائج ستؤثر على كل شيء في إطار مواقف إستراتيجية وعلاقات الحركة مع دول عربية وإسلامية وحركات وقوى سياسية مختلفة كانت داعمة لها.
\ هل تدخلنا أمريكا في لعبتها الديمقراطية؟
نعود للحديث قليلاً عن خطر آخر بحاجة إلى حنكة سياسية عالية ألا وهو لعبة الانتخابات لأهمية الموضوع والتنبيه على الدور الأمريكي كنوع من التحديات الخطرة: فالولايات المتحدة تخطط منذ فترة في عالمنا لمشاركة الإسلاميين في لعبة الانتخابات حيث يمكن إشراك (أو جرّ) الإسلاميين للمشاركة في العمل السياسي والانخراط في مؤسسات المجتمع المدني، وبذا يمكن تحقيق عدة أهداف: منها تعزيز التوجه السلمي، ودعم الحركات المعتدلة في وجه الإسلام المتطرف أو المسلح، والإشغال في مجالات حياتية أفرزتها أنظمة مستبدة فاسدة حيث يستغرق السعي في محاولة إصلاحها جهوداً ضخمة لا يمكن تغييرها في سنوات قليلة (1) . ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن الانتخابات الرئاسية السابقة كان من أوائل المشرفين عليها القس جيمي كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق. لعل من المريب ما أعلنت عنه إحدى الجمعيات المقربة من الإدارة الأمريكية عن دعم إحدى حملات حركة فتح الانتخابية برشوة صغيرة قدرها 2 مليونا دولار، ولا شك أن مجرد الإعلان هذا جلب نقمة الناس. لا نقول هذا للتخويف أو لتكريس نظرية المؤامرة، فأمريكا لا تقول للشيء كن فيكون، وقد تتمكن حماس بإذن الله من قلب السحر على الساحر والاستفادة من هذه المعادلات، ولكن المهم هو التنبه والحذر الدائم.
يحق للبعض أن يتحدث بصوت عالٍ حين يدعو إلى التفكير ملياً فيما تخطط له الإدارة الأمريكية ومشاريعها لحماية أمن العدو، كيف لا ونحن نرى أن ذلك يمثل ركيزة المشروع الأمريكي في المنطقة؟ وسيذكرنا ذلك البعض بحجم التنازلات التي قدمها ياسر عرفات مما يملك وما لا يملك، وعرفات لم يكن إسلامياً بل معروفاً بنهجه العلماني كما صرح علناً للعالم في الأمم المتحدة وغيرها، فلا يمكن اعتباره عدواَ للنهج الغربي أو الديمقراطي. كل هذا لم يشفع له، فغدا رئيساً غير مرغوب فيه أمريكياً فحرمه بوش من شرف مقابلته!! وبقي حبيس حجرة أو بعض حجرة، سجيناً فيها لفترة طويلة. كيف تسمح إذاً الولايات المتحدة ـ ومن ورائها الدولة الصهيونية ـ لمنظمة (حماس) الإرهابية بخوض الانتخابات والوصول إلى المجلس التشريعي أو الحكم؟
قد لا تكون هي الصورة المثلى التي تريدها الإدارة الأمريكية، فهي تريد ديمقراطية «عميلة مستوردة» كما في أفغانستان والعراق، ولا تحبذ مطلقاً الديمقراطية الجزائرية التي قادت حزب جبهة الإنقاذ إلى ذلك الفوز الساحق (كحال حماس الآن) . ولا مانع لدى الغرب وأمريكا من الإطاحة بالديمقراطية إذا لم تعجبهم؛ فقد أيّدت أمريكا المسعى الفرنسي لإبطال نتائج الانتخابات الجزائرية التي فاز بها الإسلاميون فوزاً ساحقاً، وصرّح وزير خارجيتهم آنذاك (جيمس بيكر) بأنّ بلاده ترفض قيام (إسلام سياسي) حتى وإن جاء بالطرق الديمقراطية الانتخابية؛ لأنّ ذلك يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية وللدول الموالية لها وللسلام العالمي. وكذالك الأمر عندما فاز حزب الرفاه في تركيا عام 1995م فدعمت الانقلابيين ضده كي لا يصل الإسلاميون حتى بالطرق الديمقراطية، إنه المفهوم الأمريكي ذاته. كما أطاحت أمريكا بعدد من الديمقراطيات في أمريكا الوسطى والجنوبية (2) . لا شك أن هناك معضلة؛ فكيف ستتعامل أمريكا الآن مع سلطة تدعو في دستورها إلى تدمير (ربيبتها) ؟ ولكن المعضلة الأكبر عندهم ما جرى خلال الانتفاضة من تهديد أمن الصهاينة وتنامي الروح الجهادية لدى الشعب الفلسطيني والمناطق المجاورة. فهل يمكن لمثل هذه الحملة الديمقراطية التي تسوِّقها الولايات المتحدة والغرب أن تساهم في حل المعضلة الأكبر؟
نقف لنتذكر هنا التخطيط الغربي ورسم الأهداف والاستراتيجيات، ونتذكر تعليق الصحابي الجليل عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ وهو يعلق على حديث رسول الله #: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس» ، حيث يقول عمرو: «إن فيهم لخصالاً أربعاً فذكر منها: إنهم لأحلمُ الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كَرَّة بعد فرة..» (3) ، إنها صفات تدل على قوة التخطيط وعمقه، فهم ينظرون إلى المستقبل البعيد وسياسة التدرج والخطوة خطوة.. ونحن في الغالب نفكر في اللحظة الراهنة والفعل الآني وردة الفعل والدفاع عن النفس.. فتحجبنا هذه الرؤية عن الخير المستقبل أو الشر الواقع ولا ندرك الأمور إلا بعد فوات الأوان.
عود على بدء: نقول إن أمريكا تريد الديمقراطية المفصلة لمصالحها ومصلحة أمن الصهاينة، وكما ذكر «المعهد الملكي للشؤون الدولية» في لندن في دراسة له عن نظام العلاقات الأمريكية الدولية مؤدّاها أنّه «بينما تقدم الولايات المتحدة خدمة «لسانية» للديمقراطية فإنّ التزامها الحقيقي هو لـ «مشروعات الرأسمالية الخاصة» وعندما تتعرض حقوق المستثمرين الأمريكيين للتهديد فعلى الديمقراطية أن ترحل ولا بأس أن يحل محلها حكّام التعذيب والقتل» . فهل بعد هذا سيصدّق أحد أنّ أمريكا ملتزمة بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط؟ وماذا سيكون لو أوصلت هذه الديمقراطية الإسلاميين إلى الحكم في جميع الدول (4) ، وخاصة أنه أمر طبيعي في ظل ظروف الكراهية المتنامية ضدّ أمريكا؟
وفي موضوع ذي صلة ولمزيد من التأمل، يربط بعض المراقبين ما حدث بنشاط حركة الإخوان المسلمين مؤخراً في عدد من البلدان في مجال المشاركة السياسية والانتخابات، ويتحدث من جهة أخرى عن فتح قنوات مع أمريكا وأوروبا: ففي لبنان تحدثت تقارير صحفية عن عقد لقاءات بين حركة حماس وبعض موظفي المخابرات الأمريكية. وفي مقابلة مع قناة الجزيرة أجرتها مع المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية علي صدر الدين البيانوني لم ينف وجود اتصالات مع الأمريكان والأوروبيين، ويشير بعض المراقبين في هذا الإطار إلى مشاركة الإخوان في العراق في العملية السياسية وخوض الانتخابات مؤخراً.
\ اللعبة السياسية: مخاوف - آمال - اقتراحات:
تقف (حماس) السياسة اليوم في مواجهة هذا المنعطف التاريخي عشية فوزها، وفي ظل ظرف بالغ الصعوبة قد يكون أهونها غياب بعض أهم قادتها التاريخيين الذين رسموا ملامح مسيرتها على مدار سنوات الجهاد. ولا شك أن المطالب الآن ليس من حماس وحدها وإنما أيضاً من الشعب كله بفصائله، بل المطلوب من الأمة كلها قبل ذلك أمور كثيرة وكبيرة، ولكن الكرة الآن في ملعب حماس قبل غيرها لتحمل راية الحلول والمبادرة بمد يدها إلى الأمة؛ فهي التي اتخذت القرار. إن إنجاح الانتفاضة الفلسطينية مسؤولية الجميع، وخذلانها جريمة تاريخية لا تغتفر.
ومثل هذا المقال لا يقدم برنامجاً ولا حلولاً تفصيلية، وإنما هي خواطر نذكِّر أنفسنا وإخواننا بها، نعتقد أن الإخوة في (حماس) يعلمونها كلها ويعملون بها جيداً؛ فقد أثبتوا أداءً وكفاءة عالية بفضل الله، ولكنها تذكرة ومشاركة:
| أهم الخيارات الملحة تقوية الجبهة الداخلية، ولذلك طرائق شتى منها أولاً العلاقة مع أقرب الفصائل وهي حركة الجهاد والتيارات الإسلامية الأخرى كالسلفيين، هؤلاء الإسلاميون أقرب الناس لحماس فلا يجوز أن تخسرهم أو تستعديهم، حتى لو كانوا أقل عدداً، ولتحذر من داء الحزبية فلا تهمش ولا تهمل ولتكن كالطبيب. ونحن نؤكد على قاعدة ذهبية مفادها أنه (لن يأتينا النصر والتوفيق أبداً ونحن متفرقون مختلفون مهما بلغت قوتنا) ، فالإسلاميون غير الأنظمة والتيارات الأخرى.
يتعين على «حماس» مد اليد للجميع بصرف النظر عن انتماءاتهم، وأن تعلي من شأن الالتزام بالقضية وتعتبره مقدماً على الالتزام بالحركة، فهي فصيل مهم جداً لكنه ليس الممثل الوحيد. والتوافق الداخلي نهج ينبغي أن تعض عليه بالنواجذ، ولا يتحقق بفرض طرف برنامجه على الآخرين، وإنما باستعداد كل الأطراف للقاء، وإذا كانت قضية المقاومة والتحرير والملف السياسي على رأس أولويات العمل، فذلك يعني تراجع أي شأن آخر لإتاحة الفرصة للتركيز على ذلك الملف. والتوافق يفترض ألا يمثل فقط التقاء على المشاركة في السلطة، بل الأهم أن يعبر عن اتفاق حول ترتيب الأولويات، وتحديد القضايا الأساسية التي ينبغي التركيز عليها في المرحلة الراهنة واللاحقة.
| سيكون من أهم القرارات الأولية ضبط الانفلات الأمني الذي شهده الشارع الفلسطيني أكثر من مرة وآخرها ما قام به بعض مؤيدي فتح بصورة مشبوهة، فلا برامج ولا عيش يهنأ بدون أمن. وهناك أطراف كثيرة تملك أسلحة مما لا ينبغي حيازتها إلا للتنظيمات المسلحة. وينبغي أن يكون هناك حذر شديد في البداية لقطع الطريق على الموتورين الذين سيسعى بعضهم إلى ارتكاب بعض إشكالات لإحراج حكومة حماس، وربما يسهم البعض في اتفاقات مع العدو لهذا الغرض، ووراء الأكمة ما وراءها، لذا فإن تنظيف الساحة الداخلية من العملاء أعداء المجاهدين هدف كبير وأساسي.
| السعي لتشكيل لجنة وطنية تتشكل من رموز فلسطينية من الداخل ومن الشتات (لتأكيد حق العودة) تأخذ على عاتقها إدارة العملية السياسية، مطلب مهم وذلك ضمن رؤية لا تقل عن دحر الاحتلال عن الضفة الغربية وقطاع غزة وإعادة اللاجئين والإفراج عن المعتقلين، وتفعيل القضية عالمياً لوضع الكرة في ملعب الصهاينية.
| ملف المقاومة، وهنا لا بد من توفير إجماع وطني عليه، بصرف النظر عن السلوك الصهيوني المقابل وإمكانية أن يمضي في الاتجاه الذي اختطه شارون وتبناه خلفه (أولمرت) ، أي الانسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية وحشر الفلسطينيين في تجمعاتهم شرق الجدار.
| في حُمّى الاجتماعات السياسية التي تتم الآن بلا كلل لمواجهة التحديات القادمة، لعل الإخوة قد قاموا بتشكيل مجالس ولجان مختلفة بعضها لإدارة الأزمات وأخرى متخصصة في السياسة الشرعية وثالثة إعلامية، وغير ذلك.. يتمتع أعضاؤها بالكفاءة والحكمة.
| أهدافنا لا بد أن تبقى أمام أعيننا فلا نغفلها، والتدرج في نشر ودعم الدعوة للخير والفضيلة بين الناس ضروري، فلا يصلح أحوال الناس مثل قربهم من ربهم ـ سبحانه ـ وامتثال شرعه. وهناك خيط رفيع أحياناً بين الأهداف والمبادئ، وبين التنازلات التي تبررها الواقعية، يمكن أن تؤدي إلى أضرار بالغة في المدى البعيد.
| التأني في القضاء على ركائز الفساد المالي والإداري الذي عشش طويلاً في أركان السلطة (1) .
| في مرحلة لاحقة يأتي الحديث عن ضبط التحالفات والعلاقات والتوازنات المحلية والإقليمية؛ وهذه كلها ملفات ضخمة وكبيرة، ولا نعني تأخيرها زمنياً، وإنما من حيث ترتيب الأولويات.
| الاستفادة من تجربة الحركات الإسلامية والعمل السياسي الإسلامي؛ فهناك تجارب ضخمة قامت في عالمنا العربي على وجه الخصوص كالجزائر وسورية ومصر والتجربة التركية والسودانية وغيرها كيف يمكن الاستفادة منها؟ ونحن نسمع أن الإخوة في حماس قد نظروا إلى هذه التجارب واستخلصوا منها العبر، ونتمنى حقاً أن نرى شيئاً من هذه الدراسات ليستفيد منها الجميع. وإلحاقاً بذلك يمكن الدعوة إلى تشكيل مجلس استشاري من إخوانكم في العالم الإسلامي، وهناك خبرات كبيرة لا بد من الاستفادة منها. فعلى الجميع ومنهم حماس السعي لإيجاد آليات التواصل مع العلماء والدعاة والحركات الإسلامية المنتشرة في العالم الإسلامي وهم رصيدنا الحقيقي.
البحث في طرق الاستفادة من طاقات الأمة وكفاءاتها المتفرقة والمنتشرة بدءاً من أهل الرأي وانتهاء بأصحاب الطاقات الفنية والتقنية الذين يتمنون المشاركة في الخير وفي فلسطين خصوصاً. ورغم أهمية العلاقات والاتصالات مع الأنظمة والحكومات إلا أنها تمثل فيما يبدو إحدى الحلقات الضعيفة، وقد كانت تاريخياً أحد العوامل التي أثرت سلباً على مسار القضية فلا يراهن عليها، ولو كان هناك موقف عربي جيد متماسك وقوي لاختلف الأمر ولتغيرت الخرائط ولكنها تبقى مرتهنة. فلو قررت أميركا وأوروبا وقف المساعدات لحكومة حماس فماذا سيكون موقف العالم العربي: هل سينضم إلى المقاطعة، أم يحاول مد يد العون بصورة أو أخرى؟
| يمكن حل بعض الإشكاليات عبر جملة خطوات إذا كان لا بد من عملية سياسية تتواصل؛ فمن جهة يمكن استعادة الحديث عن إحالة مرجعية التفاوض إلى منظمة التحرير بعد تشكيلها بأسس جديدة تستفيد من تجربة التفاوض الطويلة، فضلاً عن توزيع القوى الجديدة في الساحة الفلسطينية. كما يمكن الاستفادة من النَّفَس الديمقراطي بإحالة بعض الموضوعات للاستفتاء الشعبي كي يصوَّت عليها وبعدها يمكن الحديث والتفاوض.
| على صعيد التحديات السياسية، فالأعداء والمتربصون من الداخل والخارج كثر، وهناك منافقو الداخل الذين كشروا عن أنيابهم، وهناك العدو الماكر الذي سيسعى بدهاء لاستدراجكم للوقوع في فخ التنازلات بتدرج، أعانكم الله على كيد الكائدين. فاستمروا في مواقفكم الرائعة، واحذروا من الاستدراج إلى مقولات الاعتراف بالدولة العبرية التي يرددها قادة الغرب والشرق؛ إذ إن الصهاينة هم الذين يجب أن يعترفوا بالحقوق الفلسطينية، وينفذوا قرارات ما يسمى بـ (الشرعية الدولية) ، وحين يفعلون ذلك فلكل حادث حديث.
| أهمية التأني في صياغة الخطاب السياسي خصوصاً مع الولايات المتحدة وأوروبا؛ فالأمر بحاجة إلى تأمل وضوابط وإتقان فَهْم للغة الغرب وأصول اللعبة الديمقراطية و.. و..
| سياسة التصريحات: ترتكز السياسة المعاصرة على التصريحات والمقابلات والبيانات، والسياسي المسلم يبقى دائماً مرتبطاً بأصوله الشرعية فهو ليس كغيره، قد يتحدث بلغة المصالح والموازنات بل والواقعية، لكنه أبداً يبقى مشدوداً إلى منهجه العظيم، فلا تحرفه البراجماتية السياسية ولا تجرفه الميكيافيلية، وحين لا يصرح مثلاً بإسلامية الدولة، فإنه يعرف حدود تصريحاته وأثرها على الناس، ويوصل رسالته صريحة واضحة دون غبش. إن الكلمة لها قيمة أيما قيمة، وأنتم الآن ينظر لكم في مكانة سامقة والأنفاس محسوبة. ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أهمية الرقابة الداخلية على تصريحات المسؤولين لوسائل الإعلام وحصرها في عدد محدد؛ فبعضهم يصرح بتصريحات غريبة بعضها قد يكون محرجاً للحركة!! وقد يكون الأنسب في حق أولئك التقليل من التصريحات. وبعضٌ آخر عليه أن يخفف من سيل الوعود والأحلام التي يعطيها بلاحساب. مثال: لم يكن مناسباً أبداً تصريح أحد المسؤولين البارزين في نابلس يوم 30/1/2006 بأن الحركة لا تريد تدمير الدولة المحتلة أو إزالتها عن الوجود، ربما كان الكلام صحيحاً من الناحية الواقعية ولا أحد يطالبك بأن تقول إننا سندمرهم، ولكن ما الداعي لمثل هذه التصريحات المجانية من أول يوم؟
| عدم وجود تجارب سابقة لدى حماس ربما يفضي إلى مزيد من العبء، ولكنه يستدعي استنهاض الجهود في الأمة ورص الصفوف والتشاور مع الإخوة ومد اليد بصورة عملية للإسلاميين والكفاءات في كل مكان.
| لحماس أن تفرق بين استحقاقات الضرورات وقضاء الخيارات؛ فثمة ضرورات يمكن أن تنهض بها أطراف أخرى غير الحكومة (منظمة التحرير مثلاً) ، وإذا استحكمت الضرورات ولم يكن هناك مفر من التعامل معها، فقد تجيز المحظورات، حسب القاعدة الشرعية المعمول بها، ولـ «حماس» أن تهتدي في تعاملها مع مختلف الملفات بالقواعد المتعارف عليها عند الأصوليين في التغيير، التي تراعي سنة التدرج فيما يراد تغييره، وتدقق في الموازنة بين المصالح والمفاسد، أو بين المفاسد والمفاسد، وقاعدة اختيار أخف الضررين وأهون الشرين (1) .
| التركيز على استخدام مصطلح الشعب الفلسطيني قد يكون أفضل من الإكثار من مصطلح حماس بسبب حساسية البعض.
| الحديث السياسي دائماً من سقف مرتفع؛ فأنتم حركة مقاومة قوية وكبيرة وقد اختاركم الشعب بأغلبية ساحقة، فلستم منظمة صغيرة لا جذور لها ولا رصيد، كحال بعض المنظمات التي هي مجرد ظاهرة صوتية، والسقف المرتفع يفيد في المناورة، ونحسب أنكم تفقهون هذا وتمارسونه إن شاء الله.
| التركيز على النشاط الإعلامي لتحسين الصورة والوصول إلى التأييد الداخلي والخارجي وفك الحصار والحصول على الدعم بل والإسراع في إنشاء محطة بث تلفزيوني فضائي سيكون له أثر بالغ.
| هل يمكن لحماس أن تقوم بمشروع لشق صف المعادين لهم بطريقة ذكية؟ لقد كان لنعيم بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ دور كبير في شق صف العدو والتخذيل فيه، خطوة كهذه ستختصر مسافات كثيرة.
| تفعيل الشعوب العربية والمسلمة في أشياء كثيرة منها: البحث في كيفية المساهمة في كسر الطوق الإعلامي عن حماس في البلاد العربية خصوصاً الدول المجاورة، وتفعيل الدعم المالي لحماس والشعب الفلسطيني، والناس عادة يدعمون في المصائب والمآسي بصورة أكثر.
| وعلى حماس وغيرهم أمور كثيرة من الانتباه للمخاطر القادمة من العدو ومخططاته لتهجير فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48 (مشروع الترانسفير) وتوعية المسلمين بهذا الخطر الداهم وطرق مواجهته.
| وعليهم الحذر من الوقوع في الشراك الدولية التي تريد سحبها وسحب غيرها إلى التنازلات وإيجاد شريك فلسطيني في العملية السياسية، لإضفاء غطاء من المشروعية السياسية والشعبية لشريك فلسطيني مستعد وقادر على تقديم التنازلات التي يطلبها العدو.
كان مما مضى بعض التساؤلات والاستفهامات التي تدور في أذهان إخوانهم الإسلاميين ويريدون الإجابة عنها دون استخدام لغة السياسيين المبهمة أو التصريحات المتناقضة! وتصورات الإخوة في حماس وأدائهم متفوق حتى الآن بفضل الله. إن خطأ الآخرين خطأ ... وخطأ الإسلاميين خطيئة! فخطؤهم لا يعني خسارة دورة أو اثنتين في المجلس؛ بل قد يجيّره البعض للصد عن سبيل الله ـ عياذاً باللهَ! ـ فاللهَ اللهَ في هذا الثغر العظيم، ومواقفكم الآن لها ما بعدها، فأنتم معقد آمال الأمة. ونحن نعتقد أن في إخواننا من يستطيع إدارة الدولة خيراً من كثير من غيرهم.
\ وأخيراً..
فالله ـ سبحانه ـ وحده يعلم ما ستسفر عنه هذه النتائج الكبيرة، ولعل من المناسب طرح ودراسة كافة الاحتمالات والتوقعات استراتيجياً وتكتيكياً، وحتى لو كانت هناك توقعات أو احتمالات سلبية فلا بد من دراستها بصورة متأنية، فهل ستسير الأمور بصورة طبيعية؟ وفي حال وجود العقبات لاحقاً: هل الأفضل الاكتفاء بوجود قوي في المجلس التشريعي يمكن من مراقبة أداء السلطة الداخلي والخارجي ومحاولة حماية مكتسبات الحركة، وفتح ملفات الفساد؟ تُرى هل سيكون فرصة لفتح لمراجعة حساباتها فتكون خسارتها تكتيكية فقط وتعود بصورة أقوى بعد انشغال حماس في ملفات وتعقيدات السلطة؟ هل ستُضرب شعبية حماس ـ لا قدر الله ـ ضربة مفصلية في الشارع الفلسطيني بمقدار ما قامت تلك الشعبية على ابتعاد حماس عن مستنقع العملية السياسية، ومنها بالطبع أوسلو وأُطُرها؟ هل ستستفيد فتح في تحقيق شيء من المشروعية لبرامجها ومنها العملية السياسية وإعادة إحياء الأمل في العملية السياسية في الشارع بعدما وصلت إلى طريق مسدود في السنوات الأخيرة؟ أم هل ستجد إسرائيل ما ينسجم في النهاية مع المطلب الصهيوني؟
انتصار حماس انتصار للأمة، وفي حال فشل التجربة ـ لا قدر الله ـ أو في حال تكبلت حماس ببروتوكولات سياسية ودولية، أو لم تستطع المقاومة بقوة أو لم تلبِّ الحد الأدنى من مقارعة العدو؛ فالمتوقع أن يفتح هذا الباب أمام فصائل أخرى مثل حركة الجهاد التي نأت عن المشاركة منذ البداية ويظهر للشارع الفلسطيني أن قرارها كان صائباً أن يقوى دورها، وكذا الحال لغيرها من الفصائل الساخطة ككتائب الأقصى بقياداتها الشابة بعد مراجعاتها، ولربما يتعزز أيضاًً دور جهات أخرى جديدة من خارج فلسطين، أو من خلال تيار شبابي داخل حماس نفسها وهي ذات أهداف وتاريخ جهاديي أيضاً وربما يكون هذا دافع لعدد من الشباب للانخراط في حركة الجهاد هذه، خاصة إذا استمرت في التركيز على البناء العسكري والتجهيز والبناء الدعوي. وربما انتقل الصراع إلى مرحلة جديدة، فالحسابات المحلية والدولية في هذه المنطقة دقيقة جداً، واللاعبون والفاعلون الدوليون ينحصرون في حالتنا بالمقاومة الإسلامية في حين أن الأنظمة العربية بعيدة عن ذلك.
\ واجبات وحقوق:
هناك حقوق وواجبات كثيرة علينا تجاه إخواننا في حماس، واجب الولاء والنصرة والدعم بغض النظر عن أي اجتهاد للمشاركة في الانتخابات؛ فالآن المطلوب هو الوقوف معهم يداً بيد. وكل مسلم يعي دوره يعلم أنه يجب عليه دعمهم ومؤازرتهم. ولتعلم حماس أن المسلمين سيدعمونها طالما بقيت محافظة على أهدافها ومبادئها السامية. والإخوة في حماس يؤكدون على أهمية التواصل والدعم بكل الوسائل مالياً وإعلامياً ونصحاً؛ فهناك حرب إعلامية شرسة؛ فماذا على الأمة أن تفعله وهي المعنية وليست «حماس» فقط؟
- لحركة الجهاد نقول: إن الواجب الآن التركيز على وحدة الصف أكثر من أي وقت مضى، ووضع يدها في يد حماس والتفاهم في مواقفهما، فأهدافكم وغاياتكم العليا واحدة وإن اختلفت الوسائل، والعدو ماكر، وهو يسعى الآن بصورة أكبر من ذي قبل لقتل مسؤولي الجهاد وتعقبهم في كل المدن، وقد رأينا مقتل عدد منهم، ولعل من مقاصد العدو أيضاًًُ إرسال رسالة لحركة الجهاد بأنها أصبحت خارج إطار اللعبة السياسية.
- وللقوى الوطنية نقول: أنتم مطالبون أيضاً بأن ترتفعوا فوق الخلاف، ولا بد أن تظل عند التزامها بمقاومة العدو والتحرير، فليس هذا وقت الشماتة في أحد أو تصفية الحسابات، والمقاطعة الآن ليست موقفاً من حماس وإنما تخلٍّ عن المسؤولية في ظرف تاريخي دقيق، وإخلاء لجبهة لا يزال القتال فيها مشتعلاً، ومن ثَم فالتعاون مع حماس بالمشاركة أو غيرها يمثل استمراراً للمقاومة من موقع آخر، وإسداء النصح لها ضرورة تفرضها المسؤولية
- ولكافة الشعب الفلسطيني نقول: لتكن أقرب إلى الله سبحانه؛ منكم تعلمنا الصبر والمجاهدة، قد تُبتلون بالاستمرار في اللأواء والفقر والتجويع؛ فاصبروا قليلاً وتذكروا حصار أسلافكم في المدينة المنورة حين حوصروا وربطوا الحجارة على بطونهم. كان اختيار حماس هو خيارك، فقد انتخبتَ حركة مجاهدة صادقة هي منك وأنت منها، وليس هذا بغريب على هذا الشعب المرابط المجاهد، فلم تخذلها في المراحل السابقة، فكن معها في باقي الطريق فستجد الخير إن شاء الله.
- أما أمتنا المسلمة: فعليها واجبات كثيرة، وهي تستطيع القيام بأمور كثيرة بعضها مهم جداً.
إن واجبنا في هذه المرحلة جميعا أن نقوم بالتالي:
- التأكيد على أن القضية الفلسطينية قضية جميع المسلمين، وأن التفريط فيها أو إضعافها تفريط وإثم.
- بث روح الولاء والبراء ووجوب نصرة المسلمين بعضهم بعضاً، وقد قال النبي #: «المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه ولا يظلمه» .
- لا بد من تفعيل الدعم الجماهيري والشعبي في الأمة المسلمة كلها من خلال خطب الجمعة ولقاءات العلماء ووسائل الإعلام المختلفة. إن تقوية الجبهة الإسلامية الشعبية وتوعيتها بالمخاطر الناشئة عن الوقوع في شَرَك استفزازات الغرب الصليبي اليهودي، مطلب مهم أهم من مواجهة الخارج؛ لأن الجبهة الداخلية الإسلامية إذا كانت قوية ومدركة لدورها ورسالتها ولما يريده العدو فستبطل كيد الأعداء، وتفشل مخططاتهم وتذهب كيدهم؛ إن كيدهم كان ضعيفاً.
- حث حكومات العالم الإسلامي على التوقف عن التصريح أو التلميح بالسلام مع العدو اليهودي، وأن تراقب تلك الحكومات الرأي العام الشعبي الرافض للسلام مع اليهود، ففلسطين مسلمة من النهر إلى البحر.
- دعم الفلسطينيين والحكومة التي ستقودها «حماس» والتي اختارها الشعب، دعمهم إعلامياً، فالحرب في هذه المرحلة إعلامية، تسعى إلى الفت في عضد حماس والشعب وتخويفه وإذلاله، والله ـ تعالى ـ غالب على أمره.
ونقول للإخوة في فلسطين: اصبروا وصابروا، والله ـ تعالى ـ معكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . وعلينا الدفاع عن إخواننا والذب عنهم ومواجهة التشكيك الذي قد يصدر من هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك أو هذه الجهة السياسية أو تلك مما يفت في عضدهم، أو يحث حكومتهم المقبلة على الاستسلام لمطالب الغرب الصليبي.
نحن في فترة تاريخية حرجة في عمر الزمان نسأل الله أن يسلِّم، وقد تعوَّدنا من حماس حُسن الأداء العسكري والسياسي، ونأمل أن تستمر في التحلي بهذا الحس والفهم المتميز إن شاء الله. وهذا ليس نهاية المطاف؛ فهناك مجالات كثيرة للعمل؛ فلا نريد أن تجرنا هذه التجربة إليها بالكلية.
حقاً نحن الآن بحاجة إلى اللجوء إلى الله أكثر والخضوع له أكثر من ذي قبل، وينبغي الاستعانة بالله والتوكل عليه بصورة حقيقية؛ فلا نعتمد على دهائنا السياسي ولا خططنا ولا كل إمكاناتنا دون الله.
اللهم أعن إخواننا على تحمل المسؤولية وسدد رميهم ورأيهم وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وانصر بهم الحق وأهله.(222/16)
أبو مرزوق: حماس ترفض التفاوض حول الحل النهائي
حاوره في القاهرة: حمدي عبد العزيز
تجيء الانتخابات التشريعية بعد مخاض طويل، حيث انتهى الدور التشريعي عام 2000م، ولم تجرِ الانتخابات منذ ذلك الوقت نظراً لظروف انتفاضة الأقصى، وممارسات الاحتلال التي أعاقت إجراءها طويلاً، وأظهرت نتائج هذه الانتخابات التي تقدم لها نحو 11 قائمة انتخابية وجود ميل لدى الشعب الفلسطيني لصالح المقاومة، إلى جانب أنها تميزت بحضور نسبة عالية من الناخبين بلغت 77.69% ممن لهم الحق في التصويت؛ فقد فازت قائمة الإصلاح والتغيير التابعة لحركة المقاومة الإسلامية حماس بـ 76 مقعداً، إضافة إلى 4 من المتحالفين على قوائمها من مسيحيين علمانيين اتفقوا على البرنامج الذي طرحته الحركة.
وحول هذه الانتخابات، وما أفرزته من تداعيات وقضايا ساخنة كان لـ (^) هذا الحوار مع د. موسى أبو مرزوق - نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس على هامش زيارته للقاهرة، ومشاركته في المحكمة الشعبية الدولية الإنسانية ضد بوش وشارون، والتي نظمها اتحاد المحامين العرب.
انتصار للعرب والفلسطينيين:
^: نود السؤال في البداية عن الحكومة: هل ستشكل حماس بمفردها الحكومة الفلسطينية في ظل رفض فتح للمشاركة فيها؟ وفي ظل الاشتراطات الأمريكية والصهيونية بوقف المقاومة والاعتراف بـ (دولة العدو) مما يدفع بعضهم إلى التوقع بأن حماس لن تشكل الحكومة، فما ردكم؟
| إن حماس لا يمكن أن تهرب من مسؤولياتها، ولن تتخلى عن ثقة شعبها بها، وسوف تشكل الحكومة، سواء شاركت حركة فتح أم لا؛ فهذا شأن عائد لهم، وعندما طرحت حماس مبدأ المشاركة لم يكن ذلك من قبيل الخوف من المستقبل أو عدم الاستطاعة، ولكن لأنها تطرح في برنامجها السياسي مبدأ المشاركة، وألا تكون السلطة بيد حزب واحد.
وما زلنا نطرح هذا المبدأ الذي يعتبر عهداً قطعته حماس على نفسها أمام الشعب الفلسطيني.
^: وهل هناك بالفعل ضغوط عربية تتوافق مع الاشتراطات الأمريكية والصهيونية؟
| ليس هناك ضغوط عربية على حماس، ولم نسمع من الدول العربية غير التطمينات والتهاني بالفوز، وأريد أن أطمئن الجميع بأن الوضع العربي يقف بقوة مع خيار الشعب الفلسطيني، ولا يمكن أن تضع السلطة أو أي نظام عربي اشتراطات على هذا الشعب، بل بالعكس نجد أن دولاً عربية تؤكد أنها ستقدم المعونات والمساعدات.
وأرى أن ما حدث من نتائج الانتخابات هو انتصار لمجموع العرب والدول العربية قبل أن يكون انتصاراً للفلسطينيين؛ لأن هناك ضغوطاً قوية في المنطقة تصب باتجاه تهميش أدوار الدول العربية لصالح أن تكون للدولة العبرية وحدها القوة السياسية والاقتصادية والنووية الأولى.
^: نعود إلى الضغوط والاشتراطات الدولية، وخاصة الأمريكية والصهيونية.. ما ردكم عليها؟
| أرد أنا بسؤال أيضاً: ومتى توقفت هذه الضغوط؟ لقد وضعت الولايات المتحدة حركة حماس على قائمتها للإرهاب، وقالت إنها ستوقف مصادر تمويلها وتلاحق قياداتها، وأنا بنفسي مطلوب للأمريكيين والصهاينة، أما في فلسطين المحتلة، فالضغوط أيضاً ليست جديدة، حيث يقتل الصهاينة القادة السياسيين والنشطاء خارج القانون.
إذن هذه ضغوط ليست جديدة، وعليهم أن يحترموا المبادئ الديموقراطية التي ينادون هم أنفسهم بها.
شروط الرئيس عباس:
^: قرأنا في وسائل الإعلام أن رئيس السلطة محمود عباس يشترط على حماس وقف المقاومة والتخلي عن السلاح، وقبول التزامات السلطة بموجب اتفاقيات أوسلو، فهل تقبلون بذلك؟
| اشتراط إلقاء السلاح ليس قرار فصيل واحد أو حكومة، لكنه قرار شعب يتم في حال اقتنع هذا الشعب بأن المقاومة قد أوصلته إلى حقوقه، وأنه آن الأوان لكي تتحول المقاومة بشكل طبيعي إلى عملية البناء.
أؤكد أنه لا يوجد من يمنع شعباً من مقاومة الاحتلال حتى حماس نفسها؛ فلو افترضنا أن حماس اتخذت مثل هذا القرار، فسيخرج منها من يحمل السلاح ويقاوم، وهذا ما حدث مع حركة فتح بالضبط، وحدث مع كل الدول التي استقلت؛ حيث كان لديها مجموعات مسلحة تقاوم الاحتلال.
كما أن القانون لا يسمح بأية اشتراطات؛ حيث ينص على تكليف الحزب الحاصل على الأغلبية بتشكيل الحكومة، وفي مقابل هذا سنعلن أن خيارنا هو الحوار والتوافق والبرنامج الواحد لكل فصائل الشعب الفلسطيني.
^: إعلانكم الاستعداد للتفاوض حول هدنة مع (الصهاينة) ، هل يعني القبول بحل الدولتين؟
إن فلسطين بحدودها الجغرافية المعروفة هي حق للشعب الفلسطيني، وحينما يعود هذا الحق يجب أن يكون هناك دولة ديموقراطية إسلامية تتأسس على مبدأ المواطنة، ولكن هذه مسائل مؤجلة، وما طرحناه في البرنامج الانتخابي هو عدم الاعتراف بأي دولة أخرى على أرض فلسطين؛ مع السعي لإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة.
رسالة حماس إلى مصر:
^: بخصوص زيارتكم للقاهرة، هل تحملون معها رسالة من حركة حماس إلى مصر؟
| رسالتنا إلى مصر واضحة، وهي أنها دولة قائدة في المنطقة، ولا يمكن تجاهل موقفها، والملف الفلسطيني بالنسبة لها دائماً ملف استراتيجي، ومع هذا فالمسألة ليست استراتيجية فقط، وإنما أيضاً أخوَّة وتضامن، وسوف يكون هناك حوار مسؤول، وتوضيح للسياسات ومطالب بدعم الشعب الفلسطيني، وصولاً إلى تفاهمات مع مصر في كل القضايا المطروحة.
^: هذا يقودنا إلى الحديث عن أهم هذه القضايا، وخصوصاً الضغوط الأمريكية والوضع الفلسطيني الداخلي.
| نؤكد على بعض النقاط فيما يتعلق بالضغوط الأمريكية: أولاً: لا يحق للولايات المتحدة أن تقف أمام الخيار الديموقراطي للشعب الفلسطيني، وخصوصاً أنها أرسلت فريق مراقبة برئاسة الرئيس (جيمي كارتر) ، وأشاد بهذه الانتخابات. ثانياً: يجب ألا يخلط الأمريكيون بين المبادئ والسياسة، وألا يعاقبوا الشعب الفلسطيني على خياره الديموقراطي. ثالثاً: أن المصالح الأمريكية ليست مرهونة بالخيارات الإسرائيلية في المنطقة، بل لا بد أن يكون هناك ربط بين مصالحها ومصالح الشعوب العربية والإسلامية بأن تتوافق مبادئها الديموقراطية وإرادات هذه الشعوب، ومن ثَم عليها أن تفكر طويلاً بسؤال: لماذا يكرهوننا؟ وتربطه بدعمها المطلق للعدو الصهيوني. رابعاً: أن حماس لن تساوم مطلقاً على كرامة الشعب الفلسطيني وحقوقه قُطِعت المعونات الأمريكية أم لم تقطع.
أما بالنسبة للوضع الداخلي فستكون كل النقاط الواردة في البرنامج موضع تطبيق، وسيرى الشعب الفلسطيني طريقة جديدة ترتكز على المسؤولية والعدالة والكرامة حتى نستطيع أن نقدم له ما يريده وندعم صموده ونحقق خياراته.
لا نتفاوض ولا نعترف:
^: هل بدأت مشاورات تشكيل الحكومة؟ وهل ستضمُّون فتح والفصائل الأخرى؟
| المشاورات لم تبدأ بعد، إنما تبدأ بعد انعقاد المجلس التشريعي وقَسَم اليمين، ثم تكليف الرئيس عباس للأغلبية بتشكيلها. وليس هناك موقف معلن حتى الآن، ولكن بعد التكليف سيحدث حوار مع الرئيس عباس والفصائل حول البرنامج الانتخابي للحركة، وكيفية إنفاذه وتطبيقه في المستقبل.
^: وهل لديكم أية مخاوف من تشكيل حزب آخر غير حماس للحكومة؟
| الأغلبية واضحة، ولا يمكن تجاوز هذه المسألة؛ لأن هذا يعني الاصطدام بمستقبل السلطة الفلسطينية.
^: الواضح أنكم ترفضون الاعتراف بدولة الصهاينة المحتلة وهذا يطرح تساؤلاً حول كيفية إدارة المفاوضات معها..
| من قال إننا سنتفاوض مع دولة الكيان الصهيونى؟ حماس ترفض التفاوض حول القضايا السياسية الخاصة بالحلول النهائية لأسباب متعددة تتعلق بموازين القوى السائدة، وعدم الاعتراف بها كقوة احتلال؛ لأن هذا لا يعنى سوى قبول الخيارات المطروحة التي لا تلبي الحدود الدنيا لمطالب الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أنها لا تتوافق مع ثوابت الحركة.
ومع ذلك فحماس سوف تتعامل مع هذه الدولة على اعتبار أنها ستحكم تحت الاحتلال في كافة مجالات الحياة.
محاكمة بوش وشارون:
^: شاركتم بشهادتكم في المحاكمة الشعبية الإنسانية الدولية لبوش وشارون التي عقدها اتحاد المحامين العرب بالقاهرة يومي 3 و 4 من فبراير الجاري: برأيكم هل ستؤدي هذه المحاكمة الجديدة لنتائج ملموسة؟
| إن المحاكمة في مكانها وفي وقتها، ونشكر الرئيس مهاتير محمد على رئاسة جلساتها، واتحادات المحامين العربية التي نظمتها، ولعل من أهم نتائجها أنها رسالة إلى الشعوب والدول الغربية مفادها: أوقفوا المظالم التي يرتكبها بوش وشارون، ودافعوا عن الديموقراطية والعدالة.
^: وما رسالتك التي قدمتها في الشهادة أمام المحكمة؟
| لقد أكدت على غياب العدالة وعدم توافق الممارسات الأمريكية - الصهيونية مع المبادئ الديموقراطية حينما يتعلق الأمر بالفلسطينيين والشعب الفلسطيني، وتحدثت عن بعض النماذج بصفتي معتقلاً سابقاً في السجون الأمريكية، كما تناولت ما يقوم به جيش الاحتلال والفِرَق التابعة له من قتل خارج نطاق القانون ضد القادة السياسيين والنشطاء والمواطنين العزل من الشعب الفلسطيني.
^: هذا يقودنا إلى سؤال أخير يتعلق بالدعاوى الصهيونية بأنكم تستهدفون المدنيين؟
| إن ما تقوم به المقاومة هو رد على ممارسات الاحتلال وليس العكس، والمقاومة لا تملك قانوناً أو دولة قانون، فهي تدافع عن شعبها بكل السبل، أما دولة الكيان الصهيوني فإنها حينما تستهدف شخصاً واحداً فقد تقتل خارج القانون أفراداً عديدين حوله، أو يسكنون بجواره، كما حدث مع الشيخ صلاح شحادة - رحمه الله ـ حيث قتل معه 15 طفلاً في الغارة على منزله في غزة.
__________
(*) كاتب وباحث سياسي.(222/17)
حماس الماضي والمستقبل - رؤية متابع
د. سامي محمد صالح الدلال
لقد أحدث فوز حماس بأغلبية في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في إطار الحكم الذاتي ضجّة محلية وإقليمية وعالمية كبرى.
وفي هذه الدراسة المقتضبة سأرصد أهم الوقفات في هذا الحدث الكبير.
\ ولادة في ظروف مضادة:
لقد سيطر التيار الناصري على الشارع العربي منذ عام 1952 بشعاراته القومية، وتأجيج الروح العربية، والدعوة لإلقاء (العدو) في البحر؛ لتتحرر الأراضي الفلسطينية، وتُستخلص من براثن الأيدي اليهودية، وليعود اللاجئون إلى ديارهم، فيجففوا جراحاتهم ويخططوا لبناء مستقبلهم. وطبيعي في ظل مثل تلك الشعارات البراقة أن يكون الشارع الفلسطيني أول المتأثرين بها والسائرين تحت لوائها. وكان آنذاك «أحمد الشقيري» من أبرز النافخين في كيرها ومؤججي أُوارها. ولأجل السيطرة على مسارات القوى القومية والبعثية والشيوعية التي استحوذت على توظيف تلك المشاعر لصالحها، ورصت تلك الجماهير الفلسطينية خلف مبادئها وأهدافها، قرّر المؤتمر العربي الذي انعقد في عام 1963 تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة «الشقيري» . غير أن منظمة «فتح» عندما افتتحت أعمالها العسكرية ضد الدولة اليهودية في 1/1/1965 استحوذت على توجيه الأنظار إليها، لافتة النظر إلى زعيمها «ياسر عرفات» الذي سوّق اسمه بالعمل العسكري أولاً، ثم استثمره في العمل السياسي لاحقاً. رفعت «فتح» شعار العلمانية في أول يوم من أيامها؛ وذلك بحجة أن ترتص في صفوفها جميع القوى المناوئة للدولة اليهودية مهما كانت انتماءاتها الدينية. فالشعار هو تحرير فلسطين، وعلى الجميع المشاركة في هذه المهمة المقدسة، ومن ثَم لا محل لرفع الشعارات الدينية، وخاصة الإسلامية؛ لأنها ستفرق الصفوف وتبعثر القوى. صدَّقت الجماهير الفلسطينية تلك الأكذوبة النتنة. وكان الجو العام الذي ولَّده «عبد الناصر» في مجمل الجماهير العربية ـ والفلسطينية جزء منها ـ هو معاداة الفكر الإسلامي والتيارات الإسلامية، وتوّج ذلك كله بإعدام الداعية «سيد قطب» رحمه الله تعالى.
وكان من نتيجة ذلك أن تلاشى التأثير الإسلامي في الجماهير الفلسطينية، وباتت الطبقة الفلسطينية المثقفة كلها ـ إلا من رحم الله ـ علمانية التوجه قومية الشعارات، تحمل في أدبياتها المنشورة والمسموعة معاداة الإسلام وأنه أفيون الشعوب.
في عام 1967 جاءت الهزيمة المنكرة لجيوش الأنظمة التي رفعت تلك الشعارات الخلابة، فانكشفت سوآتها، وكان من نتيجة ذلك احتلال سيناء والضفة الغربية وغزة والجولان، وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي، وبعد أن تولى «ياسر عرفات» رئاسة منظمة التحرير، كانت الفصائل الفلسطينية قد بلغت ثلاثة عشر فصيلاً، ليس من بينها أي فصيل إسلامي، ومعظم الفصائل أو كلها كانت تابعة لأنظمة عربية، كمصر وسوريا وليبيا وغيرها. قادت تلك الفصائل الشعب الفلسطيني إلى كوارث جديدة ومحن عديدة من أبرزها (أيلول الأسود) في الأردن عام 1971، ثم جعل الشعب الفلسطيني في لبنان وقوداً للحرب الأهلية هناك، فارتكبت في حقه المجازر الوحشية والتصفيات الهمجية، واجتمعت عليه كتائب النصارى وأجناد «شارون» وبعض الجيوش العربية، فساموه سوء العذاب وأذاقوه مرارة تجدد التشريد. وبدأ الشعب الفلسطيني يكتشف شيئاً فشيئاً أنه قد وقع ضحية شعارات قومية زائفة وقيادات وطنية منافقة. وفي منتصف السبعينيات تلك بدأت في العالم الإسلامي بوادر صحوة إسلامية، ما لبثت أن امتدت مساحاتها وقويت شوكتها، فتصدت لها قوى الشر في العالم ممثلة في أنظمة قمعية وإعلام كذوب ومن ورائها الدول النصرانية والدولة اليهودية. ولما كانت فلسطين جزءاً من هذا العالم الإسلامي فإن رياح الصحوة الإسلامية هبت عليها كما هبت على غيرها. وبدأت كوكبة قليلة من الشباب الفلسطيني المثقف تلتقي على مفاهيم الإسلام، وأنه هو المخلِّص الوحيد مما آلت إليه الأوضاع. ما لبثت هذه الكوكبة أن امتد تأثيرها وتنامت أعدادها وكثرت أنشطتها، رغم العراقيل الشديدة والمثبطات الهائلة التي وضعتها أمامها السلطة الفلسطينية ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية. في تلك الأوقات، وتحديداً في الثمانينات، وبترتيب مع الأنظمة العربية والقوى الدولية النصرانية واليهودية اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بالعدو المحتل، فانحصرت خطط النضال في تحرير الضفة الغربية وغزة فقط. كان ذلك عاملاً مهماً من عوامل التفاف مزيد من المثقفين الفلسطينيين الإسلاميين بعضهم حول بعض. كانت مظلة الإسلاميين هي المظلة المطروحة في الساحة، فانخرطت تلك المجموعات في مضامين تلك المظلة. ومع الاهتمام الذي وجهته تلك المجموعات إلى الشباب اتسعت دائرة تأثيرها، مما أتاح لها بعد ذلك أن تتمدد في مختلف شرايين المرافق الفلسطينية وخاصة القوى العاملة.
انتبهت السلطة الفلسطينية إلى هذا الخطر الذي بدأ يدبُّ شيئاً فشيئاً ليُحدِق بها وبأنصارها. في عام 1987 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فشاركت فيها تلك المجموعات الإسلامية التي انتظمت في إطار تنظيمي باسم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ، وبدا أن الوضع قد اتجه إلى خارج إمكانية السيطرة عليه. ثم جاء احتلال العراق للكويت، مما أدى إلى رجوع مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الأردن والضفة الغربية وغزة، وكان كثير من هؤلاء قد انخرطوا تنظيمياً في إطار حماس، فازداد تأثير حماس في داخل الشارع الفلسطيني، فأرادت السلطة الفلسطينية، بالتنسيق الكامل مع دولة اليهود وأمريكا والدول الغربية، أن تستبق الأحداث وتسحب البساط من تحت أرجل حماس، فسارعت إلى مؤتمر «مدريد» ثم توقيع اتفاقيات «أوسلو» عام 1993.
استمرت معارضة حماس ومن ورائها معظم الشعب الفلسطيني لتلك الاتفاقيات، حتى جاء تدنيس «شارون» للمسجد الأقصى في أواخر التسعينيات فاشتعلت الانتفاضة الثانية، وكان لحماس فيها حصة الأسد. عندما رأت «فتح» أن الشارع الفلسطيني سيفلت من يديها ابتكرت مجموعات كتائب الأقصى، مقابلة لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، غير أن سيطرة حماس على مساحات واسعة من الشعب الفلسطيني جعلت السلطة الفلسطينية تيأس من إمكان القضاء عليها عن طريق الاعتقالات والتصفيات الجسدية لقادتها سواء عن طريق عملاء اليهود أو من المنافقين والمنتفعين، مما فرض على السلطة الفلسطينية أن لا تتجاهل هذه الحركة في مجمل أنشطتها السياسية، واستطاعت حماس أن تفرز قيادات سياسية ناضجة كـ «الرنتيسي وهنية والزهار ومشعل» وغيرهم، وكان الجميع يستظلون بمرجعية إسلامية ممثلة في الشيخ «أحمد ياسين» رحمه الله.
نجحت دولة اليهود في اغتيال كثير من قيادات حماس في غزة وفي مختلف مدن الضفة الغربية، وعلى رأسهم قائد حماس «الشيخ أحمد ياسين» ثم «الرنتيسي» ـ رحمهما الله تعالى ـ وتقبلهما في الشهداء والصالحين. إن الشعارات التي رفعتها حماس ونظافة قياداتها من مثل ما يُتهم به رجالات السلطة، ونزول تلك القيادات إلى الشوارع لقيادة الجماهير ميدانياً هي التي جعلت الجماهير الفلسطينية تلتف حولها وتسير تحت راياتها الخضراء.
ومن أهم تلك الشعارات:
1 - الإسلام هو طريق تحرير فلسطين.
2 - فلسطين دولة واحدة من النهر إلى البحر، لا تتجزأ.
3 - أرض فلسطين وَقْفٌ لا يجوز لأحد أن يتصرف فيه كائناً من كان.
4 - عدم الاعتراف بدولة اليهود؛ لأنها مغتصبة، وأن ذلك الاعتراف لا يجوز شرعاً بأي حال من الأحوال.
5 - الإسلام هو دين الدولة الفلسطينية المحررة، والشريعة الإسلامية هي المحكِّمة فيها.
6 - لا مفاوضات مع الكيان اليهودي ولا اعتراف باتفاقيات أوسلو.
7 ـ تحرير فلسطين واجب عل كل المسلمين.
8 - يجب إزالة المستوطنات والجدار.
9 - عودة كافة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم من غير شروط.
10 - لا بديل عن المقاومة.
بدأت رقعة حماس الشعبية تتوسع شيئاً فشيئاً، وبدأت الرقعة الشعبية لـ «فتح» ومن معها تتقلص شيئاً فشيئاً، غير أن حماس بدأت تتفوق تقنياً على «فتح» في وسائل المقاومة، فابتكرت صواريخ القسام، وراح استشهاديوها يقوّضون نظرية الأمن في الكيان اليهودي عن طريق العمليات الاستشهادية. حاولت «فتح» عن طريق كتائب الأقصى أن تلحق بحماس، ولكن بات البون بينهما شاسعاً. في انتخابات المجالس البلدية كانت المفاجأة مدوية عندما استحوذت حماس على عدد كبير من كراسي تلك المجالس، مما شجعها على أن تقتحم انتخابات المجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي، لعل أن يكون صوتها في المجلس ذا تأثير على مجريات الأمور للحد من استشراء الفساد في تلك السلطة. غير أن النتائج كانت أكبر من التوقعات؛ إذ تمخضت عن فوز حماس بالأغلبية في المجلس التشريعي بما يخولها تشكيل حكومة الحكم الذاتي ويضعها أمام تحديات على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي. ربما لم تكن حماس قد درست هذا الموضوع جيداً؛ إذ ربما لم تكن تتوقع أن تقفز فجأة إلى الواجهة، بل كانت متوقعة مجرد الإطلالة على تلك الواجهة من خلال بضع كراسٍ في المجلس التشريعي.
\ توصيات في آفاق المستقبل:
ابتداءً، كنت أود لو أن «حماس» أجَّلت دخولها الانتخابات التشريعية إلى ما بعد أربع سنوات، موعد الانتخابات القادمة، أو ما بعد ثماني سنوات، موعد الانتخابات التي تليها؛ لأنها خلال هذه المدة ستصنع واقعاً على الأرض غير قابل للمنافسة، ولعلها لن تكون محتاجة أصلاً إلى دخول الانتخابات، ولو خاضتها (ولا أرى ذلك صائباً) فإنها سوف تفوز بأغلبية لا تقل عن 80 %؛ ذلك إذا أحسنت إدارة الصراع على الأرض واستمرت في مواجهتها لليهود، وأججت بواعث المقاومة، وواصلت زلزلتها للنظرية الأمنية اليهودية من خلال تصعيد العمليات الاستشهادية. أعتقد أنه بعد تلك السنوات (أي: الأربع أو الثماني) سيكون الكيان اليهودي قد أصبح في وضع أضعف على كافة المستويات وخاصة الأمنية والنفسية والاقتصادية، وستبلغ الخلافات السياسية بين أحزابه مداها مما يفتت بنية قراراته التفاوضية ويخلخل صورته أمام داعميه من الأمريكان والأوروبيين.
أي أن حماس، لو لم تدخل الانتخابات، لكان بإمكانها أن تحقق إصابة هدفين بسهم واحد: هدف باتجاه السلطة، وهدف باتجاه الكيان اليهودي. وستعلم حماس أن الخيار الاستراتيجي لمنظمة الجهاد الإسلامي بمقاطعة الانتخابات كان أبعد نظراً في التحليل لمعطيات الواقع. أقول ذلك بقصد لفت نظر حماس إلى أن بإمكانها أن تعيد النظر بشكل موضوعي فيما يخص الانتخابات القادمة بعد أربع سنوات وتجدد دراسة حساباتها.
\ ما هي التحديات التي تواجه حماس الآن؟
1 - يجب عدم التنازل عن أي شعار رفعته حماس في الفترة السابقة، وهي الشعارات العشرة التي ذكرتها. إن التنازل عن أي منها سيفقد حماس مصداقيتها وسينفضُّ عنها كثير من مؤيديها، وسيخرج من عضويتها كثير من منتسبيها، وستلتف تلك الجماهير حول «فتح» أو منظمات أخرى. وهذا بدوره سيضعف قوتها السياسية.
2 - لا بد من استمرار المقاومة المسلحة للكيان اليهودي، بما فيها العمليات الاستشهادية. إن ردة فعل ذلك الكيان ستكون نفسها فيما لو لم تكن حماس في السلطة. وإن الشعب الفلسطيني قد اعتاد على كيفية امتصاص ردات الفعل اليهودية، وإنه قد أثبت قدرته على الصبر والتحمل بشكل مثير للدهشة، حتى على المستوى التاريخي.
3 - لا يجوز لحماس ولا لأي قوة أخرى الاعتراف بالكيان اليهودي، وإن الاعتراف الذي حصل من قِبَل منظمة التحرير ينبغي سحبه من خلال أغلبية حماس الحالية في المجلس التشريعي. إن الاعتراف المذكور غير مشروع ولا يحق لأحد كائناً من كان أن يفرط في ذرة تراب من أرض فلسطين.
4 - ستتعرض حماس لضغوط مالية بسبب وقف المعونات المباشرة التي كانت السلطة تتلقاها من الكيان اليهودي ومن أمريكا ودول أخرى. نقول لحماس: تدبري أمورك المالية بشكل لا يخضع للتنازل عن أي شعار من الشعارات المرفوعة من قبلك.
وقد نشرت إحدى الصحف الكويتية بتاريخ 14 محرم 1427 هـ الموافق 13 فبراير 2006 أن حواراً قد دار بين «رايس» و «أبو مازن» خلال لقائهما الأخير تذمّر فيه الرئيس الفلسطيني قائلاً: «يا دكتورة رايس! نحن لا نملك بترولاً أو صناعة، وشعبنا لا يرى على الأرض أي نتائج فعلية لعملية السلام. السبب الأكبر هو قلة الدعم المالي من دول الخليج. ردّت رايس قائلة - بالحرف الواحد -: «قد يكون السبب الأكبر هو احتكار بعض مسؤولي السلطة لكمية كبيرة من أموال المساعدات الخليجية والدولية، وعليه فقد رأينا أن نشكل لجنة تحقيق لمساعدتكم لكشف غموض اختفاء المساعدات» وبناء عليه تشكلت لجنة أمريكية أطلق عليها اسم «أمريكا تاسك فورس - باليستاين» . وتم رفع نتيجة عملها إلى الإدارة الأمريكية والرئيس الفلسطيني، وخلاصتها أسماء (51) مسؤولاً بالسلطة سرقوا 715 مليون دولار خلال فترة أربع سنوات ونصف. النائب العام الفلسطيني أعلن قبل أيام أن (25) مسؤولاً فلسطينياً من «الحرامية» فروا خارج البلاد، وأن ثلاثة عشر حرامياً آخر قيد الإقامة الجبرية في الأراضي الفلسطينية «انتهى خبر الصحيفة الكويتية» .
نقول لحماس: إن من واجبها استرداد الأموال المسروقة، وهي مئات الملايين وتوظيفها في سد احتياجات الشعب الفلسطيني.
كما أن استخدام الجانب السياسي، بعيد النظر، في العلاقات مع الدول الداعمة، كدول الخليج، سيكون له أثر إيجابي في هذا الجانب الاقتصادي. وإن استطاعت حماس، بالاعتماد على التبرعات الشعبية الفلسطينية والعربية والإسلامية، وكذا بتقليص المصروفات، أن تصل إلى نوع من الاكتفاء الذاتي؛ فهذا سيساعد كثيراً في استقلالية قرارها السياسي. إن حماس لديها عناصر اقتصادية تستطيع أن تفعِّل آلية توظيف الأموال في أوجه استثمارية ناجحة تعود بالدخل الكبير على حكومة حماس.
5 - على حماس أن تولي عناية كبيرة وبالغة بالإصلاح الداخلي على كافة المستويات، وخاصة بما له علاقة بتحسين الأوضاع المعيشية والخدمات الصحية والتعليمية للفلسطينيين، وأن تولي اهتماماً رعوياً بأرامل وأيتام الشهداء وتوفر لهم سبل العيش الكريم، وكذا الذين تضرروا من الهجمات اليهودية، وبالذات الذين هُدمت بيوتهم وشُردت عائلاتهم؛ إذ لا بد من إعادة تسكينهم في بيوت تُمنح لهم من السلطة على سبيل التملك، أو إعادة تشييد منازلهم المدمرة، ومثل ذلك يقال بشأن الذين تضرروا جرَّاء تجريف أراضيهم الزراعية أو إتلاف بساتينهم وبياراتهم.
6 - على حماس أن تضع خططاً عملية وواقعية لتجييش الشعب الفلسطيني وعسكرته، وذلك من خلال تدريب الجميع، الرجال والنساء، والصبيان على حمل السلاح وممارسة فنون القتال، وكذا الاهتمام بالجانب المعنوي والعقدي؛ بحيث يكون الشعار الإسلامي هو الدثار في معارك تحرير فلسطين.
إن ذلك سيعيد لمفهوم تحرير فلسطين المعنى الإسلامي (وليس القومي والوطني) ، مما سيعيد التفاف كافة الشعوب العربية والإسلامية حول هذه القضية ودعمها بالنفس والمال. وكذلك لا بد من إنشاء جيش فلسطيني محترف ومتخصص ومتفرغ يستقي مبادئه وتربيته العسكرية من معين الإسلام.
7 - إن الجهاز الأمني الفلسطيني الحالي، هو جهاز فاسد، سيطر على دفّته المنافقون والمنتفعون وأعداء التيار الإسلامي. وأقصد بالجهاز الأمني شقّيه: أمن الدولة (المخابرات) والشرطة.
إن أسلمة هذا الجهاز بالتدريج، وتسريح القائمين عليه الآن سيزيل هذا الكابوس الجاثم على صدور الفلسطينيين والذي كتم أنفاسهم لعقود عديدة.
8 - أما في الإطار السياسي فعلى حماس أن تعلن وباستمرار بتمسكها بمبادئها وشعاراتها التي رفعتها خلال مسيرتها الجهادية. وضمن ذلك لا مانع من بناء العلاقات السياسية مع كافة الدول بما لا يتعارض مع تلك المبادئ والشعارات التي إطارها العام هو الإسلام.
9 - وأما بشأن الكيان اليهودي، فإن عرض حماس الهدنة معه يصب في صالحه؛ لأنه خلال عشر سنوات، وهي مدة الهدنة المعروضة، سيعيد بناء قواه النفسية والأمنية والاقتصادية والسياسية التي خلخلتها انتفاضات الشعب الفلسطيني، وكذا سيتمكن من استدراج أعداد هائلة من المهاجرين، في الوقت الذي ستوقف الهجرة المعاكسة الحالية. ومن ثَم فإن قوته بعد عشر سنوات ستكون أضعاف قوته الحالية بما يجعل تطهير أرض فلسطين من رجسه ودنسه في غاية الصعوبة.
وأما بشأن حماس؛ فإن الساحة الداخلية ستستهلكها بالخلافات الداخلية، وربما تنشب حرب أهلية بين الأطراف. «فتح» ومن معها من جهة، وحماس ومن معها من جهة؛ فالجميع مسلحون، ويحملون مبادئ متنافرة ومتضادة، وستأكل النار حطبها. أي: بعد انتهاء الهدنة سيتمكن الكيان اليهودي من إعادة انتشار قواته في غزة والضفة الغربية، هذا فضلاً عن استعادة الكيان اليهودي قواه العسكرية وتنميتها بما يساعده على التوسع في شرق الأردن وجنوب سورية، بل وجنوب لبنان مرة أخرى. لقد استدلت حماس في عرضها الهدنة على الكيان اليهودي على ما ورد بشأن الهدنة المتضمنة في صلح الحديبية؛ وهذا استدلال في غير محله لاختلاف المناط، فالرسول # كان في موقع القوة ويرأس جيشاً عرمرماً يمثل دولة الإسلام، أما حماس فليست الآن في هذا الوارد؛ فهذا الاستدلال ليس في محله، بل هو استدلال خاطئ.
10 - على حماس إن تهتم اهتماماً بالغاً بنشر العلم الشرعي بين الفلسطينيين، وذلك بإنشاء المدارس الشرعية والمعاهد الدعوية، وكليات الشريعة، والمعاهد والكليات التقنية على أن يكون تدريس هذه العلوم مرتبط بالمرحلة الجهادية التي يمر بها الشعب الفلسطيني.
11 - أرى من المناسب القول أن من مهمات حماس التي ينبغي أن تضطلع بها هو تفريغ المنظمات الأخرى كـ «فتح» وغيرها من كوادرها، ابتداء من المؤيدين ثم الأنصار ثم المنتمين ثم الموجهين ثم القياديين المحليين ثم من فوقهم، يجب أن توضع خطط عملياتية قابلة للتنفيذ لتحقيق هذه الغاية، فلو استطاعت حماس الوصول بعد أربع سنوات إلى نتيجة بهذا الخصوص تعادل (50%) فإن ذلك سيكون مفيداً جداً، وأقصد بالتفريغ هو الوصول إلى تلك الشرائح عن طريق الخدمات وطرح الأفكار البناءة وتقديم البدائل المناسبة.
هذا ما وددت ذكره في هذه الرؤية المقتضبة، وأسأل الله تعالى أن ينفع بها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(222/18)
ثمن الانتصار
نظرة مستقبلية لما بعد فوز حماس في الانتخابات
نبيل شبيب
خلال ست سنوات مضت على وجوده في منصب الرئاسة الأمريكية لم يظهر بوش الابن مضطرباً منفعلاً حائراً بين الإشادة التقليدية المخادِعة بالديمقراطية، وإطلاق التهديدات المتعجرفة، كما كان حاله عند الإجابة عن أسئلةٍ أحرجته خلال مؤتمر صحفي غداة الإعلان عن فوز حماس بالغالبية المطلقة في انتخابات «المجلس التشريعي» الفلسطيني.
وبصعوبةٍ كبيرة حاول بوش تجاهلَ «نهج المقاومة الإسلامية» الذي أعلنته حماس في معركتها الانتخابية، وأثره على الناخب الفلسطيني، واستبعد العنصر التقليدي الحاسم في كلّ عملية تصويت نزيه وحرّ ـ نسبيّاً على الأقلّ ـ وهو الاقتناع بالبرامج الانتخابية للطرف الفائز وحامليها، ليحصر أسباب الفوز في عنصر واحد، هو الاحتجاج الشعبي على انتشار الفساد والنزاعات في السلطة ومنظمة فتح، وهو أحد الأسباب، ولكنّ ما لم يذكره بوش ـ هو أنّ الطرف الذي مارس الفساد وأوغل في النزاعات، هو الطرف الذي تواصل الدعمُ الأمريكي المالي وغير الماليّ له مقابل «مسيرته السلمية» ، وكان دعماً علنياً، لا سيّما أثناء المعركة الانتخابية، بصورة تتجاوز سائر أعراف الديمقراطيين الغربيين مع انتخاباتهم.
كما أفصحت كلمات الرئيس الأمريكي وما رافقها وتلاها من تصريحات غربية، عن الخطّ العام الذي يراد التعامل من خلاله مع الوضع الجديد في الأرض المحتلة عام 1967م. وتبعاً لذلك ستقوم السياسة الغربية عموماً وسياسة واشنطن تخصيصاً على المقاطعة السياسية والمالية لحكومةٍ فلسطينية تشكّلها أو تشارك فيها حماس المنتخَبة شعبياً. وأكملت تصريحاتُ بعض المسؤولين من السلطة الفلسطينية الخاسرة للانتخابات معالمَ هذا الخطّ، عندما أشار محمود عبّاس وسانده آخرون إلى أنّ مسيرة «السلام» من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية، الممثّل «الشرعي الوحيد» لشعب فلسطين، وهو ما يعني على أرض الواقع التصريحَ مسبقاً بالعمل على متابعة تلك المسيرة، والتمسّك بدور فريق أوسلو وسبله المتشعّبة على صعيدها، ليتحرّك بها عبر قنوات أخرى، تتجاوز «حكومة حماس» ، ربّما على أمل «عودة فتح إلى السلطة بعد أربع سنوات» ، على حدّ ما تفاءل به الوزير الفلسطيني نبيل شعث، عندما ظهرت النتائج للعيان.
وإذا أخذنا في الاعتبار أيضاً موقف الصمت الأقرب إلى صمت المشدوه في العواصم العربية، أمكن القول إنّ السنوات القادمة ستكون هي الأشدّ على حماس وعلى شعب فلسطين داخل الأرض المحتلة، بالمقارنة مع ما سبقها، وما كان الذي سبقها بسيطاً، صهيونياً ودولياً وإقليمياً، فكأنّ المطلوب ـ أو هذا ما أكّدته المواقف الأولى ـ هو تصعيد «معاقبة» الشعب على عدم الخضوع لعقوباتٍ سابقة لم تنقطع، وإصراره على اختيار ما لا يختاره بوش وأعوانه وأتباعه، وما لا يرضي مَن خلّفهم شارون ليكملوا طريق التقتيل والتدمير والتهويد من بعده.
\ ليس مجرّد زلزال سياسي:
في التحليلات والتعقيبات الفورية على انتصار حماس في الانتخابات كثر الكلام عن زلزال سياسي، وهزّة سياسية، ومرحلة سياسية جديدة، وما شابه ذلك، وكأنّ المطلوب من وراء ذلك التركيز على كلمة «سياسة» لتحقيق أمرين معاً:
1 ـ تركيز الاهتمام على الجانب السياسي من دون البعد التاريخي للحدث بمنظور مجرى قضية فلسطين وما يتّصل بها.
2 ـ الاقتصار في تصوير المرحلة القادمة عبر منظور «سياسي» للرؤية المفروضة آنيّاً على القضية؛ فكأنّ ما بعد فوز حماس سيؤدّي إلى تغيير في «بعض الوسائل» أو «الخطاب السياسي» أو سيفضي على أبعد الاحتمالات إلى «تجربة سياسية» عابرة ستُثبت عجزَ حماس «الإسلامية» عن تحقيق أهدافها، فتعود الأمور إلى مجراها بعد انتخابات قادمة.. وتتابع «التصفية» خطاها.
يمكن بالمقابل أن نستفيض مع مَن يستفيض طويلاً في الحديث الإيجابي عن الجوانب السياسية لمعنى «الانتصار» في تلك الانتخابات، ولكن لا يصحّ التوقّف عند المديح ونشر الاطمئنان وتعداد ما قدّم الشعب الفلسطيني وأعطى، أو بيان إصراره على انتخاب «نهج المقاومة» رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه يومياً. فإلى جانب ذلك كلّه يبقى الأمر الأعمق تأثيراً في المستقبل هو ما يبرزه المنظور التاريخي للجانب السياسي، فالانتصار الانتخابي يمثّل هنا حدثاً منفرداً بذاته في مجرى الأحداث المعاصرة في المنطقة، ويعني فيما يعنيه:
1 ـ خللاً ظاهراً للعيان في مفعول المعادلة المراد فرضها ما بين القهر والخضوع في التعامل مع مخطّطات الهيمنة الأجنبية.. والخلل لا يعني انقطاع التمسّك بأساليب القهر ومحاولة فرض الخضوع.
2 ـ اضمحلالَ قيمة وسائل وتصوّرات طُرحت بلسان «الواقعيّة» في التعامل مع مخطّطات الطرف الأقوى دولياً.. وتبيّن مدى ضآلة حصيلتها عند الافتقار إلى تعزيزها بنهج المقاومة، ما دام الاحتلال رابضاً والعدوان مستمرّاً.
3 ـ دليلاً آخر على أهميّة الطاقات الذاتية للشعوب في موازين المواجهة بين العدوان والمقاومة، لا سيّما في حالة الإجرام العدواني بطشاً وتنكيلاً وحصاراً، يعزّزه التنكّر المخزي دولياً وإقليمياً من جانب أكثر الأبعدين والأقربين.
4 ـ تأكيدَ إخفاقِ آخرِ حلقةٍ مطروحة في مشاريع بدأت في قمّة فاس قبل ربع قرن وانتهت بين متاهات خارطة الطريق ومسار الجدار العنصري؛ فالطرف الذي صنع قضية فلسطين المأساوية عبر الهجمة الصهيونية تاريخياً، هو ـ وليس الطرف الآخر ـ مَن جعلها من البداية من القضايا العصيّة على أساليب تقليدية مثل المفاوضات والتسويات، فكانت قضيّة فلسطين وما تزال قضيّة حقّ وباطل، محورها إنهاء استعمار استيطاني تقليدي، وما انتهت قضية استعمار في التاريخ، إلاّ عن طريق المقاومة والتحرير، سواء اقترنت بمفاوضات لا تتخلّى عن نهج المقاومة وهدف التحرير، أو لم تقترن.
5 ـ انكشافَ المزيد من زيف شعاراتٍ طالما طُرحت لتنحرف بمضامين مصطلحات بالغة الأهمية في الأدبيّات السياسية للقضية، مثل كلمات «الثوابت الوطنية» و «الحقوق المشروعة» و «السلام العادل» ناهيك عن «شرعية دولية» مزعومة، وهي مجرّد إفرازات قرارات الهيمنة المحضة عبر موازين القوّة الآنيّة، بما يخالف «الشرعية الدولية» القائمة على مُثُل ومبادئ موثّقة.
6 ـ زعزعةَ مصداقيّة ما بقي من مزاعم الدفاع عن «الإرادة الشعبية» و «المصلحة الوطنية» و «تحسين الظروف المعيشية» وما شابه ذلك، ما دام طرح هذه الأهداف لا يقترن بالعمل على تحريرها من الخضوع لإرادة معادية أو مهيمنة، عن طريق قوّة عسكرية أو عن طريق الحصار والمقاطعة.
\ التهديد بالتجويع:
يعني انتصار حماس الانتخابيّ في الوقت نفسه أنّ أخطار المرحلة القادمة ستتفاقم، ومن تلك الأخطار ما قد يرتبط مباشرة بما تصنعه حماس ومن ورائها شعب فلسطين، بهذا الانتصار، ومنها ما يرتبط بالمنطقة إقليمياً، واحتمالات التراخي عن استخدام الطاقات الذاتية لتوظيف الحدث من أجل الخروج من عنق زجاجةِ الاختناقِ الذاتي والعجز الذي وضعت نفسها فيه عبر تعامل دولها الاستسلامي مع الهجمة الصهيوأمريكية الجديدة.
المخاطر معروفة علنية.. ففي قضية فلسطين نواجه مخطّطات علنية يجري تنفيذها، ولا يتورّع القائمون عليها عن التهديد باتّباع أبشع السبل والوسائل لبلوغ غاياتهم من خلالها، مهما تعارضت مع سائر ما يزعمون تبنّيه على صعيد قانون دولي أو إنساني وحقوق وحريات وديمقراطية وانتخابات.
من ذلك ما يجري تركيز الأنظار عليه أكثر من سواه، أي التهديدات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين بقطع ما يقدّمونه ماليّاً تحت عنوان دعم العمران وتطوير الأوضاع الاقتصادية، وهم يعلمون أنّ مفعوله كان يضيع باستمرار تحت جنازير الدبابات والجرّافات واستهداف البنى التحتية والمنشآت وإتلاف الحقول وقطع الأشجار وفرض ألوان الحصار بفلسطين، دون أن تبذل «الأطراف المانحة» ـ كما يصفون أنفسهم والمانعة كما أصبحت واقعياً ـ أيّ جهد لوقف عملية التدمير الصهيونية الجارية!
هل يصحّ تركيز الأنظار على هذا التهديد واعتباره هو العنصر الحاسم في نجاح «حكومة حماس» مستقبلاً أو إخفاقها؟
لقد رُبطت المساعدات الغربية طوال السنوات الماضية بتمكين سلطة أوسلو وأجهزتها الأمنية من إكراه الشعب الفلسطيني على طريق أوسلو، وهو ما رافقه ضرب عسكري متواصل شمل السلطة نفسها ناهيك عن حصار تجويع مستمرّ، وليس مجرّد تهديد به.
إنّ انتصار حماس الانتخابي يؤكّد إخفاق هذا النهج المسيطر منذ عشرة أعوام على الأقلّ، كما يكشف واقعياً أنّ حصيلة «المساعدات» التي يأتي التهديد بقطعها، لم تكن بمجملها تصل إلى شعب فلسطين ولم تيسّر عليه أسباب البقاء اليومية المحضة ناهيك عن رفع مستوى الحياة المعيشية، فكيف يراد أن يحقّق التهديد بقطعها مفعوله الآن بشأن إكراه الشعب على مسيرة أوسلو وما بعدها؟ إنّ التناقض الأكبر كامن في الاعتقاد بقابليّة الوصول إلى هذا الإكراه عن طريق التهديد بقطع ما لم يصل إلى الشعب عموماً، وما لم ينجح على كلّ حال من قبلُ في تغيير مسيرته على نهج المقاومة تخصيصاً.
الواقع أنّ الانتصار الانتخابي لم يكن انتصار حماس بالذات، بل انتصاراً شعبياً يعزّز نهج المقاومة رغم الثمن الباهظ، وهذا ما لا يستوعبه التركيز الدولي والمحلي فيما يقال بشأن قطع المعونة الدولية.
الوجه الآخر لمعادلة «حصار التجويع» هو أنّ التصويت لحماس كان نتيجة طبيعية لتحرّكها الشعبي، اعتماداً على الطاقات الذاتية، وليس على معونة دولية، وكان في تحرّكها هذا ما يعوّض بحدّ أدنى عما يخسره أهل فلسطين من أسباب المعيشة الكريمة تحت وطأة الاحتلال والعدوان المتواصليْن، وحصار التجويع بمشاركة دولية.
من هنا لا يبدو السؤال الأهمّ في المرحلة القادمة هو السؤال المطروح في كلّ مكان عن تعامل حماس مع القوى الدولية الرافضة لها وهل تستطيع ذلك أم لا؟ أي هل تتمكّن من جلب معونة دولية أم لا تتمكّن؟ بل هو السؤال عمّا بقي لتلك القوى من أساليب للتعامل مع خيار الإرادة الشعبية الفلسطينية، فهي التي أبرزت موقع حماس المتميّز شعبياً، من قبل وصولها إلى السلطة.
المهمّ هنا أنّ وجود حماس في ميادين العمل الاجتماعي الشعبي كان موازياً من حيث حجمه وقيمته لوجودها في ميادين المقاومة وميادين رفض الخضوع للمساومات السياسية، ولا يمكن ـ في المستقبل أيضاً ـ أن تحقّق حماس أيّ نجاح أو انتصار يستحقّ هذا الوصف، دون أن يبقى وجودها في تلك الميادين بالذات، موازياً ومكملاً لوجودها في السلطة.. وتلك هي «السياسة الواقعية» بمعناها الأصلي.
ولا يخفى أنّ التفاؤل باستمرارية حماس والشعب الفلسطيني على هذا الطريق لا ينفي توقّع مزيد من الصعوبات، مهما قيل للتهوين من شأنها. إنّ ما قد يأتي في المرحلة المقبلة لا يمكن أن يتجاوز ـ بمعايير الإجرام اللاإنساني ـ ما سبق أن كان في مرحلة ماضية، ومن ثَم فمن تحرّك شعبياً في الظروف الماضية قادر على مواصلة التحرّك شعبياً في الظروف القادمة.
هذا صحيح.. ولكن لا ينبغي إغفال أنّ الإخفاق في هذه الاستمرارية بالذات هو في مقدّمة ما يراهن عليه المتربّصون بحماس وقضية فلسطين، داخلياً وخارجياً، ولا يُستبعد أن يضاف إلى أساليب الاجتياحات والاغتيالات والحصار المتّبعة حتّى الآن مزيدٌ من أساليب القهر، حتى على صعيد التواصل بين أشلاء الجسد الفلسطيني الواحد الذي ساهمت مسيرة أوسلو في تقطيع أوصاله داخل الأراضي المحتلّة عام 1967م، لا سيّما في الضفة الغربية.
\.. والإغراء بلا شيء:
كان الانتصار الانتخابي لحماس متوقّعاً، بل بدا قُبَيِل الانتخابات أنّ القوى الغربيّة بالذات بدأت تضعه في حسابها، وهذا إلى درجة القول الانهزامي إنّها ساهمت هي في تمرير الحدث! القائلون بذلك هم الذين ينطلقون غالباً من تعطيل مفعول أيّ عنصر من عناصر صناعة الأحداث وتفسيرها خارج نطاق التسليم المطلق بالقدرة المطلقة للهيمنة المعادية! والواقع أنّ القوى الدولية تعمل على صناعة الأحداث بنفسها، ولكنّها تتعامل أيضاً مع أحداث يصنعها سواها تعاملاً «واقعيّاً» يقوم على محاولة فهمها واستيعابها ومن ثمّ توظيفها لتحقيق أغراض ذاتية أو مواجهتها بجهود مضادّة. وقد بدأت مبكّراً بطرح تصوّراتها بشأن ضبط النتائج المنتظرة عبر فوز حماس، ومحور تصوّراتها هو استخدام وسائل التهديد والقمع والإغراء معاً، وهدفها المعلن هو العمل لمنع إسهام هذا الحدث في تحقيق هدف التحرير الأعلى شأناً من أيّ انتخابات ومن سائر التنظيمات.
إنّ عنصر استخدام القوّة والتهديد بها كان قبل الانتخابات وسيستمرّ بعدها. والمطلوب صهيونياً ودولياً أن يبقى هذا العنصر موجوداً وفعّالاً من وراء التعامل بأي أسلوب سياسي للإملاءات أو التسويات على السواء. وإنّ إجهاض نتائج الانتصار الانتخابي عبر استخدام القوّة العسكرية في مرحلة مقبلة أمر محتمل وموضوع في الحسبان دون ريب، وقد يمكن إخراجه غربيّاً إذا تقرّر تنفيذه فعلاً، في صيغة نشر التيئيس من نهج المقاومة أصلاً، أي «عجز حماس عن تحقيق أهدافها عبر السلطة» نتيجة رفض «الانصياع» ـ كسواها ـ لإرادة القوى الدولية المهمينة.
وفي هذا الإطار للمنظور الغربيّ فقط يظهر أيضاً تصوير انتصار حماس الانتخابي «فرصةً» للتمكّن من تطويعها «أيضاً» على طريق تصفية القضية، ما بين عنصري «التهدئة والتصعيد» لاستخدام وسائل البطش العسكري وحصار التجويع. ولكن حتّى على افتراض تحقيق ذلك الهدف جدلاً، يجب أن يكون واضحاً كلّ الوضوح، أنّ قضية حماس ليست أكبر من السلطة فقط، بل هي أكبر من حماس وسواها أيضاً، فلو ذابت حماس وتلاشت طاقاتها الكبيرة، فلن تذوب معها قضيّة فلسطين، قضية الأجيال، وقضية التحرير والمصير.
في الوقت الحاضر يبدو المطلوب في هذا الإطار من قبيل التمنّيات وربّما الأوهام، وهو أن تقبل حماس بما قبلت به منظمات لا تتبنّى النهج الإسلامي، فتتحوّل من نهج المقاومة إلى نهج المشاركة في تصفية القضية الفلسطينية؛ فهذا ـ لو تحقّق ـ يساهم أكثر من أيّ حدث آخر في تحقيق «الحلم الصهيوأمريكي» لإعطاء صبغةِ مشروعيةٍ شعبيةٍ ما، لتهويد الجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية، بدعوى الاعتماد على توقيعات «المنتخَبين انتخاباً مشروعاً» .. حتّى وإن بقيت إشكاليّة تجاهل إرادة الشعب في الشتات وإشكاليات عديدة أخرى، أهمّها أنّ حق التحرير وحق تقرير المصير ليسا من الحقوق التي يمكن طرحها في انتخابات، أو استفتاءات؛ فهي حقوق ثابتة سابقاً ولاحقاً، لا تسقط بالتقادم ولا تسقط بالمناورات السياسية.
وفي نطاق التعامل الغربي مع النهج الإسلامي ونهج المقاومة في المنطقة على وجه التعميم، لا يُستبعد على القوى الدولية المعادية الاعتقاد بقدرتها على المخاطرة بتجربة انتزاع مثل ذلك التراجع «التاريخي» من جانب تنظيم إسلامي الاتجاه؛ ففي الأرض الفلسطينية المحتلّة بالذات، يمكن الاعتماد على الأداة الاحتياطية المشرعة لمواجهة احتمال إخفاق التجربة، بالقوّة العسكرية للاحتلال المباشر، وهو ما لا ينطبق على تجربة التعامل مع انتصار مشابه للتيّار الإسلامي، في أيّ بلد مستقلّ، وانتظار رؤية ما إذا كان سيتراجع عن قيمه وثوابته أم لا.
وحصيلة التجربة مع حماس قابلة للتعميم دعائياً ـ لو تحقّقت التمنيّات الغربية ـ للتيئيس عموماً من قابلية نجاح النهج الإسلامي ونهج المقاومة الإسلامية عموماً، بما يشمل أيضاً عدم جدوى اختيار هذا النهج عبر انتخابات «حرّة نزيهة» على افتراض إجرائها في بلد ما أصلاً، وإن كان قد انتشر شعبياً الاقتناع بصدد الارتباط بالإسلام لا التنظيمات، وأنّ الالتزام بالإسلام هو الذي يحكم على التنظيمات وليس العكس.
مهما كان استقراؤنا لمعالم المرحلة المقبلة فسيبقى من المؤكّد أنّ الخطر الحقيقي الذي ينبغي أن يراه ويحذر منه المخلصون من داخل حماس وخارجها، ليس خطراً خارجياً جديداً؛ فالأخطار الخارجية قائمة باستمرار، ومتنامية أيضاً، بل هو خطر التراجع الذاتي، أو الانشغال بأعباء إضافية تفرضها متطلّبات ممارسة السلطة عن الالتحام الشعبي الذي أوصل إلى الانتصار الانتخابي، ومع ملاحظة أنّه مجرّد انتصار محدود في نطاق ما هو أقلّ من «حكم ذاتي» بمراحل، ناهيك عن حالة استقلال ناجز، وقيمته الحقيقية مرتبطة فقط بمقدار توظيفه على طريق التحرير.. وليس على طريق ممارسة السلطة بصورة مجرّدة عن هدف التحرير، أي عن نهج المقاومة.
ومقابل التهديد بالضغوط تَطرح الأطراف الغربية علناً ـ ولا نحسب الأطراف العربية ستقصّر في ذلك أيضاً ـ ما يمكن وصفه بمحاولات الإغراء أو المقايضة على حماس.. فالمطلوب عموماً:
1 ـ تبديل ميثاق منظمة المقاومة الإسلامية حماس كما بدّلت منظمات فلسطينية سابقة ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية.
2 ـ الانضمام إلى مسيرة أوسلو ومدريد رسمياً بعد اعتبار المشاركة في الانتخابات وفي «المجلس التشريعي» اعترافاً واقعياً بتلك المسيرة.
3 ـ التخلّي عن «العنف» أي التخلّي عن عنصر «استخدام القوة» في مقاومة القوّة العسكرية الباطشة من جانب احتلال وعدوان مستمرّين، وهو ما سبق أن سارت عليه الطائفة الرئيسية من «قيادات المنظمات» المرتبطة بالسلطة الفلسطينية سنوات وسنوات، ومن ورائها الأنظمة العربية كلّها أو جلّها، دون الوصول إلى نتيجة.
ويوجد مزيد من المطالب، القاسم المشترك بينها هو أن تتخلّى حماس عن النهج الإسلامي الذي انبثقت رؤاها وممارساتها عموماً عنه، ولم يتردّد عن التلميح إلى ذلك والتصريح به كثيرون ممّن يكرّرون بألسنة وأقلام عربية ذكر المطالب الغربية ذاتها. أمّا مضمون الإغراء المعروض على حماس مقابل سائر هذه المطالب، فهو ـ بكل بساطة تثير الدهشة ـ لا يتجاوز مجرّد القبول بحماس طرفاً في مفاوضات على «هدف مجهول» ، وذلك ابتداءً بمسألة الاعتراف بالدولة اليهودية «ثمناً مسبقاً» للحصول على «وعود ضبابية» ترتبط بجزء من الأرض وجزء من الشعب وجزء من الحقوق، والسؤال الحقيقي المطروح: هل تريد حماس مفاوضات من هذا القبيل؟ وليس السؤال: هل «يُقبل» بها طرفاً في مفاوضات؟
\ فرض الأمر الواقع:
لا ينبغي الوقوف كثيراً عند التهديدات والإغراءات على السواء؛ فالخطر الحقيقي هو ما يصدر عن عوامل ذاتية، وهنا يمكن التأكيد أنّه بقدر ما تدرك حماس أنّ خسارة الطرف الآخر للانتخابات ومن ثَم خسارة المسيرة التاريخية السابقة لها، قد كانت بسبب الخضوع لمثل تلك التهديدات والانزلاق وراء الإغراءات الفارغة المضمون، وهو ممّا يصنعه افتقاد الالتزام بمثل ما يُلزِم به الإسلام من معايير ومقاييس.. بقدر ما تدرك حماس ذلك، تستعصي مع قضية فلسطين وشعبها على التهديدات والإغراءات، وبقدر ما تغفل عنه، يمكن أن تقع في الحفرة ذاتها التي وقع سواها فيها، إنّما قد يحصّنها أنّها حركة عقيدة، تنبثق عنها ثوابت ومبادئ ومُثُل وأهداف ومعايير، عليها تقاس الحركة وسياساتها وكلّ تنظيماتها وأشخاصها وقياداتها وقواعدها جميعاً كما سبقت الإشارة.. وليس العكس؛ فمن ينحرف يقع هو بالذات في سبيل من السبل المشتعّبة، ويبقى الصراط مستقيماً، لا ينحرف، ولن يفتقد من يتابع المسيرة عليه.
إنّ العنصر الأبعد شأناً بمغزاه في انتصار حماس الانتخابي يكمن في تقويم الحدث بالمنظور التاريخي لا السياسي الآني، وهو ما يتطلّب المتابعة والتفصيل، إنمّا يمكن القول في حدود ما يقتضيه الإيجاز في هذه الخاتمة للموضوع: إنّ قضية فلسطين تشهد لأوّل مرة منذ بدء الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، انقلابَ معادلة فرض الأمر الواقع؛ فما بدأ التنويه ببعضه عن المواقف السياسية الأمريكية والغربية والصمت المذهل إقليمياً، يكشف بوضوح أنّ مسيرة حماس عبر السنوات الماضية فرضت بوجودها والتلاحم الشعبيّ معها أمراً واقعاً على أرضيّة القضيّة، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً، لم يستطع أحد أن يتجاوزه، بغضّ النظر عن متابعة مسيرة الضغوط ومواصلة التبعية المباشرة لها وحتى «النصيحة» بالخضوع لها أيضاً.
ولم تكن سياسة فرض الأمر الواقع «سياسة نظرية» قطّ، إنّما هي تطبيقات عملية لرؤى سياسية. وللتطبيقات ثمنها، وهذا بالذات ما يمثّل عطاء حماس ومن ورائها شعب فلسطين، ولا يُنتظر ـ ولا يُرجى ـ أن تتخلّى عن ذلك، أو أن تفقد القدرة عليه في السنوات المقبلة، وهو على الأقلّ ما تنوّه به المواقف الأولى المطروحة بعد الانتخابات.
على أنّ هذا الجانب من بين المعاني المتعدّدة لانتصار حماس، لا يطرح نفسه فلسطينياً فقط، بل على سياسات المنطقة، وممارسات الحكومات العربية والإسلامية، والفعاليات الشعبية بمختلف مداراتها ومنطلقاتها وتوجّهاتها.. فهنا نفتقر إلى تحرّك يصنع أمراً واقعاً، ويحقّق بدوره شكلاً قويماً للسياسة «الواقعية» . ونعلم أنّ نقيض ذلك هو السائد في المنطقة حالياً، وهو ما يدفع إلى توقّع أن تشارك جهات عربية في الدرجة الأولى في ممارسة الضغوط والإغراءات على حماس، بصورة تواكب خلال السنوات المقبلة ما تصنعه القوى الغربية.
وبالمقابل فإنّ عنصر فرض الأمر الواقع في انتصار حماس يطالب كلّ من يعنيه الخروج من حضيض التسليم للهيمنة الصهيوأمريكية ـ والمفروض أن يعني الجميع دون استثناء ـ بإعادة النظر فيما مضى من سياسات وممارسات، فقد آن الأوان للتخلّي عن ألوان الانهزامية والتسليم والمساومة على القضايا المصيرية والثوابت والحقوق، ومن خلال ذلك على الأرض والشعوب وحياتها الكريمة في ظلّ العدالة والشورى لتحمل رسالتها الحضارية للبشرية من جديد.. ولا يسري ذلك على الممارسات السياسية فقط، بل يسري أيضاً على الميادين الفكرية والثقافية والإعلامية.
إنّ انتصار حماس الانتخابي الشعبي في إطار الظروف المعروفة السابقة له والمحيطة به، يقول إنّ الطرف الأضعف بموازين القوى السياسية والعسكرية والمادية المعروفة، قادر أيضاً على فرض عناصر مؤثّرة في صناعة الواقع، وتلك هي ممارسة فرض الأمر الواقع، وهذا بمقدار ما ينطلق من التمسّك بالنهج القويم، والاعتماد على الطاقة الذاتية، والاستعداد لدفع الثمن، والقدرة على الاستمرار في هذه الطريق الصعبة إلى حدّ كبير، حتى تتحقّق الأهداف العادلة الجليلة المشروعة، وليس البديل هو الوصول إلى «بعض الأهداف» ، إنّما هو الانهيار شبه المطلق، والعجز عن التفكير في القدرة على بلوغ أبسط الأهداف المشروعة أصلاً.(222/19)
اقتحام الروح
محمد الحسناوي
أرسلتُ إلى القدس تحياتي أسرابَ طيور
ما عادَ من الطيرِ سوى عصفور
منتوفَ الريش
خاطِرُهُ مكسور
ساءلتُ الريحَ عن الوعدِ المسطورِ بماءِ النور
دمدمتِ الريحُ وقالت لي: (بلفور)
* * * * * * *
أرسلتُ قوافلَ من شوقي المقموعِ الممنوعِ إلى أرض الشام
ما عاد الركبُ، ولكن عادتْ أشلاءُ كلام
كلُّ الأبوابِ مُقفَّلةٌ، ومُقطَّعةٌ كلُّ الأرحام
لم يبقَ سوى الأقفاصِ على درب الأحباب
المسجدُ مجروحٌ والحزنُ عُباب
لم يبقَ سوى القنّاصِ على الأسوار
الحبْلُ طريقٌ مسدودٌ، آخرُهُ القبرُ وأوَّلُهُ السِّرداب
* * * * * * *
أرسلتُ إلى بغدادَ كتابي وبعضَ الأهداب
لم أدرِ بأنَّ النيرانَ تسير مسارَ النهرَين
لم أدرِ بأنَّ الغربان تسوس الشطَّين
بغدادُ المنصورِ رماد
بغدادُ الشعرِ مزاد
بغدادُ الشمس حِداد
لا كان النِّفطُ، ولا كانت أقيالُ الضاد
بالماءِ نَغَصُّ، وبالجنّة جنَّتِنا يدهمُنا الأغراب
* * * * * * *
قالوا لي: روحُكَ ـ لو تدري ـ هي سرُّ الأسرار
ما دمتَ تُحبُّ، فأنتَ أخو أظفار
قد تخدِشُ، قد تخمِشُ، قد تنقُبُ في الأسوار
فاخلعْ روحَكَ من جسمِكْ
نقتُلكَ أو تقتلُ نفسَكْ
فتصيرُ ملاكاً، وتطيرُ بشوقِكْ
معتوقاً من كلِّ إسار
* * * * * * * *
أعجبني عرْضُ الحُجَّاب
سأموتُ غداً أو بعدَ سنين
لكنَّ القلبَ إذا لم يحظَ بليلاهُ فمسعاهُ عقيم
والجنَّةُ تُخطَبُ من (بيت المقدس) أو أهل الشام
وعبوري فوق الأسلاك
مهْرُ حبيبي
* * * * * * * *
وجَّهتُ ركابي هذي المَّرةَ صوتَ المِحراب
وخلعتُ عن الروحِ الأثواب
محرابُ (الأقصى) يمدّ ذراعَيْه
أدمعُهُ تُومضُ في عينيْه
مئذنةٌ ترفعُ كفَّاً للمعراجِ
وتأبَّطتُ حِزاماً من شوقٍ غلاَّب
وقَحمتُ بروحي وحدي الأبواب
فانفجرتْ تحت الصخرة ـ بعد دهورٍ ـ عينُ الغُيَّاب
كلُّ أناسٍ قد علموا مشربَهم
وانفتحتْ كلُّ الأبواب
كلُّ الأبواب(222/20)
فوز حماس ماذا قبل.. ماذا بعد؟
إعداد: وائل عبد الغني
فوز حماس المفاجئ جاء بالفكرة بعد السكرة، رأى فيه بعضهم ما هو أصعب من تسونامي، بينما رآه آخرون صدمة للغرب أشد من سقوط الاتحاد السوفييتي. أما صحيفة الإنديبندنت فرأت فيه فتحاً لأجواء جديدة ليس في المنطقة فقط بل على خريطة العالم؛ إذ أضاف أرقاماً جديدة لمعادلات الصراع داخلياً وإقليمياً وربماً عالمياً. حقبة مضت ودَّعت فيها الساحة الفلسطينية شهداء خطوا نحو التحرير، وحقبة جديدة بلون حماس مفتوحة على احتمالات شتى، كيف جاءت وإلى أين تمضي، وما طبيعة الصراع الجديد وما هي خياراته، وكيف ستتشكل المرحلة؟ هذا ما سنتناوله مع ضيوفنا:
أ. طلعت رميح، رئيس تحرير مجلة استراتيجيات.
أ. د. سيف الدين عبد الفتاح، أستاذ النظرية السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة.
د. محمد خالد الأزعر، الباحث والخبير بالشأن الفلسطيني.^: ابتداء قبل أن يشغلنا الحديث والحدث نرحب بالسادة الضيوف، ونتساءل: بعض التحليلات ترى أن الولايات المتحدة دفعت بحماس أو على الأقل فتحت الطريق أمامها لإيجاد شريك إسلامي معتدل يمكنها من محاربة فكر تنظيم القاعدة في المنطقة؛ بما يعني أن الفوز مقدمة انتشال للموقف الأمريكي في المنطقة؛ فما مدى صحة ذلك؟
الوضع الدولي بحالته لم يكن دافعاً أيضاً على الإطلاق أن تأتي حماس. في تقديري أن مؤشرات الوضع الداخلي تدل على أن التغيير نتج من خلال تراكم داخلي من خلال اعتماد على قوة الداخل وليس المراهنة بأي شكل من الأشكال على حالة الدعم لا الغربي ولا العربي، وهذا تكرار وامتداد للاستراتيجية التي اختطتها حماس. كل من فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية بدأت من الخارج وانتقلت إلى الداخل، فثارت الصراعات في المنطقة العربية، لكن حماس بدأت من الداخل، وكان من الطبيعي أن يتطور مشروعها دون تماسٍّ كبير ودون شعور شديد بالخطر من قِبَل الأطراف الخارجية.
ثانياً: هذا معناه أنه يلغي العمل الفلسطيني الذاتي ويطرح التصور بأن التحكم في النظام الفلسطيني يأتي من قوة خارج النطاق الفلسطيني، وأنا أستبعد ذلك تماماً في ضوء النتائج التي حصلت.
الأمر الثالث: أن هذا يعني أن الولايات المتحدة وصلت من الحمق أنها لا تعمل ضد مصالحها في المنطقة بشكل كامل؛ لأن صعود حماس حتى لو كان تكتيكياً فسوف يؤدي إلى استنهاض تيار كامل موجود في المنطقة معادٍ للولايات المتحدة بشكل أو بآخر.
^: هل هذا اختيار الشعب لمنهج حماس أم رفض لفتح؟
ثم إن وضع الولايات المتحدة اللوجيستي الاستراتيجي في المنطقة لا يسمح لها أن تغامر بمثل هذا الخيار؛ لأن من الممكن أن يفلت العيار من يدها ويعقِّد المسائل ليس في داخل فلسطين فقط وإنما على الصعيد الإقليمي، لكن هناك من يقول إن الولايات المتحدة بلغت من الذكاء أنها تصعّد حماس لكي تعقِّد التسوية؛ لأنها لا تريد أن تصنع تسوية أو لأنها ليست الآن بوارد أن تصنع تسوية، فتريد أن تحمِّل صعود حماس عبء عملية تجميد التسوية.
^: إذن لا يمكن تماماً الوثوق بهذا التحليل!
المؤشر الأول: أن القيادة الصهيونية كانت منذ عام ونصف تتحدث عن غزة وعن أن حماس ستحقق سيطرة بدلاً من فتح، فالتحذيرات الصهيونية من قوة حماس كانت مبنية على تقديرات فعلية سواء فيما يتعلق بأن كل الضربات التي قامت بها في غزة كي لا تمكن حماس، كما أن عمليات الاغتيال قد تمت بشكل ممنهج للغاية، وبمفاصل داخل الحركة للغاية، وبتغييب شخصيات لأسباب تتعلق بإحداث عملية تغيير سياسي وتغيير في الرؤية التنظيمية وتغيير في فكرة المقاومة. لم تكن هناك ضربة من الضربات بشكل عشوائي، وحدثت محاولة للمساومة في الانسحاب من غزة على أن لا يتم الانسحاب إلا بعد أن تتعهد السلطة بعدم مشاركة حماس.
المؤشر الثاني: تمثل في نتائج الانتخابات البلدية؛ فإذا قرأناها جيداً في مراحلها الثلاث فسنلحظ حضور حماس الشعبي حين كشفت عن مدى قدرتها على الانغراس وسط الناس وعدم انعزالها رغم أنها تمارس العمل المسلح بكثافة، فالمعتاد في مثل هذه الحالات أن يحدث خطأ معتاد جداً بأن تتوجه العناصر تحت القصف وتحت الضرب إلى تخفيف علاقتها النسيجية داخل المجتمع حتى تنحسر وتنعزل، ولكن الانتخابات المحلية في غزة أثبتت العكس، ووصل الأمر إلى أن السلطة وقعت في مأزق خطير. حين حدثت معركة على نتائج الانتخابات في غزة أعطتنا مؤشراً آخر على مدى قدرة حماس على مستوى الأرض عندما حاولت السلطة حل المشكلة حول الأصوات المختلف عليها بطريقتها، فحشدت حماس حشداً جماهيرياً وأوقفت بالفعل مخطط السلطة في هذا الوقت إلى إحداث انقلاب في النتيجة.
المراحل التالية في الانتخابات البلدية كانت مؤشراتها أخطر؛ لأنه عندما ننتقل من غزة إلى الضفة يكون عامل قوة حماس، إذا ما وجد، يجب أن نضربه في 2 أو في 3 أو في 4 لأن هذه الانتخابات تمت في مدن محتلة احتلالاً فعلياً، ومن ثم مارست قوات الاحتلال كل الوسائل الممكنة، ومن يراجع أعداد المعتقلين بين الانتخابات البلدية في المرحلة الأولى والانتخابات البلدية المرحلة في الأخيرة اللي كانت في الضفة، ثم الانتخابات التشريعية فسيلحظ أن التركيز كان على عناصر حماس؛ رغم أن منظمة الجهاد هي التي كانت تقوم بالعمليات؛ فحينما تأتي بعد ذلك الانتخابات البلدية وتنجح حماس ليس فقط في المناطق هذه، وإنما في المدن وبكثافة ولا تفوز فتح في غير رام الله يصبح المؤشر أمامنا أننا أمام تطور فعلي حقيقي ليس له أي علاقة بالولايات المتحدة بالشكل المباشر أو بمؤثرات خارجية، وإنما هو مرتبط بحالات قبلية وبوضع اجتماعي عاصف ومرتبط بوضع السلطة وبمسألة الفساد.
^: لماذا قررت حماس خوض الانتخابات هذه المرة بينما رفضت وبصورة جازمة خوضها في عام 1996؟
كان أمام حماس أنها لا بد أن تدخل إطار ما يسمى بالعمل السياسي حتى يمكن أن تضع الجميع على المحك، ولذلك جاء دخولها الانتخابات المحلية ومن قبل انتخابات الاتحادات الطلابية، لتؤكد أنها رقم في المعادلة لا يمكن تجاهله.
ونتيجة استراتيجية لما كانت تفعله من حيث أرادت أن تقلم أظافر الجميع، ومن حيث أرادت أن توهن الجميع وتتركهم جثثاً هامدة؛ إذا بها تجد العملاق يخرج لها من القمقم، ويؤكد أنه موجود، وأنه هو الذي يملك التفاوض معه، على الأقل وإن كان هذا التعبير مبالغاً فيه، لكن على الأقل هذه هي الرسالة التي يمكن أن تخرج في هذا السياق.
توابع الفوز:
^: كيف ستتعامل حماس في قضية المفاوضات إذا ما مثلت الشعب، هل ستقبل التفاوض، وماذا يعني لها القبول بالتفاوض: هل هو اعتراف مبطن، أم تعاطٍ مع أمر واقع؟
أمامنا كذلك معضلة أخرى، وهي أننا كنا أمام معضلة حقيقية وكان أحد أسبابها المقاومة الفلسطينية ... وليس المقاومة الفلسطينية ذاتها هي المعضلة، ولكن المقاومة الفلسطينية فرضت عناصر معادلة جديدة ذات فرادة أيضاً وهي أننا مررنا بسبع سنوات كانت انتفاضة بلا سلطة، ثم بسبع سنوات أخرى سلطة بلا انتفاضة؛ ولكن بدأنا بعد الانتفاضة الثانية عدداً من السنوات، ونحن في الخامسة: معضلة الانتفاضة السلطة.
أما ما يتعلق بالمفاوضات فإن حماس تأتي الآن وهي لا تكتب كتاباً جديداً، ولكن تكتب في كتاب مكتوب فيه، وهذه ملاحظة مهمة جداً في هذا المقام، فهي لا تكتب أول صفحاته.
هناك معضلة أخرى أطلقتها العملية الانتفاضية أو الانتفاضات أو تاريخ المقاومة الفلسطينية وهي ما يسمى بعملية تدريب الشعب لمواجهة الضغوط؛ لأننا الآن أمام شعب تعوَّد أن يعيش تحت الضغوط، وأحسب أنه لو عاش في راحة فستحدث له مشكلة.
التحديات والمواجهة:
^: صاغ فوز حماس معادلة جديدة للصراع يمكن قراءة بعض بنودها وتوقع بعضها الآخر ما بين تحد جديد سيكون بعض الثمن، وبين استجابة ترفع من أسهم هذا الفوز، كيف يمكننا أن نقرأ خريطة التحديات التي تواجهها حماس بعد الفوز؟ ولا شك فإن الحديث حول هذه المعادلة هو ثمرة هذه الندوة.
الأول: أما ما يتعلق بالتحديات داخل حماس نفسها من إعادة ترتيب الشكل التنظيمي والرؤية والإدارة والقيادة: فقد أشرنا إلى أن حماس لم تكن تتوقع ما حدث، ومن ثَم هذا سيترتب عليه نمط من إحداث تغييرات ومن إعادة توظيف طاقات ومن تحويل نمط توظيف طاقات إلى نمط آخر، والانتقال من حالة العمل السياسي المعارض إلى حالة الإدارة والسيطرة على القرار التنفيذي، وتحديات ـ أو ابتلاءات ـ تتعلق بالتفكير السياسي ونمط التصريح الإعلامي ونمط التوجه والتكتيك.
نحن أمام حالة مختلف عليها: هل حماس تتغير بالفعل؟ أم هو مجرد تغيير في نمط ولغة الخطاب السياسي واستخدام مفردات لم تكن مستخدمة من قبل؟
نمط التحديات الذي يتعلق بالحالة الداخلية الفلسطينية:
الجزء الأخطر في التحديات الداخلية في رأيي هو المتعلق بأبي مازن، ووجود رأسين في الجهاز التنفيذي. لدينا تجربة بين أبي مازن وعرفات، ولدينا تجربة بين قريع وعرفات، ولدينا تجربة بين قريع وأبي مازن، وفي الحالات الثلاث حدثت خلافات حقيقية وجوهرية وتهديدات بالاستقالة، واستقالة أو إقالة. بالنسبة لمحمود عباس: الخلاف بين محمود عباس وبين حركة حماس خلاف استراتيجي وحقيقي في كل تفاصيل إدارة الصراع مع الخارج وفي العلاقات الداخلية والمؤسسية، وخاصة أن محمود عباس رؤاه التي طرحها طوال الوقت منذ أوسلو إلى أبي مازن ـ بيلين ... إلى لقاء العقبة إلى آخر تصريحاته هي بالإجمال خط آخر مختلف عما هو سائد داخل فتح أيضاً.
الملاحظ حتى الآن أن حماس تتعامل معه بمنظور وبفكر يقوم على عدم توسيع الشرخ على الأقل في هذه المرحلة، ومحاولة إعطاء الاعتبار للقيمة القانونية أو الدستورية لوضع محمود عباس والحفاظ عليها، وتعلن باستمرار أنها لن تتدخل فيها. لكن الملاحظ أيضاً أن الحوار الصحفي الأخير الذي أجراه خالد مشعل في نقابة الصحفيين في القاهرة تضمن تلميحات واضحة بعدم القبول بأية ترتيبات أو إجراءات يقوم بها محمود عباس منفرداً سواء في الجهاز التنفيذي أو إسناد المناصب أو غيرها.
التحدي الثاني: يتعلق بجهاز السلطة الفلسطينية وهو غير نمطي لا يقوم على فكرة وجود جهاز سلطة مستقر، من يصبح صاحب القرار السياسي بانتخابات تشريعية يطيعه الجهاز التنفيذي كما هو في كل دول العالم الديمقراطية والانقلابية أيضاً. الجهاز التنفيذي مشكّل حقيقة من عناصر فتح بالأساس بما يعني أن هناك حالة من التداخل العميقة جداً والخطيرة جداً والمؤثرة جداً على مسيرة السلطة الفلسطينية نفسها؛ حيث إن عناصر فتح التي تتولى الجهاز التنفيذي هي نفسها الموجودة في مختلف مؤسسات اتخاذ القرار في فتح، وهذا يعني أن الصراع هنا هو ظل للصراع هناك والعكس؛ فكيف ستتمكن حماس من إحداث حالة من الفصل وخاصة أن هناك أطرافاً داخل فتح أظهرت منذ البداية رغبة قوية سواء بالتنسيق مع أطراف داخل إسرائيل أو داخل المنطقة العربية ... غير راغبة في تسهيل مهمة حماس في قيادة الجهاز التنفيذي؟
مع الأخذ في الاعتبار أن حماس تشبه مؤسسة دولة كاملة كانت قد شكلت جهاز سلطة حقيقي في الشارع يتعلق بعمل خيري يتعلق بدعم أسر شهدائها، يتعلق بالدفاع عن المعتقلين.
التحدي الثالث: يتعلق بتبعية الجهاز الأمني الفلسطيني، وهذه نقطة بالغة الخطر، ومن المرجح أن يشهد الجهاز الأمني تفلتات واختراقات واختلافات وتمردات وحالة من عدم الانصياع التنفيذي للقرار السياسي، ومن ثم هذا امتحان وابتلاء شديد لحماس يطرح عليها آليات قد يكون بعضها خطراً خاصة في حالة إبقاء حماس على جهازها العسكري.
التحدي الرابع: يتعلق بما أعلنه خالد مشعل بمسيرة الانطلاق نحو تغييرات في اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية؛ هنا ستتمثل أمام حماس تحديات أخطر من تحديات المجلس التشريعي؛ فمن الممكن أن يأتي إليه أو يرأس السلطة التنفيذية من قد يكون مختلفاً مع نهج أوسلو، لكن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وهي الجهاز السياسي الذي هو الأساس في عقد الاتفاقيات والمرجعية السياسية والقانونية؛ ومن ثم فالمنافسة فيها ستكون حامية جداً، والتحدي يتمثل في مدى إمكانية إحداث تغيير تدريجي وعلى مستوى بعيد مع تقليل الاحتكاكات والاختلافات قدر الإمكان، خاصة في ضوء أن تشكيل اللجنة التنفيذية تشكيل قديم موزع بين الداخل والخارج، كما أن هناك خلافات داخل قيادات حركة فتح الداخل والخارج على هذا المستوى، وهناك قوى لم تدخل أصلاً مثل حركة الجهاد.
التحدي الخامس: تحدٍّ يتعلق بوجود حالة موضوعية تتعلق بالتنسيق الإجباري بين جهاز السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال؛ فهناك كثير من القضايا والتشابكات الإجرائية اليومية بدءاً من تسليم شهيد، وانتهاءً بمد خط ماء أو زرع الأرض أو دق أنابيب المياه الجوفية، وكذلك التنسيقات الخاصة بالمعابر، والجمارك، ولذلك فإن هناك تعاملات تتعلق بالوضع اليومي والمعيشة اليومية للمواطن الفلسطيني، وكل هذه التعاملات حقيقة تمسك بها يد جيش الاحتلال وبشكل عنيف؛ فكيف ستتعامل حماس مع مثل هذه القضايا فيما يخص مثلاً المستحقات المالية التي يتعامل فيها الاحتلال بشكل استفزازي ومهين؟ ورأينا أنه بمجرد أن جاءت حماس أوقف تحويل المستحقات. الأمر الثاني أنه حتى في حالة معبر رفح فإن الإسرائيليين من حقهم الاعتراض على مرور أي شخص، وقد تم خروج أعضاء حماس مؤخراً باتصالات سياسية مع الطرف الإسرائيلي والطرف الأوروبي عبر معبر رفح الحدودي؛ وهو الأمر الأخطر على حالة الأردن؛ لأن القوات الإسرائيلية متواجدة؛ فكيف ستتصرف سلطة تقودها حماس التي ترفض التعامل على الأرض مع الجانب الإسرائيلي؟ وكيف ستقود جهاز سلطة هو يتعامل بشكل يومي وفي تفاصيل يومية مع الجانب الإسرائيلي؟ كيف سيأمر الوزير من حماس المسؤول لديه في التعامل مع هذه الحالات؟
سادساً: حالة الانفلات الأمني التي تتعلق بالدرجة الأولى بقضية فتح وبحالة شهداء الأقصى التي أصبح لها الآن ما يقارب 15 مجموعة مسلحة، ومسألة السيطرة على هذا الانفلات وارتباطه بحالات قبلية.
تبقى مسألة الوضع الاقتصادي على الأرض حتى لا أطيل.
ويبقى تحدي مسألة العملاء التي ستكون مسماراً خطيراً جداً بالنسبة لحماس؛ لأن الاتفاق بين السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال يقضي بعدم المساس بالعملاء الذين كانوا موجودين منذ عام 67 حتى دخول عرفات إلى الأرض المحتلة، أما العملاء الجدد؛ فمن حق السلطة الفلسطينية التعامل معهم؛ ولذلك كانت يد السلطة الفلسطينية طول الوقت مغلولة بشكل قانوني؛ لأنهم كلما أمسكوا بعميل تحجج أنه منذ 1967 وقبل السلطة، والإسرائيليون يتدخلون في كل مرة وبشكل قانوني لإيقاف المحاكمات، كما أن حماس لا يمكن أن تبدو كمنتقم بعد أن تمسك بزمام السلطة إذا ما تحركت في هذا الأمر بشكل عاجل رغم مخاطره الشديدة.
أما التحديات على المستوى الخارجي؛ فعلى الجانب العربي نجد تحديين:
الأول: يتعلق بأن حماس حركة مقاومة إسلامية وهي جزء من نسيج عمل إسلامي موجود في دول الجوار، وبعد أن تصل إلى السلطة التنفيذية كيف سيكون الفصل بين الحالتين، وخاصة أن هناك حالة من القلق الحقيقي التي أدت من قبل إلى أن الأردن يطرد قادة حماس ليس لأسباب فقط تتعلق بإسرائيل وإنما لأسباب تتعلق بحالة حركة الإخوان المسلمين ومدى قوتها داخل المجتمع الأردني، وأن هناك حالة أخرى جديدة تتعلق بحالة الإخوان المسلمين في مصر، وهذا أمر سيطرح تعقيدات حقيقية على حركة حماس.
الثاني: فيما يتعلق بالوضع العربي يتعلق فعلياً بالتنسيق الأمني؛ فالسلطة كانت مأمونة الجانب على مستوى الاتصالات الأمنية؛ فكيف ستنظر الأجهزة لعملية التنسيق الأمني: هل ستكون على المستوى نفسه؟.. هل ستكون بالطريقة نفسها؟ التعقيدات التي ستحدث هذا ابتلاء بالفعل.
أما التحديات على المستوى الدولي:
فأولاً: تخوض حماس معركة الاعتراف بها في الوضع الدولي، والوضع الدولي تحسن إلى مستوى وبسرعة أبعد مما كان يُظن. التغيير الذي حصل في الموقف الروسي خطير للغاية، حين ربط بوتن انتصار حماس بفكرة السيطرة الأمريكية على المنطقة، وقرر دعوة حماس إلى موسكو، هذا سيكسر حالة العزلة التي كانت مفروضة بكسر الإجماع داخل اللجنة الرباعية، وبدأت أوروبا تشعر بقلق حقيقي، وأنا أشير هنا إلى التصريح الذي صدر من مصر بأن إيران يمكن أن تدخل كممول للسلطة الفلسطينية بديلاً للتمويل الأوروبي، أنا رأيي أنه تصريح أحدث حالة من التفكير داخل الاتحاد الأوروبي، ومن ثم بدؤوا إعادة التفكير في ضرورة الاعتراف بسرعة بحماس؛ فالوضع الدولي يمكن أن يتغير بشكل مفاجئ وسريع.
ثانياً: ما يتعلق بالوضع الإقليمي: أعتقد أن التحسن في الوضع الإقليمي ـ للأسف الشديد ـ سيأتي متأخراً بعض الشيء عن التحسن في الوضع الدولي، وإن كان في تقديري أن هناك أطرافاً إقليمية اعتبرت فوز حماس انتصاراً كبيراً لخطتها كما هو الحال بالنسبة لإيران وسورية، وكما هوالحال لحزب الله، وأن هناك أطرافاً عربية ستدرس الأمر على مهل على الأقل من زاوية أن يكون بيدها بعض الأوراق للمساومة سواء في قضايا أخرى أو في إحداث حلحلة في استبعادها من أوراق الملف الفلسطيني كدور فاعل وتحويلها إلى دور منفذ لطلبات الجهات الأخرى كما حدث في مرات كثيرة.
وسأطرح فيما يلي بعضاً من التحديات وكيفية التعامل معها:
مشكلة الشرعية: لماذا لا نفكر في أن يشتمل خطاب حماس والقوى الدافعة لها على فكرة أن حماس يمكن أن تمارس العمل السياسي من مصدر شرعية مختلفة عن أوسلو خاصة بعد أن تحدث شارون عشرات المرات عن أن أوسلو انتهت؛ ولهذا لا ينبغي أن تكون قيداً على العمل الفلسطيني. لماذا تكون أوسلو هي مصدر شرعية العمل الفلسطيني حتى في الداخل؟ نحن لدينا شعب على أرضه له حقوق تاريخية ثابتة في هذه الأرض، معه قرارات شرعية دولية مؤيدة، وله سلطة انتخبها علناً وبمراقبة دولية؛ فلماذا لا يتم التحدث عن شرعية مختلفة لوجود السلطة أساسها الشعب الفلسطيني والانتخابات الفلسطينية؟ عندئذ أمسك بهذه الورقة وبكل قوة وأطرحها في وجه الجميع: ما هي أحقية إسرائيل في أن تكون على المعابر؟ ما هي أحقية إسرائيل بأن تسيطر على مقدراتنا؟ فأربط مسألة الانتخابات بما هو أبعد من أوسلو بالشرعية الدولية المحددة لوجود الاحتلال. يعني أصلاً إسرائيل ليس لها أحقية في السيطرة على الشعب الفلسطيني مطلقاً،.. ليس لها أحقية في السيطرة على موارده المالية وحدوده وتعامله مع العالم الخارجي كل هذا هناك اتفاقيات تحدده على الصعيد الدولي ... اتفاقيات تحدد كيفية التعامل مع الاحتلال من لاهاي حتى جنيف وموادعاتها. لماذا لا أتحرر لما هو أبعد من أوسلو وأمسك بورقة الانتخابات هذه وألقيها في وجه الجميع؟
هذا يحتاج إلى خطاب صلب ليس فقط من حماس بالطبع. نحتاج ساعتها لموارد للضغط، وإذا كانوا سيغلقون المعابر؛ فالمعابر كانت تغلق في كثير من المناسبات، وبشروطهم كانت تفتح وتغلق، إذا كان سوف يضيِّق على مواردي المالية فهو مؤخراً اضطر أن يسيِّل هذه الموارد تحت ضغوط أكبر منه، فأنا أحتكم إلى تحريض الناس؛ فإسرائيل ليست طليقة في هذه المسألة.
لماذا لا أستخدم المحيط العربي وضغوطه وخطابه مع المجتمع الدولي، بأن تتقدم الشرعية الفلسطينية إلى النظام العربي لكي يقوم بواجباته؟ حماس حتى الآن تسير في حدود الشرعية العربية. وبالمناسبة: لاحظْ أن حركة حماس من الحركات الفلسطينية النادرة التي لم تصطدم بأي نظام عربي: فتح اصطدمت ... الجهاد اصطدمت. لماذا لا تستغل هذه الورقة؛ لأنني سائر على هذا الطريق وإنني محتفظ بهذا، ومن ثوابتي أن لا أنغص عليكم حياتكم؟ وينبغي أن تقوم حماس بما يسمى ببرنامج الطمأنة والتواصل مع المحيط العربي كي يتدخل ورائي ويرفدني على طريق التسوية في حدود ما ذكره الخطاب العربي، وأنه ينبغي لإسرائيل أن تنصاع للإرادة الدولية في هذه القضايا.
أما فيما يتعلق بالعلاقة بأبي مازن: وفكرة الرأسين فلديَّ بعض الملاحظات:
أعتقد أن الرجل أفلت بعض الشيء من أن يكون في مواجهة حماس؛ لأنه قرأ المعادلة بشكل أكثر ذكاءً إلى درجة أن يتصور البعض أن الرجل خرج من معركة الانتخابات بطلاً بالنسبة للجميع، يعني هو الناجي الأول من معمعة الانتخابات في حركة فتح؛ لأنه أصر عليها وسوَّقها أمريكياً، ورفض أن تخرج منها حماس، وهي في نفس الوقت أعطته ما لم تعطه لعرفات؛ أعطته تهدئة كاملة، وثقة لمرتين: مرة وهو رئيس للوزراء، ومرة وهو رئيس للسلطة، ثم أعطته ما هو أكثر من ذلك وهو أنها سوف تدخل منظمة التحرير على قاعدة إعادة بناء المنظمة. هم يصرحون بذلك على الأقل إعلامياً، ومن ثَم هنالك أرضية مشتركة ما بين الاثنين، أو على الأقل مصلحة مشتركة، حتى إن بعض قادة حماس وصل بهم الأمر إلى القول: نحن ندعم أبا مازن أكثر مما يدعمه بعض الفتحاويين. أنا تقديري أن أبا مازن وبمجرد استلامه رئاسة السلطة الفلسطينية مع رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية أصبح عليه أن ينظر بمسافة لتاريخه في أوسلو وتاريخه مع بيلين وتاريخ الموادعات السابقة. الرجل لم يعد يردد المقولات التي كان يرددها قبل وصوله، ربما أنه قرأ مرحلة عرفات وأنه ينبغي أن يكون ممثلاً لكل الفلسطينيين، ولو كان ممثلاً لفتح فقط لعارض إجراء الانتخابات، ولأيّد تأجيلها لأكثر من مرة، لكنه فيما أتصور من الممكن إيجاد أرضية معه وهو لا يرغب في توسيع الشرخ.
فيما يتعلق بالوضع المالي والاقتصادي: في تقديري أن هذا التحدي مهم جداً؛ لأن له علاقة بتوزيع الولاءات. المال السياسي استخدم في الساحة الفلسطينية بما لا يقاس مع أي حالة أخرى، وفشل بما لا يقاس مع أي حالة أخرى، وآخر مظاهر الفشل ما قلته في البداية من أن الاتحاد الأوروبي وبعض الشركاء المانحين أنذروا الشعب الفلسطيني بوقف الدعم عنه إذا ما وصلت حماس؛ فإذا به يوصِل حماس وهذا نوع من أنواع الانتقام لجرح الكرامة. وكان الفلسطينيون يتكاذبون على بعضهم، ويصوتون لحماس، وهم يفهمون جيداً أن هذه الأموال التي تأتيهم من المانحين هي لشراء المقاومة، ولشراء السكوت، وتمرير التسوية؛ فلما أن أفصح المانحون عن هذه النية بشكل علني اضطر كل من السلطة والشعب أن يتبرؤوا منهم حتى إن بعض عناصر السلطة رفضوا هذه الفجاجة في شرائهم؛ لأنهم سيُتهمون بالتواطؤ ضد مصلحة الشعب الفسطيني.
ما هو البديل هنا؟ لدينا أكثر من بديل. أعتقد أن الأوروبيين والأمريكيين سوف يتراجعون في لحظة من اللحظات بشكل مباشر، بضخ الدعم مرة أخرى، وبشكل غير مباشر بأن يوحوا لدول عربية أن تغطي المسائل في الحدود التي لا تؤدي إلى انفجارات في الداخل.
من ناحية ثانية تستطيع حماس وهي ذات علاقات طيبة بكل الدول العربية أن تطالب علناً بأنه لا ينبغي معاقبة الشعب الفلسطيني لأنه اختارني، فإذا أردتم ذلك فسوف أنسحب، يعني من الممكن أن تصل إلى أنها تهدد بانهيار هذه العملية الديمقراطية، وأنا متأكد أنه لا يوجد بعد هذه العملية إلا الفوضى، وسيناريو الفوضى ليس مطلوباً فلسطينياً ولا إقليمياً ولا دولياً ولا حتى إسرائيلياً، ولذلك إسرائيل عادت لتقول سأعطيكم المستحقات حتى تشكيل الحكومة. ومن ناحية ثانية فكرة التلويح بإيران: طبعاً أنا لا أوافق على أن القرار الفلسطيني قد انتقل من مانحين دوليين إلى مانحين إسلاميين بشكل مباشر. أخشى من إيران وهي في معمعة الصراعات الدولية الآن بأن تؤثر على سمعة القرار الفلسطيني، والأموال العربية أكثر مأمونية في حدود وجود نظام عربي طبعاً، ولا أعني أن الأموال من جهة إسلامية تعتبر شيئاً نكراً أو شيئاً إدّاً، لا، بالعكس؛ لكننا يجب أن نعمل في حدود ما يدرأ شبهة إمكانية أن يتعلق بعض الأطراف بالتشكيك في نوايا حماس.
كنت أعجب أن يتهم البعض حماس بتلقي أموال مثلاً من جهةٍ ما في الوقت الذي يتلقون هم فيه من الجهة نفسها.
هناك فكرة أخرى وهي فكرة الاقتصاد المقاوم؛ اقتصاد التقشف، اقتصاد الزهد، من الممكن بحسن التدبر والتصرف أن يكون قليلُ الموارد الفلسطينية كثيراً، خاصة إذا تجنبت حماس سياسات البعثرة والبذخ والاقتصاد الترفي.
اقتصاد المقاومة كان تجربة ناجحة جداً أفسدها نمط ما بعد «أوسلو» بدون تحديد، لكن الآن من الممكن تذكير الناس به على المدى الطويل.
وفي المدى القريب على حماس فعلاً أن تغطي ما كان موجوداً حتى يتم التغيير الثقافي المطلوب؛ يعني لا أستطيع أن أطالب 140 أو150 ألفاً تم استيعابهم في السلطة في الصباح الباكر أن يبحثوا عن عمل، وخاصة أن كثيراً منهم قد انتخب حماس وإلا لما وصلت لـ 60 في المائة، ومن ثَم لا يصح أن يكافأ هؤلاء الناس بأن يُلْقَوْا إلى العراء؛ فنحن في حالة ليست طبيعية وحماس ينبغي أن تدرك ذلك.
أما مشكلة الجهاز الإداري في الحالة الفلسطينية وكونه مسيَّساً: فنحلها إما بإحلال عناصر مكان عناصر، وإما بكسب الولاءات مع الأخذ في الاعتبار أن فتح ليست وحدة واحدة، وسوف تجد حماس من داخل فتح من يتعاون بشكل طبيعي؛ لأن الولاء في تقديري ـ والله أعلم ـ لم يكن ولاء بالمطلق، وإنما كان ولاء في حدود مصلحية ووظيفية؛ فإذا وجد أن حماس من الممكن أن تضمن هذه الأوضاع بشكل أو آخر فأعتقد أنه يمكن أن يخفف من غلوائه، ويتبع الأوامر والضوابط الجديدة التي سوف تتبعها حماس. نعم جهاز السلطة هو فتحاوي، لكن (فتحاوي) كلمة فضفاضة، وإلا لما كانت هذه الفوضى ولا هذه الفضفاضية ولا هذا الغموض ولا هذه الجماعات والقوائم المستقلة في الانتخابات؛ سواء بالقائمتين أو بالانتخاب خارج القوائم. معنى ذلك أننا أمام إمكانية لإيجاد من يتعاون مع برنامج حماس في السلطة خاصة إذا ثبتت طاهرية هذا البرنامج.
أما بالنسبة للوضع الدولي فليس سيئاً إلى ذلك الحد، وبالإمكان ربطه بهذا القوس الذي يظهر في المنطقة: إيران سورية لبنان العراق وطبعاً فلسطين؛ قوس الممانعة هذا المشتد في المنطقة ممكن أن يؤثر على القرار الأمريكي، وعلى الولايات المتحدة أن تخفف من غلوائها، وسوف تجد من ينصحها من المنطقة بتخفيف هذه الغلواء.
ثانياً: أتصور أن مشروع الشرق أوسطية قد ضرب ضربة شديدة، وكذلك مشروع نشر الديمقراطية سوف يضرب من جهتين: من النُّظُم، ومن الولايات المتحدة ومروجيها. النظم سوف تقول لهم: هذا هو البديل، وهم سوف يرون البديل بأعينهم، وسوف يتم تقليل الاعتماد على هذا الخطاب في التعامل الإعلامي مع المنطقة.
الأول: وهو: هل التضييق على حماس إقليمياً ودولياً لن يطال الناس الفلسطينيين؟ حماس والناس معادلة مهمة جداً، وخاصة أن الناس هم الذين اختاروا حماس.
الثاني: هل التضييق على حماس سيؤدي إلى انصراف الناس عنها؟ هذه قضية أخرى.
الثالث: هل التضييق على حماس سيؤدي إلى مزيد من الالتفاف حولها؟
نظرتي ميالة إلى أن التضييق على حماس أمر مفروغ منه، وأظن أنه حال الابتلاء هو كذلك هو حال ضيق يتطلب البحث عن نوع من المخرج. في هذا الإطار أرى أن يتم تقسيم التحديات من خلال القضايا كالتالي:
التحدي الأول: هو تحدي الإدارة؛ يعني أن هذا تحدٍ مهم جداً؛ إذ لا توجد دولة من غير إدارة (جهاز بيروقراطي) هذا الجهاز البيروقراطي هو يد الدولة.
ثم بعد ذلك يتوافق مع تحدي عملية التنفيذ؛ لأنه قد يقوم هذا الجهاز الإداري بشكل من الأشكال بشل يد حماس في إطار التفاعل اليومي والمعيشي في هذا السياق، مع الأخذ في الاعتبار ما قاله الدكتور خالد، ومن المهم بالنسبة لي أن أسمع هذا من فلسطيني يخبر الوضع الداخلي، ويعرف أن هناك مثلاً في فتح من سيتعاون بالفعل مع حماس في هذه المسألة. نقطة ضوء في هذا التحدي أو الابتلاء.
ثم بعد ذلك تحدي الأمن. التحدي الآن تحدٍ خطير شديد الخطورة للتصارع على ملفاته وأجهزته بين الفرقاء، ولمساس هذا التحدي بطبيعه الصراع واستمراريته.
إن الملف الأمني كان بإيعاز من الغرب وبرغبة منهم بعد طول خلاف؛ خلاف إلى رئيس الوزراء، والآن الحديث عن تبعية الأجهزة الأمنية لأبي مازن.
ثم بعد ذلك التحدي الذي يتعلق بالتمويل.
ثم تحدي التسوية وتحدي المقاومة؛ لأن التحدي هذا أصلاً موجود. التحديان موجودان مع بعضهما.
ثم هناك تحدي العملاء؛ وهذا ملف أظن أن حماس لا بد أن تفتحه، وستفتحه بشدة؛ لأنها تضررت منه هي وكل قوى المقاومة، ولن يستطيع أحد أن يلومها في ذلك.
ثم تحدي ملف الفساد.
ثم تحدي التشابه الذي يتعلق بتحدي الداخل والخارج في هذا الإطار، والتحدي الإقليمي، والوهن العربي.
كل هذا يفرز تساؤلاً من نوع آخر: هل إدارة الحركة مثل إدارة الانتفاضة مثل إدارة الدولة؟ هذه أسئلة حقيقية يجب أن تطرح على أرضية النقاش بشكل حقيقي. لا بد أن نرى ماذا زاد في عملية الإدارة الآن عن إدارة حركة ملتزمة عقائدياً وملتزمة وطنياً وتنظيمياً؛ هذه أظن أن الإدارة فيها تكون وفق آليات محددة وسهلة نوعاً ما، وفيها انضباط وميسرة.
إدارة الانتفاضة تطلبت عمل آلية، ونجحوا في عمل لجان تتعلق بهم. قدروا إلى حد كبير، فكانوا يتنادون في لحظة الأزمة، لو حدثت أزمة؛ وهذه آلية جيدة؛ لأن قدرة أي نظام تتمثل في شيئين:
ـ آليات التجدد الذاتي.
ـ وآليات النقد الذاتي.
وإذا نجح في الاثنين تولدت آليات التصحيح الذاتي دائماً. ومن الأهمية بمكان أن تترافق هذه الآليات بعضها مع بعض، ومتى ما عملت الآلية فستواجَه، وهذا شأن الآليات، وهنا يأتي دور التطوير وتوليد آليات جديدة، فيقول لك مثلاً: الدم الفلسطيني خط أحمر، حتى استخدام مثل هذه الشعارات أمر مهم مع الآلية نفسها.
أنا أعتقد أن إدارة الانتفاضة وقوى الممانعة وقوى المقاومة لديها رصيد من العلاقات التاريخية ورصيد من الثقة بين العناصر المختلفة، وأشكال تنظيمية واتفاقات واقتراب، هذا الرصيد موجود لدى حماس وموجود في المجتمع الذي ستواجه به التحديات.
ثم هناك بعد ذلك إدارة السلطة؛ تختلف عن هذا وذاك؛ لأن فيها عنصراً زائداً، وهنا تكمن مشكلة من عدم اليقين إزاء الحالة الموجودة والتي هي إدارة السلطة في دولة احتلال وهو أمر صعب جداً، وهنا تكمن عبقرية الشعب الفلسطيني؛ وهذه لا بد من أن تدرس: كيف يُتَعامل مع الهموم الثقيلة؟
نمط الحركة السياسية، ونمط الأداء السياسي.
نمط الحركة السياسية يتضمن مساراً، ونمط الأداء السياسي يتطلب مساراً.
إذاً نحن فعلاً أمام هذه المعضلة التي تتعلق بالكلام عن معادلة الثوابت والضغوط، معادلة التحدي والاستجابة. طبعاً الاستجابة التي تحدث في هذه العوامل والرصيد مهما كان نستطيع أن نقول إنه رصيد ليس بالقليل، لكنه أيضاً ليس بالكثير وخاصة هناك مطالبات عجيبة جداً ... مطالبات بالمرونة ... مطالبات بالواقعية ... مطالبات تتخطى حد الواقعية إلى الوقوعية، يعني أنت منهزم منهزم. ودعنا نضع سيناريوالانهزام: دون أن يعطيك فرصة نهائياً لكي تلتقط أنفاسك كي تواجه مثل هذه التعارضات أو تفكر تفكير العزة، ومتى ما أعملت عقلية العزة عند ذلك تبتدئ متوالية الحلول لتقابل استراتيجية الأهوال.
^: وماذا عن السيناريوهات المحتملة والمتوقعة؟
أولاً: سيناريو الفوضى وهو مرفوض ولا بد من التفكير فيه؛ لأننا حين نفكر في سيناريو إيجابي لا بد أن نفكر في السيناريو السلبي المقابل له لمنعه أو توفير عوامل تمنعه أو تضغط عليه بحيث لا يتطور إلى هذا الطريق.
ثانياً: في المقابل هناك سيناريوهان إيجابيان:
إما أن تشكل حماس حكومة وحدها، وإما أن تشكل حكومة وطنية، وهذان السيناريوهان أو الاحتمالان اللذان يجب أن نتوقف عندهما في هذا: هل من الأصلح أن تقوم حماس بتكوين حكومة خاصة بها؟ وهذا في الأداء السياسي سيتطلب نوعاً من الخطاب معين ـ لأنه معروف ما هو خطاب حماس ـ وأداء سياسي معين. أم أن حماس ستقود حكومة وحدة وطنية؟ في هذا المقام يجب أن تتأخر ما استطاعت لاعتلاء السلطة وتكوين بنية فكرية وثقافية وإقناعية لهذا الأمر الذي يتعلق بالسلطة. أنا أميل للاختيار الثاني.
المستوى الأول: هو المستوى الذي يتعلق بفكرة التهيئة للسيناريو أو ما يمكن تسميته بالبنية التحتية لهذا السيناريو: تهيئة الأرض أو حرث أرض هذا السيناريو.
ثم المستوى الثاني: وهو عملية التأسيس لهذا السيناريو أي وضع الأساسات التي تتعلق بهذا السيناريو.
ثم المستوى الثالث: وهي عملية استقرار السيناريو، وهنا الحديث عن آليات الاستقرار.
ثم المستوى الرابع: آليات الاستمرار لهذا السيناريو.
ثم خامساً: آليات التمكين لهذا السيناريو، وأقول عند التفكير في أي سيناريو علينا أن نفكر في هذا كله واحتمالات تغيير هذا السيناريو والمعوقات.
لا بد أن يكون هناك فعل إيجابي مبني على تفكير إيجابي في الوسائل والأدوات والأساليب وفقاً للقاعدة الأصولية: (إذا ضاق الأمر اتسع) .(222/21)
أيا قمرَ القدسِ كيف تنام؟
عز الدين سليمان سليمان
- 1-
يطير الحمامُ، يطير الحمامْ
ومئذنةُ القدسِ تعلو، وتعلو
ويشربُ من راحتيها الغمامْ
سئمنا الكلامْ
وجرحُ العروبة يبكي ويضحكُ
أين السّلامْ؟
شهيدٌ يغيبُ، ويأتي شهيدٌ
يفجّر شمسَ الحياة بكهف الظَّلامْ
فيا قمرَ القدسِ كيف تنام؟
ـ 2 ـ
تغنِّي العصافيرُ رغم الحصار
ورغم الدمار
وتنمو السَّنابلْ
وخلفَ المتاريس طفلٌ
وخلفَ النَّوافذ شيخٌ
وخلفَ الرَّماد عيونٌ تقاتلْ
و (آياتُ) تمضي
وزغردةُ الأمِّ حين أعادوا إليها
ثيابَ العروس، وساعتَها، وبقايا الجدائلْ
وحين أعادوا خلاخيلها
أكان الرَّبيع يغنّي بعرس الزَّلازلْ؟
وأشجار غزَّة صارت صبايا
تهزُّ سياط البروق، وتجلد جلادها
وترمي على الغافلين القنابلْ
وتوقظ كلَّ النّيامْ
فيا قمر القدس كيف تنام؟
ـ 3 ـ
أَمِنْ لغة الصَّمتِ؟
من أبجديّة موت الينابيع والأغنياتِ
ورعشة هذا التراب الحزينْ؟
ومن زغردات النّساء،
وجرح القرنفل والياسمين؟
وكوفيّةٍ قبَّلتها الشّموسُ
ورشّاسِ طفلٍ يرى الموت حلماً جميلاً
على صدر «يافا»
ودفتر رسمٍ، وقطعة حلوى
يسافر في موكب الخالدينْ
أَمِنْ ضحكة النَّهر فكَّ إسار يديه يلوِّح بالماء
حين يعود الجنود إلى موتهم سالمين؟
ومن عطر ليمونةٍ حرستْها عيونُ العصافير
أخفَتْ حِزامَ القناديل في صدرها
وراحت تظلِّل أبطالنا العائدينْ
أَتعرفُ/آياتُ/ إلاّ الرحيلَ إلى مدن الموت والعاشقين؟
ولفّتْ على شعرها بيرقاً من لهيبٍ
وتهتف: الله أكبر، تمضي على موجةٍ من حنينْ
وتشعل قنديلها في الظّلامْ
فيا قمر القدس كيف تنامْ؟
ـ 4 ـ
عَصِيٌّ على الموت أنتَ
أيا وطنَ المكرمات الطَّريفَ التّليْد
فمن كلِّ بيتٍ
ومن كلِّ حقلٍ، وتلٍّ ووادٍ، ودفتر طفلٍ
ومدخنةٍ وكتابٍ وجمرٍ
وصحوٍ وغيمٍ
يطلّ الشَّهيدْ
و (آيات) تمضي على غيمةٍ من إباء
وترسم نهراً جميلاً، وسجّادة للصَّلاةِ
وتفَّاحةً من دماءْ
وتكتب في دفتر العشق أشعارها، وتزيّن وجه السَّماءْ
وتكتب: يا قدسُ تأبى الهوانَ نفوسُ الكرامْ
فيا قمر القدس كيف تنام؟(222/22)
لهذه الاسباب تتراجع أسئلة الثورة والدولة في تجربة حماس
ياسر الزعاترة
من حق الحريصين من العرب والمسلمين أن يتابعوا بكثير من العناية والقلق كل ما يتعلق بالفوز الكبير وغير المتوقع الذي حققته حركة حماس في الساحة الفلسطينية، بما في ذلك ما يتعلق بجدلية الثورة والدولة التي غالباً ما تحضر في تحولات كهذه.
ما يجب أن يقال ابتداءً هو: أن الحركات الإسلامية ليست ثورات اجتماعية أو سياسية كما هو النمط المعروف؛ بدليل حضورها في جميع المجتمعات العربية والإسلامية بوصفها حركات تطالب بإعادة الاعتبار للمرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع، تلك التي غُيِّبت بقوة دفع الخارج الاستعماري، وبتراجع الحاكم العربي، وهو ما يعني أنها ماضية في طريقها حتى لو لم يوجد ظلم بالمعنى الصارخ، وحتى لو لم يوجد احتلال خارجي كما هو الحال في فلسطين.
خلاصة القول هي أن الحركات الإسلامية لم تنشأ في الأصل كرد مباشر على الظلم أو الاحتلال الخارجي، بل كرد على تغييب المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع، وحماس ابتداءً جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الإسلامية التي برزت في الواقع العربي والإسلامي. وعندما لم يكن ثمة تديُّن في المجتمع الفلسطيني لم يقم آباؤها المؤسسون وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين بحمل السلاح ضد الاحتلال، بل عملوا على إعادة الاعتبار للدين في المجتمع، وما أن نجحوا في مسعاهم على نحو معقول حتى شرعوا يؤسسون لبنية تحارب الاحتلال.
بل إن بوسعنا القول إن جماهيرية حركة حماس كانت سابقة على حملها لهذا الاسم، وقبل حملها للسلاح؛ فقد كان التيار الإسلامي الفلسطيني الذي خرجت من رحمه يحصد ما يقرب من نصف أصوات الناخبين في الجامعات والنقابات قبل تأسيسها نهاية عام 1987.
في هذا السياق كان نشاط حماس شبيهاً بنشاط الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، أي تقريب المجتمع من الرؤية الإسلامية، ولما كان المسار النهائي للتحول يصطدم بواقع الاحتلال، فضلاً عن الواجب الإسلامي القاضي بضرورة إنهاء ذلك الاحتلال اليهودي لواحدة من أقدس بقاع المسلمين؛ فقد كان لا بد من حمل السلاح وتقديم التضحيات متزامنة مع مزيد من تقريب المجتمع الفلسطيني من الرؤية الإسلامية.
من هنا يمكن القول إن حماس ليست حركة ثورية بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها حركة مقاومة، ولكنها حركة إسلامية في الآن نفسه، أي أنها تقاوم الاحتلال، لكنها تنشد ما تنشده زميلاتها من الحركات الإسلامية، وهو إعادة الاعتبار للمرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع.
هل يُخرِج ذلك كله حماس من إطار إشكالية التحول من الثورة إلى الدولة الشائعة في الفكر والتاريخ السياسي؟
ليس بالضرورة، ولكنه يجعل تلك الإشكالية أقل حضوراً من التجارب الأخرى؛ لأننا إزاء حركة لها بنيانها القائم على مسألة الحكم الإسلامي، وليس مجرد التحرر من الاحتلال، أي أن مسار التحرر من الاحتلال سيمضي إلى جانب العمل على التمرد على مسار فرضه الخارج عنوانه التغريب أو تغييب الإسلام عن الواقع.
هنا يبدو من الضروري القول إننا لسنا من المؤمنين بعجز الحركات الإسلامية عن إدارة الدولة في العالم العربي أو الإسلامي، فهؤلاء الذين يديرونها هنا وهناك ليسوا عباقرة زمانهم لكي لا يتوفر في الحركات الإسلامية مثلهم، كما أن الأطراف الأخرى ذات المصداقية والخبرة لن تقول للإسلاميين (لا) إذا ما عرضوا عليها المشاركة في الحكومة أو السلطة.
أما الأهم من ذلك فإن محاكمة الإسلاميين على فشل هنا وآخر هناك فإنه لا يعني سوى المناكفة؛ ذلك أنها تجارب عانت من السيادة الناقصة للدولة ومن تدخل الخارج السافر في شؤونها الداخلية، فضلاً عن أن بضعة تجارب لا تعني الكثير؛ فقد مضت قرون من التدافع السياسي والحروب الأهلية حتى استقر النظام السياسي في الغرب على ما هو عليه، مع أنه استقرار هش لا تحافظ عليه سوى قدرة الدولة هناك على توفير الرفاه لمعظم مواطني الدولة، وهي قدرة لم تتوفر إلا بسبب النهب الاستعماري للشعوب الفقيرة. وعموماً ففي هذا السياق كلام كثير ليس هذا مكانه.
نقول ذلك؛ لأن هناك من سعى إلى الخلط بين فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وبين مسألة الفشل المتوقع والطبيعي للحركات الإسلامية في إدارة الدول في حال وصلت إلى السلطة؛ ذلك أن زهد حماس في السلطة وعدم سعيها الحثيث لتحقيق الغالبية التي تحققت لم يكن بسبب العجز عن إدارة الدولة، وإنما لاعتبارات تخص الوضع الفلسطيني ولا تتوفر في سواه، مع أن بعض قياداتها لم يعترفوا بعدم السعي إلى الفوز، وهو الأمر الذي يبدو طبيعياً في أي حال.
الوضع الفلسطيني يتمتع أو يعاني بتعبير أدق من فرادة تجعله أكثر صعوبة بكثير عما سواه؛ فنحن هنا لسنا إزاء دولة مستقلة ذات سيادة، حتى بمنطوق السيادة الناقص الذي تعاني منه الدولة القطرية العربية والإسلامية في ظل السيطرة الغربية على العالم.
السلطة الفلسطينية هي في واقع الحال وضع ملتبس بين الدولة المستقلة وبين الدولة أو المنطقة الواقعة تحت الاحتلال، والنتيجة أنها حكم ذاتي تحت الاحتلال، لكنه ليس حكماً ذاتياً يقبل وضعه ويتعايش معه، بل يصارع من أجل الخروج إلى أفق الدولة والاستقلال ومن أجل تحرير ما تبقى من أرضه، وما تبقى للمفارقة هو 98,5% من أرضه التاريخية إذا اعتبرنا أن قطاع غزة قد تحرر، مع أنه لم يتحرر بالكامل، وربما أكثر من 90% إذا اعتبرنا أن ما تتدخل السلطة في إدارته (إدارته وليس شؤونه السيادية) من الضفة الغربية هو ما يتركه الجدار الأمني الإسرائيلي منها.
في هذا السياق نحن أمام سلطة حكم ذاتي يتحكم الاحتلال بمداخلها ومخارجها، ويتحكم بمائها وكهربائها وحركة أفرادها، لكن ذلك ليس كل شيء؛ إذ إنه يتحكم بها من النواحي الأمنية ويدخل مناطقها وقت يشاء ويعتقل ويقتل على النحو الذي يحب.
في مقال نشرته صحيفة معاريف الإسرائيلية في 17/1/2006، قدم شلومو غازيت، وهو قائد سابق للاستخبارات في الجيش الإسرائيلي توصيفاً لوضع السلطة يستحق الإشارة؛ إذ قال ما نصه: «الحكم العسكري، رسمياً، قد انتهى، ولكن الاحتلال العسكري الإسرائيلي بقي إلى الآن ولم ينته، وإسرائيل تواصل العمل والنشاط في المناطق المحتلة، وهي تفعل ذلك الآن دون حدود ودون أي رادع، إضافة إلى ذلك فقد حولت إسرائيل احتلالها للأراضي المحتلة خلال السنوات العشر الأخيرة إلى «احتلال ديلوكس» ليس من ناحية ما يحصل عليه المواطن الفلسطيني منها، ولكن من ناحية الطريقة المريحة التي تدير بها ذلك الاحتلال» .
هذه هي السلطة التي يريد بعضهم امتحان حماس من خلالها، هل هي قادرة على تحقيق المعجزات أم لا، وهذه هي السلطة التي يعتقد بعض الناس أنها الدولة التي ستُفقِد حماس براءتها الثورية.
لكن ذلك ليس كل شيء؛ فنحن في الحالة الفلسطينية لسنا أمام صراع عادي بين شعبين أو دولتين، بل أمام صراع له امتداداته العربية والإقليمية والدولية؛ إذ إن المحتلين هم الشعب الأكثر نفوذاً في العالم هذه الأيام؛ ومن أجله يقف العالم على قدميه ويُستَنْفَر على نحو استثنائي.
إنه صراع تاريخي معقد، هو الأكثر أهمية بالنسبة للإمبراطورية الأكبر في التاريخ ممثلة في الولايات المتحدة، ليس فقط تبعاً لأهمية الدولة العبرية بالنسبة لمصالح تلك الإمبراطورية، وإنما أيضاً بسبب هيمنة اليهود، بل الليكوديين من بينهم على القرار السياسي.
الذي لا يقل أهمية عن ذلك بالنسبة لحركة حماس هو أنها إزاء سلطة بنيت في ظروف استثنائية، لا كما تبنى الدول؛ فقد بنيت على أساس فصيل واحد يتحكم بكل شيء فيها، وهو الذي يتحكم بالأجهزة الأمنية والمخابرات عموماً، فضلاً عن الوزارات والمؤسسات.
وعندما نتحدث عن سلطة أقيمت في ظل ظرف استثنائي وفي ظل رفض عارم لمسار أوسلو الذي أنتجها، على حين أسسها وتزعمها فصيل معين، فإننا نتحدث عن سلطة أقيمت على نحو فاسد من رأسها حتى أخمص قدميها، وهو الأمر الذي يؤكد أننا إزاء وضع بالغ التعقيد.
قد يقال هنا: ولكن لماذا تشارك حماس في وضع من هذا النوع؟ وهنا نشير إلى معارضتنا لتلك المشاركة من الأصل؛ إيماناً منا بأن خيار الأقلية مشكلة، لكن خيار الأغلبية مشكلة أكبر، على حين رأى المؤيدون الذين لم يخطر ببالهم الفوز بالغالبية بحال من الأحوال إمكانية تحقيق جملة من المكاسب من الوجود في المجلس للتشريعي، على رأسها تخفيف أعباء المرحلة السياسية الجديدة ممثلة في خريطة الطريق ومتطلباتها التي تستعيد متطلبات أوسلو في مطاردة الفصائل وتفكيك بنيتها التحتية.
ما نريد قوله هنا هو أن محذور التحول من الثورة إلى دولة ليس وارداً بالمعنى المتداول؛ إذ إن الدولة ليست متوفرة، بل هي مجرد سلطة وجد الاحتلال فيها حلاً للتخلص من عبء إدارة السكان الفلسطينيين، وهو الذي لم يكن بوسع حماس أن تغيره بعد أن غدت تلك السلطة موضع اعتراف عربي ودولي.
وإذا أضفنا إلى ذلك هيمنة فتح شبه المطلقة عليها، ومن ثم إعلانها الاستعداد للقتال من أجل استمرار فرض سلطتها، فإن الوضع سيكون معقداً إلى حد كبير، ولا يستبعد أن يصار إلى الانقلاب عليه في لحظة من اللحظات، سواء كان ذلك بدعوى التناقض بين صلاحيات الرئيس وصلاحيات الحكومة، أم بدعوى الحرص على مصالح الشعب الفلسطيني التي تهددها حماس بتناقضها مع الوضع الدولي.
ثمة جانب على درجة من الأهمية يتعلق بمسار التسوية وعدم إمكانية الوصول إلى أفق الدولة بالمعنى المطروح، حتى في إطاره العربي ناقص السيادة؛ ذلك أن من عجزوا عن التفاهم مع ياسر عرفات ومن بعده مع محمود عباس، سيعجزون بالتأكيد عن التفاهم مع حركة حماس؛ اللهم إلا إذا افترضنا أن حماس ستتنازل أكثر من الآخرين، وهو الأمر الذي لا يبدو ممكناً بحال من الأحوال، ولو حصل لانفض الناس من حولها، ليس بعد أربع سنوات، بل ربما قبل ذلك.
من هنا يبدو أن امتحان الدولة غير وارد إلا في حده الأدنى من حيث امتحان التعامل مع هياكل للسلطة هنا وهناك، وهو امتحان سهل إلى حد كبير في ظل استمرار التحدي مع الاحتلال ورقابة حثيثة من الأطراف الأخرى، سواء كانت منظمة فتح أم الجهاد أم سواهما.
وفي العموم فإن تجربة حماس في الخدمات العامة كانت ناجحة إلى حد كبير، أما الأهم من ذلك فإن وضع الاحتلال الذي سيبقى قائماً لن يدع مجالاً للترهل؛ فمشروع الدم والشهداء سيبقى فاعلاً وطازجاً بما لا ينطوي على تقاتل على المكاسب كما تعرفه عوالم السياسة.
خلاصة القول هي أننا إزاء تجربة مختلفة عن تجارب تحوُّل الثورات إلى دول. أما المقارنة مع تجربة فتح في سلطة أوسلو فلا تبدو صحيحة؛ لأن الفساد الذي كانت تعرفه أوساط فتح ومنظمة التحرير كان سابقاً على ذلك، عندما نتذكر أن موضوع الدم والشهادة قد غاب قبل انتفاضة الأقصى، في حين كان الإسرائيليون يعملون جاهدين على إفساد السلطة حتى تكون سهلة الانقياد لهم.
الصراع ما يزال طويلاً وليس لدى الإسرائيليين ما يقدمونه للفلسطينيين، ولذلك لن تتحول حماس إلى دولة؛ لأن مسيرة تحقيق الدولة ما تزال في بدايتها، وهي مسيرة ما زالت عطشى للمزيد من الدم والشهداء(222/23)
223 - ربيع الأول - 1427 هـ
(السنة: 21)(223/)
من هشيم الرواية
التحرير
للأدب بفنونه المختلفة ـ وخاصة القصة والرواية ـ أثر كبير في نقل الأفكار والأخلاق. واللافت للنظر أن عدداً من الروايات ـ أو سمِّها إن شئت السير الذاتية ـ نُشرت من بعض المؤلفين الخليجيين تحكي قصصاً من المجتمع المحلي.
من الناحية الفنية قد لا تستحق أكثر تلك القصص شيئاً من العناية والاهتمام، لكن تواطؤها في سرد التجارب الشخصية أو حكاية جزء من الواقع القريب من كَتَبَة تلك الروايات هو الذي يستحق الاهتمام من عدة أبعاد:
البعد الأول: ضخمت تلك الروايات الغثاء الأخلاقي، والتحلل الاجتماعي في المجتمع المحلي المحافظ بصورة مبتذلة، وأشعرت القارئ بإيحاءاتها المباشرة وغير المباشرة أن تلك المستنقعات الآسنة تجري في جميع شرائح المجتمع، وأن ذلك هو الواقع الحقيقي وإن اجتهدنا في التستر عليه بقشرة رقيقة خادعة.
ومحصلة ذلك: أنه من العبث الذي لا طائل من ورائه إخفاء تلك الحقيقة سواء أكان ذلك على مستوى الحكاية أم على مستوى الممارسة الفردية والجماعية.
البعد الثاني: أبرزت تلك الروايات القلق الفكري، والاضطراب الذي يسيطر على تلك الشرائح المتأزمة التي يتحدث عنها أولئك القصاص؛ فأبطالهم يتنازعهم تياران: أحدهما: تيار القيم والمبادئ الإسلامية الراسخة في المجتمع، والآخر: هشيم الأفكار والشعارات التي يلمع بريقها من المشرق أو المغرب، وكان لا بد من الصراع بأشكاله المختلفة لتنتصر في آخر المطاف شعارات التحرر والحداثة، وتكون تجاربهم أنموذجاً عملياً لزرع أنماط ثقافية واجتماعية تفرض نفسها بسياسة الأمر الواقع، وليس بسياسة استجداء الإذن من أحد..!
البعد الثالث: محصلة تلك الروايات الدعوة الصارخة إلى الثورة.. الثورة بكل تبعاتها.. الثورة على الجذور التاريخية.. الثورة على الثوابت الفكرية.. الثورة على القيم.. ليس ذلك فحسب، بل الاستعلان بها، ورفع الصوت بكل جرأة واستعلاء، تختلف حدته من رواية لأخرى.. لكنها تتفق جميعها في المبدأ.
إنها حالة من الارتباك الفكري والسعي المتوتر لإنشاء مسخ ثقافي واجتماعي هويته الوحيدة أو الرئيسة الانقلاب على الذات..!!(223/1)
عذراً حبيب الله.. فسوف يعلمون
التحرير
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن عظمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومنزلته الجليلة، لا يستطيع الجُهَّال والضُلاَّل أن يفقهوها، ولا يقدر الأغمار من الكفار أن يعوها ويفهموها؛ كيف وهم الذين لم يعرفوا لرب الكون الذي أرسل محمداً قَدْراً، ولم يعظموه ـ سبحانه ـ أو يوحدوه وهو الذي خلقهم ورزقهم، وملك ضرهم ونفعهم، وبيده حياتهم ومماتهم.
إن عظمة النبي الأكرم، محمداً -صلى الله عليه وسلم-، التي تَطاوَل عليها سفهاء الروم ـ ولا يزالون ـ لا تزيد المؤمنين به، إلا محبة له، وتوقيراً لمقامه ورغبة في الاجتهاد في تعزيره وتوقيره واتباعه والدفاع عنه.
كيف وإيمانهم لا يصح إلا بالشهادة له بالرسالة، بعد الشهادة لله بالوحدانية، وأبواب الجنة مغلقة دونهم إلا أن يأتوا من طريق رسالته، وسبل هدايته وسنته.
ألم يعلم أولئك السفهاء من الناس في أوروبا، أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو الذي انتهى إليه وحده، عبء القيام بأكبر مسؤولية في التاريخ، ألقيت على عاتق بشر، فكان قَدْره وقَدَره أن يتحملها على كاهله فريداً، بمقتضى الأمانة التي حُمِّلها فتحملها، للقيام بتنفيذ المهام الجسام، التي تتطلب تقويم ما اعوج في حياة البشرية بعد أن آل أمرها إلى فساد عام شمل كل أرض، وعم كل جنس، وتسرب إلى كل ملة.
لقد قال الله له: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] .
فما كان منه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلا أن سارع لرفع الحمل، ردءاً للصلاح، ودرءاً للفساد.
إن المهامَّ التي طُلِبت منه ـ بآبائنا هو وأمهاتنا ـ لتصحيح أوضاع البشرية، كانت بالغة في ضخامتها وجسامتها؛ بحيث لا يستطيع أحد من البشر ـ إلا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتصدى لها؛ فبماذا كُلِّف، وماذا أنجز، ومِمَّ بدأ، وإلى أين انتهى لتغيير دفة التاريخ الإنساني، كي يعود به إلى مساره الصحيح؟
إن الجواب على ذلك ـ ولو باختصار ـ قمين بأن يكشف اللثام عمن هو صانع أكبر معجزة واقعية في التاريخ ـ بإذن من الله ـ وبيان ذلك على ما يلي:
أولاً: كان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن يبلِّغ كلمة الله الأخيرة للبشر كافة في جميع الأرض؛ فرسالته لم تكن محلية ولا إقليمية ولا قومية كسائر الرسالات التي بُعث بها الأنبياء قبله. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] .
فرسالته التي كُلِّف بإبلاغها ـ وهي إعادة البشرية إلى التوحيد ـ كانت تستهدف الإنسان، دون قيد الزمان أو المكان، ولم يكن مطلوباً منه البلاغ فقط، حتى يضم إليه البيان: {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ، ولم يكن مكلفاً بالبيان النظري، دون أن يضم إليه البيان العملي اعتقاداً وعبادة وسلوكاً، على أتم ما ينبغي في أداء العبودية التامة التي تجعل منه الأسوة المحتذاة والقدوة المتبعة في كل ما يتعلق بأمور المعاش والمعاد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} . [الأحزاب: 21]
ثانياً: كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقدم للبشرية كلها، هذا المنهاج الكامل الصافي، أن يواجه من أجناسها وأصنافها، ألواناً من الانحرافات العقائدية والتعبدية المتراكمة، خلال أزمنة الفترة التي خلا فيها الزمان من الرسل؛ فالشرك كان يضرب بأطنابه في أرجاء المسكونة، والخرافة كانت تنشر ألويتها حتى في مهابط الرسالات؛ فإضافة إلى مهمة إبلاغ المنهاج الكامل بالبيان النظري والعملي، كان عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج كل تلك الانحرافات العالمية، بالحجة واللسان، وبالسيف والسنان، سِلْماً مع المسلمين، وحرباً ضد المعاندين الصادين: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] .
ثالثاً: كان فساد العقيدة والعبادة، عند البشر عامة، والعرب خاصة، يستتبع فساداً في السلوك والأخلاق، وكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ينتدب لمهمة المواجهة العلمية والعملية لفساد العقيدة والعبادة، أن ينتدب أيضاً لمواجهة موجات الفساد الأخلاقي التي أصابت القيم الإنسانية بالتفسخ والتحلل، بسبب تراكم الضلالات والأمراض، فأضيف إلى مهام رسالته الكبرى، مهمة أخرى عظمى وهي: تقويم الأخلاق، وإصلاح القِيَم، وقد أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى مقام الأخلاق ومقدارها في رسالته، بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق» (1) .
رابعاً: لم يكن من المتوقع أن تقبل المجتمعات الآسِنة، أن تكون هادئة ساكنة وهي تخضع لهذه العملية العلاجية الكبرى، بما يصاحبها من لأواء الألم ومرارات التضحية بكل موروث ومألوف ومقدس لديها، فكان لا بد أن تتمنع أو تتمرد أو تنتفض أطراف منها بين الفينة والفينة، حتى تكاد تفتكك بمعالجها، وتقتل من يبذل نفسه لحياتها ونجاتها.
وما كان على المعالج الشفيق، والطبيب الحاذق، والنبي البر الرحيم، إلا أن يتحمل جهلها وجاهليتها، ويصبر ويصابر على أذاها وفتنتها، مع أن ما هو مقبل عليه، ليس علاج داء واحد لصنف واحد من البشر، ولكنه جملة من الأدواء المهاجرة والمستوطنة، يقف وراء أكثرها منتفعون من بقائها، ومتضررون من زوالها، ولهذا كان مطلوباً منه -صلى الله عليه وسلم- وهو يُقْبِل على علاج أدواء تلك الأمم، أن يستجمع في شخصه ما تفرق في شخصيات إخوانه من الأنبياء والرسل من الخلال والصفات التي واجهوا بها سائر الأمم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أُرسِل لسائر هذه الأمم، خاتماً لسائر هؤلاء الأنبياء والرسل، وقد قال الله له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف: 35] ، وقد صبر ولم يستعجل، وجمع بين وجوه العظمة في كل رسول ونبي قبله، فكان فيه ثبات نوح، وحلم إبراهيم، وأمانة يوسف، وقوة موسى، وصبر أيوب، وجسارة هود، وجرأة داود، وحكمة سليمان، وذكاء زكريا، وصفاء يحيى، ووَداعة عيسى ـ عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ـ.
خامساً: لم تكن الأجواء المحلية المحيطة برسولنا -صلى الله عليه وسلم- مهيأة لإعانته على مهمته؛ فلم يكن العرب مستعدين لتلقي العلاج، ولم يكن لديهم تَوْق إلى التغيير أو شوق إلى التجديد؛ ففي هذه الدائرة الضيقة التي كان يفترض أن تبدأ منها عملية التغيير في مكة، لم يكن العرب مرحبين أو راغبين في زعامة جديدة ذات منهج جديد كي يلتفوا حولها، ويَدَعوا مما أَلِفُوا ما كان عليه الآباء والأجداد، ويفارقوا ما نشؤوا عليه وعاشوا فيه من فَوْضى الجاهلية وتفويضها لهم في كل ما يشتهون؛ فكان عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبدأ بهم أولاً، مغالباً صلابتهم، ومجالداً حميتهم، وصابراً على أذاهم حتى يتغير منهم قوم يصلُحون لتغيير غيرهم، لتتكون له صحبة من الحواريين المهيَّئين لحمل مهمة التغيير في سائر العالمين؛ ولهذا قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، وقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214 - 215] .
سادساً: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مطالَباً، في أثناء وبعد عملية التغيير والبناء، أن يكون أداؤه متوازناً، وميزانه مُرْهَفاً، حتى لا تتولد عن عملية التغيير العالمي الحادِّ آثار جانبية سلبية، كأن تبرز ـ بعد إنجاز البناء ـ طبقة تعلو على طبقة، أو جنس يتعالى على جنس، أو عنصر يتميز بالسمو، أو آخر يستأثر بالسلطان، كما كان شائعاً في سائر عمليات التغيير عبر التاريخ، وكان محذوراً كذلك ـ أثناء وبعد هدم الأوضاع القديمة ـ أن تنشأ أحقاد، أو تولد ثارات، بسبب تطاير بعض الشرر الذي يصيب أهدافاً غير مقصودة، فيُظلَم بريء بلا جريرة، أو يُستَهدَف صنف بلا ذنب، أو تؤذى طبقة بغير موجب، وهي أمور يكاد يكون تلافيها مستحيلاً في عمليات التغيير الكبرى، ولهذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مطالَباً، بإرساء مبادئ عدالة عامة نزيهة متجردة دون أي نظر في التفضيل أو التقريب إلا بالميزان الذي يزن بكلمات الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .
سابعاً: لم تكن عملية التغيير تستهدف التغيير بحد ذاته، بمعنى هدم وتحقير كل قديم، وتمجيد كل جديد، بل كانت عملية التغيير تستهدف إزالة الفاسد، وإبقاء الصالح من موروثات الأمم، وفق ميزان الوحي، وقد كانت بعض الأمم المستهدفة بالتغيير، من أتباع أنبياء سابقين، وكانت لبعضهم موروثات حضارية مختلطة، وكان إلغاء بعض ما نقل عن الأنبياء من شرائع، مع الإبقاء على تقديرهم في نفوس أتباعهم، وكذا نقض عُرى بعض القيم الزائفة التي قامت عليها بعض الحضارات، مع عدم المساس بقيمة الإنسان في تلك الحضارات؛ كان ذلك عملاً يتطلب درجة عالية من التجرد والموضوعية، التي تُقنع أتباع النبوات السابقة، وأصحاب الحضارات الذاهبة، بأن الداعية الجديد لا يريد بناء مجد شخصي لذاته، ولا علواً عنصرياً لأمته، ولا تطبيقاً إجبارياً لنظرياته، وقد قام -صلى الله عليه وسلم- بهذه المهمة خير قيام، حتى خرجت أمم وشعوب كثيرة من دينها لدينه، وتنازلت عن شريعتها لشريعته، وتركت لغتها للغته غير نادمة ولا حانقة ولا ثائرة.
ثامناً: لم تكن عملية التغيير الكبرى التي كُلف بها نبينا -صلى الله عليه وسلم-، تستهدف إصلاح دين الناس دون دنياهم، أو سلوكهم الأخلاقي دون رقيهم الحضاري، ولم تكن أيضاً تركِّز على ترقيق القلوب في العبادة، دون الوصول إلى مراتب الريادة والقياة والسيادة في شؤون الحياة، بل كان كل ذلك مطلوباً، ليخرج الناس بهذا الدين من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وقد كانت أمة العرب، أحوج الأمم إلى البدء بها في النهوض الديني والدنيوي، وهذا ما كان لها على يد النبي القائد -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لم يلبث فيها بعد الرسالة إلا بضعةً وعشرين عاماً، حتى نقلها من دركات الجهالة والضلالة إلى أعلى درجات العلم والرقي، وحركها من سكك ودروب الضعف والهوان والتبعية والتعلق بأذيال الفُرس أو الروم، لتحلِّق في آفاق السمو والعلو والتمكين، حتى إنه لم تكن تنقضي حقبة زمنية أخرى موازية بعد زمن الرسالة، إلاَّ ولهذه الأمة بالإسلام عزة في الخافِقَيْن، وراية ترفرف في المشرقين: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}
[آل عمران: 164] .
تاسعاً: كان مطلوباً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقوم بمهام التشريع المتشعبة، وأدوار التنفيذ والتطبيق الشاقة، أن يتواءم سلوكه، وتتلاءم أخلاقه مع كل ما يقوله ويرشد إليه، وكل ما يسنه ويعمل به؛ فهناك قلوب وعقول وأعين وآذان تتطلع وتراقب وتتحسس وتقيس وتقارن، لتستلهم الأسوة وتقتفي الأثر، وتتبع الخُطى للاقتداء والاحتذاء في كل شيء كان يهدي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولما كان هديه -صلى الله عليه وسلم- شاملاً لكل شيء؛ فقد كان لا بد أن يكون هديه ـ وقد كان ـ أحسن الهَدْي. فمن الناحية العملية كان المراد منه -صلى الله عليه وسلم- أن يكون الأب الأسوة، والزوج الأسوة، والقريب الأسوة، والمحارب الأسوة، والصديق الأسوة، والعابد الأسوة، والتاجر الأسوة، والداعية الأسوة، والقائد الأسوة، وقد كان كل هذا شأنه ـ حقاً وصدقاً ـ صلوات الله وسلامه عليه.
عاشراً: لقد كان مطلوباً منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو يواجه تلكم المهام الكبار، ألا يواجهها وهو قائم مقام خطيب، أو جالس مجلس مفكر، أو قاعد مقعد حكيم، أو مستلقٍ استلقاء فيلسوف، وإنما كان مطلوباً منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يواجه الواقع العملي المحيط به، بتحرك عملي وواقعي، فردي وجماعي، ممثلاً في كيان قوي، ومجتمع مشيد، ودولة قائمة، وقد أقامها -صلى الله عليه وسلم- كأحسن ما تقام الدول، حتى استمر امتدادها لأكثر من ألف وثلاثمائة عام، وهي مؤهلة للعودة والاستمرار، كمعجزة باقية لإنسان واحد، هي في الحقيقة من أعظم معجزاته التي غفل عنها الغافلون.
- ومعجزة أخرى متجددة:
ألا وهي: أن هذه الأرض، بأركانها الأربعة، وقاراتها الخمس، وملياراتها الستة، وفي دورات أيامها السبعة، لَتشْهَدُ بأن اسم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يتردد على مدار ساعات اليوم، بل دقائق الساعة، بل ثواني الدقيقة، بل أجزاء أجزاء الدقيقة ... يتردد اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- كل لحظة تحت كل سماء؛ فما من نَسَمَةٍ مسلمة في أرجاء العالم المملوء بالمسلمين، إلا وهي تنطق اسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، مقروناً باسم الله الأعلى، في كل صلاة مفروضة أو مسنونة، وترددها في كل أذان أو إقامة، وفي الثناء والدعاء، والذكر والشكر ... فتبقى الأرض كلها تلهج باسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، من كل أصحاب اللغات واللهجات، ومن كل ذوي الجنسيات والعرقيات، ومن كل الأعمار في كل الأقطار، مقروناً باسم الله، ليصدق قول الله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1 - 4]
ولم نرد التوسع في ذكر معجزاته وأوجه عظمته الأخرى، واعظمها القرآن؛ لأن القوم لا يؤمنون إلا بما يحسون ويقيسون؛ فما ذكرناه معجزات وعلامات تميز وعظم، لو كانوا يعقلون.
- ثم مع كل هذا الإعجاز الملموس المحسوس يكابرون:
ومع كل هذه العظمة لتلكم الشخصية يتكبرون فلا يعتذرون عن الإساءة، بل يصرون ويتمادون ويتواصون؛ فعندما نُشِرت الرسوم المسيئة الفاجرة، للمرة الأولى في شهر سبتمبر من عام 2005م وقدم مسلمو الدانمارك احتجاجاً للحكومة؛ رُفض احتجاجهم، وعندما تقدموا لرفع قضية لمساءلة المسيئين؛ رفض المدعي العام رفع القضية، وعندما طلب أحد عشر سفيراً عربياً مقابلة رئيس الوزراء لتقديم الشكوى؛ رفض مقابلتهم، وعندما طالب العديد من المسؤولين الكبار من رؤساء وأمراء وسفراء وساسة بتقديم الاعتذار تجنباً للحرج أمام الشعوب الغاضبة؛ لم يُستجَب لأي منهم، بل أُعيد نشر الرسوم في أكثر من بلد أوروبي على وجه التعدي والتحدي والاستفزاز، حتى إن الجريدة الدانماركية سيئة الذكر، اختارت يوم عيد الأضحى لتعيد فيه نشر الرسوم، بينما اختارت جريدة فرنسية أخرى أول أيام العام الهجري، لتكرر نشرها!!
ومن يومها والمعاندون يتمادون، لا في الدانمارك فحسب، بل في كل دول الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرين، وعلى لسان مسؤولي هذا الاتحاد الذين أيدوا الموقف الدانماركي ورفضوا الموقف الإسلامي، بل حذروا من استمرار المقاطعة للدانمارك؛ لأنها في نظرهم تعد مقاطعة للاتحاد الأوروبي كله، بل تحايلوا على هذه المقاطعة، بوضع اسم الاتحاد الأوروبي على البضائع الدانماركية!
كان آخر المواقف المعاندة للمواقف الرسمية الإسلامية ما حدث مع وفد البرلمان الباكستاني الذي زار مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل في الفترة من 5 إلى 8 مارس 2006م، بتكليف من رئيس الوزراء (شوكت عزيز) ، للعمل على حلّ الأزمة مع أوروبا، إلا أن الوفد عاد خالي الوِفاض، دون اعتذار أو وعد بالاعتذار.
أما على المستوى الشعبي؛ فقد تحمس بعض الدعاة للذهاب إل (كوبنهاجن) عاصمة الدانمارك لعمل مؤتمر (للحوار الديني والحضاري) يعرضون فيه ـ باجتهاد منهم ـ على عدد من المثقفين ورجال الدين في الدانمارك، وجهة نظر العالم الإسلامي في غضبته من أجل نبيه -صلى الله عليه وسلم-، راجين متلطفين ملتمسين منهم أن يحترموا دين المسلمين، ويحثوا حكومتهم على ذلك، ولكنهم رفضوا مطالب وفد الدعاة الذين أُسقط في أيديهم؛ لأن الكثيرين من المسلمين نصحوهم وحذروهم من النتائج المحرجة لهذا المؤتمر، وقد حدث ما توقعه المحذرون؛ حيث رفض (المضيفون) المطالب المقدمة باسم المسلمين، وانتهى المؤتمر دون إصدار نتائج، أو بيان ختامي! وهو ما اعتبر فشلاً ذريعاً لفكرة الحوار مع (الآخَر) ؛ لأن هذا الآخَر، هو آخِر من يهتم بالحوار ـ في مثل هذه الأمور ـ إلا بمنطق الحديد والنار!
لقد بكى بعض المنظمين للمؤتمر من المسلمين أمام الدانماركيين، من هول المفاجأة من هذا السلوك المعاند الذي كان لا يتوقعه على أرض أوروبا (المستنيرة) وقال: «جئنا مع إخواننا بيد ممدودة لكننا لم نجد يداً تمد إلينا» !!
ولا ندري ماذا سيكون رد هؤلاء أيضاً على مؤتمر نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- المنعقد في البحرين مؤخراً، والذي احتشد فيه العشرات من العلماء والدعاة والمفكرين من أنحاء العالم الإسلامي ... فهل سيواصل الأوروبيون التحدي ... ؟!
إنهم إن أصرّوا على عدم الاعتذار، فيجب أن نقول لهم:
- لا تعتذروا!
ـ نعم!.. لا تعتذروا! فنحن نعلم أنكم لن تعتذروا، ولعل عدم اعتذاركم ينبه بقية الغافلين المخدوعين عن دفائنكم وخباياكم التي جلاّها نبينا وبيّنها كتاب ربنا.
ـ لا تعتذروا! فاعتذاركم ـ إن حصل ـ سيكون سياسياً أو دبلوماسياً أو حتى اقتصادياً، بسبب خسارتكم للمكاسب الدنيوية التي هي عندكم أقدس المقدسات.
ـ لا تعتذروا! فنبينا أغنى وأغلى وأعلى من أن نتكفف رد اعتباره منكم؛ فاعتباره مرفوع في السماء، قبل أن يُرفَع على الأرض، ومحفوظاً عند الخالق قبل المخلوقين.
ـ لا تعتذروا! فلعل عدم اعتذاركم، يعجل بانتقام الله منكم، وهو وحده القادر على أن يكفيه شر حقدكم، ويحوله إلى فتحٍ لدعوته واستجلاءٍ لشخصيته، ورفعةٍ لأتباع هديه وسننه.
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 94 - 97] ... نعم! {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .(223/2)
آداب مزاولة مهنة الطب من منظور إسلامي
أ. د. عبد الفتاح محمود إدريس
إن للطب آداباً يجب على من يمارس أعماله أن يترسمها، وأن لا يتنكب عنها، حتى لا يتعرض للمساءلة من الجهات التي تراقب مدى التزامه بآداب مهنته، والتي قد تؤاخذه على تقصيره في مراعاة هذه الآداب، بحرمانه من ممارسة عمله، وإلغاء ترخيصه بمزاولة هذه المهنة، وإغلاق عيادته أو المشفى الذي تم الترخيص له به، وقد تحيله هذه الجهات إلى المحاكم الجنائية، إذا كان إخلاله بهذه الآداب يمثل جريمة يعاقب عليها القانون.
وقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة في بيان الآداب الشرعية، التي ينبغي على من يعمل في مجال الطب أن ينهجها، وإلا كان آثماً شرعاً، وهذه الآداب يمكن حصرها في الاتجاهات التالية:
1 ـ آداب عامة يراعيها الأطباء في سلوكهم وعند مزاولة مهنتهم.
2 ـ آداب يراعيها الطبيب نحو المريض الذي يعالجه.
3 ـ آداب يراعيها الطبيب نحو المجتمع الذي يمارس فيه مهنته.
4 ـ آداب يراعيها الطبيب نحو زملائه في المهنة.
- أولاً: الآداب العامة:
وتتمثل هذه الآداب فيما يلي:
1 ـ أن يحافظ الطبيب على السلوك السوي لمهنته، وأن تكون حياته الخاصة والعامة بعيدة عن الشبهات، ويتأتى هذا بعدم مشاركته في الأنشطة التي لا تتفق وآداب مهنته، وأن يلتزم بالمبادئ العامة للأخلاق كما دعا إليها الإسلام إن كان مسلماً، أو كما دعت إليها الشرائع السماوية؛ فقد روى النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» (1) .
2 ـ أن يتخذ الطبيب لنفسه غاية في ممارسته لمهنته، وهي واجب المحافظة على الحياة الإنسانية، والدفاع عنها، وعلاج المرضى وتخفيف الألم عنهم، وذلك كله بقدر الاستطاعة، وأن يبذل جهده في تحقيق هذه الغاية، ولا ينبغي أن يكون دافعه من ممارستها تحقيق المنفعة الشخصية أو الكسب المادي. قال ـ تعالى ـ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] ، وينبغي عليه أن يؤمن بأنه لن يحصل من سعيه إلا ما قدره الله له، وأنه لن يموت حتى يستوفي ذلك كله؛ فقد روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب؛ خذوا ما حل، ودعوا ما حرم» (1) .
3 ـ أن لا يوجه الطبيب إمكاناته وخبراته للأذى أو التدمير، أو إلحاق الضرر البدني أو النفسي بالإنسان، مهما كانت الاعتبارات السياسية أو العسكرية؛ فقد نهى الشارع عن الضرر ومضارَّة المسلم؛ إذ روي عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (2) ، وروي عن أبي صرمة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من ضارَّ مسلماً ضارَّه الله» (3) .
4 ـ أن يعمل على تنمية خبرته في الطب؛ وذلك بالاطلاع على الأبحاث المتخصصة في مجال عمله، وحضور الندوات والمؤتمرات التي تناقش فيها الأعمال الطبية، والوقوف على ما قد يرد على النظريات المختلفة في التشخيص والعلاج من تعديل أو إضافة، وعلى الجديد في وسائل المداواة والمعالجة وغيرها من المجالات الطبية؛ فقد رغب الشارع في طلب العلم والتزود منه في نصوص كثيرة، منها: قول الله ـ تعالى ـ: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] .
5 ـ للطبيب أن يقوم بإجراء البحوث العلمية في مجال تخصصه، على ألا تشتمل حريته في البحث العلمي على قهر الإنسان أو قتله أو الإضرار به، أو تعريضه لضرر محتمل، أو التدليس عليه أو استغلال حاجاته المادية، ولا ينبغي أن تشتمل خطوات البحث العلمي أو تطبيقاته على أمر يعد من المحرمات التي حرمها الإسلام كالزنا، أو اختلاط الأنساب، أو التشويه والعبث بمقومات الشخصية الإنسانية عن طريق الهندسة الوراثية، لنهي الشارع عن ذلك كله، ومن الأدلة الدالة على تحريم ذلك قول الله ـ تعالى ـ في تحريم الزنا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] ، وقد ورد في تحريم انتساب الإنسان إلى غير أبيه ما رواه سعد بن أبي وقاص وأبو بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه؛ وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام» (4) ، كما ورد في تحريم إلحاق نسب مولود بمن ليس منهم ما روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يُدخِلها الله جنته» (5) . وورد في تحريم العبث بمقومات الشخصية الإنسانية عن طريق استعمال الهندسة الوراثية، واتباع الشيطان في غوايته إلى تغيير خلق الله ـ تعالى ـ قول الله ـ سبحانه ـ عن محاولة إبليس إيقاع الإنسان في هذه المعصية: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (6) [النساء: 119] ، ثم قال ـ سبحانه ـ محذراً من اتباع الشيطان في ذلك: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 119] ، وروى علقمة عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلِّجات للحسن المغيِّرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنتَ الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيِّرات خلق الله؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله ـ عز وجل ـ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] » (7) ، فهذه الأدلة وغيرها دليل على حرمة تغيير خلق الله ـ تعالى ـ والعبث في الصورة الإنسانية التي فطر الله ـ تعالى ـ الناس عليها، عن طريق إجراء التجارب التي يقصد منها هذا العبث.
- ثانياً: الآداب المتعلقة بالمريض:
وتتمثل هذه الآداب فيما يلي:
1 ـ أن يبذل الطبيب لمريضه النصح، وأن يفيده إفادة تامة عن كل ما يتعلق بمرضه؛ فقد روي عن تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الدين النصيحه ـ ثلاثاً ـ قلنا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» (1) .
2 ـ أن يصارح الطبيب مريضه بعلته إن كان في ذلك ما يفيده، وأن يختار الطريقة المناسبة لإنهاء حقيقة مرضه إليه، وليتلطف معه، وأن يعمل على إذكاء إيمان المريض وإنزال السكينة في نفسه، وتوثيق رباطه بالله ثقة يهون بها ما سواه؛ فقد روي عن عبد الملك بن عمير «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما زار أم العلاء الأنصارية وهي تتوجع، قال لها: أبشري يا أم العلاء! فإن مرض المسلم يحط الله به عنه خطاياه، كما يحط عن الشجرة أوراقها في الخريف» ، وفي رواية أخرى بلفظ: «فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه، كما تذهب النار خبث الذهب والفضة» (2) .
3 ـ أن يؤنس الطبيب مريضه ببشاشته وطلاقة وجهه؛ فقد روي عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» (3) ، وروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنكم لا تَسَعون الناس بأموالكم، ولكن لِيسَعْهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق» (4) . وينبغي على الطبيب أن يهوِّن عن المريض ما هو فيه من مرض، وإن رأى في مرضه ضرراً عليه تلطف في إبعاده عنه، واعداً إياه بذلك تطييباً لنفسه؛ فقد روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يسِّروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (5) .
4 ـ أن يكون عمل الطبيب مجرداً عن العوامل النفسية التي قد تؤثر في أدائه؛ فليس له أن يفرق بين المرضى بحسب الدين أو العقيدة، أو الفكر أو الجنس أو اللون أو نحو ذلك؛ فقد قال الحق ـ سبحانه ـ في النهي عن اتباع الهوى فيما يقوم به المرء: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
5 ـ أن يعالج الطبيبُ العدوَّ كما يعالج الصديق؛ فليس له أن يغير من طريقة علاجه مع أعدائه، وعلى الأطباء في المجتمع الإسلامي ـ بوصفهم أعضاء في المجتمع الطبي الدولي ـ أن يتعاونوا على الصعيد العالمي للدفاع عن الحياة ومعالجة المرضى؛ بحيث تؤدي هذه الغاية إلى تحقيق رسالة الطبيب في الحياة بالنسبة لجميع المرضى. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . [المائدة: 8] (6)
6 ـ أن يحافظ الطبيب على أسرار مريضه، سواء وصلت إليه عن طريق القول من المريض أو من ذويه، أو عن طريق الفحص أو التحليل، أو رآها الطبيب أو استنتجها من حالة المريض، وأن يحيطها بسياج من الكتمان، احتراماً للثقة الموضوعة فيه، بحسبان هذه الأسرار أمانة أودعها المريض أو ذووه عنده، أو أُودِعت عنده بمقتضى عمله، وقد أمر الله ـ تعالى ـ بحفظ الأمانات ورعايتها وعدم الخيانة فيها، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] ، وقال ـ سبحانه ـ في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] ، وقد اعتبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيانة الأمانة إحدى خصال النفاق؛ إذ روى عنه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» (7) ، ولا يخلُق بمسلم أن يتصف بصفة من صفات المنافقين.
7 ـ أن يجند الطبيب كل علمه وخبرته في أن يجتاز المريض ما بقي له من العمر في حسن رعاية، من غير ألم ولا عذاب، وذلك بما تهيأ له من أسباب العلاج والرعاية، وأن يبذل جهده في تحقيق ذلك؛ إذ أمر الله ـ تعالى ـ بالوفاء بما ألزم الإنسان نفسه به بمقتضى العقود، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، ونهى عن الخيانة فيما يؤديه الإنسان من عمل، وذلك بأدائه على الوجه الذي يؤدي إلى النتيجة المرجوة من أدائه، فقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] .
8 ـ أن لا يصف الطبيب دواء يقتل المريض أو يضر به، أو دواء يسقط الأجنة أو يؤدي إلى العقم من غير ضرورة إليه، أو أن يفعل بالمريض ما يضر به، لنهي الشارع عن الإضرار بالغير أو التسبب فيه.
9 ـ أن يستشير الطبيبُ غيرَه من الأطباء الذين لهم خبرة بالمرض الذي يعالجه، إن كان يجهل كيفية تشخيصه أو طريقة معالجته، لقول الحق ـ سبحانه ـ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ، وعليه أن يتنحى عن معالجة المريض، ليتركها لمن يكون أقدر عليها من الأطباء، إن كان لا يأنس من نفسه القدرة على ذلك؛ فقد روي عن زيد ابن أسلم «أن رجلاً في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصابه جرح، فاحتقن الدم، وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه، فزعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهما: أيكما أطبُّ؟ فقالا: أوَ في الطب خير يا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أنزل الدواءَ الذي أنزل الأدواء» (1) .
10 ـ أن لا يُنهي الطبيب حياة مريض ميئوس من برئه متعذب من آلامه، بل ينبغي عليه أن يخفف من آلامه بقدر الاستطاعة حتى يأتي أجله المحتوم؛ لأن إنهاء حياته قتل له بغير حق، وقد جاءت نصوص كثيرة تنهى عن ذلك، منها قول الحق ـ سبحانه ـ: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] ، وما روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجتنبوا السبع الموبقات! قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (2) .
- ثالثاً: الآداب المتعلقة بالمجتمع:
وتتمثل هذه الآداب فيما يلي:
1 ـ يجب على الطبيب في المجتمع المسلم أن يكون على علم بأحكام الإسلام التي تتعلق بمهنته، وأن يلتزم بها، حتى لا يكون منه فعل أو وصف مخالف لهذه الأحكام، ومن ذلك: الأحكام المتعلقة بما تشتمل عليه الأدوية من مفردات مباحة أو محرمة، والأحكام المتعلقة بالإجهاض والتلقيح الصناعي، وتنظيم النسل، والتعقيم، ومداواة أحد الجنسين للجنس الآخر، وما يتعلق بذلك من أحكام الخلوة، والنظر إلى ما يعد عورة، ومس ذلك من المريض أو المريضة، ونحو ذلك.
2 ـ أن يراعي طبيعة المجتمع وما جرت عليه عادات أفراده في الأمور المباحة، وذلك لتقرير ما يأخذ وما يدع من السياسات الطبية، حتى لا يكون فيما يتبعه من ذلك شذوذ، قد يضر بأفراد المجتمع الذي يمارس فيه مهنته، ولا يأتي بأفعال فيها مجافاة لما درج عليه المجتمع من عادات، لا تتعارض مع أحكام الشريعة.
3 ـ أن لا يقتصر دور الطبيب على مداواة المرضى، بل يجب أن يمتد ليشمل التنبيه على أساليب الوقاية من الأمراض المختلفة، وأن يهتم بمكافحة العادات التي تضر بأفراد المجتمع، كشرب المسكرات أو المخدرات، وأن يبين الأضرار التي تنشأ عن ذلك، أو عن عدم التمسك بالفضيلة والعفة أو بآداب الشرع الحنيف؛ لأن هذا من قبيل النصح الذي هو أحد ركائز الدين الحنيف.
4 ـ أن يستعين الطبيبُ بفقهاء الشريعة في إصدار الفتاوى ومساعدته بالرأي في المسائل التي يعتبر الترخص فيها بسبب المرض متوقفاً على رأي أهل الخبرة من الأطباء، وتلك التي يتوقف الحكم الشرعي فيها على قولهم، باعتبار ذلك شهادة منه فيما يتوقف الحكم الشرعي على قوله فيه؛ وقد نهى الحق ـ سبحانه ـ عن كتمان الشهادة، فقال ـ تعالى ـ: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، كما أنه يعد تعاوناً على البر الذي أمر الله ـ تعالى ـ به بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] .
- رابعاً: الآداب المتعلقة بزملاء العمل:
ينبغي على الطبيب أن يعامل زملاءه بما يحب أن يعاملوه به، وأن يحافظ على علاقته الطيبة بهم، وأن لا يقلل من علمهم أو خبرتهم أو مهارتهم؛ فقد روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً» (3) .
__________
(*) أستاذ الفقه المقارن بجامعتي الأزهر والإمارات والجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين (عون الباري على البخاري 1/217 - 219، السراج الوهاج على مسلم 6/54) .
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك والشافعي في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان وابن عبد البر في التمهيد، وسكت عنه النذري (مسند الشافعي 1/233، شعب الإيمان 2/67، التمهيد 1/284، الترغيب والترهيب 2/339) .
(2) أخرجه الحاكم وصحح إسناده (المستدرك 2/57) .
(3) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم، وسكت عنه أبو داود والسيوطي، وقال فيه الترمذي: حسن غريب (سنن أبي داود 3/315، سنن الترمذي 6/181، سنن ابن ماجة 2/785، الجامع الصغير 2/181) .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه 1/80.
(5) أخرجه ابن حبان في صحيحه وأبوداود والنسائي في سننيهما وسكتا عنه (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 6/163، سنن أبي داود 2/279، سنن النسائي 6/179 ـ 180) .
(6) والبتك: القطع، وبتك آذان الأنعام: أي قطعها. (مختار الصحاح /367) .
(7) الواشمة: هى التي تقوم بغرز الإبرة في الموضع الذى يراد وشمه، ثم تضع عليه الكحل أو النؤور وهو النيلج، والمستوشمة: هى التي تطلب الوشم، والنامصة: هي التي تزيل الشعر من وجه نفسها أو غيرها، والمتنمصة: هي التي تستدعى نتف الشعر من وجهها، والمتفلجة: هي التي تبرد ما بين الأسنان والثنايا والرباعيات، من الفلج وهو الفرجة بين الثنايا والرباعيات، تفعله العجوز ومن قاربها في السن إظهاراً للصغر وحسن الأسنان (نيل الأوطار 6/191 - 192) ، والحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين. (فتح الباري 10/377، شرح النووي على مسلم 4/102 - 103) .
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (السراج الوهاج 7/289) .
(2) أخرجه عبد بن حميد في مسنده، وأبو داود في سننه وسكت عنه المنذري، وأخرجه الطبراني في الكبير (مسند عبد بن حميد 1/451، سنن أبي داود 3/184، المعجم الكبير 25/141, الترغيب والترهيب 4/148) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 2/446.
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: حديث صحيح، وأخرجه البزار في زوائده، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم في الحلية، وذكره السيوطى في الجامع الصغير ورمز له بالحسن (المستدرك 1/ 124، حلية الأولياء 10/25، الجامع الصغير 1/103) .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه (عون الباري على البخاري 1 / 251) .
(6) والشنآن: هو البغض، والشانئ: المبغض (مختار الصحاح /12) .
(7) أخرجه الشيخان في صحيحيهما (عون الباري على البخاري 1/171، شرح النووي على مسلم 2/46) .
(1) أخرجه مالك في الموطأ وابن أبي شيبة في مصنفه مرسلاً، وذكره ابن حجر في فتح الباري وسكت عنه، وذكره ابن عبد البر في التمهيد (الموطأ / 673، مصنف ابن أبي شيبة 8/3، فتح الباري 23/388، التمهيد 5/263) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 1/92.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 2/423.(223/3)
إعداد القوة.. الواقع والمأمول
محمد بن شاكر الشريف
الحق له قوة ذاتية نابعة منه ومن تجافيه عن الباطل، ويستطيع دعاة الحق أن يصلوا به إلى عقول الناس، بما احتواه من الحجج والبراهين الدالة عليه، ولا يحتاج الحق في إقناع الناس به إلى قوة تجبرهم أو تُكرههم على القبول به واختياره؛ فإن قوته فيه، ومتى ما احتاج الحق إلى الإكراه لتحقيق الاقتناع بأدلته وبراهينه لم يكن حقاً؛ لذا جاء النص بنفي الإكراه في الدين؛ وذلك في قوله ـ تعالى ـ: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . فالإسلام دين حق عليه دلائل يقينية كل من اطلع عليها لا يملك غير التسليم بها والإذعان لها؛ فلا حاجة إذن إلى الإكراه عليه. قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّنٌ واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكرَه أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرَهاً مقسوراً» (1) . ولعل مجيء الآية بلفظ: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» ، وليس بلفظ: لا إكراه على الدين، مما يوضح ذلك، ثم كان قوله ـ تعالى ـ: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} كالتعليل لما سبق.
ورغم أن الحق منصور من داخله بأدلته وبراهينه، فلا بد له من قوة خارجية، لا لكي يفرض بها نفسه على الناس، وإنما يحتاج إليها لأمرين:
الأول: لكي تدافع عنه ضد عدوان المعتدين وصيال الصائلين الذين ختم الله ـ تعالى ـ على قلوبهم، وأصبح نهجهم العناد والمكابرة، والعدوان على المخالفين.
الثاني: جهاد الطغاة الظالمين الذين يصدون الناس بما لديهم من سلطان وقوة عن الاستجابة للنداء الحق، ويصرفونهم عن اتباعه، ويجبرونهم جبراً وقسراً على البقاء على دينهم الفاسد وعدم الإقبال على الدين الحق، ولأجل تلك الحقيقة شرع الله ـ تعالى ـ الجهاد.
لقد كانت مكة عند بداية الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ دار كفر وكان الغالب على أهلها الكفر بالله تعالى، واستمر ذلك زمناً طويلاً؛ لذلك لم يكن هناك من فائدة لإعداد العدة والقوة الحربية؛ لأنها في ظل موازين القوى غير المتكافئة لن تستخدم، ويكون استخدامها في ذلك الوقت المبكر من عمر الدعوة مدعاة للقول بأن الإسلام جاء من أجل قتال الناس، ولو قُدِّرَ له الانتصار لقالوا: إنما انتشر بقوة السيف ودخله الناس مكرهين ولم يدخلوا مؤمنين.
ثم إن ذلك قد يؤدي إلى أمر خطير لو قُدِّر للدعوة أن تنهزم وهو استئصالها في مهدها ومنعها من النمو، كما أن شرع الجهاد في ذلك الوقت المبكر لن يساعد على تربية المسلمين الذين استجابوا لله والرسول ولدعوة الحق.
ومع أن الإعداد الحربي في ذلك الوقت غير ممكن وغير مراد، لكن كان يجري هناك إعداد أهم بكثير من الإعداد الحربي، بل لا يقوم الإعداد الحربي إلاَّ عليه، فكان هناك إعداد أكثر أهمية يجري على أرض الواقع على بصيرة وجد واجتهاد، مع الروية وعدم العجلة، وهو بناء المسلم من داخله: عقيدته، وتصوراته، وعبادته.
وما إن انتقل المسلمون من دار الدعوة (مكة المكرمة) إلى دار الدولة (المدينة المنورة) حتى بدأت مرحلة جديدة من الإعداد وهو الإعداد الحربي، وجاء الأمر بذلك من الله ـ تعالى ـ رب الخلق جميعهم، فقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] ، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «أمر ـ تعالى ـ بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم} ، أي مهما أمكنكم {مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} » (2) ، وقال الطبري في بيان أنواع القوة بعدما تحدث عن الرمي: «ومن القوة أيضاً السيف والرمح والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم» (3) . وقال الطيب ابن عاشور: «والإعداد: التهيئة والإحضار، ودخل في (ما استطعتم (كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة. والخطاب لجماعة المسلمين وولاة الأمر منهم؛ لأن ما يراد من الجماعة إنما يقوم بتنفيذه ولاة الأمور الذين هم وكلاء الأمة على مصالحها، والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها ... فاتخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوة في جيوش عصرنا، وبهذا الاعتبار يفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثاً، أي أكمل أفراد القوة آلة الرمي أي في ذلك العصر، وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي» (4) .
فقد صار بالإمكان الآن ـ بعد تحيز المسلمين إلى دار تأويهم ـ استعمال العدة الحربية والاستفادة منها، وأصبح وجودها والتدرب عليها في هذه الحالة ضرورة لا بد منها حيث تُحِقق أهداف المسلمين، بعكس الحالة الأولى التي كان من الممكن أن تشكل عبئاً عليهم. وقد أطلقت الآية في بيان القوة التي ينبغي إعدادها من غير تقييد حتى يسمح إطلاقها بقبول ما يجدُّ من آلات القوة مع تغير الأزمنة، وهذا الأمر يفرض على جماعة المسلمين الجد والاجتهاد والمثابرة في تحصيل القوة الممكنة في عصرهم التي من شأنها أن تردع الكفار المحاربين أعداء الله ـ تعالى ـ ورسله والمؤمنين.
وفي الأمر بإعداد ما يستطاع من القوة نهي عن الإهمال والتقاعس عن امتلاك أقصى ما يمكن امتلاكه من القوة الحقيقية ووسائلها لا القوة الصورية أو الاستعراضية؛ فالأمة الإسلامية أمة رسالية، مطلوب منها تبليغ رسالة الله إلى العالمين.
وقد بَيَّن نص الآية السبب الذي لأجله أُمِرَ المسلمون بإعداد ما يستطاع من القوة، وهو قوله ـ تعالى ـ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فكان في إعداد القوة البالغة أمان للأمة من الأعداء المعروفين وغير المعروفين، حتى إنه ليخافها ويرهب جانبها من لا يعرفه المسلمون، مما يشكل رادعاً لمن تسول له نفسه مهاجمتهم أو التآمر عليهم، ويصير الإهمال في إعداد ما يستطاع من القوة مدعاة لأن يستخف بهم اعداؤهم ويتجرؤون عليهم.
هذا النص القرآني في وجوب إعداد القوة التي تخيف الأعداء بغرض تأمين الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ في أرض الله، وتأمين دار الإسلام ضد عدوان المعتدين، يفتح باب التصنيع الحربي أمام المسلمين على مصراعيه؛ لأن إعداد المستطاع من القوة لا يتم إلا بذلك، ومن القواعد المشهورة عند أهل العلم أن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) . ومن هنا يظهر وجوب إقامة المصانع الحربية التي تمد جيوش المسلمين بالآلة الحربية المناسبة لعصرهم في جميع المجالات الحربية: البرية، والبحرية، والجوية.
ويستتبع إقامة المصانع الحربية العناية بتدريس العلوم التقنية التي تُعَد بمكان اللبنة الأولى اللازمة لإقامة تلك المصانع، وتشجيع البحث العلمي، ورصد الميزانيات المناسبة له، وليس يُقبَل عقلاً أو شرعاً أن ميزانية بعض أندية الألعاب البدنية، أو مؤسسات اللهو كالسينما ونحوها في بلد مسلم واحد، تفوق ميزانيات البحث العلمي في بلاد المسلمين مجتمعة.
وقد ظهرت عناية الشريعة بالتصنيع الحربي لما له من أهمية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لَيُدخِل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ: صانعَه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممدَّ به، وقال: ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا، كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق» (5) ، وقد تناول هذا الحديث أموراً ثلاثة: رامي السهم وهو يمثل الجيش، وصانعه وهو يمثل الصناعات الحربية، والممد به وهو يمثل التموين والإمداد الذي تحتاج إليه الجيوش.
وقد بَيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهمية ائتلاف تلك العناصر الثلاثة، وأشركهم جميعاً في حصول الثواب؛ فلم يَقْصِرْ ثواب الجهاد وأجره على المجاهد الفعلي، بل جعل القائم بالصناعة الحربية شريكاً للمجاهد في دخول الجنة لما يترتب عليها من نشر الدين وحماية الحوزة، ولأن المجاهد بالفعل يحتاج في جهاده إلى الآلة الحربية المناسبة، وهذه لا يمكن الحصول عليها إلا بالتصنيع. كما بَيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهمية الإمداد والتموين؛ فقد يوجد المجاهد ويوجد السلاح، ولا يوجد من يوصل السلاح إلى المجاهد وقت الحاجة إليه، فلا بد من وجود من ُيمِدُّ بالسلاح ويوصله إلى من يجاهد به.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «صانعه يحتسب في صنعته الخير» ، يعني يطلب في صنعة السهم الثواب من الله تعالى، وهذا لا يعني أن لا يأخذ على ذلك أجراً، بل القصد أن يكون يريد بذلك العمل نصرة الدين والدفاع عن حوزة المسلمين.
وقد أشار القرآن إلى الصناعات الحربية في قوله ـ تعالى ـ: { ... وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ... } الآية [الحديد: 25] ، قال ابن كثير: «فيه بأس شديد: يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها» (6) والحديد لا يصير سيوفاً وحراباً ونصالاً إلا بالتصنيع، وكذلك قال ـ تعالى ـ ممتناً بتعليم الصناعة الحربية لعبده داود ـ عليه السلام ـ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] قال القرطبي: «قوله ـ تعالى ـ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80] : يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له. واللبوس عند العرب السلاح كله: درعاً كان أو جوشناً أو سيفاً أو رمحاً» (7) . وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 10 ـ 11] والسابغات: جمع سابغة، وهي الدرع التي تغطي المقاتل غطاء وافياً، والدرع: القميص من حديد أو غيره.
كما دلت النصوص على العناية بالمركبات الحربية التي يستخدمها المجاهدون، أو التي تنقلهم إلى ميادين الجهاد، مما يبين أن صناعة المركبات الحربية سواء كانت دبابات برية أو سفناً وغواصات بحرية أو طائرات جوية، ينبغي أن تلقى العناية أيضاً؛ فإن الجهاد بغيرها متعذر أو مستحيل في أيامنا.
ومن النصوص التي تحدثت عن المركبات الحربية قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} فالخيل هي المركبات الحربية في زمن نزول القرآن، وقد دلت السنَّة على العناية بالخيل ووردت فيها أحاديث كثيرة؛ فمن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده؛ فإن شِبَعه ورِيَّه ورَوْثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» (8) ، أي من هيأ فرساً وأعده للجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ طاعة لله ـ تعالى ـ وابتغاء وجهه فإن ما يأكله هذا الفرس من الطعام وما يرتويه من الماء، وما يخرج منه من بول أو روث كان ذلك كله حسنات توضع في ميزان ذلك الشخص، وهذا يدل دلالة واضحة على أهمية العناية بالمركبات الحربية. وأخرج البخاري في صحيحه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر: فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة؛ فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يُرِدْ أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر ... » الحديث (9) . ومعنى الحديث أن من أعد خيله للجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ فإنه يؤجر على كل شيء يتعلق بها؛ فلو ربطها في حبل طويل وتركها ترعى فإن كل مسافة مشتها وهي في الحبل كي ترعى كانت له حسنات، ولو أنها قطعت ذلك الحبل فاستنت أي أفلتت ومرحت شرفاً أو شرفين ـ والشرف ما ارتفع من الأرض ـ كانت آثارها وما تلقيه من فضلات حسنات له، ولو مرت بنهر فشربت منه من غير إرادة له في ذلك كانت أيضاً حسنات له؛ فكيف لو أراد؟ وهذا مما يدل على عناية الإسلام بكل ما يعين ويساعد على نشر الدعوة وحماية الحوزة، ومن ذلك بلا شك المركبات الحربية.
وقد بلغت عناية المسلمين بالسلاح وإعداد القوة اللازمة لنشر الدعوة وحماية الحوزة أن جعل أهل العلم السهمين الواردين في قوله ـ تعالى ـ: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ... } الآية [الأنفال: 41] في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. قال الأعمش عن إبراهيم: كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم: ما كان عليٌّ يقول فيه؟ قال: كان أشدَّهم فيه؛ وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم الله» (10) .
واستخدم الصحابة فمَنْ بعدَهم الآلات الحربية في الفتوحات كالمنجنيق (وهي الآلة التي تقذف بها الحجارة وما أشبهها) والعرَّادات (جمع عرادة وهي أصغر من المنجنيق) ، والدبابات (الدبابة: آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها، ويطلق عليها أيضاً الدراجات والضبور) ، ولم يتقاعسوا عن استخدام الأسلحة التي وصل إليها التقدم العلمي في عصرهم.
وقد اعتنى المسلمون إلى جانب ذلك بالصناعات البحرية لحاجتهم إلى السفن الحربية في نشر الدعوة والدفاع عن الديار، فأنشأ المسلمون بمصر في جزيرة الروضة (دار الصناعة لبناية السفن) لأول مرة وكان ذلك عام 54 هجرية (11) ، وفي سنة أربع عشرة ومائة أنشأ المسلمون (دار الصناعة لإنشاء المراكب البحرية) في تونس (12) ، وتوالى بعد ذلك إنشاؤها.
فإذا كانت النصوص الشرعية قد دلت على العناية بصناعة الأسلحة والمركبات الحربية، وعمل بذلك سلفنا الصالح، فإنه يكون من أكبر التقصير الذي تقع فيه الأمة اليوم أن تظل تعتمد في سلاحها الذي تحفظ به أمنها وتنشر به دعوة الله المكلفة بإيصالها للعالمين، على عدوها الذي لا يألوها خبالاً كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] .
ولا شك أن اعتماد الأمة في سلاحها على الشراء فقط دون التصنيع، له مفاسد كثيرة، منها: المبالغ الضخمة التي تُدفع في هذه الأسلحة التي تفوق بمراحل كثيرة قيمتها الفعلية، ومنها أن تلك الأسلحة لا يمكن أن تكون أسلحة متقدمة متطورة تغني في مواقع النزال مع أعداء الأمة، بل إن موردي السلاح من دول النصارى لا يعطون الأمة إلا الأسلحة التي لا تخل بميزان القوى بين الأمة وبين عدوها، بحيث تضمن تلك الدول للعدو أن يحقق التفوق الحربي على الدول العربية مجتمعة أثناء القتال، ومنه منع الإمداد بالسلاح أو الذخيرة وقت الحاجة إليه، فتقف الجيوش عاجزة عن التحرك، ويُفرَض على الأمة حينئذ ما يشاؤون من الحلول الانهزامية؛ وأمامنا ما حدث في قضية البوسنة والهرسك؛ حيث منع عنهم السلاح وهم يتعرضون للقتل الشديد من الصرب. ومن مفاسد الاعتماد في التسليح على الغير أن يكون قرار الأمة مغلولاً غير قادر على التحرر والاستقلالية، وهذا الوضع يؤدي إلى استخفاف كثير من الدول بالمسلمين.
إن من الأمور الغريبة التي يعسر إيجاد تسويغ مقبول لها أن تكون الأمة التي جعل الله الجهاد في سبيله لتبليغ رسالة رب العالمين إلى الناس كافة أحد فرائض دينها، ثم هي تهمل آلته وما يساعد عليه، رغم امتلاكها لكل ما تحتاج إليه مما يمكن أن يقيم صناعة حربية متطورة تزود الدول الإسلامية جميعها بما تحتاج إليه.
لقد أدى هذا الوضع إلى أن تُنْتَقَص بلاد المسلمين من أطرافها، ويحتلها الكفار من اليهود والنصارى وهم مطمئنون إلى عدم قدرة هذه الدول على الدفاع عن نفسها؛ لأنها لا تملك سلاحها الذي تدافع به عن نفسها.
لقد تطورت صناعة الأسلحة بما فيها المركبات الحربية في أيامنا هذه تطوراً مذهلاً، وقد بات الآن من الأمور الواضحة في فقه السياسة الشرعية وجوب القيام بالتصنيع الحربي في جميع المجالات، وجوباً لا يحتمل التأخير والمماطلة، وإذا كانت الأمة تعاني من تخلف كبير في هذا المجال فإنها يمكنها أن تتكامل في ذلك مع الدول الإسلامية المتقدمة في مجال التصنيع الحربي، وأن تبدأ من الآن، وتوجه الجهود، وتقيم مراكز الأبحاث، وترصد الأموال اللازمة، ومن سار على الدرب وصل ولو بعد حين.
إن من الأمور اللافتة للنظر والتي تبين الأهمية القصوى للتصنيع الحربي هو حرص الدول القوية في العالم على حرمان الدول الإسلامية من امتلاك الأسلحة القوية المتطورة ذات القوة التدميرية العالية الرادعة، مع أن هذه الدول تمتلك هذه الأسلحة وتستخدمها في معاركها ضد أعدائها، وتهدد باستخدامها ضد من يحاول امتلاكها، ولم تتوقف مراكز أبحاثها عن النظر في هذه الأسلحة وتطويرها وابتكار أشكال جديدة منها، وهو ما يعني إصرار هذه الدول على التفرد بالقوة الحقيقية في العالم، واستخدام الأسلحة المتطورة ذات القوة التدميرية العالية الرادعة ضد من يحاربونهم دون أن يخشوا من الرد بالمثل، وهو يكشف في جانب منه عن النظرة الاستعمارية أو الاستعلائية التي تملأ عقول النخب في هذه الدول، بإزاء الدول الضعيفة، والتي تريد أن تحولهم إلى مجرد ذيول لها وأتباع، وبغياب القدرة الحقيقية على الردع بحرمان الدول من امتلاك الأسلحة المناظرة وفرض ذلك بالقوة، يتحول العالم إلى غابة يأكل القويُّ فيها الضعيفَ ويملي عليه شروطَه، ولا يكون أمامه إلا أحد خيارين: إما القبول والإذعان لما يطلب منه، وإما الدمار، وفي ذلك تهديد للسلام في العالم؛ لأن من أَمِنَ العقوبةَ أساء الأدب.
والإذعان لهذا الوضع والقبول به والاستسلام له، معناه تحوُّل أمتنا إلى أمة تابعة لا تملك الدفاع عن نفسها أو مقدساتها، ولو كانت أمتنا الإسلامية تصنع سلاحها الذي تحتاج إليه بيد أبنائها كما كانت في الماضي، لما تجرأ عَبَدَةُ الصلبان على الاستخفاف والطعن في أفضل الناس وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
إنه ليس هناك ما يُسوِّغ لأحد التقاعس أو الإهمال في إعداد العدة المناسبة لعصرها، وقد تبين لنا جميعاً أنه لا يمكن الاعتماد أو الركون إلى ما يسمونه تطمينات أو وعود أو نحو ذلك؛ فالخطط معدة، والانقضاض على بلادنا ليس إلا مسألة ظرف مناسب؛ فالبدارَ البدارَ؛ فإن الندم بعد وقوع المصاب لا يجدي، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/416.
(2) تفسير ابن كثير 2/424.
(3) تفسير ابن جرير الطبري 6/274.
(4) التحرير والتنوير 1/1785.
(5) أخرجه الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، رقم 1561، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومن حديث عقبة بن عامر أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، رقم 2152. والنسائي كتاب الجهاد رقم 3095. وابن ماجه كتاب الجهاد رقم2801، وأحمد رقم 16662، وقال الأرنؤوط: حسن بطرقه وشواهده. والحاكم 2/104 من طريقين، وقال: صحيح الإسناد في إحداهما، وقال في الثانية: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(6) تفسير ابن كثير 4/403.
(7) تفسير القرطبي 11/280.
(8) أخرجه البخاري كتاب الجهاد رقم 2641.
(9) أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، رقم 2198.
(10) تفسير ابن كثير 2/410.
(11) انظر تاريخ الإسلام د. حسن إبراهيم 1/394.
(12) تاريخ ابن خلدون 4/24.(223/4)
التغيير ابدأ بنفسك
د. محمد بن عبد العزيز الشريم
يستسلم كثير من الناس عندما تواجههم مشكلات أو ظروف صعبة يعجزون عن التغلب عليها، فيقفون مكتوفي الأيدي حيالها. الأمر الأخطر من ذلك الموقف السلبي أن يظن الشخص أن هذا الاستسلام يعني تسليمه لقضاء الله وقدره، مع أن بين الأمرين اختلافاً كبيراً جداً؛ إذ إن الاستسلام يعني التوقف عن العمل وترك الأخذ بالأسباب الكونية التي جعلها الله ـ تعالى ـ علاجاً لمواجهة مثل هذه المشكلات. وأحياناً يعني الاستسلام عندهم عدم البحث عن تلك الأسباب. أما التسليم فيعني الرضا بما كتبه الله ـ تعالى ـ بعد استنفاد الوسع وبذل الجهد في البحث عن أسباب المشكلة وطرق علاجها، ومن ثم العمل بها على الوجه الصحيح.
يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . وهذه الآية الكريمة مليئة بالفوائد التي لا غنى عنها في صناعة التغيير. ومن أهم تلك الفوائد أن يراجع الإنسان نفسه وعلاقته مع خالقه، ويبتعد عن أسباب محق البركة. إلا أن هناك فائدة يمكن استنباطها من تلك الآية، ألا وهي أن أحوالنا اليومية لن تتغير أو تتحسن حتى نبادر نحن بتغيير أنفسنا. ومن أهم نقاط التغيير المثمر أن يغيّر الإنسان نظرته السلبية إلى واقعه حتى يمكنه التعامل معه بإيجابية تمكنه من مواجهة مشكلاته والتغلب عليها.
لقد نظمت الخنساء ـ رضي الله عنها ـ قصائد من أجمل ما قيل في الرثاء بعد مقتل أخيها صخر في الجاهلية، ولكنها بعد أن أسلمت لم تقل بيتاً واحداً في رثاء أحد من أبنائها الأربعة عندما أتاها نبأ مقتلهم جميعاً، بل احتسبت شهادتهم عند الله. ومعلوم أن الولد أعز من الأخ، خاصة بعدما كبرت الخنساء في السن وضعفت وازدادت حاجتها لمساندة أبنائها. فما الذي تغير؟! لقد علّم الإسلام الخنساء معنى آخر للموت والحياة، ومعنى آخر للفقد والكسب؛ ولذلك فإن نظرتها الجديدة لموت المقربين لها ساعدتها على التعامل مع الموقف نفسه بإيجابية عالية، بدلاً من السلبية التي أظهرتها زمن الجاهلية في رثاء صخر بلا فائدة.
- النظرة الإيجابية:
في كثير من الأحيان تواجهنا مشكلات عويصة بالفعل أو أوضاع صعبة جداً، ولكننا يجب علينا ألا نجعل من تلك المشكلات التي لا نستطيع حلها عوائق (نفسية أو مادية) تمنعنا من النظر بإيجابية لواقعنا. فأحياناً يكون حل المشكلة أمام أعيننا ولكننا بحاجة للالتفات يمنة أو يسرة حتى نضع أبصارنا عليه ونراه حلاً للمشكلة التي تشغل أذهاننا.
تلقَّى أحد الفنادق العريقة شكاوى متعددة من النزلاء بأن المصاعد تستغرق وقتاً طويلاً جداً حتى تصل إلى النزيل بعد طلبها. أحال المسؤولون في الفندق هذه المشكلة إلى شركة هندسية متخصصة لإعداد تقييم لأداء المصاعد وتقديم مقترح لعلاج مشكلة بطء وصولها. جاء في تقرير مهندسي الشركة أن المصاعد قديمة ولم تعد مناسبة للعمل بشكل يتوافق مع معايير الأداء في مثل هذا المبنى، ولذلك يجب تغييرها لتجاوز مشكلة الشكاوى المتكررة من النزلاء. بلغ تقدير التكلفة الأولى لإزالة المصاعد القديمة وتركيب أخرى حديثة مئات الألوف من الدولارات، ولذلك ترددت إدارة الفندق في اعتماد التغيير.
عُرِض الأمر على أحد المتخصصين في حل المشكلات الإدارية واتخاذ القرارات الاستراتيجية، فقدم مقترحاً لحل المشكلة لم تتجاوز كلفته بضع مئات من الدولارات. لم ينظر الخبير إلى المشكلة من الزاوية نفسها التي نقلها إليه المسؤولون في الفندق، وهي بطء وصول المصاعد إلى النزلاء عندما يطلبونها، ولكنه نظر إليها من زاوية مختلفة، ألا وهي تقدير الوقت في أذهان النزلاء؛ ولذلك فكر في حيلة يقضي بها على شعورهم بطول وقت الانتظار. ولذلك كان الحل الذي اقترحه الخبير في غاية البساطة، ألا وهو تركيب مرآة بطول الإنسان أمام بهو المصاعد في كل دور. قامت إدارة الفندق فعلاً بتركيب تلك المرايا وتناقصت الشكاوى بشكل ملحوظ بعد ذلك؛ لأن النزلاء كانوا يمضون وقت الانتظار بين طلب المصعد ووصوله إليهم في الاعتناء بمظهرهم وتعديل هندامهم، فلا يشعرون بطول الوقت حتى يكون المصعد قد وصل إليهم.
وكان (إيرل ديكسن) يعمل في شركة جونسون آند جونسون (أكبر مُصنِّع للأشرطة الطبية اللاصقة في أمريكا) ، وكانت زوجته كثيراً ما تجرح يدها أثناء عملها في المطبخ، وكان يباشر علاجها بنفسه، وذلك بوضع قطعة من الشاش على مكان الجرح ويمسكها حتى يتمكن من تثبيتها باللاصق الطبي فوقها. فكر ديكسن في طريقة يمكن لزوجته أن تضع الضمادة على الجرح بنفسها في غيابه. أخذ قطعة من الشاش ووضعها في وسط اللاصق، ولكنه خشي إن تركها أن تجف ولا يمكن لصقها. بحث (ديكسن) حتى وجد قماشاً أملس يمكن لصق الضمادة الجديدة عليه؛ بحيث يسهل على زوجته نزعها عند الحاجة ووضعها على الجرح بمفردها. عرض (ديكسن) فكرته على شركته فأعجب المسؤولون بها وتبنوا تصنيعها على نطاق تجاري كما نرى اليوم؛ حيث لا يكاد يخلو منزل في العالم من تلك اللواصق.
- لماذا لا نغير نظرتنا للمشكلة؟
كثيراً ما يفيد النظر إلى المشكلة من زاوية مختلفة في تقديم حلول مبتكرة وسهلة واقتصادية، لكن العقل البشري يميل إلى مقاومة البحث عن أسباب أخرى يفسر بها المشكلة التي تواجهه؛ وذلك بسبب الانغماس في المشكلة وعدم القدرة على النظر إليها من زوايا متعددة يحتمل أن يكون الحل في إحداها. بل إن بعض المشكلات ـ في ظاهرها ـ ليست مشكلات في الحقيقة لو نظرنا إليها من زاوية مختلفة. وأحياناً قد ينظر أحدنا إلى أمر ما على أنه فشل، ولكنه في حقيقته يحمل بذور النجاح، ولكن بشكل مختلف. ولعل هذا يتوافق مع قوله ـ تعالى ـ: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . [النساء: 19]
يعاني كثير من الناس من أزمة الاستغراق في المشكلات التي تواجههم. بعضهم لا يجيد سوى التذمر والشكوى، وآخرون يواجهون مشكلاتهم بإلقاء اللوم على الآخرين. هذان الأسلوبان، وغيرهما كثير، يبدوان للنفس مخارج هروب بدلاً من مواجهة المشكلة، ولذلك قد يشعر الشخص أحياناً بشيء من الارتياح عندما يتصرف بإحدى الطريقتين. السبب في ذلك أن الشخص عند لجوئه لهذه المخارج الانهزامية يبرر لنفسه تقاعسها عن مواجهة المشكلة. هذا الارتياح الجزئي يعمل مثل المخدر الذي يعوق الدافعية نحو حل المشكلة.
في كثير من الأحيان تكون المشكلة وحلها معتمدين على النظرة التي يحملها الشخص تجاه تلك المشكلة؛ فإذا نجح في تكوين صورة متكاملة وواضحة عن المشكلة أمكنه بعون الله حلها. ومن ذلك ما تقدم به أحد العاملين في شركة تصنيع مواد لاصقة (مثل الغراء والصمغ) ، فعندما جرب أحد منتجاتها على الورق كان لا يلتصق بدرجة كافية؛ لأنه لا يجف، بل كان سهل النزع، وعندما يعاد الضغط عليه يلتصق ولكنه يسهل نزعه مرة أخرى. كانت المشكلة ـ وفق النظرة الأولى ـ أن هذا اللاصق الجديد منتج فاشل؛ حيث إن المتوقع من أي مادة لاصقة أنها تثبت ولا يمكن نزعها بسهولة بعد جفافها. وبدلاً من أن يرى هذا الشخص أن ضعف الالتصاق فشل، نظر إليه من زاوية مختلفة، وقدم لذلك المنتج الفاشل استخداماً لم يكن يخطر في بال أحد من الذين يعملون في المصنع حينئذ، ألا وهو المذكرات التي تلصق بالأوراق دون الحاجة إلى تثبيتها بدبابيس أو مشابك ورق، إضافة إلى أنها لا تترك أثراً على الأوراق الأصلية، ويمكن نزعها بسهولة. وهذه هي الأوراق الصفراء المعروفة في السوق باسمPost-it)) التي لا يستغنى عنها أثناء القيام بالأعمال المكتبية.
- كيف نغير نظرتنا للمشكلة؟
تغيير النظرة للمشكلة بنجاح يتضمن ثلاثة أمور: أولها: فهم حقيقة المشكلة نفسها، والثاني: القدرة على التخلص من القيود التي تمنع العقل من النظر من زوايا مختلفة. والثالث: اقتناص حل لمشكلة لم تكن حاضرة في الذهن.
في كثير من الأحيان يكون فهمنا للمشكلة سطحياً أو ناقصاً؛ ولذلك ينبغي على الشخص الذي يريد حل مشكلة ما أن يستكمل فهم جوانبها المختلفة، ولا يستصغر منها شيئاً؛ لأنه قد يكون مفتاحاً للحل. فبعض المشكلات يكون فهم الشخص لها محدوداً بإطار سائد. في مثال مصاعد الفندق تغير تعريف المشكلة من: كيف نزيد سرعة المصاعد إلى كيف نقلل شعور النزلاء بطول وقت الانتظار؟ وبذلك نجحت إدارة الفندق في تقليل التكلفة بشكل ملحوظ دون تقليل درجة رضا المستخدمين.
ومن ذلك أيضاً جهاز تسجيل الحضور والانصراف الآلي؛ فقد كانت فكرة الجهاز تنطلق من أنه ليس من الضرورة أن يتولى شخص مسؤولية متابعة الموظفين لتسجيل حضورهم وانصرافهم بتوقيت دقيق، ولذلك جاءت فكرة جهاز البطاقات التي يختمها الموظف عند حضوره وانصرافه. ولكن المشكلة أن أحد الموظفين يستطيع تسجيل حضور زميله إن لم يكن هناك مراقب. ولذلك فكر المخترعون في طريقة للتغلب على هذه النقطة. كان الحل يكمن في جعل الموظف يسجل بنفسه مستخدماً بصمته؛ فلا يمكن لموظف آخر أن يتلاعب في تسجيل حضوره أو انصرافه.
أحياناً يصعب على الشخص الذي تواجهه مشكلة ما أن يتخلص من القيود التي تمنع عقله من النظر إلى المشكلة من زوايا مختلفة. في مثال اللواصق الطبية نجح (ديكسن) في تحرير ذهنه من الاعتقاد السائد أنه لا بد من وجود شخص آخر يضع الشاش أولاً ثم اللاصق على الجرح. نظرته للمشكلة من زاوية أخرى، بأن وضْع الجزأين معاً ممكن، ساهم في حل المشكلة بشكل أيسر بعد أن تخلص من تلك القيود التي كثيراً ما تمنع القدرات العقلية من الانطلاق نحو حلول مبتكرة. وكذلك الحال بالنسبة للتعامل مع السيارات المخالفة بالوقوف في مكان خاطئ؛ ففي السابق كان لا بد من سحب تلك السيارة برافعة خاصة مما يعني تكلفة عالية وتعريض السيارة المسحوبة للضرر. أما الآن فيمكن وضع قيد معدني على أحد الإطارات فلا يستطيع صاحبها التحرك إلا بعد أن يراجع هو بنفسه الجهة المسؤولة ويدفع قيمة المخالفة؛ فبدلاً من أن يقع العبء على الجهة المنظمة وتسحب السيارة لحجزها، جعلوا صاحب السيارة هو الذي يطلبهم لفك أداة صغيرة الحجم ورخيصة الثمن وتؤدي الغرض نفسه، ما لم تكن السيارة واقفة في مكان يعيق حركة السيارات الأخرى.
ومن الأشياء التي يمكن أن تساهم في حل المشكلات التي نمر بها أن يكون الذهن متفتحاً وفاحصاً لما يمر أمامه من ملحوظات أو تعقيبات أو حتى استخدامات قد لا تخطر للبال. ومن ذلك ما فعله توماس ساليفان (أحد موردي الشاي والقهوة في نيويورك) الذي كان يرسل عينات من أنواع مختلفة من الشاي إلى زبائنه ليجربوها ويختاروا ما يروق لهم منها. كانت أسعار العلب المعدنية التي يرسل فيها تلك العينات تتزايد، ولذلك فكر في طريقة يعبئ فيها الشاي بكميات أصغر وبسعر أرخص دون أن يظهر للزبائن أنه بخيل. قرر أن يستخدم أكياساً من الحرير الصيني مغلقة بخياطة يدوية. أرسل العينات إلى زبائنه ولكنه فوجئ بهم يطلبون كميات من الشاي في تلك الأكياس؛ لأنهم ظنوا أن هذه طريقة جديدة للحفاظ على نكهة الشاي. وهكذا نجح ساليفان في اختراع أكياس الشاي دون قصد منه. واستمر في عمله ذلك مستفيداً من اقتناصه لتلك الفرصة التي واتته دون أن يخطط لها. ولذلك نجد كثيراً من الشركات تقوم بعمليات تقويم لمنتجاتها معتمدة على آراء زبائنها لتطوير هذه المنتجات.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة الأسرة.(223/5)
الطفل والقراءة الإبداعية
أ. د. بركات محمد مراد
نقطة الانطلاق إلى تنمية روح الإبداع عند الطفل تكون بالقراءة الإبداعية؛ فإذا كانت القراءة هي الوسيلة التي لا غنى عنها للإنسان، فهي تثري خبراته وتوسّع أفقه، وتربطه بماضي أمته، وتجعله قادراً على فهم حاضره، والتخطيط لمستقبله، فإننا في حاجة ملحة إلى ربط القراءة بقدرات التفكير الإبداعي، وبذلك تنتقل القراءة إلى مفهوم جديد، نحن في حاجة إلى القراءة الإبداعية لا لنجعل القارئ مستوعباً لما يقرأ أو نقَّاداً، بل إنها تتعدى ذلك كله إلى التعمُّق في النص المقروء، والتوصل إلى علاقات جديدة، وتوليد فكر جديد للمشكلات، وتطبيق لهذه الحلول، والمقروء يجب أن يكون مصدراً للتفكير، والتغلب على ضغوط الحياة، والقراءة هنا لتركيب المعلومات والوصول إلى استنتاجات حقيقية عن الواقع.
نحن في حاجة إلى تدريب الأطفال ـ خاصة الموهوبين ـ على طرح الأسئلة حول المعلومات التي لم تذكر في النص، وإضافة فكر جديد، وكتابة عناوين مختلفة لما يقرأ، وكتابة عدة نهايات لقصة غير مكتملة، وكتابة حلول متنوعة لإحدى المشكلات، وتوقع ما يمكن أن يحدث لإحدى شخصيات القصة، وذكر الأسباب المختلفة لوقوع حدث من الأحداث، وذكر أكبر عدد ممكن من الاستخدامات للأشياء، والتنبؤ من خلال المعلومات المقدمة إليه، وتوقع الاحتمالات، وإنتاج عدد كبير من الأفكار المرتبطة بالمقروء، والانتقال بالتفكير من مجال إلى آخر، وإنتاج فكر غير تقليدي. إن القراءة الإبداعية تنمية للفرد، وتوسيع لقدرته العقلية وتفكيره؛ فالأفكار الجديدة التي يحصل عليها القارئ تساعده على توليد أفكار مبدعة؛ فهو ليس مستقبِلاً للمعلومات بقدر ما هو باحث مجرّب ومركّب، لديه القدرة على نقد ما يقرأ وتقويمه، إنه قارئ مفكر يكتشف التناقض في المعلومات والأسباب الكامنة خلف التناقض، ويصل إلى استنتاجات صحيحة، ويختار المناسب منها وينتقي ما يطبقه في حياته اليومية، فيصبح سلوكه في حالة من التطور الدائم المفيد، إنه قادر على التوقيع والحدس، قادر على تشكيل المادة المقروءة.
والقراءة الإبداعية تجعل المتعلم يتعمق المشكلات الدراسية، ويكشف الأسباب، ويربط بين المؤتلف، ويصنف المختلف، ويحوّر ويعدّل ويبدّل في المادة الدراسية مما يقوده إلى أصالة التفكير وامتلاك التعدد في وجهات النظر، فتصبح لديه الطلاقة والمرونة وأصالة التفكير، فيحل مشكلاته وكذا مشكلات المجتمع الذي يعيش فيه.
ويمكن تنمية القراءة الإبداعية بكثير من الوسائل والاستراتيجيات كالعصف الذهني، وطرح الأسئلة، والتنبؤ القرائي، وتنويع الحل، وتنمية التخيل، وحل المشكلات، والتعمق والانطلاق، وغيرها من الاستراتيجيات.
ولا ننسى أهمية «الدهشة» ؛ لأنها بوابة الدخول إلى عالم الإبداع؛ فيكف يكون الإبداع بغير دهشة، يترجمها التساؤل عن كيف وماذا ولو، عن السبب وعن العلة والمعلول، وما هو كامن وراء الأشياء، وكيفية إعادة تنظيم الأشياء. وعلى هذا فإن الجدة محور الإبداع ومركز كل موهبة؛ فكيف تكون موهبة بغير جديد تقدمه في مجال الموهبة التي تتمتع بها؟ ثم إن القدرة على تقديم الجديد من شأنها أن تثير الدهشة. ولنا أن نعلم أن الدهشة هي التي صنعت حضارة الإنسان، وأن التساؤل هو الذي يسهم في التطور، والطفل في حاجة إلى أن يتعلم كيف يندهش على نحو فعال، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إتاحة المجالات المتنوعة علمياً وتكنولوجياً وفكرياً وفنياً وتصورياً أمام التلاميذ.
وتنوّع هذه المجالات أمام الطفل يثير لديه التساؤل المحفوف بالبحث عن المعرفة، وعن محاولات الإجابة عن تساؤلات يطرحها ثراء هذه المجالات العلمية المتنوعة.
ولا ننسى دور الخَيَال في كل ذلك، وها هو «إنشتين» يعلمنا كيف يكون الخَيَال الينبوع الرئيس لكل علم ولكل معرفة، مؤكداً أن الأفكار لم تكن تأتيه في أية صياغة لفظية؛ فالفكر كان يأتي أولاً ثم يحاول التعبير عنه بالألفاظ والكلمات. أما الإبداع في رأيه ففي إثارة المشكلة، وإن المشكلة أهم من الوصول إلى حلٍّ لها؛ حيث إن إثارة أسئلة جديدة غير مألوفة يتطلب خيالاً إبداعياً.
إننا يجب أن نعامل أطفالنا كلهم، كما لو أنهم جميعاً لديهم شرارة النبوغ. إن الآباء يستطيعون أن يلهبوا هذه الشرارة من النبوغ. أو يضعفوها أو يخمدوها. والواجب علينا تنمية هذه الميزة الرئيسية في أطفالنا بالقراءة، حتى يصبح لدينا جيل كامل من المبدعين والعباقرة. وكل طفل هو كائن موهوب إذا لم نقهر (الدهشة) التي ترتسم على وجهه، وإذا لم نمنعه عندما ينقد سلوكيات عالم الكبار.
__________
(*) أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس.(223/6)
ويستمر الجهاد
لنا التيجاني صالح
تُرى هل سيعود أبي وأخي إلينا؟ هل سنلعب معاً مجدداً؟ وهل سنزرع أشجار الزيتون والحوامض كما كنا نفعل سابقاً؟ أسئلة أخذت تتردد في خاطر أحمد، ذلك الطفل الفلسطيني الذي لا يتجاوز الرابعة من عمره، لكنه كان خائفاً من أن يسأل أمه فتنهمر الدموع على وجنتيها كالعادة.
كان أحمد يقطن في مدينة غزة بفلسطين، وكان يرى الأطفال في حيّه يحملون في أيديهم حجارة، ويسمعهم يهتفون: «لا إله إلا الله ... القدس لنا ... » ، لم يكن يدرك لِمَ كل ذلك، ولكن وببراءة الأطفال كان يقول مثل ما يقولون، ويحمل بين يديه الصغيرتين حجارة يقذفها كما كانوا يفعلون.
وهكذا مرّت ثلاث سنوات على هذه الحالة، وفي أحد الأيام وعندما بلغ الفضول من أحمد الشيء الكثير سأل أمه قائلاً:
ـ أماه! أين أبي؟ أين أخي؟ لماذا كلما سألتكِ تبكين وتلزمين الصمت فلا تجيبين؟ ومَنْ هؤلاء الأشخاص المسلحون الذين يحاربوننا ونحاربهم؟
في تلك اللحظة أدركت الأم أن ابنها الذي أصبح عمره سبع سنوات لم يعد صغيراً، لكنه مثل باقي الأطفال الفلسطينيين لَبِسَ ثياب الرجولة وهو لمّا يتجاوز العاشرة من عمره.
أجابت الأم بتنهّد شديد وبعبرة تخنقها:
ـ آه يا بني! هؤلاء القوم هم أعداء الله وأعداؤنا، ولقد قتلوا أباك وأخاك كما قتلوا أناساً كثيرين.
قصت الأم لابنها الحكاية كاملة، سقطت دمعتان من عيني أحمد لتعلنا عن وفاة طفل بريء بداخله ومولد رجل همام.
كان أحمد يرى حالتهم المادية المتردية يوماً بعد يوم: لباساً بالياً، مسكناً مهدّماً لا يقيهم شدة الحر أو برودة الطقس، وكان أكثر ما يَحِزُّ في نفسه هو رؤيته لأمه وهي توهمه بأنها تأكل ليأكل هو ويشبع.
كان الأسى يملأ قلبه، والكره والحقد على إخوان القردة والخنازير قد بلغ ذروته.
وقف أحمد حائراً أمام كل تلك الأحداث؛ فماذا بمقدوره أن يفعل؟ كل يوم يرى طفلاً يُقتل أمامه، أو امرأة تُضرب بلا رحمة، أو شيخاً يقطّع إرباً إرباً وكأن شيئاً لم يحدث.
أدرك أحمد أن الساعة قد حانت ليأخذ بثأر أبيه وأخيه وكل بريء يُقتل بلا ذنب. كانت الفكرة لا تغيب عن باله، فقرّر أن ينزل إلى ساحة المعركة، ولكن خوفه وقلقه على أمه وخوفه من أن تكون ردّة فعلها سلبية منعته من أن يسرَّ لها بما قرّر.
كان كل يوم يخرج من الصباح الباكر مع مجموعة الشجعان الذين في مثل عمره إلى الشوارع حيث كان اليهود خلف دباباتهم وبنادقهم خائفين من أطفال لا يملكون سوى الحجارة في أيديهم. لم يكن أحمد يبالي بدويّ المدافع وطلقات الرصاص، فقد كان كل همّه أن يُخرِج المعتدين من أرضه.
وعندما يحين المساء، يرجع إلى بيته، واستمر الحال هكذا لمدة استغرقت ستة أيام، وفي اليوم السابع وبينما أحمد كعادته يرمي أحد الجنود بحجر، أطلق عليه اليهودي الخائف رصاصة غدر استقبلها أحمد بصدر مفتوح وبكل بسالة، اخترقت هذه الرصاصة القاتلة صدره الصغير فخرّ ساقطاً ودماؤه من حوله تشهد على جُبن العدو وخوفه؛ أيقابل حجراً برصاصة؟
ركض أحد الأطفال إلى بيت أحمد ليخبر أمه التي لم تستقبل الخبر إلا بدموع الفرح في عينيها؛ فلقد عرفت منذ أن سألها ابنها عن كل ما هم فيه بأنه راحل لا محالة.
ركضت الأم إلى ابنها، وعندما وصلت إليه كانت الأنفاس الأخيرة تخرج منه، جثت الأم على ركبتيها وحملت ابنها بين ذراعيها وضمّته إلى صدرها لتقبّله القبل الأخيرة.. ويهمس أحمد بصوت تمازج فيه صوت الدمع والفرح قائلاً:
ـ إيه أمي! أخبري عني بأني لم أمت.. ألف لا.. بل أنا عِشت وخُلِّدْتُ منذ هذه اللحظة.. أخبري عنا بأنا إن مات طفل حجارة فينا فإن ألف طفل حجارة يولد.. أخبري عني وقولي أين أنتم يا مسلمون؟ قوموا، انهضوا، أفيقوا؛ فالعدو منكم قد قرب، أخبري عني وقولي بأن القدس لنا ولن نتوارى ونتهاون في إعادته.
ثم نطق بالشهادة ومات. أغضمت الأم عيني ابنها، وقالت:
ـ نَمْ بسلام؛ فرسالتك ستصل إلى أُذُن كل مسلم.
وقفت الأم وشلالات الدمع تنهمر من عينيها لتحمل حجراً لم تقذفه بعد حتى جاءت رصاصة غادرة من الخلف لتُلقي بها جثة هامدة بجانب جثة ابنها.
أُسْدِلَ الستار ليعلن عن نهاية أسرة فلسطينية أخرى.
آآآآآآه!.. وتستمر الحكاية.(223/7)
التعصب الممقوت وآثاره على العمل الاسلامي
وصفي عاشور أبو زيد
ظهرت القضية الإسلامية المباركة بعد أن تهددت شخصية الشعوب الإسلامية، وتبددت قِيَمُها وموازينها بفعل الجمود في الداخل، ومخططات التغريب من الخارج، التي تهدف إلى ضرب الفكرة الإسلامية، وإبعاد الأمة عن شريعة ربها. ولكن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد تضعف أو تلين أو تتوارى خلف السُتُر المختلفة والعديدة، ولكنها لا تختفي ولا تنمحي أبداً؛ لأن عامل الفطرة أقوى من كل العوامل الأخرى الطارئة والضعيفة مهما تعددت وتنوعت، فشاء الله للأمة العربية الإسلامية ـ بظهورها ـ أن تتجدد بعد أن بليت، وأن تقوى بعد أن ضعفت، وأن تظهر فيها بوادر النصر بعد أن تجرعت مرارة الهزائم المتتالية على يد المستعمرين والمنهزمين ردحاً طويلاً من الزمان.
وبقدر هذه النعمة التي يستبشر بها دعاة الإسلام اليوم ورجاله في كل مكان ظهرت أمراض خطيرة بين أبناء هذه الصحوة المباركة تأكل من جسدها الناهض، وتهشم كيانها الصاعد؛ فبقدر ما تتقدم إلى الأمام تتقهقر إلى الخلف بفعل هذه الأمراض القاتلة، ومن أجل ذلك اهتم ثلة من علماء الأمة ومن أخلص دعاتها بترشيد مسيرة العمل الإسلامي في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ على بصيرة، وتقويم ونقد الحركات الإسلامية العاملة على الساحة، ومن أبرزهم: الشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ سلمان بن فهد العودة، والشيخ محمد أحمد الراشد، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عوض القرني، والأستاذ عمر عبيد حسنة، والأستاذ فتحي يكن، وغيرهم كثير.
وإذا كان للقضية أعداء من خارجها، فهذا من سنن الله الجارية في خلقه وفي كونه التي تقتضيها سنة التدافع بين الحق والباطل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31] ، لكن أن يكون عدو الصحوة من داخلها، فيتصارع أبناؤها، ويتعصبون ضد أنفسهم، ويصبح بأسهم بينهم شديداً؛ فهذا ما يغمر النفس حسرات، ويقطع القلب زفرات.
ومن أخطر الأمراض التي تهدد وجود القضية الإسلامية وتعوق مسيرتها: مرض التعصب الممقوت (1) الذي يمكن تعريفه بأنه: «عدم قبول الحق عند ظهور دليله» (2) . وهو ما يعني في المحصلة الأخيرة تأخير امتداد صحوة الإسلام، وتزهيد الناس في الالتزام، فيكون بذلك الحالقة التي تحلق العلاقات والأواصر بين المسلمين العاملين في هذا السبيل المبارك، وربما تحلق الدين. ويقول العلاَّمة الشوكاني ـ في حسرة ـ مبيناً خطره في مقام من المقامات: «هاهنا تُسكب العبرات، ويُناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسُنَّة ولا لقرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمَّا غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بالقِيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين» (3) .
واعتبره الشوكاني رزية وفاقرة على اعتبار أنه مفهوم يشتمل على بعض العناصر السلبية والخطيرة؛ ومنها:
1 - أنه حكم يفتقد للموضوعية، ويتسم بالتعميم أو التسطيح المخل.
2 - أنه يقوم على أساس مجموعة من القوالب النمطية والتصنيفات الجاهزة والانطلاق من خلفية معينة.
3 - ينشأ في ظل سياق ثقافي واجتماعي تغيب فيه الشورى والحرية، ويدفع للمجاراة بدرجة أو بأخرى.
وهذا ما يستوجب وقفة متأنية أمام هذا المرض الخطير لنرصد مظاهره، ونبين آثاره وأسبابه، ونرسم الطريق لعلاجه، وما يلي من مظاهر وآثار وأسباب وعلاج ليس هو الكلمة النهائية، بل ربما رأى غيري أن يضيف إليها أكثر منها.
أولاً: المظاهر:
وللتعصب الممقوت الذى ابتُلي به بعض العاملين في ساحة العمل الإسلامي مظاهر متعددة، ويعتبر رصدها نتاج خبرة نتجت عن مشاهدة هذا الواقع ومعايشته فترة غير قليلة من الزمان ـ وربما كان هناك من المظاهر أكثر من هذا عند التأمل والتدبرـ ومنها:
1 - أن الذي يعمل في دعوة أو مع حزب أو جماعة يرى أنه هو الذي على الحق، وأن غيره على الباطل، مهما كان بينهم من كثرة في نقاط الاتفاق، ومهما كان بينهم من قلة في نقاط الاختلاف. قال ابن القيم في قوله ـ تعالى ـ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] : جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتاجرون» (4) .
2 - أن الذي يسلك سبيل الدعوة الفردية مع آحاد المسلمين يفاجئه أصحاب اتجاهات أخرى يخطفون منه هذا المدعو، ويتقاتلون عليه بحجة أن الطرف الآخر سوف يضله ويغويه بما عليه هو من غواية وضلال، وتكون النتيجة أن يترك المدعو هذا الميدان تماماً؛ لما يراه من فرقة واختلاف بين هؤلاء الدعاة.
3 - تحويل المساجد ـ بيوت التوحيد والعبادة والتجمع والتصافي والتوحُّد بين المسلمين ـ إلى ساحات شجار وتراشق بين فصائل الصحوة المختلفة بسبب قضايا فرعية خلافية، لم ينته الخلاف فيها سابقاً، ولن ينتهي الخلاف فيها لاحقاً. ويصف الصنعاني مظاهر ذلك قائلاً: «لم تكن الخلافات والنزاعات بين المقلدين مقتصرة على الآراء الفقهية فقط، بل بلغ بهم التعصب إلى الحروب الطاحنة فيما بينهم، يروي لنا التاريخ الشيء الكثير من ذلك. قال ياقوت الحموي وهو بصدد ذكر مدينة أصبهان: «وقد فشا الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين؛ فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌّ ولا ذمة، ومع ذلك فقد قلَّ أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فاسدها، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة» . ا. هـ. وهذا غيض من فيض مما وقع بين أتباع المذاهب الذي يندى له جبين التعصب، أعاذنا الله جميعاً من هذا الداء العضال الذي أصاب الأمة الإسلامية المتلاحمة ففرقها» (5) .
4 - ومن المظاهر أيضاً أن ينتصر المسلم لجماعته أو حزبه أو دعوته أو مذهبه ومدرسته بالحق والباطل؛ فهي الحق على طول الخط حتى لو فعلت المنكرات البينات، وينتصر من غيرها دائماً حتى لو نصرت المحكمات الواضحات.
5 - إن بعض المسلمين يرى مدرسته التي ينتمي إليها مقدسة، ورجالها ملائكة معصومين، وتاريخها كله خالياً من الأخطاء مبرأً من العيوب، ولا يذكر لها إلا الحسنات والميزات حتى لو أتت أفعالاً تسببت في تأخر الإسلام وصحوته حيناً من الدهر، في حين يرى غيره من المدارس والجماعات مدخول العقيدة، سيئ المنهج، مُجرَّح الرجال، أسود التاريخ، ضيق الأفق، ضحل الفهم، متحلل الفكر، ولا يذكر لها إلا السيئات والعيوب حتى لو كان لها في انتشار الإسلام أيادٍ بيضاء، وما أحسن ما قاله العلامة الشوكاني في تفسيره عن المتعصب: «والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلةً منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقِّي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع؛ فإنه صار بها باب الحق مرتجّاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله ـ سبحانه ـ والهداية منه» (1) .
6 - أن هذا الفريق لا يعجبه علماء الفريق الآخر حتى لو صدع بالحق؛ بينما إذا تبين خطأ علمائه هو التمس لهم العذر وهوَّن من ضلالهم في القول والفتوى؛ فعلماؤه مبرؤون حتى لو ضلوا وأضلوا، وعلماء غيره مدانون حتى لو كان لهم الفضل في رفع كلمة الإسلام زمناً ما، ونسي هؤلاء وأولئك هيبة العلماء، وأن القضايا العلمية الكبيرة لا شأن للصغار بها، وأن لحوم العلماء مسمومة، وهذا المظهر للأسف ربما وجدناه عند بعض العلماء أصحاب الاتجاهات والانتماءات المختلفة.
7 - ومن المظاهر أيضاً أنه ربما تعاون أبناء فصيل معين من الدعاة وتحالفوا مع عدو خارجي من أعداء الإسلام لضرب فصيل آخر مسلم عامل في الساحة، ليعملوا سوياً على إذهاب ريحه، وإنهاء وجوده؛ حتى يخلو لهم الجو، وتفرغ لهم الساحة؛ ليمارسوا دعوتهم في جوٍّ آمن من التراشق والمضايقات، خالٍ من التنافس والمشاحنات. نسأل الله العافية.
ثانياً: الآثار:
ومن البدهي أن يكون لهذه المظاهر آثار مدمرة على كل المستويات سواء على مستوى الدعوة الخاص، أو مستوى الإسلام العام، ومن أبرز هذه الآثار ما يلي:
1 - تأخر وتخلف الحركات بهذا التعصب؛ لأنه ـ وقد رآها أصحابها معصومة فوق النقد والمراجعة ـ سوف يقفز الزمان عليها ويتخطاها بأزمان ليرتاد آفاقاً غيرها بما مات فيها من نقد ذاتي يحيي الحركات والدعوات، ويقوي ضعفها ويشد على أيديها.
2 - الكراهية والتدابر والتحاسد والتباغض الذي سيسري بين أبناء الدعوة الإسلامية من جراء هذه المراشقات، ونتيجة تلك الاختلافات الفرعية، وهو أمر يوقِع في مخالفة مع نصوص متفق عليها مثل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» (2) .
3 - إيقاع الوهن والتفكك في جسد الدعوة الإسلامية، وربما تعدى ذلك إلى عموم المسلمين، وهو ما يوقع أيضاً في مخالفة نصوص صريحة متفق عليها ليس أبرزها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (3) .
4 - تزهيد الناس في الالتزام بالإسلام، أو مع هذه المدارس والمذاهب للعمل للإسلام؛ لما يرونه من تراشق وتشاحن، هذا يحارب ذاك وينشر عنه الافتراءات والأكاذيب ويكيد له، وذاك يتهم هذا ويتمنى له الخطأ ويُسمِّع به، فيقف الجمهور المسلم في حيرة: أيهم على صواب، وأيهم على خطأ، ولماذا كل هذا، وفي صالح من؟ وربما تعدى هذا الزهد إلى الإسلام ذاته فيتشكك الناس في الإسلام؛ فهل منهج الإسلام السمح وشريعته الغراء وتشريعه الوسطي يفرِّخ هذا التعادي والتحاقد، ويولِّد هذا التنافر والتباغض؟
5 - الانكفاء على قضايا الداخل الذاتية الصغرى، وإهمال القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بواقع الأمة ومستقبلها؛ لأن فصائل الصحوة مشغولة بكيفية انتصار بعضها على بعض، ناسين أو متناسين الأخطار المحدقة بالأمة التي توجب عليهم أن يتكاتفوا لينتصروا عليها، وما أكثرها.
6 - طمع الأمم في أمة الإسلام؛ لأنها أصبحت أمة ضعيفة الجسد مترهلة البنيان ليست جسداً قوياً، ولا بنياناً مرصوصاً، ومن ثَم فالدائرة تدور عليها؛ لأن السنن الإلهية الجارية لا تحابي أحداً؛ فالأمة القوية التي تأخذ بأسباب القوة والنصر والوحدة ينصرها الله ولو كانت كافرة فاجرة، والأمة الضعيفة التي تهمل أسباب القوة والنصر يخذلها الله ولو كانت مؤمنة تقية.
7 - ومن الآثار الخطيرة التي تدخل على آخرة المسلم بالخراب والبوار هو كسب السيئات التي يجنيها المسلم من وقوعه في عرض أخيه الذي ينتمي إلى غير مذهبه وجماعته بالهمز واللمز، والغيبة والنميمة، والسخرية والاستهزاء، وأكله للحوم العلماء في الطوائف الأخرى، وغير ذلك من أبواب السيئات.
ثالثاً: الأسباب:
لا شك أن خلف كل دخان ناراً، ولكل داء دواء؛ فإذا تم تشخيص الداء والوقوف على أسبابه سهل علينا وصف الدواء، فوضع اليد على الأسباب هي نصف طريق العلاج كما يقولون، ومن أهم أسباب هذا التعصب الممقوت ما يلي:
1 - اتباع الهوى والإعجاب بالرأي: وهو من أسباب التعصب القوية؛ فمن لم يتبع الكتاب والسنة، وأُعجب برأيه فلن يتبع الحق مهما ظهر بدليله؛ كيف وقد قال ـ تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 43 - 44] .
وروى الترمذي بسنده عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قال: أما واللهِ لقد سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر؛ حتى إذا رأيتَ شُحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم» . قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم» (1) .
فطبيعة متبع هواه والمعجب برأيه إذا علم أن رأيه خطأ ألاَّ يتنازل عنه ولا يعترف بالحق بل يتمسك بخطئه، ويزداد عناداً وإصراراً عليه، وإذا علم أن رأي غيره صواب فلا يعترف به حتى لو كان واضحاً وضوح الصبح لذي عينين، وقديماً قال الشاعر:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضحُ
2 - تحقيق مآرب شخصية ومصالح دنيوية، وهذا السبب يقتصر على الذين يلتحقون بالحركات العاملة لتحقيق مآرب شخصية، ومصالح نفعية، وأهداف دنيوية، كالطبيب الذي يريد أن يوسع دائرة مرضاه، والمحامي الذي يريد أن يكسب ثقة الناس حتى يتشاكوا إليه، والعالم الذي يريد أن يوسع دائرة شهرته ليجد لإنتاجه وكتبه وخطبه مريدين وقراءً ومستمعين، وهكذا ... فهذا الشخص لن ينظر إلى الحق والباطل، ولا إلى الخطأ والصواب، إنما هو ينصر الاتجاه الذي انتمى إليه ويتعصب له من أجل تحقيق مآربه ومصالحه بصرف النظر عن قضية الحق والباطل، وبعيداً عن تصحيح المسار والنقد الذاتي والتقويم النفسي؛ لأن هذا ليس هو أكبر همه، وربما أبدى اهتمامه بذلك أحياناً ليبين مدى تفانيه في العمل، وإرادته الخير لما انتمى إليه من مذهب، ولكن هذا كله لا يلبث أن يظهر مع العقبات، وسرعان ما يزول مع الابتلاءات التي يمتحن بها أهل الدعوات: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17] .
3 - الجهل بمذاهب الفقهاء، وهذه طامة كبرى، ومصيبة عظمى وسبب أكبر من أسباب التعصب الممقوت، وهو سبب رئيس من أسباب التناحر والتباغض والتنافر والتدابر بين أبناء الصحوة الإسلامية؛ إذ إن عدم الاطلاع على مذاهب الفقهاء وآرائهم في مسألةٍ ما يؤدي إلى التعصب لمذهب بعينه؛ لأنه لا يعلم سواه، ومن ثَم ينظر لمن يخالفه على أنه جاهلٌ لا علم له، وعلى أنه مخالف للسنة والهدي النبوي، في حين أنه لو اطلع على المذاهب الأخرى لعلم أنها قضية خلافية يسعهم فيها ما وسع الأئمة الكبار من قبلهم، ولعل هذا النوع من الجهل هو أهم أسباب المشاحنات والمشادات في المساجد التي تمتلئ عندنا ـ نحن المسلمين ـ بالاختلاف نتيجة الجهل المطبق بالأحكام الفقهية الفرعية العملية.
4 - اتباع الأشخاص والهيئات، وعدم الإذعان للحق بدليله؛ فمن يتبع حزباً أو جماعة أو دعوة أو مؤسسة ويرى أنها لا تخطئ في العمل، أو تضل في الرأي يتعصب لها تعصباً شديداً، ويحمل حملة لا هوادة فيها على من يحاول نقدها أو تصحيح وتقويم مسارها حتى لو كان من أبنائها، وكذلك إذا وثق في علم عالم، ورجاحة عقله، وفقهه للنص الشرعي وإدراكه للواقع العملي؛ فإنه يرى أنه لا ينطق عن الهوى، ولا يفتي إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق، لا يقع منه زلل في القول أو العمل، ولا يصدر عنه خطأ في الفتوى أو الحكم، ولا يُظن به خطل في الرأي أو التصور، ومن ثم لا يجري عليه ما يجري على البشر، في حين أنه لم توجد ـ على امتداد التاريخ ـ هيئة أو مؤسسة أو جماعة إلا ولها أخطاؤها وإخفاقاتها، ولم ولن يوجد عالم إلا وله زلاته وكبواته، ويأبى الله إلا أن تكون العصمة له ولكتابه ورسوله.
ولهذا وصف ابن قيم الجوزية أهل العلم والعدل والقسط بكونهم: «زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحداناً، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إخراج المتعصب عن زمرة العلماء إليه ولا يسألونه عما قال برهاناً» (1) .
رابعاً: معالم على طريق العلاج:
لم يَعُد خافياً ـ بعد ذكر المظاهر والآثار والأسباب ـ على كل ذي نظر عميق وفهم دقيق، ملامح طريق العلاج وأهم معالمه؛ فبالإضافة إلى تلافي الأسباب السابقة نحاول التعرف على نقاط العلاج، والتي من أبرزها:
1 - الفهم السليم لطبيعة العمل في فصائل الدعوة الإسلامية، وهي أن كل الفصائل والحركات ـ التي يجوز العمل من خلالها ـ مكملة لبعضها، ومتعاونة ومتضافرة فيما بينها، وليست متنافرة ولا مختلفة، الكل يبغي نصرة الإسلام، وإعلاء كلمته ورفع رايته، ومن ثَم فلا يضير أن تقوم دعوة من الدعوات أو حركة من الحركات تهتم بالعمل الخيري، وأخرى تهتم بجمع الناس في المساجد وحشدهم لفعل الخير، وأخرى تهتم بالعمل العام، وأخرى تذكِّر بقضايا الأمة الكبرى، وأخرى تهتم بالعمل الاقتصادي أو السياسي، وهكذا ... فلا تنكر هذه على تلك، ولا تنقم تلك من هذه،؛ لأنهم فهموا أنهم متعاونون على نصرة الإسلام وجمع كلمة المسلمين، فلن يعيب بعضهم على بعض التقصير في جانب دون جانب.
والفهم نعمة عظيمة بها تُحل كثير من المشكلات، وتزال العديد من العقبات، فلا غرو أن امتن الله بها على سليمان حين قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] ، وكان من وصية عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ: «الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة» .
وما أحسن ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ تحت عنوان: «الفهم الصحيح نعمة» ، قال: «صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمِرْنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادتَه اتباعُ الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى» (2) . مع التسليم بوجوب التزام جميع أبناء الصحوة ـ مع اهتمام كل فصيل بعمل معين أو جانب ما ـ أصولَ الإسلام وفرائضه إلا لضرورة، والتفريق بين الأصول والفروع، والفرائض والنوافل، وفقه النسب بينها، واتفاقهم على معنى ومفهوم ذلك كله.
2 - التجرد في الوصول إلى الحق والعمل به، وإخلاص النية وضبطها ما أمكن، وهو ما سوف يقطع الطريق على الشيطان وأهواء النفس أن تضل أو أن تطغى، ما دام بغيتها الوصول إلى الحق بدليله، والانغماس في العمل بعيداً عن النقاشات الحادة والجدال الذي لا يأتي بخير.
وما دام العاملون يتميزون بالإخلاص والتجرد في طلب الحق فلن يتردد أحدهم في اتباعه متى ظهر حتى لو كان على لسان غيره من الاتجاهات أو الحركات، ولعلنا نتذكر كلام الإمام أبي حنيفة في هذا الصدد؛ إذ كان يقول عند الإفتاء: «هذا رأي النعمان بن ثابت ـ يعني نفسه ـ وهو أحسن ما قدرت عليه؛ فمن جاء بأحسن منه فهو أوْلى بالصواب» . ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال: «ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجْرِ الحق على قلبه ولسانه؛ فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته» (3) . وكان يقول: «ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ» . وكان عبد الله بن أحمد بن حنبل يحكي عن أبيه أنه قال: قال الشافعي: «أنتم أعلم بالحديث والرجال مني؛ فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً» (1) .
3 - ضرورة الاطلاع على الخلاف الفقهي، وهي واحدة من أهم معالم طريق العلاج لهذه الآفة الخطيرة؛ فما أكثر المصارعات التي تحدث وسببها أن أحد الأطراف أو أغلبها لا يكون عالماً بأن القضية خلافية. وعبارة: «ضرورة الاطلاع على الخلاف الفقهي» مقصودة عمداً؛ لأنها فعلاً ضرورة من الضرورات، والتي بدون الاستجابة لها لن يكون هناك كبير اتفاق بين أبناء الدعوة، وسيظل العراك مشتعلاً، والشجار محتدماً، ووجه الصواب خافياً ما لم يتفقه العاملون في دينهم، ويتعمقوا في مصادر الشريعة ومواردها، وما لم يطلعوا على الخلاف الفقهي من مصادره المعتبرة بحججه وبراهينه، مثل كتب الفقه المقارن وكتب الأصول والقواعد، وهذا ما جعل رجلاً مثل ابن القيم يقول: «ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصاف أحب إليه من التعصب والهوى، والعلم والحجة آثر عنده من التقليد لم يكد يخفى عليه وجه الصواب» (2) .
4 ـ أهمية الاحترام المتبادل ومراعاة أدب الخلاف، وهو مَعْلَم ينبثق عن سابقه مباشرة، ويترتب عليه؛ فإذا تم الاطلاع على الخلاف الفقهي وجب الاطلاع على أدب الخلاف، وسيرة الفقهاء القدماء والمعاصرين الذين اختلفوا في الرأي مع بعضهم، وسيرة السلف الصالح، بل سيرة الصحابة أنفسهم، ولم يكن ذلك سبباً ـ أبداً ـ في إضعاف الحب بينهم، أو النيل من تقدير بعضهم لبعض، ولعلنا نحفظ العبارة التي رويت عن الأئمة الأربعة تقريباً: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» . ومعنى «رأيي صواب» : أي لذلك قلت به وإلا فلا، ما دام يغلب عليه الظن بالصواب. ومعنى «ورأي غيري خطأ» ، أي وإلا لقلت به ما دام يغلب عليه الظن بالخطأ؛ لأنه ليس هناك قطع بأفضلية أحد على أحد، وكل يؤخذ من قوله ويرد عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام أن فلاناً أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها، فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه، كما أن من يرجح قولاً أو عملاً لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك، لكن إن كان الرجل مقلداً فليكن مقلداً لمن يترجح عنده أنه أوْلى بالحق؛ فإن كان مجتهداً اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد قال ـ تعالى ـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، لكن عليه أن لا يتبع هواه، ولا يتكلم بغير علم، قال ـ تعالى ـ: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [آل عمران: 66] ، وقال ـ تعالى ـ: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] ، وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره، ولا يَعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم (3) .
فانظر كيف كان عند كل واحد منهم احتمال بخطأ رأيه، وصواب رأي غيره، وهذا فيه من رحابة الصدر وسعة الأفق ما يمحو التعصب، ويهيئ المسلم لاتباع الحق والانصياع له متى ظهر بدليله، وهو من عظيم أخلاق العلماء وطلاب العلم، فضلاً عن العاملين في ساحة العمل الإسلامي.
وختاماً: تجدر الإشارة إلى أن هناك الكثير من أبناء الدعوة الإسلامية في مختلف فصائلها يدركون أبعاد العمل الإسلامي ومراميه، فاقهين للقضايا الخلافية مطلعين على آراء الفقهاء، فاهمين طبيعة العمل ضمن فصائل الصحوة المتعددة، متخلقين بأخلاق الإسلام من آداب للخلاف، واحترام لآراء الغير، واستعداد لقبول الرأي الآخر متى كان حقاً.
ولما كان للعملة دائماً وجهها الآخر، وكان التغلب على التعصب الممقوت وآثاره هو مسؤولية جميع التيارات داخل أبناء الدعوة الإسلامية؛ فإن العلماء والفقهاء والدعاة المنتمين لهذه التيارات ـ وغير المنتمين بوجه ما ـ مدعوون لأنْ يؤمنوا بأن حماية الدعوة وتحقيق أهدافها رهن بتفعيل القيم الإسلامية سالفة الذكر، إضافة إلى قيم الشورى والعمل الجماعي، وأن يقتنعوا بأن تضمينها في المناهج التربوية يعد من الوسائل الناجعة في مغالبة التخلف والجمود والظلم لأمتنا.
__________
(*) باحث في العلوم الشرعية، كلية دار العلوم، القاهرة.
(1) أركز هنا على وصف التعصب بـ «الممقوت» ؛ لأن هناك تعصباً محموداً، وهو التعصب للعقيدة وأصول الإسلام وكلياته الكبرى ومقاصده العظمى، أما التعصب المذموم أو الممقوت فهو ما نحن بصدد الحديث عنه.
(2) قواعد الفقه للبركتي: 231، طبع دار الصدف ببلشرز. كراتشي. طبعة أولى، 1407هـ.
(3) السيل الجرار: 4/ 584، دار الكتب العلمية. بيروت. طبعة أولى، 1405هـ.
(4) إعلام الموقعين: 1/7، دار الجيل. بيروت، 1973م.
(5) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد: 22- 23، الدار السلفية. الكويت. طبعة أولى 1405هـ، وانظر معجم البلدان للحموي: 1/209، دار الفكر. بيروت. بدون تاريخ.
(1) فتح القدير: 2/243، دار الفكر. بيروت. بدون تاريخ.
(2) صحيح البخاري: كتاب الأدب. باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله ـ تعالى ـ ومن شر حاسد إذا حسد. وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، واللفظ له.
(3) صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم. وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، واللفظ له.
(1) سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة المائدة، وقال: «هذا حديث حسن غريب» .
(1) إعلام الموقعين، 1/6 ـ 7.
(2) إعلام الموقعين: 1/87.
(3) إرشاد النقاد: 14.
(1) إيقاظ همم أولي الأبصار، لصالح بن نوح العمري: 102، دار المعرفة. بيروت، 1398هـ.
(2) إعلام الموقعين: 4/32.
(3) مجموع الفتاوى: 20/293.(223/8)
أساليب ومضامين الخطاب الإسلامي
د. أحمد حسن محمد
إن الواقع المعاصر ما زال في حاجة إلى مضمون الخطاب النبوي على الرغم من تباين الأنظمة والتشريعات؛ فإن الرسالة الإسلامية إنما تتعامل مع فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها؛ مما يؤكد صلاحية الخطاب الإسلامي للمجتمع المعاصر وفق مقاييس جديدة وأساليب مستحدثة، لكنها لا تخرج عن ثوابت العقيدة وحقائق الشريعة القطعية المعروفة.
وتظهر أهمية هذا المضمون الإسلامي للخطاب الإعلامي عندما تدرك خطورة المواجهة بين الغرب العلماني والمجتمعات الإسلامية، والتي أصبحت تحمل كل أساليب الدعاية والاتهام لكل ما هو منتسب للدين عامة والإسلام بصفة خاصة. وساعد على ذلك عدة أسباب نذكر منا:
1 - عداء الحضارة الغربية للكنيسة في وقتٍٍ ما؛ مما أصَّل عناصرها ومظاهرها بعيداً عن قيم العنصرية ذاتها، وانسحب ذلك أيضاً على الدين الإسلامي من وجهة نظر الغرب.
2 - لم يستطع العالم الإسلامي أن يقدّم النموذج المطلوب لحضارة تقوم على أسس الدين والشريعة بما يقنع الغرب واقعياً بصلاحية الإسلام ليكون مكون نهضة وحضارة معاصرة، وكان ذلك لعجز المسلمين، وليس مطلقاً لعجز الإسلام أو الدين.
3 - القصور الإعلامي في كثير من الدول الإسلامية أتاح للمشروع الغربي أن يدعم تصوراته وأفكاره على حساب الخطاب الإسلامي الصحيح والذي كان في شبه غيبوبة عن الساحة الإعلامية الدولية.
4 - اختلاف الرؤى الفكرية والإعلامية في كثير من بلاد المسلمين ودوله وخصوصاً حيال الأحداث العالمية والإقليمية، بل المحلية في وسائل إعلام هذه الدول. وافتقد الخطاب الإسلامي وجهته ووحدته المطلوبة، وظهر كأنه في تضارب وتعارض أمام المتلقى الغربي والأجنبي، ولعل ما حدث في أزمة الخليج ـ الحرب على العراق ـ وأزمة أفغانستان ما يصلح دليلاً على هذا التناقض، ويأتي اليوم ليكون شاهداً من خلال أزمة فلسطين، وهذه المواقف لعلها قد أفقدت العالم الإسلامي وحدة الطرح الإعلامي للأحداث؛ مما كان له تأثيره السلبي على الرسالة الإعلامية الصادرة.
لهذه الظواهر وأسبابها كان الأمر يستدعي عودة إلى الأصول والاهتداء بالخطاب النبوي الذي كان يصدر عن قواعد وثوابت العقيدة وسلامة التصور ووحدة الفكر.
إن عالمنا الإسلامي لم يعدم مطلقاً هذه الثوابت، بل هي ظاهرة ومتحركة في عقول وقلوب أبنائه، ولكنه في حاجة ماسة إلى مشروع يرتكز على قاعدتين أساسيتين:
أولاهما: قاعدة قوية أبناؤها مؤمنون يحملون أمانة الدين وأمانة الدعوة، تتنامى روح الإسلام والغيرة عليه في قلوبهم وأرواحهم، يتربون على معاني الفضيلة والصدق والالتزام بقواعد الإسلام وشرائعه وأصوله اهتداءً بما قام به سيّد المرسلين في إعداد مثل هذا الصنف من الرجال الذين: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] ، فكانوا بحق إسلاماً حياً وقرآناً يتحرك. فإذا ما توفر هذا العنصر الأساس؛ فإن عليهم دراسة المجتمع القائم وطبيعة الفكر المعاصر وأساليبه، والاطلاع والتحليل لثقافة الغرب. ومعرفة أصولها ودواعيها؛ بما يمكنهم من قدرة الحديث بلغة يفهمها أهل الغرب، ومن خلال الخطاب الإعلامي لمثل هذه العقول والثقافات يُقدِّم الإسلام السلوكَ والعملَ حتى يقتنع الرأي العام بالرسالة الموجهة، ويلمس أثرها.
ثانيتهما: النص الإعلامي المحمول على وسائل وأنظمة تقنية حديثة بالأخذ بكل الإمكانات المتاحة التي تعين على توصيل الخطاب الإعلامي المسلم إلى الجمهور المستهدف؛ وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أفضل الخلق إحساناً للكلمة وتصويراً لها، كذلك جاء الصحابة مع أخذهم بكل الوسائل المتاحة آنذاك في الإبلاغ والشرح وضرب الأمثلة وإيصال كلمة الله للناس. والإعلامي المسلم اليوم مطالب بالأخذ بكل أسلحة العصر في مجال الإعلام، وإتقان صناعة الرسالة الإعلامية والمعلومة المفيدة والسبق بها في ميادين المعرفة؛ بما يعطي للرسالة الإسلامية لغة العصر وسلطة العصر (1) .
- مضامين الخطاب الإسلامي:
لا بد من تمايز المضمون الذي يحمله الخطاب الإسلامي؛ بحيث يتميز عن المضمون الذي تحمله الرسائل الغربية، وهذا أمر طبيعي لاختلاف منابع الثقافتين؛ حيث إن الإسلام ينطلق من منابع الإيمان بالله رب العالمين؛ وبذلك فإن قضية الإيمان تعتبر إطاراً أصيلاً لمضمون رسالي؛ لأن الغرب قد فقد في معظمه هذا الشعور، شعور الإحساس بوجود الله ونور السماء، ففقد بذلك الإجابة الصحيحة عن حقيقة وجوده في الحياة ومعاشه في هذه الأرض؛ فسخر وجوده لملذاته وشهواته، ووضع قوته لإذلال الآخرين، ولم يفكر يوماً بأنه سيموت ويُبعث ويحاسب، ويعني ذلك أن مخاطبة الرأي العام الغربي لا تكون مطلقاً بفكر مكتسب ونظام مقتبس، بل لا بد أن يحمل الخطاب الإسلامي بما فيه من أصالة وجذور وتعاليم ومفاهيم تجبر المتلقي الغربي على الالتفات إليها على اعتبار أنها شيء جيّد لم يألفه من قبل.
فالغرب ليس إلا الفكر القومي والتكتلات الاقتصادية والأحلاف العسكرية سعياً وراء حضارة تسود وتعلو وتستمر، وهنا يبرز دور المفكر ليقدّم مفهوماً جديداً للوحدة الإنسانية من خلال قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . وهذا المفهوم يحقق نظاماً اجتماعياً له نسق متميز لا يقوم على الجنس أو اللون أو التراب، بل يستمد مقوماته من قيم عقيدة ومثل عليا.
إن المتلقي عندما يدرك هذه الحقيقة من خلال رسالة ناضجة متميزة يؤمن بأنه فرد في مجموعة تتسم بصفة أخلاقية، ومعانٍ سماوية؛ فلا يحقد على أحد، ولا يعادي أحداً، بل الجميع أمام الرّب الأعلى ـ سبحانه ـ سواء، وتقوم الوحدة في ظل الأخوة وليس في ظل الصراع أو الغلبة للأقوى، وهذا أمر يفضح الفكر اليهودي الذي يجعل من اليهودي بشراً ومن الآخرين غير بشر، ويرفض الفكر النازي الذي يقول (ألمانيا فوق الجميع) ، ويستنكر مفهوم العنصرية التي قطَّعت العالم والشعوب.
إن مفهوم الوحدة الإنسانية تحت مظلة العبودية لله والإيمان به تنفي ثغرات الفرعونية والزنجية والتفرقة العنصرية، وهذا ما تعانيه الحضارة المعاصرة اليوم.
- مفهوم آخر هو مفهوم حقوق الإنسان:
وهو ما تقوم به وسائل الإعلام في الغرب وتعتبره إنجازاً حضارياً غير مسبوق؛ فإن الخطاب الإعلامي الإسلامي لا يستمد مادة هذه القضية من أصولها الغربية التي نبعت أصلاً عن مشاعر سلبية نتيجة للفوارق الاجتماعية والجنسية، فأصبحت تحمل مفاهيم تحيد بالإنسان عن دوره الاجتماعي في الحفاظ على القيم والمبادئ ومصالح الآخرين.
ولعل من مظلة هذا المفهوم الغربي استباحة الأعراض وتبرج المرأة وإشاعة الفواحش، وحرية التصرف للصغير والكبير؛ فأوقعت المجتمع الأوروبي في هذه الدوامة من المشكلات السلوكية والتمرد العائلي والتشرد، والوقوع في مصيدة المخدرات حتى تبنت هذه الحضارة نفسُها ـ أي الحضارة الغربية ـ بعضاً أو كثيراً من هذه الفواحش والسلوكيات لتكون حقوقاً تُمنح للشعوب تحت مظلة معاهدات دولية [مؤتمرات المرأة.... إلخ] .
والعرض الإسلامي للخطاب الإعلامي يحمل مفهوماً متميزاً لهذه القضية؛ حيث إن حقوق الإنسان إنما هي سبيل للحق والحياة الكريمة من خلال هدي القرآن في تكريم الإنسان وتفضيله على كثير من خلقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] . ومن ثم كانت الحقوق بالقدر الذي يصون للمجتمع أمنه وسلامته ورخاءه. فأعطى الإسلام حقوقاً لا تعرفها الحضارة الغربية اليوم: كحق الوالدين على أولادهما، وحق الزوجة على زوجها، وحق اليتيم على المجتمع، وحق السائل والمحروم، وحق المحكوم على الحاكم. إنها مفاهيم جديدة لم يألفها مجتمع الغرب، تصلح أن تكون رسائل إعلامية تحملها وسائل الإعلام ضمن برامج متعددة: تشمل: المسرحية، والكلمة المباشرة، والمقالة المكتوبة، واللوحة المرسومة، والكتاب المطبوع.
وإذا كانت هاتان القضيتان: قضية الوحدة الإنسانية، وقضية حقوق الإنسان من قضايا الإعلام المعاصر فإن هناك الكثير من قضايا العالم يحتاج إلى طرح إسلامي يلفت نظر الغرب إلى هذا الدين؛ فقضية المرأة ومكانتها في الإسلام بعد أن أصبحت سلعة يتاجَر بها في الغرب، وفقدت أنوثتها، وقضية الحرب والسلم والصراع العالمي بالسلاح، وما يُصرف عليه من أموال وميزانيات، وكيف أن الإسلام جعل السلم أساس الحياة، والحرب والقتال إنما الأصل فيهما إقرار السلم والحياة الهانئة.
قضية المال والاقتصاد والصراع الربوي والذي أمكن للإسلام ـ بفضل الله ـ أن يعيد الفطرة إلى المال؛ باعتباره مال الله، وحرم الربا ودعا إلى التكامل، وغير ذلك من القضايا التي يجب أن يتبناها الخطاب الإعلامي الإسلامي وفق الشرطين الأساسين السابق الإشارة إليهما وهما:
1 - تقديم النموذج العملي.
2 - استخدام الوسائل المتاحة المقدمة.
- متطلبات الخطاب الإسلامي:
لا شك أن المفكر المسلم الصادق لا يفتقر إلى الجانب الإسلامي في قوة الطرح لفكره؛ حيث إنه يعتمد على قوى تستمد قوتها من السماء، ويتميز بسمات واضحة:
1 - فكر صادر وفق هَدْيٍ عن خالقٍ عالمٍ بالنفس الإنسانية، وطبيعتها قادر على كشف ما خفي وما ظهر من عالم بالغيب في الحاضر والمستقبل.
2 - فكر يتلاءم ويتماشى مع الحياة العصرية ومستحدثاتها المتقدمة وفق ضوابط أصولية تحرص على الإيجابيات، وتبتعد عن السلبيات، وتخضع لمقاييس ثابتة وأصول واضحة في الوقت الذي يرفض فيه التخلف والانحطاط والرذائل.
3 - فكر يربط تعمير الأرض ونمو المجتمع وازدهار الحياة الاجتماعية والاقتصادية بتعمير القلوب وطهارة النفوس ونقاء الوسائل، بل يعتبر التقصير فيما تتطلبه الحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية من نماء وعمارة يعتبر تخلفاً وإثماً يستحق عقاب الله؛ فالعمل عبادة تقرّب إلى الخالق سبحانه.
بمثل هذه العناصر الأساسية ينطلق حامل الرسالة الإعلامية ليخاطب المجتمع الأوروبي في حالته التي يشعر فيها أنه قد تحضر وتمدن، وأن الدين تخلُّف ورجعية؛ ليعلن أن الإسلام وهو دين يطرح بقوة فكرة تعمير الأرض والانتقال من مرحلة التخلف، ولا يرفض أقصى مراحل التقدم دون أن يتجاهل الرابط القوي بين السماء والأرض وبين الخالق والمخلوق.
بهذه المنطلقات يمكن للخطاب الإسلامي أن يخرج للعالم بوضوح وقوة تحقق التفاف الجمهور المستهدف، وتوجد رأياً عاماً جديداً تقنعه الفكرة، ويعجبه السلوك العملي.
إن على الإعلامي المسلم صاحب الرسالة الإسلامية أن يدرك أن العالم اليوم لا يعيش أزمة مال ولا رجال، ولكنه يعيش أزمة قيم ومفاهيم رسالية هادفة تحملها أفكار سليمة من عقائد لها قدرة نقل الإنسان إلى شاطئ أمان بعد أن دمرت الحضارة الحديثة معاني الأمن والأمان في نفوس الأفراد والأمم.
__________
(*) أستاذ مشارك ورئيس قسم الإعلام بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة إفريقيا العالمية ـ الخرطوم.(223/9)
سخافة التعلل بحرية التعبير
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رد الفعل الإسلامي العنيف ضد الرسومات الدانماركية المسيئة لنبيهم أثارت عدة قضايا بيننا وبين الثقافة الغربية العلمانية الليبرالية، من هذه القضايا:
أولاً: قضية الحرية:
لم يجد الغربيون الموافقون على نشر تلك الرسومات المسيئة ما يتعللون به إلا حرية التعبير. فهم يقولون لنا بلسان الحال بل والمقال أحياناً: إننا قوم متحضرون، حرية التعبير عندنا أمر أساس، وهذا شيء لا تفهمونه أنتم ولا تقدرونه.
نقول: لو أن حرية التعبير كانت عندكم حرية مطلقة، تبيحون لكل إنسان أن يقول ما شاء كيف شاء؛ فلربما فهمنا تعللكم بها، وإن لم نوافقكم على الفعل الذي عللتموه بها. أما وأنكم تقيدون هذه الحرية، فتجعلون بعض التعبير جريمة يعاقب عليها القانون، كتجريمكم لمن يفشي سراً للدولة اؤتمن عليه، أو من يُقْسِم كاذباً أمام قاضٍ، أو من يصيح في مكان مزدحم بالناس: الحريقَ الحريقَ، فيضطرب أمر الناس فيموت بعض ويصاب آخرون، نقول: أما وأنكم تستثنون أشياء من التعبير فلا تبيحونها بل تجرِّمون من يُقْدِم عليها، فإن حجتكم لا تكون مقبولة؛ لأن الخلاف بيننا وبينكم لم يكن في مبدأ حرية التعبير. إننا لم نحتج ونتظاهر ونقاطع احتجاجاً على مبدأ حرية التعبير، وإنما فعلنا ما فعلنا؛ لأنكم أبحتم شيئاً كان أوْلى بالمنع من تلك الأشياء التي منعتموها.
إن تحويل القضية إلى قضية عن حرية التعبير هو إذن وضعٌ لها في غير موضعها. إنه لا يوجد مجتمع بشري، ولا يمكن أن يوجد، تكون فيه حرية التعبير مطلقة، مهما بلغ من الليبرالية والدمقراطية؛ لأنه يتحول بهذا ـ لا محالة ـ إلى فوضى لا يكون معها مجتمعاً. ولا يوجد مجتمع بشري، ولا يمكن أن يوجد، يكون فيه التعبير ممنوعاً منعاً مطلقاً، مهما بلغ من الدكتاتورية والاستبداد.
الخلاف بين المجتمعات ليس إذن في مبدأ حرية التعبير وإنما هو في مداها، وفي نوع ما يباح من التعبير وما يُمنع. والتفاضل بينها ليس في القدر أو المدى، وإلا كان أفضل المجتمعات مجتمع لا قانون فيه؛ لأن كل قانون هو بالضرورة قيد على الحرية. وإنما تتفاضل المجتمعات في نوع ما تبيحه وما تمنعه. ففي المجتعات الغربية الدمقراطية الليبرالية قدر من الحرية السياسية لا يوجد في غيرها، وهذا قد يكون شيئاً حسناً، لكن فيها أيضاً من حرية البذاءة وسوء الخلق ما ليس في غيرها. وهذا أمر سيئ حتى بشهادة كثير من الغربيين ولا سيما المتدينين منهم.
إننا لم نقل ولا نستطيع أن نقول للناس كلهم: لا تنتقدوا ديننا، وإنما قلنا: لا تسبوا نبينا؛ وفرق كبير بين النقد والسب. إننا مأمورون بأن نجادل من لا يؤمن بديننا، والمجادلة إنما تكون بالاستماع إليه والرد على اعتراضاته وشبهاته. لكن الآية الكريمة التي أمرت بالمجادلة فرقت بين مجادل ظالم ومجادل غير ظالم، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ، ثم استثنى من ذلك من كان ظالماً، فقال ـ سبحانه ـ: {إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] .
ثانياً: ما الحل؟
رأيُ بعضهم ـ حتى من غير المسلمين ـ أن يُسَنَّ قانون عالمي يجعل للأديان قدسية. نقول: إذا كان المقصود بالقدسية أن يُمنع نقد الدين أياً كان؛ فهذا أمر يستحيل تطبيقه؛ لأنه لا يكاد يوجد دين إلا وهو ينتقد غيره من الأديان. وهذا كتاب ربنا مليء بنقد النصرانية واليهودية المعاصرتين، ومليء بنقد الشرك والإلحاد والمادية؛ فهل تحذف أمثال هذه الآيات الناقدة، أم ماذا؟
الذي أراه هو أمرٌ دعا إليه القرآن يمكن تعميمه وجعله قانوناً عالمياً. قال ـ تعالى ـ:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] .
فالآية تأمرنا بأن لا نسب ما يعبدون من دون الله، وتعلل هذا بعلتين: أولاهما: أنهم سيسبون الله ـ تعالى ـ فنكون نحن الذين تسببنا في سبهم له سبحانه. وثانيهما: أن الله ـ تعالى ـ زين لكل أمة عملها فجعلها تراه حسناً. إن كثيراً من الذين يدعون إلى التسامح في البلاد الغربية يعللون دعوتهم إليه باللجوء إلى القول بنسبية الحقيقة. فيقولون إنه يجب على كل من يرى رأياً أو يعتقد اعتقاداً أن يكون متسامحاً مع مخالفه؛ لأن ما تعتقد أنت أنه هو الحقيقة، إنما هو الحقيقة كما تراها أنت، وما يعتقده هو إنما هو الحقيقة كما يراها هو، وليس هنالك حقيقة مطلقة غير مضافة إلى من يراها. لكن الآية القرآنية تقول إنهم فعلاً يرون أن ما يؤمنون به شيء حسن؛ لذلك يجب أن نعاملهم بالتي هي أحسن، لكنها لا تقول إن ما يرونه حسناً هو حسن في نفس الأمر؛ لذلك يجب أن نجادلهم بالتي هي أحسن كي نبين لهم الحق ونعينهم على أن يروه ـ كما هو ـ حقاً، وأن يروا الباطل ـ كما هو في الحقيقة ـ باطلاً.
ثالثاً: المقاطعة:
المقاطعة سلاح يُلجَأ إليه متى كان ذا تأثير في إلحاق الأذى بمن يقاطَع. أما إذا لم يكن له تأثير، أو كان ضرره على من يقاطِع أكثر من ضرره على مرتكب الجرم؛ فليس من العقل اللجوء إليه. وبمثل ما قلنا في المقاطعة قال علماؤنا في هجر الأشخاص. فإذا كان مرتكب المخالفة في مجتمع غالبيته من الصالحين، فإن الهجر يؤذيه فيكون سلاحاً مؤثراً. أما إذا كانت الأغلبية من مرتكبي تلك المخالفة؛ فإن هجر الرجل الصالح لهم يكون مضراً به لا بهم، ولذلك لا يُلجَأ إليه.
ثم إن الإنصاف يدعونا أن نفرق في هذه القضية بين معاملتنا للدنمارك ولغيرها من الدول التي أعادت بعض صحفها نشر الرسومات. فالدنمارك هي التي بدأت الأمر وتولت كبره. والأمر في الدنمارك لم يكن أمر صحيفة فقط، بل إن معاملة رئيس الوزراء لوفد سفراء الدول الإسلامية، وموقف الملكة، حوَّلا الأمر إلى موقف شبه رسمي من الإسلام تقف وراءه الدولة، لذلك كانت مقاطعتها رد فعل مناسب، وكان بحمد الله مؤثراً تأثيراً موجعاً.
أما أمر الدول الغربية الأخرى فمختلف. فالصحيفة الفرنسية التي كانت أول من أعاد نشر الصور عوقب محررها بالفصل، وتبرأ من عملها رئيس الدولة. وأما الدول الأخرى التي أعاد بعض صحفها نشر الصور؛ فإن حكوماتها إن لم تعتذر فهي لم تظهر موافقة لصحفها. ونحن لا نستطيع أن نقاطع كل دولة أساءت بعض صحفها إلينا، لكننا نستطيع أن نحتج على فعلها بالطرق المناسبة.
رابعاً: بل هو خير:
ثم إننا نقول في هذه الحادثة كما قلنا في ما حدث بعد حوادث سبتمبر: لا تحسبوه شراً لكم، بل هو خير. فما أكثر الخير الذي ساقه الله ـ تعالى ـ إلى دينه وإلى عباده بسبب هذا الفعل الظالم.
فقد اظهر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من حبهم العظيم لنبيهم وإجلالهم له، ومن سخطهم وإنكارهم على من سب نبيهم ما أذهل العالم؛ وهذا خير لهم يرجون به حُسن الثواب من ربهم، بل هو عمل صالح نرجو أن يكون خيراً للعالمين كلهم.
وقد كان سبباً في تذكير المسلمين بسيرة نبيهم العطرة وخُلُقِهِ العظيم؛ فما من خطبة جمعة أعقبت اطلاع المسلمين على نبأ تلك الصور إلا كانت عن حبيبهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وكانت أيضاً سبباً في تعريف المسلمين للناس في الدول الغربية بسيرة نبيهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وكانت سبباً في إثارة فضول الكثيرين من غير المسلمين ليعرفوا شيئاً عن هذا الرجل الذي رأوا من حب الناس له وتضحيتهم في سبيل ما لا بد أن يكون قد أثار فضول الكثيرين منهم لمعرفة شيء من سيرته.
كل هذا من بركات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- التي تستمر متتالية حتى بعد مماته ولحوقه بالرفيق الأعلى.
فاللهم صلِّ عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وسلِّمْ تسليماً كثيراً.(223/10)
لا!
إبراهيم بن سليمان الحيدري
هناك خلف أسوار الفزعة (*) وتحت ظلال الاحتساب الوارفة تلحظ بين الفينة والأخرى شخصاً تمنعه أخلاقه النبيلة وكرمه الفياض من رفض سيل الطلبات التي تصب عليه من المحيطين به من الزملاء والأصدقاء والأقارب، يعجز أن يقول لأحدهم: لا، ويجد كلفة كبيرة في الاعتذار.
من زاويةٍ ما يبدو الشخص غاية في النبل والأدب، ولكنه من زوايا كثيرة يظهر لك شخصاً لا يملك وقته، مشغولاً إلى ذروة رأسه، كثير النسيان ومتكرر الهفوات، ثم لا تسأل عن المفارقة الكبيرة بين كثرة الوعود وقلة الإنجازات.
ليست المشكلة في مساعدة الآخرين؛ فهذا مطلب شرعي وخلق نبيل، وليست المشكلة في كثرة الأعمال؛ فالكثير من الناس لديه الوقت الكافي لذلك، ولكن المشكلة في تحمُّل حجم كبير من المسؤوليات ثم عدم القدرة على الوفاء بها. ولعلك تدرك أيها القارئ الكريم أن الناس يحبون من يساعدهم، ولكنهم يكرهون أن تتأخر أعمالهم عن مواعيدها أو أن تُنهى بصورة غير متقنة.
إنها ليست دعوة للإضراب عن المبادرات أو الإحجام عن مساعدة الآخرين، لكنها دعوة لمثل تلك الشخصيات إلى امتلاك القدرة على انتقاء الأعمال التي تناسب قدراتهم وإمكانياتهم.
وفي مثل هذا الحال فإن مقابل كل (لا) تقال؛ هناك أعمال تنجز في الوقت المحدد وبصورة متقنة، وفوق ذلك بال مرتاح ونفس مطمئنة.
شخصية أخرى كذلك لا تستطيع كذلك قول: (لا) ، لكن الدوافع في هذه المرة ليست حب مساعدة الناس واحتساب الأجر من الله ـ تعالى ـ بل ضرباً من الغرور يُشعر صاحبه أنه قادر على فعل كثير من الأعمال، متقنٌ لها.
إنه من الظلم أن نساوي الشخصية الأولى بالثانية، لكن المؤسف حقاً أن الأعراض متشابهة والنتائج متقاربة.
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.
(1) الفزعة: الإغاثة والإنجاد. وفَزِعْتُ الرجلَ: أغثته. والإفزاع: الإغاثة.(223/11)
نحو الأحسن
د. عبد الكريم بكار
يثبت العديد من الدراسات أن الثروة الأساسية لدى الأمم هي ثروة كامنة وغير ملموسة، وتلك الثروة تكمن في العلوم والمهارات وعادات الناس والنزاهة والعدالة والقدرة على جذب الاستثمارات الخارجية ... ولا أريد الخوض في هذه المسألة الآن، لكن الذي أودُّ أن أؤكد عليه هنا هو أن هناك دائماً طاقة غير محررة ووقتاً غير مستثمَر، وموهبة غير مكتشَفة، كما أن هناك دائماً نوعاً من الارتباك في إدارة الذات وتوجيه الجهود نحو الأهداف على النحو المطلوب، وهذا في الحقيقة يؤشر إلى شيئين مهمين:
1 ـ قصور الإنسان وضعفه وبعده عن الكمال.
2 ـ وجود إمكانية هائلة للتقدم على الصعيد الروحي والخلقي والعقلي والاجتماعي؛ حيث لا نجد حدوداً للتقدم على هذه الصُّعد، أو قيوداً على إيقاع ذلك التقدم.
لو تساءلنا كيف نساعد أنفسنا على المضي نحو الأحسن في وضعيتنا العامة، لأمكننا أن نشير إلى العديد من المبادئ والإجراءات، والتي من أهمها الآتي:
1 ـ التحرر من اليأس والإحباط، حيث إن البيئات التي يغلب عليها الجهل والفقر والظلم تعلِّم الذين يعيشون فيها السلبية، وترسل لهم فيضاً من الرسائل التي تزرع في أعماقهم الإعراض عن المحاولة والتجريب والبحث، وذلك ـ باختصار ـ لأن هذه الأشياء عقيمة ولا جدوى منها. وقد ثبت أن الناس يتعلمون اليأس ويتعلمون أيضاً التفاؤل، ونحن نريد أن نتعلم التفاؤل من خلال إيماننا العميق بكرم الله ـ تعالى ـ ولطفه ومعونته، ومن خلال الفرص المتجددة التي يقلِّب فيها عباده. إنه ما تذهب فرصة، إلا وتلوح في الأفق فرصة أخرى، وما يُغلق باب من أبواب الخير إلا ويفتح باب آخر، لكن الطريقة التي رُبِّينا بها، والبيئات التي نعيش فيها، تدفعنا نحو الانشغال بالفرص الضائعة والتألم على الأبواب المغلقة، عوضاً عن أن نندفع للبحث عن الفرص الجديدة والابتهاج بالأبواب المنفتحة. وما أعظم قول الله ـ تعالى ـ: {فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] .
مع تعقيد الحياة الحضرية وظروف العيش الصعبة تولد الخيارات وتبرز البدائل، ولكن وفق شروط جديدة، ولا بد للاستفادة من تلك البدائل من الوعي بتلك الشروط والعمل على توفيرها.
2 ـ نحن في حاجة إلى امتلاك المفاهيم التي تجعلنا أقوى على التغيير وأقوى على مواجهة المغريات، كما أننا في حاجة إلى التخلص من المفاهيم التي تكبِّلنا، وتلقي بنا في دروب المتاهة والعجز والجمود.
من المفاهيم التي تساعد على النمو والتحسن المفاهيمُ الآتية:
1 ـ التفاؤل والوعي يشكلان البداية الصحيحة لكثير من الأشياء.
2 ـ إذا كان لا بد لي من أن أبدأ، فَلأن أبدأ اليوم خير لي من أن أبدأ غداً.
3 ـ إذا لم أساعد نفسي لم يساعدني أحد.
4 ـ ما عند الله ـ تعالى ـ من الهداية والمعونة والتوفيق يُنال بطاعة الله والأوْبة إليه.
5 ـ من خلال الأعمال الصغيرة المتراكمة تولد الأعمال والإنجازات العملاقة.
6 ـ الإنسان ليس ضئيلاً، لكنه كسول إلى حد بعيد.
7 ـ ما أمامي من الخير والإنجاز والازدهار أكثر بكثير مما مضى ومما هو كائن الآن.
8 ـ من خلال مجاهدة النفس والتخلّص من العادات السيئة، يصبح كل شيء أفضل.
9 ـ العلاقات الحسنة بالناس مصدر أمان، وباب من أبواب الرزق.
10 ـ كلما تحسنت إمكانات الإنسان، واتسعت دائرة نفوذه صار احتياجه إلى التعاون مع الآخرين أشد.
أما المفاهيم التي تسبب اليأس والعجز وتكلس الأوضاع؛ فهي أيضاً عديدة، ولعل من أهمها:
1 ـ لو درستُ في جامعة جيدة لحصلتُ على وظيفة جيدة.
2 ـ لا أعرف لماذا لا يحبني زملائي.
3 ـ قلة ما بين يدي من مال هي الداء الذي لا دواء له.
4 ـ حاولت كثيراً التخلص من بعض عاداتي السيئة، لكني لم أفلح.
5 ـ لا أشعر أنني موهوب، ولهذا فمع الكثير من الجهد فلن أحصل على شيء يذكر.
6 ـ ما دخلت في مجال من المجالات إلا شعرت أن هناك مؤامرة تُحاك ضدي.
7 ـ نومي ثقيل، ولا أعرف كيف أتعامل معه، ولهذا فإن فوات صلاة الفجر مني أمر لا مفرَّ منه.
8 ـ هذا الزمان مملوء بالشرور والأشرار، ولهذا فإن الأمل في الإصلاح ضعيف.
9 ـ حاولت أن أتعرف على نقاط القوة لدي، فلم أفلح، فأنا على ما يبدو إنسان عادي بكل المقاييس.
10 ـ كلما ظننت أنني لن أكرر أخطائي، وظننت أني سأتعلم من تاريخي الشخصي، خاب ظني.
هذه المفاهيم هي على مستوى ما، مفاهيم سلبية وخاطئة، والتخلص منها شيء ممكن، بل هو شرط للتحسن والإنجاز.
من خلال التبصر الذاتي وصحبة الأخيار أهل الفطنة والهمة، ومن خلال التأمل في سنن الله في الخلق، سنجد الكثير الكثير من الإمكانات، والكثير الكثير من الأشياء الجيدة التي نضيفها إلى حياتنا الشخصية.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.(223/12)
حوار مع الدكتور / محمد الحسن عبد الرحمن
حاوره في الرياض: خباب بن مروان الحمد
المدير العام لصندوق إعانة المرضى بالسودان الدكتور محمد الحسن عبد الرحمن:
لن يسكت التنصير عن جنوب السودان حتى ينفذوا مخططهم
يعاني السودان ـ الذي يعدُّ عمقاً استراتيجياً في الوسط الإسلامي ـ مأساة حقيقية تحت مطرقة الحروب وسندان التغيير لهويَّة الشعب السوداني المسلم؛ فقد انطلقت معاناة ذلك البلد منذ بدء الاستعمار، واستمرَّ ذلك في ظلّ الحكومات المتعاقبة، مروراً بهجمات الحروب والفقر والتنصير والمخططات الداخلية والخارجية لزعزعة أمنه واستقراره نحو تدحرجات لا تعلم نهايتها!
وفي هذا الحوار الذي نلتقي فيه ضيفنا فضيلة الدكتور محمد بن الحسن عبد الرحمن، المدير العام لصندوق إعانة المرضى بالسودان، نحاول أن نسلّط فيه الضوء على العديد من القضايا التي تهم المتابع للواقع السوداني، وصندوق إعانة المرضى أحد المؤسسات الإسلاميَّة الناشطة في المجال الطبي في جميع أنحاء السودان، ويقدّم خدمات نوعية متميزة.
^: مجلة البيان ـ ترحِّب بكم في هذا اللقاء، الذي نسأل الله فيه أن يوفِّقكم ويفتح عليكم، ونتمنَّى أن تعطونا نبذة عن أوضاع المسلمين في الجنوب السوداني من ناحية دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية.
| أهلاً وسهلاً بكم، وأشكركم شكراً جزيلاً على إتاحة هذه الفرصة لإبداء ما لدي حول الواقع السوداني وما يعرض له.
منطقة جنوب السودان لها وضع خاص بالسودان بحكم قضايا تاريخية وسياسية، وتمثل مساحتها ربع السودان تقريباً، وسكان الجنوب يمثلون تقريباً ستة ملايين نسمة، ولا توجد للمسلمين إحصاءات واضحة ولكن تقدر النسبة بـ 20% من عدد سكان الجنوب.
وغالب عقيدة الجنوبيين هي الوثنية؛ حيث يقدَّر معتنقوها سابقاً بـ 60%، والآن لا توجد إحصاءات دقيقة لهم بل هم يقلُّون، بسبب التزايد الكبير للديانة النصرانية؛ لأن من ورائها منظمات تنصيريَّة فاعلة أقدم وأقوى من العمل الإسلامي في جنوب السودان، وإن كان المسلمون في زيادة تكاثريَّة في تلك المنطقة.
وللتباين العرقي والديني ونتيجة للاستعمار الإنجليزي الذي كان في السودان، حيث أدَّى إلى حاجز وفجوة بين الجنوب والشمال؛ وذلك بموجب قانون إنجليزي اسمه (قانون المناطق المغلقة) الذي يمنع التمازج والتداخل بين الشمال والجنوب، فلم يكن يسمح للجنوبي السوداني أن يدخل لمنطقة الشمال إلا بإذن، وذلك هدف وبرنامج مقصود للإنجليز، ليكون الجنوب مختلفاً ثقافياً واجتماعياً، مع افتعال المشكلات في الجنوب، وهذا عمل بذره الإنجليز في بداية الاستعمار الإنجليزي.
ولهذا تأخرت أسلمة الجنوب والعمل فيه، بجانب الإشكال الكبير وهو الإشكال الأمني؛ فالجنوب منذ 1955م، بدأت فيه أول العمليات المسلحة في العداوة مع الشمال، وكان ذلك بسبب فتنة زرعت من الخارج بأصابع مجرمة.
والجنوب ـ والحمد لله ـ غنيٌ بالموارد الطبيعية؛ ففيه أمطار كثيرة؛ والمناخ استوائي، ولذا فالأرض غنية والأنهار كثيرة جداً، وكذلك الأراضي الصالحة للزراعة، بحيث يتم استغلال الثروات الزراعية والحيوانية، وكذلك في الجنوب ثروة معدنية وهو النفط؛ فالبترول الذي يستخرج في السودان، ويبلغ حوالي 300 ألف برميل يومياً الآن، أكثره موجود في جنوب السودان في ولاية الوحدة، ولهذا فالجنوب الآن من ناحية اقتصادية منطقة حيوية جداً في السودان.
أمَّا العلاقة بين الشمال والجنوب فهي علاقة جيدة، وما يثار من إشاعات بأنه لا يوجد توافق بين الجنوبيين والشماليين، فهذا شيء غير صحيح تماماً، بل العلاقة مع الاختلاف والتباين العرقي تتسم بالتعامل والاحترام، ولكن التمازج والتداخل والتعايش والمعاشرة كانت متأخرة نتيجة للموانع السياسية التي وضعها الإنجليز وغيرهم.
فالجنوب جزء عزيز من السودان ولكنه ـ وللأسف ـ يُستغل من جهات في الخارج حتى يكون لقمة سائغة للمفسدين والمغرضين.
^: هل ترى أن الوضع السوداني في هذه الفترة مهدد بالتفتيت والتقسيم، وخاصَّة أنَّ كثيراً من المراقبين يرى أن السودان مهدد بالتجزئة، بفصل الجنوب عن الشمال؟
| التهديد بالانفصال لا زال هذا الأمر وارداً، والسبب الرئيس لوجوده هو: التدخل الخارجي وبعض الأصوات النشاز التي تنادي بالانفصال نتيجة للتباين العرقي والعقدي، ونحن لا نستطيع أن نقول إن الجنوب خاص بديانة معينة؛ لأن فيه مسلمين ونصارى ووثنيين، ومن ثَم لا يوجد دين معين يحكمه.
^: ولكن ألا ترى أنهم يتحاكمون لمبدأ الأكثرية؟
| لا توجد ديانة محددة نستطيع أن نقول هي الأكثرية الغالبة الحاكمة في الجنوب السوداني، بل الوثنية هي الأغلب في تلك المنطقة، ولكن لا يوجد لهم غلبة حتى يُحكَم كل أهل الجنوب بمجموعة معينة لها معتقد معين في جنوب السودان.
وهذه الدعوات التي تدعو للانفصال لها أبعاد أخرى سياسية متعلقة بالصراع حول المنطقة وأهميتها الاقتصادية، واستقرار القارة، وتوجد اتجاهات تحب أن تحصل شروخ بالبلد، ولا زال التهديد موجوداً، فجاءت اتفاقية السلام التي وقعتها حكومة السودان الحالية، مدخلاً نحو التوافق وحل إشكالية الجنوب، إلاَّ أنَّها تمر بفترة تجربة واختبار، وهي الفترة الانتقالية.
^: هل تظن أنَّ هذه التجربة ستنجح؟
| ستنجح في إيجاد شيء من الإيجابيات، ولكن هل تنجح في الاندماج والارتباط أم لا؟ هذا يحدده تنفيذ البرامج العمليَّة المطروحة نحو تنمية قضية الجنوب والارتباط، ولكن في تقديري الشخصي أننا نعيش في محور الانفصال أكثر من محور الاندماج نتيجة لكثرة المنافقين والمغرضين في القيادات الجنوبية من ناحية، وكثرة التدخلات الخارجية والتحريك الخفي في إدارة الصراع الموجود في السودان.
^: للمنصِّرين جهد واضح في السودان فهل من إلماحة سريعة في ذلك؟
| نعم! لهم جهد واضح، وتوجد مجمعات كنسية في السودان، ومنظمات تنصيرية مباشرة، وهي منظمات طوعية وتقدر بالعشرات، ولها دعم كبير؛ ففي سنة من السنين كانت ميزانية إحدى المنظمات التنصيرية العاملة أكثر من 13مليون دولار، ومدخلهم الأساسي للتنصير هي الخدمات التي يقدمونها لمن يريدون تنصيرهم، من قبل المراكز الصحية والاجتماعية وعملهم الأساس في جنوب السودان، ولكن رغم ذلك فإن الجمعيات الدعوية والخيرية الإسلامية إذا نشطت فسيتم ـ بإذن الله ـ إسلام الكثير من السودانيين، وإذا اعتنى الدعاة والمصلحون في ذلك فسيكتب الله على أيديهم خيراً كثيراً، ومن أهم المتطلَّبات العناية بالتعليم؛ لأن من الخدمات التي تقوم بها الجمعيات التنصيرية في السودان مدارس تحت إشراف الكنائس، وبعض الناس الذين لهم وضعية جيدة مثل السفراء يرعون هذه الجمعيات التنصيرية.
^: لماذا يلاحظ أنَّ أداء الجهات الرسمية ضعيف أمام الجهود الكنسيَّة المتوالية؟
| للأسف فإنَّ القوانين الموجودة في السودان لا تقف أمام الكنيسة ونشاطاتها التنصيرية، والسبب تغيير قانون المنظمات التنصيرية الذي ألغي قبل 12 سنة، وأما الملابسات التي أدَّت إلى إلغاء هذا القانون؛ فهذا سؤال لا أستطيع الإجابة عنه؛ لأنَّ ذلك أمر غير معلوم لدي، وهو جدير بالبحث والتتبع.
^: «لن أنسى السودان أبدًا، وإن نسيت فأنتم من ورائي» هذه عبارة أطلقها جورج بوش لأعضاء اليمين النصراني بالكونجرس الأمريكي وبحضور صديقه المنصِّر الشهير فرانكلين جراهام. ماذا تحمل تلك العبارة في طيَّاتها، وكيف يواجه مسلمو السودان ذلك التحدِّي؟
| هذه العبارة تحمل في طيَّاتها ما رُفِعَ في شعار المؤسسات التنصيرية منذ عقدين من الزمان أو يزيد، نحو تنصير القارة الأفريقية بمجملها. وتنصير القارة الأفريقية له محاور، ومن أهم محاوره: كسر الحاجز أمام المنصرين، ووضع فجوة كبيرة جداً بين شمال القارة وجنوبها. وشمال القارة ممثل في الشريط العربي بين مصر وبين دول المغرب العربي، فخط الحاجز الأساسي هو السودان؛ فحتى يدخل هذا الشعار، وينزَّل على أرض الواقع فالمخطط فصل السودان وقطعه عن الجنوب، ولا ريب أنَّ الفصل من شعارات الكنيسة، ولن يسكت دعاة التنصير عن جنوب السودان أبداً؛ لأن هذا مدخل أساسي لهم لتحويل القارة وفصل شمال السودان عن جنوبه، ولهذا فبرامج التنصير في السودان لن تكف، والكنيسة لن تقف عن دعوات التنصير المحمومة، ولن يفتروا عنها.
^: ولكن ماذا عن دعاة أهل السنة تجاه تلك الدوافع التنصيرية المشبوهة؟
| المطلوب من الحكومة السودانية أولاً ثم من دعاة الإسلام ثانياً هو العمل في جنوب السودان، من خلال تنمية وتوفير الخدمات الضرورية التي هي من نواقص الجنوب ويحتاجها أهله، وتقديم النموذج الطيب نحوهم لإدخالهم في دين الإسلام؛ فالجنوبيون يحبون السودان ويُقبلون عليه، وإذا عُرض عليهم الإسلام بالموعظة الحسنة فإنهم يفتحون صدورهم له، وصدِّقني أنَّه يومياً يكثر الإسلام في السودان، ولا توجد تقديرات معينة، ولكن حسب توفير المعاش يكاد يومياًَ يسلم بعض الجنوبيين الوثنيين وحتى ممن كانوا نصارى.
ولكن المطلوب هو العمل التنموي الاجتماعي والإنساني الجاد والمنظَّم، والذي تشارك فيه جميع المؤسسات في تقديم الخدمة والدعوة والخير للجنوب السوداني، والذين هم فعلاً بحاجة ماسَّة لخدمات وإعانة وإغاثة وتثقيف حتى يكون لهم وضع أحسن من وضعهم قديماً؛ لأن الجنوب من خلال الحرب يكاد يكون متخلفاً من ناحية تنموية وخدمية؛ فعلى المؤسسات الحكومية السودانية والمؤسسات الإسلامية بخاصَّة توفير ما يعين أهل الجنوب على الاستقرار، وتقديم الخدمات الإنسانية الأساسية من ناحية أخرى، وعندها سَيَرَوْن كيف يُقبلون على الاهتداء إلى دين الإسلام؛ لأنه دين الفطرة، من غير التعقيد الذي اتسمت به بعض الديانات الأخرى.
^: برأيك بعد تولي (سالفا كير) قيادة الحزب النصراني في الجنوب، كيف ترى الأمور ستسير في الجنوب السوداني، وهل ترى أنَّ ذلك لصالح الأمة السودانية المسلمة؟
| (سالفا كير) ينفذ برنامجاً متفقاً عليه بين الحكومة السودانية وبين الحركة الشعبية، وهذا من ناحية أجندة البرنامج ومكوناته التي هي المشاركة في القسمة السياسية والقسمة المالية، وهي التي تسمى (الثروة والسلطة) في شعارات الكثيرين. أمَّا التشكيل الحكومي فهذا غير متفق عليه، وفي النهاية هذا البرنامج تحكم فيه صناديق الاقتراع في التصويت في حق تقرير المصير، وهل سيكون الجنوب جزءاً من السودان أو يكون دولة مستقلة؛ فالمسألة تحتاج لعمل جاد في مختلف الأوساط والاتجاهات الحكوميَّة بشكل خاص.
والشاهد أن (سالفا كير) يُنقَل عنه أن فيه روحاً انفصالية، ولكن الاتفاقية شعارها الأساس (الوحدة) وهذا يعني أن تقدم الحكومة السودانية والمجتمع السوداني في شمال السودان من دواعي الإغراء والإقناع والتحفيز لأهل الجنوب حتى إذا اجتمعوا فإنهم يكونون جذوةً واحدة لأهل السودان، بيد أنَّ دعاة الانقسام موجودون، والانقسام يغذي روح التباين الكبير بين الجنوب والشمال؛ ولكن إذا صدقت النوايا فإنه يمكن أن يظل الجنوب جزءاً من السودان الواحد مع خصوصية كل جهة، وخاصَّةً أنَّ حقوق الأقليات في الإسلام محفوظة، ولكن الإشاعات والتشويش الذي حصل حول الطرح الإسلامي وصياغة الحكم الإسلامي أدَّت إلى ظهور روح التنافس، وبهذا الاتفاق ينبغي للجهات الحكومية والدعوية والأهلية أن تبرز جدِّيتها بأن يأخذوا بيد أهل الجنوب إلى التنمية والتقارب والتواصل معهم بكلِّ الجهود الممكنة.
^: هل لـ (سالفا كير) تأثير قوي على الجنوبيين؟
| ليس له تأثير قوي كما كان لسابقه (جون قرنق) ، وهو قائد الحركة السياسية العسكرية التي قاتلت الحكومة وبالنهاية اتفقت معها، ولكن كما يقال في شرح وضع الحركة بعد (جون قرنق) إنها قيادة جماعية، وفي ظني أنَّ بينه وبين (جون قرنق) فرقاً كبيراً من ناحية قدرات القيادة ومؤهلاتها، فـ (سالفا كير) محنَّك من ناحية عسكرية، ولكنه أقل حنكة من الناحية السياسية، أمَّا (جون قرنق) فكان سياسياً ومحنكاً من ناحية عسكرية، وذا إمكانات أعلى، وكان يبدو مصمماً تصميماً قوياً ليقوم باتفاق الجنوب. أمَّا المراد بالاتفاق فما هو إلاَّ ليكون سبباً في تغيير السودان، تحت شعار: (سودان واحد، ولكن سودان أفريقي جديد) .
^: لعلك تابعت أزمة اللاجئين في دارفور، وكثير من وسائل الإعلام ذكرت شيئاً من تلك الأزمة، إلاَّ أنَّ بعض ما فيها يشوبه الغموض؛ فهل تذكر لنا شيئاً من ذلك؟
| دارفور قضية مؤسفة؛ لأنها خلاف وصراع في بلاد فيها وحدة العقيدة؛ لأنَّ أهل دارفور كلهم مسلمون ولا يوجد فيها وثنيون أو نصارى، ولكن فيها التباين العرقي، والناس منذ زمن عاشوا سوياً من دون هذه الشجارات؛ ففيها قبائل عربية وقبائل غير عربية أو أفريقية، والتباين الموجود هو في وضعيَّة البيئة، فقد كانت محل خلاف؛ لأن القبائل العربية في دارفور قبائل رعاة وأصحاب مواشٍ وإبل يتحركون بها، والآخرون مزارعون، فكان الاحتكاك يحصل بين الرعاة والمزارعين بسبب اعتداء بعض المواشي على زراعة أحد المزارعين، فيسود الاختلاف وتعاني في ذلك القبيلة ويحكم بين المختلفين أهل الصلح، ولكن دخلت بعض الأصابع التي استفادت من بعض ما حصل من دول الجوار في تشاد وليبيا، فأدخلت السلاح الناري دارفور، فتحركت القضية وتغيرت طبيعة الصراع، ودخلت أصابع أخرى في استغلال هذه القضيَّة بدوافع حزبيَّة مقيتة.
ودارفور تحولت من قضية إنسانية إلى قضية سياسية، أدَّت إلى صراع بين الحكومة والمعادين لها والخارجين عليها في دارفور، والآن تتشكل قضية دارفور وتسير نحو أبعاد مزعجة وخطيرة على قضية السودان، مثل الدعوة إلى فصل دارفور، أو معاملتها كالتعامل مع جنوب السودان، في تقسيم الثروة والسلطة؛ فهذه الأزمة دعوة لتفريق السودان بطريقة غير مباشرة.
والآن دارفور تعيش أزمة إنسانية وهي أزمة اللاجئين، ويعاني فيها مليونا نازح خرجوا من قراهم، ويعيشون الآن في معسكرات النازحين البالغ عددها أكثر من 48 معسكراً، في شمال وجنوب غرب دارفور، ويشكلون 30 ـ 40% من سكان الإقليم وكلهم مسلمون، وهذه المعسكرات تحتاج للكثير من المتطلَّبات المعيشية كالغذاء والعلاج والماء ومخيمات الإقامة.
وللأسف فإنَّ المنظمات العاملة في المجالات الإنسانية في معسكرات دارفور أغلبها منظمات غربية، وبعضها منظمات مشبوهة. أمَّا المنظمات الإسلامية العاملة في هذه الساحة فهي قليلة، ونحن لنا ـ ولله الحمد ـ في صندوق إعانة المرضى مكتب في شمال دارفور وآخر في جنوبها، ويغطيان شيئاً من المعاناة، ونقدم من خلالهما شيئاً من الخدمات والعلاجات، ونشغِّل مجموعة من العيادات، ونقدم الخدمات لبعض النازحين، ومعنا كذلك الهلال الأحمر السعودي وله جهود مقدَّرة ومشكورة، ونرجو أن يستمر في عمله هناك؛ لأن الناس بحاجة لخدماته، لكنَّ الغريب في قضية دارفور غياب كثير من المنظمات الإسلامية التي كنَّا نراها تنشط في مواقع أخرى في سنواتٍ سابقة ... فما الذي جرى حتَّى ينحسر نشاطها؟
^: وما الحل في نظركم تجاه هذه المشكلة؟
| الحل في نظري يكمن في جدية الطرح من الأطراف المتصارعة، ونسيان المشكلات القديمة، ومحاولة إيجاد الحلول لها من المتضررين، وتوفير تغطية من الخدمات الأساسية لأهل دارفور؛ لأن دارفور منطقة بعيدة ليس فيها خدمات طبية وتعليمية وإنسانية، فتحتاج لشيء من الطرح السياسي الإيجابي، في أن يعطوا مساحة فيما يناسب إدارة منطقتهم، بالتنسيق مع الحكومة، ولكن ليس بالدعوة إلى الانفصال أو تقسيم البلد عبر هذه العمليات المسلحة والتي وراءها في جزء منها أصابع خفية تهدف لتقسيم السودان.
^: كيف ترى مسار الإغاثة في السودان: هل ترى أن المسلمين قصَّروا في حقِّه؟
| غالب الإغاثة الموجودة في السودان إغاثة غربية، والإغاثة العربية إغاثة ضعيفة جداً، باستثناء بعض الجهود القليلة من بعض المؤسسات العربية، كالهلال الأحمر السعودي، والهلال الأحمر الإماراتي، وبعض جهود الخيرين، ولكن لو رأيت هذا مع حاجة الناس، وجهود الإغاثات الغربيَّة لوجدتها قليلة جداً، وأنا أعتقد أن السودان رغم أنه مميز جداً في المنطقة الإسلامية إلا أنه ما أخذ حقه من الرعاية، والنظرة حول الأخطار التي تهدد السودان ومستقبله، عند بعض الجهود الدعويَّة والخيريَّة والإسلاميين وكُتَّابهم؛ فالسودان يعيش مشكلة البعد في الوجود العربي والإسلامي الذي ينبغي أن يكون بكثافة، لنساعد على ترسيخ هوية البلد؛ فهوية السودان مهددة.
وما يقدم من جهد عربي أقل مما هو مطلوب؛ لأن السودان يمر بفترة حرجة من التباين والتوجيه نحو الهوية النهائية السودانية: هل هي هوية مسلمة أم لا؟ فيجب أن يعطي المسلمون السودان عناية خاصة؛ لأن السودان عمق استراتيجي بالنسبة للأمة العربية والإسلامية.
وبالنسبة للمؤسسات الطوعية أرى أن توجه رعايتها نحو السودان للمساعدة على تنمية صرح السودان، حتى لا يرتبط بالمد الغربي، وهذه دعوة للحكومات بأن تشجع العمل الطوعي الخيري وخاصة المؤسس؛ لأنَّ المؤسسات الخيرية الإسلامية لم يثبت شيء عليها في دعم ما يسمَّى بـ (الإرهاب) .
^: يتحدَّث بعض المتابعين بأنَّ ما يحدث في السودان ليس أقل خطورة مما يحدث في العراق، وأنَّ الأخطر في المشهد السوداني أنه يتم في صمت؛ فهل يتحقق أمل الصهاينة في كيانهم الممتد من الفرات إلى النيل، وهل يتم تجهيز النيل ليكون الحد الجنوبي لكيان بني صهيون؟
| هذا الكلام فيه جزء من الحقيقة؛ فإنَّ الاهتمام الزائد من بعض المؤسسات الدولية وبعض الدول الغربية، وأمريكا على وجه الخصوص، مع العمل المكثف الذي تقوم به المؤسسات أو المنظمات الدولية والمنظمات الغربية في السودان، والطرح المتزايد نحو التقسيم غير المركزي في الحكم، وكذلك في إيجاد صيغ لنظم تحاول أن تتمرد على طبيعة الحكم في السودان، كدولة ترفع شعار الإسلام، وأن الإسلام جزء من مكونات البلد ودستوره.
وبالنسبة للتصريحات التي ذكرتها عن أماني اليهود؛ فبالتأكيد أن الظاهر في المسألة هو البعد العقدي عند بعض الطغم الحاكمة في أمريكا والدولة الصهيونيَّة حول المنطقة، والتي هي جزء من معتقدهم وتحذيراتهم بأن النيل له علاقة بما يسمَّى (دولة إسرائيل الكبرى) فهذا يبيِّن سبب الاهتمام بالسودان من الأفراد والمنظمات والمختصين والخبراء والجيوش الأجنبية التي تراقب اتفاقات السلام في دارفور، وكذا في جنوب السودان، فهذا جزء من برنامج يبدو أنه معد ومصمم بطريقة مرتبة وهادئة ومعلنة في خلخلة السودان أو تمزيقه أو التدخل في أوضاعه الداخلية؛ فالسودان يشهد تدخلاً كبيراً في قضاياه الداخلية.
^: هل تعتقد أن يحصل في المستقبل ـ لا قدَّر الله ـ شيء من ذلك في ظل الاختلافات والتباينات بين الإسلاميين في السودان، وبينهم وبين غيرهم؟
| ما هو مطروح الآن جزء منه باتجاه ما يمكن أن يكون، والآن الجنوب عنده فرصة مدتها ثلاث سنوات وبعدها سيظهر عبر التصويت: هل سيظل جنوباً للسودان، أم جزءاً مستقلاً عنه؟ فالورقة لا زالت شائكة، والمفاوضات متعثرة في اتفاقية قضية دارفور، وما يطرح الآن من مجموعة تصورات حول حزام مقسم من مجموعة دول فمقدماتها موجودة، وهذا أمر لا يُستبعد؛ فلا يستبعد أن يكون السودان بعد قليل من السنوات عبارة عن مجموعة دويلات وليس دولة واحدة ـ نسأل الله أن يحفظ السودان وأهله من كيد الكائدين.
^: باعتبار فضيلتكم متابعاً للواقع الدعوي والإغاثي والسياسي؛ فما أكثر ما يسوؤكم في الواقع السوداني، من خلال ذلك، وكيف ترى مسيرة السودان المستقبلية؟
| أكثر ما يسوؤني في الواقع السوداني: غياب الرؤية المتكاملة حول السودان ومستقبله في الحقب السياسية السابقة وإلى الآن؛ فما تمَّ الآن من اتفاقات وما عُمل من أشياء فرضت نفسها كواقع؛ فالسودانيون شمالاً وجنوباً مؤسسات سياسية أو مجموعات اجتماعية أو دينية، ما كان عندهم رؤية متكاملة حول مستقبل السودان كبلد عنده مقومات وإمكانيات فيمكنه أن يكون دولة مميزة.
والشيء الثاني: التمايز والصراع السياسي غير المنضبط في السودان بعدة أشياء مختلفة، وما أدل على ذلك من قضايا التشكيل الوزاري الأخير، والحكومة وصراعاتها، حتى صارت القضية السودانيَّة صراعات وتكتلات، فلا يوجد وفاق ولا تعاون.
ثالثاً: عدم الجدية في البرامج العملية التي تدعو إلى إفساح الأوضاع الاجتماعية والسياسية حول برامج تنموية جادة، وعلاقات قوية ونظم مشجعة، نحو تنمية البلد.
رابعاً: التباين حول الأصوات الإسلامية؛ فنحن نعيش في أشكال تمزق حتى في الشمال، في الكتل السياسية والكتل الدينية؛ لأنها كلها دائرة حول محاور ليست هي الأولوية في مستقبل البلد؛ فهذه الأشياء مزعجة في واقع السودان. فهل يعي عقلاء السودان حجم الكارثة المنتظرة؛ لا قدَّر الله؟! ويؤلمني ـ واللهِ ـ أشدَّ الألم هذا التدافع والاختلاف الذي لا يستفيد منه في الغالب كما نرى إلا أعداء الدين.
^: من يتابع الاختلافات بين الجماعات الإسلامية في السودان يصاب بالذهول والاستغراب؛ فلماذا لا تقلل تلك الجماعات من تلك الاختلافات، وخاصة في ظلِّ ما يشهده البلد من الضغوط الخارجية والداخلية؟
| للأسف واقع الجماعات الإسلامية ليس مريحاً نتيجة للتباين والخلافات، وصراع المجموعات الإسلامية العاملة، سواء أكانت أحزاباً أو جماعاتٍ إسلامية عاملة، مع أنَّ الواجب هو التوحد والاجتماع خاصة في هذه المرحلة من تاريخ السودان الذي يتربص به الأعداء من كل جانب، وإذا لم يتم ذلك فلا أقل من أن يتم التنسيق والتواصل الإيجابي لتحقيق مصالح أعلى لخدمة الإسلام في السودان؛ فالأوْلى الآن خدمة الإسلام بالكلية، وقضايا الخلاف يجب أن تناقش بالطريقة العلمية الشرعية الصحيحة، الخالية من الهوى والانتصار للنفس، مع التعاون على البر والتقوى.
^: يزعم بعضهم أنَّ السودانيين لم يستغلُّوا ويستثمروا الأرض والطبيعة في مشاريع تنموية هامَّة، وخاصَّة أنَّ الأرض السودانيَّة تكمن تحتها الخيرات؛ فما رأيكم في مدى صحَّة تلك الدعوى؟ وكيف يفعَّل دور السودانيين لما فيه خدمة البلاد والعباد؟
| السودان بلد مليء بالموارد الطبيعية، ولا زال البلد بكراً من ناحية الثروات الكثيرة: المعدنية والمالية والحيوانية والنباتية والتي لم تستغل، ومن أكبر الأسباب التي أدت لعدم استغلال هذه الموارد عدة أمور، منها:
أولاً: الصراع المتبادل بين الحكومات المتتابعة للسودان؛ وبين جنوب السودان؛ فموارد الحكومة السودانية تذهب للأعباء العسكرية والحربية.
ثانياً: ضعف التخطيط؛ فأغلب الحكومات السودانية المتعاقبة، ما كانت تخطط تخطيطاً سليماً ومتكاملاً، وقد يدَّعون أنهم في ظل الحروب لا يستطيعون التخطيط والإنماء؛ حيث إنَّ الحروب أكلت السودان منذ أن استقل؛ وحرب السودان بدأت عام 1955، ونتيجة لعدم الاستقرار السياسي وتعاقب الحكومات والتردد بين الأنظمة العسكرية والأنظمة المدنية، عاش السودان 38 سنة تحت ظل هذه الحكومات العسكرية، والتي تأتي بعد تجربة ديموقراطية فاشلة، ولذا لم يستقر الوضع السياسي في السودان على نمط معين، حتى تبدو التنمية التدريجية، ولهذا لا يوجد بناء تنموي متواصل، بحيث يبني الأول فيتبعه الآخر بالبناء، بل قد يوجد هدم من دون تواصل للبنية التنموية، ولهذا ضاعت كثير من الطاقات والموارد.
ثالثاً: الإحجام الجزئي من رؤوس الأموال العربية خاصَّة، لكن الذي يحجم يُعْذَر؛ لأنه أحجم عن العمل في بلد غير مستقر أمنياً وسياسياً. نعم السودان بدأ يتجاوز جزءاً من هذا الإشكال بعد اكتشاف النفط، لكنه لا زال مهدداً بعدم الاستقرار الأمني والسياسي، من خلال العديد من القضايا مع الغرب، والصراع مع الجنوب، والصراع بين الأحزاب، هذا وغيره لم يجعل البيئة صالحة لتنمية الموارد وإصلاح أوضاع الناس.
^: لكن المراقب لوضع الجماعات الإسلاميَّة السودانية يلحظُ أنَّ كثيراً منهم يقولون: الواجب الوحدة، فإن لم يكن فالتنسيق؛ فلماذا لا تفعَّل برامج حيوية مشتركة بين الجماعات الإسلامية لتنفيذ ذلك وتوظيفه لواقع عملي تطبيقي لنصرة الجهد الإسلامي؟
| هذا هو المطلوب بتحويل هذا المفهوم للواقع العملي، وإذا أردنا ذلك فالمسألة تحتاج إلى التخلي عن بعض الحزبيات الموجودة عند كثير من المجموعات والأفراد المنتسبين لها، سواء أكانت تحزباً لقيادة أو انتماءٍ أو جماعة أو رموز، ولذا لا بد من مراعاة المصالح العليا للإسلام، من خلال أمور على رأسها: الإخلاص لله، والثاني: الفهم الصحيح وأيُّ المصلحتين أوْلى فتختار المصلحة الأعلى، فمثلاً: أتنازل عن بعض الحق الذي معي بجانب حق أكبر لنصرته ومصلحة أعلى. ودعني أقول: إنَّه وللأسف أن ممن أسهم في إذكاء روح أزمة دارفور، وجزء منها بعض المنتسبين للأحزاب الإسلامية، والتي من أسبابها الصراع بين الترابي والحكومة؛ لأن بعض أتباع الترابي عمل على إذكاء ذلك، والحقيقة أنَّ هذا اختلاف غير محمود وليس خلافاً شرعياً ولا أخلاقياً.
^: يرى بعض المراقبين أنَّ السودان يقدم في الآونة الأخيرة تنازلات كثيرة؛ فما سبب ذلك؟
| الحكومة من خلال برنامج المفاوضات والاتفاق مع الجنوب قدَّمت تنازلات كثيرة، وتلك التنازلات الهدف منها: تحقيق السلام كهدف استراتيجي لترتيب أوضاع البلد نحو إنهاء أوضاع الحرب، ولإقامة برنامج بعد إنهاء الحرب لصالح الوحدة في السودان، فتمت تنازلات كانت ظاهرة جداً، وسببت خلافاً مع بعض الزعامات والقيادات الموجودة، ولذا ترك كثير من القادة والمسؤولين مسؤولياتهم، واستقالوا من الحكومة نتيجة لتلك التنازلات، والحكومة مبررها لذلك هو إتمام اتفاق السلام، ومحاصرة الجنوبيين بمنطق أننا قبلنا بأشياء كثيرة وتنازلنا لأجل السلام، وليظهروا أمام المجتمع الدولي أنهم حكومة غير متعصبة تنازلت عن أشياء كثيرة لأجل السلام والوحدة. والحقيقة أنَّ بعض أجزاء التنازل في بعض منها قد يكون له ما يبرِّره، ولكن هناك بعض التفصيلات غير المعلنة نحتاج لمعرفتها، إلاَّ أنَّه توجد قضايا وقفت عندها الحكومة موقفاً جيداً مثل قضية العاصمة، وعدم علمنة الحكومة، ونحن نرجو أن يكون تطبيق الشريعة واقعاً عملياً في السودان.
^: ما جهود أهل السنة والجماعة في نشر التوحيد في السودان؟
| جهود أهل السنة كبيرة عبر النشاط الدعوي الميداني في المساجد والأسواق وفي الساحات والمنتديات الثقافية، ولكن المطلوب أكثر مما هو موجود؛ فلا زالت هناك في السودان مساحة تحتاج لتغطية من أهل السنة والتوحيد والدعوة إلى الدين الحق، والمساجد مفتوحة للدعاة، وكذا المدارس والجامعات، فيلزم أهل السنة مضاعفة جهودهم والدعوة إلى التوحيد، ومن ذلك نشر الكتاب والشريط الإسلامي، ولا بد كذلك من الانتشار في كل الساحات السودانية، وتوجد ـ ولله الحمد ـ منظمات سنيَّة كثيرة تدعو إلى الله في السودان، ولكن تحتاج إلى من يدعمها ويوفر كل الإمكانات المتاحة لها، حيث إنَّ بعضها تخرِّج طلبة علم ودعاة إلى الله؛ فالواجب تحفيز هذه الجمعيات وتقديم يد المساعدة لها؛ لأن السودان بلد مفتوح للدعوة.
^: للصوفية الغالبة سوق رائجة في بعض أنحاء السودان، ونسمع الآن أنَّ البرعي كان له دور في نشر الشرك في السودان، ومن ورائه تيار يجري وينشر فكره، وهل بعد هلاكه قلَّ أنصاره أم لا؟
| البرعي ظاهرة مزعجة؛ لأن البرعي ليس أول القيادات الدينية الصوفية، إلاَّ أنَّه في هذا العصر كان فتنة لبعض السودانيين؛ فكثير من الناس تعلقوا به تعلقاً لا يجوز، بل هو تعلق حزبي، وكان هذا ظاهراً من خلال الشعارات والعبارات والقصائد والمدائح فيه، ومن أسباب ذلك:
1 ـ الجهل الغالب في المجتمع السوداني وهو سبب رئيس لذلك.
2 ـ أنَّه ـ وللأسف ـ كان للحكومة دور في تنشيط البرعي وتياره وتلميعه؛ فمثلاًُ أول جسر ضخم أسَّسته الحكومة جاءت بالبرعي ومشى عليه لتحل فيه البركة ـ كما زعموا ـ كما أنه كان مستشاراً دينياً للحكومة، ولهذا تعلَّق به الناس تعلقاً أشدَّ من تعلق القبوريين بالأموات، وكما هو المعلوم فإنَّ فتنة الأحياء أشد خطراً من فتنة الأموات، ولهذا لما مات بقي كثير من الناس متعلقين به، نسأل الله السلامة. لكن من فضل الله ـ تعالى ـ أنَّ السودان يُقبِل على عقيدة التوحيد، وهذا يجعلني أؤكد على ضرورة الحرص على عرض الدعوة الإسلامية عرضاً ميسراً محبباً إلى القلوب، مع تكاتف الجهود لتحقيق ذلك.
^: (حتى لا يقال كان السودان بلداً سنياً) هذا عنوان مقال قرأته في مجلة البيان حول انتشار الوجود الشيعي الرافضي في السودان، بل سمعت أنَّه في جامعة دارفور يوجد مدٌّ متزايد من أمثال هؤلاء الذين لهم دور في قلب عقائد أهل السنة إلى العقيدة الشيعية؛ فماذا فعل الغيورون حيال تلك الهجمة الرافضيَّة؟
| للأسف فإنَّ الرافضة لهم دور كبير في السودان ونشاط واسع، ولهم تأثير بين أوساط الشباب، وللسفارة الإيرانية في الخرطوم جهد كبير في ذلك؛ فهم منذ عشرين سنة يستقطبون بعض الطلاب السودانيين ليدرسوا في إيران عبر البعثات الدراسية، وللأسف فإنَّ بعض أبناء السودان اعتقدوا عقيدة الرافضة، وصدرت مؤلفات لبعض كتاب سودانيين، مثل كتاب فاطمة الزهراء، وكتاب الحظيرة الكبرى، ويوجد مشايخ اشتهروا وصاروا يستغلون تجمعات الشباب بدغدغة غرائزهم بمثل: نكاح المتعة، ولكن الروح الطيبة عند السودانيين وخاصة رسوخ حب وتعظيم أصحاب النبي، لعلَّها تمنع من تشيُّع السودانيين أو قبول القدح في صحابة رسول الله #؛ ولكن يجب علينا أن نحذر من بعض الحركات الإسلامية التي لا ترى فرقاً بين منهج الشيعة والسنة إلا بالفروقات الفقهية فقط، فيرقِّعون للشيعة أعمالهم، وينخدع بهم عوام بعض أهل السنَّة.
^: كلمة أخيرة لمجلة البيان؟
| في الحقيقة نشكر لمجلَّة البيان جهودها الكبيرة، وهي إضافة حقيقية للإعلام الإسلامي، ومجلة مفيدة جداً وقدمت الكثير في خدمة قضايا الإسلام الفكرية والمنهجية، والله نسأل لها العون والتوفيق.(223/13)
تطلعات نحو عمل سلفي معاصر
محمد بن عبد الله الدويش
عندما نشرت مجلة البيان ملف (السلفية بين الدعاة والعداة) في عدد محرم الماضي 1427هـ وصلتنا تعقيبات متعددة تقدم رؤى أخرى تثري الموضوع وتتمم جوانبه، ويسعدنا في هذا العدد أن ننشر مقالين منها، مع قناعتنا بأن موضوع الملف واسع جداً وجدير بمزيد من الحوار والمدارسة.
وبهذه المناسبة نؤكد ترحيبنا بتعليقات المفكرين والكتّاب على كل ما ينشر في المجلة؛ فمثل هذا الحوار والتواصل من أكثر الوسائل المساعدة على تفعيل الحوار البناء بين الدعاة والمفكرين.
حقق التيار السلفي في هذا العصر منجزات لا تخفى على من يتأمل الواقع الدعوي، وحين نتحدث عن العمل السلفي فنحن نتحدث عن تيار في الأمة، وهو أوسع من مجرد كيان عضوي؛ فالكيانات العضوية، سواء كانت جمعيات أو مؤسسات، لا تمثل إلا جزءاً من هذا التيار.
والحديث عن منجزات العمل السلفي حديث يطول، ولا تتسع له سطور هذه المقالة، فنكتفي بالإشارة لأهمها، والتي تتمثل فيما يلي، وهي:
1 ـ إيجاد تيار دعوي يتبنى منهج الفرقة الناجية.
2 ـ الاعتناء بالعلم الشرعي وإحياؤه.
3 ـ الالتزام الشرعي والانضباط السلوكي، على مستوى الأفراد والمؤسسات.
4 ـ إحياء السنَّة وإماتة البدعة.
5 ـ تعظيم النصوص الشرعية والوقوف عند حدودها.
ومهما عظمت الإنجازات وعلت، فستبقى تطلعات الأمة نحو هذا العمل عالية، وهو مطلب شرعي وطبيعي ينبغي ألا تعوقنا عنه المبالغة في الدفاع عن المنهج والحرص عليه، بل الحرص ينبغي أن يقود للجرأة على المراجعة والصراحة في تقويم الواقع.
وفيما يلي أهم التطلعات المنتظرة من هذا التيار:
- الأول: الجرأة على المراجعة والتقويم:
إنّ جهدنا لا يعدو أن يكون عملاً بشرياً ليس له عصمة؛ فالعصمة للمنهج؛ أما البشر من غير الأنبياء فليس لهم عصمة، ومن هذا المنطلق فنحن بحاجة إلى مراجعة مسيرتنا في العمل السلفي مراجعة شاملة وكاملة، وبحاجة لتقييم دقيق وصادق، يقوم على الجرأة في نقد الذات ومراجعة النفس من أجل إصلاح الأخطاء التي تؤخر مسيرتنا في العمل.
وحتى تحقق هذه المراجعة ثمرتها فلا بد أن تكون علمية وجادة، دون أن تكون عفوية أو أن تقف عند مجرد محاسبة النفس على السلوك الشخصي؛ فهذه المحاسبة وإن كانت أمراً مطلوباً، لكن الأمر الذي نريده ونطمح إليه أشمل وأوسع من ذلك.
إننا بحاجة لتقييمٍ ومراجعةٍ تتيح لنا أن نسأل أنفسنا بصدق:
ـ ما أهدافنا التي نسعى إلى تحقيقها؟
ـ ما برامجنا ورؤيتنا الواضحة لتحقيق هذه الأهداف؟
ـ هل هذه الأهداف والبرامج تتلاءم مع التحديات المنوطة بهذا العمل الدعوي؟
والجرأة على المراجعة والتقويم تدعونا إلى أن نفتش عن أخطائنا من خلال تأمُّل الذات، ومن خلال إتاحة المجال للنقد والتقويم داخل صفنا، وأن نستفيد من النقد الذي يوجه إلينا من خارج إطارنا، فإن من مصلحتنا أن نسمع كل كلمة تقال بعيداً عن خلفية صدورها، وعن قائلها وتصنيفنا له وموقفنا منه.
حين يتحدث عنا الآخرون ولو كانوا أعداءً فسيحرصون على ما يُقنع الناس، ومن ثَمّ فهم أقدر وقوفاً على الأخطاء والعيوب، ولا ننكر أنّهم قد يبالغون، وقد يضخمون، وقد يكذبون، لكنهم أيضاً قد يصدقون، وهذا على فرض أنّ كلّ منتقد لنا إنّما هو عدو وخصم لدود؛ فكيف وفيهم من يتفق معنا في الأصول ويختلف معنا في بعض المواقف والتطبيقات؟
- الثاني: الفصل بين المنهج وبين الكيانات العضوية:
شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة لطائفة واحدة، ووصفها بوصف واضح وجلي، وهو التزام ما كان عليه هو وأصحابه؛ فمن تحقق فيه هذا الوصف استحق أن يكون من هذه الطائفة.
ومع انتشار العمل الإسلامي ونموه نشأت مؤسسات وتيارات وتنظيمات تتبنى المنهج السلفي وتدعو له، وقد كتب الله على يديها الخير الكثير لهذا المنهج.
ومع تقديرنا لجهد هذه الكيانات والمؤسسات؛ فمن الخطأ أن نحصر القضية السلفية في الكيان العضوي أو الإطار المؤسسي الذي ننتمي إليه أيّاً كان الشكل التنظيمي أو القالب الذي تتخذه؛ فمنهج الفرقة الناجية أوسع من أن يحتويه إطار تنظيمي أو كيان عضوي؛ فضلاً عن أن تحتويه مدرسة محددة فكرياً داخل هذا الإطار؛ فالحق أوسع من أن يحتويه إطار ضيق.
وفي المقابل قد توجد كيانات ينتشر في إطارها خلل في بعض الجوانب، لكن ربما نجد داخلها مَنْ يتسم بصفاء المعتقد وسلامته، وشدة الحرص على الْتزام السنة بما يفوق حرص بعض المنتمين للكيانات السلفية، ولا شك أنّ هذا الصنف أقرب إلى المنهج الذي نحمله من غيره ولو ممن ينتمون عضوياً للكيانات السلفية.
- الثالث: التفريق بين المنهج وبين من يحمله وطريقة حمله:
لقد بيّن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن منهج الطائفة الناجية منهج معصوم، لا زيغ فيه ولا انحراف، لكن بالرغم من هذه الشهادة النبوية؛ فإننا يجب أن نعلم أن الله ـ جل وعلا ـ قد كفل العصمة للمنهج فحسب، ولم يكفل العصمة لحَمَلَته من الأشخاص ـ اللهم إلا الأنبياء ـ وهذا يعني أننا حينما نحمل هذا المنهج فليس من المستبعد أن نقع في خطأ أو تقصير؛ لأننا غير معصومين، وهذا يعني أيضاً ألاَّ نحكم على من ينتقدنا أو يخالفنا بأنه مخالف للمنهج ومنتقد له؛ فمن العدل أن نفرق بين العداء للسنة والعداء لأشخاصنا؛ فهما قضيتان منفصلتان، ولكل قضية منهما أسبابها ومنطلقاتها الخاصة.
وثمة فئة ليست بالقليلة ترفض الاستجابة للدعوة السلفية لا تأصُّلاً للبدعة فيها، ولا كرهاً للسنة؛ لكن لأنها حملتها بطريقة غير مقنعة؛ فمن يحمل الحق فقد لا يؤديه بصورة صحيحة، بل قد يؤديه بصورة تشوهه.
إذاً فسلامة منهجنا لا تعني سلامة أشخاصنا، ولا يعني سلامة ذواتنا، ولا تعني أننا حملنا المنهج بطريقة صحيحة وسليمة؛ وهذا يقودنا إلى النقطة التالية.
- الرابع: ضرورة الأخذ بأسباب النجاح:
حين نفصل بين المنهج وبين من يحمله وطريقة حمله؛ فإن هذا يقودنا إلى النظر إلى جهدنا ومشروعاتنا في نشر المنهج على أنه جهد بشري لا يكتسب العصمة بمجرد انتمائه للمنهج؛ فالعصمة في المنهج لا فيمن يحمله.
وهذا يقودنا إلى تحمُّل مسؤوليتنا في الأخذ بأسباب النجاح الدعوي، في كافة المراحل: تخطيطاً، وتنفيذاً، وتقويماً، وتطويراً، دون الاتكاء على عصمة المنهج.
وقد يوفق في الأخذ بأسباب النجاح من لا يحمل صفاء المنهج، بينما يُخِلُّ الآخر بهذه الأسباب، فيُخفِقُ الثاني وينجح الأول، وهذه سُنَّة الله في الحياة، وحينها على من يُخْفِق أن يتحمل مسؤولية إخفاقه وفشله لا أن ينشغل عنه بتضخيم الذات واتهام المدعوِّين.
- الخامس: الانفتاح على الآخرين والاستفادة من التجارب الناجحة:
تمتلئ الساحة بالدعاة والعاملين للإسلام، وهم فئات وطوائف شتى ومدارس متنوعة، ولدى العديد من هؤلاء صور متميزة من النجاح وبالأخص في التأثير على الآخرين، والتواصل مع المجتمع.
وقد لا يخلو بعض هؤلاء الناجحين من قصور أو خلل؛ فهل هذا الخلل يوجب إهدار ما لديهم من تجارب ناجحة؟ بل هل سلامة المنهج تقتضي التخلي عن الاستفادة من هذه التجارب؟
لقد قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة في شأن الشيطان: «صدقك وهو كذوب» (1) ، فإذا كان هذا في شأن الشيطان المطرود من رحمة الله ـ تعالى ـ فكيف بإخواننا الدعاة الذين يشاركوننا في ساحات الإصلاح والعمل الإسلامي؟
وحين أحاطت قريش وأحلافها في غزوة الخندق ما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن أخذ برأي سلمان الفارسي، وقد أشار عليه بحفر خندق، فجاء بمكيدة لم تصنعها العرب ـ كما قالت قريش ـ.
إن التيار السلفي بحاجة إلى الانفتاح على الآخرين والسماع منهم والاستفادة من تجاربهم؛ وحينها سيجد دعاةً ناجحين، ونماذج فاقته في العمل والأداء.
وحين يفوقنا الآخرون في استقطاب الناس أو التأثير على العصاة والفساق أو في إيقاظ الوعي في الأمة فليس مردُّ ذلك التفوق عائداً بالضرورة إلى تساهلهم، وليس مردُّ تخلفنا هو بالضرورة غربة الحق وأهله، وليس تقصير الآخرين مبرراً للتخلي عن الإفادة من تجاربهم.
- السادس: إعادة النظر في أساليب التعامل مع المخالفين:
كان لأئمة السلف جهد في محاربة البدع والوقوف في وجه دعاتها، بل اقتضى المقام في أحوال عدة الإغلاظ عليهم وهجرهم. هذا وجه.
والوجه الآخر: أنهم أرحم الخلق بالخلق وهو ما ورثوه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع الناس برهم وفاجرهم، وهما وجهان لا يتعارضان ولا يتناقضان؛ فالرحمة والرفق هي الأصل؛ إذ الرفق ما كان في شيء إلا زانه. والإغلاظُ والهجر ـ عقوبةً ـ مناطُ استخدامِهما إفضاؤهما للمصلحة الشرعية، ولا يسوغ أن يتحوَّلا إلى خُلُق أو شعار يوصَم به أتباع المنهج السلفي.
كما يجب إعادة النظر في افتراض التلازم بين الغَيْرة على المنهج السلفي وبين الحرص على توسيع دائرة إخراج الناس من هذا المنهج، والسعي للحكم على الناس والتنقيب وتحليل أقوالهم لاكتشاف ما يبرر الحكم بإخراجهم من دائرة المنهج.
- السابع: توسيع دائرة تقديم العلم الشرعي للناس:
لقد كان من أهم منجزات التيار السلفي إحياء العلم الشرعي في الأمة بعد أن كادت سوقه أن تكسد، ورغم ما قدم من جهد في نشر العلم الشرعي وإحيائه فلا زالت هناك تطلعات عدة، ومنها:
ـ توسيع دائرة نشر العلم الشرعي؛ إذ لا يليق أن تبقى الاهتمامات بهذا العلم محصورة في إطار طلبة العلم الشرعي؛ فالحاجة للعلم الشرعي حاجة عامة وإن تفاوتت درجة هذه الحاجة.
ـ ومطلب توسيع دائرة نشر العلم لا ينتهي بمجرد الاقتناع النظري، بل هو يتطلب مراجعة أدوات نشر العلم وتقديمه لتحقق الانتشار الملائم لا أن تجمد وفق أطر محددة يُطلب من الآخرين أن يتكيفوا معها.
الاعتناء بتبسيط العلم الشرعي وتقريبه لغير المختصين؛ سواء ما يتصل بالتدريس والتعليم، أو ما يتصل بالتأليف، أو ما يتصل بالبرامج الإعلامية؛ إذ النمط السائد قد لا يلائم إلا طلبة العلم المدركين للغة العلمية الشرعية المتخصصة.
ـ توسيع نشر العلم الشرعي داخل التيارات الإسلامية الأخرى؛ فلا يليق أن يبقى التيار السلفي يرفع وتيرة نقد الآخرين بعدم اهتمامهم بالعلم الشرعي، بل لا بد أن يأخذ بمسؤوليته في تقديم هذا العلم للآخرين مراعياً ملاءمته لهم أسلوباً ومضموناً.
- الثامن: الارتقاء بالوعي:
تضم ساحات العمل السلفي فئات من الصالحين الورعين الخيِّرين ممن لديهم علم شرعي وممن يتَّسِمون بحُسن السَّمْت والانضباط المنهجي، لكن قد نرى بعض هؤلاء يعيش خارج عصره؛ فهو لا يدرك متغيرات الواقع ولا حجم تحدياته، ولا يملك الوعي الذي يؤهله للنجاح المرجو في التغيير والإصلاح.
وما لم يَعِ القائمون على المنهج السلفي أنهم أمام مشروع ضخم يستهدف تغيير واقع الأمة وإصلاح واقعها، وما لم يدركوا تقصيرهم في تحصيل الوعي اللازم لإنجاح هذا المشروع، فسوف يتعثر مشروعهم الإصلاحي.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مثالاً حياً للداعية الواعي بما في عصره من أحداث وتحديات؛ فقد قال لأصحابه حين أرادوا الهجرة للحبشة: «إنّ بأرضها ملكاً لا يُظلَم عنده أحد» واعتنى بمتابعة الصراع الدائر بين الفرس والروم، وتمنى المسلمون آنذاك أن ينتصر الروم؛ لأنهم أقرب للمسلمين من الفرس.
والوعي المنتظر من الدعاة إلى الله يتجاوز الإغراق في تصور المؤامرات والكيد من الأعداء إلى إدراك الموقف السياسي والموقف الاجتماعي والاقتصادي والفكري بعناصره، ومواقف كل عنصر، ونقاط الضعف والقوة، وإلى إدراك الفرص والتحديات والعقبات، وإلى امتلاك طاقات فردية ومؤسسية تعي الواقع وتقدم الحلول والآراء.
- التاسع: الحضور في المجتمع ومؤسساته:
من واجب التيار السلفي أن يتساءل: أين موقعنا في المجتمع؟ وأين موقعنا في المؤسسات التي تمارس مهمة التوجيه، فيسمع لها الناس وينصت لها المجتمع؟
وحين نقول للآخرين: إن الإسلام هو المخرج من أزمات الحياة المعاصرة؛ فلا بد أن يروا منا الاهتمام والقدرة على الاعتناء بمشكلاتهم وتقديم الحلول لها.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش مع المجتمع في السراء والضراء، فيحمل الكلّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وينتصر للمظلوم، وها هو يشهد حلفاً في الجاهلية من أجل نصرة المظلوم؛ فعن عبد الرحمن بن عوف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام؛ فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه» (1) .
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتفاعل مع قضايا المجتمع ويتصدى لعلاج مشاكله الاجتماعية، للإصلاح بين امرأة وزوجها كما في قصة بريرة ومغيث، ويعالج مشكلة اقتصادية كما في قصة من اجتوَوا المدينة، والدافَّة (2) التي دفَّت المدينة.
والحضور الاجتماعي والاعتناء بمشكلات الناس الذي نتطلع إليه لا بد أن يتلاءم مع الواقع ومتغيراته؛ فالاعتناء بمشكلات الناس الاقتصادية على سبيل المثال ينبغي ألا يكون محصوراً في تقديم الزكاة والصدقة لمجموعات الفقراء والمساكين حينما يأتون بحثاً عنها، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى تقديم دراسات اقتصادية، ومشروعات تسهم في حل مشكلات البطالة والكساد، وحلول إسلامية للتنمية والتمويل ومعالجة الفقر، وإنشاء مؤسسات اقتصادية واستثمارية تسهم في النهوض بمجتمعات المسلمين. وهكذا في الميدان الاجتماعي والصحي والتربوي والسياسي.
- العاشر: الارتقاء بالحس والذوق الحضاري:
مِنْ خُلُقِ الصالحين التواضع والتبسُّط؛ لكن ممارسة طائفة من المنتسبين إلى التيار السلفي أدت إلى الظهور بمظهر لا يراعي الذوق والحس الحضاري، وقد يعطي ذلك رسالة للآخرين أن من متقضيات التدين والالتزام بالمنهج التخلي عن الذوق والحس اللائق بمن يعيش في هذا العصر.
إن الله جميل يحب الجمال، وكان -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على أن يعطي الناس صورة إيجابية عنه وعن أتباعه، حين ترك قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه (3) ، وحين ترك الحبشة يلعبون في المسجد معللاً ذلك بقوله: «لتعلمَ يهود أن في ديننا فسحة؛ إني أرسلت بحنيفية سمحة» (4) .
وهذا يتطلب منا أن نعطي الناس صورة إيجابية عن أشخاصنا ومؤسساتنا؛ لا رغبة في الاستعلاء والتميز، فالتميز السلبي هو مذموم أيضاً.
- الحادي عشر: التلاؤم مع المرحلة الجديدة وتغيرات العولمة:
مع عصر العولمة والتغيرات الهائلة في العالم بأسره ـ ونحن جزء منه نتأثر ونؤثر فيه ـ يبدو سؤال مهم يحتاجه التيار السلفي كغيره من قوى الساحة الدعوية والفكرية: ما تصوُّرنا للتعامل مع هذا التحدي؟ وهل هيأنا أنفسنا للارتقاء بعملنا ورؤيتنا لمواجهة متغيرات عصر العولمة: في تربيتنا لأولادنا، في تقديمنا الحق للناس، في تصورنا للمشكلات التي ستواجه الناس، في تقديمنا للحلول والعلاج؟ هل نملك وعياً بواقع المجتمع بدرجة جيدة؟ هل حاولنا أن نستنتج إلى أين سيتجه مجتمعنا بعد عشر سنوات أو بعد عشرين سنة؟ هل نعرف ما هي قوى التغير المؤثرة في المجتمع؟ وإلى أين تسير اتجاهات القوى هذه؟ وما حجم كل اتجاه؟ ما هي رؤيتنا المستقبلية لواقع مجتمعاتنا في ظل هذه المتغيرات؟ وما مدى رؤيتنا لما ينبغي أن نكون عليه؟
هل لدينا رؤية واضحة لمستقبل تياراتنا الدعوية؟ وهل حاولنا أن نقرأ المستقبل بناءً على معطيات الحاضر حتى نعد العدة؟ إنَّ مهمتنا قد كبرت وتضخمت، ومجريات الحياة قد تعقدت؛ فهل يليق بنا أن نتعامل مع عصر الإنترنت وثورة الاتصالات بالعقلية نفسها التي تعاملنا بها فيما مضى؟
إن هذه التساؤلات تفرض علينا المراجعة لأهدافنا وبرامجنا وأدواتنا لنتأقلم مع متغيرات العصر؛ وإلا فسيتجاوزنا القطار، ونفقد مواقعنا في التأثير.
إنها طموحات وتطلعات لا تعدو أن تكون رؤى شخصية يأمل صاحبها أن تكون مثار بحث ونقاش وتقويم ومراجعة.(223/14)
نقض العرى.. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي
محمد بن عبد الله المقدي
عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها» (1) .
إن حزب النقض كان ولا يزال يكيد لهذه الأمة ويمكر بها ويلفتها عن دينها، وإن المتتبع للمكر العالمي يرى تبرماً من ظهور نهج أهل السنة والجماعة في الفهم والسلوك، فأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم.
وقد ظهر جلياً أن من أهم أهداف الخطة الأمريكية المسماة بـ (مشروع الشرق الأوسط الكبير) محاربة التيارات الإسلامية التي تتصدى للعدوان الأمريكي، تحت شعار: (محاربة الإرهاب) . ويرى المروِّجون لهذا المشروع أن القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية لا تكفي لهدم فكرة وبناء أخرى؛ فلا بد إذن من تيار إسلامي معارض لتلك التيارات منسجم مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم إريك جيوفروي ـ المتخصص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حوار صحفي (2) : (وفي علاقتها بالحركات الإسلامية بالذات نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية) .
ويعد (برنارد لويس) أن تفاقم تأثير الحركات الأصولية الدينية في أواخر السبعينيات والثمانينيات، قضى نهائياً على أفكار غربيين كانوا يعتقدون أن التصوف الإسلامي السياسي يحُدُّ من تأثير الإسلام السياسي؛ فمقاومة السلطة السياسية من ملوك وأباطرة وفراعنة كما يؤكد دانيال بايبس وَجَدَ له الأصوليون تفسيراً في القانون الإسلامي، ولذا فإن الغرب يسعى إلى مصالحة (التصوف الإسلامي) ودعمه لكي يستطيع ملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائياً عن قضايا السياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استُخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة (3) .
أما ستيفن شوارتز (4) فيقول: (ليست التعددية الإسلامية فكرة جديدة نشأت في الغرب وتُقَدَّم كشفاء ناجع للغضب الإسلامي، بل إنها حقيقة قديمة. ينطوي العالم الإسلامي على طيف واسع من التفسيرات الدينية. فإذا وجدنا في أحد أطراف الطيف المذهبَ الوهابي (5) المتعصب الذي يتصف بالقسوة والاستبداد ما يجعله أشبه بالإيديولوجية العربية الرسمية السائدة منه بالمذهب الديني؛ فإننا نجد في الطرف الآخر التعاليمَ المتنورة للصوفية. لا تؤكد هذه التعاليم على الحوار داخل الإسلام وعلى الفصل بين السلطة الروحية وسلطة رجال الدين وعلى التعليم باللغة المحلية فحسب، بل إنها تحترم أيضاً جميع المؤمنين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو هندوسيين أو بوذيين أو من ديانات أخرى، تشدد الصوفية علاوة على ذلك على التزامها باللطف والتفاعل والتعاون المتبادل بين المؤمنين بغض النظر عن مذاهبهم.
ثم يقول: (إذا أخذنا هذه الصورة المتنوعة بعين الاعتبار؛ فكيف يجب على الصوفية أن تدخل في الإستراتيجية الأمريكية للتعامل مع العالم الإسلامي؟
من الواضح جداً أن على الأمريكيين أن يتعلموا المزيد عن الصوفية، وأن يتعاملوا مع شيوخها ومريديها، وأن يتعرفوا على ميولها الأساسية ... يجب على أعضاء السلك الديبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلامية من بريشتينا في كوسوفو إلى كشغار في غرب الصين، ومن فاس في المغرب إلى عاصمة إندونيسيا جاكرتا أن يضعوا الصوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية. يجب أن ينتهز الطلاب الأمريكيون ورجال الأعمال وعمال الإغاثة والسائحون فرص التعرف على الصوفيين. الأهم من ذلك، أن أي شخص داخل أو خارج الحكومة يشغل موقعاً يسمح له بالتأثير على مناقشة ورسم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط يمكنه أن يستفيد من فهم هذا التقليد الفطري من التسامح الإسلامي) (6) .
وتقول الكاتبة (فارينا علم) (7) ـ وهي تمثل شريحة من الصوفية الموجودة في الغرب ـ: (إن الروحانية الإسلامية ـ الصوفية ـ تعتبر الجزء المكمل لحياة المسلم الدينية، وقد قدم أولياء وشيوخ الصوفية نظرة منهجية لمعرفة الله تستند على تلاوة الابتهالات، والتدرب على تطوير شخصية ورعة قويمة، بغية إذلال الأنا وتكريس النفس لخدمة المجتمع. ومن الممكن أن تصبح الصوفية اليوم ـ بتركيزها على القيم الإسلامية المشتركة ووضع الأهداف السامية نصب عينيها ـ بمثابة قوة كبيرة مضادة للإسلام السياسي المجاهد) .
وتستطرد قائلة: (وقد حذرت التعاليم الإسلامية الكلاسيكية علماء الدين من التقرب الكبير من السلطة السياسية) .
يقول (دانيال بايبس) : (إن هناك أخباراً سارة تقول: إن فكرة أن الإسلام المتطرف والعنفي هو المشكلة، وأن الإسلام المعتدل هو الحل تلقى رواجاً واسعاً مع الوقت ... كذلك فإن أشخاصاً بارزين مثل أحمد صبحي منصور، ومحمد هشام قباني يرفعون أصواتهم..) (8) .
ويقول الباحث د. عبد الوهاب المسيري: (مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين ابن عربي وأشعار جلال الدين الرومي، وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية؛ فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي ... ) (9) .
ويؤكد المستشرق الألماني شتيفان رايشموت أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم، أن (مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً للتيار الصوفي) (10) .
ومن الجدير بالملاحظة أنه في عام (2001م) أُطلقت مجموعة من الخطابات السياسية حول الإسلام الذي يريده الغربيون؛ (فقد شرح رئيس الوزراء البريطاني المقصود بهذا في خطاب موجه للزعماء والمسؤولين بالدول الإسلامية، دعاهم فيه إلى أن يعملوا جاهدين على أن يهيمن الإسلام (العادي أو الرئيسي) استخدم لفظ (main stream) بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم، والفكرة نفسها عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) في شهر نوفمبر (2001م) في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي، حيث أشار إلى تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والسياسي والعقدي لتلك المجتمعات) (11) .
وفي يناير عام (2001م) أقيم المؤتمر العالمي الأول لدراسات الشرق الأوسط الذي عقد بمدينة ماينز الألمانية وقد كان برنامج المؤتمر مكتظاً بالبحوث والدراسات المتنوعة؛ أما ما يتعلق بالإسلام والحضارة الإسلامية فثمة بحثان هما: الإسلام الحديث والطريقة النقشبندية ـ المجددية الصوفية، والأولياء الصوفيون وغير الصوفيين (12) .
في صيف عام (2002م) أصدرت مؤسسة (راند) (13) البحثية مقالة (14) عكست فيها رؤيتها للفروقات والتباينات بين الفئات والجماعات الإسلامية المختلفة في العالمين العربي والإسلامي، وسوف نورد منه بعض الفقرات التي تبين مدى اهتمام الغرب بالصوفية أو ما يسمونه بالإسلام التقليدي، فإن التقرير يقول:
(ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية بل العالم الصناعي المتمدن بأسره يفضلون عالماً إسلامياً يتماشى مع بقية النظام؛ أي يريدون عالماً إسلامياً يتسم بالديمقراطية، بالقابلية للنمو، بالاستقرار السياسي، بالتقدم الاجتماعي، بالتبعية لقوانين ومعايير السلوك الدولي. هذا بالإضافة إلى أن هذا العالم الإسلامي «المفضل» مُلزَم بالمساهمة في منع أي (صدام للحضارات) ، بكل صوره المتاحة والممكنة الممتدة من القلاقل المحلية المتصاعدة بسبب الصراعات بين الأقليات المسلمة والمواطنين (الأصليين) في الغرب؛ إلى العمليات العسكرية المتصاعدة عبر العالم الإسلامي، وما ينتج عنها من إرهاب وعدم استقرار.
ومن ثم فإن من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر ـ الموجودة في داخل الخلطة الإسلامية ـ التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي، والمجتمع الدولي والديمقراطية والحداثة. إلا أن الأمر لا يبدو بهذه السهولة؛ فتعريف تلك العناصر وإيجاد الأسلوب الأمثل والأنسب للتعامل معها ليس بالأمر الهين.
ثم رصد التقرير أربعة عناصر موجودة على الساحة الإسلامية، وهي:
ـ الأصوليون الذين يرفضون القيم الديمقراطية والثقافة الغربية الراهنة.
ـ التقليديون الذين يسعون إلى خلق مجتمع محافظ.
ـ الحِداثيون (أهل الحداثة) الذين يبغون عالماً إسلامياً مندمجاً في داخل الحداثة العالمية.
ـ العلمانيون وهم يريدون عالماً إسلامياً مختزلاً للدين في الدوائر الخاصة على غرار الديمقراطيات الغربية.
ثم يوصي التقرير بوصايا متعددة للتعامل مع هذه التصنيفات. ومن هذه الوصايا:
ـ تأييد الاتجاه الصوفي، ونشره، والدعوة إليه..
ففي تقرير نشرته مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية بعنوان (عقول وقلوب ودولارات) نشر عام (2005م) يقول التقرير في إحدى فقراته: (يعتقد الإستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحداً من أفضل الأسلحة، وبينما لا يستطيع الرسميون الأمريكيون أن يُقِرُّوا الصوفية علناً، بسبب فصل الدين عن الدولة في الدستور الأمريكي، فإنهم يدفعون علناً باتجاه تعزيز العلاقة مع الحركة الصوفية ... ، ومن بين البنود المقترحة هنا: استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود إلى القرون الوسطى وترجمتها، ودفع الحكومات لتشجيع نهضة صوفية في بلادها) (15) .
في (30/1/2004م) نشرت جريدة (يني شفق) التركية خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) عرض على رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان) خلال استقباله في البيت الأبيض يوم (28/1/2004م) معالم المشروع الأمريكي الجديد لـ (الشرق الأوسط الكبير) الذي يمتد من المغرب حتى إندونيسيا، مروراً بجنوب آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز. وحسب ما جاء في الصحيفة؛ فإن المشروع طبقاً لما عرضه الرئيس الأمريكي، جعل من تركيا عموداً فقرياً، حيث تريد واشنطن منها أن تقوم بدور محوري فيه، حيث تتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني، لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وعاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي لكي يتولوا التبشير بنموذج الاعتدال المطبق في بلادهم، وأن هذا النموذج هو الأصلح للتطبيق في العالم الإسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين إلى حدّ كبير، بل وتعارض أي دور للدين في الحياة العامة.
السبب الثاني: أن تركيا تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة ولا شبهة فيها، ومن ثم فهي تعد جزءاً من العائلة الغربية، وتحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية.
السبب الثالث: أن تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي يلقى ترحيباً وتشجيعاً كبيرين من جانب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي (16) .
(النموذج التركي.. الهدف.. كل هذه العوامل أسرعت بالدفع بخيار الحوار مع الإسلاميين المعتدلين في المنطقة إلى المقدمة، نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان في طبعته العربية هو ما تحلم به الإدارة الأمريكية لتسييده في المنطقة) (17) .
وفي تقرير (عقول وقلوب ودولارات) الآنف الذكر يقرر أنه لا بد من حل لمشكلة التيارات الإسلامية وأن (هناك حلاً للمشكلة أخذ يشق طريقه بمساندة من الولايات المتحدة لإصلاحيين تجمعهم رابطة الصوفية التي تعتبر فرعاً متسامحاً من فروع الإسلام) (18) .
وتؤكد بعض الدراسات (أن هناك تطورات تشير إلى أنهم يبحثون عن ضالتهم في الجماعات الإسلامية التركية التي يغلب على معظمها الصبغة الصوفية بأشكالها المختلفة ... واستناداً لتقارير نشرتها بعض الصحف التركية خلال الأيام الأخيرة، فإن مسؤولين من السفارة الأمريكية في أنقرة، قاموا بزيارات إلى بعض الجماعات الإسلامية والمؤسسات الخيرية لدراسة مدى شعبية ونفوذ كل جماعة، وتشير المصادر نفسها إلى أن الأمريكيين يعرضون على زعماء الجماعات التي يزورونها التعاون الاستراتيجي في نشر ما يسمى بـ (الإسلام المعتدل) في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتقديم الدعم المادي والسياسي لجماعاتهم، وفتح مجال الدراسة لطلابهم في الولايات المتحدة. وفي تطور آخر، زار رئيس الشؤون الدينية التركية (علي بارداكوغلو) واشنطن في نهاية الشهر الماضي، وذكرت مصادر صحفية أنه بحث مع الأمريكيين خلال زيارته سبل التعاون في تعميم النموذج التركي، وطلب منه الأمريكيون خططاً ملموسة بهذا الشأن. ويبدو أن الأمريكيين اختاروا رئاسة الشؤون الدينية التركية للتعاون في صناعة ما يسمونه بـ (الإسلام المعتدل) ، لخبراتها وتجاربها في إماتة الروح الإسلامية الفعالة وضبط المشاعر الدينية كمؤسسة رسمية خاضعة لنظام علماني، وتسيطر على كافة الشؤون الدينية في البلاد كالإفتاء وتعيين الأئمة والخطباء للمساجد ومدرسي القرآن وغير ذلك) (19) .
- النشاط الصوفي بعد أحداث سبتمبر:
ويلحظ المتابع للحركة الصوفية النشاط المتسارع بعد الحادي عشر من سبتمبر بافتتاح المدارس والأكاديميات والأربطة لاستقبال المريدين، والقيام بالمؤتمرات الدولية حول الصوفية والتصوف، ودعم وسائل النقل الثقافي:
ففي 28/3/2001م عقد في مدينة بامبرج الألمانية المؤتمر الثامن والعشرين للمستشرقين الألمان، ومن ضمن البحوث التي قدمت في المؤتمر بحث بعنوان «الأخوة الصوفية كحركات اجتماعية» ، و (الحركة النقشبندية في داغستان) و (التيجانية) في غرب أفريقيا، وصورة الموالد الشعبية في مصر (20) .
وفي عام (2002م) تم افتتاح أقسام لتعليم اللغات (الإنجليزية والفرنسية والإسبانية) في المعاهد الشرعية التابعة للشيخ (أحمد كفتارو) النقشبندي، وهذه الأقسام تستقبل الطلبة الناطقين بهذه اللغات أو تعلم الطلبة العرب هذه اللغات كي يقوموا بالتدريس في هذه الدول بعد ذلك (21) .
وفي 12/7/2003م نظم المركز الثقافي الأوروبي البلغاري ندوة حول أدب التصوف في الإسلام (22) .
وفي أغسطس عام (2..3م) الموافق جمادى الآخرة (1424هـ) صدر العدد الأول من المجلة المنعوتة: بـ (مجلة البحوث والدراسات الصوفية) وهي من مطبوعات جمعية العشيرة المحمدية بمصر وتقع في حوالي (600) صفحة، وتصدر عن المركز العلمي الصوفي الذي يهدف إلى (إحياء التصوف في الأمة، ونشره على كافة مستوياتها، وبين كل فئاتها، وفي مختلف أوجه أنشطتها) ! (23) .
وفي عام (2003م) شهدت مدينة (الإسكندرية) في الفترة من (18 ـ 21) إبريل المؤتمر العالمي للطريقة الشاذلية بمدينة الإسكندرية وقد انعقدت جلسات المؤتمر بمكتبة الإسكندرية بالتعاون مع (منظمة اليونسكو) و (المركز الوطني الفرنسي للبحوث والدراسات العلمية) و (المعهد الفرنسي لآثار الشرقية) و (الوزارة الفرنسية للبحث العلمي) و (وزارة الخارجية الفرنسية) و (دار العلوم الإنسانية بفرنسا) وأخيراً (وزارة السياحة المصرية) (24) .
وفي عام (2004م) اقيمت على مدى عشرين يوماً محاضرات عن الحلاج وابن عربي وابن الفارض في الدانمارك (25) .
وفي سبتمبر من عام (2004م) تم افتتاح الأكاديمية الصوفية بمصر (26) .
وفي 9/1/2004م أعلن في العراق عن تشكيل «الأمانة العليا للإفتاء والتدريس والبحوث والتصوف الإسلامي» التي من أهدافها «إنشاء المدارس الدينية ودعم الطرق الصوفية» (27) .
وفي (10/9/2004م) أقيم مؤتمر هو اللقاء الأول من: (لقاءات سيدي شيكر العالمية للمنتسبين إلى التصوف) تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس) (28) .
يقول الدكتور عمار حسن: «وفي الفترة الأخيرة في مصر ظهر جلياً تقرب الحكومة من المتصوفة وتقرب المتصوفة من الحكومة، بل السعي من الطرفين للتقارب؛ فقد خلقت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإسلامية أمام الرأي العام باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته عند المصريين؛ بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية التي ترى تحريم رفع القباب على القبور وتحريم الطواف بها وعبادتها والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بثها بين الناس والتي لولاها لتقوض ركن ركين من أركان التصوف، ومن هنا فقد حرصت السلطة السياسية على حضور الموالد والاحتفالات الصوفية، بل صار شيخ مشايخ الصوفية (أبو الوفا التفتازاني) ـ توفي ـ عضواً في الحزب الحاكم ورئيساً لعدة لجان داخل جهاز الدولة، بل حرص رئيس الدولة بنفسه على الصلاة في مساجد الأولياء مثل سيدنا الحسين والسيد البدوي» (29) (30) .
وفي ديسمبر من عام (2004م) أقيم في عاصمة مالي (باماكو) المؤتمر العالمي الأول للطرق الصوفية بغرب أفريقيا تحت شعار: (التصوف أصالة وتجدد) (31) .
وفي الفاتح من سبتمبر من عام (2005) أقامت الجماهيرية الليبية مؤتمراً دولياً بعنوان: (الطرق الصوفية في أفريقيا/ حاضرها ومستقبلها) ومن أهداف المؤتمر اقتراح الخطط والوسائل والبرامج التي تساعد على تفعيل دوره، أما شعار المؤتمر فهو: (معاً من أجل تفعيل دور الطرق والزوايا الصوفية في أفريقيا) (32) .
وفي (5) يوليو (2005م) أقيم مؤتمر (حقيقة الإسلام ودوره في المجتمع المعاصر) الذي بدأ أعماله في العاصمة الأردنية (عمان) برعاية العاهل الأردني الملك (عبد الله الثاني) وقد قرر في خطابه فكرة التصوف واصفاً له بالتصوف المعتدل، فقال: (لقد أفتى شيخ الأزهر بأن الفكر الصوفي المعتدل مقبول ما دام يستند إلى الشهادتين؛ ذلك أن الاعتراف بالمذاهب هو اعتراف بمنهجية الإفتاء وتحديد من هو المؤهل لهذه المهمة، مما يؤدي إلى عدم تكفير بعضنا بعضاً، وإغلاق الباب أمام الجاهلين الذين يمارسون أعمال القتل والإرهاب باسم الإسلام والإسلام منها بريء) (33) .
إن هذه المؤتمرات المتلاحقة حول التصوف تنبئ أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الأمة مقبلة على مد صوفي يراد إحياؤه من جديد بعد أن بدأ بالخمود، سواء أكان هذا التحرك ذاتياً من قِبَل الجماعات الصوفية، أم هو بتحريك غربي عربي؛ فالخطر العقائدي لا يزال قائماً.
إنها مخططات واضحة جلية، ودراسات تعي ما تريد وتخطط لما تطرح بخطوات ثابتة، بل توصي مثل هذه الدراسات بألا تقوم الولايات المتحدة بتدريب الأئمة المحليين في المساجد والمراكز الإسلامية لدعم الصوفية بنفسها، بل تمول في ذلك السلطات المحلية، على أن يتم بشكل مواز دعم التعليم العلماني في هذه المنطقة جنباً إلى جنب مع تقديم منح مالية لترميم ورعاية الأضرحة الصوفية والعناية بالمخطوطات والتراث الثقافي الصوفي. والخطوة الأكثر أهمية هي تعيين أئمة المساجد وخطبائها وتخصيص مناصب وزارية للمتعاطفين مع الصوفية؛ بحيث يتم إعادة ترتيب الأدمغة التي (أفسدها «الأصوليون» قليلو البضاعة الفقهية) . نحن إذن أمام سيناريو يعيد إلى الأذهان الأسلوب السوفييتي القديم الذي اعتمد على احتضان ما اصطُلح على تسميته بـ «إسلام السلطةOfficial Islam» في مقابل ممارسات إسلامية تخضع للمراقبة والمتابعة الأمنية تعيش تحت الأرض سميت في ذلك العهد بـ (الإسلام السري) أو الموازي Parallel Islam (34) .
يقول الباحث الدكتور عامر النجار: (إنه قد يكون مما ساعد على انتشار الطرق الصوفية في مصر انتشاراً عجيباً، واندفاع عشرات الألوف من المصريين للانضمام تحت لواء هذه الطرق هو تشجيع الحكام أنفسهم لحركات الطرق الصوفية، ليشغلوا الشعب المصري عن التفكير في أحوال البلاد، فبدلاً من أن ينشغل الإنسان المصري بالتفكير في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وبدلاً من أن يفكر في فقره وبلائه، وبدلاً من أن يفكر في طريقة للخلاص من وضعه السيئ بالثورة على الحاكم؛ فإن الحاكم نفسه يعمل على شغل فكره من خلال تشجيعه إلى الانضمام إلى إحدى الطرق الصوفية فيجد عالمه وخلاصه في رحاب الطريق؛ وهكذا انشغل المصريون كلهم في هذه الحقبة من الزمن بالطرق الصوفية وتركهم الحكام) (35) .
ومن البدهي أن نقول: إن هذه المؤتمرات بعناصرها وأوراق العمل التي تعرض فيها هي برامج للتنفيذ والعمل المباشر؛ وهذا ما نلحظه من خلال الواقع الذي نعيشه.
إن المتأمل للنشاط الصوفي المعاصر يجد نفسه أمام تيار جديد، صوفي المشرب، متحضر الأدوات، واسع النظرة يتعامل مع الواقع السياسي، ويتبنى العمل التربوي المنظم من افتتاح حلقات تحفيظ القرآن واللقاءات المنظمة واستخدام الدعوة الفردية إلى تهيئة رحلات ودروس خاصة للمريد مع لقاءات تتلى فيها البردة في حلقات فلكلورية يردد فيها لفظ الجلالة إلى حد الفناء والجذب.
ولْيكنْ معلوماً أن التصوف بطرقه ورجالاته ومريديه وأربطته لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ؛ بل صار مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات، بعضها يجتهد في أن يلعب دوراً دينياً وسياسياً واجتماعياً، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية، وتكلست عن إنتاج أي ممارسات سياسية إيجابية إلا ما تستفيد منه السلطة في تكريس نفسها. وهناك طرق صوفية تواكب الحداثة وتنخرط في العمل العام حتى تتمكن من دفع رموزها إلى قمة الهرم السياسي مثل ما هو الحال في تركيا، ولكنها مع وصولها إلى قمة الهرم السياسي نجدها تفقد مقومات الإسلامية فيها (36) .
وبناء على هذا فإنه لا يصح شرعاً وواقعاً أيضاً جعل الصوفية والمنتسبين إليها في سلة واحدة أو أن نحكم عليها بحكم عام يشمل جميع المتصوفة لا من جهة المواجهة ولا من جهة الحكم الشرعي التوصيفي؛ فلا بد إذن من معرفة الواقع الذي تعيشه هذه الجماعات حتى يتم الحكم والتعامل معها بناء على أسس علمية جلية.
إننا أمام مفارقة تأريخية تحتاج إلى الرصد والمتابعة.
- مظاهر تسترعي الانتباه:
حين دخلت القوات الصليبية الأمريكية والبريطانية إلى البلاد الأفغانية كان أول ما قاموا به أنهم فتحوا المزارات والأضرحة، وسمحوا للموالد أن تقام وروجوا لها. يقول أحد شيوخ الطرق واسمه (صوفي محمد) وهو في الستين من عمره لوكالة (رويترز) : (إن حركة طالبان المتعصبة أغلقت المزارات وأوقفت الاحتفالات ومنعتنا من حلقات الذكر والإنشاد طوال فترة حكمها رغم أنها لم تتوقف حتى في وجود الحكم الشيوعي والاحتلال الروسي! وأنا سعيد جداً بسقوط تلك الحركة المتعصبة، وأمريكا سمحت لنا بممارسة طقوسنا وإقامة موالدنا، ونحن نشكر لها ذلك وبشدة) هكذا قال وهكذا فعلت أمريكا: فتحت الأضرحة وأقامت الموالد لإحياء البدعة ومحاربة السنة ولتشويه الإسلام (37) .
وفي صيف (2001م) شنت الحكومة اليمنية هجمة شرسة على جميع المعاهد الدينية بحجة مكافحة الإرهاب، فقامت بإغلاقها عدا (دار المصطفى) بـ (تريم) وهي تتبنى النهج الصوفي (38) .
وفي زيارة هامة للرئيس الباكستاني (برفيز مشرف) إلى الهند شملت إجراء محادثات مع رئيس الوزراء الهندي (مانموهان سينج) . توجه الرئيس (مشرف) لولاية راجستان بغرب الهند لزيارة ضريح إسلامي بارز، ثم توجه إلى العاصمة دلهي (39) .
وقام الرئيس الجزائري (عبد العزيز بوتفليقة) بزيارات مكثفة لعدد من زوايا وأضرحة (الأولياء والصالحين) المنتشرة في مختلف أنحاء الجزائر؛ لزيادة شعبيته لدى عدد كبير من الجزائريين الذين يتبركون بهؤلاء الأولياء، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في الثامن من إبريل (2004م) (40) .
وفي 16 شوال 1426 حضر مولد البدوي السفير الامريكي في القاهرة معلناً عن إعجابه الشديد بعالم التصوف الإسلامي، لافتاً إلى ما تنطوي عليه الصوفية من تسامح، وما تجسده من قيم ومبادئ إسلامية رفيعة مثل الحق والخير والجمال! (41) .
وفي العراق أيضاً ـ في مدينة كركوك ـ أوضح عدد من أهالي المدينة أن مِن المتصوفة في المدينة مَن أخذوا يهادنون الاحتلال والحكومة المعينة خوفاً من الاعتقال، خاصة شيخ الطريقة الكستزانية ويدعى محمد الكستزاني والذي أعلن قبل أشهر أن الجهاد في العراق ينبغي أن تنطبق عليه عدة شروط قبل إعلانه منها: صفاء القلب وتحقيق الصلة بين العبد وربه. وهو ما أثار حفيظة المقاومة العراقية وأهالي المدينة على حد سواء (42) .
وأخيراً نقول: إننا نخشى أن يؤاخذنا الله بعدم تبليغ دينه كما يريده سبحانه، ونخشى من انطماس حقائق الديانة، وانتشار الطائفين حول الأضرحة والقبور بحجة العبادة، وحلول الأذكار المبتدعة بالحركات الراقصة محل الأذكار النبوية التي تطمئن بها القلوب المؤمنة، وانتشار الخرافة والجهل محل العلم واليقين، وتعطل الأسباب بحجة الكرامات، وفهم الدين عن أرباب التصوف.
يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: (يجب أن نعذر الأوروبيين إذا صدَّقوا جميع الأكاذيب الملفقة عن الإسلام والمسلمين، وهم غير ملومين إذا أظهروا العداوة لديننا ما داموا لا يجدون نصب أعينهم غير مشاهد البدع التي أحدثها رجال ذوو فكر سقيم، وارتضاها الناس وزادوا عليها وما إلى ذلك من الهرطقات والأخطاء المتنافية مع الطبيعة البشرية ومع نواميس المدنية، وكيف نرجو أن يفهم الأوروبيون روح ديننا نفسها وهو الدين الوحيد الذي يكفل السعادة الكاملة ما داموا لا يعرفون غير بعض مظاهر الإسلام الخارجية التي يشهدونها كل يوم مثل الحشود الضاجَّة في الشوارع السائرة خلف الرايات والطبول، والاحتفالات المستهجنة المنافية لكل منطق أخلاقي والتي تقام في جميع مدن مصر يوم مولد الرسول، وعقد حلقات الذكر الضخمة أمام جمهور يتألف من آلاف الناس، وإرسال الابتهالات الصوفية في صوت جَهْوَري وعلى وقع الانحناءات ذات اليمين وذات اليسار وما شابه ذلك؟) (43) .
ويقول الباحث د. عامر النجار (44) : (وإذا كان القرن السابع الهجري في مصر يمثل في أغلب فتراته اضمحلالاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً إلا أنه كان عصر انتشار الطرق الصوفية: البدوية، والشاذلية، والدسوقية، وازدهرت فيه وقويت طريقتا الرفاعية والقادرية) .
ثم يعقب قائلاً: (مما يجعلني أقول بحذر شديد حتى أوضح هذه الفكرة: إنه يحتمل مع وجود تدهور في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدى شعب من الشعوب أن يبدأ انسحاب الناس وتلمس أثر الهزيمة واضحاً في فكرهم، بعضهم يهرب من الحياة منعزلاً في صومعة يعبد ربه بعد أن أخفق في الحياة التي أجبرته ظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الانسحاب من أنشطتها) .
ثم ينقل عن الباحث هيلر قوله: (إن ذيوع التصوف يصحب تدهور الحضارات) ثم يقول: (والذي يفهم من هذا الرأي ببساطة هو أن نضج التصوف، وتطوره يصاحب دائماً تدهور الحضارة، أي أنه لا يمكن أن تكون هناك حضارة متقدمة وزاهية يصاحبها تصوف ناضج ومكتمل) (45) .
ولكن مع هذه التحركات التي يراد منها ولها أن تنشر الخرافة والشرك بين جنبات الأمة وتميت روح العزة والفداء، وتنهمك في حلقات راقصة من الذكر المزعوم، وتعتمد اعتماداً كلياً على كرامات مدَّعاة في تعلق عجيب، أقول:
إن نظامنا العقدي هو أقوى من كل الأنظمة، وإن لدينا من القيم والمناهج ما يمكننا من أن نقدم رؤية متكاملة لإصلاح الفساد القائم؛ لكننا نحتاج أن نغادر مرحلة الانطواء إلى مرحلة بناء الخطوط المتقدمة وفتح خطوط حيوية في أرض الآخرين.
أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) انظر مجمع الزوائد. ورواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح.
(2) حاوره: هادي يحمد، إسلام أون لاين في (20/6/2004م) . وانظر أيضاً جريدة الراية القطرية الأحد 30/1/2005 م.
(3) جريدة (الزمان) ـ العدد (1633) ـ التاريخ (12/10/2003م) . وهو رئيس منتدى الشرق الأوسط بالولايات المتحدة.
(4) وهو صاحب كتاب «وجها الإسلام: الأصولية السعودية ودورها في الإرهاب» .
(5) هذه الأوصاف ليست بغريبة على أمثاله إذ يتوقع منهم مع الشنآن الفجور في الخصومة.
(6) عن مجلة ويكلي ستاندرد «The Weekly Standard» ، (7) شباط (2005م) .
(7) بقلم فارينا علم المقال على موقع opendemocracy وهو بعنوان المبادئ الخمس لمستقبل الإسلام في (27/4/2005م) .. وهي صحفية بريطانية من أصل بنغلاديشي، مقيمة في لندن وترأس تحرير مجلة: q-news.
(8) نيويورك صن (23/11/2004م) للكاتب النصراني دانيال بايبس وهو رئيس مؤسسة «منبر الشرق الأوسط للأبحاث» ، ومقره ولاية فلادلفيا، وله كتابات عدة في التهجم على الإسلام والمسلمين، وقد قام مؤخرا بإنشاء «مركز التعددية الإسلامية» ، أعلن أن الهدف منه هو «تشجيع الإسلام المعتدل في الولايات المتحدة والعالم» ، ومحاربة نفوذ الإسلام المسلح، وإحباط جهود المنظمات ذات التوجه «الوهابي» المتطرف ـ على حد قوله ـ من خلال وسائل الإعلام، وبالتعاون مع المنظمات الحكومية الأمريكية. أما عن مسؤولي المركز وعن مصادر تمويله. فمديره أمريكي مسلم اسمه ستيفن شوارتز، كان شيوعياً متطرفاً (تروتسكيا) ، ثم دخل في الإسلام من باب التصوف. وفي تصوفه فإنه تطرف أيضاً، وأصبحت معركته في الحياة هي مواصلة الحرب ضد ما يسميه بالوهابية. أما مساعده فهو أزهري مصري اسمه الدكتور أحمد صبحي منصور، كان قد فصل من الأزهر في الثمانينيات بسبب إنكاره للسنة النبوية. ومن أبرز الداعمين للمشروع نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفوتيز (مهندس الحرب على العراق وأحد أبرز اليهود الناشطين بين المحافظين الجدد ورئيس البنك الدولي مؤخراً) وجيمس وولسي مدير المخابرات المركزية السابق. انظر وكالة «انترناشيونال برس سيرفيس « (في 7/4/2004) .
(9) www.aljazeera.ne.
(10) من مقال بعنوان الصوفية.. هل تكون النموذج الأمريكي للتغيير؟ د. عمار علي حسن.. (26/2/2005م) اسلام أون لاين.
(11) (الأهرام: 18 ـ 12 ـ 2001) . مقال بعنوان فرض «الإسلام المعدّل» بعد (11) سبتمبر (2001م) (14/01/2002م) . وانظر أيضاً جريدة السفير اللبنانية في 22/12/2001م) .
(12) أقيم هذا المؤتمر بجامعة يوهانسن جوتنبرج، كما أن المبادرة إلى عقده جاءت من رابطة دراسات الشرق الأوسط في أمريكا الشمالية، وتقرر أن يعقد تحت الإشراف المشترك لهذه الرابطة والرابطة الأوروبية لدراسات الشرق الأوسط، والروابط الفرنسية والألمانية والبريطانية والإيطالية لدراسات العالمين العربي والإسلامي. وقد حضره ألفا باحث وعالم ومفكر كما شارك في المؤتمر قرابة الألف من السياسيين الرسميين وغير الرسميين.. الأهرام (25 محرم 1423 هـ) الموافق (8 إبريل 2002م) العدد (42126) .
(13) تأسست هذه المؤسسة منذ خمسين سنة، وهي مؤسسة غير ربحية ترتكز على إيجاد حلول للتحديات التي تواجه القطاعات العامة والخاصة في العالم.
(14) التقرير من صياغة «شاريل بينارد» وهي متزوجة من «زلماي خليل زاده» الذي يشغل الآن منصب المساعد الخاص للرئيس بوش، وكبير مستشاري الأمن القومي المسؤول عن الخليج العربي وجنوب شرق آسيا، وقد عين مؤخراً سفيراً للولايات المتحدة لدى العراق، ويعتبر خليل زاده الأمريكي من أصل أفغاني الوحيد الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد ويعرف بآرائه المتطرفة، التقرير من ترجمة وتحرير: شيرين حامد فهمي. انظر موقع إسلام أون لاين في (18/5/2004م) ومجلة المجتمع. (10 ـ 7 ـ 2004م) وانظر أيضا مجلة الحوادث الأسبوعية في عددها (2495) (20 ـ 27/8/2004م) .
(15) انظر الملحق الأسبوعي للعرب اليوم الأردنية في25/4/2005 وانظر أيضا الطبعة الإلكترونية من مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية العدد (25/4/2005م) Us news and world Report..
(16) جريدة يني شفق التركية في (30/4/2003م) وانظر ايضاً http://abbc.net/Houidi/resister/turki.htm.
(17) www. islamonline. net/Arabic/politics/
من مقال بعنوان «فزاعة» الإسلاميين.. حق الانتفاع ينتقل لواشنطن، من المعلوم لكل متابع التهافت الشديد من قِبَل السلطة في تركيا على الانضمام للاتحاد الأوروبي والذي بدوره استغل الفرصة وبدأ يملي شروطه على الحكومة التركية إلى درجة التدخل في القوانين التركية الداخلية؛ فعندما نوقش قانون الجزاء التركي جرى تعديله بحيث تحاكم المرأة إذا لجأ زوجها إلى المحاكم يتهمها بالزنا.. وعلى الفور صاح الأوروبيون وقالوا: هل ستدخلون الإسلام وأخلاقيات الاسلام في تشريعات دولة تطلب الانضمام إلى أوروبا؟ فسحبوا التعديل واعتذروا للأوروبيين.
بطاقة الهوية التي يحملها التركي تتضمن ديانة حاملها بذكر كونه مسلماً أو غير ذلك ... وتدخل الأوربيون مرة أخرى.. وطالبوا بحذف الدين من بطاقة الهوية.. وعندما استجابت الحكومة علق أحد النواب.. بأنهم لن يدخلوا إلى أوروبا إلا بعد أن ينتزعوا منا ديننا.
اجتمع رئيس الوزراء التركي مع مديري المصارف.. وعندما سأله مدير أحد المصارف الإسلامية عن الفائدة ـ الربا ـ قال: هذا نظام عالمي لا بد من الالتزام به!
عندما خرجت مئات الألوف من الطالبات المحجبات في مظاهرات في جميع المدن التركية يطالبن بإعادتهن إلى مدارسهن وجامعاتهن باعتبار الحجاب حرية فردية وأمراً دينياً.. لا يجوز أن تتدخل فيه الحكومة.. اعترض الجيش.. واعترضت أوروبا.. وقالا: الحجاب هو تعبير عن الهوية الإسلامية لا يمكن القبول به.. وعندما سئل رئيس الوزراء عن ذلك.. قال: ليست هذه من أولوياتنا.
بعض التعديلات طلبها الاتحاد الأوروبي ولم يوافق عليها إلى الآن رئيس الوزراء التركي وهي مقدار العقوبة التي يتحملها المعلم أو الأب إذا علَّم ابنه القرآن في البيت قبل أن يبلغ الحادية عشرة من عمره! انظر مجلة المجتمع العدد 1664رجب 1426 الموافق اغسطس 2005.
(18) الطبعة الإلكترونية من مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية العدد (25 ـ 4 ـ 2005م) Us news and world Report.
(19) من مقال بعنوان (ماذا وراء التقرب الأمريكي من الجماعات «الصوفية» في تركيا؟!) في (16 ـ 3 ـ 2004م) لإسماعيل باشا، إسلام أون لاين.
(20) انظر جريدة الشرق الأوسط الأربعاء 4 محرم 1422 هـ 28 مارس 2001 العدد 8156.
(21) وكالة الأنباء الفرنسية سبتمبر (2002م) .
(22) انظر جريدة الشرق الأوسط السبت 13 جمادى الاولى 1424 هـ 12 يوليو 2003 العدد 8992. المحاضران هما: ألكسندر فسلينوف، والبروفيسور تسفيتان تيوفانوف الأستاذ في قسم الاستشراق بجامعة صوفيا. ومما يذكر ان الاساتذة فسلينوف وتيوفانوف وبليف كانوا قد أشهروا إسلامهم في أوقات سابقة وينشطون حالياً في مجال نشر الحقيقة عن الدين الحنيف في اوساط الرأي العام في بلغاريا.
(23) مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول من مقدمة المجلة.
(24) انظر مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول صفحة (595) .
(25) www.aljazeera.net من الدعاة المعاصرين للتصوف في أوروبا عبد الواحد يحيى (رينيه جينو) الشاذلي والذي تذكر عنه مجلة البحوث والدراسات الصوفية أنه له أتباع بالملايين في فرنسا ودول أوروبا، وما زال تلاميذه يقومون برسالته حتى الآن، ومنهم الصوفي الفرنسي عبد الله كوديوفتش الذي يقوم بترجمة كتاب الفتوحات المكية لابن عربي إلى الفرنسية وهو يحمل لواء نشر الإسلام والفكر الصوفي في أوروبا، انظر مجلة الدراسات والبحوث الصوفية صفحة (196) .
(26) نشر في (14/7/2004م) في موقع إسلام أون لاين. نت 2004، انظر أخبار الأكاديمية على هذا الرابط http://www.asheira.org/news.php.
(27) جريدة الشرق الأوسط، الجمعة 16 ذو القعدة 1424 هـ، 9 يناير 2004 العدد 9173.
(28) وكالة الانباء المغربية في (10/9/2004م) .
(29) الصوفية والسياسة 104.
(30) يقول شعراوي جمعة وزير داخلية مصر في عهد جمال عبد الناصر (حينما مات ناصر كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على وضع ترتيبات خاصة لحماية الجثمان؛ فقد وصلتنا معلومات تفيد بأن الطرق الصوفيه ستتكالب على النعش وتخطفه لتطوف به كافة مساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين في القاهره) شعراوي جمعة وشهادته للتاريخ، صحيفة العربي، السنة الأولى، العدد 47 ص 9.
(31) http://www. alelam. net/policy/details. php?id=1760&country=1&type=N.
(32) http: //www. libsc. org/LSC/elan1. htm.
(33) انظر جريدة الرياض، الثلاثاء (28) جمادى الأولى (1426هـ) ـ (5) يوليو (2005م) ، العدد (13525) .
(34) www.aljazeera.net/NR/exeres من مقال بعنوان: استدعاء الصوفية.
(35) الطرق الصوفية في مصر د. عامر النجار (282) .
(36) ذكرت جريدة الشرق الأوسط أن حزب العدالة والتنمية الصوفي النقشبندي قرر في عام (2004م) عدم اعتبار الزنا جريمة مع أن هذا يعد مخالفة صريحة لنص القرآن انظر جريدة الشرق الأوسط، الجمعة الموافق: (29/7/2005) العدد: (9740) .
(37) انظر www.islammemo.cc/historydb/one_news
(38) جريدة الشرق الأوسط (10/12/2001) .
(39) موقع شبكة البي بي سي. وانظر ايضا جريدة الراية القطرية الأحد 24/3/2005.
(40) http://islamonline. net. وانظر أيضاً جريدة الشرق الأوسط،الاثنين 25 ذو الحجة 1424هـ، 16 فبراير 2004، العدد 9211. وانظر أيضاً جريدة الراية القطرية الخميس 4/3/2004م.
(41) انظر جريدة الخليج «الإماراتية» الصادرة في 17 شوال 1426هـ، الموافق 19 نوفمبر 2005، العدد (9680) . وانظر جريدة الشرق الاوسط الصادرة في 16شوال 1426هـ.
(42) www.islammemo.cc/news/ السبت 22 رجب 1426هـ ـ 27 أغسطس 2005
(43) انظر كتاب (دفاع عن الاسلام) الكاتب لورا فيشيا فاغليري (122) .
(44) الطرق الصوفية في مصر د. عامر النجار (282) .
(45) انظر كتاب (التصوف طريقاً ومذهباً) الدكتور محمد كمال جعفر (283) .(223/15)
الشيخ رائد صلاح: الحفريات تحت المسجد الأقصى اعتداء صارخ على مقدساتنا
متابعة: خباب بن مروان الحمد
يُثار من حين لآخر حديث حول الحفريات التي يقوم بها الجنود الصهاينة تحت المسجد الأقصى الشريف؛ بدعوى العثور على آثار قديمة تعود إلى آلاف السنين، تثبت أنَّ لهم حقّاً تاريخيّاً في هذه البقعة المباركة.
وبما أنَّ قضية فلسطين والتي نعدُّها رأس القضايا الإسلاميَّة التي ينبغي على جميع المسلمين مناصرتها والوقوف في وجه من يراغمها ويناكفها، ومن ذلك هجمة الصهاينة على المسجد الأقصى المبارك فقد اتَّجهنا إلى رئيس الحركة الإسلاميَّة في الداخل الفلسطيني، ورئيس مؤسسة «إعمار الأقصى والمقدَّسات الإسلامية» الشيخ رائد صلاح، لاستجلاء الحقيقة حول هذه الهجمة وأبعادها الخطيرة، فتفضل متحدثاً إلى مجلة البيان قائلاًَ:
قد يتساءل بعض الناس: كيف استطعنا كشف أمر بناء كنيس يهودي تحت المسجد الأقصى المبارك؟ وإجابة عن هذا السؤال: فإنَّه في البداية تسربت إلينا معلومات حول وجود حفريات خطيرة تقوم بها جهات يهوديَّة تحت المسجد الأقصى المبارك، ووصلتنا من ثَمَّ معلومات بأن هذه الحفريات أخطر من التي تقوم بها سلطات الاحتلال منذ سنوات طويلة. وعلى ضوء ذلك بدأنا في مؤسسة «إعمار الأقصى والمقدسات الإسلامية في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 48م» ، بمحاولة للوصول إلى موقع الحفريات والوقوف على صورة ما يجري هناك، بطرائق وأساليب معينة لا يمكن الحديث عنها.
وبالفعل نجحنا في الوصول إلى موقع الحفريات المحدد، وقمنا بتوثيق ذلك بتصوير عدة أجزاء لهذا الموقع بالصور الفوتوغرافيَّة وكذلك بالفيديو، إضافة إلى تصوير مواقع كثيرة مليئة بالحفريات والأعمال العدائية الصهيونيَّة التي تجري حالياً تحت المسجد الأقصى الشريف مباشرة.
وبناءً على ذلك قمنا بتحديد موقع هذه الحفريات على الخارطة، ومكانها بالتحديد بالنسبة للمسجد الأقصى المبارك، وقد اتَّضح من خلالها ما يلي:
ـ قامت المؤسسة اليهوديَّة ببناء سبع غرف بهدف أن تكون مركزاً لتجسيد التاريخ اليهودي قديماً وحديثاً. وقد وُضع في كل غرفة مجسم يرمز إلى هذه المراحل التاريخية، وفي إحدى الغرف وجد مجسم يرمز إلى ما يسمونه «خراب الهيكل» ، وجميعها تحت المسجد الأقصى.
وهذا المبنى خطير جداً، ورسالته أكثر خطورة، حيث تحاول المؤسسة اليهوديَّة من خلال هذه الغرف أن تقول إن تاريخ اليهود يمتد تحت المسجد الأقصى المبارك، وهذا اعتداء صارخ ورسالة مزيفة ومضللة وخادعة لكافة أهل الأرض.
ـ وفي موقع آخر مجسم يرمز إلى «جبل بيت المقدس» يضعون على قمته مجسماً لقبة الصخرة. ويقوم المسؤولون عن هذه المواقع بعرض إزالة قبة الصخرة المشرفة أمام الزائرين، ومن ثم وضع مجسم «يرمز إلى هيكلهم المزعوم» . ويجرون هذه العملية أمام السائحين الذين يأتون بهم من كافة الدول. ويهدف اليهود من خلال هذا الموقع بالذات إلى إجراء غسيل دماغ، وتهيئة العالم لهدف يطمعون في تحقيقه، وهو بناء الهيكل المزعوم على حساب المسجد الأقصى المبارك.
ـ وفي الموقع الثالث: مجسم كبير لهيكل بحجم غرفة، وتحيط به كراسٍ على شكل مدرج دائري، ويقوم المسؤولون عن هذا الموقع باستقبال الزائرين الذين يتم انتقاؤهم، واستجلابهم إلى هذا المكان؛ لغسيل أدمغتهم وإقناعهم بأسطورة الهيكل المزعوم، وتحريضهم لمخطط إقامة وبناء الهيكل.
ـ في الموقع الرابع ـتم اكتشاف بناء كنيس يهودي من طابقين، لا يبعد عن قبة الصخرة سوى (97) متراً، ويوازي قبة الصخرة المشرفة.
وإلى جانب هذا الموقع كشفنا أمراً غاية في الخطورة؛ حيث تبين لنا خلال الجولات التي قمنا بها، أن هناك حفريات تجري تحت المسجد الأقصى مباشرة، وفي أكثر من اتجاه، وعلى أعماق مختلفة وجميعها تتركز تحت المسجد الأقصى مباشرة.
وأمَّا عن تأثير هذه الحفريات والاكتشافات الجديدة على بنية المسجد الأقصى فلا ريب في ذلك، بدليل أن هناك تصدعات في المباني القائمة في المسجد الأقصى، وبعد الفحص تبين أن السبب الوحيد في ذلك هو الحفريات الإسرائيلية المتواصلة منذ عام 1967م العام الذي احتلَّ فيه اليهود الصهاينة مدينة «القدس» .
كما أنَّ هذه الحفريات يقف وراءها من يطمحون للوصول إلى المسجد الأقصى القديم الذي يقع تحت الأرض، وإلى المصلى المرواني الموجود تحت الأرض، وهما مبنيان تابعان لبناء المسجد الأقصى الظاهر فوق الأرض، فهذه الحفريات مقدمة خطيرة للسيطرة على هذين المبنيين الجزء تلو الآخر.
ولا ننسى أنَّ هذه الحفريات والمجسمات التي أقيمت مؤخراً، تعتبر اعتداءً صارخاً على ما يرمز إليه المسجد الأقصى المبارك بالنسبة للمسلمين، فهو مسرى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو الأخ الشقيق للكعبة المشرفة، وقد جرت هذه التوأمة في آيات سورة الإسراء، كما أنَّه حق ديني وتاريخي وحضاري للمسلمين.
وبالنسبة لمطالبنا حول ذلك فلقد أعلنَّا من خلال مؤتمر صحفي عن كافة هذه المعلومات السابقة، وقمنا بشرحها أمام وسائل الإعلام، ونشرنا كل ما لدينا من صور وخرائط إلى جميع العالم. كما سنقوم بتوصيل هذه المعلومات والوثائق إلى جميع من يهمه الأمر في العالمين العربي والإسلامي، وإلى رابطة العالم الإسلامي، واتحاد المساجد في العالم، وكافة من نستطيع إيصالها إليه من رؤساء الدول والملوك، على أمل أن تكون هذه المواد أمانة في أيدي كل من تصله، من أجل أن يأخذ كل مسلم دوره في سبيل دفع هذه الاعتداءات الخطيرة على المقدسات الإسلامية.
كما نقوم بإعداد رسالة تتوجه إلى علماء المسلمين وخطبائهم، من أجل حثهم على التحدث عن موضوع الأخطار والحفريات التي تهدد المسجد الأقصى، من على كافة منابر الأرض، وخاصة على منبر المسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، وكل ذلك من أجل ربط المسلمين بكافة ما يحدث في القدس، ومن أجل أن يظل الأقصى والمقدسات الإسلامية حية في نفس كل مسلم؛ لأن أهم أهداف الاحتلال إبعاد قضية الأقصى والقدس عن قلوب المسلمين ونفوسهم.
كما أنَّ هناك خطوات جدية من أجل التوجه إلى الجاليات العربية والمسلمة، في أوروبا وأمريكا، وهناك خطة لعقد مؤتمر على مستوى القارة الأوروبية من أجل كشف المخاطر المحيطة بالمسجد الأقصى واستنهاض العالم كاملاً لردِّ هذه الهجمة، وكذلك مؤتمر مماثل على مستوى القارة الأمريكية يتم تنظيمه للجاليات العربية والمسلمة هناك، وهناك مساع لتنظيم مظاهرة ضخمة في أمريكا أيضاً من أجل مناصرة القدس.
وأما على الصعيد الفلسطيني، فنحن نؤكد ـ بإذن الله ـ أننا سنواصل شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، من خلال قوافل الأهالي في مناطق «المثلث والجليل والنقب» ، وكذلك المدن الساحلية: «عكا وحيفا واللد ويافا والرملة» ، وذلك بشكل يومي، استمراراً لمسيرة «البيارق» التي بدأت منذ أعوام، والتي تسعى إلى إيجاد رابط دائم بين الفلسطينيين القاطنين في المناطق المحتلة عام (48م) تعويضاً عن منع فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة من الوصول إلى المدينة المقدسة.
وإننا نرى في هذا الرباط الدائم الذي يقوم به عشرات الآلاف من المصلين يومياً حزام أمان يحافظ على المسجد الأقصى المبارك، ويدرأ عنه محاولات اعتداء يهودية متطرفة بشكل يومي، ومن شأن هذا أن يساهم في دفع خطر كبير، ويرد كيداً كبيراً عن المسجد الأقصى.
وعلى الرغم من أننا في فلسطين المحتلة عام (48م) نلتمس العذر لإخواننا في الضفة الغربية وقطاع غزة، بسبب منعهم من الوصول إلى القدس، وفرض الحصار والحواجز عليهم، إلا أن كل هذا لا يعفي السلطة الفلسطينية ولا الأحزاب والقوى الفلسطينية المختلفة من أن تجعل قضية القدس الشريف قضيتها الأساسية، خاصة في هذا الوضع الراهن.
وإنَّني أقول ـ هنا ـ: يجب على جميع المسلمين التحلي باليقظة الدائمة؛ لأن هذه السنوات ستحمل عدة محاولات لاعتداءات كثيرة على المسجد الأقصى، وعلى مستقبله، ومن ثَم علينا أن نكون ـ كمسلمين ـ على مستوى الأمانة التي نحملها في أعناقنا، باستنهاض الهمم والقيام بواجبنا تجاه مقدسات المسلمين، واستجابة للشعار الذي أطلقناه منذ سنوات والقائل بأن «الأقصى في خطر» .(223/16)
مسؤولية الكلمة كم هي ثقيلة!
مها الجريس
ليس من الغريب أن نذكر أنفسنا بين الحين والآخر بأمانة الكلمة ومسؤولية الفرد عما يقوله في شان من أمور الدنيا أو ما يتعلق بالآخرة، والنصوص المتواترة في هذا من الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر.
كم هي ثقيلة أمانة الكلمة! وكم هو عبؤها أثقل حينما تخرج من عالمٍ أو طالب علمٍ أو داعية يصدر الناس عن رأيه وينثنون إلى قوله!
ماذا أتعب العلماءَ الربانيين غيرُ هذا؟
ألم يكن للإمام أحمد رخصة في محنة القول بخلق القرآن، وكان لغيره ألف مسلك للتأويل وفقه الإكراه؟
إنها الأمانة الثقيلة التي عبَّر عنها موقف الإمام في المحنة، حينما رأى الناسَ وطلابَه ـ وهم بالآلاف ـ قد أمسكوا الأقلام ينتظرون ما يقول ليكتبوا عنه.
واليوم كيف هو الحال؟
ماذا يمكن أن نقول لمن يصدر الناس عن رأيه في زمانٍ كهذا وفتن مدلهمات؟
وكم هم تلاميذ الإمام أحمد وناقلو رأيه أمام ملايين البشر الذين يستمعون لهؤلاء اليوم في مواقعهم الإلكترونية أو عبر شاشات الفضائيات!
إن المسؤولية اليوم عظيمة وثِقَل الأمانة يتضاعف؛ فالكلمة يطير بها الإعلام بثوانٍ معدودات من غير مركوب ولا ركبان.
والزمان في غربة من الدين وأهله، والأعداء قد رموه عن قوسٍ واحدة، وما يمكن قوله ـ اليوم ـ قد لا يمكن غداً، وما ذاك إلا لتقلّب الأحوال وتصاريف الأيام بأمور وأحوال تجعل الحليم حيران.
كل هذا وذاك يجعلنا نقف وقفة طويلة أمام ثقل الأمانة الشرعية وعظيم المسؤولية الدنيوية؛ لما يصدر اليوم من أقوال وآراء تنتشر هنا وهناك، ليس منها ـ في بعض الأحيان ـ ما يوصف باجتهادات خاطئة يُؤجر صاحبها مرة واحدة، بل لا تعدو أن تكون قناعات شخصية أو آراء سياسية أو حضارية لم توزن بميزان الفتاوى الشرعية، يتناقلها الناس عن بعض الدعاة وطلاب العلم في برامجهم التي لم تكن أصلاً للإفتاء.
وأخيراً:
هل يدرك هؤلاء العلماء والدعاة أنهم ملء السمع والبصر، وأن الناس قد انتظروا ما يقولون ليحملوا عنهم، ولو لم يجمعهم مجلس علم أو ساحة مناظرة، ومن غير أقلام ولا قراطيس، وإنما عبر الأثير وفي برامج حوارية أو ثقافية أو اجتماعية؟
لِمَا مضى ولغيره أرجع فأقول: حقاً! كم هي ثقيلة أمانة الكلمة ومسؤولية الفرد! والله المستعان.(223/17)
النووي الإيراني ... والموقف الأمريكي
حسن الرشيدي
(إيران هي القاسم المشترك لكل مشكلاتنا في المنطقة) هكذا قال مسؤول أمريكي في تصريح ينم عن مدى التوتر وعمق الأزمة في العلاقات الإيرانية الأمريكية، ولكنه يكشف في الوقت نفسه عن الوعي الأمريكي بالدور المتعاظم لإيران في المنطقة مما يدفع المرء إلى التساؤل: هل تسعى أمريكا حقاً إلى حرمان إيران من السلاح النووي؟ وما حقيقة الموقف الأمريكي إذن من السلاح النووي الإيراني؟
الموقف الأمريكي كما عبرت عنه التصريحات الرسمية المعلنة يعتمد موقف المواجهة للمشروع النووي الإيراني، ووصل إلى التهديد بالحرب وإجهاض هذا المشروع بالقوة المسلحة سواء أكان ذلك بالطريق المباشر أي استخدام القوات الأمريكية وخاصة الموجودة بالجوار العراقي، أو التلويح بالذراع الصهيونية والتذكير بما فعله طيران العدو بالمفاعل النووي العراقي في ضربة قاصمة عام 1981.
ولكن في الوقت نفسه فإن إيران تبدو ماضية في مشروعها بالمزج بين الوسائل الدبلوماسية والسياسية، والتلويح بأوراقها المختلفة في المنطقة، ومنها الرد العسكري على أي ضربة توجه إليها؛ بينما يبدو الموقف الأمريكي في نظر بعضٍ كأنه غير مكترث بما يجري.
وما بين التهديدات وعدم المبالاة يدور المشهد الأمريكي في حلقة غامضة تثير الحيرة والبلبلة.
ولفك معضلات هذا المشهد يجب أولاً تتبُّع الإستراتيجية النووية الأمريكية في العالم، ثم فهم دوافع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ومن ثم موقع إيران في هذه الإستراتيجيات.
- الإستراتيجية الأمريكية النووية:
كان اكتشاف السلاح النووي بما يحمله من قوة تدميرية هائلة ومرعبة، والاستخدام المبكر له في هيروشيما ونجازاكي في اليابان على يد الولايات المتحدة الأمريكية في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية قد صاغ بشكل تفصيلي وحاسم مفردات النظام العالمي الذي ساد بعد الحرب، واستمر حتى بداية التسعينيات من القرن المنصرم.
وفي هذا المجال يرى الاستراتيجي الأمريكي البارز (برنارد برودي) أن الأسلحة النووية قد فتحت عصراً جديداً طوى الاستراتيجيات والخبرات العسكرية السابقة وقلل من شأنها، وطرح إستراتيجية فعالة وحيدة هي إستراتيجية الردع النووي.
وتقوم إستراتيجية الردع النووي قبل كل شيء على المناورة بالتهديد باستخدام السلاح النووي؛ هذه المناورة التي تجعل الشك ممكناً.
كانت فكرة الردع أحد أحجار الزاوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها طوال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية. وحسب التصريحات الرسمية في ذاك الحين فإن القوات المسلحة الأمريكية لن تُستخدمُ لبدء الحرب، ولكن قواتها بوجود الأسلحة النووية ستردع أي عدو محتمل في اتخاذ خطوات عدوانية. فالمساواة الكمية العددية بين أسلحة الطرفين المتصارعين مسألة لا قيمة لها في ميدان التوازن النووي.
- ما معيار الردع النووي؟
إن معيار الردع النووي يتضمن جانبين أساسين هما:
الأول: هو القدرة على تدمير المراكز السكانية والاقتصادية والمدنية الهامة.
الثاني: هو القدرة على امتصاص الضربة المعادية النووية الأولى، وحماية المراكز البشرية والإنتاجية والمدنية والعسكرية الهامة وخاصة وسائط الردع النووي، ومن ثم امتلاك القدرة على الرد.
ومنذ عام 1978 تعهدت الولايات المتحدة بعدم استخدام السلاح النووي ضد دول لا تمتلكه، وقد التزمت الدول النووية الرسمية الخمس (الصين، وفرنسا، وبريطانيا، وروسيا، وأميركا) بهذا التعهد بشكل علني عند إقرار معاهدة الحد من نشر الأسلحة النووية عام 1994 بعد 26 عاماً من توقيعها.
لذلك بعد انتهاء الحرب فقدَ مبدأُ استبعاد القوة النووية مبرره؛ وذلك مع انتهاء عصر الثنائية القطبية، وظهور عالم القطب الواحد وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، وبدا ذلك في استحداث إستراتيجية أمريكية نووية بديلة عن الإستراتيجية السائدة في فترة الحرب الباردة والتي ظلت فيها الأسلحة النووية بعيدة عن الاستخدام الفعلي الخاضعة ففي الوقت نفسه للتطوير والتحديث ـ. وفي سبتمبر 1996 وقّع الرئيس (بيل كلينتون) مذكرة رئاسية تراجع فيها عن التعهد الذي أُقر عام 1978 بعدم استخدام الأسلحة النووية ضد دول لا تمتلك هذا السلاح.
وفي مايو 2002 تعهدت الولايات المتحدة لروسيا بتقليص عدد الرؤوس النووية الهجومية التي تمتلكها من 6000 إلى 2000. وقد تبين فيما بعد أن هذا الوعد كان مجرد سراب؛ إذ إن العسكريين الأميركيين احتفظوا في الواقع بعدد كبير من الرؤوس النووية المخزونة التي يمكن إعادة تنشيطها خلال بضعة أيام عند الحاجة.
وفي يناير 2005 خطت الولايات المتحدة خطوة غير مسبوقة؛ فقد قدم وزير الدفاع (دونالد رامسفيلد) إلى الكونغرس مشروعاً باسم إعادة النظر في السياسة النووية وفيه تناول أساساً إحاطة مشروع إعادة إطلاق الترسانة الأميركية النووية بصيغة إستراتيجية. وتذكر هذه الوثيقة أن الولايات المتحدة باتت تواجه أخطاراً متعددة ذات مصادر متنوعة ليست كلها متوقعة، وأن الترسانة المتوفرة لا تحوي أسلحة دقيقة بالشكل الكافي، بل أسلحة قوية جداً وذات قدرة محدودة جداً على اختراق الأرض. وقد استعرض التقرير 1400 هدف تحت الأرض، واعتبر أنه ليس للأسلحة التقليدية قوة اختراق كافية لتدميرها، وأوصى بضرورة العودة إلى التجارب النووية، من أجل تأمين زمن سير أطول للأسلحة البعيدة المدى، ومن أجل إنجاز تصنيع الرؤوس النووية الجديدة. وقد وُضع مشروع لائحة بأسماء سبع دول يمكن استخدام السلاح النووي التكتيكي من الجيل الجديد ضدها وهي: روسيا، والصين، والعراق، وإيران، وكوريا الشمالية، وليبيا، وسوريا. وقد أشار (مايكل شايفز) الناطق باسم البنتاغون إلى أن على واشنطن أن تعتمد إستراتيجية نووية تواجه بها مباشرة الأخطار المستجدة؛ في حين ذكر (بول روبنسون) مدير (مختبر سانديا) أنه سيكون بإمكان الولايات المتحدة أن تردع أعداءها بشكل أفضل إذا ما تضاءل الفرق بين الأسلحة النووية والأسلحة التقليدية.
وفي شهر مايو 2005 كتبت صحيفة الواشنطن بوست تقول: قبل أن نبحث في كيفية تطوير ترسانتنا النووية العجوز علينا أن نناقش دور الأسلحة النووية ومدى أهميتها في الحفاظ على أمن الولايات المتحدة. واستعرضت الصحيفة بعض النقاط من أجل الإشارة إلى أهمية الأسلحة النووية بالنسبة لأمن الولايات المتحدة ومستقبلها؛ منها: أن العديد من الدول يملك هذا النوع من الأسلحة، والعديد من الدول الأخرى يسعى جاهداً لامتلاكها؛ كذلك فإن الأسلحة النووية التي بحوزة أميركا اليوم لا تتماشى ومتطلبات العالم الحديث؛ فقد كانت مناسبة في إطار الحرب الباردة، ولكنها أصبحت اليوم متواضعة. وتتابع الصحيفة تعداد نقاط أخرى تشكل بنظرها دوافع مهمة كي تطور الولايات المتحدة برنامجها النووي وأهمها امتلاك الإرهابيين ـ على حد تعبير الصحيفة ـ أسرار صنع القنبلة النووية.
وتعزز هذا المسعى بإصدار الوثيقة المعنونة بـ (مبادئ العمليات النووية المشتركة) بتاريخ 11/9/2005 بغرض توسيع هامش الاستخدام الميداني للأسلحة النووية الميدانية.
وفي فبراير 2006 وقَّعت الولايات المتحدة اتفاقية خاصة بأنظمة المفاعلات السريعة المبرّدة بالصوديوم مع فرنسا واليابان؛ مما يوفر إطاراً للتعاون بين الدول الثلاث في مجال الأبحاث والتطوير لصنع مفاعلات نووية متطورة.
وجاء في بيان صحفي أصدرته وزارة الطاقة الأميركية في 17 فبراير الماضي أن هذا الترتيب سيدعم تطوير التقنية ضمن شراكة الطاقة النووية العالمية التي تتزعمها الولايات المتحدة والتي كان قد أعلنها وزير الطاقة الأميركي (سامويل بودمان) في وقت سابق من هذا الشهر. وشراكة الطاقة النووية العالمية هي استراتيجية شاملة تهدف إلى زيادة الأمن الأميركي والعالمي في مجال الطاقة، وتشجيع التنمية النظيفة حول العالم، وتقليص خطر انتشار الأسلحة النووية فضلاً عن تحسين البيئة.
ولكن: لماذا هذا التغير في السلوك الإستراتيجي الأمريكي النووي؟ يقول الدكتور عماد الشعيبي رئيس مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية بدمشق: إن مخاطر السياسة الجديدة التي تتبعها الولايات المتحدة تتجلى في اعتمادها سياسة لحظر نشر الأسلحة ليس عن طريق المعاهدات بل بالهجوم؛ فهي تتنكر جذرياً لفرضية الردع الكلاسيكية كي تنحو في اتجاه مخطط استخدام الأسلحة النووية وضرب النظام الذي ينتج أسلحة محظورة، وتعطي الأولوية لنشر الأسلحة النووية. فخلال الحرب الباردة كان الخطر يتأتى من الأسلحة النووية السوفييتية، أما الآن فإن التحصينات تحت الأرض لدى من يسمونهم (الديكتاتوريين) هي التي على ما يبدو يرتعد لها مسؤولو الشؤون الدفاعية في الولايات المتحدة، وهذا هو سر العمل في الكونغرس لاستصدار قرار يسمح باستخدام أسلحة نووية تكتيكية وكأنها أسلحة تقليدية. وفي هذا الصدد يقول الباحث الأمريكي المعروف (أنتوني كوردسمان) في كتاب (تهديدات إستراتيجية) إصدار مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن: منذ نهاية الحرب الباردة تغير التهديد للولايات المتحدة من تهديد استراتيجي إلى خليط من تهديدات جديدة؛ فأراضي الولايات المتحدة أصبحت الآن من المحتمل أن تُضرَب نتيجة صراعات من أجل القوة في مسارح بعيدة عن أراضي الولايات المتحدة وبسبب الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة بفتح قواتها على مسافات بعيدة في تلك المناطق.
ويعتقد بعضهم أن التغير في الموقف النووي قاصر على الولايات المتحدة، ولكن فرنسا (شيراك) دخلت أيضاً على هذا التغير الإستراتيجي النووي؛ فقد أفادت الأنباء يوم 20 يناير 2006 أن الرئيس الفرنسي ألقى كلمة في القاعدة البحرية بجزيرة (ليل لونج) قبالة سواحل مدينة برست ـ الواقعة في مقاطعة بريتانيا الفرنسية ـ وأعلن في هذه الكلمة ـ بالنص ـ ما يلي: «يجب على قادة الدول الذين قد يلجؤون إلى وسائل إرهابية ضدنا أو أولئك الذين قد يستخدمون أسلحة التدمير الشامل أن يدركوا أنهم يمكن أن يعرِّضوا أنفسهم لرد صارم وملائم قد يكون بوسائل تقليدية أو ذات طبيعة أخرى» . وأضاف شيراك: «إن الإمدادات الإستراتيجية والدفاع عن الحلفاء هي من المصالح التي نعتبرها حيوية وتبرر من ثَم اللجوء إلى قوة الردع النووي. ويذكر المحللون أن فرنسا كانت تعتبر حتى الآن أن المصالح الحيوية التي تبرر استخدام السلاح النووي» مقتصرة على صون وحدة وسلامة الإقليم الداخلي للدولة الفرنسية وحماية السكان وكفالة ممارسة الدولة لسيادتها.
كل ما سبق يعني أن الإستراتيجية الأمريكية الحالية هي عدم التوقف عن إنتاج الأسلحة النووية؛ ولكن ما يعرف بالنووية التكتيكية والتي تمكِّن الولايات المتحدة من الرد على المجموعات الإرهابية أو ما يسمونه (الدول المارقة) بالمنظور الأمريكي وليست هذه إستراتيجية أمريكية فقط، ولكنها إستراتيجية أوروبية قد تكون نتيجة تنسيق بين الأطراف المختلفة، أو تكون نوعاً من إثبات القوة أمام الهيمنة الأمريكية. وإذا كانت الولايات المتحدة نجحت في إسقاط الاتحاد السوفييتي بما يمثله من قوة نووية هائلة بدون إطلاق أي قوة نووية أو غير نووية فإن الولايات المتحدة واثقة من أنها قادرة على من هو أقل منه شأناً في ذلك المضمار.
- أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط:
يُجمِعُ المراقبون السياسيون على وجود هذه الثلاثية من الأهداف التي تبغي الإدارة الأمريكية تحقيقها في المنطقة وهي: الدولة الصيونية، والنفط، ومحاربة الإرهاب؛ ولكن خلافهم حول أولويات هذه الأهداف وترتيبها؛ والتي تصب في النهاية لتحقيق الهدف الرئيسي الذي عبر عنه بوش في خطابه في احتفال البحرية الأميركية في فلوريدا يوم 13/2/2003م بقوله: نرغب أن نكون بلداً فوق الجميع. هذه الثلاثية في الأهداف نابعة من الشخصية الأمريكية التي جرى تشكلها عبر التاريخ الأمريكي منذ قدوم المهاجرين الإنجليز ونزول الرجل الأبيض على شواطئ العالم الجديد أو ما عرف فيما بعد باسم (أمريكا) حيث شكلت ثلاثية: (المال، والقوة، والدين) الشخصيةَ الأمريكيةَ على مدار التاريخ. وعند تطبيق معالم الشخصية الأمريكية تلك على أهداف الإدارة الأمريكية بالنسبة للشرق الأوسط تتجلى هذه الثلاثية بشكل قاطع. فالتراث الديني في أمريكا يستمد أصوله من المذهب البروتستانتي في إنجلترا وارتحل إلى أمريكا؛ والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني التي قادها (مارتن لوثر) في القرن السادس عشر، وأسهمت هذه الحركة في بعث اليهود من جديد؛ وبذلك نفهم الحرص الأمريكي على وجود الدولة الصهيونية.
أما القوة الأمريكية الغاشمة وحرب الإبادة التي شنها الكاوبوي الأمريكي على سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر فتتجلى بشكل صريح في الحرب التي تشنها على ما تزعم أنه إرهاب. أما حب المال والسيطرة على مصادره فإن تجلياتها الحديثة تظهر في حب السيطرة على منابع النفط وطرق الوصول إليه.
- ولكن ما هو موقع إيران من تلك الأهداف الأمريكية؟
بالنسبة للنفط فإن إيران من كبار منتجيه في العالم، وفضلاً عن ذلك قربها من المنتجين الرئيسيين في الخليج العربي، كما تطل بشواطئ طويلة على ذلك الخليج الممتدة من عبدان وحتى المحيط الهندي؛ ومع وجود قوات بحرية قوية فإنها تستطيع تهديد مرور ناقلات النفط في الخليج، وسبق أن هددت بذلك؛ فبعض التقارير العسكرية التي أقرت بها إيران، تفيد بأنها تمتلك غواصة لا يستطيع الرادار كشفها، كما أنها دأبت على تصنيع توربيدات محلية الصنع قد تسبب أرقاً للبحرية الأمريكية في مياه الخليج الضحلة أساساً؛ هذا بالإضافة إلى ترسانة صواريخ أرض أرض التي تمتلكها والمتمثلة بمنظومة صاروخية ذات تقنية روسية ـ صينية ـ وكورية شمالية ومحلية الصنع يقف على رأسها الصاروخ شهاب.
والدولة الصهيونية حاضرة بالنسبة للمنظور الأمريكي لإيران؛ فالإستراتيجية الأمريكية من ضمن خطوطها العريضة الحفاظ على أمن دولة العدو؛ وإيران تمتلك كثيراً من المؤهلات العسكرية والبشرية والتقنية وهو ما يجعلها نِدّاً إقليمياً للعدو الصهيوني مكافئاً لها.
أما مكافحة الإرهاب؛ فوجود إيران كمعبر من أفغانستان إلى العراق يشكل هاجساً مهماً بالنسبة لأمريكا التي تخوض حرباً ضروساً مع الجماعات الجهادية التي تنشط بشكل مكثف في كل من البلدين، وتغرق الجيوش الأمريكية في تلك المناطق حتى أذنيها؛ فضلاً عن الحضور الشيعي في كل من هذين البلدين.
- السلاح النووي الإيراني في الإستراتيجية الأمريكية:
باستعراض ما سبق نجد أن الولايات المتحدة تنظر إلى إيران بحجمها الإستراتيجي في المنظور الأمريكي كدولة موجودة على الخارطة وقوة لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال؛ ولذلك فإن الولايات المتحدة يمكن أن تغض النظر عن مستوى معين في التسلح النووي الإيراني؛ وذلك من عدة منطلقات:
أولاً: أن القوة الإيرانية لم تكن في يوم من الأيام حسماً من الرصيد الإستراتيجي الأمريكي، بل كانت دائماً تعزيزاً له وتكريساً لوجوده.
ثانياً: أن المعلومات المتوفرة تدل على أن أمريكا نفسها ساهمت بشكلٍ ما في البرنامج النووي الإيراني؛ فقد أشار تقرير لعروض الصحف البريطانية أذاعته الـ (بي بي سي) نقلاً عن صحيفة (الغارديان) تحت عنوان حماقةC.I.A التي ساعدت برنامج إيران النووي، والذي تحدث عن كتاب لمراسل صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية (جيمس رايسن) لشؤون المخابرات بعنوان: (الحرب على الإرهاب: التاريخ السري للسي آي إي وإدارة بوش) .
ونقلت (الغارديان) عن ذلك الكتاب أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ربما ساعدت إيران في تصميم قنبلة نووية من خلال محاولة فاشلة لتسريب معلومات سرية مضللة تتعلق بتصميم قنبلة نووية إلى إيران.
ويورد الكتاب أن العملية السرية التي سميت (ميرلين) والتي وافقت عليها إدارة الرئيس السابق (بيل كلينتون) ارتدت على نحر المخابرات الأمريكية عندما قام عالم روسي منشق كان يعمل في برنامج نووي سوفييتي يتعاون معC.I.A ومكلف بتسريب تلك المعلومات النووية السوفييتية التي تلاعبت فيها المخابرات الأمريكية إلى الإيرانيين بإعلام المسؤولين في طهران في فبراير عام 2000 بوجود معلومات غير صحيحة في البيانات التي حصلوا عليها. ويقول المؤلف ـ نقلاً عن (الـ بي بي سي) ـ: إن الهدف الأمريكي كان توجيه العلماء الإيرانيين الذين يعملون على تطوير سلاح نووي إيراني نحو طريق مسدود يصلون إليه بعد سنين من العمل الشاق غير المثمر. ويضيف (رايسن) : إنه بدلاً من ذلك ربما ساهمت العملية الفاشلة في تسريع تطوير إيران لبرنامجها النووي. وتتحدث (الديلي تيليغراف) عن الموضوع نفسه في مقال بعنوان: (أيدي C.I.A الخرقاء تسلِّم الإيرانيين دليلاً لصنع قنبلة نووية) . لكنها تورد فشلاً استخباراتياً أمريكياً آخر، على حد تعبير رايسن، وقع عام 2004؛ حيث يقول في كتابه: إن ضابطاً فيC.I.A سلَّم عن غير قصد عبر رسالة مشفرة أحد العملاء الإيرانيين ـ الذي تبين لاحقاً أنه عميل مزدوج يعمل أيضاً مع المخابرات الإيرانية ـ معلومات أدت إلى إلقاء القبض على كافة العملاء المتعاونين معC.I.A في إيران، ويرى (رايسن) أن السي. آي. إي ارتكبت أكبر حماقة في تاريخها الحديث مع إيران.
ولكن من السذاجة بمكان تصور أن وكالة المخابرات الأمريكية بهذه الغفلة بحيث تمد إيران بمعلومات مغلوطة عن السلاح النووي، أو أنها تكشف عميلاً لها للمخابرات الإيرانية.
ثالثاً: تاريخ العلاقات الإيرانية الأمريكية لا يوحي بذلك التنافر الحقيقي. نعم! إن تبادل الاتهامات والحملات الإعلامية كانت هي السمة البارزة في العلاقات بين الطرفين، ولكن متى كانت السياسة هي العلاقات الظاهرية، وخاصة في منطقتنا؟ فالبلدان يتمتعان بعلاقات تحالف وتوافق مصالح وتنسيق سري جرى منذ أيام سقوط الشاه مروراً بفضيحة (الكونترا) حتى الوصول إلى التحالف لإسقاط طالبان ومن بعده نظام صدام.
رابعاً: أمريكا خبرت جيداً القنبلة النووية الباكستانية، وبدلاً من أن تكون عاملاً للقوة الباكستانية تستطيع أن تلعب به في الساحة الدولية لتعزيز مكانتها أصبحت بعد 11 سبتمبر عبئاً ثقيلاً على باكستان نتيجة التهديد الأمريكي المبطن بتدميره أو المشاركة بقصفه إذا لم تتعاون باكستان ضد طالبان والقاعدة؛ وهكذا يمكن أن يكون السلاح النووي ورقة سياسية في يد الإدارة الأمريكية تبتز بها إيران، وتجبرها على ترك أوراقها في أماكن أخرى.
خامساً: الولايات المتحدة تعلم جيداً الأوراق التي تمتلكها حكومة الملالي في إيران؛ فهناك النفط وخطوط نقله كما سبق أن بينّا، وهناك ورقة الانتحاريين الذين يمكن إرسالهم إلى دول مختلفة وإحداث القلاقل في هذه الدول، وهناك أيضاً أفغانستان وطائفة الهزارة الشيعية، والصلة بين المخابرات الإيرانية وبعض زعماء الطاجيك، وهناك أيضاً شيعة الخليج والتأثير الإيراني عليهم، وهناك لبنان وحزب الله؛ بالإضافة إلى الورقة السورية؛ فضلاً عن الورقة الفلسطينية المتمثلة في دعم حماس بعد فوزها في الانتخابات. وأخطر هذه الورقات على الإطلاق هي الورقة العراقية وشيعة الجنوب.
وفي المعلومات الاستخباراتية أن إيران استأجرت واشترت 2700 وحدة سكنية من البيوت والشقق والغرف في مختلف أنحاء العراق، وخاصة في النجف وكربلاء ليسكن فيها رجال الاستخبارات الإيرانية ورجال فيلق القدس الاستخباراتي، ويشير حجم المساعدات النقدية الإيرانية المدفوعة إلى مقتدى الصدر وحده ـ عدا التيارات الأخرى ـ خلال الأشهر الأخيرة أنها تجاوزت سقف 80 مليون دولار، إلى جانب تدريب رجاله، وإرسال معونات إنسانية شملت الغذاء والأدوية والمعدات والأثاث.
كل هذه الأوراق تدفع واشنطن باتجاه واحد وهو التفاوض مع إيران لتبادل الأوراق السياسية معها.
وإذا كانت أمريكا تعلم جيداً بالبرنامج النووي الإيراني، بل ساهمت في إنشائه؛ فما سر هذه المشاحنات الإعلامية والتهديدات العسكرية والملاسنات السياسية التي وصلت إلى مجلس الأمن؟ كما أعلن مؤخراً
الإجابة هي أنه لا بد أن هناك خلافاً بين الطرفين على المساومة على الأوراق السياسية المطروحة بينهما؛ ففي مقابل الأوراق الإيرانية السابقة الذكر تملك أمريكا ورقة فعالة وهي ورقة البرنامج النووي الإيراني، ويشير أكثر المراقبين إلى أن صفقة يمكن أن تتم بين الطرفين، وأن الخلاف هو حول الأولويات؛ فحسب بعض التقارير الإخبارية أن الإيرانيين يريدون صفقة شاملة من النووي، وحتى التفاصيل الاقتصادية والسياسية في شرق إيران وغربها وجنوبها وشمالها. والأميركيون يفضلون الاتفاق على المسائل واحدة بعد أخرى من العراق وحتى لبنان.
ويرى الباحث د. رضوان السيد أن الولايات المتحدة الآن في مواقع الدفاع في الشرق الأوسط رغم جيوشها الضاربة في كل مكان ... تحتاج أميركا إلى الاستقرار في العراق، وإلى الاستقرار في لبنان، وإلى الاستقرار في الخليج.
وهكذا تحول الاضطراب البنَّاء الذي تحدثت عنه (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية لغير صالح الولايات المتحدة، وصار الاضطراب البنَّاء ذاته عملة إيرانية صعبة تستطيع الكسب عن طريقه بتحريك أحجار الشطرنج دونما حاجة لإحراق أصابعها.(223/18)
حرب أهلية صغيرة = احتلال أفضل
أحمد فهمي
قال سائق عراقي يعمل لدى مؤسسة إعلامية دولية في بغداد: «هذه البطاقة تفيد أنني من منظمة بدر (الشيعية) وهذه أُظهِرُها للشرطة، ولديَّ تصريح صحفي أمريكي، وبطاقة هويتي العادية، وتقدمت بطلب للحصول على تصريح من جيش المهدي.. أنا سُني، لذلك فإن هذه التصاريح تعني ألاَّ أواجه المشاكل» .
هكذا تعيش بغداد التي قررت القوات الأمريكية أنها تعيش حالة من الأمان تستدعي تسليم القوات العراقية 70% من مناطقها. وحقيقة الأمر أن الجيش الأمريكي في العراق أشبه بفِرَق زرع الألغام، يتسلم المدن والمناطق ثم يقوم بزرع الألغام الطائفية في أراضيها، ثم يسلمها للقوات العراقية ـ المُلَغَّمة بدورها ـ ويعلن على الملأ: الأحوال تسير بشكل إيجابي، وكانت نتيجة الإيجابية على النهج الأمريكي أن بغداد تحولت إلى ميدان للصراع الطائفي للعراق كله؛ بحيث إن الأحداث في البصرة أو سامراء أو النجف تنعكس بصورة فورية في بغداد.
وتبدو هذه الوضعية المتوترة للعاصمة مقصودة في حد ذاتها، انطلاقاً من رؤية إستراتيجية تعتبر أن الحرب الأهلية المخففة تحقق عدة أهداف للسياسة الأمريكية: فهي تلفت الأنظار إلى أهمية الوجود الأمريكي العسكري في العراق، كما أنها تفسد على نظام طهران متعة إشعال الحرائق المشتعلة بالفعل، وأيضاً فهي تعيد توجيه الطاقات القتالية وقوى المقاومة نحو أهداف أخرى غير الأمريكيين، ومن فوائدها أنها تمثل ضغطاً على القوى السنية لتُليِّن مواقفها السياسية.
وقد تمادى قادة وسياسيون أمريكيون مؤخراً في تحذيرهم من حرب أهلية قادمة وكأنهم كانوا مبرمجين على إطلاق تلك التصريحات، وكتب (توماس فريدمان) في الواشنطن بوست معبراً عن هذا التوجه الجديد: «هذا ليس الوقت المناسب لانسحاب الولايات المتحدة الأميركية من العراق، بيد أنه الوقت المناسب كي تبدأ تهديدها بالانسحاب منه» . وفي تعبير أكثر صراحة يقول فريدمان: «ليس منطقياً ولا مقنعاً القول بضرورة استمرار وجود القوات الأميركية رهينة الخوف من اندلاع حرب أهلية بين العراقيين، ولو عقد العراقيون العزم على خوض حرب أهلية واسعة النطاق فيما بينهم؛ فإن من الأفضل أن تندلع هذه الحرب دون أن نكون نحن طَرَفاً فيها» .
بقي أن نشير إلى آخر اللمسات الفنية التي أضافها الرسام المجهول إلى لوحة «بغداد المتوترة» وهي اغتيال (اللواء بدر الدليمي) السني قائد الفرقة السادسة التي تضم عشرة آلاف مقاتل، بينما كان يترجل من سيارته ضمن قافلة من 14 سيارة عسكرية، قُتل برصاصة واحدة في رأسه من قناص مجهول يعلم تماماً ما يفعله، أما لماذا (بدر الدليمي) تحديداً؟ فلأن الرجل لعب دوراً بارزاً في مشاغبة الميليشيات الشيعية التي تريد السيطرة على بغداد، خاصة بعد تفجير مرقدي سامراء.
لا أكون مبالغاً إذا قلت: إننا لو صنفنا قائمة بأسماء الرموز السنية التي اغتيلت في العراق من أئمة وعلماء ودعاة وقيادات سياسية وفكرية؛ فسنجد أنفسنا أمام حرب إبادة نوعية لم يسبق لها مثيل في العالم العربي.(223/19)
من مصادرهم الرسمية: القوات الخاصة الأمريكية والقتل خارج نطاق القانون
باسل النيرب
أدت الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة إلى فرض نوع جديد من القوة العسكرية التي تقوم على أساس القوة الضاربة، وتلقين الخصم الدرس القاسي من جراء معارضته للوجود الأمريكي، وقد صاحب تلقين الخصم الدرس القاسي؛ فرض نوعٍ من الرقابة العسكرية الصارمة، والتعتيم الإعلامي وبخاصة على أرض المعركة؛ حيث يقوم الجنود بمهامهم وفق الطريقة الأمريكية المُثلى كما يرتؤون في القضاء على كل أشكال المقاومة.
- غياب التشريع القانوني:
لقد تنوعت أسماء الوحدات الخاصة المقاتلة في الحياة العسكرية الأمريكية؛ فهناك قوات القبعات الخضراء، وجوالة الجيش (رانجرز) ، وقوة النخبة في القوات الأمريكية الخاصة (دالتا) ، وفرقة النشاطات الخاصة SA)) ، ووحدة مساندة النشاطات الاستخباراتية المعروفة باسم الثعلب الرمادي التي شكلتها استخبارات الجيش، ويضاف إلى ما سبق الفرقة (101) المحمولة جواً من الجيش الأمريكي، وتعد رديفاً للقوات الخاصة، واللواء (82) المحمول جواً وهو ذو كثافة نيران عالية وتسليح خاص، وقادر على الانتقال فوراً إلى مناطق العمليات الساخنة بكامل أسلحته وقوته ومباشرة الاشتراك في العمليات.
ولا تكاد تؤثر تلك القوات الخاصة على الحياة المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فالأخبار عنها شحيحة أو تكاد تكون معدومة أحياناً ما لم يظهر حدث يدل على بشاعة المصير الذي آل إليه أعضاء إحدى الفرق وهو الحدث الذي يتبارى في إظهاره المراسلون الحربيون؛ ففي الحرب الفيتنامية تبارى المراسلون في إظهار تجاوزات أصحاب القبعات الخضر في جبال وأحراج فيتنام، عندها سارع الشعب الأمريكي إلى تنظيم المظاهرات لسحب الجنود من غابات فيتنام، والحال ذاتها تنطبق على الجنود في الصومال عندما قُتل وسُحل مجموعة من أفراد القوة (101) على أيدي المقاومين في الصومال، فسارع الشعب الأمريكي إلى التنديد بالهجوم وفرض انسحاب القوات منها؛ أما عند شيِّ مجموعة من الأسرى الصوماليين على النار على أيدي جنود المارينز فلم يبادر أفراد الشعب الأمريكي إلى المطالبة بالانسحاب.
ومهما كانت أسباب عودة القوات الخاصة الأمريكية إلى دائرة الحدث بقوة؛ فإن إعادة إحيائها تمثل انتصاراً لسياسة وزير الدفاع الأمريكي (دونالد رامسفيلد) الذي أعلنها إثر غزو أفغانستان والمتمثلة في اصطياد البشر، وهي للأشخاص المطلوبين وفق تصور الأجهزة الأمنية الأمريكية لمشاركتهم الأساسية، أو المحتملة في الهجمات على الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع تغوُّل الحياة العسكرية داخل الولايات المتحدة وتصديرها عبر حلمها الإمبراطوري، توسعَ عمل القوات الخاصة كثيراً في إدارة جورج بوش؛ حيث لا يوجد تشريع قانوني يلزم الرئيس الأمريكي بإحاطة الكونغرس بعمل القوات الخاصة خارج الأراضي الأمريكية، كما أن ميزانية البنتاجون لعام 2004م خصصت ما يزيد على 6.5 بلاين دولار لتغطية مهامها بزيادة قدرها 34% عما كانت عليه عام 2003م. أما لماذا سمح التشريع الأمريكي للقوات الخاصة بذلك وليس للجيش وإن كانت إحدى تشكيلاته؛ فلأن القوات الخاصة أفضل من ناحية الحركة من حيث الملاحقة واصطياد الخصوم، واليوم من أنشط هذه القوات كتيبة قوات دلتا وهي الأكثر سرية ضمن الوحدات الخاصة الأمريكية المتخصصة في الخطف والتسلل، وقوة المهمة (Task force 121) جمع أفرادها من قوات دلتا السابقة والقوات الخاصة البحرية ووكالة المخابرات المركزية وقوات أخرى من القطاع الأمني الخاص، وقد تشكلت هذه القوة لأجل مطاردة صدام حسين وأسامة بن لادن وآخرين، ويقود هذه القوة الطيار بالقوات الخاصة سابقة هو العميد (لايل كوينيج) .
- تبرير منطقي للقتل:
لقد تنوعت البرامج الأمريكية العسكرية في القتل خارج نطاق القانون؛ ففي عام 1962 ناقش كبار قادة هيئة أركان القوات المسلحة الأمريكية خطة تدميرية، واتفقوا على عملية سرية أطلق عليها اسم عملية نورثوودز، وهي خطة لتدمير ممتلكات أمريكية وقتل مواطنين أمريكان؛ الهدفُ منها إعطاء مبرر لأمريكا لكي تغزو كوبا، كما نشر الجيش الأمريكي في عام 1970 دليل العمليات الميدانية المرقم بـ 30 - 31B والمعنون بـ «استخبارات عمليات الاستقرار والتوازن - الميادين الخاصة» المؤرخ في 18 مارس 1970 والذي وقعه الجنرال وليام ويستمورلاند؛ حيث شجع الدليل على القيام بعمليات إرهابية «وزرع» أدلة كاذبة في أماكن عامة لكي يتهم بها الاتحاد السوفييتي لاحقاً، ويذكر التقرير ضرورة القيام بهجمات إرهابية في عموم أوروبا الغربية تقوم بها شبكة من الوحدات الخاصة للجيش الأمريكي وجيوش دول حلف الناتو، الغرض منها هو إقناع الحكومات الأوروبية بالخطر الكبير للاتحاد السوفييتي، ومن ثم تباشر آلة الإعلام في اتهام التنظيمات الإرهابية، مما يستدعي الأمر أهمية التدخل العسكري الأمريكي في ذلك البلد.
ومنذ الحرب الفيتنامية أطلقت العسكرية الأمريكية العديد من البرامج التي تتعقب كل من لا ينتمي إلى تيارها أو يحاول ضرب الولايات المتحدة، وهناك برنامج فينكس phoenix)) ، وهو الاسم الحركي لبرنامج مضاد للمقاومة الفيتنامية نفذته الولايات المتحدة أثناء حرب فيتنام؛ حيث كانت فرق القوات الخاصة تقوم باعتقال أو اغتيال الفيتناميين الذين يعتقد أنهم يعملون مع الفيتكونج أو يتعاطفون معهم، وكان اختيار الأهداف يعتمد بشكل كبير على ضباط جيش فيتنام الجنوبية ورؤساء القرى، وطبقاً لإحصائيات فيتنامية جنوبية رسمية قام برنامج فينكس بقتل نحو 41 ألف ضحية خلال الفترة من 1968 وحتى 1972 معظمهم لا علاقة لهم بالحرب ضد الولايات المتحدة، ولكنهم استهدفوا من أجل الثأر ولعداوات سابقة، وقد أقر وليام كولبي ضابط وكالة المخابرات المركزية الذي كان مسؤولاً عن هذا البرنامج عام 1968م، وأصبح فيما بعد مديراً للوكالة، أمام الكونغرس بأنه كان يجب ألا يحدث الكثير مما حدث.
وفي العراق تنشط العديد من المنظمات للتعقب والقتل ومنها مجموعة الفئران القارضة والثعلب الرمادي، وتقوم هذه الوحدات الخاصة بقنص المطلوبين واصطيادهم. وإن كانت العسكرية الأمريكية استخدمت القتل وبررته خارج الحدود؛ فقد أكدت العديد من التقارير وجود القوات السرية في العراق التي من أدق مهامها القتل. وهنا نحيل القارئ الكريم إلى مقال أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا (جون يو) ، والباحث في منظمة اليمين المتطرف المعروفة باسم American Enterprise Institute، فقد اقترح في مقال نشره في صحيفة لوس أنجيليس تايمز، إنشاء منظمات إرهابية وهمية كطريقة لمقاتلة منظمات إرهابية أخرى، وأن يكون لهذه المنظمات الوهمية مواقع على الإنترنت، ومراكز تجنيد ومعسكرات للتدريب إضافة إلى تسهيل عمليات جمع الأموال لها، والسبب كما ذكره من أجل بذر الشقاق بين الحركات الإرهابية كما وصفها، على أن تمارس تلك المنظمات أعمالاً إجرامية بحق مواطنين أبرياء تماماً كما حدث مرات عديدة في العراق مما يفسر استمرار الحرب على الإرهاب، وهذا بالطبع يقودنا إلى مرحلة ما بعد الغزو.
وبعد حوالي ثمانية شهور من سقوط بغداد نشرت صحيفة الواشنطن بوست أن السلطات الأمريكية في بغداد وافقت بعد شيء من التردد على تشكيل ميليشيا عراقية مضادة للإرهاب تتكون من قوات خمسة أحزاب رئيسية، وهذه الوحدة تضم حوالي 800 رجل من مهامها التعرف وتعقب من وصفتهم بالإرهابيين الذين لم يلق عليهم القبض، وقد اعترفت قيادات أمنية وعسكرية أمريكية بتخريج وتكوين وحدات خاصة من العراقيين المتعاونين معها والأمريكيين ترتدي الملابس المدنية وتقوم بعمليات خارج القانون، وتداهم البيوت وتعتقل الأفراد، وقد صُرِّح لها بالتعذيب والقتل في خطة أمريكية جديدة تسمى «محاربة الإرهاب» .
ويُنقل عن فينسان كانيسترارو المدير المساعد لشعبة محاربة الإرهاب بوكالة المخابرات الأمريكية قوله: «إن واشنطن لا تكذب وجود مثل هذه الخطة التي عهد بها إلى الـ CIA لأنها خرَّجت بالفعل وحدات هي رهن الاستخدام اليوم في العراق» .
وأُكد بدء عمل هذه الوحدات في بغداد؛ حيث قام نحو 120 رجلاً يرتدون ملابس مدنية بمهاجمة ما أسموه «أوكار الإرهابيين» في شارع حيفا والأعظمية ومعسكر يقع على شاطئ الفرات على الضفة الشرقية يضم مستودعات أسلحة، وقتلوا 36 عراقياً واعتقلوا آخرين في هذه الغارات، وقد أكدت صحيفة الخليج البحرينية وجود معلومات خاصة تفيد أنCIA هي التي دربت وخرَّجت هذه الوحدات الخاصة التي تعمل بتفويض خاص من الحكومة العراقية، ويسمح لها بتجاوز القانون في عمليات الهجوم والسجن والتعذيب والقتل. وأضافت الصحيفة أن هناك معلومات أمنية فرنسية تفيد بأن تشكيل هذه الوحدات راود الاستراتيجيين الأمريكيين منذ عام تقريباً عندما تيقنوا أن «المقاومة العسكرية» المناهضة للوجود الأمريكي بدأت تنتشر بسرعة في أنحاء عديدة من العراق، وقد رفع هؤلاء تقريراً إلى هيئة الأركان الأمريكية والبيت الأبيض يقترحون فيه خطة تخريج مثل هذه الوحدات الخاصة مستفيدين من التجربة الأمريكية في فيتنام، والإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويجد هذا الرأي دعماً وصدى إيجابياً لدى كل من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وستيفن كامبوني (Stephen Cambone) نائب وزير الدفاع لشؤون الاستخبارات الذي كان من مؤسسي فكرة القوات الخاصة الجديدة، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، وعمل عام 1998م مديراً للجنة التي رأسها رامسفيلد والتي حذرت في تقريرها من ظهور تهديد صاروخي بالستي للولايات المتحدة، واقترحت أن تذهب وكالات الاستخبارات في تحليلاتها إلى ما هو أبعد من البيانات المتوفرة تحت اليد، وقد حظي هذا النهج بتأييد رامسفيلد، إلا أنه تعرض للهجوم عندما لم تتحقق تنبؤات الإدارة الأمريكية حول أسلحة الدمار الشامل العراقية وإمكانية قيام مقاومة عراقية، ويتفق كامبوني مع آراء رامسفيلد في كيفية محاربة الإرهاب كما أنه شعر بالإحباط بسبب تردد القيادة العسكرية في تبني مهمة اصطياد البشر، مما دفعه إلى محاولة السيطرة على القوات الخاصة.
وهناك الفريق وليام بويكن مساعد كامبوني العسكري، والذي أصبح مقرباً جداً من رامسفيلد، وبويكن هذا قارن الإسلام أمام رواد إحدى الكنائس أكثر من مرة بالشيطان، وقال واصفاً الدين الإسلامي: (الشيطان يريد أن يدمر هذه الأمة ... يريد أن يدمرنا كأمة، ويريد أن يدمرنا كجيش نصراني) وقد أثنى على الرئيس بوش باعتباره الرجل الذي يصلي في المكتب البيضاوي، معلناً أنه ـ أي «بوش» ـ لم يكن رئيساً منتخباً؛ وإنما مفوضاً من قِبَل الرب) .
أما أعماله في القتل؛ فقد كان قائد المعارك العسكرية في مقديشو عام 1993 عندما قتل 18 جندياً أمريكياً خلال مهمتهم الفاشلة، وعندما كان برتبه كولونيل قاد فريقاً مكوناً من 8 رجال من قوات دلتا مهمتهم مساعدة الشرطة الكولومبية في تعقب (بابلو اسكوبار) تاجر المخدرات الشهير؛ وحسب القانون كان محظوراً على فريق بويكن التورط في القتل بدون موافقة رئاسية، ولكن كان هناك شكوك في البنتاجون أن الفرقة تخطط للمشاركة في اغتيال اسكوبار بمساعدة موظفي السفارة الأمريكية في كولومبيا، ويصف مارك باودين أيضاً في كتابه (قتل بابلو) تفاصيل مطاردة اسكوبار وكيف تيقن مسؤولون في قيادة البنتاجون بأن بويكن قد تجاوز صلاحياته وينوي انتهاك القانون وبعلم رؤسائه في القوات الخاصة الذين أرادوا سحبه، ولكن ذلك لم يحدث، وقد قتل اسكوبار على سطح بناية بواسطة الشرطة الكولومبية، ولكن كما كتب مارك باودن في داخل مجتمع العمليات الخاص اعتبر موت بابلو مهمة ناجحة لفريق دلتا باعتبار أنهم من قام بالمهمة.
- شواهد على حالات القتل:
وفي التاريخ الأمريكي الحديث هناك شواهد كثيرة على مثل هذه الحوادث؛ فخلال الفترة الممتدة من 1980 ـ 1990 شنت الولايات المتحدة العديد من الهجمات على نيكاراجوا وحولتها إلى مقبرة كبيرة، وعندما انتقدت الأمم المتحدة التجاوزات الأمريكية والاستخدام اللاشرعي للقوة وانتهاكها للمعاهدات وعلى إثر ذلك تحالفت الولايات المتحدة مع حزبين من نيكاراجوا، وأعطت أوامرها بقصف ما عرف باسم (الأهداف اللينة) مثل المستوصفات الصحية والتعاونيات الزراعية، وكذلك الحال في السلفادور كما يقول ناعوم تشومسكي؛ فقد مارست الولايات المتحدة الحرب على هذا البلد بعد المساعدات التي قدمتها الكنيسة الكاثوليكية إلى الفقراء.
وفي هاييتي ومنذ انتخاب الرئيس جين أرستيد تحركت الولايات المتحدة للإطاحة به بقطع المساعدات الاقتصادية وبالتمويل الضخم لجماعة المعارضة النخبوية، وبدعم مساعي العسكريين السابقين لقلب حكومة أرستيد، وبمرور الوقت تمت الإطاحة بأرستيد نتيجة انقلاب دموي قادته الولايات المتحدة، ونفذ على أيدي عصابات من القتلة المستأجرين الذين سُرِّحوا من الخدمة عام 1994، وعملوا لاحقاً مع المخابرات الأمريكية وسلحتهم ودربتهم في جمهورية الدونيمكان، ومن ثم أطلقوا عبر الحدود ومارسوا دورهم في القتل، والضابط الذي قام بالانقلاب هو جاي فيليب حيث تلقى تدريبه في الإكوادور خلال التسعينيات، وبعد ذلك قبض المارينز على الرئيس أرستيد بعد حصاره، ثم دخلت الولايات المتحدة الجمهورية بحجة فرض الأمن والديمقراطية.
وتعترف الأدبيات الأمريكية بتدريب الجنود الكولومبيين الذين نفذوا ما عرف باسم مذبحة المناشير السلسلية؛ حيث كان الجيش الكولومبي يدخل منطقةٍ ما بمساعدة القوات الأمريكية ويقوم الكولومبيون بالباقي، أما جزاء الضابط الذي كان يقدم التسهيلات للقتلة الكولومبيين فقد كان الإعفاء من المنصب فقط، كما نصبت الولايات المتحدة على الهندوراس الجنرال (غستافو الفاريز مارتنيز) الذي ساهم بقتل واختفاء عشرة آلاف شخص في الأرجنتين ومن ثم كُرِّم بتقليده وسام الاستحقاق لدوره في إشاعة الديمقراطية في الهندوراس.
- القاموس الأمريكي في التعذيب:
ومهما تنوعت وتعددت الوثائق التي تقر بالتجاوزات الأمريكية فإن ما أفرج عنه من كتيبات أساسية للمحققين تعطي خير برهان عن وجود نشاط للقوى الخاصة وممارساتها، ومن هذه الشواهد تأسيس المدرسة العسكرية عام 1946 في باناما، وكان الهدف من هذه المدرسة تدريب رجال الشرطة والضباط في بلدان أمريكا اللاتينية ضدّ الأنظمة الشيوعية وحركات التحرير، وكانت هذه المدرسة أوّل من أصدر كتباً منسّقة توصي باستخدام التعذيب والإعدامات بدون محاكمة، واستخدام كل أساليب العنف بغية الحصول على المعلومات من المعارضين وأعضاء الميليشيا السياسية أو العاملين في صفوف حركات التحرير.
ثمّ انتقلت هذه المدرسة عام 1984 إلى نورث بينييج؛ حيث كانت هذه المدرسة قد بلغت ذروتها في تعليم التعذيب في الستينيات من القرن الماضي؛ حيث كانت أمريكا تدرّب الضباط ضدّ الشيوعيين في أمريكا اللاتينية، وقامت هذه المدرسة منذ تأسيسها بتدريب 60 ألف عضو من 12 بلداً، وقد أصبح عدد منهم فيما بعد رؤساء دول بعد أن أصبحوا جلاّدين مشهورين.
وفي عام 1963م تمّ طباعة أبرز كتب التعذيب تحت اسم KUBARK لتعليم فنون التعذيب، ويبدأ الكتاب بجملة «حتى تكون محقّقاً جيداً!!» ويشرح الأساليب والطرق التي يجب اتباعها لانتزاع المعلومات من الأسير. والكتاب مزوّد برسوم وتفاصيل الانتقال من مرحلة إلى أخرى ومن أسلوب إلى آخر والظروف المناسبة لأداء ذلك والتأثير الذي يتركه هذا على الأسير أو المعتقل. ويؤكّد واضعو هذا المنهج أنّ أفضل وسيلة هي التي تجعل المعتقل يعذّب نفسه وأن يُعذَّب المعتقلون بمعتقلين آخرين، وقد تمّ تدريس هذا المنهج لرجال الاستخبارات والضبّاط في السجون وضبّاط مكافحة التمرّد والثورات.
وفي عام 1983م طوّرت الاستخبارات الأمريكية منهاج التدريس في التعذيب نحو الأسوأ وأصدرت كتاباً آخر تحت اسم «التدريب لاستغلال القدرات البشرية» وكان هذا أسوأ نتاج في التعذيب، ويعتقد أنّ المنهج الذي طبِّق في سجن «أبو غريب» هو نفسه المذكور في ذلك الكتاب. وقد تمّ ترجمة العديد من هذه الكتب إلى اللغات المتعددة، وسرعان ما انكشف أمرها وأدّى إلى استياء لدى شعوب أمريكا اللاتينية خاصّة أنّه كان يتم تعذيبهم عبر المناهج الواردة فيها؛ ممّا دفع الحكومة الأمريكية خلال عهد بوش الأب إلى سحب جميع النسخ الموجودة والتي تباع بعد أن كان رونالد ريجان فعّلها لاستخدامها في مآرب خاصّة في الحرب الباردة، ولا نستبعد أنّ بوش الابن يستعين فيها الآن في حربه على الإرهاب.
- حقوق الإنسان الغائبة:
وفي تقرير جديد شامل صدر عن المنظمة الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان هيومن رايتس ووتش ويقع في 500 صفحة، تناول وضع حقوق الإنسان في 68 بلداً؛ إلا أن المهم في هذا التقرير هو ما جاء في مقدمة التقرير وهو «النفاق» في الخطاب الأمريكي؛ إذ تعتبر المنظمة التي تتخذ من نيويورك مقراً لها أن رسالة واشنطن للعالم هي: «طبِّقوا ما أدعو إليه، وليس ما أقوم به» . وأكدت المنظمة في تقريرها أن «لجوء الحكومة الأميركية إلى التعذيب ودفاعها» عنه كانا من العوامل الأساسية التي جعلت هذا البلد يفقد مصداقيته على صعيد حقوق الإنسان» . كما أن التقرير أكد على أن سوء معاملة معتقلين بأيدي أمريكيين لم يكن من فعل بعض العناصر السيئة في القيادات الدنيا كما روجت الآلة الإعلامية الأمريكية، بل هو قرار تم بموافقة كبار القادة العسكريين والأمنيين.
أما الدليل على ما سبق وإن رفضت الولايات المتحدة ما جاء في التقرير فهو يتمثل في رفض الرئيس الأمريكي جورج بوش توقيع قانون ضد المعاملة غير الإنسانية والمهينة تجاه المعتقلين، وكذلك ضغوط نائب الرئيس ديك تشيني لاستثناء وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) من تطبيق مثل هذا القانون؛ وهذا بلا شك دليل فاضح على أن المسألة عكس ذلك تماماً، وأشار التقرير إلى ملف «اختفاء» معتقلين يشتبه بضلوعهم بالإرهاب، يعتقد أن الولايات المتحدة سلمتهم إلى دول أخرى مما يؤكد احتمال وجود سجون أمريكية سرية في بولندا ورومانيا وغيرها من الدول.
وأخيراً: إن كانت الولايات المتحدة قد وضعت الكتيبات المساعدة على التعذيب، وتقوم وتشرف على القتل والاختفاء القسري، وفي كل يوم تقوم بتطويرها فلا يفوتنا التذكير بأن حجم المساعدات يزداد إلى بلدٍ ما بمقدار ما يمارسه من قمع للحريات (دول أمريكا الجنوبية نموذجاً) وما يؤكد هذا دراسة (لارسن شولتز) من جامعة شمال كارولينا حول مساعدات الولايات المتحدة إلى دول أمريكا اللاتينية؛ فقد كتب مقالة عن وجود علاقة وثيقة جداً بين المساعدات الأمريكية والإساءة إلى حقوق الإنسان؛ حيث تتدفق المساعدات بصورة غير متكافئة على حكومات أمريكا اللاتينية التي تعذب مواطنيها، كما أجرى (إدوارد هيرمان) دراسة أثبت من خلالها وجود علاقة كبيرة بين المساعدات الأمريكية والتعذيب.(223/20)
على هامش ملتقى (مثقفي وناشطي السنة في العراق)
ربيع الحافظ
يمكن القول: إن سقوط العراق كان الزلزال العنيف الذي اختصر الزمن والجهد، وأعاد الفرز الفكري والثقافي للشعب العراقي، وأعاد رسم الخريطة الفكرية على نطاق ونحو غير مسبوق أو معهود، وأصبحت العلامات الفارقة للاصطفاف الفكري الجديد هي: طبيعة العلاقة بالإسلام وبالعروبة في آن واحد، والموقف من الاحتلال والشعوبية المصاحبة له التي تغذيها إيران، ثم المحور الصهيو ـ صَفَوِي المتنامي في العراق والمنطقة بشكل عام.
وبناءً على الخريطة الجديدة عقد «ملتقى مثقفي وناشطي السُّنَّة في العراق» (1) ؛ فقد وجد طيف واسع من المثقفين وأصحاب التخصصات العلمية (التكنوقراط) من السُّنَّة العرب بشكل عام، يشاركهم عدد من الأكراد والتركمان ـ وجدوا أنفسهم ضمن كتلة سياسية ومساحة مشتركة وغايات واضحة، تمثل ثوابتُ الدين والقيمُ العربية وتاريخُ الحضارة العربية الإسلامية قاسمَها الأعظم، ويحركها في هذا الظرف أمران رئيسيان: الاحتلال الأجنبي والحرب الشعوبية على الإسلام والعروبة، وصمت الإعلام عن الوجه الحقيقي لما يجري على أرض العراق.
يهيمن على هذا الطيف شعور بثقل مسؤولية تاريخية، لا تزال تبحث عمن يتحدث باسمها بشكل صريح، ويصوغ شعاراتها بمفردات يفهمها الجميع، ويضعها في إطارها الفكري الصحيح، وأن هذه المسؤولية لا تنتهي عند حدود العراق.
خوطب الحضور في كلمة الافتتاح بالقول: «لقد جئتم إلى هذا المكان من بقاع شتى، وفي زمن سئم فيه الناس الشعارات، وفي سوق سياسةٍ لا تشكو شح اللافتات، بل تشكو تخمتها، ونظام عولمي استئصالي يحارب الإرادات الحرة، ويحصي على حَمَلَتها أنفاسهم، في وقت تسُدُّ فيه وعود السياسيين الآفاق، ثم لا تلبث هذه الوعود أن تتكسر على شطآن السمسرة السياسية، مشيعة روح الإحباط» .. «لكنكم مع ذلك كله أتيتم، واقتطعتم من أوقاتكم الضيقة زمناً ثميناً، ومن تدابير العيش المحدودة مالاً عزيزاً ... «أقول أتيتم ولا أقول لبيتم؛ لأن حضوركم هذا ليس شأن الملبي، بل شأن حامل المشعل» .
كان من بين اللافتات التي رُفعت في أروقة الملتقى ورسمت المعالم العامة للمسؤولية المتروكة:
«عامان ونيِّف وخريطة العراق العربي المسلم تكتسي بألوان التشيُّع الصَّفَوي المغلِّف للشعوبية الفارسية، وتتفكك بُناه الثقافية، ويُحرََق تراثه، وتُصَفَّى رموزه العلمية والسياسية وواجهاته الاجتماعية» .
«عامان ونيف والإعلام العربي يلتزم الصمت، وإن تحدث فبلغة ما قبل التاريخ الذي ابتدأ في 9 نيسان 2003، وبمفردات فاقدة الصلاحية، وعاجزة عن صياغة جمل سياسية مفيدة» .
«لقد احتجبت في هذا الصمت هوية المنتصر الحقيق والخاسر الحقيقي في أخطر حدث تتعرض له الأمة منذ سقوط الخلافة وضياع فلسطين، واحتجبت مع هذا الصمت طبيعة الانتصار والخسارة وحجمهما وتداعياتهما، ومدلولاتهما السياسية التاريخية» .
«إعلامٌ لم ـ ولا ـ يريد أن يدرك، أن قاموساً سياسياً قد ولد في 9 نيسان 2003، وتبدلت إثره لغة التداول السياسي، وغدت مفردات ما قبل 9 نيسان في عداد اللغات القديمة غير الحية» .
والمحصلة هي:
أجواء من التسمم السياسي، وإنسان عربي يراد له الاستمرار بالعيش الطبيعي، والتنفس بجهاز تنفسه العادي الذي يعمل بالأوكسجين، ولكن في محيط غازات سامة، ومن دون كمامات تقيه آثار السموم.
الإنسان العربي المسلم السني يقف أمام خيارات محدودة:
ـ الموت اختناقاً.
ـ تحوير جهاز التنفس ليغدو مخلوقاً آخر يستمد الحياة لا من الهواء النقي، وإنما من السموم.
ـ تخليص محيطه من السموم والإبقاء على هيئته الطبيعية.
الحقيقة الأخرى، هي أن أعراض استنشاق السموم آخذة في الظهور على المناعة الثقافية لهذه المجتمعات، ولو أن عقارب الساعة أعيدت إلى ما قبل 9 نيسان 2003 ـ وهو محال ـ فإن الجبهة الصَّفَوِيَّة الشعوبية تكون قد حققت اختراقات عميقة، ووثبات ثقافية واجتماعية عريضة في مجتمعات المشرق العربي والخليج على وجه الخصوص، ونجحت هذه الجبهة في الانتقال من «البر» السياسي والنبذ الاجتماعي إلى قلب الطيف السياسي والاجتماعي، بل والديني كذلك، وتماهت رؤاها السياسية واجتهاداتها الفقهية في مفاهيم الخط العام لهذه المجتمعات.
وأن هذه الجبهة قد قطعت أشواطاً مهمة على طريق التأهيل والتكامل في هذه المجتمعات، وهي اليوم رقم مهم داخلٌ فيما يسمى بعملية الإصلاح السياسي والاجتماعي المنكبّة عليها الأنظمة السياسية في هذه المجتمعات بالتنسيق مع قوة الاحتلال ومراعاة حساسيات الجارة القوية إيران، وهو الأمر الذي يمثل برمته زخماً كبيراً في الاندفاعة القادمة لهذه الجبهة.
أمام هذه الحقائق، وهذا الواقع السياسي والثقافي المتردي، وعطب المؤسسة السياسية، وإخفاق أهل الشأن بالقيام بمسؤولياتهم، تتراكم ملفات الاحتلال «العسكري الأمريكي ـ الثقافي الصفوي» للعراق دونما علاج، إلا من خلال كلمات مخنوقة تَرْشَح بين الفينة والأخرى بإعداد وتنسيق ضعيفين في مكالمات هاتفية يجريها مع الفضائيات أناس عاديون تدفعهم الغيرة وخلوُّ الميدان، ليواجَهوا على الفور بآلة إعلامية، وأكثر من عشرة فضائيات، وشبكة من المتداخلين المتفرغين تديرها الأحزاب الصفوية الدينية واللبرالية على حد سواء، وتمولها إيران.
مع دخول العام الرابع من الاحتلال تزداد القناعة رسوخاً في أوساط منظمي اللقاء والمشاركين فيه على حد سواء، بأنه لو استُبعدت لغة المجاملات والدبلوماسية، فإن هذه الرؤية هي السقيفة التي تُظِلُّ المثقف والعادي، العسكري والمدني، الكبير والصغير، الرجل والمرأة، وهي واقع يبحث عن عنوان، وليست عنواناً يبحث عن واقع، وهي ما يفسر ظاهرة البطالة السياسية المتفاقمة في أوساط السُّنَّة، المتمثلة في العزوف عن اللافتات السياسية المرفوعة، وغياب المشاريع الواضحة.
لا ينظر هذا التكتل إلى نفسه بديلاً لمنظمات أو حركات أو هيئات سياسية تتبنى قضايا أهل السنة في العراق، وإنما يعتبر نفسه الظهير الفكري الذي تحتاجه هذه الجهات بشكل ملموس واضح. ويُولِي التكتل أهمية أساسية إلى البعد السياسي للمقاومة العراقية وإطارها الفكري الذي لم يأخذ حجمه الطبيعي، والذي هو كفيل بحفظ مكانتها الطبيعية في دواوين التاريخ.
من هذا المنطلَق قرر جمعٌ من العراقيين في بريطانيا وغرب أوروبا عقد ملتقى ثقافي يسلِّط الأضواء على المساحات المظلَّلة من الساحة السياسية والثقافية. وقد لبى الدعوة شريحة عريضة من المجتمع العراقي في بريطانيا وغرب أوروبا، تراوح بين الأستاذ الجامعي، والديبلوماسي، والطبيب، والمهندس، والطالب، والتاجر، وتجاوزت أعداد الحاضرين العدد المتوقع.
اشتمل برنامج الملتقى على فقرات تناولت الوضع السياسي الجديد الذي يمر فيه أهل السنة في العراق والمنطقة بشكل عام، وطبيعة التحديات أمام المد الطائفي والثقافي الشعوبي والاجتماعي الصفوي، كما سلط البرنامج الضوء على مفاهيم للمصطلح السياسي لـ (السُّنَّة) والظروف السياسية والتاريخية التي ولدت فيها هذه اللافتة. ثم كانت هناك جولة على أهم المحطات السياسية والمنعرجات التي مرت بها هذه المدرسة السياسية على مدى أربعة عشر قرناً من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
وقد تقرر أن تُعقد هذه التظاهرة الثقافية بشكل دوري، إما فصلياً أو نصف سنوي، وأن توضع المادة الثقافية بالصوت والصورة والنص على موقع على شبكة الإنترنت، ويتم التواصل والتعارف مع الملايين في أنحاء المعمورة الذين لم ولن يتسنى لهم حضور الحدث، وصولاً إلى لملمة ما يسمى بقطاع التكنوقراط والناشطين الذين شتتهم الاحتلال وإرهاب نظام دولة الطوائف.
__________
(*) كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.
(1) عقد هذا الملتقى في لندن في شهر ديسمبر 2005.(223/21)
الإجرام العالمي.. وفشل العقوبات الوضعية
د. أكرم عبد الرزاق المشهداني
الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة ومستمرة لازمت الإنسان منذ بدء الخليقة، وما زالت تلازمه بأشكال وصور شتى. وستبقى ما دام في النفس البشرية طمع وميل وهوى وقدر من الفجور، وما دام هناك شيطان يوسوس للنفس الأمارة بالسوء ويشجعها أو يغريها على اقتراف الإثم؛ فإن الجريمة تبقى قائمة.
لقد كانت الجريمة، وما زالت، شاغلة الناس والمجتمعات والدول، وواحدة من أبرز مشكلات المجتمع الإنساني المزمنة الملازمة له عبر العصور والتطورات والحقب التاريخية، ولذلك حظيت بمركز متقدم من الاهتمام من قِبَل الشرائع السماوية الغراء ومن الفلاسفة والمفكرين والمصلحين، بحثاً عن سبل العلاج والردع، ورغبة في الأمان والسكينة وإقامة الحق والعدل. لكن قسوة القوانين الوضعية كلها لم تفلح في إزالتها ومحوها من الوجود الاجتماعي. وما زال العالم يشكو من تزايد معدلات الجريمة وتناميها بشكل يشبَّه بالانفجار الإجرامي على غرار الانفجار السكاني.
والدارس المتبحر للتأريخ الإسلامي يدرك جيداً كيف أن الإسلام تمكن من وضع معالجات جذرية شاملة لمشكلة الجريمة في المجتمع؛ بحيث أدت إلى انخفاض واضح وملموس في الجريمة في المجتمعات الإسلامية التي طبقت الشرع الحنيف على مدى التاريخ منذ عهد الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
ويعاني العالم اليوم من حالة تضخم إجرامي وانفلات أمني وسط دلائل مؤكدة على فشل ذريع للنظم الوضعية في معالجة حالة الجريمة. ويعترف الأمين العام للأمم المتحدة (كوفي عنان) في تقريره الموسوم بـ (أحوال الجريمة والعدالة الجنائية على نطاق العالم) الذي ألقاه في مؤتمر الأمم المتحدة العاشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في فيينا من (10 - 17) نيسان (أبريل) 2000 م بأن (العولمة قد أدت إلى إيجاد بيئة مؤاتية لأشكال جديدة ومتوسعة من الإجرام، بفعل الهيكل المتغير في التجارة والتمويل والاتصالات والمعلومات، الذي أدى إلى تكوين بيئة لا تنحصر فيها الجريمة ضمن الحدود الوطنية، بل أصبحت عالمية الطبع) . وأشار الأمين العام في هذا الخصوص إلى تنامي نشاط العصابات الدولية المنظمة ذات الفعاليات العابرة للحدود مثل تجارة المخدرات وغسيل الأموال وجرائم إساءة استخدام الحواسيب وشبكة الإنترنيت وجرائم الاتجار بالبشر، والفساد، وشبكات الدعارة، وغيرها.
وأضاف الأمين العام في تقريره أيضاً: (لقد قامت التنظيمات الإجرامية بتعديل هياكلها إلى ما يشبه الشركات لممارسة مختلف الأنشطة الإجرامية، مستخدمة أشخاصاً ذوي مهارات عالية وآليات متطورة لمساعدتها في جني الأرباح وإخفائها) .
إن مؤتمر الأمم المتحدة الحادي عشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين في أبريل 2005م انعقد في وقت يشهد العالم فيه تنامياً وارتفاعاً مضطرداً في معدلات الجريمة، وقد أظهر استقصاء الأمم المتحدة السادس عن اتجاهات الجريمة وعمليات نظم العدالة الجنائية واستراتيجيات منع الجريمة والتي غطت المدة من (1995 - 2000) ارتفاع معدلات الجريمة بأنواعها كافة على المستوى الدولي، خصوصاً جرائم الاعتداء على الإنسان والعنف والمخدرات، وإن هذه الزيادة في استمرار، وبلغت الزيادة نسبة (11%) عما كانت عليه من (1980 - 1985) . وفي تصريح لرئيس الندوة الدولية لمكافحة الجريمة والإرهاب الجنرال (أناتولي كوليكوف) «أن هناك حوالي (400) ألف جريمة تُرتكب يومياً في العالم، وأن الجريمة قد نمت خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة حوالي (8) ثماني مرات في الولايات المتحدة الأمريكية، و (7) سبع مرات في بريطانيا والسويد، و (4) أربع مرات في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، و (مرتين) في اليابان» .
وطبقاً لإحصاءات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية فإن معدل الجرائم لديها كان: وقوع جريمة سرقة عادية كل (3) ثوان، جريمة سطو كل (14) ثانية، سرقة سيارة كل (25) ثانية، سرقة مقترنة بالعنف كل (60) ثانية، جريمة اغتصاب كل (6) ثوان، قتل كل (31) ثانية. وتقدر كلفة الجريمة في أمريكا (105) بلايين دولار تنفق في علاج الضحايا و (350) بليون دولار للتعويضات والتأمين و (120) مليون دولار تصرف على الشرطة و (35) بليون دولار تصرف على السجون، وهناك (14) مليون متعاطٍ للمخدرات.
وتشير إحصائية السجون الأميركية الصادرة عن وزارة العدل الأميركية إلى أنه خلال عام 2003 ازداد عدد النزلاء في سجون أمريكا 20370 نزيلاً عن العام الأسبق. ومع نهاية 31 ديسمبر 2003 قُدِّرت نسبة الزيادة في الطاقة الاستيعابية للسجون الامريكيةالمحلية بـ (+ 16%) عن طاقتها التصميمية الاستيعابية، في حين كانت نسبة الفرق في السجون الفدرالية (+39%) عن طاقتها الاستيعابية. ومع نهاية عام 2003 بلغ عدد النساء المودعات في السجون 101179 نزيلة من مجموع 6 ملايين و900 ألف سجين أمريكي (أي نسبة 6،9% من عموم النزلاء) . بمعنى أن وجود حوالي 7 ملايين نزيل أمريكي سجين داخل الولايات المتحدة عام 2003 يدل على أن من بين كل (32) مواطناً أمريكياً بالغاً هناك سجين واحد.
[D]
Source: Correctional Populations in the United States, 1997 and Prisoners in 2003
رسم بياني صادر عن وزارة العدل الأميركية يوضح الزيادة الحادة في أعداد نزلاء السجون الأميركية بين عامي 1980 و 2003
إن الرسم البياني (الصادر عن وزارة العدل الأميركية) يوضح الزيادة الحادة في عدد السجناء في الولايات المتحدة منذ عام 1980م، ويظهر الجدول أن هناك زيادة حادة بين عامي 1980 و 2000، ثم بدأت الزيادة تأخذ منحى معتدلاً إلى 2003 لكن على العموم فإن الارتفاع مخيف في أعداد السجناء في الولايات المتحدة إذا ما علمنا أن هذه الزيادة في أعداد المحبوسين تقابلها زيادة مضطردة في أعداد الجرائم عاماً بعد آخر في مختلف الولايات الأمريكية.
أما الرسم البياني أعلاه فيوضح أعداد الأميركان المنفذ فيهم حكم الإعدام في بلادهم ما بين عامي 1930 و 1999 من البيض والسود (هكذا هي إحصائياتهم الرسمية تقوم على اللون) ورغم أن عدداً كبيراً من الولايات الأمريكية قد ألغت عقوبة الإعدام خلال الفترة المشار إليها.. إلا أن أحكام الإعدام ما زالت ترتفع عاماً بعد عام.. ولم تؤدِ غرضها في انحسار الجرائم بل على العكس ازدادت.
إن السجون في العالم تعاني من اختناقات وحالة اكتظاظ شديدة، وزيادة عدد المودَعين في السجون عن طاقتها التصميمية أو الاستيعابية؛ ففي بريطانيا أصدرت منظمة تدعى NCAD المهتمة بأوضاع السجون في العالم تقريراً على شبكة الإنترنيت:www.ncadc.org.uk)) عن حالة الاكتظاظ التي تعانيها السجون في مختلف أنحاء العالم بنسبة تفوق (30%) عن طاقتها الاستيعابية، وعن تزايد حالات الانتحار بين السجناء، وفشل السجون في تحقيق الأهداف المتوخاة منها، وكيف أنها تحولت إلى مدارس لتفريخ المجرمين.
وقد بدأت السلطات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تبحث عن بدائل لعقوبة السجن التي أثبتت فشلها في سياسة الإصلاح الجنائي، ومنها التعهد بالسلامة والتشغيل الإجباري والإيداع في مصحات اجتماعية والحجز في المسكن.... وغيرها من الوسائل التى لم تنفع في تخليص المجتمعات من الجريمة.
- أبرز النتائج:
من كل ما عرضناه آنفاً نخلص للنتائج الآتية:
1 ـ العالم كله يعاني من تضخم إجرامي، أو انفجار إجرامي، وتصاعد في معدلات الجريمة، وفقاً لإحصاءات وتقارير الأمم المتحدة والأنتربول (الشرطة الجنائية الدولية) وتقارير أجهزة الشرطة ووزارات العدل في مختلف بلدان العالم وبالأخص الدول المتقدمة كالولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وروسيا، إضافة إلى أعداد المتورطين في الجرائم وتزايد في ضحاياها، وتضخم في حجم الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها الدول من جراء الجريمة؛ فمثلاً إن جرائم غسل الأموال المتحصلة من الجريمة (المخدرات والجريمة المنظمة) تكلف المجتمع الدولي سنوياً 1500 مليار دولار سنوياً.
2 ـ برغم الجهود المبذولة تقنياً وبشرياً وتشريعياً للحد الجرائم، ما زالت نسب الجريمة من كل الأنواع وبخاصة جرائم العنف والمخدرات والجريمة المنظمة في تصاعد وازدياد في البلدان المتقدمة، وما زالت الجريمة تتصدر أجندات المؤتمرات الدولية ولقاءات قمم القادة، وما زالت الجريمة تقض مضاجع المجتمعات الغربية.
3 ـ أثبتت كل الإجراءات والجهود المتصلة بتسخير التكنولوجيا في الحد من نسب الجريمة، فشلها؛ حيث إن المجرمين قد سخَّروا التقنية في تنفيذ مآربهم الشريرة؛ فالإنترنيت (على سبيل المثال) صار أحد وسائل المجرمين في ترويج جرائمهم وإخفاء متحصلاتها وتبادل المعلومات التي تسهل تعبير الجريمة وامتداد آثارها لتتجاوز الحدود.
4 ـ أثبتت العقوبات الوضعية رغم شدتها أنها لا توفر للدول والمجتمعات العلاج الشافي المطلوب لمرض الجريمة، ما لم تقترن بمنظومة متكاملة للإصلاح الاجتماعي تسهم فيها كل قطاعات المجتمع؛ فالسجون أصبحت عبئاً ووبالاً على الدول والمجتمعات وتحولت إلى مدارس ومعاهد لتخريج المجرمين، فضلاً عما تعانيه المؤسسات العقابية من حالة اكتظاظ وازدحام فوق طاقاتها الاستيعابية التصميمية مما اضطر دولاً عديدة إلى اللجوء لأساليب جديدة بدلاً من السجن؛ وبخاصة لأصحاب المدد القصيرة (مثل الاحتجاز الآلي في المنازل ومنع المغادرة، ومراقبة المحتجز بوسائل تقنية متطورة ومكلفة) .
5 ـ كما أن عقوبة الإعدام، رغم توجه بلدان كثيرة في العالم نحو إلغائها والاستعاضة عنها بالسجن المؤبد، لم تؤد غرضها المطلوب في خفض معدلات الجريمة أو ردع المجرمين عن ارتكاب جرائمهم؛ فبالرغم من ازدياد أعداد المحكومين بالإعدام في الولايات المتحدة مثلاً، فإن الجريمة لديها ما زالت في ازدياد.
6 ـ يشكل الفساد الإداري وبخاصة المتصل بالأجهزة المعنية بمكافحة الجريمة وملاحقتها (أو ما تسمى بأجهزة العدالة الجنائية) واحداً من أبرز معرقلات الحد من الإجرام في الكثير من بلدان العالم اليوم.
7 ـ أثبتت الوقائع أن زيادة أعداد القوات المكلفة بالتعامل مع الجريمة منعاً ووقاية وتحقيقاً وإدارة سجون لا تؤدي الغرض المطلوب؛ فضلاً عن أنها تشكل عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على المجتمعات والدول؛ فكثير من دول العالم المتقدم صارت نسبة الشرطة فيها إلى السكان تتراوح بين (500 إلى 1000 عنصر أمن) لكل 100000 نسمة من السكان، لكن كل هذه الأجهزة المترهلة عددياً والمكلفة اقتصادياً لم تؤد غرضها في معالجة وباء الجريمة، وبقي خطر الجريمة في تصاعد وازدياد.
- الخاتمة: أين العلاج؟
إن العالم كله يعاني من تضخم في الجريمة وتصاعد في معدلاتها وازدياد أعداد المتورطين فيها وضحاياها، وتنامي حجم الخسائر البشرية والاقتصادية من جرائها، وقد أثبتت القوانين الوضعية بالرغم من كل قسوتها وشدتها أنها غير فعالة أو رادعة ... ولا تحقق الوقاية المطلوبة ولا الخفض المنشود في معدلات الإجرام، ولا بد للمجتمع الدولي وللأمم المتحدة التي تعقد مؤتمراً عالمياً كل خمس سنوات لبحث أمور الجريمة وتنسيق الجهد الدولي في مكافحتها وملاحقتها، أن يعرفوا أن التصدي للجريمة لا يتم من خلال تشديد العقوبة وملء السجون، فحسب، بل لا بد من الاستفادة من المنهج الإسلامي الرباني الرشيد في معالجة آفة الجريمة في المجتمع وكيف صنع الإسلام من المجتمع الإسلامي مجتمعاً نقياً خالياً من الانحراف والجريمة إلى أدنى الحدود والمستويات، وبات المواطن في المجتمع الإسلامي يأمن على نفسه وعرضه وماله من الاعتداء.
__________
(*) دكتوراه في اجتماع الجريمة من جامعة بغداد، ماجستير في السياسات الاجتماعية (منع الجريمة) من جامعة كرانفيلد المملكة المتحدة، ليسانس حقوق وأدب إنكليزي من الجامعة المستنصرية، ليسانس إعلام (صحافة) من جامعة بغداد.(223/22)
رؤية في حاضر ومستقبل حزب الله اللبناني
علي حسين باكير
يعيش حزب الله الآن مرحلة صعبة جدّا قد تحكم عليه بأن يصبح مجرّد حزب سياسي لبناني شأنه شأن باقي الاحزاب على الأرض اللبنانيةّ، وهو ما سيجرّده من ذراعه العسكري الذي أكسبه شهرة تعدّت حدوده وقدراته وأدخلته في معادلات إقليمية ودولية كبيرة بالمنطقة.
هذا وقد لاحظنا من خلال قراءاتنا سواء ما كان منها لمواقف الكتّاب أو الناس العاديين في الوطن العربي وخارج لبنان، أنّ هناك صورة مختصرة ونمطيّة عن حزب الله تسوقها العاطفة، وتغيب عنها الواقعية من خلال اجتزاء الأحداث ورؤيتها من منظور منفصل عن سياقها التاريخي، دون النظر إلى الخلفيات والأبعاد المحيطة بنشأة هذا الحزب وحدود الأدوار المنوطة به، وهو ما يجافي ويغالط طبيعة التحليل السياسي المنطقي، وربما يعود جزء من ذلك أيضاً إلى تعقيد المشهد الداخلي اللبناني الذي يصعب فهمه بشكل واضح على العديد من الناس أو المراقبين من الخارج.
ومن هذا المنطلق نسعى لإعطاء فكرة دقيقة وواضحة عن (حزب الله) من المنظور الداخلي اللبناني وربطها بالجانب الإقليمي والدولي كي تتضح صورته بشكل جلي أمام المتابعين والمهتمّين بشأن الحزب حاضره ومستقبله (1) في ظل التحولات الإقليمية والدولية الراهنة والتي تنعكس بقوة على الساحة اللبنانية.
- مسائل في نشأة حزب الله:
1 ـ لا علاقة للحزب بالمارينز:
من المغالطات الشائعة أنّ حزب الله كان مسؤولاً عن عملية التفجير التي ضربت مقر قوات المارينز الأمريكيين والفرنسيين والتي أدّت إلى انسحاب القوات الأمريكية من لبنان، وقد اكّد الأمين العام الأوّل لحزب الله الشيخ صبحي الطفيلي مرّات عديدة أنّهم لم يقوموا بهذه العملية، وأنّ إحدى الجهات سبقتهم إلى هذا الشرف على حد قوله.
على العموم لقد جاءت ولادة الحزب في ظروف حروب خارجية وداخلية عنيفة شهدها لبنان.
2 ـ صلة الحزب بإيران:
لقد كان لإيران الدور الأبرز في ولادة الحزب إثر انتهاء دور حركة أمل الشيعية، وبعد أن تورّطت في مجازر كبيرة في حق الفلسطينيين في لبنان والذين كان بعضهم يعتبرهم جيش السنّة في لبنان، ولم تعد حركة أمل بشقّها العسكري قادرة على ترويج الخط الإيراني، فكان لا بد من إنشاء حزب آخر ينقل إيران إلى المنطقة ويربطها بالقضية الفلسطينية، ويسمح لها بموطئ قدم، ويجعلها على صلة مباشرة بالأحداث، فكان إنشاء (حزب الله) . فلقد عملت إيران على الاهتمام بالحزب اهتماماً كبيراً، فقامت بتلميع سيرته والحرص على مثاليتها للاستفادة منها فيما بعد، وتكفّلت إيران بالدعم المالي للحزب والذي كان العامل الأوّل في اجتذاب المقاتلين إلى صفوفه، وجاء في كتاب (الحروب السرية) : «بلغت الأجرة الشهرية للمقاتل خمسة آلاف ليرة لبنانية، وهي أعلى أجرة تقاضاها مقاتل في لبنان عام 1986 (2) ، لدرجة أن مقاتلي أمل راحوا بهدف الكسب يهجرون صفوف الحركة للانخراط في حزب الله» .
3 ـ جهود الحزب لجذب الناس إليه:
بدأت تظهر تباعاً المؤسسات الصحية والاجتماعية والتربوية؛ فمؤسسة «جهاد البناء» تضم مهندسين وفنيين وعمالاً، مهمتها منذ 1988 مسح الأضرار الناجمة عن الاعتداءات الصهيونية، وترميم وإعادة بناء ما تهدم من منازل، إلى حفر الآبار وبناء الملاجئ والمساهمة في بناء المستوصفات والمدارس، وإعداد الدورات التدريبية الزراعية ... إلخ.
وتعمل «جمعية الإمداد الخيرية الإسلامية» التي تأسست في 1987 من أجل «الوصول إلى اكتفاء العوائل ذاتياً، ورفع مستواها التربوي والعلمي ورعاية العجزة وكفالة الأيتام» . وتهدف «مؤسسة الشهيد» إلى الاهتمام التربوي والتعليمي والاجتماعي بأسر الشهداء من خلال متابعة أوضاعهم وهم في داخل أسرهم عبر العلاقة المتواصلة مع المؤسسة والعاملين فيها. أما المؤسسة «الإسلامية للتربية والتعليم» فحديثة العهد نسبياً؛ إذ يعود تأسيسها إلى عام 1993، وقد عملت أيضاً على تأسيس المدارس في معظم المناطق اللبنانية لرعاية أبناء الشهداء وتعليمهم، وإعدادهم إعداداً عقائدياً إسلامياً (شيعياً) .
كما شجعت المقاومة ودعمت هيئات أهلية مؤيدة لها كـ «هيئة دعم المقاومة الإسلامية» التي قامت بحملات لجمع التبرعات، والتبرع بالدم، وعقد الندوات، وإقامة المعارض في المناطق المختلفة في لبنان للتعريف بأهداف المقاومة، وجمع التبرعات لها، وتبليغ رسالتها وحشد التأييد لها، وخصوصاً في أوقات العدوان، أو في أثناء العمليات النوعية الكبيرة التي تقوم بها ضد قوات الاحتلال.
هكذا بات الحزب جزءاً من المعادلة الاجتماعية - السياسية في لبنان، وتجنب بذلك أن يبقى حالة عسكرية خاصة أو معزولة. وقد ساعد هذا الخيار الاجتماعي السياسي لحزب الله على بلورة سياسات «التكيف» التي اعتمدها في مواجهة التحولات السياسية الداخلية من دون أن تبدل أولويات الحزب في المواجهة الدائمة لجيش الاحتلال.
4 ـ المنافع المتبادلة بين الحزب وإيران:
تكمن المنفعة بين الطرفين في النقاط التالية:
أولاً: يقوم الحزب بتصدير مفاهيم الثورة الإيرانية بكافّة مضامينها الدينية والاجتماعية إلى البيئة اللبنانيّة، وتلتزم إيران مقابل ذلك بجميع الأعباء المالية والمترتبات التي يتطلبها هذا العمل.
ثانياً: تقوم إيران بتأمين السلاح والعتاد الكامل لحزب الله لتحرير جنوبه (ليس مقاتلة المحتل) وذلك ضمن معادلة داخلية محدودة لا يمكن تجاوزها إلاّ بالخطابات والاستعراضات والكلام، والهدف من ذلك أن يلقى حزب الله شهرة كبيرة في العالم الإسلامي تمهّد الطريق له لتصدير مفاهيم الثورة الإيرانية.
ثالثاً: يؤمّن وجود حزب الله بذاته وكونه تابعاً لإيران موطئ قدم للسياسة الإيرانية التي تسعى إلى استغلال مسألة معاداتها للصهاينة إلى أبعد حدود على الرغم من بعدها الجغرافي، ويعتبر الحزب صلة الوصل في الموضوع، ويشكل ورقة عالية للمساومة على أي وضع من الأوضاع المصيرية.
بالإضافة إلى أدوار أخرى متحركة تفرضها كل مرحلة من المراحل سنتحدث عنها لاحقاً.
- علاقة حزب الله بسورية:
أمّا عن علاقة الحزب بسورية، فهي علاقة قويّة جداًً ما كان الحزب ليستطيع أن يقف على قدميه على كافة الصعد المادية والعسكرية والسياسية وأن يستفيد من المساعدات التي تعطيه إيّاها إيران لو كانت سورية معارضة للخط الإيراني.
واعتبر هذا الدور امتداداً للتحالف السوري الإيراني؛ حيث رأت سورية في إيران حليفاً استراتيجياً وخاصّة إثر العداء المستحكم بين البعث السوري والبعث العراقي، ومن الطرائف في هذا الموضوع أنّ الخميني وأنصاره من حزب الله كانوا يعتبرون البعث العراقي كافراً في حين أنّ البعث السوري كان من أقوى حلفائهم، وحرصت على الاهتمام بالحزب بسبب المعرفة المسبقة أيضاً للنظام السوري بمدى التغلغل الإيراني في لبنان الذي شكل عمقاً استراتيجياً لسورية، ومن ثم كان الحرص السوري على مد الجسور مع شيعة لبنان وحصوله على فتوى من موسى الصدر بانتماء «الطائفة العلوية النصيرية» للمذهب الإمامي الجعفري، وهو ما يعني قدراً من الشراكة المذهبية مع إيران من ناحية ومع شيعة لبنان من الطرف الآخر. وقد قامت سورية بعد ذلك بداية بمحاربة المجاميع المسلحة الفلسطينية عند دخولها إلى لبنان ونزع سلاحها، ثم قامت بضرب خناق على جميع الاحزاب السنّية التي تمتلك السلاح، واغتالت العديد من العلماء من بينهم المفتي (حسن خالد) كما يقول العديد من المراقبين، وقد أحدث ذلك صدمة كبيرة لدى الجماعات السنّية دفعتهم للانكفاء في ظل افتقارهم إلى أي دعم من أي جهة مع المحاولات المتعددة لعزلهم عن فلسطين وعن دعم المقاومة الفلسطينية.
على العموم كانت سورية تريد ورقة في مواجهة العدو الصهيوني بطريقة غير مباشرة تجنّبها خوض حرب خاسرة معه، وتمكّنها من التفاوض بشروط أفضل، ولكن الأهم من هذا وذاك أن تكون هذه الورقة شيعية؛ لأنّ الورقة الشيعيّة يمكن التحكّم بها من خلال مرجعيتها، ولأنّها لا تتصرّف من تلقاء نفسها؛ وهذا ما لا يتوفّر في أي جماعة سنّية لاختلاف العقائد والأهداف وصلحها مع العدو، ولا تلتزم من ثَم بأي قرار خارجي يملى عليها، وليس هدفها نشر مذهبها أو الترويج له أو لأي دولة بقدر ما هو مقاتلة العدو وتحرير الأرض. وهكذا وجدت سورية ضالّتها في حزب الله.
- حاضر حزب الله:
بعد حوالي خمس سنوات من انسحاب العدو الصهيوني من جنوب لبنان، لا بدّ لنا من قراءة ثانية لما تبدو عليه الأمور والأسلوب الجديد الذي سلكته، وإذ إنّنا لا ننكر دور (حزب الله) في إلحاق الخسائر بالصهاينة إلاّ أنّه لا بدّ لنا من القول إنّ الانسحاب لم يتم بسبب هذه الخسائر، وإلاّ فلو كان الأمر كذلك لانسحب العدو من قطاع غزّة منذ زمن بعيد؛ ذلك أنّ خسائرها البشرية والاقتصاديّة في قطاع غزّة تفوق ما أصاب الصهاينة في جنوب لبنان أضعافاً مضاعفة. لا نريد أن نبخس القوم حقّهم ولكن نتساءل: لو كانت هجمات حزب الله وحدها هي السبب، إذاً لماذا لم ينسحب العدو من مزارع شبعا أيضاً على الرغم من أنّ الحزب يصل إلى هذه المنطقة أيضاً، وأصاب بعض الصهاينة فيها؟! أيّاً كان الأمر؛ فما بعد الانسحاب الصهيوني ليس كما كان قبله.
- حزب الله بعد انسحاب العدو:
لقد كان انسحاب الصهاينة إنجازاً كبيراً، ولكنّه في الوقت نفسه أوجد واقعاً جديداً على أساس أنّ الصهاينة كانوا يحاولون من خلال هذا الانسحاب إعادة رسم معالم اللعبة الجديدة وخطوطها، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد.
كانت اللعبة الجديدة تقتضي تحقيق العديد من الأهداف، ومنها:
أولاً: قيام العدو بسحب ذريعة احتلال الجنوب من تحت بساط حزب الله الذي أزعجها كثيراً كورقة سياسية؛ فالانسحاب يعني أنّه لم يعد هناك من مبرر لوجود الحزب طالما أنّه يقول إنّ دوره ينحصر في تحرير أرضه.
ثانياً: إدخال العمق السوري في المعادلة الجديدة من خلال القول بأنّ أي هجوم من حزب الله من الآن وصاعداً سيقابله رد صهيوني على المواقع السورية إن اقتضى الأمر؛ وهذا ما حصل فعلاً فيما بعد.
ثالثاً: التمهيد للخروج السوري من لبنان على أساس أنّ كلاً من الطرفين كان يتمسك بخروج الآخر كمقدمة لخروجه هو، كما أنّ انسحاب الصهاينة يتيح للقوى الكبرى وخاصّة أمريكا مصداقيّة أكبر عند ضغطها على سورية للخروج من لبنان، وهذا ما حصل بالفعل في عام 2005م.
وفي الحقيقة فقد بدا واضحاً أنّه منذ انسحاب قوات العدو من جنوب لبنان في مايو/أيّار من عام 2000 أنّ إطار اللعبة المصاغة إقليمياً بين سورية وإيران من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى والمسموح لحزب الله التحرك ضمنه قد بدأ يضيق شيئاً فشيئاً ممّا همّش من دور الحزب وفعاليته وصيته الدعائي الذائع الانتشار، واضطّره إلى تقليص عملياته المؤثرة لصالح ما هو أكثر دعاية، فبدأ الحزب بعد انسحاب العدو من الجنوب بالاعتماد على ما يسمّى «الخبطات الإعلاميّة» . ونعطي على كلامنا هذا شاهدين مهمّين:
الأوّل: موضوع تبادل الأسرى مع العدو؛ فمن كان يتابع قضيّة تبادل الأسرى السابقة والتي تصب في الاتجاه المتّبع، رأى عند انتهاء إتمام الصفقة أنّها كانت مجرّد «ضوضاء إعلاميّة» لم يستفد الشعب الفلسطيني منها أي شيء، وكل ما هناك أنّ الحزب أراد تسليط الأضواء عليه من جديد بعد أن فقدها وأصبح نسياً منسياً؛ فقد أصدر نادي الأسير الفلسطيني آنذاك بياناً أوضح فيه أنّ معظم السجناء الفلسطينيين الذين أُطلق سراحهم كانت مدّة أحكامهم ستنقضي في غضون أقل من شهر وأكثرهم عدة أيام، وأن الباقي تم إطلاق سراحه؛ لأن سجون العدو كانت تعاني من ازدحام شديد، وقد أبدى النقّاد انزعاجهم من استغلال الحزب لهذه العمليّة وتصويرها على أنها انتصار لحسابه، وقد تمّ الكشف فيما بعد أنّ عدداً من الجثث التي استلمها الحزب على أساس أنّها رفاة لشهداء لبنانيين كانت في حقيقة الأمر رفاة شهداء فلسطينيين، وعندها بدت الدولة الصهيونية هي المنتصرة في هذه الصفقة.
الثاني: عملية طائرة الاستطلاع «مرصاد 1» والتي لا تخرج بدورها عن هذا الإطار الذي بدأ الحزب يعتمد عليه، والتي لم تكن سوى فقاعة دعائية لإخفاء أمور أخرى بعيداً عمّا يجري في ساحات العراق وفلسطين؛ إذ كان التوقيت للعملية آنذاك يتزامن مع اتّخاذ الناس وجهة نظر معيّنة تجاه الشيعة بناءً على موقفهم في قبول الاحتلال في العراق وعدم انخراطهم في المقاومة المسلّحة، والمباركة الإيرانيّة للأعضاء المعينين من قِبَل أمريكا في مجلس الحكم والموافقة على الخطط الأمريكيّة في المنطقة، وكون الحزب أداة إيرانيّة، وأمينه العام وكيل شرعيّ في لبنان لمرشد الثورة الإيرانيّة السيّد علي الخامنئي، ولذلك كان لا بد من القيام بهذه الخطوة لتلميع الصورة التي أُخذت عن الشيعة وقتها في العالم العربي، وللتغطية على التعاون الإيراني الأمريكي والتنسيق الحاصل بينهما في تلك المرحلة، في وقت كانت فيه الجيوش الأمريكيّة تنكّل بأهلنا في الفلّوجة والموصل وغيرها من مناطق المقاومة السنية الشرسة وفي وقت كانت المراجع العليا للطائفة الشيعيّة قد دخلت في سبات عميق دون أي تعليق، وهو ما أثار سخط العديد من الجهات في داخل العراق وفي خارجه أيضاً للموقف الشيعي ممّا يجري على أيدي القوّات الأمريكيّة ضد السنة من مجازر وحشية.
هذا بينما بات التوقيت الذي يعتمده الحزب لتحقيق «خبطاته الإعلامية» يشير أكثر فأكثر إلى أنّ الحزب لا استقلالية له في القرارات المتّخذة، وأنّه مجرّد أداة أو ورقة إيرانيّة بدأت تفقد الكثير من فعاليّتها بعد الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان وإعلان أمريكا الحرب على ما يسمّى بالحرب على الإرهاب. ومن الأمثلة على عدم قدرة الحزب على الرد فعليّاً وعملياً على أي عملية اختراق صهيوني بريّة وبحريّة وجويّة للأجواء اللبنانيّة للعدو مع وقوف حزب الله مكتوف الأبدي حين كانت الطائرات الإسرائيليّة تقصف المواقع السوريّة في لبنان، أو عندما قصفت تلك الطائرات مواقع تبعد فقط عدّة كيلو مترات عن العاصمة دمشق في منطقة «عين صاحب» .
- حزب الله والقضية الفلسطينية:
بطبيعة الحال، فإنّ حزب الله من المنظور اللبناني هو حزب طائفي، بمعنى أنّه يهتم بشؤون طائفته فقط، وقد حرص الحزب على عدم إظهار هذا الوجه للمسلمين في الخارج حفاظاً على صورته النمطية في عقليّتهم التي تعتمد العواطف، وعمد إلى جعل تركيزهم على مسألة خروج الصهاينة من جنوب لبنان وعلى إخفاء مدى قوّة الروابط مع إيران، وعلى إخفاء وجهه الطائفي التي يحمله معه؛ وخير دليل على ذلك أنّه مثلاً يحرص على أن يخلو «الأذان» في (فضائية المنار) من جملة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» ، على حين يضمّنها الأذان على المنار الأرضية، كما أنّه يحرص على عدم تناول رموز السنة في مختلف العصور بسوء على فضائيته، ولكنه على أرضيّته لا يوفّرهم، وبينما يدعو إلى الأخوة والاتحاد مع المسلمين ونبذ الطائفية، يقوم عناصره بتوزيع كتيبات فاخرة خاصّة في الجامعات والتجمّعات وهي مختومة بختم (التعبئة التربوية لحزب الله) تحتوي على شتائم وألفاظ نابية ولعن بحق رموز السنّة التاريخيين؛ وذلك جهاراً نهاراً دون رادع وخاصّة في مناسباتهم، وأمثلة كثيرة لسنا بصدد ذكرها. لكن نقول إنّه في كل المواضيع لا بدّ للحزب من استغلال اسم القضيّة الفلسطينيّة والتذكير بأنّ الحزب سيقف دائماً إلى جانب الانتفاضة الفلسطينية. إلى أن جاء إعلان الأمين العام بشكل واضح في خطابه في 25 أيار 2005 والذي كشف فيه للمرّة الأولى عدد الصواريخ التي يمتلكها حزب الله في إطار التهديد والوعيد والويل والثبور للصهاينة حين أشار إلى أنّ شمال فلسطين كلّه يقع تحت مرمى صواريخه، إلاّ أنّه استدرك لاحقاً بالقول إنّ الصواريخ دفاعيّة، وهذا ما يشير أيضاً إلى أن المسألة دعائية وهو ما دأب حزب الله إلى فعله منذ أنّ غيّر الانسحاب الصهيوني من وظائفه؛ فترداد مسألة القضية الفلسطينية هو لابتزاز العدو وإلزامه على البقاء في إطار اللعبة، والدليل أنّ الحزب يعلم تماماً أنّ الاتفاقيات التي وقعها مع العدو ومنها «اتّفاقية نيسان» لجمته وفصلت الأرض الفلسطينية عنه، وحرّمت شمال الأرض المحتلة على قذائف وصواريخ حزب الله، لدرجة أن اتّهمه بعضٌ إثر تحوّل موقفه منذ الانساحب الصهيوني بأنّه حامٍ لحدود العدو ومدافع عنها؛ وهذا ما جاء على لسان الأمين العام الأوّل لحزب الله الشيخ صبحي الطفيلي الذي قال: «لو كان أناس غير حزب الله على الحدود - يقصد الفلسطينيين وأهل السنّة - لما توقّفوا عن قتال العدو مطلقاً، والآن إذا أرادوا الذهاب يعتقلهم الحزب ويسلّمهم إلى الأمن اللبناني وتقولون لي إنّه لا يدافع عن حدود الصهاينة!!» وتزامن هذا الكلام الخطير مع مقال للعميد سلطان أبو العينين أمين سر حركة فتح في لبنان، نشرته جريدة «القدس العربي» في 5/4/2004 بعنوان: «حزب الله يحبط عمليات المقاومة الفلسطينية من الجنوب» قال فيه: «حزب الله قال: سنكون إلى جانبكم عند المحن. ولكننا منذ ثلاثة أعوام نعيش الشدائد ولم نعد نقبل شعارات مزيفة من أحد؛ فقد أحبط حزب الله أربع محاولات فلسطينية على الحدود، وقامت عناصر حزب الله باعتقال المقاومين الفلسطينيين وتقديمهم للمحاكمة ... ، إلى أن قال العميد أبو العينين: على الشعب الفلسطيني أن لا يعوِّل لا على حزب الله ولا على حزب الشيطان، بل عليه الاتكال على نفسه فقط؛ لأن لحزب الله أولوياته ومواقفه السياسية، وهو يريد أن يقاتل بآخر فلسطيني منا على أرض فلسطين، ونحن نريد من حزب الله موقفاً صريحاً وواضحاً» .
- مستقبل حزب الله:
ليست المرة الأولى التي يطرح فيها مستقبل حزب الله على بساط البحث، ففي كل مرّة يحدث فيها تطوّر إقليمي أو دولي يخصّ لبنان أو إيران أو سورية، يتم طرح موضوع حزب الله ومستقبله، وخاصّة أنّ مصير الحزب ليس مرهونًا بالساحة اللبنانية وحدها كما سبق ورأينا؛ فهو له امتدادات خارجية وقراره ليس داخلياً محضاً وله مرجعية الولي الفقيه.
وعلى العموم؛ فقد كان طرح مصير حزب الله في ثلاث مرات سابقة هي:
الأولى: مع ظهور احتمالات التسوية السلمية على المسار السوري الصهيوني في (وايت بلنتيشن) في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون؛ حيث طرحت قضية الحزب بسبب علاقته مع سورية وتوظيفه في إطار الاستراتيجية السورية تجاه إسرائيل.
الثانية: أثناء إعلان العدو عزمه الانسحاب من جنوب لبنان؛ حيث طرحت تل أبيب شروطاً تتعلق بتسوية أوضاع الحزب؛ وذلك في إطار المسار اللبناني الصهيوني، لكن القضية لم تحسم نتيجة لانسحاب العدو الانفرادي دون اتفاق مع الحكومة اللبنانية.
الثالثة: في منتصف التسعينيات مع حدوث توتر في العلاقات السورية الإيرانية؛ حيث كانت هناك علاقات قوية لسورية مع الولايات المتحدة التي كانت تضغط في اتجاه وقف دعم دمشق للحزب باعتباره منظمة تهدد أمن إسرائيل.
الرابعة: بعد اغتيال الحريري وانسحاب القوات السورية؛ حيث بدأت تطرح قضية الحزب بشكل متصاعد داخل وخارج لبنان.
- سيناريوهات المستقبل:
المستقبل وإن كان من الصعب علينا التنبؤ بما سيحمله، إلاّ أنّه بالضرورة قد لا يخرج عن ثلاثة سيناريوهات لوضع الحزب مستقبلاً فيما يخص الإصرار على نزع سلاحه وفق القرار 1559.
- السيناريو الأوّل: نزع سلاح الحزب عبر مساومات داخلية:
ويفترض هذا السيناريو أن يتّفق معظم الفرقاء اللبنانيين على أن ينزع سلاح حزب الله اعتماداً على عدد من الحجج، ومنها:
أولاً: إنّ اتّفاق الطائف قد نصّ صراحة على سحب سلاح جميع الميليشيات اللبنانية (بما فيها تلك التي كانت تقاوم الاحتلال أيضاً مثل أمل والشيوعي وغيرهما) وإنّ استثناء حزب الله من هذا النص كان بقرار سوري وبدعم إيراني، وحيث إنّ القوات السورية انسحبت وإنّ الجميع متمسك بتطبيق اتّفاق الطائف فإنّه يجب على حزب الله أن يسلّم سلاحه.
ثانياً: بما أنّ الجميع يطالب بدولة ذات سيادة واستقلال، فمنعاً للتدخلات الخارجية التي قد تنجم عن قيام الإرادة الدولية بتطبيق باقي بنود القرار 1559 القاضي بسحب سلاح حزب الله ضمنياً؛ فإنّه من الضروري فتح ملف حزب الله الآن بعيداً عن الالتفات للضغوط الخارجية؛ لأنه مسألة تمس سيادة ومستقبل لبنان؛ فلا يعقل أن يظل الجناح العسكري للحزب، ويظهر أنه دولة داخل الدولة، وأن الديمقراطية والسيادة تقتضي إزالة جميع صور التسلح غير الرسمي، وأن الجيش اللبناني والشرطة هي الجهة الوحيدة فقط التي ينبغي لها أن تحتكر القوة، وتستخدمها في حماية النظام الداخلي وفرض القانون، والدفاع عن سيادة واستقلال لبنان.
ثالثاً: لا يمكن لحزب الله من الآن وصاعداً أن يكون ممثلاً داخل الحكومة، وان يكون لديه جناح مسلّح؛ لأنّ ذلك سيثير حساسيات الطوائف الأخرى، فحزب الله في النهاية جزء من المجتمع اللبناني، وحتى لو تجاهلنا تصرفاته وبيئته، فإنه يبقى في النهاية طائفياً؛ وهذا هو واقع الحال في لبنان؛ لذلك إنّ أصر على حصّته فعليه أن يتخلى عن سلاحه.
ويتوافق هذا السيناريو مع مغريات أمريكية بالدرجة الأولى وفرنسية فيما بعد؛ بأن يتم إعطاء حزب الله دوراً سياسياً كبيراً في لبنان على غرار الأحزاب الشيعية في العراق مقابل أن يقوم بالتخلص من أسلحته أو يجد لها مخرجاً ملائماً. لكن يبدو أنّ المشكلة في هذا السيناريو أنّ الفرقاء اللبنانيين الذين كانوا يطالبون بنزع سلاح حزب الله توزعوا بين مؤيد ومعارض نتيجة مساومات وتحالفات داخلية مصلحية، فضاع الهدف الأساسي أو أجّلوه على أن لا يتورطوا هم به ليتركوا فيما بعد للمجتمع الدولي أن يقرر.
على العموم وفي جميع الأحوال يبدو أنّ هذا السيناريو صعب التحقيق إلى الآن، أو قد يتم تدريجياً وعلى دفعات.
- السيناريو الثاني: نزع سلاح الحزب بالانسحاب من شبعا:
في حال فشل السيناريو الأوّل فهناك معلومات تقول إن أمريكا قد تلجأ إلى سيناريو آخر تقنع بواسطته المحتل بأن ينسحب من مزارع شبعا بغض النظر عن صاحب الحق والملكية فيها سواء كانت سورية أم لبنان، وبذلك تنتفي حجّة حزب الله بأنّه يقاوم من أجل دفع العدو إلى الانسحاب من مزارع شبعا؛ وبذلك يفقد حزب الله مبررات وجوده.
وهذا السيناريو يستخدم في حال اتفاق القوى اللبنانية على أن تتجنب الخوض في مسألة سلاح حزب الله، ومن ثَمَّ تجنيبه مفاعيل القرار الدولي وإفشال مخططات تفكيك حزب الله، والخيار الوحيد أمام إسرائيل والقوى الدولية في حال استمرار الحكومة اللبنانية بتأكيد لبنانية مزارع شبعا والتحفظ على قول الأمم المتحدة بهذا الخصوص، وفي حال قيام سورية بتقديمها اعترافاً خطّياً بلبنانية مزارع شبعا (على الرغم من أنّ سورية كانت قد صرّحت رسمياً في مرات عديدة سواء عبر وزير الخارجية فاروق الشرع أو عبر وليد المعلم أو عبر مندوبها في الأمم المتّحدة أنّ مزارع شبعا لبنانية) أن يقوم العدو بالانسحاب من مزارع شبعا كحل أخير للموضوع، وبذلك تسقط حجة وجود أراض لبنانية محتلة؛ وعليه لا يبقى هناك أي مبرر شرعي وقانوني لوجود حزب الله كمنظمة عسكرية مقاومة.
هذا في حين أنه سيتزامن انسحاب الصهاينة من مزارع شبعا مع تسليمها لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان، وقيام الأمم المتحدة بالإجراءات المطلوبة لتحديد هويتها وتسليمها إلى أصحابها مع إعلان دولي بأن الأراضي اللبنانية كلها أصبحت محررة، ومن ثَم توسيع مهام قوات الطوارئ الدولية لتصل إلى حدود مراقبة الوضع على كامل المساحة الجغرافية من منظار الأمم المتحدة وبدعم دولي كامل، والبدء بمرحلة إنقاذ الاقتصاد اللبناني، والعمل على تحضير مشاورات دولية غير معلنة لتنشيط الاستثمار في لبنان.
لكنّ المشكلة في هذا السيناريو أنّ دولة العدو ما لم تكن متأكدة من أنّ الدولة اللبنانية ستُحكم سيطرتها على مناطق الحدود إضافة إلى قوات الأمم المتحدة فإنّها لن تقوم بالانسحاب من شبعا؛ لأنّه في حال سحب سلاح حزب الله وانسحاب العدو فإنّ المنطقة ستتعرض لفراغ قد يتيح للمقاتلين الفلسطينيين في لبنان بدء عمليات مسلحة ضد العدو، ولذلك فإنّ بقاء حزب الله في هذا الوضع أفضل؛ فهو يتكفّل في ضبط اللعبة وعدم دخول أي جهة أخرى على الخط من لبنان خاصّة إذا كانت من السنّة غير الملتزمين بأي لعبة أو إطار سياسي والمستعدين للتصعيد حتى الانفجار.
- السيناريو الثالث: بواسطة صفقة أمريكية إيرانية:
لطالما خلط الكثيرون بين الشعارات التي يجري تداولها بين إيران وأمريكا، فأطلقوا الأحكام على أساسها، واستنتجوا أنّ البلدين في حرب غير معلنة، والحقيقة تقول إنّ هناك تعاوناً غير معلن يصل إلى حد التحالف في بعض المواضيع ويغيب في مواضيع أخرى، ولن نعيد شرح الموضوع والتعاون الإيراني مع الأمريكيين في أفغانستان والعراق وغيرها من الملفات والمواضيع. ولكن نقول: إنّ إمكانية حصول صفقة إيرانية - أمريكية قد يحصل بنسبة عالية جداً، والمناوشات التي تحصل بين البلدين من حين إلى آخر ما هي إلاّ أسلحة في سلّة الضغوط التي يلجأ إليها كل بلد لزيادة مكاسبه، وفي النهاية تتم القسمة بينهم.
وليس من المستبعد بناءً على ذلك أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بعقد صفقة مع إيران، تقدم واشنطن بموجبها تنازلات لطهران فيما يتعلق بملف برنامجها النووي وعدم إحالته لمجلس الأمن الدولي، مقابل أن توقف إيران دعمها القوي، خاصة الدعم اللوجستي، لحزب الله، ومن ثَم يؤدي ذلك لإضعافه وسهولة الضغط عليه باتجاه نزع أسلحته.
- ماذا عن أمريكا ومغازلة الشيعة؟!
هناك من يرى أن من مصلحة أمريكا والدولة العبرية في الوقت الراهن الإبقاء على حزب الله؛ لأنّه يشكّل عاملاً وصِمام أمان للحدود اللبنانية الصهيونية خاصّة في وقت تتصاعد فيه ما يسمى بالقوى (الجهادية السلفية) التي لا تقيم أي معيار للتوازنات الإقليمية أو المحلية أو الداخلية، والتي لا تخشى شيئاً في سبيل دك أمريكا والدولة الصهيونية، ويعتمد هؤلاء في تحليلهم على عدد من الأمور في نظرتهم هذه تجاه حزب الله، ومنها:
أولاً: بالنسبة لهم، الحزب يسيطر على مناطق وجوده بالكامل وعلى ذلك فإنّ إطار اللعبة معروف بينه وبين العدو، ولا يسمح لأي أحد بالتدخل فيه ومن بينهم من يدعي أنّهم حلفاؤه وهم الفلسطينيون (كما سبق وأشرنا أعلاه فقد اعتقل الحزب العديد من المقاتلين الفلسطينيين) وعليه فإنّ التعامل مع الحزب واضح، على عكس ما سيتركه انسحابه من هذه المناطق.
ثانياً: أنّ الحزب «براغماتي» ، بمعنى أنّه يقبل الحوار والتفاوض والتبادلات حتى لو كان خاسراً بها، كما حصل في تبادل الأسرى الشهير بين العدو وحزب الله على الرغم من أنّ الحقيقة قد أظهرت أنّ إسرائيل هي التي استفادت من هذا التبادل إلاّ أنّه تمّ تصويره بالعكس. ولو ترك الأمر لغير حزب الله من المجموعات التي قد تستغل وجود أي ثغرة للقيام بعملياتها، لما تفاوضوا ولا قبلوا كل أنواع الحوار، وهذه ميزة لحزب الله علينا استغلالها. (هكذا يطرحون وجهة نظرهم) .
ثالثاً: أنّ الحزب أعلن في عدّة مرات وبشكل واضح أنّه لا يتدخل في الشؤون خارج أراضي لبنان، وأنّ مهمته هي تحرير أرضه وليس تحرير فلسطين كما كان يزعم من قبل، وكان هذا الاعتراف صريحاً وواضحاً في خطاب نصر الله في 25 أيار 2005م. بينما نجد أن أيّاً من الأحزاب الإسلامية غير مستعدة للتضحية بحقها في فلسطين وتحريرها من الاحتلال الصهيوني الغاشم.
وينادي أصحاب هذا التوجه إلى التقارب مع شيعة العالم؛ لأنّ التعامل معهم يتم على أساس المصالح وليس المبادئ، وإنّ الشيعة على الرغم من شعاراتهم إلاّ أنّهم في حقيقة الأمر متعاونون جداً ومنفتحون.
ويعتبر الباحث السياسي (أغسطس نورتون) وهو صاحب مؤلفات عدة عن «حزب الله» والحركات الشيعية، أن «توجه الإدارة الأمريكية إلى التعامل مع الأقلية الشيعية في العالم الإسلامي» انطلاقاً من «علاقتها برئيس الحكومة العراقية إبراهيم الجعفري رئيس حزب الدعوة الإسلامي في العراق الذي ارتبط اسمه بتفجير السفارة الأميركية في الكويت عام 1983» ، مرده أن واشنطن «بدأت تعي التغييرات السكانية في المنطقة وأن الشيعة يشكلون نصف المسلمين (1) في الدول الممتدة من لبنان إلى باكستان» . ويصنف (نورتون) الذي أمضى أواخر التسعينيات في لبنان، الجبهة اللبنانية بأنها «الثالثة ضمن استراتيجية التقرب من الشيعة بعد العراق وإيران، وتحديداً في مرحلة ما بعد الانتخابات العراقية» .
وعلى هذا الأساس فقد يجري تبديل في الاستراتيجية ويصبح حزب الله حليفاً كما أصبح حزب الدعوة وفيلق بدر حلفاء للولايات المتّحدة في العراق بعد أن كانوا يدعون عليها بالويل والثبور من إيران؛ فسبحان مغيّر الأحوال فلا تتفاجؤوا إن حصل ذلك!
وعلى أي حال؛ فإن مستقبل الحزب مرتبط بالمتغيرات الإقليمية والدولية، وهو ليس مسألة داخلية كما يحب بعضهم أن يصفه، وقد رأينا مدى التشابك والتداخل في مختلف القضايا، والأمر مفتوح في النهاية على كل الاحتمالات. والله المستعان.
__________
(*) كاتب وباحث سياسي.
(1) لم نتطرق إلى ماضي الحزب باستفاضة؛ لأنه سبق لمجلة البيان أن تطرقت لهذه الناحية من العدد 142 إلى 146 بدراسة تحليلية وتاريخية يمكن الرجوع إليها عند الحاجة ـالبيان ـ.
(2) وذلك قبل انهيار قيمة الليرة اللبنانية بسبب الحرب الأهلية.
(1) هذه دعوى يكذبها الواقع، وهي من نوع الادعاء بأن أغلبية الشعب العراقي شيعة، وهي دعاوى ذات أبعاد سياسية معروفة.(223/23)
حاجتنا إلى استراتيجيات حادة
أنور قاسم الخضري
تُستخدم اليوم في حياتنا السياسية والإعلامية والاجتماعية جملة من المصطلحات الوافدة التي تمثل نوعاً من الغزو الفكري والانبهار الذي وقع في نفوس المسلمين تجاه التقدم الذي وصل إليه الغرب.
من هذه الكلمات «الإستراتيجية» ، وهي لفظة مضافة أو مضاف إليها في التأليف والإعلام والدراسة:
فيقال: إستراتيجية الدول، إستراتيجية الأسواق المالية، إستراتيجية التربية، إستراتيجية التفكير..
ويقال: التخطيط الإستراتيجي، البعد الإستراتيجي، القوى الإستراتيجية، الخبير الإستراتيجي، الدراسات الإستراتيجية ...
3 فماذا تعني كلمة «الإستراتيجية» ؟
جاء في الموسوعة العربية الميسرة (1) : «الإستراتيجية: فن القيادة العامة في الحرب بأجمعها، اشتقت من كلمة ستراتيجوس اليونانية بمعنى قائد» وهي كما يبدو تقابل كلمة تكتيك والتي عرَّفتها الموسوعة بأنها «فن القيادة في ميدان المعركة» . ثمَّ أفاضت الموسوعة في ذكر التعريفات المختلفة ووجهات نظر الذين تناولوا هذا الاصطلاح تعريفاً وشرحاً وضرب أمثلة.
أما كراسة التدريب المشترك البريطانية الصادرة عام 1902م فتعرِّف الإستراتيجية بأنها: «فن التخطيط لحملةٍٍ ما وتوجيهها، وهي الأسلوب الذي يسعى إليه القائد لجر عدوه إلى المعركة» !
أما دليل ضباط أركان القوات المسلحة الأمريكية لعام 1959م فقد عرَّف الإستراتيجية بأنها: «فن وعلم استخدام القوات المسلحة للدولة لغرض تحقيق أهداف السياسة العامة عن طريق استخدام القوة أو التهديد باستخدامها» .
إذن وبعيداً عن الصراعات وحروب القوة، فإن الإستراتيجية كلمة انسحبت من ميدان القتال إلى ميدان الحياة الذي هو الأرحب والأوسع والأخصب والأشد أثراً، وبالأخص ميدان الفكر والمعرفة والقيم.
3 الإستراتيجية في الإسلام:
(عقدة التآمر) ، (العقلية المغلقة) ، (النفسية المتخوفة) ، ... تُهَمٌ توجه إلى كل من يريد الوقوف بعقلانية وتؤدة أمام قضايا الفكر والرأي والمعرفة التي هي محور القيم والعادات والسلوك الإنساني، بل ونقاط التغيير والتأثير.
بعض الناس يربط بين الإستراتيجية وما يسمى بـ «الرؤية» بمعنى: أن «الرؤية» ، أو ما يطلق عليه «التصور الذهني» هي المنطلق في صياغة الإستراتيجية؛ لأن الإستراتيجية هي الطريق الذي سنسير عليه وبدون الخريطة ـ الرؤية ـ لا توجد معالم طريق وإحداثيات مسار.
ونحن نؤمن بأن الإسلام منهج حياة مطلق صالح لكل زمان ومكان؛ فهل أشار الإسلام إلى «الرؤية» ، وهل يتضمن رؤية في أبجدياته وقواعده وتعاليمه؟
سؤال يبدو للوهلة الأولى أنه صعب، حين نترك «النظرية» (1) ونلتفت إلى واقع المسلمين في: السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والمعرفة والعلوم، والسلوك الحضاري للفرد والجماعة والأمة.
وقد يخرج بعضٌ بإجابة قطعية «نافية» لأن مؤشرات الواقع بكل تفاصيلها وجزئياتها على مستوى الأمة اليوم تعطينا هذه القناعة. وهنا تسقط الهوية والرسالة والأمل، ويأتي السير بعكس اتجاه البوصلة. وما أقبحها من جريمة عندما يتحمل الإسلام العقوبة ويفرُّ المذنبون!
إن قراءة عابرة للقرآن الكريم ـ الكتاب الرباني المحكم ـ تخاطبنا بآيات معجزة وحكم بليغة.
فحديث القرآن الكريم عن الإنسان منشئه وطبيعته ومصيره، وطبيعة الكون وقوانينه، وسنن الحياة والقدر.. والحديث عن عالم الغيب والشهادة وعن الأخبار والأحكام والحقوق والواجبات والأدوار والوظائف.. كل ذلك رؤية، حيث قال ـ تعالى ـ: {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] . ووصف المؤمنين بأنهم «أولو الأبصار» ، وضرب مثلاً لمن آمن بالرسالة واتبعها ومن لم يؤمن بها ولم يتبعها بالبصير والأعمى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50] وجعل الدعوة واجباً لا يقوم به إلا من كان على بصيرة «رؤية» : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] .
وعندما يؤكد علماء الإدارة الإستراتيجية بأن الرؤية «توجد ـ فقط ـ عندما يشترك الأفراد ـ في مؤسسةٍٍ ما أو بيئة ـ في القيم والاعتقادات والمهام والأهداف التي يجب أن توجه سلوكهم، ليتم إيجاد «العقل الجمعي» فإننا نفهم كيف أن الإسلام كان عقيدة وشريعة وعبادة وأخلاقاً ليحقق الرؤية لكل من رضي به ديناً.
ما علاقة هذا الأمر بموضوع حديثنا حول «الدراسات الإستراتيجية: تقييم وتقويم» ؟
الأمر يرتبط بمقدمات لا بد منها:
أولاً: أن الدراسات الإستراتيجية التي توضع في الخارج عن العالم الإسلامي أو توضع في مؤسسات تنطلق في دراستها من المنطلقات الغربية ذاتها هي نتاج «رؤية» فرد أو مجموعة أفراد، لها منهجها الخاص في التعاطي مع المادة الخام (من البيانات والمعلومات والإحصائيات والتقارير والوثائق والأبحاث، وغير ذلك) .
ثانياً: أن منهج التعاطي مع المواد الخام، مهما سلمنا بشمول هذه المواد ودقة البيانات فيها وسلامتها من التزوير أو الأخطاء، له أثره في صياغة النتائج.
وأقرب مثال على ذلك: الصور الحية التي تنقلها وسائل الإعلام العربية والصهيونية عن الحوادث التي تتم في فلسطين (أو العراق حالياً) ، هي ذاتها في المكان والزمان والعرض.
وعندما يتناول الإعلام العربي صورة الطفل الفلسطيني وهو يطارد بالحجارة الجندي الإسرائيلي، منوهاً ببسالة المقاومة وجبن المعتدي.. تقلب أجهزة الإعلام الصهيونية المعادلة ليكون الطفل إرهابياً صغيراً والجندي الإسرائيلي جندي رحمة وسلام.
الصورة ذاتها في الحالين، لكن التعاطي معها مختلف.
مثال آخر:
عندما يزداد إقبال النساء على الحجاب الشرعي والالتزام بالآداب الإسلامية في التعليم والعمل والنشاط العام تكون الأرقام مؤشراً على وعي وتمسك بالإسلام وصحوة في الأوساط النسائية؛ هذا عند الدعاة إلى الله والأمة عموماً؛ لكن الأرقام ذاتها تصبح تهمة في جانب حقوق المرأة وحريتها الشخصية وتخلفاً في الأوضاع لدى الدراسات الأجنبية.
ثالثاً: أن هذه الدراسات تنقل في ثناياها رؤية مغايرة لرؤيتنا الإسلامية وتؤصلها لنا من خلال حشد الأرقام والبيانات؛ وشيئاً فشيئاً تصبح الرؤية الإسلامية ضبابية، ويحل محلها رؤية جديدة تسند إلى الإسلام الظروف المأساوية وكأنه المسؤول عنها والمتسبب فيها. على الرغم من أن بُعدنا عن «رؤية» الإسلام الكلية للحياة والإنسان والكون هي السبب الحقيقي وراء الظروف المأساوية لمجتمعاتنا وبلداننا الإسلامية عموماً.
ومن هنا فنحن مُلزَمون أن نقيِّم هذه الدراسات وفق رؤيتنا نحن، باعتبارها معطى من معطيات الواقع ـ كما هو الحال ـ إلا إذا أخذت طابع القداسة المطلقة فهذا شيء آخر، ومجال بحثه غير هذا المقام.
3 تقييم الدراسات الإستراتيجية:
صادر عن مركز (......) للدراسات الإستراتيجية، وأعده خبراء إستراتيجيون، وأشرف عليه معهد.... للإستراتيجية الدولية، مع إضافة: طُبِع في واشنطن أو لندن أو باريس، وبخط عريض: «رؤية إستراتيجية لـ.....» !.
إنها مائدة تبدو دسمة ومغرية لأصحاب القرار والرأي في بلداننا الإسلامية والعربية منها غالباً؛ وخاصة إذا أضفنا نوعية الورق والطباعة الفاخرة والتصميم والإخراج الجذاب.
بعض الناس يقف عند هذه المقاييس، ولا يتجاوزها إلى القيمة الموضوعية للبحث في الحكم على مدى أهلية مثل هذه الدراسات والبحوث للاقتناء والنظر والاستفادة منها.
إن دراسات الاستراتيجية ـ كما أسلفنا ـ تقوم على تحويل المواد الخام من المعلومات والبيانات الواقعية إلى نتائج (نظريات أو فرضيات) ، وأياً كانت فهي تمثل أسلوب تغيير أو معالجة للواقع للوصول به إلى المستقبل الأفضل. وهذه العملية محكومة بعدة أمور هي عند قراءة الدراسة غير مشاهَدة (وإن كانت حاضرة أثناء إعداد الدراسة في ذهنية ونفسية الباحث المعد) ، منها:
1 ـ «الرؤية» الخاصة بالباحث أو الدارس، والتي في ظل مقاييسها ومصطلحاتها وقيمها ومبادئها وسياستها تعامل الباحث مع المواد الخام. فمن خلالها رتب ونظم وانتقى، وأوجز هنا وأسهب هناك، وأغفل هذا وأبرز ذاك.
2 ـ «الهدف» أو الغاية التي لأجلها يُعدُّ البحث وتصاغ الدراسة. فأغلب أهداف البحوث والدراسات تكون خاضعة لإرادات متصارعة أو متصالحة، وفي كلتا الحالتين فالتوجيه إرادة مسبقة ونية مبيتة.
لذا فإن تقييمنا للدراسات الإستراتيجية يجب أن يأخذ في الاعتبار هذين العاملين لا مجرد «أسلوب المعالجة» الموضوعي ـ كما يطلق عليه ـ والذي تختبره أدوات المعمل، فكِلا الشخصيتين (الطبيب الجراح، والجزار) يتعامل مع الجالس تحت رحمة سكينه بأسلوب المعالجة الموضوعية ذاتها عند التشريح؛ لكن المحصلة النهائية مختلفة.
ونحن عندما نصور الأمر على هذه الحقيقة لا نزايد في مسلَّمات يتفق عليها الجميع، وهي أن الباحث والدارس مهما كان أسلوب تعاطيه مع المادة موضوعياً فإن معتقداته وخبراته السابقة لن تكون في معزل عن صياغة النتيجة، وكذلك الحال مع الأهداف والنوايا.
وعليه فإن تقييمنا لأي دراسة صادرة من الداخل أو الخارج لا بد أن يخضع إلى ثلاثة معايير هي:
الغاية، والمنهج، والخبرة.
فإذا توافقت هذه المعايير معنا باعتبارنا مسلمين كانت هذه الدراسات مقبولة، وإذا خالفت ما عندنا عرَّيناها على حقيقتها. وهنا اعتراف:
إننا بوصفنا مسلمين فإننا مقصرون في صياغة دراسات إستراتيجية تنبع من «رؤيتنا» ، تصور لنا واقعنا كما ينبغي أن نحكم عليه، ومستقبلنا الذي تتيح لنا قدراتنا الوصول إليه، والتحديات التي سنواجهها بين النقطتين ... وكيف يمكن تجاوزها.
إننا نستورد، أو نعيد تصنيع ما نستورده من القوم؛ أما أن ننتج محلياً وفق غايتنا ومنهجنا وخبرتنا فلا يزال الأمر حلماً لدينا.
نقف أمام الأزمات والنكبات والفواجع مستخدمين: خطب الحماسة الملتهبة، أو أوامر التوجيه الصارمة: يجب ويجب، أو المناشدات ومطالبات الاستجداء.
ويقف آخرون: يستقرئون الواقع، ويحللون المعطيات، ويرصدون الظواهر، ويتابعون التغيرات، يفسر أحدهم ويربط، ثم يرسم من خلال ما يراه خططاً ممرحلة، ويأخذ مواقع متقدمة المرة تلو الأخرى.. إنهم في الحقيقة أعداؤنا {وَإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] .
إن معالجة تراكمات من السنين التي تمتد إلى قرون لا تزول بالعشوائية والارتجالية والمثالية وانتظار الخوارق، كما أن تعقيدات المشهد لا تُحَلُّ بالسطحية أو الإغراق في الجزئيات أو ترك القضايا تحل بذاتها ... !!
المعالجة هي قناعة مُحصَّلة لخطورة ما نحن فيه، وهي تبدأ بالدراسة الفاحصة والدقيقة والشاملة، لا من موقف عاطفي وردة فعل آنية، وهذا ما يغلب على تعاطينا مع الأمور.
بالمثال يتضح المقال:
تعرض الولايات المتحدة الأمريكية سنوياً، تقريراً خاصاً بالحقوق والحريات عن العالم بدوله وشعوبه، هذا التقرير تعده وزارة الخارجية الأمريكية بالتعاون مع أجهزة استخباراتية (غير معلنة) ومع منظمات ما يسمى بالمجتمع المدني (من الجهة المقابلة) . وهذه التقارير السنوية تتبنى الحالة العامة لحقوق الإنسان وحرياته على صعيد الممارسات السياسية والاقتصادية والإعلامية.. في بلاده.
للتقرير ديباجته المعتادة ومصطلحاته المختارة بدقة؛ وقد كان يمثل قبل 11سبتمبر شهادة للمستوى الإنساني والحضاري الذي تحمله القيم الأمريكية؛ لكنه اليوم (وهو ذاته التقرير بالعبارات والمصطلحات نفسها) مجال لسخرية القانونيين والإعلاميين والمثقفين ولكل من لديه مثقال ذرة من عقل.
وفي ضوئه تتخذ سياسات وتوضع خطط وتنفذ أعمال بل حروب ظاهرة أو خفية. فكان بمثابة الرؤية الإستراتيجية لما ينبغي أن يكون عليه العالم، وتحت شفرته تقطع الدول إلى راعية لحرية المعتقد وحرية التعبير وحرية النشاط وغير راعية لذلك ـ أي دكتاتورية ـ وعليه تستحق دولةٌ ما المساعدات أو لا تستحق، وتستحق الاندماج في المجتمع الدولي أو لا تستحق.
إن «الإنسان» الذي تدافع الولايات المتحدة الأمريكية عن حقوقه وتسعى لحريته ليس هو «الإنسان» الذي تعرفه أنت أيها القارئ الكريم بداهة، وما أدل كلمات الشاعر أحمد مطر عندما يصور هذا المأزق الغربي في النظرة فيقول: الخلق صنفان.. إنس وأمريكان.
3 تقويم الدراسات الإستراتيجية:
يتفق علماء الإستراتيجية على أن القيم والعقائد والأفكار هي الموجه للأشخاص والجماعات، وهؤلاء بدورهم هم الموجه للمواقف والأحداث.
وعليه فإن القيم والعقائد والأفكار تأتي في الدرجة الأولى من الأهمية ثم يليها الأشخاص ثم يلي ذلك المواقف والأحداث. وحيث إن الرؤية الإستراتيجية تصيغ العقائد والقيم والأفكار فهي لا تصلح أن تنبع من الأشخاص؛ لأن مَنْ حَقُّه التأخر لا يصلح أن يتقدم على من حقه التقدم. فلا بد أن تصاغ الرؤية الإستراتيجية ممن هو أعلى مرتبة ومنزلة.
وفي الإسلام يؤمن أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدين المنزل من الله، هو ما يمثل بالنسبة لهم الرؤية الإستراتيجية ليس في الدنيا وحسب بل في الدار الآخرة. ومن ثم يصبغ الإسلام: العقيدة، والقيم، والفكر، والشخصية والمواقف. وتكون الرؤية الإستراتيجية متناسقة ومتحدة ومتكاملة ومستقرة وصالحة لكل زمان ومكان وفي كل ظرف وحال.
لقد شملت تعاليم الإسلام وأحكامه كافة جوانب الحياة حتى جعل بعضهم يسأل صحابياً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: علمكم نبيكم كل شيء؟ فيرد الصحابي معتزاً: نعم! حتى الخراءة. (أي كيفية قضاء الحاجة) . وهي الكلمة التي صاغها أحد الدعاة المعاصرين في جملة: الإسلام قانون للحياة من كرسي الحَمَّام إلى كرسي الحُكَّام.
وهذا ما لا نتحرج منه.
فأين اليوم المسلمون الذين يقدمون الإسلام بهذه الروح؟ لقد صدق عدو (عاقل) حين وصف الإسلام فقال: نِعْمَ الدين لو كان له رجال! وقال عمر من قبل: لوددت أن لي ملء هذا المسجد ـ مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ رجالاً من أمثال أبي عبيدة عامر بن الجراح (أمين هذه الأمة) .
إن الإسلام «رؤية» استراتيجية في جوانب النفس البشرية ودورها في الحياة وما يحيطها. لكننا بحاجة إلى تقييم ذواتنا وتحديد موقعنا منه كخطوة أولى، قبل أن نحدد موقعه من الآخرين.
وبعض الناس يريد أن يصف جميع أحوالنا القائمة بأنها إسلام بل وإيمان، ويريد أن ننطلق بهذا الاعتبار في المواجهة والإعمار؛ وذلك تحت مبررات عدة أو تفسيرات متأوَّلة.. كالواقعية.
وبعضٌ آخر يريدنا أن نصل إلى الإسلام من السبل الأخرى التي أوصلت غيرنا إلى ما هم فيه؛ فهي الكفيلة في نظره للحل الذي بوجوده نتمثل الإسلام، فيظهر: الإسلام الديمقراطي، والإسلام الاشتراكي، والإسلام القومي، والإسلام الوطني، والإسلام المصلحي، والإسلام العقلاني،.... إلى ما هنالك في سبيل الوصول إلى الإسلام الرباني.
ويُكرَّر الخطأ ذاته، حيث يُضفى مسمى الإسلام على مبادئ وقيم منحرفة.. هي جزء من البلاء وأساس في الداء.
إن المشكلة في هذه الأزمات أنها لا تترك لأحكام الإسلام أن يُتعامَل معها وتُجَلَّى ويُحكم عليها، ولا تُترك للمختصين من أهل الفقه والعلم الشرعي باعتبارهم المختصبن بهذه المسائل.. نعم! قد يوجد لديهم قصور، هذا وارد؛ لكن على الأمة والمختصين الآخرين في مجالات العلوم الأخرى أن يشاركوهم في توصيف الواقع كما هو، لا كما نريد أن نفهمه نحن.
ومثال على ذلك (السلام مع العدو الصهيوني) فهو سلام في عقولنا نحن فقط، في تحركنا نحن فقط، لكنه كما يبدو عند العدو شيء آخر غير الذي نقصده ونريده، إنه انهزام.. استسلام.. أي شيء يجرنا إلى الذل؛ لكنه ليس سلاماً بالتأكيد.
فإستراتيجياتنا لا بد أن تقوم على نظرة حقيقية للواقع كما هو فعلاً، لا كما نتخيله في أذهاننا أو نراه في أحلامنا، وإذا خلطنا بين هذا وذاك كان السير على «خارطة الطريق» مهلكة محققة، ولن نجني منها لا بلح الشام ولا عنب اليمن.
وعليه فإن معرفة الواقع، معرفة دقيقة، وفهم اتجاهه وحركته، وفقه السنن التي يجري في ضوئها وأسباب التغيير ونقاط التحول وعوامل التأثير التي تشكله والعلاقات التي تحكم الروابط بين أجزائه ومكوناته هي الخطوة التي بوسعنا أن نشارك فيها جميعاً بصدق وأمانة.
3 الدراسات الإستراتيجية، وما ينبغي أن تقدمه:
للوطن العربي والإسلامي خصوصيته الحضارية والعقائدية والفكرية والأخلاقية، وله مساره التاريخي الطويل الذي يمتد إلى 15 قرناً، وله ظروفه التي تحيط به؛ ولا بد أن نراعي هذه الجوانب ونعطيها قدراً من الاهتمام.
لذا فإن في تقديري أن على الدراسات الإستراتيجية أن تراعي الجوانب التالية:
1 ـ أن تصاغ الدراسات وفق مبادئ وقيم و «رؤية» الإسلام الكلية والشاملة، وأن تُضبط مفاهيم ومصطلحات الدراسة في هذا الإطار؛ بحيث تسمى الأمور بمسمياتها الحقيقية؛ سواء كان ذلك في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، أو غير ذلك.
2 ـ أن تعطي هذه الدراسات البعد التاريخي حقه من التأمل والتدقيق والتحقيق حتى تُنسب الظواهر إلى أسبابها البعيدة والغائبة إن وجدت، وأن لا تقتصر على توصيف الواقع فقط؛ لأن الواقع ثمرة الماضي؛ كما أن المستقبل نتيجة الواقع.
وقصقصة التاريخ أو عزله عن الدراسات الإستراتيجية، هو بتر «للرؤية» وتجزئة للحقيقة.
3 ـ أن يتم توصيف الواقع بمقاييسنا واصطلاحاتنا نحن، قدر المستطاع، ونفصل بين الأسباب والمسببات، والظواهر ونتائجها، والأحداث وأشخاصها، في سبيل تحليل وتفصيل مادة الدراسة إلى الحد الذي تتبين معه ماهيات الأمور.
ثم يعاد ربط هذه الجوانب في صورة متكاملة ومنطقية؛ وهذا يتطلب أن يوجد الخبراء في مجالات الدراسة وأن يُعْطَوْا حظهم من الوقت وفسحتهم من الجمع والدراسة والصياغة.
4 ـ أن تعد هذه الدراسات في ظل أهداف واضحة، لا نتائج مسبقة؛ فهناك فرق بين أن تطلب من فريق الدراسة للوصول إلى نتائج مسبقة.. وأن تحدد الهدف الذي لأجله تتم الدراسة، ألا وهو توصيف الواقع وتقديم الحكم له، أو الأزمة وإيجاد حلها.
5 ـ أن تتجنب الدراسة الإستراتيجية الإغراق في الأزمة (أو المشكلة) أو الظاهرة؛ بحيث تغفل الجوانب المضيئة والعوامل الإيجابية.
6 ـ أن ترتقي الدراسات الإستراتيجية من الوقوف على الحوادث ومواقف الأفراد، والأشخاص، لتتعامل مع القيم والمبادئ والأفكار؛ لأن الأحداث أعراض لحظية، والأشخاص أعراض قصيرة العمر مقارنةً بالقيم والمبادئ والأفكار، التي لها الديمومة في الحياة.
إنني أتساءل: لماذا تتعامل الأمة العربية في مستواها السياسي مع مؤتمر هنا ووثيقة هناك؟ وإجراء موجب وآخر سلبي؟! ورئيس مضى وآخر موجود وثالث قادم؟! لماذا لا تتعامل مع الأمور بمستوى المبادئ والقيم والأفكار؟! إذن لحسمنا كثيراً من مسائل الخلاف التي نتنازع عليها اليوم.
7 ـ أن تشمل الدراسة الاستراتيجية المحاور التالية:
أـ الرؤية الواضحة للأمور.
ب ـ القواعد الكلية.
ج ـ الأطر المحيطة.
د ـ الأهداف الغائبة.
هـ ـ خارطة السير العامة.
وـ المشروع العملي المتكامل.
ز ـ الحلول البديلة عند الأزمات.
ح ـ البوصلة التي تحافظ على الاتجاه الصحيح.
ختاماً: فإن الطفل الصغير يفرح عند نفخ النُّفَّاخة أمامه، وكلما زدت نفخاً فإنه يطلب المزيد وترتسم على محياه علامات الرضى وابتسامات الضحك، وعندما تنفجر النُّفَّاضة فجأة يصرخ هو بصوت مدوٍّ.. إنه لم يكن يتوقع ما حدث؛ لأنه كان جاهلاً بقانون المادة.
هذا ما غفل عنه الصحابة في إحدى سباقات الإبل، عندما سُبقت ناقة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كانت لا تُسبَق أبداً؛ فلما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- استنكارهم قال: «إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه» (1) .
لكل شيء إذا ما تم نقصانُ
فلا يغر بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمانُ
فتنبغي الإشارة إلى عدم جواز اليأس من أبناء الأمة أمام بهرجة الباطل اليوم؛ فإن العمل الجاد ومواصلة السير كفيل ـ بعد توفيق الله تعالى ـ بالنتائج. فهلاَّ صبرنا وصابرنا ورابطنا!
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين!
__________
(1) الموسوعة العربية الميسرة، الجمعية المصرية ودار الجيل، الطبعة الثانية 2001 مج 1 ص ـ 192.
(1) الإسلام دين رباني، وإنما نتنزل في الخطاب للوصول إلى الغرض.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الرقائق رقم 6020.(223/24)
العراق الجديد
د. يوسف بن صالح الصغير
لا شك أن الإدارة الأمريكية تُجْهِد نفسها حالياً في دراسة كيفية ترتيب أوضاعها في المنطقة بعد فشل مشروعهم في العراق؛ وتصرفاتهم تدل على أنهم في مرحلة متقدمة من خطة الانسحاب؛ فلم يعد هناك كلام عن إعادة إعمار ولا عن الديمقراطية التي جاءت من جديد بأحد رجالات إيران الذي لم يعد مرغوباً فيه؛ فبعد أن كانت حكومته الأولى مثالاً لنجاح الديمقراطية بالعراق وبعد الاستقبال الحافل له في واشنطن ولندن نجد أن أمريكا أول من عارض الحكومة الجديدة بالتأكيد على أنها لن ترضى بتولي شخصيات طائفية. فما الذي طرأ حتى تستبعد أمريكا من جاءت بهم سابقاً، وتصبح شروط تقريبهم أسباباً لاستبعادهم؟ فهم لم يتغيروا، بل الذي تغير هو وضع أمريكا من وضع المقيم المنتصر إلى حالة المغادر المنكسر؛ فبعد أن كان بوش يتحدث عن النصر أعلن أن أمريكا لن تخرج من العراق بصورة مفاجئة، وبعد التبشير بنجاح حكومته في ترسيخ الديمقراطية بالعراق بدأ بتكرار قلقه من نشوب حرب أهلية في حالة الانسحاب الأمريكي المبكر. والحقيقة أن الولايات المتحدة لن تخرج من العراق قبل أن تُشعِل الحرب الطائفية وتضع الأسس لعراق جديد قائم على الفوضى المنظمة.
ونحن الآن نعيش مرحلة إعداد وتهيئة؛ فمن جانب الشيعة نجد أن هناك محاولة لجرهم لمواجهة عامة مع السُّنَّة؛ فقد بدأت باستهداف التجمعات الشيعية في كربلاء، ولما فشلت انتهت بتدمير رموزهم في كربلاء، وأُتبِع ذلك بدعوات للانتقام ممن يدعونهم بالتكفيريين والنواصب، وعلى الرغم من عدم معرفة الفاعل فإن فورة التهيج العاطفي صاحبتها حملة منظمة لتدمير مساجد السنة وقتل علمائهم بل سحلهم في شوارع بغداد ونشر صور ذلك، وبلغ عدد الأشخاص الذين أعدمتهم فرق الموت الشيعية شبه الرسمية أكثر من 1300 سني قتلوا بطريقة واحدة، وقد فضح الله فيلق بدر حيث وجهت قيادتهم الحزبية وزارة الصحة بعدم ذكر من يتم إعدامهم ضمن إحصائيات الوزارة لضحايا الأحداث. وما زال المسلسل مستمراً؛ فهناك محاولة لجر أتباع الصدر وإدخالهم ضمن المنظومة الشيعية؛ ومن ظواهر ذلك تأييد الصدر للجعفري ومشاركة أتباع المهدي أو من يتزيّا بزيهم بقوة بالأحداث الأخيرة؛ مع سلسلة متلاحقة من التفجيرات في مدينة الصدر في محاولة لتجميع الشيعة. يقابل ذلك محاولة أخرى لتجميع السنَّة تحت شعار معارضة اختيار الجعفري رئيساً للوزراء فيما يبدو أنه تجمع جديد، للأكراد دور بارز فيه.
والذي لا شك فيه هو أن الحرب الأهلية التي تستعجل قيامها أمريكا تمثل حبل النجاة الأخير لأمريكا لتبرير خروج سريع أصبح مطلباً شعبياً ونخبوياً مع إشغال العالم بالوضع الجديد، وهو كذلك مخرج لمن تعاون مع الاحتلال للبقاء على الساحة العراقية؛ فالحكيم والجعفري سيظلان قائدين في المعسكر الشيعي الجديد، ولا يستبعد أن نرى الطالباني والبرزاني في معسكر سني جديد، والخاسر الأكبر هو المقاومة التي تحتاج لتضحيات كبيرة وجهد شاق للحفاظ على الهدف السوقي للمقاومة وهو تصفية الاحتلال وأذنابه، وإعادة بناء العراق من جديد، العراق الذي كان مركز الخلافة الإسلامية وموطن الأئمة الأعلام، رمز القوة والنقاء، وليس العراق الجديد الذي يريده الغرب كما ذكر على لسان وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية (كيم هَولز) الذي قال في حديث لبي بي سي إن «العراق يوصف بأنه فوضى، لكنها نوع من الفوضى غير القادرة على شن هجوم على إيران، فوضى غير قادرة على غزو الكويت، فوضى لا تستطيع تطوير أسلحة دمار شامل» نعم! إن لسان حالهم يقول: إذا لم نتمكن من السيطرة على العراق وامتصاص ثرواته فليتم تدميره؛ فهذا دَيْدَنُنا مع كل بلد دخلناه؛ فماذا فعلنا في فيتنام والسلفادور ونيكاراجوا وكوريا الشمالية والجزائر؟ وما سنحاول فعله في كل بلد سمح لنا بالدخول، ثم فكَّر أن يطالبنا بالرحيل أن نؤكد على شعارنا: نحن أو الدمار.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية.(223/25)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
مفكرة الشهر
12 محرم: تعديلات وزارية سورية والشرع من الخارجية إلى نائب للرئيس.
13: ترشيح إبراهيم الجعفري «شيعي» رئيساً للحكومة العراقية الجديدة.
14: فيديو لجنود بريطانيين يضربون صبية عراقيين بوحشية.
15: صدام ومساعدوه يجلبون عنوة إلى المحكمة بعد امتناعهم.
16: بوش: سنقاطع حماس ولو أذعن لها كل العالم.
17: نشر صور جديدة لتعذيب وقتل عراقيين بأيدي جنود أمريكيين.
17: قاعدة بيانات أمريكية تضم 325 ألف مشبوه بالإرهاب في العالم.
18: قادة حماس في أنقرة ويتلقون دعوة رسمية لزيارة روسيا.
19: عقد أول جلسة للتشريعي الفلسطيني والدويك رئيساً للمجلس.
20: الأمن الليبي يقتل 10 أشخاص تظاهروا ضد رسوم الدانمارك.
21: اختيار إسماعيل هنية لرئاسة الحكومة الفلسطينية الجديدة.
21: حماس تلغي قرارات التشريعي السابق في جلسته الأخيرة.
22: كوندوليزا رايس في الشرق الأوسط للضغط على حماس.
23: واشنطن تدعو لإرسال قوات دولية إلى دارفور خلال شهر.
24: اعتداءات على مساجد سنية عراقية بعد تفجير مرقد شيعي.
25: حظر التجول في 4 محافظات عراقية وتصاعد العنف ضد السنة.
26: قرار يسمح لرئيس وزراء تركيا الأسبق أربكان بإكمال سجنه منزلياً.
27: اعتداء على منزل الشيخ حارث الضاري ومقتل شقيقه وإصابة بعض أولاده.
28: وقف عمدة لندن 4 أسابيع لتشبيهه صحفياً بأنه حارس في معسكر نازي.
29: وصول 21 ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين في عام 2005م.
1 صفر: موفاز يسعى لضم مغتصبات الضفة الغربية بصورة دائمة.
2: اغتيال خالد الدحدوح قائد سرايا القدس الجناح العسكري للجهاد.
3: السنة والأكراد يرفضون ترشيح الجعفري رئيساً للحكومة.
3: بوش في أفغانستان ويوقع اتفاقاً نووياً مع الهند ويزودها بطائرات حديثة.
4: بوش في باكستان لبحث الحرب على الإرهاب.
5: نشر قائمة بأسماء 300 من معتقلي جوانتانامو.
6: مائة قتيل في اشتباكات بين الجيش الباكستاني وقبائل حدودية.
6: الجيش الأمريكي ينفي عزمه الانسحاب من العراق عام 2007م.
7: الإفراج عن الشيخ علي بلحاج القيادي في جبهة الإنقاذ الجزائرية.
8: إسرائيل تهدد باغتيال هنية وفتح تخاصم حماس إلى المحكمة العليا.
9: تمديد العمل بقانون مكافحة الإرهاب في أمريكا بعد خلافات مطولة.
10: الائتلاف الشيعي العراقي يعلن تمسكه بالجعفري رئيساً للحكومة.
11: مشعل يعتبر خطة أولمرت لرسم حدود نهائية للكيان إعلان حرب.
12: هلاك جزار الصرب ميلوسيفيتش في سجنه بمدينة لاهاي.
__________
علامة تعجب
هل نحن قوم أغبياء؟
لماذا تدنى مستوى تبرير الغرب الذي يدافعون به عن أنفسهم في مواجهة المصائب التي يرمون بها المسلمين؟ إنهم ما عادوا يكلفون أنفسهم عناء التفكير العميق لحبك الخدعة على المسلمين، إنه نمط جديد من الاستهتار والاستهانة بالشعوب المسلمة.. صور تعذيب وقتل للعراقيين يعترض البنتاجون على نشرها، لماذا؟ لأنها ستؤدي إلى العنف. والاتحاد الأوروبي يرسل «خافيره» لكي يدغدغ مشاعر المسلمين بكلمات جوفاء عن احترام الأديان، بينما تعبر حكومات أوروبا في الوقت نفسه عن عميق تضامنها مع الدانمارك، وفي إندونيسيا يتم الإعلان عن طبعة خاصة من مجلة (بلاي بوي) الأمريكية أقذر مجلة جنسية في العالم، ثم يصرح مسؤول بالمجلة أنها ستنشر مواضيع مهمة وراقية!!.. هل تبدو علينا كمسلمين ملامح الغباء؟!
الإرهابيون و «التكيُّف» الذاتي
حسب التشريح العالمي للإرهاب «الإسلامي» المزعوم فإنه يأتي على قمة التطرف الأصولي الديني، ولذلك عندما يُتهم هؤلاء الإرهابيون بالتشدد في تطبيق أحكام الحلال والحرام؛ فإن الأمر يكون أخف وطأة من اتهام هؤلاء المبالغين في التدين بأنهم يبالغون في ارتكاب المنكر، وقد دأبت وسائل الإعلام الغربية على اتهام حركة طالبان الأفغانية بأنها تتكسب من زراعة وتجارة المخدرات ـ المسكرات ـ وتوسع الاتهام ليشمل حركات أخرى، ومؤخراً (رمضان قديروف) المعين من قِبَل (فلاديمير بوتين) على درجة «رئيس دولة» في الشيشان، أضاف اتهاماً جديداً أشد غرابة، فقال: «ديانات العالم تحرم المخدرات، وخاصة الإسلام، وعلينا ألا ننسى أن المدمنين على المخدرات هم من يحاول الإرهابيون ضمهم إلى صفوفهم» وحسب المفهوم «القديروفي» فإن الحركات الإسلامية أصبحت تنتج وتوزع وتستهلك المخدرات!!!
__________
مرصد الأخبار
أحفاد بني قريظة
«طاقم حماس» لم يضحك بهذه الدرجة منذ مدة طويلة، هذا الطاقم برئاسة مستشار رئيس الوزراء (دوف فايسغلاس) ورئيس هيئة الأركان و «الشباك» وكبار الجنرالات في الجيش، اجتمع للبحث مع وزيرة الخارجية (تسيبي لفني) حول سبل الرد على انتصار حماس في الانتخابات. الجميع اتفقوا على الحاجة لفرض حصار اقتصادي على السلطة الفلسطينية، وكان (فايسغلاس) ، كالعادة، هو صاحب التشبيه التجسيدي حيث قال ضاحكاً: «الأمر يشبه لقاء مع أخصائية تغذية وحِمية. الفلسطينيون سيضعفون كما يجب، إلا أنهم لن يموتوا» ، وتبعه المشاركون في قهقهة طويلة، كما أفادت المصادر.
لم يكن هذا التهكم الأول لـ (فايسغلاس) ، ولا إسهامه الأول في النقاش الفوقي في النظرة للفلسطينيين. قبل سنة ونصف تقريباً، قال في مقابلة مع (آري شبيط) في صحيفة «هآرتس» إننا قد «ربّينا العالم على أنه لا يوجد شريك في الطرف الآخر، وحصلنا على شهادة خلو من الشريك.. هذه الشهادة ستزول عندما يتحول الفلسطينيون الى فنلنديين» . هذه كانت ذروة السخرية والتهكم.. موقع باحث للدراسات، نقلاً عن صحيفة هآرتس العبرية. [19/2/2006م]
قائد الجلبوع: حماس الأكثر انضباطاً وتنظيماً
في حوار مع التلفزيون الإسرائيلي قال قائد سجن الجلبوع أكثر السجون الإسرائيلية قسوة إن قادة حماس في سجنه يتميزون بأنهم الأكثر انضباطاً والتزاماً وقدرة على التنظيم، وقال إن حماس حركة قوية كلمتها كلمة، ووعدها وعد ولا تتعامل بالمواربة أو الاحتيال.
ويقع سجن الجلبوع قرب مدينة بيسان المحتلة عام 1948م ويعتقل في السجن 8040 سجيناً فلسطينياً بينهم مئات من أعضاء حماس، ويذكر أن للحركة. 8 نائباً منتخباً في المجلس التشريعي معتقلين في سجون العدو الصهيوني، من بينهم الشيخ حسن يوسف القيادي البارز في الضفة الغربية. [عن صحيفة الجزيرة، 10/2/1427هـ]
مشرف وصفحة الوفيات
برويز مشرف الرئيس الباكستاني يجمع بين يديه صلاحيات عديدة يرفض التخلي عنها، وفي الآونة الأخيرة أضاف إلى قائمة مهامه وظيفة: محرر صفحة وفيات القاعدة؛ فقد تكرر قيام مشرف بالإعلان عن وفاة أحد عناصر أو قياديي القاعدة ـ وكلهم قياديون على ما يبدو ـ ومؤخراً أعلن عن وفاة أحد أقرباء الظواهري في هجوم أمريكي على قرية باكستانية، دون أن يوضح أي صفة للقتيل سوى قرابته تلك، وبعد زيارة بوش القصيرة إلى باكستان، والتي سبقها زيارة طويلة إلى الهند، ترسخ الدور الوحيد لمشرف ومن ثم باكستان في مطاردة القاعدة وطالبان، لتصبح باكستان الدولة الأولى في التاريخ التي تتحول إلى «دولة دَرَك» مشروعها القومي الوحيد هو مطاردة الجماعات «الإرهابية» ودائماً ما تعقب أو تسبق الزيارات المهمة ـ من أو إلى واشنطن ـ مجازر يعلن مشرف بكل فخر أنها للإرهابيين، وما كاد بوش يغادر باكستان حتى غلبت الحماسة على الرئيس الباكستاني، وأصبح خبراً عادياً تعرُّض قرى باكستانية حدودية للقصف ومقتل وإصابة عشرات من مقاتلي القاعدة أو طالبان المزعومين.
حرية «التعبير» في أمريكا
أعلن جهاز أمن الرئاسة الأمريكي أنه يحقق مع تلميذ في ولاية (رود أيلاند) الأمريكية كتب موضوع تعبير غير مترابط يؤيد فيه استخدام العنف ضد الرئيس جورج بوش، وكان معلم بمدرسة في مدينة «وست وارويك» طلب من تلاميذ الصف السابع إعداد موضوع تعبير كواجب منزلي عن أفضل أيامهم، فكتب هذا التلميذ أنه اليوم الذي يقع فيه عنف ـ لم يحدده ـ ضد بوش ورؤساء شركة كوكا كولا وسلسلة متاجر «وول مارت» ونجمة البرامج الحوارية التلفزيونية (أوبرا وينفري) . ولم يكشف النقاب عن هوية التلميذ الذي يتراوح عمره بين 11 و 13 عاماً. [الأهرام 4/2/2006م]
هولوكوست الفساد
أحرق سكان قرية كوبال الباكستانية جميع أجهزة التلفزيون وأسطوانات الكمبيوتر وأشرطة الكاسيت والفيديو؛ لأنها مسؤولة عن انتشار الرذيلة، قام السكان بجمع الأجهزة وأشعلوا فيها النيران، وقالوا إنها السبب في المجون والخلاعة ونشر الأمراض الاجتماعية. [الجمهورية، 14 محرم 1427هـ]
المبادرة الوطنية للإفراج عن المعتقلين
أسست مجموعة من الصحفيين والمفكرين المصريين ينتمون إلى مختلف التيارات الفكرية والسياسية، مبادرة وطنية من أجل الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وأصدرت المبادرة بيانها الأول الذي طالبوا فيه بالتدخل لإنهاء مأساة الآلاف من المعتقلين، داعين الحكومة إلى تدشين مبادرة للإصلاح وفتح صفحة جديدة مع كل قوى المجتمع واحترام القانون وأحكام القضاء، وقد وقع على البيان ثلة من المفكرين من بينهم: د. عبد الوهاب المسيري، والمستشار طارق البشري، والدكتور محمد عمارة، ونقيب الصحفيين جلال عارف، ومجدي الجلاد رئيس تحرير صحيفة المصري اليوم، وأبو العلا ماضي وكيل حزب الوسط تحت التأسيس، والدكتور إبراهيم الخولي، والشيخ حافظ سلامة، والدكتور محمد حبيب نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، ومجدي حسين الأمين العام لحزب العمل، والدكتور عصام العريان القيادي في جماعة الإخوان، والدكتور محمد السيد سعيد نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات، والمحامي ممدوح إسماعيل، والدكتور ضياء رشوان الخبير في مركز الأهرام للدراسات، والدكتور عبد العظيم المطعني الأستاذ في جامعة الأزهر، والدكتورة هبة رؤوف في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والدكتور جمال حشمت القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، والمنسق العام للمجموعة هو الكاتب كمال حبيب، وآخرون.. وموقع المبادرة على الإنترنت هو: www.mobadara.org.
__________
شخصيات وراء الأحداث
دانيال بايبس:
هو كاتب أمريكي يهودي معاد للإسلام يبلغ من العمر 54 عاماً تقريباً، وهو مدير معهد الدراسات الخارجية في فيلادلفيا، وعينه الرئيس الأمريكي جورج بوش عضواً بمجلس إدارة المعهد الأمريكي للسلام، ومن مؤلفاته كتاب «الإسلام المسلح يصل أمريكا» (2003) ، وشارك في إعداد البرنامج الوثائقي الذي يحذر من المسلمين في الولايات المتحدة بعنوان «الجهاد في أميركا» مع اليهودي المتعصب ستيفن آمرسون مؤلف كتاب «جهاد أمريكي: الإرهابيون الذين يعيشون وسطنا» واثنين من الأكاديميين العرب هم د. فؤاد عجمي الأستاذ في جامعة هوبكينز، ود. خالد دوران.
ويقول بايبس إن 10 - 15% من شعوب العالم الإسلامي هم قتلة محتملون، وهو يعارض فكرة تقسيم الإسلاميين إلى معتدلين ومتطرفين، ويؤكد أن الجميع متطرف، كما يشارك في مؤتمرات أقباط المهجر التي يتهمون فيها مسلمي مصر بالتطرف.
ويصدر دانيال بايبس دورية بعنوان «الشرق الأوسط» تتبنى مواقف اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، وتوجد الدورية في معظم المكتبات العامة الأمريكية.
وبايبس على علاقة قوية بالمسلمين المرتدين في أمريكا أمثال: مدعي النبوة رشاد خليفة، وأحمد صبحي منصور الذي حكم علماء الأزهر بردته، ويستغل هؤلاء في التلصص على المسلمين وأنشطتهم، كما اعترف بعلاقته القديمة مع الرسام الدانماركي صاحب الرسوم المسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام، ويتلقى دعماً قوياً من بول وولفويتز مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق، وجيمس وولسي مدير المخابرت الأمريكية الأسبق.
وقد أسس موقعاً على الانترنت عام 2000 م أسماه «كامبس واتش» ، ينشر فيه ملفات عن كل أستاذ جامعي يجرؤ على انتقاد سياسات إسرائيل ويعتبره معادياً للسامية.
وهو يقول إن: «الإسلام يجرد أتباعه من كل جوانب هويتهم ويحولهم باختصار لأكلة لحوم بشر قتلة» ، ويقول ـ فض فوه ـ عن النبي الكريم #: «لو كان محمد حياً اليوم ويقدم رسالته الجديدة الآتية من عند الرب في الإعلام، لأمكن التعرف عليه وتلقيبه بالمجنون، ولتم سجنه أو وضعه بالمستشفى» ، ويصف دانيال بايبس ـ المجنون بكره الإسلام - المسلمين بأنهم: «أناس داكنو البشرة يطبخون طعاماً غريباً ولا يهتمون بالنظافة الشخصية» .
__________
بشائر
بشرى من جنرال يهودي
يحكي الروائي اليهودي (حاييم هنجبي) عن الجنرال الإسرائيلي موشيه كلاو ـ وهو أحد المقربين من شارون ـ أنه يشعر بالقلق الشديد الذي يحرمه من النوم على حد قوله، وذلك بعد أن تعددت قراءته لملابسات موقعة (حطين) التي انتصر فيها العرب والمسلمون، يقول كلاو: إن حال العرب قبل معركة حطين لا تقل سوءاً عن حالهم الآن، ومع ذلك حققوا نصراً غَيّر من شكل المنطقة، إنني أخشى أن تعود الكرَّة مرة أخرى. [مجدي محرم.. موقع دنيا الوطن، 11/2/2006م]
البعث الإسلامي يتحدى البعث القومي
رغم مرور عشرات السنين على سيطرة حزب البعث «العلماني الإلحادي» على مقاليد السلطة في سوريا، فان المجتمع السوري يشهد حالياً «يقظة دينية» ، وتشهد المساجد يوم الجمعة إقبالاً كثيفاً غير معهود من قِبَل الشبان خاصة، كما تُقبل النساء على دروس خاصة لتعليم القرآن، ويزداد انتشار ارتداء الحجاب يوماً بعد يوم، ويقول نائب برلماني سوري إن: «نحو 30% من السوريين يشاركون في صلاة الجمعة في مساجد سوريا التسعة آلاف، وفي حال أدخلنا في التعداد زوجات وأطفال هؤلاء فإن العدد يصل إلى 12 مليوناً» من أصل عدد سكان سوريا الـ 18 مليوناً.
وتمتنع مطاعم كثيرة عن تقديم الخمور، وتخصص مكاناً للعائلات، وتراجعت المكتبات العلمانية شيئاً فشيئاً أمام المكتبات الإسلامية المتخصصة ببيع كتب الفقه والشريعة، كما تشهد مدن حلب وإدلب وحمص حركة متزايدة للنشاطات الثقافية والخيرية الإسلامية، وتُشاهَد على واجهات المحلات في شوارع هذه المدن صور لعلماء سوريين كبار من القرنين التاسع عشر والعشرين، كما تنتشر اللافتات التي تحمل شعارات إسلامية أو آيات قرآنية، وكالعادة فقد انبرى العلمانيون بمختلف أطيافهم يحللون سبب هذه الظاهرة الإسلامية، فيقول أحد الناشطين الشيوعيين: «إن تدهور الوضعين الاقتصادي والاجتماعي وانتشار الفساد والديكتاتورية يغذيان التيار الإسلامي ويقدمان له البيئة المناسبة للتوسع» ، ويقول محلل سياسي ـ أكرم البني ـ إن الدولة: «عبر إقفال الأبواب أمام الانفتاح السياسي لقطع الطريق على التيارات الدينية إنما شجعت الشبان على الوقوع في أحضان التيارات الإسلامية التي ازداد انتشارها» وتوقع البني أن «التيارات الإسلامية ستتراجع مع الانفتاح الديموقراطي» . [بتصرف عن العربية نت 30/1/2006م]
بشارة من أفغانستان
بثت قناة الجزيرة قبل ثلاثة أسابيع تقريباً برنامجاً وثائقياً عن الحرب الأمريكية في أفغانستان، وكشف البرنامج أن القوات الأمريكية جلبت معها حطاماً من مركز التجارة العالمي المنهار في نيويورك لتدفنه في أفغانستان كرمز على تحقق الانتقام، ولكن كثيرين فهموا الأمر على أنه مشابه لما حدث مع رسول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ إلى يزدجرد ملك الفرس، الذي حمَّل الصحابي وِقْراً من تراب على رأسه بقصد الإذلال، ولكنه اعتبر ذلك من البِشارة وقال لسعد: «أبشرْ أيها الأمير! فلقد أعطانا الله أقاليد ملكهم» .
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
3 «أنصح الجميع بعدم الاستخفاف بالتزام حماس الإيديولوجي، كما أنصح بعدم التوقع بقيامها بتقديم تنازلات عن مبادئها بسبب تسلمها للحكم» . البروفيسور الصهيوني، مائير ليتباك، المحاضر بالجامعة العبرية «يديعوت أحرونوت» . [19/2/2006]
3 «لا توجد لدى حكومة (أولمرت) أي سياسة للتعامل مع حركة حماس كرأس للسلطة الفلسطينية؛ فالقادم سيكون أسوأ طالما استمرت حكومتنا في عدم التعامل بالقوة مع حماس» ، عضو الكنيست وزير الداخلية الصهيوني السابق «عوزي لانداو» للقناة السابعة الإسرائيلية «قناة المستوطنين» . [6/3/2006]
3 «أولمرت شخصية مترددة ومتذبذبة، لا يستقر على قرار أو رأي، وانتخابه رئيساً للحكومة سيضع إسرائيل في خطر» . عضو الكنيست العمالي، حاييم رامون، للقناة العاشرة الإسرائيلية. [22/2/2006م]
أخبار
صفعة لشاس
«تلقى حزب شاس الديني صفعة قوية، عندما فشل في حشد الناخبين المؤيدين له، في أستاد «يد إلياهو» بتل أبيب، حيث دعا الناخبين الإسرائيليين لحضور كلمة الزعيم الروحي للحزب الحاخام (عوفاديا يوسف) ، الذي قال للحاضرين الذين لم يربُ تعدادهم على 7 آلاف شخص: «الجنة في انتظار كل من يعطي صوته لحزب شاس» ! [صحيفة معاريف العبرية 1/3/2006]
اغتصاب التلاميذ
تبين من بحث علمي جديد أجراه خبراء في الجامعة العبرية بالقدس خلال السنوات الثلاث الأخيرة أن كل تلميذ خامس في إسرائيل تعرَّض خلال العام الماضي لعنف جسدي قاسٍ أو لتحرش جنسي، وشارك في هذا البحث العلمي حوالي ثلاثين ألف تلميذ تتراوح أعمارهم بين التاسعة والسابعة عشرة. [موقع «وله نيوز» الإخباري العبري 24/2/2006]
نجل شارون.. يحكم الكيان
يقوم المستشار القضائي للدولة «ميني مزوز» بالتحقيق مع نجل رئيس الوزراء «عمري شارون» بتهمة استغلال منصب والده في تعيين مسؤوليين بكبار الوظائف بالوزارات والمؤسسات الكبرى، لدرجة أنه ورد في التقرير الذي يبحثه «مزوز» أن «عمري» كان هو الحاكم الحقيقي لإسرائيل في نهاية العام الماضي» . [صحيفة معاريف العبرية 6/3/2006]
__________
أخبار التنصير
حملات تنصير بدارفور
انتقد الوزير السوداني للشؤون الاجتماعية والثقافية في ولاية شمال إقليم دارفور، حملات التنصير التي تقوم بها المنظمات المسيحية تحت غطاء العمل الإنساني وقال: «إن مثل تلك المنظمات ركزت نشاطها التنصيري على المخيمات التي تؤوي مشردي الحرب الأهلية في دارفور» وأوضح «أن السلطات السودانية وضعت خطة عاجلة لوقف تلك الظاهرة والدفاع عن الإسلام» ، وكان الرئيس السوداني عمر البشير قد اتهم الغرب بدعم التنصير في دارفور ومنع المنظمات الإسلامية الإنسانية. [وكالة الأنباء السودانية: 28/2/2006م]
الحكومة العراقية تدافع عن مؤسسات التنصير
كشف مصدر عراقي مطلع لوكالة دعم الإخبارية بالقاهرة أن محاولات قام بها عدد من العراقيين داخل الحكومة الحالية لوقف حملات التنصير وخضوع جميع مؤسسات المساعدة الأجنبية للإشراف المباشر، كما تخضع حالياً كل مؤسسات المساعدات الإسلامية، لكن هذه الجهود باءت بالفشل، ورُفضت أي تدخلات في أعمال المؤسسات الأجنبية. [القاهرة ـ بغداد: دعم ـ 6/2/2006]
حجم التنصير في العالم الإسلامي
صرح د. علي السداوي الأستاذ بإحدى الجامعات الإفريقية عن مصادر كنسية موثقة عن ارتفاع شديد ومكثف في أعداد المؤسسات والهيئات التنصيرية العاملة الآن في الدول الإسلامية، وقال: إن عدد مؤسسات التنصير في العالم بلغ حوالي ربع مليون مؤسسة تنصيرية، تمتلك مائة مليون جهاز حاسوب، مقسمة على خمس وعشرين شبكة إلكترونية تتبع الكنائس الكبرى في العالم، تصدر مائة ألف كتاب للكرازة المسيحية سنوياً، وخمسة وعشرين ألف مطبوعة صحفية، بأكثر من مائة وخمسين لغة، وألفي محطة إذاعية، وخمسمائة قناة فضائية وأرضية متخصصة في التنصير، تعمل أغلبها في القارتين الأفريقية والآسيوية. وقال السداوي: إن المراكز والمعاهد والمحطات التي تتولى تدريب وتأهيل المنصرين على مستوى العالم الإسلامي، بلغ عددها مائة ألف. [القاهرة ـ دعم: 6 / 3 / 2006]
البابا يتنازل عن لقبه
كخطوة لتجاوز عقبة استئثار الكنيسة الأرثوذكسية بالعمل التنصيري في العالم الإسلامي عامة وفي المنطقة العربية على وجه التخصيص، قرر البابا الفاتيكاني بينيديكتوس التنازل عن لقب «بطريرك الغرب» ، ليتبقى له ثمانية ألقاب هي: «بابا الفاتيكان، أسقف روما، نائب يسوع المسيح، كبير أساقفة إيطاليا، رئيس أساقفة، متروبوليت الإقليم الروماني، السيد المطلق على دولة مدينة الفاتيكان، خادم خُدّام الله» .
وقد قام البابا بينيديكتوس بالتنازل عن هذا اللقب، راغباً بهذا أن يُزيل أية فكرة تدل على أن الكرسي الرسولي يمثّل: «كنيسة الغرب» أو أنها ـ ومن ثَم ـ منفصلة عن عقائد الكنائس الشرقية.
وأوضح الكرادلة أن بينيديكتوس قرر إزالة هذا اللقب بسبب ما وصلت إليه المحادثات مع الكنائس الأرثوذكسية حول موضوع «الرئاسة الباباوية (على الكنيسة الجامعة) » . [موقع زيد لأخبار العالم الكاثوليكي: 1 مارس 2006](223/26)
من للمساجد يا عراق؟!
مروان كُجُك
ماذَا يقولُ (الدانِمَرْكُ) وقد رأَوْا
مِن قومِنا ما فاقَ هاتيكَ الجَرائم (1) ؟
لم يحفظوا وُدّاً لِذي نَسَبٍ ولا
دِينٍ، وعاثوا بالمساجد والمحارِمْ
واستظهروا الحقدَ الدفينَ ولم يرَوْا
بإهانةِ القرآنِ مِنْ تأثيمِ آثِمْ
لا عُجْبَ؛ فالقرآنُ ليس كتابَهمْ
فكتابُهمْ يَدْعُونَهُ (قرآنَ فاطِمْ)
حَذَقوا فُنونَ الغدرِ، خانوا أمةً
قد صاغها المولَى لتصمدَ للقواصِمْ
فَبِعزَّةِ الموْلَى أَفِدْني! ما جرَى:
إن لم يكنْ كفراً فماذا أنتَ راجِمْ؟
ما كانَ ذا مِن مؤمنٍ مِنْ أهلِنا
أبداً، ولكنْ فِعلَ مَنْ للنارِ خادِمْ
دَعْهم فقد كُشِفَ الغطاءُ ولم يَعُدْ
من ساترٍ يُعْمي على غُفْلٍ وواهِمْ
بانوا كما ظُنُّوا مجوساً، نارُهمْ
تفنَى، ويبقَى الحقدُ في تلك الجماجِمْ
* * * * * * *
مَنْ للمسَاجِدِ يا عراقُ وقد غَدَتْ
نُهْبَى المجوسِ وطُعْمةً تُغري البهائمْ؟
عَجَباً لهم! أوَ يحسَبونَ الأمرَ أضْـ
ـحَى مُلكَهمْ والدهرَ للنيرانِ راغِمْ؟
أم يحسَبونَ جحافِلَ الإفْرَنْجِ تحْـ
ـمِي إفْكَهمْ، ونظلُّ نهدِلُ كالحمائمْ؟
أفَما يَرَوْنَ (الأمْرِكانَ) وقد غدَوْا
في حَيْصَ بَيْصَ يَؤُزُّهمْ صوتُ الضراغِمْ؟
ما يفعلونَ غَداةَ ينهزِمُ الفِرَنْـ
ــجَةُ أو يطيرُ الوهمُ في آتي المواسمْ؟
همْ يَعرفونَ ذُنُوبَهمْ عَدّاً، ولا
يَخفَى على حُرٍّ أسَى وَغْدٍ وهائِمْ
حُبُّ النبيِّ وآلِهِ دِينٌ يقو
دُ إلى الهُدَى لا للشنائعِ والجرائمْ
حُبُّ النبيِّ وآلهِ صِدْقٌ ومَحْـ
ـضُ حقيقةٍ لا بادِّعاءٍ أو طلاسِمْ
مَنْ أنتُمُ لوْ لم يُعِذْكُمْ غاصِبٌ؟
ما أنتُمُ لوْ لم يكُنْ في الدارِ جاثِمْ؟
سَعَّرْتُمُ نَارَ المجوسِ وفيحها
وفتحْتُمُ أُفُقاً من التثريبِ قاتِمْ
لم يكْفِكمْ جَلْبُ العدوِّ جهارةً
حتى وَلَغْتُمْ في الدماء بغيرِ حاجِمْ
* * * * * * *
يَا أيها الْمُوفُونَ عهْدَ عدوِّهمْ
والخائنونَ لكلِّ سَجَّادٍ وقائمْ
لن تُفْلِحوا أبداً ولن تَجْنوا الذي
تَرْجُونَهُ، حُلْمَ الأبالسةِ السوائمْ
إنَّ المساجدَ للذي خلقَ السما
واتِ الْعُلا الجبَّارِ، خَلاَّقِ العوالِمْ
إنَّ المساجِدَ من رياضِ الجَنَّة الْـ
ـعَلياءِ في أفنائها تُبنَى المكارِمْ
فيها رجالٌ يعبدونَ اللهَ لا الْـ
أمواتَ، بينَ مُسَبِّحٍ منهم وصائمْ
يا أيها الهِيمُ البغاةُ مَنِ الذي
قد ساقَكمْ سَوْقَ المجانينِ البهائمْ؟
تَشكو المساجدُ ضِغْنَكمْ؛ وسُعارُكمْ
حقداً يُصَبُّ بحِنكةِ العُلْجِ الأعاجمْ
لا يجتني هذي المآثمَ مسلمٌ
أبداً ولو شَذَّتْ به غُلُقُ المفاهِمْ
فتدبروا القرآن: هل في آية
نَدْبٌ إلى هدمِ العواصمِ بالقواصمْ؟
إلاَّ إذا كانت ضِراراً مُعْلَناً
تدعو إلى كفرٍ بَوَاحِ القصدِ آثِمْ؟
* * * * * * *
يا أيها الماضونَ في غَلْوائهم
عودُوا إلى دينِ النبيِّ وآلِ هاشِمْ
ما كان دَأْبُهُمُ الفسادَ وما جنتْ
أيديهِمُ يوماً على حِلٍّ وحائمْ
صلى عَلِيٌّ خلفَ صِدِّيقِ الهُدَى
وعلى خُطَى الفاروقِ قد شدَّ العزائمْ
ولِصاحبِ النُّورَيْنِ عاشَ مُسَدِّداً
ما كان يصرفُهُ عن التسديدِ ناقمْ
ما كان منكوساً ولا متأوِّلاً
أو باطِنيّاً قَيْنَ طاغيةٍ وظالِمْ
قَدْ عاشَ للإسلامِ غَيْرَ مُنازَعٍ
ما كان جَبَّاراً ولا خِبّاً مُساوِمْ
فَدَعُوا ادِّعاءَ طريقِهِ! ما كانَ مِنْ
أهلِ الخَنا أبداً ولا عينَ المهاجِمْ
__________
(*) مدير تحرير مجلة (آفاق ثقافية) afaqmagazine@hotmail.com.
(1) سِيقَ الشاعر إلى زيادة سبب خفيف (-5) على وزن القصيدة دون قصد، ولعل مردَّ ذلك لهول ما يجري في العراق من انتهاك لحرمة المساجد، وتحريق للمصاحف، وقتل متعمد لأهل السنة والجماعة أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه وأهل بيته، فعجز البحر الكامل ـ على وَسَاعته ـ عن استيعاب صور أهوالٍ لم يشهدها العراق منذ عهد هولاكو، والمؤسف حقاً أن الهولاكيين الجدد يدَّعون انتسابهم للإسلام!
للعودة للصفحة الرئيسة(223/27)
وقفة لُغوية مع معنى «الكوثر» ..
من معين إعجاز القرآن الكريم
سامي محمد هشام حريز
قال تعالى: {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] .
الكوثر في اللغة: هو من الكثرة، وهو المفرط في الكثرة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بِمَ آبَ ابنك؟ قالت: آبَ بكوثر، أي: بالعدد الكثير.
وهو كجوهر (الكثير من كل شيء) ، والكوثر: الرجل الخيّر المعطاء، كثير العطاء والخير وهو السخي الجيد. قال الكُمَيْت:
وأنت كثيرٌ يا ابن مروان طيّبٌ وكان أبوك ابْن العقائل كَوْثَرا
ويقال للغبار إذا سطع وكثر: كوثر (1) .
وأمّا معنى «الكوثر» في هذه الآية: فهو خاصٌّ بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكر له المفسرون ستة عشر قولاً أو أكثر، ولا يسع المقام في ذكرها هنا.
والموقف الصحيح للاهتداء إلى مدلول هذا اللفظ القرآني أن نرجع إلى:
ـ استعمال اللفظ في أصل اللغة.
ـ وإلى المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبالنسبة لاستعمال اللغة: فهو ـ كما فهمنا ـ مشتق من الكثرة، فهو دالٌّ على الكثرة المبالغ فيها.
وبالنسبة للمأثور دلّ على أن معنى «الكوثر» : نهر في الجنة. حيث إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر وعَدنيه ربي ـ عز وجل ـ في الجنة عليه خير كثير» (2) .
فلم يبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنهر فقط، بل نهر عليه خير كثير، فيكون المعنى: أعطيناك الخير الكثير، الزائد في الكثرة على العادة، ومن هذا الخير الكثير ما ادخرناه لك في الجنة، وهو نهر الكوثر.
فالتفسير المأثور واللغة: تطابقا على أن المعنى: الخير الكثير. وهذا الفهم سبقنا إليه الصحابي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال في الكوثر: «هو الخير الذي أعطاه الله إيّاه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإنّ الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنّة من الخير الذي أعطاه الله إياه» (3) .
وإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيّه -صلى الله عليه وسلم- فهو واجده حيثما نظر أو تصور، فمن ذلك:
1 ـ فضل الله عليه بالنبوة والرسالة.
2 ـ فضل الله عليه بإظهار الإسلام.
3 ـ فضل الله بالقرآن الذي أنزله عليه.
4 ـ فضل الله عليه بما حصل على يديه من المعجزات.
5 ـ فضل الله عليه بإجابته لدعوته.
6 ـ نور القلب والحكمة التي آتاه الله إياها.
7 ـ أولاده من أمته إلى يوم القيامة.
8 ـ بقاء ذكره في الملأ الأعلى، الذي يصلي عليه، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض؛ حيث يقترن اسمه باسم الله ـ تعالى ـ في الأرض والسماء.
9 ـ سنته الممتدة على مدار القرون في أرجاء الأرض.
10 ـ وجوب شرعه؛ فدينه فريضة لا يخرج عنه إلا خاسر، وشرعه هو الصراط المستقيم، من تركه فإن له معيشة ضنكاً في الدنيا ويحشر يوم القيامة أعمى.
11 ـ وما سوف يعطيه الله إياه في الآخرة ـ ممّا هو فوق علمنا ـ من المقام المحمود والشفاعة والوسيلة ...
12 ـ ومن جملة الكوثر: ما اختصه الله ـ تعالى ـ به من النهر في الجنّة، الذي طينته المسك، وآنيته عدد النجوم. وهذا النهر هو كوثر من الكوثر.
إنه الكوثر الذي لا نهاية لفيضه ولا حَدّ لمدلوله، ممتد من الدنيا إلى الآخرة.
فسبحان من اختار هذا اللفظ القرآني الْمُعجز في هذا الموضع الوحيد في القرآن العظيم!
__________
(1) السيّد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، مجلد (3) ، حرف الراء، فصل الكاف من باب الراء.. (كثر) .. (الكوثر) ، ص 517.
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب: (الصلاة) ، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة، (400/53) .
(3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب: التفسير، (4966) .(223/28)
الأساس الإلحادي للمفاهيم الغربي ة
د. أحمد إبراهيم خضر
الإلحاد كما يقول (القرطبي) : هو التكذيب. وأصل الإلحاد في لغة العرب هو العدول عن القصد، والجوْر عنه والإعراض، ويستعمل للإشارة إلى كل معوج غير مستقيم، وقيل: إنه الكفر والشرك.
والإلحاد نتيجة لازمة لحالة النفس التي استنفدت كل إمكانياتها الدينية، فلم يعد في وسعها أن تؤمن. والإلحاد في الغرب كما يقول (عبد الرحمن بدوي) يتجه مباشرة إلى «الله» وينكر الدين. وعلى هذا الأساس نجد أن المفاهيم الغربية: كالتنوير، والعقلانية، والنفعية، والعلمانية، والوضعية: التجريبية والمنطقية والإمبيريقية والبراجماتية والحداثة وما بعد الحداثة ... إلخ: كلها مفاهيم أساسها إلحادي، ومن ثم فهي غير محايدة. وهي شديدة التداخل بعضها مع بعض، وفدت إلينا من الغرب، وانفعل وتفاعل معها بعض باحثينا، رغم أنها جميعاً وبلا استثناء تصب في نهر واحد: هو معاداة الدين، ومحاولة فصل الأخلاق عنه.
التنوير كما يصفه (عاطف أحمد) : هو مركز الحداثة الغربية، وهو مرحلة من مراحل الفكر الأوروبي تميزت بالتأكيد على الخبرة والعقل الإنساني، وظاهرياً ليس في ذلك شيء، لكنه ارتبط بعدم الثقة بالدين، وبسلطة التقاليد، ورفض الوصاية الدينية على الفكر وشؤون الحياة. وارتبط التنوير أيضاً بالنشأة التدريجية للأفكار التي تبنتها المجتمعات الغربية: كالليبرالية، والعلمانية، والديموقراطية.
ينظر التنوير إلى الكائنات البشرية نظرة مادية، ويؤمن بقدرة الإنسان على تحقيق التقدم من خلال التعليم والبحث العلمي الهادف للسيطرة على الطبيعة؛ في الوقت الذي يُعلي من قيمة المنفعة في المجال الاجتماعي والأخلاقي. و «النفعية» هنا تقوم على مبدأ: أن اللذة أحسن وأفضل من الألم، والمنفعة هي السعادة الكبرى لأكبر عدد من الأفراد، والوصول بالسعادة إلى أقصى حد ممكن هو الهدف الأساسي والنهائي للجنس البشري، ولا يتم ذلك إلا عن طريق اللذة، فلا شيء مرغوب لذاته سوى اللذة، وليس هناك نوع من اللذة أفضل من الآخر. وترتبط النفعية «بالبراجماتية» وهي النظرية التي ترى الآثار الملموسة تجريبياً والمتضمنة في فكرة ما أو في قضية ما، هي التي تكوِّن معنى القضية، وتعتبر في نفس الوقت معياراً لصدقها. وتنظر «البراجماتية» إلى «المنفعة» على أنها المعيار الأساسي لكل قيمة.
أما أساس الفكر التنويري كما يرى (غانم) هنا فهي المقولة المعروفة: «لا سلطان على العقل إلا العقل» . وقد شغلت قضية العقل الفلسفة الغربية لألفي سنة؛ مما أدى إلى التطرف في تأكيد مكانة العقل وسلطته في المجتمع البشري، وأعلت من قيمته ليقف في مواجهة الإيمان والسلطة الدينية والمسائل الروحية، ويرى (سمارت) في الموسوعة الفلسفية أن روح عصر التنوير العقلانية النقدية وجهت ضد الحقائق المنزلة في الكتب المقدسة، ويرى أيضاً: «أن أفضل استخدام للعقلانية على المستوى الديني سلبي تماماً، وأنها في نهاية المطاف حركة مضادة للدين ذات نظرة نفعية، لا تلقي بالاً للقيم الأخلاقية، وتعطي وزناً أكبر للمناقشات العلمية والتاريخية المضادة للإيمان.
ومن هنا تحددت «العقلانية» على أنها مذهب فلسفي، يرى أن كل ما هو موجود مردود إلى مبادئ العقل. وتداولت المعاجم والدراسات هذه الصيغة العقلانية، وتكررت في مؤلفات مؤرخي الفكر في شتى اللغات، وأضحى مفهوم «التنوير» ملازماً لمفهوم «العقلانية» ؛ على أنها العمل بمبادئ العقل. سُمّي القرن الثامن عشر في فرنسا بـ (عصر التنوير) . واعتاد مؤرخو الفكر على أن يطلقوا لقب «فيلسوف» على كل من كتب بروح جديدة في هذا القرن، سواء أكانت كتاباته في التاريخ أو العلوم أو الدين أو القانون أو السياسة. وسُمّي هذا القرن أيضاً بـ «قرن الفلاسفة» كرديف لمن خالف الشائع، فترسخ معنى «العقلانية» على أنها بناء كل الإنتاج الذهني ممحوراً حول العقل وقدراته، وتحولت «العقلانية» لتعني الثقة الكلية بالعقل، والإيمان بقدرته ورفض ما عداه من سلطة بما فيها السلطة الدينية.
هناك تطورات اقتصادية واجتماعية رافقها تقدم نوعي في مختلف العلوم مهدت لظهور العقلانية والتنوير، ودفعت من ثَم إلى قطيعة شبه كاملة مع الدين. وحين حدث الانقلاب الواضح في أسس وآلية المنهج العلمي، وحين استتبت التجربة والاستقراء كمنهج في علوم كثيرة: كالرياضيات، والهندسة، والميكانيكا، انتقل هذا المنهج بتأثير التحولات الاجتماعية إلى الميادين الأخرى، وأهمها الدين والأخلاق، وأضحى أداة اليقين والعلمية، فشاع بعد ذلك «أن كل معرفة يقينية لا بُدّ أن تستمد يقينها من الواقع ومن قابليتها للتعميم عليه، وليس الدين» . ومن هنا طالب المفكرون الغربيون بتأسيس الأخلاق على العقل وحده وليس الدين، مؤمنين باستحالة التوفيق بين الوحي والعقل، وبين الإيمان والعلم، وبَشَّر بعضهم بدين جديد أسماه «الدين الطبيعي» الذي لا يقوم على وحي ولا هو بحاجة إلى هرمية كهنوتية، ولا إلى عناية إلهية أو تناسق مسبق، بل على ما فطرت عليه طبيعة الإنسان ووهبته من أخلاق تمكنه من إقامة مجتمع تحكمه الأخوة والمساواة.
وهناك بعض التعريفات التي تربط العقلانية «بالإمبيريقية» بصورة مباشرة، منها أن العقلانية هي كل تفكير، أو فعل واع منبثق من قواعد المنطق والمعرفة الإمبيريقية؛ حيث تترابط الأهداف ارتباطاً منطقياً، وتتحدد وسائل أكثر ملاءمة، وتعرَّف الإنبيريقية أو «التجريبية» : بأنها كل ما يقوم على الملاحظة والتجربة، ويُستخدم هذا المصطلح ليشير إلى الملاحظات والقضايا التي تعتمد أساساً على الخبرة الحسية، أو التي تشتق من الخبرات التي يتم التوصل إليها عن طريق «المنهج الاستقرائي» وهو العملية المنطقية التي تستنبط عن طريقها التعميمات من وقائع جزئية؛ أي الانتقال من الحكم والأمثلة الفردية إلى المبادئ العامة. وقد ذهب المفكرون الغربيون بـ «التجريبية» إلى جميع الحقول في العلم والمعرفة وحتى الدين، ثم إلى عمق ما يُسمّونه «بالوضعية» بحيث تكون الحواس والتجربة المصدر الوحيد لكل معرفة يقينية، مبقية للعقل القدرة على الربط بين معطيات الحواس وتذكرها، ويرون أن الأفكار تنشأ من هنا، ومن بين هذه الأفكار ما يطلقون عليه «فكرة الله» . ويرى مفكرو الغرب كذلك أنه لا وجود لقوانين أو معطيات قَبْلية سابقة على التجربة، والتكرار هو الذي يجعل المعرفة عادة، وعلى هذا الأساس لا يعترفون بكل المعطيات الدينية؛ لأنها تمثل معطيات سابقة على التجربة. وخلاصة ذلك: أنه لا حقائق معرفية في مجال الدين؛ لأن الحقائق الدينية في نظر مفكري الغرب هي موضوع إيمان وليست موضوع معرفة. وحسبنا هنا في بيان تعارض الإمبيريقية مع العقيدة ما اعترف به الباحثون العرب من أن الإمبيريقية تستند إلى ما يسود العلوم الاجتماعية من اتجاه علماني، ومن اهتمام بمسائل علمانية، ولأن «الإمبيريقية» تعتمد فقط على الأساليب الفنية؛ فإنها ترفض أي فكر، وترى بصراحة أن كل ما لا يخضع للتجريب فهو باطل.
و «الوضعية» : فلسفة ظهرت على يد المفكر الفرنسي «أوجست كونت» الذي ولد في «مونبيليه» لأسرة تقليدية كاثوليكية فقد الإيمان وهو في السادسة عشرة من عمره، وتحول إلى شاب متحرر يقرأ لـ «فولتير» ، وسعى لإبعاد الله باسم الدين، وكان يقول إنه مستعد لتقدير الله تاريخياً بشرط الانتهاء منه ومن ذكره نهائياً.
سَمّى الشيخ (مصطفي صبري) فلسفة كونت بـ «الفلسفة الإثباتية» ووصمها بالإلحاد. استغرق تأليف هذه الفلسفة من «كونت» اثني عشر عاماً، وخلاصتها: إحلال الروح العلمية محل الروح الدينية، وحل مشكلات الأخلاق والدين. رأى «كونت» أن فلسفته الوضعية لن تجعل هناك حاجة إلى الدين، كما حاول أن يصطنع أخلاقاً وضعية بعيدة كل البعد عن أي فكرة دينية، وخالية تماماً من أي مصدر إلهي. المطلق عند «كونت» لا وجود له في العالم، والمطلق الوحيد عنده هو أن كل شيء نسبي. والأديان عنده ولدت من الخزعبلات القديمة، وفي رأيه أن الدين يجب أن يبقى شكلاً، ولا بُدّ أن يتغير محتواه، ولهذا انشغل في أواخر عمره في صياغة دين عالمي بلا إله، أبقى فيه على الطقوس، وبدلاً من أن يتجه الناس إلى عبادة إله غير مرئي جعلهم يتجهون إلى الإنسانية لعبادتها، وأعلن نفسه البابا الأعلى للإنسانية. المرأة عند «كونت» هي الأجدر بالعبادة؛ لأنها محل لتحقيق أماني الصداقة والعشق. وتاريخ كونت الشخصي يكشف أنه أنه كان مصاباً بأمراض نفسية وعقلية، كما كان متزوجاً من بغي كان يقوم بالتستر عليها من الشرطة. كما يكشف تاريخه أيضاً أن فلسفته الوضعية هذه كانت ثمرة علاقته بامرأة سجين فرنسي أحبها، وكتب لها ما نصه: «لقد بدأت الوضعية الدينبة فعلاً في لقائنا الأول يوم الجمعة 16 مايو 1845م» . والحقيقة هنا هي أن الفلسفة الوضعية ليست أصلاً من بنات أفكار «كونت» وإنما هي من أفكار أستاذه (سان سيمون) الذي تتلمذ على يديه ست سنوات. عرَّف (سان سيمون) الوضعية بأنها تطبيق المبادئ العلمية على جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية وفهمها في ضوء هذه المبادئ فقط (لا الدين) ؛ فالدين عنده يمثل طفولة الإنسانية، أما العلم فهو إطار محقق وصادق من المعتقدات الراسخة التي تحل محل الدين، والعلوم الوضعية هي التي ستتصدى في نظره للنفوذ الرجعي للأديان. التفكير الغيبي عند (سان سيمون) تفكير مزيف يجبر العقول على الطاعة العمياء.
وتكمن خطورة (سان سيمون) في اتصالاته القوية باليهود والماسونية؛ مما يوحي بالدور اليهودي والماسوني في إطلاق هذه االمفاهبم. ويقول «جي نورمانو» الأستاذ في جامعة هارفارد كاشفاً النقاب عن خطورة هذا الرجل: «كل العلوم الاجتماعية خصبتها كتابات (سان سيمون) : الاشتراكية من صنعه، وهو في نفس الوقت نبي الرأسمالية. أثر (سان سيمون) في الاقتصاد والفلسفة والتاريخ والدين وللسياسة، وهو الذي صاغ مسودة عصبة الأمم في عام 1814م، وهو فوق ذلك كله يعتبر قائداً للنخبة الجديدة من السياسيين والصحفيين ورجال التقنية والصناعة، وهو المتحدث الرسمي باسم الجيل الذي يحمل روح التحديث الثائرة. كان (سان سيمون) منذ طفولته ميالاً إلى التحرر من الدين الذي رأى فيه اختراعاً قامت به الإنسانية، وكان يرى أن الإنسان هو الذي اخترع الله مدفوعاً بدوافع مادية، وأن فكرة الله ناتجة عن دورة السائل العصبي في المخ. (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً) (1) .
أثرت الفلسفة الوضعية على الإسلام والمسلمين تأثيراً مدمراً؛ وقد انخدع بها بعض شيوخ الأزهر، ولم يعرفوا كنه حقيقتها. امتدحها الشيخ (فريد وجدي) ، وكانت وراء كتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) كما أنها كانت وراء أفكار (طنطاوي جوهري) ، ولا نعتقد أننا نجانب الصواب إذا قلنا إنها كانت أحد المعاول الرئيسة في القضاء على الخلافة الإسلامية بعد أن تبنتها جمعية (الاتحاد والترقي) في تركيا التي آمنت بمبدأ الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية وهي الدعامة التي تغلغلت بها الفلسفة الوضعية إلى الشرق. رحبت المحافل الماسونية، وخاصة محفل «سلانيك» بإيطاليا بجمعية (الاتحاد والترقي) وكانت جلسات هذه الجمعية تعقد في غرف هذه المحافل التي يستحيل على الجواسيس أن يصلوا إليها.
أما «الوضعية المنطقية» كما يصفها (محمد المياري) فقد تطورت من وضعية كُوِّنت وتأسست على يد جماعة تسمى بـ «جماعة فيينا» . وما يهمنا من هذه الفلسفة هو عداؤها للدين الذي بنطوي تحت محاربتها للميتافيزيقا؛ فهي ترفض لغة الميتافيزيقا، وتصفها بأنها لغة زائفة، يمكن تكذيبها، ولا تخرج عن كونها مجرد لغو، وتشكل أشباه قضايا، وليست قضايا، كما ترى أن الخبرة الحسية هي المجال الوحيد الذي يمكن أن تبحث فيه أي قضية والذي يمكن للإنسان أن ينهل منه أحكامه العملية، وما لا يرتد إلى الخبرة الحسية عند هذه الوضعية لا معنى له.
أما «العلمانية» فلا تحتاج إلى كثير بيان؛ إنها كما شرحها (شريف يونس) : ذلك المبدأ الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة وعن التعليم العام، وتحويل الدين إلى شأن خاص بالفرد، وكفالة حق الأفراد في تغيير عقائدهم كيفما شاؤوا. وتنطلق «العلمانية» من رؤية إنسانية غير دينية للعالم تحرر الفرد من الخضوع لما هو غيبي ومطلق. ويرى (محمد الحارثي) : أن مفهوم فصل الدين عن السياسة هو المفهوم السائد للعلمانية عند العرب. إلا أنه يوضح أن العلمانية الآن تحاول أن تظهر أنها ليست منكرة لوجود مسلَّمات دينية بمعناها الشمولي. ويوضح (الحارثي) كذلك: أن الخطاب العلماني في منطقتنا العربية مساير للخطاب السياسي، وهو خطاب موجه في أساسه إلى عقلنة المجتمع فكرياً، واجتماعياً، وسياسياً. وكان هذا من أبرز الأسباب التي أدت إلى إثارة الخطاب الديني وحوَّلته إلى خطاب تصادمي مع الخطاب العلماني في المنطقة العربية، وخاصة أن العلمانيين كانوا قد اتجهوا إلى وسيلة ما يسمى بـ «بنقد التراث من داخله» بقصد تفعيله في تجديد الفكر العربي، كما انصب على ما يُسَمّى «بفقه الواقع» من تلك المواد التراثية وعدم استصحاب «فقه النص» بل كانوا يحاكمون فقه النص. كما كانوا يقابلون بين الواقع بكل مدخلاته المحلية والخارجبة وبين التراث والنص اليقيني بصفة خاصة، تمهيداً لما يُسَمّى «بأنسنة الدين» ؛ أي اعتباره إنسانياً منقطع الصلة بالله، وعد التراث جميعه المقدس، وغير المقدس منتجَ الخبرة الإنسانية.
أما «الحداثة» فمن أبرز صفاتها عدم القدرة على تعريفها، حتى إن الحداثيين أنفسهم أخفقوا في تحديد مفهوم دقيق لها، وعرَّفوا الحداثة بعد الجهد بالحداثة. ظهر المفهوم أولاً مرتبطاً بفن العمارة في عام 1945م؛ حيث كانت تعني الخروج على كل ما هو نمطي ومألوف برؤية ثورية تعيد صياغة العمارة؛ باعتبارها نشاطاً فنياً وإنسانياً، يتمتع بحرية تامة، ولا تحده قيود. ثم امتد المفهوم كغيره من المفاهيم إلى ميادين الحياة الأخرى، فأعيد تعريفه ليعني: وجهة نظر خاصة تدور حول إمكانات الحياة الاجتماعية البشرية، تجد جذورها في التنوير، وتتأسس على الإيمان بالتفكير العقلاني، ومن ثم تنظر إلى الحقيقة والجمال والأخلاق كحقائق موضوعية يمكن اكتشافها ومعرفتها وفهمها من خلال التفكير العقلاني والوسائل العلمية، وليس عن طريق الدين.
المجالات الثقافية المختلفة من المنظور الحداثي تتمايز ويستقل بعضها عن بعض استقلالاً تاماً؛ بحيث ينفصل كل مجال عن غيره، ويضع لنفسه معاييره حسب طبيعته ذاتها، وليس من أي شيء خارجها؛ بحيث يكون هناك تمايز واضح بين الثقافة العلمانية والثقافة الدينية. وهذا يعني أنه لا ارتباط بين الدين من ناحية، والتعليم أو الفن أو السياسة أو الاقتصاد من ناحية أخرى، فلا يستطيع الدين أن يفرض معاييره على الفن أو السياسة أو الاقتصاد. وتؤكد الحداثة هنا على الأخلاق بصفة خاصة، وترى أنه لا يجب أن تستند إلى الدين وألا بفرض الدين معاييره عليها؛ لأنها من المنظور الحداثي تقوم على قوانين الطبيعة أو العقل.
ومن ناحية أخرى تعرِّف «الموسوعة البريطانية» الحداثة بأنها: حركة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، تدعو إلى إعادة تفسير التعاليم الكاثوليكية التقليدية في ضوء النظريات التاريخية والفلسفية والنفسية، وتدعو إلى حرية الضمير، وترى أن العهدين القديم والجديد مقيدان بزمانهما، وأن هناك تطوراً في تاريخ الديانة الإنجيلية. تبنّى المثقفون العرب هذا المفهوم للحداثة، واعترف بعضهم بعدم فصل الحداثة العربية عن الحداثة الغربية، ونظروا إلى الحداثة على أنها وحدة متجانسة مشعة عالمياً من الغرب، ولهذا حاولوا إسقاط الفهم الغربي للحداثة على الإسلام والقرآن؛ فقاموا بتفسير الإسلام في ضوء النظريات التاريخية والفلسفية والاجتماعية التي تقوم أصلاً على أساس إلحادي فوقي للدين، كما نظروا إلى الإسلام والقرآن على أنهما مقيدان بفترة تاريخية معينة لا تمتد إلى غيرها، وقام العديد منهم بإحداث ما يُسَمّىه بـ «الإصلاح والتجديد» في الإسلام وفق هذه النظريات، مطلِقاً لنفسه حرية التفسير دون أدنى التزام بأي ثوابت عقدية. وتعبر «الموسوعة الأمريكية» عن هذا الموقف العدائي للحداثة من الدين بصورة أشد وضوحاً فتقول: «إن الحداثة نظرة تقوم على الاقتناع بأن العلم والتقدم العلمي الحديث يتطلب إعادة تقويم أساسي للعقائد التقليدية» ، ومن ثم لا ينظر إلى الدين على أنه صياغة دقيقة لسلطة جديرة باعتماد وقبول الحقائق المنزلة من الله، وإنما ينظر إليه على أنه مقولات لمشاعر وخبرات دينية عاشها بعض الرجال عبر حقبة تاريخية معينة، وعلى هذا الأساس تكون الحقائق الدينية عرضة لعملية تطوير مستمر كجزء من الخبرة المتقدمة للجنس البشري. وتستلزم هذه العملية إدخال مفاهيم عديدة وجديدة كشيء ضروري للتعبير عن الفكر والتقدم الحديث؛ فالوحي مثلاً في مفهوم الحداثة مجرد خبرة حسية لمجموعة حقائق عن الله أكثر منها موضع اتصال لحقيقة شاملة من الله. أما موسوعة «نيو كولومبيا» فهي ترى أن الله ـ تعالى ـ في «مفهوم الحداثة» ليس فوق الوجود المادي. ويقرّ (جون ديوي) في «الموسوعة الأكاديمية الأمريكية» بأن مصطلح «الحداثة» في العصر الحديث استخدم لنقد الدين بصفة عامة. وبمعنى آخر: تميل إلى الفرار مما يسمى «بالدوجما» ، وتفتح المجال للعقل للتمحيص والوصول إلى اليقين. كما تنطوي الحداثة على فكرة «نسبية المعرفة» ، وترفض النظرة التي ترى أن العلم يقوم على أساس صلب من الحقائق المتيقنة التي يمكن للحواس ملاحظتها.
ومن أبرز المثقفين العرب الأحياء الذين تبنوا هذه النظرة للحداثة (حسن حنفي) أستاذ الفلسفة الإسلامية. انعكس هذا التأثير على العديد من الأفكار التي تُخرج من يعتقدها ـ وهو يعلم ويقصد ـ من دائرة الإسلام. دعا «حنفي» إلى إخضاع القرآن للنقد وللمنهج النقدي مثلما فعل (أسبينوزا) مع التوراة والإنجيل، ورفض تفسير قوله ـ تعالى ـ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] بأنه حفظ للنص، معلقاً بأن هذا التفسير «نظرة لاهوتية صرفة تهرب من النقد، وتلجأ إلى السلطة الإلهية» . الله عند (حسن حنفي) وظيفة وليس رباً، الله هو التقدم، والصلاة والصيام ليست عبادات معقولة، الإيمان التقليدي بالله وملائكته وكتبه ورسله هو إيمان ميت، الإيمان الحقيقي عنده هو الإيمان بالتقدم ومصلحة الشعوب. «الدين» عند (حنفي) هو العمل وليس الاعتقاد، الشك في العقيدة ليس بخطيئة؛ لأن الدين في رأيه مرض نفسي، واهتزاز شعوري، وارتجاج في المخ، وهوس واضطراب، ولهذا يجب تحويله الى إيديولوجية (1) .
ويرى (محمد الحارثي) في تحليله الدقيق لتأثير الحداثة الغربية على الخطاب الحداثي العربي، أن (طه حسين) هو المؤسس الحقيقي للخطاب الحداثي العربي وواضع منطلقانه الفكرية؛ نظراً لرؤيته الشمولية لقضايا التحديث في العالم العربي، ولروحه العلمية الناقدة وقدرته على التحاور، واعتداده بالذهنية في المنهج العلمي، ولطرحه الصريح لآرائه التي رأى أنها إصلاحية والتي لا تقلّ جرأة عن آراء «قاسم أمين» وكذلك لأثره على من أتوا بعده، ولهذا يراه (الحارثي) صوتاً مفرداً في مجموعة أصوات من النخبة.
أما العناصر الواضحة في أصول الخطاب الحداثي العربي عند (طه حسين) فهي: التشكيك في المقدس، والتشويش عليه، والدعوة إلى التحول من فكر قديم إلى فكر حديث يحكمه شرط المعاصرة، يقوم على نشاط العقل العملي، ويعتمد البرهان؛ مما يسهم في قطع الوشائج بين العلم والدين إذا أريد للعلم أن ينجح، وإعادة قراءة النص الديني من خلال معطيات العصر؛ من حيث مواجهة النص الديني بالواقع. كان (طه حسين) يقول نفس ما قاله الغربيون من أن الإسلام كان متأثراً بالتوراة والإنجيل، فاتّهم القرآن بأنه قد تعمد طمس ذكر الأديان السابقة. ورأى أن القصص القرآني يحتمل أكثر من فهم، وأكثر من توجيه قرائي. ورأى كذلك أن العرب ليست لديهم القدرة على الابتكار، وأن غير العرب هم الأقدر على صنع المدنية. وأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا يصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول. وأن نظام الحكم، وقيام الدول وتكوينها يقومان على المنافع العملية قبل أي شيء آخر، وعلى هذا الأساس يكون الدين شيء والسياسة شيء آخر، وهذا هو ما تقوم عليه الحياة الحديثة في أوروبا.
كان (طه حسين) كما يقول (الحارثي) يعتد بالصوت الأحادي، ويصادر ما عداه، ويطرح كل قيمة ثابتة. من هنا اكتسب مفهوم «الحداثة» شكلاً جديداً غير ذلك الذي كان عند القدماء الذين نظروا إليها على أنها «التجديد» بمعنى «تنبيه الناس لما غفلوا عنه من أمور دينهم» كما جاء في الحديث: «يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد على الناس أمر دينهم» . حوَّل (طه حسين) مفهوم «الحداثة» ليصبح «البحث عن طرائق التحول من معرفة إلى معرفة، ومن مدنية إلى أخرى» . ويذكر (محمد قطب) أن (طه حسين) لم يتخلَّ عن آرائه هذه حتى عام واحد قبل وفاته.
حين نقل الباحثون العرب مفهوم الحداثة الغربي إلى المنطقة العربية لم يفرغوه من مضامينه الأيديولوجية المتمثلة في فلسفة التنوير الفرنسية التي كانت ترى «أن الهدم هو طريق البناء، وأن هذا الهدم ينبغي أن يبدأ من رفض المقدس أياً كان مصدره، وتمجيد الحقيقة العلمية» ولهذا كانوا يروِّجون لمضامين مسّت المسلَّمات، وهزت الخصوصيات اليقينية، وتستَّر بعض منهم وراء الأدب والشعر والنثر لزعزعة اليقيني في الذاكرة العربية، وتحويل الذائقة العربية عن تراكماتها الحسية التي تأصلت منذ أكثر من خمسة عشر قرناً؛ فاعتبر بعضهم ـ كما يقول الحارثي ـ الكتابة القرآنية نصاً لغوياً خارجاً من كل بُعْد ديني، ويجب أن يُقرأ كما يُقرأ أي نص أدبي، وحاولوا إعادة الخطاب الشعري العربي؛ بحيث يتمرد على الماثل من القيم عن طريق الخروج على ضوابط البيان العربي وقوانين اللغة المعيارية في نحوها، وصرفها، وبلاغتها، ثم تُستغل في تعضيد دعاوى التغيير في نمط التفكير، وفي أصول المرجعية العربية.
أصبحت «الحداثة» وفقاً لهذه الغايات رفضاً صريحاً للقديم، وانقطاعاً عنه؛ فكل قيمة تراثية دينية وغير دينية، لغوية وإيقاعية ومعرفية، وأدبية لا بُدّ من رفضها، للوصول إلى التغيير في الفكر وفي الحياة، وهو تغيير لا يقتصر على هدم تقاليد الأدب العربي، واستنبات تقاليد جديدة، ولكنه دعوة إلى تغيير شمولي في مناشط الحياة جميعها وفقاً لمبدأ «الهدم طريق البناء» .
أما «ما بعد الحداثة» التي وصفها منتقدوها كما يقول (السيد إبراهيم) : بأنها هَوَس عارض، أو اختراع خلاَّب اخترعه أهل الفكر بحثاً عن خطاب جديد يُكسبهم امتيازاً ثقافياً؛ فهي كما عبر عنها (عاطف أحمد) نقلاً عن «وبستمر سيدمان» : اتجاه فكري يرفض الحداثة، كما يرفض النظريات والأنساق التفسيرية الكبرى (ويدخل الإسلام تحت هذه الأنساق بالطبع) التي تحاول تفسير كل الظواهر، وتتنبأ بالمستقبل الإنساني وتصنعه، وتعتبر أن ذلك هو الذي يحقق التحرر والتقدم. وتمارس (ما بعد الحداثة) تفكيرها ـ مثلها مثل الوضعية المنطقية ـ عبر نطاق اللغة؛ على اعتبار أن اللغة هي كل شيء، وهي لا تنظر إلى الظواهر على أنها قائمة في الواقع وإنما تبحث في الصياغات اللغوية ذاتها المتعلقة بالواقع الذي لا يتجاوز نطاقها. وتشرح (خالدة تسكام) هذه الجزئية بقولها: إنه ينظر إلى مفهوم اللغة التقليدي على أنه أسطورة تنطوي بداخلها على شيء غامض، هذا العنصر الغامض في اللغة هو العنصر الميتافيزيقي. وبصورة أوضح: إذا طبقنا ذلك على ثقافتنا العربية؛ فإن ما تريد «تسكام» أن تقوله صراحة هو: تحرير اللغة العربية من الأسطورة الميتافيزيقية، وبعدها يتم إزالة هذه الأسطورة تماماً؛ أي: الدين، ومن هنا نجد تفسيراً لكل محاولات الباحثين العرب في مهاجمة اللغة العربية ومحاولة الوثوب على قواعد الصرف والنحو والبيان العربي أملاً في تحريرها من الدين الذي يستبدلونه بمصطلح الأيديولوجية.
وينفي اتجاه (ما بعد الحداثة) وجود معانٍ أو حقائق معينة، يعمل التفكير على اكتشافها، بل ترى أن ما نتعامل معه على أنه حقائق ومعانٍ إنما يتمثل في الطريقة التي نفكر فيها، والتي هي دائمة التغير والاختلاف. ويحتفي هذا الاتجاه احتفاءً خاصاً بالاختلاف وبالجزئي، وما هو يومي، وبالرغبة والجسد، والممارسات الحسية عموماً، وبالصور المباشرة والحضور المباشر للأشياء الذي ينطوي على غياب أية حقائق وراءها. ويرفض اتجاه ما بعد الحداثة القول بوجود أساس أولي وثابت لا يقبل النقض يرتكز عليه الفكر. وقد عبر عن ذلك «نيتشه» في مقولته المشهورة: «موت الحقيقة المطلقة» أو «أن الله قد مات» تعالى الله عما يقولون. شرح الباحثون هذه المقولة بقولهم: «إنها مجاز، أريدَ به أنه قد ضاع الأساس الذي يضمن لأي مقولة أن تكون مبنية على الحق، ولا يوجد أساس يمكن أن يقال به: هذا خطأ، وهذا صواب» .
ويُعتبر (جاك دريدا) أبرز فلاسفة (ما بعد الحداثة) المعاصرين، وقد رحل عن هذه الدنيا منذ بضعة أيام، وهو من أكثر الفلاسفة المعاصرين تأثيراً على الباحثين العرب. ويُسمّى بفيلسوف التفكيك أو التقويض. وخلاصة فلسفته التي قام الباحثون العرب بتطبيقها على النصوص القرآنية هي: (لا حدود فاصلة بين النص والتفسير) مما يعني تقويض مرجعية صاحب النص من جذورها، بمعنى أن صاحب النص لا يستطيع أن يفرض على النصوص المعاني التي يريدها؛ فالعقل يجدد النصوص على نحو دائم، والنصوص ليست إنتاج أصحابها وحدهم؛ فهي تتقاطع مع نصوص أخرى لها هيمنة عليها على أنحاء لا يمكن أن نميط عنها اللثام، والتفكيك هنا هو استراتيجية من شأنها أن تثير أسئلة لا تهدأ حول النصوص، ومهمتها إنكار أن أي نص له وجود ثابت ومستقر. وقد وضعت «تسكام» في ترجمتها لما قاله «رافيندران» عن «دريدا» ولما شرحه (السيد إبراهيم) عن فلسفة «دريدا» النقط فوق الحروف بإعلان البُعد الإلحادي لهذه الفلسفة. تقول (تسكام) : تعريف التفكيك بأنه رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط، وأنه تحدًّ لما هو أخلاقي؛ إنه الانغمار في الحياة الدنيوية، إنه يعني اختفاء الرب ... الحقيقة فَبْركة وخداع كبير ... التفكيك يمتد إلى كتبنا المقدسة، لا يعترف بشيء اسمه كتاب ... شرع (دريدا) في إطاحة الأديان عن عروشها في ممالك مثلت فيها حصانات، وفرت الحماية للمفاهيم الميتافيزيقية.. ينبغي تحرير الذهن من الضغوط والضوابط التي فرضت باسم الرب أو الأديان ... » . ولبيان تأثير (دريدا) على الباحثين العرب، ومن ثم هجومهم الشرس على الدين ننقل هنا فقرة واحدة لـ (محمد شقرون) يقول فيها: «إن ضرورة تفكيك الدين من أجل التحرير الضروري لمجال الفكر؛ وذلك لإنتاج تأويل علمي عن الاجتماعي لم تطرح بصراحة وبجرأة في الوطن العربي كضرورة واضحة لممارسة العلم بصفة عامة» .
هذه هي أبرز المفاهيم التي يتغنى بها ثلة من المثقفين العرب في أيامنا هذه، وهذا بيان للأساس الإلحادي الصارخ فيها، وبيان كذلك لمدى وحجم تأثيرها على هؤلاء الصنف من المثقفين، ودَوْرهم في هدم المسَلّمات العقدية وما يرتبط بها عند المسلمين.(223/29)
والت ديزني.. والجانب الطفولي في الحرب الإعلامي
جمال الحوشبي
أخذت أقلب عدداً من البطاقات الجذابة الصغيرة ذات الصور الملونة التي قامت شركة ديزني بطرحها مؤخراً لاجتذاب الأطفال؛ ترويجاً لعدد من أفلامها الكرتونية المدبلجة. ولسابق معرفتي بهوية هذه الشركة وتاريخها الطويل في استفزاز المسلمين؛ من خلال أفلامها ومعارضها ومهرجاناتها التي يغلب على طابعها الهوية الصهيونية، رجعت إلى مشروع بحث موضوعي قديم قمت بإعداده ثم توقفت عنه لانشغالي بغيره.
بدأت فكرة المشروع الأولى في أعقاب مشاهدة مباشرة لفيلم من أفلام ديزني المدبلجة، قرأت من خلاله رسالة واضحة ربما خفيت على بعض المشاهدين، ولقد كانت مشاهدة موضوعية هدفت منها إلى الخروج بنتائج موضوعية ـ كذلك ـ تحدد الإطار العام للعقلية التي تقف خلف هذه الأفلام، والرسالة التي تحرص إدارة الشركة على إيصالها للمشاهد بالأسلوب الذي تراه مناسباً بحسب الظرف والمرحلة. وحتى تحكم على عملٍ ما فإنه يجب عليك ألا تقف عند حدود الانبهار بتفاصيله الكثيرة المشوِّقة.. فقط اخرج من دائرة الحدث، وتجرد عن مغريات الإثارة، ثم انظر من بُعد للعمل كله مع اصطحاب عدسة مكبرة لترى تفاصيل بعينها تقودك إلى الحقيقة. وإليكم هذا المثال من خلال عرض لذلك الفيلم الموجه بأهدافه الصهيونية، والذي تتصدر الدعاية له تلك البطاقات الملونة التي تتداولها تلك الأيدي البريئة في مدارسنا ومنتدياتنا العامة.
- (حياة حشرة) .. وملحمة صراع النمل مع الأشرار!!
قرية مسالمة من النمل تعيش بسلام حياة الجد والنشاط، وتدير أمورها الخاصة بـ (ديمقراطية) واحترام، وانسجام وتعاون، تظللها شجرة سَرْو كبيرة على ضفاف الوادي السحيق المحيط بها فوق ربوة عالية، وتُحْدِق بها الخيرات من كل مكان. شيء واحد يقلق هذه القرية المسالمة.. إنه سرب من الجراد الأشرار الهمجيون القادمون من الصحراء القريبة، أولئك الذين لا يعرفون معنى للديمقراطية، فقائدهم ديكتاتوري عنيف، يطبل إعلامه من حوله ـ جرادة خرقاء تهذر كثيراً ـ ممجداً لكل قرار صائب يتخذه ذلك القائد. أما بقية السرب الذين يقودهم فهم حشرات بُلْهٌ يسيرون خلفه، وهم ـ بحسب الفيلم ـ لا يملكون دفعاً ولا رفعاً، ولا يهمهم سوى شهواتهم التي يحصّلونها من جراء السير خلف الزعيم والتسبيح بحمده، وتأييده في أعقاب كل قرار يتخذه. إنهم جميعاً زمرة جراد متوحشين يُغيرون على جيرانهم ـ المسالمين ـ.. ينهبون خيراتهم، ويرعبون صغارهم، ويتربصون بهم الدوائر كلما سنحت لهم الفرصة أيام الحصاد.
ولما لم تجد القرية ملاذاً من هذا الخطر المحدق قررت الاستسلام ـ لفرط ضعفها، ورغبتها في الأمن والسلام ـ واختارت دفع الإتاوات الظالمة لزعيم الجراد، وآلت على نفسها أن تحرم نفسها من الخيرات الكثيرة التي تقوم بجمعها بدلاً من المواجهة الخاسرة مع أولئك الأشرار. لكن مغامراً من بينها قرر السفر إلى الغرب باتجاه الحضارة والمدنية ليستعين بأفراد منها لقمع هؤلاء ـ الجيران ـ المعتدين. وتحت أضواء المدينة.. بمزيجها الاجتماعي وشوارعها المكتظة، وعماراتها الشاهقة ووهج النيون والملاهي الليلية؛ يتعرف ذلك الفدائي الصغير على الفريق المنقذ، ويتفق معه على مساعدة بني قومه من الهلاك، وحمايتهم من جيرانهم المعتدين. غير أن الطريف في الفيلم يكمن في تصوير فرقة الإنقاذ تلك بمجموعة من المهرجين الفاشلين، وبالفعل تتوجه الفرقة على متن طائرة خاصة ـ حشرة خنفساء كبيرة ـ إلى قرية النمل، وتبدأ باستعراض قوتها الجوفاء، والتخطيط للقضاء على الأعداء.
لقد كان ذلك المغامر فدائياً حقاً فقد أقنع أعضاء الفرقة بالصمود بعد أن كانوا متخوفين من مواجهة ذلك الجراد المتوحش، واستطاع أن يبتكر حيلة لإخافة أولئك المخربين وطردهم، ولكن الحيلة ظهرت، والمخططات انكشفت، ليأتي بعدها دور منقذ حقيقي آخر استطاع تفريق الجراد، والقضاء على زعيمهم.
ووسط حفاوة بالغة يتم توديع فريق الإنقاذ، وتظهر الدنيا في ختام الفيلم ـ كالعادة ـ بمظهر محبب، فالربيع يعود لنضارته، والزهور تتفتح من جديد، وتشرق الشمس بعد القضاء على أولئك الأشرار.
هذه القصة الرمزية باختصار هي مادة فيلم الرسوم المتحركة (حياة حشرة) الذي قامت بإنتاجه والت ديزني، ولو أن شركة أخرى سواها أخرجته لم يكن هناك مسوِّغ لتكلف البحث وتدقيق النظر في الرسالة التي يعرضها الفيلم خارج إطار التسلية والترفيه، غير أن استبدال هذه الرموز في الفيلم بما يقابلها في العقلية اليهودية، متصلاً بالواقع المحيط بدولة (إسرائيل) يحدد معالم الصورة الكاملة، فقرية النمل اختيرت بعناية ودقة متناهية لتمثل دولة (إسرائيل) بديمقراطيتها المزعومة، وكفاحها، وحبها للسلام، ورغبتها في الأمن. أما ذلك السرب الهمجي من جراد الصحراء الأشرار فتصوير للعرب المحيطين بها. وتظهر نفسية اليهود وغطرستهم وتعاليهم حتى مع من يقدم لهم يد العون في تصوير المنقذ الغربي بفريق من المهرجين المخفقين الحمقى الذين لم يعد دورهم في مواجهة العرب دور الفزاعة التي تخيف الغربان في حقل الذرة الكبير، إلى أن ظهر الحليف الاستراتيجي الجديد بقوة على مسرح الأحداث.
بهذه النظرة الكلية يمكننا رسم الإطار العام للفيلم، وإذا خضنا في تفاصيله الدقيقة فالمجال واسع، والآراء تتباين، والحديث عنه أكثر اتساعاً، فلربما كانت تلك العجوز الشمطاء الحكيمة في قرية النمل رمزاً لدور امرأة حقيقية في تاريخ اليهود على غرار «جولدا مائير» ، ولربما كان قائد الجراد الأشرار رمزاً لأحد رموز النكسة العربية من الثوريين العرب الذين يمتلئ بهم تاريخ الصراع قديماً وحديثاً، مع اعتقادي أن الفيلم أهمل نوعاً آخر من الجراد هو ذلك الجراد المهجن الذي انضم إلى فرقة الإنقاذ مؤخراً بعد أن أخذ على عاتقه حماية قرية النمل تلك من إرهاب أبناء جنسه!!
أما ذلك الشاب المخترع في الفيلم الذي أنقذ بني قومه؛ فشخصية حقيقية في تاريخ اليهود يُكِنُّ لها الصهاينة اليوم الإعجاب والتقدير ـ كما سيأتي ـ. وهكذا يتم استبدال الرموز واحداً تلو الآخر وفق دراسة دقيقة، بأسلوب ماكر، وبتوجيه غير مباشر لتكتمل معه الرسالة المطلوبة. ويكفي أن يدرك المشاهد الصغير ـ في هذه المرحلة ـ أن هناك قرية مسالمة تتعرض للاضطهاد والظلم والاعتداء من قِبَل جيرانها الأشرار، أياً كانت هذه القرية، ومهما كانت هوية أولئك الأشرار سواء أكانوا جراداً صحراوياً كما تُصورهم ديزني لمشاهديها الصغار، أو كانوا عرباً مسلمين إرهابيين كما تُصورهم لمشاهديها الكبار.
إنه غزو حديث ومطوّر هذه المرة، وحملة إعلامية جديدة تكمن الخطورة فيها من خلال جهلنا برسالتها الحقيقية الغامضة؛ وفي أننا نقتنيها بأموالنا، ونحتفي بها في أسواقنا لنفسد بها عقول أبنائنا وبناتنا!!
ومسلسل الصراع الدامي بيننا وبين اليهود قديم قِدم التاريخ، ومتجدد تجدد المستقبل، فأمة اليهود أمة ملعونة في القرآن، ناقضة للعهود، ولا تعرف للسلم معنى، وتسعى في الأرض فساداً. كما أنهم ـ كعادة الشعوب المستضعفة إذا تمكنت ـ لا يعرفون للرحمة معنى في تعاملهم مع من هم أقل منهم قوة وعتاداً، ويرتفع رصيد التأييد لقادتهم بدرجة الغطرسة والقهر والمجازر التي يسوم المستضعفين بها، والوعود الآثمة بسلب الحقوق، ونقض العهود، والقضاء على الشعب الأعزل. وما يحدث على أرض فلسطين المسلمة خير شاهد على ذلك؛ حتى أولئك الذين يسارعون فيهم خوفاً وطمعاً، ويقدمون لهم الولاء، ويعلنون أنهم الحريصون على أمنهم واستقرارهم؛ لم يسلموا من التحرش ومن البطش والنكال.
هكذا إذن بدت التفاصيل أمامي وأنا أستعرض هذا الفيلم الذي اشتراه أحد الزملاء، ورغبت في تقييمه قبل أن يتوجه به إلى المنزل ويقرر عرضه على طفله الصغير. ولربما كانت (عقدة المؤامرة) هي المخرج الذي يَسِمُ به البعض هذه الاستنتاجات الواعية وأمثالها، والتي تتولى الربط بين حقيقة المواجهة مع العدو والمنتجات الإعلامية والثقافية والفكرية التي يقدمها، والسبب كامن في النظرة السطحية الشفافة التي ينظر هؤلاء من خلالها إلى ما يُقدم إليهم بغضِّ النظر عن هويته وأهدافه.
ولم أشأ أن أسترسل في مشاهدة بقية أفلام الأطفال التي أصدرتها هذه الشركة لإثبات هويتها اليهودية، وكشف الرسالة الصهيونية التي تحملها؛ لعلمي بمدى الحاجة إلى عمل مؤسسي إعلامي فاعل يُعنى بمثل هذه الدراسات الناقدة، ويتولى مهمة كشفها، والرد المناسب عليها، كما يسعى إلى الحد من تداولها، وتوجيه المسلمين لمقاطعتها؛ حفاظاً على عقول الناشئة، وصيانة لمناهج التربية في عالمنا الإسلامي.
تلك كانت القناعة الأولى قبل أشهر من اطلاعي على دعاية أخرى بثتها شركة والت ديزني باللغة العربية، في هذا الإعلان ذكرت الشركة عزمها على توزيع كميات كبيرة من النسخ المجانية في مصر لفيلمها الكرتوني المدبلج الجديد (الديناصور) ، والعديد من الأفلام الأخرى، إضافة إلى تقديم عروض مجانية لهذا الفيلم في السينما المصرية خاصة. ولعلمي بهوية الشركة تساءلت حينها: لماذا هذا الفيلم خصوصاً؟ ولماذا تم اختيار هذا القطر العزيز على قلوب المسلمين خاصة؟ حتى توافر لي ـ بعد الطلب ـ نسخة من الفيلم، ومعه كانت التجربة الموضوعية الثانية.
- (الديناصور) .. وقصة الخروج إلى أرض الميعاد!!
يعد فيلم الديناصور عملاً فنياً متقن الإخراج، يتجلى فيه مزيج من التشويق والإثارة من خلال شخصياته المتعددة ـ المحببة إلى الأطفال ـ بالإضافة لجودة الإخراج والتصميم الذي اعتمد تقنية ثلاثية الأبعاد هذه المرة (1) ، غير أن هدفه الجوهري الغامض، ورسالته التي يسعى إلى إيصالها كانا أكثر إتقاناً وأشد إثارة، وفي سبيل تعزيز رسالة الفيلم حرصت إدارة الشركة على التمهيد بمقدمة موجزة مقارنة بفيلم (حياة حشرة) الذي أدخل المشاهد مباشرة في قرية النمل. وهذه المقدمة في هذا الفيلم مهمة جداً نظراً للرسالة بالغة الأهمية التي يحملها، والتي تتطلب هذا القدر من التوضيح لمتوسطي الفهم من المشاهدين. وليس غريباً أن تنص هذه المقدمة على عبارة دقيقة غامضة تقول: (إن هناك أشياء تبتدئ كبيرة، وهناك أشياء تبتدئ صغيرة. ولكن أحياناً تكون هذه الأشياء الصغيرة هي التي تعمل أكبر تغيير في حياتها) ! فما هذه الأشياء التي بدأت صغيرة والتي عملت تغييراً كبيراً في حياتها؟ قد لا نملك الجواب بسرعة، ولكنا لن نتردد في الإشارة إلى تجربة (إسرائيل) دولة اليهود على أرض فلسطين المسلمة، من خلال سرد أحداث الفيلم، ومن خلال خاتمته الموجزة ـ كذلك ـ التي تقول: «لا أحد منا يعرف نوع التغيير الذي سيحدث في المستقبل، لكن هناك شيء مؤكد.. وهو أن رحلتنا لم تنته..» . نعم! إنها رحلة طويلة من صراع طويل لن ينتهي إلا على ضفتي نهر الأردن في الملحمة الكبرى الفاصلة مع المسلمين!
لكن لنعد لقصة الفيلم منذ البداية:
تبدأ أحداث الفيلم بإيحاءات العهد القديم الموغل في القدم ـ يبدو ذلك من آثار الجداريات والأحافير التي يتم عرضها بسرعة ـ وفجأة يبدأ ذلك العهد بالظهور والحركة لينشق عن منظر وحيد؛ إنه منظر لمجموعة من البَيْض تحوطه بالعناية أمٌّ رؤوم تحوم حوله وتخاف عليه وترعاه.
ينتقل المشهد لمنظر علوي رائع لأرض نهر كبير بأشجارها الكثيفة الرائعة وجبالها المزدانة بوشاح أخضر، ومياهها الرقراقة وطيورها الكثيرة. وعلى ضفتي النهر يظهر قطيع ضخم يضم عشرات الألوف من فصيلة الديناصورات آكلة الأعشاب ـ هذه المرة ـ تعيش بسلام في هذه الأرض. ويتكرر التأكيد على التضييق والاضطهاد الذي تعاني منه هذه الأمة، فكما حمل الفيلم السابق الرسالة نفسها في العصر الحديث؛ ها هي ذي الرسالة تتكرر في هذا الفيلم لتنقل جانباً من المعاناة في العصر الغابر. كما يحرص الفيلم على إظهار خطر آخر ينغص على هذا القطيع عيشه، وهو أنه يعيش بجوار قطيع آخر من الديناصورات المتوحشة آكلة اللحوم. وهذا التباين في هوية هذين الجارين مهم جداً؛ إذ يوحي بمعاني الذلة والمسكنة والاستضعاف بجوار القهر والظلم والتسلط الذي يسعى المخرج إلى غرسه في عقلية المشاهد.
ينتقل المشهد فجأة ليصور حدثاً خطراً كان يجري على سطح الأرض.. عن كثب يقف ديناصور ضخم بشع ومتوحش يرقب القطيع، ثم يهجم عليه فجأة، ويدب الفزع، وتسود الفوضى. جميع القطيع يهرب، حتى الأم تركض فزعة مخلفة البيض وراءها، ويتكسر كل البيض تحت أقدام هذا (الوحش) ما عدا بيضة واحدة قُدّر لها النجاة، ويُسلط الضوء ـ لثوان معدودة ـ على هذه البيضة الفريدة قبل أن يختطفها ديناصور آخر ثم يلقي بها في البحر. وفي خضم الأمواج المتلاطمة تحوطها العناية الإلهية وترعاها طوال رحلتها الشاقة الخطرة، وتحفظها من الكيد والأذى، فتراها تنجو من أنياب التماسيح، ومخالب السباع، وأقدام الزواحف الضخمة على طول ذلك النهر الكبير، حتى تقع بين مخالب طائر لاحم يختطفها ثم يطير بها بعيداً.. إلى هناك جهة الشرق البعيد، وبعد صراع مفتعل مع أحد الطيور يلقي بها في إقليم آخر، وسط حياة جديدة بين مجموعة من القرود. إخالكم أدركتم الآن طرفاً من القضية المحورية التي تدور حولها أحداث هذا الفيلم في هذا المقطع الأول من مقاطعه المتعددة!
نعم! إن هذا الفيلم يحمل رسالة يهودية جديدة هذه المرة، فهو يصور للطفل ـ بطريقة سهلة غير مباشرة، وبأسلوب شائق ومثير ـ البدايات الأولى لتكوين الدولة اليهودية على أرض فلسطين المسلمة. وإدارة الشركة في هذا الفيلم تحرص على إظهار الحق التاريخي والديني لقضيتهم، فتجدهم يبدؤون قصة النشأة من هناك.. لحظة خروج اليهود من أرض مصر التي كانوا يذوقون فيها صنوف الذل والقهر والبطش من جيرانهم الأشرار.. فرعون وجنوده. كما يظهر الفيلم صورة رمزية لولادة نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ الذي نجاه الله ـ تعالى ـ من القتل على أيدي الجنود الظلمة. ويختزل الفيلم حياة موسى ـ عليه السلام ـ الطويلة في بيت فرعون لتمثل تلك الرحلة الطويلة للبيضة من لحظة التقاطها إلى أن يقذف بها في الأرض الجديدة التي تمثل مرحلة النشأة؛ إذ لا حاجة لعرض تلك الفترة الطويلة التي لم تكن فيها أحداث مهمة تمس تاريخ اليهود. وهناك بين مجموعة من القرود الرحماء ينشأ ذلك الطريد الغريب ويُعَدُّ بعناية فائقة، غير أنه لا يطول به المقام، فبعد حياة الأمان والمرح والسعادة على تلك الأرض تحين ساعة الرحيل. وهنا يعمد مخرج الفيلم إلى ربط علمي مهم اختير بعناية فائقة ليصور نظرية من النظريات المقدمة لأسباب انقراض ديناصورات عصر الجوراسي قبل 225 مليون سنة كما يذكر الجيولوجيون؛ عندما كانت تعيش على الأرض ديناصورات آكلة نباتات إلى جانب أخرى بدائية آكلة لحوم مقاربة لحجم النعامة التي نراها اليوم، ليتوافق ذلك مع أسباب الخروج الفعلي لموسى ـ عليه السلام ـ من أرض مدين. وفي حين تتنزل الشهب والنيازك من السماء للقضاء على مظاهر الحياة هناك؛ فإن تدبيراً آخر من السماء يختار فرداً كريماً من أولئك المستضعفين ليقود قومه في رحلة النجاة إلى أرض الميعاد.
بهذه الإثارة والمعاناة ينتهي المقطع الأول للفيلم الذي يجتمع فيه التشويق مع مراعاة التسلسل المنطقي للأحداث.
ثم يبدأ المقطع الثاني، وفيه تتجلى النفسية اليهودية الحاقدة المليئة بالغدر والجحود والبهتان، وبخاصة مع نبيهم الكريم الذي أنقذهم الله ـ تعالى ـ به من حياة الذلة والمسكنة إلى حياة الحرية والاصطفاء. والحقيقة أن هذا النبي الكريم تعرض في حياته، وبعد مماته لصنوف من الأذى والمضايقات والافتراءات على يد اليهود قتلة الأنبياء والرسل. ويعود سبب ذلك الأذى والبغض لشدة هذا النبي الكريم عليهم بالحق، وغيرته على محارم الله ـ تعالى ـ التي ظل اليهود ينتهكونها، وشرائعه التي كفروا بها.. بدءاً من طلبهم أن يجعل لهم إلهاً من دون الله تعالى، وانتهاء بعبادتهم العجل من دون الله ـ سبحانه ـ في غيبته.
وفي هذا الفيلم تجلية لحقيقة ماثلة، وتصوير لمظهر من مظاهر ذلك الأذى بعد ألوف من السنين على وفاة موسى عليه السلام. والناظر لما يصدر عن النفسية اليهودية الحاقدة لا يقف طويلاً عند الهدف الخفي الذي يصوره المقطع القادم من الفيلم الذي يبدأ بهجرة ذلك الديناصور ـ المنقذ ـ بحثاً عن بني قومه الذين يلتقي بهم أخيراً تائهين في وهج الشمس بصحراء سيناء القاحلة، وهائمين على وجوههم بلا ظل ولا ماء، وهم مع ذلك مطاردون من عدد من الديناصورات آكلة اللحوم الغاضبة. والملاحظ في الفيلم أن هذا الديناصور الشاب يجد القطيع منهكاً.. تائهاً لا يعرف إلى أين يسير مع أن له قائداً ومساعداً يوجهان حركته الضخمة. لم يكن لدى القطيع بد في المسير؛ فالقائد ـ كما يصوره مخرج الفيلم ـ فظ غليظ القلب، شرس الطباع، ظالم لا يرحم الضعفاء وكبار السن والمرضى، وهو مضطرب في قراراته؛ فها هو يصدر أوامره الصارمة فجأة بالتوقف للراحة، وبعد قليل يصدر أمراً آخر مفاجئاً وأكثر صرامة ليتحرك القطيع قبل أن يأخذ راحته، وعن يمينه يسير ذلك المساعد الذي صُوِّر على أنه ديناصور تابع لا حول له ولا قوة، فهو يأتمر بما يأمره به، وينتهي عما ينهاه عنه، ويحفظ القطيع كلما عرض للقائد عارض.
لعلكم بعد هذا العرض أدركتم ـ كذلك ـ أبطال الفيلم من وجهة نظر اليهود! ولسبب ما تنقلب الشخصيتان؛ فرمز موسى ـ عليه السلام ـ في الفيلم ينقلب إلى رمز آخر جديد يعتبره اليهود المخلص الحقيقي لهم، في حين يُصوَّر موسى ـ عليه السلام ـ في رمز ذلك القائد العنيف الظالم.
لكن من هي الشخصية الجديدة التي استولت على البطولة، وسحبت البساط من تحت أقدام ذلك الشاب الفتي الذي نشأ وترعرع ليحقق حلم عودة القطيع إلى أرض الميعاد؟
إن المتتبع للتاريخ اليهودي الحديث لن يقف طويلاً عند ـ تخمين ـ تلك الشخصية التي يقدرها اليهود ويكنون لها الإعجاب والاحترام، فهذه الشخصية تعود للزعيم الصهيوني «حاييم وايزمان» الذي يصفه اليهود بأنه (الرجل الذي قاد شعب الله المختار إلى أرض الميعاد في أشهر لم يستطع موسى ـ عليه السلام ـ أن يقودهم إليها طوال أربعين عاماً) ، وتناسى اليهود أن غضب الله ـ تعالى ـ ولعنته التي حلت بهم ـ بسبب كفرهم ـ هي التي أوجبت عليهم الشقاء والتيه في أرض سيناء تلك المدة الطويلة التي توفي فيها هارون ـ عليه السلام ـ ثم لحقه موسى عليه السلام.
ولك أن تنظر للحقد اليهودي على نبي الله الكريم في هذه القضية خصوصاً ـ قيادة اليهود في أرض التيه ـ بالصراع الذي يفتعله مخرج هذا الفيلم بين عصرين متباينين لليهود في الزمان والمكان: عصر سحيق موغل في التاريخ القديم بقيادة موسى ـ عليه السلام ـ كليم الله تعالى، الرحيم الصبور على أذى بني إسرائيل. وعصر الصهيونية الحديث بقيادة ذلك المتطرف الصهيوني الروسي خليفة هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية المعاصرة ذات التاريخ الأسود المليء بالحقد والقتل وسلب الحقوق وسفك الدماء (1) . لقد صور موسى ـ عليه السلام ـ بالقائد الذي لا يعرف أين يتجه، فهو لا يبدأ من مكان حتى يعود إليه، وبالقائد الذي كلف قومه ما لا يطيقون، وشق عليهم مشقة بالغة، لم يراعِ فيها كبيرهم، ولم يتفقد مريضهم. أما هذا القائد الشاب فيُصوَّر على أنه القائد رقيق القلب، دمث الأخلاق، الرحيم الذي يتخلف مع الضعفاء، ويتفقد كبار السن، ويواجه الصعاب، ويأسر الأفراد بحسن تعامله. بل حتى الماء الذي فجره الله ـ تعالى ـ لكليمه ومصطفاه موسى ـ عليه السلام ـ فضلاً وتكرماً حين استسقى لقومه؛ خصها هؤلاء الحاقدون بهذا القائد الجديد الذي ضرب بقدمه الأرض فانبعث الماء العذب من تحتها!! وهكذا هم اليهود قوم غدر ولؤم وبهتان وتزوير للحقائق.
ويظل الصراع في الفيلم بين هذين القائدين حتى تحين ساعة النهاية المزرية لذلك القائد الذي لا يعرف الطريق الصحيح فيموت على سفح جبل وعر يحول دون الوصول إلى أرض الميعاد، ليستلم المهمة هذا الشاب الفتي بعد هلاك ذلك القائد الهرم، ويتوجه بالقطيع جميعاً إلى طريق معاكس تماماً للطريق الذي كانوا يسيرون فيه، اكتشفه هذا القائد بنفسه، وشقَّه بعرقه وجهده، وصبره وتحمله وتضحيته. لقد كان هو الطريق الوحيد الذي رآه مناسباً لعبور ذلك القطيع نحو هدفهم التاريخي مهما كان طريقاً مزوراً يكتنفه الظلم والقهر والغدر والألم لسكان البلاد الأصليين. وبالفعل يصل القطيع الضخم لغايته ويبلغ أرض الميعاد، كما أوصل وايزمن ما لا يقل عن 100 ألف يهودي إلى أرض فلسطين المسلمة. ويختم الفيلم ـ كالعادة ـ بمنظر الخضرة التي تكسو الأرض نضارة؛ فالطيور ترفرف فرحاً، والأزهار تنتعش طرباً. ويحرص المخرج على إظهار أن جيلاً جديداً بدأ يعمر الأرض، وأن حياة جديدة بدأت تتشكل هناك وسط هتاف الجميع فرحاً بسلامة الوصول إلى أرض الميعاد، وهو احتفاء لا يقل عن احتفاء اليهود عشية دخولهم القدس في أرض فلسطين الجريحة. ويختم الفيلم بتلك المقدمة التي تربط هذا الوصول لتلك الأرض بالمستقبل الذي لا يُعلم ماذا سيحدث فيه!
إنه فيلم استطاع أن يصور قصة اليهود منذ البداية من خلال وجهة نظر اليهود أنفسهم، لكن بطريقة ماكرة ومخادعة فيها الكثير من التزوير والبهتان والحقد، والله ـ عز وجل ـ يشهد على نفسيتهم الخبيثة، والله ـ عز وجل ـ يكشف إفكهم ويُظهر كفرهم في كثير من الآيات في كتابه العزيز. ولقد قرر الله ـ تعالى ـ حقيقة غضبه ولعنته لليهود، وأنها بسبب كفرهم ومجاوزتهم حدود الأدب معه ومع أنبيائه ورسله. قال ـ عز وجل ـ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] .
ومن خلال ذكر الكيد اليهودي بموسى عليه السلام، وتفاقم شرهم على أنبياء الله أجمعين يحذرنا القرآن من أن نكون مثلهم فنؤذي رسولنا # كما آذوا رسولهم، على رسل الله أجمعين الصلاة والسلام، ويبين وجاهة موسى ـ عليه السلام ـ عند ربه. قال ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] . كما يخبرنا القرآن الكريم عن خطاب صريح ومباشر وجَّهه موسى ـ عليه السلام ـ نفسه لليهود يسألهم فيه عن سبب أذيتهم له مع أنهم يعلمون صدق رسالته، وأنه رسول ربهم، ومخلِّصهم من بطش فرعون، ويذكر ـ سبحانه ـ أن سبب ذلك كامن في فساد قلوبهم التي طبع الله ـ تعالى ـ عليها بكفرهم. قال ـ عز وجل ـ: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] . إنه الكفر والاستعلاء والفساد في الأرض الذي اتسم به جنس اليهود المبغوضين من شعوب الأرض أجمعين على مدار التاريخ القديم والحديث.
- (ديزني) تواصل حربها الإعلامية ضد الإسلام:
تأخذ الحرب الصهيونية على الإسلام والمسلمين في هذا الوقت أشكالاً متعددة، لعل من أهمها الحرب الإعلامية التي تُوظف لها الأفلام السينمائية، وأفلام الرسوم المتحركة الموجهة للكبار والصغار. وتكمن خطورة وسائل هذه الحرب في وجودها بوفرة في الأسواق وإمكانية الحصول عليها بسهولة من محلات الفيديو المنتشرة في العالمين العربي والإسلامي من دون وعي من قِبَل المشاهدين أو تحليل موضوعي دقيق لرسائلها المعادية.
وما يقال عن رسالة هذين الفيلمين يقال عن كثير من أفلام هذه الشركة. وباستقراء بعض تجاوزات (ديزني) ؛ نجد أنها تعمد لتصوير رسالة تكررها هذه الشركة دائماً مفادها ـ ضرورة «محاربة» الرجال الأشرار «ليظل العالم مكاناً مليئاً بالسعادة» ـ وهي تتعمد الإساءة للإسلام والمسلمين من خلال تصويرهم بأولئك الأشرار في كثير من إنتاجها الإعلامي، ومهرجاناتها المتكررة باعتماد الأسلوب المباشر وغير المباشر.. ومن تلك الأمثلة ما يلي:
1 - أنتجت شركة ديزني عام 1982م فيلم الرسوم المتحركة (القط الطائر) ، الذي يسيء للمسلمين من خلال فكرة الفيلم التي تدور حول كوكب في الكون الخارجي جميع سكانه من الهررة الذين بلغوا درجة متطورة من التقدم العلمي، بحيث يبدو سكان الأرض أمامهم أناساً متخلفين جداً. وفي الفيلم مغامرة يتصل من خلالها قط طائر عجيب منها بعالم أمريكي شاب، ويتفقان على مواجهة عصابة «خطرة جداً» تسعى للحصول على أسورة القط كي تسيطر على العالم بواسطتها. صورت هذه العصابة ـ طبعاً ـ على أنها من العرب، وتحمل أسماء عربية هي بالتحديد «أحمد ـ محمد ـ زكريا ـ علي» !! والغريب أنهم جاؤوا بعرب حقيقيين يتحدثون اللهجة البدوية ليقوموا بهذا الدور الشرير، وقد وقَّت المخرج ظهور هذه العصابة العربية بشكل يجعل المشاهد يضج غضباً من رؤيتها، ويهلل فرحاً كلما حقق القط انتصاراً عليها. وختاماً يتدخل «الجيش الأمريكي» ، ويلقي القبض على العصابة العربية لينتصر القط العجيب والعالم الأمريكي!!
2 - بعد انتهاء حرب الخليج الثانية وفي عام 1991م أنتجت شركة ديزني فيلماً آخر من أفلام الرسوم المتحركة يسيء للعرب والمسلمين اسمه (علاء الدين) ، يدور الفيلم حول قوة شريرة تجتمع فيها قوة الجني السحرية التي تدخل عالم القوة الكونية لانشطار الذرَّة لتصبح قوة مدمرة عظيمة، يستولي عليها رجل عربي شرير اسمه (جعفر) بأنفه المعقوف، وعمامته الدائرية، ولحيته المدببة، وثيابه الشرقية الواضحة؛ ليصبح بذلك أقوى جني على وجه هذه البسيطة. وهي صورة مشوهة دائماً للعربي المكروه تتكرر كثيراً في الإعلام الصهيوني الأمريكي.
3 - تعدُّ شركة والت ديزني مساهماً كبيراً في جهود الحكومة الأمريكية التي تخوضها فيما تسميه حرباً على (الإرهاب) ، والذي لا يستهدف سوى دول ومنظمات خيرية، وحركات مقاومة إسلامية.
ولإظهار ما تملكه (ديزني) من قدرات، وما يمكن أن تقدمه في هذا المجال من أفلام وبرامج موجهة؛ قال مدير الشركة: «إن أحد مصادر قوتنا هو قدرتنا على التواصل مع عدد كبير من الناس في الولايات المتحدة وعبر العالم، ولذا فإننا نتحرك على عدة جهات لكسب الرأي العام العالمي في معركتنا» .
4 - ذكر موقع شركة ديزني على الإنترنت خبراً يفيد بأنها ستدخل العهد الجديد باكتساب عدد من ملايين المسلمين في العراق. وذلك كجزء من اتفاقية (الأرض مقابل النفس) بين الشركة وصدام حسين ـ استهزاء باتفاقية (الأرض مقابل السلام) التي أطلقها العرب للتعبير عن حسن نياتهم لليهود. في اتفاقية (الأرض مقابل النفس) ستبادل شركة ديزني دولة العراق بالفائض من مخزونها الاحتياطي من الأسلحة النووية مقابل أكثر من أربعة ملايين شخص (سوف ندعوهم إخواننا وأخواتنا!!) كما يقول الإعلان. وقد رافق هذا الخبر صورة حقيقية للمسجد الحرام بمرتاديه من الطائفين والقائمين والركع السجود، لكن المفاجأة في هذه الصورة هي استبدال الكعبة المشرفة بكُرة زجاجية على شكل كرة الجولف المصممة من قِبَل فناني ديزني. وتحت الخبر وردت عبارات استفزازية متعددة للمسلمين تشمل الإساءة للنبي محمد # بتشبيهه بالفأر (ميكي) ، حيث اعتمدوا في هذه الاتفاقية شخصية جديدة تسمى (محمد ميكي) ، إضافة إلى استبدال كرة الزجاج بالكعبة الشريفة!!
5 - لم تكفّ شركة ديزني عن الإساءة إلى الإسلام والمسلمين بشكل دائم ومستمر، وما زلنا نتذكر تلك الضجة الإعلامية والمواجهة الكلامية التي تمت بين شركة ديزني والجامعة العربية والمنظمات الإسلامية في أمريكا، والتي انتهت باستسلام الجميع وإصرار ديزني. كان ذلك في 1/10/1999م عندما أقامت (ديزني) معرضاً للقدس داخل ما أسمته بـ (القبة الألفية) للشركة بولاية فلوريدا، والذي لم تساهم (إسرائيل) في تمويله إلا بقيمة 1.1 مليون دولار، أما الباقي فقد قدمته جهات أخرى لا يجهلها أحد ـ منها جهات عربية ـ!!
بل إن أحد رجال الأعمال اليهود اقترح على صفحات الصحيفة الشهيرة والواسعة الانتشار «نيويورك تايمز» أنه في حال قبول ديزني لمقترح قدمه للرأي العام بعد تغيير اسم المعرض من «القدس عاصمة إسرائيل» إلى «القدس قلب إسرائيل» ؛ فإنه مستعد لكي يمول المشروع ولو كلفه ذلك كل ثروته. وعلى باب المعرض تم تنظيم استطلاع لآراء الأطفال فقط من بين الزائرين لكي يظهر للعالم الجواب الذي سيقوله أغلبية هؤلاء الأطفال لسؤال واحد فقط هو: «ما هي عاصمة إسرائيل؟» . ومع هذا فقد شاركت في هذه القرية اليهودية دول عربية وإسلامية!
- سياسة التوجيه من خلال الترفيه:
كل أمة تحمل رسالةً ما في الحياة ـ مهما كانت طبيعة تلك الرسالة ـ هي أمة تستشعر معنى المسؤولية، وتسخِّر جميع طاقاتها لخدمة رسالتها تلك، وتوظف أهدافها الكبرى لنشرها والتعريف بها، حتى إنها لتجعل من اللهو والترفيه وسيلة مؤثرة فعالة لتحقيق القضية الكبرى والوصول إلى هدفها المركزي. وهذا ما يلمحه المتتبع لأفلام هذه الشركة في طَوْرين من أطوارها، يظهر الطور الأول في صورة الأفلام والرسائل الموجهة قبل استيلاء اليهود عليها، بينما يتجلى الثاني بعد بسط سيطرتهم عليها. ذلك أن هدف الشاب والت ديزني ـ صاحب الفكرة الأولى ـ في خطواته الأولى لإنشاء شركته؛ كانت تهدف لدمج الطفل مع حيوانات الغابة من خلال المزج السينمائي الساحر بين الأطفال والحيوانات والطبيعة. ولهذا قام بابتكار شخصيات محببة إلى الأطفال تبعث جواً من المرح والفكاهة. لكن من خلال الأزمة المالية التي كانت تمر بها الشركة ـ وبطريقة الابتزاز والمكر والخداع ـ استولى اليهود على هذا الصرح الإعلامي الضخم الذي اكتسب شهرته العالمية، ثم سعوا حثيثاً لتوظيف تلك الشخصيات الكرتونية المدبلجة في تحقيق أهدافهم وخدمة هويتهم، وبخاصة قضية صراعهم الدامي مع المسلمين. ومن خلال الترفيه تمكن اليهود من طرح قضاياهم الجادة، وفرضوها في كل المحافل، وأشغلوا بها العالم شرقاً وغرباً. إنهم إذن يدركون ماذا يفعلون، فهم لا يقدِّمون منتوجاتهم، ولا ينفقون أموالهم لمجرد اللهو والتسلية المحضة، بل ليكسبوا بها التعاطف الدولي مع قضاياهم المحورية التي يذكّرون بها المشاهد صباح مساء باستخدام الأسلوب المباشر، أو باعتماد أساليب أخرى ماكرة غير مباشرة تُدرس بعناية ثم تقدم بذكاء، مع كثير من النفاق والكذب وتزوير الحقائق. بخلاف إعلامنا العربي الغائب الذي يغامر كثيراً بعقول المشاهدين؛ عندما يصر على تقرير اللهو المحض ضمن أكثر قضاياه الجادة التي يتفنن فيها، وينفق من أجلها الميزانيات الباهظة والجهود الكثيرة.
إن كثيراً من برامج الإعلام العربي الطائشة، ومسلسلاته الباردة الساذجة لا هدف من ورائها إلا مجرد الإضحاك والتسلية وتضييع الأوقات، فإذا طرحت قضية جادة على استحياء فمن باب التنويع لا غير في أسلوب تقديم الهزل والتنافس عليه. حتى فقدت الأمة اتزانها، وتخلت عن رسالتها، ولم تكد تعي معنى الجد إلا من خلال قوانين اللهو باعتماد هذه السياسة الإعلامية العقيمة، بينما تمكن أعداؤها من توظيف اللهو لخدمة قضاياهم الجادة، وتلك هي المفارقة الحقيقية في معادلة النصر والهزيمة.
بهذه النظرة الواعية يمكننا أن ندرك الهدف من هذا الغزو ـ اللطيف ـ الموجه لأبنائنا وبناتنا، والذي صاغه اليهود بعناية دقيقة؛ مستفيدين من أحدث الأساليب المتطورة في الإخراج السينمائي عموماً، وفي عالم الرسوم المتحركة على وجه الخصوص.
- والت ديزني في عيون أطفالنا:
وبعد.. فكيف ينظر أطفالنا لهذه الشركة؟ وما حجم الوعي بأساليب الغزو غير المباشر في محتوى أفلام الرسوم المتحركة التي تقوم بإنتاجها؟ وللإجابة الموضوعية عن هذا التساؤلات قمت باستطلاع مقنن لخمسة وعشرين طالباً من طلاب المرحلة المتوسطة ممن شاهدوا فيلماً واحداً على الأقل من أفلام الرسوم المتحركة التي تنتجها شركة ديزني، والذين تتراوح أعمارهم بين 13 ـ 15عاماً؛ لمعرفة آرائهم حول خمسة محاور مهمة هي: ماذا تعرف عن شركة ديزني؟ ما الفكرة العامة التي استنتجتها لكل فيلم رأيته من أفلام هذه الشركة؟ ما نسبة المفاسد والفوائد التي اطلعت عليها في هذه الأفلام؟ عدِّد بعضاً من تلك المفاسد أو الفوائد في هذه الأفلام من خلال مشاهداتك وتجاربك الخاصة. وأخيراً: قارن بين أفلام ديزني والأفلام الكرتونية المدبلجة التي قامت بإنتاجها شركات إسلامية من حيث السلبيات والإيجابيات.
وكانت النتائج الموضوعية من خلال إجابات الطلاب أنفسهم على النحو الآتي:
أولاً: ماذا تعرف عن شركة والت ديزني؟
3 «هي شركة تنتج برامج للأطفال، وتعمل أشياء كثيرة حتى يؤخذ عنها فكرة حسنة ويشتري الناس منها» .
3 «شركة أمريكية تنتج أفلاماً يلهو بها أطفال المسلمين» .
3 «شركة لا تتعامل مع الأطفال فقط في أفلامها، ولكنها تراعي أعمارنا نحن الشباب في سِنِّنا وفي الثانوية كذلك» .
ثانياً: ما الفكرة العامة التي استنتجتها لكل فيلم رأيته من أفلام هذه الشركة؟
بتوجيه الطلاب إلى الخروج من دائرة الانبهار بالسرد القصصي لأحداث الأفلام التفصيلية التي شاهدها كل منهم إلى استخراج الفكرة العامة لكل فيلم كانت النتائج التي توصل إليها الطلاب ـ بعباراتهم الخاصة ـ كما يلي:
(الغدر والخيانة والطمع) ، (الحب والغرام) ، (الانتقام) ، (تعلم حياة جديدة من غير الاعتماد على الآخرين) ، (الاستغناء عن الكبار) ، (إيذاء الآخرين) ، (الطمع والغيرة) ، (الأنانية) .
ثالثاً: ما نسبة المفاسد والفوائد التي اطلعت عليها من خلال مشاهداتك المباشرة لهذه الأفلام؟
تباينت التقديرات من الطلاب في تحديد هذه النسبة بحسب التباين بينهم في الفهم، والذي يعود لعوامل عدة، لعل من أهمها: محافظة الأسرة وتدينها، والنشأة التي نشأها الطفل، ونسبة الثقافة ودرجة الوعي ونحوها. وفي الجملة تراوحت نسب الفساد التي ذكرها الطلاب ما بين (15% و 100%) بينما تراوحت نسبة الفائدة بين (10% و 60%) . وهناك من فصّل تفصيلاً مهماً في الموضوع، وأضاف إضافات طريفة على النحو الآتي: «في قصص الأطفال نسبة الفساد في نظري 20%، أما في الأفلام التي يمثل فيها الرجال الكبار فالفساد 100% كلها قصص حب، ماذا نستفيد منها؟» . «عندما نكون صغاراً يكون الفساد قليلاً علينا، ولكن كلما كبرنا يكون الفساد أكثر» . «هذه الأفلام تعلم الأطفال كيف يتعلقون بها، حتى يكبروا ويشاهدوا فساداً أكبر» .
رابعاً: عدّد بعضاً من تلك المفاسد والفوائد من خلال مشاهداتك وتجاربك الخاصة.
تعددت إجابات الطلاب حول هذه القضية باختلاف العوامل السابقة. ولعل أحسن التبويبات التي ذكرها أحدهم في إجابته أنه قسم «المفاسد» إلى نوعين: مفاسد خارج الفيلم، ومفاسد داخل الفيلم.
وقد أعجبني هذا التقسيم، وانتهجته مع سائر الإجابات الأخرى التي أدلى بها زملاؤه الآخرون. وبعد تفنيدها كانت النتائج على النحو الآتي:
أولاً: المفاسد التي شاهدها الطلاب داخل الأفلام: (الحب، تلهي عن الصلاة والعبادة، تعلّم أشياء خليعة، خلق الأرواح وتصوير الإنسان، اللبس القصير والفاضح، الموسيقى، الرقص والاختلاط بين الذكور والإناث، مظاهر ليست من مظاهر المسلمين، رمي الأطعمة وإهانتها وعدم تقدير النعمة، ألفاظ وأفعال شركية كثيرة ـ وذكر بعض الطلاب عدداً منها ـ مثل: تنزيل المطر، وإنبات الأعشاب، وتصرفات تشابه فعل الله تعالى، السحر، القمار) .
ثانياً: المفاسد خارج الأفلام ـ كما ذكرها الطلاب ـ: (تعليم الصغار أن يتحدثوا عن الحب والغرام منذ البداية، تضييع الوقت، الانشغال عن الوالدين وتعويد الطالب على عدم برِّهما، صرف الأموال والتبذير) .
بينما دارت الفوائد في الآتي: (التعاون بين الأفراد، والتحذير من الانفراد والانعزال، التحذير من الأنانية والطمع، قضاء الوقت والمرح) .
ومن إجابات أحد الطلاب حول الفوائد التي خرج بها قوله: «ليس فيها إلا مجرد ضياع للوقت، والضحك» .
ثالثاً: قارن ـ بذكر السلبيات والإيجابيات ـ بين أفلام ديزني والأفلام الكرتونية المدبلجة الموجهة للطلاب، والتي قامت بها شركات إسلامية أخرى.
من خلال مشاهدة الفرق ـ في نظر هؤلاء الطلاب ـ كانت النتائج كما يلي:
- المكر الكبّار في مقابل الوعي الغائب:
في غياب الوعي التربوي، ومراقبة ما يقدم للأطفال من حيث المحتوى والهدف ـ لا من حيث التشويق والإثارة فحسب ـ يظهر الخلل، وينشأ الانحراف. ولقد رأيت أن نسبة كبيرة من أولياء الأمور لا يهمهم ـ غالباً ـ وجود مفهوم منحرف يقدم بأسلوب غير مباشر في أفلام الرسوم المتحركة، وبخاصة للأبناء والبنات دون سن الرابعة عشرة، رغبة في الاستمتاع والتسلية، وظناً منهم بأن عقولهم الصغيرة أقل من أن تدرك ما بين السطور. وهذا وعي غائب أفرزه التساهل والجهل معاً.. التساهل بأمانة التربية والتقويم منذ الصغر، والجهل بالقدرات الحقيقية لعقلية الفتيان والفتيات.
ومن خلال الإجابات السابقة يتبين لنا مستوى النضج، ودرجة الوعي والإدراك الذي يصل إليه أبناؤنا وبناتنا في هذه السن المبكرة، بل إن بعضهم لربما فاق كثيراً من الكبار في هذا المجال في باب النقد والتحليل. إن ظاهرة الوعي الغائب يتحدد من خلال قناعة الكثير من أفراد هذه الأمة بالتفاعل مع الهجمات الموجهة الشرسة فقط، ومن هذه القناعة خاصة يعظم الكيد الخفي بعد أن تتهيأ للعدو الفرص السانحة ليعمل بهدوء لكن بنتائج مؤكدة. ومن خلال التخطيط الخفي يرتب العدو أوراقه، وينشر مكره، ويحقق مخططاته وفق الأولويات التي يراها مناسبة في كل مرحلة، وغياب الوعي عن المكر الخفي داء خطر، لا يزول بمجرد الهيجان ضد الكيد السافر المباشر، كما أنه شر عظيم يمكن لأعداء الأمة بكل سهولة.
وفي حين يهبّ كثير من العرب والمسلمين إذا ما تحقق النيل الصريح المباشر من دينهم وعقيدتهم؛ نجد كثيراً منهم غافلين عما يراد بهم في الخفاء، إنهم لا يهبُّون ـ غالباً ـ إلا إذا نيل من شخص النبي محمد #.. باسمه الصريح، بينما لا تثيرهم مئات المطاعن والشتائم الأخرى على هذا النبي الكريم بالوسائل الماكرة غير المباشرة؛ عبر الوسائل الإعلامية الكثيرة في الصحف والأفلام والمجلات والقنوات. وهم يثورون كذلك إذا نيل من القرآن الكريم.. لكن ذلك المحفوظ بين دفتي المصحف ذي اللون الأخضر البراق المكتوب بخط النسخ الجميل، ولا يحركون ساكناً أمام عشرات التصريحات اليومية بعدم صلاحية هذا القرآن للتطبيق في هذا العصر، أو التنقص من أحكامه وتشريعاته، أو مقارنته بالقوانين الوضعية التي يتحاكمون هم إليها، ويحتجون بها في حياتهم اليومية بلا حرج. كما أن منظراً يبثه الإعلام لطفل مسلم بريء يُقتل بين أحضان والده ظلماً كفيل بتأجيج مشاعر الملايين وتحريكهم في الشوارع هائجين.. غاضبين طوال النهار، لكنهم سريعاً ما يُصبحون في اليوم التالي على لهوهم ومرحهم وغفلتهم.
وفي حين تحصد الطائرات والقذائف عشرات الألوف من المسلمين في بقاع شتى من العالم، ويُفتَك بالألوف من أطفال المسلمين ونسائهم وشيوخهم بغير ذنب، ويموت من جراء الحصار الطويل مئات الألوف منهم؛ يتبادل البعض في الشارع العربي جدوى المقاطعة لمنتوجات ذلك العدو الظالم وهم يتابعون فيلماً من أفلامه، ويتجرعون مشروباً من مشروباته، ويلبسون كساء من منتوجاته!! بل حتى أحداث الرعب في دول عربية وإسلامية مجاورة لا تكاد تحرك أحداً من المسلمين في ذلك الشارع!!
فأين من يستشعر مصاب إخواننا المسلمين في فلسطين والجزائر والسودان والصومال؟ وماذا نعلم عما يحدث الآن في الجمهوريات المسلمة في آسيا؛ بدءاً بالشيشان ومروراً بداغستان، وكشمير، وتركستان، وأفغانستان؟ بل أين نحن عما يخطط له الأعداء للمستقبل القريب للعديد من الدول الإسلامية الأخرى مثل باكستان ومصر واليمن وسوريا ولبنان والسعودية وغيرها، وسعيهم لإيقاعها في مستنقع الفوضى والاضطراب والفرقة؟ وأكاد أجزم أن كثيراً من المسلمين اليوم قد ضبطوا انفعالاتهم ومشاعرهم وردود أفعالهم تجاه عدوٍّ من الأعداء بعينه، في قضية من القضايا بعينها، وأن كثيراً منهم لا يكادون يفطنون لما يجري من أحداث مصيرية تتعلق بأمتهم؛ فضلاً عن إدراك حقيقة ما يراد بهم في المستقبل القريب، فضلاً عن معرفة الواجب تجاه فيلم كرتوني مدبلج يطعن فيهم وفي دينهم ورسولهم وتاريخهم.
ولقد كان الرهان قائماً ـ ولا يزال ـ في قاعات الاجتماعات المغلقة لصناع القرار في الغرب على جدوى التفكير في ردود فعل الشارع العربي الذي يحوي 380 مليون مسلم، وتهميشه من أي دور فاعل محتمل قبل اتخاذ القرارات الجائرة ضد العرب والمسلمين. ومع علمنا بأنه مجرد شارع لفئة بسيطة من المستمعين ـ كما يقول بعض المحللين الغربيين ـ إلا أن له كذلك مكانته التي يحسب لها المستعمر الحديث ألف حساب، فهو قوة فاعلة يمكن أن تذكي نار المخاوف الغربية، وأن تشعل نقاشات الصهيونية الأمريكية في الكونجرس لو استثمر الاستثمار الصحيح في معادلة المواجهة الصامتة مع الغرب في هذه المرحلة.
إن دراسة واعية، ونصيحة صادقة تُقدم للأمة، ومقاطعة صارمة يجمع عليها هذا العدد الضخم كله في ذلك الشارع العربي الواسع، ويؤازرهم فيها سائر إخوانهم المسلمين في العالم؛ لأي منتج تثبت صلته بمؤسسة أو منظمة تستخف بحقوق العرب والمسلمين، أو تكيد لهم بأي نوع من أنواع الكيد، أو تدعم اقتصاد عدوهم الغاصب، أو تستخف بقضيتهم الكبرى ـ مؤذن بإغلاق الكثير من المحلات المشبوهة في ذلك الشارع الكبير، والتمهيد لظهور محلات أخرى أنقى منها وأكثر ولاء، أو على الأقل أكثر حياداً. وهو ما يعترف به صنَّاع القرار الأمريكي أنفسهم عند الحديث عن سلاح المقاطعة الفتاك الذي يلوّح به المسلمون بين الحين والآخر.
غير أن سلاح المقاطعة ذاك ليس محصوراً في زجاجة مشروب غازي فقط، أو في علبة حلوى، أو منتج للأطفال، أو مطهر للأواني المنزلية فحسب، بل يدخل فيه الجانب الإعلامي بمقاطعة تلك الشركات المعادية التي تنتج تلك الأفلام المشبوهة التي تحدثت عنها. كما يتناول ـ على السواء ـ الصناعات الثقيلة والخفيفة والملبوسات والأدوية، ونحوها. إنه شعور داخلي لدى الفرد، وشعور عام يشكل حركة المجتمع يمكن توظيفه بعناية وفق قاعدة الولاء والبراء الشرعية التي يتقرب فيها العبد المسلم من ربه طمعاً في الأجر؛ من خلال امتناعه عن إنفاق أي جزء من ماله ـ مهما كان قليلاً ـ في أي وجه من وجوه الإضرار بالمسلمين. وهو التفاعل الذي يبرهن فيه صاحبه على صدق انتمائه للمسلمين في قضاياهم المصيرية الكبرى مع عدوهم أينما كان.
أعدت تلك البطاقات الملونة إلى أصحابها الصغار في آخر المطاف، ثم سألت أحدهم مداعباً: أي نصيحة من هذه النصائح المكتوبة على البطاقات أعجبتك؟ فكَّر قليلاً وهو يقلبها بيده الصغيرة ثم قال: «الصديق وقت الضيق» !!(223/30)
التحديات الصعبة.. وفرص النجاح القوية
عاطف الجولاني
شكلت نتائج انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني تحولاً مهمّاً ونقطة انعطاف بارزة في مسار القضية الفلسطينية. بعضهم أطلق على اكتساح (حماس) للانتخابات وصف «التسونامي» في إشارة لأهمية ما حدث، بينما ذهب بعضٌ إلى وصفه بـ «الزلزال» الذي ستكون له تداعيات وتوابع ارتدادية قوية، على مستوى المنطقة والإقليم، وليس على مستوى الساحة الفلسطينية فحسب.
النتائج جاءت مفاجئة للجميع: لحركة فتح المنافس الرئيس لحماس والخاسر للسلطة، ولـ «إسرائيل» والولايات المتحدة الأمريكية اللتين أدركتا تغير قواعد اللعبة ودخول الصراع العربي الإسرائيلي مرحلة جديدة مغايرة. وقد كان لنتائج الانتخابات على الطرفين وقع الصدمة. الدول العربية والأوروبية فوجئت هي الأخرى بالنتائج المدوّية التي كانت خارج حسابات الجميع وتوقعاتهم. والسؤال الذي طرح نفسه بقوة بعد ظهور النتائج: هل كانت الانتخابات ستجري لو أن الأطراف المعنية: قيادة السلطة و (فتح) و (إسرائيل) والولايات المتحدة، توقعت مسبَّقاً فوز (حماس) وحصولها على الأغلبية؟
طرحتُ السؤال على شخصية أمريكية مهمة على علاقة وثيقة بوزارة الخارجية الأمريكية، فكان الردّ أن جميع استطلاعات الرأي التي أجريت قُبَيْلَ الانتخابات، وكذلك التقديرات الإسرائيلية والأمريكية والعربية الرسمية، أكدت أن (حماس) لن تحصل على أكثر من 40 بالمائة من مقاعد المجلس التشريعي، ولم يَرِدْ مطلقاً في حسابات تلك الأطراف احتمال أن تحصل (حماس) على أغلبية المقاعد. وبتصميم واضح ودون تردد، أكدت الشخصية أن الإدارة الأمريكية لم تكن لتسمح بإجراء تلك الانتخابات لو توقعت نتائجها.
- سقوط سيناريو الإفشال والانقلاب:
بعد الخروج من وقع صدمة الانتخابات، كان واضحاً أن الإدارة الأمريكية اختارت الرهان على إفشال تجربة (حماس) في السلطة ومحاصرتها سياسياً ومالياً، كخطوة أولى نحو الانقلاب على نتائج الانتخابات. وكانت الإدارة الأمريكية ترمي من خلال هذا السيناريو إلى إقناع الفلسطينيين بارتكابهم خطأً فادحاً باختيارهم حركة حماس، مما يؤدي إلى إجراء انتخابات مبكرة تُقصي (حماس) وتعيد حركة (فتح) إلى سدة السلطة. ومع أن الإدارة الأمريكية أنكرت ما نشرته صحف أمريكية بهذا الخصوص ونفت أن تكون سعت للانقلاب على نتائج الانتخابات، غير أن ممارساتها على الأرض كذبت نفيها.
حركة حماس التي أدركت أبعاد المخطط الأمريكي ـ الإسرائيلي لعزلها وحصارها وإفشال تجربتها في السلطة، وضعت خطة تحرك مقابلة لمواجهة المخطط وإفشاله، وتمكنت بكفاءة عالية من تجاوز العراقيل التي وضعت في طريقها، ونجحت عبر جولات وفدها القيادي إلى موسكو وأنقرة والعديد من العواصم العربية في كسر طوق الحصار والعزلة، وفي حشد دعم وتأييد سياسي ومادي لم يكن يتوقعه أكثر المتشائمين في واشنطن وتل أبيب.
لذا لم يكن مستغرباً أن تعيد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تقييم الموقف وانتهاج سياسة جديدة في التعامل مع (حماس) بعد سقوط خيار الإفشال والحصار؛ فقد قررت الإدارة الأمريكية مواصلة تقديم الدعم المالي الذي كانت تقدمه للفلسطينيين، لكن عبر مؤسسات إنسانية غير تابعة للسلطة. الاتحاد الأوروبي قرر هو الآخر نقل نحو مائة وأربعين مليون دولار للسلطة الفلسطينية عن الشهور الثلاثة القادمة، بعد أن كان هدد بوقفها إثر وصول حماس إلى السلطة. وقد لعب الخوف من قيام إيران بملء الفراغ ـ في حال توقف المساعدات الأمريكية والأوروبية للفلسطينيين ـ دوراً مهمّاً في تراجع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عن موقفهما، خشية دفع (حماس) إلى أحضان ما تعتبره واشنطن محوراً للتشدد.
وقد فوجئت الإدارة الأمريكية بالموقف الرسمي العربي الذي لم يُبْدِ حماساً للتجاوب مع توجهاتها إزاء (حماس) بعد الفوز؛ حيث منيت جولة وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) إلى عدد من الدول العربية بفشل ذريع، وسمعت في الرياض والقاهرة لغة غير التي كانت تتمناها. فقد أكد وزير الخارجية السعودي استمرار مساعدات بلاده للشعب الفلسطيني، بل ولزيادتها إذا استدعت الحاجة، وفي القاهرة عارض المسؤولون المصريون الموقف الأمريكي المتسرع في الحكم على حركة حماس، ودعوا إلى إعطائها الفرصة الكافية قبل الحكم عليها. وجاء الموقف القوي لوزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير، والذي عبَّر عن رفض سياسة ممارسة الضغوط وفرض الشروط على (حماس) ، ليوجه صفعة لجهود الإدارة الأمريكية لمحاصرة الحركة التي شبّت عن طوق الحصار.
وكان واضحاً أن فوز (حماس) في الانتخابات التشريعية، ووصولها إلى السلطة، وخطابها القوي الرافض للخضوع للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، قد أدى إلى رفع سقف الخطاب والموقف السياسي الرسمي العربي، الذي بدا بحاجة لخطوة كبيرة بهذا الحجم للخروج من حالة الضعف والشلل التي سيطرت عقب أحداث 11 سبتمبر. وقد كان مفاجئاً أن تصدر دعوات عن أطراف رسمية عربية لحركة (حماس) بعدم التجاوب مع الضغوط وعدم تقديم تنازلات من طرف واحد، حتى إن (أسامة الباز) المستشار السياسي للرئيس المصري ذهب إلى القول: إن قادة (حماس) سيكونون «حمقى» إن هم أقدموا على خطوة من هذا النوع.
- مستقبل (حماس) بعد الانتخابات:
لا شك أن (حماس) تواجه مرحلة من نوع جديد، بمعطيات جديدة، وتحديات جديدة، سيكون لمدى قدرتها على التعامل معها تأثير مهم في تحديد مستقبلها السياسي والشعبي، بل وعلى مستقبل الوضع الفلسطيني برمته.
التحدي الأول الذي يواجه الحركة في العهد الجديد هو: القدرة على النجاح في تقديم تجربة مميزة في الحكم والسلطة. فنجاح الأداء في مرحلة ما بعد الفوز لا يقل أهمية عن تحقيق النصر الانتخابي، بل ربما كان أخطر وأكثر صعوبة.
التحدي الثاني الذي يواجه الحركة هو: المواءمة بين السياسة والسلطة من جهة، والمقاومة من جهة أخرى. فلم تعد (حماس) في الوضع الجديد تتصدى لمهمات المعارضة أو المقاومة فحسب، بل أضحت تتحمل إلى جانب المقاومة مسؤولية إدارة القرار السياسي وأوضاع الشعب الفلسطيني، وهي تواجه في المرحلة الجديدة، دون شك، مهمات من نوع مختلف، وهي مطالبة بإجراء معادلة دقيقة ومتوازنة تجمع بين ما يعتبره بعضٌ أمرين متناقضين يصعب الجمع بينهما، في حين تؤكد الحركة إمكانية ذلك، وتصر على التمسك بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة ما استمر وجود الاحتلال، ولا تستبعد الحركة إمكانية التعاطي مع الأمر الواقع وقبول هدنة وفق شروط معينة، لكنها ترفض أن يكون هذا التعاطي الواقعي على حساب برنامج المقاومة.
القدرة على إدارة العلاقة مع حركة (فتح) ومع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يشكل تحدياً آخر يواجه الحركة.
وكان واضحاً منذ الجلسة الأولى للمجلس التشريعي الفلسطيني حجم التوتر الذي يسود العلاقة بين (حماس) و (فتح) التي سارع نوابها للانسحاب من الجلسة احتجاجاً على التوجه لإلغاء قرارات المجلس السابق في جلسته الأخيرة بنقل صلاحيات مهمة من الحكومة إلى الرئيس. ولا شك أن حركة (فتح) التي تشكل ثاني أكبر كتلة في المجلس التشريعي تملك من القدرة والخبرة ما قد يمكنها من إعاقة عمل المجلس إن لم يحصل التنسيق والتوافق بينها وبين (حماس) . أما على صعيد العلاقة مع الرئيس، فتبدو احتمالات نسج علاقة إيجابية بين (حماس) وعباس تقوم على أساس التعاون بديلاً عن التناقض والتصادم في الصلاحيات، تبدو أمراً مرجحاً. أما في حال الفشل في إدارة العلاقة بين الجانبين، فيُخشى من قيام سلطة برأسين تؤدي إلى شلل القرار السياسي.
التحدي الأمني والقدرة على ضبط حالة الانفلات، هو: تحد مهم يواجه (حماس) في ظل تعدد أجهزة الأمن، وخضوع معظمها لسلطة الرئيس لا الحكومة، وكذلك في ظل هيمنة عناصر حركة فتح على مقاليد تلك الأجهزة.
وثمة تحد آخر يتمثل في الأسئلة الصعبة التي طُرحت على (حماس) من قِبَل الأطراف الدولية والإقليمية. وقد أظهرت الحركة حتى الآن قدرة فائقة في الإجابة عن هذه التساؤلات المتعلقة بمسألة الاعتراف بالكيان الصهيوني، والموقف من استمرار المقاومة، والاعتراف بالاتفاقيات المبرمة مع الإسرائيليين، واستطاعت اتخاذ مواقف ذكية توائم بين المرونة السياسية والتمسك بالثوابت الفلسطينية.
ومن التحديات المهمة للمرحلة القادمة، قدرة الحركة على إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بنائها كإطار وطني يمثل الداخل والخارج الفلسطيني، والقدرة على تفعيل دور الشتات الفلسطيني الذي تعرَّض للتهميش طوال السنوات الماضية.
ومن شأن نجاح حماس في مواجهة التحديات آنفة الذكر، أن يعزز حضورها السياسي وقوتها الشعبية، وأن ينقلها نقلات واسعة إلى الأمام. وما يظهر حتى اللحظة أن فرص نجاح الحركة قوية في مواجهة التحديات، وفي تقديم تجربة متميزة، ولا سيما أن تقدم الحركة في الانتخابات يأتي في سياق تقدم عام للإسلاميين في المنطقة كما ظهر في مصر والعراق وأقطار أخرى.
وثمة من يرى ان (حماس) ليست وحدها من يواجه تحديات النجاح؛ فالحركة الإسلامية بصورة عامة، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين، تواجه بمجملها هذا التحدي؛ فهذه المرة الأولى التي تواجه فيها الجماعة منذ تأسيسها عام 1928 تحدي الوصول إلى مواقع السلطة، ومن شأن نجاح حماس أو فشلها، أن ينعكس سلباً أو إيجاباً على مجمل الحركة الإسلامية، وهو ما يحمِّلها مسؤولية خاصة إزاء نجاح التجربة.
__________
(*) رئيس تحرير جريدة السبيل الأردنية.(223/31)
مولد جديد
السيد: حسن بن علي البار
قام من نومه فزعاً!! إنها الساعة الثامنة صباحاً. ركض باتجاه خزانة ملابسه، وأخذ منها ملابس مُناسِبة. ثم توقف ونظر في المرآة، وأصلح من هندامه، واندفع نحو الباب يريد الخروج. يا الله! تذكَّر أنه كاد أن يخرج من البيت وهو لم يغسل وجهه بعد، نعم! فاليوم هو مستعجل ومشغول، يحتاج (محمد) في هذا اليوم أن يُنجز الكثير من الأعمال مبكراً كي يفرغ في المساء، فالليلة (مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-) ، وإن لم يُبكِّر في إنجاز أعماله. ربما حَلَّ عليه المساء وهو بعدُ في مشاغله فيفوته التبكير لحضور (المولد) . رجع محمد فغسل وجهه ثم خرج واستقل سيارته متوجهاً إلى عمله، وانهمك في مهامِّه ومشاغله. وفي أثناء انشغاله بإنجاز أوراق كانت بين يديه جاءته رسالة جوال. ترك ما في يده، وفتح الرسالة فإذا فيها: «أخي! هل تحب الله، هل تحب الرسول؟» قال في نفسه: نعم! وماذا بعد؟ واصل القراءة: «إن محبةَ الله ومحبةَ رسوله أوثقُ عرى الإيمان» . يا الله! ما أجملها من كلمات! تمضي الرسالة: «إن كانت محبتهما بهذه المنزلة؛ فهل يمكن أن يكون (المولد) من وسائل محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يتركنا دون أن يبيّنه لنا؟» علَّق قائلاً: ما هذا؟ ما أدري، ماذا يقول هذا الرجل؟ آهِ إنه (صالح) هداك الله يا صالح!
ترك محمد هاتفه الجوال متجاهلاً ما جاء في الرسالة وعاد لإكمال ما بيده.
وفجأة تذكر أنه لم يُصَلِّ الصبح. توقَّف قليلاً، وتعجَّب من نفسه ما الذي ذَكَّره بها الآن، مع أنه في أحيان كثيرة لا يصليها!! قام محمد مباشرة وترك ما في يده، ووجد في نفسه همة ونشاطاً لأنْ يصلي الصبح لم يكن يعرف مثلها من قبل.
وفي آخر اليوم أتم محمد جميع أعماله، واستعد للذهاب إلى (المولد) وعندما ركب سيارته أطلق لفكره العنان يتذكر ما مر به في يومه من أحداث. تذكر الرسالة، وتذكر صلاته للصبح، وتذكر استعجاله للخروج حتى إنه نسي أول الأمر أن يغسل وجهه. ضحك من نفسه، ووجد في صدره راحة وأُنساً وانشراحاً؛ فحمد الله على نعمته. رجع محمد إلى نفسه يحاسبها على هذا التقصير في سنواته الماضية في الصلوات، وخصوصاً صلاة الصبح. وبدأ يحدث نفسه: تُرى هل أجد هذا الاطمئنان وهذه الراحة باستمرار إن داومتُ على هذه الصلاة؟!
تذكَّر محمد الشيخ خالد الذي اتصل به وأكَّد عليه التبكير للمولد. وهذا ديدن الشيخ خالد ـ جزاه الله خيراً ـ يتصل بي سنوياً يذكِّرني بهذه المناسبة المهمة.
ـ نعم! ـ حدثته نفسه ـ: ولكنَّ الشيخ خالد هذا لم يذكِّرك مرةً بصلاة الفجر، أو يعرض عليك أن يصطحبك إليها مثلما يفعل في شأن (المولد) ! إنه يظل طوال عامه مشغولاً، غير مهتم بك حتى إذا جاء هذا الوقت من كل سنة تذكَّرك!
ـ أعوذ بالله، ما هذه الخواطر المزعجة؟ إن الشيخ خالد رجل صالح، من أولياء الله، وهو يفعل ذلك حباً للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعظيماً لمقامه الشريف.
ـ حُبّاً ... نعم حُباً! آه ما أجمل الكلمات التي قرأتها في الرسالة اليوم!
عاد محمد إلى هاتفه الجوال، واستخرج منه الرسالة التي جاءته اليوم من صديقه صالح وأعاد قراءة ما فيها: «أخي! هل تحب الله، هل تحب الرسول؟
إن محبةَ الله ومحبةَ رسوله أوثقُ عرى الإيمان» .
نعم! ـ قال محمد ـ: ألم يقل -صلى الله عليه وسلم-: «أوثق عرى الإيمان الحُب في الله والبغض في الله؟» (1) . وواصل القراءة: «إنْ كانت محبتهما بهذه المنزلة؛ فهل يمكن أن يكون (المولد) من وسائل محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يتركنا دون أن يبيّنه لنا؟» .
ـ (صالحٌ) هذا صديق قديم، عرفتُه منذ الصغر في أيام الدراسة، وكنت أعرف فيه دائماً الجدَّ والتعَقُّلَ في الأمور كلها، وهو مع احترامه للناس إلا أنه لا يوكل عقله ومهمة التفكير عنه لأحد!! نعم! أتذكر مرة لما قال لنا المدرس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخرج يده من القبر الشريف لمصافحة أحد الأولياء، وكيف أنه لم يقتنع، وظل يناقش الأستاذ عن مصدر هذه المعلومة، ويؤكِّد أن ذلك لم يقع مع كبار الصحابة؛ فكيف يقع للأولياء بعدهم؟ وكنا نتعجب منه، ومن قوة رأيه وشخصيته.
ـ نعم! صالح رجل عاقل، ولكني أنا أيضاً عاقل، ولا أتابع صالحاً في كل ما يقول، صالح يمشي مع مشايخ متشددين لا يحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ـ عجباً والله! كيف أقول عن صالح وعن أصحابه: لا يحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مَن أرسل لي هذه الرسالة الرقيقة عن حبه -صلى الله عليه وسلم-؟ وأتذكَّر في الشهر الماضي أني صليت الجمعة عند أحد هؤلاء الشيوخ فوجدته ينافح ويدافع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويطلب من الناس تحمُّل مسؤولياتهم في مقاطعة كل الدول التي تُسيء إليه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن في ذلك الوقت أحدٌ من الناس يذكر هذه القضية إلا هؤلاء، ثم تتابع الناس من بعدهم في الاهتمام بهذه القضية. وحتى الشيخ خالد لمَّا زرته لم يعرِّج على هذه القضية أبداً. وكذلك أنا أرى صالحاً وأصحابه يهتمون بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إنه مرة أشار لي إلى واحدٍ منهم، وأخبرني أنه كتب عن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً ليس فيه إلا الأحاديث الصحيحة، وكذلك أذكر صديقنا سليمان الذي كتب مجموعة من القصص النبوي على هيئة قصص ميسَّرٍ للأطفال. هل هؤلاء لا يحبون الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ هل يمكن لمسلم يفعل السنن ويجتنب البدع، ويجعلُ اتّباعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هاجسه وشاغله، ويقدِّر سنته وسيرته وشريعته حق قدرها ألا يُحبَّ هذا الرجلَ العظيمَ والرسولَ الكريمَ -صلى الله عليه وسلم-؟.. واللهِ إن صَدَّقتُ يوماً أن هناك من الناس من يكون بهذه الدرجة من القسوة وغلظ القلب فلا يمكن أن أصدِّق أن قاسياً من الناس يكون أقسى من أن تؤثِّر فيه سيرة الرسول العطرة، وأقسى من أن تُحمد عقباه إذا اتبع سننَه، وهديَه -صلى الله عليه وسلم-. إي واللهِ! فبركةُ صلاتي للصبح اليوم أعقبت لي هذا الرشد، وهذه السعادة؛ فكيف بمن هو مترسِّمٌ لما جاء به -صلى الله عليه وسلم- في ليله ونهاره.
ـ على كل حال الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- فِعلُ خير، وما هو إلا ذكرٌ، وصلاةٌ على النبي -صلى الله عليه وسلم-، واجتماع على الخير، وتحريمه، والقول بأنه بدعة تشددٌ لا داعي له.. تشدد لا داعي له.. تشدد لا داعي له ... أخذ يكررها متأملاً في مضمونها.
ـ لحظة! هل الذي لا داعي له، فعلُ ما تركه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-، وخيارُ المسلمين من بعده فلم يفعلوه؛ أم أن فعلَ ما تركوه هو الذي لا داعي له؟
ـ آااه! أشعر والله بإرهاق من هذا التفكير.
توقف محمد، ونزل إلى حديقة عامة كي يُمضي فيها بعض الوقت، ويتناول مشروباً يُنعشه. جلس محمد جانباً، وطلب كوباً من عصير الليمون بالنعناع، وشعر بالاسترخاء، وأعجبته روعة المكان، وأعجبه جمال الحديقة وحُسن تنسيقها. ولم يكدِّر عليه صفوه إلا مجموعة من الأولاد ممن ناهز الاحتلام، وهم يقومون بأعمال مريبة.. نظر إليهم محمد وإذا السباب والشتائم هي تحية بعضهم لبعض. وبعد قليل وقع بينهم تشاجر ارتفعت فيه الأصوات، وانقسموا على إثره فريقين، ويا للعجب! أخرج بعضهم آلات حادة، وسكاكين للاعتداء على الآخرين، وكادت أن تقع مقتلة لولا لطف الله؛ حيث وقفت سيارة شرطة في مكان قريب، وترجل الشرطي منها قاصداً الحديقة ليشرب هو أيضاً كوباً من العصير؛ فلما رآه الصغار مقبلاً ولَّوْا مُدبرين.
ـ قال محمد لنفسه: الحمد لله ... كادت أن تقع هنا مقتلة لولا أن الله سلّم. كان يجب أن يكون هنا مراقب لهذا المكان الجميل لئلا يقع فيه ما لا تُحمد عقباه، فإن لم يكن فإغلاق الحديقة خير من تركها لتكون مدرسة جريمة يتأذى المجتمع بخريجيها في مستقبل الأيام. نعم! الشيء الذي يغلب شره على خيره يجب أن يُنظر فيه إلى ما غلب عليه.
ـ وهنا عاد محمد يناقش نفسه: صحيح؛ وكذا الكثير من الموالد التي يكثر فيها الشر والفساد، واللهِ إنهم يشربون الخمر والحشيشة باسم مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكم يقع في بعض الموالد من هتك لحرمات الله: رقص واختلاط، واللهِ ما هذه بمحبة صادقة..
ولكن الحمد لله؛ فالمولد الذي أحضره، والذي يُقام عند أهلي وعشيرتي مولدٌ سالمٌ من كل هذه البدع!
ـ البدع.. ماذا قلتُ أنا؟ بدع!! كيف قلتُ هذه الكلمة!! ... نعم! والله إنها لبدع!
ـ ولكن يا محمد! ألا تظن أن مولدكم الخالي من هذه المنكرات، قد يتضمن منكرات أخرى لا تراها أنت بدافع إلفك لها، وتعوُّدِك عليها؟ ثم ألا يمكن أن يتطور مولدكم يوماً ليلحق بالموالد التي قلت عنها إنها موالد بدع؟
ـ بالطبع لا، وهذه موالدنا، نحن وشيوخنا وآباؤنا منذ سنين طويلة لم يتغير فيها شيء، ولم نصل إلى شيء من هذه البدع والحمد لله.
ـ ألا تذكر يا محمد المولد الذي يقيمه (عبد الله) ؟ أتذكر ما الذي كان عليه، وأنه كان مثل مولدكم تماماً، أما تشعر أنهم صاروا الآن يستخدمون الدفوف ضمن احتفالهم بالمولد، ولقد سمعت أحد أقارب عبد الله يتحدث عن إدخال الناي في مراسم المولد..
ـ نعم! هذا صحيح أنا أذكر ذلك. هم مُخطئون في ذلك ولا شك.
ـ ولكن لماذا هم مخطئون؟ ألا يمكن أن نكون نحن المخطئين، وأنه كان يجب علينا أن نفعل مثلهم؟
ـ لا، لا، هم المخطئون، لا أقولها تعصباً، ولكن الذي فعلوه تغييراً لما كان عليه أسلافنا.
ـ طيب أليس المولد كله تغيير لما كان عليه الأسلاف الأوائل؟!
ـ نعم! ـ قالها وقد ضاق بهذا النقاش ذرعاً ـ: هو كذلك، ولكنه فعل خير.
هنا بدأ محمد يشعر بالضيق، وعدم الرغبة في الذهاب مبكراً إلى المولد، وتمنى لو أنه يلقى صالحاً فيناقشه في الأمر. ولكن أين صالح وكيف يمكن الوصول إليه؟!
قلَّب محمد في رسائل هاتفه الجوال؛ فإذا رسالة قديمة كان صالح قد أرسلها له قبل أيام، وإذا فيها: «أنت لا تُوَكِّل غيرك في شراء سيارةٍ لك، ولا في اختيار بيت تستأجره مما تتجمَّل به ويعبِّر عن شخصيتك، بل تقوم بذلك بنفسك..» . تواصِلُ الرسالة: «فلِمَ توكل إلى غيرك اختيار ما تتجمل به أمام الله ـ تعالى ـ من أمر دينك؟» .
لا، والله! لا أريد أن أعمل أعمالاً أصرف فيها القليل من وقتي وعمري الذي أجعله للعبادة؛ ثم تكون هذه الأعمال لا نافعة، ولا مرضيَّةً عند الله!!
أليس في الواضح الأكيد، الصافي من كل كدر من العبادات = أليس فيه غنية عن كل متشابه، قد يكون بدعة وقد يكون سنة؟
أما آن لي أن أسمع ممن اعتدت أن أسمع لهم من مشايخي، ولكن لا أُصِمُّ أُذنيَّ عن سماع غيرهم ممن قد يأتي بالحق بدليله فينشرح له صدري، وتقبله نفسي؟
وهنا بدأت معالم الصورة تتضح أمام محمد، وبدأ يرسم خطة جديدة لحياته، وإذا بالقرارات تنثال عليه وكأنه قد أعدها مسبقاً:
1 ـ أنا لن أعبد الله بالمتشابه، الذي لا أعلم أيرضاه مني أم لا؟ وفي الدين الواضح والمحجة البيضاء غنية وكفاية، وعسى أن أقوم بحقوقها وتكاليفها فإن في ذلك لَشُغلاً.
2 ـ لن أحضر احتفال المولد اليوم، ولا بعد اليوم، وقد أبدلني الله به مولداً جديداً هو مولدي أنا!! فأنا من اليوم إنسانٌ جديد، ومن اليوم سأحتفل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في كل حين؛ سأحتفل بتطبيق سنته، سأحتفل بالاقتداء به وبالمحافظة على صلاة الفجر في وقتها، وكذا بقية الفرائض، سأحتفل بتحكيمه -صلى الله عليه وسلم- في كل شؤون حياتي، ووالله إني لأشعر بِلَذَّةِ ذلك من الآن، وكأنها حلاوة أتطعَّمُها في فمي، ونِعم المولد مولدٌ أعيشه وأتبع فيه حبيبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحيا معه في كل حركةٍ وسكون.
3 ـ أهل العلم يجب أن نأخذ منهم، وأن نوقِّرهم، ولكن دون أن نُلغي عقولنا؛ فالحساب يوم القيامة سيكون فردياً، يجب أن أفهم أن ما أتَّبعهم فيه يجب أن يكون سنة لا بدعة، وأن يكون مقرِّباً إلى الله؛ فالعالم قد يُخطئ وقد يتبع العادة أو الهوى. ولا، واللهِ لا أُنزل أحداً من العالمين منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في اتباعه في الأمر كله.
4 ـ أرجو أن ينفعني الله بقول نبيه -صلى الله عليه وسلم-: «ما من شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم» فماذا بقي أرجو بعد هذا؟
ومضى محمد شاكراً لنعمة الله عليه بالتبصير في الدين، وركب سيارته وأدار المذياع؛ فإذا بالشيخ سعود الشريم ينساب صوته عذباً: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ * إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 115 - 117] .
أخي الكريم! هذه قصة جرت لرجل من الناس جعل الله له نوراً بتحكيمه للسنة على نفسه، وبتعظيمه هدي المصطفى وجَعْلِهِ إماماً؛ فقد فاز ـ واللهِ ـ من اتخذ مع الرسول سبيلاً بطاعته واتباعه، وتجنب الإحداث في دينه.
إن معيار الحق والعدل الذي يحبه الله ويرضاه لا يُعرف باستحسانِ ذوق، ولا بتوارثِ أجيال، ولا بفعلِ الجم الغفير من الناس، ولا بالتحاكمِ إلى عقلٍ لم يستنر بنور الشريعة، ولا بتقليدٍ لمن لم يأتِ ببرهانٍ من الله على ما يقوله. ولكنْ مَنْ طَلَبَ الهداية بصدق، ثم سلك طريقها الذي أمر اللهُ به وأمر به رسولُه -صلى الله عليه وسلم- متبعاً لا مبتدعاً فأحرِ به أن ينال مراده؛ فالله يقول: «يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهْدِكم» . ويقول عن اتِّباع الطرق غير الموصلة للحق: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] ، ويقول عن قوم ذامّاً لهم: {إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] .
إن شأن المولد إذا تأمل فيه مَنْ هو خالي الذهن غير مائلٍ لطرف من آراء الناس فيه = إذا تأمل فيه وفي أدلة كمال الشريعة، علم أنه ـ أي المولد ـ قَصْدُ خيرٍ، ولكنه ليس بهدى ولا خير؛ فإحداث هذا الاحتفال بحدِّ ذاته إحداثٌ في الدين، ثم إنه غالباً في أكثر بلدان المسلمين ينضاف إليه أنواع من الأمور المستنكرة والأفعال القبيحة. وأخفهم إحداثاً من يقوم أثناء الحضرة فجأة، وقد أعدوا العدة سابقاً لهذا القيام فيقومون قومة رجل واحد، ويُدخلون الطيب، ويُنشِدون بصوت مُنَغَّمٍ شجي: «مرحباً يا نور عيني.. مرحباً، مرحباً. مرحباً جد الحسين.. مرحباً مرحباً» ، وفي موالد أخرى يقع ما أشارت إليه القصة من المنكرات، وفي بعضها يقع الكفر الصراح، كما نقل الشيخ عبد الرحمن الوكيل، وهو ممن كان له بالمتصوفة علاقة. ولذا فهذه البدعة ـ التي يعدُّها بعض الناس يسيرة ولا تستحق النقاش ـ تؤول إلى أن تكون مجمعاً لبدع كثيرة لا تقوم إلا بها، ويكون المولد هو الفلك الذي تدور حوله، وهو الموسم الذي تنتشر فيه، وهذا ما يسميه أهل العلم بالبدعة المركبة. ولمعرفة جانب مما يقع في الموالد يمكن مراجعة كتاب: (الموالد في مصر) ، وهو لجندي إنجليزي يُدعى (مكفرسون) نزل مصر واستوطنها، واهتم بقضية الموالد فزار كثيراً منها، وكتب عمَّا رأى، ووصف، وهو غير متَّهم فيما ينقل؛ إذ كان يتحدث عن ذلك كله حديث المُعجَب به ويعتبره من عادات المجتمعات الشرقية، وهو ليس له هوى في إثبات المولد ولا في نفيه، وإنما انحصر دوره في النقل والوصف. وقد ذكر موالد كثيرة شاهدها تستغرق بمجموعها أيام السنة بكمالها. وبمثل هذه الَّدرْوَشات تُستغرق الأعمار، ويرضى الشيطان، وتُضَيَّع حقائق الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يا أهل العلم! هذه دعوة للمراجعة والتصحيح، ولا يمنعنكم رأي ارتأيتموه فيما مضى من الأيام إن استبان لكم الحق في غيره أن تراجعوا الحق فإن الحق قديم، والحق أحق أن يُتَّبع. إن المحبة عمل قلبي تظهر آثاره بما تنبعث به الجوارح، وليست ادعاءات بأن قوماً يحبون الرسول أكثر من غيرهم، أو أن من لا يفعل فعلنا فهو غير مُحِبٍ للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد مضى الزمن الذي يُصدِّق الناس فيه ما يقال عن (أهل السنة) دون تمحيص، كيف وقد ملؤوا السهل والجبل، وأقاموا الدين في كل ناد، وقاموا في مقامات الصدق في نصرة دين الله وحبيب الله -صلى الله عليه وسلم-. وليس على هذا المعوَّل في التزكية، ولكنه على الاتباع، وحُسن التأسي، وإنما أردنا مخاطبة القوم بالطريقة التي يعرفون. وليس أضر على الإسلام من المنافحة بالباطل، والتعصُّب لما يحبه قوم، أو ضد ما يأمر به قوم آخرون، وأي لُعبة يفرح بها الشيطان ويتلعَّب بها بالإنسان أعظم من هذه؟! إنَّ مِن إخلاص العبودية لله أن تقبل الحق، وإن كان مُرّاً، وأن تأخذ به ولو جاء به أبغضُ الناس إليك؛ وكذا أن تردَّ الباطل ولو كانت لك فيه مصلحة أو شهوة، وأن لا تلتفت إليه وإن قام به أبوك وأخوك وأقربوك. وإياك أن تَضِن بهؤلاء أن يكونوا أخطؤوا الحق، وأن ذلك يُزري بك وبهم؛ فيحملك ذلك على أن تتابعهم في الباطل؛ فإن جدالك عَمّا هم عليه بعدما تبيَّن هو الذي يُزري بك وبهم، ويمد المستكبر في عمايته، ويزيده طغياناً كبيراً، والعياذ بالله. قال ـ جل شأنه ـ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 20 - 24] .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإنْ تَأَمَّر عليكم عبد، وإنه مَنْ يعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وقال حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ: «كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء! خذوا طريق من كان قبلكم» (2) .
وقال ابن الماجشون: «سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فما لم يكن يومئذٍٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً» (3) .
«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.. اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
__________
(1) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده 1/101، وهو حديث صحيح، صحيح الجامع للألباني، رقم 2539.
(2) الاعتصام للشاطبي 1/386.
(3) الاعتصام للشاطبي 1/23.(223/32)
224 - ربيع الآخر - 1427 هـ
(السنة: 21)(/)
بعد محاكمة صدام ومعاونيه ... من يحاكم بوش ومعاونيه..؟!
لا شك أن العدالة لا تتجزأ، والجرائم لا تسقط بالتقادم، وهذه كانت حجة من قدموا رئيس دولة سابق ـ هو صدام حسين ـ مع سبعة من معاونيه إلى المحاكمة؛ حيث انتهت محاكمتهم حتى الآن إلى تهمة واحدة، وهي المتعلقة بإعدام 143 من الشيعة في بلدة الدجيل، بعد أن قامت محاولة لاغتيال صدام في تلك البلدة. وصدام مع معاونين آخرين، سيواجهون المحاكمة على ثلاث تهم أخرى، هي: ضرب الأكراد في مدينة «حلبحة» بالسلاح الكيماوي، وقمع انتفاضة الشيعة بعد حرب تحرير الكويت عام 1991م، واستخدام الغاز السام (غاز الخردل) ضد القوات الإيرانية في أواخر الحرب التي جرت بين العراق وإيران.
وهذه التهمة الأخيرة بالذات، قد لا تجري فيها المحاكمة؛ لأن الذين زوّدوا صدام حسين بغاز الخردل القاتل وقتها هم الأمريكيون، وكان وزير الدفاع الحالي (دونالد رامسفيلد) هو عَرَّاب تلك الصفقة من أسلحة الدمار الشامل، وهو الذي أبرمها شخصياً مع صدام في ذلك الوقت، وعلى هذا، فإن مكان رامسفيلد الطبيعي ـ لو جرت المحاكمة على تلك التهمة الأخيرة ـ هو أن يكون على يمين صدام في قفص الاتهام.
ولكن العدالة الأمريكية ـ بخلاف كل «العدالات» ـ يمكن أن تتجزأ، ويمكن أن تسقط الجرائم فيها بالتقادم، بل يمكن ألا تعد جرائم أصلاً، ولكن ذلك لا يغير من حقيقة أن الإدارة الأمريكية ـ في عهد بوش ـ ارتكبت العديد من جرائم الحرب.
فقرار شن الحرب نفسه لم يكن شرعياً بشهادة الأمم المتحدة، ومعنى ذلك أن كل ما ترتب عليه هو من جرائم الحرب، كجرائم الإبادة الجماعية التي مات بسببها أكثر من 120 ألفاً من المدنيين فضلاً عن العسكريين، وكذا جرائم الاختطاف، والسجن دون محاكمة، والتعذيب داخل السجون الرسمية وغير الرسمية، وجرائم التمييز على أسس دينية وعنصرية، وقتل الصحفيين والإعلاميين بدم بارد، والاعتداء على المساجد وقتل المعتصمين داخلها، وجرائم الاغتصاب والتنكيل بالقتلى واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً في اجتياح المدن المقاومة؛ فكل هذا وغيره هو من الجرائم التي لا تقل بحال من الأحوال في فظاعتها وشناعتها عن الجرائم الموجهة لصدام ومعاونيه، بل إن أكثر التهم الموجهة لصدام حسين ـ في حال ثبوتها ـ هي إحدى جرائم أمريكا وحلفائها في عهد ريجان وبوش الأب؛ لانهما هما اللذان دعما صدام منذ عام 1984م وحتى عام 1990م.
لكن يبقى السؤال: بعد محاكمة صدام وسبعة من معاونيه.... من يحاكم بوش وسبعة وسبعين من معاونيه..؟!(223/33)
ففروا إلى الله!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإن قلوب العباد أوعية لما أُودِع فيها من العلوم، وظروف لما جُعل فيها من المعارف بالأمور، وهي مع ذلك تصدأ إذا أُهملت كما يصدأ الحديد، وتضطرب وتفور كما يفور المرجل؛ إذا فتحت أبوابها للوساوس والشكوك والشهوات والشبهات، ويعلوها الران إذا تُرِكت نهباً لإبليس وجنوده، حتى إنها لتصير من أثر ذلك معتمة لا تتمكن من الإبصار ومعرفة الحقائق حتى لو كانت في غاية الوضوح، ويزداد الإعتام كلما بَعُدَ الناس عن ربهم حتى تصل إلى درجة الإغلاق التام. قال الله ـ تعالى ـ: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقِل قلبه، وإن عاد ِزيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] » (1) قال الطبري: «فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختمُ من قِبَل الله ـ عز وجل ـ والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص» (2) . وعن حذيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً؛ فأي قلب أُشْرِبَها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادّاً كالكوز مجخيّاً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشْرِبَ من هواه» (1) .
ولا يتمكن العبد من النجاة من ذلك إلا بالفرار إلى الله ـ تعالى ـ والرجوع إلى ربه والإنابة إليه، والذل والخضوع والانكسار بين يديه، والاستغفار والتوبة، والاعتماد عليه ـ تعالى ـ في الأمور كلها؛ فهو ربه ومليكه، وخالقه ورازقه، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، قلبه بين يديه يقلِّبه كيف يشاء، وهذا هو الفرار إليه الذي طلبه الله منا بقوله ـ تعالى ـ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50] فهو ـ سبحانه ـ الملاذ والملجأ وهو المغيث، ولا ملجأ منه ـ تعالى ـ إلاَّ إليه. يقول ابن جرير: «فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتِّباع أمره، والعمل بطاعته» .
والفرار لا يكون إلا إلى الله ـ تعالى ـ ولا يكون إلى أحد من خلقه؛ فإن الله ـ تعالى ـ هو رب العالمين وهو الفعال لما يريد، والخلق بأجمعهم لا يقدرون على شيء إلا ما شاءه الله ـ تعالى ـ: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير: 29] ، ومن فرَّ إلى غيره لم يمتنع منه، حتى يفر الإنسان من نفسه التي بين جنبيه إلى ربه خالقه ومولاه؛ فراحة الإنسان وأنسه وسعادته وأمنه واطمئنانه إنما يكون بالفرار مما سوى الله إلى الله تعالى.
وقد عبر القرآن عن الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ بلفظ الفرار لبيان الحزم والجدية والفورية التي ينبغي أن يتعامل بها في مثل هذا الأمر؛ فهو ليس أمراً على التراخي؛ فشأن المخالفة والمشاققة لله ولرسوله أمر جلل مخيف حقه أن يُفَرَّ منه ويُقلَع عنه بأقصى ما يمكن.
والتعبير بلفظ الفرار يدل على شدة القيود التي تكبل الإنسان، أو على شدة المغريات التي تأسره حتى يحتاج إلى الفرار؛ وإلا فلا يستطيع أن يخرج من دائرة تأثيرها، كما أن التعبير بالفرار يفصح عن سرعة الإهلاك والعذاب التي تنتظر المتواني أو المتباطئ؛ فالأمر لا يحتمل الإبطاء في الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ فالفرارَ الفرارَ إليه يا عباد الله؛ فإنه لا مهرب منه إلا إليه.
والإنسان في غالب شأنه لا يفر إلا مما يخاف منه أشد الخوف ولا قدرة له على دفع ضره وأذاه، ولا يفر إلى شيء إلا إذا كان يجد عنده الأمن والطمأنينة؛ فكان في هذا التعبير القرآني الموجز أصرح الدلالة على أن الشقاء والبؤس والتعاسة والخسارة الكاملة التي لا ربح بعدها، في البعد عن الله والفرار منه إلى غيره، كما أن الخير والفلاح والربح المضمون الذي لا تعقبه خسارة، في القرب إلى الله والفرار إليه.
والفرار إلى الله كما يكون بالعمل بطاعته والتوبة إليه، يكون أيضاً بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة أو المعصية إلى دار السنة أو الطاعة، ومن أعدائه إلى أوليائه؛ فهو متضمن للولاء والبراء والثبات على الدين؛ فالأول فرار بالقلب، والثاني فرار بالجسد، والثالث فرار بالقلب والجسد معاً، وكل نوع من الفرار مطلوب من المرء كلٌّ على حسب حاله.
والمسلم في حاجة دائمة إلى الفرار إلى الله ـ تعالى ـ والاستغفار والتوبة إليه في كل آن وحين؛ فبالفرار إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ والاستغفار والتوبة يُستَنزَل الغيث، ويستجلَب المال والولد، ويشتد الساعد وتزيد القوة التي يتمكن بها المرء من فعل ما يريد. قال الله ـ تعالى ـ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإن تَوَلَّوْا فَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] وقال ـ تعالى ـ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] .
والفرار إلى الله ـ تعالى ـ ليس عملاً قلبياً أو وجدانياً فحسب، ثم ينغلق المرء بعدها على نفسه فلا يكون لذلك الفرار أثر في الواقع، ولكنَّ الفرار مبتداه من القلب، ثم ينساح على الجوارح كلها فيغمرها فيه، حتى تكون تابعة له تعمل ما يأمرها به، ولا تمتنع منه، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (2) . وكما قال الصحابي الجليل أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده» (3) . وجنود القلب هي أعضاء البدن، فإذا كان الفرار انغلاقاً بالنفس عما حولها بحيث لا يؤثر فيها، فهو انسحاب من الحياة وهروب غير محمود، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما فروا إلى الله غيَّروا وجه الأرض حتى عمَّها التوحيد والعدل بعد أن غلب عليها الشرك والظلم.
ولا يكون الفرار انسحاباً محموداً من الحياة إلا في آخر الزمان، عند غلبة الجهل وفساد الناس، حين لا يجدي العمل والدعوة، فيكون الفرار حينئذ حفاظاً على الدين ورعاية له. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (1) . قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه» (2) .
وقد يقع في ذهن البعض أو الكثيرين أن الفرار إلى الله ـ تعالى ـ والاستغفار والتوبة لا تكون إلا من العاصي أو عند الوقوع في المعصية، وهذا وَهْمٌ غير صحيح، بل العبد محتاج إلى ذلك ولو كان على غير معصية، بل يحتاج إليها مع الطاعة في كل تقلباتها: قبل الطاعة وفي أثناء الطاعة وبعد الانتهاء منها. قال الله ـ تعالى ـ لعباده وهم في أثناء طاعة من أجلِّ الطاعات، وهي فريضة الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:199] . فأمرهم بالاستغفار وهم يؤدون النُّسُك، كما أمرهم ـ تعالى ـ بالاستغفار بعدما أمرهم بكثير من الأعمال الصالحة والواجبات، فقال ـ تعالى ـ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل:20] ، وقد نادى الله ـ تعالى ـ المؤمنين باسم الإيمان وأمرهم بالتوبة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] وقال ـ تعالى ـ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ، وهذا رسولنا الكريم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول لأصحابه: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة» (3) ، ويقول: «واللهِ! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (4) .
لقد كان الفرار إلى الله ـ تعالى ـ هو مصدر القوة والعزة والمنعة التي كان يعيشها المسلمون الأولون، وهو الذي كان سبباً في انتصارهم وظهورهم على من ناوأهم ممن خالفهم وعاداهم؛ حتى إن أحدهم ليسرع الفرار إلى الله ولو كان في ذلك موته؛ فعندما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر للمسلمين محرضاً لهم على القتال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض! قال عُمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم! قال: بَخٍ بَخٍ! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِل» (5) ، وتقدم ـ رضي الله عنه ـ للقتال مسرعاً وهو يرتجز ويقول:
ركضاً إلى الله بغير زادِ
إلا التقى وعمل المعادِ والصبر في الله على الجهادِ
وكل زاد عرضة النفادِ غير التقى والبر والرشادِ
والركض إلى الله ـ تعالى ـ هو الفرار إليه.
ثم تغيَّر الحال وضعف المسلمون، وصار كثير منهم يفرون إلى عدو الله وعدو المسلمين، مسارعةً فيهم والتماساً للقوة والعزة منهم، حتى إن منهم من ينصر الكفار على المسلمين من أجل ذلك، وقد نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين عن هذا المسلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] وبيَّن حقيقة من يسلك هذا السبيل فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] ، وقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] .
فلا عزَّ لنا ولا نصر ولا كرامة، إلا أن يكون الفرار إلى الله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له، دون ما سواه من خلقه أجمعين.
اللهم اجعلنا ممن يفرون إليك!
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب التفسير، رقم (3257) .
(2) تفسير الطبري (1/261) .
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم (207) . أسود مربادّاً: شدة البياض في سواد، الكوز مجخياً: منكوساً.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، رقم (52) . ومسلم، كتاب المساقاة، رقم (2996) .
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 221) .
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، رقم (19) .
(2) فتح الباري (13/42) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، رقم (4871) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، رقم (6307) .
(5) أخرجه مسلم كتاب الإمارة رقم (3520) .(223/34)
الخطاب الإسلامي بين الأصالة والانحراف
أكرم عصبان الحضرمي
هبت رياح عاتية بعد أحداث سبتمبر 2001م أتت على الخطاب الديني المقيَّد بأعنة الكتاب والسنة، ونادت عليه بالتغيير والتعديل والتبديل، وفي المقابل أفسحت المجال لخطاب بمواصفات معينة، فاغتنمها دعاته في إبراز مضامين فكرهم، وبذلك انتعش أمرهم وبقيت مراكزهم في منأى عن قوة هذه الهجمة الشرسة.
فالدعوة التي تتبنى الإسلام بمفهومه الشامل وتنابذ الجاهلية وتشد بيديها على هذا المفهوم ولا تحيد عنه نرى أن الأبواب أمامها تؤصد، وجميع تحركاتها تُرصد، ويمارَس ضدها كل الأساليب لمساومتها في التخلي عن بعض هذا المفهوم حتى يؤول الأمر في نهايته إلى الاستفزاز من الأرض، وتلك سنَّةٌ ماضيةٌ، وطريقة باقية، تواجهها الدعوة حين لا تغضي على ضيم الأعداء ولا تنعم عيناً مع وجود الباطل.
أما الدعوات التي تنتسب إلى الإسلام، وتتخلى عن المنهج الرباني والإرث النبوي الذي بنيت عليه الدعوة في خطابها، وتصدف عن مفهومه الصحيح، طلباً للسلامة حيث لا يصيبها العنت، نجد الأعداء يلوون في تفسير الدين عليها، ويسندون القياد إليها، ويفتحون أمام أربابها الأبواب، فلا عجب أن ترى أعلامها منشورة، وإبانة الإسلام عليها مقصورة، ذلك أنهم لما مالوا بعض الميل، وتحدثوا فطففوا في الكيل، طمعوا في خطابهم، وأمالوا برؤوسهم نحوهم، وخاصة أن الحاجة ماسة إلى الخطاب الديني بعد أن فرضت الصحوة المباركة نفسها في الواقع، وتراجعت الشعارات التي كانت سبباً في ضعف الأمة، وسقطت أوراق العلمانيين وغاب دورهم فلم يعد يعوَّل على رأي النخب منهم.
وحديثنا هنا يكون على محورين: أحدهما: بيان طبيعة خطاب المنهج النبوي المتمثلة في العبودية لله وحده، وإقامة نظام الله على الأرض وإزهاق ما علق بالنفوس من تصورات الجاهلية. وثانيهما: ذكر نماذج من الخطاب الديني الذي مد الأعداء له الحبال حين انحرف عن الجادة، ونأخذ منه ثلاثة: خطاب أهل التصوف، والإرجاء، والجبر.
- الإسلام هو الاستسلام لله وحده:
لقد جاء الإسلام بالعدل الذي أُرسلت من أجله الرسل، وأُنزلت لبيانه الكتب، وهو النظام للحياة كلها؛ حيث ينقل الناس من الوثنية التي ألفوها إلى النظام الإسلامي الذي يتميز بالشمولية والاتزان. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وذلك من خلال غرس العقيدة الإسلامية لتكون أساساً تنطلق منه الدعوة لتحقيق تغيير شامل للحياة واصطباغها بصبغة الحق تكون العبودية لله وحده، وتمحى بها كل تصورات الجاهلية التي سادت حيناً من الدهر وأدت إلى الانحراف عن الفطرة.
فالإسلام بهذا المفهوم (يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص لقوله ـ تعالى ـ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ} [الزمر: 29] فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قول (لا إله إلا الله) فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك؛ والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ) (1) .
- الحنفاء وقريش:
وقد أدرك (ورقة بن نوفل) طبيعة هذا الخطاب من أول وهلة، وأن الجاهلية لن تدعه يقوِّض خيامها لكونه يحمل منهجاً تغييرياً، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ـ حين قص عليه ما حصل له في الغار ـ: «ما جاء رجل قَطُّ بمثل ما جئت به إلا عودي» (2) . صرح ورقة بهذه القالة مستشرفاً المستقبل المحفوف بالمخاطر، والإخراج من الأرض، مرجعاً نظرته إلى خلفية استقاها من أسفاره إلى أهل الكتاب، ودراسة أسفارهم، و (ورقة بن نوفل) هذا مع (زيد بن عمرو بن نفيل) يعدان من أبرز الباحثين عن الحق من قريش قبل الإسلام. قال الذهبي في السِيَر: (فأما ورقة فتنصر، واستحكم في النصرانية، وحصّل الكتب، وعلم علماً كثيراً.. ولم يكن فيهم ـ الحنفاءَ ـ أعدل شأناً من زيد اعتزل الأوثان، والملل إلا دين إبراهيم، يوحد الله ـ تعالى ـ ولا يأكل ذبائح قومه) (3) . وهؤلاء الحنفاء الذين فارقوا ما عليه قومهم من عبادة الأصنام، وأكل ما ذُبح عليها، ووأد البنات وغيرها من المنكرات لم يكونوا يحملون خطاباً عاماً لقومهم؛ ولذلك لم تشن قريش ـ بمجموعها ـ حرباً عليهم؛ إذ لا يشكلون تهديداً حقيقياً على المعتقدات؛ ومن ثَمَّ لم يتعرضوا للنفي إلا ما كان من شأن زيد مع عمه الخطاب (وكان عمه الخطّاب قد آذاه، فنزح عنه إلى أعلى مكة فنزل حراء، فوكَّل الخطّاب شباباً سفهاء لا يَدَعونه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سراً) (4) .
- العداء السافر لدعوة النبي:
أما دعوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي سفَّهت أحلامهم، وعابت أصنامهم، وجاءت بالعبودية لله وحده؛ فقد رأت فيها قريش أنها تريد تغيير دينها، وموروثاتها السابقة التي شاخت عليها، وتسلبها نفوذها الذي يكسبها قداسة عند الناس من حولهم، وتذهب بسلطانها الذي يحقق لها مكاسب مادية، فلجأت إلى العداء السافر الذي أخذ أشكالاً مختلفة، منها حصار الشِّعْب الذي دام ثلاث سنوات أرهق الفئة المسلمة أيما إرهاق، ومنها حرب نفسية تمثلت في رمي النبي -صلى الله عليه وسلم- بألقاب منفرة كالقول بأنه شاعر أو كاهن أو مجنون لتنقض قريش غزلها الذي نسجته بالأمس في مدحه عليه السلام، ومنها الأذى الجسدي؛ غير أن المسلمين لم يستكينوا لهذه الأساليب كلها، وكان زوال الجبال أهون عندهم من الحيدة عن المنهج قدر أنملة، ولسان حالهم لقريش هو لسان الشاعر في قوله:
فرُمْ بيديك هل تسطيع نقلاً جبالاً من تهامة راسياتِ؟!
- المساومة في المنهج:
ولما رأت قريش أن قناة المسلمين قوية لا تلين لغامز، عاجت (5) على مكر أمضى تأثيراً مما سبق ذكره، هو الاعتراف بالإسلام مقابل التخلي عن بعض مقومات خطابه، واعترافه بالجاهلية أولاً، وقد حشدت لهذا كل طاقاتها، وأبدت لِيناً، وسعت في تحقيقه حتى كاد السعي أن ينجح لولا أن ثبت الله نبيه بثبات من عنده، فباءت هذه الجولة أيضاً بالفشل.
فعقد من بيده الحل والعقد من مشركي مكة مؤتمراً مهماً بدار الندوة قرر المجتمعون فيه قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو استفزازه من الأرض بكل ما يكمن وراء هذه اللفظة القرآنية من معان، وذكر القرآن هذا المسلك في قوله ـ تعالى ـ: {وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 73 - 77] .
وهكذا ينتهي بنا تحديد الخطاب في منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابت وموقف الأعداء منه حين لم يتخلَّ عن مقومات الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ ليستلهم المسلمون منه أهم المعالم فلا يتعجبوا بعد ذلك من سهام المخالفين حين تسدد إليهم عن قوس واحدة.
أما المحور الثاني فيكون عن بعض المناهج المخالفة وهي (الصوفية، والمرجئة، والجبرية) التي أصلها انحراف في الخطاب عن طبيعة المنهج النبوي الذي سبق تقريره، ووضح تحريره، وفرعها استغلال الأعداء لهذا الخطاب واستئناس بعض الجاهلين به.
- أولاً: التصوف:
إن التصوف قد بدأ بالزهد والازورار عن الحياة حين أبدت زخرفها، ثم فسد حين أخذ من سوق الفلاسفة تهذيب النفس عبر المقامات، وتغلظ الفساد بالخوض في الإنسان الكامل، ومجاراة الغلاة في إثبات منزلة له فيها خصائص الربوبية، تحت مسمى الغوثية والقطبية، أوقعت الأتباع في عقائد فاسدة، وغالب المتأخرين منهم اشترى من هذه البضاعة الكاسدة.
إذاً فمصطلح التصوف لم يقف عند حقيقة النشأة فحسب، بل ما فتئ يتطور وينمو حتى استقر على صيغة نهائية ينصرف إليها الاسم عند الإطلاق، ومن يحصره على المعنى السلوكي من ترقيق القلوب، وتزكية النفوس، ويتوارى عن الجانب الفكري، فإنه يقطع سير الصوفية إلى الغاية التي اتجهوا نحوها من حيث أراد تنزيههم، ولم يراعِ لهم حقوقاً، ومن البر ما يكون عقوقاً.
فالرياضة والمجاهدات ذات الطابع العملي وإن كانت ملوثة بالتواجد والسماع، والخنوع للشيوخ، والتنقيب في أشياء كالجوع والسهر والخلوة لم ينقب فيها السابقون لم يقف الصوفية عندها بالوصيد، بل كسروا الباب، ومضوا إلى الجمع والبقاء ذي النزعة الفلسفية الذي قاد إلى الشطح ومقام القطبية ونحو ذلك من السراب.
وحقيقة التوحيد تتمثل في مقام الفناء حين يفارق الواصل التمييز والشعور ويخرج عن عهدة التكاليف، وإذ تحدث فيه فلا يكاد يبين، بل يتكلم بما يدعونه (الشطحات) الناتجة عن مقام السُّكْر، ثم يعود إلى مقام القطبية والغوثية والإنسان الكامل؛ ومبنى ذلك كله على الحقيقة أو علم الباطن، ومناطه التسليم.
قال أبو مدين الذي تنسب إليه الطريقة المدينية المغربية:
فلا تلم السكران في حال سُكْره فقد رُفِعَ التكليفُ في سُكْرِنا عنا
وسلّم لنا في ما ادعيناه إننا إذا غلبت أشواقنا ربما بُحنا
ويحتاج المريد السالك لهذا الدرب إلى شيخ يسير بسيره إلى الغاية، ويتحكم له فلا يخالفه البتة ولو على خلاف الظاهر ـ ويحتجون بقصة الخضر ـ بل يكون عنده كالميت عند مغسله:
وكن عنده كالميت عند مغسِّل يقلبه ما شاء وهو مطاوع
وفي قصة الخضر الكريم كفاية بقتل غلام والكليم يدافع
ويعد الشيخ هو المحور الذي تدور عليه الطريقة وتتميز به عن غيرها من الطرق الأخرى؛ ومن هنا نشأ تقديس المشايخ وأنهم محفوظون. والقول بالقطبية والتصرف في الكون وغيرها من العقائد التي أخذ بعضها من كيس الشيعة فأُشرِبَتْها الصوفية وتلقتها عنهم، ولذلك تجدهم ينهمكون في عمل الموالد عند أضرحة المشايخ ويطيلون الوقوف عند عتباتهم، وينسبون الخوارق والحكايات والخرافات إليهم، ويغلون فيهم غلواً يقع الخلط فيه بين الولاية والربوبية.
والتصوف بهذا المفهوم المنحرف لا يحمل منهجاً يحدث تغييراً في الواقع؛ إذ هو محصلة من الخمول والمحو والفناء والغيبة والسكر وهي مترادفات تشير إلى البعد عن الواقع ونتيجة يسبقها الجوع والسهر والخلوة والصمت، فأنَّى لمثل هؤلاء أن يبارزوا جاهلية منظمة؟ وكيف بمن يفنى عن الكون فلا يقوم بالعبادات الواجبة فضلاً عن المندوبات أن يقوم بالتغيير؟ وكذا مجذوب لا يدري شيئاً، وهائم في القفار على وجهه أنى له أن ينشد النظام الإسلامي؟
- شاهد عدل:
ولنأخذ مثلاً على بعض مفردات هذا الفكر ـ الذي يُفسح المجال لخطابه الديني ـ في عصرٍ طغت فيه الطرق، ومِصْرٍ انتشر فيه أصحابها انتشاراً عظيماً؛ وذلك حين عطلت طقوس طرائق الصوفية في مصر إبَّان الغزو الفرنسي، ثم ما لبثت أن أعيدت على عين الاحتلال بعد أن بَلَوْا أخبارها؛ فما نقموا منها شيئاً، ومحصوا أفكارها؛ فإذا بها تكشف لهم عن وجه فيه من المخالفات ما تقر به العيون، فجعلوا يشجعونها على إعادة ما تقوم به من الموالد وغيرها من مفردات التصوف.
ولْنُعْطِ القوس باريها في هذا المجال وهو المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي يحدثنا عن ذلك الواقع الذي أزرى بالدين في تاريخه المسمى (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) .
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما قد حدثوك فما راءٍٍ كمن سمعا
قال الجبرتي: (إن أهل مصر جَرَوْا على عادتهم في بِدَعهم التي كانوا عليها، وانكمشوا عن بعضها، واحتشموا خوفاً من الفرنسيس، فلما تدرجوا فيها وأطلق لهم الفرنساوية القيد، ورخصوا لهم وسايروهم رجعوا إليها، وانهمكوا في عمل موالد الأضرحة التي يرون فرضيتها، وأنها قربة تنجيهم بزعمهم من المهالك، وتقربهم إلى الله زلفى في المسالك) (1) .
ولنأخذ مثالين لأشهر تلك الموالد التي تحدث عنها الجبرتي وهما:
1 ـ المولد الذي ابتدعه بدوي فتيح:
في شهر شعبان سنة 1213 هـ وفي يوم الأحد سادسه نادى القبطان الفرنساوي الساكن بالمشهد الحسيني على أهل تلك الخطة وما جاورها بفتح الحوانيت والأسواق لأجل المولد الحسيني ـ الذي ابتدعه بدوي فتيح ـ وشدد في ذلك وأوعد من أغلق حانوته بتسميره وتغريمه عشرة ريالات فرنسية مكافأة (2) على ذلك!
وكان بدوي قد اعتراه مرض الحب الإفرنجي، فنذر نفسه في عمل هذا المولد إن شفاه الله تعالى واستمر هذا المولد أكثر من عشر سنين لم يزدد الناذر إلا مرضاً ومقتاً، وفيه رتب فقهاء يقرؤون القرآن بالنهار مدارسة، وآخرين بالمسجد يقرؤون بالليل دلائل الخيرات للجزولي، وقد انضم إليهم كثير من أهل البدع كجماعة العفيفي والسمان والعربي والعيسوية (3) .
2 ـ مولد علي البكري:
في عشرين ربيع الثاني سنة 1214هـ نودي بعمل مولد (علي البكري) وذلك أن الناس لما حضر الفرنساوية تشاغلوا عنه، وأُهمِلَ شأنه في جملة المهمَلات، وتُرِك مع المتروكات؛ فلما فتح أمر الموالد والجمعيات..... ورخصت الفرنساوية لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، واتباع الشهوات والتلاهي، وفعل المحرمات، وأمر الناس بوقود قناديل بالأزقة في تلك الجهات، وأذنوا لهم بالذهاب والمجيء ليلاً ونهاراً من غير حرج.
وكان (علي البكري) رجلاً من البُلَهِ يمشي بالأسواق عرياناً مكشوف الرأس والسوأتين، وله أخ صاحب دهاء ومكر لا يلتئم به، واستمر على ذلك مدة سنين، ثم بدا لأخيه فيه أمر لما رأى ميل الناس واعتقادهم فيه كما هي عادة أهل مصر في أمثاله، فحجب عليه، ومنعه من الخروج من البيت، وألبسه ثياباً، وأظهر للناس أنه أُذِنَ له بذلك، وأنه تولى القطبانية، فأقبلت الرجال والنساء على زيارته والتبرك به وسماع ألفاظه والإنصات إلى تخليطاته وتأويلها بما في نفوسهم، وطفق أخوه المذكور يرغبهم ويبث لهم كراماته وأنه يطَّلع على خطرات القلوب والمغيبات وينطق بما في النفوس، فأقبلوا بالهدايا والنذور والإمدادات الواسعة من كل شيء، فاتسعت أمواله ونفقت سلعته وصادت شبكته، وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة حتى صار مثل البَوِّ العظيم؛ فلم يزل إلى أن مات في سنة سبع بعد المائتين.
فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حُجِرَ عليها من هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع، وعمل عليه مقصورة ومقاماً، وواظب عنده بالمقرئين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين بذكر كراماته وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك، ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه ويفرقون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في أعبائهم وجيوبهم (1) ....
- أمور غريبة من أفعال بعض الصوفية:
ومن غريب أمر بعض الصوفية حين يذهب الاعتقاد بهم في تقديس شيوخهم قولهم إن البلاد تُحمَى بسرِّهم، وتُحفَظ ببركتهم، كما نقل (رشيد رضا) في تفسير المنار أنه يُحكى عن مسلمي بُخارى أن شاه نقشنبده هو الحامي لها، فلن تستطيع الدولة الروسية الاستيلاء عليها! وما كان يُحكى عن مسلمي المغرب الأقصى من حماية مولاي إدريس لفاس وسائر المغرب!) (2) .
وأغرب من ذلك من يلوذون بالشيوخ إذا دخل المستعمر ليخلصهم ضريحُه من شر هذا المستعمر كما نقل بعضهم في ذلك شعراً بقوله:
يا هاربين من التترْ لوذوا بقبر أبي عمرّْ
وأشد غرابة من ذلك حين يوغل البعض في الغلو إيغالاً بعيداً يفوق خطابهم الذي طمعوا فيه، ويتعداه إلى مساعدة الأعداء في احتلالهم كما قال (رشيد رضا) يخاطب بعض أهل الطرق الذين اتهموه بأنه ينكر كرامات الأولياء: (وها هي ذي فرنسا استولت على بلادهم كما أنذرهم ـ يعني نفسه ـ وظهر أن أكبر مشايخ الطرق نفوذاً ودعوى للكرامات بالباطل كالتيجانية كانوا وما زالوا من خدمة فرنسا ومساعديها على فتح البلاد واستعباد أهلها أو إخراجهم من دين الإسلام إلى الإلحاد أو النصرانية من حيث يدرون أو لا يدرون) (3) .
وقد قام بعض شيوخ الطريقة التيجانية في الجزائر والمغرب بالدفاع عن الاستعمار الفرنسي وتحريض المسلمين على الخنوع، ويتضح في الخطبة التي ألقاها صاحب السجادة الكبرى محمد الكبير بين يدي فرنسا قائلاً: (إنه من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا مادياً وأدبياً وسياسياً! ولهذا فإني أقول لا على سبيل المن والافتخار ولكن على سبيل الاحتساب والتشرف بالقيام بالواجب ... أن تصل بلادنا وقبل أن تحتل جيوشها الكرام ديارنا! ففي سنة 1838 كان جدي سيدي محمد الصغير ـ رئيس التيجانية يومئذ ـ أظهر شجاعة نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا الأمير عبد القادر الجزائري، ومع أن هذا العدو ـ عبد القادر ـ حاصر بلدتنا (عين ماضي) وشدد عليها الخناق ثمانية أشهر فإن هذا الحصار تم بتسليمِ فيه شرف لنا نحن المغلوبين وليس فيه شرف لأعداء فرنسا الغالبين؛ وذلك أن جدي أبى وامتنع أن يرى وجهاً لأكبر عدو لفرنسا فلم يقابل الأمير عبد القادر (4) .
- من الخطاب الصوفي المعاصر:
وهو ما يطالعنا به أبرز المروِّجين للتصوف (زين العابدين علي الجفري) في الإعلام بقنواته الفضائية والصحفية من التبشير بقدوم التصوف؛ وذلك في حديثه لجريدة الشرق الأوسط بقوله: (التصوف قادم بوجهه الصحيح) وقد علل ذلك بقوله: (لأن أهل التصوف الصادقين بعد أن أوذوا وحصل لهم ما حصل بدؤوا الآن يستعيدون وجودهم ... ) (1) .
قلت: وقوله: (الآن) يراد به بعد أحداث سبتمبر 2001؛ وأما قيد الصحة الوارد في عبارته المذكورة فلا يفيد في البيان شيئاً لاشتماله على الإجمال؛ إذ يستطيع تفسيره عند المعارضين ـ أو المتوقفين في التصوف ـ على ما ينبذونه وفق تصورهم، كما يستطيع أن يحمله إذا خلا بمؤيديه على نبذ الحلول والاتحاد، ولو كان واضحاً لأبان لنا في تفصيل المراد ولكن التعميم صفة تكثر في أجوبته (2) .
وقد حدد الوجه الصحيح للتصوف في المنهج الذي يدعو به كما ورد في صحيفتي الأيام و (26) سبتمبر اليمنيتين فقال في بيان الفرق بين دعوته ودعوة عمرو خالد: (المنهج الذي ندعو إليه له جذور تمتد ألف سنة....) قال: (ودار المصطفى ـ بتريم ـ امتداد لهذا التاريخ..) .
هكذا ذكر لنا طول المنهج على امتداد التاريخ، ولكن: ما لونه، ما ريحه، ما الطعم؟ لا يستطيع القارئ أن يتعرف على شيء من ذلك إلا إذا كان على خلفية مسبقة بالطريقة الصوفية الحضرمية، ونحن لا نلمح شيئاً من خطاب هذا المنهج المقرر في مصادر الطريقة عند المتقدمين منهم والمتأخرين ممن يعدهم ضمن شيوخه، وذلك لوحشة من يخاطبهم من الخطاب الصوفي التقليدي الغارق في الكرامات، فأدخل عليه تعديلاً حتى يتلاءم مع العصر بقوله: (التصوف بمعناه الراقي لا الهزلي) (3) .
هذا هو التعديل الجديد على المنهج، وبه كاد أن ينقض قوله السابق المتمثل في الدعوة إلى منهج محدد؛ فهو يرى كما في صحيفة السياسة الكويتية أن مصيبة الأمة ترجع إلى حب الدنيا وكراهية الموت والذي يعالج هاتين الخصلتين هو علم التصوف بمعناه الراقي وليس الهزلي الذي يمارسه البعض اليوم؛ فالتصوف الراقي هو الذي يعتني بتطهير القلوب وصفائها ويخلصها من حب الدنيا وكراهية الموت ويربطها بالله عز وجل) .
وفي صحيفة الأيام البحرينية قال: (ما رأيت نظاماً يتخوف منها) أي الصوفية. وخص في مجلة المصور المصرية النظام المصري بالذكر في معرض حديثه عن سبب ترحيله من مصر التي يزورها فيها آل البيت والصالحون الموجودون فيها كالسيدة زينب والسيدة نفيسة والإمام الحسين! فقال: (والمسؤولون ليسوا من أصحاب التوجه المحارب لأضرحة الأولياء) (4) !!
وقد يستأنس بعض الناس بالخطاب الصوفي إما بسبب التشديد الذي ينتهجه بعض الدعاة حين ينزع إلى التضييق عليهم، وإما بسبب طغيان الحياة المادية وضعف الخطاب عن أمراض القلوب، وقديماً أشار الكواكبي إلى أن التضييق في الأحكام مما ينافي سماحة الدين ومزية التدين به في الدنيا قبل الآخرة هو الذي جعل المسلم لا يرى لنفسه فرجاً إلا بالالتجاء إلى صوفية الزمان الذين يهونون عليه الدين كل التهوين ... وهم المقررون بأن الولاية لا ينافيها ارتكاب الكبائر كلها إلا الكذب، وأن الاعتقاد أوْلى من الانتقاد، وأن الاعتراض يوجب الحرمان، أي أن تحسين الظن بالفساق والفجار أوْلى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! إلى غير ذلك من الأقوال المهونة للدين والأعمال التي تجعله نوعاً من اللهو الذي تستأنس به نفوس الجاهلين على أن الناس لو وجدوا الصوفية الحقيقيين وأين هم لفروا منهم (5) .
- ثانياً: المرجئة:
إن الإيمان عند السلف قول وعمل، يشمل الطاعات الباطنة والظاهرة فهو (مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة) (6) . وأما حقيقته عند المرجئة فيتمثل في إخراج العمل عنه، وقد اتفقت فرقها على هذا الأصل الجامع لها مع اختلاف في التفاصيل يتردد بين إرجاء الفقهاء والغلاة. قال الفضيل بن عياض: (ميز أهل البدع العمل عن الإيمان وقالوا: فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفِرْية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض، رادّاً على الله أمره) (7) .
وقال الآجرِّي: (فالأعمال ـ رحمكم الله ـ بالجوارح وتصديق عن الإيمان بالقلب واللسان؛ فمن لم يصدق الإيمان بعمله وجوارحه مثل الطهارة والصلاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه. وبالله التوفيق) (1) .
فلا بد من القول والعمل، ومن لم يسلِّم بهذا فقد رد على أبي بكر في قتاله أهل الردة الذين امتنعوا عن الزكاة حين لم يجحدوا التوحيد. وما زال مسمى الإيمان عند المرجئة مشكلاً يوردون نصاً أُجْمِل القول فيه، ويتعلقون به ويمرون عند كل المواضع التي جاءت بالبيان الشافي مروراً سريعاً، حتى ذهبت غلاتهم مذهباً بعيداً، فزعموا أن لا فرق بين إيمان العاصي وإيمان أبي بكر؛ وعليه فلا أثر للذنوب البتة. قال ابن القيم في مدارج السالكين (العقبة الثانية عقبة الكفر: فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوَّف له وفتح باب الإرجاء وقال له: الإيمان هو نفس التصديق فلا تقدح فيه الأعمال، وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أصك بها الخلق وهي قوله: لا يضر مع التوحيد ذنب؛ كما لا يضر مع الشرك حسنة) (2) .
وكانت نار المرجئة تعلو تارة، وتخبو كثيراً إلى أن نفخ فيها اليوم من ينتسب إلى العلم، فزادوا أُوارها جذوة وبعثوها من مرقدها، وما زالوا يقررون أن الإيمان هو التصديق، ولا كفر إلا الجحود والتكذيب؛ حتى صار الدين عندهم كالسمحاق، وغدا بدره إلى المحاق، فونت العزائم، وعطلت الأحكام، ولم تكتف هذه الطائفة بهذا الانحراف، بل ذهبت تصف كل من يخالفها بشنشنة معروفة أنهم من جنس الخوارج.
وكاد خطابهم أن يملأ الساحة لولا أن تصدى كبار العلماء في اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية لهذا الفكر، وبينوا ضلال قولهم هذا وما فيه من تعطيل جانب الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه يسوي بين الصالح والطالح والمطيع والعاصي (3) .
- آثار الإرجاء:
وقد نتج عن هذه الفئة التي تبنت أقوال المرجئة من الآثار ما أضعف الأمة وفتح لها باب المعاصي ولا سيما حين ساووا بين المعاصي والحكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام، واشترطوا فيهما الاستحلال؛ وهذا محض افتراء على أهل السنة؛ وما أجمل ما سطره يراع الشيخ (بكر أبو زيد) في حديثه عن تهوين هذه الفئة من خصال الإسلام وفرائضه شأن أسلافهم من قبل، فقال:
ـ منها التهوين من شأن الصلاة، لا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، طاشت فيه موجة الملحدين الذين لا يعرفون ربهم طرفة عين.
ـ ومنها التهوين من تحكيم شريعة الله في عباده، بل ومساندة من يتحاكم إلى الطاغوت، وقد أمر الله بالكفر به) .
- فرح العلمانية بذلك:
فإخراج العمل من مسمى الإيمان يعد من أخطر الانحرافات التي دخلت على العقيدة الإسلامية من حيث تأثيرها في الواقع وبقاء النظام الجاهلي، لانفصام العمل عن الإيمان عندهم، والعلمانية تفرح بهذا الخطاب بمن استبضع الإرجاء، وسعى في نشره، وقام أصحابها الذين فصلوا الدين عن الدولة ـ شاهت وجوهم ـ يعملون على بث الشهوات عن طريق ما تقدمه وسائل الإعلام من أمواج الفتن والخناء وراموا تدمير الأخلاق، ووجهوا سهامهم نحو المرأة تحت شعارات زائفة ودعايات زائغة طالما كلفوا بها كتحريرها، مجاراة للغرب الذي يُكْبِرونه في صدورهم، وأرادوا استنساخ صورة منه في أرض الإسلام، والمسلم يهون على نفسه بأن إيمانه معافى لا يمسه شيء، والمرجئة من حيث لا تشعر في خطابها الديني قد أسهمت في ذلك. وصدق الشاعر في قوله:
في كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوضِ
وانتهى الأمر خطورة بحصر الكفر في الاستحلال إلى إيصاد باب التكفير، فتجرأ الزنادقة وطعنوا في الدين؛ لأنهم في منأى عن الحكم بردتهم؛ إذ المرجئة تظل منتظرة الجحود والاستحلال منهم. قال الشيخ (صالح الفوزان) في رده على العنبري: (التكفير للمرتدين ليس من تشريع الخوارج ولا غيرهم، وليس هو فكراً كما تقول، وإنما هو حكم شرعي حكم الله به ورسوله على من يستحقه بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام القولية، والاعتقادية، أو الفعلية التي بينها العلماء في باب أحكام المرتد ... ) (4) .
- الجبرية:
ونعني بها الجبرية المحضة التي حقيقة خطابها: أن لا سبيل إلى التغيير؛ لأن ما تعيشه الأمة من النكبات إنما وقع بمشيئة الله، ولا يستدعي ذلك العمل لتغييره؛ إذ الواجب عندهم التسليم للمقادير، وترك الأخذ بالأسباب، ونكون في ظل الواقع المرير إلى حيث أراد القدر صائرون، وهو خطاب يتبناه الذين يتوكؤون على القدر ويتركون الأمور سائمة طول العام، فحين يرون رايات الدين نكست، ومعالمه درست، تراهم يحيلون على القدر فكانت العاقبة خذلاناً عظيماً.
قال (العز الحنفي) شارح الطحاوية يبين فساد هذا الطرح: (وقد يظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب، وهذا فاسد؛ لأن الاكتساب منه فرض ومنه المستحب، ومنه مباح ومنه مكروه ومنه حرام، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل المتوكلين يلبس لأمة الحرب ويمشي في الأسواق) (1) .
والإعراض عن التغيير الجاد وعدم إنكار المنكر بمسوغات الاستسلام للقدر هو قَدْح في الشرع ذاته ودثار ملتحفه عار، وصاحبه على شفا جرف هار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحوُ الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراضُ عن الأسباب المأمور بها قدحٌ في الشرع؛ فعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة) (22) .
- ثمار تبني هذا القول:
نجد أن تبنِّي هذا الخطاب الشعبي يجعل الأمة تتردى في هوة سحيقة من الجمود، ويعزلها عن الأحداث؛ والسبب في ذلك يرجع إلى الخلط بين الرضا والمشيئة، فتجد هذا الجبري فاغراً فاه يتساءل عن جدوى العمل في ركام تلك الأحداث العظيمة، وينادي بالراحة والقعود كما نادى بها صاحب الشاعر لما طال عليه السير فبكى فصور حاله بقوله:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنَّا لاحقانِ بقيصرا
فقلت له: لا تبكِ عينك إننا نحاول ملكاً أو نموت فنُعذَرا
ومن آثار هذا الخطاب أيضاً التيئيس من العمل الدعوي الذي ينشد المصلحون من خلاله إقامة الخلافة الراشدة. قال الشيخ عبد الرحمن المحمود: (وإننا نسمع كثيراً من اليائسين الذين يكررون عبارات التيئيس للدعاة والمصلحين مثل قولهم: إن هذا الزمان هو الذي فسد، وإن الإصلاح صعب، وهذا آخر الزمان وهو زمان غربة الإسلام ... إلى آخر العبارات التي تنم عن جهل كبير ويأس قاتل، وما أدري: لو عايش هؤلاء غربة الإسلام الأولى ـ حين كانت الدنيا كلها مطبقة على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حين كانوا قلة مستضعفين ـ ما أدري لو عايش هؤلاء تلك الغربة ماذا سيقولون؟ وماذا سيفعلون؟) (3) .
- الأعداء يستغلون الجبر:
لقد تلقف الكافر هذه العثرة التي لا تُقال، وضرب لها الطبل، واستدل بها على ضعاف العقول حين أوصاهم بالتمسك بهذه الخطة ـ خطة الضيم ـ بتمويه وتضليل عجيبين، وأدرك أنها بوابة لبقائه كما قال بونابرت في خطابه لأهل مصر: (أيها العلماء والأشراف! أَعْلِموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله، وفساد فكره؛ فلا يجد ملجأ ولا مخلصاً ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى، والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله ـ تعالى ـ وإرادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق أعمى البصيرة! وأعلموا أيضاً أمتكم أن الله قدَّر في الأزل هلاك أعداء الإسلام، وتكسير الصلبان على يديَّ! وقدَّر في الأزل أني أجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها! وإجراء الأمر الذي أمرت به، ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وقضائه. وأعلموا أيضا أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله صدق وحق لا يتخلف!!) (4) .
فانظر إلى تطابق هذا الخطاب وموافقته لخطاب الجبرية من العوام وغيرهم يتضح لك خطورة مثل هذا الطرح والآثار السيئة المترتبة عليه. وقد اشتد نكير ابن القيم على من يردد هذه الشبهة ويشيعها إما بجهل عن حقيقة مفهوم القدر، أو بخبث طوية لتمريره على الطغام، (بأن دفع القدر الذي وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان؛ فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار لا استسلام لها وترك الحركة والحيلة فإنه عجز، والله ـ تعالى ـ يلوم على العجز) (5) . ويذهب الغلو إلى أقصى حده حين لا يقف الخذلان في الرضا بالقعود، بل يتجاوزه إلى مساعدة الأعداء في تنفيذ مكرهم بحجة تعجيل القضاء كما قيل إن بعض الأولياء خرج فرأى الخضر مع الكفار يسحب مدافعهم بسلسلة، فقال له: كيف هذا الحال؟ فقال الخضر: أمر اقتضته القدرة الإلهية نسرِّعه أو أردنا تعجيله! (6) .
وينبغي التنبه هنا في خطأ بعض الكتابات التي تعلِّق خلاصَ المسلمين من واقعهم المرير بخروج عيسى ـ عليه السلام ـ أو المهدي المنتظر، وتعمد إلى سرد نصوص الفتن مجردة عن المبشرات؛ وحال مقالها ينادي بأن يضع العاملون المصلحون أسلحتهم وينتظروا المنقذ لهم؛ وهذا قصور في فهم المنهج النبوي والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
بل الواجب تنكُّب طريق المنحرفين وحمل لواء التغيير حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وفي خاتمة المطاف نسأل الله أن يسدد أقوالنا وأفعالنا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 836.
(2) جزء من حديث أخرجه الشيخان من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(3) سير أعلام النبلاء، للذهبي 1 / 127. (4) المصدر السابق.
(5) عاجت: مالت ومرت وألمت.
(1) انظر 3 / 45. وانظر 3 / 15 ـ 16 ـ 14 ـ 81 ـ 83 ـ 84. ليتنا لم نعش إلى أن رأينا علماً به يلوذون بل قد
إذ نسوا الله قائلين وإذا مات يجعلوه مزاراً بعضهم قبل الضريح وبعض هكذا المشركون تفعل مع فالحذار الحذار من فعل أهل كل ذي جنة في الناس قطبا اتخذوه من دون ذي العرش ربا لجميع الأنام يفرج كربا وله يهرعون عجماً وعربا عتب الباب قبلوه وتربا أصنامهم تبتغي بذلك قربا الجهل ولو عالماً يدرس كتبالان
(2) يقصد بالمكافأة العقوبة المقابلة لمخالفة الأمر بفتح الحوانيت والأسواق.
(3) انظر 1 / 45، فالعيسوية وطريقتهم أنهم يجلسون قبالة بعضهم صفين ويقولون كلاماً معوجاً بلغتهم بنغم وطريقة مشوا عليها، وبين أيديهم طبول ودفوف يضربون عليها على قدر النغم ضرباً شديداً مع ارتفاع أصواتهم.. وأما جمع العوام وتحلقه بالمسجد للحديث والهذيان واللغط والحكايات والأضاحيك والتلفت إلى حسان الغلمان الذين يحضرون للتفرج والسعي خلفهم والافتتان بهم، وأما جماعة الأشاير من الحارات البعيدة القريبة بين أيديهم منار القناديل والشموع والطبول والزمور ويتكلمون بكلام محرف يظنون أنه ذكر وتوسلات يثابون عليها وينسبون من يلومهم ويعرضهم إلى الاعتزال والخروج والزندقة.
(1) انظر 1 / 263، وما أجمل نظم الحجازي في هذا الموضع وهو:
(2) تفسير المنار 12 / 244.
(3) المصدر السابق.
(4) انظر دراسات في التصوف لإحسان ظهير، ص 274 نقلاً عن نشرت جريدة (لابريس ليبر) وهي جريدة فرنسية يومية استعمارية كانت تصدر في الجزائر.
(1) جريدة الشرق الأوسط جمادى أول 1423 هـ يوليو 2002م وهي عبارة ذات دلالة وبعد عميقين ينبغي التيقظ لصدقها وحملها على الجد؛ لأنها صدرت ممن طاف في البلاد شرقاً وغرباً حتى صرح بقوله: (فلنا محاضرات في الجامعات الموجودة بدولة الإمارات وفي الكويت والبحرين وقطر وعمان وفي الأردن ولبنان كنا ضيوفاً على سماحة المفتي وقمت برحلات إلى أندونسيا وسيريلانكا وشرق أفريقيا وإلى أمريكا وهولندا وبلجيكا وإيرلندا وبريطانيا كل هذه الدول مفتوحة لنا وفي مجال دعوتنا بفضل الله تعالى) صحيفة الراية القطرية 30/8/2002.
(2) حتى فطن لهذا التعميم بعض محاوريه بقوله: (إجابتك دبلوماسية) كما في صحيفة الأنباء الكويتية نقلاً عن موقع علي زين العابدين.
(3) السياسة الكويتية نقلا عن موقع علي زين العابدين.
(4) صحيفة الأيام البحرينية 26 / 8 /2005 ـ مجلة المصور المصرية 26/7/2002 ـ صحيفة الأهرام العربي 6 / 7 2002 م نقلاً عن الموقع.
وقد دافع عن المساجد التي فيها أضرحة الصالحين بحجة أن الأزهر فيه ثلاثة قبور! وأبدى حرصاً على العامة الذين يتخذون وسائط، فقال: لا أستطيع أن ألغي فكرة التوسل بالصالحين وتوسيطهم لكي لا يقع أحد العامة في الشرك! فلو فعلت ذلك لارتكبت خطأ كبيراً في علاج المشكلة! الصواب هو تعريفهم بآداب توسلهم بالصالحين، وتهذيب أسلوبهم وخطابهم هذا، ثم قرر أنه يحتاج ـ أدباً مع الله ـ تعالى ـ: إلى واسطة. انظر ندوة مجلة الأهرام العربي من الموقع.
والعجب لا ينقضي من صنيع الجفري ودفاعه عمن يتخذ شفعاء يتوسطون في قضاء الحوائج بينهم وبين الله وهو الشرك الذي جاء الرسل لمحاربته وصرح الشيطان الذي هدمه القرآن؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(5) أم القرى لعبد الرحمن الكواكبي، ص 130. (6) كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 637.
(7) السنة، لعبد الله بن أحمد بن حنبل.
(1) الشريعة 2 / 614، الإبانة لابن بطة 2 / 760.
(2) مدارج السالكين.
(3) انظر فتاوى اللجنة الدائمة، برقم 20212 ـ 21154 ـ 21435 ـ 21436.
(4) درء الفتنة عن أهل السنة.
(4) الرد على العنبري بقلم الشيخ صالح الفوزان، نشر المقال في صحيفة الجزيرة السعودية عدد 10147 بتاريخ 10 / 7 / 2000.
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص 25.
(2) كتاب القدر، ص 528.
(3) عقيدة القضاء والقدر لعبد الرحمن المحمود، ص 295.
(4) تاريخ الجبرتي.
(5) مدارج السالكين 1 / 437، وانظر أيضاً ص 76 ـ 208 ـ 209 ـ 252 ـ 275 ـ 280 ـ 436.
(6) انظر الرحلة المكية لأحمد بن حسن العطاس أو تنوير الأغلاس.(223/35)
ضوابط في مجال الفتوى
د. قطب الريسوني (*)
مما لا شك فيه أن حظاً غير ضئيل من المخالفات الفقهية يعزى إلى اختلال ميزان الأولويات في الفتوى والاستدلال والتأليف الفقهي؛ إذ لا تُوضع المصادر الاستدلالية في رتبتها الصحيحة، وتضرب الأدلة بعضها بيعض، ويفتى بالأقوال دون النظر إلى مُعارضها سواء كان راجحاً أو مساوياً أو ضعيفاً، ويراق المداد في موضوعات ومسائل لا طائل من تحتها إلا إذكاء روح الاختلاف والتدابر، وفصل الفقه عن مجريات الواقع وجذور الهمّ الإنساني. ومن ثم فإن فقه الأولويات عاصم من هذه المزالق، ومرشِّد للخطاب الفقهي في وِرْده وصدره، وواضع للأمور في نصابها دون إفراط أو تفريط؛ ذلك أن الجهل برتبة الشيء، وموضعه من الشرع، وقيمته في الاستدلال، ووجه الغَناء والنَّفع فيه للناس، يفضي إلى اضطراب مقاييس التأصيل والتنزيل، وانخراق نسق الانسجام والالتئام في الشريعة الإسلامية.
وسنعرض في هذه الدراسة لتصور عن كيفية استثمار فقه الأولويات وضوابطه في مضمار الفتوى الشرعية بوصفها التطبيق الحيّ لنظريات الخطاب الفقهي أياً كان مشربها ومنزعها، وهذا التطبيق يعكس على نحو من الجلاء والوضوح طريقة الاستدلال، وأسلوب الفهم، ومنهج التنزيل والإنجاز، ومن ثم فإن أغلب مزالق هذا الخطاب مأتاها من الفتاوى السقيمة، والجوابات المحرَّفة.
وإذا كان للفتوى هذه المنزلة من الخطاب الفقهي؛ فإن تصفيتها من الرواسب والشوائب ضرورة لازبة، وتقوم هذه التصفية أول ما تقوم على إعمال فقه الأولويات في تقديم حكم وتأخير آخر، وتحكيم منهج وإلغاء مقابله، وتفضيل أسلوب على أسلوب.
والأولويات التي ينبغي مراعاتها في الإفتاء أمور هي:
- أولاً: تقديم الاجتهاد على التقليد:
إن فضل الاجتهاد في العلم الشرعي معلوم متواتر بين الناس، لا يجهله إلا من ملأ عليه التعصّب الأعمى جوارحه، فزُيّن له الضلال على الهدى، وإيثار الباطل على إيثار الحق. وقد كان العلم عند السلف استقلالاً في معرفة الأحكام، وسيراً مع الدليل حيث سار، تعينهم على ذلك معارف الوحي ومعارف اللغة، إلى شفوف رأي، وحسن فقه في الواقع. ومع تقلّص ظل العلم، وغلبة الأهواء، قيس الحق بالرجال، لا الرجال بالحق، وحكّمت الآراء في معرض النصوص، وابتلي الفقه في وِرده وصدره بجمود على المنقولات لم يزد الناس إلا تنكّباً عن الهدى، وضلالاً في التيه.
وإذا كان الاجتهاد يُكسِبُ الفقيهَ مَلَكة الاستنباط، والدربة على تحقيق المناط الخاص، وحكمة في الفهم والتنزيل؛ فإن التقليد لا يأتي بخير؛ وآية ذلك أن كثيراً من فقهاء النقل تَعْرِض لهم نوازل وحوادث لا يجدون لها في مذاهبهم نظيراً تُردّ إليه أو أصلاً تُخرّج عليه، فيقفون منها موقفاً ليس من الفقه في شيء، فيفتون بالمنع مثلاً، والأمر يقتضي تحقيق المناط، وإعمال المقاصد، للوصول إلى الحكم المسدَّد في صورته التجريدية، ومآله الواقعي.
ويحضرني هنا مثال حيّ للجمود الفقهي، وهو أن الناس أيام الفتنة البربرية بقرطبة، كانوا يتوجّسون خيفة من هجوم مُتَلَصِّصَةِ البربر عليهم في الدروب والطرق الموحشة، فسألوا الفقهاء عن حكم الجمع بين المغرب والعشاء تفادياً للخروج في الليل والتعرض لأخطار السرقة والنهب والحرابة؛ فما استطاع أحد منهم أن يفتي بشيء، مع أن رخصة الجمع تشهد لها أدلة معتبرة من الشرع.
- ثانياً: تقديم الراجح على الضعيف:
نقصد بالراجح ما صح دليله وقوي مدركه، لا ما كثر قائله كما في اصطلاح بعض المذاهب؛ لأن الكثرة ليست معياراً للصواب، أو دليلاً على الرجحان في كل حال، وكثيراً ما يخالف إمام من الأئمة جمهور الفقهاء أو ينفرد عن عامتهم بقول، ويكون الحق حليفه، والدليل مرشده.
أما الضعيف فضربان:
الأول: ضعيف المدرك، وهو ما عَرِيَ عن الدليل، أو ناقضه، ومثاله كل مسألة خالفت نصاً أو إجماعاً، أو قياساً جلياً، أو قاعدة معتبرة.
الثاني: ضعيف نسبي، وهو ما عارضه دليل أقوى منه، فيكون قوياً في ذاته، ضعيفاً إذا قيس بغيره.
ولما كان الضعيف من جنس المرجوح؛ فإن الراجح يقدَّم علي المرجوح، وبهذا أخذ بعض فقهاء المذاهب كالمالكية من المصريين، حين لم يجز الفتوى بالضعيف على الإطلاق؛ فإذا لم يوجد في المذهب إلا الضعيف أو الشاذ، جاز الانتقال إلى مذهب آخر، والعمل بقوله الراجح.
بيد أن بعض الفقهاء أجاز الإفتاء بالضعيف عند الضرورة، وقيّد ذلك بشروط وضوابط، نعدّ منها:
أ - أن لا يكون الضعف شديداً.
ب - أن يُعرف قائله؛ خشية أن يكون ممن لا يُقتدى به علماً وحالاً.
ج - تحقُّق الضرورة في نفس المستفتي (1) .
- ثالثاً: تقديم التدليل على التجريد:
الدليل لبّ الفتوى وروحها؛ لأن الله ـ عز وجل ـ يُعبَد بالنص لا بقول مجرَّد، أو صيغة عارية، وقد بلغ اختصار الفتاوى وتجريدها عن كل تدليل أو تعليل حدّاً يصوّره ما حكاه ابن حمدان في كتابه (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) من أن فقيهاً سئل: أيجوز كذا؟ قال: لا (2) ؛ لذلك انتصب ابن القيم للدفاع عن المنهج الاستدلالي في الفتوى، وبيان فوائده وعوائده حين قال: «عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أوْلى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل؛ فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله، وإجماع المسلمين، وأقوال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والقياس الصحيح عيباً؟ وهل ذِكْرُ قول الله ورسوله، إلا طراز (*) الفتاوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به؛ فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه، وبرئ من عهدة الفتوى بلا علم» (3) .
فإذا كان منهج التدليل يقيم الحجة على المستفتي، ويبرئ المفتي من عهدة الإفتاء بلا علم محكم، فإن منهج التجريد فتح الذريعة لترك الأدلة، وترويج الفقه الجامد، مع استطالة على الحقائق، وتعلّق بالواهي والسقيم.
ولئن كان التجريد يُحمد في مواضع ضيّقة نبّه عليها بعض الفقهاء؛ فإن القاعدة العامة أن تُحلّى الفتوى بالدليل، وتُعزّز بالبيان الكافي، بل إن المقام يقتضي أحياناً تفنيد الشبهات، ونقض أدلة المخالفين بما يجلّي وجه الحق، وييسر سبل الاقتناع به، والامتثال له.
- رابعاً: تقديم التعليل على التعميم:
من حلية الفتوى وزينتها أن تُعرض مجلوة الأسرار، موصولة العلاقة بحكمة الإسلام في التشريع؛ لأن بيان العلة والحكمة تقتضيه طبيعة العقل البشري التي تستسيغ المعلَّلات المفسَّرات، وتُعرض عن المجمَلات المبهمات، كما تقتضيه في الوقت ذاته طبيعة العصر الذي استحكمت فيه النزعات المادية والإلحادية، وراجت التيارات العقلانية المؤمنة بالبرهان العقلي والحجة المنطقية.
والتعليل منهج القرآن والسنة في عرض الأحكام، ونصب الدلائل، وقد اطَّرد هذا المنهج في الكليات، كقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45] . وقوله ـ تعالى ـ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ، وفي الجزئيات كقوله ـ تعالى ـ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] .
ولم تخلُ السنَّة أيضاً من تعليلات صريحة كقوله -صلى الله عليه وسلم- عند نهيه عن ادِّخار لحوم الأضاحي: «إنما نهيتكم من أجل الدافَّة» (1) .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في معرض بيان فائدة التعليل: «وإلقاء الفتوى ساذجة مجرّدة من حكمة التشريع، وسرّ التحليل والتحريم يجعلها جافة، غير مستساغة لدى كثير من العقول؛ بخلاف ما إذا عرفت سرّها وعلّة حكمها، وقد قيل: إذا عُرِف السبب بطل العجب» (2) .
على أن المفتي لا يلزمه تكلُّف التقصيد، وتمحُّل التعليل، فالعلّة تُعرف بأحد المسالك المقرَّرة عند الأصوليين، كالإجماع والنص والتنبيه والإيماء والمناسبة والاستقراء، وربما تخفى عن الأنظار، وتستعصي على الكشف، فيُجتنب حينئذ التخوُّض فيها بالقول المجرَّد، والرأي المرسل؛ إذ لا تقصيد ولا تعليل إلا بدليل معتبر، وهذا لا يمنع أن يستمر التنقير عنها حتى تنقدح للمجتهد أو المفتي، ولهذا التنقير أيضاً مسالك تُتبع، وأدوات يُتوسل بها، فلا يخلو الأمر من كدّ الذهن، وإعنات الخاطر.
- خامساً: تقديم الأيسر على الأحوط:
إن الأدلة على رفع الآصار والأغلال عن كاهل هذه الأمة بلغت مبلغ القطع (3) ، فضلاً عن وفرتها واطِّرادها في المصادر الإسلامية كتاباً وسنةً وأثراً وقياساً وعملاً، ويكفي أن نستحضر هنا حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً» (4) ؛ فإنه نص في أولوية التيسير، وضرورة حمل الناس على مذهب الوسط، فلا يميل بهم إلى شدّة منفّرة من الدين، ولا يجنح بهم إلى انحلال ناقضٍ للعرى، هاتكٍ للحرمات؛ «ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين» (5) .
والتيسير هنا لا مدخل له في تصيّد الرخص، وتتبع الحِيَل المحرمة، لإسقاط الأحكام والتنصُّل منها؛ لأن الأصل أن تنقَّح فيه الضرورة وتقدَّر، ويُعمل بالرخصة في محلّها، وتُحترم قواطع الأدلة والقواعد، فلا بدّ إذن! من صدور التيسير من عارف ثقة، وهذا ما أصّل له الإمام سفيان الثوري في قاعدته الذهبية: «إنما الفقه الرخصةُ من ثقةٍ، أما التشديد فيحسنه كل أحد» (6) .
ومن ثم فإذا خُيّر المفتي بين قولين متكافئين، اختار أيسرهما تأسّياً بمنهج المعلّم القدوة -صلى الله عليه وسلم-، ما لم يكن في التيسير إثم ينقض عرى الدين، ويمسّ حرمات المسلمين، وله أن يكون شديد الأزر على نفسه فيأخذ بالأحوط تورّعاً، أو يفتي به صاحب ورع شديد ودين متين، إذا أمن منه ركوب التنطّع والغلو في الدين، وهذا معلوم من سيرة السلف الصالح، ومأخوذ عنهم في آداب الإفتاء.
- سادساً: تقديم صياغة البديل المباح على المنع المجرد:
من فقه المفتي أنه إذا منع شيئاً، ذكر بديله المباح رفقاً بالمستفتي وتيسيراً عليه؛ فالشرع لم يمنع المحرمات إلا وعوّض عنها بأبدال تسدّ مسدها وتغني غَناءها أو أكثر؛ إذ إن تجريد الممنوع عن بديله المباح كتشخيص الداء دون وصف الدواء، وهذا ليس من العلم النافع في شيء.
ولعل بدائل الحلال وأعواض المباح في الكتاب والسنة من الوفرة والكثرة بالدرجة التي يتعذر معها الإحاطة والاستيعاب؛ وذلك مقصود لرفع الحرج عن هذه الأمة، وسدّ حاجاتها، ونقلها من أوضاعها المنكرة بأسلوب الحكمة والتبصّر؛ لذلك قال الفقهاء: في الحلال ما يغني عن الحرام.
ومن المؤصلين الرواد لفقه البدائل ابن القيم الذي أكد أن التبصر الفقهي في الدعوة يقتضي إزالة المنكر مع الإرشاد إلى ضده، يقول: «فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشَّاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون وغيرها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع» (7) .
ثم يمثّل ابن القيم للعالم المرشد إلى البدائل بالطبيب الناصح للمريض باجتناب ما يضره، وتعاطي ما ينفعه، فهو من هذا الوجه طبيب الدين: «وهذا لا يتأتّى إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجَرَ الله، وعامله بعلمه؛ فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه؛ هذا شأن أطباء الأديان والأبدان» (8) .
- سابعاً: تقديم التمهيد الضروري على المباغتة:
إن من الفقه والبصيرة أن يوطِّئ المفتي للحكم المستغرَب بمقدمة تطرد وَحْشته عن النفوس، وتعالج النفور منه بأسلوب التدرّج والرفق؛ لأن من شأن النفس التنكّب والازورار إذا ما دُعيت إلى خلاف ما ألفته؛ فالافتكاك عن مألوفاتها تقف دونه عقبة التعود والإلف حيناً، وعقبة العناد والمكابرة حيناً آخر، مما يقتضي بسط مقدّمات ممهّدات تهيئ الجو النفسي لتقبّل البديل الجديد.
فمن آداب الفتوى الموضوعية، إذن، أن يُساق بين يدي الحكم المستغرَب الجديد تمهيدٌ يرفع الوِحشة، ويعالج النفور، وهذا ما أكد عليه ابن القيم أخذاً للناس بالرفق، وحماية لمآل الحكم، يقول: «إذا كان الحكم مستغرَباً جداً مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه، فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مُؤْذِناً به كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه» (1) .
- ثامناً: تقديم قول المتقدّم على قول المتأخّر:
إن المتقدمين من أعرف الناس بملابسات الوحي، ومقاصد الشريعة، وأسرار العربية، وقولهم لا يوزن بمنزلتهم من الاجتهاد والورع فقط، بل بموافقة الحق، وإصابة الدليل، لكن أنظارهم في المسائل الظنية والاجتهادية أقرب إلى الصواب من غيرها «لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا» (2) ، ولا يُعتمد هذا الرأي حكماً لله ورسوله إلا بنصْب الدليل الذي لا معارِض له.
وقد كان الشاطبي من أكثر الناس اعتماداً على كتب المتقدمين، واستضاءةً بفهوم الأولين، لما ظهر على المتأخرين من القصور في التحرّي، والتراخي في تحصيل العلم الأكمل، والاجتزاء بالنقل وتحكيم آراء الرجال. يقول: «فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فَهِمَ منه الأولون؛ وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل» (3) ، وفي أولوية تقديم أعمال المتقدمين على أعمال المتأخرين يقول: «فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم علي خلاف المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقُّق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقُّق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سِيَرهم، وأقوالهم، وحكاياتهم، أبصر العجب في هذا المعنى» (4) .
ولا يمنع هذا أن يكون الحق أحياناً حليف المتأخر، فيستدرك على المتقدم ما فاته، أو يصحح هفوته، وكم خفي على المتقدمين من أخبار وآثار، وأصبحت في متناول خلوفهم بسبب تطور أسباب العلم، والتئام مادته في كتب محرَّرة، وتآليف حافلة.
- تاسعاً: السكوت عن الإجابة غير المقيدة:
يُقدَّم سكوت المفتي على الإجابة في مواضع، كأن يُسأل المفتي عما لا ينفع، مما يُراد به حيناً المِراء والجدل كالسؤال عن المبهمات الغيبية التي لم يرد فيها نص قاطع، ويُخشى من الجواب عنها إثارة القيل والقال، وتشويش الأذهان. أو يُراد به حيناً آخر الإغراب والمعاظلة والتعنّت وتصفير الوجوه، كالسؤال عما يندر وقوعه أو يستحيل.
وقد عدّد الشاطبي عشرة مواضع يُكره فيها السؤال (5) ، وأكّد على أن أحكامها متفاوتة بين الكراهة الخفية، والكراهة الشديدة، والحرمة، تبعاً لتفاوت درجات التكلّف المذموم، والتعمّق المنافي لهدي السلف.
وخير ما يتمثل به في معرض التأكيد على هذه الأولوية قول بعض العلماء: «إن من المسائل مسائل جوابها السكوت» .
- عاشراً: تقديم الفتوى الجماعية على الفتوى الفردية:
إن الإفتاء في بعض النوازل والحوادث يفتقر إلى تحقيق المناط الخاص، وهذا الضرب من التحقيق لا يستقيم إلا باجتهاد جماعي يقلّب النظر في وجوه المسألة، لا سيما إذا كانت من مستجدات الطب أو الاقتصاد أو الزراعة؛ فإن فهم الواقع فيها يتوقّف على استشارة المتخصص وتقريره العلمي؛ فإذا تجلّى الأمر لأنظار الفقهاء استفرغوا وسعهم في استنباط حكم شرعي مناسب، على أن يُراعى في اجتهادهم الإنجاز الجماعي؛ لأنه أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل.
وبعد: فهذه معالم مضيئة على محجّة الإفتاء الشرعي، قصدنا من تجليتها تذكير أهل الصنعة بأصول معتبرة وآداب مرعية في الاستدلال ومنهج التنزيل وأدبيات الخطاب.
ولتكن هذه المعالم أيضاً تذكيراً لأدعياء العلم بقدسية الفتوى وهالتها المستمدة من مشكاة النبوة، حتى لا تُنتهك محارمها، وتصير كلأً مباحاً لكل راتع!
__________
(*) أستاذ الفقه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية، بدبي، ومدير تحرير تحرير مجلة النور المغربية.
(1) عبد الله العلوي الشنقيطي، نشر البنود على مراقي السعود، اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي، الرباط، ص 2/272، ومحمد بن القاسم القادري، رفع العتاب والملام عمن قال: «العمل بالضعيف اختياراً حرام» ، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1404هـ/1985م، ص 64، 75.
(2) أحمد بن حمدان الحنبلي، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، تخريج وتعليق: محمد ناصر الدين الألباني، ط 2، المكتب الإسلامي، بيروت، 1394هـ.
(*) الطراز: الحلية، والزينة، والجَوْدة، والنسيج. والطراز: الجيد من كل شيء.
(3) ابن القيم، أعلام الموقعين، 4/ 322 - 323.
(1) متفق عليه. والدافَّة: هم قوم قدموا المدينة عند الأضحى فنهاهم عن ادّخار اللحوم ليفرقوها ويتصدقوا بها فيتنفع أولئك القادمون بها. ودفَّ الماشي: خف على وجه الأرض.
(2) يوسف القرضاوي، فتاوى معاصرة، دار المعرفة، الدار البيضاء، ط 4، 1408هـ/ 1988م، 1/ 26.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/340. (4) متفق عليه.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/ 258. (6) النووي، المجموع شرح المهذب، 1/ 46.
(7) ابن القيم، أعلام الموقعين، 3/ 7.
(8) ابن القيم، أعلام الموقعين، 4/ 202.
(1) المصدر السابق، 4/ 208.
(2) محمد بن عبد الوهاب، الدرة السنية، 1/122 - 123.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/ 77.
(4) المصدر السابق، 1/ 97.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/ 319 - 321.(223/36)
توازننا ضرورة
فيصل بن علي البعدان ي
التوازن هِبة من الله عظمى، تخلَّق به الأنبياء، واتصف به كبار العقلاء، هو عنوان نُضْج العقل، وبلوغ تمام الرشد، منه تتولد الحكمة، وبه يتوافق مع الفطرة، وتبنى النفس المتكاملة السوية، ويُتَّقَى الوقوع في الأطراف المذمومة، ومن خلاله يبتعد عن الاضطراب والقلق، ويتحقق الرضا والاستقرار النفسي.
وقد جاءت آيات الكتاب العزيز آمرة به، ومحذرة من ضده. قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]
والمتأمل في حياة نبينا الكريم يجده -صلى الله عليه وسلم- إماماً في التوازن وتحقيق التكامل في كافة شأنه -صلى الله عليه وسلم- وسائر جوانب حياته (1) ؛ ففي صلته بربه كان -صلى الله عليه وسلم- أعلمَ الأمةِ به ـ عز وجل ـ وأشدها له خشية. تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ في وصف تعبده -صلى الله عليه وسلم-: «كان عمله دِيمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستطيع؟» (2) ، ويقول أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته» (3) . وعن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم ليصلي حتى تَرِم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: أفلا أكون عبداً شكوراً» (4) . وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كنا نعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد قوله: رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة» (5) .
وفي دعوته وتعليمه بلَّغ -صلى الله عليه وسلم- أمته البلاغ المبين حتى شهد له -صلى الله عليه وسلم- بذلك يوم النحر في حجة الوداع القاصي والداني، وبذل -صلى الله عليه وسلم- غاية جهده في تعليم الناس حتى كان القائل يقول: «بأبي هو وأمي؛ ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه» (6) .
وفي عنايته -صلى الله عليه وسلم- بأهله ومعاشرته الحسنة لهم بلغ -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الغاية؛ حتى قال -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (1) ، وحتى وصفه بعض أهل بيته بأنه -صلى الله عليه وسلم- «كان أبرَّ الناس وأوصلهم» (2) .
وفي عُشرته لأصحابه ومخالطته لهم كان -صلى الله عليه وسلم- مضرب المثل؛ فقد كان أوسع الناس صدراً، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عُشْرة، دائم البِشْر، سهل الخُلُق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، يجيب من دعاه، ويقبل الهدية ممن أهداه، وكان يمازح أصحابه، ويداعب صبيانهم، ويعود مرضاهم، ويقبل اعتذارهم.
وفي مكارم الأخلاق كان أحلم الناس وأصبرهم وأجودهم؛ ما سُئلَ شيئاً قط فقال: لا، وما انتصر لنفسه قط إلا أن تُنتَهَكَ محارم الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة قط، وكان أشجع الناس يعرض نفسه للمخاطر دون أصحابه، حتى إنهم كانوا إذا حمي الوطيس واشتد البأس اتقوا به، وكان يعفو ويصفح ولا يجزي بالسيئة السيئةَ.
وفي المقابل دعا أمته إلى التزام ذلك، وربَّى أصحابه الكرام عليه، والسنَّةُ مليئة بالنصوص الدالة على ذلك، ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا» (3) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلَّ» (4) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم هدياً قاصداً، عليكم هدياً قاصداً، عليكم هدياً قاصداً؛ فإن من يشادّ هذا الدين يغلبه» (5) ، وفي حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ نهى -صلى الله عليه وسلم- عن الغلو في الدين وتجاوز الحد في القول والفعل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «هلك المتنطعون ـ ثلاثاً ـ» (6) وأرشد -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الظَّفَر برضى الله ـ عز وجل ـ لا يكون إلا عبر بوابة الاعتدال، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لن ينجي أحداً منكم عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا» (7) .
وحين كان -صلى الله عليه وسلم- يلحظ من بعض أصحابه خروجاً عن الجادَّة كان -صلى الله عليه وسلم- يعيدهم إليها، محذراً إياهم من الإفراط، والخروج عن نهج الاعتدال والوسط؛ ففي قصة سلمان وأبي الدرداء ـ رضي الله عنهما ـ التي أنكر فيها سلمان على أبي الدرداء إهماله حظ زوجه، وإغراقه في صوم النهار وقيام الليل قائلاً له: «إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاًً، فأعط كل ذي حق حقه» ، نجده -صلى الله عليه وسلم- ينتصر لرأي سلمان قائلاً: «صدق سلمان» (8) . وفي قصة الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته؛ فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، قائلين: «وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟» فقال أحدهم: «أمَّا أنا فأنا أصلي الليل أبداً» ، وقال آخر: «أنا اصوم الدهر ولا أفطر» ، وقال آخر: «أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً» ، فأنكر -صلى الله عليه وسلم- عليهم مقولاتهم، وقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» (9) . وفي قصة عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ حين بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه أنه يصوم النهار ويقوم الليل دعاه -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا عبد الله! ألم أُخْبَرْ أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى! يا رسول الله! قال: فلا تفعلْ: صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزوْرك عليك حقاً» (10) .
فالتوازن والاعتدال ركيزة أساس من ركائز ديننا الحنيف، وسمة كبرى من سمات نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، والاتصاف به مصدر اعتزاز، فلا إشكال حوله من الجانب النظري، ولكن ما كل من أراد شيئاً ظفر به، ولا كل من انتسب إلى شيء حققه وصدق في انتسابه إليه، ولذا نجد الخَطَل الناجم من التشدد أو التساهل واقعاً في حياة كثير من الأفراد، بل حتى المجتمعات والأمم. وبعض الدعاة وطلبة العلم ليسوا بخَلِيِّين عن ذلك؛ إذ نجد مثلاً من يستغرق في الدعوة على حساب بناء نفسه ورعاية أهله وولده وبر والديه وصلة رحمه، ونجد من يستغرق في طلب العلم على حساب العمل به والدعوة إليه، ونجد من يستغرق في الدعوة والتعليم وسائر الأعمال الجادة مُعْرِضاً عن الترويح وممارسة المناشط التي تحفز النفس وتدفعها نحو مزيد من العمل بعيداً عن الاضطراب والأرق وأجواء التوتر والقلق (1) .
والوقوع في هذا الإفراط أوالتفريط ناجم إما عن تحكيم عاطفة جياشة أو عن جهل بقواعد الدين وأصوله أو عن إغراق في جانب جزئي ولََّد غفلة عن الصورة الكلية المتوازنة لهذا الدين العظيم، أو عن إعراض عن التفقه بسيرة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، أو عن ضعف محاسبة للنفس وعدم مطالعة حالها، أو عن قلة اختلاط بذوي الاتزان، أو عن ضيق في الأفق وضعف في الرؤية، أو عن عدم معرفة بالسبل والآليات المعينة على تحقيق التوازن، أو ترك تطبيقها، ونحو ذلك.
والتوازن المطلوب ليس مرادفاً للتساوي، والمناداة بتطبيقه لا تعني إلغاء التركيز وترك التخصص وإهمال القدرات والمواهب، وإنما هو دعوة لإعطاء كل جانب حقه في إطار عادل بعيداً عن مزالق الغلو أو مهاوي التفريط.
وأمام ذلك؛ فإن من أبرز ما يوصِل المرء إلى رتبة التوازن ما يلي:
3 طلب معونة الله ـ تعالى ـ والتي يحتاجها العبد في كل شأن، وصلاح حاله لا يتحقق بدونها، وسلوك العبد لباب مِن أبواب الخير لا يلزم منه بالضرورة أن يكون مستعيناً بالله ـ تعالى ـ فيه، بل قد يكون مُعْرِضاً عن الاستعانة أو نقصه ظاهر فيها، فيُحرَم التوفيق والبركة بسبب ذلك، ولذا فإن مِن ألزمِ مُعِينات العبد على التوازن تمام استعانته بمولاه عز وجل، وإظهاره الافتقار إليه، وبسطه حاجته بين يديه سبحانه.
3 تمام التأسي بالنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، واقتفاء أثره، ومطالعة سِيَر العلماء الربانيين والأئمة المجددين وأخذ ما ينفع العبد منها؛ فإن السير وراء الهداة اهتداء، وخلف السعداء سعادة؛ إذ هم القوم لا يشقى بهم جليسهم والسائر على منوالهم.
3 الاعتدال في التفكير، وتنمية الوعي، وتفعيل دور العقل، ليتم من خلال ذلك ضبط العاطفة وتحقيق استجابة متزنة وردَّات فعل سوية تجاه الأفعال التي تعترض المرء، ويمكنها - بدون ذلك - أن تخرجه عن طور الاتزان.
3 اعتقاد القدرة على النجاح في تحقيق الاتزان والتكامل بين متطلبات الروح والعقل والجسد، وبين الواجبات تجاه النفس والأهل والأقربين؛ لأن من لا يعتقد ذلك يكون عاجزاً عن التفكير في السبل الموصلة لذلك.
3 المبادرة الجادة إلى تغيير الكثير من السلوكيات التي يمارسها المرء وتتنافى مع حالة التوازن؛ لأن المرء ما لم يغيِّر ما يقوم به فسيستمر في الحصول على النتائج نفسها التي كان يحصل عليها
3 التدرب على مهارات إدارة الذات ومقاومة الضغوط، التي غالباً ما تقود إلى الإفراط في جوانب والتفريط في أخرى.
3 ترتيب الأفعال حسب أهميتها لا حسب إلحاحها، والبدء بفروض الأعيان قبل غيرها، وبالواجبات قبل المستحبات، وبما نفعه متعد قبل القاصر، وهكذا. وهذا لا ينفي أهمية مراعاة الأمور الملحة ولكنه سينتفي حين نقوم بوضع كل شيء في حجمه دون تضخيم، وحين نقوم بالحفاظ على واجبات الأوقات وإعطاء كل وقت حقه.
3 مصاحبة أهل العقل والاتزان والإكثار من استشارتهم والاستفادة منهم؛ فالصاحب ساحب، والمرء على نهج خليله وطريقته فلينظر أحدنا من يخالل.
3 محاسبة النفس والتقييم المتكرر للذات، ليتعرف المرء باستمرار على حاله، فيعدل ما يحتاج من انفعالاته ومواقفه وسلوكه، قبل أن تتراكم الأخطاء وتتجذر، فيحتاج المرء إلى فترات طويلة للتصحيح والمعالجة لجوانب خلل عميقة لا يمكن تدارك آثارها بسهولة، وعندما يفيق المرء ويتنبه لسوء حاله يكثر من التندم والملامة للنفس والآخرين ولكن بعد فوات الأوان.
3 إدراك الثمار النكدة للإخلال بالتوازن على حياة الأفراد والمؤسسات والشعوب، وجوانب الخير التي يتم فقدانها من جراء ذلك؛ من إعراض عن جوانب رئيسة في العمل، والوقوع في حالات فتور وانقطاع عن العمل، وابتعاد عن العيش في أجواء صحية سليمة نتيجة ظهور مشكلات وتجذرها مع الزمن.
اللهم سددنا، وألهمنا رشدنا، ووفقنا لكل خير، وارزقنا التكامل والاستقرار والسكينة، وهبنا التوفيق والبركة، ولا تجعل أحداً منا كالمنبَتِّ الذي لا قطع أرضاً ولا أبقى ظهراً، بفضل منك وجود ورحمة، إنك أكرم الأكرمين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) حتى إن الاطلاع على جزء من سيرته -صلى الله عليه وسلم- من دون استصحاب النظرة الشاملة لها قد تغري الجاهل على الإخلال في التوازن حين يرى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ الغاية في أمر ما غافلاً عن أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ أيضاً الغاية في الجهة المقابلة.
(2) البخاري (6101) .
(3) البخاري (1090) .
(4) البخاري (1078) .
(5) سنن أبي داود (1516) ، وقال الألباني: صحيح.
(6) مسلم (537) .
(1) ابن حبان (4177) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(2) مسلم: (1784) .
(3) البخاري: (5313) .
(4) مسلم (782) .
(5) أحمد (23013) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(6) مسلم (2670) .
(7) البخاري (6098) .
(8) البخاري (1968) .
(9) البخاري (5063) .
(10) البخاري (1975) .
(1) وبكل تأكيد هناك صور فجة من التفريط في شأن الدعوة ونشر العلم والإفراط في الجوانب المقابلة، لكن المقالة اقتصرت على ذكر هذه النماذج؛ لأن جوهرها منصبٌّ على ذلك.(223/37)
البركان
صالح البوريني
سطع البيان وحصحص البرهانُ
وتهافت الميثاق والإعلانُ
في مجلسٍ سمَّوه زوراً مجلساً
للأمن يفقد أمنَه الإنسانُ
هيا تفجرْ أيها البركانُ
سعّر جحيمك تسقط الأوثانُ
الكون حولك رابضٌ متربص
والدهر نحوك شاخص يقظانُ
في ظلِّ سيفك راحة وأمانٌ
وبحدِّه كل الحقوق تُصانُ
قُمْ طالبِ الدنيا بحقك إنما
بالسيف تُدرك حقَّها الشجعانُ
ركب الحضارة خطوه متعثر
عميان قاد جموعهم شيطانُ
والراقصون على جراحك عصبة
متآمرون وكلهم خُوَّانُ
يتخاصمون على المغانم بينهم
وحصادنا الأحقاد والأضغانُ
يتقاسمون حقوقنا فنصيبُهم
منها القصور وحظُّنا الأكنانُ
يتقلّبون على وثائر كدحنا
وعلى الثَّرى يتقلب الجوعانُ
يتقربون إلى الأجانب زُلفةً
ويُساق نحو المذبح القربانُ
نحن القرابينُ الذبيحة ويحنا
قطعانُ تمضي خلفها قطعانُ
يا ويحنا والأرض تبكي ذلَّنا
ودماء غزة عارض هتانُ
والقدس قد فلّ الحديد نجيعها
وذوت بحرِّ لهيبها القضبانُ
أبغير قعقعة السلاح تفاوض
وبغير زمجرة الرصاص رهانُ؟(223/38)
نحو مِيتة شريفة!
د. حمدي شعيب (*)
«مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (1) .
هكذا أخبرنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عن الدنيا وما فيها، وقدرها في ميزان الآخرة.
إنها لحظات معدودات على طريق رحلتنا.
وينصحنا -صلى الله عليه وسلم- ألا ننشغل بلحظات القيلولة الدنيوية، وننسى كيف سنكمل مشوار رحلتنا إلى النهاية، وما وراءها من مصير وخلود.
فنعيش دوماً مترقبين النهاية.
(إن الذي يعيش مترقباً النهاية يعيش مُعِدّاً لها؛ فإن كان معداً لها، عاش راضياً بها؛ فإن عاش راضياً بها، كان عمره في حاضر مستمر، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها، فلا يستطيع الزمن أن ينغص عليه ما دام ينقاد معه وينسجم فيه، غير محاول في الليل أن يبعد الصبح، ولا في الصبح أن يبعد الليل) (2) .
إنها آخر المطاف ...
إنها النهاية المجهولة المعلومة!
فهي النهاية المجهولة؛ لأننا لا نستطيع ولا نملك إجابات شافيات لهذه التساؤلات الحائرات عنها: متى؟ وأين؟ ثم ـ وهو الأخطر ـ: كيف؟
لأن هذه التساؤلات علمها عند الله ـ سبحانه ـ ولأنها من الغيبيات الخمس:
{إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] .
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] .
وهي النهاية المعلومة؛ لأننا أُخْبِرْنا أن هنالك مَلَكاً سيقبض أرواحنا، ثم نُبعث فيجازينا ـ سبحانه ـ على أعمالنا.
هكذا عَلِمْنا وقُدِّرَ لنا، ولا مناص.
{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] .
{قُلْ إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8] .
- وقفة مع النفس:
لهذا علينا أن نجتهد، في وقفة مراجعة مع النفس، ويكون شغلنا الشاغل وهمنا هو إجابة جادة على هذين السؤالين:
الأول: كيف سيكون مشهد نهايتي؟
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجنَّةِ وَإنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخوَاتِيمِ» (1) .
فلا نكن بغفلتنا من الذين استغربهم سلمان ـ وقيل أبو الدرداء ـ رضي الله عنهما ـ فقال:
«ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني:
1 ـ مؤمِّلُ الدنيا والموت يطلبه.
2 ـ وغافلٌ وليس يُغفَل عنه.
3 ـ وضاحكٌ ملءَ فيه ولا يدري: أساخطٌ رب العالمين عليه، أم راضٍ؟
وثلاث أحزنتني حتى أبكتني:
1 ـ فراق الأحبة: محمد وحزبه.
2 ـ وهول المطلع.
3 ـ والوقوف بين يدي الله ـ عز وجل ـ ولا أدري: أإلى الجنة يُؤْمَر بي، أم إلى النار؟!» (2) .
الثاني: وهل لي من دور في صياغة هذا المشهد؟
ونجد أن هنالك رؤية قرآنية تطمئننا أن أي تغيير ممكن، بعد الاعتماد عليه سبحانه.
فنجد هذا البيان: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
وهو دعوة إلى الإيجابية والعمل؛ لأن أصل كل التحولات والتغيرات ينبع من النفس ومن القناعة الداخلية بضرورة التغيير، ومسؤولية كل فرد في صياغة حياته ومستقبله.
ثم نجد الأمل الوضّاء؛ في وعده ـ سبحانه ـ بالتوفيق والسداد لكل من يحاول ويجاهد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] .
إذن! حسن الخاتمة، والنجاة تكون في محاولة إجادتنا لفن إحسان خاتمتنا، فنكمل ما تبقى من رحلتنا، مرتكزين على دعامتين هما جناحي العبادة؛ وهما: الخوف، والرجاء.
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] .
- رباعية ... وخماسية:
نسرع إلى رحلة التغيير والنجاة، رغباً في حسن الخاتمة، وفي الفوز بالجنة، ورهباً من سوء الخاتمة ومن النار.
ونبدأ بالنظر إلى رحلتنا، بمنهجية علمية، من زاويتين:
الأولى: هي نظرة الجاهل بنهايته ومصيره، والذي لا يأمن مكره ـ سبحانه ـ فيلهب ظهره سوط الرهبة والخوف والخشية الدائمة من سوء الخاتمة.
والثانية: هي نظرة العالم يقيناً بما سيحدث له، وذلك على منهجية رباعية المراحل:
1 ـ يستشعر مسؤوليته الفردية عن نهايته {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22] .
2ـ فيسرع إلى العِلْم، ويسأل ليفقه ويبحث في عوامل حسن الخاتمة.
3 ـ ثم يبادر إلى العمل، فيفعل ما يوجب حسن الخاتمة.
4 ـ ثم يلجأ إلى سلاح الدعاء، فيسأل الحق ـ سبحانه ـ ويتضرع إليه في كل سكناته؛ أن يمن عليه ويوفقه ويثبته في اجتهاده من أجل حسن الخاتمة.
فتملؤنا الرغبة والرجاء في رحمته سبحانه؛ وكما سترنا في الأولى فلن يفضحنا في الأخرى.
بهذا (النظر الذي وراءه التذكر، الذي وراءه التقوى، التي وراءها الله، هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفيها أربع مرات حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر، وآخر وجودها التلاشي) (3) .
وكما كان النظر بمنهجية علمية؛ فكذلك نبدأ السير العملي بمنهجية عملية خماسية الخطوات، حتى يوفقنا ـ سبحانه ـ إلى الوصول إلى محطة حسن الخاتمة بسلام.
فماذا عن هذه الخطوات الخمس المنهجية العملية؟
الخطوة الأولى: ما المصير؟
ونبدأ أول خطوة على طريق رحلة النجاة وحسن الخاتمة.
فنقف ونسأل أنفسنا: ما هو مصيرنا بعد الخاتمة؟
فنجد الإجابة الربانية القرآنية الصريحة؛ أن الخلود بعد هذه الخاتمة سيكون أحد مصيرين: إما إلى جنة، أو إلى نار؛ والعياذ بالله.
{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلاَّ بِإذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105 - 108] .
إذن! فهنالك فريقان ... وموتتان، وأثران، ومصيران.
فكم هو بعيد ذلك الفارق بين فريق وفريق، وسمات وسمات، وفكر وفكر، وسلوك وسلوك، ونهاية ونهاية، وأثر وأثر، ثم مصير ومصير!
لأنه: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] .
فكيف لو تدبرنا أحوال كل فريق؛ فنتأمل سماته، وأفكاره، وسلوكياته، ونهايته، ثم مصيره؛ وذلك لنعلم الفارق.
الخطوة الثانية: من هم الأشقياء؟
ثم تأتي الخطوة الثانية؛ فنتدبر أحوال الأشقياء الخاسرين، فنتبرأ منهم، ونبغضهم، وننتهي عن سلوكياتهم، ونستعيذه ـ سبحانه ـ من مصيرهم.
وإذا أخذنا مثالاً لهذا الفريق؛ وهم قوم فرعون.
فماذا نجد لو تدبرنا سماته، وأفكاره، وسلوكياته، ونهايته، ثم مصيره؟
ونفاجأ أن مفتاح شخصيتهم، بل وسمتهم العامة هي السلبية:
1 ـ لهم عقلية العوام؛ أي أنهم كانوا بلا قضية يعيشون لها، فعاشوا على هامش الحياة.
2 ـ لهم طبيعة القطيع؛ أي غثائيون؛ تحركهم أيدي غيرهم. {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] .
3 ـ كانت حالتهم الأخلاقية متدنية؛ كانوا فاسقين، فكان ذلك سبباً رئيساً لأن يُستَخَفَّ بهم، ولا يحملوا أهلية الاحترام من قيادتهم الفرعونية، ورغم هذا فإنهم يطيعونها قهراً وإرغاماً: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] .
4 ـ لهم نفسية العبيد؛ أي القابلية للذل.
لهذا كان حاكمهم مستبد وظالم يرى نفسه فوق النصيحة: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] .
ثم يرى سلبيتهم فيطغى، ويرى أن رأيه هو الرأي؛ ويحمل المذهب الاستئصالي للآخر: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] .
بل ـ والعياذ بالله ـ نراه قد تمادى في تكبره فتجرأ ـ وذلك لكفره ولغيبة أو لتغييب المعارضة ـ حتى بلغ به الشطط كل مبلغ، فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] .
ونظراً لقناعته وتبنيه للمذهب الإقصائي للآخر؛ فإنه لا يحترم الآخر، ولا يقر بالتعددية، وتصوره للآخر تصور شائه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} . [الزخرف: 52 - 53] .
5 ـ وكانت نتيجة هذا المناخ المريض الفاسد، أو المحصلة النهائية، هي تحقق سنته الإلهية ـ سبحانه ـ وهي النجاة للمؤمنين، وهلاك الظالمين؛ سواء في ذلك الحاكم والمحكومون من قومه، وغرق فرعون وملؤه.
ولأنهم ألغوا عقولهم، ففقدوا حريتهم، وفقدوا اختياراتهم؛ وكما اتبعوه في الحياة الدنيا؛ كان جزاؤهم من جنس ما صنعوا ورضوا بالهوان، فكان قائدهم في الخاتمة {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 98 - 99] .
6 ـ لم يتركوا أثراً طيباً في الحياة، يذكِّر الناس بهم بعد موتهم.
كانوا منعزلين عن الوجود، مبغوضين فلم يأسف عليهم أحد.
لقد ذهبوا {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29] فلم (تك لهم أعمال صالحة، تصعد في أبواب السماء، فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله ـ تعالى ـ فيها فقدتهم؛ فلهذا استحقوا أن لا يُنظَروا ولا يؤخَّروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه؛ فإذا مات فقداه وبكيا عليه ـ وتلا هذه الآية: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} . وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح، فتفقدهم فتبكي عليهم. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، ألا لا غربة على مؤمن، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} . ثم قال: إنهما لا يبكيان على الكافر» . سأل رجل علياً ـ رضي الله عنه ـ: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك؛ إنه ليس من عبد إلا له مصلَّى في الأرض مصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء. ثم قرأ علي ـ رضي الله عنه ـ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} .
أتى ابنَ عباس ـ رضي الله عنهما ـ رجلٌ فقال: يا أبا العباس! أرأيت قول الله ـ تعالى ـ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} . فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال ـ رضي الله عنه ـ: نعم! إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله؛ فإذا مات المؤمن فأُغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده، بكى عليه، وإذا فقده مصلاَّه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله ـ عز وجل ـ فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله ـ عز وجل ـ منهم خير؛ فلم تبك عليهم السماء والأرض. عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان يقال تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً. قال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، قال: فقلت له: أتبكي الأرض؟ فقال: أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لذكره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل. وقال قتادة: كانوا أهون على الله ـ عز وجل ـ من أن تبكي عليهم السماء والأرض) (1) .
7 ـ وكان التعقيب القرآني حول هذه السنَّة الإلهية، التي تنتظر كل مفسد: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] .
الخطوة الثالثة: من هم السعداء؟
وهي أن نتدبر أحوال فريق السعداء الفائزين، ونقتدي بهم.
ثم ندعو له: «اللَّهُمَّ اغْفرْ لحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا. اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَىـ الإيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإسْلامِ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» (1) .
ونحبه في الله ـ تعالى ـ لعلنا نُحشَر معه، كما أخبرنا أَنَسٍ ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ـ: «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لا شَيْءَ إلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت. َ قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إيَّاهُمْ وَإنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ» (2) .
فماذا عن هذا الفريق؛ لو تدبرنا سماته، وأفكاره، وسلوكياته، ونهايته، ومصيره؟
ونفاجأ كذلك بأن مفتاح شخصيتهم، وسمتهم العامة هي الإيجابية؛ خاصة لو وضعنا أمام أعيننا أمثلة راقية لهم؛ مثل مؤمن آل فرعون، وسحرة فرعون، وغلام الراهب، وشهداء الأخدود، ومؤمن ياسين، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
1 ـ إنهم أصحاب قضية سامية عاشوا لها وعاشت بهم.
وتدبر تلك القضية التي حركت الرجل المؤمن، لينصر موسى ـ عليه السلام ـ وعندها لم يعد يجدي الصمت.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ} [غافر: 28] .
ثم جاء الوقت ليعلن قضيته علانية؛ ولو أدى إلى استشهاده.
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 38 - 45] .
2 ـ إن نظرتهم للحياة الدنيا؛ نظرة موضوعية، كنظرة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا ـ عندما حكى فقَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لموْتِك» (3) .
3 ـ إنهم كانوا يعيشون لغيرهم كما عاشوا لأنفسهم؛ فكانوا يحبون الخير لغيرهم ويفعلونه.
وتدبر كيف قتل الغلام الدابة التي تعترض الناس، وكيف ساعد على شفاء المرضى بما فيهم جليس الملك.
4 ـ إنهم كانوا مبادرين في اختيار نهايتهم، بل شاركوا في صنعها، واختاروها.
وتدبر نهاية غلام الراهب ومؤمن ياسين ومؤمن آل فرعون، وكذلك موقف السحرة، وتحديهم لفرعون؛ عندما {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] .
5 ـ أحبوا الموت، ليس هروباً من الحياة؛ كم حذرنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَتَمَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؛ إمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ» (4) ، ولكن حباً وشوقاً إلى لقائه ـ سبحانه ـ كما جاء في هذا الحوار:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَه، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ! فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكِ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإنَّ الْكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» (5) .
وتدبر موقف أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ في غزوة أُحُد؛ عندما حكى أَنَس ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: «غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ؛ لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ـ يَعْنِي أَصْحَابَهُ ـ وَأَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ـ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ـ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ! الْجَنَّةَ؛ وَرَبِّ النَّضْرِ! إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ؛ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إلَى آخِرِ الآيَةِ. وَقَالَ: إنَّ أُخْتَهُ ـ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ ـ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَرَضُوا بِالأَرْشِ، وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ» (1) .
وكذلك ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عندما قال: انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» . قال عمير بن الحمام: بَخٍ بَخٍ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» . قال: لا، واللهِ يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها» . قال فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل» (2) .
6 ـ كانوا يعلمون أثر نهايتهم، فنجحوا في توظيفها من أجل قضيتهم، كما وظفوا لها حياتهم.
وتأمَّل كيف دل الغلامُ الملكَ على سر موته؛ «فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي؛ فَإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ. آمَنَّا بِرَبِّ الْغلامِ. فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ ـ وَاللَّهِ ـ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ؛ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ: يَا أُمَّهِ! اصْبِرِي؛ فَإنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» (3) .
وتأملْ: هل سيكون هذا الإيمان الجماعي، وستحدث تلك المظاهرة الإيمانية الجماعية، لو عاش الغلام ودعاهم للإيمان؟
7 ـ إنهم انتصروا بفكرتهم، وتركوها رصيداً ونبراساً على طريق الفائزين من بعدهم؛ ليخلدوا صورة راقية من صور النصر.
8 ـ إنهم شاركوا في صنع مصيرهم بعد نهايتهم؛ وهو الخلود في الجنة.
وتأملْ موقف مؤمن ياسين؛ عندما تمنى مصيراً لقومه مثل مصيره؛ عندما {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27] .
الخطوة الرابعة: مع المختارين:
وتأتي الخطوة الرابعة في سلم الرقي الإيماني، فنطمع في أن نكون ضمن المختارين من الفائزين، وهم الذين فضلوا المِيتة الزكية الشريفة.
وهم الذين اختارهم الحق ـ سبحانه ـ من بين أحبائه المخلصين: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] .
ولنتأملْ فيما أعده ـ سبحانه ـ لهم.
وكيف ضمن لهم كل ما يشغل أي عبد لنفسه ولأهله ولمستقبله؟
أي أن الباري ـ سبحانه ـ قد حل لهم كل مشكلاتهم الحياتية والأخروية.
فندرك لِمَ استعذب هؤلاء النخبة الشهادة، فجعلوا يتمنونها حتى وهم في أعلى درجات الجنة؟
1 ـ الأمن من سكرات الموت:
«مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ أَلَمِ الْقَتْلِ إلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ أَلَمِ الْقَرْصَةِ» (4) .
2 ـ الأمن من فتنة القبر:
«أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إلا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً» (5) .
3 ـ الأمن على الأهل والولد:
«يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» (6) .
4 ـ التسجيل مع الأوائل:
«إنِّي لأعْلَمُ أَوَّلَ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَفَقِيرٌ عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ. وَإنِّي لأَعْلَمُ أَوَّلَ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ: سُلْطَانٌ مُتَسَلِّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهُ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ» (7) .
5 ـ الفضائل الفورية الست:
«يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتَّ خِصَالٍ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ:
يُكَفَّرُ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةٍ،
وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ،
وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ،
وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ،
وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ،
وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإيمَانِ» (8) .
«لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ:
يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ» (9) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ذُكِرَ الشَّهِيدُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «لا تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِهِ حَتَّى تَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ كَأَنَّهُمَا ظِئْرَانِ أَضَلَّتَا فَصِيلَيْهِمَا فِي بَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ بِيَدِ ـ أَوْ قَالَ فِي يَدِ ـ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (10) .
6 ـ المرتبة العليا من الجنة:
«الْقَتْلُ ثلاثَةٌ:
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ؛ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ لا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إلا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ.
وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ مُحِيَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، إنَّ السَّيْفَ مَحَّاءُ الْخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ؛ فَإنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ.
وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ؛ فَإنَّ ذَلِكَ فِي النَّارِ، السَّيْفُ لا يَمْحُو النِّفَاقَ» (1) .
إنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: «يَا نَبِيَّ! اللَّهِ ألا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ ـ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ ـ فَإنْ كَانَ فِي الجنَّة صَبَرْتُ، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ؟ قَالَ: يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى» (2) .
«رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا. قَالا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ» (3) .
7 ـ استعذاب الشهادة:
«مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إلا الشَّهِيدَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ؛ فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى» (4) .
«مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إلا الشَّهِيدُ؛ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَة» (5) .
8 ـ السعادة الأبدية:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] .
الخطوة الخامسة: كيف نجيد فن حب الموت عملياً؟
ثم تجيء الخطوة الخامسة؛ وهي عوامل الاستمرارية والثبات على طريق النجاة.
وهي التطبيقات العملية على طريق حسن صناعة الموت.
1 ـ تجديد النية:
«مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ صَادِقاً مِنْ قَلْبِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ الشَّهِيدِ» (6) .
2 ـ صندوق تجهيز الغازي:
«من جهز غازياً في سبيل الله ـ تعالى ـ فقد غزا» (7) .
3 ـ صندوق كفالة بيت الغازي:
«ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير، فقد غزا» (8) .
4 ـ الصحبة المؤمنة:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِينَا، فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلا يُسْتَشْهَدُ؛ ألا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ. مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ» (9) .
5 ـ المعايشة الدائمة للخطوات الأربع السابقة.
6 ـ المعايشة القرآنية.
7 ـ التدبر في سِيَر السائرين على الدرب، واتخاذ شخصياتهم واسمائهم قدوة.
8 ـ فقه مرض العصر:
(1) ما هو؟
هو مرض الغثائية.
(2) ما سببه؟
كما جاء في فتوى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عندما وضع المعادلة:
(الوهن = حب الدنيا + كراهية الموت ----- الغثائية) .
(3) ما علاجه؟
حب الموت في سبيل الله.
عَنْ ثَوْبَانَ ـ رضي الله عنه ـ قَال: َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ» (10) .
أخيراً:
ليكنْ هدفنا الذي نضعه على قمة جبل حياتنا؛ هو أحد خيارين لا ثالث لهما:
فإما حياةٌ تسرُ الصديق وإما مماتٌ يكيدُ العِدى
أو كما اختار سيد قطب ـ رحمه الله ـ:
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ومؤسس مركز ولدي الطبي للأطفال بدمنهور ـ مصر.
(1) مسند الإمام أحمد 3991. قال: نام عند الظهيرة. القيلولة: نومة نصف النهار.
(2) وحي القلم: مصطفى صادق الرافعي 1/75.
(1) رواه البخاري 21768.
(2) كتاب الموت ـ سكرات الموت وشدته ـ وحياة القبور حتى النفخ في الصور: أبو حامد الغزالي ـ من المقدمة لعبد اللطيف عيسى عاشور 9 - الرقائق: محمد أحمد الراشد ـ 105 ـ عن كتاب الزهد: ابن المبارك 84 و 554.
(3) وحي القلم: مصطفى صادق الرافعي 2/198.
(1) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير آية الدخان 29 بتصرف.
(1) سنن أبي داوود ـ الجنائز 2786.
(2) رواه البخاري ـ المناقب 3412.
(3) البخاري 5937.
(4) البخاري 6694. يستعتب: يرجع عن الإساءة ويطلب الرضا.
(5) صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 4845.
(1) البخاري ـ كتاب الجهاد والسير 2595. (2) رواه مسلم. (3) رواه مسلم 5327.
(4) سنن الدارمي 2301. (5) سنن أبي داوود 2026. (6) سنن أبي داوود 2160.
(7) مسند الإمام أحمد 9815. (8) مسند الإمام أحمد 17115.
(9) الترمذي: فضائل الجهاد 1586، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيب. (10) مسند الإمام أحمد 9155.
(1) مسند الإمام أحمد ـ 16998. (2) البخاري 2598. (3) البخاري 2582.
(4) البخاري 2586. (5) البخاري 2606. (6) الترمذي ـ 1578ـ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(7) من حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي. (8) من حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي.
(9) الترمذي 2091، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. (10) سنن أبي داوود ـ كتاب الملاحم ـ 3745.(223/39)
من لشكوى البيوت؟
َ عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
خلق الله ـ تعالى ـ الخَلْق وسوَّاه، وأعطى كل شيء خلقه وهداه، وابتلى خلقه بالسراء ليشكروه، وبالضراء ليحمدوه ويدعوه وينيبوا إليه.
ومن نعم الله ـ تعالى ـ علينا نعمة السكن في البيوت: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل: من الآية80] ، ونعمة الحياة الزوجية والسعادة الأسرية: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] . فيا سعادة من رزقه الله ـ تعالى ـ بيتاً يؤويه، وزوجة يأنس بها! وتكمل السعادة بزينة الحياة الدنيا ورياحين القلوب {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] .
ولكن بيوتنا جزء من الدنيا، والدنيا دار ابتلاء واختبار، ولا تدوم على حال صفاء.
فمن منا صَفَت أيامه بلا كدر؟ وهل منا أحد خلا بيته وسلمت أسرته عن منغص؟ لا؛ وربي! فالدنيا بأسرها دار حفلت بالمنغصات والكدر، وما أصدق ذلك الوصف القرآني لحال ابن آدم في الدنيا: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 1 - 6] فهذا القَسَم العظيم من ربنا ـ سبحانه ـ وهو أصدق القائلين، يُشعر كل مستمع له أن الدنيا دار لا صفاء فيها بإطلاق؛ فلا يمضي على الإنسان يوم إلا ويقاسي فيه شيئاً من الشدة أو يكابد فيه مشقة: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] .
وأنواع الكَبَد والمشقة كثيرة، منها ما تعانيه بعض البيوت من التصدع الأسري ووجود الشقاق بين الوالدين أو بين أحد الوالدين مع الأولاد، وقد تكون هناك مشكلة قائمة تمنع من الصفاء والأمان، كمن تعاني من زوجها المدمن على المسكرات والمخدرات، أو تلك الأرملة التي تعول أولادها وتشرف على تربيتهم ويصعب عليها السيطرة على بيتها وتخاف على رعيتها من الضياع في أتُون الحياة ومشكلاتها، أو ذلك الفتى المبتلى بأب قاسي القلب صعب المراس، أو تلك الفتاة التي تشتكي من إهمال والديها أو ظلم إخوانها وتخاف على نفسها، وهلم جرّاً من المشكلات التي لا تخلو منها غالب البيوت؛ وكثير من هذه المشكلات تكون سهلة ويوفَّق أطرافها في تجاوزها بيسر أو تُحلّ مع مرور الزمن.
ولكن يبقى قسم من البيوت يصطلي بنار تلك الأزمات والمشكلات التي تعصف باستقراره وتهز كيانه ما لم يقيّض الله ـ تعالى ـ لها من يساهم في إزالة تلك الغمة وكشف تلك الكربة.
وما لم تُحل هذه المشكلات وتُعالج فإن آثارها كبيرة وطويلة المدى.
ولولا أن للبيوت أسرارها لأوردت صوراً ومآسيَ من تلك المشكلات التي يعايشها بعض أفراد مجتمعنا ويصطلون بنارها رافعين شكواهم إلى الرحمن الرحيم يرجون منه ـ سبحانه ـ اللطف والتيسير، وهو ـ سبحانه ـ أرحم الراحمين.
ولكن كيف السبيل إلى علاج تلك المشكلات والأزمات؟
إن الحديث عنها طويل ومتشعب ومحفوف ببعض العوائق، فلا ريب أن لهذه المشكلات خصوصيتها، ولا يرغب أطرافها في نشر مشكلاتهم أو أن يتدخل الجميع في علاجها، وربما كان الطرف المظلوم ضعيفاً لا يستطيع الجهر بالشكوى أو البوح بمكنون ضميره، وربما رأى المجتمع بتقاليده وعاداته أن الحديث بصوت مسموع في هذه القضايا ممنوع؛ فما الذي يصنعه إذن من ابتلي بها وأصبحت حياته مليئة بالشوك والعقبات؟ إن هذه المشكلات إن لم تجد يداً حانية وقلباً مشفقاً ونفساً حريصةً على رأب الصدع فإنه يُخشى أن يزيد أُوارها ويستطير شررها.
ولما كان المفترض في كل مسلم أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ، وكل واحد منا يود أن يعيش هادئ البال مطمئن الحال؛ فكذلك ينبغي لنا أن نبذل الجهد في حل هذه المشكلات متى وقعت؛ فهي من وسائل الإصلاح بين المسلمين، كما أنها من وسائل تحصيل الاستقرار وإيجاد السعادة في البيوت والأسر، ومتى كانت البيوت مستقرةً خالية من المنغصات كانت حَرِيَّة بتوفير الراحة والسكن والمودة لأفرادها.
والسعيُ في الإصلاح ولمّ الشمل مطلوب شرعاً؛ فقد قال ـ تعالى ـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] ، وقال ـ سبحانه ـ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقال ـ تعالى ـ في بيان ما يُعمل عند شقاق الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء:35] .
وإن السعي في إصلاح ذات البين ورأب الصدع لدى الأسر والمساهمة في حل مشكلاتها عمل محمود مأجور عليه صاحبه، وليس في ذلك أي غضاضة أو منقصة، ولنا في نبينا -صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة الحسنة، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-! وأنعم به من معلمٍ للبشرية ومربٍ قدير وساعٍ في كل بر! فمع عظيم مسؤوليته في تبليغ رسالة ربه، ولا ريب أنه أكثر الناس عملاً ومسؤولياتٍ وأكثرُهم تحملاً للأمانة؛ فإن ذلك كله لم يشغله عن أن يساهم بجهده في رأب الصدع وعلاج مشكلات البيوت، بل كان -صلى الله عليه وسلم-، وهو رؤوف رحيم بأمته، يتحسس مشاعر أفراد مجتمعه ويبذل جاهه ونصحه في التوفيق بين المتخالفين وعلاج مشكلات البيوت والأسر.
وإليكم هذه النماذج المضيئة من سيرته -صلى الله عليه وسلم-:
أخرج أبو داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تضربوا إماء الله!» فجاء عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ذئرن النساء على أزواجهن ـ أي نشزن وتجرأن وساءت أخلاقهن مع أزواجهن ـ فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساء كثير يشكين أزواجهن، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكين أزواجهن ليس أولئك بخياركم» . فانظر يا أخي! حين بادرت النساء برفع شكواهن إليه -صلى الله عليه وسلم-، فقد علمن أنه -صلى الله عليه وسلم- سيهتم بأمرهن، فجئن إليه وهن كثيرات، كما في اللفظ الآخر قال -صلى الله عليه وسلم-: «لقد طاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كل امرأة تشتكي زوجها؛ فلا تجدون أولئك خياركم» أخرجه ابن ماجه؛ فهل تبرَّم بهن -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل طردهن عن بيته؟ وهل أنكر عليهن شكوى رجالهن؟ وانظر إليه -صلى الله عليه وسلم- حين يوجه الرجال في هذا الأمر ويبين أن مكارم الأخلاق تقتضي ترك الضرب والإيذاء.
وصورة أخرى يتدخل فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- باذلاً جاهه لدى بريرة ـ رضي الله عنها ـ وهي أَمَة مسلمة أُعتقت، وكان زوجها عبداً واسمه مغيث، وإذا أُعتقت الأمة خُيرت بين البقاء مع زوجها أو أن تختار فراقه، فاختارت بريرة ـ رضي الله عنها ـ مفارقة زوجها، فتأثر زوجها بذلك، وإليك ما رواه ابو داود عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن مغيثاً كان عبداً فقال: يا رسول الله! اشفع لي إليها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا بريرة! اتقي الله؛ فإنه زوجك وأبو ولدك» فقالت: يا رسول الله! أتأمرني بذلك؟ قال: «لا؛ إنما أنا شافع» ، قالت: لا حاجة لي فيه. فكانت دموعه تسيل على خده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: «ألا تعجب من حب مغيث بريرةَ، وبغضِها إياه؟» أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود والدارمي بألفاظ متقاربة.
وها هو -صلى الله عليه وسلم- لا يغفل عن بيته وأقرب الناس إليه، بل يهتم بحالهم ويأسى لمشكلاتهم. أخرج البخاري عن علي ـ رضي الله عنه ـ أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاءه رقيق فلم تصادفه، فذكرت ذلك لعائشة؛ فلما جاء -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشة، قال علي: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال: على مكانكما! فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدتُ برد قدميه على بطني فقال: «ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمَدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا أربعاً وثلاثين؛ فهو خير لكما من خادم» .
ولَما كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يعلمون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرصه على حل مشكلاتهم كانوا يبادرون برفعها إليه، ومن ذلك قصة عبد الله بن عمرو بن العاص مع زوجه؛ فعن عبد الله ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: زوّجني أبي امرأة، فجاء يزورها، فقال: كيف ترين بعلك؟ فقالت: نِعْمَ الرجل من رجل لا ينام الليل ولا يفطر النهار! فوقع بي وقال: زوَّجتك امرأة من المسلمين، فعضلتها! قال: فجعلت لا ألتفت إلى قوله مما أرى عندي من القوة والاجتهاد، فبلغ ذلك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: لكني أنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فقُمْ ونَمْ وصُمْ وأفطرْ. قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام! فقلت: أنا أقوى من ذلك. قال: صم صوم داود ـ عليه السلام ـ صم يوماً وأفطر يوماً! قلت: أنا أقوى من ذلك. قال: اقرأ القرآن في كل شهر! ثم انتهى إلى خمس عشرة وأنا أقول: أنا أقوى من ذلك» أخرجه النسائي وأصله في الصحيحين.
ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- بالجبار المترفع عن هموم أصحابه، بل كان قدوةً ومثالاً يُحتذى في التواضع وبذل المعروف. هذا أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ يحدثنا: «إن كانت الأَمَة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت» أخرجه البخاري.
هذا غيض من فيض النبوة والحكمة؛ فهل نحن مقتدون؟ وهل نبذل الرأي والجاه والمال في خدمة إخواننا المبتَلين في بيوتهم وأسرهم، عسى أن يكتب الله لنا ولهم الخير والفلاح في الدنيا والآخرة.
وإن التصدي لمشكلات الناس والمساهمة في حلها ليس بالأمر السهل؛ إذ يتطلب وقتاً وجهداً وحكمة وعلماً، وكلما توفرت الخبرة والكفاءة العلمية والممارسة العملية في ذلك الأمر كان أفضل وأحرى بالنفع.
ولذا فإن الجهات الرسمية والجمعيات المهتمة بالشؤون الاجتماعية والنفع العام مطالبةٌ بالاهتمام بهذا الموضوع والسعي في هذا السبيل الذي أصبح مطلباً ملحّاً في سبيل توفير الاستقرار الأسري.
وإن بذل الجهد في إصلاح ذات البين وإزالة العوالق وحل المشكلات الاجتماعية لا يقل أهمية عن إيصال الطعام والشراب إلى البيوت المحتاجة؛ فالنفس تنشد الاستقرار والطمأنينة كما تنشد الكفاف والستر.
وهناك بحمد الله جهود مباركة في هذا الميدان، ولكنها لا تزال في بداياتها، وتحتاج إلى مزيد من الدعم والتخصص.
وهذه دعوة لكل مصلح ومحب للخير أن يساهم قدر جهده في نفع إخوانه ومَنْ حوله؛ فللقريب دور مع قريبه، وبإمكان الجار وإمام المسجد والداعية وزميل العمل أن يعرض المساعدة في علاج مثل هذه المشكلات وأن يحتسب الأجر في ذلك؛ فالإصلاح بين الناس عمل محمود مثاب عليه شرعاً، كما قال ـ تعالى ـ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114] .
وهذه سبع وصايا لمن أراد الاحتساب والمشاركة في هذا العمل:
1 ـ للبيوت أسرارها وللناس خصوصياتهم، فاحرص على حفظ السر.
2 ـ بذل الجهد في النصح والإقناع والموعظة الحسنة واحتساب الأجر من وسائل النجاح في الإصلاح {إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
3 ـ احرص على بذل الحلول العملية الممكنة، وابذل جهدك في رسم خطة العلاج التي يفهمها المستشير.
4 ـ اعلم أن لكل حالة ما يناسبها من الحلول؛ فليس هناك وصفة ملائمة لكل المشكلات الاجتماعية والأسرية.
5 ـ التأكيد على أثر سلامة البيوت من المنكرات في تجاوز العقبات الاجتماعية؛ فكثيراً ما تنشب المشكلات في البيوت الخاوية من الخير والذكر المليئة بالمنكرات.
6 ـ الترفق في علاج المشكلة؛ فالرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا بد من سعة البال وطول النَّفَس في العلاج.
7 ـ مراقبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وطلب العون منه سبحانه.
وختاماً: أوصي من ابتلي بشيء من هذه المشكلات فنغصت حياته وكدرت أيامه أن لا يقنط من رحمة الله أو أن يدب إليه اليأس من تجاوز مشكلته؛ فلكل داء دواء.
وما أجمل أن يطرح العبد المهموم على ربه ويشكو إليه ـ سبحانه ـ حاله؛ فرحمة الله قريب من المحسنين: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] ، والصبر درع واقٍ وعلاج ناجع {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] .
واتخذ ـ أخي المبتلى ـ من الأسباب المشروعة ما يساعد على تجاوز المحنة وانقشاع الغمة، ومن ذلك طلب المساعدة والمشورة من حكيم مجرب أو صديق مشفق أو أخ محب أو مركز متخصص.
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
أسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا السعادة في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(223/40)
في بيئتنا الدعوية هل نحن بحاجة إلى تحديد مصطلح التربية؟
محمد بن عبد الله الدويش
أحد الشباب كان يسعى لإعداد قائمة بكتب تسهم في بنائه الشخصي، سألني عن الكتب التربوية المناسبة له، اعترض على بعض ما اقترحت عليه بأنها خارج الإطار الذي يريد، كان مصدر الخلاف بيني وبينه في تحديد مصطلح التربية.
إن مصطلح التربية ليس قاصراً على أروقة الجامعات، ولا محصوراً بين الأكاديميين، بل هو مصطلح يستعمله الصغير والكبير، والعامي والمتعلم.
واتساع دائرة استخدام المصطلح ـ بقدر ما يوضحه ويبسطه ـ فهو يتيح مجالاً واسعاً للتنوع في فهمه وتحديده.
والمجالات الدعوية من أكثر المجالات التي يتكرر فيها مصطلح التربية:
3 كتب ومقالات ودراسات تربوية.
3 فلان مهتم بالقضايا التربوية ويتحدث عنها.
3 التعارض بين التربية والعلم الشرعي: أيهما يقدَّم؟ أيهما أوْلى؟
3 فلان يعاني من خلل وقصور تربوي.
3....... إلخ.
فما المقصود بمصطلح التربية في الأوساط الدعوية؟
فهي تارة مصطلح عائم لا دلالة محددة له، وأخرى منحصر في مجال السلوك والآداب والرقائق وما يتصل بها، وهو ما كان يعنيه صاحبي في استشارته.
إن ميدان التعامل الفكري والثقافي الواسع لا يتطلب التحديد المنطقي للمصطلحات والألفاظ، ويستوعب التعامل الواسع معها.
لكن استخدام مصطلحٍ ما دون مفهوم واضح محدد، أو اجتزاء استخدام المصطلح في نموذج وصورة محدودة يترك آثاراً في الواقع العملي تتجاوز مجرد الجدل حول استخدام الألفاظ والمصطلحات.
إن التربية تعني بناء شخصية الإنسان بكافة جوانبه: بناءه العلمي، والفكري، وبناء قدراته ومهاراته العقلية، وبناءه النفسي وتحقيق السمات الملائمة للشخصية السوية المستقرة، وبناءه الاجتماعي وإكسابه مهارات التواصل مع الآخرين.
وهي مع ذلك تُعنى ببناء الإيمان والتقوى في النفس، وتنمية الخُلُق والسلوك والتعامل مع الآخرين.
واختزال مفهوم التربية في جانب من جوانب الشخصية قاد إلى خلل في التنظير، وخلل أوسع منه في الممارسة.
فصار الحديث النظري عن البناء التربوي في البيئات الدعوية حديثاً يفتقر إلى السعة والشمول، أما الممارسة فهي أكثر قصوراً واجتزاءً.
والقصور في مفهوم التربية، ومن ثَمَّ في الممارسة التربوية قاد إلى كثير من المشكلات في المخرَجات التربوية، ومع الشعور بأزمة المخرجات؛ إلا أن تحليل أسبابها، والأفكار المقترحة في علاجها لا زالت قاصرة.
ويمكن تفسير جزء من هذا الخلل من خلال القصور في مصطلح التربية مفهوماً وممارسة.
إن هذا ليس دعوة لمجرد إعادة تعريف التربية، بل هو دعوة لمراجعة الأداء التربوي في ضوء المفهوم الشامل للتربية بغض النظر عن الجدل حول المصطلحات والألفاظ؛ فالعبرة بالحقائق والممارسة.(223/41)
معالم في فقه الفتن والأزمات
إبراهيم بن صالح الدحيم
الأمة الإسلامية اليوم تعيش زمناًً عصيباً، تحتاج معه إلى فقه ودراية، وسعة نظر وإدراك، حتى يمكنها ـ ودون ضوضاء مزعجة ـ أن تحدد الجرح، وتضع الدواء المناسب عليه، ثم تحيطه بعصابة تسارع في بُرْئه، فتستطيع بذلك أن تحمي الأجزاء السليمة أن يطولها الضرّ أو يغشاها البلاء.
إن فقه التعامل مع الفتن وحُسن إدارة الأزمات جزء من حلها، وعامل رئيس في تخفيف حدّتها، والحدّ من أثرها، وبالمقابل فالجهل والتوتر والتهور الناتج عن قلة الفقه يزيد من تأزم الأزمة ويضاعف أثرها.
إن النظر في كتاب الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (يعطي النفس وضوحاً في الرؤية، وبُعْداً في النظر، وحكمة في التعامل، وهذا كله لازم لفقه الأزمات بصورة صحيحة. وقد روي في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنّتي» (1) .
لقد عايش النبي -صلى الله عليه وسلم- وعايشت الأمة معه أزمات كثيرة؛ فكيف كان المخرج منها؟ كيف كان التوجيه الإلهي يتنزل حيال هذه الأزمة أو تلك؟ كيف كان تصرُّف النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعامله مع هذه الأزمات وهذه الفتن المدلهمّات؟
وفي زحمة المتغيرات وتتابع الأزمات يضعف البصر، وتختلط الأصوات، ويلتبس الحق بالباطل ـ لكن لا يضيع ـ وكما يقول مطرِّف بن عبد الله: (إن الفتنة إذا أقبلت تشبهت، وإذا أدبرت تبيّنت) (2) . وفي زحمة الفتن يتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق. لقي سعيد بن جبير راهباً، فقال: «يا سعيد: في الفتنة يتبين مَنْ يعبد الله ممن يعبد الطاغوت» (3) . ولذا كانت الحاجة اليوم ماسّة إلى معالم في فقه الفتن والأزمات نستفيد منها في التعامل مع أزمة واقعة، أو التنبّه المبكر لأزمة متوقعة، وفي هذه العجالة أُلقي الضوء على معالم مهمة، ينبغي مراعاتها حال النظر في الفتن والأزمات.
- المَعْلَم الأول: لله الحكمة البالغة:
لله الحكمة البالغة في تقديره وتدبيره وأمره ونهيه، لا يقع في الكون شيء إلا بعلمه وأمره. لم يخلق شيئاً عبثاً، ولا شراً محضاً «والشر ليس إليك» (4) . اتُّهم بيت النبوة في عرضه وكانت نازلة عظيمة على المؤمنين عاشها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه شهراً فأنزل الله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: 11] . وجاء فرض القتال ـ الذي فيه تزهق النفوس ـ فكرهه أناس! فأنزل الله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] . وأنزل الله في الرجل يكره المرأة ويطلب فراقها قولَه ـ تعالى ـ: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] . ويخفى علينا الأمر؛ لكن الله يعلمه، ويختار لعباده المؤمنين خيراً. عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «عجبت للمؤمن! إن الله لم يقض قضاء إلا كان خيراً له» (1) .
كادت قضية فلسطين أن تُنسى فأتى الله بالانتفاضة المباركة، نعم ذهب فيها أطفال، لكن استيقظ بسببها رجال، جاءت الانتفاضة فأثارت في النفوس ـ وبقوة ـ عداوة يهود، الأمر الذي كاد يخبو تحت شعارات السلام وفي أروقة التطبيع! جاءت الانتفاضة لتنفض عن المسلمين غبار اليأس والنوم، فإذا بالعالم الإسلامي اليوم من أقصاه إلى أقصاه ينتفض لقضيته الأولى ومسرى نبيه -صلى الله عليه وسلم-، جاءت الانتفاضة لتبطل مخططات كانت تدار في دهاليز مظلمة، بغرض عزل القضية الفلسطينية عن هويتها الإسلامية.
ووقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ووجدت أمريكا وغيرها فرصتها في التدخل وفرض السيطرة المباشرة على المسلمين، فطال المسلمين ما طالهم من التشريد والتقتيل، وقوضت أعمال خيرية إغاثية، ومع كل هذا فقد جرت حكمة الله وتدبيره أن يكون الحادث سبباً عظيماً للبحث عن الإسلام، حيث أقبل الأمريكان والغربيون وغيرهم على شراء الكتب التي تتحدث عن الإسلام؛ فقد نشرت الصحف أن الكتب التي تتحدث عن الإسلام قد نفدت من المكتبات، وصار عليها إقبال شديد في أوروبا، وارتفعت نسبة مبيعات ترجمات القرآن إلى 21-30%. وفي معرض (فرانكفورت) الدولي للكتاب لوحظ إقبال جميع الزائرين على تناول أي غلاف يحمل موضوعاً حول الإسلام (2) ، وامتلأت المراكز الإسلامية بالذين يسألون عن الإسلام، واستضافت كبريات المحطات الإذاعية عدداً من رؤساء المراكز الإسلامية لعرض سماحة الإسلام وحقيقته، وهو الشيء الذي لو أنفق المسلمون الملايين من أجل النفوذ إلى هذه الوسائل ما استطاعوا، ولكن الله يحكم ما يريد.
- المعْلَم الثاني: اصبروا وصابروا:
عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة؛ فأعدوا للبلاء صبراً» (3) ، وعن المقداد بن الأسود ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً» (4) ، ويصف النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأيام بأنها أيام الصبر؛ لأن الصبر فيها يعتبر الركيزة الأساس في الاستقرار وتجاوز الأزمات بسلام؛ فعن عتبة بن غزوان ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من ورائكم أيام الصبر للمستمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم» (5) . وبالصبر يحصل الضياء الذي تستبين به الأمور قال -صلى الله عليه وسلم-: «والصبر ضياء» (6) قال النووي ـ رحمه الله ـ: «والمراد أن الصبر المحمود لا يزال صاحبه مستضيئاً مهتدياً مستمراً على الصواب» . وكم هي الحاجة إلى معرفة الصواب والثبات عليه أيام الفتن والأزمات؟ وإذا وقع البلاء كان الصبر للعبد سعة كما في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-: «وما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر» (7) قال ابن القيم: (هذا بعد نزول البلاء: ليس للعبد أوسع من الصبر، وأما قبله فالعافية أوسع له) (8) . وفي المشهور من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي؛ غير أن عافيتك أوسع لي» (9) .
والذين عاشوا حياة الصبر والمصابرة ذاقوا لذّتها وقطفوا ثمرتها، وتركت تلك المواقف في نفوسهم أثراً نعموا به بقية حياتهم. قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: (وجدنا خير عيشنا بالصبر) (10) ، وقال علي ـ رضي الله عنه ـ: (الصبر مطية لا تكبو) (11) .
(والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة. إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء.. الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها ومللها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طباعهم، وأَثَرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلّة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله.. والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله واستسلام لقدره وردّ الأمر له كله في طمأنينة وثقة وخشوع ... ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين.. فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة، بل يظلّون أصبر من أعدائهم وأقوى..) (1) .
إن بين النصر والهزيمة وبين القوة والضعف صبر ساعة، فمن صبر عليها نال النصر والقوة، ومن عجز دونها سقطت قواه. قال عمر بن الخطاب ـ ضي الله عنه ـ لرجل من بني عَبس: «كم كنتم يوم الهبَاءة؟ فقال: كنا مئة كالذهب، لم نكثر فنتواكل، ولم نقل فنذل. قال: فكيف كنتم تقهرون من ناوأكم ولستم بأكثر منهم عدداً ولا مالاً؟ قال: كنا نصبر بعد اللقاء هنيهة. قال: فلذلك إذاً) (2) .
- ثالثاً: حسن التعامل مع الأخبار:
الإعلام اليوم يمارس نوعاً من التحوير للخطاب الإعلامي، والعبث في صياغة أخباره، جرياً على المصالح السياسية! فهو اليوم فاقد لمصداقيته وحياديته في كثير من أخباره، وعليه فإن علينا أن نقف من هذه الإذاعات والقنوات الإخبارية موقف التمحيص والتدقيق كما في التوجيه الرباني: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .
إن معرفة الحقيقة وإن كان أمراً صعباً في هذا الوقت إلا أنه ليس بمعجز، إذ الأمر يحتاج إلى نوع ذكاء في التعامل مع الأخبار، وذلك بالنظر إلى عدة مصادر لها استقلاليتها، وإجراء شيء من المقارنة بينها لمعرفة قدر التوافق والتعارض.
ومن فقه التعامل مع الأخبار حسن النقل واختيار ما يصلح إذاعته منها مما لا يصلح، فكما أنه ليس كل ما يُقال يصح، فليس كل ما يُعلم يُقال، يقول ـ تعالى ـ: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] . يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ معلقاً: (هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرّزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو منه مصلحة لكن مضرّته تزيد على مصلحته لم يذيعوه..) (3) .
لقد سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بنقض يهود بني قريظة للعهد وهو في شدة الأحزاب، والجيوش قد تجمعت حول المدينة، وقد زاغت من المؤمنين الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فأرسل السعدين ـ سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة ـ ومعهما عبد الله ابن رواحة، وخوات بن جبير ـ رضي الله عنهم ـ يستطلعون الخبر، وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقّ ما بلغنا عنهم؛ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه (أي: ورُّوا بكلامكم تورية أفهمها عنكم دون غيري) ولا تفتّوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس، فخرجوا حتى أتوهم واستطلعوا الخبر، ثم أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخبر بني قريظة وأنهم قد نقضوا العهد، وكَنَّوا بذلك لرسول الله فقال: الله أكبر ... أبشروا يا معشر المسلمين!! (4) .
لقد كان في إظهار خبر نقض قريظة للعهد فتٌّ في عضد المسلمين فأخفاه -صلى الله عليه وسلم- استبقاءً لهم، بل تجاوز ذلك إلى بعث روح الطمأنينة فيهم حيث كبَّر وبشَّرهم بالنصر.
إن من الأخبار ما يكون صحيحاً لكنه غير صالح للنشر، ثم ما كان منها صالحاً للنشر فلا يصح أن ينشر بصورة ترعب المسلمين وتزيد من وجلهم؛ لأن ذلك في الحقيقة استدراج من العدو للوقوع في أسر الحرب الإعلامية التي ما هي إلا طليعة العدو في حربه المتواصلة علينا.
إن على المسلمين أن يصلوا إلى مستوى رفيع في الفهم، وأن يفقهوا الخطاب الإعلامي ويعلموا أنه موجه، وأنه في كثير من أحيانه يفتقد إلى المصداقية. إن من نافلة القول: أن إعلام أيّ دولة سيخدم مصالحها ولا بد، وسيكون داعماً لسياستها ولا ريب، وقل لي بربك: ما هي أبرز المصادر الإعلامية اليوم؟ أليست في يد أعدائنا، هل ننتظر من أعدائنا في صياغة الخبر أن يراعوا أوضاعنا وأن ينطقوا بالصدق؟
على المسلم أن لا يكون مذياعاً وبوقاً لكل ما يقال؛ فقد عاب الله ذلك على بعض من كان في المدينة ممن يلقي أذنه لقالة اليهود وإرجاف المنافقين {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ... } [التوبة: 47] ، أما المؤمن الفطن فكما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: (إن لله عباداً يميتون الباطل بهجره، ويحيون الحق بذكره) (1) .
وحين يقول كل ما يعلم يكون كحاطب ليل يهذي بما لا يدري ولا يسلم من زلل وخطيئة، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) (2) . وعند أبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (بئس مطية الرجل زعموا) (3) .
ومن لا يحسن الكلام فعليه بالصمت فـ (الصمت حكمة) . قال ميمون بن مهران: (لبث شريح في الفتنة تسع سنين لا يُخبر ولا يَستخبر) (4) ، وفي الحديث الحسن عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من صمت نجا» (5) ، والصمت الذي يكون فيه النجاة حيث لا يدري وجه الحق والصواب، أو لا يكون في الحديث مصلحة. إن فتنة اللسان ليست بأقل من فتنة السنان بل هي باعثة له محرضة عليه؛ وقد روي: «إن الكلام في الفتنة دم يقطر» (6) ، وجاء عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «الفتنة تُلْقَح بالنجوى، وتُنْتَج بالشكوى» (7) ، ورحم الله الربيع بن خَيْثم فإنه لما قيل له: قتل الحسين! قال: أقتلوه؟ قالوا: نعم! فقال: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] قال ابن العربي معلقاً: «ولم يزد على هذا أبداً؛ فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين» (8) .
ثم على المسلمين أن يعرفوا مسؤوليتهم تجاه علمائهم ودعاتهم وأهل الرأي والعقل فيهم، فيحفظوا لهم قدرهم ويعرفوا لهم مكانتهم، ويرجعوا إليهم في ملمّاتهم، ويصدروا عن رأيهم، ويحيطوا بهم عند الأزمات: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
- رابعاً: التّؤدة:
حتى يستطيع المسلم أن ينظر الطريق دون غبش، ويبصره دون عمش، وأن يفكر بعيداً عن الضوضاء ليعرف أين يضع قدمه وكيف يرفعها، فلا بد من التؤدة والسكينة. عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الأناة من الله، والعجلة من الشيطان» (9) .
قال أبو حاتم: (العجلة فعل الشيء قبل وقته اللائق به. وكانت العرب تكني العجلة «أم الندامات» ، وقال أيضاً: والرافق لا يكاد يُسبق، كما أن العاجل لا يكاد يَلحق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، وإن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويُجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يُجَرِّب، ويذم بعدما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم) (10) . وعن خيثمة قال: قال عبد الله: إنها ستكون هَناتٌ وأمور مشتبهات، فعليك بالتؤدة، فتكون تابعاً في الخير خيرٌ من أن تكون رأساً في الخير (11) .
لا تعجلنّ فرُبّما عجل الفتى فيما يضرُّه
ولربما كره الفتى أمراًً عواقبُه تسرُّه
وكان المستورد القرشي عند عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس. فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقوّم ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: لئن قلت ذلك: إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند الفتنة، وأسرعهم إفاقة بعد المصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك» (12) . فلهذه الخصال استبقوا على أنفسهم وعلى قومهم، فليت قومي يعلمون.
أمَرَ النعمان بن مقرِّن المسلمين في بعض مغازيه أن ينكصوا استدراجاً للعدو، وعهد إليهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم ففعلوا واستتروا بالجحف من الرمي، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس إلى بعض، فقالوا للنعمان.. فقال: رويداً رويداً! قالوا ذلك مراراً فأجابهم بمثل ذلك.. فقال المغيرة: لو أن هذا الأمر لي علمتُ ما أصنع! فقال: رويدك ترى أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إياك، ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث (1) ـ يعني الأجر والنصر -. (إنَّ الانتظار الإيجابي والتجميع الهادئ: ليسا وقوفاً ولا تلكؤاً، بل هو تلبية لنداء الحكمة.
فريث المثابر أمضى خطىً وأبلغ من قفزات الصخب
وكانت أناة الفتى في التقدم أهدى وأجدى لنيل الأدب
ومستعجل الشيء قبل الأوان يصيب الخسار ويجني النصب
إن الأصل في الدعوة ومواجهة الأزمة، هو ترك الطيش وإلغاء العجلة والمناورة عن بُعْد والحيدة قدر المستطاع عن الرمية، فلا ينتصب هدفاً، بل لا يتواجد في عرصة يمكن أن يأتيه فيها سهم غَرْب) (2) . ويُطرف ابن القيم في المعنى فيقول: (شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنة، وشجرة الدّبّاء تصعد في أسبوعين، فتقولُ للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتِها في ثلاثين سنة قطعتُها في أسبوعين، ويُقال لي: شجرة، ولك: شجرة. فقالت الصنوبرة: مهلاً حتى تهب رياح الخريف؛ فإن ثبتِّ لها تمَّ فخرك) (3) .
إن كثيراً من العواطف العاصفة هي التي تحركنا وتسير بنا، كحال من جاءه عاصف من الريح فوضع يده على عينيه وألقى بنفسه بعيداً عنها؛ فإذا هو يرتطم بجِذْم حائط أو يقع في حفرة مظلمة، أو كحال من يسير بسيارته في طريق محجوبة بالضباب، فلم تطق نفسه بطء السير مع طول الطريق، فاستجاب لعاصف الطيش في نفسه فأسرع، فخرج عن الطريق عند أول منعطف فيه، فارتطم بسيارة أخرى في مسار غير مساره! فصدق في حقه قول العرب: (رب عجلة تهب ريثاً) ، ولو أن الأول اجتمع على نفسه، وألقى بثقله في مكانه، منتظراً ذهاب الريح لزال عنه العاصف دون أن يخسر موقعه. ولو أن الآخر مشى الهوينى، ولزم الجادة، فإنه سيصل ولو متأخراً، بل ربما انقشع عنه الضباب فزاد من سرعة سيره.
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
إنه توقّف لا وقوف ـ كما سبق ـ توقّف يحكمه الموقف، وتديره الحكمة، إنه انتظار مؤقت (فإذا رأيت الأرض قد اهتزت وربت، وهضاب القلوب القاسية قد تقلبت، فشمّر عن الذراع للزِرَاع، واغتنم خفقان الشراع، والإسراعَ الإسراعَ) (4) .
- خامساً: التربية على الاستعلاء رغم الجراح:
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنينَ} [آل عمران: 139] ، لقد كانت هذه الآية تتنزل وجيش المسلمين قد رجع من غزوة أحد، وقد قتل منهم سبعون، وجُرح فيها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك يقرر في حقهم أنهم الأعلون، حتى لا تقتلهم الحسرة، أو يحترقوا بنار المحنة. إن الأعداء يحاولون ـ عبر إيحاءات منظمة وممارسات إعلامية مدروسة ـ أن يطيحوا بالأمة في دوائر اليأس والإحباط والسلبية.
أما حين تتحرر النفوس من الإحساس بالدونية والضعف والعجز، فعندها تنطلق الطاقات وتتحرك الإمكانات وإن كانت ضعيفة، فهنا تغيّر وجه التاريخ، وتنطلق الأمة الجريحة لملاحقة عدوها كما انبعث جيش أُحُد الجريح لمطاردة عدوه في (حمراء الأسد) .
على الأمة أن تردّد أناشيد النصر وإن كانت جريحة، وأن تصرخ بلسان التحدي أمام عدوها وإن كانت سجينة:
لا تفرحوا بالنصر فإن قتلتم خالداً
فسوف يأتي عمرو وإن سحقتم وردة
فسوف يبقى العطر عدونا يا أيها المغرور..
عقارب الساعة إن توقفت.. لا بد أن تدور
إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا
فالريش قد يسقط من أجنحة النسور
والعطش الطويل لا يخيفنا
فالماء يبقى دائماً في باطن الصخور
لن تفلتوا.. . لن تفلتوا.. .
فإن نمت أولادنا من بعدنا ستأخذ الأجور.
الإسلام ليس محصوراً برجل فيُقتل! أو مؤسسة فتُغلق، أو هيئة فتُحدَّم، أو دولة فتُحارب. الإسلام نسيم يعمّ الأرجاء، وشمس لا تحجبها يد شلاء {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . [الصف: 8]
- سادساً: بعث الأمل:
لا بد من بعث الأمل في الأمة، وأن يُفتح لها نافذ من النور حتى لا يقتلها الظلام. بينما الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يحفرون الخندق إذ عرضت لهم شديدة، فجاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، قال الراوي: «وقد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً» فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- المعول ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها وتطاير منها شرر ـ أضاء هذا الجو الداكن ـ وهو يقول: الله أكبر: أُعطيت مفاتيح الشام، واللهِ إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضربها الثانية فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، واللهِ إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضرب الثالثة وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، واللهِ إني لأبصر قصر صنعاء من مكاني الساعة (1) ..!! ولما بلغه خبر نقض يهود بني قريظة (2) العهد قال: «أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره ... » أي: إشراقة أمل في ظلمة المحن هذه!!
ونحن نقول للمسلمين قاطبة وهم في ظل هذه الأزمات العصيبة: أبشروا وأمّلوا خيراً؛ فإن مع العسر يسراً، وإن الأمة وإن آلمها المخاض فقد قربت ولادة جيل النصر فيها.
إن الليل وإن اشتد ظلامه قد آذن الفجر ببلج، فنادِ مع صياح الديك، بل بعد أذان بلال، وردّد أنشودة النصر وملحمة الفتح.
ومن علم أن مصابه سيزول هان عليه احتماله، وتسلّى بانتظار زواله، وانبعثت نفسه بالأمل، ونشطت على العمل استعجالاً للفرج. بعكس ما لو انقطع أمله وأصابته حال من اليأس والقنوط، ظنّ معه أن ما هو فيه من أزمة تعتبر نهاية التاريخ، وخاتمة الحياة.
مهما دجا الليل فالتاريخُ أنبأني أنّ النهارَ بأحشاء الدّجى يثب
إني لأسمع وقع الخيل في أذني وأبصر الزمن الموعود يقترب
إن ظلمة الليل وإن كانت موحشة، إلا أنها سَكَنٌ للنائمين، وسلوة للقائمين، وأُنْس للذاكرين. أُدخل شيخ الإسلام ابن تيمية السجن فماذا كان السجن عنده؟! هل تأزمت نفسيته وتدهورت حالته؟! لقد تعامل معها ـ وهو صاحب القلب الموصول بالله ـ بطمأنينة وثبات، فتحوّل السجن في حقه إلى خلوة يأنس بها، لقد قال والسجَّان يغلق عليه الباب: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] ثم قال: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة!! وكان يقول في محبسه بالقلعة: (لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير) (3) . الله أكبر. لقد رأى شيخ الإسلام في السجن نافذة لم يرها كثير ممن يموت في الهم ألف ميتة غير التي كتبها الله عليه. ورحم الله الشاعر عمر أبو ريشة قال: أن من الحزم وتمام العقل مقابلة الجراح بالبسمات، حتى لا تنطفئ شمعة الأمل؛ حيث قال:
أحزمُ الناس عاقلٌ لمسَ الجرحَ وابتسمْ
- سابعاً: فرصة للمراجعة والتربية الجادّة:
إن (الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه؛ فهي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها، وتزيل الالتباس بين الصادقين والكاذبين، وفي ذلك فوائد كثيرة، منها: أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية؛ لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربيهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها.. وأما الأفراد، فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم؛ فإن المؤمن الصادق قد يغترّ بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد والأخلاق؛ لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهر الشدائد..) (4) .
فالمحن هي الجامعة الكبرى التي تخرّج القادة، والمجددين، والمصلحين.. حيث لا يتحقق التمكين إلا على جسر من الابتلاءات والمحن، التي تصقل النفوس وتخرج خبثها. سئل الشافعي ـ رحمه الله ـ: (أيهما أفضل للرجل: أن يمكَّن، أو يبتلى؟ قال: لا يمكّن حتى يبتلى) (5) .
وأنت ـ يرعاك الله ـ: حين تتأمل التاريخ وتنظر إلى سير الدعوات، ترى أنها تقَابل أول ما تقابل بالابتلاءات والصدود والتنكيل، كل ذلك من أجل أن يصلب عود الدعوة وتتخرج قيادات جادة، قادرة على تحمّل أعباء الدعوة ومشاقّها فيما بعد، قادرة على تحصيل النصر وتوظيفه.
والذين ثبتوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة وأصابهم من الضر والأذى ما أصابهم هم قادة الفتوحات بعد ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين (1) . قال ـ تعالى ـ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] .
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر، والإقدام قتال
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] .
يجب أن يُرتَفَعَ بالأمة عن حياة الترف الملهي، والسرف المطغي؛ فحياة الترف ومناهج الرخاء، والاكتفاء بمجرد الانتساب للصحوة والخير لا يكفي، ولا يراهن عليه عند اشتداد الأزمات. إن هذه المناهج الهشّة والتربية الرخوة لا يمكن أن تخرج من بين أروقتها شخصيات جادة ذات مواقف قوية. فالحياة المترفة لا تلد إلا الأجنّة الرخوة، يقول أفلاطون: (الشدائد تصلح من النفس بمقدار ما تفسده من العيش، والتترف ـ أي الترف والرفاهية ـ يفسد من النفس بمقدار ما يصلح من العيش) (2) . لقد امتنع بنو إسرائيل عن دخول الأرض المقدسة؛ لأن نفوسهم قد ألفت الذل والهوان، فكتب الله عليهم التيه في الصحراء وحرم دخول بيت المقدس (على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة، وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل، جيل يعتبر بالدرس، وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود.. جيل غير هذا الجيل الذي أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر، فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل!) (3) .
علينا أن نستفيد من الأزمات في تربية أنفسنا على الصبر بأنواعه، وعلى حقيقة الصلاة لا مجرد الحركات، فالله ـ تعالى ـ قد أمرنا أن نستعين «بالصبر والصلاة» لما لهما من الأثر العظيم في ثبات النفوس واستقرارها وقوتها وحسن تدبيرها للأمور، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان أصحابه كذلك كما في المسند: (وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة) (4) . وإذا تكلف العبد الصبر واستدعاه صار سجية له كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ومن يتصبر يصبره الله» (5) وقديماً قالوا: المزاولات تعطي الملكات.
هل ربينا أنفسنا على الصبر عن الشهوات والملذات والرغبات؟ أم أننا لا نستطيع لها دفعاً، ولا عند وقوعها رفعاً؟ إننا حين نهزم في معركة الإرادات، فإننا لا نراهن على النصر في حربنا الطويلة مع الأعداء، لقد خاض طالوت بجنوده معركة الإرادة قبل أن يخوض بهم معركته مع جالوت: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249] ، فماذا كانت نتيجة معركة الإرادة: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} . ثم كان النصر بعد ذلك لما خلص الصف على الصفوة.
وفي الصحيح أن نبياً من الأنبياء غزا بقومه فقال لهم: «لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمَّا يبنِ بها، ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزوا، فدنا من القرية التي يريد وقت صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور. اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه» (6) . وحين يكون عند الأمة استعداد لمواجهة المحنة وتحمل المسؤولية، واستعداد للتخلّي عن الدنيا وزخارفها وملذاتها، والتضحية بذلك كله في سبيل الله، عندها نكون قادرين على أن نستعيد أمجادنا وعزتنا وتاريخنا.
- ثامناً: مسؤولية الجميع:
إن مسؤولية إنقاذ الأمة وتوجيه أحداثها ليست مسؤولية شخص بعينه أو جهة، بل هي مسؤولية الجميع، فلا يصح أن يعيش فِئام من الأمة على هامش الحياة والأحداث، مكتوفي الأيدي، لا في العير ولا في النفير، بحجة انتظار بطل موعود أو قائد مظفر!! إنَّ تعلق كثير من الناس بالرؤى والأحلام هو نوع من الهروب عن الواقع المؤلم، والعيش في أحلام اليقظة بانتظار خوارق تَقْلب موازين الأحداث وتغير مجراها بلمحة بصر، وهذا وربّي ليس دأب المؤمن الذي يواجه الواقع بالعمل والجد وبذل الأسباب، وفي الحديث: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها» (1) .
ومن هذه الأوهام التي تعلَّق بها بعض الناس ما جاء في حديث السفياني الذي يكون في آخر الزمان، حيث أنزل بعضهم أحواله على حال بعض القادة رجماً بالغيب وقولاً على الله بلا علم. وعموماً: فأحاديث السفياني كلها ضعيفة لا يصح الاحتجاج بشيء منها.
ومما يتعلق به بعض الناس انتظار المهدي الذي يكون في آخر الزمان، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وأحاديث المهدي ثابتة في الصحيح ولا ننكرها إنما ننكر التحري والانتظار، والذي ليس هو من منهج أهل السنة والجماعة، بل هي طريقة الرافضة في انتظارهم واستكانتهم عبر القرون لكذبة الغائب المنتظر المزعوم!!
إن الجميع مُطالب بالمشاركة في إشاعة الأمن ودرء الفتنة وصناعة النصر، من خلال التوجه أولاً للتغيير في داخل النفس، والانتصار على شهواتها ولذائذها، والعودة بها إلى الله. إن الأمن لا يُسْلب ولا يتأخر النصر إلا بسبب من أنفسنا {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، قدم وفد على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بفتح، فقال: متى لقيتم عدوكم؟ قالوا: أول النهار. قال: فمتى انهزموا؟ قالوا: آخر النهار، فقال: إنا لله! أوَ قَام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره!! والله إن كان هذا إلا ذنب أحدثتموه بعدي أو أحدثته بعدكم (2) .
- تاسعاً: اللجوء إلى الله:
إن التسليم لله والتفويض إليه قبل وبعد فعل الأسباب المقدور عليها من شأنه أن يريح النفس من عناء لا طائل منه، ويربط على القلوب، لتجدها أثبت ما تكون في أوقات الأزمات والشدائد والمحن.
كم نحن بحاجة للتوجه إلى الله في كل ما يعرض علينا من ظلم وعدوان أو فقر وحرمان، أو مرض في الأبدان، أو غير ذلك مما لا يملك كشفه وإزالته إلا الله وحده: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] .
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالاً فحالا
على الأمة وهي تواجه الأزمات أن تتجه إلى الله ـ تعالى ـ وتلجأ إليه، وتلوذ بجنابه، وتحتمي بحماه، فإنها بذلك تلجأ إلى ركن شديد، ورب مجيد يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل: 62] وإذا لم يكن عونُ الله، وُكِلَ الإنسان إلى نفسه، ومن وُكِلَ إلى نفسه هلك.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
لقد حمى الله البيت من كيد (أبرهة) وقد تخلت عنه قريش! وإن الذي حمى البيت سوف يحمي عباده، وهم ـ إذا أطاعوا ـ أكرم عند الله من بيته، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال وهو يطوف بالكعبة: «والذي نفس محمد بيده! لحُرمةُ المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه» (3) ، بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وأصحابه ماءً يقال له: ذو أمر، فعسكر به، وأصابهم مطر كثير فابتلت ثياب رسول الله «فنزل تحت شجرة هناك، ونشر ثيابه لتجف؛ وذلك بمرأى من المشركين، فبعث المشركون رجلاً شجاعاً منهم يقال له: غورث بن الحارث، فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد، فذهب الرجل ومعه سيف صقيل حتى قام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف مشهوراً، فقال: يا محمد! من يمنعك مني اليوم؟ قال: الله، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» (4) .
إن الواجب على المؤمنين حين ترتجف بهم الأراجيف وتشاع فيهم الشائعات، أن يلتجئوا إلى الله ويزدادوا إيماناً به وتوكلاً عليه؛ وبذلك تعظم نفوسهم، وتقوى عزيمتهم، وتطمئن قلوبهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم لما ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: {إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (5) . وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ربِّ أعني ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليَّ..» (1) ، والتزام لا حول ولا قوة إلا بالله مَعين مُعين كما يقول عنها ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (هذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يخاف، وركوب الأهوال) (2) .
وإني لأدعو الله والأمر ضيق عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
ورُب فتىً سدت عليه وجوهه أصاب له في دعوة الله مخرجا
لما كانت نفوس المؤمنين موصولة بالله، معتمدين عليه، صلب عودهم، وعظم نفوذهم، ورأوا كثرة العدو غُنْماً ـ للأجر ـ لا غمّاً، وما زادهم ذلك إلا إيماناً وتسليماً. في معركة اليرموك كان عدد الروم (مئتين وأربعين ألفاً) وعدد المسلمين (أربعين ألفاً) فقال رجل: ما أكثر الروم! فقال خالد: بئس ما قلت! أتخوفني بالروم؟! بل ما أكثر المسلمين وأقل الروم.. إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان، وواللهِ لوددت أن الأشقر - أي فرسه ـ برئ من وجعه وأنهم أضعفوا لنا في العدد!! (3) ، وسأل قتيبة بن مسلم عن محمد بن واسع؟ فقيل: هو ذاك جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء. فقال قتيبة: تلك الأصبع أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير (4) .
يا دامع العينين لا تحزن على هذا السراب
من لم يكن في الخلد مسكنه، فمأواه التراب
الشمس تُؤذن بالغياب والراحلون إلى إياب
- عاشراً: وأعدُّوا:
إن من فقه الأزمات أن تعدّ الأمة لعدوها ما تستطيع من قوة، وأن لا تستسلم للضعف: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، وظاهر مقصود الآية الأمر بإعداد القوة العسكرية التي بها حماية الدين وأهله. يقول القاسمي ـ رحمه الله ـ: (دلت الآية على وجوب إعداد القوة الحربية اتّقاء بأس العدو وهجومه. ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية، أيام حضارة الإسلام، كان الإسلام عزيزاً، عظيماً، أبيّ الضيم، قويّ القنا، جليل الجاه، وفير السّنا؛ إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار، وخضد شوكة المستبدين الكافرين، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد، وعاش بنوه أحقاباً متتالية وهم سادة الأمم، وقادة الشعوب، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد، لا يستكينون لقوة، ولا يرهبون لسطوة. وأما اليوم، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة، ومالوا إلى النعيم والترف، فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية ... ) (5) ، ولئن كانت القوة العسكرية مقصودة ابتداءً؛ فإن كل نوع من أنواع القوة مطلوب تحصيله، كانت سياسية أو اقتصادية أو علمية معرفية.. بحيث يكون فيها إنقاذ للأمة وإرهاب لعدوها {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} . [الأنفال: 60]
وإن من أعظم الإعداد الذي يملكه أفراد الأمة وأعظم قوة التي يمكن تحصيها هي قوة الإيمان، فتُربى النفوس على طاعة الله، وُتحمل على مرضاته وعبادته في وقت المزلة والدحض، وبيع الدين بالعرض الزائل، وفي الحديث: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا» (6) .
إن القوة العسكرية دون نفوس قوية بالإيمان لا تجدي شيئاً، وحين تكون السواعد التي تحمل السيوف ضعيفة أو هزيلة، فإن السيف سيسقط منه ولا بد عند أول هزّة أو رجفة تنقل قدميه من مكانهما، وقديماً قيل: السيف بضاربه.
إني أرى أيامكم قد أصبحت حُبلى، وأرقب ساعة الميلاد
ربوا النفوس على الثبات سجية عند الحوادث فالخطوب عوادي
وتريثوا فالنصر ليس بخطبة تلقى وليس بوفرة الأعداد
ما حاجة الأمجاد إلا وقفة في الحادثات كوقفة المقداد
ما قلة الأعداد نشكو إنما تشكو الكتائب قلة الإعداد
والله الموفق والمعين وإليه يرجع الأمر كله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) المستدرك: 1/172، وأصله في الصحيح دون لفظة (وسنتي) .
(2) السنن الواردة في الفتن، لأبي عمرو الداني، ص 41، ط بيت الأفكار الدولية.
(3) السنن الواردة في الفتن، لأبي عمرو الداني، ص 41، ط بيت الأفكار الدولية.
(4) مسلم (771) .
(1) أحمد: 1/117، وصححه الألباني في الصحيحة (148) ، وأصله في مسلم من حديث صهيب.
(2) جريدة الوطن، عدد 380، الأحد 27/7/1422هـ.
(3) ابن ماجه (4035) ، وصححه الألباني. (4) أبو داود (4263) .
(5) السلسلة الصحيحة (494) . (6) مسلم (223) .
(7) البخاري (1469) ، ومسلم (1053) . (8) عدة الصابرين ص 31.
(9) عدة الصابرين ص 30، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1182) .
(10) ذكره البخاري في ترجمة الباب20 من كتاب الرقاق.
(11) عدة الصابرين ص30.
(1) في ظلال القرآن: 1/551.
(2) عيون الأخبار لابن قتيبة: 1/205.
(3) تفسير ابن سعدي على الآية.
(4) انظر تفاصيل القصة في سيرة ابن هشام: 2/191، ط دار المعرفة.
(1) حلية الأولياء: 1/55.
(2) أبو داود (4992) ، وصححه الألباني. (3) أبو داود (4972) ، وصححه الألباني.
(4) السنن الواردة في الفتن، لأبي عمرو الداني، ص 96، ط بيت الأفكار الدولية.
(5) الترمذي (2501) ، وقال ابن حجر رجاله ثقات.
(6) السنن الواردة في الفتن، لأبي عمرو الداني، ص 89، ط بيت الأفكار الدولية. (7) بهجة المجالس: 2/470.
(8) العواصم من القواصم، لابن العربي، ص 180.
(9) الترمذي (2012) ، وضعفه الألباني. (10) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للبستي، ص 177.
(11) كنز العمال: 3/694، رقم (8488) .
(12) مسلم (2898) .
(1) تاريخ الطبري: 2/527.
(2) المسار، محمد الرشد، ص (70 - 71) .
(3) بدائع الفوائد: 3/1222، دار عالم الفوائد.
(4) المسار (ص 112) .
(1) البداية والنهاية: 4/116.
(2) انظر: تفاصيل القصة في سيرة ابن هشام: 2/191، ط دار المعرفة.
(3) الوابل الصيب، ص 109، ط. دار عالم الفوائد.
(4) تفسير المنار عند آية (179) آل عمران.
(5) زاد المعاد 3/11.
(1) تفسير ابن كثير: 6/372، دار طيبة.
(2) لا تحزن، القرني، ص 171.
(3) الظلال: 2/871.
(4) أحمد: 4/333.
(5) البخاري (1469) .
(6) البخاري (3124) ، ومسلم (1747) .
(1) أحمد: 3/148، عن أنس.
(2) بهجة المجالس لابن عبد البر: 1/468، ط الكتب العلمية.
(3) أخرجه ابن ماجه (3932) ، وهو ضعيف.
(4) البداية والنهاية: (4/3) .
(5) البخاري (4563) .
(1) أبو داود (1510) . (2) الوابل الصيب، ص 187، ط دار عالم الفوائد.
(3) البداية والنهاية: 7/13. (4) سير أعلام النبلاء في ترجمة محمد بن واسع، رقم الترجمة (5948) .
(5) محاسن التأويل: 4/ 58. (6) مسلم (186) .(223/42)
التربية والتغيير للأفضل
فهد بن محمد القرشي
غير خاف على القارئ الكريم أن كل إنسان لديه قدرة فاعلة في البناء والتغيير أو الهدم والتدمير، على اختلاف مستوياتهم وتعليمهم؛ فمن الحمق والخطأ إهدار طاقات البناء وتهميشها أو التقليل من شأنها، ولو كانت هذه الطاقة الإيجابية شيئاً ليس ذا بال عند بعض الناس (1) .
روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ ـ أَوْ شَابّاً ـ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ: أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ» . فانظر إلى هذه الطاقة الفاعلة، والعمل الذي لا يمكن أن يستغني عنه المسلمون، وهو قَمُّ مساجدهم؛ فهل من الحق إهداره أو تهميشه؟ ومما يؤكد على تثمين المربي الأول -صلى الله عليه وسلم- ـ بأبي هو وأمي ـ لتلك الطاقة وذلك العمل، سؤاله عنها أو عنه، وغضبه حينما أخبروه بوفاتها أو وفاته ودفنها دون إعلامه، فقال لهم: دلوني على قبرها. فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ بنفسه الشريفة ـ ومعه أصحابه الكرام البررة ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ إلى قبر تلك المرأة السوداء، وصلوا عليها، ودعوا لها، تثميناً من النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا العمل، ولو كان الفاعل له رجلاً أسود أو امرأة سوداء.
إن مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان، ولا تنتطح فيه عنزان، هو أهمية الدور الذي يقوم به الدعاة والمربون والمعلمون والموجهون في العملية التربوية؛ فدورهم دور رئيس، وهم جزء لا يتجزأ منها، لذا كان لزاماً تذكيرهم ببعض الأمور، التي أجزم سلفاً بمعرفتهم لها أكثر مني، ولكن كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] ، ومن أهم هذه الأمور:
أولاً: ما تُذكَّر به تلك النخب (2) بعد تقوى الله ـ تعالى ـ في خاصة أنفسهم، أن يتقوا الله ـ تعالى ـ فيمن تحت أيديهم من أولئك الشبيبة الذين هم أمانة في أعناقهم، وسوف يُسألون عنهم يوم القيامة يوم الحسرة والندامة.
ثانياً: تربية من تحت أيديهم على تقوى الله ـ عز في علاه ـ ومراقبته ـ سبحانه ـ في السر والعلن، وفي كل ما يأتون وما يذَرون، وغرس ذلك في نفوسهم.
اغرسوا في قلوبهم أن تكون مقاصدهم مناطةً بما عند الله ـ تعالى ـ وأن لا يتطلعوا إلى شيء من زخارف هذه الدنيا الفانية الزائلة بكل ما فيها من شهوات وملذات. قال الله ـ تعالى ـ مخاطباً نبيه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] .
علموهم أن ما عند الله خير وأبقى كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] . وهذا كله من أُس العبادة وشروطها وضمان قبولها بإذن الله. فلا بد أن نَخرج من حظوظ نفوسنا الأرضية والآنية؛ فكلنا يعلم أن أول شروط قبول العمل عند الله ـ تعالى ـ الإخلاص لله ـ عز في علاه ـ وقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه ـ عز وجل ـ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» . رواه مسلم. فأي خزي وعار على الإنسان أن يُقال له يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، يوم يحشر الله الأولين والآخرين: اذهب إلى من كنت ترائي بعملك عنده ليعطيك أجرك!
فحذارِ حذارِ ـ إخوة الإسلام ـ من أن نجعل دعوتنا مطية لأغراضنا الشخصية، أو للوصول إلى شهواتنا الأرضية.
أخي الكريم: أليست الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ عبادة؟ وجوابك قطعاً: بلى! فإذاً لا بد أن يتجرد الإنسان فيها لله، وأن يخرج كلياً من حظ نفسه، وحزبه، وقومه، وطائفته، و ... ، و ... ، و ... إلخ.
ثالثاً: تربية من تحت أيديكم على الارتباط بالمنهج المعصوم منهج أهل السنة والجماعة، والتعلق به، دون التعلق بالأشخاص أو الأحزاب أو الجماعات أو الشعارات أو ما شابه ذلك. فلا بد لمن أراد نجاة نفسه أن يكون ولاؤه وارتباطه وتعلقه بالمنهج المعصوم المتمثل في الكتاب والسنة.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة» .
رابعاً: تربية من تحت أيديكم على ما يُوسِّع آفاقهم عِلمياً وعملياً وأخلاقياً، وينمي ثقافاتهم الإسلامية الأصيلة، لا سيما ونحن نعيش في عصرٍ انفتح العالم فيه بعضه على بعض حتى أصبح قرية واحدة كما يقال. وما ذلك إلا لأننا نرى بعض شباب الإسلام يدور حول نفسه، ولا ينظر إلا إلى موضع قدميه، لا يعرف من الأقوال إلا ما أُشربه من هواه أو من شيخه أو من جماعته أو من حزبه أو ما يُملى عليه.
ولا أظن أن أحداً يخالفني في أن المرحلة القادمة تحتاج منا إلى إعادة صياغة لمناهجنا التربوية، وأساليبها المتبعة؛ فإنَّ ما كان يُجدي ـ لا أقول قبل عشرين سنة بل قبل عشر سنوات ـ لم يعد يُجدي في هذه المرحلة، كل ذلك لا بد أن يتم في حدود ما تسمح به الشريعة الإسلامية، دون القفز على ثوابتها ومحكماتها ومسلَّماتها وأصولها، كما هو ملاحظ ومشاهد من بعض دعاة ما يسمى بالفكر المستنير في العصر الحاضر.
خامساً: تربية من تحت أيديكم على الاستشارة، الاستشارة التي وردت بها النصوص القرآنية، والسنة النبوية ـ على صاحبها أفضل صلاة وأزكى سلام ـ وليست ما يعرفه كثير من المربين ـ إلا ما رحم الله ـ والتي تعني عندهم عدم الخروج عما يوجهون به، أو يُدلون به من آراء اجتهادية. وقد انبنى على هذا الخطأ في معنى الاستشارة خطأُ آخر وهو: إنزال الناس منازلهم؛ فعند ذلك الشيخ أو المربي أو المعلم أو الموجه قربُ الشخص منه مرتبط بتطبيق وتنفيذ استشاراته التي أضفى عليها ـ ذلك المربي ـ الصبغة الشرعية، والعصمة، ولو كان ذلك الرجل ليس فيه من المقومات والمؤهلات التي يستحق بها أن يكون في ذلك المكان، ولكن كما قيل:
وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلة
ولكن عين السخط تٌبدي المساويا
سادساً: تربية من تحت أيديكم على فقه المصالح والمفاسد؛ فإن من مقاصد الدين: جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا باب واسع، وفقه عريض، لا يحسنه إلا من وفقه الله له، والأدلة على ذلك كثيرة ليس المقام مقام سردها (1) .
يقول صاحب كتاب المسار: «إن المصلحة اليسيرة إذا زاحمتها المصلحة العظيمة أمكن تفويتها وتقديم العظيمة، واحتمال قليل المفسدة لدفع التي هي أكبر منها، كما أبقى النبيُ الأعزُ -صلى الله عليه وسلم- المنافقَ الأذلَّ عبدَ الله بن أُبَيِّ بن سلول حياً يكيد ويظاهر اليهود، ويؤذي، واحتمل مفسدته حذراً من وقوع مفسدة أكبر، ألاَّ يجفل أشراف العرب عن الإسلام خوفاً من القتل.
ثم العقل يؤيد هذا النهج، فقد قيل: إن المُنْبَتَّ ـ أي المسرع المُجْهِد لنفسه في السير ـ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ـ أي ظهر دابته التي أماتها بالتعب، فتركته وحيداً وسط الصحراء.
إن احتمال المنكر مدةً يسيرةً أيسر من مجازفة متهورة تخفق وتبقي ـ هذا المنكر؛ وقاعدة الترجيح بين المصالح المتعارضة أثناء قيام الداعية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما هي قاعدة صحيحة شرعاً ومنطقاً، وعلى الداعية أن يُوازن بين ضرر المنكر قبل إزالته، والضرر الذي قد ينشأ ويرافق إزالته: أيهما أكبر؟ وبين كمية المعروف الموجودة وكمية المعروف التي قد تفوت منها إذا أمرنا بمعروف آخر، أيهما أجزل؟
إن هذه القاعدة هي من أهم القواعد التي تكفل للدعاة حسنَ السياسة وواقعية الخطوات، وإذا غابت عن ذهن الدعاة فإن غيابها سيوقعهم في إحدى سيئتين:
إما التهور، وإما اليأس الذي يحول دون اغتنام الفرص. والتهور هو الأخطر (1) .
سابعاًً: غرس الأخلاق الإسلامية الفاضلة في نفوسهم، من بر للوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضاء بمُر القضاء.
اغرسوا في نفوس أبنائكم: أن يَصِلوا من قطعوهم ـ خاصة إذا كانوا من أرحامهم ـ وأن يُعطوا من حرموهم، وأن يعفوا عمن ظلموهم، وأن يصلوا أرحامهم (2) ، وأن يحسنوا جوار من جاوروه (3) ، وأن يحسنوا إلى اليتامى، وأن يتفقدوا الأرامل والمحتاجين، وأن يرفقوا بالخادم والمرأة والغريب.
علموهم أن يتواضعوا ولا يتكبروا، علموهم أن لا يفخروا ولا يبطروا، ولا يبغوا ولا يتعالوا على الخلق أو الحق.
حذروهم من العجب والخيلاء والغرور والكبر وبطر الحق، وغير ذلك من مكملات العقيدة الإسلامية، التي ذكرها شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية (4) .
ثامناً: تربية من تحت أيديكم على معالي الأمور وتجنب سفسافها. رتبوا قضايا الأمة الإسلامية المصيرية في أذهانهم ترتيباً شرعياً مراعين فيه الأهم فالمهم، والمُجمَع عليه من غيره؛ فليس من المعقول أن نجعل قضية فلسطين تلك القضية المصيرية والمحورية للأمة مثل غيرها، وإن كان الجميع لا بد من الاهتمام به. والحذر من رفع أي قضية من القضايا الإسلامية عن مكانتها اللائقة بها.
تاسعاً: علموهم أن حسن العهد من الإيمان (5) ، علموهم أيضاً حفظ المعروف، وحفظ اليد، كما كان يفعل رسولنا -صلى الله عليه وسلم-. روى البخاري في صحيحه من حديث مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ ـ وكانوا سبعين من صناديد الكفر ـ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيّاً ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» . فانظر كيف حفظت هذه النفس الشريفة الكريمة معروفاً مقدماً لها (6) ، لا أقول من مسلم بل من كافر.
عاشراً: تربية من تحت أيديكم على العدل، نعم! العدل الذي قامت به السموات والأرض؛ العدل في الأقوال كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] ، ومقتضى الآية أن يقول الإنسان بالعدل ولو كان ضد أقرب قريب، أما أن يكون الإنسان مع محبيه يقول بالعدل ومع مخالفيه بعكس ذلك فهذا غلط واضح. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
وكذلك العدل في الحكم بين الناس كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . وأدعو القارئ الحصيف أن يتأمل في واقعنا: هل نحن نقوم بالعدل؛ لا أقول مع الكفار والمخالفين؛ بل مع إخواننا ممن هم على منهج أهل السنة والجماعة أم لا؟ تاركاً الجواب له.
وأخيراً العدل في المخاصمة كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
الحاد ي ع شر: تربية من تحت أيديكم على الاتصال بالله ـ سبحانه عز في علاه ـ عن طريق كثرة التعبد له سبحانه؛ فإن مما هو ملاحظ على كثير من الأخيار والطيبين انشغالهم عن هذا الباب العظيم، الذي يساعدهم في تهذيب أخلاقهم ونفوسهم. فليس من العقل في شيء أن ينشغل الشخص بالقيل والقال، والغيبة والنميمة عما ينفعه من العبادة التي أمر الله ـ تعالى ـ عباده المؤمنين بأن يستعينوا بها. قال الله ـ تعالى ـ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} .
[البقرة: 45] .
الثاني عشر: حث من تحت أيديكم على الجد والاجتهاد في طلب العلم، وإن كنتُ أومن بأن طاقات الأمة مختلفة ومتنوعة؛ ففيهم العالم، والمجاهد، والمحدث، والفقيه، والطبيب، والمهندس، و ... ، و ... ، ولكنَّ هناك حداً من العلم لا ينبغي أن ينزل عنه المسلم، وخاصة فيما يتعلق بأمور اعتقاده، وأمور عباداته من صلاة وصيام وزكاة ـ إن كان من أصحاب الأموال ـ وحج وغير ذلك.
الثالث عشر: تربية من تحت أيديكم على الاهتمام الكبير بأعمال القلوب، فهي الأصل الأصيل، والركن الركين، ولا يعني هذا أن نُهمل أعمال الظاهر؛ فكما هو مقرر من مذهب أهل السنة والجماعة أن هناك تلازماً وترابطاً بينهما. ولكي نعرف أهمية أعمال القلوب فلننظر إلى أركان وشروط كلمة التوحيد، فإننا نجد أن هذه الشروط شروط قلبية من: العلم، واليقين، والقبول (1) ، والانقياد، والصدق، والإخلاص، والمحبة؛ فكل هذه الشروط أصلها القلب. ناهيك أخي الكريم عن أن موضع نظر الرب هو القلب، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رواه مسلم. ومع هذا وغيره مما يدل على أهمية أعمال القلوب فإننا نرى قصوراً واضحاً في الاهتمام بها، وعدم اكتراث، بل نهتم بظواهرنا على حساب بواطننا. بل إن التقصير في الشعائر التعبدية وأعمال الجوارح مرده إلى الإخلال بالاهتمام بعمل القلوب، وكما قيل: إن أي ضعف في توحيد الربوبية ينتج عنه ضعف في التفكر في مخلوقات الله، وأي ضعف في توحيد الألوهية ينتج عنه ضعف في العبادة. فالقضية طردية تظهر لك مدى التلازم بين الظاهر والباطن.
الرابع عشر: تربية من تحت أيديكم على تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة؛ فإن مما ابتلي به كثير من الناس ـ إلا من رحم ربي ـ هو تقديمهم لمصالحهم الخاصة، ولو كان ذلك على حساب المصالح العامة، وقد استقر في علم الأصول أن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة.
أخي الداعية والمربي والموجه والمعلم: اعلم ـ وفقني الله وإياك لمرضاته ـ أن الله ـ تعالى ـ أبان لنا طريق الدعوة وبين لنا أصولها ورسمها لنا، فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] ، وقال ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] .
ففي هاتين الآيتين أبان الله ـ تعالى ـ لنا طريق الدعوة ورسمها لنا؛ فأول أصولها وأركانها وشروط صحتها: أن تكون الدعوة لله ـ تعالى ـ لا لأشخاصنا، ولا لجماعاتنا، ولا لأعرافنا، ولا لشعاراتنا وأحزابنا. وهذا مفترق طريق بين الدعاة المخلصين الذين يريدون ما عند الله ـ تعالى ـ وبين أولئك الذين يريدون أن يصنعوا لأنفسهم هالة، ويحيطوها بسياج منيع، مصورين للأغرار والسذج من أتباعهم أن القدح فيهم هو قدح في الإسلام، وأن أي تجنٍ عليهم إنما هو تجنٍ على الإسلام، وأن أي مخالفةٍ لطريقتهم إنما هي مخالفة للإسلام، وأن أي خروج عن آرائهم ومشورتهم خلع لربقة الإسلام، فلسان حاله يقول: أنا الدعوة والدعوة أنا.
هذا الصنف من الدعاة سيسقطون حتماً ولا بد ـ كما عرفنا ذلك من السنن الإلهية ـ في بداية الطريق أو منتصفه أو منتهاه ويكونون ـ والعياذ بالله ـ من الثلاثة الأوائل الذين تُسعَّر بهم النار يوم القيامة (2) ؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل. هذه واحدة.
أما بالنسبة للنقطة الثانية: فإننا نرى ثلة من الدعاة والمربين والموجهين والمعلمين ممن الله ـ تعالى ـ أعلم بنياتهم ومقاصدهم، فهو ـ سبحانه ـ المطلع على ما في قلوبهم ـ نراهم حريصين على العمل الدعوي، وهذا أمر يُشكرون عليه، ولكن الذي لا يُشكرون عليه تشبث بعضهم ببعض تلك الأعمال حتى لكأنها تركة وإرث ورثه عن أقاربه؛ فهناك مؤسسات دعوية منذُ أن أُسست والقائم عليها شخص واحد، ربما إلى أن تُقفل، وترى ذلك الشخص عضواً في أكثر من عشرين جمعية، وإذا ما نُبه إلى غلط هذا العمل صاح واشتكى من قلة الطاقات، وهو وأمثاله ممن ساهم في قتلها أو تعطيلها أو تهميشها شاء أم أبى.
فالإسلام ـ أيها الإخوة الكرام ـ حرص على أن يقوم المسلم بعمله بإتقان وإخلاص، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رواه مسلم. فهل سيكون الإتقان ـ دع عنك الإخلاص ـ فالله تعالى أعلم به ـ من شخص تشعب فؤاده وتقطع في أودية تلك الأعمال التي لو كَلف نفسه حضور اجتماعاتها فقط لما استطاع؟ فكيف بالأعمال المناطة به، والدور المنتظر منه. ولك أخي القارئ الكريم أن تتصور حال ذلك الرجل الذي تشعب فؤاده، وتفرقت همته، وتشتت جهده، في حين أنه لو ساهم وشارك في نصف ذلك العدد لكان إنتاجه أضعافاً مضاعفة. فأصبحت مهامه شرفية أكثر منها دعوية.
أَنَسِيَ ذلك الرجل أن المشاركة في تلك الأعمال ديانة وأمانة يُسأل عنها يوم القيامة؛ فماذا قدم لها وماذا عمل فيها؟
فالذي أراه أنه لا بد من تجديد الدماء في تلك المؤسسات الدينية، وتشغيل الصف الثاني والثالث فيها، ولا يعني هذا إهمال أولئك القوم بل لهم مكانة عظيمة في التوجيه والمشورة والاستشارة.
وكم أعجبني ذلك الطبيب الذي عُين عميداً لإحدى الكليات الصحية، لمدة عامين كاملين، وقد وضع لنفسه برنامجاً لهذين العامين، ثم بعد انتهائهما طُلب منه التجديد لفترة ثانية فرفض، وعندما عُوتب في ذلك قال ـ بلسان الإداري المحنك والناجح ـ: ليس لديَّ جديد أقدمه للفترة الثانية، وأترك المجال لغيري ليقدم ما عنده لهذه الكلية. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على سعة أفقه، وفهمه للإدارة الناجحة؛ إذ ليس من الإدارة الناجحة في شيء أن يظل الإنسان على رأس هرم تلك المؤسسة أو الإدارة منذُ إنشائها إلى إغلاقها أو إلى أمد لا يعلمه إلا الله.
والشيء بالشيء يُذكر: خذوا مثلاً آخر تُعطل به طاقات كامنة وفاعلة، وهو قضية التربية؛ فبعض من يمارسها من الدعاة والمربين والموجهين من النخب وغيرهم، يقعون في أخطاء يهدرون بها تلك الطاقات، فينبغي أن يتنبهوا لها.
فمن المتعارف عليه أن التربية لا بد أن تمر بمراحل متعددة، وكل مرحلة لها ما يُناسبها، وكما قيل: البس لكل حالة لبوسها. فطالب المرحلة المتوسطة يختلف في مداركه وفهمه واستيعابه عن طالب المرحلة الثانوية، وهذا يختلف عن طالب المرحلة الجامعية، والمعيد أو المحاضر أو المدرس يختلفون عن طلاب المرحلة الجامعية، والموظف أياً كانت وظيفته يختلف عمن سبق ذكرهم، فلا بد من إعطاء كل واحد ما يناسبه، وإلا كان حديثنا لبعضهم فتنة. قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (1) . وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» (2) . وقد بوب البخاري في جامعه الصحيح باباً وَسَمَه بـ: باب من خص بالعلم قوماً دون قومٍ كراهية أن لا يفهموا. ناهيك عما إذا احتاج العالم وطالب العلم أن يترك بعض ما يراه ويختاره مخافة أن يفهمه بعض الناس على غير وجهه، وقد بوب البخاري في صحيحه: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدّ منه. وذكر تحت هذه الترجمة حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَائِشَةُ! لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ ـ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ ـ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ» . فانظر كيف ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة (3) .
فمستوى الطالب المتلقي يفرض عليك في بعض الأحيان أن تُراعي أموراً قد لا تحتاج إلى مراعاتها مع غيره. روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ فُلانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلانًا، فَقَالَ عُمَرُ: لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ. قُلْتُ ـ القائل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ـ: لَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ، يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ ... الخ» (4) . فتأمل كيف أشار عبد الرحمن ابن عوف على عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ بتأخير خطبته إلى رجوعه إلى المدينة، وكيف نزل أفضل رجل في ذلك العصر على رأي صاحبه، دون ممانعة أو مجادلة.
ولكن الخطأ يكمن في أن بعض المربين يتغافل عن هذه المنهجية التربوية، والتسلسل المنطقي فيها، بقصد أو بغير قصد، فتراه يريد أن يستلم الطالب المتلقي عنه منذ نعومة أظفاره ـ بحيث يكون له موجهاً ومربياً ومفتياً ومعلماً ـ إلى أن يُدخله قبره. وهذا الخطأ مركب من أمرين:
الأول: إغفاله للمنهجية التربوية في تسلسلها؛ فإن قدرة المربي في المرحلة المتوسطة تختلف عن قدرته في المرحلة الثانوية، وقدرته في المرحلة الثانوية تختلف عن قدرته في المرحلة الجامعية، وقدرته في المرحلة الجامعية تختلف عن قدرة العلماء الربانيين.
الثاني: افتراض الكمال في شخصه، وهذا فيه ما لا يخفى على اللبيب (1) . فيجب أن يكون هناك تعاون مشترك بين المربين، يكمن في إكمال بعضهم لبناء بعض؛ فمربي المرحلة المتوسطة، يُسلم قياد من تحت يده إلى المربين في المرحلة الثانوية، وهكذا. أما أن يحرص بعضهم على التمسك بطلابه حتى بعد نضجهم وتخرجهم وانخراطهم في المجتمع ولو كانوا بعيدين عنه؛ فإن هذا لا يجديهم نفعاً، بل هو أشبه بالتكرار. في حين أنه ـ ذلك المربي ـ لو أخذ مع ذلك المتربي جولته، ثم أسْلمه إلى من هو أقدر منه تربيةً، وأكثر منه علماً، وأغزر فقهاً، وأوسع أفقاً، وأرسخ قدماً، وأثبت جأشاً، لكان هذا أنفع للمتربي، ولتنمية طاقاته أكثر بكثير.
ولا أدري أنسي ذلك المربي أن من أهم أسباب ضعف التربية كثرة المتربين وقلة المربين؛ بمعنى أن اليدَ المربية تُرْهَقُ بالمجموعة الكبيرة ـ الذي كان المربي سبباً في كثرتها؛ لأنه لم يُسْلم بعض أولئك المتربين إلى منه هو أعلم منه بالتربية وأقدر على ذلك ـ ويظل المستوى التربوي هابطاً.
وأختم حديثي بهمسات في أذن أخي المدعو ـ وكلنا ذلك الرجل ـ بكلام مختصر خشية الإطالة، عملاً بالحكمة القائلة: (خير الكلام ما قل ودل، ولم يطُلْ فيُملَّ) ، فسوف يكون كلامي معك أخي المدعو مقتضَباً، وشبيهاً بالرسائل المستعجلة، نفعني الله وإياك بها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فأولاً: أوصيك ونفسي بتقوى الله، تقوى الله التي تعني مراقبته في السر والعلن، في الرضا والغضب، في المنشط والمكره، في الفرح والسرور، وفي كل أحوالك، وكما قيل: إن تقوى الله هي: أن يُطاع الله فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر. وهذا لا يكون أبداً إلا إذا امتلأ قلبك بحب الله ـ تعالى ـ وبالتطلع إلى ما عنده ـ سبحانه وتعالى ـ وحده.
ثانياً: أخي الكريم: إياك ثم إياك أن تحقر نفسك؛ فأنت وإن هنت على الناس إلا أنك كريم على رب الناس. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ: «أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلاً دَمِيماً، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرْسِلْنِي! مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا! فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ ـ أَوْ قَالَ: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ» .
ناهيك عما فيك من الطاقات الكامنة ما تستطيع به نفع نفسك أولاً ثم أمتك. ولكن المشكلة تكمن في أن كثيراً منا لا يفرق بين اكتشاف الموهبة وتنميتها، فيسمع كثيراً ممن يتحدثون عن هذا، فينتظر شخصاً يأتيه ليكتشف مواهبه وطاقاته الكامنة ليفجرها، وهذا لن يكون أبداً؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يدخل إلى سويداء قلبك وعقلك لمعرفة تلك المواهب والطاقات، ولكنّ الخطوة الأولى لا بد أن تكون منك أخي المدعو فتنظر في نفسك ومواهبها وما تميل إليه؛ فإن النفس كلما اشتغلت بما هو من ميولها أو قريب منه أنتجت فيه، فتبدأ بإظهارها، ليتسنى للمربي والموجه والمعلم والداعية بعد ذلك تنمية هذه الموهبة وتفجير تلك الطاقة الكامنة، ثم بعد ذلك تشتركان في تنميتها جميعاً.
ثم بعد اكتمال تلك الموهبة والطاقة ـ بعد تنميتها وتنقيتها من قِبَل المربين بما يوافق شرع ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ وسنة حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- حذارِ حذارِ من قتلها نزولاً عند خطأ مربٍ لم ينمِّ تلك الطاقة والموهبة كما ينبغي، أو حسدٍ من عند نفسه. وفي الوقت نفسه إياك ثم إياك من العُجْب والغرور والتعالي والكِبْر؛ فإن هذه مهلكات للفتى وإن لم يشعر؛ فقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] ومن أنواع العذاب ذهاب تلك الموهبة والطاقة منك أخي الحبيب.
ثالثاً: لا بد من التفريق بين الاتِّباع والتقليد؛ فالتقليد اتباع قول الغير دون معرفة الدليل، وقد ذم السلف هذا النوع من التقليد أيما ذم، وكان للإمام ابن حزم في هذا القِدْح المعلَّى، فكان مما هجا به المقلد: لا فرق بين مقلد وبهيمة؛ ناهيك عن أن التقليد تأباه النفوس الأبية السوية، وتنفر منه الطباع المستقيمة، وهو ألصق ما يكون بالنفوس الضعيفة. أما الاتِّباع فهو اتباع الغير عن علم ومعرفة لدليله، وقد مدح الله المؤمنين بهذا في كتابه العزيز فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] ، فلم يقل ـ سبحانه ـ: أنا ومن قلدني، وإنما عبر بالاتباع؛ لأنه الأليق بذلك الجنس الذي كرمه الله ـ تعالى ـ على مخلوقاته. قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] .
أقول هذا لأننا نرى بعض الناس قد عطل عقله وفكره، وأصبح لا يرى إلا ما يراه مربيه، ولا يسمع إلا ما يسمعه، ولا يتكلم إلا بما يرضيه، حتى وصل الحال ببعضهم أن يقبل الطعن في أئمة الإسلام وفحوله ولا يقبله في مربيه. أهكذا يُربى الرجال الذي يذودون العدو عن حياض الإسلام؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد!
رابعاً: اعلم أخي المبارك ـ نفعني الله وإياك بالعلم النافع، ووفقنا للعمل الصالح ـ أن الدين الإسلامي دين عظيم، جاء لإصلاح جميع مناحي الحياة، وإصلاح أحوال الناس كلها؛ في اعتقاداتهم، وعباداتهم، وأخلاقهم، وسائر أحوالهم، وقد أصاب المسلمين خلل كبير في جميع هذه الأمور، ويستدعي إصلاحُ هذا كله جهوداً كبيرة من التعليم والتدريس، والتوجيه، والتأليف، فلا يجوز لنا بحال من الأحوال أن نختصر نصرة الدين وإظهاره وتمكينه في وسيلة واحدة من وسائله الكثيرة. فالأمة الإسلامية بحاجة إلى جيوش كثيرة من العلماء العاملين، والخطباء الصادقين، والدعاة المخلصين، والمفتين الربانيين، والأطباء، والمهندسين ... إلخ، فيجب على الجميع أن يتعاونوا على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، وأن لا يحقر بعضهم ما يقوم به الآخر؛ فكلنا لا بد أن يكمل بعضنا بعضاً.
ولا يظنَّنَّ أحدٌ أنه هو الوحيد الذي ينصر الدين وينافح عن الملة بالطريقة التي اختارها والوسيلة التي ارتضاها، وإلا نتج عن ذلك مفسدتان هما: الأولى: رؤية نفسه، وإعجابه بعمله، وهذا فيه ما فيه. الثانية: احتقار جهود الآخرين، وازدراؤها، واستقلالها، وكفى بالمرء إثماً أن يحقر أخاه المسلم. ولَكَم أعجبني ما قاله صاحب كتاب المسار تحت عنوان (تكامل الهمم) حيث قال: «وضرب بعض الدعاة مثلاً لنا في ذلك كمثل أهل قرية، يمر بهم رجل عالم فقيه لا يسمع خلال دُورهم أذاناً، فيبتئس، ويعظهم، ويطلب منهم حملة يتعاونون فيها على بناء مسجد، فهو الرائد المؤسس.
ثم يتنادون، كل حسب استطاعته، فيقول أحدهم: أهب للمسجد ناحية من أرضي تبنونه عليها وليس لي مال. ويقول آخرون: لكم أكتافنا، نخلط الطين ونصنع اللبن. ويقول ثالث: وعليَّ إقامة اللبن جداراً، ويتبرع رابع بالأبواب، وخامس بالفرش، وسادس يُسرجه وينيره، وسابع يقول: ما عندي كتف ولا مال، ولكن صوتي جميل، فأنا المؤذن. ويقول المستضعفون: وعلينا تكثير السواد، والانتظام فيه صفوفاً، وإظهار هيبة الإسلام، وتعميره بالتسبيح والتكبير، ثم يؤمهم الرائد، وتقام الصلاة.
فانظر كيف اجتمعت الجهود والهمم بحيث إنك لا تستطيع أن تُفضِّل صاحب الفكرة الفقيه، وتقول: لولاه لما بُني المسجد، ولا صاحب الأرض، ولا من عمل بساعده، ولا المؤذن والمنير، بل كل منهم قد أصاب ووفّقه الله لعمل صالح تراكب بعضه على بعض وأسنده» (1) .
وقال أيضاً: «ولقد علمتنا الأيام دروساً غير التي كانت تمليها علينا الحماسة البريئة والتصلبات المعاندة، ولقنتنا التجربة أن نُعين على تواجد المحايد إن يئسنا من مجيء المسلم، في الوظيفة الصغيرة أو الحكم الكبير، وأن نصبر على الغافل الشهواني ابن يومه إن نازعه الملحد المخطط البعيد الأهداف، وأن نُقدّر أن الملحد المفسد سليل الأشراف أقل شراً من جناح آخر في حزبه يضم الرعاع وسفلة القوم ـ مع أن كليهما شر، ولكنْ حنانيك فبعض الشر أهون من بعض ـ إذ ربما كان في الأول بقية تَرفُّع وإباء عن الدنايا والقسوة التي يفتقدها الغوغاء» (2) .
فالعمل لهذا الدين بحر لا ساحل له، ولذا لا بد أن يقتنع الجميع بأننا في حاجة ماسة إلى جهود كل المخلصين سواء كانوا قياديين يخططون، أو مفكرين يكتبون، أو دعاة صادقين ربانيين يربون، أو صحفياً يحمل همَّ هذا الدين ويعمل لنشره حسب استطاعته، أو ذا مال أو جاه أو طالباً أو عاملاً أو فلاحاً أو امرأة ... إلخ. والدعوة الإسلامية لن تُنير طريق المسلمين ما لم تتكامل جهودهم، ويكمل بعضهم بعضاً.
وأظن أن هذا أفضل بكثير من انشغالنا بالقيل والقال، وعيب فلان وغمز علان، وغير ذلك مما انشغل به كثير من شباب المسلمين عن واجبهم المناط بهم وهو واجب وقتهم.
وختاماً: أسأل العلي القدير أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، وأن لا يجعل لأحد فيهما نصيب، كما أسأله أن يؤلف بين قلوب المؤمنين، وأن يصلح نياتهم وذرياتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(*) المحاضر بجامعة أم القرى بمكة المحروسة.
(1) كإماطة الأذى عن الطريق، أو مساعدة الفقراء والمحتاجين، أو سقي كلب أو نحو ذلك.
(2) إنما مثلي ومثلهم في هذه الوصايا كجالب التمر إلى هجر.
(1) لعل من أشهر هذه الأدلة قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] . ومن الأدلة أيضاً: ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقال لعائشة ـ رضي الله عنها ـ وعن أبيها: «يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتْ الْكَعْبَةَ» متفق عليه.
(1) كتاب السار ص 48.
(2) أنا لا أريد أن أدخل في تفاصيل يندى لها الجبين لا أقول من غير الملتزمين بل من الملتزمين تتعلق ببر آبائهم، وصلة أرحامهم، ودعوة أقاربهم ... الخ.
(3) للأسف الشديد أن بعض الأخيار والطيبين ـ ولا نزكي على الله أحداً ـ يجاور بعض المسلمين سنين عديدة، ثم يرتحل عنهم وهو لم يعرفهم، وهم لم يعرفوه!!! أين وصاية رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بالجار؟
(4) (ص 215 ـ 218) من الطبعة التي علق عليها الشيخ صالح الفوزان حفظه الله.
(5) قال البخاري في صحيحه: باب حسن العهد من الإيمان.
(6) لما اشتد أذى كفار قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موت عمه أبي طالب، خرج إلى الطائف، فأغروا به سفهاءهم، وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، حتى أدموا قدميه، ثم قفل بعد ذلك إلى مكة، فقال له زيد بن حارثه ـ رضي الله عنه ـ: «كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ ـ يعني كفار قريش ـ فقال: يا زيد! إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً. وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه» .
فأرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي: (أدخل في جوارك؟) فقال: نعم! فدعا المطعم بنيه وقومه، فقال: البسوا السلاح، وكانوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، فلا يَهجْه منكم أحد، فانتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به في السلاح. انظر: مختصر سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 116،115) . فحفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الصنيع للمطعم.
(1) لاحظ كيف أن المنافقين كانوا في الظاهر يقبلون بالشريعة، ولكن هذا القبول الظاهر لم ينفعهم في شيء، مما يدلك على أن أساس القبول لا بد أن يكون نابعاً من القلب.
(2) رواه مسلم في صحيحه من حديث سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ.
(1) أخرجه البخاري تعليقاً.
(2) رواه مسلم في مقدمته.
(3) انظر: فتح الباري (1/271) .
(4) أخرجه البخاري.
(1) يقول صاحب كتاب المسار: «ولكن كم من داعية يصول في الأفكار ويجول، ويحرص على معرفة دقائق الرأي وقواعد الموازنات السياسية، ويتفقه بجزئيات كثيرة، متجاوزاً حقائق الدعوة الأولى والاجتهاد في الأمور التي يحتاجها كل يوم، مستعجلاً الظهور قبل تمام النشأة الأولى وتكامل مقومات اسم الدعوة.
ومثله في ذلك كمثل الشاعر المشهور الطّرِمّاح بن حكيم الطائي: قعد للناس وقال: اسألوني عن الغريب وقد أحكمته كله. أي غريب اللغة، وكان في ذلك صادقاً، فقال له رجل: ما معنى الطرماح؟ فلم يعرفه.
فهو قد ذهب إلى البعيد، وتعنّى له، وترك القريب وانصرف عنه، ولم يعرف اللفظة الأولى التي تعنيه هو قبل غيره» ص 68.
(1) ص (62،61) .
(2) ص (71،70)(223/43)
لقاء صريح من الناطق الرسمي باسم هيئة علماء المسلمين في العراق
الدكتور محمد بشار الفيضي
(القوات الأمريكية متورطة في عمليات تطهير طائفي)
حاوره في البحرين: خباب بن مروان الحمد
العراق ... أو بلاد الرافدين ... ذلك الجزء الثمين من بلادنا الإسلاميَّة، والذي اكتوى بنيران الاحتلال، وانصبَّت عليه قذائف الأهوال، وما يزال يعاني من قبح تلك الأفعال!
وزاد النار أواراً، والوضع سوءاً، ما تقترفه القوَّات الأمريكيَّة بالتعاون مع كثير من فئات الحاقدين، من تطهير طائفي واضح لأهل السنَّة والجماعة، وتقتيل علمائهم، وانتهاك أعراضهم، وتدمير مساجدهم، واتهامهم بأعمال هم منها براء، وكان آخرها، ما اتُّهم به أهل السنَّة من تفجير الضريحين الشيعيين في سامراء، بغية أن يشعلوا حرباً ضروساً من الرافضة ضدَّ أهل السنَّة والجماعة!
ويشاء الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن تفضح مخطَّطات الروافض الإيرانيين، بتدخُّلهم الأثيم في بلاد الرافدين، وتورط الأصابع بَلْهَ الثقلَ الإيرانيَّ بأكمله، في عمليات تصفية عدوانيَّة واضحة لأهل السنَّة، ولا نقول لإخواننا من أهل السنة في العراق، إلاَّ كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .
وفي هذا اللقاء اجتمعت بفضيلة الشيخ الدكتور محمد بشار الفيضي ـ حفظه الله ـ حين حضورنا مؤتمر البحرين لنصرة خير البرية، وتوجهت إليه ببعض الأسئلة التي تهمُّ كلَّ مسلم يريد معرفة الجديد والمفيد حول الشعب العراقي.
والدكتور محمد بشار الفيضي، هو المتحدث الرسمي باسم هيئة علماء المسلمين، وأستاذ الحديث وعلومه في الجامعة الإسلامية ببغداد، من مواليد 1964م، من الموصل في شمال العراق.
البيان: في مستهل هذا اللقاء نرحب بفضيلة الدكتور ... ونسأله في البداية عن الأنباء التي تتوارد عن عزم الأمريكيين والبريطانيين الانسحاب من العراق، ومع أنَّ المراقبين يعدُّون ذلك ـ حال حدوثه ـ هزيمة مدوية للولايات المتحدة وحلفائها، إلاَّ أنَّ هذا الانسحاب ستعقبه تحديات كثيرة، ما أبرزها في رأيكم؟
3 نحن نعتقد أنَّ الانسحاب أمر لا مندوحة عنه، لأنَّا كعراقيين نعرف جيداً حجم المأزق الذي يعيشه الأمريكيون والبريطانيون؛ فضربات المقاومة تتوالى عليهم بشكل يومي ودقيق، حتى إنه ظهر تقرير من البنتاغون قبل شهرين أو أكثر، يقول: إنَّ مجموع العمليات التي تستهدف القوات الأمريكية في العراق بلغت 560 عملية في الأسبوع، وحينما تحسب هذا العدد الأسبوعي طوال السنة يتأكد لديك أنَّ حجم الخسائر التي يُمْنَى بها الأمريكيون كبير جداً، ولم تعد تحتملها هذه الإدارة، لذلك قلنا من قبل إنَّ عام 2006م سيشهد بداية الانسحاب الأمريكي.
ولكن، كيف سيكون هذا الانسحاب؟ هذا هو السؤال:
هل سيخرجون فجأة كما خرجوا من الصومال؟ أم سيخرجون دفعات؟
نحن سبق أن قلنا إنَّ الأمريكيين إذا أرادوا أن يقدِّموا شيئاً للعراقيين ـ وإن كان هذا خلاف سجيَّتهم ـ فعليهم أن يُجَدْوِلوا انسحابهم، حتى نتمكن خلال هذه الجدولة أن نستعيض عن قوَّاتهم بقوات دولية وبإشراف الأمم المتحدة، وبهذا تتم السيطرة على الوضع، ولكنهم حتى هذه اللحظة يأبون إعطاء رد إيجابي على مثل هذا الطلب.
وفي كل الأحوال حتى لو انسحبوا بشكل مفاجئ ... فنحن لسنا قلقين، لأنَّا نعتقد أنَّهم وراء كل مشكلة؛ فإذا زال أصل المشكلة، فإنَّ ما سيلي ذلك من أزمات لن يكون عمره طويلاً، وسيستطيع العراقيون أن يتعاملوا معها ويعملوا على حلِّها بإذن الله.
البيان: ولكن كأنَّ المتوجِّه الآن إعلامياً أنَّ انسحابهم قد يكون تدريجياً، وأنَّ من الصعب جداً أن ينسحبوا فجأة؛ فما رأيكم؟
3 نعم! أنا حينما أقول إنَّهم ينسحبون فوراً لا يعني أنَّهم سينسحبون بين عشية وضحاها؛ فهذا لا يمكن؛ لأنَّ لديهم أعداداً كبيرة وآليات ضخمة، ولكن المقصود أنهم قد ينسحبون بشكل غير معلن، وفي فترة وجيزة بحيث لا يعطون فرصة لكي تخلفهم قوات دولية، وهذه واردة جداً، وقطعاً فإنَّ هذا خطأٌ كبير منهم.
البيان: وبرأيك ما المطلوب حيال هذا الانسحاب عراقياً ـ عربياً ـ إسلامياً؟
3 نحن طرحنا من زمن أن تأتي قوات دولية غير مشاركة في الاحتلال، ولا بأس أن تكون معها قوات عربية، وإسلامية من غير دول الجوار، للحساسيَّة لدى فئات عراقية من هذه الدول، لتأخذ مواقع هذه القوات المحتلة في عموم العراق، وكما ذكرت أن يكون ذلك بإشراف مباشر من الأمم المتحدة، ويفترض على الدول العربية والإسلامية إذا تناهى لها مثل هذا الخبر أن تعمل في هذا الاتجاه.
البيان: ولكن إذا كان ذلك في ظل الأمم المتحدة ألا يكون ذلك في مصلحة الاحتلال؟!
3 الوضع في العراق يختلف.
نعم! نحن نعلم أنَّ الأمم المتحدة خاضعة بشكل أو بآخر لنفوذ الدول العظمى، وفي كثير من القضايا فقدت مصداقيتها، ولكن بالنسبة للوضع العراقي فالأمر مختلف؛ فالأمم المتحدة لها حسنة في هذه الحرب أنها رفضت أن تعطي الأمريكيين الشرعية؛ ففي هذا المجال لدى الشعب العراقي شيء من الثقة فيها، وفي الشأن العراقي أيضاً القوى العظمى ترغب في إحداث التوازن؛ لأن العراق منطقة مهمة وحيوية، والكل يتطلع إليها، فإذا دخلت الأمم المتحدة فستعود حالة التوازن إلى الشأن العراقي، بحيث لا تهيمن جهة على أخرى، وهذا التوازن ينفعنا؛ لأنه سيتيح لنا الفرصة لكي نشاهد عملية سياسية يتوفر فيها الحد الأدنى من المعايير الدولية والشفافية، وكل ما نطمح إليه أن تجرى انتخابات بمستوى ما جرى في فلسطين. وفي فلسطين حتى هذه اللحظة مع أنَّ حماس غير مرغوب فيها أمريكياً وصهيونياً، لكن الأمريكيين والصهاينة لن يستطيعوا أن يطعنوا في آليتها؛ لأنها كانت على مستوى رفيع من الشفافية؛ فنحن نحتاج هذه التجربة أن تكرر في العراق.
وإذا كانت الانتخابات بهذه المستوى، فمن المؤكد أنَّها ستفرز شخصيات جيدة يثق فيها الشعب العراقي، وتكون هي البداية الصحيحة لمعالجة الأوضاع.
البيان: إذا اكتفى الأمريكيون بالانسحاب خارج المدن فقط، فكيف سيكون التعامل مع الوضع الجديد؟
3 إذا اكتفوا بذلك فمن المؤكد ـ والله أعلم ـ أنَّ صراعاً سينشب بين الميليشيات الموجودة حالياً وبين المقاومة العراقية، ونحن على ثقة أنَّ هذه الميليشيات لا تستطيع الصمود طويلاً أمام المقاومة لسبب بسيط ومهم، وهو أنَّ الميليشيات لا قضيَّة لها، وأنَّ المقاومة تنطلق من قضية، وكما يقولون: النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة.
ولهذا أعتقد أنَّ هذا الصراع لن يطول، وسيمكن إنقاذ العراق من هيمنة هذه الميليشيات، ما لم تتورط دولة مجاورة بإدخال قواتها، وخصوصاً أنَّنا نلاحظ أنَّ هناك نفوذاً إيرانياً كبيراً في العراق عبر تلك الميليشيات، وحتى عبر زج بعض العناصر المخابراتية في أرض البصرة والجنوب العراقي، كما يحدثنا بذلك أهل البصرة وغيرهم؛ فانسحاب القوات الأمريكية سيترك الجنوب مفتوحاً للتدخل المكشوف.
فهل ستقوم دولة كإيران ببسط نفوذها من خلال الزج بقوات عسكرية أو قوات ظاهرها مدني وهي في الحقيقة مثلاً منظمة عسكرياً؟ إنَّ هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله، ولكن إذا حدث فهو خطأ كبير من إيران، وسيكون ثمنه غالياً على جميع الأطراف؛ لأن الشعب العراقي لم يعد يتقبل نفسياً هذا النفوذ الإيراني الخطير.
البيان: ما المشكلات الحقيقية التي تحول دون توحيد صفوف المجاهدين في العراق أو على الأقل، توحيد سياساتهم في خطوطها العريضة في مواجهة الاحتلال؟ وهل هناك جهود في هذا الصدد؟
3 أنا لا أجد أن هناك خلافات جذرية بين قوى المقاومة والمجاهدين في العراق بشتى أطيافها، هناك خلافات ربما تكون ملحوظة في البرنامج السياسي بين المقاومة العراقية وبين المجاهدين العرب؛ فالمقاومة العراقية هدفها إخراج المحتل وتهيئة انتخابات عادلة، وأمَّا المجاهدون العرب فهدفهم أكبر وهو موضوع تأسيس دولة إسلامية، وأنا لا أعتقد أنَّ مسلماً لا يفكر بذلك، ولكن برأينا فنحن نتفهم الواقع العالمي، فالواقع العالمي وخصوصاً في المنطقة العربية غير مهيأ لمثل هذه الفكرة، ونحن ـ العراقيين ـ نرى أن نبقي هذا الطموح ببالنا وأن نسعى إليه ببطء وبخطوات مدروسة، ولكن أن نأتي من الآن ونقفز إلى هذا الهدف العظيم؛ ففي ضوء ما نعرفه من أسباب ومسببات فإنَّ ذلك بعيد تحقيقه ـ والعلم عند الله ـ.
ولهذا يقتصر طموحنا في هذه المرحلة على إخراج المحتل وإعادة النظام ومكونات الدولة التي هدمها المحتل وإعادة بنائها من جديد، ويبقى ذلك طموحاً يحتاج إلى فترة طويلة من الزمن، ويحتاج إلى تثقيف الشعب حتى يتقبل الفكرة؛ لأننا لا نستطيع الآن أن نفرض هذه الفكرة إذا لم يكن لدى الشعب رغبة حتى يتعاون معنا في الوصول إليها، وهذا هو الفرق الوحيد. أما بقية الأجندات فلا أعتقد أن هناك فرقاً؛ فالكل يريد إخراج المحتل، والكل يريد أن يعود للعراق أمنه واستقراره.
البيان: هل ظهرت معالم ولو رئيسة لمشروع سياسي لأهل السنة في العراق، وما أبرز معالم ذلك المشروع؟
3 أنت تعلم أنَّ أهل السنة في العراق اليوم على كتلتين ـ إذا جاز التعبير ـ:
1 ـ كتلة تأبى المشاركة في العملية السياسية في ظل الاحتلال وهذه تمثلها هيئة علماء المسلمين، وقوى المقاومة العراقية.
2 ـ وهناك كتلة سنية أخرى رأت أنَّ الطريق الأفضل في حل الأزمة العراقية هو المشاركة في العملية السياسية وقد دخلت الانتخابات الأخيرة.
فمن هنا يكون البرنامج مختلفاً لدى هؤلاء عن هؤلاء، ونحن في هيئة علماء المسلمين برنامجنا واضح وقدمناه من خلال مبادرة أكثر من مرة، وقدمناه للأخضر الإبراهيمي، وقدمناه لجامعة الدول العربية، ويقضي بما ذكرته قبل قليل، بجدولة الانسحاب، وانتخاب حكومة مؤقتة مثقفة، ولا تنتمي لأي حزب سياسي وذات كفاءة، وتعمل هذه الحكومة على إدارة الشعب العراقي سنة أو ربما سنتين، وتهيئ الأمور لإعادة وضع الدستور؛ لأننا لا نعترف بهذا الدستور الحالي، وكذلك لإجراء انتخابات جديدة؛ لأن الانتخابات التي مضت ملؤها التزوير والظلم؛ فهي أيضاً بالنسبة لنا ظلم، ونحن لا نعترف بنتائجها، وهكذا نكون قد وضعنا أقدامنا في الاتجاه الصحيح.
أمَّا الآخرون في الحزب الإسلامي والحوار الوطني وبقية من انضم تحت جبهة التوافق؛ فهم دخلوا في العملية السياسية وأعلنوا رفضهم لنتائج الانتخابات، وقالوا نتعامل معها على أساس أنها واقع مفروض، وهم الآن يدخلون في مناقشات طويلة ومساومات لغرض تشكيل الحكومة.
البيان: بصراحة ـ يا فضيلة الدكتور ـ هل ترى نجاح مشروع جمعية التوافق الوطني، ولماذا؟
3 نحن لا نرى نجاح مشروعهم، ولو كنا نظن نجاح مشروعهم لدخلنا معهم، ونحن نعتقد أنَّهم أخطؤوا في اجتهادهم هذا، وأن المشروع الأمريكي تحقق شيء من خططه في مشاركة أهل السنة، وهو تثبيت للمحاصصة الطائفية والعرقية، وهذه المحاصصة كانت هدفاً استراتيجياً للقوات الأمريكية من بداية الاحتلال، وفرضته في مجلس الحكم ولكنها لم تنجح، وفرضته في الحكومة المؤقتة، وفرضته في الانتخابات الماضية، ولكنها أيضاً لم تنجح، ولم يشارك في ذلك كثير من أهل السنة في المرة الماضية، ولكن لما شاركوا في هذه المرة، فثبت هذا المشروع شئنا أم أبينا؛ فأنا لا أظن أن النجاح في طريقهم، بل أجدهم الآن في وضع محرج للغاية، لأسباب كثيرة عدا تثبيت المحاصصة الطائفية والعرقية، وهم ثبَّتوا أيضاً رقماً آخر فيه ظلم على أنَّ عدد أهل السنة 20%، وهذا ليس عدلاً؛ لأن السنة أكثر من ذلك، ولكن نحن نقول دائماً: هذه النسبة عدا عما فيها من تضليل وتزوير، فإن هناك أربعة ملايين صوت لم تشترك في الانتخابات استجابة لموقف هيئة علماء المسلمين، وعليه فإنَّه يبقى إحصاء أهل السنة لا يخضع لهذا الرقم الذي وضعه لهم الرئيس بوش قبل الدخول في العملية السياسية الأولى.
البيان: ثمة كلام من بعضهم بالقول بأنَّ هناك فروقاً بين شيعة العراق العرب، وشيعة إيران! ما مدى صحَّة ذلك؟ وهل صحيح أنَّ التشدد الشيعي في العراق هو من صنع إيران؟
3 من دون شك نحن أولاً نفرق بين أمرين: بين الأحزاب، وبين القاعدة الشعبية.
فالأحزاب السياسية الموجودة في العراق، من الخطأ أن نقيس حالة الشعب العراقي بها؛ فهذه الأحزاب لها أجندة خاصة، فلا يمكن أن نكتشف من خلالها حالة الشعب العراقي، وهذا أيضاً ينطبق على الشيعة؛ فمن الشيعة طبقة عامة بسيطة، وهناك أحزاب. فالأحزاب واضحة في برنامجها وفي ميلها لدولة أخرى فولاؤها ليس للعراق، ولكن لا يمكن أن نقول إن الشيعة في العراق هم كلهم كذلك جميعاً؛ فالشيعة في العراق ـ حسب معلوماتنا ـ بشكل عام ولاؤهم للبلد، وهم يبثُّوننا شكواهم من التدخل الإيراني، ومن ظلم هذه الأحزاب لهم، وليس من الحكمة أن نخسرهم؛ فهم جزء من النسيج الاجتماعي، وهم مهمَّشون، مثلما نحن مهمشون، بل يصيبهم الأذى أيضاً، لذلك نحن نقول دائماً: لا بد أن نفرِّق بين الشيعة الذين ولاؤهم للعراق وبين الشيعة الذين ولاؤهم لغير العراق.
البيان: وعلى هذا: هل التشدد الشيعي في العراق هو من صنع إيران؟
3 موضوع التدخل الإيراني بالنسبة لنا أمر بيِّن وبدهي؛ فنحن إذا نظرنا لتصريحات الإيرانيين أنفسهم، فإنَّهم يعترفون بهذا؛ فالأبطحي ـ المسؤول الإيراني ـ قال مرَّة: إنَّه لولا إيران لما كان للأمريكيين وجود في العراق وفي أفغانستان، ومرة صرَّح أحد مسؤوليهم أن فيلق بدر ما يزال يستلم مرتَّباته من إيران.
وفيلق بدر ـ كما تعلمون ـ نشأ بعد بداية الحرب العراقية الإيرانية واحتضنته إيران وموَّلته وهو طفلها المدلل، وكان النظام العراقي لا يسمح للعلماء بتوضيح أي حديث في هذا الاتجاه؛ فلم يكن يحب ترويج شيء من ذلك، ولكننا نحن كنا في النطاق الداخلي نسمع بذلك، وإن كان ذلك الوجود لم يكن بهذا الحجم، ولكن بعد الاحتلال الوضع مختلف؛ لأن فيلق بدر دخل بمجموعاته كلها المقدَّرين بـ 17 ألف رجل، وهم عراقيون وإن كان ولاؤهم المطلق لإيران؛ فهي الدولة التي غذَّتهم ومنحتهم الإيواء وزوَّدتهم بكل متطلبات الحياة، والمشكلة الآن أنَّ من هذا الفيلق ـ حسب ما لدينا من معلومات ـ أكثر من عشرة آلاف دخلوا في وزارة الداخلية وفي أجندتها، وهذا في الحقيقة مشكلة، فقد صرَّح (جون باتشي) وهو مسؤول برنامج يوناني لحقوق الإنسان في العراق، صرَّح لصحيفة الغارديان البريطانية قبل شهر، والإعلام تكتَّم على هذا الخبر، لأنَّه بصراحة مفاجأة وفجيعة في الوقت نفسه، وقال إنَّ ما يُسمى فرق الموت تابعة لوزارة الداخلية، وأن أهل السنة يُعَذَّبون على يديها حتى الموت، وهي مسؤولة عن تعذيب سبعة آلاف سني خلال الأشهر التسعة الماضية، وقال إن القوات الأمريكية على علم بها، ولم يبرئ وزير الداخلية (بيان جبر صولاغ) أيضاً، بل قال إنه مسؤول عنها؛ فرجل مثل (جون باتشي) مطلع على الملف العراقي وحينما يتكلم فإنه لا يتكلم من فراغ، لكن الإعلام تكتَّم على الموضوع وكأن شيئاً لم يكن.
والأمريكيون يعلمون أن الإيرانيين يتدخلون حتى العظم، ولكنهم لم يكونوا يصرحون بهذا من قبل، ونحن نعزو ذلك لاتفاقات بينهما وتواطؤ، ولكن الآن بعد سخونة الملف النووي، بدؤوا يكشفون هذه الأوراق، فـ (رامسفيلد) قال قبل فترة: إن إيران تتدخل في العراق وأنها تستعمل أسلحتها، و (كوندليزا رايس) أيضأً قالت قبل شهرين أمام الكونغرس في جلسة الاجتماع: إن النفوذ الإيراني في العراق أكثر تعقيداً من النفوذ السوري، وهكذا بدأت تنكشف الأوراق، وأخيراً ردد الرئيس بوش الكلام نفسه، وكلما زاد الضغط في موضوع الملف النووي سترى أن الأمريكيين سيكشفون المزيد من الأوراق، التي تؤكد أن الإيرانيين متورطون في الملف العراقي، كما يقول المثل: من الباب حتى المحراب.
البيان: ولكن ألا يرى فضيلتكم أنَّ هذا ديدن القوم وتوجههم حيال أهل السنَّة؛ فهل كنَّا نتوقع من إيران عدا ذلك؟
3 صحيح. ولكن هم يجب أن يعلموا أنَّهم دولة جارة، وأن يفهموا أنه ليس من مصلحتهم استغلال ظروف العراق والطعن من الخلف؛ فقد يحققون مكاسب آنية، ولكن على المدى البعيد فهم الخاسرون؛ لأن الشعب العراقي الآن عند مجرد ذكره لإيران يثور غضباً.
البيان: ما وسائل أهل السنة وخططهم في الحد من الدور الإيراني في العراق على المستوى القريب والبعيد؟
3 لا أعتقد أن لدى أهل السنة الآن أي خطط محدَّدة؛ بسبب أنه لا حول لهم ولا قوة حينما يكون هناك تعاون عالي المستوى بين القوات المحتلة وبين إيران في دولة مثل العراق، وبالذات فيما يخص أهل السنة.
وبما أنَّك سألتني عنهم فلا أعتقد أن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً في هذا المجال، والسنَّة الآن يُذبَحون ويتم اغتيال ضباطهم على أيدي هذه الميليشيات وبخاصة الطيارين، وهذا يؤكد أن مَنْ وراء ذلك مدعوم من دولة إيران؛ فمن الصعب القول إن بإمكان أهل السنة أن يفعلوا شيئاً ـ إلاَّ أن يشاء الله ـ.
ولهذا نحن في هيئة علماء المسلمين، أصدرنا قبل فترة بياناً قلنا فيه إن القوات الأمريكية متورطة في عمليات تطهير طائفي، وهذه فضيحة تزيد على فضيحة أبو غريب، وأنَّ هناك مسؤولين من حقهم أن يقفوا مع (سلوبيدان ميلوسيفيتش) الذي قضى نحبه، فيقفوا في محاكمات دولية؛ لأنهم فعلوا الفعل نفسه، وأعطيك مثلاً بسيطاً:
لدينا وثائق تثبت أن هناك معتقلات يعذَّب فيها أهل السنة على أيدي هذه الميليشيات يتولى حراستها الأمريكيون، والأمريكيون راضون بهذا ومبتهجون؛ لأن هناك من يقوم بالنيابة عنهم بتصفية رموز أهل السنة، ولا أنسى ما سأحدِّثك عنه الآن؛ لأنه يكشف عن بشاعة هذا الرضى: حدثني أحد رموز جبهة التوافق العراقي قائلاً: لقد سلمت للسفير الأمريكي (زلماي خليل زاد) قائمة بثلاثة عشر موقعاً لسجون سرية يعذَّب فيها أهل السنة تابعة لوزارة الداخلية، وحدَّد فيها المباني التي تحتوي على هذه المعتقلات، قال: فكان جوابه لي بعد أيام: يا دكتور! نحن نريد أن تدلونا على الأبواب والمنافذ التي ندخل منها إلى هذه المعتقلات!
هكذا بكل استخفاف ... أقول له: في هذا المبنى يوجد معتقل، فيقول لي: دلَّني على الباب أنا لا أعلم!
وستكشف الأيام عما يندى له جبين الإنسانية؛ فالأمريكيون ليسوا بأقل من الصربيين في عمليات التطهير الطائفي التي تنال أهل السنة في العراق.
البيان: طالبت إيران مؤخراً الولايات المتحدة بأن تتفاوض معها بشأن العراق؛ فهل يعد هذا اعترافاً مشتركاً بأنها تملك الكثير من مفاتيح الوضع العراقي، وماذا تتوقعون من انعكاسات المجابهة الأمريكية الإيرانية على الوضع في العراق؟
3 الإيرانيون يملكون قدراً كبيراً من الذكاء بالمناورات السياسية، ولكنهم بهذه التصريحات أعتقد أنهم وقعوا في الفخ ـ ربما المنتظر ـ لأنهم أدانوا أنفسهم بأنفسهم، وحينما يوافق الأمريكيون الإيرانيين على مفاوضات بشأن العراق، فهم يقولون للعالم كله: نحن متدخلون في الشأن العراقي، ونحن نملك مفاتيح اللعبة في العراق، ولهذا فإنَّ هذه الممارسات استفزت العراقيين جميعاً بكل أحزابهم السياسية، والجميع قالوا: بأي حق يتم تجاهل العراق وكأنه جزء متنازع عليه بين أمريكا وإيران؟ فهذه بين قوسين: (غلطة الشاطر) وهي إدانة صريحة لهذه الدولة أنها تتدخل بشكل كبير في العراق.
البيان: ما فرص تثبيت الحكومة العراقية القادمة، وما تقييمكم لنصيب ودور أهل السنَّة فيها؟
3 أنا أظن أن الحكومة العراقية ستتشكل على أساس حكومة يكون للسنة فيها حجم لا يتجاوز 20% وهذه رغبة الأمريكيين والبريطانيين، لأنَّ هناك هدفاً استراتيجياً لتهميش أهل السنة، وربما يعطون إحدى الوزارتين: الداخلية أو الدفاع، لكنَّهم على العموم لن يخرجوا عن هذه النسبة. إلاَّ أنَّ تقييمنا في كل الأحوال أنَّ الحكومة القادمة ستبقى ضعيفة وربما تبقى حبيسة المنطقة الخضراء؛ لأنها هذه المرة ستكون متعددة الأقطاب؛ وهذا سيجعلها أكثر ضعفاً، فلا أظن أن بإمكانها أن تحل المشكلة العراقية، وربما تشهد الأيام القادمة انحداراً أكثر في الملفات الأمنية والاقتصادية، وأنا أعتقد أن المقاومة العراقية ستبقى هي المالكة للأرض، وما لم يؤمن الأمريكيون والقوى السياسية بالحكومة بالواقع ويتم محاورة المقاومة فلن يهدأ العراق ـ والله أعلم ـ.
البيان: يتردد أن الولايات المتحدة قد تلجأ إلى نبذ ورقة الشيعة المتدينين لتعيد اللعب بورقة الشيعة العلمانيين، فهل يمكن أن تدخل أمريكا بعض المحسوبين على السنة من العلمانيين في هذه اللعبة، وما موقفكم عندها؟
3 كل شيء ممكن؛ فالأمريكيون من دون شك يفضلون التوجه العلماني، وهم في هذه المعركة استطاعوا حرق الأوراق الدينية للشيعة، فحرقوا مراجعهم ورموزهم من خلال توريطهم في تأييد الاحتلال بشكل أو بآخر، ويتمنى الأمريكيون لو أنهم يحرقون رموز السنة أيضاً على الطريقة نفسها، فحاولوا توريط هيئة علماء المسلمين بالاتجاه نفسه، ولكنهم لم ينجحوا بفضل الله، ولن ينجحوا وهذا ما نأمله من الله عز وجل. فالعلمانيون عند الأمريكيين هم المفضلون، ولكن المشكلة عند الأمريكيين أن العلمانيين لا يتمتعون برصيد كبير في الشارع العراقي، وهذا ما سيجعل الوضع بالنسبة للأمريكان أكثر تعقيداً؛ فهي مضطرة أن تعوِّل على الأحزاب الدينية لحين يكون لمشروعها قرار في البلد، وبعد هذا من الممكن أن تغير من الوجوه من تشاء أو تأتي من الوجوه بمن تشاء إن استطاعت أن تنجح.
البيان: يخيم شبح الحرب الأهلية على ربوع العراق؛ فعلى من تقع المسؤولية الكبرى في ذلك، وهل هناك إمكانية لتفادي هذا الخطر؟
3 الحرب الأهلية هدف لقوات الاحتلال منذ مجيئها في 2003م، ولاحظنا ولأكثر من مرة أنها حاولت إثارة الحرب الأهلية، وأنا دائماً أذكِّر بحالة أسجلها للتاريخ أن القوات الأمريكية حينما دخلت بغداد ودخلت مدناً أخرى فتحت مخازن السلاح للناس بنفسها، فكان الناس يأخذون من هذه المخازن السلاح الثقيل والخفيف، والجنود الأمريكيون ينظرون للناس من غير مبالاة وكأن الأمر لا يعنيهم، ومن دون شك أن الأمريكيين ليسوا جهلاء بخطورة أن يؤول السلاح لأيدي الأهالي؛ لأنهم غزوا قبل العراق أكثر من عشرين دولة؛ فهم يعرفون ماذا يعني أن يكون السلاح بأيدي الأهالي، لكنهم كانوا يتمنون أن تشتعل الحرب الأهلية ليجعلوا الناس ينشغلون بعضهم ببعض وهم يقعدون في المعسكرات ويشرفون على هذه الحرب، ويزيدون نارها وقوداً، ولكن هذا ـ بفضل الله ـ لم يتحقق، وأنا أحب دائماً أن أكرر كلمة سمعتها من أحد الساسة العراقيين أنَّ العراق له مناعة داخلية من الحرب الأهلية، وهذا كلام صحيح؛ فالعراقيون منصهرون بعضهم ببعض إلى حد يحول في العادة بينهم وبين الانزلاق إلى الحرب الأهليَّة؛ فهناك عشائر نصفها شيعة ونصفها سنة، وهناك زيجات بين السنة والشيعة، وكذا بين العرب والأكراد، بلغت في تشخيص المختصين أكثر من 25%، فمن الصعوبة الدفع بالبلد للحرب الأهلية، وآخر فرصة من دون شك عُقدت عليها الآمال هو موضوع تفجير مرقدي سامراء، وكانوا يريدون إشعال حرب ولم تحدث. ولدينا عنف طائفي وهو بين الأحزاب السياسية وليس بين عامة الناس؛ فالأحزاب السياسية تمارس تطهيراً طائفياً، ولكن حتَّى هذه اللحظة لم ينتقل هذا العنف للطبقات الشعبية الأخرى ليتحول لحرب أهلية، ويسعى هؤلاء جميعاً إلى محاولة نقل هذه التفرقة للقاعدة العامة، ونأمل ألاَّ يحدث هذا، لكن يفترض أن نعمل جميعاً على تقوية هذه المناعة الموجودة لدى الشعب العراقي؛ لأن استمرار المجازر والقتل لأهل السنة هذا قد يبعد المناعة، ونخشى أن ينفلت الوضع بمرور الوقت، وما زالت ثقتنا بالشعب العراقي عالية، ونسأل الله أن يكون شعبنا عند حسن الظن به.
البيان: يرتبط الحديث عن احتمالات الحرب الأهلية بالحديث عن احتمالات التقسيم؛ فهل هناك أرضية دافعة لهذا التقسيم؟
3 من خلال قراءتنا للواقع نحسُّ أنَّه كان هناك نية لدى الأمريكيين لتقسيم البلاد باسم الفيدرالية في جميع جهات العراق، ولكن أعتقد أنه بعد التجربة التي خاضها الأمريكيون لم يعودوا يعوِّلون على هذا التقسيم؛ لأن هذا التقسيم في الأساس فكرة صهيونيَّة، وهو يخدم العدو الصهيوني، ولكن يبدو أن الأمريكيين لا يرونها تصب في مصلحتهم الآن، خاصة بعد أن قوي نفوذ إيران في المنطقة. أما إيران فيبدو أن من مصلحتها ذلك؛ لأن فيدرالية الجنوب تعني أن يتحول الجنوب إلى قطعة من إيران، وبهذا يكون لها هيمنة على الخليج وعلى النفط، ولذلك نحن نلاحظ أنَّ الذين يصرحون بضرورة الفيدرالية للجنوب هم من الشخصيات المعروفة بولائها لإيران، ومن دون شك أن هذا الأمر لم يأت اجتهاداً من عند أنفسهم، بل لأن هناك دوافع خارجية، تدفعهم لمثل هذه المبادرة.
البيان: لو حصل شيء من ذلك فهل هناك تحرك للسنة للتعامل مع هذا الوضع؟
3 أهل السنة ـ وأقولها من غير تعصب ـ ينظرون إلى المصلحة الوطنية؛ فهم الآن يعانون القتل من أجل ألاَّ يتقسَّم العراق؛ وهم الآن لو أرادوا أن يعزلوا أنفسهم فبإمكانهم أن يعزلوا مناطقهم، وتبقى مناطقهم سليمة ويعيشون بأمن وسلام، ولكنَّ حرصهم على الوحدة الوطنية يجعلهم حتى هذه اللحظة يرفضون الفيدرالية ويقاومونها بشدَّة ويدفعون الثمن غالياً، وهناك من يفسِّر حرص أهل السنة على رفض الفيدرالية، بسبب أن النفط ليس لديهم، وهذا ليس صحيحاً؛ فالنفط موجود في شمال العراق بالموصل وهي منطقة سنية وغنية بالنفط، ومنطقة الوسط التي يعيش فيها أهل السنة فيها الفوسفات الذي قال عنه الرئيس الأسبق كلينتون: بأنَّ العراق حتى هذه اللفظة لم يستعمل واحداً بالألف من مخزونه من الفوسفات، فالمنطقة غنية جداً، لكنهم هم يحرصون على الوحدة الوطنية ولا يريدون أن يكونوا سبباً في تمزيق العراق؛ لأنها أمانة تاريخية، وستذكر الأجيال كل من ساهم بتمزيق العراق بالسوء، وقبل ذلك هي المسؤولية أمام الله؛ لأننا نعتقد أنَّ العراق في قلب العالم الإسلامي، وإذا تقسم هذا البلد فإن الانقسام سيصيب كثيراً من البلاد المجاورة، ولهذا السبب تجد أهل السنة يدافعون بقوة ويتحملون في سبيل هذا الهدف الكثير من التضحيات.
البيان: الحرب المنهجية أو (حرب الأفكار) التي يروِّج لها المنظِّرون في أمريكا، قد يكون أثرها خطيراً في العراق، بحكم ما يشبه العزلة الدعوية التي عاناها في العهد السابق؛ فما أوجه التعامل المطلوب مع حرب الأفكار في العراق على المستويات المختلفة؟
3 أنا أعتقد أن حرب الأفكار بعد اشتعال هذه الحرب نقطة ضعف؛ لأنَّ الشعب العراقي لم تعد لديه ثقة إطلاقاً بأي مستورد أمريكي وبأي متعامل مع المحتل، وبأي جهة تثار حولها شبهات بأن لها علاقة بالأمريكان؛ فأنا أعتقد أن هذه الحرب تكاد تتلاشى على أرض العراق؛ لأن الحرب العسكرية الموجودة الآن أفرزت شيئاً جديداً: إما أن تكون عراقياً مسلماً، أو تكون أمريكياً عميلاً.
البيان: بخصوص المحاكمة القائمة لرموز النظام السابق، هل ترون أنَّها تخدم أهل السنة أم تضرُّ بهم، وهل هناك بالفعل بقايا وجود مؤثِّر لحزب البعث العراقي؟
3 بالنسبة للمحاكمة أنا لا أعتقد أن لها علاقة بأهل السنة؛ لأن الرئيس السابق لم يكن سنياً في فكره؛ فالمعروف أنه كان علماني الفكر، والعلماني ليست تلك المعايير لديه، ولهذا تجد أنَّ الرئيس السابق كانت أكثر عناصر حزبه من الشيعة؛ فالشيعة كانوا يشكلون 65% من عناصر حزب البعث، وتجد أن حكومته كثير من عناصرها من الشيعة.
وإليك معلومة بأن قائمة الخمسة والخمسين المطلوبة أمريكياً، 36 منهم شيعة، ولكن الإعلام من أجل أن يستبيح أهل السنة ويستحل دماءهم أخذ يروِّج أن السنة كان أكثرهم من النظام السابق، ولدينا من الشواهد ما لا تعد ولا تحصى في هذا المجال وسأذكر لك شيئاً منها:
ففي زمن الرئيس السابق هناك شخصان فقط احتلاَّ في عهده منصب رئيس الوزراء كلاهما من الشيعة: سعدون حمَّادي، ومحمد حمزة الزبيدي، ومرافق صدام الشخصي الذي يمشي خلفه وهذا يعني أنه موطن ثقة عالية لسنوات طويلة (صباح مرزا) هو كردي شيعي، ومرافق صدام الشخصي الذي كانوا يقولون إنه يدخل معه إلى غرفه الخاصة هو عبد العليم الشيعي من الحلَّة.
البيان: ولكن يُتداول في بعض وسائل الإعلام بأن صدام حسين ظلم الشيعة وأنَّه كان بينه وبينهم ثأر، وأنَّه سلب ما لديهم من عز؛ فهل هذا الكلام صحيح؟
3 سأحدثك عن هذا، فصدام حسين كان لا يهمُّه هذا الموضوع: شيعي أو سني؛ فكان يبحث عن الولاء، فيمنحه لأي جهة تمجِّده، والسياسيون الشيعة لديهم مظلة في فِقْهِهِم وهي موضوع (التقيَّة) ولذلك هم يستجيبون للانتماء للحزب والتقرب من السلطان، على أن يضمروا بغضه، وأهل السنة ليس لديهم هذا المخرج؛ فهم حدِّيُّون: إما أن يكون المنتسب بعثياً وبهذا يستحق اللوم، وإما أن يكون واضحاً، ولهذا فإن نسبة أهل السنة في حزب البعث معروفة لدينا كعراقيين أنها نسبة قليلة.
وأما قصة العداء الذي بين صدام وبين الشيعة فهذا يرجع إلى حرب إيران؛ فقبل الثمانينيات من القرن الماضي، بإمكانك أن ترجع إلى التاريخ العراقي فإن90% من الذين أعدمهم صدَّام حسين كانوا من السنة، سواء من القادة العسكريين أو من علماء الشريعة، وهذا معروف.
ولكن بعد حرب إيران ظهر نشاط حزب الدعوة، وهو ذو نشاط مسلح كما حدث في عملية الجامعة المستنصرية في بغداد وغيرها، فكحاكم يخشى على نفسه، فقد تحوَّل باتجاه حزب الدعوة، وحزب الدعوة لديه نفوذ كبير، وبما أنَّه حزب قديم وله صلة بالمراجع الدينية، فإنَّ هذه القوى استطاعت في أكثر من مرَّة تحريك الشارع الشيعي ضد النظام، فقسا في التعامل مع هذه التظاهرات كما يفعل أي حاكم يُعارَضُ حكمه، وقتل منهم من قتل؛ ومن هنا كان ذلك التسلط.
ونحن أحياناً نجلس مع بعضهم ويقولون لنا: نحن دفعنا ثمناً وصدام حسين استهدفنا بالقتل والمجازر. فنحن نسألهم سؤالاً:
هل استهدفكم، لأنكم شيعة، أم لأنكم خرجتم ضده؟
فيُحرَجون، ثم نسألهم سؤالاً آخر: ماذا لو كانت هذه المظاهرات من أهل السنة في الموصل، فهل كان سيتعامل صدام معهم بغير هذا التعامل؟ فالمنصف فيهم يقول الحق.
ثم نقول لهم: لماذا كانت هناك أكثر من عشر محاولات انقلابية وكانت من السنة فقط؟
ولو كان صدام حسين يتعامل على أساس أنه سني فلا حاجة لمثل هذه الانقلابات؛ فقد أعدم النظام السابق خيرة رجال أهل السنة من علماء وجامعيين وقادة وسياسيين وضباط؛ فهذه الدعوى التظلمية ليست صحيحة.
نعم! أصابهم ظلم كما أصاب الآخرين وليس على أساس طائفي، وإنما على أساس عدم الولاء للحاكم.
البيان: هل أنتم راضون عن تفاعل العالمين العربي والإسلامي مع قضيَّتكم في العراق؟
3 ليس لدينا أي نسبة من الرضى؛ فنحن محبَطون من مواقف الدول العربية والإسلامية التي رضيت أن تنظر إلينا بمنظار المتفرج وكأن الأمر لا يعنيها، فتأبى أن تناصرنا بكلمة أو بأي وسائل أخرى، مع أنها تعلم جيداً أن العراق يمثل السد أو صِمَام الأمان بالنسبة لها، فلا سمح الله إذا انهار هذا الصمام فسيصل الضرر إلى جميع الدول العربية والإسلامية وخاصة الدول المجاورة.
والمشكلة ـ يا أخي! ـ أنَّ النظام السابق حينما كان يخوض حرباً ضد إيران وقفت الدول كلها معه، وزودته بالسلاح وبالمواقف المطلوبة سياسياً وإعلامياً، وتلك الحرب كانت لها ظروفها، وتلك الحرب كانت ليست ضرورية، وفيها من الجوانب السلبية ما فيها.
ونحن الآن في حرب صادقة ونحن فيها مظلومون، وقد جاءت دول التحالف واحتلتنا ضد الإرادة الشعبية والدولية؛ فالحق معنا، بل حتَّى الشرعية الدولية معنا، ومع ذلك تجد أن الجميع للأسف الشديد بعيدون عن المساندة ربما خوفاً من أمريكا. ولكن ... لماذا تتدخل إيران في العراق مثلاً؟
إنَّني أعتقد أن مواقفهم سياسياً خاطئة، والنتائج التي تتمخض عنها هذه المعركة ستنعكس سلباً عليهم بكل تفاصيلها، نعم! نحن نتمنَّى أن تنتهي هذه المعركة بانتصار أبناء المقاومة، ولكن لا بأس من وضع احتمال الأمر الآخر: ماذا لو انكسر البلد ـ لا سمح الله ـ؟ لن يبقى أحد بمنأى عن هذا الطوفان ـ لا قدَّر الله ـ.
البيان: ما أوجه النقص في نظركم في ضعف التفاعل الدولي الإيجابي مع قضيَّة العراق؟
3 لا يوجد تفاعل، وهناك مواقف قليلة كما حصل مثلاً في موقف وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، وقد نبَّه إلى خطورة النفوذ الإيراني في العراق. وعلى أيّ حال نحن قلنا إنها بداية الوعي، لكن بعدها لم يحدث شيء.
كما أن هذا الوعي تجاه خطورة الدور الإيراني يجب أيضاً أن يكون تجاه التدخل الأمريكي واحتلال العراق، فيجب أن يكون لدى الدول العربية شعور بأن الخطر الأمريكي لا يقل خطراً عن النفوذ الإيراني، وأن نتعامل مع الجميع تعامل الفطن الذي إن لم يفعل ذلك من أجل نصرة الدين، فليفعل ذلك من أجل رعاية مصالحه.
البيان: ما الدور الذي تنتظرونه من إخوانكم أهل السنة في العالم؟
3 أنا أعتقد أنَّ العراقيين الآن يمرون في أسوأ الظروف، وأهل السنة بالذات إذا كان لا بد من التحدث عنهم فإنهم يتعرضون إلى تطهير طائفي، وذبح مستمر، ويجب على الدول العربية أن تسعى في دعمهم في كل الاتجاهات وبشتَّى الظروف، وبكل ما يستطيعون؛ لأن الأمريكيين يعملون على تدمير البنى التحتيَّة لهذه المناطق، فيهدمون المستشفيات، ويحرقون المزارع، ويقصفون المساجد، ويضربون المدارس، فيوجد مسلسل مدروس لإنهاء كل مقوِّمات الحياة لديهم، فضلاً عن استهداف شبابهم بالآلاف وقتل الآخرين؛ فنحن نشعر بأنَّ ظهرنا مكشوف، لكن إذا اهتمت الدول بهذه الأزمة، ودعمت من يقع عليهم الظلم بكل وسائل الدعم الممكنة، فمن دون شك وعلى الأقل سيعيد ذلك الثقة إلى هؤلاء بأنفسهم، ويطيل من فترة صمودهم أمام الخطرين القادمين.
البيان: أخيراً: نسأل الله ـ تعالى ـ للشعب العراقي المجاهد أن ينصره، ويفرِّج كربه، ويصلح أحوال المسلمين، والله حسبنا ونعم الوكيل.(223/44)
الجاذبية الثقافية
د. عبد الكريم بكار
لا نعني بالثقافة (المعرفة) ، وإنما نعني هنا ذلك الجوَّ المكوَّن من مجموعة العقائد والأفكار والمفاهيم والنظم والأخلاق والقِيَم والعادات والطُرُز السائدة في مجتمع محدد. أو بعبارة أخرى: أسلوب الحياة السائد في بيئة معينة والأسس الفكرية والنفسية والاجتماعية التي يقوم عليها ذلك الأسلوب.
أما الجاذبية الثقافية؛ فنعني بها قدرة الثقافة على توفير درجة جيدة من إرضاء أبنائها بالأوضاع والأحوال السائدة، بالإضافة إلى لفت انتباه أبناء الثقافات الأخرى ودفعهم في اتجاه تقليد سلوكيات أبناء الثقافة الجاذبة.
أثبتت الجاذبية الثقافية على مدار التاريخ الإسلامي أنها الوسيلة الأفضل لنشر الإسلام ومبادئه وقِيَمه؛ فقد دخل في هذا الدين أعداد هائلة من البشر من غير أن يروا عسكرياً واحداً من جيوش المسلمين، وقد تم انتقالهم إلى الإسلام ببطء؛ حيث تمثّل الناس مبادئه بأناة ومن غير ردود أفعال تُذكَر من الثقافات الوطنية التي كانت سائدة آنذاك، ولم يكن الأمر بتلك السلاسة وذلك النقاء في البلدان التي فُتحت عن طريق القتال.
دعونا نتساءل الآن: ما السّمات الأساسية التي ينبغي أن تتوفر في أيّ ثقافة حتى تصبح جذابة؟
في مقاربة أولية نقول: ربما كان أهم تلك السمات الآتي:
1 ـ التضحية: وهي تعني وجود شريحة واسعة في المجتمع، تملك القدرة على التخلّي عن بعض ما تملك، وتبذل شيئاً من جهدها ووقتها في سبيل تحقيق أمور خيِّرة لا تعود عليها بنفع مباشر. ويدل على هذه الشريحة ما تتمتع به الأمة أو المجتمع من مؤسسات (لا ربحية) ، تسدّ حاجات الناس، وتستدرك على القصور الموجود في نظام العدالة الاجتماعية السائد. ولا شك أن الدول المتقدمة تُعد غنية جداً بهذه المؤسسات اليوم؛ وهذا ما نلمحه في المجتمعات المسلمة أيام ازدهار الحضارة الإسلامية.
2 ـ العدل: حيث يغلب على ظنّ الناس أنهم قادرون على الوصول إلى حقوقهم كاملة دون رشوة أو واسطة، وبناء على قواعد واحدة تطبق على الجميع.
وهذا يكون في أحسن حالاته حين يتوفر نظام قضائي حرّ ومستقل، ويتولى إصدارَ الأحكام أشخاص نزيهون، أو أشخاص يدفعون ثمناً غالياً في حالة إصدار أحكام جائرة ليس لها أي مخرج قانوني.
3 ـ التعاون: والذي يعني وجود أرضية عقدية وأخلاقية تجعل تواصل الناس بعضهم مع بعض واسع الانتشار، فالمؤسسات الخيرية الكثيرة والمتنوعة تعني ـ على نحو بَدَهي ـ وجود أعداد كبيرة من الناس القادرين على التفاهم والتعاضد في سبيل إنجاز أشياء مشتركة لخير الجميع.
4 ـ الأمانة: وهي تعني نمو جوانب خلقية واجتماعية جيدة إلى حدود ومستويات عالية. الأمانة التي أعنيها هنا هي التي عنتها ابنة شعيب حين قالت لأبيها عن موسى ـ عليه السلام ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] . الأمانة تعني الصدق والمصداقية والثقة وحفظ الأسرار والمحافظة على الحرمات؛ وهذه الأخلاق ذات قيمة جوهرية في المنهجية الإسلامية وفي التربية الأخلاقية لدى المسلمين.
5 ـ الجدّية: المقصود بالجدّية، توفّر نُظم وتقاليد وأعراف وأوضاع، ترفع عتبة النشاط أو ترفع سوية الاهتمام بالعمل والإنتاجية إلى مستويات عالية تحاكي ما هو متوفر لدى الأمم الصناعية الكبرى. الأمم الجادة تهتم بالتفاصيل، وتفكر في التخلص من دقائق المشكلات، وتحتاط في معظم شؤونها.
6 ـ العملية: الثقافة التي توصف بأنها ثقافة عملية يقل الكلام لدى أبنائها على مقدار تكاثر الأساليب الفنية التي تنمّي من خلالها الجوانب المختلفة في حياتها العامة، كما أنها تعالج بواسطتها المشكلات المعاصرة على نحو حاسم وفعّال.
هذه السّمات هي موضع إجماع بين كل الأمم. وجميع الشرائع تحثّ على التحلّي بها، ولهذا؛ فإن الثقافة التي تتوفر فيها هذه الصفات على نحو ظاهر وقوي؛ تجذب إليها أبناء الأمم الأخرى الذين لا يجدون في ثقافاتهم مثيلات لها. وهذا الجذب الثقافي يزداد اليوم بسبب ما توفره وسائل البثّ والاتصال الحديثة من تواصل وتقارب عالمي على نحو لم يسبق له مثيل.
الحديث عن الجاذبية الثقافية يدعونا إلى الحديث عن (الافتتان الثقافي) والذي يعني انبهار أبناء أمة من الأمم بما لدى أبناء أمة أخرى من قِيَم وأخلاق وأوضاع ثقافية. وإنها لفتنة شديدة أن تجد المبادئ التي يجب أن تتمسك بها ضامرة في مجتمعك، مزدهرة لدى عدوّك أو منافسك!
كل ما قلناه عن الجاذبية والفتنة الثقافية، ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الأمم والشعوب، وإن من واجبنا ـ إذا ما أردنا تحصين الأجيال القادمة من التبعية الثقافية للآخرين ـ أن نبذل كل ما في وسعنا من أجل إنعاش القِيَم التي أشرنا إليها وترسيخها في الحياة الإسلامية، وإلا فإن هويتنا ستكون مهددة، حتى إننا إذا لم نخف ذلك؛ فإن التديُّن الحق يدعو إلى بذل ذلك الجهد تعبُّداً لله ـ تعالى ـ وتقرُّباً.(223/45)
قراءة في مجموعة مسرحيات قصيرة
أمين سليمان الستيتي
قراءة في مجموعة مسرحيات قصيرة للكاتب: محمد علي البدوي ـ يرحمه الله ـ المجموعة التي نشرتها البيان في سلسلة منشوراتها برقم (61) ، والتي قدم لها أ. د. حسين علي محمد، يلفت النظرَ فيها غلافٌ بلون الأرض الخصبة، والتي اكتسبت لونها من دماء الشهداء الذين شاركوا في فتحها، ورفع راية الإسلام فوقها، فخامرت حمرتها نفحات النور، ولفحت وجهها ومضات النار التي أسرعت بالشهداء إلى الجنة ـ فيما نحسب ـ والتي تبدو للناظر خلف تداخل أنوار اللهب مع لون التربة التي شكلت أعالي اللوحة. ولو جعلها زرقاء ممتزجة بسواد الأدخنة الليلية القسمات، والتي تختلط بدماء الأرض الطيبة، لترك خيالنا يسبح في ذاك الفضاء، عبر طموح إيماني جامع لتنسّم ريح الجنة.
ونقلب الصفحة الأولى لنرى الإهداء (إلى كل من بات وهمُّه أمر المسلمين، وهو منهم ... إليه بعض همومهم وواقعهم؛ فعسى أن تحرك حسّاً أو تبعث نفساً..) ص 4، فإذا كان هؤلاء القوم معه ويشعرون بما يعانيه، وقد يزيدون، فَلِمَ يهدي إليهم همومهم؟ أليس من الخير لو أهداها لغيرهم ممن لم يصلوا إلى مشاعر الهم والانتماء، عسى أن تحرك فيهم ما لم يحركه الواقع، ليكون الإهداء ( ... إلى كل من لم يبت همّه أمر المسلمين ... هو منهم ... ) ، أمثال على أحمد باكثير ـ رحمه الله ـ.
وقد بيَّن أ. د. حسين علي محمد أن الكاتب قد (نشر عدداً من النصوص في مجلتَيْ: الأدب الإسلامي والبيان ... وهو يسير على خطى الكُتّاب المنتمين لهذه الأمة، المدافعين عن قضاياها ... ) في قراءة مقتضبة، جعلها الكاتب تحت راية القبول والرضا، وضمّنها مقتطفات طويلة من المشاهد، تخللتها بعض التعليقات، في مثل قوله: (ولا يخفى على المتلقي أن النص يشير إلى رئيس دولة أمريكا ... وهذا يتضح في نقطة الصعود في النص) و (عن زمن القهر العراقي يقدم حكاية ـ أبو منقاش ـ التي يكون فيها في زمن مقاومة العدوان الأمريكي ـ يعني أبا منقاش ـ بطلاً يُسقط طائرة الأباتشي) ، ويختم قراءته بشهادته أن الكاتب ـ يرحمه الله ـ (يضع رجله على الطريق الشاق، طريق المسرح الصعب، حين نراه صوتاً من أصوات المنتمين إلى هذه الأمة، المقاومين لحظات التخاذل والسقوط) ص 12.
ولعل سماعي لبعض النقد الذي قدمه في بعض الندوات، هو الذي جعلني أضع قراءته هذه تحت هذه الراية؛ ذلك أنه لم يبين الجوانب الفنية التي اعتمدها الكاتب، أو أتقنها، وإلى أي مدى، ولا الهدف الذي حققه كل نص منها، ولا أين يمكن وضعها من أدب المسرح؛ فهل هي من المسرح الواقعي؟ ولماذا؟ وما أسس المسرح الواقعي الفنية؟
وهل استفاد منها الكاتب ـ يرحمه الله ـ أو أضاف إليها؟ أو أنقص؟ أم هي من المسرح المأساوي (التراجيدي) ؟ أم المسرح السعيد (الكوميدي) ؟ أم الطبعي (الرومانسي) ؟ وهل أتقن الكاتب الأسس الفنية للمشهد المسرحي من حيث الزمن والمكان، والشخصيات؟ أم أنه لم يتجاوز أن سجل حواراً تخيّله على خشبة المسرح، ورأى أنه يعبر عن الآلام التي تعيش في قلب كل مسلم مهتم واع في هذا العصر؟
لا شكَّ أن الأُوار هذه الأيام امتد ليشمل ساحة العراق؛ ولا لوم لمن يجعل كل حروفه تدور في هذا الفلك، لكن لا بدَّ من التنبيه فنياً على أنَّ الأدب المرتبط بالحدث ينتهي أثره بانتهائه. فإذا كان الكاتب ـ يرحمه الله ـ قد بحث عن الخلود لنصوصه الأدبية، فلا بد أنه كان ينبغي أن يربطها بأصول الأدب الخالدة، التي تجعله يمخر عباب العصور، وينأى بها عن الآنيَّة. فحيثما تمكَّن الكاتب من الارتقاء بالمعالجة الأدبية إلى مستوى الخلود؛ فإن أدبه يسمو، ويعبر عن أحاسيس إنسانية خالدة، يتفاعل معها المتلقي كمسلم من جهة، وكإنسان من جهة أخرى في أيِّ صقع كان.
والصراع الدائر في العالم هذه الأيام لا يخرج من دائرة الصراع الأبدي بين الحق والباطل، أو كما يعبر الأدباء بين الخير والشر. ولما دأب الشر على خلط الأوراق، صار من مهمات الأديب أن يعيد الفرز، ويعرض الصور الواضحة، من خلال التعبير الراقي، الذي ينقل للمتلقي الأحاسيس والمشاعر التي تدفعه نحو المواقف السليمة، وتجعله يتحسس برَّ الأمان بيديه وقلبه.
وكاتبنا ـ يرحمه الله ـ ما فتئ يصوغ تعبيرات هذه المجموعة بأسلوب حواري رشيق؛ لتكون مشاهد مسرحية، لكنه حملها بين أنفاس القصة الواقعية التي تحاول الرمزية، فجاءت رمزيته يسيرة قريبة المنال، تحمل أنَاتٍ كثيرةً من الوضع الذي يعيشه المسلمون، بل جعلها أحياناً صرخاتٍ عاليةً، لكنها لا تلقى مسامع تحتويها، أو تربت على كتفيها ... ووقف ـ يرحمه الله ـ ولو شاء ـ سبحانه وتعالى ـ له أن يثبِّت الأسهم الضوئية، التي تشير إلى الدواء الناجع، والطريق الذي لا رجعة عنه، ولا منه، لكانت شفافية الأدب تجلت في رؤيته عيْن الحقيقة، وصياغتها.
فعسى أن يورق هذا الأمل قريباً عند كُتّابنا الأحياء، ويزهر، فيثمروا لنا مجموعات مسرحية، معتمدين على هذه البدايات الطيبة، وتكون فيها الأسس الفنية متمكنة، ويظهر فيها حَذَقُهم المأمول في رسم الشخصيات وتنميتها، من خلال الحدث والحوار المسرحي السامي، القادر على عرض الموقف المطلوب، عبر الحبكة المركبة، أو المفردة، التي تقود إلى النهاية المبتغاة، والتي لا بد أن يجعلوها حلولاً سعيدة؛ ليأخذوا بيد أبناء الأمة إلى النصر، وينزعوا من قلوبهم عقدة الهزيمة العضال.
إن هذا ليس بعيداً عن كُتّابنا، بل أراهم يحومون في حومته؛ ففي المشهد الأخير والذي جعله محمد علي البدوي ـ يرحمه الله ـ تحت عنوان (الإمام) ، إذ كان الأمل في خاتمته مضيئاً بقوله:
(ابن سعود:.. أبشر.. أبشر يا إمام بالنصرة والمساعدة.
الإمام: وأنت أبشر بالعزة والتمكين والعاقبة الحميدة) .
ختم بها مشهده، بل ومجموعته كلها، وكأنه لخص أمل الأمة في كل مواقعها ومواقفها في (البشرى) ؛ ذلك أن أمر المؤمن كله خير: إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له.
على أن النضج في اختيار العنوان، والشخصيات، تيسرت للكاتب ـ يرحمه الله ـ في كثير من مشاهده، في مثل (نار القصاص) ، وقد فتح له هذا المشهد أبوابه كي ينمو بالشخصيات أكثر ليظهر الحق حقّاً، والباطل باطلاً، لا في أعين المسلمين وحسب، بل في أعين المشاهدين أيّاً كانت دياناتهم، ويجعل صورة السلطان المسلم العادل عدالةً قسماتها من شرع الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيرينا صورة الرشيد، أو المعتصم، أو حتى الحجاج الذي سيَّر الجيوش لنجدة امرأة مسلمة اعتدى عليها قراصنة الديبل، فسخر الله ـ سبحانه وتعالى ـ كل ذلك لتنضوي بعدها كل تلك الديار تحت راية الإسلام، وإلى يومنا هذا.
ومع كل ما يمكن أن يقوله النقاد؛ فقد كان كاتبنا حقاً ـ يرحمه الله ـ صوتاً من أصوات أبناء هذه الأمة، المقاومين في لحظات التخاذل والسقوط.
أسأل الله أن يجعل أعماله كلها في ميزان حسناته، وأن يبدل له بقيتها حسنات، ويجعله مع الشهداء الذين أحبهم، ودافع عنهم في حياته؛ فقد أفضى إلى ربه، ونسأل الله أن يجمعه بهم في جنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(223/46)
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في مرآة الإبداع والنقد
أ. د. محمد صالح الشنطي
لقد حظيت شخصية الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم- بعميق المحبة والتبجيل من الشعراء خاصة والأدباء عامة من المسلمين عرباً وأعاجم، ومن شريحة عريضة من غير المسلمين، وتعتبر المدائح النبوية مظهراً جلياً ناصعاً من مظاهر هذا الحب النبيل المتدفق، ولست بصدد الحديث المستقصي لما قيل في رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وحسبي هنا أن أشير إلى دراسة مهمة للباحث الدؤوب والناقد المعروف الدكتور «حلمي القاعود» تحت عنوان: «محمد -صلى الله عليه وسلم- في الشعر الحديث» ، تحدث في مقدّمته عن العديد من الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، وقد أومأ إلى ما حظيت به قصيدة كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ من اهتمام عبر الدراسات المتعدّدة التي نشرت عنها، ثم ذكر جملة من الكتب التي تشرّف أصحابها بالحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعمّا قيل عنه وفيه من أعمال إبداعية ونقدية، منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب «المدائح النبوية في الأدب العربي الحديث» ، وقد ركّز فيه في «ثلاثة فصول» على بردة «البوصيري» وبديعية «ابن حجة الحموي» و «مدائح ابن نباتة المصري» ، تحدث عن الجذور الصوفية والأسطورية لهذه النشأة، وما يمارس خلالها من طقوس وعادات مبتدعه.
وثمّة رسالة دكتوراه ضخمة أعدّها الدكتور «صلاح عيد» تتحدث عن المدائح النبوية حتى القرن السابع الهجري، وتناول الدكتور «أنور السنوسي» في أطروحته «المدائح النبوية في الأندلس» ، وأما الدكتور «الجيزاوي» فقد ألمح إلى ذلك في دراستين عن أصداء الدين في الشعر المصري الحديث والعامل الديني في الشعر المصري الحديث.
أما كتاب «محمد في الأدب الحديث» لـ «فاروق خورشيد» و «أحمد كمال زكي» فقد كان الاهتمام فيه متفرداً وخاصاً، على حد تعبير الدكتور «القاعود» .
وهناك العديد من الدراسات حول شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، من أبرزها دراسة الدكتور «علي عشري زايد» (استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر المعاصر) ، ودراسة الدكتور «ماهر حسن فهمي» (الرسول في الأدب الحديث) .
أما بحث الدكتور «القاعود» فكان شاملاً ومركزاً على مدى القرن الرابع عشر الهجري (1882م ـ 1980م) ، وهو القرن الذي شهد منعطفاً مهماً في الصراع مع قوى الاحتلال في العالم العربي والإسلامي، وبدأت فيه صحوة إسلامية تحاول استنهاض الهمم لمواجهة هذا المدّ العدائي العاتي حضارياً وعسكرياً.
والحقيقة أن هذه الدراسات جميعاً إن دلّت على شيء فإنما تدل على محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومكانته العظيمة في قلوب المسلمين عامة، ولكن لا بد من التنويه إلى أن بعض الدراسات التي تتّسم بشيء من العلمية أو التي لها طابع منهجي قد ظهرت في أربعينيات القرن الماضي الميلادي، لتواجه مدّاً إسلامياً زاخراً، أنشأته الحركات الدينية الإسلامية الناهضة، التي أرادت أن تنفض عن الأمة غبار الجهل والبدع والخمول في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وفي مقدمتها حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم بعض الحركات الإسلامية الأخرى متباينة الملامح والسمات، ولقيت التفافاً شعبياً واسعاً، فكان أن عمدَ كبار الأدباء في تلك المرحلة إلى تأليف بعض الكتب عن شخصيات إسلامية مرموقة، وفي مقدمتها رسولنا العظيم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأجلاء ـ رضوان الله عليهم ـ فكتب «العقاد» عبقرياته المعروفة، وعلى رأسها «عبقرية محمد -صلى الله عليه وسلم-» ، وكتب «محمد حسين» هيكل في «منزل الوحي» ، وكتب «توفيق الحكيم» «محمد» ، ثم توالت الكتابات بعد ذلك لمفكرين وأدباء كُثر، أما الدراسات الأخرى فلا يمكن حصرها في هذه العجالة.
وقد كان من همّ بعض هذه الدراسات أن تستوعب ذلك المدّ الزاخر، وتثير بعض القضايا التي جرّت العديدين إلى مربع الجدل حولها، وهي دراسات تستوقف المؤرخ للحركة الثقافية الحديثة التي بدأت في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي.
وحتى لا نسترسل مع الدراسات والأبحاث فإنه يتحتّم علينا أن نستشرف آفاق محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من خلال النصوص التي عبّر فيها أصحابها عن تشوُّفِهم للطلعة البهيّة وحبهم لرسول البشرية عليه الصلاة والسلام، فها هو الشاعر «أحمد الشارف» في مطلع القرن الماضي (وهو شاعر ليبي مشهور من شعراء النصف الأول من القرن العشرين) يقول:
ولو لم يكن في القلب حبُّ محمدٍ لعمّت بك البلوى ودام الضّلالُ
نبي الهدى قد أوجب الله صدقه به الفرضُ فَرْضٌ والمحال محالُ
وقد منح المولى الكريم لذاته جمالاً غشته هيبة وجلالُ
وبعيداً عن شعر المتصوفة أصحاب نظرية النور المحمدي وما انطوت عليه من مبالغات بل مخالفة عقدية، وعن شعر بعض المذاهب الإسلامية المغالية، فإن صورة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد احتفظت بصفائها ونقائها وتألُّقها؛ فإننا نجد الشعراء الذين ينتمون إلى مختلف المدارس الأدبية يمدحون بذكره عليه السلام، من الإحيائيين إلى الرومانسيين إلى شعراء القصيدة الحديثة، أما الإحيائيون فعلى رأسهم «أحمد شوقي» صاحب القصائد الشهيرة في مدح رسول الأمة -صلى الله عليه وسلم-، حيث يقول:
وُلد الهدى فالكائناتُ ضياءُ وفم الزمان تبسّمٌ وثناءُ
الروح والملأُ الملائك حولَه للدين والدنيا له بشراءُ
والعرش يزهو، والحظيرة تزدهي والمنتهى والسّدرة العصماءُ
وحديقة الفرقان ضاحكة الربا بالترجمان شَذيّة غنّاءُ
والوحي يقطر سلسلاً من سلسلٍ واللّوح والقلم البديع رواءُ
ومن الواضح أن قصيدة أحمد شوقي تفيض بمحبة عارمة فتتبدّى في صور مشرقة بهاءً وروحانية ونوراً؛ فهو يقدم لحظة الميلاد على أنها انبثاق لفجر جديد نشر ضوءه على الكائنات والكون، ويصور الحفاوة السماوية والدنيوية به تصويراً متألقاً. والصورة الشعرية التي يتداخل فيها المُشاهَد والمحسوس من أكثر الصور تأثيراً؛ فالقرآن الكريم ببيانه المشرق وأسلوبه البليغ أشبه بالحديقة التي تتفتح أكمام الورد فيها عن بهاء وصفاء، واسم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مكتوب بأحرف هي الذّروة في جمال الخط وبهائه (واسم محمد طغراءُ) .
أما الرومانسيون الذين مثّلوا اتجاهاً جديداً في القصيدة العربية فقد شغفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- حُبّاً فقال قائلهم (وهو مهجري نصراني) جورج صَيْدَح:
أقبلتَ كالفجر وضّاح الأساريرِ يفيض وجهك بالنعماء والنورِ
فرُحت وليل الكفر معتكرٌ تفري بهديك أسداف الدياجيرِ
وتمطر البيد آلاءً وتمرعُها يُمناً يدوم إلى دهر الدهاريرِ
أبيْت إلاّ سمو الحق حين أبى سواك إلاّ سمّو البُطْلِ والزورِ
ولا نلمح في هذه الأبيات ما يميزها عن غيرها مما قال الشعراء المسلمون؛ فمحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- موضع إجماع؛ فـ «جورج صيدح» يرى في طلعته -صلى الله عليه وسلم- فجراً يفيض بالأنوار، يضيء الجبين الوضاح بالحق، ويصدع بأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ يبدّد الظلمات التي تكاثفت وحجبت الرؤيا، فالبركة أديم هطّال، والحق ناصع الجبين، وفلول الباطل مهزومة مولّية الأدبار، وهو يؤكد على معاني البركة والطهر والنبل والفضل والحلم والأخلاق والإجلال والتوقير:
بوركت أرضاً تبثُّ الطهرَ تربتُها كالطيب بثّته أفواه القواريرِ
الدين ما زال يزكو في مرابعها والنبل ما انفكّ فيها جدُّ موفورِ
والفضل والحِلْمُ والأخلاق ما فتئت تحظى بإجلال [ذي لُبٍّ] وتوقيرِ
أما شعراء القصيدة الحديثة فتبرز من بينهم الشاعرة «نازك الملائكة» في قصيدة حب صافية موجهة إلى نبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام:
وجاءني طائر جميل
وحطّ قربي
وامتصّ قلبي
صبّ على لهفتي السكينة
ورش هُدبي
براءة، رقّة، ليونة
وقلت: يا طائري! يازبرجد!
من أين أقبلت؟
أيّ نجم أعطاك لينه
يا نكهة البرتقال، يا عطر ياسمينه
وما اسمه الحلو؟
قال: أحمد.
وامتلأ الجو من أريج الإسراء. طعم القرآن
وامتد فوق إغماءة البحر ضوء
من اسم أحمد.
ويتضح في هذا النص مدى التّوق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصدى الحب المتغلغل في الأعماق عبر صور يتقاطع فيها الرمز مع البوح، وما هو مباشر مع ما هو سردي ووصفي؛ فالبراءة والرِّقة ونكهة البرتقال والياسمين وأريج الياسمين وضوء البحر كلها بضع نفحات من عبق النبوة. أما الطائر الجميل الذي امتصَّ قلب الشاعرة وأدخل إلى قلبها السكينة فهو رمز يمثل نسائم الأريج النبوي الطاهر.
أما الأعمال المسرحية التي عالجت السيرة النبوية المطهرة فقد كان منها مسرحية ألفها «محمد محمود زيتون» عام 1948م تحت عنوان «ميلاد النبي» ، وقد فازت بالميدالية الذهبية للتأليف المسرحي في مهرجان الأدب والغنى لوزارة المعارف بمصر، ثم كانت مسرحية «إلى الطائف» من تأليف الشاعر «محمد عبد الغني حسن» ، وقد أشار «محمد زيتون» إلى أنه يعتزم طبع مسرحية أخرى هي «الهجرة الغراء» . أما مسرحية «محمد» لـ «توفيق الحكيم» فهي أيضاً من الأعمال المسرحية المتميزة التي كتبت عن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهناك العديد من المسرحيات والملاحم التي كتبت معبِّرة عن أعمق مشاعر الحب لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ونحن إذ نستروح شذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما كُتِبَ عنه -صلى الله عليه وسلم- من أعمال إنما نستذكر عظمة هذا النبي الكريم، ونشير إلى تلك الاعتداءات الدنيئة التي تجرّأ بها رسام دانماركي حاقد على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد شهدنا كيف كان الغضب الإسلامي النبيل الذي امتدّ من البحر إلى البحر، ولم يستطع كبح جماحه أحد، ومع هذا فقول: إن التسامح هو أبلغ درس تلقيناه من رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فالغضب النبيل مشروع والمقاطعة مشروعة، ولكن التدمير والتخريب والاعتداء غير مشروع، وليس من سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.(223/47)
حقيقة الدور الإيراني في العراق بعد الاحتلال
د. محمد عياش الكبيسي
أثارت تصريحات وزير الخارجية السعودي (سعود الفيصل) ومن قبله تصريحات المسؤولين الأردنيين وعلى رأسهم الملك ـ عن الخطر الذي يتهدد هوية العراق ومستقبل المنطقة من الطرف الإيراني ـ أثارت تساؤلات كثيرة لا سيما أن تلك التصريحات كانت موجهة للأمريكان ومتهمة لهم بأنهم يسعون لتسليم العراق إلى إيران. بل وأكثر من هذا التصريح الذي نشرته السياسة الكويتية بتاريخ 3/3/2006م عن السيد عبد الله جول وزير الخارجية التركي تحت عنوان: (تركيا تحذر من مخطط إيراني للسيطرة على العراق وتصدير الثورة إلى الخليج) .ولتوضيح الصورة والإجابة عن تلك التساؤلات أورد ثلاثة محاور، هي:
3 المحور الأول: أمريكا وإيران خلاف أم وفاق؟
لا شك أن الذي يتابع مسيرة (الثورة الإسلامية) الإيرانية على يد الخميني والحرب الإعلامية مع الولايات المتحدة الأمريكية (الشيطان الأكبر) وقضية الرهائن الأمريكان الذي احتُجزوا من قِبَل (الطلاب السائرين على خط الإمام) الذي يتابع كل هذا لا شك أنه سيصل إلى أن هناك خلافات جوهرية بين الطرفين ليس من السهولة التقليل من شأنها، إلا أن بعض المراقبين سجّل في الاتجاه المعاكس مؤشرات أخرى قد تكون من الناحية العملية أقوى في الدلالة، ومن هذه المؤشرات:
أـ سكوت الإعلام الأمريكي المطبق حول قضية الجزر الثلاث المتنازع عليها بين إيران وبين دولة تُصنّف على أنها قريبة من الولايات المتحدة رغم المطالبات المتكررة لدولة الإمارات العربية من خلال مجلس التعاون الخليجي لاسترداد هذه الجزر.
ب ـ سكوت الأمريكان عن الوضع المأساوي الذي تعيشه الأقليات الإيرانية مثل السنَّة والأكراد والعرب والبلوش في ظل (الحكومة الإسلامية) ، بينما نذكر كيف استغلت هذه المسألة بالنسبة للشيعة ضد العراق.
ج ـ تعامل الأمريكان مع المعارضة الإيرانية المسلحة (مجاهدي خلق) والتي كان لها معسكرات معروفة داخل العراق، فبُعيد دخول الأمريكان اتجهت القوات الأمريكية إلى هذه المعسكرات وحاصرتها وأجبرتها على نزع سلاحها، مع أن هذه الميليشيا علمانية التوجه بخلاف الحكومة الإيرانية!
د ـ تخليص إيران من الجارتين اللدودتين (طالبان) في الشرق و (صدام حسين) في الغرب. نعم! ربما تكون هذه فائدة غير مقصودة من قِبَل الأمريكان. ولكن يبقى السؤال: هل كان (صدام) و (طالبان) أخطر على المشروع الأمريكي من إيران (الحكومة الإسلامية) ولماذا؟
هـ ـ تعامل الأمريكان مع الأذرع الإيرانية في العراق بعد الاحتلال؛ حيث لا يخفى أن جُلّ الأحزاب والمنظمات والميليشيات التي تعاونت مع الاحتلال وكانت رأس الرمح في غزو العراق كانت كلها مؤسسة ومدرّبة في إيران، مثل: المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (عبد العزيز الحكيم) ، وجناحه المسلح (فيلق بدر) ، وحزب الدعوة (إبراهيم الجعفري) ، وهؤلاء هم عصب النظام العراقي الجديد بعد الاحتلال، وحتى على مستوى المرجعيات الدينية قام الأمريكان بمساعدة الإيرانيين في تهميش كل المراجع الشيعية (العراقية) مثل: آية الله العظمى (فاضل المالكي) ، وآية الله (أحمد البغدادي) ، وآية الله (جواد الخالصي) ، وغيرهم كثير، وتم التعامل حصراً مع (آية الله السيستاني) وهو إيراني الجنسية فارسي الأصل لا يمتلك أي وثيقة عراقية، وقد أعلن رفضه للجنسية العراقية التي منحتها إياه الجمعية الوطنية الحالية التي يسيطر عليها الاتجاه (الشيعي الإيراني) ، وهذا بحسب ما أعلنته وسائل الإعالم الرسمية!! واليوم تعلن الولايات المتحدة وإيران الموافقة على إجراء مفاوضات مباشرة بخصوص العراق استجابة لدعوة المجلس الأعلى (عبد العزيز الحكيم) وهذا اعتراف صريح بأن إيران هي الفاعل الأقوى في المشهد العراقي. ونسجل هنا اعتراض التيار الصدري الذي يمثل القاعدة الأعرض (للتشيع العروبي العراقي) على هذه المبادرة كما هو حال هيئة علماء المسلمين وكل القوى العراقية الوطنية.
وـ وربما يُشْكل على كل هذه المؤشرات الأزمة الأخيرة حول (المفاعل النووي) ، ويمكن الجواب: أن الأمريكان يفكرون بالاستفادة من إيران ضمن سقف محدد لا يتعارض على الأقل مع سقف (الكيان الصهيوني) ، وربما لو كان أي نظام عربي آخر يفكر بما تفكر به إيران فسيواجه بقوة أشد حتى لو لم يكن إسلامياً، مثل: (صدام) و (القذافي) .
3 المحور الثاني: العراق وإيران:
لا شك أن حرب الثماني سنوات بين (عراق صدام) و (إيران الخميني) أذكت تاريخاً طويلاً من الصراعات المريرة تعود إلى أيام الفتح الإسلامي الأول والتي لا زال الإيرانيون يجاهرون بكراهيتهم لقادة هذا الفتح، انظر: (كشف الأسرار) للخميني، والذي يتهم فيه الصحابي الجليل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بالزندقة. ومن المراقبين من يُرجِع هذا الصراع إلى تاريخ (نبوخذ نصّر) الملك العراقي الذي تمكن من أسر أمراء اليهود و (كورش) الملك الإيراني مسيح اليهود ومحرّرهم من العراقيين.
لم يُخْفِ الإيرانيون رضاهم بما حصل للعراق على يد الأمريكان، ومنهم من أعلن أن العراق ما كان له أن يسقط بيد الأمريكان لولا مساعدة الإيرانيين.
فماذا تريد إيران من العراق اليوم؟ يمكن بهذا الصدد تسجيل الملاحظات الميدانية التالية:
1 ـ تسعى إيران بقوة لتكريس مبدأ (الفيدرالية) في العراق تحقيقاً لمصلحتها الإقليمية في عراق مفتّت ضعيف، والأحزاب الشيعية المرتبطة بإيران هي التي أصرت على هذ المبدأ رغم أنهم يدّعون تمثيل الأغلبية (الشيعية) في العراق، والمتعارف عليه أن الأقليات هي التي تتوجس من الحكومة المركزية القوية ولذلك تلجأ إلى (الفيدرالية) لحماية ذاتها وخصوصيتها؛ وعلى هذا فحينما يطالب الأكراد بـ (الفيدرالية) تكون مطالبتهم مفهمومة، أما أن تطالب الأكثرية بهذا فمعنى ذلك أن هذه الأكثرية إما أنها أكثرية وهمية، أو أنها تعمل لصالح أطراف أخرى.
2 ـ تسعى إيران بقوة ومن خلال التنظيمات الموالية لها أيضاً لتهجير العوائل السنية من بغداد، ومن منطقة (المدائن) التي فيها (إيوان كسرى) بشكل خاص، والذي يذكّر بأيام الاحتلال الفارسي للعراق قبل الإسلام، كما أن الحكومة العراقية الحالية لم تُخْفِ رغبتها في تغيير محيط بغداد (ذي الأغلبية السنّية) ؛ حيث صرّح موفق الربيعي (مستشار الأمن القومي) : أن بغداد لا يصح أن تبقى محاطة بالإرهابيين، وموفق هذا هو كما يقال (كريم شاهبور) . ولتحقيق هذه الغايات قامت وزارة الداخلية والميليشيا المرتبطة بها بحملات قتل وتعذيب وتشويه للجثث في هذه المناطق، ولم يعد الأمر خافياً بعد اكتشاف (السجون السرية) و (فرق الموت) واعترافات مدير (مشرحة بغداد) الذي أعلن عن وصول أكثر من سبعة آلاف جثة عليها آثار التعذيب، وقد فرّ إلى خارج العراق. وكان من المضحك أن تجيب الحكومة رسمياً: أن هؤلاء الذين يقومون بهذه الجرائم هم رجال يرتدون ملابس وزارة الداخلية، ويستخدمون سيارات وزارة الداخلية؛ لكنهم غير منتسبين فعلاً لهذه الوزارة.
تجدر الإشارة إلى أن وزير الداخلية هذا هو (بيان صولاغ جبر) المعروف بأنه أحد قياديي فيلق بدر الذي أشرفت على تأسيسه وتجهيزه المخابرات الإيرانية، والذي اعترف بالاشتراك مع القوات الإيرانية في قتالها للعراقيين إبَّان حرب الثماني سنوات، واليوم يفاخر بأنه يعمل جنباً إلى جنب مع القوات الأمريكية في ضرب المقاومة العراقية والمعارك الكبرى التي دارت في الفلوجة والنجف وسامراء.. إلخ، شاهدة على ذلك.
3 ـ موقف إيران من المقاومة العراقية: كان يفترض بإيران أن تستثمر المقاومة العراقية لصالحها في صراعها المعلن مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الذي يجري على الأرض بخلاف هذا تماماً؛ حيث إن الذي يقوم باعتقال أفراد المقاومة أو المشتبه بعلاقته مع المقاومة هم الأذرع الإيرانية المعروفة، وحتى خطباء المساجد الذي يحثون الناس على الصمود يتم اعتقالهم وقتلهم بطريقة بشعة، وهناك إحصائيات كثيرة في هذا، وبعض الذي أُفرِج عنهم صرّحوا أن بعض ضباط التحقيق كانوا يتكلمون الفارسية، وقد يقال: إن هذا بدافع طائفي، ولكن الحقيقة أن موقف إيران هذا لم يختلف كثيراً عن موقفها من مقاومة (الصدر) في النجف وبغداد والبصرة.
حيث اشتركت القوات الموالية لإيران مع القوات الأمريكية في محاصرة الصدر، وبقيت إيران تمارس الضغط على مقتدى الصر حتى أعلن أخيراً عن انضمامه للمشروع السياسي تحت قائمة الائتلاف التي يقودها (عبد العزيز الحكيم) !! وبهذا يكون موقف إيران من المقاومة لا يقل خطورة عن موقف الأمريكان أنفسهم!! إلا أن هناك فارقاً واحداً يضاعف من خطورة إيران ألا وهو أن الاحتلال الأمريكي مُدانٌ عربياً وإسلامياً وحتى عالمياً، أما إيران فإنها تقوم بكل ما تقوم به وهي في وضع مريح جداً، حيث إنها أمنت من أيّ ردة فعل عربية أو حتى سنّية؛ وذلك للأسباب التالية:
1 ـ إن الحرب الإعلامية بين إيران وأمريكا والتهديدات التي يطلقها الرئيس الإيراني الجديد ضد الكيان الصهيوني جعل من الصعب إدانة الإيرانيين؛ لأن إدانتهم تعني الاصطفاف مع الإمبرالية الأمريكية، وبهذا يتم التغاضي بل وعدم الرغبة أصلاً في بحث حقيقة الدور الإيراني في العراق والمنطقة.
2 ـ إن الحركات الإسلامية والواجهات العلمية لا تريد أن تظهر بالمظهر الطائفي، وقد ظهر هذا جلياً في الأحداث الأخيرة؛ حيث سارعت تلك الحركات والواجهات بإدانة تفجير مرقد الإمامين (علي الهادي والحسني العسكري) في سامراء، بينما تغاضوا عن هدم مائتي مسجد من مساجد السنَّة وحرق المصاحف التي تناقلت صورها الكثير من وسائل الإعلام.
3 ـ إن إيران تساعد بعض الحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، وإن كنا لا ندري حجم هذه المساعدات، لكن من الواضح أن هناك لقاءات رسمية متكررة، ومن هذه الناحية قد يُفهَم موقف هذه الحركات؛ لكن المفكرين والسياسيين في طول العالم الإسلامي وعرضه عليهم أن يسألوا الإيرانيين عن سرّ دعمهم لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين ومحاربتها للمقاومين في العراق، بل وتعظيمها وتمجيدها بالذين تحالفوا مع المحتل الأجنبي حتى صرنا نسمع من الإيرانيين وحتى من بعض اللبنانيين مصطلح (شهيد المحراب) على محمد باقر الحكيم، وهو الذي لعب دوراً خطيراً في تسليم العراق للمشروع الصهيوني الأمريكي.
إن هذا التساؤل لن يؤثر على مستقبل الحركات المدعومة من إيران، بل ربما ستجد إيران أفضل ردّ على هذه التساؤلات هو دعمها المباشر لهذه الحركات التي اكتسبت شرعية عامة في الأوساط العربية والإسلامية، وبنفس الوقت تحقق هذه التساؤلات هدفها في الضغط على إيران لتخفيف حملتها ضد العرب السُّنّة والمقاومة بصورة خاصة.
وإذا كان البعض يفضّل السكوت مراعاةً لمصلحة تلك الحركات من مواجهة العدو المشترك (المشروع الصهيوني الأمريكي) فإن تقارير المقاومة العراقية تؤكد أنه لولا الدور الإيراني المتحالف مع الأمريكان لتمكنت المقاومة العراقية من كسر هذا المشروع مبكراً، ولأعلنت أمريكا عن فشلها في العراق، وهذا بلا شك سيترك تداعيات مفصلية في مستقبل تلك الحركات المقاومة بل والمنطقة والعالم كله.
وأخيراً:
فإذا كانت نتيجة هذه المواقف للجارة الكبرى إيران ستكون باتجاه تسليم العراق للمشروع الصهيوني الأمريكي أو انتزاع العراق من حضنه العربي لصالح الإمبراطورية الإيرانية الكبرى أو تقاسم الكعكة فلأمريكا النفط، ولإيران الهوية؛ فإن الخاسر الأكبر هو الأمة العربية والإسلامية.
إن المطلوب من الأمة اليوم أن لا تدسّ رأسها في الرمال بدوافع عاطفية أو مصلحية ضيقة، بل عليها أن تبحث عن الحقيقة كما هي لاتّخاذ الموقف الصحيح، وربما تكون هذه المواقف أوراق ضغط مناسبة لإجبار الإيرانيين على التراجع والاصطلاح مع المشروع الكبير للأمة، في حين أن السكوت واتخاذ المواقف الخجولة والمترددة قد يغري إيران بالاستمرار في طريقها هذا بحيث يصعب عليها فيما بعد مجرد التفكير بالتراجع أو التعديل.
__________
(*) ممثل هيئة علماء المسلمين في الخارج.(223/48)
المدن السنية العراقية والاستراتيجية الأمريكية
إبراهيم العبيدي
أصبح من الواضح لكل متابع للقضية العراقية، أن الاستراتيجية الأمريكية ومعها الحكومة العراقية برئاسة (الائتلاف الشيعي) في العراق، تقوم على سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية للمدن السنية، والتهميش المتعمد للسنة العرب لمنعهم من المشاركة السياسية الفاعلة، والحيلولة دون ممارستهم دورهم السياسي الحقيقي المفترض في العراق الجديد. ويبدو أن هذه الأستراتيجية قد تم الاتفاق عليها بين قوات الاحتلال الأمريكي والأحزاب الرئيسية في الائتلاف الشيعي كالمجلس الاعلى للثورة الإسلامية بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة بقيادة إبراهيم الجعفري، وبغطاء من المرجعية العليا في النجف والمتمثلة بالمرجع الديني (علي السيستاني) وبدعم إيراني مطلق قبل وبعد سقوط بغداد في التاسع من نيسان 2003م.
لقد تلاقت مصالح الشيعة الموالين لإيران مع المصالح الأمريكية في احتلال العراق؛ لذلك فقد أبدى الشيعة تعاوناً مطلقاًَ مع القوات الامريكية لتسهيل مهمة احتلال العراق. (وهو الدور التاريخي نفسه المعروف الذي قام به ابن العلقمي نصر الدين الطوسي الوزير العباسي في سقوط بغداد على يد التتار آنذاك) مقابل تأمين نفوذهم في العراق الجديد، وتحقيق مكاسب سياسية للشيعة «الصفويين» الموالين لإيران، لتعيد إيران إمبراطوريتها الفارسية الصفوية في بلاد الرافدين والخليج، بما يُعرف بـ (الهلال الشيعي) .
إن استخدام القوة المفرط الذي تنتهجه القوات الأمريكية والقوات العراقية في معالجة ما يسمى بـ «الإرهاب» والمحصور في المناطق السنية تحديداً أمر مثير للريبة والقلق؛ حيث إن من المعلوم أن معالجة الإرهاب في كل العالم وكما نسمع ونشاهد، تتم من خلال معلومات استخباراتية ترصد خلايا الإرهاب، ومن ثم يتم القبض عليهم أفراداً أو جماعات من قِبَل الأجهزة الأمنية المتخصصة، كما حصل ذلك في كثير من دول العالم، ومن دون اللجوء إلى عمليات عسكرية واسعة النطاق، يروح أكثر ضحاياها من المدنيين الأبرياء.
إن استخدام القوة العسكرية الكبيرة، واستخدام المسموح وغير المسموح من الأسلحة التي يساندها القصف بالطائرات والمدافع والدبابات، لتتحول بعدها مدن بكاملها أثراً بعد عين، ويتم قتل وتشريد آلاف العوائل كما حصل لمدينة الفلوجة في العام الماضي؛ حيث تم قتل أكثر من 3500 مدني، وتشريد أكثر 200000 شخص، وتدمير أكثر من 15000 وحدة سكنية وعشرات المساجد، وتدمير البنى التحتية للمدينة بأنواعها: الكهرباء والماء والصحة والصرف الصحي.. (بحسب إفادات منظمات إنسانية عراقية) . بعد كل هذا التدمير الشامل (وكما وصفته الصحافة الغربية بأنه أكبر عملية تدمير للمدن حصلت بعد الحرب العالمية الثانية) يطالعنا يومها القادة الميدانيون الامريكيون والسياسيون في (حكومة علاوي) ، من أن الارهابيين تمكن كثير منهم من الهروب خارج الفلوجة إلى مدن أخرى.
وهكذا يتم ويتواصل مسلسل الإبادة الجماعية والتدمير لمدن اخرى، على غرار ما حصل لمدينة الفلوجة، ومدينة تلعفر، والتدمير متواصل في جميع المدن السنية كالرمادي، وسامراء، والموصل، والقائم، وحديثة، وعانة، واللطيفية، وأبو غريب، ومناطق جنوب بغداد إلى غيرها من المدن السنية التي تشهد مقاومة ضد قوات الاحتلال لإخضاعها؛ فالمدن السنية تخضع لخطة إرهاب دولة منظم من قِبَل الحكومة العراقية وقوات الاحتلال.
- الجانب الشيعي:
دوافع الجانب الشيعي في حرق المدن السنية في العراق هي دوافع «طائفية حاقدة» تنطلق من موروث ثأري تأريخي مغلوط ضد أهل السنة، منذ العهد الراشدي وحتى اليوم، يتوارثونها حاقداً عن حاقد للطعن في الإسلام وحَمَلته من العلماء والخلفاء، وإليك نموذجاً من امتداد هذا الحقد المتواصل الدفين ضد أهل السنة، تلك الكلمات والتصور والعقيدة والاستراتيجية التي عليها القوم، أطلقها مدوية نهاراً جهاراً «علي كريمي» أحد المرجعيات الشيعية في خطبة جمعة ألقاها في قم الإيرانية بعد سقوط بغداد مباشرة في 9/ 4 / 2003، والتي يحرض فيها على قتل أهل السنة بقوله: «اليوم يا أهل الشيعة في العراق.. يا خاصة علي وفاطمة! بعد أن استعيد ملككم المغتصب وحقكم المستلب عليكم أن توقفوا الزحف السني البكري العمري الأموي والوهابي إلى بغداد.. عليكم أن تنتهكوا أعراضهم مثلما انتهكوا أعراضكم أيام صدام - على حد زعمه - عليكم أن تشردوهم وتقتلوهم كما قتلوكم وشردوكم.. شدوا على أيدي إخوانكم من فيلق بدر وساندوهم في إتمام مهمتهم في القضاء على كلاب السنة الوهابية أولاً ثم عامتهم من الجِراء - أي صغار الكلاب ـ كبيرهم كافر وصغيرهم زانٍ» .
وبحسب وزارة الثقافة والإعلام العراقية ووزيرها المعين مفيد الجزائري، أن ما مقداره 500 ألف كتاب ديني دخل العراق من إيران، ذكر انها تحمل فكراً معادياً لما أسماه: (أهل العامة) والمقصود به أهل السنة في العراق؛ وكان من أهمها خطبة المرجع الديني (علي كريمي) التي أشرنا اليها. فهل هذه هي استتراتيجية الحكومة العراقية الموجهة من إيران في كيفية محارية أهل السنة وتحقيق الأهداف الطائفية في العراق والمنطقة؟
- أقوال وإفادات دالة:
- ما صرح به وزير الداخلية العراقي (بيان جبر صولاغ) «الإيراني الاصل» في مؤتمره الصحفي أثناء الحملة العسكرية على مدينة القائم قبل فترة قال: «نحن مستعدون أن نتعاون مع الشيطان لمحاربة الإرهاب» والإرهاب كما هو معلوم في نظره هم السنة العرب بكل أطيافهم وتوجهاتهم؛ والواقع الممارَس يدل على ذلك.
فحملات الاعتقال (أكثر من مائة ألف سجين سني في السجون العراقية والأمريكية، بحسب إفادة نائب رئيس الوزراء العراقي «عبد مطلك الجبوري» أثناء مساعيه للإفراج عن المساجين) والاغتيال والإقصاء الوظيفي التي طالت أبناء السنة العرب ورموزهم أكبر شاهد على الممارسة الطائفية لهذه الحكومة.
- الدكتور طارق الهاشمي أمين عام الحزب الاسلامي العراقي «السني» في برنامج (بلا حدود) عبر قناة الجزيرة الفضائية مؤخراً، قد أشار إلى ما تتعرض له المدن السنية، والسنة العرب تحديداً، من ممارسات قمعية من قِبَل الحكومة العراقية والقوات الامريكية، ووصفها بحرب إبادة وبالتطهير العرقي الذي وقع في يوغسلافيا في الحرب الأخيرة. وهذا الموقف تؤكده كل المرجعيات السنية الكبيرة مثل الوقف السني، ومؤتمر أهل العراق، وهيئة علماء المسلمين، ومجلس الحوار الوطني.
- وحتى الزعيمان الكرديان مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان، وجلال الطالباني رئيس الجمهورية، في مذكرتهما الأخيرة إلى رئيس الوزراء (إبراهيم الجعفري) التي هدد فيها الزعيمان الكرديان بإنهاء التحالف مع كتلة «الائتلاف» الشيعية إذا لم يطبق الاتفاق الذي وقّعه مع «التحالف الكردستاني» الذي مهد لتشكيل الحكومة، وطالباه بوضع حد لـ «الجرائم الكيفية بحق السنّة العرب» .
- الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في تقريره له إلى الأمم المتحدة قال: «إن حق المدنيين العراقيين في الحياة راح ضحية عوامل مثل الإرهاب والجريمة والتجاوزات العسكرية» .
وأضاف: «إنه فضلاً عن هجمات المسلحين فإن هناك قلقاً متزايداً بشأن العمليات العسكرية التي تنفذها القوة المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة والتي أفضت إلى حدوث وفيات وإصابات وتشريد بين المدنيين بسبب استخدام القوة بشكل مفرط أو يفتقر إلى التمييز فيما يبدو» .
- والذي يعزز هذا التوجه الأمريكي في استخدام القوة المفرطة ضد المناطق السنية في العراق، هو مطالبة الإدارة الشديدة في اجتماع الجمعية العمومية الأخير للأمم المتحدة، على حذف عبارة: «إن الهجمات على المدنيين تعتبر عملاً إرهابياً» من وثيقة مكافحة الإرهاب، وهو دليل قاطع على تبييت النية على استباحة المدنيين.
فكم تبجحوا هم وأعوانهم في الحكومة العراقية الطائفية بجرائم صدام ضد العراقيين، وهاهم اليوم يحاكونه في البطش العشوائي بالمدنيين الأبرياء، فعلوها من قبل بالفلوجة وتلعفر ويفعلونها الآن في مدينة حديثة من المنطقة الغربية، وأنجزوا من القتل والتدمير في سنتين ونصف أكثر مما أنجزه صدام بأكثر من ثلاثة عقود، أنها فعلاً تكنولوجيا الديمقراطية الحديثة؛ فهل ذهب صدام الفرد ليحل محله صدامون كثر؟ إنها فعلاً أمُّ المهازل.
- وآخرها التصريحات الخطيرة من الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في مؤتمره بمقر السفارة السعودية في نيويورك؛ حيث شخَّص الواقع العراقي بالطائفي الخطير بقوله: «إن السياسة الأمريكية في العراق عمقت الطائفية، وسلمت العراق لإيران» في إشارة إلى النفوذ الإيراني الكبير في جنوب العراق، وتسليح المليشيات الشيعة الموالية لها. وهذا التشخيص للواقع العراقي قد لاقى ترحيباً وتأييداً كبيراً في وسط العرب السنة والتشكيلات الوطنية الأخرى في العراق، وعلى رأسهم الحزب الإسلامي العراقي وهيئة علماء المسلمين والوقف السني ومؤتمر الحوار الوطني وغيرهم. بالإضافة إلى الترحيب الإقليمي العربي، ولا سيما في دول الجوار العراقي والجامعة العربية، والتي على أثرها سيتم عقد مؤتمر مصالحة وطنية شاملة لكل مكونات المشهد العراقي تحت مظلة الجامعة العربية، وهو إنجاز كبير ولا شك «إذا ما تم» للجامعة العربية بخصوص القضية العراقية بعد سبات طويل. يأتي ذلك بعد ان أيقنت قوات الاحتلال الأمريكي والحكومة العراقية أنهما في مستنقع كبير، وأن الحل الأمني القمعي والعسكري لم يفتَّ في عضد العراقيين المقاومين، ولم يحقق شيئاً من الأمن والاستقرار على الأرض، وأنه وصل إلى طريق مسدود في العراق، ولا بد من حلول سياسية تلبي طلبات الشريحة الأكبر من الشعب العراقي الرافض للاحتلال وسياساته.
- الجانب الأمريكي:
أما دوافع القوات الأمريكية في حرق المدن السنية فهي دوافع «سياسية عسكرية» ؛ فكما لا يخفى أن الطرف السني العربي لم يكن شريكاً فعلياً في مؤامرة احتلال العراق، كما هو حال الطرف الشيعي والكردي العلماني في (مؤتمر لندن وصلاح الدين) فمنذ ذلك الوقت وُضع العرب السنة خارج اللعبة لعدم انسجامهم مع المشروع الاستعماري الجديد للعراق، وأن المقاومة الوطنية المسلحة قد انطلقت شرارتها من المدن السنية، وهو الأمر الذي جعل من العرب السنة هدفاً مباشراً لقوات الاحتلال والحكومة العراقية الشيعية العميلة لها. فأصبح السنَّة العرب والقوى الوطنية الأخرى المناهضة للاحتلال حجر عثرة أمام المشروع الأمريكي - الشيعي في العراق.
فهل سيبقى العرب السنة وحدهم يدفعون ضريبة مواقفهم الوطنية، في مقاومة الغزاة، والدفاع عن هوية العراق التاريخية والإسلامية ووحدة أرضه وشعبه من دون أن تمتد إليهم يد العون والمساعدة من إخوة الدين والعروبة لنصرتهم؟(223/49)
العراق الحرب الأهلية مأساة لكنها ليست مفاجأة!
ربيع الحافظ (*)
هل يطلق على ما يحدث في العراق حرباً أهلية؟ هل في ذلك مفاجأة للعراقيين؟ متى يدخل مصطلح «الحرب الأهلية في العراق» في قاموس الإعلام العربي لوصف ظاهرة قتل ألف شخص في الشهر الواحد في مدينة بغداد وحدها؟
يبدو أن هذه التساؤلات ستأخذ بعض الوقت قبل أن تجد إجابات واثقة. القضية الأخرى، هي أنه لم يتبقَّ ما يمكن إضافته إلى ما لاكته ألْسُنُ النقاد والمحللين السياسيين على مدى ثلاثة أعوام، وهم يحاولون دون جدوى وضع بضعة نقاط على حروف خرساء في عناوين تاريخية كبيرة صامتة.
تبدو الذاكرة الجماعية للشعوب أقصر الطرق إلى الإجابات الواثقة. فلا زالت الأمهات والزوجات العراقيات يذكرن ويردّدن الروايات التي كان يعود بها أبناؤهم وأزواجهم المعتقلون في إيران إبّان الحرب، ومعاناة الأسير، السنّي على وجه التحديد، في معسكرات الأسر، وبرامج التعذيب المنظم لانتزاع الاعترافات والبوح بمعلومات حساسة عن وطنهم، وعن أسماء العلماء والقادة العسكريين، وإرغام «المشاكسين» منهم على السير فوق حقول الألغام، أو ربط الأرجل بسيارتين تسيران باتجاهين متعاكسين.
في هذه المعسكرات كان يضطر الأسرى إلى طمس الهوية المذهبية، وإخفاء أسماء عمر ومروان وعثمان، والتحدث بلهجة تبعد الدلالة عن المدينة أو القرية التي ينتمي إليها، ويخضعون إلى برامج التشييع القسرية.
ليس لدى العراقيين شك في أن الصدور المتقيحة بالطائفية والشعوبية كانت الدافع وراء الجرائم التي كانت ترتكب على أرض إيران، وأن الفاعل كان فيلق بدر، التابع لما يسمى «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» ، الذي أسسته وموّلته وسلّحته إيران، ومرشده الروحي عزيز الحكيم الطباطبائي، الفارسي النسب، وحفيد المير علي بن مراد بن شاه، الطبيب الخاص للشاه عباس الكبير الصفوي، الذي غزا بغداد في عام 1623 وحوَّلها إلى حَمَّام دم، ووزّع دفاتر لتقييد أسماء أهل السنَّة في بغداد بقصد قتلهم جميعاً، وجعل من جامع أبي حنيفة إسطبلاً لخيوله.
هذا ما تقوله لنا ذاكرة العراقيين. السؤال: أين وجه المفاجأة فيما يحدث اليوم؟
في 9 أبريل 2003 عَبَرَ فيلق بدر الحدود الإيرانية إلى داخل الأراضي العراقية، واستبدلت عناصره لباسها ببزات نقش على أكمامها رمز (IP) ، التي تعني الشرطة العراقية، وزودت الحكومةُ الجديدة الفيلق سيارات تحمل شعار «وزارة الداخلية» ، وأصبح قائد الفيلق الإيراني الأصل، والمنتحل نسباً عربياً، نائباً عن الشعب في المجلس الوطني.
أصبح فيلق بدر مرة أخرى وجهاً لوجه مع ضحاياه السابقين، ومع الآخرين الذين لم يقعوا في الأسر، ومع الطيارين الذين حجبوا بطائراتهم الشمس في سماء قُمْ وطهران، ومع العقول التي أنشأت التصنيع العسكري، وصنعت الصواريخ وأبدعت، والذين انتزعت أسماؤهم في معسكرات تحت التعذيب، وحُفظت في دفاتر لمثل هذا اليوم.
- ماذا عسى أن يحدث؟
عادت عناصر فيلق بدر لتستأنف المعركة التي ابتدأتها على أرض إيران، وبأيديهم دفاتر الأسماء، يدورون بها كساعي البريد على المنازل، ويبثون الرعب في ساعات منع التجول، وينقضُّون على العلماء والمهندسين ونسور الجو وهم رابضون على الأرض.
أجواء معتقلات الأسرى انتقلت إلى بغداد، وفي بغداد اليوم مناشير توزع تحت عنوان: «تظاهر بالتشيع لتنجو من الخطف والتعذيب والقتل» ، ترشد العربي السني إلى كيفية إخفاء هويته ومذهبه، واستعارة أسماء تدفع الشبهة المذهبية، وتعلّمه ألفاظ سبّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وبني أمية المعتمدة عند الصفويين، وشيئاً من الطقوس الشيعية، والاحتفاظ في داره بعلم أسود، اتقاءً من أذى الميليشيات الطائفية، ونجاة بنفسه من الخطف والقتل.
شعوبية الميليشيات الطائفية ليست محلية، وسيسجل التاريخ أن مخيمات الفلسطينيين في الحقبة الصفوية من تاريخ شعوبنا لم تعد على حدود فلسطين، بل على أطراف بغداد الصفويين (عذراً بغداد فأنتِ العربيةُ المسلمةُ أبداً) ، يسامون العذاب بالنيابة عن الجار الصهيوني الجديد، ليس بعيداً عن بابل التي نجت من الدمار المغولي ولم تنج اليوم، والتي كان نبأ تدميرها حبة مهدئة للذاكرة اليهودية المتوترة من الخطر الشرقي.
ما يذوقه فلسطينيو العراق ذاقه قبلهم المهجَّرون من أصول فارسية، الذين أبعدهم العراق قبل الحرب مع إيران. لم ينسَ أولئك سوء المعاملة التي قابلتهم بها إيران، ولم يشفع لهم نسبهم الفارسي وحقيقة أنهم شيعة، وكان لسانهم العربي وتلوُّث دمائهم الفارسية بالدماء العربية من خلال المصاهرات، المعصية التي جعلت منهم عرقاً محتقراً، وأخرجتهم من الفردوس الفارسي. وكانت غربة وكآبة منافي أسكندنافيا أهون على أنفسهم من التمييز العرقي الذي لاقوه من «ذوي القربى» .
عودة ثانية إلى الذاكرة الجماعية: ما فعله الإيرانيون ووكلاؤهم المحليون بعد أحداث سامراء، وحرقهم المساجد، والقتل العشوائي للعزّل من السنة، كانوا قد فعلوا مثله إبّان ما يسمى بالانتفاضة الشعبانية، التي اندلعت بعد حرب الخليج الثانية 1991، يوم أن اندفع عشرات الألوف من الحرس الثوري الإيراني و «إطِّلاعات» (المخابرات الإيرانية) إلى المدن العراقية، وعلت استغاثات الناس من هول المذابح على أساس المذهب واللهجة ولون البشرة.
تفادي مفاجآت إيران المتعبة ليس أمراً متعباً؛ إنه قراءة إيران، وقراءة نظامها السياسي الذي أتى به انقلاب 1500م القومي - المذهبي غير الأبيض، الذي أخرجها من دائرة الحضارة العربية الإسلامية، وجعل منها الخروف الأسود في القطيع الأبيض. الانقلاب الذي جعل من يابسة أرض فارس وموانئها وسمائها موطئ قدم للقوى الأجنبية، ومنطلقاً للصراع الطائفي في المنطقة.
إن شعوب المنطقة التي ما عرفت منذ ذلك الانقلاب طعم الراحة والاستقرار، مطالبة تحت استراتيجية إقليمية للحصانة الثقافية والفكرية، بالابتعاد عن التسطيحات، والتعرف على المقدمات المبكرة لتكوُّن هذا النظام، وطبيعته الباطنية، كيف يفكر ويخطط، ما هي أوراقه، وبمن يستعين. (يقول ديبلوماسي غربي مختص بالشؤون الإيرانية: إن التفاوض مع الإيرانيين أشد صعوبة من اقتلاع ضرس من دون مخدِّر) .
إن إيران منكشفة اليوم، واستغاثات الشعوب والمذاهب والأقليات من داخل أسوارها مسموعة على مسافات بعيدة، وقضاياهم منشورة ومتيسرة، وتنتظر اليد التي تمتد إليها، وتركّب منها مَصْلاً فكرياً مضاداً للفيروس الصفوي، الذي يَعْبُرُ الحدود دون مصدّ، ويغزو الشعوب دون رقيب، مثلما تفعل إنفلونزا الطيور القاتلة.
لن يفهم إيران ويسقط ورقتها الطائفية الشعوبية ويتقي متاعبها، من لا يتعرف على سجل علاقاتها مع جيرانها، والهامش الذي تبيحه لنفسها من وسائل الإيذاء معهم جميعاً (باستثناء الهند) ، بصرف النظر عن لافتتها السياسية (صفوية، قاجارية، بهلوية، حوزوية) ، ويتعرف على طرائقها في الخنق الفكري، وتفكيك الهويات غير الفارسية، وغير الشيعية، بل والشيعية ما دامت أنها غير فارسية، وحتى الفارسية منها إن استوحت التشيع من خارج أسوار الكنيسة الصفوية (اللفظ للمفكر الراحل الدكتور علي شريعتي) .
من دون هذه المعرفة، ستتوالى المفاجآت على العرب، ولن يخرجوا من الثمالة السياسية، وصدق الله العظيم: {سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} [الحج: 2] .
__________
(*) معهد المشرق العربي وإيران.(223/50)
«الحرية الدينية» ... رأس الحربة الجديدة
د. عبد العزيز كامل
لم يكد العالم الإسلامي يفيق من إحدى صدمات صِدَام الثقافات، وأكثرها استفزازاً واستغضاباً، وهي قضية الرسوم الفاجرة التي تطاول بها الدانماركيون، ومعهم معظم الأوروبيين والغربيين على شخص رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- حتى تفجرت قضية أخرى لا تقل خطورة في مدلولاتها، وإن كانت أقل في تفاعلاتها، وهي قضية الهجوم على شريعة الإسلام تصريحاً أو تلميحاً من معظم دول الغرب باسم «الحرية الدينية» ، بمناسبة تفاعل قضية الرجل الأفغاني الذي ارتد عن الإسلام، ودخل في النصرانية.
لقد كان من الممكن أن تمر قضية هذا المرتد عن الدين، كقضايا العديد ممن يرتدون بأشكال وأنواع من الردة كل يوم دون أن يأبه بهم أحد، ولكن تلك القضية أخذت أبعاداً أخرى عقائدية وحضارية وقانونية وسياسية؛ لا ينبغي أن تمر مرور الكرام. وملخص قضية ذلك المرتد ويدعى: (عبد الرحمن عبد المنان) هو أنه كان يعمل مع إحدى المؤسسات الإغاثية التنصيرية في مدينة بيشاور بباكستان عام 1990م، أي في ذروة الجهاد الأفغاني ضد الروس، فتنصر راغباً عن التوحيد إلى التثليث، ثم سافر بعد ذلك بثلاث سنوات إلى ألمانيا، محاولاً الحصول على لجوء سياسي لينجو من ملاحقة المجاهدين، لكنه لم يفلح في الحصول على هذا اللجوء، ولم يفلح أيضاً في الحصول عليه من بلجيكا، وبعد عشر سنوات من الإقامة كافراً بين الكفار، عاد إلى أفغانستان عام 2003، بعد سقوط حكومة طالبان، وبدأ يُعلن ردته، فطلبت زوجته الفراق منه، واحتدم الخلاف بينهما حينما طالب المرتد بضم بناته إليه ليكُنَّ معه في دينه ودنياه الجديدة، وظل الخلاف بينهما مدة ثلاث سنوات، ثم رفعت الزوجة أمرها للقضاء الأفغاني، الذي لا يزال بعض قضاته متوهمين أنه يمكن لهم الرجوع لأحكام الشريعة في القضاء والحكم في ظل الاحتلال.
حتى تلك المرحلة؛ كان الأمر يبدو وكأنه مجرد مقاضاة في قضية أشبه بالأحوال الشخصية بين زوجين، إلا أن الدول الغربية أعطتها بُعداً آخر، بعدما قرر القاضي الأفغاني محاكمة المرتد على شأن الردة الذي هو أخطر من المظلمة الزوجية، لكن الرجل أصر على أنه التحق بالنصرانية مختاراً، ولن يتحول عنها ... ومن حينها؛ خرجت القضية إلى العالم، على أنها اعتداء على «الحرية الدينية» وشاء بوش وحلفاؤه أن يجعلوا منها سلاحاً حديثاً في الحرب العالمية على الإسلام.
تحت هذا العنوان «الحرية الدينية» التي تعد الوجه الاعتقادي في الليبرالية الغربية؛ بدأت الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب في خوض حملة مكثفة للإفراج عن المرتد، قبل أن تبدأ محاكمته أو حتى استتابته!
وبدأ الرجل يظهر في وسائل الإعلام الغربية وبيده نسخة خاصة من الإنجيل، مكتوبه بلغة محلية لأغراض التنصير، وبدأت في موازاة ذلك حملة عالمية لنصرة ذلك المرتد، احتفت بها وسائل الإعلام الدولية، ولم تحفل بها كثيراً وسائل الإعلام العربية والإسلامية رغم خطورتها وحساسيتها، ولا ندري لماذا كان هذا التجاهل؟!
الحاصل أن الحملة بدأت بسرعة كبيرة، ولكنها انتهت وطويت بسرعة أكبر، لا لأن الغرب أراد حسمها عاجلاً لتفادي المزيد من (صدام الثقافات) ؛ ولكن لأن «الخصم» رفع الراية البيضاء مبكراً، قبل أن تحتدم المباراة الأحدث داخل حلبة الصراع الحضاري!
صدر الكثير جداً من الكلمات والتصريحات على ألسنة الزعماء السياسيين والكتاب والمفكرين في الغرب باسم (الحرية الدينية) مع القليل جداً أو النادر من جانب الزعماء السياسيين والكُتَّاب والمفكرين في الجانب العربي والإسلامي، مع أن جوهر القضية متعلق بأصل التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وليس مجرد الحكم على مارق عنها خارج عليها يعلم الجميع أنه لن يُنفذ.
3 تدخَّل جورج بوش ـ شخصياً ـ بوصفه رئيساً للولايات المتحدة «زعيمة العالم» ، ليثبت مرة أخرى أن الولايات المتحدة ماضية في حربها للإسلام عقيدة وشريعة، وقال في خطاب له في ولاية فرجينيا: «إنني منزعج جداً لسماعي أن شخصاً تحوَّل عن الإسلام قد يعاقَب على ذلك، هذا ليس بالتطبيق العالمي للقيم التي تحدثنا عنها» .. «من المزعج للغاية، أن بلداً ساعدناه على التحرر يعاقب شخصاً لاختياره ديناً آخر» .. «إن لدينا نفوذاً في أفغانستان وسنستعمله، لنؤكد لهم أن هناك قيماً عالية يجب احترامها» !!
هذا بعض ما صرح به بوش، لكن الذي لم يصرح به؛ هو أن «التحول عن الإسلام» على حد وصفه هو أحد الأهداف الرئيسية التي لأجلها فتحت أبواب التنصير في أفغانستان وفي غيرها، في الوقت الذي أغلقت فيه الأبواب أمام الجمعيات الإسلامية الخيرية الإغاثية في كل مكان.
وما لم يصرح به أيضاً.. هو أن ما سماه «التطبيق العالمي للقيم التي تتحدث بها أمريكا» يهدف إلى أن تمنح الدول الإسلامية كل الحق لأي مسلم ـ من ناحية قانونية ـ أن يعتنق أي دين غير الإسلام، وأن يدعو إليه، وألا تعرقل أي حكومة جهود أي ملة أو نِحْلة تريد أن تنشط بدعوتها بكامل حريتها في أوساط الشعوب الإسلامية تحت حماية القانون الدولي والمحلي.
3 أما كوندليزا رايس التي تعتبر نفسها وزيرة خارجية العالم، فقد ذهبت أبعد مما ذهب إليه بوش وقالت: «لن أتوقف عن ممارسة الضغط حتى يفرج عن عبد الرحمن» .... «إن هذا أمر مقلق للغاية.. لقد اتصلت بكرزاي، وأثرت معه الموضوع بأشد لهجة ممكنة، لكي تؤكد أفغانستان تمسكها بالدستور الجديد الذي ينص على احترام حقوق الإنسان» .. «الحرية الدينية مبدأ أساسي من مبادئ الديمقراطية» .
3 وأما الصحافة الأمريكية، فقد وجدت في الموضوع فرصة لإثارة قضية تراها أهم، وهي قضية تضمين الدساتير في الدول الإسلامية إشارات تعتبر الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع، وتساءلت: هل يتناسب هذا مع الهدف الذي لأجله تسيِّر أمريكا جيوشها وتضحي بشبابها ... ؟!
3 قالت صحيفة نيويورك تايمز في مقالها الافتتاحي في 3 مارس 2006 تحت عنوان (سخط على أفغانستان) : «يجب على الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان مراجعة القوانين المعمول بها هناك» .. «إن أفغانستان ليست الحليف الوحيد الذي يطبق قوانين دينية قاسية» .. «إذا كانت أفغانستان تريد العودة إلى أيام طالبان فلتفعل، ولكن من دون مساعدة أمريكية» .
3 وقالت صحيفة الواشنطن بوست في مقال لها في 23 مارس 2006، تحت عنوان (أطلقوا سراح عبد الرحمن) : «من الناحية النظرية، ينص الدستور الأفغاني على ضمان الحرية الدينية، ولكن في الوقت نفسه ينص على أن الشريعة الإسلامية قانون البلاد، ولم يمض وقت طويل حتى ظهر ضرر هذا التعارض» .. «لقد أمضى الرئيس كرزاي وقتاً طويلاً لتفادي أزمة دستورية بسبب التعارض بين مبدأ الحرية الذي يكفله الدستور، وبين مبدأ العمل بالشريعة» ... «ما جدوى أي إنجاز للجنود الأمريكيين إذا لم ينجحوا في إنهاء تلك الحقبة الهمجية المنتمية إلى القرون الوسطى» .
3 وأما مجلة ناشيونال رينيو الأمريكية الصادرة في 22 مارس 2006، فقد قالت في مقال لها بعنوان: (نحن وأفغانستان ومشكلة الشريعة) : «نحن نحصد ما زرعناه في أفغانستان، ما يحصل هناك هو ما جلبناه على أنفسنا حين شاركنا في صياغة دساتير لا تفصل فصلاً تاماً بين السلطتين الدينية والمدنية» ... «لقد جعل هذا الدستور الإسلام دين الدولة، جاعلاً للشريعة قوة مهيمنة على القانون، وناصّاً على ضرورة «دراسة» الفقه الإسلامي، وبعد كل هذا نأتي لنحتج على ذلك كنتيجة لهذا التداخل.. إن هذا يعد احتجاجاً فارغاً» !
3 وفي صحيفة (ببتسبيرج تريبيون) صحفي يهودي من المحافظين الجدد، وهو باتريك بوكانان، علق على قضية المرتد في مقال له بعنوان: (أي ديمقراطية هذه؟) قال فيه: «أي ديمقراطية هذه التي يفاخر بها الرئيس بوش، هل هذا شيء يستحق أن نرسل شبابنا الأمريكي للحرب أو الموت من أجله؟ إذا كان الشعب الأفغاني متقبلاً محاكمة ومعاقبة عبد الرحمن لتركه الإسلام؛ فما هي الرسالة التي نستشفها عن مدى تسامحهم مع المسيحية ومدى التزامهم بالحرية الدينية؟» ومما قاله أيضاً: «لا يبدو أن المسيحية في وضع أفضل في تلك الديمقراطية الجديدة الأخرى في العراق» .. «إن المسيحيين يهربون إلى سورية فراراً من الاضطهاد في العراق، وإن المحافظين الجدد الذين يتوقون إلى تحرير سورية كما حرروا العراق؛ إذا نجحوا في ذلك فليتولَّ الله المسيحيين في سورية حينئذ؛ لأنهم سيعاملون مثلما يعامَل المسيحيون في العراق» .
3 انتقل التصعيد إلى أكثر من بلد أوروبي، بل إلى كل دول أوروبا ممثلة في الاتحاد الأوروبي، حيث ألقى هذا الاتحاد بثقله وراء حملة «الحرية الدينية» وأعلن على لسان وزيرة الخارجية النمساوية التي تترأس بلادها الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية أن: «على الاتحاد الأوروبي أن يبذل ما بوسعه للإفراج عن الأفغاني الذي اعتنق النصرانية» .. «إن رئاسة الاتحاد الأوروبي ستتابع الوضع عن كثب، وستقرر الخطوات التالية حسب تطور القضية» .
3 وقد هددت معظم الدول الأوروبية بوقف المساعدات عن أفغانستان إذا لم تفرج عن الأفغاني المرتد، ودخلت على خط المطالبة الرسمية بالإفراج عنه كل من بريطانيا وفرنسا وكندا وهولندا والنمسا والدانمارك وألمانيا التي هددت بسحب قواتها العاملة لحماية نظام كرزاي في أفغانستان المحتلة، وتبعتها في التهديد بلجيكا. أما إيطاليا فقد أرادت أن يكون لها دور يليق بموقعها كدولة راعية للنصرانية الكاثوليكية في العالم؛ فقد دعا البابا الجديد (بندكيت) إلى الإفراج الفوري عن الأفغاني المرتد وطالب باستعمال الرأفة معه، واستدعت إيطاليا سفيرها في أفغانستان وأعلنت ـ بعد مطالبتها بالإفراج عن المرتد ـ أنها مستعدة لاستضافته كلاجئ سياسي، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ آتت تلك الحملة العالمية النصرانية لمناصرة المرتد ثمرتها العاجلة بالإفراج السريع عنه رغماً عن الدستور الأفغاني والقضاء الأفغاني والبرلمان الأفغاني والشعب الأفغاني، بالرغم من ثبوت الاتهام ضده، واعترافه به وإصراره عليه!
- قصة أخرى ... ومواقف أخرى:
مرت في السنوات الأخيرة قصة أخرى بتفاعلات مختلفة أعطت معنى إضافياً للحرية الدينية في فهم أنصارها من النصارى، حينما تتعلق تلك الحرية بالدخول في الإسلام لا الخروج منه، والقصة تتعلق بامرأة مصرية مارست حقها في «حرية الاعتقاد» التي ينادي بها الغرب، وغيَّرت دينها من النصرانية إلى الإسلام بكامل حريتها وإرادتها؛ فماذا كان موقف المسؤولين وغير المسؤولين من المسلمين وغير المسلمين؟ وماذا كان موقف دعاة حرية الاعتقاد وحرية التدين..؟!
تبدأ القصة بمشاهدة المرأة برنامجاً في التلفزيون المصري، يتحدث عن الإعجاز العلمي في القرآن، حيث تأثرت به، وبدأت تسأل زملاءها في العمل عن هذا الموضوع الذي أهمها كمهندسة زراعية، فزودها بعضهم بإفادات ومصادر عن الموضوع، فزاد تعلقها وشغفها بالاطلاع على أسرار القرآن، وقادها ذلك إلى الهداية، وانشرح قلبها بالإسلام، فدخلت فيه سراً خوفاً من أسرتها، ومن زوجها الذي كان يعمل كاهناً في إحدى الكنائس المصرية، ولها منه ابن وابنة كلاهما جامعيان. وظلت المرأة على إسلامها سراً تصلي وتصوم وتقرأ القرآن، حتى حفظت منه سبعة عشر جزءاً، ثم عرفت ابنتها بالأمر، ومع الوقت عُرف أمرها من قِبَل أسرتها وزوجها.. وأهم من ذلك.. من قِبَل الكنيسة!
لقد كان من الممكن أن يمر الأمر كعشرات الحالات من الدخول في الإسلام سواء كان من مصريين أو أجانب، وهو ما يقره القانون المصري، إذا لم يكن عن قسر وإكراه، إلا أن المناخ الدولي المغاير، وجد من يريد استغلاله، وشاءت زعامة الكنيسة أن تصعِّد الأمر، وتصنع منه سابقة تجعل من دخول النصارى في الإسلام مشكلة، ريثما يأتي الوقت الذي يسوِّغون فيه دخول المسلمين في النصرانية بلا أي معضلة، لهذا اعتصم راعي الكنيسة في ديره حتى تُسلَّم المرأة المسلمة لكنيسته. وأخذت القضية أبعاداً خارجية، وبدأت الجاليات النصرانية المصرية في الغرب تولول على المرأة التي يمكن أن يفتح إسلامها الباب أمام المزيد من الدخول في الإسلام، باعتبار أن زوجها الكاهن لم يفلح في اقناعها بالردة عن الإسلام.
لقد تفاعلت الأحداث بابتزاز داخلي، وضغط خارجي، حتى سُلّمت المرأة للكنيسة دون أن تقوم لنصرتها حملة عالمية ولا محلية رسمية ولا شعبية، حتى أعلن النائب العام المصري بعد مدة من الحجز الكنسي (خارج إطار القانون) أن المرأة عادت إلى النصرانية ولم يبين كيف ولماذا؟!
إلى هنا انتهت قصة المرأة التي أسلمت ثم أُجبرت على التنصر، والتي وإن انتهت حكايتها كقصة مأساوية، إلا أنها لم تنته كقضية اعتقادية، تماماً مثل قضية الأفغاني المرتد عن الإسلام، التي يمكن أن تكون قد انتهت كقصة محلية، لكنها لن تنتهي كقضية دولية.
ولنا على القصتين أو القضيتين وقفات وتعليقات:
أولاً: ما حدث في أفغانستان، قابل لأن يتكرر في أي مكان من العالم الإسلامي، يرتد فيه شخص أو عدة أشخاص عن الإسلام، وسيفتح هذا باب التشجيع لكل من أراد أن يكون محوراً لحديث العالم واهتمام الغرب واحتفائه وتكريمه، والمشكلة هنا ليست في تعطيل حد الردة، فهو معطل منذ زمن، ولكن في إباحة تلك الردة وإتاحتها في ظل حماية قانونية محلية عالمية.
ثانياً: كل الحجج والمسوِّغات التي استند إليها الغرب في القيام بحملته ضد حكم الردة في الإسلام (مع أنه لا يُطبق أبداً) يمكن أن تستخدم ويُستند إليها في بقية أحكام الشريعة في الجزاءات المتعلقة بجرائم شرب الخمر والسرقة والزنا والفواحش، وغيرها من الكبائر التي تجرِّمها وتحرِّمها الشريعة، وهذا مكمن خطر مستقبلي، ومدعاة لتكرار الحملة الدولية على شريعة الإسلام في وقائع أخرى وأحكام أخرى، بذرائع مشابهة مثل: «الحرية الشخصية» .. «قسوة العقوبة» .. «ضرورة الاحتكام إلى قوانين لا دينية مدنية» .
ثالثاً: هناك حملة قادمة ضد الدساتير في العالم الإسلامي لحذف كل ما يتعلق بالشريعة منها برغم علمانيتها، والدستور الأفغاني في ظل الاحتلال، قد أشرف الأمريكيون على صياغته؛ بحيث يستبعد حاكمية الشريعة بالمرة، إلا أن بعض «الثغرات» التي تشير إلى «احترام الشريعة» من الناحية الشكلية بقيت، فثارت على أثرها هذه الضجة الدولية، وطالب الثائرون بعد حادثة المرتد بـ «تنقية» الدساتير في العالم الإسلامي من أية إشارة إلى الشريعة، وعلى هذا فإن هذه الدساتير التي وضعت، والتي ستوضع أو تعدل، ستظل قنابل موقوتة، تتفجر كلما طالبت جماهير الأمة بحقها وواجبها في الاحتكام إلى شريعة الإسلام الذي تدين به.
رابعاً: أي سيادة للدول تبقى، وأي إرادة واستقلال للشعوب يصدُق، عندما يصل «القهر الديمقراطي» ، إلى حد إجبار الحكومات على تعديل دساتيرها وتسليم رعاياها لدول أجنبية في الخارج، أو لأقليات متسلطة في الداخل، حيث يُجَرَّمُ بريء، أو يُبَرَّأُ مجرم؟ وهل نحن دخلنا بالفعل في عصر «الحكومة العالمية» التي لا تعترف إلا بمن يعترف بسيادتها وقيادتها وشريعتها؟
خامساً: عندما نقارن بين مستوى حملة النصرة التي قام بها الغرب كله «رسمياً» ، على المستوى السياسي والإعلامي للرجل الذي خرج عن الإسلام نابذاً القرآن وحاملاً الإنجيل، بالموقف «الرسمي» المتخاذل والمخزي عربياً وإسلامياً، داخلياً وخارجياً من المرأة التي أحبت القرآن حتى دخلت في الإسلام، ندرك الفارق بين منزلة الإسلام والقرآن عند قوم، ومنزلة النصرانية والإنجيل عند آخرين.
سادساً: بعض الجهات الإسلامية المحسوبة على الفقه الإسلامي «الأوروبي» انبرت تدافع عن «حق الردة» إي واللهِ.. «حق الردة» ! مرددة مقالة ضالة تزعم أن الإسلام كفل لأتباعه أن يخرجوا منه وقتما شاؤوا دونما أي مساءلة أو عقاب، وأن هذا من «حقوق الإنسان» التي أعلنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع!!
وهذا القول الساقط، الذي تجاوزته ثقافة العوام، يجد اليوم من يردده باسم الفقه والدين؛ فإلى الله المشتكى من هؤلاء الذين يسوِّغون للطغاة طغيانهم، وللكفار كفرهم.
سابعاً: أسوأ ما في الموقف (شبه المتعاطف) مع المرتد الأفغاني، كان ذلك التصرف الذي صدر من بعض المحسوبين على العلم في مصر أثناء أزمة المرأة التي أسلمت؛ إذ صدرت وقتها تصريحات تقول: «وماذا سيستفيد المسلمون من دخول امرأة جديدة في الإسلام؟! وهل نحن في حاجة إلى مسلمين جدد، والعالم الإسلامي يزيد سكانه عن مليار مسلم..؟!!
وهو كلام لا يصدر إلا ممن لا يعرف حقيقة أن الأمة كلها مسؤولة أمام الله ـ وعلى رأسها علماؤها ـ إذا تسببوا في انتكاس إنسان عن الحق، حتى يكون مصيره مع الكافرين في النار.
ثامناً: الموقف الإعلامي في العالمين العربي والإسلامي، لم يكن له حضور يذكر في أزمة الهجوم على الشريعة المتزامن مع قضية الردة، مثلما كان الأمر أثناء أزمة الهجوم على العقيدة المتزامن مع قضية الرسوم المسيئة، والسبب فيما يظهر أن الوعي بخطورة الهجوم على الشريعة قد تضاءل لدى الشعوب من كثرة إهمالها في بلاد المسلمين في ظل الهيمنة العلمانية، وهو ما يوجب على علماء المسلمين ودعاتهم أن يعيدوا الاعتبار إلى مفهوم الشريعة بمعناها الواسع المرادف للدين، كما دل عليها قول الله ـ تعالى ـ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] .
تاسعاً: في الوقت الذي يحارب فيه الغربيون الأعمال الإغاثية الإسلامية وأنشطة الجمعيات الخيرية ويطاردونها في كل مكان؛ فإن أعمال التنصير من خلال المنظمات التبشيرية التنصيرية، تنشط في معظم بلاد المسلمين بلا حسيب أو رقيب، وقد كان ذلك الضال المرتد أحد ضحاياها، عندما أتيحت لها «الحرية» لتعمل على إخراج المسلمين من دينهم، أو على الأقل تشككهم فيه، باسم «الحرية الدينية» ، و «حرية التعبير» عن المعتقد.
ومن المؤسف هنا ـ بل من المفجع ـ أن نرى بعض المحسوبين على حماية الدعوة ونشرها، يسمحون بما يسمى بـ «حرية التنصير» في بلد الأزهر؛ وذلك من خلال التوقيع على وثيقة تدعو إلى ذلك، كبرهان على «سماحة الإسلام» وأنكى من هذا وأشد، أن يسمح في ذلك البلد ذاته، الذي تزيد نسبة المسلمين فيه عن 90%، بقبول النِّحْلة (البهائية) كديانة معترف بها لمن اعتنقها من المواطنين، بحيث تُثَبَّت في البطاقة الشخصية أو بطاقة الهوية مع أن تلك النِّحْلة الضالة تقوم على إنكار عقيدة (ختم النبوة) بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وادعاء أن خاتم الأنبياء، هو (المرزا حسين علي) الملقب بـ (البهاء) . وقد جاء القرار بقبول واعتراف بتلك الديانة المسخ استجابة لضغوط أمريكا من خلال تقريرها السنوي عن الحرية الدينية في العالم، والذي وبخت فيه الحكومة المصرية على عدم قبولها بالحرية الدينية، وامتناعها عن الاعتراف بالطائفة البهائية!
عاشراً: كان المسوِّغ المعلن للإفراج عن المرتد من طرف دولة أفغانستان «المستقلة» أنه تبين (لعدالة المحكمة) فيها أن المتهم مختل عقلياً..!!
وهو تسويغ ربما رأى القضاة الأفغان فيه حسن تخلص من الورطة التي دخلوا فيها؛ باعتبار أنه لا يمكن أن يخرج من الإسلام مختاراً، إلا من سفه نفسه، وفقد عقله، ومع هذا فالأمر لا يخلو من مفارقة مضحكة؛ إذ كيف ثارت كل هذه الضجة في الغرب، حتى صارت أشبه بمقدمات إعلان الحرب، من أجل «مجنون» ؟!
ألأجل هذا (المجنون) هُددت أفغانستان بقطع المعونات، وإغلاق السفارات وسحب القوات وفرض العقوبات؟!.. ولأجل جنونه وسواد عينيه تبرع «العقلاء» في إيطاليا بمنحه (حق اللجوء السياسي) قبل أن يعود إلى عقله، بعودته إلى دينه؟!
أحقاً كل هذا من أجل مجنون؟!
اللهم احفظ علينا عقولنا..!(223/51)
الدولة الصهيونية بعد فوز حزب كاديما:
قراءة في التحولات
بلال الشوبكي (*)
«انسحاب من قطاع غزة، وآخر جزئي من الضفة، حزب جديد على الساحة، والجدار ما زال مستمراً» . بهذه الوقائع تُطرَق أبواب الحكومة الجديدة. تُطرَق وضجيج التساؤلات يحيط بها من كل جانب؛ فإلى أين تسير حكومة القوم؟ أإلى حلم جديد يعبر عن تغير أيديولوجيتها؟ أم إلى ذلك القديم وإن بتغيير وسائلها؟ هل ما استجد من تطورات على الساحة الصهيونية مثير للغرابة؟ أم أن الاستغراب مما يجري هو الأكثر غرابة.
نعم! بنت دولة يهود الجدار، وانسحبت من غزة، وتمخضت «فولدت كاديما» ، هل ملّت دولتهم ضربات المقاومة؟ أم باتت تجهز لفصل جديد من الصراع معها؟ تعالت الأصوات التي تقول: تغيَّر الصهيونية، لكن أياً منها لم يقل كيف تغيرت ولماذا؟ قالوا تغيرت وكفى.
هل تخلت دولتهم عن طموحها وحلمها بأرض (إسرائيل الكبرى) كما يزعمون، وهل خروجها من غزة يدل فعلاً على ذلك؟! هل تنازلوا عن تاريخها المزعوم؟ هل اكتفت بهذا الجيتو داخل الجدار؟ أمِنَ الممكن أن يكون فوز كاديما ميلاداً لمنطلقات أيديولوجية جديدة؟ أم هو الطريق الجديد نحو القديم؟
الكثير من المحللين حاولوا تفسير ما يجري في دولتهم على أنه تغير جذري يعود بنا إلى الصهيونية، وما تدعو له من تحقيق حلم دولتهم الكبرى، والأساطير اليهودية التي حاولوا الترويج لها على مدى قرون مضت؛ فالحكم على التطورات الجديدة في الدولة الصهيونية على أنها تغير استراتيجي ونكوص عن الحلم المزعوم، يلغي مئات السنين من العمل الصهيوني من أجل فرض وقائع على الأرض تجعل من أساطيرهم حقائق مقبولة من قِبَل الشعوب الأخرى.
لذلك فإن اعتبار التطورات الأخيرة في دولتهم لا تصب في خدمة الأهداف الصهيونية، أو أنها تعبر عن تحول أيديولوجي تُغْفِلُ في واقع الأمر عدة نقاط:
1 ـ دولتهم دون تاريخ؛ فقد شهدت خروجاً من التاريخ قرابة ألفي عام، وهذا يعني ضرورة تمسكهم بتاريخها المزعوم؛ إذ إن أي خطوة من قِبَلها للتراجع عن ادعاءاتها الصهيونية، تعني نفياً لكل تاريخها، ومن ثم أحقيتها في أرضهم المحتلة التي اغتصبوها.
2 ـ انسحابهم من أراضٍ فلسطينية لا يعني أنها تخلت عن أسطورة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض؛ لأن في ذلك إقراراً منها بأنها دولة استعمارية.
3 ـ هذا بالنسبة للانسحاب. أما بالنسبة للجدار؛ فبالرغم من أنه يؤيد التفسير السابق الذكر من أن دولتهم تتغير جذرياً إذا ما فُسِّر الجدار على أنه حدود سياسية، لكن تفسير إقامة الجدار من وجهة نظر تاريخية، يعطينا تأكيداً على تمسكهم بأساطيرها؛ فالجدار لا يمكن فهمه تاريخياً إلا ضمن أسطورة شعب الله المختار الذي يرفض التعامل مع الأغيار (غير اليهود) .
وهذا الرأي بشأن عدم إمكانية تخليهم عن أساطيرها، جاء بشكل أكثر تفصيلاً في كتاب الدكتور محمد أحمد النابلسي، بعنوان «سيكولوجية السياسة العربية، العرب والمستقبليات» . حيث يفرد لهذه القضية جزءاً خاصاً يعالج فيه إمكانيات التحول في النهج الصهيوني، ليتوصل إلى أن دولتهم لا يمكن لها التراجع عن أي جزئية من أساطيرها؛ لأن ذلك يعني التشكيك في كل ما تدعيه.
ومما يضعف أيضاً من وجهة النظر التي ترى في التطورات الأخيرة في دولتهم تغيراً أيديولوجياً، هو ما سنورده من تدعيم لوجهة النظر القائلة إن المستجدات الأخيرة على الساحة الصهيونية، إنما هي في حقيقة الأمر لا تتجاوز التحول التكتيكي في طريقة التعامل مع قضية الصراع في المنطقة، وأسلوب العمل من أجل تحقيق أهداف دولتهم المغتصبة.
فبالرغم من حدة التغيرات الصهيونية الأخيرة، والتعاطي مع تفسيرها بنوع من الدهشة والحيرة نتيجة لخروج دولتهم عن الخط التقليدي في التعامل مع أطراف الصراع، إلا أن ما جرى يمكن فهمه وتفسيره من خلال المنطلقات الآتية:
أولاً: تغير مفهوم الأمن القومي:
يمر مفهوم الأمن حالياً بمنعطفات جديدة تحمّل هذا المفهوم معاني جديدة، هذه المنعطفات إنما تأتي كتعبير واضح عن دخول لاعبين جدد في المشهد الدولي؛ إذ إن احتكار الدولة القومية دور المؤثر في تشكيل معالم الوضع الدولي لم يعد قائماً، وهذا ما أدى إلى دخول عناصر جديدة كمهدد لأمن الدول غير ذلك الخطر المتمثل بالدول المماثلة.
هذه التطورات التي وسّعت من مفهوم الأمن ليضم جوانب أخرى جعلت منه مفهوماً إنسانياً، وعالمياً، أدى إلى اتباع الدول طرقاً جديدة للحفاظ على أمنها القومي؛ فلم يعد الحفاظ على الحدود هو تحقيق الأمن، ولم يعد الخطر العسكري هو التهديد الوحيد لأمن الدول؛ هذا ما دفع الكثير من الدول لتغير من استعداداتها الأمنية، وأساليبها التقليدية في الحفاظ على مصالحها، وتحقيق أمنها بشكل عام.
ما نريد الخلوص له من وراء الإشارة لتغير مفهوم الأمن القومي، والذي لا مجال لذكر أسبابه الآن هو أن ما حدث مؤخراً من تغيرات غير تقليدية في العمل السياسي الصهيوني، لا يمكن فهمه بمعزل عما يشهده العالم اليوم من تعاطٍ جديد مع مفهوم الأمن، وما يمكن أن يشهده في تعاطيه مع مفهوم الدولة مستقبلاً، والتي بالرغم من تقدير معظم الخبراء على أنها ستبقى المؤسسة الأهم حتى في ظل التغيرات العالمية الجديدة، إلا أن وظائفها ستُطَوَّع وتُكَيَّف تبعاً لهذه التغيرات؛ وهذا ما أشارت إليه الباحثة في العلوم الاجتماعية والإعلام (ليلى حلاوة) في إحدى كتاباتها بعنوان (السيادة.. جدلية الدولة والعولمة) .
فدولة الصهاينة أيقنت أن أمنها بالمفاهيم الجديدة لا يمكن تحقيقه، في ظل الانعزال عن محيطها الإقليمي، بل إن انخراطها في محيطها الإقليمي ومن ثم العالمي هو الأداة الأكثر فاعلية للحفاظ على الأمن والمصالح التي تعدت حدود الدولة القومية؛ فالاعتمادية المتبادلة بين الدول وخاصة في المجالات الأمنية، تجعل من غياب تواصل الدولة مع فضائها الإقليمي تهديداً لأمنها؛ فكيف لإسرائيل التغاضي عن ذلك؟
ثانياً: حاجتهم إلى المقبولية العربية والإسلامية:
ربما يكون التشابك قوياً بين هذه الجزئية وما سبقها، إلى الحد الذي يصعب الفصل بينهما؛ فالحاجة إلى تحقيق الأمن بمفهومه الشامل، تتطلب ـ كما أشرنا ـ انخراطاً في المحيط الإقليمي، لكن هذا يتطلب مسبقاً تحقيق المقبولية من قِبَل الإقليم المحيط والاعتراف بشرعية الوجود ككيان طبيعي، وهذا ما يمكن على أساسه تفسير ما أقدمت عليه الدولة الصهيونية ـ على يد مؤسسي حزب كاديما الفائز ـ من انسحاب من غزة وما يطرح حول احتمالية انسحابها من أجزاء أخرى من الضفة؛ فبالرغم من أن للمقاومة الفلسطينية دورها الفاعل في الانسحاب، إلا أن دولتهم استثمرت خسارتها هذه، فحاولت تحقيق المكاسب السياسية والدبلوماسية، كمكافأة لها على تنازلها.
وبالرغم من أن الدولة الصهيونية عملت منذ عقود على استغلال أي فرصة تحمل في طياتها إقامة روابط وعلاقات مع دول إسلامية وعربية، إلا أنها لم تنجح بشكل كامل في ذلك، مما دفعها إلى تغيير أسلوبها في ذلك؛ فبدلاً من انتظار الفرص من أجل بناء العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، تقوم دولتهم حالياً باقتناص الفرص من خلال ما أقدمت عليه من انسحاب صوَّرته بالتنازل من جانبها من أجل السلام والاستقرار، ومقدمة هذا الانسحاب للدول المحيطة كي تجد هذه الدول مبرراً للتعامل مع هذا الكيان على الأقل أمام شعوبها.
وما يدل على ذلك الحملة الدبلوماسية المكثفة التي قامت بها وزارة الخارجية لديهم بقيادة (سلفان شالوم) ، والتي صبت كل اهتمامها على صنع علاقات جديدة مع الدول الإسلامية، وهذا تزامن مع فترة الانسحاب الأخير من قطاع غزة؛ فقد بينت وسائل الإعلام حينها اللقاءات التي جمعت بين مسؤولين صهاينة وآخرين من الباكستان وماليزيا وإندونيسيا، وهذا يحقق لهم عدة مكاسب، منها التخفيف من أثر حملاتها القمعية ضد الفلسطينيين على المستوى الإسلامي، وبما أن جزءاً هاماً من القضية الفلسطينية، هو ذو صلة وثيقة بالمسلمين وخاصة فيما يتعلق بمدينة القدس، فإن إقامة علاقات جيدة مع الدول الإسلامية، قد يساعد دولتهم في التعامل مع هذه القضايا؛ إضافة لفتح المجال أمام علاقات تجارية متميزة مع دول كبيرة مثل إندونيسيا.
وبالنسبة للفوز الذي حققه حزب «كاديما» فهو تعبير واقعي عن تغير الأساليب الصهيونية وليس الأهداف؛ فمؤسسو الحزب أيقنوا بضرورة إنشاء مؤسسة جديدة تكون الإطار الذي من خلاله ينطلقون بالنهج الجديد، وما يؤكد أن الحزب الجديد هو وسيلة لأشخاص بارزين وليس تعبيراً عن تحول أيديولوجي لهؤلاء، هو ضم الحزب الجديد لأعضاء من أحزاب مختلفة أمضت عقوداً وهي في تنافس (الليكود والعمل) لكن بالرغم من انضمامهم لكاديما فما زال يُنظر إليهم على أنهم في أحزابهم السابقة، وهذا ما هو حاصل مع بيرس. كما أن الفترة البسيطة التي اقتضاها إقناع بيرس للدخول في الحزب الجديد تؤكد أن الحزب الجديد لم يؤسس على تغير أيديولوجي.
أما بالنسبة لطموح (أولمرت) ومؤيديه بتغيير نظام الانتخابات كي يتمكن الصهاينة من اختيار رئيس الوزراء مباشرة، هو عدم إمكانية السير وفق النهج الجديد في ظل ابتزاز الأحزاب الصغيرة للأحزاب الكبيرة؛ فالحاجة دائماً لائتلافات من أجل تشكيل حكومة، تقيد الحزب الفائز، وهذا ما يلاقي حالياً انتقاداً واسعاً من قِبَل الأكاديميين والنخب الصهيونية؛ لأن في النظام الحالي ـ كما يؤكدون ـ إعاقة لتحقيق المصلحة العامة من قِبَل أقليات سياسية.
ثالثاً: طموح الدولة الصهيونية أن تكون لاعباً ريادياً على الساحة العالمية:
ما يؤكد طموح واهتمام الدولة الصهيونية وحلفائها بتحولها إلى لاعب ريادي على المستوى العالمي هو المشاريع الجديدة التي قدمت لإعادة هيكلة الشرق الأوسط، مثل المشروع المتوسطي، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث يلتقي المشروعان في تحويل دولتهم إلى كيان طبيعي داخل منطقتها العربية والإسلامية، لكن ما يميز مشروع الشرق الأوسط هو تحويلها إلى دولة رائدة وقيادية في محيطها، كممهد لانطلاقها على المستوى العالمي، والذي بدأ الحديث عنه بضرورة ضم دولتهم للعضوية الدائمة لمجلس الأمن.
هذه الأهداف الإقليمية والعالمية تتطلب نهجا آخر، يمكن أن تكون التطورات الأخيرة جزءاً من هذا النهج؛ فدولتهم بحاجة لتقديم شيء ولو كان ظاهرياً حتى تصنع المبرر للحكومات العربية والإسلامية كي تتعاطى معها، وانسحابها من غزة وإمكانية انسحابها من الضفة، وإن كان يشكل نصراً للمقاومة؛ إلا أنه في ظل تغير مفهوم الأمن واحتمالية تراجع دور الحدود، لا يعد خسارة كبيرة لإسرائيل؛ لأنها وضمن خططها الحالية ستعود إذا ما حققت صفة الكيان الطبيعي في المنطقة، لكن عودتها ستكون بأشكال جديدة تعطي وجودها الشرعية.
لكن الدولة الصهيونية ووفقاً لتحولها التكتيكي الذي يعبر عن منهج جديد في العمل، ما زالت تلعب على وتر الحكومات مغفلة دور الشعوب في التأثير، لكن ما حدث مؤخراً من تقدم للإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية المصرية، وفوز حماس في التشريعي الفلسطيني، إنما يعبر عن توجه جديد ومكثف من قِبَل الشارع العربي نحو التغيير لصالح التوجه الإسلامي، وهذا ما يمكن أن يعطل طموح الدولة الصهيونية بالتحول إلى عضو يتمتع بالمقبولية في محيطه العربي والإسلامي ما دام أن كثيراً من قومنا يتدافعون للسلام المزعوم كتدافع الذباب على الشراب. والله المستعان.
__________
(*) رئيس قسم الدراسات في المركز الفلسطيني للديمقراطية والدراسات.(223/52)
فتح واحتراف الغباء السياسي
أحمد فهمي
أن تكون ذكياً، فهذا أمر جيد، وأن تتذاكى فلا بأس إن كان يفيد، لكن أن تكون ذكياً وتتغابى؛ فذلك أمر يُحيِّر.
والمشكلة تواجهنا عند محاولة تفسير مواقف حركة فتح من حماس منذ إعلان فوزها بالانتخابات التشريعية؛ فقادة فتح «المخضرمون» يطلبون من حماس أن تقدم كل التنازلات الممكنة لإسرائيل قبل أن تحصل على مقابل لها، وهذا في تقديري فعل ربما يصل إلى درجة الخيانة العظمى؛ لأن القضية الفلسطينية حققت مكاسب هائلة بفوز حماس الذي انتشل سقف المطالب الفلسطينية عالياً من بين أنقاض حركة فتح، كما أن القاعدة الأولى في التفاوض هي: لا مساومة على تنازل تم تقديمه مسبقاً، ومن ثم فإن ضغط فتح على حماس من أجل أن تتساوى معها في الهاوية إنما مبعثه التنافس والحقد والمصالح الشخصية التي تتناوش أطراف فتح من كل جهة.
وهذه المطالب التي يرددها قادة الحركة وكأنهم تحولوا إلى أعضاء في حزب كاديما، تعني أن يُفوِّت الفلسطينيون فرصة نادرة للعودة إلى نقطة الصفر الأولى قبل اتفاقات أوسلو بدون تنازل عن الثوابت، وهذه خديعة كبرى للإسرائيليين الذين يشعرون بالصدمة؛ فبعد جهود ومؤامرات سياسية امتدت 13 عاماً، يجدون أنفسهم في مواجهة السلطة التي صنعوها وهي تطالب بكل الثوابت الفلسطينية من جديد.
ولذلك فإن قادة فتح يستشعرون الخطر، ولكن كلٌّ حسب طريقته: أبو مازن يخشى من تحوله إلى رمز شكلي فاقد التأثير لو نجحت الحركة سياسياً، ولذلك صرح لصحيفة الجارديان البريطانية أنه يتخوف من محاولة الإسرائيليين عزله بنفس الطريقة التي اتبعوها مع عرفات، ومحمد دحلان يعتبر كل خطوة تنجح فيها حماس تقربه من نهاية حياته السياسية، ولذلك يتصرف وفق ثقافته الخاصة، بإثارة القلاقل في غزة وتوصيل رسالة لجميع الأطراف أنه لا يزال مؤثراً، فاتُّهم بأنه وراء مقتل الجنود المصريين في رفح واختطاف الدبلوماسي المصري، وقد تعرض لتقريع من اللواء عمر سليمان مدير المخابرات المصرية الذي قال له: «لدينا معلومات أكيدة أنك وصبيانك تقفون وراء هذه الأعمال، وأنك حرّضت مجموعات معينة على ذلك، وأن هذه اللعبة لن تنطلي على مصر» ويشير سليمان إلى سمير مشهراوي وحسن عصفور.
مكمن الغباء السياسي في أداء الفتحاويين، أن سعيهم لإفشال حماس هو في حقيقته جهد دؤوب لدعمهم في مسيرتهم السياسية؛ فالدفع الأهوج لتدمير الحركة سياسياً يُتوقع أن ينتج عنه أمور، أولها: حث الدول العربية والصديقة على المسارعة بتقديم الدعم المالي لحماس. ثانيها: استفزاز الشعب الفلسطيني للتمسك بالحركة التي تتمسك بثوابته. ثالثها: أي إنجاز تحققه حماس سوف يتعاظم تأثيره بسبب الحصار والضغوط. رابعها: إثارة الشغب ستؤدي إلى نتيجة عكسية؛ لأن مثيري الشغب قبل فوز حماس وبعده ينتمون غالباً إلى فتح، وهو ما يزيد من الرفض الشعبي للحركة في أي انتخابات مقبلة؛ واستئثار حماس بنصيب الأسد في انتخابات الجامعة الإسلامية مؤشر يؤيد ذلك.
لا نتوقع بالطبع أن يتخلى قادة فتح عن ولعهم بممارسة الغباء السياسي؛ فهذا أمر يفوق طاقتهم، ولكننا في المقابل نطمئن حماس أن من يحاصرون القضية الفلسطينية هم في حقيقة الأمر يحاصرون أنفسهم، ولذلك ندعو الحركة ألا تفك حصارها عن أعدائها إلا بعد أن يستجيبوا لمطالبها.(223/53)
نقطة الصفر
د. يوسف بن صالح الصغير
لقد كان الإفراز الرئيسي لمؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو الإيحاء بأن الفلسطينيين قد اعترفوا بحق اليهود بما اغتصبوه من فلسطين، وأن منظمة التحرير الفلسظينية هي حقاً الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني الذي لم يأبه كثيراً بهذه الادعاءات، واختار من يعارض أوسلو ولا يعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني؛ ولذا نلاحظ أن حماس تتعرض لضغوطات من جهات متعددة وكلها تصب في اتجاه واحد هو الاعتراف بإسرائيل، وهو يعني أن الجميع يحسون أن القضية الفلسطينية معرضة للعودة لنقطة الصفر، وأن كل التنازلات التي قدمتها الحركات العلمانية المناضلة لم يعد لها قيمة؛ لأن مشروعها النضالي الذي تخلت عنه والذي يرفع شعار «تحرير فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر» قد رفعته قوى أخرى أكثر انتماءً للأمة التي تتلمس طريق العودة إلى هويتها الحقيقية بعد أن عاشت في التيه لعقود خلت، وهي هنا تحتاج لمن ينير لها طريق الخروج من المأزق وليس من يقنعها بالبقاء في التيه.
إن ما حدث في فلسطين رسالة لكل المصلحين والسياسيين تعيد للأذهان أن القادة يجب أن يسيروا أمام الأمة، وأنه لا مكان لمن يمشي في الوسط أو الخلف، وأنه ليس المهم أن تفتح لهم الأبواب في الشرق أو الغرب، بل الأهم أن تفتح لهم قلوب الأهل والأمة، وأنه وبقدر ما كانت التنازلات عن الحقوق سبباً للسقوط فإن الثبات على المبادئ الصحيحة والصبر عليها هو سبيل النهوض والتمكين.
إن هذه القضية أساسية في فهم تصرفات أطراف السلطة الفلسطينية التي تعي أنه ليس أمامها للبقاء سوى أن تختار: أن ترفع مستوى مطالبها وتقترب من مواقف حماس بل وتزايد عليها؛ وهذا يقتضي بروز قيادات جديدة من فتح تقوم بهذا الدور؛ ولذا فإن الخيار الأول لهذه الأطراف هو تجريد حماس من أساس قوتها، ولذلك فلا نستغرب أن زعيماً فلسطينياً يدعي الوطنية يرى أن قضيته الأساسية هي مطالبة حماس بالاعتراف بإسرائيل وليس المطالبة بتحقيق وعودها الانتخابية للناس التي تقوم على رفع سقف المطالب الفلسطينية، ومحاربة الفساد، وتهيئة سبل العيش الكريم؛ إنه لا يطالب الآخرين بمساعدة الشعب الفلسطيني ورفع الظلم عنه وعدم حصاره وتجويعه، بل إنه يطالب حماس بالإذعان كما أذعن، وبالتنازل كما تنازل حتى يكونوا سواء. ففي خطاب التكليف قال محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية؛ إنه مستعد للتدخل إذا ألحقت الحكومة المقبلة بقيادة حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) ضرراً بمصالح الشعب الفلسطيني. وقال عباس في خطابه: «ما أن تتولى حكومتك مهامها فإني أطلب منك مجدداً إجراء التصحيحات الضرورية لبرنامجك» .
وأضاف: «اختيار الديموقراطية لا يعني رفض الالتزامات القانونية والسياسية للسلطة الوطنية الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني» .
وقال عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين: إن رسالة عباس إلى هنية تشدد على أسف عباس لرفض حركة المقاومة الإسلامية ثلاثة مبادئ رئيسية من مبادئ السلطة الوطنية الفلسطينية وهي: الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، دعم مفاوضات السلام لتحقيق إقامة دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام، وقبول مبدأ حكومة منفردة ممثلة للشعب الفلسطيني.
إذا كانت حماس تواجَه حالياً بمصاعب جمة تتلخص في الحصار الاقتصادي الخانق الذي يتمثل في تسلمهم خزينة خاوية، ومنع المساعدات الخارجية، وإغلاق المعابر حتى جاع أهل غزة، ويضاف إليه حصار سياسي بمنع الاتصال بمسؤولي الحكومة الجديدة وحصر الاتصال بالرئاسة، وشمل ذلك حتى المنظمات الدولية مثل منظمة العمل الدولية التي قام مندوبها بتجاهل وزارة العمل والتعامل مع قطاع الأعمال مباشرة، ويضاف إلى ذلك التحديات الأمنية التي تتمثل في تزايد عمليات الاغتيال الإسرائيلية وتركيزها على كوادر الجهاد وفتح والمقاومة الشعبية، ومحاولة جر التنظيمات إلى اقتتال داخلي كما حصل على خلفية اغتيال «عبد الكريم القوقا» القائد العام لألوية الناصر صلاح الدين الجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية، بل وصل الأمر إلى منع موكب رئيس الوزراء الجديد من تجاوز أحد حواجز الأمن الوقائي؛ فإن أهم المكاسب هو عودة القضية إلى البداية وإحياء عدم شرعية إسرائيل وإحياء قضية اللاجئين.
ونحن الأن في وضع يتقابل فية حكومة فلسطينية لا تعترف بإسرائيل وحكومة إسرائيلية فازت على أساس شعار تعيين حدود الدولة؛ إنها بداية مرحلة انقلاب يحس فيها اليهود بالخطر؛ فعلينا ألاَّ نضيع الفرصة، ولْنتمسك بالمبادئ.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية.(223/54)
قناة البحر الميت والصراع الاستراتيجي في المنطقة
أحمد تهامي عبد الحي
عادت قناة البحرين (الميت ـ الأحمر) لتحتل دائرة الضوء مجدداً، وجاءت هذه العودة في سياق تطورات البيئة الإقليمية في المنطقة بعد احتلال العراق وبداية عودة مشروعات السوق الشرق أوسطية. لقد ارتبط الحديث عن شق (قناة البحر الميت ـ البحر الأحمر) في عقد التسعينيات من القرن الماضي مع تطورات عملية التسوية منذ مؤتمر مدريد 1991م، وبِدْء الإعداد لمشروعات التعاون الإقليمي. وكان مشروع حفر القناة من أبرز المشروعات الإقليمية بين الأردن والدولة العبرية، الذي أثار لغطاً وجدلاً محتدماً لم ينته حتى الآن. ويثير المشروع الهواجس المصرية من النواحي الاستراتيجية، كما يثير قلق معظم القوى السياسية العربية التي تعترض على إدماج الدولة الصهيونية في نسيج المنطقة
العربية الإسلامية.
ولم يكن غريباً أن يحرص العدو الصهيوني والولايات المتحدة على إطلاق اسم قمة البحر الأحمر على قمتي العقبة وشرم الشيخ التي جمعت بين الولايات المتحدة والدولة الصهيونية ومصر والسعودية والأردن والسلطة الفلسطينية في عام 2002؛ فالدولة الصهيونية تحرص دوماً على تأكيد انتمائها وحقها في البحر الأحمر، والولايات المتحدة أصبحت الفاعل الدولي الرئيسي في شؤون المنطقة، ولديها مصالح وقوات عسكرية ضخمة في البحر الأحمر والمنطقة عموماً. وقد دخل الأردن والسلطة الفلسطينية أخيراً طرفين رئيسين في المشروع، وأعلن هاني الملقي وزير الخارجيه الأردنية في مارس 2005 أنه اتفق مع المسؤولين الصهاينة على المضي قُدُماً في تنفيذ مشروع القناة التي تربط البحر الميت بالبحر الأحمر، وقال إن هذا المشروع ياتي حفاظاً على بيئة البحر الميت بالتعاون مع الفلسطينيين والبنك الدولي واللجنه الثلاثية الأردنية الصهيونية الأمريكية.
- أولاً: التطور التاريخي لفكرة حفر القناة:
يعود التصور الاستراتيجي الصهيوني حول المشروع إلى أكثر من مائة عام، وهو تصور غني بالأفكار والخيارات والمعلومات؛ وقد صدر العديد من الدراسات حوله ومن أبرزها الدراسة الصادرة عن (مركز وايزمان للأبحاث الاستراتيجية) بعنوان «التسلسل التاريخي لقناة البحرين» . ففي ظل الرغبة الصهيونية في السيطرة والهيمنة اتجه التفكير الصهيوني نحو مشروع حفر قناة تربط بين البحر المتوسط وخليج العقبة على البحر الأحمر لمنافسة قناة السويس.
والواقع أن فكرة قناة البحرين قديمة، وقد تبناها (ويليام آلان) في عام 1855 في كتابه: (البحر الميت طريقاً جديداً للهند) من أجل تحقيق الاتصال بين البحر الميت ـ البحر المتوسط ـ البحر الأحمر، واعتبر أن هذه القناة أفضل من حفر قناة السويس، وعادت الفكرة لتظهر على يد هرتزل في عام 1902 لتوليد الكهرباء اللازمة للصناعة. واعتمدت في الحقيقة على مذكرة لمهندس يهودي يدعى ماركوس بوركارت بهدف توليد الكهرباء وتحلية المياه للشرب.
وقد تعددت التصورات والسيناريوهات فيما يخص قناة البحرين؛ ففي عام 1968 طُرحت الفكرة التي تقوم على أساس حفر قناة تربط بين ميناء أشدود على البحر المتوسط وميناء إيلات على البحر الأحمر، وعلى الرغم من أن العديد من المؤشرات كانت تشير إلى تبني حكومة (جولدا مائير) للمشروع إلا أن الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية قد أدت إلى تعليق أو تجميد المشروع بانتظار حدوث متغيرات جديدة. وقد أعيد طرح المشروع من قِبَل خبراء من أبرزهم (تسفي ليفير) ضمن دراسة بعنوان (الاستمرارية والتغير في الاستراتيجية الإسرائيلية حتى عام 2000) صادرة عن مركز الأبحاث الاستراتيجية بجامعة تل أبيب في عام 1986م.
وفي السبعينيات من القرن الماضي أعيد طرح الفكرة بعد ارتفاع أسعار النفط، ولكن بناء على تصور مختلف يقوم على ربط البحر المتوسط بالبحر الميت؛ فالقناة يمكن أن تربط البحر الميت بالبحر الأحمر، أو البحر الميت بالبحر المتوسط، ويتوقف الأمر على الحسابات الاقتصادية والسياسية. ففي أعقاب أزمة الطاقة بعد حرب أكتوبر 1973م شكلت الحكومة الإسرائيلية في عام 1974 لجنة برئاسة (شلومو اكشتين) لدراسة موضوع قناة البحرين. وعند وصول حكومة الليكود إلى السلطة عام 1977 قام البروفيسور يوفال نيمآن بدراسة المشروع، وقدر تكلفته بحوالي 685 مليون دولار، وحظيت الفكرة بموافقة الحكومة الصهيونية عام 1980م.
وقد طرحت اللجنة أربعة مسارات لإقامة القناة هي:
ـ المسار الشمالي: ويمتد من حيفا على البحر المتوسط إلى جنوب بحيرة طبرية ومنها للبحر الميت.
ـ مسار في الوسط: يمتد من منطقة الخضيرة بجوار تل أبيب على البحر المتوسط حتى البحر الميت.
ـ المسار الثالث: ويمتد من قطيف جنوب عسقلان على البحر المتوسط حتى البحر الميت.
ـ المسار الرابع: جنوبي، ويمتد من خليج العقبة حتى البحر الميت. وأوصت اللجنة بتنفيذ المسار الثالث من أجل تطوير وتنمية صحراء النقب.
وفي 29/3/1981 وافقت الحكومة الصهيونية على تنفيذ المسار الثالث من خلال البدء بحفر قناة تمتد من تل القطيفة بين دير البلح وخان يونس في قطاع غزة تنتهي في منطقة مسعدة جنوبي غربي البحر الميت مرورًا بمنطقة بئر السبع في صحراء النقب. وهو يقوم على أساس ضخ نحو مليار ونصف مليار متر مكعب سنوياً من البحر المتوسط من على ارتفاع 100 م من مستعمرة قطين في غزة ونقلها في قناة إلى أوريم ومن هناك إلى مسعدة جنوباً في نفق طوله 80 كم، ثم إسقاطها على محطة كهربائية على شاطئ البحر الميت.
وعلى الرغم من موافقة الحكومة إلا أن المشروع واجه عدداً من المشاكل الصعبة تمثلت في ارتفاع التكلفة وعدم ضمان عائد الكهرباء التي ستولدها إلى جانب المشاكل الفنية. وقد واجه المشروع انتقادات عربية ودولية؛ فالأردن رفضه لتأثيره على الأراضي العربية المحتلة وآثاره الاقتصادية والجغرافية السلبية، والأضرار التي يمكن أن تلحق بمعامل البوتاس الأردنية على البحر الميت.
وانتقدت الأمم المتحدة مشروع حفر القناة في 16 ديسمبر 1982 لأنها تنتهك حرمة الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، وستؤدي للإضرار بالمصالح الفلسطينية. ودعت الهيئات الدولية إلى عدم تقديم المساعدة المباشرة أو غير المباشرة لهذا المشروع، وفي عام 1985 قررت الحكومة الصهيونية تأجيل المشروع لأجل غير مسمى بسبب تكاليفه المادية وعدم جدواه الاقتصادية.
ويظل المشروع حلماً يراود القوم، ولكن تنفيذه يحتاج إلى تعاون أردني صهيوني، وهو أحد المشاريع التي تم الاتفاق عليها بين الدولة العبرية والأردن في معاهدة السلام.
- ثانياً: الأهداف والمصالح الصهيونية:
تتعدد الأهداف التي تحيط بالتصور الإسرائيلي حول حفر قناة البحرين باعتباره خطوة مهمة في المشروع الاستراتيجي الإسرائيلي، ويعد مد أنبوب المياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت مجرد خطوة مرحلية على صعيد تنفيذه. وقد ارتبط الحديث الصهيوني عن قناة البحرين دوماً بالأغراض الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية البحتة، ولم تقترن عبارة إنقاذ البحر الميت بالقناة إلا في السنوات الأخيرة، وكان في مقدمة من رددها شارون وبيريز.
فبعيداً عن الهدف المعلن وهو إنقاذ البحر الميت فإن الأهداف الاستراتيجية أكثر عمقاً وخطورة؛ حيث يأتي مشروع قناة البحرين في إطار استراتيجية متكاملة لتدعيم النفوذ الإقليمي الإسرائيلي، ومن أبرز محاورها السيطرة على البحر الأحمر وتطوير صحراء النقب. وتساهم قناة البحرين في تدعيم الوجود الصهيوني على البحر الأحمر الذي يساعدها بدوره في التخلص من حالة العزلة والحصار الاقتصادي الذي كانت تفرضه عليها الدول العربية، بدعم علاقاتها الاقتصادية بالدول الإفريقية والآسيوية من خلال البحر الأحمر الذي يمثل شرياناً حيوياً لتدفق التجارة الخارجية الصهيونية مع أقطار إفريقيا وآسيا.
وقد ظهرت الاعتبارات الاقتصادية في المنظور الصهيوني بعد ظهور الأهمية القصوى لميناء إيلات الذي انتعش في أعقاب حصول الدولة العبرية على حرية الملاحة في خليج العقبة ومضيق تيران بعد حرب 1956، فأصبحت إيلات مركز الحركة العبرية في اتجاه الغرب إلى السويس ومنطقة الحقول النفطية، وإلى الشرق وجنوب العقبة. ويحمل البحر الأحمر 25% من واردات الصهاينة البترولية، و 9% من خاماتها المستوردة، ونحو 30% من صادراتها إلى شرق إفريقيا وجنوب آسيا.
ومن جهة ثانية، تستهدف السياسة الصهيونية الاستفادة من ثروات البحر الأحمر وخاصة الثروات المعدنية والسمكية، وإقامة مشروعات سياحية كالترويج لمشروع ريفييرا البحر الأحمر على خليج العقبة.
وقد حرصت الحكومات الصهيونية المتعاقبة على بذل جهود ضخمة لتطوير صحراء النقب اقتصادياً وسكانياً لحماية الأمن القومي الصهيوني. فأحد أبرز الأهداف الإسرائيلية يتمثل في تنمية صحراء النقب بتوفير مصادر المياه والكهرباء؛ حيث إنها تشكل نصف مساحة فلسطين، وتقع بالقرب من مصر. وكانت قناة البحرين البند الوحيد الذي لم يكتمل في منظومة (بن جوريون) لتأمين منطقة النقب من خلال توطين اليهود فيها حتى لا تكون خالية من السكان فيسهل اختراقها خصوصاًً من الجانب المصري.
وتريد الدولة العبرية استكمال الاستيطان في النقب اعتماداً على هجرة اليهود السوفييت الذين يتدفقون على الأرض المحتلة منذ 1989، حيث يعتبر النقب مكاناً صالحاً لاستيعاب المهاجرين السوفييت في ظل أي توسع مستقبلي. ويتم توجيه المهاجرين السوفييت إلى المناطق التي يختل فيها التوازن الديموجرافي بين العرب واليهود خصوصاًً في بعض المناطق التي يشكل فيها العرب أغلبية مثل الجليل والنقب. ففي الجليل والنقب يحتاجون إلى هجرة يهودية لمواجهة التزايد الديموجرافي للعرب، والتي يخشى منها أن تطالب الأقليةُ العربية بالحكم الذاتي.
وعلي الصعيد الاستراتيجي يتنبأ بعض المحللين بأن القناة ما هي إلا مرحلة أولى لمشروع صهيوني لا يكتمل إلا بحفر قناة ثانية تصل المتوسط بالميت، لتصبح الدولة العبرية دولة محورية في العالم تمتلك قناة تضارع وتهدد قناة السويس. كما أن المشروع يشكل تغييراً خطيراً في البيئة الجغرافية للإقليم مما يعني استمرار السيطرة على الضفة الغربية للأبد. كما أن هناك احتمالات وإمكانيات لتوطين عدد من اللاجئين الفلسطينيين.
- ثالثاً: الطموحات الصهيونية وعملية التسوية:
وفي ظل عملية التسوية ازدهرت الطموحات الإسرائيلية للاستفادة من الفرص التي تقدمها هذه العملية على صعيد التعاون الاقتصادي وتطبيع العلاقات مع الدول العربية، وكان البحر الأحمر من أبرز المناطق التي تعددت فيها المشاريع الصهيونية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن هذه المشاريع التي قدمت إلى قمة عمان نوفمبر 1995، إقامة ميناء مشترك مع الأردن يمكن أن يتسع ليشمل مصر والسعودية، وتطوير الطريق الجنوبي ليصل السويس والضفة عبر إيلات ومنها إلى السعودية، وحفر قناة مياه تربط بين البحر المتوسط والميت أو بين البحر المتوسط وبحيرة طبريا، وإقامة خط أنابيب للغاز من السعودية إلى إيلات، واستيراد الغاز القطري عبر ناقلات عملاقة؛ إلى جانب التعاون الثلاثي بين مصر والأردن في مجال السياحة مثل إنشاء منطقة الريفييرا بطول سواحل إسرائيل على البحر الأحمر مع الأردن، وإنشاء مناطق سياحية بحرية في سيناء على غرار صحراء الأريزونا.
كما قدمت إسرائيل ستة مشاريع بتكلفة 500 مليون دولار لتطهير وحماية سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط للتخلص من التلوث البيئي والنفط.
وخلال مؤتمر القاهرة الاقتصادي حدد الصهاينة التكلفة الاقتصادية لحفر (قناة البحر الميت ـ البحر الأحمر) المشتركة بين الأردن وإسرائيل بنحو خمسة مليارات دولار.
وقد رأت مصر في هذه المشاريع محاولة للهيمنة الاقتصادية، واعتبرتها تهديداً لنفوذها في المنطقة لصالح إسرائيل؛ فقد برز العديد من المشروعات الإسرائيلية التي تهدد قناة السويس والدور الإقليمي المصري، وهي:
1 ـ المشروعات الإسرائيلية البديلة لقناة السويس التي يطرحها الصهاينة من وقت لآخر مثل قناة ربط البحرين عند إيلات وعسقلان على الرغم من عدم جدواها الاقتصادية.
2 ـ مشروعات أنابيب نقل الغاز القطري (قطر ـ حيفا) .
3 ـ مشروع التنمية المتكاملة لوادي غور الأردن.
4 ـ الطريق الدائري الذي يربط بين إيلات والعقبة ومعابر نهر الأردن.
5 ـ مشروع ربط البحر الأحمر بالبحر الميت بقناة بطول 170 كم.
وكلها مشروعات تتوجس منها مصر؛ لأنها تستهدف خلق طرق بديلة لقناة السويس، ويرى بعض المحللين أن مشروع ربط البحر الأحمر بالبحر الميت يتم استخدامه لأسباب سياسية ضد مصر بسبب توجهاتها العربية.
وإذا كان الصراع العربي الصهيوني قد أدى لتعويق إقامة هذه المشاريع، إلا أنه أثناء تنامي الاتجاه نحو التسوية السلمية خصوصاً في أعقاب اتفاق أوسلو 1993، ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية 1994 ارتفعت التوقعات بإمكانية تنفيذ بعض هذه المشاريع. وقد حال تعثر عملية التسوية في النصف الثاني من التسعينيات والقلق المصري الذي تمثل في انتقاد الهرولة العربية تجاه دولة العدو الصهيوني دون تنفيذ معظم هذه المشاريع.
وقد ظل المشروع حلماً يراود الصهاينة، ويحتاج تنفيذه إلى تعاون أردني صهيوني؛ فهو أحد المشاريع التي تم الاتفاق عليها بين الصهاينة والأردن في معاهدة السلام. وبينما واجهت الفكرة في الثمانينيات مع القرن الماضي غضباً شديداً، فإن الوضع تغير في عام 1994 بعد توقيع معاهدة السلام الأردنية الصهيونية، منذ التسعينيات في تسويق مشروع قناة ربط البحر الأحمر بالبحر الميت. وهو المشروع نفسه الذي كان الأردن يخطط له، وذلك بعد أن أدخلت تعديلات على مسار القناة الرابطة بين البحرين ليمر جزء منها في الأراضي الإسرائيلية، وجزء آخر في الأراضي الأردنية.
وتطرح الصهيونية المشروع بديلاً عن مشروعها القديم الذي كان يرمي إلى ربط المتوسط بالميت، وتعتبره بمثابة تطوير للمشروع الأردني المطروح لربط البحر الأحمر بالبحر الميت.
ولدى العدو دراسات تفصيلية حول المشروع تقدر تكلفته بنحو 3 ـ 4 مليارات دولار، وترصد آثار حفر القناة على البيئة الجغرافية مثل احتمالات تهديد المنطقة والقناة بالزلازل، وتغير مناسيب المياه.
ويصر واضعو المشروع الصهاينة على اعتباره مشروعاً صهيونياً أردنيا مشتركاً، ومن ثَم فهو يتمتع بشروط التمويل الدولية الميسرة، مثل مستويات الفائدة المنخفضة، وفترة أطول للتسديد.
وقد عرضت الحكومة الإيطالية في بداية 1994 تمويل دراسة الجدوى الاقتصادية لمشروع قناة البحرين: الأحمر ـ الميت بطول 280 كيلو متراً، إذا وافقت عليه الأطراف المعنية بالمشروع، وهي تشمل إلى جانب الأردن وإسرائيل كلاً من السلطة الفلسطينية ومصر.
وقدرت تكلفة المشروع في حينه، بما في ذلك محطات تحلية المياه وتوليد الطاقة الكهربائية، بنحو ملياري دولار ونصف المليار. وخلال مؤتمر القاهرة الاقتصادي حددت إسرائيل التكلفة الاقتصادية لحفر قناة البحر الميت ـ البحر الأحمر المشتركة بين الأردن والصهاينة بنحو خمسة مليارات دولار.
- رابعاً: الرؤية الأردنية الرسمية:
طوَّر الأردن تصوراً جديداً حول المشروع من أجل الحصول على العديد من المكاسب الاقتصادية والمائية من خلال التعاون المشترك مع إسرائيل في تنفيذ المشروع، وقد تجاوبت إسرائيل مع التصور الأردني، وحدث تقارب بين الجانبين نتج عنه تبني فكرة المشروع منذ بداية عقد التسعينيات في القرن الماضي.
ويقوم الطرح الأردني الرسمي للمشروع بالتركيز على الجوانب البيئية التي تتمثل في إنقاذ البحر الميت في الأساس، ثم الأبعاد الاقتصادية التي تتمثل في توليد الكهرباء وتوفير المياه للزراعة بعد ذلك، وتجنب الحديث في الأبعاد السياسية والاستراتيجية للمشروع، إلى جانب تأكيد أنه مشروع أردني الأصل وليس صهيونياً.
ويقوم التصور الأردني لقناة البحر الأحمر ـ البحر الميت على أساس ضخ مليار متر مكعب سنوياً من البحر الأحمر بالغرب من العقبة من ارتفاع 220 م على مرحلتين من الضخ، وتنقل من هناك في قناة عند سفوح جبال أدوم على امتداد أكثر من 220 كم، وتسقط في البحر الميت لتوليد الكهرباء في أربع محطات للطاقة.
لقد شهد عقد التسعينيات تبلور التصور المشترك للأردن والصهاينة حول الفكرة؛ فالخطة الأردنية تفضل أن تمتد القناة لتربط بين البحر الميت والبحر الأحمر، وأن يتم الحصول على موافقة الفلسطينيين كطرف أساسي على الفكرة. وقد نجح الطرفان في خلق تصور مشترك بالاستفادة من أفكار التعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط؛ حيث تبنى الطرفان فكرة إقامة مشروع إقليمي واحد تتقاسم الدولتان إنتاجه، وهو يقوم على أساس جر مياه البحر الأحمر إلى قناة تمتد حتى البحر الميت، كما يستند إلى حقيقة أن الخط الأقل تكلفة والأفضل للقناة في الجزء الجنوبي من منطقة عربة ضمن حدود الأردن، وأن الخط الأفضل في الجزء الشمالي هو خط ضمن حدود إسرائيل.
ومن هذا المنظور فإن للمشروع فوائد اقتصادية وبيئية عديدة منها إنقاذ البحر الميت، والزراعة البحرية، وتوليد الطاقة. وقد قرر الطرفان إعلان الفكرة ووضعها موضع التنفيذ الفعلي خلال قمة الأرض في جوهانسبرج في سبتمبر 2002 من خلال طرحها في شكل جديد هو خط أنابيب وليس حفر قناة من أجل تقليص المعارضة العربية وخفض التكلفة، ومن خلال طرحها في إطار مؤتمر دولي للبيئة من أجل إضفاء أبعاد بيئية تصرف النظر عن الحقائق السياسية والاقتصادية التي يتضمنها المشروع. وقد أكد (شيمون بيريز) أنهم اضطروا إلى تغيير المصطلحات من قناة إلى خط أنابيب تجاوباً مع المستجدات الدولية والإقليمية في قمة الأرض، ومن أجل تخفيف المعارضة ضد المشروع وخاصة من الدول العربية. ولا شك أن صبغ المشروع بالصبغة البيئية يساهم في دفع الدول الغنية الممولة لتحمل نفقات المشروع، ولذلك ارتبط توقيت الإعلان عنه بقمة الأرض؛ حيث تحاول الدولتان تمرير المشروع من بوابة مشاريع البيئة العالمية المهمة بسبب صعوبة تمريره من بوابة المشاريع الإقليمية المشتركة على خلفية الشرق الأوسط الجديد.
وتؤكد وسائل الإعلام الصهيونية أن الأردن هو الذي يلهث وراء تنفيذ المشروع، وأنه يفضل القناة على خطوط الأنابيب على الرغم من تكاليفها المرتفعة من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية مهمة.
لقد تأكد وجود توافق صهيوني أردني مشترك حول مشروع أنبوب البحرين، ولا شك أن تنفيذه سيعود بالفائدة الكبرى على إسرائيل التي تملك مقومات الانتفاع من المشروع بصورة أكبر؛ لأنه سيساعدها على تنمية زراعتها الواسعة وصناعاتها الضخمة في النقب، ولكنه سينعش أيضاً أجزاء من جنوب الأردن، ويحل قسطاً من مشكلة المياه المتفاقمة.
- خامساً: الرفض العربي الرسمي والشعبي:
أثار قرار الأردن طرح تمويل مشروع «قناة البحرين» خلال قمة الأرض في جوهانسبرج (سبتمبر 2002) ، ردود فعل عربية رسمية متحفظة وأخرى شعبية معارضة؛ حيث ينظر معارضو المشروع إليه على أنه أحد أدوات التطبيع مع الدولة العبرية، وأن تنفيذه سيساعد على دمج هذه الدولة مع بقية الدول العربية، كما أنهم يرون أن تمويل المشروع سيصب في جزء منه لصالح الصهاينة. وقد فوجئت المجموعة العربية المشاركة في قمة الأرض بالمشروع وطلبت توضيحات من الوفد الأردني، وحاولت المجموعة ممارسة بعض الضغوط على الأردن لثنيه عن تنفيذه. وتجنباً لإثارة مزيد من الخلافات تقرر تأجيل مناقشة المشروع إلى أجل غير مسمى.
وتعتبر كل من مصر وسورية والعراق ـ قبل خضوعه للاحتلال ـ والسعودية والسلطة الوطنية الفلسطينية أكبر المتحفظين على المشروع. ويرتبط الرفض المصري بأبعاد سياسية واستراتيجية؛ فمصر ترفض أن يسبق مسار التعاون الاقتصادي لعملية السلام المسار السياسي الذي أصبح يعاني من انتكاسة كبيرة، إلى جانب أن هناك مخاوف مصرية من تهديد دورها الإقليمي من خلال هذه المشاريع التي يمكن أن تشكل تهديداً لقناة السويس.
وعلى الصعيد الشعبي؛ فقد أدانت أحزاب المعارضة الأردنية مجتمعة مشروع قناة البحرين، واعتبرت، في بيان صدر عن لجنتها التنسيقية، أن هذا المشروع يستهين بمشاعر العرب والمسلمين ويستخف بمصالحهم، ونددت بالخطوة الحكومية وبالحماس غير المسبوق للمشروع، وعددت مخاطر المشروع التي تكمن في ضخامته، والنتائج التي يجنيها العدو منه، سواء في تبريد مفاعلاته النووية أو ري أراضي النقب، مستفيداً من قدراته التقنية العالية، وقدرته على توفير التمويل اللازم لمشاريعه، بينما تتضاءل فائدة الأردن من هذا المشروع. كما تكمن خطورة هذا المشروع في خروجه على قرارات القمة العربية في بيروت، وعلى الإجماع العربي الرافض للتواصل مع العدو الصهيوني. وقال البيان: إننا ندرك جيداً احتياجات الأردن المائية؛ فمصلحة الأردن تكمن في تنفيذ مشاريع مشتركة مع عمقه العربي، وفي مقدمة المشاريع مشروع سد الوحدة مع سورية الشقيقة، وهو كفيل بتوفير احتياجات الأردن، بالإضافة إلى ما له من مزايا عديدة في مقدمتها عذوبة المياه وقربه من الكثافة السكانية، والأراضي الصالحة للزراعة، كما أن الأردن لا يستطيع الجمع بين عمقه العربي والشراكة مع العدو الصهيوني. وبالرغم من الهجوم العنيف الذي تلقاه مشروع قناة البحرين، إلا أن الأردن ما زال مصمماً على المضي فيه والدفاع عنه.
وعلى الصعيد السياسي ترغب الدولة الصهيونية في أن يشاركها الأردن واحداً من أهم المشروعات البيئية في العالم والمنطقة، لتؤكد على أنه ليس هناك مقاطعة عربية لها. وقد ساهم الموقف الأردني في تخفيف حدة الهجمات الدبلوماسية ضد الصهاينة في قمة الأرض، على عكس الحال في مؤتمر ديربان في عام 2001م.
- خاتمة:
لقد شكلت النتائج السياسية والعسكرية للعدوان الأمريكي على العراق بيئة ملائمة لطرح مشروع قناة البحر الميت بصورة أكثر قوة، فاكتسب المشروع زخماً كبيراً، وتراجعت المعارضة العربية الرسمية، وأصاب الإحباط قطاعات واسعة من الفعاليات الشعبية العربية. فهل تنجح الدولة الصهيونية في تحقيق ما عجزت عنه طوال أكثر من مائة عام، أم تستطيع القوى العربية أن تلملم شتاتها لتعيق تنفيذ المشروع؛ وخصوصاً أن هناك العديد من السيناريوهات التي تشير إلى أن تنفيذ المشروع سيمثل خطوة مهمة نحو فرض المزيد من الهيمنة الصهيونية على مقدرات المنطقة وثرواتها الطبيعية؟ كما أن هناك احتمالات كبيرة لتوسيع المشروع وتحويله من أنبوب إلى قناة مما سيؤثر على مجمل الأوضاع الجيو ـ سياسية في المنطقة.
__________
* أهم المراجع:
1 ـ أحمد تهامي عبد الحي، الاستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر ومنابع النيل، القاهرة، معهد البحوث والدراسات العربية، سلسلة دراسات استراتيجية 2003م.
2 ـ وزارة الدفاع المصرية، قناة السويس والتحديات المستقبلية (القاهرة: وزارة الدفاع، د. ت.) .
3 ـ خيارات التنمية في الشرق الأوسط المشاريع الإسرائيلية التي قدمت إلى قمة عمان، مختارات إسرائيلية، العدد 12، القاهرة: ديسمبر 1995م.
4 ـ هآرتس 12/11/1996م، مختارات إسرائيلية، ع 24، القاهرة: ديسمبر 1996م، ص4.
5 ـ حسن بكر حرب، المياه في الشرق الأوسط الجديد (القاهرة: ميريت للنشر، 1999) .
6 ـ إسلام كمال، قناة البحر الميت: مشروع إسرائيلي يهدد قناة السويس، روز اليوسف، العدد 3874، 7 ـ 13/9/2002م.
7 ـ القدس العربي، أحزاب المعارضة الأردنية تعتبر مشروع البحرين خطيراً للغاية، 9/9/2002م.
8 ـ موقع صحيفة العرب أونلاين، مسؤولون أردنيون يؤكدون أن المشروع ولد أردنياً، إسرائيل والأردن يتفقان على خطة لإنقاذ البحر الميت، 2/9/2002م.
9 ـ صحيفة القدس العربي، الأردن يطرح مشروع قناة بين البحر الأحمر والبحر الميت، 30/8/2002م.
10 ـ جميل هلال، استراتيجية إسرائيل الاقتصادية للشرق الأوسط (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1995) ، ص 143، 176.
11 ـ حلمي عبد الكريم الزعبي، الاستراتيجية الصهيونية للسيطرة على البحر الأحمر (القاهرة، الدار العربية للنشر والترجمة، ط 1، 1990) صـ 10، 172 ـ 175.
* المصادر الأجنبية:
1- Barbara Krieger, the Dead Sea, Myth, History, And politics, Hanover, NH: University Press of New England, 1997.
2- Pinchas Glueckstern& Gidon Fishelson," Water Desalination and the Red Sea-Dead Sea Canal" (Tel Aviv:The Armand Hammer Fund, April 1992) .
3- M. Medzini, Israel's foreign relations, selected Documents, 1982-1984,Ministery for foreign Affairs, volume eight , Jerusalem, 1990.p. 270.
4 - John Quigley, Soviet Immigration To Israel and Middle East peace, Berkshire, UK. Garnet, 1997, p 237,238(223/55)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
مفكرة الشهر
ـ 12 صفر: الاحتلال يفتح معبر المنطار جزئياً بعد غلق وحصار دام 20 يوماً.
ـ 13: 78.3% نسبة فوز كتلة حماس الطلابية في انتخابات الجامعة الإسلامية بغزة.
ـ 14: بريطانيا تعلن سحب نحو 10% من قواتها في العراق قبل نهاية مايو القادم.
ـ 15: إسرائيل تقتحم سجن أريحا وتعتقل سعدات بعد انسحاب حراسه الغربيين.
ـ 16: المدعي العام الدانمركي يرفض توجيه اتهامات للصحيفة ناشرة الرسوم.
ـ 17: رفع الجلسة الأولى للبرلمان العراقي بعد 40 دقيقة وسط دعوات للتفاؤل.
ـ 18: (فتح) تقرر رفض المشاركة في حكومة تشكّلها حماس.
ـ 19: حماس تعرض حكومتها على أبو مازن دون مشاركة من الفصائل.
ـ 20: تمديد فترة وجود قوات الاتحاد الإفريقي في دارفور ستة أشهر.
ـ 21: غلق معبر المنطار بعد 40 دقيقة من فتحه وغزة تحت الحصار.
ـ 22: عقد المؤتمر العالمي لنصرة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في البحرين.
ـ 23: محطة أمريكية تكشف تجسس وزير الخارجية العراقي السابق على صدام.
ـ 24: إطلاق ثلاث رهائن غربيين في العراق بطريقة غامضة.
ـ 25: رامسفيلد: قواتنا ستبقى في العراق حتى عام 2009م.
ـ 26: الاحتلال يعتقل 18 شخصاً ينتمون إلى (فتح) والجهاد الإسلامي في نابلس.
ـ 27: محكمة أفغانية تطلق سراح أفغاني مرتدّ وإيطاليا تمنحه لجوءاً سياسياً.
ـ 28: القمة العربية الدورية تبدأ أعمالها في الخرطوم.
ـ 29: حكومة حماس تحصل على ثقة البرلمان بأغلبية 71 نائباً.
ـ 29: قمة الخرطوم تختتم أعمالها بغياب عدد كبير من قادة الدول.
ـ 1: ربيع أول: نتائج الانتخابات الإسرائيلية: كاديما 29، العمل 22، إسرائيل بيتنا 14، الليكود 11.
ـ 2: انهيار المحادثات بين الميليشيات في الصومال، ومخاوف من تجدد القتال.
ـ 3: أمريكا وكندا والاتحاد الأوروبي يقررون قطع المساعدات للفلسطينيين.
ـ 4: مليون صومالي يواجهون الجفاف وعشرة آلاف قد يموتون شهرياً.
ـ 4: اغتيال قائد لجان المقاومة الشعبية في غزة واتهام فتحاويين بالتورط.
ـ 5: كوندوليزا رايس وجاك سترو يزوران بغداد لإنقاذ الحكومة العراقية.
ـ 6: 12 قتيلاً في أعنف اشتباكات كردية تركية منذ عشرة أعوام.
ـ 7: مطالبة الحاخام الأكبر لإسرائيل بالاستقالة لاتهامه في قضايا فساد.
ـ 8: تكليف إيهود أولمرت تشكيل الحكومة الجديدة في الكيان الصهيوني.
ـ 8: الوقف السني في البصرة يدعو لإغلاق المساجد بسبب عمليات القتل.
ـ 9: هنية يسمح بإجراء اتصالات مع الإسرائيليين في شؤون الحياة اليومية.
ـ 10: مجلة أمريكية: إدارة بوش تخطط لقصف إيران بقنابل نووية مخترقة.
ـ 11: مبارك: الشيعة 65% من العراقيين ولاء أغلبهم لإيران، وانسحاب الأمريكيين الآن مصيبة.
ـ 12: أنباء عن إحباط محاولة لاغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله الشيعي.
__________
علامة تعجب
المقاومة بالنيكوتين:
وجهت السلطات الأمريكية إلى 19 شخصاً تهمة تهريب السجائر وبضائع أخرى واستخدام جزء من العائدات في مساعدة حزب الله اللبناني الذي تعتبره الولايات المتحدة منظمة إرهابية، وقالت وزارة العدل في بيان لها إن أعضاء المنظمة كانوا يفرضون ضريبة مقاومة على السجائر التي تباع في السوق السوداء، ويبلغون زبائنهم أن تلك الضريبة ستصل إلى حزب الله! [صحيفة الجزيرة 13/3/2006 أف ب]
«استشفاف» بالخاء:
يمتلك الرئيس الأمريكي جورج بوش قدرة واضحة على قلب الحقائق، حتى إنه يرى في معالم الفوضى ملامح الاستقرار، ورغم إقراره أن الوضع في العراق متوتر في هذا البلد وتوقعه رؤية مزيد من مشاهد الفوضى والمجازر في الأشهر المقبلة، لكنه أكد أنه استشفّ من موجات العنف الطائفي الأخيرة بوادر مستقبل واعد، مؤكداً أن العراقيين ابتعدوا عن هوة الحرب الأهلية! [13/3/2006، أف ب]
إشكالية الجدول:
المقاومة العراقية تطلب انسحاباً فورياً للاحتلال، وتيار الصدر يطلب انسحاباً مجدولاً، والفرق بينهما أن الجدولة تعني بقاء الاحتلال في الفترة الحالية، وهذا أمر له دلالاته الكثيرة.. وقد كرر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر مطلب الجدولة في خطبة الجمعة قبل أسبوعين، وقال إنه دعا أكثر من مرة إلى الجدولة إلا أن الإجابة كانت بأن الانسحاب يعتبر نصراً للإرهاب، وطرح الصدر مشروعاً للجدولة من عدة نقاط، أهمها: الانسحاب من المدن وتسليم الملف الأمني للعراقيين، والغريب أن هذا ما تعلنه سلطات الاحتلال! [8/ 4/ 2006م]
الحكيم والحكيمة:
مع زحمة الأحداث يبدو أن عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الشيعي ومنظمة بدر يخلط بين انتمائه العراقي وجذوره الإيرانية؛ فقد ناشد حكومة طهران أن تقبل بالحوار مع أمريكا بخصوص العراق، وقال: «أطالب القيادة الحكيمة في الجمهورية الإسلامية في إيران بفتح حوار واضح مع أمريكا على النقاط المختلف عليها حول العراق» ! [وكالات]
__________
مرصد الأخبار
أخبار ذرّيّة
السياسة الأمريكية في التعامل مع قضية الأسلحة النووية تثير الدهشة، فيما يتعلق بدول: الهند، باكستان، إيران، الكيان الصهيوني.
ففي القاهرة أكد السفير الأمريكي ريتشارد دوني أن الملفين النوويين الإيراني والإسرائيلي مرتبطان، فإذا قامت إيران بتخصيب اليورانيوم عندها فسوف يكون لديها قنبلة نووية، وهذا لن يشجع إسرائيل على الانضمام لمعاهدة عدم الانتشار النووية، وفي المقابل حثّت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس على إقرار اتفاق الطاقة النووية بين أمريكا والهند بحجة أن ذلك سوف يقلل من اعتماد الهند على النفط الإيراني ويوفر آلافاً من فرص العمل للأمريكيين، وأقرت بأن الاتفاق يعني أن تكون الهند حرة في مواصلة إنتاج الأسلحة النووية، أما باكستان فلا تزال العقوبات المتعلقة بإجرائها تفجيرات نووية قائمة، وتتعرض للتضييق والحظر العسكري الأمريكي.
وفي نفس الوقت نقلت التقارير أن بريطانيا وأمريكا تطوران سلاحاً نووياً جديداً يستطيع تجاوز قيود الانتهاك الواردة في المعاهدات الدولية.. [وكالات الأنباء]
الجيش الإسرائيلي يدعم المقاومة
ذكر التلفزيون الإسرائيلي أن الشرطة ضبطت في منزل أحد الجنود الإسرائيليين المسرّحين من الخدمة، كميةً كبيرة من المتفجرات والقنابل الدخانية والقوالب المتفجرة والعديد من الأسلحة التي سرقت من إحدى قواعد جيش الاحتلال، وأوضح أن شرطة الاحتلال تحقق فيما إذا كانت هذه الأسلحة قد وصلت إلى فصائل المقاومة الفلسطينية أو لا، ويُتّهم الجندي مع مستوطن آخر بالقيام بأعمال سرقة وسطو وتزوير شيكات مصرفية وبطاقات ائتمان وتصاريح دخول إلى الأراضي المحتلة تُباع للفلسطينيين مقابل مبالغ كبيرة، ويذكر أن إحدى قواعد الجيش الإسرائيلي في النقب سُرق مخزن سلاحها بأكمله قبل فترة. [الجزيرة 13/ 2/ 1427هـ]
الزرقاويون ـ التكفيريون ـ النواصب.. إلخ
طالب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر العرب السنة أن يعلنوا صراحةً تبرّؤهم ممن سماهم: الزرقاويين والتكفيريين، وقال الصدر في مؤتمر صحافي في منزله بالنجف: أبرّئ الشيعة والسنّة من هذه الأعمال، وأطالب إخواني في هيئة علماء المسلمين وغيرهم من الأحزاب السنّية أن تتبرّأ من الزرقاويين والتكفيريين وغيرهم، وأضاف أن: «هذا الأمر ضروري، وحتى الآن لم نسمع تبرئة منهم، لا بد من تحديد موقف من السنّة من التكفيريين والزرقاويين، كنت أحسن الظن بهيئة علماء المسلمين، وأي شخص لا يتبرّأ من التكفيريين فهو تكفيري» وخاطب مقتدى الصدر مهدّداً بشنّ حرب واسعة: «يمكنني ولديّ القدرة أن أحارب النواصب، وهناك غطاء شرعي من قِبَل المراجع، وأستطيع مواجهتهم عسكرياً وعقائدياً، ولكنني لا أريد أن أنجرّ إلى حرب أهلية، وأدعو للتهدئة وسأبقى داعياً لها» وقال أيضاً: «أحمّل مسؤولية هذا الحادث الأليم إلى القوات المحتلة باعتبارها الآمرة لهذا الفعل، وإن كان المباشر له هم النواصب لكن بغطاء جوي أمريكي» .
ويذكر أن السفير الأمريكي لدى العراق (زلماي خليل زاد) كان قد صرّح في معرض ردّه على الصدر: «أريد أن أذكِّر مقتدى الصدر أن نظام صدام قتل والده، وأن الولايات المتحدة هي التي خلصت الشعب العراقي من نظام صدام حسين» . [أف ب، 13/ 2/ 1427هـ]
أمريكا أون لاين
قالت صحيفة شيكاغو تريبيون: إن تحقيقاً أجرته باستخدام قواعد البيانات العامة الموجودة على شبكة الإنترنت كشف عن أسماء أكثر من 2600 موظف بوكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) بينهم عديد من العملاء السريين، ولم تكشف الصحيفة عن الطرق التي اتبعتها لجمع هذه المعلومات، ولكنها أشارت إلى قواعد البيانات المتعلقة بالملاحة الجوية والتقارير الموثوق بها والخدمات الأخرى المتاحة عبر الإنترنت التي تقدم عناوين منازل المواطنين الأمريكيين وأرقام هواتفهم بالإضافة إلى صور الأقمار الصناعية لأماكن عملهم ومنازلهم، وقالت الصحيفة: إن التحقيق كشف 50 رقماً داخلياً للإدارة وحوالي عشرين منشأة سرية تابعة لها في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، ومن بين المنشآت السرية التي تم كشفها بعض الأبنية الواقعة تحت حراسة مشددة بالقرب من مقر الوكالة بفيرجينيا، ولكن البعض الآخر بدا منازل خاصة بلا حراسة ولا تحمل أي إشارة خارجية على انتسابها للسي آي إيه. [وكالات]
ناظر البنتاجون
قال وزير الدفاع الأمريكي في خطاب ألقاه أمام طلبة بالكلية الحربية التابعة للجيش الأمريكي في بنسلفانيا، إن الولايات المتحدة تستحق درجات ضعيفة في معركة الأفكار مع القاعدة، وقال: «إذا كنت مانحاً درجات فسأقول إننا ربما نستحق درجة مقبول أو أكثر قليلاً كبلد فيما يتعلق بحسن أدائنا في معركة الأفكار التي تجري في العالم اليوم، لن أخمّن بأن ذلك سهل، لكننا كبلد لم نتوصل للصيغة السليمة» . [وكالات 29/ 3/2006م]
أساليب جمع المعلومات
ذكر تقرير عسكري أمريكي سري أن كبار القادة العراقيين صُدموا عندما أبلغهم صدام قبل ثلاثة أشهر من الحرب أنه لا يملك أسلحة دمار شامل، وأضاف التقرير العسكري السري ـ الذي أعدّ قبل عام تقريباً ونشرت أجزاء منه صحيفة أمريكية ـ أن صدام قلّل من احتمال حدوث غزو أمريكي على نطاق كامل، وأنه ظل مع دائرة صغيرة من مساعديه مقتنعين بأن التهديد الأساسي يأتي من الداخل، وقالت الصحيفة: إنه لِجمع هذه المادة قام المحلّلون العسكريون الأمريكيون بسؤال أكثر من 110 مسؤولين وضباط جيش عراقيين، وأحياناً كانوا يتخفون في شكل مؤرخين عسكريين ويدعون المسؤولين إلى عشاء فاخر كي يخرجوا ما عندهم من أسرار، وتم استجواب آخرين في مركز اعتقال في مطار بغداد وسجن أبو غريب. [رويترز]
بوابة للخروج فقط
تسعى قوى عالمية للحدّ من تنامي الإسلام، وذلك بتشجيع وسائل الخروج من الدين، والتضييق على وسائل الدخول في الإسلام، على الأقل في الدول الإسلامية.
وفي أفغانستان أثار تعرّض أفغاني مرتدّ بسبب التنصر ردود فعل غربية مبالغ فيها؛ إذ تدخل رؤساء دول ومسؤولون للدفاع عن حق الردة، وتمت اتصالات مع الرئيس الأفغاني حامد كرزاي من دول الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وأستراليا وبريطانيا وكندا والنمسا والأمم المتحدة وحلف الأطلسي وبابا الفاتيكان، حتى إن الرئيس الأمريكي وجد متسعاً من الوقت للتعبير عن قلقه على مصير «عبد الرحمن» وتمت تبرئة المرتد واستقبلته إيطاليا في اليوم نفسه.
وفي مصر منحت المحكمة طائفة البهائيين المرتدة حق تسجيل ديانتهم المزيفة في الوثائق الرسمية وهو ما يعني اعترافاً رسمياً بها، رغم فتوى الأزهر بردة أتباعها.
وفي المقابل قبل أشهر أثار الأقباط ضجة كبيرة على دخول نساء قبطيات في الإسلام، واعتبروا ذلك إجباراً لهنّ، وتم بالفعل تسليم عدد منهن للكنيسة حيث المصير المجهول.
__________
من هنا وهناك
ـ تستورد المناطق الفلسطينية ما قيمته 1.3 مليار دولار سنوياً من الكيان الصهيوني بصورة إجبارية؛ نتيجة التضييق على الاستيراد من دول عربية أخرى، مثل: مصر والأردن، وذلك لحساب التجار اليهود. [وكالات 23/ 3/ 2006م]
ـ قالت منظمة الصحة العالمية إن 2000 طفل يولدون يومياً مصابين بالإيدز الذي ينتقل إليهم من أمهاتهم، وأن 570 ألف طفل يموتون سنوياً بالمرض نفسه. [رويترز 29/ 3/ 2006م]
ـ قالت منظمة العفو الدولية في تقرير مطوّل بعنوان «تحت الرادار: رحلات سرية إلى التعذيب والاختفاء» إن (C.I.A) لم تخرق فقط القانون الدولي المتعلق بمنع التعذيب، لكن أيضاً قوانين الطيران المدني، بلجوئها في تغطية عملياتها إلى خدمة شركات خاصة، وقد بلغ عدد الرحلات التي استخدمت لنقل المعتقلين حوالي 1600 رحلة. [الجزيرة نت 5/4/ 2006م]
ـ قررت الـ (سي آي إيه) مراجعة ونشر ما يقدر بحوالي 48 ألف صندوق من الوثائق ومئات المحادثات المسجلة العراقية وكثير منها لصدام حسين، وقد نُقلت الوثائق من العراق إلى قطر، وتمت مراجعتها بواسطة (مجموعة مسح العراق) التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية. [الجزيرة]
ـ اتّهم الرئيس الأمريكي إيران بمسؤوليتها ـ على الأقل ـ عن جزء من عدد القتلى الناتج عن الهجمات على قوات التحالف؛ لأنها تمد المسلحين الشيعة بالقدرة على صناعة عبوات ناسفة يدوية الصنع قادرة على اختراق المصفحات ويتم التحكم بها عن بعد. [أ. ف. ب]
ـ ذكرت تقارير صحفية أن نحو ستمائة حادث تصعيدي لاستخدام القوة وقعت في أرجاء العراق خلال ثمانية أسابيع بأيدي القوات الأمريكية، مما أدّى إلى مقتل أكثر من ثمانين شخصاً وجرح ستين آخرين، و «تصعيدي» وصفٌ مستخدم للتعبير عن قتل العراقيين على سبيل الاحتراز، وتقول دراسة أخرى: إن مائة وستة وخمسين عراقياً قُتلوا، وجُرح ثلاثمائة وستة آخرون في حوادث مماثلة في محافظة «الأنبار» وحدها عام 2005م. [موقع البي بي سي 6/ 4/ 2006م]
__________
سين وجيم
س: ما هي حقيقة فرق الموت التي تنتشر في العراق، وما هي خلفياتها السياسية؟
أصبح الحديث عن «فرق الموت» متداولاً سراً وجهراً في العراق، والملفت في عملياتها أنها تجري على مرأى ومسمع من القوات الأمريكية، وقد ازدادت عملياتها بشكل كبير بعد تفجير قبة سامراء وتحت سمع وبصر القوات الأمريكية، وكثر التساؤل حول من يدير عملياتها، وتحديداً في وزارة الداخلية والقوات التابعة لها خاصة مغاوير الشرطة، ولواء الذئب ولواء العقرب وغيرها من الألوية التي قادت وتقود العمليات ضد المسلحين في العراق.
وقد نشر الكاتب الأمريكي (ماكس فولر) مؤلف كتاب «العراق: خيار السلفادور يصبح حقيقة» ، دراسة خطيرة عن فرق الموت بعنوان «استغاثة كاذبة عن ذئب: معلومات مضللة للإعلام وفرق القتل في العراق المحتل» نوفمبر 2005، وقد أكد فولر في دراسته أن وكالة المخابرات الأمريكية على صلة وثيقة بـ «فرق الموت» ومن المرجح جداً أنها أسستها، لبناء قواعد تحتية، تؤسس ومن ثَم لحرب طائفية تريدها الولايات المتحدة للعراق، إذا فشلت في ضبط إيقاعات العملية السياسية المتراجعة جداً بسبب نظام المحاصصة الطائفية.
التقارير المستقلة أيضاً من داخل العراق تشير إلى أن المخابرات الأمريكية أشرفت على تأسيس ميليشيا مغاوير الشرطة، كذلك فإن الخط البياني لعمليات عناصر هذه الفرق، بدأ يخدم بقوة سياسة الاحتلال.
ويبدو واضحاً أن الهدف من عمليات «فرق الموت» هو تضخيم الهوة بين السنة والشيعة، وما يزيد في الشكوك تعرض صحفيين للقتل بأيدي القوات الأمريكية في ظروف غامضة، ففي 30/6/2005م قتل الصحفي العراقي (ياسر الصالحي) مراسل شبكة نايت رايدر Knight Ridder)) برصاص قناص أمريكي بعد ثلاثة أيام فقط من نشره مقالة عن خطف مغاوير الشرطة العراقية لأشخاص ثم قتلهم.. وقد قتل أيضاً الصحفي الأمريكي (ستيفن فينسنت) في البصرة بعد نشره مقالاً في نيويورك تايمز قال فيه: «إن أعضاء الجماعات السياسية الشيعية قد تسللوا إلى صفوف قوات الأمن في المدينة» . كما انتقد البريطانيين لتغاضيهم عن انتهاكات المتطرفين الشيعة في المدينة.
خضعت قوات مغاوير الشرطة لتدريبات نظرية وعملية مكثفة نظمها ضباط أمريكيون من قوات مكافحة التمرّد، ونفذت «المغاوير» عمليات مشتركة مع وحدات القوات الخاصّة الأمريكية السريّة جداً.
بعد تسلم حكومة إبراهيم الجعفري الحكومة خلفاً لعلاوي، دب الخلاف بين أنصار أمريكا وإيران، وأخذت حرب الفضائح بين الطرفين ترسم المشهد المرعب لقوات المغاوير و «فرق الموت» ، بهوية إيرانية، وكشفت تقارير مختلفة متطابقة عن حجم النفوذ الإيراني في العراق، من خلال التنظيمات الشيعية الموالية، وهذا يعني ميدانياً أن فرق الموت ليست «أمريكية» المنشأ دائماً.
وذكر (فولر) في الدراسة أن الحضور الإيراني يتركز في البصرة وعموم المحافظات الجنوبية ومحافظات الوسط، وفي كربلاء توجد قاعدة قوية للحرس الثوري ولجهاز استخباراته ولوحدة العمليات الخارجية التي يشرف عليها وعلى عموم العمليات في البصرة (العميد أحمد فرونده) و (فيلق القدس) التابع للحرس الثوري ومسؤول بشكل مباشر عن تقديم الدعم اللوجيستي للعمليات داخل العراق بقيادة (العميد قاسم سليماني) ، ولا يتورط الحرس الثوري الايراني في تنفيذ عمليات مباشرة داخل العراق، بل تتم العمليات من اغتيال وتفجير عن طريق الأجنحة العسكرية لمنظمات وأحزاب عراقية شيعية، ومن أبرز هذه المنظمات العراقية:
1 - منظمة ثأر الله، وأمينها العام يوسف سناوي (هارب) .
تكشفت حقائق دامغة عن علاقة الحرس الثوري الإيراني بهذه المنظمة وتنفيذها لعمليات الاغتيال والاختطاف التي تعرضت لها شخصيات مرموقة في البصرة، حيث عثرت القوات العراقية بالتعاون مع القوات البريطانية على أقراص مدمجة تحمل معلومات امنية عن هذه الخطط وعن الدعم المالي واللوجستي الايراني للمنظمة.
2 - «البيت الخماسي» الذي يتألف من:
المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، منظمة بدر، التي كان اسمها فيلق بدر، وهي الذراع العسكرية للمجلس الأعلى، منظمة سيد الشهداء، حركة ثأر الله، مؤسسة شهيد المحراب.
وقد تم تأسيس «أنصار بدر» من العراقيين في الداخل غير المنتمين أصلاً إلى فيلق بدر (أثناء وجوده في إيران) ، وهي قوة إضافية تعمل لصالح تعزيز النفوذ الإيراني. وهناك أيضاً عدد من المنظمات الشيعية الأخرى وكلها مرتبطة بشكل أو بآخر بإيران ومنها: «القواعد الإسلامية» التابعة للمجلس الأعلى و «منظمة 15 شعبان» وحركة «حزب الله» (التي يترأسها كريم ماهود المحمداوي) وحركة حزب الله (حسن الساري) و «النخب الإسلامية» وحركة «بقية الله» ، ويشار إلى أن «بقية الله» و «ثار الله» ، تعرضتا إلى حملة اعتقالات من قِبَل استخبارات الشرطة والقوات البريطانية بتهم تنفيذ اغتيالات.
3 - حزب الدعوة الإسلامية - خط إبراهيم الجعفري، ويترأسه في البصرة عامر الخزاعي.
4 - حزب الدعوة الإسلامية - تنظيم العراق، ويمثله في الحكومة وزير الأمن الوطني عبد الكريم العنزي.
وبشكل عام، يعتبر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية منظمة بدر، الركيزة الأساسية للنفوذ الإيراني في الجنوب، إلا أن إيران تعتمد أيضاً على دعم الجماعات الشيعية الأخرى.
ويتولى التنسيق بين قيادات هذه التشكيلات المسلحة الشيعية من فرق الموت، وبين المخابرات المركزية الأمريكية، موفق الربيعي الذي يحمل دائماً صفة «مستشار الأمن القومي» ويعتبره ماكس فولر المسؤول الأخطر، عن جرائم فرق الموت.
[بتصرف عن موقع سويس إينفو ومصادر أخرا]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
أخبار
الشواذ سيقسمون القدس إلى دولتين
قال «إيلي يشاي» زعيم حزب شاس الديني والمرشح لتولي منصب وزارة الداخلية في حال دخول حزبه الائتلاف الحكومي مع حزب كاديما: إن الاستعدادات الخاصة بالحفل الماجن الكبير للشواذ والسحاقيات في مدينة القدس والمقرر له أغسطس القادم، سيجلب المصائب على المدينة المقدسة؛ فهؤلاء الشواذ يسعون لتقسيم القدس إلى دولتين إحداهما يتم تخصيصها لهم وحدهم» . [صحيفة معاريف العبرية 3/4/2006]
اليهود الروس يكرهون العرب
«الحقيقة أن النجاح الكبير الذي حققه «أفيجدور ليبرمان» وحزبه «إسرائيل بيتنا» في الانتخابات البرلمانية، جاء بسبب توافق آراء ليبرمان مع المهاجرين الروس خاصة في الجزئية المتعلقة بكراهية كل طرف منهما للعرب» . [صحيفة هآرتس العبرية 4/4/2006]
تصريحات عبرية
ü «ليبرمان هو قائد اليمين اليهودي الجديد، وسنشهد خلال سنوات بزوغه كرئيس وزراء تغيير الكثير من المفاهيم في منطقة الشرق الأوسط» .
[البروفيسور الإسرائيلي «موطي كيدار» بالقناة الفضائية الصهيونية 29/3/2006]
ü «إذا تحدثت سأكشف فضائح لا حصر لها عن نتنياهو وزوجته، وعلى زوجته سارة ألا تضطرني لذلك» .
[جودي زوجة وزير الخارجية الصهيوني السابق «سيلفان شالوم» لصحيفة يديعوت أحرونوت 1/4/2006]
ü «حكومة أولمرت المنتظرة لن تكمل عامين، وستشهد إسرائيل انتخابات برلمانية جديدة لا أحد يعرف ماذا سيحدث فيها، والغالب أن اليمين اليهودي سيبسط سيطرته على البلاد» .
[الصحفي الإسرائيلي «يارون لندن» للقناة العاشرة الصهيونية 30/3/2006]
ü «شارون أسس حزب الليكود قبل 53 عاماً، وباختفائه من على الساحة اختفى الحزب إلى الأبد» .
[البروفيسور الإسرائيلي «مردخاي كيدار» للقناة الثانية الصهيونية 1/4/2006]
ü «خطة التجميع وترسيم الحدود التي ينوي إيهود أولمرت تنفيذها تضلل المجتمع الدولي، وتنهي فكرة اقامة دولة فلسطينية» .
[البروفيسور الإسرائيلي «أورن يفتحائيل» بصحيفة معاريف 2/4/2006]
__________
أخبار التنصير
روز اليوسف تخصص صفحة أسبوعية للرهبان والقساوسة
في خطوة غريبة خصصت مجلة روز اليوسف المصرية صفحة أسبوعية تحمل عنوان «قساوسة ورهبان» ، وهذه الصفحة التي تعد شكلاً من أشكال التنصير تروِّج لـ «معجزات» رجال الكنيسة المزعومة، وتغطي أخبار الرهبان والقساوسة والكنائس.
والمجلة تخلو من أي مظهر إسلامي، بل تشتهر بمهاجمة كافة التيارات الإسلامية. واختلفت التأويلات في تخصيص هذه الصفحة الأسبوعية ما بين إبراز احترام الحكومة للأقليات، وبين نشاط تنصيري تموله الكنيسة، ورجح الناشط جمال أسعد عبد الملاك ان يكون الدافع إما سحب البساط من تحت أقباط المهجر الذين يزعمون اضطهاد النصارى في مصر، أو يكون مجرد جذب مزيد من القراء النصارى.
[نقلاً عن صحيفة المصريون الإلكترونية 9/4/2006 بتصرف]
نداء الاستغاثة والاستنصار من مسلمي نيجيريا
أنقذونا.. أصارحكم في هذا المقام أن عزلة المسلمين في جنوب نيجيريا سيضر بمستقبلهم.. فقد أُغلقت المؤسسات الإسلامية الخيرية ولم نحصل إلا على الاعتذارات.
وتدخل في ديارنا ملايين دولارات أمريكية لتنصيرنا ولتشويه صورة إسلامنا.
المدارس والمستشفيات والبنوك ومراكز الإعلام والمناصب العالية في الحكومة بأيدي المسيحيين!!
المسلمون في الجنوب هم الأغلبية ولكنهم غثاء كغثاء السيل وذلك لما يأتي:
1 - الجمعيات الإسلامية في الجنوب ليس لهم الثقافة الإسلامية الكافية لمواجهة هذه التحديات التنصيرية.
2 - وأكثر من تسعين في المائة من المسلمين فقراء ومساكين، ويسبب هذا الفقر الشديد تأخرهم في المجتمع.
3 - وهناك تحرك خطير في الآونة الأخيرة للمنظمات التنصيرية والتغريبية والتضليلية وبدعم الدول الغربية لتنصير مسلمي نيجيريا في الجنوب خاصة. [موقع أوزبكستان المسلمة 18/3/2006]
البرلمان الجزائري يقر قانوناً يجرم نشاطات التبشير
أقر برلمان الجزائر يوم 20/3/2006 قانوناً ينص على إنزال عقوبات بالسجن لمن «يحاول دعوة مسلم إلى اعتناق دين آخر» .
وينص الدستور الجزائري في بنده الأول على أن الإسلام دين الدولة. وينص القانون المصادق عليه على إنزال عقوبات بالسجن تتراوح بين سنتين وخمس سنوات وغرامة بما بين 500 ألف إلى مليون دينار (ما بين خمسة إلى عشرة آلاف يورو) في حق كل من «يحث أو يرغم أو يستخدم وسائل التغرية لإرغام مسلم على اعتناق دين آخر» .
كذلك ينص على إنزال العقوبات نفسها في حق كل شخص «يصنع أو يخزن أو يوزع منشورات أو أشرطة سمعية بصرية أو أي وسائل أخرى تهدف إلى زعزعة الإيمان بالإسلام» . ويحظر القانون ممارسة أي ديانة ما عدا الإسلام «خارج المباني المخصصة لها ويربط تخصيص المباني لممارسة الديانة بترخيص مسبق» . وأعلن مسؤول الاتصال في وزارة الشؤون الدينية (عبد الله طمين) لوكالة الأنباء الجزائرية أن القانون يهدف في الأساس إلى «حظر النشاط الديني وحملات التبشير السرية» .
وقال (طمين) : إن الطائفة المسيحية التي هي «في معظمها من الأجانب تشكل اكبر أقلية دينية في الجزائر» . وتعد حاليا اقل من 11 ألف نسمة بعدما كانت تعد بمئات الآلاف قبل الاستقلال عام 1962 بينهم 110 من الكهنة و170 راهبة ينتشرون في مختلف أنحاء الجزائر.
[العربية نت - 20/3/2006](223/56)
القبر المفتوح
حسين الشيبة ناصر
تلقى عبد الله نبأ وفاة صديقه ـ الذي مات في المدينة قبل أىام ـ بحزن شديد، وظلّ قبره الذي حفره أهالي قريته مفتوحاً وفي حالة انتظار قدومه، لكنها كانت مشيئة الله أن يُقبر هناك حيث وافته المنية.
وفي إحدى الليالي جلس عبد الله مع بعض شباب القرية يتذكرون ظلمة القبر ووحشته، فقرروا الذهاب إلى ذلك القبر المفتوح ليختبر كل واحد منهم قوة نفسه، فيدخل إلى جوفه يتذكر فيه هاذم اللذات ولحظات السفر إلى عوالم الله، ثم ذهبوا جميعاً إلى المقبرة حتى وقفوا على حافته، ونزل عبد الله ودخل في اللحد متمدداً ومتيمّناً كما لو أنه كان ميتاً.
سقطت على وجهه ذرّات من التراب، وشمّ رائحة الأرض، وظلّ لسانه رطباً بذكر الله، ثم انقلب على ظهره ونظر إلى مصدر شعاع الضوء المسلّط عليه من مصباح كان مع أصحابه الذين كانوا ينظرون إليه بدهشة وإعجاب.
أغمض عينيه وراح يستحضر في ذهنه عذاب القبر، وانتابه شعور بالوحشة والخوف.
ناداه أحدهم فأجابهم بعد برهة من الزمن: انتظِروا بعض الوقت وأطفئوا مصباح الضوء ودعوني أفكر قليلاً، قالها بصوت خيّل إليهم كأنه صادرٌ من مكان بعيد وقادمٌ من عالم الموتى.. سادت لحظات صمت مطبق بعدما أنطفأ الضوء، لكن أحدهم حطّم حاجز الصمت عندما ألقى على عبد الله قليلاً من التراب والحصى الصغيرة مازحاً معه، فصاح ونهض قائلاً: أخرجوني! أخرجوني! ما بكم تريدون أن تدفنوني حياً؟! فضحكوا ثم ساعدوه على الخروج، وعادوا إلى القرية بعد رحلة تجريبية في أول منازل الآخرة، وهم يتذكرون تلك الحفرة الصغيرة دارَ ذلك المخلوق الضعيف الذي يسابق الزمن لامتلاك كل شيء، تقوده الشهوات والنفس التي لا تشبع إلى معارك خاسرة لا تكفيه فيها كل القصور ولا الدور ولا كنوز الأرض كلها، ولا يتوقف أبداً عند حدود، إلا مَنْ رحم الله.
عاد إلى بيته وصعد إلى السطح ونظر كعادته إلى الأفق البعيد، ونجمة هناك تتلألأ ضياءً، كان دائماً يحب النظر إليها ويراها أقرب نجمة إلى الأرض.. تذكّر عظمة الخالق والامتداد الفسيح للكون والوجود، وقال بصوت مسموع: سبحان الله! ما أروع التفكر والتأمل في تلك المخلوقات! يا لها من عبادة عجيبة ونعمة عظيمة! نام في تلك الليلة ورأى في المنام كأنه يسير في حشد كبير من الناس يسيرون خلف جنازة، فسمع أحدهم يقول للآخر: مات هذا اليوم عبد الله بن فلان رحمه الله، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وأيقن أن هذه جنازته بعد ذكر اسم أبيه، ثم همس في أذن أحد المشيعين قائلاً له: أرجو أن تدفنوني في تراب ناعم! ألا تساعدني على جمعه من تحت ظلال تلك الأشجار الوارفة والقريبة من هنا؟ أومأ الرجل برأسه موافقاً، وسار خلفهما مجموعة من الناس وجلس يتحسس بيديه ذرات الرمل، وعاد ينظر إلى وسط الحشد وإلى تلك الجنازة التي غُطّيت بقطعة من قماش مطرزة، ثم تلونت الأرض فجأة بضوء كضوء القمر حين يكون بدراً، ونظر إلى السماء فرأى تلك النجمة التي رآها في ذلك المساء، لكنها صارت أكثر قرباً وأكثر جمالاً وبهاءً وكأنها حورية أشرفت من السماء فأشرقت الأرض بنورها، ثم نهض من نومه مذعوراً، واستغفر الله، وقصّ على أصحابه تلك الرؤيا.
مرّت شهور بعد تلك الحادثة، وفي يوم من الأىام الماطرة شاع خبر موته في القرية وسط ذهول أصحابه الذين كانوا يمثلون معه في إحدى الليالي الماضية دورَ المسافرين إلى عالم البرزخ، وعادوا مرة أخرى إلى ذلك القبر ووقفوا على حافته، وتمنّوا لو أن صاحبهم ينهض في تلك اللحظة من جديد كما فعل ذات مرة عندما رموه بحفنة من التراب.(223/57)
الأديب السعودي
أ. د. حسن الهويمل في حوار مع (البيان)
حاوره: عبد الرزاق الغول ـ القاهرة
نقلت مصطلحات لا تناسب بيئتنا وهذا لون من الهزيمة
ذكر الدكتور حسن الهويمل ـ أستاذ النقد العربي بجامعة القصيم في السعودية ـ أن الكثيرين وقفوا من مصطلح الأدب الإسلامي موقف العداء ـ بسبب قصورهم في فهمه ـ وإن كان معظم أدبهم إسلامياً، وأن هناك نظرية نقدية إسلامية مبثوثة في مختتم سورة الشعراء، كما أكد سعادته أن مصطلحات النقد الأدبي الحِداثي نقلها النقلة العرب إلينا بلا تبصُّر، وفرضوها على الساحة في تعسف، وإن لم تناسب بيئتنا أو ذائقتنا العربية، كما أبدى تخوّفه ـ كناقد أدبي ـ من أن يكون شعر التفعيلة مرحلة من مراحل القضاء على عمود الشعر الذي عرفه العرب.
قضايا أدبية وإسلامية عديدة ناقشناها مع سعادته في هذا الحوار المثير:
البيان: كونك رئيساً لفرع رابطة الأدب الإسلامي بالسعودية نسألكم: أين كان الأدب الإسلامي في عصور الشعر المتعددة؟
3 ورب سائل آخر يسألني بصيغة أخرى: لماذا ابتدعتم هذا المصطلح «الأدب الإسلامي» ؟
في الحقيقة نحن لم نبتدع هذا المصطلح، لكن عندما طرحت الألوان الأدبية على الساحة: هذا أدب ماركسي، وهذا أدب وجودي، وذاك أدب واقعي، أصبح من حقنا أن نضيف إلى هذه الطروح مصطلح الأدب الإسلامي، أو نتّجه صوب الإقليم فيقال: الأدب المصري أو السوري أو السعودي أو العباسي، أو تضاف السياسة أو الطائفة كأدب الخوارج أو أدب الصعاليك أو غيره، ومن هنا فليس هناك مُشَاحَّة في إضافة كلمة الأدب إلى مُعطاها الدلالي، ونحن ـ أنصار الفكرة الإسلامية ـ ومن سَبْقنا طرحُنا مصطلح الأدب الإسلامي؛ حيث لم يعد الأدب العربي خاصاً بالإسلام، بل اتسع لكل الأفكار والاتجاهات، ومن هنا كان طرح هذا المصطلح بلا نفي للآخر، وقصدنا به التعامل مع الأدب من خلال رؤية إسلامية ومنظور إسلامي.
البيان: ما الحدود الفاصلة بين ما هو أدب إسلامي وغيره مما لا تعدونه إسلامياً؟
3 كل ما لا يصادر الإسلام أو لا يتصادم معه فهو أدب إسلامي؛ فكثير من الناس ممن لم يستطيعوا أن يفهموا المصطلح إذا نظرت في إنتاج الكثيرين منهم تجده أدباً إسلامياً؛ فهؤلاء في هذه الحالة لا يختلفون مع الإسلام، لكنهم يختلفون مع المصطلح الذي يفهمونه على غير المراد.
والأدب الإسلامي أدب مرن وشامل، وهو أدب قيمة وأدب فطرة، يتسع لكل الأطروحات، ومن هنا أتمنّى على الإخوة أعضاء الرابطة كسب أنصار لأدبنا الإسلامي، بأن يكون خطابهم بعيداً عن التشنّج والاتهام والإقصاء حتى لا يصادَر الآخر؛ لأن الرابطة لها رسالة مهمّة تحاول أن تؤديها، وهي إبلاغ الكلمة الطيبة والدعوة بالحسنى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ؛ وذلك لا يتم إلا من خلال خطاب إسلامي راق ومهذب، لمحاولة رفع الجهالة عن المصطلح؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا، وبهذا نكسب في صفنا ونجذب أكبر عدد من الأدباء والمفكرين والصحافيين والعلماء في كل التخصصات، ونقنع الآخر أن الأدب الإسلامي لا يصادر حقوقهم ولا آراءهم ولا إبداعاتهم، بل إنه مركب من كلمتين علينا أن نلتزم بهما، وهما: أدب وإسلام. والأدب يلتقي مع الجميع ما لم يصادر الإسلام أو يتصادم معه كما ذكرت، وكل ما أتى على هذا النحو فهو أدب إسلامي.
البيان: هل يوجد لديكم في الرابطة نقد أدبي إسلامي؟ وما أسس هذا النقد؟
3 النقد الإسلامي هو النقد العربي، والذي وضع أساس النقد الإسلامي وإطاره هو الإسلام؛ يتجلّى ذلك في القرآن الكريم عند التفريق بين شعراء الهداية وشعراء الغواية في قوله ـ تعالى ـ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] ، إلى قوله ـ تعالى ـ: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .
وهنا تتجلى أصول النقد الإسلامي في أوضح صورة. ثم جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاستمع للشعر وأُنشد الشعر بين يديه في المسجد، بل واستعان -صلى الله عليه وسلم- في الذبِّ عن الإسلام والمسلمين وفي حربه للكفار وردِّ أباطيلهم وهجومهم بشعراء كبار، من أمثال حسان بن ثابت رضي الله عنه.
وعندما سمع الشاعر يقول:
بلغ السماء لذاك عالي مجدنا ولقد نؤمل فوق ذلك منزلا
وهنا جاء النقد الإسلامي وسؤاله -صلى الله عليه وسلم-: إلى أين يا أبا ليلى؟
قال إلى جنة الخلد يا رسول الله!
وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عندما قام الحطيئة الشاعر بهجاء الزبرقان بن بدر هجاءً فاحشاً وجاء الأخير إلى عمر شاكياً؛ فعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لم يرسله إلى المحكمة الشرعية، بل أرسله إلى الخبير بالشعر حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ ليحكم له أو عليه من خلال قوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
واحتكم الزبرقان إلى محكمة الشعر، وقضى له حسان ـ رضي الله عنه ـ فنفذ عمر الحكم وسجن الحطيئة.
ولو رجعنا إلى النقد الأخلاقي من خلال أرسطو في المدينة الفاضلة عند اليونان قديماً وإلى غيرها نجد النظرة إلى الشعراء من خلال القيم الأخلاقية نظرة معتبرة، وأقول: لسنا بدعاً في هذه الأرض.
البيان: ما دمنا تكلمنا عن النقد الأدبي ما رأيكم فيما وفد علينا من مصطلحات نقدية كالبنيوية والتفكيكية وغيرهما؟
3 لقد حدثت ترجمة وتعريب كما حدث نقل بدون تبصر، فنقلت مصطلحات لا تناسب بيئتنا، وهذا لون من الهزيمة النفسية والانبهار بما لدى الغرب خيره وشره دون اهتمام بهويتنا وجذورنا وما خلّفه علماء البلاغة العرب من تراث، وهذه صورة فجة من صور التبعية الغربية في مجال النقد الأدبي.
البيان: راجت في الساحة الأدبية قصيدة النثر كما ظهرت قصيدة التفعيلة، ما رأيكم في مثل هاتين الظاهرتين؟!
3 هناك دراسة ومتابعة نشرت لي في مطبوعة «علامات» التي يصدرها نادي جدة الأدبي ـ كما كان هناك «الملتقى السابع لقراءة النص» وألقيت ورقة بهذا الشأن عن قصيدة النثر وقلت: إنها مصطلح متناقض، وإن القصيدة غير النثر ـ ووجدت من دافع عنها بحمية، لكن هذا رأيي كما هو رأي الكثيرين، والدراسة منشورة وتبين هذا الرأي في مجلة «علامات» لمن أراد الرجوع إليها.
وأما شعر التفعيلة فبعضهم يراه مرحلة من مراحل التحول التام عن القصيدة العمودية، فهل هو مجرد نقلة أم أنه هادم للشعر الأصيل؟
وكما يقول الخطابي وطه حسين وغيرهما: الكلام ثلاثة: شعر، ونثر، وقرآن.
فإن كانت قصيدة التفعيلة تضع فاصلاً بين النثر وما سواه، وإذا كانت تصلح للإنشاد والتغني، ويتوفر فيها إيقاع مما يستلزمه الشعر فلا بأس بذلك، فـ «نازك الملائكة» الشاعرة المعروفة لها نظرية ورأي معتبر في قصيدة التفعيلة، إلا أنها جعلت لها بحراً وسطراً، فإن تقيّد شاعر قصيدة التفعيلة بهذه الضوابط يمكن أن تكون هذه قصيدة.
البيان: أقحم بعضهم نفسه في عالم الشعر بزعم أنه يمكن اكتسابه بالتحصيل والدراسة؛ فما رأيكم في هذا الأمر؟
3 الشعر قبل كل شيء موهبة، يولد الشاعر وتولد معه موهبته، فإذا وعى وأدرك الحياة ومرَّ بالتجارب والمواقف عاطفية أو إصلاحية أو سياسية أو اقتصادية أو تجارب ذاتية بدأ المخاض الشعري يتحرك داخله، ثم بعد ذلك تولد القصيدة.
والشاعر إما شاعر بالموهبة فيأتي شعره سلساً كالماء الذي يغرفه من بحر، أو شاعر بالاقتدار ليكون الأمر تكلفاً كأنه ينحته من صخر، فيأتي صعباً أو نظماً بارداً ركيكاً أو كجسم بلا روح.
هناك عدد من أساتذة الأدب بالجامعة يمكن أن ينظموا قصائد بالاقتدار على الصفة السابقة التي ذكرتها. ولا بأس هنا أن أضرب مثلاً للمقارنة: عباس العقاد له أحد عشر ديواناً في مجلدين، تقرأ قصائده وقد لا تعثر على قصيدة واحدة تشدّك أو تجذب اهتمامك إليها، لكن اقرأ الشوقيات تجد في كل قصيدة بل في كل بيت أو حتى شطر البيت أو الخاطرة موهبة شعرية، حتى القصائد المجهولة التي نفى نسبتها إليه تجد فيها عبق شوقي وأنفاسه وإن أنكرها لأسباب معينة.
البيان: النقاد هم أول من جنى على الشعر العربي، مقولة تتردد، ما رأيكم في صحتها؟
3 لي تجربة شخصية لها علاقة بهذه القضية، فعندما كنت طالباً بالدراسات العليا بجامعة الأزهر قرّر علينا أستاذ النقد بحثاً بعنوان «شوقي بين التدين والمجون» ، وطولبنا بحصر قصائد المجون والتدين بالشوقيات، وبدأنا نقرأ ونتعقب أقوال النقاد منصفين أو متجاوزين، ودرسنا ما ذكره العقاد عن شوقي وكنا نظنه ظالماً لشوقي، ولكنه في الحقيقة أثبت قيمته ومكانته في ميدان الشعر ـ حتى ولو كان شاعر القصر ـ لكن في البداية عندما جاء هذا الشاب المندفع من أسوان، والتقى بالمازني وعبد الرحمن شكري، ثم تعجلوا الظهور وتسليط الأضواء استهدفوا القمم حتى يظهروا ويشار إليهم بالبنان، ومن هنا تناول العقاد شعر شوقي وكان الظلم والجور، لكن ظهرت مكانة شوقي، وقلّده أقرانه كحافظ وغيره من الشعراء الكبار إمارةَ الشعر.
وأخلص للقول: إن الذي جنى على الشعر هم النقاد؛ فهم أرادوا إما تسييس الشعر أو أدلجته، ليصبح الشعر بهذه المثابة مقيداً بإرادة من سيسوه، ومن ثم يفقد بريقه وألقه.(223/58)
فضيلة الشيخ: عبد الي يوسف يتحدث إلى البيان:
حول التدخل الأجنبي في دارفور
متابعة: خباب بن مروان الحمد
سيناريو التدخل الأجنبي في السودان قد بدت نُذُره من أمد بعيد، لكن الناس لم يتنبهوا إلى ذلك إلا أخيراً، ففي أوائل حقبة التسعينيات من القرن الميلادي الماضي كانت حركة التمرد الجنوبية ـ بزعامة قرنق ـ تدير معاركها ضد حكومة الإنقاذ من داخل أراضي الدول المجاورة ـ تارة أثيوبيا وتارة أوغندا وتارة كينيا وأخيراً إريتريا ـ وغير خافٍ وجود الخبراء الإسرائيليين معهم، كما أن بعض المسؤولين الأمريكيين ـ كمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد كلينتون ـ كانت تزور تلك الدول وتحثهم على مزيد دعم للمتمردين، ومحادثات السلام التي دارت أعواماً بين الحكومة ومتمردي الجنوب قد أشرفت عليها أطرافٌ أجنبية ليس فيهم عرب ولا مسلمون، بل تولَّى الأمر أمريكا وبريطانيا وإيطاليا والنرويج مع دول الإيقاد، وقد تمخض عن هذه المحادثات اتفاقية نيفاشا التي نصت على وجود قوات أممية تراقب تنفيذ الاتفاقية وتضمن عدم خرقها من أي الأطراف، وقبلها اتفاقية جبال النوبة التي أشرف عليها المبعوث الأمريكي دانفورث ـ مندوب أمريكا في الأمم المتحدة لاحقاً ـ التي فعلت الشيء نفسه.
وفي أزمة دارفور التي نشبت منذ سنوات معدودة كانت وتيرة التدخل الأجنبي سريعة، حتى إن أربعة قرارات من مجلس الأمن قد صدرت بخصوصها، كما أن الكونجرس الأمريكي والاتحاد الأوروبي نالا حظهما من قرارات مماثلة تشجع على التدخل المباشر، وها هنا أعرض جملة من الحقائق:
أولاً: ما سبب نقمة القوى الاستعمارية على السودان وحكومته؟
للإجابة عن هذا السؤال أقول: إن حكومة الإنقاذ قد ارتكبت ـ وفق العرف الدولي ـ جملة من الموبقات التي لا يمكن أن تُغفر لها، ومن ذلك:
3 إعلانها عن معارضتها لدخول القوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية التي نتجت عن غزو صدام للكويت 1990م.
3 قيامها بطرد السفير البريطاني عام 1994 في سابقة لم تحدث قريباً من دولة من دول العالم الثالث، وذلك بسبب قيام السفير بتيسير دخول أسقف كانتربري إلى مناطق محتلة من المتمردين في الجنوب دون علم الحكومة.
3 استضافتها لمجموعة كبيرة من عناصر القاعدة في الفترة من 1991 ـ 1996م.
3 إعلانها المتكرر عن رغبتها الأكيدة في إقامة المشروع الحضاري ـ النهج الإسلامي ـ وسعيها لتجييش الشعب لبلوغ هذه الغاية، وتربية قطاعات عريضة من الشباب على مفاهيم جهادية، بل إعلانها الجهاد مراراً، وآخرها عقيب التلويح بالتدخل الأجنبي في دارفور.
3 ما قامت به من خطوات في سبيل حصول نوع من الاستقلال الاقتصادي العسكري عن المنظومة الدولية الاستعمارية؛ حيث استخرجت البترول واستغلته بتعاون صيني ماليزي بعيد عن الهيمنة الأمريكية، كما أنشأت عدداً من قطاعات التصنيع الحربي.
وفي مقابل ذلك عمدت الحكومة إلى محاولة طمأنة المجتمع الدولي ـ وعلى رأسه أمريكا ـ وذلك باتخاذ خطوات عديدة منها:
3 أبدت الحكومة تعاوناً كبيراً ـ باعتراف الأمريكان ـ فيما يسمى بمكافحة الإرهاب حيث دفعت بكل المعلومات التي عندها للأمريكان، عقيب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما قامت بإبعاد أو تسليم من بقي منهم بالسودان
3 توقيع اتفاقية السلام مع متمردي الجنوب بزعامة قرنق، مع ما في هذه الاتفاقية من سوء في رأي كثيرين، كإعطائها الجنوبيين حق تقرير المصير بعد مضي ست سنوات على توقيعها، وتمكينهم من حكم الجنوب كله، مع مشاركتهم في حكم الشمال، وتفاصيل أخرى في قسمة الثروة والسلطة.
3 القبول بدخول قوات الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في دارفور، مع أن هذه القوات قد جيء بها من دول تعاني من مشكلات تربو بكثير على مشكلات السودان، وهي متهمة بأن أفرادها مصابون بمرض الإيدز، وأسقطت الحكومة ـ تحت ضغط دولي ـ شرطها في وجوب إخضاعهم لكشف طبي قبل مباشرتهم المهام التي أوكلت لهم.
3 القبول بشروط الأمين العام للأمم المتحدة في فتح البلاد ـ بمطاراتها وموانئها ـ أمام بعثات ومنظمات الأمم المتحدة، وعدم اشتراط الحصول على تأشيرة دخول، أو تقييد حركتهم داخل البلاد، ومن أعجب ذلك أن طائرات الأمم المتحدة الآن تحتل نحو ثلث مطار الخرطوم، ولهم بوابة خاصة لا يدري أحد ما يُدخِلون منها أو ما يخرِجون عبرها، وممثل الأمين العام ـ يان برونك ـ يتصرف في السودان وكأنه المندوب السامي البريطاني سابقاً أو الحاكم العسكري الأمريكي للعراق لاحقاً؛ حيث ينتقد تصرفات الحكومة بصورة لاذعة، ويذرع البلاد شمالاً وجنوباً، ويدس أنفه في كل قضية بغير حياء، وأحياناً بجهل تام ومعلومات مغلوطة.
ثانياً: هل أجدى تجاوب السودان في تخفيف وطأة الحصار عنه؟
أقول: بعد كل هذا صدرت القرارات الجائرة من قِبَل الأمريكان والأمم المتحدة حتى صار لدى الحكومة قناعة بأن لا فائدة من التجاوب معهم أو الاستجابة لشروطهم، والكل يذكر كيف أن وزير الخارجية الأمريكي السابق ـ كولن باول ـ قد بذل الوعود بأنه في حال توقيع اتفاق السلام مع متمردي الجنوب سيُرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وسترفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على الحكومة، وستعمل أمريكا على عودة السودان لمنظومة المجتمع الدولي ورفع العزلة عنه، وبعد توقيع الاتفاق تبين أن تلك الوعود {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] بل زادت وطأة الضغوط الغربية، وصدرت تصريحات التهديد والوعيد.
ثالثاً: هل يتوقع استجابة الحكومة للضغط الدولي؟
أقول: إن المتأمل في تسلسل الأحداث يجد نفسه مدفوعاً إلى رفض هذا التدخل الدولي لاعتبارات عدة، منها:
3 ما استقر لدى الناس من تجارب معاصرة ـ تجربة صدام خير مثال ـ أن سقف المطالبات الدولية لا حد له، وكلما استجاب الطرف الضعيف لمطلب توالت عليه الضغوط، وفي مثل حالة السودان لا يبعد أن تأتي هذه القوات إلى دارفور تحت دعوى حفظ الأمن، ثم تتسع مهمتها لتشمل مناطق أخرى حتى تصل إلى المركز.
3 الهدف من مجيء هذه القوات إضعاف حكومة الشمال وإظهارها بمظهر العاجز عن ضبط الأمن ومنع التجاوزات، خاصة إذا علمنا أن مطالب ـ تشبه مطالب متمردي دارفور ـ يطرحها متمردو شرق السودان من قبائل البجا والهدندوة والرشايدة.
3 لا يبعد أن يكون من بين أهداف مجيء تلك القوات إنفاذ قرار مجلس الأمن في إخضاع قائمة من واحد وخمسين مسؤولاً لمحاكمات جنائية بدعوى ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية في دارفور، فتتكرر مأساة صدام في العراق، وأورتيجا في بنما؛ لكن هذه المرة باسم الأمم المتحدة.
3 تثور مخاوف من أن يكون مجيء تلك القوات بهدف تمكين الجنوبيين من مسعاهم في إقامة ما يسمى بالسودان الجديد ـ يعنون به السودان العلماني ـ بما في ذلك الشمال المسلم، بعد أن مكنتهم الاتفاقية من الجنوب واستثنته من حكم الشريعة، خاصة إذا استصحب المتأمل قرارات محاكمة المسؤولين؛ إذ قد يحاكَمون ويُقبض عليهم ويُنصَّب غيرهم، كل هذا تحت مظلة القرارات الأممية والقوات الأممية، وليس بالضرورة أن يكون المنصَّب من قِبَلهم جنوبياً كافراً، بل يمكن أن يكون ـ بالاسم والصورة ـ شمالياً مسلماً لكن ليس له من الأمر شيء، بل هو كرزاي من طراز سوداني.
3 دخول هذه القوات مُؤْذِنٌ بتمزيق السودان؛ إذ إن سعة مساحته مع تباين أعراق أهله ومعتقداتهم وضعف السيطرة على حدوده ينذر بحصول انفلات أمني لا تُدرى عواقبه، والعراق خير مثال، ولعل بعض الغربيين متخوف من مثل هذا وقد صرح بعضهم به، وبعض المسؤولين لوَّح ـ من باب التخويف ـ بأن السودان سيكون نقطة انطلاق لعمليات القاعدة.
رابعاً: ما الذي يمكن عمله لتفادي الآثار المدمرة التي يمكن أن تحصل؟
أقول: لا زال الأمل معقوداً على إنجاز جملة مصالح منها:
3 تسريع الوصول إلى اتفاقية سلام تحقن دماء المسلمين في دارفور، رغم قناعة الجميع بأن المتمردين الذين يحملون السلاح لا يمثلون أهل دارفور، بل يمثلون أنفسهم ومن يأتمرون بأمره من دهاقنة السياسة العالمية، ولعل في رفع التمثيل الحكومي في المفاوضات ـ بمستوى نائب الرئيس ـ ما يبعث الأمل في النفوس بقرب التوصل إلى اتفاق إن شاء الله.
3 كفكفة آثار الاحتراب والاختلاف في شرق السودان؛ بإعطاء أهل الشرق ما يؤمِّلون في حدود الممكن، لقطع الطريق على أسباب التدخل الأجنبي.
3 أن يكون موقف الحكومة واضحاً لا لبس فيه في رفض التدخل الأجنبي، مع بيان أن هذا الذي يراد للبلاد إنما هو احتلال صارخ واستعمار مقنع، حيث تسيطر قوة أجنبية كافرة على بلاد المسلمين لتحكمها مباشرة ـ كما حدث في فلسطين ـ أو عن طريق صنائعها وعملائها ـ كما هو في العراق وأفغانستان ـ ولا يلغي هذا الوصف صدور قرار من الأمم المتحدة، وإلا لكان الحادث في فلسطين لا يسمى احتلالاً لكونه صادراً عن الأمم المتحدة فيما عُرف بقرار التقسيم، والمبادرة إلى إعلان الجهاد وتعبئة الشباب ورفع الروح المعنوية؛ وذلك من خلال إجراءات مرتبة لا فورة سريعة تتمثل في مظاهرات ومسيرات سرعان ما تخبو جذوتها ولا يتحقق الغرض منها.
3 السعي إلى توضيح القضية للشعوب المسلمة في طرح قوي نتجاوز به القيادات التي لا تصنع شيئاً، ولعل تجربة إخواننا في حماس مثال جيد لحصول دعم شعبي يتجاوز الأطر الرسمية التي تأتمر بإرادة الشرعية الدولية كما يسمونها.
3 العمل على تقوية الجبهة الداخلية من خلال رفع المظالم والسعي إلى جمع الكلمة ووحدة الصف عن طريق إحياء مشروع أهل القبلة؛ عملاً بقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وحذراً من العقوبة القدرية: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ولْيَسْعَ في ذلك أهل العلم والدعاة إلى الله ومشايخ الجماعات والطرق.
3 أن يسعى المربون وأهل التوجيه إلى العمل على إعادة الثقة للناس، وبأنهم قادرون على العمل لو أرادوا، وأنهم ليسوا نعاجاً يُذبَحون متى ما أراد عدوهم ذلك، بل عليهم أن يستعيدوا شعورهم بذاتهم، وليتذكروا ما قام به الأسلاف في عهد قريب ـ على أيام الثورة المهدية ـ حين قتلوا واحداً من أعظم قادة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ومرَّغوا أنوف الصليبيين في التراب.(223/59)
التقميص الإسلامي لبعض صيغ التمويل المعاصر
د. محمد بن عبد الله الشباني
- مقدمة:
تحتلّ حركة الأموال وتبادلها عصب النظام الاقتصادي المعاصر، والذي أدَّى إلى ظهور النظام البنكي كتنظيم يقوم بدور المنظِّم لحركة الأموال تجميعاً وتوزيعاً؛ باعتبار أن النقود سلعة يُتاجَر فيها، واعتبار الزمن هو المحدد لثمن النقد، وإخراج النقود عن طبيعتها التي أُوجدت من أجلها باعتبارها أداةً للتبادل وإبراءً للذمة ومخزناً للقيم.
- النقود والربا:
الربا بكل صوره وأشكاله يدور حول النقود، وقد جاء الإسلام بتحريمه، بل إن الله ـ تعالى ـ لم يعلن الحرب على كبيرة من الكبائر كما أعلنها على الربا في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279] وفي هذا العصر ـ الذي تعددت فيه أشكال وأنواع النقود ـ خَمُلَ مفهوم النقود وحلَّت الصكوك ـ بمختلف أشكالها وأنواعها وأنماطها ـ محلَّ النقود، وأصبح التعامل في النقود محدوداً حتى في شكلها الورقي الذي حلّ محلَّ المعدن. ومن هنا فإن من الواجب النظر إلى الأشكال التي يتم بواسطتها نقل الالتزامات وإبراء الذمم المالية بين الأفراد والمؤسسات والشركات، على اعتبار أنها نقود تحققت فيها صفات النقد ووظيفته الاجتماعية والاقتصادية.
- التمويل والربا:
من الظواهر المعاصرة في مجال التمويل السعي إلى إيجاد المخارج الفقهية لبعض صيغ التمويل الربوية، وإلباسها اللباس الإسلامي من خلال استخدام صور من صور البيوع التي كانت تُمارَس في الماضي، والتي أُجيزت من قِبَل بعض علماء السلف، الذين عاشوا ضمن بيئة اجتماعية واقتصادية مغايرة للبيئة الاقتصادية المعاصرة، دون نظر إلى حقيقة التعامل المعاصر وغايته، وأنه نابع من النظرة القائمة على فلسفة الحرية المطلقة في التعامل الاقتصادي دون ضوابط أخلاقية أو دينية، وإنما ضابطها تحقيق المنفعة غير المنضبطة.
ما يمارَس في هذا العصر من صيغٍ للتمويل أُلبست اللباس الإسلامي، واعتبر التعامل بها تعاملاً إسلامياً لا شُبَه فيه، مع أن الحقيقة لا تعدو أن تكون مخرجاً من المخارج التي استُحلّ بها الربا، وهو مصداق لما أخبر عنه الصادق المصدوق في الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليأتينّ على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا؛ فإن لم يأكله أصابه من غباره» .
إن مناقشة هذه الصيغ ـ التي تمارس من قِبَل البنوك باعتبار أنها جائزة شرعاً وأصبحت مقبولة ـ واجب ديني، ويقتضي الأمر مناقشتها من جميع الجوانب بشفافية متناهية، بأن يكون لدينا الجرأة في تبيان حقيقة التعامل بهذه الصيغ ولو كانت هذه الحقيقة غير مرغوب بها، وتخالف رغبة معظم الناس، حتى ولو كانت مجازة من قِبَل مَنْ لهم باعٌ في العلم الشرعي، أو الاقتصاد الإسلامي، فهم مجتهدون، ومع إمكانية خطئهم في الاجتهاد فلهم أجر الاجتهاد، ولكن لا ينبغي تجاهل الأمر والاندفاع وراء المقولة التي يرفعها كثير من الناس: «أن الدين يسر، فلا تعسّروا ولا تنفِّروا» ، و «أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما خُيِّر بين أمرين إلا اتّبع أيسرهما ما لم يكن حراماً» .
إن التساهل في قبول كثير من الصيغ التي تكتنفها الشبهات سيكون له نتائج سلبية على إبراز الاقتصاد الإسلامي كمنقد لواقع الناس الربوي، وتحويله ليكون ظلاً للاقتصاد الربوي يبحث عن مخارج لعلل الاقتصاد المعاصر القائم على الفكر الربوي منهجاً وأسلوباً.
إن تفشِّي الصيغ التمويلية المسماة بالصيغ الإسلامية وتبنِّيها من قِبَل البنوك الربوية لما فيها من تحقيق مصالح مادية أفضل مما تحصل عليه باسم الفائدة، وتقبل الفائدة الربوية من قِبَل المجتمعات الإسلامية باسم الإسلام ودفع الناس وجرِّهم إلى مستنقع الدَّيْن، وربطهم مدى الحياة بالاقتراض لمصلحة المرابين من أصحاب رؤوس الأموال، وإشاعة روح الاستهلاك من خلال توسيع منافذ الربا، وكسر حاجز الورع؛ بحيث يتحقق في الواقع ما أخبر عنه رسول الهدى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «ليأتينّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال: أَمِنْ حلال، أم من حرام» .
- الصيغ التمويلية والحيل الربوية:
الصيغ التمويلية ـ التي يتم استخدامها من قِبَل مختلف البنوك سواء التقليدية أو الإسلامية ـ تعطي الانطباع للمتأمل فيها أنها نوع من التحايل على أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها وغاياتها لإلباس الصيغ الربوية للتمويل اللباس الإسلامي، ولهذا فإن من الواجب الشرعي مناقشة هذه الصيغ من ناحية الغايات والمقاصد، ومن ناحية الوسائل والطرق المستخدمة من الناحية العملية، وليس من خلال العقود المصاغة والتي تبدو ـ في أشكالها وصيغها ـ غير مُصادِمة لمفاهيم وأسس العقود الشرعية، بهدف الوصول إلى صيغ شرعية بعيدة عن المحاذير وقائمة على قواعد الشريعة ومقاصدها ودون تناقض بين التطبيق العملي الواقعي والعقود التي تمثل المظهر الشكلي الذي يتم التعامل بها.
إن مناقشة هذه الصيغ لا يقصد منها الإساءة إلى البنوك الإسلامية التي تحاول أن تبعد المعاملات المالية البنكية عن الربا، ويكفي لهذه البنوك شرف فتح الطريق أمام إمكانية تقديم الحلول الشرعية لقضايا التمويل، ولكن واقعها الذي تعيش فيه وما يحكمها من تنظيمات تشريعية تحكم تعاملها تحدّ من تحرّرها من القواعد والأسس التي قام على أساسها النظام البنكي الربوي؛ لهذا فهي تعمل تحت ازدواجية بين الرغبة في الربح والالتزام بأحكام الشريعة، وبين الأحكام المنظمة للرقابة على أعمال البنوك وفق الأسس والأحكام التي تحدّ من قدرتها على تعديل مساراتها في طرح التصورات العملية في استثمار الأموال المتاحة خارج نظام الفائدة الذي يحدد وينظم العلاقات بين المدّخرين والمقترضين والمودعين، وبين البنك كمنظم لعملية تبادل المصالح بين المدخرين من المودعين والمقترضين ممن يحتاج إلى النقود في عمليات استخدام الأموال في تسيير أعمال الأنشطة الاقتصادية، أو إشباع الرغبات الاستهلاكية بين الأفراد.
إن دور العلماء الشرعيين في تبيان الحكم الشرعي في الصيغ التمويلية لتلبية احتياجات القطاعات الاقتصادية المختلفة لا يقف عند إصدار الفتاوى بالجواز أو الحرمة على الصيغ التمويلية من خلال تبنِّي أحكام وردت في كتب الفقه وصدرت من الفقهاء الأقدمين الذين أجازوا بعض صيغ البيوع ضمن ظروف عاشها المجتمع الإسلامي في عصرهم، وضمن معطيات خاصة بطبيعة المبادلات في ذلك العصر، فينبغي النظر إلى الأمر من خلال دراسة الظروف التي تحكم الواقع المعاصر والأسس التي يقوم عليها البناء التشريعي الاقتصادي، والفلسفة التي يرتكز عليها النظام البنكي، حتى يمكن فهم طبيعة الأعمال التي تمارسها البنوك ضمن إطار الفلسفة الاقتصادية السائدة في هذا العصر، ومن ثم يجب النظر إلى عمليات الصيغ التمويلية من هذا المنظور، والنظر إلى مقاصد الشريعة فيما يتعلق بالعلاقات المالية بين الأفراد بعضهم ببعض وما يحكمها من أُطر تشريعية جاءت بها السنة النبوية.
ولهذا؛ فإن من الأمور التي يجب التركيز عليها ـ عند معالجة القضايا التمويلية ضمن إطار الاقتصاد الإسلامي ـ العودة إلى المنهل الذي نهل منه علماء السلف ـ رحمهم الله ـ وهو الحديث الشريف، وفهم مقاصده من خلال ربطه بواقع الناس.
ولتقريب ما أقصده أضرب مثلاً الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكلّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، والله يا رسول الله! لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تفعل! بِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتعْ بالدراهم جنيباً» . بالنظر إلى هذا الحديث من خلال ما استدل به علماؤنا هو منع ربا الفضل وسدّ ذريعته إلى الربا، ولكن من خلال إعادة النظر في هذا الحديث والتعمق في فهمه يمكن الاسترشاد به فيما يتعلق بتحديد المفاهيم الاقتصادية الإسلامية بالتوجيه إلى العمل على زيادة حركة التبادل التجاري بين أفراد المجتمع، من حيث إنه في الحالة التي وصفها الحديث يتم التبادل بين شخصين، هما: بائع التمر الرديء والجيد. أما التوجيه النبوي فهو يرشد إلى توسيع دائرة التبادل إلى ثلاثة أشخاص لتحقيق هذه العملية التبادلية؛ حيث يقوم طالب التمر الجيد ببيع ما عنده من تمر رديء إلى شخص آخر بنقد، ثم يقوم بالشراء بهذا النقد من عند الشخص الذي لديه التمر الجيد، وبهذا تتسع دائرة التبادل. كما أن هذا الحديث يرشد إلى توجيه المخططين والمشرعين الاقتصاديين إلى حقيقة وظيفة النقود، وأنها ليست سلعة ذات قيمة في حدّ ذاتها، وإنما هي وسيلة إلى تبادل السلع والمنافع، ومن ثم منع قيام الربا من خلال قصر النقود على وظيفتها الأساسية أنها معيار للقيم بين مختلف السلع والمنافع. ومن هنا ينبغي إعادة صياغة النظرية النقدية وقصرها على الحقيقة التي أشار إليها الحديث والتي فهمها ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث قال: (فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يُعرف به تقويم الأموال، يجب أن يكون محدداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع أو ينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن تعتبر به المبيعات بل الجميع سلع) .
- الممارسات التمويلية للبنوك الإسلامية:
إن ممارسة البنوك الإسلامية فيما يتعلق بصيغ التمويل يشوبها كثير من الشبهات، بل إن المتأمل لكيفية الممارسة فيما يطلق عليه بالصيغ الإسلامية يجد أنها لا تختلف من حيث النتيجة والغاية عمّا تمارسه البنوك الربوية، والاختلاف إنما هو في الشكل من حيث إلباسها اللباس الإسلامي، وهذا الأمر أدَّى إلى إعاقة تطور الصيغ التمويلية الإسلامية، فأصبح همّ تلك البنوك البحث عن مخارج فقهية لإلباس الصيغ الربوية اللباس الإسلامي بدل أن تسعى البنوك إلى صيغ جديدة تبرز التفاوت ما بين التمويل الإسلامي والتمويل الربوي، فتقدم تصوراً جديداً لصيغ التمويل تنبع من مقاصد الشريعة الإسلامية في تحرير الأنشطة الاقتصادية من لَوْث الربا، وللتدليل على ذلك فسوف أستعرض بعض الصيغ التمويلية المعمول بها في البنوك الإسلامية كبديل لصيغ تمويلية ربوية، بقصد توضيح قصور التجربة البنكية الإسلامية في تحقيق الأهداف والغايات من إيجاد نظام بنكي يبعد الناس عن الربا ويحقق لهم مقاصد استثمار الأموال المتاحة لدى بعض الفئات ليتم استغلالها من فئات أخرى لا تملك المال ولكنها تملك القدرة على الاستثمار.
- صور الصيغ التمويلية:
إن للصيغ التمويلية التي تتبعها البنوك الإسلامية للتمويل صوراً عِدَّة، نقدم صورتين منها للاستدلال، وهما:
- الصورة الأولى:
تمويل التجارة الخارجية، وهو ما يُعرف بصيغة المشاركات؛ وذلك لتوفير التسهيلات الائتمانية للاعتمادات المستندية المفتوحة والقبولات الممنوحة لعملاء البنوك، فالأسلوب المتّبع من قِبَل البنوك التجارية الربوية هو الاتفاق مع عملاء البنك على منح سقف لتمويل احتياجات العميل من الأموال لسداد التزاماته المالية المتعلقة بالاستيراد، حيث يمنح البنك عميله مبلغاً معيناً يتم استخدامه من أجل توفير التمويل لاستيراد السلع التي يرغب في استيرادها، وعند وصول المستندات يتم تحويل المبلغ المستخدم في استيراد هذه السلع إلى حسابه الجاري ويحتسب على رصيد هذا الحساب نسبة فائدة معينة، وإن البنك قبل فتح الاعتماد المستندي يطلب ـ عادةً ـ من العميل الحسم من حسابه؛ فيما يعرف بـ (حدّ الائتمان) بنسبة من قيمة الاعتماد المراد فتحه. والبنوك الإسلامية عالجت هذه المسألة بأسلوب ما سمّته بـ (المشاركة الشكلية) فعندما يرغب العميل في استيراد سلعة ما وليس لديه المال الكافي لتغطية قيمة الاستيراد، فيتقدم للبنك الإسلامي ويبرم معه عقد مشاركة بغرض شراء هذه السلعة التي يرغب في استيرادها والتي هي ضمن نشاطه التجاري، ويتضمن هذا العقد الصوري اتفاقاً بأن لأحد الطرفين الحق في شراء حصة شريكه بعد ورود البضاعة مع تحديد نسبة المرابحة التي تحتسب على نصيب الشريك البائع لحصته وهو البنك عادة، على أن يتولى التاجر سداد هذا المبلغ مع الربح المضاف على المبلغ، أو أي مصاريف أخرى على أقساط مؤجلة بموجب سندات لأمر البنك، ويتولى الطرف المشتري وهو التاجر المتفق مع البنك باستلام البضاعة من ميناء الوصول والذي حدّد عند فتح الاعتماد المستندي، وتنتهي مسؤولية البنك بتسليمه الأوراق الخاصة بالبضاعة مع إضافة مادة في عقد البيع بشكل صوري يقر فيها المشتري باستلامه البضاعة محل العقد، وأنها أصبحت في حيازته وتحت يده، وهذا شرط قصد منه تلبية إجازة البيع وفق الصيغ الشرعية، ولضمان تحصيل حقوق البنك فقد أوجب عقد البيع أن يقوم المشتري ـ وهو العميل ـ بتوكيل البنك باستلام أية حقوق له مستحقة لدى الغير، كما أنه ليس هناك أحقّية للمشتري في فسخ هذه الوكالة حتى استيفاء قيمة المبيع.
هذه صورة من صور التمويل والتي أُلْبِسَت اللباس الإسلامي، وهي صيغة لا تخرج أن تكون تسهيلاً ائتمانياً وفق ما توفره البنوك الربوية؛ فالقصد والغاية من هذا العقد هو الإقراض وليس المشاركة بقصد تحقيق الربح من خلال الدخول في مخاطر الربح والخسارة بين الشريكين، ومفهوم المشاركة في الشريعة الإسلامية هو قيام الشريكين بتحمّل نتيجة المشاركة عند تصفيتها، وليست وسيلة لقيام البنك بإقراض التاجر؛ فالمشاركة وفق الصيغة الإسلامية سواء كانت بين صاحب مال ومضارب، أو صاحبَيْ مال يعملان في ماليهما، أو صاحبَيْ مال أحدهما يعمل في المال كصاحب مال وكمضارب يقومان بالمجازفة في الحصول على العائد المتوقع من ممارستهما المشاركة؛ فقصد البنك من قيام المشاركة ليس البحث عن ربح من خلال قيام الشريكين بالاتجار بالبضاعة المستوردة، كما أن البنك لا يبرم هذه العقود إلا مع المؤسسات التجارية التي تقوم بنشاط بيع هذه السلع التي يتم استيرادها، فالغاية هو توفير المال للتجار ولكن ضمن حيلة شرعية تجيز للبنك الإقراض باسم المشاركة، والقاعدة الشرعية التي يفترض أن تقوم عليها الأعمال ما حدّده حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الحديث المشهور الذي رواه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والذي جاء فيه: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .
فالقاعدة التي يُرتَكَز عليها في تحديد مقاصد الأعمال هي النية والقصد. فالقصد من عقد المشاركة ليس تكوين شراكة بين البنك والتاجر لتحقيق ربح يعود بالفائدة على الطرفين، وإنما هو حيلة لاستحلال الاقتراض باسم المشاركة، والأمور تُبنَى على مقاصدها، ولهذا فإن من الواجب إعادة النظر في الأسلوب والمنهج الذي يتم به توفير المال للمستوردين للسلع بالصيغة التي تُبعِد المجتمع من الوقوع في الربا، وفي الوقت نفسه قيام البنك بدوره في استغلال الأموال المتاحة لديه؛ وهذا يقتضي إعادة النظر في النظام البنكي بجملته من خلال دراسة إمكانية إيجاد نظام يتميز بأمرين:
الأول: إعادة النقود بمختلف أشكالها لوظيفتها.
والثاني: استغلال الأموال المدَّخَرة والفائضة عن حاجة المبادلات.
- الصورة الثانية:
تتمثل في استخدام أسلوب المرابحة بقصد توفير احتياجات المؤسسات والأفراد للأموال. والبنوك التقليدية الربوية تمارس دورها في توفير هذه الاحتياجات للأموال من خلال أسلوبين: الأول: تلبية احتياجات الشركات والمؤسسات التجارية للأموال اللازمة لمصاريف التشغيل؛ وذلك بما يعرف بـ (التسهيلات الائتمانية) بمنح العميل سقفاً للإقراض فيما يُعرف بـ (الجاري المدين) حيث يُسْمَح للعميل بالسحب من حسابه الجاري على المكشوف حتى يصل إلى سقف محدد، وتحتسب الفائدة يومياً بأسلوب الفائدة المركبة. أما بالنسبة لتلبية احتياجات الأفراد فيتم من خلال الإقراض الشخصي لمبالغ معينة يتم استعادتها مع فائدة خلال فترة زمنية معينة، وتحتسب الفائدة المركبة على هذا القرض وفق معادلة بقاء المبلغ المقترض لدى المقترض مضروباً في المبلغ إذا كان السداد بالكامل، أما إذا كان السداد على أساس الأقساط فيتم تحديد القسط وفائدته وفق الفائدة المركبة، ويقوم المقترض بإصدار سندات لأمر البنك وفقاً لنظام الأوراق التجارية.
أما الأسلوب الذي تتبعه البنوك الإسلامية لمعالجة القروض الشخصية، أو التشغيلية للمؤسسات الفردية والشركات فهو ما يعرف ببيع المرابحة، وهذا البيع يتم من خلال آلية لا يقصد منها البنك الاتجار في هذه السلع التي يتم شراؤها بعد الاتفاق مع المحتاج للمال سواء كانت الحاجة لشراء سلعة معينة، أو بيع هذه السلعة للحصول على ثمنها وهو ما يعرف بالتَوَرُّق.
ولإعطاء صورة لكيفية حل إشكالية الإقراض الشخصي أُورِدُ صورتين لكيفية معالجة البنوك الإسلامية للقروض الشخصية ضمن إطار تجنّب مخاطر البيع والشراء وضمان المال المقترض كما تحدد الفائدة أو ما يطلق عليه (الربح وفق نظام المرابحة) على أساس تحديد مقدار الربح الذي يبنى على أساس عدد الأقساط، وبحيث يتم احتساب فائدة على القسط الأبعد زمنياً على القسط الأقرب زمنياً، ثم تجمع هذه الفوائد (الأرباح) ثم تضاف إلى مبلغ القرض الإجمالي ليحدد المبلغ مع الربح، ثم يقسم على عدد الأقساط ليتم في النهاية تحديد القسط الشهري الذي يتم سداده من خلال راتب الشخص المقترض أو من خلال الدفعات التي تستقطع من الحساب الجاري للعميل إذا كان تاجراً.
ولتوضيح هذه الصورة أضرب مثالاً عملياً واقعياً تمّ من قِبَل أحد البنوك الإسلامية على النحو التالي:
تقدّم طالب الاقتراض بطلب شراء منزل، وقد قام البنك بدراسة طلبه من حيث مبلغ الدفعة الأولى التي سيقوم بدفعها ومقدار راتبه وقيمة المنزل الذي يرغب شراءه لمعرفة مدى إمكانية منحه القرض من عدمه، وفيما يلي البيانات الرقمية لهذه العملية: قيمة المنزل أربعمائة وخمسون ألف ريال سعودي سيتولى المشتري تقديم دفعة أولى مقدارها مائة وأربعون ألف ريال، والباقي ومقداره ثلاثمائة وعشرة آلاف ريال هو مقدار القرض، وقد احتسب البنك عليه مبلغ مائة وستة وثلاثين ألف ريال لمدة سبعين شهراً يتم سدادها على أقساط شهرية، مقدار القسط الشهري (6371) ريالاً، مع دفع مبلغ ألف وثمانمائة ريال رسوم الاطلاع على المنزل المراد شراؤه، وبعد التأكد من مدى إمكانية قيامه بسداد المبلغ الشهري وتنازله بخصم القسط الشهري من راتبه والذي يتم إيداعه مباشرة لدى البنك من جهة علمه فإن نسبة عائد الربح على هذا القرض هو 44% والمعدل السنوي 3.6% وهي نسبة أعلى من الفائدة الربوية التي تأخذها البنوك الربوية، ويتم احتساب الربح على أساس سعر الخصم لمبلغ قسط القرض الشهري ومقداره 4429 ريالاً وفق نسبة فائدة 6% وعلى أساس الربح المركب لهذا القسط.
إن هذا الأسلوب من التمويل الشخصي لا يختلف عن الإقراض الذي تتبعه البنوك الربوية في توفير التسهيلات المالية للشركات العقارية، والهدف والغاية هو توفير المال للراغب في الاقتراض. الاختلاف يتمثل في كيفية وأسلوب الإقراض؛ حيث تحصل العلاقة الإقراضية في تمويل قروض السكن للراغب في تملّك السلعة المراد إقراضها من قِبَل البنك وإبقاء ملكيتها حتى سداد جميع الأقساط، بخلاف البنوك الربوية التي تدفع القيمة نيابة عن المقترض للشركات العقارية، وأما الضمانات لسداد المال المقترض فهي نفس الضمانات من رهونات أو كفالات شخصية والتي تتبع من قِبَل النظامين.
أما الصورة الثانية: فقد قامت على أساس مفهوم التورُّق مع استخدام الأسهم كسلعة وسيطة للإقراض؛ وذلك لسهولة بيعها لصالح المقترض، من خلال التعامل مع السوق المالي المحلي، أو العالمي، أو سوق السلع العالمي، والأسلوب المتّبع في تنفيذ هذا النوع من الإقراض والذي أُلبست عليه الصيغة الشرعية باعتبار أن السهم يمثل جزءاً من صافي حقوق المالكين في الشركة المساهمة، وهذا الجزء والمتمثل في قيمة السهم يتم تداوله في السوق المالي من خلال المضاربة فيه بيعاً وشراءً بسرعة وسهولة. وإجراءات الإقراض المتّبعة من قِبَل البنوك الإسلامية والتقليدية التي تمارس هذا النوع من أشكال بيع التورق تلبية لرغبات الناس بالبعد عن الربا لا تختلف عن الإجراءت المتّبعة من قِبَل البنوك التقليدية من حيث الحصول على الضمانات للمال المقترض، ويتم تحديد مقدار الفائدة وفق ما يعرف ببيع المرابحة؛ حيث يقوم البنك بشراء أسهم من السوق لصالح المقترض والذي يتم بيعها عليه بسعر مؤجل؛ حيث يتحدد سعر السهم المباع مؤجلاً على أساس المدة الزمنية ومقدار القرض والمقدرة المالية للمقترض في إعادة القرض مع فائدته، وعند الاتفاق يتم بيع هذه الأسهم المباعة للمقترض في السوق لصالحه.
هذا الأسلوب هو أكثر الأساليب في التمويل الشخصي، وقد راج استخدامه لسهولة تسييل قيمة الأسهم بأقل خسارة على المشتري، وقد يتحقق له ربح عن سعر الشراء الأساسي الذي تم على أساسه احتساب الفائدة.
التمويل من خلال بيع الأسهم بالأجل من قِبَل البنوك كوسيلة للإقراض الشخصي وقيام المقترض ببيعها إما مباشرة في السوق المالي، أو توكيل البنك وهو الغالب في بيعها نيابة عنه واعتبار هذا الأسلوب جائزاً شرعاً وهو صورة من صور الحيل لاستحلال المال المحرم؛ لأن غاية البنك هو الإقراض والحصول على الفائدة، كما أن المشتري غرضه من شراء هذه الأسهم هو بيعها والاستفادة من ثمنها؛ فهو أسلوبٌ الغرض منه الإقراض والحصول على الفائدة الناتجة عن هذا الإقراض.
إن اتبِّاع هذا الأسلوب من التعامل يخرج البنك الإسلامي عن أهدافه التي يسعى لتحقيقها، وهي أهداف الاقتصاد الإسلامي، ومن تلك الأهداف القيام بعمليات تمويل طويلة الأجل للقطاعات الاقتصادية الإنتاجية أو الخدمية، مثل: تمويل مشروعات الحرفيين، أو المشاركة في رأس مال المشروعات لصغار المنتجين، وإن اتجاه البنوك الإسلامية في التمويل الشخصي من خلال استخدام الأسهم في السوق المالي كوسيلة لتوفير المال سيؤدي إلى زيادة العرض والطلب على الأسهم ومن ثَم حركة صعود الأسعار والمضاربة فيها؛ وضخّ الأموال في هذه الأسواق لا يساعد على التنمية الاقتصادية، بل هو معيق للتنمية، حيث يتم تداول الأموال بين الناس بأسلوب غير منتج لا تؤثر حركة الأموال على التوسع في زيادة إنتاج السلع أو توفير الخدمات.
وعلى ضوء ما سبق فإن هناك ضرورة إلى إعادة النظر في أسلوب عمل البنوك الإسلامية ودورها في حركة الاقتصاد الوطني، والسعي إلى إبراز تصوّر جديد للتمويل يتجه نحو الاستثمار المنتج الذي يساهم في توفير فرص العمل وزيادة ونموّ المنتجات السلعية التي يحتاجها الناس، والتقليل من الاستيراد من الدول غير الإسلامية؛ بحيث يتم تحقيق تكامل اقتصادي بين المجتمعات الإسلامية، ولهذا فإنني أرى العناية بأمرين:
الأول: دراسة إمكانية إيجاد نظام بنكي مغاير للنظام الرأسمالي؛ بحيث يتم فصل التمويل بمختلف صوره عن نظام التداول النقدي إيداعاً وسداداً للالتزامات، بحيث يساهم في إعادة الوظيفة النقدية للنقود بكل صورها المعاصرة والمقتصرة على الوظائف التقليدية، وهي أنها ثمن للسلع والخدمات ومخزن للقيم وإبراء للذمة وإيجاد نظام خاص بكيفية استغلال الفوائض المالية المتاحة.
الثاني: العمل على البحث عن مخارج إسلامية للتمويل من خلال تفعيل مفهوم المشاركة والمضاربة لتمويل القطاعات التجارية بمختلف أشكالها وتطوير آلية للتمويل بما يتناسب مع عقود السَّلَم من حيث توفير المال التشغيلي للقطاع الصناعي.
أما بالنسبة للتمويل الشخصي للأفراد فيجب العمل على تحديد أسلوب التمويل من خلال توفير احتياجات الأفراد من خلال المؤسسات والشركات التجارية التي يتم تمويلها من خلال مفهوم المشاركة والمضاربة.(223/60)
مشروع جمع الكلمة ورقة عمل في مؤتمر الوفاق الإسلامي
نبيل محمد علي
دعوة الوفاق التي أطلقها الدكتور عبد العزيز كامل ـ مهندس عملية الوفاق ـ حفظه الله تعالى ـ عبر مجلة البيان الصرح الشامخ والمجلة الرمز والوجه المشرق لمنهج أهل السنة والجماعة، هذه الدعوة والتي تكرر ذكرها في أكثر من مقال للدكتور ـ حفظه الله ـ وإن كان الإعلان الرسمي لها في العدد (189) في مقال بعنوان (فقه الوفاق متى نحييه؟) ص 34 ـ 41 هذه الدعوة تستحق أن يعقد لها مؤتمر عالمي لقادة العمل الإسلامي من علماء ودعاة ومفكرين؛ بشرط قناعتهم بالفكرة أولاً.
إن ما دعا إليه الدكتور، وغيره ممن يحزنه واقع العمل الإسلامي ينبغي أن تأخذه الجماعات الإسلامية مأخذ الجدّ، وتبدأ بداية حقيقية في السعي ـ ولو بخطوات بطيئة ـ للوصول إلى وفاق حقيقي واقعي، وعلى كل جماعة أن تعيد النظر ـ وبشجاعة ـ في الموقف من الآخر ـ القريب ـ. لذلك أتمنى على مجلة البيان الدعوة إلى إقامة مؤتمر علمي يجمع فيه ما يستطاع من قادة العمل الإسلامي.
ودواعي إقامة هذا المؤتمر كثيرة، أهمها:
1 ـ الحاجة الماسّة في هذا الظرف الذي تمرّ به الأمة إلى جمع الكلمة.
2 ـ حجم المشكلة؛ فهي أكبر مما نتصور، وتحتاج إلى جهود كبيرة ومتواصلة.
3 ـ عموم البلوى؛ فلا يخلو بلد إسلامي، بل بلد فيه أقلية مسلمة من مرض الاختلاف والتنازع.
4 ـ وجود قطاع كبير من شباب الصحوة وطلاب العلم، بل قبلهم من العلماء والدعاة ممن يرغبون ويتمنون جمع الكلمة؛ لكن الأُطر الحزبية والتنظيمية وعدم الجرأة على البداية وغيرها من الأسباب تقف سدّاً منيعاً أمامهم.
فأسأل الله أن يوفق من يهمّه الأمر إلى إيجاد مشروع عملي ولو إقليمياً أو حتى محلياً؛ ليكون نواة لبداية مرحلة جديدة في طريق الائتلاف والالتقاء والإخاء الصادق.
وفكرة (مشروع جمع الكلمة) في هذا المقال إنما هي تفاؤل ـ قد يكون ـ في غير محلّه، لكن استجابة لطلب الدكتور في قوله (أَقْدِمْ ولا تتردّد) (1) ، فإنني لم أتردّد في كتابة هذه الفكرة، ولعلها تجد من يعيد النظر فيها ويخرجها فكرياً إلى مستوى أعلى، مع السعي عملياً إلى نقلها إلى الواقع ليتم البدء في تنفيذها.
أولاً: الفكرة:
هي عبارة عن القيام بمجموعة من البرامج والأنشطة الدعوية المختلفة بواسطة مجموعة من الدعاة المنتمين إلى جماعات مختلفة.
ثانياً: الأهداف:
1 ـ تقريب وجهات النظر بين الإسلاميين.
2 ـ زيادة فرص الالتقاء والمشاركة في البرامج المختلفة.
3 ـ إزاحة أو إزالة الحاجز النفسي ـ الوهمي ـ الحائل بين دعاة الجماعات الإسلامية بعضهم مع بعض.
4 ـ العمل على تخفيف أو تجفيف منابع الفرقة والاختلاف.
ثالثاً: الوسائل والطرق:
لا شك أن الفكرة يسهل طرحها، بل طرح ما هو أعمق منها وأفضل، وكذلك الأهداف، والعبرة بتنفيذها وإخراجها إلى حيّز الواقع، لذلك سأحاول وضع طرق واقعية ـ قدر الإمكان ـ من أجل تحقيق الأهداف المذكورة. وقبل ذلك أنبّهُ إلى أمر مهم، وهو أن الذي يقوم بالترتيب والسعي لإقامة هذه الأنشطة وتنفيذ هذه الوسائل لا بد أن يكون مقتنعاً بل متفاعلاً ومتفائلاً وباذلاً وُسْعَه في ذلك.
ومن الوسائل المقترحة في هذا الأمر:
1 ـ إقامة ندوات وحلقات نقاش تعالج قضايا عامة ليس لها علاقة بأمور الخلاف، يقيمها مجموعة من الدعاة من عدّة جماعات، ظاهرها موضوع الندوة، وباطنها اجتماع الوجوه وزيادة فترة اللقاء فيكون نوراً على نور.
ومن أمثلة المواضيع التي تناقش في هذه الندوات: (غلاء المهور ـ الفساد الأخلاقي المنتشر في المجتمعات ـ التنصير ـ الغزو الفكري) ونحوها.
2 ـ دورات عامة مختلفة، مثل: دورة للنساء، وأخرى لشباب الصحوة، ودورة خاصة بالأئمة والخطباء، وغيرها يشترك في إقامتها دعاة مختلفون في الانتماء تجمعهم الدورة.
3 ـ لقاءات فردية، أي: بين أفراد الجماعات بطريقة غير رسمية؛ كالدعوة إلى وليمة أو مناسبةٍ ما، أو زيارة أو ضيافة؛ وهكذا.
4 ـ نشر الوسائل الدعوية التي تعالج هذه القضية بين شباب الصحوة؛ كالأشرطة والرسائل والنشرات ونحوها.
5 ـ إقامة مسابقات مختلفة تدور مواضيعها حول هذا الأمر، ومن ذلك مثلاً:
ـ مسابقة في كتابة بحوث وأفكار حول الطرق والوسائل التي تؤدي إلى جمع الكلمة.
ـ مسابقة الشريط الإسلامي، ولها صورتان:
الأولى: مسابقة في شريط يعالج قضية الخلاف لأحد الدعاة المشهروين.
الثانية: مسابقة في الشريط الإسلامي المحلي، وذلك باختيار مجموعة من الأشرطة لمجموعة من الدعاة المحليين في البلد في مواضيع مختلفة ليس لها علاقة بالقضايا الخلافية ونشرها في أوساط طلاب العلم.
6 ـ إقامة محاضرات عامة في مساجد مختلفة؛ فكما هو معروف أن المساجد في بعض البلدان تُنسب إلى الجماعات فيحاضر هذا في مسجد هذا، وهذا في مسجد هذا؛ وهكذا.
7 ـ توزيع استبانة صريحة ومناسبة لقطاع كبير من الدعاة وطلاب العلم وشباب الصحوة، يكتبون فيها ما يدور في خلدهم وما يحملون في صدورهم وما يرونه من حلول واقتراحات حول مسألة تفرّق الجماعات الإسلامية؛ فإن هذا وإن لم تظهر آثاره مباشرة إلا أن له دوراً كبيراً في التهيئة النفسية، خاصة إذا كانت الإجابات بعيدة عن الأجواء التي تُشعِر بالمراقبة وخروج الخبر عن الخصوصية، ثم يتم الإعلان عن النتائج الإيجابية للاستبانة ونشرها وتوزيعها دون الإشارة إلى الأسماء بقدر الإمكان.
8 ـ نشر الأعمال التي يجتمع فيها أكثر من داعية ومن عدّة جماعات؛ كالفتاوى والمحاضرات واللقاءات المشتركة.. وغيرها.
9 ـ إيجاد مسجد مستقل عن الانتماء ـ قدر الإمكان ـ لإقامة البرامج الدعوية فيه لجميع الدعاة بغضِّ النظر عن انتمائهم.
رابعاً: تنبيهات مهمة:
1 ـ عدم المساس بالانتماء، أي: محاولة الابتعاد عن الكلام في انتماء الأفراد وجماعاتهم، وليكن الشعار القولي والعملي: (لنتعاون وكلٌّ في انتمائه) ولو في بداية مراحل التعاون؛ لأن فتح باب النقاش حول الانتماءات معناه تعميق الخلاف وتعزيز التعصب.
2 ـ التركيز على جماعة وتكثيفُ النشاط معها معناه الانتماء ولو بصورة غير مباشرة؛ لذلك ينبغي أن ينتبه مَنْ يدعو إلى جمع الكلمة أن يكون محسوباً على طرف من الأطراف.
3 ـ عرض الفكرة قبل تنفيذها على القيادات العملية والدعوية في الساحة، وخاصة التي يتوقع منها التأييد والتشجيع والتعاون.
4 ـ لا شك أنه يوجد في كل جماعة فئة محبة للاجتماع راغبة في التآلف؛ فهؤلاء هم الأرض الخصبة لبذر هذه الفكرة وعلى أيديهم ستؤتي ثمارها ـ بإذن الله ـ فينبغي التركيز عليهم والحرص على معرفتهم.
خامساً: شروط النجاح:
1 ـ الإخلاص، وعدم الخلاف.
2 ـ الرغبة الصادقة في جمع الكلمة.
3 ـ الصبر؛ لأن المعارضة للفكرة قد تأتي ممن نعقد عليهم الأمل في جمع الكلمة بسبب الانتماءات والولاءات الضيقة.
4 ـ الوضوح في التعامل خاصة مع القيادات؛ فالكثير ـ إلا من رحم الله ـ يظن أن أيّ دعوة جديدة معناها جماعة جديدة تبحث عن أنصار.
وأخيراً أقول: قد يمكن تنفيذ هذه الفكرة أو بعضها في بيئة معينة وفي مجتمع خاص وقد لا يكون ذلك ممكناً في غيره، لكن الهدف هو الفكرة، وأما وسائلها وطرق تنفيذها؛ فأهل مكة أدرى بشعابها.
وأختم بالتذكير بكلمة مهندس عملية الوفاق: (أَقْدِمْ ولا تتردّدْ) والله المستعان.
__________
(1) مجلة البيان، العدد المذكور في أول المقال.(223/61)
من هدي الوحيين في مواجهة الأعداء
أحمد حسن محمد (*)
من سنن الله ـ سبحانه ـ أن تكون هذه الدنيا حلبة صراع بين خلق الله جميعاً، يكون الحق في جانب والباطل في جانب آخر، إنه صراع الخير والشر، بين المعروف الذي تستقيم عليه فطرة البشرية الراشدة، وبين المنكر الذي تأباه النفس الإنسانية الطاهرة: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} [البقرة: 36] .
وقضية الإيمان في كل وقت وزمن إنما تدور حول هذا المفهوم لتحمي الإنسان صاحب التقوى من أن يكون في جانب الباطل أو الشر أو داعياً لمنكر. ومن رحمة الله بعباده أنه دلّهم على المعالم السلوكية التي تقودهم نحو جانب الحق والخير والمعروف عندما تحتدم مواقف الصراع، وتتشابك المواقف ويظهر العداء واضحاً أمام أهل الصلاح وجماعة الإيمان.. وقد بيّن لنا القرآن الكريم كيف يواجه المؤمن مواقف العداء والاعتداء، كما أوضح لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النموذج العملي لهذه المواقف، من خلال سيرته الطاهرة وهديه الراشد. وما دام الصراع والعداء لأهل الدين وحملة الدعوة إلى الله أمراً واقعاً؛ فإن التمسك بما جاء في الكتاب والسنة أمر لازم لتحقق الصبر والفلاح، ثم النصر والغلبة بإذن الله تعالى؛ حيث الابتلاء اختبار وامتحان للعبد الصالح. قال ـ تعالى ـ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] .
ويوم يواجه المسلم الصادق مثل هذه المواقف فإن عليه أن يعيد الموازين إلى مواقعها الصحيحة مسترشداً بهدي الله وسنة نبيه الكريم، والتي منها:
أولاً: إحسان العودة الخالصة إلى الله والتوبة الصادقة واللجوء إليه ـ سبحانه ـ والاجتهاد بالدعاء والتوسل والإنابة؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو المؤيد بوحي الله عندما يواجه الأعداء وتتخلى عنه أسباب الدنيا، يستحضر ثقته بربه؛ فيوم أن تنكّر له الناس ولم يجد الجوار من أحد منهم وقابلوه بتحريض سفائهم وصبيانهم عليه، ركن إلى الله ـ تعالى ـ ودعاه: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس..» (1) . وعلّمنا -صلى الله عليه وسلم- أن نلجأ إلى الله بالدعاء من شر الأعداء: «اللهم اكفنيهم» (2) ، وقد كان هذا هو هدي أنبياء الله من قبلُ؛ فقد توجه نوح ـ عليه السلام ـ إلى ربه داعياً على أهل الكفر عندما تمادوا في العداء والنكران والسخرية من نبي الله: {وَنُوحًا إذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 76 - 77] ، فكان أمر الله بتأييده.
ثانياً: الثبات وطلب القوة والعزة والنصر من الله، حيث إن المؤمن لا يسعى للعداء ولا يتمناه؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية؛ فإذا لقيتموه فاصبروا» (3) . أما إذا كان الأمر لا محالة؛ فلا ينهزمْ أمام أعدائه، ولا يخفهم، بل عليه إذا ما وقع الصدام وظهر العدو بغدره وحقده أن تكون المواجهة لا الفرار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15 - 16] . وثبات المؤمن أمام أعدائه إما أن يكون طريقاً إلى النصر والغلبة، أو طريقاً إلى رضوان الله ومثوبته، وكلاهما نصر وفوز ـ بإذن الله ـ طالما أن المسلم ملتزم بأدب الإسلام وهدي وأحكام شرع الله عز وجل.
ثالثاً: التزام خُلُق الصبر، وهو من أخلاق الإيمان المنجية: {وَالْعَصْرِ * إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] ، وكان هذا دأب فئة الإيمان وجند الله المخلصين؛ حيث وصفهم الله بالصبر، وبه كانت معية الله لهم ... {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] ، ومن هنا كان أمر الله للمرابطين في سبيله والمجاهدين من أجل رفع كلمة الحق والدِّين أن يلزموا الصبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] ، وهكذا كان دعاء جند طالوت ربَّهم أن يزوّدهم بالصبر: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] .
وأمة الإسلام اليوم ـ أفراداً وجماعات ودولاً ـ تواجه أعداء كُثُراً يسعون للنيل من دينهم والظهور على أممهم وشعوبهم والنيل من وحدتهم؛ بإشاعة الفرقة بينهم، مستخدمين كافة الوسائل المادية والفكرية والمعنوية؛ وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فقد تجمع أهل الكفر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى: {زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] ، فكان السبيل للخلاص هو اللجوءَ إلى الله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] ، ودعاءه والتزام مواقف الثبات والمقاومة الإيمانية بما يسّره الله لهم من أسباب الطبيعة: {إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11] ، وما يسره ـ سبحانه ـ من أسباب السماء: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] . كما كان الصبر سلاحاً احتمى به أهل الإيمان وأصحاب الدعوة الراشدة استجابة لنصيحة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «صبراً يا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة» (2) ، فالصبرُ من بعدُ مجلبةٌ لتأييد الله عباده، ومجلبة لمدد لهم: {بَلَى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] .
إن أمة الإسلام اليوم أشد ما تكون حاجة إلى هذا الأدب القرآني والهدي النبوي الراشد وهي تعيش فترة عصيبة من تاريخها، ولا سبيل لها إلا العودة إلى ربها والتمسك بوحدتها تحت مظلّة شريعتها الهادية ومحاربة كل أسباب الفرقة والشتات والنزاع: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، ولقد عاتب القرآن الكريم صحابة رسول -صلى الله عليه وسلم- ـ وهم أكرم منا وأفضل ـ عندما رغب بعضهم في أسلاب الدنيا يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] ، يقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذٍ» (3) .
بهذه الصفات الحميدة والسلوك الإيماني تتميز أمة الإسلام، وتكون لها قدرة المواجهة لأعداء الله؛ لأنها أمة تتعامل مع ربها وخالقها، وترجو رحمته وتخشى عذابه، فتختلف بذلك عن عصابات الكفر والإفساد في الأرض ممن لا همَّ لهم إلا الحياة الدنيا: {إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] . ويوم أن ينتصر الإيمان في قلب الأمة المسلمة، وتنحاز بكل قدراتها ومواردها انتصاراً لكلمة التوحيد وشهادة الإسلام يكون نصر الله لا محال؛ وصدق الله العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . ومن أسباب هذا النصر ومقوماته إفساح المجال واسعاً أمام أهل العلم الشرعي وأهل الرأي والمشورة وذوي الخبرة والتجربة؛ للاستفادة من آرائهم وتوجهاتهم، حتى تكون الأمة على رشد من أمرها، وتجمعها كلمة واحدة لا تتهددها الانفعالات العارضة أو المواقف أو ردود الأفعال المتسرعة والتي تقود المجتمع إلى بثّ الفرقة وضياع الثقة بين أفرادها وتهديد أمنها واستقرارها الذي هو منّة الله على عباده المخلصين: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] ، إنه وعد الله الذي وعد به عباده المؤمنين أن يبدّل خوفهم أمناً، ويمكّن لهم على أعدائهم وينصر دينهم، وصدق الله العظيم؛ إذ يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .
__________
(*) أستاذ الإعلام المشارك، جامعة إفريقية العالمية، الخرطوم.
(1) الروض الأنف، 2/231.
(2) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، رقم 4693.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، رقم 2966، ومسلم، كتاب الجهاد، رقم 3276.
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/432، وسكت عنه هو والذهبي
(2) ابن جرير الطبري، 4/130.(223/62)
تغيير المناهج: رغبة أم رهبة؟
د. وليد الطبطبائي (*)
لا يوجد نظام تعليمي في العالم إلا وتعديل المناهج وتطويرها جزء أساسي من اهتماماته، وهذا التطوير والتعديل عملية مستمرة يقوم بها صائغو المناهج كلٌّ في اختصاصه، وحسب تطورات نظام التعليم وحاجات المجتمع، وما يستجد من معارف ومكتشفات ونظريات علمية وأحداث تاريخية.
وتطوير المناهج عملية أكاديمية بحتة يقوم بها المختصون في كل فرع من فروع التعليم ومواده، وهي عملية مستمرة واعتيادية، ولا ينبغي أن تلفت انتباه أحد، أو أن تكون حدثاً موسمياً أو طارئاً أو مستعجلاً، كما أنه ليس مستساغاً أن يكون تعديل المناهج استجابة لرغبة سياسية أو طغيإن أيديولوجي؛ فهذا لا يحدث إلا في دول الحكم الشمولي وفي ظل الأنظمة الشيوعية والفاشية والبعثية؛ حيث يقرر القادة السياسيون أو الزعماء الحزبيون ما يجب إن يتعلمه الشباب، وما ينبغي إن يؤمنوا به، والطريقة التي ينظرون بها إلى العالم.
إن المشكلة الأولى في ما أصبح يُعرَف في السنوات الأخيرة بـ «قضية تغيير المناهج» إن هذه القضية طُرحت من قِبَل الدوائر الغربية وخصوصاً الأمريكية ضمن تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ ولذلك صارت لها صبغة سياسية فاقعة؛ وإن حاول كثير من الليبراليين عندنا، في العالم العربي، إيجاد تبريرات ومسوغات أكاديمية وتربوية لها، ولا أدل على ذلك من أن أكثر التعديلات المقترحة تتعلق بمناهج التربية الإسلامية واللغة العربية والاجتماعيات، أي المواد الأكثر تعلقاً بهوية وثوابت المجتمعات العربية.
وزد على ذلك أن التعديل والتغيير في هذه المواد لا يهدفان إلى تحسين أسلوب تدريسهما بما يجعلهما أكثر جاذبية وسلاسة للطلبة ويبعد عنهما الجمود، بل التعديل للمواد يمس الأفكار والمبادئ الجوهرية؛ وكأن معدِّل أو منقِّح هذه المناهج لا يقوم بذلك وهو ممسك بقلم التربوي الخبير والأكاديمي المتخصص، بل يقوم به وهو ممسك بمبضع الجراح يريد أن يقتطع من اللحم، بل قل إنه ممسك بـ (ساطور) الجزار يريد كسر عظام وقطع أشلاء الثوابت الثقافية للأمة.
لقد أثار موضوع تغيير المناهج خوفاً وقلقاً واعتراض كثير من التربويين وخصوصاً الإسلاميين في العالم العربي بسبب توقيت طرحه والجهات التي نادت به، وكيف لا؛ وهم يرون الغرب بحكوماته وإعلامه وبمفكريه يمارسون كل هذا الخلط والتخبط في فهم علاقة الهجمات الإرهابية في نيويورك وواشنطن بالإسلام والمسلمين؟ وكيف لا نقلق والإدارة الأمريكية التي تنشئ مكاناً مثل «غوانتنامو» وتعتبر مقاومة الاحتلال الصهيوني إرهاباً، وتعاقب الفلسطينيين لممارستهم انتخابات حرة نزيهة هي التي تطالب بتغيير المناهج، وهي التي تحدد ما هو معتدل وما هو متطرف، وما هو مقبول أو مرفوض في ثقافة إسلامية عربية عمرها 1400 عام أو يزيد.
نعم! إننا نسمع من بعض الليبراليين عندنا أن مطالبتهم بتغيير المناهج لا علاقة لها بالمطالب الأمريكية، وأنهم يريدون تطوير المناهج؛ لأنها لم تُطَوَّر منذ زمن بعيد، وأن هناك مسوغات كثيرة لتغيير بعضها يتعلق بمخرجات التعليم وحاجات سوق العمل، وبعضها بحاجة للتبسيط والاختصار، ونحن لا نعترض على أي تغيير ينبع من رؤية أكاديمية وتربوية متخصصة؛ لكننا نسأل: ألم تكن هذا المسوغات للتغيير موجودة قبل 11 سبتمبر 2001؟ ولِمَ أصبح التغيير مُلِحّاً الآن؟ ولماذا حماستكم للتغيير تنصبُّ على التربية الإسلامية واللغة العربية والاجتماعيات دون غيرها من المناهج؟
إن قلقنا من شعار «تغيير المناهج» مشروع ومحق، وهناك جملة مؤشرات على عدم موضوعية أو أمانة بعض المطالبين بتغيير المناهج لما يلي:
(1) إن التغيير في الأساس فكرة غربية ـ أمريكية ناتجة عن أحداث معينة ورؤية معينة للعالم الاسلامي، ولأغراض سياسية معينة.
(2) إن قسماً مهماً من التغييرات التي يقترحونها تنصبُّ على فكرة التطبيع مع العدو الصهيوني وقبول الصلح معه، وتصنيف مقاومة الاحتلال إرهاباً. والحقيقة أن استهداف المناهج التي تعزز في نفوس الطلبة الموقفَ العقائدي في مواجهة العدو سبق أحداث 11 سبتمبر، وبرز عندنا في الكويت عام 1994 على يد وزير التربية السابق د. أحمد الربعي الذي حاول حذف بنود ومواد في منهج التربية الإسلامية تتعلق باليهود والصراع معهم بما في ذلك شطب عدد من الآيات الكريمة من المنهج.
(3) إن التغيير يتم بناء على ضغوط خارجية وخصوصاً من الولايات المتحدة ضمن ثقافة ما يسمى بـ «الحرب على الإرهاب» ، وهذه الضغوط الخارجية تعززها في كل بلد إسلامي ضغوط داخلية من العلمانيين المرتبطين بالغرب سياسياً أو ثقافياً.
(4) إن اتجاهات التغيير نابعة من فهم خاطئ أو ماكر لقضية الجهاد والعمل المسلَّح في الإسلام، وقد تم استغلال كل الممارسات الخاطئة المنسوبة إلى تنظيم «القاعدة» وحوادث العنف الموجه ضد الأبرياء من أجل تشويه وإبطال مفهوم الجهاد في الإسلام، وجَعْلِ كل مسلم يحمل السلاح في وجه الاحتلال والظلم سواء كان في فلسطين أو الشيشان أو كشمير أو غيرها إرهابياً.
(5) إن اتجاهات التغيير تنحاز بقوة إلى العلمنة والثقافة الليبرالية الغربية وتجعلها معياراً للقيم الاجتماعية والاخلاقية وخصوصاً قضايا المرأة والأسرة.
(6) ولكونه ضمن ثقافة ما يسمونه «القبول بالآخر» يريد بعض الغربيين من المسلمين أن يقدموا تنازلات في العقيدة وفي ما حدده الإسلام من رؤية للديانات الأخرى وأسلوب التعامل مع غير المسلمين، ومع أن الاسلام أكد على قيم التسامح والتعايش السلمي ودعوة غير المسلمين بالموعظة الحسنة؛ إلا أن ما يريده الغربيون هو حذف أو تهميش ما نص عليه القرآن من آيات واضحة عن انحراف الأديان الاخرى عن العقيدة الصحيحة.
(7) ومما يقلقنا من فكرة تغيير المناهج أنها صارت مناسبة لكل من يريد النيْل من ثوابت الإسلام أو الطعن في قيمه، وسمعنا بعضهم يريد حذف مبادئ أساسية في عقيدة التوحيد ومفهوم البراءة من الشرك في مناهج التربية الإسلامية في الكويت بحجة أن هذه المبادئ «تكفيرية» .
(8) وصارت فكرة تغيير المناهج أيضاً فرصة لمن يريد الانقضاض على التاريخ الإسلامي والعبث به بحجة إعادة كتابته بطريقة علمية عصرية، وهؤلاء فريقان:
الأول: يريد تجريد تاريخنا من مشاهد البطولة والعزة.
والثاني: يريد اعادة تفسير التاريخ من منطلقات ظلامية سيئة النية.
إن كثرة المغرضين والمشبوهين الدائرين حول فكرة تغيير المناهج يجعلنا نقلق من أن الغرض من ذلك ليس موضوعياً، وإن ميل بعض الدول العربية لهذه الفكرة تحت ضغوط غربية معروفة يجعلنا أكثر تشككاً تجاهها؛ فتطوير المناهج لم يكن يستحق كل هذه الضجة لو كان أمراً أكاديمياً ينفذه المختصون؛ ولو أنه تم بهذه الصورة لكنا من المرحبين به، أما وقد اكتنفته كل تلك الشبهات فلنا الحق أن نتوقف في هذه المسألة، وأن نشدد الرقابة عليها.
__________
(*) عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الكويت سابقاً والنائب حالياً بمجلس الأمة الكويتي.(223/63)
225 - جمادى الأولى - 1427 هـ
(السنة: 21)(225/)
يا مقلب القلوب ثبتنا!
مما يؤسف له أن يقع بعض المتعلمين فيما تقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم بلا خوف من الله ولا وازع من ضمير، والأشد أسفاً أن يحصل ذلك أحياناً من بعض المنتسبين إلى العلم والفكر الإسلامي، وهم الذين يعلمون أنهم الموقِّعون عن رب العالمين، وفيهم ألّف العلاَّمة ابن القيم كتابه الجليل (إعلام الموقعين عن رب العالمين) . ولخطورة الإفتاء بلا علم ولا فقه كان الصحابة يتدافعون الفتوى. ولقد لمسنا مؤخراً فتاوى مستنكرة مخالفة في ذلك الأدلة المحكمة والإجماع، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
ما نُقل عن بعضهم من طوامّ منها (تجويزه زواج المسلمة من الكتابي) ! و (جواز إمامة المرأة للرجال) و (مساواة شهاة المرأة بشهاة الرجل) ! ونحوها من الفتاوى التي أنكرها عليه علماء بلده وغيرهم.
وما نشر من عميد سابق لإحدى كليات الشريعة في دولة خليجية من دعاوى مثل (جواز الطواف حول القبور) !!
وما أفتى به أحد المفتين المشهورين من تجويزه للمسلم المقيم في الغرب بيع الخمر ولحم الخنزير لغير المسلمين!
ومن ذلك القبيل ما قاله أحد طلبة العلم المعممين من زعم أن حكم الردة تعزيري وهو مفوض للسلطة ولا يعني القتل بالضرورة.
أما صاحب كتاب (قراءة للإسلام من جديد) فهو يجمع سيئات المتساهلين؛ لزعمه أنَّ الإسلام هو القرآن فقط، أما السنة والإجماع والاجتهاد فهي بنظره مصادر ما أنزل الله بها من سلطان!!
ونحتار لتعليل تلك الفتاوى الباطلة والآراء الغريبة ولا نجد لها سبباً وجيهاً، وهي في نظرنا تعود لما يلي:
1 ـ الانهزامية أمام دعوات أعداء الإسلام الذين يطالبون بتطوير أحكام الدين حتى لا يوصَفوا بالتشدد والأصولية.
2 ـ تبنيهم لمنطلقات رموز مدرسة أهل الأهواء الذين لا يقيمون للأدلة الشرعية وزناً.
3 ـ عقدة المخالفة كما يقال (خالف تعرف) ليكونوا حديث الناس والإعلام.
4 ـ قلة الورع والمجاملة لبعض المنحرفين من العامة والخاصة.
ولا شك أن هؤلاء بإفتاءاتهم يشككون الناس بأمور دينهم، ويلبسون الحق بالباطل. نسأل الله العافية.
وما زلنا نحسن الظن بأولئك، بالرجوع عما زلوا فيه؛ لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ونذكِّرهم والذكرى تنفع المؤمنين بقول الله ـ جل وعلا ـ: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ؟ .
[يونس: 59]
اللهم يا مقلب القلوب ثبتنا وسددنا!(225/1)
حمى الأسهم موعظة ودعوة
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإنَّ الحراك الاستثماري وجملة التفاعلات الاقتصادية في المجتمع الخليجي كان لها أثر إيجابي محمود عند بعض الناس، لكنها في الوقت نفسه أوجدت في المجتمع أنماطاً سلبية من السلوك الاجتماعي أخذت في التفاعل والنمو، وأدخلت المجتمع في دوامة التطلعات الاستهلاكية، وأصبحت ظاهرة التقليد والمحاكاة وحب الظهور، ونحوها من الظواهر آسرة لحركة كثير من الأسر.
وتهافت الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية في الآونة الأخيرة ـ في منطقة الخليج العربي بخاصة ـ على الاشتغال بتجارة أسهم الشركات؛ وهي ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل، خاصة بعد أن تجاوزت حدود الاعتدال والاتزان عند كثير من الناس، بَلْهَ بعض الصالحين.
وازدادت أهمية دراسة هذه الظاهرة بعد الانكسارات والخسائر الحادة في الأسواق الخليجية، وما ترتب عليها من آثار نفسية واجتماعية مقلقة على بعض الأفراد والأسر.
ولا شك بأنه يؤلمنا كثيراً أن يتعرض بعض المسلمين لخسارة مادية مهما كان حجمها؛ فكيف إذا كانت كبيرة؟ ومن واجبنا في ظل هذه الظروف أن نثبِّت الناس، ونُصبِّرهم، ونواسيهم، ونقف معهم في مصابهم، ونشاطرهم همومهم، ونطالب بحقوقهم، ونضع أيدينا على مكامن الخلل والقصور لعلاجها والتقليل من آثارها. ولْنتأملْ سيرة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فعلى الرغم من الأولويات العقدية الكبرى التي تصدى لها ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ أول البعثة، إلا أنه تصدى أيضاً للفساد والظلم الاجتماعي، وعايش هموم الناس المعيشية ومشكلاتهم الحياتية، وتنزل عليه في العهد المكي آيات كثيراة في هذا السياق، منها: قول الله ـ تعالى ـ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3] ، وقوله ـ تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 - 3] .
ونؤكد هنا أن العمل في الاستثمار والتجارة من الأمور المباحة شرعاً. قال الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ، وقال الله ـ تعالى ـ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] بل قد تكون من الأمور المحمودة التي يثاب عليها العبد إذا حَسُنت نيته؛ فإن الكسب الطيب المباح طريق مبارك للتعفف والاستغناء عن الناس؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم» (1) . وقد كان بعض الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ والتابعين على فضلهم وزهدهم يمارسون التجارة، ويوصون القادرين من أصحابهم على التجارة والكسب لما في ذلك من الترفع عن أهل الدنيا والاستغناء عن الناس، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: «استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك» (2) . ويتأكد ذلك في هذا العصر في حق العلماء والمصلحين؛ فكلما كان هؤلاء في غنى عن الناس، مترفعين عما في أيديهم؛ كانوا أكثر شرفاً وعزة وقوة في الحق وثباتاً عليه. وما أجمل قول أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمّالَ أنفسهم» (3) .
لكن ها هنا مسائل مهمة يحسن ذكرها والتأكيد عليها:
1 ـ فتنة المال:
الفتن التي تُعرض للإنسان في حياته، وتُفسد عليه دينه، كثيرة وكثيرة جداً، ومن هذه الفتن: (فتنة المال) ؛ فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» (4) ، وصح أيضاً قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» (5) . فالاغترار بالمال وتعلق القلب بحبه، باب عريض من أبواب الغفلة والانحراف. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8] .
ولهذا ينبغي للإنسان إذا اشتغل في التجارة بأي صورة من صورها ـ أن يحذر من هذه الفتنة التي وقع في أعماقها فئامٌ من الناس، ولا يغفل عن ذكر الله ـ عز وجل ـ ومراقبته في السر والعلن، ويكون ممن قال فيهم ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] ؛ فالغفلة داءٌ مهلك تُغرق المرء في هموم الدنيا وأهوائها، وتحجبه عن طاعة الله والتزام أمره ونهيه، وقد رأينا في حمَّى الأسهم أقواماً يعكفون أمام الشاشات، ويلهثون وراء دنياهم، ثم يزداد لهاثهم وطمعهم، حتى يكادوا ألاَّ يعرفوا شيئاً غيرها، فنسي بعضهم أهله وولده، وفرط في حقوق كثيرة ـ والعياذ بالله ـ وأصبحت حركة الأسهم هي حديث المجالس والمنتديات الخاصة والعامة، ولا نبالغ إذا قلنا إنها أصبحت هي الهم الأكبر والشغل الشاغل عند بعضهم، وتعجب أشد العجب من تسابق الناس وتنافسهم، بل وتدافعهم وتهارشهم على المساهمة والاكتتاب! ولهذا جاء وعيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمثال هؤلاء بقوله: «من أصبح والدنيا أكبر همه: فرَّق الله عليه صنيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له. ومن أصبح والآخرة أكبر همه: جمع الله عليه صنيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (6) .
والجدير بالذكر في هذا السياق أن بعض الصالحين ممن اشتغلوا بتجارة الأسهم أخيراً لم يَسْلَموا مما وقع فيه كثير من العوام؛ فقد غارت أقدام بعضهم في تلك الأسواق شيئاً فشيئاً، وازداد بريق الدنيا في نفوسهم، حتى أشغلهم ذلك عن بعض ما تربوا عليه من أمر العلم والدعوة والتربية، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما ذئبان جائعان أُرسِلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» (7) .
وهذا يؤكد أن التوازن والاعتدال مطلب ملحٌّ يعصم الإنسان من الاندفاع والغلو غير المنضبط. قال الله ـ تعالى ـ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] .
2 ـ التوقي والحذر من المحرمات:
من الظواهر اللافتة للنظر أن بعض الناس ـ بارك الله فيهم ـ كانوا يحرصون أشد الحرص على التوقي والحذر في سوق الأسهم، فلا يُقدِمون إلا بفقه، وكانوا يرجعون إلى أهل العلم والاختصاص في معرفة الشركات التي تجوز المساهمة فيها، لكن ممّا يؤسَف له كثيراً أن بعض الناس يتهاونون في معرفة الحلال والحرام، ويتساهلون في الوقوف عند حدود الشرع، فأصبح المعيار الذي معه يدورون: هو مقدار الربح المادي، فتلوثت بعض الأسواق بكثير من المحرمات، وتطاولت بعض الأيدي على الكسب الحرام، وكثر الغرر والنجش والتدليس، وتهاون بعضهم حتى في شأن الربا الواضح البيِّن ـ والعياذ بالله ـ وراحوا يعتذرون لأنفسهم بمعاذير واهية وحيل ملتوية، وبتكلُّف واضح ظاهر البطلان، حتى أصبح بعضهم لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب في هواه.
ثم إن تكاثر الناس وتتابع سقوطهم في هذه الأراضي الموحلة جرَّأ بعض المترددين وضعاف النفوس، ودفعهم للوقوع في المحرمات والتهاون فيها؛ فانتشر البلاء وظهر الفساد.
ولا نستبعد أن تكون انهيارات أسواق الأسهم ابتلاء من الله ـ تعالى ـ لبعض الناس، وعقوبة لآخرين ممن تجرؤوا على حرمات الله ـ تعالى ـ وجاهروا بالربا. قال الله ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] ، وقال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . [البقرة: 278 - 279]
وتأمل قول الله ـ تعالى ـ: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100] ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قُلّ» (8) ، ثم انظر إلى حال بعض الناس ممّن انتفشوا حيناً من الدهر بأموالهم الربوية واطمأنوا بها، كيف عاقبهم الله ومحق بركة أموالهم. نسأل الله السلامة والعافية.
وما أصاب المسلمَ من عقوبة في الدنيا إلا بسبب ذنوبه وتفريطه. قال الله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] ، وقال ـ تعالى ـ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . [الروم: 41]
إنها دعوة للمراجعة والتوبة وتطهير الأسواق من المحرمات. قال الله ـ تعالى ـ: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . [البقرة: 275]
إنها دعوة للأخذ على أيدي السفهاء الذين تطاير شررهم، وكثر فسادهم وإفسادهم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [النساء: 5] .
3 ـ تحصين المال بالصدقات:
حينما يكون المال في يد الإنسان، وليس في قلبه فإنه يستشعر فضل الله ـ عز وجل ـ عليه، فتكون يده طاهرة، عفيفة، مقبلة على الطاعات، ندية بالصدقات، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والصدقة برهان» (9) ، أي: برهان على الإيمان؛ لأن قلب العبد لا يتعلق بالمال، ولا يسيطر عليه الجشع والطمع؛ بل يُقبِل على ربه بالبذل والعطاء، طيب النفس بذلك. قال الإمام النووي في معنى (برهان) : (معناه: الصدقة حجة على إيمان فاعلها؛ فإن المنافق يتمنَّع منها لكونه لا يعتقدها؛ فمن تصدق استُدل بصدقته على صدق إيمانه) (10) . فالمال محبوب لكن أهل الإيمان يقدمون حبهم لله على حبهم للمال. قال الله ـ تعالى ـ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} . [الإنسان: 8]
ومن أعظم ما يحفظ المال ويبارك فيه: الحرص على إخراج الحق الشرعي الواجب فيه. قال الله ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] .
وقال ـ تعالى ـ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] ، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وأعدوا للبلاء الدعاء» (11) . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً» (12) .
من أجل ذلك كان المال نعمة جليلة إذا وُظِّف في طاعة الله ـ تعالى ـ وفي بذل المعروف، وفي الإنفاق في أبواب الخيرات. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه: فنعم المعونة» (13) .
ختاماً نقول:
إن الدروس والعبر التي ينبغي تذاكرها والوقوف عندها كثيرة، وحسبنا في هذا المقام أن ندعو العلماء والمصلحين إلى استثمار الحدث وتوظيفه في توعية الناس وتذكيرهم بفضل الله ـ عز وجل ـ وبيان أن النعم إنما تدوم بشكر المنعم وطاعته، وتزول بالكفران والعصيان. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] .
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.(225/2)
الرّدة، الأسباب والعقوبات وتهافت الشبهات
هاني بن عبد الله الجبير
إن الله ـ تعالى ـ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليدل الناس على الإسلام الذي هو أكمل الشرائع، وأمره (أن يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة الله ورسوله. ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق عن بطونهم، بل تُجرى عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه، وتجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم، فأحكام الدنيا على الإسلام، وأحكام الآخرة على الإيمان.
ولهذا قَبِلَ إسلام الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، وقَبِلَ إسلام المنافقين ظاهراً، وأخبر أنّه لا ينفعهم يوم القيامة شيئاً، وأنّهم في الدرك الأسفل من النار.
فأحكام الله ـ تعالى ـ جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه) (1) .
فانقسم الناس تجاه دعوته إلى: المؤمنين الصادقين، والكفار الظاهرين، والمنافقين المستترين. فعامل كلاً بما أظهر. ثم إن أهل الإيمان انقسموا بحسب تفاوت درجاتهم في الإيمان والعمل الصالح إلى درجات كما قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] .
- حكم من كفر بعد الإيمان:
وحكم على من أظهر كفره من المنافقين، أو كفر من المسلمين بالقتل كفّاً لشرهم وردعاً لغيرهم؛ فإنّ محاربتهم للإسلام بألسنتهم أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه؛ فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان، وفتنة هذا في القلوب والإيمان، وهذا بخلاف الكافر الأصلي؛ فإن أمره كان معلوماً، وكان مظهراً لكفره غير كاتم له، والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه، وجاهروه بالعداوة والمحاربة، ولو تُرك ذلك الزنديق لكان تسليطاً له على المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبّة الله ورسوله. وأيضاً فإن من سب الله ورسوله، وكفر بهما فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً؛ فجزاؤه القتل حَدّاً. ولا ريب أن محاربة الزنديق لله ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفساداً؛ فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال على عشرة دراهم ولا تأتي بقتل من صال على كتاب الله وسنة نبيّه بين أظهر المسلمين وهي من أعظم المفاسد؟ (2) .
وبين يديك ـ أخي القارئ الكريم ـ ورقات قليلة في جريمة الردّة تعرض جانباً من نظرة الإسلام إليها وإلى عقوبتها سائلاً الله ـ تعالى ـ أن ينفع بها.
- تعريف الردّة:
الردّة في اللغة: الرجوع عن الشيء والتحول عنه، سواء تحوّل عنه إلى ما كان عليه قَبْلُ، أو لأمرٍ جديد.
ويقال: ارتدّ عنه ارتداداً، أي: تحوّل.
ويقال: ارتد فلانٌ عن دينه إذا كفر بعد إسلامه (3) .
وتدل في الاصطلاح الشرعي: على كفر المسلم بقول أو فعل أو اعتقاد (4) .
- وقوع الردَّة وحصولها:
الردّة عن الإسلام والتحوّل عنه ـ أعاذنا الله منها وثبتنا على دينه ـ أمر ممكن الحصول؛ فقد ذكرها الله ـ تعالى ـ في كتابه محذراً منها، ومبيناً عاقبتها. قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] .
وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] .
وقال ـ تعالى ـ: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
إضافة إلى آيات كثيرة تبين هذا المعنى.
كما أخبر ـ تعالى ـ عن وقوع الكفر من طائفة من الناس بعد إيمانهم.
قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25] .
وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ} . [التوبة: 65 - 66]
وقال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ} [التوبة: 74] .
وقال: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء: 137] .
كما وقعت الردة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواقف نذكر منها: قصّة عبيد الله بن جحش؛ فإنّه كان قد أسلم وهاجر مع زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة فراراً بدينه.
قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله زوجي بأسوأ صورةٍ وأشوهها، ففزعت وقلت: تغيّرت والله حالُهُ! فإذا هو يقول حين أصبح: إنّي نظرت في الدين، فلم أرَ ديناً خيراً من النصرانية، وكُنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، وقد رجعتُ، فأخبرتُهُ بالرؤيا، فلم يحفِل بها، وأكبَّ على الخمر.. حتى مات (1) .
ومنها ما حصل عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسِّيَر أنّه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب: منها أمر القبلة لما حُوّلت ارتدّ عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] (2) .
ومنها ما حصل في غزوة تبوك إذ قال رجل في هذه الغزوة: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء، فرُفع ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب. فقرأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله ـ تعالى ـ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ} وما يلتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (3) .
وقريب من هذا ما حصل لهشام بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فإنّه أسلم وتواعد على الهجرة مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ثم إنّه حُبِسَ عنه وفُتِن فافتتن.
قال ابن إسحاق: وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر في حديثه قال: فكنا نقول: ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قومٌ عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ أصابهم!
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] .
فقدم المدينة بعد ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (4) .
والردة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ترتبط بعداوة الإسلام وحربه، ولكنها كانت مع ذلك ردّة موجبة للخروج عن الإسلام، وموجبة لتجريم فاعلها ولو لزم داره.
بل إن المنافقين في الصدر الأول كان منهم من آمن ثم نافق بعد إيمانه، وهذه ردّة أيضاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «وكذلك لما انهزم المسلمون يوم أحد وشُجّ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكُسرت رُباعيته، ارتد طائفةٌ نافقوا.. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166 - 167] . فإن ابن أُبيّ لما انخزل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد انخزل معه ثلث الناس، قيل: كانوا ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.
وفي الجملة: ففي الأخبار عمّن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره» (5) .
- عظم جريمة الردّة:
إنّ أهم مقصد جاء الإسلام بتحقيقه في الناس هو تحقيق توحيد الله والإيمان به ونفي الشرك والكفر والتحذير منهما، وقد جاء أيضاً بحفظه في نفوس من اعتنقه؛ وذلك أن العالَم لا يستقيم بدونها، فضياعها مهلك للبشر، وإذا تأمل الإنسان حال البشريّة عند بعثة المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فسيجد أنّه بُعِثَ على فترةٍ من الرسل في زمن تخبطت فيه البشريّة كما وُصفوا في الحديث القدسي: «إنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (1) عن دينهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب..» (2) .
وهؤلاء البقايا مات أكثرهم قبل مبعثه (3) ، فصار الناس في جاهليّة جهلاء من مقالات مبدّلة أو منسوخة أو فاسدة قد اشتبهت عليهم الأمور مع كثرة الاختلاف والاضطراب.
«فهدى الله الناس ببركة نبوّة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به من البينات والهدى، هدايةً جلّت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً ولأولي العلم منهم خصوصاً، من العلم النافع والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً إلى الحكمة التي بُعث بها لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة قدر النسبة بينهما؛ فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى» (4) .
ولذا صار الشرك بالله ـ تعالى ـ أعظم الذنوب. عن عبد الله ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نِدّاً وهو خلقك» قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» (5) .
وعند تأمُّل حال أمة ليس فيها سلطان للدين ولا رقيب منه، وكيف يتسلط بعضهم على بعض عند ذلك؛ لأن أهواء الناس تتفاوت وتختلف، وكل شخص سيفعل ما يراه مصلحةً له بحسب هواه، وإن منعه وازع من السلطان في العلن، فلن يتحفظ في السرّ، وعند ضعف الوازع السلطاني عن الاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض، فترى النفوس تُغتال، والأموال تُختلَس والأعراض تُنتهَك، والشاهد الجلي لهذا حال الدول غير المسلمة إذا ضعفت فيها السلطة، فتحصل الاغتيالات وانتهاب الأموال وانتهاك الأعراض (6) .
ولذا كانت البيعة التي يأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرجال والنساء تتضمن أن لا يشركوا ولا يزنوا ولا يقتلوا كما جاء في سورة الممتحنة وكتب الحديث (7) .
بل (ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعةً: الشرك، والزنا، وقتل النفس؛ ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة! الجريمة الأولى قتل للفطرة، والثانية جريمة قتل للجماعة، والثالثة جريمة قتل للنفس الموءودة. إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة.. ومن ثَمّ يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات؛ لأنّه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار..) (8) .
والتساهل في هذه العقوبة يؤدي إلى زعزعة النظام الاجتماعي القائم على الدين، فكان لا بد من تشديد العقوبة لاستئصال المجرم من المجتمع منعاً للجريمة وزجراً عنها. وشدة العقوبة تولّد في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها، ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال (9) .
ومن المعلوم أن العقوبات تتناسب مع الجرائم؛ فكلما ازدادت بشاعة الجريمة استلزمت عقاباً موازياً لها في الشدة (10) . ومن المبادئ المتفق عليها لدى التشريعات الجنائية مبدأ مقارنة جسامة الجريمة بجسامة العقوبة، وكلما زادت العقوبة في جسامتها دل ذلك على ارتفاع جسامة الوصف القانوني للجريمة.
ويطلق على هذا المبدأ: مبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة.
- أسباب الردّة:
عند تأمَّل التاريخ والواقع نجد جملة أسباب ودوافع أدت إلى حصول حوادث الردّة، وهي وإن كانت على مرّ التأريخ حوادث جزئية وقليلة إلا أننا يمكن من خلال تأملها استلهام جملة من الأسباب الدافعة أو المساعدة على حصول الردة.
ومن هذه الأسباب:
1 ـ كيد الكفار بالمسلمين:
فمن مكر الكفار وكيدهم القديم أن يدخل طائفة منهم في الإسلام ـ ظاهراً ـ حتى إذا سكن إليهم المسلمون، عادوا فارتدوا معلنين السَّخَط على الدين وعدم الرضى به، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويصدوهم عن سبيله.
وقد ذكر الله ـ تعالى ـ هذه المكيدة منهم في كتابه. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] .
قال قتادة: قال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار واكفروا آخره؛ فإنّه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم (1) .
قال السُّدي: كان أحبار قرى عربيّة اثني عشر حِبْراً، فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أوّلَ النهار وقولوا: نشهد أن محمداً حق صادقٍ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنَّا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدثونا أن محمداً كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا؛ فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكّون، يقولون هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار؛ فما بالهم؟
فأخبر الله عز وجل رسوله -صلى الله عليه وسلم- بذلك (2) .
2 ـ ضعف الإيمان فلا يثبت عند المحن:
من خالط الإيمان قلبه فإنّه لا يتزحزح عنه لأي طارئ، وقد سأل هرقل أبا سفيان ابن حرب قبل أن يسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسئلة يستكشف بها حقيقة حاله، فكان مما سأله: هل يرتدّ أحد منهم ـ أي أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب (3) .
وفي رواية زاد: لا يسخطه أحد، وفي رواية: وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه (4) .
ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميّة من انخذل من المسلمين يوم أحد مع عبد الله بن أُبي قال: «أولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان.. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقّاً الذين امتُحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقّاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتُلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً، وينافق أكثرهم أو كثير منهم. ومنهم من يظهر الردّة إذا كان العدوّ غالباً؛ وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة.
وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عددهم كانوا مسلمين..) (5) .
ولهذا كانت فائدة المحنة والابتلاء أن يظهر الصادق من الكاذب.
قال ـ تعالى ـ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] .
3 ـ الافتتان بما لدى الكفار:
وهذا الافتتان يتخذ صوراً عديدة يجمعها ويربط بينها ضعف الشخصية الإيمانية والاقتناع التام بصدق المبدأ.
ومن ذلك الفتنة بما قد يُمَكّن للشخص من شهوات، فلما حاصر النصارى عكا سنة ست وثمانين وخمسمائة استمرت أمداد الفرنج تقدم عليهم من البحر كل وقت حتى إنَّ النساء ليخرجن بنيّة راحة الغرباء في الغربة، فقدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة حسناء بهذه النيّة، حتى إنّ كثيراً من فسقة المسلمين تحيّزوا إليهم لأجل هذه النسوة (6) .
وذكر ابن كثير (7) أيضاً قصة مجاهد يدعى: عبده بن عبد الرحيم وأنّه في بعض الغزوات نظر إلى امرأة من نساء الروم فهويها وتنصّر من أجلها، فاغتمّ المسلمون بسبب ذلك؛ فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو معها، فقالوا: يا فلان! ما فعل قرآنك؟ فقال: اعلموا أنّي نسيت القرآن كله إلا قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 2 - 3] .
ومنها: الافتتان بما لديهم من إتقان لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها، مع عجز المسلمين عن ذلك، (فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنّه على الحق، وأنّ من عجز عنها متخلّف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش ... فقد أوضح ـ جل وعلا ـ في قوله ـ تعالى ـ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] أن أكثر الناس لا يعلمون، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيويّة دخولاً أولياً؛ لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم.. ورزقهم، ولم يعلموا شيئاً عن مصيرهم الأخير، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدوداً من جنس من يعلم.. بل علمهم في غاية الحقارة بالنسبة لما فاتهم) (1) لأنه لا يجاوز ظاهر الحياة الدنيا.
4 ـ سعي اليهود والنصارى:
وهذا السبب أوضح من أن أستشهد عليه أو أقرره؛ فقد بيّنه الله ـ تعالى ـ أتم بيان بقوله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] .
وقال عن الكفار: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] .
وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً} [البقرة: 109] .
ويظهر هذا بجلاء في المساعي التنصيريّة التي لا تزال تمارس نشاطاتها في العالم الإسلامي بصورة مباشرة حيناً، وبدعم التوجيهات غير الدينيّة من داخل بلاد الإسلام أحياناً أخرى، وهي مساعٍ عظيمة جداً ينفق عليها بسخاء كبير (2) ، واستعملوا لتحقيقها عدة طرق: من التطبيب، والتعليم، ونشر الفتن والحروب، والأعمال الاجتماعية وغيرها.
ويتأكد هذا الأمر عندما نعلم مدى تأثير الدين في الحياة الأمريكية حتى يمتزج بجميع نواحي الحياة، وحتى يصبح من أقوى العوامل في نجاح المرشح في الانتخابات وفي فشله أيضاً (3) .
- عقوبة المرتد:
الإنسان باعتناقه للإسلام يعصم دمه وماله في الدنيا، وأما قبل إسلامه فإنّ الأصل أنه مباح الدم إلا إذا طرأ له عهد أو ذمة أو أمان أو مانع يمنع من قتله.
فكل شخص لم يعتنق الإسلام فالأصل أنّه مباح الدم إلا لعارض.
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى» (4) .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وصلّوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا؛ فقد حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها» (5) .
فقوله: «عصموا مني دماءهم» وقوله: «حرمت علينا دماؤهم» يدل «على أنه كان مأموراً بقتل من أبى الإسلام.. فإذا نطق بالشهادتين عُصم دمه وصار مسلماً؛ فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بشرائع الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم» (6) .
ويدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] . وقوله: {فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] .
فالإسلام هو العاصم عن إباحة دم الإنسان في الأصل، وأما غيره من الأسباب التي تمنع من قتل غير المسلم فهي أسباب طارئة تنتهي بانتهاء غايتها.
والمسلم نفسه متى ترك الإسلام عاد للحال التي كان عليها من حِل الدم والمال، بل هو أشد؛ لأن ضرره أعظم، ولأنه قد قامت عليه من الحجّة ما هو أبلغ من غيره.
وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر بعض أسباب القتل وكان منها: الكفر، وبيّن أن من الفقهاء من جعل نفس الكفر مبيحاً للدم، ومنهم من جعله وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه، قال بعد ذلك: (أما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع خاصٌّ من الكفر؛ فإنّه لو لم يُقتَل لكان الداخل في الدين يخرج منه؛ فقتله حفظ لأهل الدين والدين؛ فإنّ ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه، بخلاف من لم يدخل فيه؛ فإنّه إن كان كتابياً فقد وجد إحدى غايتي القتل في حقّه وإن كان وثنياً.. ولم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافراً لا منفعة في حياته لنفسه؛ لأنه يزداد إثماً، ولا للمؤمنين؛ فيكون قتله خيراً من إبقائه) (1) .
إذا تقررت هذه القاعدة من أن أكبر عاصم لمال الإنسان ودمه هو الإسلام؛ فإننا نعلم أن خروج الإنسان عن الإسلام بعده رافع لهذه العصمة، ولذا جاء الشرع في نصوص كثيرة جداً تبيّن حد المرتد وأنّه القتل.
فمنها قوله ـ تعالى ـ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة: 74] فبين ـ تعالى ـ أن من كفر بعد إسلامه إن تاب كان خيراً له، وإلا يعذّب عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، وعذابه في الدنيا هو الحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: (.. ولكونهم أظهروا الكفر والردة، لهذا دعاهم إلى التوبة فقال: {فَإن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإن يَتَوَلَّوْا} عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وهذا لمن أظهر الكفر فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة) (2) .
وقال ابن الجوزي: (قوله ـ تعالى ـ: {وَإن يَتَوَلَّوْا} أي يُعرِضوا عن الإيمان {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} بالقتل وفي الآخرة بالنار) (3) .
وقد أمر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في نصوص نبويّة كثيرة..
فمنها: عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من بَدّل دينه فاقتلوه» (4) .
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالساً إذ دخل رجلان وافدين من عند مسيلمة، فقال لهما رسول الله: «أتشهدان أني رسول الله؟» فقالا له: أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله؟ فقال: «آمنت بالله ورسله؛ لو كنت قاتلاً وافداً لقتلتكما» (5) .
وجاء من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي: «أما والله لولا أنّ الرسل لا تُقْتَل لضربت أعناقكما» (6) .
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: «ارتدت امرأة عن الإسلام فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعرض عليها الإسلام وإلاّ قُتلت، فعرضوا عليها الإسلام فأبت إلا أن تقتل، فقُتلت» (7) .
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل ابن خَطَل وقد كان مسلماً ثم ارتد مشركاً (8) .
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (9) .
وروت عائشة ـ رضي الله عنها ـ مثله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (10) .
وعن عثمان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس» (11) .
وفي رواية: «أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل» (12) .
وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية، فقلت: إلى أين؟ فقال: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رجلٍ تزوّج امرأة أبيه أن أقتله، أو أضرب عنقه (13) وزاد في رواية: وآخذ ماله، أو: أصفي ماله، أو: أخمّس ماله.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: (إنّ تخميس ماله دَلَّ على أنّه كان كافراً لا فاسقاً، وكفره بأنّه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله) (1) لأنه كذَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به عن ربّه، وجحود لآية من القرآن.
وفي السنَّة من النصوص الواردة في قتل الساحر ما ينضم إلى ما تقدَّم أيضاً.
وثبت القتل للمرتد من فعل صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورضي الله عنهم.
فقد أُتي علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بزنادقة فأحرقهم بالنار (2) .
وورد ذلك عن ابن عمر وعثمان وأبي بكر رضي الله عنهم (3) .
ولما قدم معاذ بن جبل على أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ إذا رجل عنده موثَق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم، ثم تهوّد، قال: اجلس. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فأمر به فقتل (4) .
والحكم بقتل المرتد محل إجماع من المسلمين (5) ، فلم يقع في أصله خلاف، وإن حصل اختلاف في فروعه كالاستتابة ومدتها وأنواع المكفرات.
ولكن هذا القتل لا يكون إلا بأمر حاكم؛ لأن مرجع تنفيذ الأحكام إليه، عند جمهور أهل العلم، كما لا يقتل حتى يستتاب ويصرّ على ردّته، ولا بد من تحقق الردّة بثبوت موجبها وتحقق شروطها وانتفاء موانعها من الخطأ والإكراه ونحو ذلك (6) .
ومعنى ما سبق أن إثبات الحد الشرعي شيء، وتطبيقه في الواقع شيء آخر؛ فإن تنزيل الأحكام على الوقائع مختص بأهله.
- شبهات حول حد الردّة:
يظهر مما سبق أن الحكم بقتل المرتد حداً حدٌّ شرعيٌّ ثابت بالنص النبوي قولاً وفعلاً، وبإجماع المسلمين، ودَلّ عليه كتاب الله تعالى ـ تفقهاً ـ وعمل الصدر الأول من الأمّة.
وهو متّسق مع قاعدةٍ كلية وهي إباحة دم الكافر إلا بطروء ما يعصمه.
وكل ما سبق مثبتٌ ـ بلا شك ـ أن القتل للمرتد واجب من واجبات الدين.
إلا أن هذا العصر لما شهد إعراض بعض الأمم عن تطبيق هذا الحد، أخذ بعضهم يبحث عن وسائل يجعل هذا الحد محل تردد، وأورد لذلك شبهات، وتوصّل بعد ذلك إلى تحريم الردّة، ولكن جعل عقوبتها تعزيريّة عائدة لرأي الإمام إما بالقتل أو بالسجن أو بغيرهما (7) .
وآخر بحثَ مثله عن شبهات وتوصل بعد عرضها والكلام حولها إلى أنّه لا عقوبة على الردة! (8) .
ومجمل الشبهات التي أوردها هؤلاء هي:
أن عقوبة الردة وردت في أحاديث آحاد، والحدود لا تثبت بحديث آحاد.
وقد تبيّن مما سبق أن حد الردة محل إجماع، والإجماع يرفع الحكم إلى القطعيات، كما أن الحديث ورد بعدة طرق، وأخرجه صاحب الصحيح مما يجعله محفوفاً بالقرائن التي ترفعه إلى إفادة العلم كما قرره الحافظ ابن حجر في نزهة النظر (9) . وقد نقل أيضاً في نفس الموضع الإجماع على وجوب العمل بما في الصحيح، ثم إن أحاديث الآحاد لم يتوقف علماء الصدر الأول من الإسلام عن الأخذ بها سواء في العلميات أو العمليات.
ولذا قال ابن حبان ـ رحمه الله ـ: (فأما الأخبار فإنّها كلها أخبار آحاد؛ لأنّه ليس يوجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرٌ من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلما استحال هذا، وبطل، ثبت أنَّ الأخبار كلها أخبار آحاد، وأن من تنكّب عن قبول خبر الآحاد فقد الإضافة) (10) .
كما أنّ حد الزاني المحصن وشارب الخمر وتفصيلات حدود السرقة وزنا البكر كلها إنّما ثبتت بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الآحاديّة.
ومع كل ذلك فإنَّ لدينا على هذا الحد دليلاً من القرآن تقدم، وإجماع مَرّ معنا.
ونظير هذه الشبهة: أن هذا الحكم لم يذكر في القرآن.
وهو مع الإشارة إليه في القرآن، ومع اعتقادنا أنَّ السنة مصدر للتشريع فإني ذاكر حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: إذ لعن الواشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فقالت امرأة قرأتِ القرآن يقال لها أم يعقوب: ما هذا؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله. قالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُهُ. قال: والله لو قرأتيه لقد وجدتيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] (1) .
ولا شك عند كل مسلم سليم الاعتقاد أنَّ الحديث حجة بنفسه؛ فهو عليه الصلاة والسلام {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] .
ومن الشبهات أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعاقب أحداً من المرتدين بقتله.
وقد تبين مما سبق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل من ارتد وعاقب بذلك (2) .
بل عاقب به من لم يحارب المسلمين ولم يقاتلهم.
- الردّة وحريَّة الاعتقاد:
لا شك أنّ كل مسلم يعلم أنّ الإسلام هو الدين الحقّ، وأنّ ما عداه باطل {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
لذا فإن على كل عاقل أن يسلم لله رب العالمين؛ فإن لم يسلم فقد تنكّب الصراط المستقيم، وخالف مقتضى العقل وداعي الفطرة.
ولا يعني هذا منع الإنسان من التفكير، بل هو بتفكيره السليم منقادٌ للإيمان بالله تعالى.
وعلى هذا؛ فليس للإنسان حريّة في الاعتقاد، بل مطلوب منه الإيمان، ولكن لا يُكرَه عليه، فإن أُكره فإنّ إيمانه لا ينفعه؛ لأنّه لم يكن عن قناعةٍ واطمئنان قلب.
قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85] .
أي: أنهم لمَّا عاينوا وقوع العذاب بهم وحَّدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة.
إنَّ الله ـ تعالى ـ بعث الرسل وأنزل الكتب لبيان الحق ودلالة الخلق، وإقامة البراهين والآيات والمعجزات التي تدل كل صاحب تفكير سليم إلى الإيمان: {قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] .
وهذا فيه حريّة ظاهرة؛ إذ لا إكراه على اعتناق الإسلام مع أنّه المخلِّص للبشريّة من ضلالاتها، وسائر مشكلاتها، {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] .
وشاهد هذا حال أهل الذمة الذين أقرهم المسلمون على دينهم دون أن يعرض أحد لهم، وإباحة الشرع للمسلم أن يتزوج كتابيّة ولو بقيت على دينها دون أن يجبرها على التخلي عنه.
أما من دخل في الإسلام فإنّه قد التزم أحكام الإسلام وعقيدته التي منها أن من ارتدّ عنه قتل؛ فهو بدخوله في الإسلام التزم بأحكامه التي منها عقوبته عند الإخلال به.
وإذا كان الإنسان مخيراً في دخول أي بلد، فإذا ما دخلها لزمه الانقياد لأنظمتها وإلا استحق العقوبة على إخلاله، وليس له أن يحتج بأنّه كان مخيراً قبل دخوله لها؛ بينما المرتدّ بردته ارتكب عدة جرائم: جريمة في حق نفسه إذ أضلها، وجريمة باستخفافه بعقيدة أمته ونظامها الذي يرتكز على الإسلام، وجريمة بتشكيكه لضعاف العقيدة في عقيدتهم، وهذا كله مؤدٍّ إلى اضطراب المجتمع واهتزازه؛ كما أنّه أعلن وجاهر بجريمته ولم يسرّ بها؛ لأنه لو أسرّ ردته صار منافقاً، ولمَّا أعلنها صار مرتداً مجاهراً (3) .
وكل هذه الجرائم جرائم متناهية في البشاعة، فاستحق العقوبة الشرعيّة على جرائمه تلك. إن القوانين الوضعيّة تقتل الخائن لها والمحطّم لنظمها دون أن تتذرع بأنّه يمارس حريته الشخصيّة؛ فكيف بمن يجرم في حق نفسه ومجتمعه وعقيدة أمته؟!
وبعد: فقد كان من المناسب بيان أصول المكفرات وشروط الحكم بالكفر على من وقع فيه؛ فلعل أحداً من المختصين أن ينبري لبيانها أو بيان شيء من المهم منها، والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.
__________
(*) قاضٍ شرعي في المحكمة الشرعية بمكة المكرمة.
(1) تضمين من إعلام الموقعين لابن القيّم (3/126) .
(2) منقول بتصرف واختصار من: إعلام الموقعين (3/130) .
(3) معجم مقاييس اللغة (2/386) ، لسان العرب (3/172) .
(4) الروض المربع مع الحاشية (7/399) .
(1) سير أعلام النبلاء (2/221) ، طبقات ابن سعد (8/97) .
(2) مجموع الفتاوى (7/278) .
(3) تفسير ابن كثير (7/227) ، السيرة النبوية لابن هشام (2/524) ، تفسير الطبري (14/333) .
(4) السيرة النبوية لابن هشام باختصار (1/476) .
(5) مجموع الفتاوى (7/279) .
(1) اجتالتهم: أي: استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه. شرح النووي ص 1666.
(2) صحيح مسلم (2865) .
(3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 53.
(4) المرجع السابق ص 54.
(5) صحيح البخاري (4477) ، صحيح مسلم (141) .
(6) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة لمحمد سعد اليوبي ص 183، 210.
(7) صحيح البخاري (3892) ، صحيح مسلم (1709) .
(8) في ظلال القرآن (3/1231) .
(9) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة (1/662) .
(10) عقوبة الإعدام عقوبة مقررة في الشرائع السابقة وفي القوانين الوضعيّة المعاصرة، وقد أيّدها عدد من المفكرين، منهم: روسو وفولتير ومونتسيكو وغيرهم، بل بعض الدول الغربية التي ألغت عقوبة الإعدام عادت فأقرتها، مثل: إيطاليا، وروسيا بحجّة أن من ارتكب جرماً خطيراً أو شديد الضرر فعليه أن يدفع حياته ثمناً لإثمه الكبير، وكونها عقوبة ضروريّة لتخليص المجتمع من الأشخاص الخطرين، وأنها تصرف عن الإقدام على الجريمة.
انظر: علم الإجرام والعقاب للدكتور عبّود السّراج ص 407 ـ 417، أساسيات علم الإجرام والعقاب للدكتور فتّوح الشاذلي ص 106 ـ 119، النظرية العامة لقانون العقوبات للدكتور سليمان عبد المنعم ص 729.
(1) تفسير الطبري (5/496) .
(1) المرجع السابق.
(3) صحيح البخاري (7) .
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر (1/49) .
(5) مجموع الفتاوى (7/281) . (الإيمان الكبير) .
(6) البداية والنهاية (16/612) .
(7) البداية والنهاية (14/640) .
(1) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/478) .
(2) فالرسائل التي كتبها (المنصرون) من سوريا والشرق الأدنى بين عامي 1830م و 1842م بلغت ثمانية وثلاثين مجلداً، ولما اجتمع مؤتمر التنصير العالمي عام 1910م أصدر تقريراً عن النواحي التي يجب أن يهتم لها المبشرون تم طبعه في عشرة مجلدات، أما مؤتمر التبشير في القدس عام 1928م الذي اجتمع لمدة أسبوعين فقط فقد وضع تقريراً في ثمانية مجلدات، ومؤتمر كولو عام 1978م قُدّمت فيه أربعون دراسة، ورُصد للتنصير فيه ألف مليون دولار.
أما المجلات التي صدرت في بلدان مختلفة وبلغات مختلفة لغرض التنصير فأكثر من أن تُحصى، وكذلك الإذاعات والقنوات.
وأُحيل القارئ الكريم إلى كتاب: الغارة على العالم الإسلامي الذي تولى نشره محب الدين الخطيب، وكتاب: التبشير في البلاد العربيّة لمصطفى خالدي وعمر فرّوخ، وكتاب: الغارة الجديدة على الإسلام لمحمد عمارة وهو يتضمّن الترجمة الكاملة لتقرير مؤتمر كولورادو، وكتاب: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للشيخ الميداني.
(3) البعد الديني في السياسة الأمريكيّة للدكتور يوسف الحسن ص 67، 83.
(4) صحيح البخاري (25) ، صحيح مسلم (22) .
(5) صحيح البخاري (391) .
(6) انظر: جامع العلوم والحكم (1/230) .
(1) مجموع الفتاوى (20/102) .
(2) مجموع الفتاوى (7/273) .
(3) زاد المسير ص 596؛ ومثله في الكشاف للزمخشري ص 442، والشوكاني في فتح القدير (2/545) .
(4) صحيح البخاري (3017) .
(5) الدارمي (2545) ، وصححه ابن حبان (4879) .
(6) سنن أبي داود (2762) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5328) .
(7) سنن البيهقي (17337) ، والدارقطني (34/118) ، وانظر تلخيص الحبير (4/49) .
(8) صحيح البخاري (1846) ، صحيح مسلم (1357) .
(9) صحيح البخادي (6878) ، صحيح مسلم (1676) .
(10) صحيح مسلم (1676) .
(1) سنن الترمذي (2158) وحسّنه، والنسائي (7/91) ، وابن ماجه (2533) .
(12) سنن النسائي (7/103) .
(13) مسند أحمد (4/295) ، سنن أبي داود (4457) ، الترمذي (1362) ، ابن ماجه (2607) ، وصححه ابن حبان (4112) ، والحاكم (2/191) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/18) وفيه روايات الحديث.
(1) مجموع الفتاوى (20/92) . ولا بد أن تعلم أن هذا ليس مجرد فاعل معصية، بل فعل ذلك مستحلاً للحرام فصار كافراً.
(2) صحيح البخاري (3017) .
(3) سنن البيهقي (12/400 فما بعدها) .
(4) صحيح البخاري (6923) .
(5) الإجماع لابن المنذر ص 123.
(6) انظر: حاشية الروض المربع (7/399 فما بعدها) ، مغني المحتاج (4/142) ، حاشية ابن عابدين (4/668) ، الموسوعة الفقهيّة الكويتية (22/194) ، التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة (2/706) .
(7) انظر: موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر (3/439) ، موقع إسلام أون لاين: الإسلام وقضايا العصر، مقال بعنوان: عقوبة الردة تعزير لا حدّ، لمحمد سليم العَوّا.
(8) موقع إسلام أون لاين، ملف: قضيّة الردة هل تجاوزتها المتغيرات، مقال لجمال البنا بعنوان: العقوبة للردة. كتاب حرية الفكر في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي.
(9) نزهة النظر، ص 288.
(10) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/156) ، وانظر: كتاب الفقيه والمتفقه (1/286) .
(1) صحيح البخاري (5939) .
(2) وقد حاول هؤلاء جمع نصوص فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل بعض من كفر بعد إسلامه، ومما ذكروه قصة الأعرابي الذي بايع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما استوخم المدينة قال: يا محمد! أقلني بيعتي، فأبى فخرج الأعرابي، وهذا بيّنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/116) ، (13/212) أنه استقال من الهجرة الواجبة وليس من الإسلام، وإلا لكان قتله على الردة، ولو كان مرتداً لما احتاج أن يستأذن النبي.
وذكروا قصّة الرجل النصراني الذي كان يكتب الوحي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم عاد نصرانياً، فلما مات ودفن لفظته الأرض، وهذا خرج ـ كما في صحيح مسلم ـ فاراً حتى لحق بأهل الكتاب. فتح الباري (6/723) .
(3) انظر: مجموعة بحوث فقهيّة لعبد الكريم زيدان ص 416، تلبيس مردود في قضايا حية لصالح بن حميد ص 33؛ حقوق الإنسان في الإسلام لسليمان الحقيل ص 155.(225/3)
أسلمة الديمقراطية (1-2)
محمد بن شاكر الشريف
عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلاناً بغياب القوة الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلاناً بانتصار الليبرالية الغربية وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما يعرف بـ «نهاية التاريخ» (كما يذكر فوكوياما) .
من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية؛ وذلك في الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي الزائل. ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتُهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ فقد أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين على أنها العلاج الأكيد والناجع ـ من جهة مصلحتها ـ لهمجية العرب والمسلمين ـ بزعمها.
فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية؛ حيث هوجمت قلاعها الاقتصادية والعسكرية (1) ، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين، ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلباً أمريكيا يخدم مصلحة أمنها القومي؛ ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة الأمريكية ووجد له أنصاراً كثيرين.
- موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية:
الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق ما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته. يقول خالد محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين ـ لكنهم ديمقراطيون ـ شواهد قريبة من سلوك عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن الديمقراطية إسلام» ويقول: «كان عرضنا هذه المشاهد ـ وهي قليل من كثير ـ تبياناً لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافاً للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين الديمقراطية كمنهج ونظام» (2) . ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: «الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام» (3) ، وكلام كثير جداً من مثل هذا.
وأما في وقتنا الحاضر، بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات العقدية الإسلامية، بينما قَبِلَ الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا. من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان حقيقة الديمقراطية وهل حقاً أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية؟
- ماذا تعني كلمة الديمقراطية؟
الديمقراطية كلمة لاتينية وهي مكونة من شقين: الشق الأول demos وتعني الشعب، والشق الثاني cratie وتعني حكم أو سلطة. فاللفظ على ذلك يعني حكم الشعب، أو الحكم للشعب، «وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة ... إلا أن لها مدلولاً سياسياً شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة، وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة» (4) . فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه؛ فهي «تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه» (5) . وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة، وقد عُرِّفت السيادة بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند، متفردة بالتشريع الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شؤون الدولة أو المجتمع؛ فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى (6) ، والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب.
وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة:
1 ـ إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه تمارسها السلطة التشريعية.
2 ـ المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه تمارسها السلطة التنفيذية.
3 ـ حل المنازعات سلمياً بين المواطنين انطلاقاً من هذه التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية (7) ، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث.
- تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات:
وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطوراً كبيراً، ولم تبق على شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا (8) ؛ فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم في بداية الفكرة قليلاً بالنسبة للعدد الفعلي؛ فقد أُخرج منه الأرقَّاء كما أُخرج منه النساء، كما اشتُرط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العام.
كما اختلفت الصورة التي تمارَس بها الديمقراطية؛ فبعد أن كانت الديمقراطية تباشَر من قِبَل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، والانتقال من دولة المدينة ـ صغيرة المساحة قليلة العدد ـ إلى الدولة القومية ـ ممتدة المساحة كبيرة العدد ـ وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية) ، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد يختارهم الشعب ليحكموا بدلاً عنه، كما ظهر التزاوج لاحقاً بين الصورتين فيما سُمي بـ (الديمقراطية شبه المباشرة) وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة كلياً؛ حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكماً مباشراً، وموضوعات أخرى يحكم فيها الشعب حكماً نيابياً.
كما تعددت أشكال الحكومات فهناك النظام الرئاسي (حيث تتركز السلطة في يد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه حاد بين السلطة التنفيذية «رئيس الجمورية» وبين السلطة التشريعية «البرلمان» ) ، وهناك النظام البرلماني (حيث تتركز السلطة في يد مجلس «برلمان» منتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزراة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية) ، وهناك نظام حكومة الجمعية (حيث تتركز السلطة في يد جمعية منتخبة من الشعب، وهي تجمع في يدها سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية) (*) ، ومع كل هذه التطورات والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه أبداً، وهو الأمر الذي تكوَّن اسمها منه وهو أن الحكم للشعب (9) ؛ فلا شيء يعلو عليه، وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه.
- تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية:
وقد ظهر هذا واضحاً في دساتير البلاد العربية التي كُتِبَتْ في بدايات القرن العشرين وما تلا ذلك.
ففي الدستور المصري المادة رقم 3 تقول: «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها» ، وفي المادة 86: «يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع» .
وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية تقرر أن: «السيادة للشعب، ويمارسها على الوجه المبين في الدستور» وفي المادة رقم 50: «يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية على الوجه المبين في الدستور» .
وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 في الباب الأول الفقرة الثانية: «السيادة للشعب وتمارسها الدولة، طبقاً لنصوص هذا الدستور والقانون» .
وفي الدستور الأردني مادة 24: «الأمة مصدر السلطات» ومادة 25: «تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك» .
وفي الدستور التونسي مادة رقم 3: «الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور» وفي المادة 18: «يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس نيابي» .
وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6: «الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ملك للشعب وحده» وفي المادة رقم 7: «السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها» وفي المادة 98: «يمارس السلطة التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما: المجلس الشعبي الوطني، ومجلس الأمة، وله السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه» .
وفي الدستور المغربي مادة رقم 2: «السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية» .
وفي الدستور القطري مادة 59: «الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقاً لأحكام هذا الدستور» وفي المادة 61: «السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين في هذا الدستور» .
وفي الدستور الكويتي مادة 51: «السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقاً للدستور» .
وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح السيادة الشعبية (10) .
وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف حقيقي بين الإسلام وبينها؛ فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون المسلم عابداً لله وحده؛ وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله ـ تعالى ـ في أموره كلها من اعتقادات وعبادات ومعاملات وعادات وتصورات.
فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه ـ سبحانه ـ فقال: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام: 62] ، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف: 40، 67] ، وقال ـ تعالى ـ: {َفالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] فلم يُحكِّم الله ـ تعالى ـ في موارد النزاع أحداً غير الكتاب والسنة. وقال ـ تعالى ـ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} [النساء: 65] فأوجب تحكيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما يشجر بين المسلمين، وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال ـ تعالى ـ: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] . وقال ـ تعالى ـ في الآية التي تليها: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] .
فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أو دعا إليه، والباطل هو ما نهى الله عنه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فالله ـ تعالى ـ هو الذي يشرِّع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يُلزِم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة؛ فالسيادة الكاملة إنما هي لله ـ تعالى ـ وحده، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «السيدُ الله» (11) .
بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب؛ فما أقرته وقبلته فهو الصواب، وما تركته ولم تقبله فهو الخطأ؛ فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوِّغات الدعوة إليها.
والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيباً أو نقصاً يحاولون التبرؤ منه، بل هو عندهم من مميزات الديمقراطية؛ فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية «دون تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسؤولية القرار للشعب دون تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي؛ فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون حق السيادة والمرجعية في شؤونهم التعاقدية الوضعية» (12) ، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي بين الديمقراطية وبين الدين؛ فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة للمجتمع (13) ، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية.
وهذا بلا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، فهل يظل ما بقي منها باسم الديمقراطية؟ في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي.
- لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادَّعته؟
يقسِّم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين: إحداهما يمكن تسميتها بالشعب السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان؛ فقد كانت في أول الأمر تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع كل هذه الفئات من السيادة يُنظَر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سناً معينة (18عاماً) إضافة إلى المحكوم عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين.
وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالاً للحديث، نجد أن الشعب لم يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور القانونية والمسائل السياسية، وهي بلا شك مجموعة صغيرة جداً جداً بالمقارنة بعدد الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية يُتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل: لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء؛ فإن ذلك أيضاً لا قيمة له لعدة أمور:
أولاً: تشتمل هذه الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم قلة قليلة في أي مجتمع؛ فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية، وكذلك اعتراضهم لا قيمة حقيقية له؛ فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعاية ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو سلبيات لا يساوي شيئاً في ميزان تقويم الآراء.
ثانياً: لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائماً لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل يقبلها طائفة ويرفضها آخرون؛ ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ويخضعون لها ـ خارجة عن الإنسان نفسه ـ فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتدّ بها في هذه المسائل) لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا تعني بالضرورة موافقة حقيقية؛ إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال على ذلك ما حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وُضِعَ بعد الاحتلال.
بل إن الأساس الذي يُعتمَد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة (أي ما زاد على 50% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا فليس هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر الحدوث، وعادة لا يحدث أبداً.
ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالاً قريباً من انتخابات قد جرت في مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الـ (88%) ، لكن لو نظرنا إلى عدد من اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ (24%) ، حيث كان عدد الناخبين قرابة الـ (32) مليوناً، في حين كان عدد المشاركين في الانتخابات قرابة الـ (7) ملايين، وذلك حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا.
ثالثاً: ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره؛ فإنه بعد جيل أو جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور رميماً تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا؟
رابعاً: ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا أطفالاً وقت كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالاً لهم جزء من السيادة؛ فأين تأثير هذه السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنهم في إدارة البلاد؟
وفي تحديد الشعب نفسه: ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلان شعباً واحداً، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلان شعباً واحداً، والعربي والبربري في الجزائر يمثلان شعباً واحداً، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون شعباً واحداً؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في الوقت نفسه لا يعد من الشعب؛ فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه (وهذا أمر يقره الفكر الديمقراطي) وهذا يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في تقديم التفسير المقنع لإذعان هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه.
وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقاً، ليسوا هم الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصوراً فيهم إلى حد كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار القادة الأكفياء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية؛ فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعاً وفعلاً لحكم الأقلية، الأقلية الغنية النافذة المنظمة التي استطاعت أن تحوِّل القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة «ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل» (14) .
ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول: إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية.
هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب ـ وهو الأمر الذي تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته ـ هو نقطة الضعف القاتلة لها في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه ـ وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها كثير من شعوب الأمة الإسلامية ـ إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعوِّل على هذا الأساس، أو ترتبط به.
فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في الإسلام.
لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية من أصلها؛ وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله؛ فالشعب السياسي حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل ـ ديمقراطياً ـ بإلزامهم بغير ذلك.
ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع المقررات الإسلامية كما ظهر؛ فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى؛ وهذا لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية ما يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه، ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله.
__________
(1) وسواء كانت قد فوجئت بذلك فعلاً كما أظهرت ذلك في وسائل الإعلام، أو أنها كانت تعلم بذلك وتركت الأحداث تسير إلى منتهاها لتحقيق أهدافها التوسعية، بحيث تنفرد بقيادة العالم على مدى قرن من الزمان كما سمت هي القرن الحادي والعشرين بـ (القرن الأمريكي) .
(2) دفاع عن الديمقراطية خالد محمد خالد ص 212، 215.
(3) من فقه الدولة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، ص 132.
(4) موسوعة علم السياسة، د. ناظم عبد الواحد الجاسور، ص 197.
(5) الديمقراطية والوعي السياسي، د. إمام عبد الفتاح، 15.
(6) تحطيم الصنم العلماني، محمد بن شاكر الشريف ص 49 وانظر في تعريف السيادة: الإسلام وأصول الحكم، د. محمود الخالدي، ص23. والسيادة وثبات الأحكام، د. محمد أحمد مفتي بالاشتراك مع د. سامي صالح الوكيل ص10. ونظرية السيادة، د. صلاح الصاوي ص9. وأزمة الفكر السياسي الإسلامي، د. عبد الحميد متولي ص 204.
(7) السلطات الثلاث، د. سليمان الطماوي 41.
(8) انظر الديمقراطية والوعي السياسبي، د. إمام عبد الفتاح 14.
(*) انظر: مقدمة في علم السياسة، د. عبد المعطي محمد عساف، ص 261 ـ 264.
(9) على الأقل من الناحية النظرية، والتعريف في الحقيقة إنما يصدق بالنسبة للشعب من الناحية السلبية؛ إذ إنه يخرج كل مصدر غير شعبي عن الحكم ـ وهو المفهوم من كون الحكم للشعب، أي لا دخل للدين أو المصدر الإلهي في التشريع ـ لكنه في المقابل لا يضمن أن يكون الحكم فعلاً للشعب كما يزعم الفكر الديمقراطي، وهذا ما سنعرض له في أثناء المقال.
(10) انظر موسوعة الدساتير والأنظمة السياسية والعربية، وائل أنور بندق.
(11) عن عبد الله الشخير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: أنت سيدنا. فقال: «السيد الله» فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طَوْلاً. فقال: «قولوا قولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» . رواه أحمد رقم 15717، وأبو داود كتاب الأدب رقم 4172.
(12) الديمقراطية بين العلمانية والإسلام، د. عبد الرزاق عيد ص 42.
(13) تقف الديمقراطية من التدين الفردي موقف الحياد فلا هي تأمر بالتدين ولا تنهى عنه، ما دام أنه لا يتدخل في أمور المجتمع.
(14) نقض الجذور الفكرية للديمقراطية، د. محمد أحمد مفتي ص 36.(225/4)
مواجهة المخطط الإفسادي في بلدان المسلمين
عبد العزيز بن ناصر الجُلَيّل
لا يخفى ما تمر به بلدان المسلمين من تغيرات خطيرة وسريعة؛ وذلك ضمن مخطط إفسادي كبير على العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والمرأة، والاقتصاد؛ ظهرت بعض آثاره اليوم على حياة الناس في بيوتهم، ومدارسهم، ومجتمعاتهم، وأموالهم، وأخلاقهم، وبعضها في الطريق إلى التنفيذ.
ومشاركة مع إخواني الدعاة الذين أقلقهم هذا الخطر وراحوا يبحثون عن كل ما من شأنه مدافعته وصده عن المسلمين أكتب هذه الخواطر السريعة التي كانت محل تفكير وحوار، والتي أحسبها تسهم في إيجاد مشروع تحصيني وقائي لأسرنا ومجتمعاتنا أمام هذا الخطر الداهم، أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يلهمنا صحة الفهم وحسن القصد.
فأقول وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم:
يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] ، ويقول ـ عز وجل ـ: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116] ، ويقول ـ سبحانه ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
[آل عمران: 104]
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعقاب» .
وإنفاذاً لهذه التوجيهات الإلهية والنبوية يجب على أهل الغيرة والإصلاح أن ينفروا لمدافعة هذه المخططات الإفسادية وصدها عن المسلمين قدر المستطاع، وأرى أن تتم هذه المدافعة عبر جبهتين رئيستين:
- الجبهة الأولى: الاحتساب:
ويكون ذلك بالإنكار المباشر لمظاهر الفساد منذ بدايتها أو السماع بالتخطيط لها؛ وذلك بمناصحة الأشخاص المنظِّرين أو المنفذين لها، والإنكار عليهم شفاهاً، ومكاتبة؛ ومخاطبة أهل الحل والعقد في البلد وإظهار الامتعاض والإنكار؛ وهذا أمر يجب أن ينفر له طائفة معينة وهم أهل العلم من المشائخ والقضاة وطلبة العلم والوجهاء. وذلك يتطلب تعاوناً وتشاوراً بين أهل العلم في كل مدينة، وأن يكون هناك مجالس وتوزيع للأدوار والجهود. كما يتطلب جهات مساندة تهيئ لهم المعلومات والوثائق وحصر ما يجدُّ من منكرات ومعلومات وترتيبها وتنظيمها، وأحسب أن هذه الجبهة قائمة الآن ولا تزال في مراحلها الأولى ولكنها بحمد الله ـ تعالى ـ في تطور وتوسع.
- الجبهة الثانية: التحصين والوقاية للمجتمع من الفساد:
وأحسب أنه لا زال هناك تقصير شديد في هذه الجبهة مع أن الثمار المرجوة منها كثيرة جداً، واستجابة الناس لها كبيرة والحمد لله. ولا يعني هذا التقليل من جهود القائمين ـ حاشا لله ـ فهم تاج الرؤوس، وأعمالهم لن تضيع عند الله عز وجل إن شاء الله تعالى، وحسبهم أن يفوزوا بالإعذار عند ربهم ـ إن شاء الله تعالى ـ وإبراء الذمة إذا حوسبت الذمم، مع ما تثمره جهودهم من مراغمة أهل الفساد، والتخفيف أو التأخير لبعض المنكرات، وإنما المقصود أن لا تُنسى جبهة التحصين والوقاية التي قد تكون أكثر ثمرة وآثاراً؛ وبخاصة أن المتحركين من المصلحين في الجبهة الثانية يمتلكون وسائل كثيرة ومجالات متعددة في مخاطبة الناس وتحذيرهم وتحصينهم لا يملكها غيرهم، ولو وظفت التوظيف الصحيح وتضافر الغيورون والمصلحون في تنفيذها، وتوزعت الأدوار فيها لكان لها نتائج باهرة تحبط على المفسدين أهدافهم وترد كيدهم في نحورهم.
وفي هذه الورقة بعض المقترحات في تفعيل دور هذه الجبهة وكيفية الاستفادة من الوسائل الكبيرة المتاحة في مخاطبة المجتمع وتوجيه الناس.
ومن نافلة القول أن نشبه سيل الفساد المسلط على مجتمعات المسلمين وتنوع الناس في مقاومته بسيل جارف ينتهي إلى إغراق أراضٍ وعمران ودور؛ وأصحابها يعلمون أنه سيخرِّب دورهم ومزارعهم وأموالهم، فانقسموا إلى فرقتين:
الأولى: فرقة رأت أن لا خلاص من خطر هذا السيل إلا بأن يهب الجميع في قطعه من منبعه وأصله، فلم يتمكنوا من قطعه ومنعه، وأبت طبيعة السيل وقوته عليهم ذلك؛ فكلما سدوه من موضع نبع من موضع آخر، وانشغل أهل القرية بشأن هذا الوادي عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار وتحصين البيوت. ويمكن أن يكون في عمل هذه الفرقة تخفيف لشدة السيل أو سد لبعض منابعه، لكن لا يمنعه عن بيوت الناس وممتلكاتهم.
الثانية: رأت أن صرف الجهود كلها في عمل الفرقة الأولى قد أضاع عليهم كثيراً من المصالح ولم يستطيعوا منع السيل، فاتجهوا إلى بيوتهم في تقويم أسسها وقواعدها ورفع أسوارها عن مجرى السيل، كما اتجهوا إلى صرف سيل الوادي عن مجراه المنتهي إلى البيوت والعمران؛ وذلك بتحذير الناس من شره القادم، وبتوجيه الناس إلى أن يحصنوا بيوتهم من هذا السيل، وبتضافر الجميع على صرفه عن بيوتهم وعمرانهم إلى الرمال المحيطة بهم أو السبخات أو الحفر التي يجد السيل فيها مصرفاً له يضيع فيه ويتفرق.
والمقصود من إيراد هذا المثال التأكيد على أهمية العمل في جبهة التحصين والوقاية للناس والمجتمعات من سبل الفساد الموجهة إليهم، وأن يعطى حقه من الاهتمام مع بذل الجهد من أهل العلم في الجبهة الأولى؛ وذلك بالاحتساب على المفسدين ولو للتخفيف أو التأخير، وأهم من ذلك إبراء الذمة والإعذار إلى الله عز وجل. والمقصود توزيع الأدوار وأن لا ينشغل الدعاة بجبهة عن جبهة.
وأسوق فيما يلي ما يحضرني من الوسائل القوية التي يملكها المصلحون من الدعاة وطلبة العلم ولا يملكها غيرهم من المفسدين، وكيف يمكن تفعيلها وتنشيطها وتوظيفها.
الوسيلة الأولى: المنابر الدعوية:
ويقصد بها تلك المنابر التي يخاطَب فيها فئام من الناس على مختلف شرائحهم، ويحصل من خلالها تحذير الناس ووعظهم، وبيان خطر المنكرات على الفرد والبيت والمجتمع، وبيان ذلك بالفتاوى الشرعية المستندة إلى الأدلة الشرعية.
ويدخل تحت مسمى المنابر الدعوية ما يلي:
أـ خطبة الجمعة:
حيث أثرها العظيم على الناس وما تتميز به من دقة الإنصات من السامعين وتركيزهم على ما يقال فيها، وهذه المنابر نعمة من نعم الله ـ عز وجل ـ على المسلمين، ووسيلة عظيمة الفائدة يمتلكها الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ ولا يملكها المفسدون. وأقترح لتفعيل دور الخطبة واستثمارها في إصلاح الناس وتبغيض الفساد والمنكرات لهم النقاط التالية:
أولاً: إيجاد رابطة مستمرة بين الخطباء في كل حي تجتمع في كل أسبوع، وذلك للتنسيق وتبادل الخبرات وتبادل الخطب وتحديد المواضيع المهمة للخطبة وترتيب الأولويات في ذلك. كما يُقترَح رابطة أوسع للخطباء على مستوى المدينة؛ في كل شهر مرة؛ وذلك لتوسيع دائرة التشاور وتنسيق الجهود.
ثانياً: يتفرغ أناس لجمع الخطب الجيدة القديم منها والجديد والتي يحتاج إليها المجتمع وطبعها وجعلها في متناول الخطباء ليرجعوا إليها في كتابة الخطبة.
ثالثاً: يتفرغ أناس لجمع الفتاوى القديمة والجديدة للعلماء والتي يبين فيها أهل العلم الحكم في المنكرات القديمة والجديدة التي تعشش بين المسلمين أو هي في بدايتها؛ وذلك لرفضها من الناس ومقاطعتها وتزويد الخطباء بها لقراءتها على الناس.
رابعاً: التعاون مع القائمين على إذاعات القرآن بالاقتراح عليهم تسجيل بعض الخطب المهمة التي يتفق عليها سلفاً لتذاع على الناس وتكرر عليهم.
خامساً: طبع الخطب الجيدة والمهمة في رسائل صغيرة وتوزيعها مجاناً أو بيعها بسعر رمزي.
سادساً: الحرص من محلات التسجيلات على تسجيل الخطب المهمة ونشرها بين الناس، وأن يصاحب ذلك تغطية من الدعاية الجيدة والتسويق القوي.
سابعاً: يُفَعَّل دور أئمة المساجد وحلقات التحفيظ في توزيع أشرطه الخطباء الجيدة على بيوت الحي.
ب ـ الدروس والمحاضرات والجولات الوعظية:
وهذه من الوسائل المهمة التي لو رتبت مواضيعها وأماكنها وأوقاتها لظهر لها وقع عظيم في تحصين الناس ووقايتهم من الفساد، وهي ـ والحمد لله ـ كثيرة ومنتشرة، ولكنها تحتاج إلى تفعيل وتنشيط وتنظيم لكي يكون أثرها أكبر مما هي عليه الآن. ومن الوسائل المقترحة لتفعيلها ما يلي.
أولاً: اختيار المواضيع المهمة للمحاضرات والدروس، أو توظيف الدروس في مخاطبة الناس ووعظهم وتحذيرهم من المنكرات سواء كان ذلك عندما تأتي مناسبة في الدرس أو تخصيص آخر الوقت في الدروس للحديث عن المنكرات والتحذير منها، أو أن تُعَدَّ أسئلة مهمة تُطرح على الشيخ ليجيب عليها في نهاية الدرس، ويركز على مظاهر الفساد والموقف منها.
ثانياً: تحريك بعض طلبة العلم المؤثِّرين بما عندهم من العلم والديانة والبلاغة في أن يشاركوا وينفِروا في هذه السبيل، وأن يعيدوا النظر في سلبيتهم بحجة الورع البارد.
ثالثاً: التنسيق مع إذاعات القرآن والقنوات الإسلامية لنقل الدروس والمحاضرات المهمة فيها.
رابعاً: مساعدة المحاضِر في جمع المادة العلمية والفتاوى المهمة التي يستخدمها في إقناع الناس برفض الفساد وتحريمه ومقاطعته.
خامساً: قيام محلات التسجيل بتسجيل مثل هذه الدروس والمحاضرات المهمة والدعاية لها وتسويقها بين الناس.
سادساً: نشر هذه المحاضرات في بيوت الحي عن طريق مساجد الحي وحلقات التحفيظ ودعمهم مادياً.
سابعاً: يحسن أن يكون هناك رابط أسبوعي أو شهري بين طلبة العلم الذين يقومون بالدروس والمحاضرات للتنسيق بينهم والتشاور في المواضيع المطروحة.
ج ـ الاستفادة من إذاعات القرآن والقنوات الإسلامية:
وميزة هذه الوسائل الإعلامية أنها تخاطب الفئات الكبيرة من الناس؛ لذا صارت من أهم الوسائل التي ينبغي أن يعتني بها الدعاة الى الله ـ عز وجل ـ واستثمارها في توجيه الناس وتحصينهم وتحذيرهم من الفساد الموجه لهم، ورد شبهات المفسدين. ومن أوجه الأستفادة من هذه المنابر ما يلي:
1 ـ ما يكون فيها من برامج الإفتاء، ويحسن أن توظف هذه البرامج في تحذير الناس من صور الفساد المسلطة عليهم، وبيان الحكم الشرعي فيها، والتركيز على هذا النوع من الفتاوى.
2 ـ تقديم الدروس العلمية المسيرة التي توعِّي الناس بدينهم (في التفسير والعقيدة والفقه والآداب) وترفع عنهم اللَّبْس والتضليل.
3 ـ إجراء المقابلات والندوات والحوارات في القضايا التي تحذر المسلمين مما يراد بهم من الفساد والشر، والرد على الشبهات وفضح أهلها.
4 ـ ولتفعيل دور هذه المنابر يُحَثُّ أهل القدرات الإعلامية من الدعاة للدخول فيها والتعاون مع القائمين عليها في تهيئة البرامج وتقديم المواد التي تحقق الأهداف.
5 ـ نقل الخطب والدروس والدورات العلمية الشرعية التي تعقد في المساجد.
الوسيلة الثانية: إحياء اللقاءات الأسرية ودوريات الأحياء (1) :
حيث ثبت بالتجربة عظيم فائدتها في تأليف القلوب والتعاون على الخير، والتحذير من الفساد والمنكرات. ولو أن أهل الاستقامة في كل أسرة وكل حي ـ وهم كثير والحمد لله ـ كوَّنوا هذه الروابط واللقاءات واستثمروها في وقاية الأسر والجيران نساءً ورجالاً من شر الفساد والمنكرات لكان لها الأثر العظيم. ومن الأعمال الخيرة التي تقوم بها هذه الروابط واللقاءات ما يلي:
1 ـ توزيع الأشرطة والكتيبات التي تنشر الفضيلة وتحارب الرذيلة.
2 ـ توزيع الفتاوى التي تبين حرمة ما جد في حياة المسلمين من منكرات البيوت.
3 ـ إقامة المسابقات الهادفة التي تنبه السامعين إلى أمور شرعية قد يجهلونها أو يغفلون عنها.
4 ـ استضافة بعض طلبة العلم المؤثرين ليتحدثوا عن بعض المنكرات وضرورة إنكارها وتحصين البيوت وتربية الأولاد والنشء على حب الفضيلة وبغض الفساد والرذيلة.
5 ـ العناية بشؤون المرأة وتوعيتها بأحكام الإسلام، وتحذيرها من منكرات اللباس والزينة وما يراد لها من إخراجها واختلاطها بالرجال. ويمكن أن تنشأ روابط نسائية في الأسرة تتولى المستقيمات في كل أسرة تحقيق هذه الأهداف بما سبق من الوسائل.
6 ـ مراقبة الحي وما فيه من المنكرات والتعاون مع الهيئات لإزالتها.
الوسيلة الثالثة: أئمة المساجد:
لا يخفى دور إمام المسجد في نشاط المسجد ونشاط الحي الذي فيه المسجد؛ وهذا ملموس من بعض الأئمة الناشطين. فلو أن إمام كل مسجد قام بدوره في جماعة الحي لكان في ذلك خير عظيم، وسد منيع. ومن أهم الأنشطة التي يقوم بها إمام المسجد ما يلي:
1 ـ القراءة على جماعة المسجد في الكتب والفتاوى التي تحذر من الفساد والمنكرات في البيوت أو الأسواق وغيرها.
2 ـ التعاون مع دورية الحي في دعم أنشطة المسجد وحلقات التحفيظ ومتابعة المنكرات في الحي.
3 ـ استضافة طلاب العلم ليلقوا كلمات ومحاضرات وفتاوى تدعو الناس إلى الخير وتحصنهم من الفساد وتحذرهم منه.
4 ـ متابعة المحاضرات والدروس في المساجد الأخرى، وتبليغ جماعة المسجد بها مشافهة أو عن طريق الملصقات الإعلانية.
5 ـ التعاون مع حلقات التحفيظ في توزيع الكتيبات والأشرطة على منازل أهل الحي.
6 ـ تفقُّد الأشخاص الذين لا يصلُّون مع الجماعة ومناصحتهم بالتعاون مع دورية الحي.
7 ـ إقناع طلاب العلم من جماعة المسجد على فتح دروس في المسجد سواء كانت لعوام المسلمين أو للطلاب الدارسين.
8 ـ ولتفعيل دور الإمام في المسجد يحسن تكوين رابطة لأئمة المساجد في الأحياء المتقاربة، والتشاور معهم وتبادل الخبرات في أنشطة هذه المساجد.
9 ـ الاستفادة من المشرفين على حلقات التحفيظ في تقديم الفتاوى، واقتراح الرسائل المهمة التي تُقرأ على جماعة المسجد.
الوسيلة الرابعة: حلقات التحفيظ ومكتبات المساجد:
لا يخفى دور هذه الحلقات المباركة في حفظ أبناء الحي بحفظهم لكتاب الله ـ عز وجل ـ وتربيتهم وتحصينهم من الفساد. ومع ذلك يمكن أن يستفاد من هذه الحلقات ليظهر أثرها في أهل الحي؛ وذلك بالوسائل التالية:
1 ـ توزيع الأشرطة والكتيبات على بيوت الحي.
2 ـ إعطاء طلاب التحفيظ بعض الأشرطة والفتاوى والكتب لأخذها إلى أهليهم مما من شأنه تحذير البيوت من المنكرات والفساد.
3 ـ الاهتمام بأولياء أمور طلاب التحفيظ، والاجتماع بهم في دورية شهرية للعناية بأبنائهم، والتناصح معهم في إصلاح البيوت وتطهيرها من الفساد.
الوسيلة الخامسة: مواقع شبكة المعلومات:
وقد برز أثر هذه المواقع في الآونة الأخيرة لما ظهرت المواقع الإسلامية للمشائخ والمؤسسات الإسلامية والمواقع التي تهتم بالمرأة والحسبة. لذا يجب الاهتمام بها وتفعيلها وتقديم المادة المناسبة التي فيها تحذير المسلمين مما يراد بهم من الفساد، وتخصُّص بعض أهل العلم في تتبع شبهات المفسدين وشهواتهم والرد عليها.
الوسيلة السادسة: المعلمون في المدارس:
المعلم المسلم صاحب الرسالة لا ينظر إلى وظيفته بأنها مصدر للرزق فحسب، وإنما هي من أهم المجالات التي يمكن تربية النشء فيها وتحصينهم من الفساد والمنكرات. كما يمكن التأثير من خلال التعليم على أسر الطلاب وبيوتهم بإيصال بعض الفتاوى والأشرطة عن طريق أبنائهم، وكذلك يستفاد من مجالس الآباء في المناصحة مع أولياء الأمور في التخلص من المنكرات والفساد.
الوسيلة السابعة: الحسبة والاحتساب:
من خصائص هذه الأمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكلما شاع الاحتساب وأنتشر قل الفساد واندحر المفسدون؛ سواء كان ذلك على يد مراكز الهيئات أو عن طريق المحتسبين؛ لذا ينبغي للدعاة وطلاب العلم والمحاضرين أن يحثوا الناس على مختلف طبقاتهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كلٌّ فيما يخصه وحسب علمه وقدرته.
الوسيلة الثامنة: الكُتَّاب والمؤلفون:
إن الإكثار من الكتب والرسائل والمطويات التي تحذر من الفساد وتكشف خطط المفسدين تعتبر من أهم الوسائل التي توعّي الأمة وتحذرها من كيد المفسدين وتلبيسهم وتضليلهم؛ وذلك بما يكون في هذه المؤلفات من بيان حكم الله ـ عز وجل ـ في مظاهر الفساد الذي يروِّج له المفسدون، وكشف سيئاتهم التي يلبِّسون بها على الناس.
الوسيلة التاسعة: أماكن الانتظار العامة:
وذلك مثل الانتظار في عيادات الأطباء وصرف الدواء في الصيدليات الحكومية ومحلات الحلاقة ومكاتب العقار وما شابهها.
حيث من المفيد تزويد هذه الأماكن بمطويات ورسائل وفتاوى تناسب حاجة الناس وتحذيرهم وتحصينهم من سبل الفساد.
الوسيلة العاشرة: الدُّور النسائية لتحفيظ القرآن:
لم يعد خافياً أثر هذه الدُّور المباركة ـ ولله الحمد ـ في تحصين المرأة المسلمة من كيد أعدائها وتعليمها دينها وتحذيرها من مظاهر الفساد الموجه لها وللأسر المسلمة. والعناية بالمرأة المسلمة له أثر في نفسها كما أن له أثراً كبيراً في إصلاح الأسر والبيوت؛ حيث تنقل المرأة ما تسمع وترى وتقرأ في هذه الدور وما يوزع فيها من أشرطه وكتيبات وفتاوى إلى أسرتها وأولادها. لذا لزم أمر العناية الشديدة بهذه الدور.
الوسيلة الحادية عشرة: رسائل الجوال:
لقد ظهر في الآونة الاخيرة أثر رسائل الجوال في نشر الخير والشر؛ لذا ينبغي توظيفها من قِبَل المصلحين في نشر الفضيلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدلالة على الكتب والفتاوى والدروس المفيدة، والتحذير من الفساد وتعرية أهله وتبيين المنكرات ودفع الناس لإنكارها.
- تنبيهات مهمة:
الأول: لا بد في الوسائل السابقة من عمل مرتب ومنظم ترتب فيه الأولويات، وتوزع فيه الأدوار، ويجند الآلاف المؤلفة من الصالحين في إحيائه وتنفيذه بتوجيههم واستثمار طاقاتهم ولا يكتفى بالجهود الفردية.
الثاني: لا يُقتصَر في مخاطبة الناس ببيان الحكم الشرعي في المنكرات وتحذيرهم منها، بل ينبغي أن يتوجه الخطاب إلى القلوب وتقوية العبودية لله ـ عز وجل ـ فيها، والاستسلام لشرعه ـ سبحانه ـ والإذعان والقبول له وتخويفهم من الله ـ عز وجل ـ ومن عذابه، وتقوية محبة الله ـ سبحانه ـ وتعظيمه، والخوف من يوم الحساب والوقوف بين يدي الله تعالى.
الثالث: العناية بالجانب التربوي في أوساط الدعاة وطلبة العلم وأهل الاستقامة من شباب الأمة وفتياتها، والعناية بصحة الفهم والتصورات، وحسن السلوك والأخلاق، وأن لا يكون العمل الاحتسابي والإعلامي سبباً في انشغالنا عن العمل التربوي.
الرابع: إعداد جيل إعلامي قوي يجمع بين العلم الشرعي والصمود على الثوابت الشرعية، والبعد عن الضعف والانهزامية والاستجابة لأهواء الناس، وبين الوعي الإعلامي والخبرة الإعلامية التي تخاطب الناس وتؤثر فيهم وتكسبهم.
أسال الله ـ عز وجل ـ أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليه، ويذل فيه عدوه، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر؛ إنه سميع الدعاء.(225/5)
العمل الفردي سيبقى مُلِحاً
فيصل بن علي البعداني
العمل الخيري (المؤسسي) أحد ركائز قوة الأمة التي حفلت النصوص الكريمة آمرة به وحاثة عليه. قال ـ تعالى ـ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً» ثم شبك بين أصابعه (1) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يرتكض» (2) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «عليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية» (3) .
ولا غرو؛ فالعمل المؤسسي يستثمر الجهود ويوحدها، وهو أكثر ثباتاً ونضجاً واستقراراً وقابلية للنجاح، ولا نزاع حول أهميته وأولويته، بل الظن أن عامة شباب صحوتنا المباركة قد تجاوزوا هذا الجانب منذ مدة ليست بالقصيرة.
غير أن الذي يسترعي النظر والدراسة هو مدى كفاءة المؤسسات القائمة وقدرتها على استيعاب الطاقات الكثيرة والناضجة من الدعاة إلى الله تعالى؛ إذ مِنَ المُشاهَدِ محدوديةُ عدد المؤسسات القائمة مقارنةً باحتياج الواقع الفعلي، وبالأعداد الكثيفة من شباب الصحوة ـ ذكوراً وإناثاً ـ ممن يمكن توجيههم وتوجههم لإسقاط كثير من الواجبات الكفائية الملقاة على كاهل الأمة، فضلاً عن عامة الأمة ذوي الطاقات المجهولة والمخبوءة، والتي لا تقل أهميةً عن ما يقوم به الدعاة إلى الله تعالى في خدمة الأمة وتفعيل البرامج النافعة داخلها.
أضف إلى ذلك أن كثيراً من المؤسسات القائمة تعاني من أمراض مزمنة، بل إن كثيراً منها لا يكاد يخرج عن كونه جهداً فردياً يفتقد روح العمل المؤسسي، وإن كان لا يفتر دوماً عن التزين بارتداء كثير من الأثواب والحلي المؤسسية.
وأمام هذا الواقع الصعب فإن من أعظم أولويات العمل الدعوي المبادرة إلى الارتقاء بالمؤسسات القائمة وإنشاء الكثير الكثير منها.
ولا شك أن ذلك لن يتحقق بين عشية وضحاها، بل ـ على افتراض الإحساس بالمشكلة وامتلاك الرغبة والقدرات البشرية والمادية اللازمة ـ سيحتاج ذلك إلى أُطُر زمنية كافية، وهي مسؤولية ضخمة يقع واجب تحقيقها على كاهل كل قادر من أبناء الأمة على الإسهام في معالجتها.
وإلى أن تنتقل الأمة ـ وبخاصة في جانبها الدعوي والخيري ـ إلى واقع مؤسسي حقيقي يغطي الاحتياج، فسيبقى للعمل الفردي ـ مهما أحاط به من عوامل ضعف ـ مساحته المفتوحة، ومكانته السامقة، ودوره الضروري للقيام بكثير من الأعمال المنسية أو المضيعة تحت عباءة بعض المؤسسات عديمة التخطيط والمتابعة، أو ضعيفة الجهد قليلة الإنتاجية، أو في كليهما.
ولذا فالمطلوب من القيادات العلمية ودوائر التوجيه الدعوي التوازن والتعامل باعتدال وواقعية حين الثناء الدائم والتبني شبه المطلق للعمل المؤسسي القائم، والذم شبه المستمر للعمل الفردي وبيان عواره؛ مما تسبب في تفتير الكثير من الكفاءات المتميزة عن الإقدام على الكثير من البرامج والأنشطة خوفاً من التلبُّس بأردية العمل الفردي غير المرحَّب به كثيراً، ومن تجرأ منهم وأقدم على بعض المشاريع والأنشطة تجد كثيراً منهم يعاني من صراع داخلي بين الرغبة في العمل والظفر بالأجر والمثوبة، وبين مخافة الوصم بالفردية والفوضوية التي تورث ضعف إقدام ومحاصرة في الوقت ذاته.
ومع أن كلاً من العملين (الفردي والمؤسسي) مجرد وسائل تستثمر لتحقيق الغايات؛ فأيهما كان أكثر إثماراً والأهيأ للعبد فهو المطلوب أياً كان، وهذا أمر يعرفه المرء من نفسه، ومن استشارة أهل العلم والدعوة في بيئته.
على أن الأمة في الوقت الذي تضر بها الفردية الجامحة فإنها تحتاج إلى مؤسسات حقيقية قوية تتسم بالإثمار المتميز والناضج، وباستيعاب كثير من الشخصيات الجيدة في برامج عمل مناسبة، وإلا فإن النتيجة المتحتمة هي إضاعة كثير من الواجبات، وإهدار أعداد غفيرة من الكفاءات المنتجة تحت مبررات غير موجودة في عامة الأحيان.
وعلى عاتق الدعاة إلى الله تعالى ـ ذكوراً وإناثاً ـ يقع الجزء الأكبر من المسؤولية؛ فامتلاك قرارهم ومبادرتهم بأيديهم، وأداء الصلاة ـ التي هي أوجب فروض الأعيان بعد التوحيد ـ واجبة على الذكور جماعة في الوقت؛ فإن لم توجد جماعة أو شق أداؤها معها لم يسقط الفرض ووجب على العبد صلاتها منفرداً، وكذا الواجبات الكفائية المضيعة اليوم، إن تيسر القيام بها من خلال عمل مؤسسي جادٍّ يتضمن تعاوناً صادقاً على البر والتقوى كان غاية المطلوب، وإن تعذر ذلك فلا يجوز تضييع أدائها، بل لا بد من القيام بها بالصورة الفردية المتاحة، ولا يكلف الله ـ تعالى ـ نفساً إلا وسعها.
وليس من السائغ ولا الجائز أبداً التقاعس أو الفتور عن ذلك تحت حجة انتظار العمل المؤسسي؛ فذاك أمر ينكره الشرع ولا يقره العقل. والأمة في عصرنا ـ وهي تمر بحالة ضعف بَيِّن، وتعاني من ويلات مكر كُبَّار يحيط بها من كل جهة ـ أحوج ما تكون إلى كل عمل صائب دؤوب منطلق من فكرة ناضجة وتخطيط سليم، يخفف عنها بعض آلامها ويساعدها على النهوض من كبوتها، أياً كان مصدره والقائم به.
ويزيد الأمر إلحاحاً أن غالب نجاحات الأمة اليوم مردها إلى جهود ومبادرات فردية مباركة ـ بما في ذلك تأسيس عامة المؤسسات القائمة وتشغيلها ـ وأن عامة ما تستثمره المؤسسات الموجودة اليوم في الساحة من جهود أفرادها المنتمين إليها لا يتجاوز نسبة قليلة مما يمتلكونه من إمكانات، مما يبقي الجزء الأكبر من المسؤولية تجاه النهوض بواقع الأمة وإصلاح شأنها على الأفراد ومبادراتهم المتعددة هنا وهناك سواء أكان ذلك في إطار مؤسسي أو بصورة فردية؛ إذ المهم ـ مع أولوية العمل المؤسسي متى كان متاحاً ـ هو الشعور العالي بالمسؤولية الدعوية، والمبادرة الجادة إلى التنفيذ في ظل رغبة عارمة بإتقان العمل وتجويده، واستعداد كبير للانخراط في العمل المؤسسي المحقق للغاية المرادة.
فكيف إذا انضاف إلى ذلك عدم تكيف كثير من القدرات الفذة ـ التي سدت نقصاً ظاهراً وأسهمت في نجاح العديد من المشروعات المتميزة ـ على العمل من خلال المؤسسات القائمة، لاعتبارات مختلفة موضوعية أو غير موضوعية، وتوجه عامة مؤسساتنا اليوم نحو الانكفاء، وقيامها بتقليص الكثير من برامجها وأنشطتها نتيجة الحملة الأمريكية الشرسة على العمل الإسلامي المؤسسي، ليبقى عند ذلك العمل الفردي بانطلاقته الواسعة، وتكاليفه المحدودة، وأثره الكبير ضرورة ملحة لا بد من تقديم مزيد من الرعاية لها والاهتمام بها.
وختاماً: فكما أن الجميع مطالب ببذل الوسع في العمل للإسلام وتشجيع كل عامل له؛ فإن العمل المؤسسي لا يمكن أن ينهض إلى المستوى المؤمَّل إلا من خلال مبادرة القدرات ذات الكفاءة المتميزة إلى تطويره، وتحملهم الواجب نحو النهوض به.
فهل بلغت؟ اللهم فاشهد!
ربي الكريم المنان! أصلح حال أمتنا، وبارك في جهود الخيرين فيها مؤسسات وأفراداً، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
__________
(1) البخاري (6026) .
(2) ابن حبان (4577) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، والمراد بـ: (يرتكض) : يضطرب ويفر.
(3) النسائي (847) ، وحسنه الألباني.(225/6)
التفريط وآثاره على الفرد المسلم
د. أحمد العمراني
فالتفريط يعني: التقصير والتضييع. نقول: فرَّط في الأمر: قصَّر فيه وضيَّعه (1) .
فماذا ضيع الإنسان؟
لقد خلق الله الإنسان وخلق له الكون كله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30] . ولم يخلقه عبثاً ـ بتقرير القرآن ـ حيث يقول ـ تعالى ـ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] . ويمكن أن نلخص رسالة الإنسان على هذه البسيطة في أمور ثلاثة: العبادة، والعمارة، والخلافة.
ـ فالإنسان مستخلَف ومسؤول بقوله ـ تعالى ـ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30] .
وببيان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القائل: «إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون» (2) . وفي رواية: «إن هذا المال حلوة خَضِرة؛ فمن أخذه بسخاوة بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه» (3) .
ـ وهو مكلف بعمارة الأرض بقوله ـ تعالى ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] .
وببيانه -صلى الله عليه وسلم-: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسْها» (4) .
وهنا يسائل المرء نفسه: لمن سيغرسها إن كان قيام الساعة واضحاً بيِّناً؟ هذه هي الحكمة الربانية، المهم أن تغرس، أن تعمر الأرض وأن تنتج، لا أن تخرب أو تدمر أو تنام وتتقاعس.
ـ ومكلف بتحقيق العبودية لله بقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
فماذا فعلنا لعمارة الأرض؟ وماذا فعلنا لنكون خلفاء كما ينبغي؟ وماذا فعلنا لنعبد الله حق العبادة؟
- أسباب التفريط:
للتفريط في جنب الله أسباب كثيرة، قد نصل إلى إدراك بعضها، وقد تغيب عنا أسباب أخرى منها.
فمن الأسباب الواضحة المؤدية إلى التفريط ما يلي:
1 ـ الانشغال التام بالدنيا:
حيث إن كثيراً من الناس لا يجدون وقتاً لراحتهم وليس لتدينهم فحسب، نظراً لكثرة الانشغالات الدنيوية والارتباطات العملية التي تثمر كثرة الأعباء والتكاليف التي تجعل الإنسان ينغمس فيها طلباً للمال، مما يسبب الأكل الكثير، فالشرب الكثير، فالنوم الكثير، فالالتهاء الكثير، فالنسيان الكثير.
وهذا يضطرهم للتوسع الشديد في المباحات والاستكثار منها. وبالطبع كلما زادت رغبة الفرد في ملذات الدنيا أوقعته في حبائلها وأوصلته إلى الوقوع في مكروهاتها ومحرماتها.
فإذا حصل هذا تُنُوسيت الدار الآخرة، وتنوسيت أهوالها وما ينتظر الفرد منها من سؤال وجزاء ومحاسبة، وهذا بسبب الغفلة التي حصلت بالالتهاء بشهوات الدنيا وزخارفها، فيصعب على الإنسان أن يبتعد عن حياة النعيم التي حصَّلها، فإذا حصَل له بعض النقص، فقد يندفع إلى ارتكاب الموبقات للوصول إلى أغراضه، فيتجرأ على المعصية، وتتلوها معاصٍ، فيحاط قلبه بالران: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] ، ويتعثر في الرجوع إلى نفسه ونهيها عن غيها، ويصعب عليه الإقلاع والابتعاد عما أوقع نفسه فيه، فينتقل الأمر من الغفلة إلى التفريط التام.
فالتفريط في كل ما ذكر هو مشكلة الأمة اليوم، وهو باختصار: تفريط في جنب الله، وهو نسيان الدار الآخرة والجزاء والحساب والموقف.
فقد أصبح كثير من المسلمين لا يفكرون إلا في الدنيا وشهواتها: تزينت لهم وأغوتهم بغوايتها حتى نسوا الذكر ونسوا الهدف من وجودهم، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حذر منها في قوله: «واللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» (1) .
وروى في بيانها أبو أمامة الباهلي قال: لما بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أتت إبليسَ جنودُه فقالوا: قد بُعث نبي وأُخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا؟ قالوا: نعم! قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي ألا يعبدوا الأوثان، وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه عن حقه، والشر كله من هذا نبع» (2) .
وروي عن عيسى ـ عليه السلام ـ أنه رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء، عليها من كل زينة، فقال لها: كم تزوجتِ؟ قالت: لا أحفظهم، قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقوك؟ قالت: بل كلهم قتلتُ، فقال عيسى ـ عليه السلام ـ: بؤساً لأزواجك الباقين! كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين؟ كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون على حذر؟» (3) .
لهذا قيل في شأنها: «الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وإذا دنت أودنت» (4) وصدق الله العظيم حين قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20] .
وصدق رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظرْ بِمَ يرجع؟» (5) .
وهذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يزهد في الدنيا، ويتفرغ للرهبانية التي حذر منها الشرع الحنيف، بل عليه أن يعرف أن الدنيا خُلقت له وليس هو من خُلق لها، وبين الأمرين فرق كبير وبون شاسع.
فما الفرق بيننا وبين باقي الكائنات إن لم نعبد الله؟
نتشابه كلية مع باقي الكائنات فيما يفعلون؛ حيث نأكل ونشرب وننام وننكح، وكذلك يفعلون.
ولكننا نتميز عنهم بعبادة الله كما شرع، وسنحاسَب كما أخبر، مع العلم أن الكون والخلائق كلها تسبِّح الله وتطيعه كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
والفرق الذي بيننا وبينها أنها غير مكلفة بشريعة وغير محاسَبة عليها؛ إذ لم يُبْعَثْ لها أنبياء ورسل، بل هذا مما تميز به الإنسان؛ فكيف لا نتميز؟ بل كيف نرضى لأنفسنا أن نتشابه مع باقي مخلوقاته، والله أمرنا أن نتميز حتى لا نكون مثلهم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} [الأعراف: 179] ؟
فالتفريط في هذه المقاصد والغفلة عنها هو الذي أوقع الأمة في براثن وحبائل التفريط في جنب الله.
وكثرة غفلة الغافلين هي التي دفعت العديد من الأفراد إلى الإفراط في جنب الله، فوقع المسلمون بين غلو المتشددين، وتقصير الغافلين، وهذا حال الأمة؛ مع أن القرآن الكريم علمنا كيف نستجيب للدنيا وكيف نستجيب للآخرة ونعيمها، وكيف نستجيب لله، ولكل نداؤه الخاص؛ حيث وردت في عباراته ثلاثة نداءات متفاوتة فيما بينها وفي طريقة الاستجابة لها والتعامل معها وهي كلها تخدم فوز ونجاح الإنسان في الدنيا والآخرة.
ـ النداء الأول: من أجل الدنيا قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]
والمؤمن الكيِّس الفَطِن مطالَب بالانتباه إلى لغة القرآن؛ ففي طلب الدنيا لا يتجاوز المشي «فامشوا» أي بتؤدة وببطء وتمهل وتعقل، وهو أمر فُسِّر في القرآن تفسيراً وبُيِّن تبييناً؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم في وصية لقمان لابنه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 18 - 19] . ووصية الله للإنسان في قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37] . وحدد صفة مشي عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] .
فالناظر في آيات القرآن يتبين له كيف أعطى المولى ـ عز وجل ـ للمشي اعتباراً فريداً؛ لأنه ـ بكل اختصار ـ يعبر عن شخصية الإنسان؛ فالمسلم النبيه هو من يمشي ليِّناً هيِّناً بسكينة ووقار دون تجبر ولا استكبار ودون استعلاء على أحد أو انتفاخ، أي: يمشي مشية من يعلم أنه خُلق من الأرض وسيعود فيها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] .
فمشية المسلم في الدنيا وفي طلبها هي مشيه في الحلال طلباً وأخذاً وعطاءً وسلوكاً، لا يظلم أحداً، ولا يتكبر على أحد، متواضعاً، كما قال الشاعر:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً فكم تحتها قوم همو منك أرفعُ
وإن كنت في عز وجاه ومنعة فكم مات من قوم همو منك أمنعُ (1)
ـ النداء الثاني: من أجل الجنة والمغفرة، وفي ذلك يقول ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] .
ويكفي تمجيد الله لهذا العمل قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] فالمسلم في طلبه للجنة عليه أن يسرع المشي والخطى ويتعجل السير ولا يترك الفرصة لتجاوزه، وهو ما أكده القرآن الكريم بقوله في آية أخرى: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]
والسباق يعني المبادرة إلى ما يوجب المغفرة؛ وما يوجب المغفرة هو العمل بالطاعات، وهو ما يعنيه قوله ـ تعالى ـ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] .
وقد حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المبادرة والإسراع فيما ينفع المؤمن قبل الوقوع في أسر الفتن فقال: «بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا» (2) .
وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة» (3) .
وليس كما هو حاصل اليوم في زمننا، الكل يسرع ويلهث ويجري وراء الدنيا وزخارفها وليته يصل إلى مراده، بل الكل ينام وفي ذهنه أنه لَمَّا يتم عمله، وينام تعباً وهو يخطط لعمل الغد وكيفية إنهائه.
فمتى يميز المسلم بين ما يجب الإسراع فيه وما يجب فيه التأني؟
ـ النداء الثالث: نداء الفرار إلى الله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50] .
«ففروا» طلباً لله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فالفرار إلى الله فرار من معصيته، فرار من غضبه، فرار من الإشراك به. وهو هنا شجاعة؛ لأن الفار يفر من أعداء يبعدونه عن الله وعن رضوانه، ونجاة من الجحيم وطلباً للنعيم المقيم.
وقد بوَّب البخاري ـ رحمه الله ـ أحد أبواب صحيحه في كتاب الإيمان، فقال: «باب: من الدين الفرار من الفتن» (4) .
وما أكثر الفتن في زمننا؛ حيث المؤمن فيه يقبض على دينه ويصبر على فتنه «كالقابض على الجمر» (5) .
مفتون أينما حل وارتحل، ولعل من أخطر الفتن التي تُحدِق بالمسلم فتنة الأموال وفتنة الأولاد وهو ما أكده القرآن بقوله: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] .
بل إن الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن الأمة ستعيش فتناً يشيب لها الولدان؛ حيث قال: «ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تتشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليَعُذْ به» (1) .
ولكن الواقع يشهد أن الأمة أصبحت تعيش تناقضاً مع لغة القرآن ومع فهم مفرداته، فأصبح السير إلى الدنيا سريعاً، وإلى الآخرة وئيداً، والفرار من الله بدل الفرار إليه.
فهل إلى رجوع من سبيل! وهل إلى توبة لتصحيح المسار وتصحيح الخطوات إن شئنا النجاة وتحقيق الفوز والدرجات في الدنيا والدين!
2 ـ عدم الفقه السديد في الدين، وهو أصل كل بلية:
في اعتقاد بعض الناس أنهم إذا أدوا بعض أشكال التدين فقد نجوا وسَلِموا؛ وهذا فهم تجزيئي للإسلام؛ حيث يقتصر بعض الناس في تدينهم على بعض الأمور ويترك الأمور الأخرى، وهذا يؤدي أيضاً إلى التفريط والغفلة؛ فالدين شامل كامل لقول الله ـ تعالى ـ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] .
فليس الدين في العبادات فقط، أو في المعاملات، أو في السلوك والأخلاق، أو في الأعمال الاجتماعية، أو السياسية أو الاقتصادية، بل يشمل كل هذا.
ومع الأسف أن هذا ما حصل للكثير من الناس، حيث جزَّؤوا الدين، وأخذ كل واحد منهم ما يعتقد أنه الصواب والصالح له؛ فمنهم من فهم حديثاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهماً سيئاً وبنى عليه حياته ومصيره، كفهمهم لحديث السائل عن الإسلام، والذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مجيباً لرجل من أهل نجد جاء ثائر الرأس يُسمَع دوي صوته ولا يُفقَه ما يقول: «خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوَّع، قال رسول الله: وصيام رمضان، فقال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطَّوَّع، قال: وإخراج الزكاة، قال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: واللهِ لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفلح إن صدق» (2) .
فأخذ كثير من الناس بعض ألفاظ الحديث، مثل: واللهِ لا أزيد ولا أنقص، ومثل: أفلح إن صدق، ونسوا مقاصد وروح ما ذكر في الحديث؛ فالصلاة تؤدى؟ نعم! ولكن إن لم تؤدَّ على حقيقتها لم تؤثر في الإنسان ولم يحصل له الفلاح، والزكاة تؤدى؟ نعم! ولكن من أي المال؟ والصوم يؤدى؟ نعم! ولكن كيف يؤدى؟
فكثير من الناس ليس لهم من صلاتهم إلا وقوفهم وجلوسهم، وليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر ... » (3) .
لهذا وجب عدم التغافل عن مقاصد العبادات وروحها حتى تؤدى كما يجب وتؤدي ثمارها كما ينبغي، كما لا يجب التغافل عن إتيانها والقيام بها بل والاجتهاد فيها؛ لأنها تدفع الغفلة والتغافل؛ حيث أخبر -صلى الله عليه وسلم-: بأن «من قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين» (4) .
بل إن التشبت بالفريضة والحرص عليها يطرد الغفلة ويشجع على الحرص على السنة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل عمل شِرَّة، ولكل شرة فترة، فإذا كانت الفترة إلى الغفلة فهي الهلكة، وإذا كانت الغفلة إلى الفريضة لا يضر صاحبها شيئاً» (5) . وقد سأل عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ ابنه الحسن يوماً عن الغفلة فقال له: «الغفلة تركك المسجد، وطاعتك المفسد» (6) .
ومن الناس من يقول لك: أنا لا أغتاب الناس ولا أكذب عليهم، ولا أغشهم ولا أفعل ولا أفعل، ويوجه سهمه للآخرين فيقول: انظروا إلى ذاك المصلي الكذاب الغشاش؛ فكيف أصلي؟
ويقول أيضاًً: أنا لا أصلي ولكن لا أقوم بمثل أعمال أولئك الحجاج والمصلين الذين ينافقون الناس بتقدمهم إلى الصفوف الأمامية، ويخادعون الناس في معاملاتهم، بل في سلوكهم.
وهذه دعوى باطلة ولو كان الناس يعتقدون في الإسلام وفي قواعده وضوابطه بما يشاهدونه من أفعال المسلمين لما أسلم إلا القلة، وخصوصاً إذا كان المنظور إليهم من أهل القدوة والصلاح؛ حيث يتخذونهم قدوة لهم في التراجع عن الخير فيقعون في سوء الفهم والتأويل والتغافل، ونسوا أو تغافلوا أن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . ويقول ـ سبحانه ـ: {وَكُلَّ إنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] .
ومن الناس من يأخذ من الدين العملَ الاجتماعي، فتجده يشارك في الأعمال الخيرية وكفالة اليتيم وإعانة الفقراء والمساكين، ولكن مقابل ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يراقب ربه في باقي أشكال التدين؛ حيث يغفل عن ذلك معتقداً أنه قد حصَّل المراد، وأنه بفعله ذاك قد نال المبتغى، وهذا تلبيس من إبليس الذي يزين للناس ما هم فيه، ويبعدهم عن حقيقة العمل المطلوب، ويبني على ذلك نمط إسلامه الذي يختزله في المعاملات مع الناس، وينسى باقي أركان الإسلام وضوابطه وقواعده، وأن ما هو فيه من الدين ولكن ليس كل الدين. ويكفي أن نقول إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أول ما يحاسَب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة؛ فإن أتمها؛ وإلا قيل: انظروا هل له من تطوُّع؟ فإن كان له تطوع أُكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعَل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» (1) .
ومن الناس من يلجأ إلى العمل السياسي، ويعطيه كل وقته وجهده وعاطفته وماله، معتقداً أنه يقدم للناس في ذلك خدمات جلى، وأنه يسير في المسار الصحيح لا ينقصه شيء، ولا يعوزه عمل آخر، وهذا من التفريط وسوء الفهم مع الأسف الشديد.
إن الواقع الأليم لينبئ عن كل هذه الأفهام والسلوكات، مما سهَّل على إبليس عملَه، وأسقط الناس تباعاً في حبائله وغواياته، ونسوا جميعاً أن الشرع الحنيف حذر من تجزيء الدين والتفريط في بعض أسسه، حيث قال ـ سبحانه ـ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] .
3 ـ عدم إدراك قيمة النعم وقدر المنعم:
وكل هذا سببه نسيان المنعم الحقيقي الذي يجب له حق الشكر والحمد على ما أعطى ووهب؛ فكل النعم من الله؛ فهو المعطي المانع، الواهب الصانع؛ فكيف يعطي ويُشكَر غيره، وكيف يهب ويُقصَد غيره؟
فالشكر يديم النعم ويزيدها ويقويها، وعدم الشكر يزيلها ويضيعها، وربنا يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] .
ولقد آتى الله ـ عز وجل ـ نبيه سليمان ـ عليه السلام ـ ما لم يؤت أحداً من العالمين، حيث قال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . [ص: 36 - 39]
فلم يعتبر سليمان ـ عليه السلام ـ ذلك نعمة يركن إليها، بل خاف أن يكون ما وهبه الله له من النعم استدراجاً من حيث لا يعلم، فقال ـ سبحانه ـ مخبراً عنه: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] .
إن إدراك حقيقة المنعم وقدره وعظمته مما يشجع الناس على الانتباه والتيقظ، ويدفعهم إلى استغلال أوقاتهم وأفعالهم فيما يرضي الذي {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] والذي وصف نفسه بـ: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] .
ولنعطِ بعض الأمثلة ليستيقن المسلم بقدر المنعم، ويسلم أمره كله إليه حتى يقلل من المجازفة بدينه وبنفسه فلا يفطن لموقعه إلا بعد فوات الأوان، ولات حين مندم.
فلو أن الإنسان المسلم اعتقد الاعتقاد التام في سمع الله وفي بصره وفي عطائه وعلمه أكان يعصيه؟
لنبين ذلك ثم نسائل أنفسنا أولاً عن ذلك.
فمما ورد في السنة وفي أقوال المفسرين أن خولة بنت ثعلبة لما اشتكت زوجها الذي ظاهر منها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت عائشة تسمع الشكوى في حُجرتها، ولم تسمع كل كلامها؛ فلما نزل قول الله ـ تعالى ـ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] ، قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات» (2) . فلو آمن الإنسان بهذا أكان يعصيه طرفة عين؟ أكان يقع في التفريط؟ الله يسمع منك كل شيء، ولا يغيب عن سمعه أي شيء.
ثم لننظرْ إلى علم الله المطلق، والذي يغيب عنا، مع العلم أننا نعتقد في علم البشر ونعترف لهم بقوة علمهم وخبرتهم وبأستاذيتهم، ولكننا ننسى علم الله المطلق، وعلمه بالغيب والشهادة، بل إن علم البشرية كلها هو من علم الله.
فهذا موسى الكليم ـ عليه السلام ـ خطب يوماً في قومه، فسئل: هل يوجد من هو أعلم منه؟ فنفى وجود ذلك، فبعثه الله ليتعلم من عبده الخضر ـ عليه السلام ـ وليعلمه أن هناك من هو أعلم منه؛ والحديث كما في صحيح البخاري يحدثنا عن رحلة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع الخضر وماذا تعلم منه، ثم إنهما ركبا السفينة، فجاء عصفور ونقر من البحر نقرة، فقال الخضر: «يا موسى! ما علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر» (3) .
وهذا يعني أن علم موسى الرسالي لا يفقهه الخضر، وعلم الخضر الرباني لا يفقهه موسى، وعلمهما معاً أمام علم الله لا يساوي نقطة من بحر علم الله. فإذا علمنا هذا واعتقدناه فهل يقع منا التقصير والغفلة والتفريط؟
ثم لننظر إلى رزق الله الواسع، ألم يقل ربنا في كتابه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] .
ألم يحدثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي أن الله ـ تعالى ـ يقول: « ... يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني وأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر» (1) .
هل من آمن بهذه الركائز العقدية يغفل عن الله، أو يفرط في جنبه، أو يعصيه طرفة عين؟ بالتأكيد سيكون الجواب: لا، لن يقع في المحظور كما أنه لن يقع في الغفلة والتفريط.
وطبعاً لا يجب أن ننسى أن من سنن الله في خلقه وكونه أنه خلقنا بشراً نخطئ ونصيب، ننسى ونتذكر، نذنب ونتوب؛ فالله لم يخلقنا ملائكة، بل خلقنا بشراً ناكل الطعام ونمشي في الأسواق؛ وهذا يقتضي أن الإنسان قد يخطئ وقد ينسى، ولكنه في كلتا الحالتين يستعين بالدعاء: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] . ويرجع حين تذكُّره، ويصحح خطأه حين تنبُّهه: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (2) . وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها» (3) . وقال: «ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارِّين» (4) .
- سبب التسويف:
وهو مرض خطير، ومن تلبيسات إبليس بالناس أجمعين؛ حيث يسوِّف عليهم في كل شيء ويجعلهم يؤجلون كل أعمال الخير إلى أجل غير مسمى حتى يفاجَؤوا بنهاية الأجل ووقوع المحظور.
وقد حذر السلف الصالح من مغبة التسويف وحاربوه؛ حيث روي عن عمر قوله: «القوة في ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد» . وقال سهل بن عبد الله: «الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصرُّ هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقال: أتوب غداً، وهذا كيف يتوب غداً؛ وغداً لا يملكه» (5) .
وفي الحديث: «بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر» (6) .
هكذا حذرت النصوص من التسويف الذي يعد بحق من الأسلحة الفتاكة التي يستعملها إبليس لإغواء النفس البشرية؛ فما همَّ بعمل خير إلا وضع (سوف) أمامه ليؤجله أو ليلغيه، وفي كِلا الأمرين يتحقق مكسب للشيطان؛ إذ الموت مباغت، والأجل غير معلوم؛ فكلما سوَّف الإنسان أوقع نفسه في المجهول.
قال سيبويه: «سوف: كلمة تنفيس فيما لم يكن بعدُ، ألا ترى أنك تقول: سوَّفته، إذا قلت له: سوف أفعل، ويقال: فلان يقتات السوف، أي يعيش بالأماني» (7) .
ولسوف هاته أشكال وألوان؛ فمن الناس من يمنِّيه إبليس بالتوبة والرجوع حالما ينتهي من عمل ما، أو إتمام مشروع ما، ولكن مع الأسف الشديد عندما ينتهي منه يوجد له الشيطان مشروعاً آخر وهكذا حتى تأتي النهاية المحتومة، ويتحدث مع الطالب بلغة الحصول على الشهادة أو العمل، ومع الأعزب حتى يتزوج، ومع الغني حتى يكتمل مشروعه، ومع الفلاح حتى ينتهي موسم الحصاد، وهكذا يكسب من الناس تأخيراً في التوبة وتعثراً في الرجوع إلى الله، فيظل المسلم غافلاً مسوفاً حتى يلقى الله وتضيع فرص العودة والرجوع والأوْبة والإنابة.
ـ الحرمان من التوفيق الرباني: فمن عاش بين مجزِّئ للدين ومسوِّف وعاصٍ وناكر للنعم وجاحد لحق المنعم، فلن يبتعد حاله مطلقاً عن حال الضالين.
فالمفرط في التدين يقطع صلته بربه، فيحرم بسبب ذلك من عونه وتوفيقه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 36 - 37] .
فإذا كثر الغافلون وكثر التقصير في الدين وإهماله، وربما تشويهه، انقلب هذا السلوك في نفوس بعض الأفراد إلى تفكير خاص، يعتقدون أنه الحل الوحيد لمعالجة هذه الأمراض المنتشرة بينهم، فيلجؤون إلى الإفراط في فهم الدين بدل التفريط فيه كما فعل الأكثرون.
يقول ـ تعالى ـ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}
[الزمر: 55 - 56]
آية من آيات الله تُحدّثُنا عن التفريط، وتحذر منه. ولحسن الفهم والاستيعاب للموضوع وجب تحديد مفهومه وبيان أسبابه.
__________
(*) أستاذ الفقه والتفسير بكلية الآداب، مدينة الجديدة، المغرب. وعضو المجلس العلمي بها.
(1) لسان العرب مادة، (فرط) .
(2) أخرجه الترمذي رقم: 2196، وابن حبان: 3219.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الرقاق، باب 26، رقم: 7124.
(4) مسند أحمد، رقم: 13048.
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجزية، رقم: 3158، باب 1، وكتاب المغازي باب: 12، رقم: 4015، وكتاب الرقاق، باب 7، رقم: 6425.
(2) إحياء علوم الدين، ج: (3/229) .
(3) إحياء علوم الدين: (3/229) .
(4) أوْدَنَتْ: قصَّرت وصَغَّرت.
(5) صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها باب: 14 رقم الحديث: 7376.
(1) انظر فتح القدير: (3/228) .
(2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب 51، رقم الحديث: 328.
(3) المستدرك للحاكم: (1/132 ـ 213 ـ 213) .
(4) صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب 12، رقم الحديث: 12.
(5) سنن أبي داود، رقم: 4341، وسنن ابن ماجه: رقم: 4016، ومسند أحمد: رقم: 9102، والمعجم الكبير للطبراني: (22/220) .
(1) صحيح البخاري كتاب المناقب، رقم: 3601، وصحيح مسلم، كتاب الفتن، باب 3، رقم: 7429.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، رقم: 2678.
(3) صحيح ابن خزيمة: 3/242، ومسند أحمد: رقم: 8885، والمعجم للطبراني: (12/382) .
(4) صحيح ابن حبان: ج: 6/310، رقم: 2571.
(5) المعجم الكبير للطبراني: ج: (8/222) .
(6) المعجم الكبير للطبراني: (3/69) .
(1) سنن أبي داود: رقم: 864، وابن ماجه: 1427.
(2) صحيح البخاري كتاب التوحيد باب 9، رقم: 7385.
(3) انظر صحيح البخاري: باب كتاب العلم باب 44، رقم: 122، ومسلم في كتاب الفضائل، رقم: 6313.
(1) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، رقم: 6737.
(2) سنن ابن ماجه، رقم الحديث: 4253، والترمذي: رقم: 2504، والدارمي: ج: (2/395) ، وأحمد: 13116.
(3) مسند أحمد رقم الحديث: 12976، وصحيح مسلم: كتاب المساجد، رقم الحديث: 1601.
(4) المعجم الكبير للطبراني: (10/16) .
(5) الجامع للقرطبي: (4/211) .
(6) سنن الترمذي، رقم الحديث: (3/2312) ، باب ماجاء في المبادرة بالعمل، وقال فيه حسن غريب.
(7) انظر لسان العرب، مادة سوف.(225/7)
هل حان الوقت لرسم رؤية تربوية؟
محمد بن عبد الله الدويش
يعد المجال التربوي من أنجح مجالات العمل الدعوي المعاصر، وقد حقق العمل الإسلامي منجزات مهمة في الميدان التربوي، واستطاع أن يُخرِج جيلاً متميزاً من الشباب والفتيات، تَمثَّلَ التدينَ في نفسه، وانطلق في الميدان العملي الدعوي.
ومهما كان من خلل في هذا الجهد التربوي فلا زال يستحق الإشادة والثناء.
لكن هل نقف من حيث بدأنا؟
إن ظروف النشأة والتكوين التي صاحبت العمل الإسلامي، والمشكلات التي واجهها، والإمكانات التي يملكها ربما تقودنا إلى قبول نتاج العقود الماضية، ولكن!
لا زال العمل التربوي الدعوي يفتقر إلى رؤية واضحة شاملة؛ فمفهوم التربية عائم غير محدد، أو يدور في إعطاء الأفراد قدراً من المحتوى العلمي والسلوكي. والممارسات التربوية إما تنطلق من السجية والعفوية، أو وفق ما نسميه (تخطيطاً) وهو لا يعدو رسم خارطة سنوية أو فصلية لمحتوى البرامج التربوية.
إن انعدام الرؤية في العمل التربوي يقود إلى كثير من المشكلات التربوية، منها:
3 أنه يفتح مجالاً واسعاً للتباين والرؤى المختلفة والمتفاوتة؛ والخلاف واتساع التجارب وتنوعها لا اعتراض عليه حين يكون صادراً عن منهجية واقتناع، أما حين يكون صادراً عن غياب للرؤية وتخبط فلا.
3 أنه يؤدي بالمربي الواحد إلى تلوُّن أهدافه ورؤاه من وقت لآخر، حسب ما يجري في الساحة، وحسب ما يسبق إلى ذهنه.
3 غياب التجانس في شخصية الفرد؛ إذ هو نتاج رؤى وأفكار متناثرة لا رؤية متسقة.
3 غياب التجانس على مستوى الساحة الدعوية؛ والتجانس المنتظر ليس أن يكون الناس على نمط واحد ونموذج واحد، لكنْ ثمة حدٌّ أدنى لا يمكن بدونه أن يوجد تيار ينشئ أعمالاً ومشروعات جماعية منتجة.
3 وجود كثير من مظاهر الخلل التربوي التي لا تظهر إلا في الميدان، وحين تظهر يعيش المربون جدلاً طويلاً حول فهمها وتفسيرها، فضلاً عن التعامل معها.
وحين نطالب برؤية تربوية فطبيعة الرؤية تقتضي أن تتسم بقدر من النظرة الكلية التي ترسم الأطر العامة لشخصية المنتج التربوي لا أن تغرق في التفاصيل المحددة التي ينبغي أن تتسع فيها مساحة التنوع والممارسة، وتستوعب اختلاف البيئات والظروف.
كما أنها لا يسوغ أن تكون نتاج خواطر تجول في أذهان معدِّيها، أو فكرة طرأت في محاضرة أو مناسبة، فلا بد أن تكون نتاج دراسة عميقة يتاح لها جهد يتلاءم مع أهميتها.
وهي تتطلب أن تنطلق من مصادر تجمع بين المنهج الشرعي في بناء الفرد المسلم، وظروف الواقع وتحدياته، وطبيعة المهمة التي يُعَدُّ لها هذا الجيل، وأن تنسجم مع الرؤى العامة للعمل الإسلامي وتسهم في تحقيق أهدافه.
وتتطلب اتساعاً لدائرة المعدِّين لها؛ فلا تكون نتاج اجتهادات فردية، ولا نتاج فئة أو أصحاب تخصص معين؛ فالرؤية التربوية تتضمن جانباً يتصل بمحتوى التربية الذي يسهم في بنائه العديد من المختصين في مجالات المعرفة، وجانباً يتصل بعمليات التربية الذي يسهم فيه العديد من المختصين في المجالات التربوية.
كما أنه من الضروري أن تنسجم كافة أهداف وعمليات التربية مع هذه الرؤية وتسهم في تحقيقها.
إن الاقتناع بالحاجة لهذه الرؤية، والاقتناع بتجاوز الممارسات التقليدية في بنائها يمكن أن يوجِد لدى العاملين في الساحة الإسلامية خيارات عدة في التنفيذ.(225/8)