وصية شهيد
محمود بن عودة العمراني
ضُمّي إليك ثيابي
ضُمّي قُصَاصَاتِ شِعْري
وخَضّبيها دُمُوعاً
ولا تقولي: مصابٌ
هذا عِناقٌ حميمٌ
هذا زمانُ التلاقي
هذا خشوع القوافي
فلو رأيتِ وقوفي
والموت يرقص حولي
وفيهمُ من مآسي
تحط فوق رؤوسٍ
ولو رأيتِ دمائي
تروي حكاية حبٍّ
عشرون عاماً حياتي
وجئت حتى أزكي
مصدقاً وعد ربي
ودفتري وكتابي
وذكرياتِ الشَّبَابِ
أحسِنْ به من خِضَابِ
فليس ذا بمصابِ
مَعَ الأماني العِذابِ
مع الجَنَى المستطابِ
أمامَ وقع الحِرابِ
أمامهم بانتصابِ
ومن ورائي صِحابي
إسلامنا مثل ما بي
كفّارةٍ.. ورِقابِ
تسيل فوق الترابِِ
نقيّة كالسحابِ
بها بلغت نصابي
دمي وأقضي حسابي
لعبده في الكتابِ
ولا تنوحي فإن النّواح بعض العذابِ
والقوم يرموننا بالرّصاص دون صوابِ
لشاهدَتْ مقلتاكِ الأحجارَ مثل الشهابِ
تنحط من فوقها بالخراب تلو الخرابِ(217/24)
مهلاً أيها الوعاظ!
فيصل بن سعود الحليبي
تصغي القلوب بكل شغف وإنصات لكل وعظٍ نديٍ شفاف، يأسر لبابها، ويشد فكرها، بل ربما لا تملك العيون دمعها حينما تأتي الكلمات صادقة العبارات، شجية النبرات.
وكلما سلّم الناس أفئدتهم لهذا الواعظ، يغسلون درنها بدموع الخشية، ويرفعون عنها ران الغفلة، كانت المسؤولية عليه تجاههم أكبر؛ فإذا كان الوعظ فيه إيقاظ للقلوب بعد سباتها؛ فإننا نريدها أن تستيقظ على شمس واضحة، وجادَّة سوية، وهدف مرسوم.
ولهذا جاءت هذه الوقفات السريعة؛
الوقفة الأولى:
أن يذكِّر الواعظ نفسه بالإخلاص في وعظه؛ لأن عمله هذا عبادة، والعبادة لا بد فيها من الإخلاص. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .
الوقفة الثانية:
أن يتحرّى الواعظ لوعظه الزمان والمكان المناسبين؛ فإنه كما قيل: لكل مقام مقال؛ فالمساجد وحِلَق الذكر والتعليم، واللقاءات الأخوية والأسرية أجدها مناسبة لشيء من التذكير والتنبيه من غفلات القلوب وانشغالها بالدنيا، حتى تتحول هذه المجالس إلى شحنات إيمانية يعود المؤمن منها بعطاء أوفر، وبقاء على علو الإيمان أكثر؛ فالنفس بطبيعتها وما يحوم حولها من دواعي الشهوات تميل إلى الفتور والدَّعَة، فتحتاج إلى مثل هذه الجرعات التي تتخلل جدول المرء الوظيفي أو الاجتماعي أو العلمي.
عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيْدِيِّ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ ـ رضي الله عنه ـ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ!! قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيراً! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ! إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيراً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الملائكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةً وَسَاعَةً ـ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (1) .
الوقفة الثالثة:
أن يحرص الواعظ على صحة لغته وبلاغة حديثه؛ بحيث لا يكون كلامه متكسر الشكل، أو مبتذلاً خالياً من جودة الكلمات ورصانة التعبير؛ فإنَّ أبلغ ما وعظ به هو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وقد جاءا بأبلغ أسلوب عرفته البشرية، ولقد أوصى الله ـ سبحانه وتعالى ـ رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم - أن يختار من وعظه أبلغه فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء: 63] .
وتأمل وصف الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ـ رضي الله عنه ـ موعظةَ النبي -صلى الله عليه وسلم - بالبلاغة وما تركته من تأثير بيّن على نفوسهم حيث قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - يَوْماً بَعْدَ صَلاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ» (2) .
وليس هذا فحسب بل سمى النبي -صلى الله عليه وسلم - حٍُسن التعبير وجودة الأسلوب في الخطبة سحراً فقال -صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً» (3) .
وتتفاوت هذه البلاغة من جمهور لآخر؛ لأن الهدف هو إيصال الموعظة للقلوب، لا الاستمتاع بألفاظها دون التأثر بها؛ فالمبالغة في تحسين الكلام وانتقائه إذا تعدّى فهم المتحدّث إليهم، كان عيباً في الاختيار، وقد قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ! أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟» (4) .
الوقفة الرابعة:
ألا يكرر الوعظ في زمانين متقاربين؛ فإن النفوس تكل من تكرار الكلام ولو كان جيداً، وهي إذا كلّت عميت، وإنما الوعظ لإحيائها، ويكفي في ذلك قول ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: «كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» (5) .
الوقفة الخامسة:
عدم إطالة الوعظ والتذكير، حتى يتسنى للسامع فهم وإدراك ما قيل منه، وحتى لا تستثقله النفوس حينما تدعى إليه مرة أخرى، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم - قد نبّه إليه في خطبة الجمعة؛ فهو في غيرها أوْلى؛ فقد روى مسلم بسنده عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ، قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ! لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ! فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَاقْصُرُوا الخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً» (6) .
غير أن الواعظ إذا رأى حاجة ظاهرة في الإطالة ولم تكن له عادة يدوم عليها أو يُكثر منها فلا بأس في ذلك، ولعلك تلمح هذا في حديث عَمْرو بْن أَخْطَبَ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا» (7) .
الوقفة السادسة:
أن يعتني الواعظ في استشهاده بالحديث النبوي بالصحيح منه أو الحسن؛ فما أجمل أن يعلق الواعظ الناس في خطبه بما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - من أحاديث، وإن فيها لكفاية عما يستأنس به عدد من الوعاظ من أحاديث ضعيفة، وكلما كان الواعظ واضحاً في ذكره لأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم - بذكر حكمها من حيث الصحة بإيجاز كان أقرب في إيقاع التأثير في قلوبهم.
الوقفة السابعة:
أن يتحرّى الواعظ الصدق فيما ينقله من قصص وأخبار؛ فإن الواقعية والمعقولية في ذكر القصص لعامة الناس طريقان سريعان للتقبل والعمل ليس على الأمد القريب فحسب، بل حتى البعيد أيضاً، وانظر إلى وصف الله ـ تعالى ـ قصصه في القرآن بقوله: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] ، متأملاً أثرها الخالد إلى يوم القيامة، وعليه فمن الخطأ أن ينظر الواعظ ما سيحصل بين يديه من التأثر بما لم يثق فيه من القصص المؤثرة، مقابل أن يهمل مصداقيته المستقبلية في وعظه.
وليس هذا فحسب، بل إن الواعظ حتى لو تأكد من صدق قصته أو خبره، لكنه إن رأى أن فيها من الغرائب ما لا يصدقه عامة الناس، فالأوْلى ألا يحدِّث بها حتى لا تنعدم ثقة الناس فيه وفي علمه، ولقد كان سلف الأمة يفرون من غرائب الأخبار، ومن ذلك قول أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ: «إِنَّمَا نَفِرُّ أَوْ نَفْرَقُ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِبِ» كما أورد ذلك عنه مسلم في صحيحه، بل كانوا يقرنونها بالمناكير من الأحاديث، ومن ذلك قول الترمذي ـ رحمه الله ـ: «زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرُ الْغَرَائِبِ وَالْمَنَاكِيرِ» .
الوقفة الثامنة:
لا يشك أحدنا أن حكايات السلف ـ رحمهم الله ـ في زهدهم وورعهم وتعاملهم مع الله ـ تعالى ـ وخلْقِه فيها من كنوز الوعظ والتذكير ما تطرب له القلوب، وتهتز له المشاعر، ولكن لما كان في المجتمع فئة تستبعد الوصول إلى حالهم، كان على الواعظ أن يذكر صفحات مضيئة من أحوال الأتقياء والعاملين المخلصين في هذا الزمان، حتى يقْرُبَ المثال، ويُتصور التطبيق.
الوقفة التاسعة:
أن يسلك الواعظ مسلك التفاؤل وفتح طرق التوبة وتسهيلها على الناس، مبتعداً عن أسلوب التيئيس والقنوط، وليتأمل الواعظ أسلوب القرآن في الوعظ في هذه الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] ، وليتأمل أيضاً كيف فتح النبي -صلى الله عليه وسلم - بوعظه آفاقاً مديدة في التوبة والرجوع مهما عظم الذنب أو تفاقم في قصة من قتل مائة نفس، فقد جاء فيها: «ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ! وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ» (1) .
فمن الخطأ أن يهوِّل الواعظ على السائل وقوعه في معصية من صغائر الذنوب بغية تحذيره منها ليدعها ويقلع عنها بوصفه أنه قد وقع في جرم عظيم وأنه بعيد كل البعد عن الهداية ودائرة الالتزام بدين الله؛ لأن هذا يبعده فعلاً عنها، ويقنطه من السير في طريقها، والثبات على أمرها.
ولعل من الجميل أن يضع الواعظ هذا الحديث نصب عينيه حينما يأتيه صاحب الذنب متأملاً فيه أن يدله على طريق التوبة وقد أسرّ له ببعض ذنوبه؛ فقد «جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله! رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قُسِمَتْ خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم؛ فهل له من توبة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: أأسلمتَ؟ فقال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: فإن الله غافرٌ لك ما كنت كذلك، ومبدلٌ سيئاتك حسنات، فقال: يا رسول الله! وغدراتي وفجراتي؟ فقال: وغدراتك وفجراتك. فولَّى الرجل يكبِّر ويهلِّل» (2) .
الوقفة العاشرة:
أن يتعلم الواعظ فنَّ الإلقاء؛ لأنه القالَب الذي يصب فيه كلماته، متوخياً في ذلك سنن النبي -صلى الله عليه وسلم - وهديه في هذا الشأن، ومستفيداً من طرائق البلغاء والفصحاء من بعده، ومتزوداً ممن لهم اهتمام بهذا الفن؛ فكم تتحسّر أحياناً وأنت تسمع كلمات رائعة في سبكها، متدفقة في أسلوبها، غير أن خطيبها قد شوهها بصراخٍ لم يكن في محله، أو أماتها بهدوءٍ لم يقع موقعه. يقع ذلك كثيراً حينما يجهل الواعظ مناسبة درجة الصوت وطريقة التحكم فيه لما ينطق به من عبارات وجمل.
الوقفة الحادية عشرة:
أن يخلص الواعظ في نهاية وعظه بنتيجة مختصرة تبقى في ذهن المستمع وتكون له بمثابة قاعدة يسهل عليه تذكرها لنفسه وذكرها لغيره.
الوقفة الثانية عشرة:
أن يستفيد الواعظ من توجيه المستمعين الناصحين له؛ فإن المستمع يدرك من الخلل في مبنى كلام الواعظ ومعناه ما لا يدركه المتحدث نفسه؛ فالمستمع الناصح الأمين كالمرآة، تكشف للواعظ من المثالب ما لا يكشفه بنفسه، ولا ريب أن في المراجعة والتصحيح ارتقاء بالقدرات، وسبيل لنتاج أكثر وأينع.
وأخيراً:
فليتذكر الواعظ المبارك أن أول نفس ينبغي أن يعظها هي نفسه التي بين جوانحه؛ فليكن الوعظ معها أكثر، مُتْبِعاً ذلك بالعمل بما يعظ، فحريٌّ بمن صدق مع الله في وعظه وصدق مع نفسه أن يصدق مع الناس، وأن تنفتح له القلوب المغلقة، ويكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر.
__________
(*) المحاضر بكلية الشريعة بالأحساء ـ المملكة العربية السعودية.
(1) رواه مسلم كتاب التوبة رقم 4937.
(2) رواه الترمذي كتاب العلم رقم 2600.
(3) رواه مسلم كتاب الجمعة رقم 1437.
(4) أورده البخاري في صحيحه كتاب العلم رقم 124.
(5) رواه البخاري كتاب الدعوات رقم 5932.
(6) رواه مسلم كتاب الجمعة رقم 1437.
(7) رواه مسلم كتاب الفقه رقم 5149.
(1) رواه مسلم كتاب التوبة رقم 4967.
(2) رواه أحمد في المسند رقم 18615، بنحوه.(217/25)
ثلاثيات إدارية
د. شاكر بن عبد الرحمن السروي
صدى لما نشرته مجلة البيان في زاوية (النجاح: إدارة) تحت عنوان (حاجتنا للإدارة) يسرُّني أن أضيف للموضوع هذه الثلاثيات الإدارية إثراءً للموضوع.
أولاً: متطلبات العمل المؤسسي الناجح:
1 ـ رؤية واضحة لما نريد أن نكوِّن من (عمل إغاثي، تربوي، تصحيحي،..) ، على أن تكون هذه الرؤية (الهدف الكبير) مرتفعة المستوى وفي الوقت نفسه ممكنة التحقيق.
2 ـ بيئة متقبلة للعمل الإداري المؤسسي (تشمل: القيادة، الجهاز التنفيذي (محتسبين أو موظفين) ، الأجهزة المساندة،....) . كما ينبغي أن يكون قبولهم لمبدأ الإدارة قبولاً حقيقياً لا مجرد القناعة النظرية دون التطبيق.
3 ـ موارد مناسبة؛ وهنا للإدارة دور كبير للإدارة (في ظل نقص أو شحِّ الموارد) في تحديد الأولويات، وتوجيه المتاح من الموارد حسب الأولويات.
ثانياً: من صفات المدير (القائد) الناجح:
1 ـ بث روح عمل الفريق الواحد (وإلا انهارت فكرة المؤسسة من أساسها) .
2 ـ البعد عن الفردية والبيروقراطية الزائدة.
3 ـ الإدارة بالإنتاجية؛ فقيمة المرء ما يحسنه لا ما يقوله. وفي هذا يحسن أن نتذكر أن الصرامة في مواعيد الحضور والانصراف لا تكفي وحدها لتحصل على مكاسب، كما أنها وحدها ليست مؤشراً على كفاءة الفرد وإنتاجيته.
ثالثاً: من الحوافز لنجاح الأفراد:
1 ـ الشعور بالانتماء للمؤسسة التي يعملون فيها (لاحظ أن الحب ووضوح الرؤية والشفافية من الأمور المهمة لغرس وزيادة الانتماء) .
2 ـ الحصول على التدريب والتطوير المناسبين.
3 ـ الاستماع لرؤاهم وأفكارهم، وتبادل الحوار معهم حول آليات العمل وتبنِّي المفيد منها.
رابعاً: استمرارية العمل (ومن باب أوْلى النجاح والتقدم) تحتاج إلى عوامل، منها:
1 ـ الخطط المبرمجة على المدى القريب والبعيد.
2 ـ التقويم المستمر للعمل (القياس والتحليل) .
3 ـ المبادرة بإصلاح الأخطاء أولاً بأول مع التطوير والتحسين.
خامساً: أخطاء إدارية قاسية:
1 ـ غياب التخطيط أو ضعفه (إذا لم تخطط فأنت تخطط للإحباط) .
2 ـ كثرة تنقُّلات الموظفين ونقلهم من عمل إلى آخر.
3 ـ الفردية في التخطيط أو الإدارة أو التنفيذ.
سادساً: ابحث عن الفردية في الحالات التالية:
1 ـ وجود الشخص نفسه في أماكن متعددة: إدارية، تخطيطية، أو تنفيذية، وفي أدوار متباينة كبيرة أو صغيرة.
2 ـ نجاح مبدئي ثم فشل أو اندثار للعمل بعد مرور بعض الوقت؛ وما ذاك إلا لأن الأمر ارتكز على فرد ولم يصر إلى قوة وتكامل وتعاون المؤسسة.
3 ـ كثرة تسرُّب الأفراد (خصوصاً الطاقات المتميزة) وتركهم للمؤسسة أو بعض فروعها. (تذكَّر أنه في وجود الفردية لا يخضع إلا الضعفاء) .
سابعاً: لا تدفع موظفيك إلى الإحباط والذي قد يكون من أسبابه:
1 ـ التكليف بما لا يُطاق فضلاً عن المستحيل.
2 ـ نقض ما يبرمون أو يخططون لصالح المؤسسة، أو الالتفاف عليه (خصوصاً إذا ما كُلِّفوا ابتداء بأمر ما) .
3 ـ حجب الموارد الكافية لنجاح العمل أو على الأقل لبدء مسيرته.
ثامناً: لا تنظر من خلال ثقب المفتاح (وبمعنى أوضح: اجعل نظرتك شاملة لكل ما حولك) .
إن النظرة الضيقة تحرمك من عدة أشياء، منها:
1 ـ ضعف أو غياب الاستفادة من التجارب السابقة (قد تحتاج لتنجح في بعض الأحيان إلى التقليد الكامل لتجربة سابقة ناجحة) .
2 ـ ضعف التواصل، وانعدام السعي إلى التكامل مع المؤسسات المماثلة الناجحة.
3 ـ السعي إلى التطور والكمال، فإن مسألة النجاح نسبية، وقد ترى المؤسسة أنها ناجحة في الوقت الذي يفوتها القطار ويتجاوزها الزمن وهي لا تشعر؛ لأنها لا تنظر.
تاسعاً: احرص على رأس مالك، وأهمُّه:
1 ـ الأفراد العاملون معك (فهم أغلى ما تملك) .
2 ـ الأفكار الإبداعية والرؤى التطويرية، فاحرص على تبنِّيها وتطويرها والإفادة منها.
3 ـ احترام الناس لك ولمؤسستك وثقتهم بك وبما تقوم به.
عاشراً: أخطاء في النجاح:
عندما تنجح في أمر ما فاحذر من أخطاء ما بعد النجاح، ومنها:
1 ـ عدم مكافأة نفسك أو العاملين معك على ما تحقق من نجاح.
2 ـ تأخير المكافأة (مادية أو معنوية) عن وقتها (فقد يحرص بعضهم على أن يكافئ على النجاح، ولكن تأخير المكافأة عن وقتها يشبه إلى حدٍّ كبير عدمها) .
3 ـ الرُّكون إلى الاسترخاء بل الكسل؛ فينقلب النجاح بهذا إلى عامل من عوامل الإخفاق على المستوى البعيد، فليس للنجاح حدٌّ ولا للمكاسب نهاية، والأمر كما قال الله ـ تعالى ـ: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37] .(217/26)
رمضان والصفوة
د. إبراهيم بن عبد الله الدويش
كلما أقبل شهر رمضان أقبلت الخواطر في محاسبة النفس ومراجعتها، والرغبة والأماني في التزود الإيماني وشحن القلب وتزكية النفس وتحليتها، وبالأخص في جانب تقوية العلاقة بالله، وليس هذا بمستغرب؛ فالكل يشهد
ومع التصحر الإيماني الذي أصاب ويصيب النفوس بسبب المتغيرات والمستجدات على كل الأصعدة، أصبحت النفس العاقلة تشعر بل وتتألم لجوعتها الإيمانية في وقت مجاعة يكاد يصيب الكثير إن لم يكن الجميع، لكنها لا تدري كيف تكسر حدة هذه الجوعة ولو بجرعة يسيرة رغم أن الزاد بين يديها. عجيب..! نفس تحمل الزاد بكل صنوفه، ولا تستطيع أن تسد رمقها؟ آهٍ وآهٍ من هذا الزمن وبُنياته! فإذا كان الأطباء يشكون الداء فمن سيصف الدواء؟ سبحان الله! هم يعرفون الدواء ويحملونه، بل ويصرفونه، لكن الكثير منهم لا يستطيع تناوله. لست أتحدث عن الصفوة ممن أعجزه الكسل، أو أصابه الخوف والهلع، أو أغرقه الطمع والجشع، بل عمن يسعى وينفع، ويُعطي ويرفع، ينفع الناس بكلماته، ويرفع هممهم بعظاته، فأشغلوه وأشغلته همته وحب الخير للناس، أتحدث عن الصفوة ودُلاَّل الخير، والنجوم التي يهتدي بها الناس؛ حيث لا يكاد بال أحدهم يهدأ، أو يستجم، وإن استجم الجسد فالفكر والعقل كالرحى لا يستقر. فهؤلاء فرحهم برمضان كفرح من قال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» أخطأ من شدة الفرح؛ فقد وجدوا ضالتهم برمضان حيث لذة العبادة، ولحظات التدبر والترتيل للقرآن، وروحانية الصيام والقيام، وروعة الخلوة والاعتكاف، و.. و.. و، لكن هيهات فهم دُلاَّل للخير ومحركو القلوب، وماذا يفعل الواحد منهم وقلبه يعتلج ويحترق في حب الخير وتوجيه الناس، ويعلم أن رمضان فرصة؛ فهو شهر التوبة والمحاسبة، وشهر إقبال القلوب وصقلها..، لكنه أيضًا يعلم أن نفسه كغيرها من النفوس بل أشد حاجة للتوبة، والمحاسبة، والتزود بالوقود، فإن فاتت هذه المحطة فقد لا يجد غيرها بسهولة، فهو في صحراء مترامية الأطراف شديدة الغليان والذوبان.
إنها دوامة يصعب على كل أحد - وإن كان من الصفوة - أن يضبط توازنه في إعصار كهذا، خاصة عندما يشتكي القلب تفرقه وشعثه، وبُعده وقسوته؛ فكلنا يروح ويغدو في أعمال وأشغال، تطول معها الأحلام والآمال.
فتنبه أخي، وقف، واحذر! فالنفس تحتاج لوقفات وخلوات، لزيادة رصيد الإيمان وسكب العبرات، خاصة في زمن الفتن والشهوات، الذي ننسى فيه كثيراً حاجة النفس والذات لصفاء القلب، وبقدر ما في القلب من النور سيكون قوة إشعاعه؛ لأن تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقيقة الإيمان ولذته، ولذا قال أبو بكر المزني: «ما فاق أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أصحاب رسول الله بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه» (1) . ومن تأمل في هذه المرحلة حال الصفوة - وهم ليسوا كغيرهم - وجد ضعفاً وفتوراً وكسلاً في جوانب العبادة والسلوك، ليس إهمالاً بل انشغالاً. وأعلم أن الكثير منهم يشكو ويتألم ويتحسر لمثل هذا، لكنها الشواغل الدعوية، والدخول مع الناس وللناس، ونسيان النفس وحاجاتها؛ فإن كان؛ فلا يجب أن يكون في رمضان.
إنه صراع المشاعر في نفوس الصفوة الأخيار عند إقبال رمضان، ولذا كان -صلى الله عليه وسلم - يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور، ويؤثر عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله - أنه كان يترك حِلَق التدريس في رمضان، ويتفرغ للعبادة وقراءة القرآن، هكذا هم الصفوة. فتعالوا يا نجوم الزمان! لانتهاز الفرص، واستثمار هذا الموسم؛ لتقوية العلاقة بالله، وتصفية القلب مما علق عليه من الرَّيْن؛ فرمضان جُنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، يعيد للقلب والجوارح صحتها التي سلبتها أيدي الشواغل والصوارف حتى وإن كانت خيراً؛ فالعاقل يعلم يقيناً أن أول ما عليه النجاة بنفسه، وأنه إن لم يأخذ فلن يعطي، وبحسب كمية الوقود يكون طول المسير، وأعلم أن الأمر صعب، وأن التسديد والمقاربة أصعب، لكني أهمس في أذنك همسة محب: إن لم تستطع أن تملأ خزان الوقود أو أن تخفف من تلك الشواغل المباركة كل رمضان، فلا أقل من استثمار عَشره الأخير، وخاصة بالاعتكاف، فلا بد من خلوة للعاقل يخلو فيها بنفسه للذكر والفكر والمحاسبة لتزكية النفس. يقول عمر ـ رضي الله عنه ـ: «خذوا حظكم من العزلة» (2) . وقال مسروق: «إن المرء لَحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها، فيذكر فيها ذنوبه، فيستغفر منها» (3) ؛ فالخلوة بين الفينة والفينة مع النفس ضرورة جدّاً لكي يتفرغ القلب وليس لها مثيل في سُنَّة الاعتكاف، وقد اعتكف خير الصفوة نبي الله -صلى الله عليه وسلم - رغم كثرة شغله، واعتكف أصحابه معه وبعده؛ فهم يعلمون أن في القلب شعثاً لا يلمُّهُ إلا الإقبال على الله، وجمع كلِّيته عليه ـ تعالى ـ بحيث يصير ذكره ـ سبحانه ـ وحبه، والإقبال عليه زادَه بل وحلاوتَه. فتنبه أخي لهذه المعاني! واستعن بالله ولا تعجز، واحذر يا دليل الخير التسويف، ومداخل إبليس! فهو حاذق في مداخله على الصفوة. والله المستعان.
__________
(*) عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين ـ بالرس.
(1) جامع العلوم والحكم (1/225) .
(2) رواه وكيع في الزهد، وابن المبارك أيضًا في الزهد وغيرهما.
(3) رواه أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهما.(217/27)
218 - شوال - 1426 هـ
(السنة: 20)(218/)
هل نفرح بالعيد؟
يأتي عيد الفطر، وقد أتم المسلمون صيام شهر رمضان وقيامه، فيحمدون الله أن أتم عليهم نعمه التي لا تحصى، ويفرحون لذلك. يفرح المسلمون وهم يرون من مظاهر الطاعات ما يثلج الصدور؛ فهاهي أفواج المعتمرين إلى بيت الله العتيق تترى، وأهل الدعوة إلى الله يتبارون بإعداد المناشط الدعوية، ويتفننون بالأفكار الإبداعية، كل ذلك ليصل الخير إلى جميع الناس. فحق لنا أن نفرح بالعيد؛ فمن الحِكَم التي أباح فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم - الاحتفاء بالعيد أن يعلم الناس أن في ديننا فسحة.
يأتي عيد الفطر، وإخواننا في غزة يستبشرون بما تحقق لهم من دحر الصهاينة وخروجهم من تلك البقعة، ليرينا الله ما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام، وأثبته في محكم التنزيل: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] .
قبل أربع سنوات، أزبد وأرعد الرئيس الأمريكي، وانتشى بسقوط حكومة طالبان، وظن أن العالم صار رقعة شطرنج، وهو اللاعب الوحيد فيه، فهدد دولاً كثيرة، قال إنها تزيد على ستين دولة. وها هي الأيام تمضي، وقد عجزت أمريكا أن تهضم أفغانستان، وغصت بالعراق، والطريق ما زال طويلاً طويلاً أمام أحلامه التي كان يمنِّي بها نفسه. ويرسل الله عليه جنداً من عنده، فتكون الفضيحة الكبرى، بأن الدولة العظمى تعجز عن مواجهة إعصار كاترينا بسبب حرب تخوضها على أرض دولتين ضعيفتين لا تملكان حولاً ولا قوة من الناحية المادية. ولكن هل من يملك الأرض يملك الشعوب والقلوب؟ لقد زرع بوش ليحصد لقومه الكراهية بين الأمم، وهاهم جنوده يعودون إليه محمولين في التوابيت، لتصرخ أمهاتهم ويتحرك بعض نواب الكونغرس لعلهم يستدركون سقوط القوة العظمى وحفظاً لماء الوجه لا رغبة بالعدل بين الشعوب. أليس لنا أن نفرح ونحن نرى مصداق قوله ـ تعالى ـ: {إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] ؟(218/1)
خُرافة الإسلام السياسي!
التحرير
بدأ الإسلام يؤدي دوره الدعوي ويستقطب الناس إلى الدين الحق، وقام الدعاة إلى الله بتأسيس الجمعيات والأحزاب الإسلامية في شتى ديار الإسلام، وأخذت هذه الجمعيات دورها الكبير في كثير من المجتمعات المسلمة، وتراجعت كثير من الأحزاب العلمانية إلى الوراء، وما تتم انتخابات في كثير من المجتمعات المسلمة إلا ويكون للإسلاميين بروز وانتصار.
وهذا الأمر أقضّ مضاجع العلمانيين في كثير من البلدان الإسلامية، فعملوا جاهدين على تقنين منع قيام أحزاب إسلامية، بزعم أن كل شعب مسلم في البلدان العربية خاصة هم مسلمون، ومن ثَم لا داعي لقيام أحزاب إسلامية.
ومرت بالأمة أحداث شتى، عمل بعض الإسلاميين أعمالاً اتخذت العنف أسلوباً، مما جعل الإرهاب سمة لهم، ومن هنا رفعوا شعار رفض الإسلام منهاج حياة للجماعات المسلمة باسم (الإسلام السياسي) المرفوض.
وهذا المصطلح غير محدد الدلالة، ويمكن أن ينتمي إليه كل إسلامي على وجه الأرض، سواء أكان إسلامياً معتدلاً أم إسلامياً عنيفاً أم حتى إسلامياً دعوياً وعظياً لا علاقة له بالسياسة لا من قريب أو بعيد.
وجُعل المصطلح ملتبساً ليُساء إلى الإسلام، ومن ثّم للمنتمين إلى الإسلام بأنهم كما يقولون (الإسلامويون) ؛ ليُوقَف في وجه هذا الدين ودعاته، وإيقاف مدِّه، والتخويف منه لكل دولة يوجد فيها، بدعوى أنه (إسلام سياسي) ، وفي الحقيقة أنه لا يوجد مسمى بذلك الاسم إلا للهجمة على الإسلام والإساءة إليه.
والذين دعوا إلى هذا المسمى هم العلمانيون في ديار الإسلام الذين هم من أكبر أعداء هذا الدين، والعاملون بكل الأساليب المتاحة للإساءة له والتخويف منه. والعجيب أن تسييس الدين في الغرب أمر طبيعي، وهو من الحرية المتاحة لأفراد أي مجتمع، ومن الديمقراطية التامة في بلاد الغرب، فلا نعجب إذا رأينا أحزاباً دينية حاكمة في بلدان غربية.
فرئيسة الحزب المسيحي (الديمقراطي) بألمانيا (إنجيلا ميركل) تُنازع (زعيمَ الاشتراكيين الديمقراطيين) لزعامة مستشارية ألمانيا، وهي بذلك تحقق ـ وبثمن باهظ ـ دفعة للحزب المسيحي الديمقراطي.
هذه الزعيمة الجديدة هي ابنة قس بروتستانتي في ألمانيا الشرقية، وسبق لها أن عملت وزيرة للمرأة والشباب في أول برلمان ألماني موحد بعد توحيد الشطرين في حكومة كول عام 1991م حتى 1994م، ثم عملت وزيرة للبيئة من عام 1994 إلى 1998م.
لنعد إلى عالمنا العربي والإسلامي الذي يدعي الديمقراطية ويدعي الحرية، ويبحث بكل جد واجتهاد لرفض إشراك الأحزاب الإسلامية بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان.
والهدف من ورائها ـ في الحقيقة ـ رفض التوجهات الإسلامية في العمل السياسي لسبب بسيط، أن هذه التيارات لها وزنها في المجتمعات، ولو أتيحت لها الفرصة الانتخابية الصحيحة لنالت رضا كل الناخبين من العامة والخاصة.
ويكفي أنه حينما أجريت انتخابات الجزائر عام 1991م نال الإسلاميون تأييد غالبية الناس، وجاؤوا في المرتبة الأولى، وقد أحدث ذلك زلزلاً عظيماً في العالم، جعل دولة ديمقراطية عريقة في الديمقراطية وهي فرنسا تهدد أنه إذا نال الإسلاميون النجاح في الانتخابات فإنها ستتدخل.
وقد أحدث ذلك ردة فعل غاضبة لدى الشارع السياسي الجزائري المسلم، الذي يعرف المستعمر ويعرف خطره؛ حيث استعمره لسنوات طويلة يعرفها الجميع، فلم يعد أمامهم لحفظ ماء وجوههم إلا أن يحركوا أذنابهم وتلاميذهم لإجهاض نجاح الإسلاميين باستيلائهم على الحكم، وإلغاء نتيجة الانتخابات؛ فماذا حصل؟ لقد عاشت الجزائر في حرب أهلية انعكست بالسوء على هذه البلاد مما يعرفه الجميع، وبالرغم من الأساليب الاستئصالية التي قام بها تلاميذ المستعمر، إلا أنهم لم يجدوا سوى الدمار للبلاد، واضطروا إلى طلب الصفح وتناسي ما حصل، والدعوة إلى ما سمّوه بالوئام المدني؛ فلماذا تسمح الديمقراطية الغربية في ديارها للأحزاب ذات التوجهات الدينية باعتبار ذلك حقاً للجميع، ويُرفض ذلك في بلاد الإسلام بدعاوى باطلة؟
المسألة واضحة للعيان؛ فالإسلام والإسلاميون بعبعٌ يخيف العلمانيين وهم مستعدون أن يتحالفوا مع الشيطان ضد الإسلام وأهله؛ وهم لذلك يتبارون ـ كُتّاباً ومفكرين ونقاداً ـ على العمل ضد الإسلام ودعاته ومفكريه وأحزابه، مع بذل كل ما يستطاع لخلط الأوراق؛ باعتبار كل اتجاه إسلامي ـ مهما اختلفت منطلقاته ـ هو في زعمهم ضد الحياة وضد الأمن وضد الحرية وضد الديمقراطية، ومن هنا جاء ما يسمونه (الإسلام السياسي) المرفوض.
يقول الكاتب المعروف الأستاذ فهمي هويدي عن مصطلح الإسلام السياسي: الذين اخترعوا هذا المصطلح هم التيار الآخر (العلماني) المعادي للإسلام؛ فليس هناك شيء اسمه (الإسلام السياسي) .
فالنموذج الإسلامي له مرجعية محددة واضحة في القرآن والسنة تختلف فيها الاجتهادات.
وبالرغم من تطور خطابات كثير من الحركات الإسلامية وتطور مشروعاتها السياسية في المجتمعات التي وجدت بها فقد نالت رضا وتقدير الكثير من الناخبين، مما بوّأها مكانة متميزة سبقت بها كثير من الأحزاب العريقة في بلدانها. لكن أولئك الكتاب المشبوهين الذين يعملون بكل جهد على الإساءة للحركات الإسلامية والتخويف من طموحاتها المعقولة جعلهم حقدهم يقعون في عقدة (الإسلام فوبيا) ، لكن ذلك بالطبع لا ينطلي على المتابعين، فلا يصدِّق أحد أكاذيبهم؛ لأن الناخبين يعرفون حق المعرفة برامج تلك الاتجاهات الإسلامية، ويعرفون مدى صدقيتها، ويعرفون حق المعرفة أن الحرب الإعلامية ضد الإسلام ودعاته أصبحت مكشوفة، بل إن الشارع السياسي في كل بلد جرَّب الأحزاب الحاكمة بأمرها فوجد فيها التسلط وتزوير الانتخابات واستغلال السلطة، ولم يجد في برامج تلك الأحزاب الحاكمة إلا القليل من الإيجابيات والكثير من السلبيات.
نعم! يوجد بعض الاتجاهات الإسلامية الرديكالية وذات المناهج العنيفة، لكن ذلك ليس هو الاتجاه الإسلامي كله، ثم هل أتيحت الفرصة لاتجاه إسلامي ما حكمَ أي بلاد تدعي الديمقراطية ثم أخفق؟! هذا ليس صحيحاً.
ومن هنا فإننا نطالب بكل موضوعية أن يُعطى الإسلاميون الحق مثلهم مثل غيرهم من الأحزاب المرضي عنها؛ لا أن يهمّشوا وأن يرفضوا وأن يُعتقلوا في كل موسم انتخابي، وبعد أن (تطير الطيور بأرزاقها) يُفرج عنهم؛ فتلك لعبة سخيفة وأسلوب مكشوف لوأد النجاح في مثل تلك المواسم خوفاً من الإسلام ودعاته؛ فإلى متى تبقى هذه الأساليب الاستبدادية المستنكرة؟ إلى متى يوقف دون وصول الإسلام إلى سُدَّة الحكم حتى بالديمقراطيات المزعومة؟
نسأل الله أن يصلح الأحوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(218/2)
وقفة على أطلال نيو أورلينز
حكمة الله تتجلى في أقداره
إعداد: المكتب العلمي
إشراف أ. د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله على ما قضى وقدر، والشكر له على ما امتن به وتفضل، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين، وبعد:
فإن من جملة اعتقاد أهل السنة أن الله يقدِّر ويقضي ما شاءه وأراده، وأن مشيئته وإرادته تعلق بها محبته ورضاه في الأقضية والأقدار الشرعية، لا الكونية التي لا تستلزم الرضا والمحبة.
فالله ـ عز وجل ـ يحب طاعة الطائعين التي قدَّر وقوعها كوناً وشاءها وأحبها شرعاً، فطاعة العبد تحصل بمشيئة شرعية أحبها الله ورضيها، كما أن الله ـ سبحانه ـ يبغض معصية العاصين التي قضاها كوناً وشاء وقوعها قدراً مع أنها غير محبوبة في ذاتها ولكن اقتضت حِكَمه العظام وقوعها، فجرى بها القلم في الأزل لعلم الله التام باختيار خلقه، ولا يظلم ربك أحداً.
وبناء على هذا التفصيل والتفريق من حيث الحب والبغض بين القدر الكوني والقدر الشرعي، انقسم حكم الرضا بالقدر عند المحققين من أهل العلم إلى: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحرم. فتقدير المعايب والذنوب ونحوهما مما لا يحبه الله ويرضاه، ولكن شاء وقوعه لحِكَم خارجة عنها، ينبغي أن لا يرضى بها العبد، بل عليه أن يتسخَّطها (1) .
فالله ـ عز وجل ـ قد يشاء ما لا يحبه كمشيئته وجود إبليس وجنده، وقد يحب ما قد لا يشاء كونه كإيمان الكفار وطاعات الفجار؛ فليس بين المحبة والمشيئة الكونية تلازم؛ ولكن ما شاء الله كونه كان.
وإذا تقرر هذا فالرضا بالقضاء أنواع:
- أما القضاء الشرعي الديني المحبوب إلى الله ـ عز وجل ـ: فالرضا به واجب وهو أساس الإسلام كما قال ـ سبحانه ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
- وأما القضاء الكوني القدري الموافق لهوى العبد: فالرضا به لازم؛ لأنه ملائم للعبد محبَّب لديه، وليس في هذا الرضا عبودية، وإنما العبودية في مقابلته بالشكر، والاعتراف بالمنة، ووضع النعمة في موضعها.
- وأما القضاء الكوني المخالف لهوى العبد فهو قسمان:
1 - قسم يقع بغير اختيار العبد كالمرض والفقر وأذى الناس؛ فالرضا بهذا مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي وجوبه قولان.
2 - قسم يقع باختيار العبد مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه شرعاً؛ فهذا لا يجوز الرضا به ولا محبته ولا الصبر عليه، بل عكس ذلك هو الواجب.
وإذا تقرر هذا فإن الحادثة المقضية، قد يكتنف الرضا بها أكثر من قسم باعتبارات أو متعلقات مختلفة. وقد يجتمع فيها السرور والحزن كلٌّ من وجه، ومثل هذا يقع كثيراً في عامة الكوارث التي تصيب القرى والمدن والبلدان، فقلَّ أن تخلو أرض من مسلم، أو من صغار وأطفال سبق في علم الله تيسُّرهم لليسرى، وقد يكون بها رجل ربما لم تبلغه الرسالة. وإن كان عامة أهلها ـ في الغالب ـ مأخوذون بذنبهم في الدنيا. والحديث هنا لا يتوجه إلى ما يتوجب تجاه مصاب هذا الصنف الأخير، ولا سيما أهل البغي والعدوان منهم، ولكنه منصبٌّ على مصاب الأصناف الأولى التي تشمل المسلم والصغير ونحوهم.
فقد يبدو لبعض الجَهَلَة مُتَسَخِّطَةِ الأقدار أن أخذ الأطفال والصغار وغيرهم بجريرة الكبار ظلم صنعته يد الطبيعة الغادرة؛ ولعل سبب هذا الظن السيئ غفلتهم عن الحِكَم العظام التي لا تخلو منها مثل تلك الأقدار؛ ولغفلتهم عنها لا تتسع عقولهم لها فيتساءلون: كيف يريد الله ـ سبحانه ـ حصول أمر لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاء وقوعه؟ وكيف تجتمع إرادة الله له مع بغضه لأذى المؤمنين والمعذورين وذلك من مقتضى رحمته وعدله؟
وجواب هذا الإشكال تنكشف به بعض الحِكَم العظيمة في تقدير بعض الأقدار والتي منها مثل إعصار (كاترينا) الأخير، الذي اجتاح (نيو أورلينز) فأهلك أمة، وأضر بآخرين.
وخلاصة الجواب على هذا الإشكال أن يقال: المراد نوعان: مراد لنفسه مطلوب ومحبوب لذاته، لما فيه من الخير. ونوع آخر: مراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، ولكن بالنظر إلى إفضائه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الحب والبغض، ولا يتنافيان لاختلاف ما تعلق به كل منهما، فهو بمثابة الدواء المر الذي فيه شفاء، وبمثابة بتر عضو ميت لبقاء سائر الأعضاء.
ومن أمثلة ذلك تقدير الله لكون مثل هذه الفيضانات التي تتسبب في إهلاك الحرث والنسل والأنفس، مع أن الله لا يحب الفساد.
فقد اقتضى عدله وحكمته ـ سبحانه وتعالى ـ وقوعه، وقد يدرك البشر بعض تلك الحِكَم، وقد يغيب عنهم أكثرها، وقد يجهلون لجهلم بالغيب والمستقبل معظمها؛ فعلوم البشر قاصرة كما قال الله ـ سبحانه ـ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً}
[الإسراء: 85] .
ولعل من الحكم الظاهرة في تقدير أمثال تلك الظواهر الكونية أمور منها:
أولاً: إظهار آية كونية مرئية يخوِّف الله بها عباده حتى يرجعوا للآيات السمعية التي جاءت بها الرسل؛ فكم من إنسان يرى آحاد الناس من حوله يُتخطفون ولا يعتبر، ويقرأ آيات القرآن فلا يدَّكِر؛ فلما رأى هذه الآية قال بلسان الحال أو المقال: {لا إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .
وَفي شِدَّةِ الدَهرِ اِعتِبارٌ لِعاقِلٍ وَفي لَذَّةِ الدُنيا غُرورٌ لِواثِقِ
وهكذا قد تكون هذه الكارثة سبباً في اتعاظ العقلاء واعتبارهم، سواء أولئك الذين عاصروها فخصهم الله بالنجاة من بين ألوف أهلكهم.
أو أولئك الذين سمعوا بها ورأوا المَثُلات وهم في منأى عنها. وقد قيل: رب ضارة نافعة، ومصائب قوم عند قوم فوائد.
فهذه الآية قد تكون عبرة لأولي الألباب، وأصحاب العقول فيدَّكر بها قوم، وبالمقابل يحق بها العذاب على آخرين لا يعتبرون ولا يتعظون ولا يرعوون.
والسؤال الذي يطرح نفسه بين أيدينا:
هل هذه المَثُلاتُ وهي روائعٌ فيها لنا عِظَةٌ وفصل خطابِ؟
ماذا نُعِدُّ لذودها عن حوضنا يكفي الدِعابُ فلات حين دعابِ!
أوَ يبقى بعدها عذر للغافلين في لهو باطل أو لعب محرم؟ {أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] .
ثانياً: يُهلك الله بمثل هذه الأقدار أمماً من أهل مُحادَّته ومعصيته، وقد جرت سنته ـ سبحانه وتعالى ـ في الأمم الماضية بهذا، {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] ، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58] ، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 11 - 15] ، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 96 - 98] ، {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 8 - 10] .
فهذه الكوارث من تعجيل العقوبة بالذنب، ولا يظلم ربك أحداً. قال ـ سبحانه ـ: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70] ، وقال ـ تبارك وتعالى ـ: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] ، وقال ـ عز في علاه ـ: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}
[يونس: 13 - 14] .
وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
[القصص: 59] .
وقال ـ عز شأنه ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، وقال ـ تعالى ـ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] .
وهنا يرد سؤال يكرره بعض الجهال: إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا الكوارث تجتاح كافة البلدان، وقد رأينا كيف أصاب «التسونامي» قريباً أمماً فيهم المسلم، وفيهم المساكين والضعفاء، فهلك فيه أضعاف من هلكوا «بكاترينا» فكيف يقال إن تلك الكوارث عقوبات مقدرة؟ ثم إن أمم الغرب في الجملة أقل تعرضاً لمثل هذه الحوادث من الأمم الشرقية التي لم تعلُ عُلُوَّ الدول الغربية؛ فلماذا لا يحل بالغرب ما حل بأولئك إن كنتم صادقين؟ وحاصل هذا الاعتراض: ألا يرى الله أمم الكفر في الغرب؟ لماذا لا تحل بها المثُلات إذا كان ما حل بهؤلاء أخذاً لهم بذنوبهم؟
والجواب على هذا الاعتراض من ثلاثة طرق لكل طريق عدة أوجه: فأما الطريق الأول: فطريق التنزُّل على فرض التسليم بأن دول الغرب الكافر لم يحلَّ بها ما حل بأهل المشرق، والطريق الآخر: دفع للدعوى بالصدر؛ فمن قال بأن أمم الغرب الكافرة لم ينزل بها من العذاب ما نزل بأمم الشرق؟ وحاصل الطريق الثالث: أنه بصرف النظر عن الأمرين؛ فربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
وكل واحد من هذه الطرق يمكن تقريره بأوجه عدة، أقتصر هنا على ذكر واحد منها هو من أظهرها في تقديري.
أما الطريق الأولى: فلعل من أوجهها أن سنَّة الله جرت بإمهال المدن والقرى إلى أجل يقدره ربها. قال الله ـ تعالى ـ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59] ، وفي الصحيحين: «إن الله ـ عز وجل ـ يملي للظالم؛ فإذا أخذه لم يفلته» (1) ، وأمم الغرب أمم لا تزال فتية إذا ما قيست بأمم الشرق، سواء من حيث وجودها، أو من حيث بلوغ الرسالة لها. أما من حيث وجودها؛ فإذا نظرت في تاريخ نشوء الدول الأوروبية وجدته لا يقاس بما يروى ويذكر عن نشوء الحضارات في الأمم الشرقية، ومن المشهور أن قارة أمريكا كلها كان اكتشافها عام 1492م؛ بينما اجتاح المغول من أقصى المشرق العالم الإسلامي قبل ذلك التاريخ بنحو قرنين ونصف، ثم كان تأسيس الولايات المتحدة بعد اكتشاف القارة التي كانت نسياً منسياً بنحو ثلاثة قرون.
ومما يدل على حداثة نشوء تلك البلاد عموماً أن الرسالات السماوية التي جاءت بالديانات الكبرى والتي يملأ أتباعها الآفاق كان منشؤها بعيداً عن دول الغرب، في الأرض المباركة وجزيرة العرب وما تاخمهما؛ حيث عاش أبو البشر ـ عليه السلام ـ ابتداءً، وتتابع الأنبياء بعده، فقد ورد أن أول من بنى البيت الحرام آدم عليه السلام (2) ، ثم جدده إبراهيم -صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت تلك الرقعة وما جاورها أرض المعجزات النبوية، ومجال الرسالات السماوية، والحضارات القديمة؛ ففيها بلد سبأ، وسدُّ مأرب، وعرش عظيمٌ، وبئرٌ معطلة، وقصر مشيد، بل سائر بلاد عاد؛ إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمودُ الذين جابوا الصخر بالوادي، وأصحابُ الرس، وأصحاب الأيكة، وأصحاب الأخدود، وقبر هود، ودعوة إبراهيم، وحجر صالح، ومدين شعيب، وأرض بابل، وبيت لحم، والخليل، والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله بكثرة من دُفن بجواره من الأنبياء، وهذا مؤشر يدل على حداثة الغرب بشكل عام، وصِبا أمريكا بشكل خاص، ولا سيما إذا ما قيست أعمارهم بأعمار البلاد المشرقية.
أما من حيث بلوغ الرسالة فقد ساد الإسلام الهند قبل اكتشاف قارة أمريكا بأسرها، بل بلغ الصين منذ قرن الإسلام الأول، ولعل هذا هو السبب في حمل بعض أهل العلم حديث ثوبان عند مسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ مُلك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها» (3) ، على واقعه في القرن الخامس، فقال: «فكان كذلك؛ فقد بلغ ملكهم من أول المشرق: من بلاد الترك إلى آخر المغرب من بحر الأندلس وبلاد البربر، ولم يتسعوا في الجنوب ولا في الشمال ـ كما أخبر -صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء» ، بل قال النووي: «فيه إشارة إلى أن مُلك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب؛ وهكذا وقع. وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب» (1) . «قال الخطابي: توهم بعض الناس أن (من) في (منها) للتبعيض، وليس ذلك كما توهمه، بل هي للتفصيل والتفصيل لا يناقض الجملة، ومعناه أن الأرض زويت لي جملتها مرة واحدة، فرأيت مشارقها ومغاربها، ثم هي تفتح لأمتي جزءاً فجزءاً حتى يصل ملك أمتي إلى كل أجزائها. قال القاري: ولعل وجه من قال بالتبعيض هو أن ملك هذه الأمة ما بلغ جميع الأرض» (2) ، وهذا النمط من توسع المد الإسلامي نمط طبيعي؛ فالإسلام انبثق من أرض الجزيرة ثم شرَّق وغرَّب، فدخل بلاد فارس وتعداها شرقاً، كما دخل بلاد أفريقيا وتعداها غرباً، ولعل من أسباب تأخره عن البلاد الأوروبية الطبيعة المناخية والجغرافية وما تتضمنه من مسطحات مائية تقصي جل القارة الأوروبية شيئاً ما؛ فضلاً عن الأمريكتين وأستراليا.
أما الطريق الثاني في رد اعتراض القائل بأن الذنوب في أمم الغرب الكافر أعظم وأكثر منها في دول المشرق، ومع ذلك لم يأخذهم الله بذنوبهم كما تزعمون، فبأن يقال: بل أخذهم! ولهذا الطريق أوجه كثيرة أيضاً تشهد له، وأقتصر كذلك على أظهرها، ولا أود البحث عن إحصائيات وأرقام تبين أن بعض تلك الأمم مهددة بالانقراض، لولا الهجرة، وفقاً لإحصائيات معدل نمو السكان، بل أكتفي بالتذكير بحقيقتين تاريخيتين ظاهرتين، وهما الحربان العالميتان: الأولى والثانية؛ فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914م بين الدول الأوروبية لتحصد قرابة ثلاثين مليون نسمة ما بين عسكري ومدني جلهم من أوروبا، ثم نشبت الحرب العالمية الثانية عام 1939م واستمرت ست سنوات عجاف أهلكت ما يربو على أربعين مليون إنسان كان نصيب آسيا بما فيها الصين واليابان التي سقطت عليها قنبلتا هيروشيما ونجازاكي أقل من أربعة ملايين، والبقية أوروبيون وأمريكيون.
وحتى لا يتوهم إنسان أن هذا الوجه يقضي على الوجه الأول في الرد بالبطلان وليس كذلك؛ أنبه إلى أن الأول ضَرْبٌ من التنزُّل مع المعارض في مقدمته ليستبين أن النتيجة التي بناها عليها باطلة، وهذا الوجه الثاني اعتراض على المقدمة نفسها.
أما الوجه الثالث في رد هذا الاعتراض فبأن يقال: الله خلق الخلق، وهو أعلم بما عملوا، وبما كانوا عاملين، يؤاخذ من شاء فيعجل له العقوبة بعدله، ويؤخرها لآخرين وفق حكمته وعلمه، ولا يستطيع أحد من البشر أن يقول: هؤلاء أجدر بالعذاب من هؤلاء وهم به أوْلى إلاّ إذا أحصى أعمال وأقوال واعتقادات هؤلاء وهؤلاء، ثم حكم أيها عن منهج الله أبعد، وإذا لم يكن هذا في طاقة البشر فليعترف الإنسان بجهله، وليُمسك عليه لسانه، وليسلم أمر الخلق لخالقهم الذي يعلم السر وأخفى.
وبعد هذا الاستطراد نعود إلى ذكر بعض الحِكَم التي تنطوي عليها مثل هذه الأحداث.
فمنها وهي الثالثة:
أن الله يكتب بها شهادة لأهل طاعته، ومحبته فيرفع بها درجاتهم، ويعلي بها منازلهم. روى الإمام البخاري حديث مالك في الجهاد وعقد له باباً: (الشهادة سبع سوى القتل) ثم ساقه بسنده إلى أبي هريرة: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، والمقتول في سبيل الله» (3) ، بل روى أبو داود في سننه عن أم حرام عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والغَرِق له أجر شهيدين» (4) ، قال المناوي: قال المظهر: هذا إن ركبه لنحو طاعة كغزو وحج وطلب علم وكذا التجارة ولا طريق له غيره، وقصد طلب القوت لا زيادة ماله» (5) ، وهذا يلمح إلى أن من مات في البحر أثناء سفر معصية فليس له ذلك الأجر المشار إليه، بخلاف من مات غريقاً في سفر مندوب، ويفهم منه كذلك استثناء صاحب السفر المباح من أجر الشهيدين، وإن لم يخرجه ذلك عن أجر الشهيد الواحد الثابت في الصحيح، على أن الجزم بإخراج من هلك في البحر في سفر مباح لا يتناوله أجر الشهيدين محل نظر؛ فالنص قد جاء مطلقاً، والتقييد بغير مقيد لا يسوغ، وقد ورد نظير هذا في من مات بالطاعون صابراً محتسباً؛ فله أجر شهيدين؛ فليكن شهيد البحر وإن مات في سفر مباح صابراً محتسباً مثله طالما أن النص ثبت في حق الجميع.
والخلاصة: أن الذين هلكوا في هذا الطوفان من أهل الإيمان هم شهداء عند ربهم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 19] ، فهنيئاً لهؤلاء أجر من جنس أجر شهداء المعترك وإن لم تجرِ عليهم أحكامهم في الدنيا (6) .
رابعاً: يُظهِرُ الله بمثل هذه الآيات عظيم قدرته وقوَّته وعزته، وتمام ملكه وسلطانه، فخُلُوُّ الوجود عن مثل هذه الظواهر تعطيل لحكمة الخالق وكمال قدرته وتصرفه وتدبيره مملكته، كما أنه تُفِيق بها فئام نسيت قدرة الله فأذعنت لمن خافت سطوتهم من البشر، فتدعوها هذه الأقدار لمراجعة توحيدها وتحقيق إخلاصها، برجوعها إلى ربها؛ فلا تشرك معه في قوَّته وقدرته وسلطانه أحداً، ويُفِيق كذلك بعض من غرتهم قوتهم فيتذكرون أن الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؛ فأوْلى لهم أن لا يجحدوا آياته، وأن يتجنبوا أسباب سخطه وعقابه.
وعندها يقرأ المتعظ المعتبر بقلب واع قول الله ـ عز وجل ـ: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16] .
وكم من جمل اسْتَنْوَقَ، وحمار اسْتَأْتَنَ، وكم من أمة كانت نُشْبَة، فأضحت لما صال الدهر صولته عُقْبَة، فاستعيذوا بالله من الحَوْر بعد الكَوْر.
خامساً: ومن حِكَم مثل هذه الأقدار ظهور بعض آثار أسماء الواحد القهار، كالمنتقم، والضار والنافع، وشديد العقاب، وسريع الحساب، وذي البطش الشديد، ولا شك أن لذلك أثراً في ازدياد الإيمان عظيم.
فلِتعرُّف العبد على تلك الأسماء والصفات وما تتضمنه تأثير في نفسه يقوده إلى الخوف من ربه، كما أن لشهود النعم والأفضال التي تترى ليل نهار أثراً في نفس العبد يقوده إلى حب الرب المنعم المتفضل. وبعبادة الخوف والحب والرجاء يتحقق الإيمان في قلب العبد؛ فالخوف يمنع من مقارفة ما يُغضِب الرب، كما أن الحب يدفع لفعل ما يرضاه، ولهذا أُثِرَ عن السلف قولهم: «مَنْ عبدَ اللهَ بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومَنْ عبدَ اللهَ بالخوف وحده فهو حروري، ومَنْ عبدَ اللهَ بالحب وحده فهو زنديق، ومَنْ عبدَ اللهَ بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد مؤمن» (1) ، وقد استحب السلف أن يقوِّي العبد جانب الخوف في حال الأمن والصحة حتى لا يغتر، وقالوا: إذا غلب الرجاء على القلب فسد.
سادساً: ومن حِكَم هذه الأقدار حصول بعض العبادات المحبوبة كالتوبة، والاستغفار، والإنابة، والرجوع إلى الواحد الغفار؛ فكم من إنسان رأى ما حل بغيره من البشر، وعلم أنه ليس بينه وبين الله نسب، فقال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً، لا إله إلاّ أنت تبت إليك سبحانك إني كنت من الظالمين. وكم من غافل أفاق يوم أن حلت به المثلات التي نزلت بالأمم السالفات.
ولما رأيت الدهر تسطو خطوبه
بكل جليد في الورى ومهانِ
ولم أرَ مِن حِرزٍ ألوذُ بظله
ولا مَن له بالحادثات يدانِ
فزعت إلى من تمْلِك الدهرَ كفُه
ومن ليس ذو ملك له بمدانِ
وأعرضت عن ذكر الورى متبرماً
إلى الرب من قاص هناك ودانِ
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «قال قتادة: إن الله ـ تعالى ـ يخوِّف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذَّكَّرون ويرجعون، ذُكِرَ لنا أن الكوفة وَجَفَتْ على عهد ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أيها الناس! إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه» (2) ، وقد روي مرفوعاً ولم يصح «قال أبو عمر: لم يأت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سُنَّة، وقد كانت أول ما كانت في الإسلام على عهد عمر فأنكرها، وقال: أحدثتم والله! لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم» (3) ، والأمر كما قال ابن عبد البر؛ فلم تصح سنَّة بأن زلزلة شهدها النبي -صلى الله عليه وسلم -، بل قال عبيد الله بن النضر: حدثني أبي قال: كانت ظلمة على عهد أنس، قال: فأتيت أنساً، فقلت: يا أبا حمزة! هل كان يصيبكم مثل هذا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ قال: معاذ الله! إن كانت الريح لتشتد فنبادر إلى المسجد مخافة القيامة (4) ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، وهذا استدلال بطريق الأوْلى.
ثم قال ابن كثير بعد أن ذكر قول قتادة الآنف: «وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مرات، فقال عمر: أحدثتم والله! لئن عادت لأفعلن ولأفعلن كذا» (1) ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله ـ عز وجل ـ يخوِّف بهما عباده؛ فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذِكْرِه ودعائه واستغفاره» (2) .
وقد أشار الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في معرض كلام له إلى هذه الحكمة، فقال: «فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم» (3) ثم أشار إلى شيء من الآثار الآنفة.
سابعاً: ومن تلك الحكم أن يتعبد الناسُ ربَّهم، بالاستعاذة به مما يحاذرون، وكذلك بصدق دعائه ورجائه فيما يأملون، من نحو طلب نجاة حبيب، أو سلامة قريب، أو إغاثة مستغيث، أو رزق معوز لم يكن يخطر بباله سؤال الرزق يوماً.
ثامناً: ومن تلك الحِكَم أن يبتلي الله آخرين فينظر كيف يعملون: هل يبذلون أموالهم ويغيثون إخوانهم المسلمين، أم يقبضون أيديهم ويكتفون بموقع المتفرج؟ فتكون تلك الأقدار سبباً في حصول عبادات بدنية ومالية يقوم بها من يهبُّ لإغاثة إخوانه، ويُحْجِم عنها آخرون، فيستحق كل منهما دعاء المَلَك: «اللهم أعطِ منفقاً خلفاً! اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً!» .
تاسعاً: استفادة بعض الناس منها بفتح أبواب رزق لم تكن لتُفتح لهم، وأعظم من ذلك بلوغ أسباب خير لم تكن لتبلغهم، وكذلك امتحان آخرين في دينهم ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، الذين إذا أصاب أحدهم خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
وفتح هذه الكوارث لمجالات عمل دنيوي وعمل ديني ظاهر لا يخفى؛ فالمنظمات التي تُعنى بهذه الكوارث تعد ولا تحصى، وكِلا المجالين الديني والدنيوي يدخل فيهما أصحاب الحق وأصحاب الباطل، في محاولات للاستفادة من النازلة لأجل ترويج تجارتهم المادية أو المعنوية.
عاشراًً: ـ وأختم به ـ ما ذكره الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في حِكمَ خَلْقِ بعض من لا يحبه الله ويرضاه؛ فعدَّ منها: «أن خَلْقَ الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضاً ويكسر بعضها بعضاً هو من شأن كمال الربوبية والقدرة النافذة والحكمة التامة والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب، لكنَّ خَلْقَها من لوازم كماله وملكه وقدرته وحكمته؛ فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال وموجب من موجباته؛ فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه وغاياته.
وبالجملة: فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه وتقديره ومشيئته أحب إليه ـ سبحانه وتعالى ـ من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها.
فإن قلتَ: فهل كان يمكن وجود تلك الحِكَم بدون هذه الأسباب؟
قلتُ: هذا سؤال باطل؛ إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب» .
والخلاصة: أن الله ـ تعالى ـ منزه عن العبث، بل أقداره لحِكَم، علم منها شيئاً من علم، وجهل أكثرها الناس.
ومن عقيدة أهل السنة أن الله لا يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، بل قد يكون ذلك المخلوق شراً ومفسدة ببعض الاعتبارات، وفي خلقه مصالح وحِكَم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده.
بل الواقع منحصر في ذلك؛ فلا يمكن في جناب الحق ـ جل جلاله ـ أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه بكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما؛ هذا من أبين المحال؛ فإنه ـ سبحانه ـ بيده الخير، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير؛ والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة إليه سبحانه؛ فالله وإنْ خَلَقَهُ وشاءه غير أنه لا يحبه من جهة كونه شراً ولا يرضاه، وإنما يسَّره بحكمته لما علمه من طبيعته؛ فلم يمده بمادة الخير ولم يصرفه فيما ينفع فأحدث ما أحدث، ولله الحكمة البالغة في أقداره، وله الشكر على توفيقه وأفضاله.
__________
(*) المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية: www.almoslim.net
(1) انظر في تفصيل ذلك مدارج السالكين، 2/189 وما بعدها.
(1) البخاري، 4/1726 برقم (4409) ، ومسلم، 4/ 1997 برقم (2583) .
(2) ذكر ابن حجر في الفتح أقوالاً في أول من بنى البيت، فذكر آدم والملائكة وشيث ابن آدم، ثم قال: والأول أثبت، قال السيوطي في شرح سنن النسائي عند تعليقه على حديث: «سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: أَيّ مَسْجِد وُضِعَ أولاً؟ قال: (المسجد الحرام) . قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى) . قُلْت: وكم بينهما؟ قال: (أَرْبَعُونَ عَاماً) قال القرطبي: فيه إشكال؛ وذلك أن المسجد الحرام بناه إبراهيم ـ عليه السلام ـ بنص القرآن، والمسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام، كما أخرجه النسائي من حديث ابن عمر، وسنده صحيح، وبين إبراهيم وسليمان أيام طويلة، قال أهل التاريخ: أكثر من ألف سنة. قال: ويرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على بناء إبراهيم وسليمان ـ لِما بينّا ـ ابتداء وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه، وقد روي: أول من بنى البيت آدم، وعلى هذا فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً. انتهى. قلت: بل آدم نفسه هو الذي وضعه أيضاً، قال الحافظ ابن حجر في كتاب التيجان لابن هشام: إن آدم لمّا بنى الكعبة أمره الله ـ تعالى ـ بالسير إلى بيت المقدس، وَأَنْ يَبْنِيَهُ فَبَنَاهُ وَنَسَكَ فِيهِ» كتاب المساجد، باب ذكر أي مسجد وضع أولاً، حديث رقم 689، سنن النسائي بشرح السيوطي 2/ 362، الطبعة الخامسة لدار المعرفة، 1420هـ.
(3) صحيح مسلم 4/2215، برقم (2889) .
(1) شرح مسلم، للنووي، 18/13. (2) تحفة الأحوذي، 6/332.
(3) صحيح البخاري 3/1041، برقم (2674) ، وهو عند مسلم في الصحيح 3/1521، برقم (1914) .
(4) رواه أبو داود في سننه في كتاب الجهاد باب فضل الغزو في البحر 3/6 برقم (2493) ، ورواه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى 4/335 برقم (8451) ، والحميدي في مسنده 1/169 برقم (349) ، والإمام أحمد في المسند 1/169، وابن معين في تاريخه 3/40 برقم (162) ، وابن أبي عاصم في الجهاد 2/633 برقم (285) والذي يليه، وفي الآحاد والمثاني 6/100 برقم (3315) ، والطبراني في الكبير 25/133 برقم (324) ، وابن عبد البر في التمهيد 1/239، وانظر تهذيب الكمال 35/342، ورواه غيرهم، وقد حسنه الألباني في الإرواء، 5/16.
(5) فيض القدير، 5/291. (6) ينظر فتح الباري لابن حجر، 6/44.
(1) التخويف من النار، لابن رجب، ص 17.
(2) وقد ساقه الطبري في تفسيره 15/109، وقد روي مرفوعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم - في ارتجاف المدينة كما عند ابن أبي شيبة (8334) 2/221، وهو مرسل ضعيف كما قال ابن رجب في الفتح 6/324، وابن حجر في تلخيص الحبير2/ 94.
(3) الاستذكار لأبي عمر بن عبد البر، 2/ 418.
(4) رواه الحاكم في المستدرك 1/483 برقم (1196) ، وأبو داود في السنن 1/311 برقم (1196) ، والبيهقي في الكبرى 3/342 برقم (6171) ، والضياء في المختارة 7/257 برقم (2705) ، ولعله حديث حسن كما قال النووي في الخلاصة 2/865، وضعفه بعض أهل العلم، ولعل ذلك بسبب النضر بن عبد الله بن مطر القيسي البصري والد عبيد الله؛ فقد قال الحافظ في التقريب: «مستور» ، ولكن روى عنه غير واحد وذكره ابن حبان في الثقات (تهذيب الكمال 29/387) ، ووثقه الذهبي (الكاشف 2/321) ، أما الحاكم فلا يظهر من صنيعه وتعليقه على حديثه ووصفه بأنه على الشرط توثيق للنضر؛ فقد ظنه النضر بن أنس بن مالك، ولعله قد أخطأ رحمه الله؛ فجده هنا جده لأمه قيس بن عباد رضي الله عنه، والحديث حديث آخر. ومثل هذا الأثر صالح للاعتبار فهو من باب الأخبار، والراوي له أقرب للقبول، ولعل القرآئن تشهد له، ولم يثبت ما يخالفه، والله أعلم.
(1) روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند مستقيم عن صفية بنت أبي عبيد (زوج ابن عمر) قالت: «زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، وابن عمر يصلي فلم يدر بها، ولم يوافق أحداً يصلي فدرى بها، فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم، لقد عجلتم! قالت: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم» . وقد رواه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى 3/342 برقم (6170) ، وابن عبد البر في التمهيد 3/318 وغيرهم.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 3/ 49.
(3) مفتاح دار السعادة، ص 221.(218/3)
الأحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية
عبد العزيز بن ناصر الجليل
قال الله ـ تعالى ـ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
{فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
والآيات من كتاب الله ـ عز وجل ـ في ذكر مثل هذه السنن الربانية كثيرة جداً؛ وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع أقوامهم، وإنه لمن الواجب على دعاة الحق والمجاهدين حقاً في سبيل الله ـ تعالى ـ أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله ـ عز وجل ـ وما تضمن من الهدى والنور، ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذاً بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاة مما وقع فيه الغير من تخبط وشقاء. وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة وإعراض عن هدي الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ الذين هم أعرف الناس بالله ـ سبحانه ـ وبأسمائه وصفاته، ومن ثَم فهم أعرف بسننه ـ سبحانه ـ وأيامه، وهم ألزم الناس لها وللسير على ضوئها، وما ضل من ضل إلا بسبب الإعراض عن كتاب الله ـ عز وجل ـ وما فيه من الهدي والنور. يقول الدكتور محمد السلمي ـ حفظه الله ـ: «التاريخ بما يحتوي من الحوادث المتشابهة والمواقف المتماثلة يساعد على كشف هذه السنن التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات، وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها والنجاة منها؛ حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابةً في الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث؛ فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق» (1) .
وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية؛ فهذا له مقام آخر، وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله ـ عز وجل ـ وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها في العراق وفلسطين وأفغانستان، والشيشان وما صاحبها من فتن ومواقف، وسأقتصر على ذكر ثلاث من هذه السنن التي رأيت أن لها مساساً بهذه الأحداث المعاصرة:
ü السُّنة الأولى: سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل:
يقول الله ـ عز وجل ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
ويقول ـ تبارك وتعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] .
وعن عياض بن حمار المُجاشِعي؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت: رب إذن يثلغوا رأسي فيدَعوه خبزةً؛ قال: استخرجْهم كما استخرجوك، واغزُهم نغرك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك» (1) .
ففي هاتين الآيتين والحديث القدسي أبلغ دليل على أنه منذ أن اجتالت الشياطين بني آدم عن دينهم، وظهر الشرك والكفر، وظهر تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ منذ ذلك والصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى؛ هذه سُنَّة إلهية لا تتخلف؛ ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك، وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إن هو إلا مقتضى رحمة الله وفضله، وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين؛ ولذلك ختم الله ـ عز وجل ـ آية المدافعة في سورة البقرة بقوله ـ سبحانه ـ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] ؛ حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس، بل قيَّض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق؛ فالله ـ تعالى ـ يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] .
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السُّنَّة ـ أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد ـ إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يؤْثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل، وإيثار الحياة الدنيا.
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة: فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله ـ عز وجل ـ على رأس وذروة هذا المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «والجهاد: منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه» (2) .
واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة؛ وذلك من قِبَل أعدائها الكفرة، وأذنابهم المنافقين. فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير، وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لا يكاد يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك مما يوجب نصرتهم ما أمكن ذلك قال الله ـ تعالى ـ: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] .
هذا فيما يتعلق بقتال الدفع عن المسلمين الذين احتل الكفار ديارهم وغزوهم في عقر دارهم، أما البلدان التي غزاها الكفار في عقر دارها عقدياً واجتماعياً وإعلامياً واقتصادياً وثقافياً، وتعاون معهم إخوانهم المنافقون في تنفيذ مخططاتهم فهذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين، وقد تسارع الغزاة في تنفيذ مخططهم الإفسادي في السنوات الأخيرة بشكل لافت وخطير؛ فما هو الواجب على المسلمين في هذه البلدان لمدافعة هذا الغزو الخطير؟
فقد تقرر فيما سبق من الكلام إن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن، فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمشاهدة منها أقول: إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها؛ فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كل بحسبه، وإن التقاعس أو التشاغل أو التخذيل لهذا الضرب من الجهاد يُخشى أن يكون من جنس التولي يوم الزحف، وتقديماً للدنيا الفانية على محبة الله ـ عز وجل ـ ورسوله والجهاد في سبيله تعالى، ولا يبعد أن يكون من المعنيين بقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .
هذا وإن كانت هذه الآيات في جهاد الكفار في ساحات القتال؛ فما الذي يمنع من أن تشمل أيضاً القاعدين عن جهاد الكفار والمنافقين بالبيان والمدافعة لأفكارهم الخبيثة وأخلاقهم السافلة، والوقوف أمام وسائلهم ومخططاتهم المختلفة وتحصين الأمة وتحذيرها منها؟
فلقد قال الله ـ عز وجل ـ آمراً نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم - في سورة مكية بمجاهدة الكفار بالقرآن قبل فرض الجهاد عليهم بالقتال؛ وذلك في سورة الفرقان؛ حيث يقول الله ـ عز وجل ـ: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «والجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والرأي والتدبير والصناعة؛ فيجب بغاية ما يمكن» . ولا يعذر أحد من المسلمين في النفرة لهذا الجهاد كل بحسب علمه وقدرته. يقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولله ـ سبحانه ـ على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوَّى بين عباده فيها:
فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
ومَنْ له خبرة بما بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم -، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين، هم أقل الناس ديناً والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المُتحزِّن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتذبَّل (*) وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلُوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل» (1) .
ü السُّنة الثانية: سُنة الابتلاء والتمحيص:
قال الله ـ عز وجل ـ: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] . وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران: 179] .
يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عن الآية الأخيرة: «أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر» (2) .
ويقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ: «ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله ـ سبحانه ـ وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام؛ فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دَخَل، وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.
وكل هذا يقتضى أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر، ومن ثم كان شأن الله ـ سبحانه ـ أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة» (3) .
وبالنظر إلى ما يدور من الأحداث الخطيرة والمتسارعة في بلدان المسلمين اليوم ـ وذلك في الصراع بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر والنفاق سواء ما كان منه صراعاً عسكرياً جهادياً باليد والسنان كما هو الحال في بلاد العراق وفلسطين وما صاحب ذلك من التداعيات، أو ما كان منه صراعاً عقدياً وأخلاقياً كما هو الحاصل في عامة بلدان المسلمين ـ أقول: بالنظر لهذا الصراع في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أن هذه السنَّة الربانية الثانية تعمل الآن عملها بإذن ربها ـ سبحانه وتعالى ـ لتؤتي أكلها الذي أراده الله ـ عز وجل ـ منها؛ ألا وهو تمحيص المؤمنين وتمييز الصفوف حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة؛ وحتى يتعرف المؤمنون على ما في أنفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الأرض فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم؛ فإذا ما تميزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أبواب الابتلاء وخرج المؤمنون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلص من شوائبه بالحرق في النار حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين ويمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وقبل هذا التمحيص والتمييز؛ فإن سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله ـ عز وجل ـ عباده المؤمنين لن تتحقق. هكذا أراد الله ـ عز وجل ـ وحكم في سننه التي لا تتبدل: أنَّ محق الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: «أيها أفضل للرجل: أن يُمَكَّن أو يُبتلَى؟ كان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله ـ عز وجل ـ أن قال: «لا يُمَكَّن حتى يُبتلَى» ، ولعله فَهِم ذلك من قوله ـ تعالى ـ: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] .
وللدلالة والتأكيد على أن مجتمعات المسلمين تعيش اليوم حالة شديدة من الابتلاء والتمحيص والفتنة في هذه النوازل أذكر بعض المواقف التي أفرزتها هذه السُّنَّة ـ أعني سُنَّة الابتلاء والتمحيص ـ في خِضَمِّ هذه الفتن المتلاطمة، ولم يكن لهذه المواقف أن تُعرف ويُعرف أهلها قبل حصول هذه الفتن، وقد ظهرت هذه المواقف مع أننا في أول السُّنَّة وبداية الابتلاء؛ فكيف يكون الحال في آخر الأمر؟ نعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن. وفي ذكر هذه المواقف نصيحة وتحذير لنفسي ولإخواني المسلمين من الوقوع فيها، أو المبادرة بالخروج منها لمن وقع فيها.
الموقف الأول: موقف المنافقين والمرجفين:
لم يعد خافياً على أحد ما تطرحه وسائل الإعلام المختلفة وبكل وقاحة ودون حياء ولا خوف من الله ـ عز وجل ـ أو من الناس؛ وذلك في ما يتعلق بثوابت الدين أو ما يتعلق بالمرأة والتحريض على خروجها ومخالطتها للرجال والزج بها في أعمال مخالفة لحكم الله ـ عز وجل ـ وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم -، والسعي الحثيث لمحاكاة المرأة الغربية في هديها وأخلاقها.
وليس المقصود هنا تتبع ما يفعله المنافقون والمرجفون في هذه السنوات الأخيرة والمحن العصيبة التي تمر بالمسلمين، وإنما المقصود الدلالة على أن سنة الله ـ عز وجل ـ في الابتلاء والتمحيص تكشف وتفضح المنافقين وتبرزهم في مجتمعات المسلمين كما فضح الله ـ عز وجل ـ إخوانهم وسلفهم في عزوة الأحزاب وغزوة أحد وغزة تبوك التي أنزل الله ـ عز وجل ـ فيها سورة كاملة هي سورة التوبة التي من أسمائها (الفاضحة) ؛ لأنها فضحت المنافقين وميزتهم. وهذه من الحِكَم العظيمة، والفوائد الجليلة لسُنَّة الابتلاء؛ إذ لو بقي المنافقون في الصف المسلم دون معرفة لهم؛ فإنهم يشكلون خطراً وتضليلاً للأمة، أمّا إذا عُرفوا وفُضحوا وتميزوا فإن الناس يحذرونهم، وينبذونهم ويجاهدونهم بالحجة والبيان، أو بالسيف والسنان إن ظهر انحيازهم للكفار ومناصرتهم لهم، وبذلك يتخلص المسلمون من سبب كبير من أسباب الهزيمة والفشل، ويتهيؤون لنصر الله ـ عز وجل ـ وتأييده.
الموقف الثاني: موقف اليائسين والمحبَطين والخائفين:
لما كشف أعداء هذا الدين من الكافرين وبطانتهم من المنافقين عن عدائهم الصريح وحربهم المعلنة على الإسلام وأهله، وعندما تعرض كثير من المسلمين ومؤسساتهم الدعوية والخيرية للمضايقة والأذى شعر بعض المسلمين حينئذ بشيء من اليأس والإحباط والخوف؛ وبخاصة لما قام شياطين الإنس والجن يبثون وساوسهم وشبههم في تضخيم قوة الأعداء وأنها لا تقهر؛ عند ذلك سيطر على بعض النفوس اليأس من ظهور هذا الدين والتمكين لأهله؛ فكان منهم فئة ظهر ضعف يقينها ومرض قلوبها في هذه الابتلاءات، فشكَّت في ظهور هذا الدين، واهتز يقينها بوعد الله ـ تعالى ـ بنصرة دينه، وهؤلاء على خطر يهدد إيمانهم ويُخشى أن يقعوا في فتنة المنافقين الظانين بالله ظن السوء. وفئة أخرى لم يساورها الشك في دين الله ـ تعالى ـ بنصرة أوليائه، وإنما أصابها اليأس من ذلك في هذا الزمان؛ حيث رأت أن المسلمين اليوم غير قادرين على المواجهة لعدم تكافئهم مع عدوهم؛ وعليه فلا داعي للمقاومة التي لا تفيد شيئاً، وإنما هي بمثابة المحرقة التي تحرق المسلمين وبخاصة المجاهدين منهم، والحل عند هؤلاء: الاستسلام للواقع وانتظار معجزة ربانية من الله ـ عز وجل ـ كانتظار المهدي أو المسيح عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا يخفى ما في هذا التصور من الانحراف والشطط، وكم هو مفرح للكفرة والمنافقين مثل هذا التفكير ومثل هذه المواقف المستخذية التي تبث اليأس في نفوس المسلمين وتعيقهم عن بذل الجهد في الدعوة والجهاد والأخذ بالأسباب الشرعية والمادية للنصر على الأعداء.
وإن مواقف الخوف واليأس والإحباط ما كانت لتُعرف لولا سُنَّة الابتلاء والتمحيص؛ وظهور هذه السنة وعملها اليوم في حياة المسلمين هي التي أفرزت وأظهرت مثل هذه المواقف، وفي ظهورها فائدة لأصحابها لعلَّهم أن يراجعوا أنفسهم ويُقلِعوا عن هذه المواقف بعد أن اكتشفوا هذا المرض الكامن في نفوسهم بفعل هذه السُّنَّة، كما أن فيه فائدة أيضاً لغيرهم ليحذروا من هذه المواقف ويحذروا ممن ينادي بها. قال الله ـ تعالى ـ في تحذير عباده المؤمنين من الوهن واليأس والإحباط: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] .
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في وصف عباده الصابرين والموقنين بنصره: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] .
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في وصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم - لما تحزبت عليهم الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا}
[الأحزاب: 22] .
الموقف الثالث: موقف المسايرين للواقع أهل الحلول الوسط:
وهم الذين نظروا إلى شدة ما يصيب المسلمين في هذه الأزمنة من الأذى والتضييق والابتلاءات المتنوعة، فرأوا أن الثبات والصمود على ثوابت هذا الدين والصبر على أحكامه الشرعية ومصادمة الواقع مما يصعب في مثل هذه الظروف؛ لأن أعداء هذا الدين لا يرضون بذلك، بل يوجهون حربهم إلى هؤلاء الثابتين الذين يطلقون عليهم تارة: الأصولية، وتارة: المتشددين، وتارة: الإرهابيين؛ والخطير في الأمر في هذه المواقف أنها تغطَّى بشَبَه شرعية، ويحاول أصحابها أن يؤصلوا مواقفهم هذه بأدلة يزعمون أنها قواعد شرعية مع أنها غير منضبطة بضوابط الشرع، ولا ملتزمة بمقاصده؛ كاستدلالهم مثلاً بالضرورة وأحكامها، وقواعد التيسير ورفع الحرج، وبالمصالح المرسلة وغيرها مما هي صحيحة في أصلها لكنها فاسدة في تطبيقها (1) .
وعلامة أصحاب هذا الموقف أنهم يصفون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالاعتدال أو الوسطية. وهذه المواقف ما كانت لتُعرف لولا سُنَّة الابتلاء التي تمحص وتميز الصفوف ويكشف الله بها كوامن النفوس التي يعلمها الله مسبقاً، لكنه ـ سبحانه ـ يظهرها للناس بفعل سنة الابتلاء والتمحيص، وصدق الله العظيم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] .
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم - أن المتمسك بدينه في آخر الزمان يعد غريباً بين الناس، ووصفه بأنه كالقابض على الجمر؛ وهذا الوصف لا يقدر عليه إلا أولو العزم من المؤمنين الصابرين؛ قال -صلى الله عليه وسلم -: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً؛ فطوبى للغرباء. قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس» (2) .
وقال -صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» .
ولا يخفى على من يراقب اليوم كثيراً من الفتاوى والحوارات التي تقوم بها بعض الصحف والمجلات والقنوات الفضائية ما تحمل من هذه المواقف المتميعة التي يحاول أصحابها أن يتشبثوا في الاقتناع بها بأدنى شبهة أو أدنى قول شاذ يخالفه الدليل الصحيح من الكتاب والسنة، وهذه المواقف والفتاوى لم تقتصر على الأحكام فحسب، بل تعدتها إلى أصول العقيدة وأركانها، وبخاصة ما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر وحدودها، أو بمسائل الولاء والبراء، أو ما يتعلق بالجهاد وأحكامه. والمقصود أن سُنَّة الابتلاء والتمحيص التي نعيشها هذه الأيام قد أفرزت مثل هذه المواقف ولله ـ عز وجل ـ الحكمة في ذلك؛ لأن في ظهورها خيراً لأهلها لعلهم يحاسبون أنفسهم فيتخلصون منها؛ كما أن فيها خيراً أيضاً لغيرهم حتى يحذروها ويحذِّروا منها.
الموقف الرابع: موقف المتعجلين المغيِّرين بالقوة:
وهذا الموقف يقابل الموقف السابق؛ فبينما ينحو الموقف السابق إلى التنازل عن بعض الثوابت والتعلق ببعض الشبهات والشذوذات، يذهب أصحاب هذا الموقف إلى الطرف المقابل؛ حيث لم يصبروا على ما يرون من شدائد ومحن وابتلاءات توجه للمسلمين في دينهم وأعراضهم وعقولهم، ورأوا أن الموقف إزاء مثل هذه الابتلاءات هو المواجهة المسلحة دون أن ينظروا إلى ما يترتب عليها من مفاسد كبيرة، ودون أن ينظروا إلى واقعية المصالح التي يسعى لتحقيقها، فنشأ من جراء ذلك أضرار عظيمة عليهم وعلى الدعوة وأهلها في المحيط الذي تدور فيه هذه المواجهات.
وهنا أود التنبيه إلى أنه ليس المعنى في هذه المواقف تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين وديارهم في أفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين وكشمير وغيرها ممن يقوم بجهاد الدفع عن ديار المسلمين المحتلة، وإنما المعني هنا أولئك الذين يرون المواجهة المسلحة في بعض بلدان المسلمين قبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك، مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهاً لوجهٍ مع إخوانهم المسلمين، فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضاً، كما هو حاصل في الجزائر وما قد حصل في بعض البلدان العربية أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في العراق وأفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس والوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار.
ü السُّنة الثالثة: سُنة الإملاء والاستدراج للكفار والمنافقين:
قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182 - 183] .
وهذه السُّنَّة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات؛ وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق؛ وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكِبْر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغاً عظيماً، ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة كما هو الحاصل الآن من دولة الكفر والطغيان أمريكا؛ حيث ظلمت وطغت وقالت بلسان حالها ومقالها: «من أشد منا قوة» . وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله ـ عز وجل ـ ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يحيك في نفسه شيء من هذا؛ لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم وعلى رأسهم أمريكا وحلفاؤها هم الآن يعيشون سُنَّة الإملاء والاستدراج التي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم. قال ـ تعالى ـ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59] .
والله ـ عز وجل ـ لا يستجيب لعجلة المستعجلين، بل له الحكمة البالغة والسنَّة الماضية التي إذا آتت أكلها أتى الكفرة ما وعدهم الله ـ تعالى ـ لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ في هذه الآية السابقة الذكر من سورة آل عمران: «وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يحسبون أن الله ـ حاشاه ـ يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان، أو يحسبون أن الله ـ سبحانه ـ لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته، أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلِمَ تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟ أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر، ثم يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين يلجُّون في عتوهم ويسارعون في كفرهم، ويلجُّون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!
وهذا كله وَهْمٌ باطل، وظنٌّ بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك، وها هو ذا الله ـ سبحانه وتعالى ـ يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن. إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه؛ إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة، وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ لابتلاهم، ولكنه لا يريد بهم خيراً وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه، فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة ـ غمرة النعمة والسلطان ـ بالابتلاء {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير؛ فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم ـ ولو وقع الابتلاء مترتباً على تصرفات هؤلاء الأولياء ـ فهناك الحكمة المغيَّبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين» .
ومن حكمة الله ـ عز وجل ـ في سُنَّة الإملاء للكافرين أن يمكنهم في هذا الإملاء ليزدادوا إثماً وطغياناً يندفعون به بعجلة متسارعة إلى نهايتهم التي فيها قصمهم ومحقهم، وقد بدت بوادر المحق في الأمريكان الكفرة وحلفائهم فيما يتعلق بحقوق الإنسان التي يتشدقون بها وغير ذلك من عوامل المحق والقصم، ولكن الله ـ عز وجل ـ بمكره لهم قد أغفلهم عن سوءاتهم وعما يترتب على حماقاتهم وطغيانهم ليحق عليهم سنته ـ سبحانه ـ في القوم الكافرين، كما أن من حكمته ـ سبحانه ـ في إملاء الكافرين وظلمهم وتسلطهم على المسلمين تحقيق للسنَّة التي سبق الحديث عنها ألا وهي سُنَّة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين.
ففي الإملاء للكفار وتركهم يتسلطون على المسلمين في مدة من الزمن ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، حتى إذا آتت سنَّة الابتلاء أُكُلَها وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء نظيفاً ممحصاً عندئذ تكون سُنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها فيحق القول على الكافرين ويمحقهم الله كرامة للمؤمنين الممحصين الذين يمكن الله لهم ـ عز وجل ـ في الأرض ويخلفون في الأرض بعد محق الكافرين.
قال ـ تعالى ـ: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] .
فذكر الله ـ سبحانه ـ التمحيص قبل المحق ولو محق الله الكفار قبل تهيؤ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم؟ إن الله ـ عز وجل ـ حكيم عليم وما كان ـ سبحانه ـ ليحابي أحداً في سننه ولله ـ عز وجل ـ الحكمة في وضع السُّنَّتين: سنة الابتلاء، وسنة الإملاء في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران. قال ـ تعالى ـ:
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران: 179] .
ولعل من الحكمة ـ والله أعلم ـ أن يُعلمنا الله ـ عز وجل ـ أن هاتين السنتين متلازمتان ومتزامنتان، وأن إحداهما تهيئ للأخرى.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
__________
(1) منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص 60.
(1) رواه مسلم (2865) . (2) الاختيارات الفقهية، ص 447.
(*) التذبُّل: إذا مشت المرأة مِشية الرجال. (1) إعلام الموقعين، 2/ 176.
(2) تفسير ابن كثير عند الآية (179) من سورة آل عمران. (3) في ظلال القرآن، لسيد قطب، 1/525.
(1) للرد على هذه الشبهات: انظر كتاب (فاستقم كما أمرت) للمؤلف.
(2) تحفة الأحوذي (2361) 6/539 وقال الترمذي: حديث غريب. وقال الأرناؤوط في جامع الأصول: له شواهد يرتقي بها.(218/4)
التفكير التفاعلي عند الإمام ابن تيمية وأثره في نجاح دعوته
لمحات حول معالم منهجية التأصيل في كتاباته
د. جمال أحمد بادي
يبدو للباحث المحقق والدارس المدقق لتراث الإمام ابن تيمية الفكري تميزه بالواقعية، وأنه خلاصة تفاعل واحتكاك بين الإمام ومجتمعه الذي عاش فيه. إنه تفاعل مع ظروف وأحداث ذلك الواقع بين تأثير وأخذ ورد يضبطه منهج رصين، وقواعد محددة وأصول محكمة، وأهداف واضحة وغايات حميدة، ومقاصد شرعية تدور حول جلب المنافع ودفع المفاسد؛ والذي هو خلاصة تفاعل مع الوحي المنزل من جهة بتحكيمه والرد إليه واعتباره مقياس الرد والقبول والميزان الذي توزن به الأفكار والآراء والاعتقادات والأشخاص والمواقف، وهذا مما جعل تراثه الفكري موسوعياً يمتاز بالشمول والسعة، ومما جعله يصطبغ بسمات المصدر من الوسطية والإنصاف والعدل وغير ذلك.
وهذا التفاعل تفاعل إيجابي؛ بخلاف التفاعل السلبي الناتج عن ردود الأفعال والذي عادة ما يكون فيه التفاعل ـ إن صح تسميته بذلك لغةً ـ من طرف واحد، والذي قد يكون لأهداف ذاتية من حب الظهور والرياسة والانتقام وغير ذلك، أو لأغراض حزبية طائفية ضيقة.
وقد صاغ الإمام تراثه الفكري عن طريق التأصيل والذي يعني التقعيد للمسائل العلمية بطريقة يسهل استيعابها وإعمالها في الواقع، وقياس غيرها من الحالات المماثلة عليها.
وقد هيمنت هذه الصفة ـ أي التأصيل ـ على كتاباته ومؤلفاته للدرجة التي يمكن عدها معها صفة لازمة لكتاباته العلمية وخصيصة تميز تراثه الفكري. ولعل هذا الأمر هو الذي دعا علاَّمة العصر (الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي) أن يجمع أبرز تلك الأصول والقواعد والضوابط التي وردت في أشهر مؤلفات الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتاب واحد أسماه: (طريق الوصول إلى العلم المأمول من القواعد والضوابط والأصول) والتي فاقت الألف في عددها. ولعل الأمر نفسه هو الذي حدا بأحد محققي (1) كتبه الموسوم: (شرح كتاب الحج من كتاب العمدة) بوضع قائمة بالأصول الواردة فيه آخر الكتاب والتي ناهزت الثمانين.
والتأصيل منهج نبوي،؛ حيث نلحظ ذكره -صلى الله عليه وسلم - لأصل أو قاعدة في معظم أحاديثه، ومن أمثلة ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنما الأعمال بالنيات» ، «الحلال بيِّن والحرام بيِّن وما بينهما أمور مشتبهات» ، «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» ، «خالفوا اليهود والنصارى» ، «لا ضرر ولا ضرار» .
وقد عد ابن تيمية الأصول شرطاً في حصول الفهم والوصول إلى الحق، وبفقدها يُحرَم صاحبها من ذلك الوصول إلى العلم المأمول، فقال: من حُرِمَ الأصول حُرِمَ الوصول.
ومما يراعى في التأصيل: اعتبار القواعد اللغوية، واعتبار القواعد الشرعية واعتبار مقاصدها المرعية، واعتبار القواعد العلمية في «التفسير» ، وفي مصطلح الحديث، وفي أصول الفقه، واعتبار قواعد الترجيح بين الأدلة والدلالات، وقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد وغير ذلك من الاعتبارات العلمية. وإن كانت هذه الاعتبارات لا تنافي المراجعة والتقويم والتنقيح والنقد والتعديل، بل والإضافة والإنشاء والمقايسة والتجديد.
وهذا ما جعل الإمام ابن تيمية يأخذ صفة «المحقق المدقق» ، و «المستوعب الناقد» ولم يكن مجرد حافظ ناقل أو مجرد دارس مسالم. وهذا هو التفاعل الذي آثرت وصف فكر ابن تيمية به في هذا المقال.
ولعل لظروف وقت الإمام وزمانه أثراً في حصول مثل ذلك التفاعل؛ حيث وُجِد التعصب المذهبي الفقهي، والتحزب الطائفي، والفرقة بين المسلمين علماء وأمراء وأفراداً وجماعات، فكانت الموالاة والمعاداة على الطائفة أو الشيخ أو الطريقة أو المذهب مما أطمع الأعداء في الأمة الإسلامية، فتكالبوا عليها كما حصل من التتار.
ولعل لانتشار الجهل بين المسلمين في وقته وما ترتب عليه من تقليد مذموم، ووقوع في المحظورات، والحيرة في المسائل العلمية لعل لها نصيباً أيضاً.
كما كان لما تميز به ابن تيمية من صفات شخصية دور أيضاً، نحو: الذكاء والفطنة، والجد والمثابرة في طلب العلم، وسعة الأفق، والتحرر من كل صيغ الأَسْر الفكرية، وطلب الحق وتحريه، وعلو الهمة وسمو الطموح.
يضاف إلى ذلك تربيته في جو علمي، ونشأته في أسرة عريقة معروفة بحب العلم مشجعة عليه، وترحاله بين كثير من أصقاع العالم الإسلامي في طلبه العلم على أيدي علماء أجلاء.
كما كان لتقواه وقوة إيمانه وصلته بالله ـ تعالى ـ أثر أيضاً، حيث كان يداوم على ذكر الله واللجوء إليه ودعائه عند اشتباه المسائل واختلاف الآراء.
كما كان لتعدد الوسائل التي استعملها في بث العلم وإقامة الحجة من تدريس ومحاورة ومناظرة ومطارحة وتأليف وردٍّ دور كذلك توّجه بتدوين أفكاره ومحصل آرائه، وما دار بينه وبين مخالفيه وخصومه في كراريس ومدونات كتب الله ـ تعالى ـ لها البقاء لتستفيد منها الأمة في عصور لاحقة كعصرنا المشابه لعصره.
ويمكن تقسيم محاور ذلك التفكير التفاعلي بالنظر إلى منهجه في التأصيل إلى الأقسام التالية:
القسم الأول: التأصيل ابتداء: وهو هنا آثر لا ذاكر، وناقل متبع لا منشئ مبتدع إذا تعلق الأمر بما أجمع عليه من سلفه من الصدر الأول وسائر العلماء المجتهدين.
وهو هنا يلتزم الإنصاف وعدم التعصب لقوله ومن يذكر القول عنهم، من جهتين:
الجهة الأولى: عدم الجزم ولا القطع بضلال كل من خالف تلك الأصول، ولا التجرؤ بالقول بهلاكه؛ فضلاً عن القول بتفسيقه أو تبديعه؛ إذ قد يكون ذلك المخالف معذوراً عند الله نحو ما قاله في آخر «الواسطية» .
الثانية: اعترافه بخطأ بعض المنتسبين إلى السنة والحديث في بعض المسائل العلمية والمنهجية التي جانبوا فيها الصواب، وبيانه لذلك.
ومن مسائل التأصيل ابتداء في غير ما سبق كمنهج علمي التزمه ابن تيمية وسار عليه ما يلي:
التأصيل والتقعيد لكل مسألة يبحثها ليتم قياس ما شابهها من المسائل عليها، وحتى يكون بثه للعلم بصورة عملية تمكن القارئ لكتبه استيعاب المسائل لا مجرد التلقين والحفظ ثم الوقوف عند ذلك وعدم المقدرة على تطبيقه وإنزاله خارج دائرته كما هو الحال في تدريس العلم اليوم في كثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية.
القسم الثاني: التأصيل رداً: بأن يؤصل ويقعِّد للمسائل وفي ذهنه ومقصوده الرد على فرقة ما أو على أخطائها وشبهاتها، ولكن دون ذكر لتلك الطائفة ودون ذكر وبيان أنه يرد عليها. وهو منهج بعض أئمة السنة في مؤلفاتهم كالإمام البخاري في بعض أبواب كتاب التوحيد من صحيحه، والإمام مالك في بعض أبواب موطئه المتعلقة بمسائل بالتوحيد.
هذه القواعد ما كانت لتقال لولا أن الحاجة دعت إليها بسبب إنكار أهل البدع لجزئيةٍ ما في العقيدة أو نحوها، أو لبيان مشكل وغير ذلك.
وقد يستدل في هذا الموضوع بأقوال بعض أئمة مخالفيه الذين وافقت أقوالُهم ما بيَّنه من الحق في المسألة، مع تنبيهه أحياناً على أن ذلك المخالف لم يحالفه الحظ في المسائل الأخرى، كقوله في أول «الحموية» : «يقول فلان ـ وإن كنا لا نقول بكل ما يقول ـ» . وهو بفعله وصنيعه ذلك يحقق أهدافاً منها: الأول قوة حجة القول الذي ينتصر له؛ إذ قال به بعض أئمة من يقول بخلافه في المسألة، والثانية الإنصاف في حق المخالف وإظهار ما قال به من الحق، والثالثة قبول الحق من كل من جاء به وإن كان مخالفاً، بل وإن كان عدواً شانئاً.
وهي على وجوه: منها: أن تكون «بالإضافة» إلى قاعدة أو أصل متأسس نحو:
- (بائن من خلقه) أضيفت إلى قول أهل السنة (مستو على عرشه) .
- (غير مخلوق) أضيفت إلى قول أهل السنة (القرآن كلام الله تعالى) .
وقد تكون ببيان الحق في المسائل «المتشابهة» والتي يثيرها أهل البدع بعد انتشارها وذيوعها لا سيما في المصنفات، والتباس الحق فيها على الناس لدقتها وغموضها، وإن خالف بذلك «موقف» ولا نقول «منهج» من سبقه من أئمة السنة. ومن أمثلة هذا النوع من البيان مسألة «التفريق بين اللفظ والملفوظ» في (القرآن الكريم) والتي تفرعت عن البدعة بقول خلق القرآن. وهو هنا تميّز عن موقف الإمام أحمد ومن وقف موقفه في المسألة؛ وذلك لاختلاف الحالين؛ ففي عهد الإمام أحمد لم تكن المسألة قد انتشرت بعدُ، وخشي الأئمة أن يفضي القول بها مع دقتها وغموضها إلى القول بخلق القرآن. أما في عهد الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فنجد أن المسألة قد انتشرت وذاعت والتبس أمرها على بعض المسلمين، فلزم بيان وجه الحق فيها وإن كان ما قال به قد لقي الإمام مسلم (*) بسببه ما لقي لاختلاف الظروف والأحوال.
وقد تكون بمحاولة فهم بعض مدلولات النصوص العقدية الواردة في بعض الأحاديث الثابتة في ضوء الحقائق العلمية التي وصل إليها العلم في زمانه، كما في شرحه لحديث النزول، وكما في «الرسالة العرشية» .
وقد تكون بالقول بإمكان اجتماع النقيضين في حل المعضلات العقدية ـ وهو الواقع والحق ـ كما في مسألة مرتكب الكبيرة ـ والتي حيرت أغلب الفرق الإسلامية؛ حيث قال بإمكان اجتماع الإيمان والكفر، والسنة والبدعة، والطاعة والمعصية في الرجل الواحد، ولا يعني الحكم عليه بما طرأ عليه خلاف الأصل، ثم بين أن الحكم لما غلب من الأمرين. بل ذهب إلى أبعد من هذا بقوله بإمكانية صدور البدعة ومخالفة الصواب من «الصدِّيق» الذي تأتي مرتبته في الفضل بعد مرتبة الأنبياء.
ومن ذلك الأصول التي قعَّدها في شأن الأعذار التي قد تكون سبباً في رفع أو دفع العقوبة عمن صدرت منه مخالفة للشرع في أمور الاعتقاد، وأخرى في حق من صدرت منه مخالفة للشرع بارتكاب المعصية.
وهذه الأصول المذكورة أعلاه هي ضمن سلسلة الأصول والضوابط المعيارية التي قعَّدها في الحكم على المخالف، معتبراً المعيار الذي استعمله المعتزلة وتابعهم عليه غيرهم فيما بعد بتقسيم الدين إلى أصول أو أمور علمية يكفر مخالفها، وفروع أو أمور عملية لا يكفر مخالفها مردوداً.
ويشبه المعيار السابق من قسم الدين إلى أمور جلية يكفر مخالفها، وخفية لا يكفر مخالفها؛ باعتبار أن الجلاء والخفاء من الأمور النسبية زماناً ومكاناً.
وكذا الأمر بالنسبة لمعيار الخوارج في الحكم على المخالف باعتبار المخالفة لما هم عليه مقياساً في الحكم على الآخرين بأنه مردود ولا يستقيم.
الثالث: الرد تأصيلاً: وهو بأن يقصد بإظهار انحراف طائفة ما ليحذر منها، وينص على شبهاتها التي يتناولها بالدحض والنقد. وهو عندما يقوم بذلك يستنبط القواعد ويؤصل الأصول المنهجية لضبط المسائل وإقامة الحجة وبيان المحجة.
وهو منهج لبعض الأئمة أيضاً، ومعظم كتب الردود على الفرق والطوائف الضالة والمبتدعة يمكن عده ضمن هذا النوع.
ومن أمثلة هذا النوع: الأصلان والمثلان في الرسالة التدمرية.
ومنها القواعد المذكورة في شأن أنواع التأويل الممنوع منها والجائز في كتاب (درء التعارض) (1) .
والإمام ابن تيمية في تطبيقاته لجزئيات وأفراد هذا النوع من التأصيل عادة ما يلجأ إلى أساليب الحوار والمناظرة والمحاجَّة مع مخالفيه بعد تبين ما عندهم وفهم ملابسات الموضوع قيد المناقشة والحوار، والإلمام بالقواعد والأصول التي بنوا عليها آراءهم، بل يصل الأمر إلى استيعاب مذهب المخالف أفضل من أئمته حتى يلتبس شأنه على أتباعه فيظنونه من أئمة مذهبهم لولا أنه يبين لهم بعد الحديث معهم ليطمئنوا إلى أنه يناقشهم عن بينة وفهم لا لمجرد الادعاء أو المخالفة، ثم يبين لهم خطأ مذهبهم. كما ذكر ذلك في «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» .
وأخيراً فإن الحاجة ملحة في التأكيد على هذا المنهج التأصيلي لأسباب منها: أنها تمكِّننا من استيعاب كتابات الإمام ابن تيمية وفكره الموسوعي، والإفادة منها في دراستنا المعاصرة، كما أن استيعابها يقودنا إلى الاقتداء بها وتطبيقها في كتاباتنا وبحوثنا العلمية مما يكون له أثر إيجابي في أن تؤتي ثمراتها المرجوة بإذن الله.
__________
(1) المحقق هو فضيلة الأستاذ الدكتور سعود العطيشان.
(*) تفصيل ذلك في مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم.
(1) والتي اختصرها مع النسج على منوالها تلميذه ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الصواعق المرسلة.(218/5)
الهزيمة النفسية.. وفقه المرحلة
عبد العزيز عبد الله الحسيني
الهزيمة النفسية سقوط حضاري لا يضاهيه نوع آخر من الهزائم العسكرية التقليدية، وخطورتها تكمن في كونها استعماراً للعقول والقلوب، قبل أن تكون استعماراً لخيرات الأرض ومقدراتها.
وعلى شدة وقع الاستعمار العسكري إلا أنه وسيلة قوية لإيقاظ الأمة من غفلتها، وتقوية لُحمتها، وتحرُّك غيرتها، وإحياء حميّتها الدينية، وفي النهاية طال هذا الاستعمار أم قصر فإن مصيره الرحيل.
أما الاستعمار النفسي فيتغلغل في نفوس معظم أبناء الأمة دون أن يدركوا أثره وخطره؛ بل دون أن يشعروا بإصابتهم به!
ولأثر هذا الغزو النفسي فقد فطنت بعض الدول إلى أهميته حتى غدا عنصراً مهماً في الحملات الفكرية والإعلامية الموجهة للدول المغزوّة أثناء الصراعات الحضارية، كي يدب فيها الوهن ويدوم اليأس.
- من أسبابها:
لعل من أهم أسباب هذه الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة في مقتل وأدى إلى ضعفها ووهنها، بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وجهلهم بحقيقته، ومرارة الواقع الذي يعيشونه، وخذلان المسلمين بعضهم بعضاً، وعدم اتحادهم أمام قوة أعدائهم، وعدم إدراكهم لأسباب المد والجزر في تاريخ أمتهم، وعدم إلمامهم بعوامل النصر والهزيمة، وتأثرهم بوسائل الإعلام الموجهة إليهم التي يحرص الغرب من خلالها على إبراز أنشطته العسكرية وقدراته الحربية واستعراض أسلحته وتقنيته المتطورة، وإشهار اكتشافاته العلمية وغزوه حتى للفضاء الخارجي، ونحو ذلك من الأمور التي تُعزز مكانته وتوهن غيره وتوحي له بالعجز واليأس، بالإضافة إلى ما يرونه من هيمنة أعدائهم على معظم المنظمات والبنوك والهيئات الرسمية واستغلالها لإخضاع الدول الإسلامية وإخضاع بعضها بالعقوبات والمقاطعات الاقتصادية، وأحياناً بالقوة والتدخل العسكري إذا لزم الأمر.
مثل هذه الأمور مجتمعة ولّدت هزائم نفسية متتابعة، كان الغرب يهدف إليها ويغذيها بشتى وسائله الإعلامية والسياسية والاقتصادية، ليستمر التخدير، ويدوم الخنوع.
وتجاوز الأمر قنطرته وأثَّر رجع ذلك الصدى في بعض أبناء جلدتنا ـ الانهزاميين ـ الذين أكدوا هذه الهزيمة وعززوها؛ بكتاباتهم وتحليلاتهم الانهزامية في الصحف والمجلات والفضائيات بثنائهم المبالغ فيه على الغرب وحضارته وقيمه وقوته وديمقراطيته، وأنه إنما سيطر على هذه الأمة بسبب ضعفها وتخلفها في الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والتقنية فحسب.
ومع مصداقية بعض تلك التحليلات ظاهرياً؛ لكونها أعراضاً للمرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا؛ إلا أن أولئك الكتاب والمحللين جعلوها أمراضاً مستقلة ينبغي أن يتجه إليها العلاج مباشرة، وذهلوا ذهولاً أعمى عن (السبب الأساس) في نشوء تلك الأعراض، وحادوا عن استلهام تعاليم القرآن، وتوجيهات السنَّة، واستقراء التاريخ، ومعرفة السنن الجارية، والنواميس الشرعية، حول أسباب ضعف الأمة الإسلامية والمخرج منها، ولم يتطرقوا إلى ذلك من قريب أو بعيد، لعدم إدراكهم لأبجديات تلك المسائل، ولجهلهم بفقه الهزيمة التي حلّت بالأمة، ولخوضهم في أمور لا يملكون أدواتها، ولتصدرهم لقضايا لا علاقة لتخصصاتهم فيما يتحدثون عنه أو يكتبون فيه، وللهوى والحقد الذي يُكنّه بعض أولئك لهذا الدين.
وللأسف فإن ذلك الطرح المادي المتكرر، قد أثر على قطاع عريض من شباب المسلمين، وكان سبباً في صرفهم عن عودتهم لهذا الدين، وإصابة غيرهم باليأس والقنوط، وأصبح بعضهم الآخر (يُسقط) تقصيره وأخطاءه على غيره، ويخرج نفسه من مغبّة مسؤولية ضعف أمته وهوانها، فعطلوا طاقاتهم وقدراتهم، بل وجميع أسلحتهم المعنوية الأخرى؛ فهم برأيهم ـ وكما فهموه من أولئك المحللين الانهزاميين ـ لا يملكون شيئاً لمواجهة تلك القوة القاهرة؛ حتى أصبح كثير منهم يعتقد أن هذا الواقع السيئ أمر لا مفر عنه وشر لا بد منه، فأصيبوا بهزيمة نفسية محبطة، وأصبحوا لا يؤمنون ولا يعتمدون ولا يطمئنون ولا يثقون، إلا بالقوة المادية فحسب، وغدوا ينظرون إلى الغرب بنفسية الغالب والمغلوب، وجنت الأمة آثار تلك الهزيمة النفسية المحبطة، وهو ما تعيشه اليوم بكل مآسي الواقع ومرارته.
- من آثار الهزيمة النفسية:
لا يحتاج المرء إلى كبير تأمل ليدرك إلى أي مدى أثرت هذه الهزيمة النفسية في واقع أمته؛ فهي لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان، وألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية، والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق لعدوها ما أراد من السيطرة على معظم أفرادها نفسياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً بل وسلوكياً.
وإنه ليصعب على المسلم أن يُشخّص الآثار المترتبة للهزيمة النفسية على أمته دون أن يصاب بحشرجة يصعب معها مواصلة حديثه، ومن يُتابع وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، يجد أن الأمة الإسلامية بلغت ـ بسبب عجزها ويأسها ـ حداً لا مزيد عليه من الذل والهوان، حتى إنه لا يكاد يوجد عضو من أعضائها، إلا وفيه جرح ينزف، ودم يثعب، وشعب يُهان، وحرمات تنتهك، وأراضٍ تغتصب.
ووصلت أوضاع أمتنا إلى منتهى (الانحطاط والتخلف) (1) ، وأصبحنا نعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وتداعت علينا الأمم الكافرة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتسلطوا علينا من كل جانب، وأصبحنا نعيش عصر (الغثائية) التي أخبر عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أوَ من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» (2) .
نعم! مليار ومئتا مليون مسلم، ولكن لا وزن لأكثرهم ولا قيمة، معظم دُولهم ضعيفة تعاني الفساد وتشكو الفقر، وأكثر شعوبهم مسكينة تعاني الجهل وتشكو القهر.
وجنت الأمة آثار الهزيمة النفسية التي تعايشت معها سنين طويلة، ولم تستطع معظم دولها الخروج منها حتى الآن؛ بل ولم تبذل ما يوحي بمجرد المحاولة، فقعدت واستسلمت وتخلفت وذلت، فاستُبيحت (3) .
- فقه الضعف والقوة:
القوة المادية ـ في كل زمان ومكان ـ هي إحدى دعائم الأمم والدول، ولا ينبغي التهوين من شأنها أو التشكيك في أثرها؛ فهي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب شرعي، وطلب النصر من دون بذل الغاية القصوى في الإعداد ـ حسب سنن الله ـ عبث بالأسباب، وتعطيله تعطيل لحكمته سبحانه؛ فالله ـ تعالى ـ جعل للطير والبهائم عُدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب، وخلق للآدمي عقلاً يقوده إلى حمل الأسلحة ويهديه إلى التحصن بالأبنية والدروع، ومن عطّل نعمة الله في ترك السبب فقد عطّل حكمته (4) .
فلا أحد يقلل من أثر القوة المادية وشدة الحاجة إليها؛ إلا أن المبالغة في الحديث عنها، وإشعار شباب الأمة أن ما هم فيه من الذل والهوان، إنما هو بسبب ضعف قوتهم المادية، وأن طريق النهوض والخروج من الهوان الذي حلّ بأمتهم إنما يكمن ـ فقط ـ في الحصول على تلك القوة ومجارات الغرب في تقدمه العلمي والتقني حتى يصبح لنا قوة تضاهي قوته، ونحو ذلك من المفاهيم الخاطئة التي ولّدت الكثير من السلبيات المتعددة. فبالإضافة إلى كون ذلك المفهوم خطأ محضاً يخالفه التاريخ والواقع، وكونه انحرافاً كبيراً في التصور الصحيح لمفهوم القوة والموازنة بينها وبين القوة الروحية ـ كما سيأتي ـ فهو أيضاً صرف لشباب الأمة عن واقع أمتهم من حيث بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وعدم إشعارهم بأثر ذلك في ضعف أمتهم وهوانها، كما أن التركيز على القوة المادية وجعلها المخرج الوحيد لأزمة الأمة وهوانها فحسب؛ تعطيل للقوة الروحية التي تمتلكها الأمة، وتغييب لها في نفوس أبنائها بالرغم من أهميتها وأثرها الكبير في تغيير نفوسهم وإحياء روحهم وإعادة الثقة إليهم، كما أن التركيز على القوة المادية فحسب استمرار لهزيمتهم النفسية وزيادةٌ ليأسهم وقنوطهم من إمكانية نهضة أمتهم مرة أخرى؛ إذ إن الأمة الإسلامية الآن لا تملك ذلك التفوق المادي الذي تضاهي به ما تملكه الدول الغربية؛ فهم قد سبقونا في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر ولو بعد عدة قرون أن نجاريهم في هذا الجانب فضلاً عن التفوق عليهم ـ إلا أن يشاء الله تعالى ـ.
ومع أهمية القوة المادية وضرورة العناية بها، إلا أن أمتنا تمتلك من مقومات القوة والنهضة ما هو أهم من القوة المادية البحتة، تمتلك القوة الإيمانية، وكانت السبب الأول في نهضتها وعزها في ذلك الوقت، وهو ما نؤمِّل أن يكون سبباً في نهضتنا وعزتنا مرة أخرى.
ولا أقصد من هذا التقليل من شأن القوة المادية، أو أن نيأس ونقنط من إمكانية امتلاكها، أو أن نُسلّم ونستسلم لأعدائنا لعدم مجاراتهم في قوتهم المادية، بل لا بد من السعي الجاد للإعداد والاهتمام بالنواحي العلمية والتقنية والعسكرية والحربية، وأن نبذل فيها غاية جهدنا ووسعنا، ولكن لا بوصفها (الإكسير) الذي سيعيد لنا العزة والهيبة المفقودة، وإنما بوصفها (مطلباً) لعمارة الأرض واستخلافها، و (ضرورة) ذاتية لوجودنا وتقدمنا، و (حاجة) ملحة للذبّ عن ديننا ومواجهة عدونا (1) .
والله ـ تعالى ـ أمرنا بذلك وأوجب علينا العناية بالنواحي المادية، وعمارة الأرض، وإعداد القوة، فقال ـ سبحانه ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، فالله أمرنا بالإعداد ولكن حسب الاستطاعة، والمقصود بذلك كما يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي مهما أمكنكم» (2) ، والإعداد حسب الاستطاعة ـ مع الإيمان ـ من أسباب النصر لا من أسباب الهزيمة. وحينما ذكر الله ـ سبحانه ـ القوة فقد أطلقها دون قيد، وفي ذلك أيضاً دلالة صريحة على أن القوة نسبية، فلا يُشترط التكافؤ فيها، فضلاً عن أن يكون لدينا قوة أعظم مما لدى العدو.
ولذا يجب عدم الاستسلام للعدو وإيقاف المقاومة (جهاد الدفع) ، إذا احتل بلداً من بلاد المسلمين، بحجة عدم كفاية الإعداد، ليقوم العدو بعد ذلك بابتلاع ديار المسلمين بلداً بعد آخر، فلا بد من الدفع حسب الاستطاعة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يُدفع بحسب الإمكان» (3) .
وإذا رأى علماءُ أهلِ بلدِ النازلةِِ عدمَ قدرتهم على الجهاد، فليس شرطاً أن يكون ذلك عبر أساليب قتالية، وإنما عبر وسائل كثيرة: علمية، أو اجتماعية، أو دعوية، أو إغاثية، أو إعلامية وهو الأهم ـ والأهم جداً ـ في هذا العصر، ونحو ذلك مما يحتاجه أهل كل بلد؛ فهم الأدرى بحسابات المصالح والمفاسد، والضرورات الشرعية التي تُقدر بقدرها.
ومثل تلك الحسابات والضرورات التي لها علاقة بمصير أمة ما، ينبغي ألا ينبري لها آحاد العلماء وأفرادهم، فلا أحد يؤمَن عليه النقص أو الزلل، وإنما الذي يُقدّر الجهاد من عدمه، علماءُ أهل بلد النازلة الراسخون في العلم، أهل الدين الصحيح، ولا يكفي هذا، بل لا بد أن يكونوا من الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ: «الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا» (4) .
ومشكلة كثير من المسلمين اليوم في نظرتهم للقوة المادية، أنهم ما بين مُشرّق ومُغرّب:
- فبعضهم يهوّن من القوة المادية ويقلل من أثرها والعمل على امتلاكها، لدرجة أن بعضهم يرى قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ويتناسى ما بعدها: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فغفلوا عن الغرض من إعداد القوة، وهو إرهاب العدو.
- وبعضهم الآخر، ضخّم قضية القوة المادية وبالغ في أثرها، وعلّق ثقته بها واعتماده عليها، حتى جعل بعضهم من القوة المادية إلهاً يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحوُ الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع» (5) .
والتوازن في النظر إلى القوة المادية أمر مطلوب؛ فهي سبب وإن كانت من أهم الأسباب إلا أنه ينبغي عدم الاعتماد عليها، وانظر وتأمل آثار التعلق والاعتماد على السبب: ما نتائجه وعواقبه؟ لقد كان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في كل غزوة يشاركون فيها أقل عدداً وعُدّة من عدوهم، وكان اعتمادهم بالنصر على الله ـ تعالى ـ وحده، فكان النصر حليفهم والفوز رديفهم، عدا معركة واحدة هي معركة (حنين) شاركوا فيها وكانوا أكثر عدداًَ، فاعتمدوا ـ في البداية ـ على ذلك، حتى قال قائلهم: «لن نُهزَم اليوم من قلة» ، فوكلهم الله ـ تعالى ـ إلى السبب الذي اعتمدوا عليه، فلم يُغن عنهم شيئاًَ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] .
فنحن أمة رسالة، نستمد قوتنا وعزتنا من ديننا أولاً، وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد أمرنا بإعداد القوة المادية، فقد أمرنا قبل ذلك بإعداد القوة الإيمانية، فلا ينبغي الاعتماد عليها فحسب؛ وما قيمة الإيمان حينئذٍ إذا كان مطلوباً منا ـ كما يزعم بعض الانهزاميين ـ أن نعد قوة كقوة العدو، وألا نقاتله حتى نماثله في القوة، فالمسألة توازن لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان الإعداد المادي (مهمّاً) وهو كذلك؛ فإن الإعداد الروحي والزاد الإيماني (أهمُّ) وأوْلى. فمن المسلّم به أن المقدمات إذا صحّت، أعقبها نتائج مثمرة بإذن الله.
والشواهد تدل على أن حركة التاريخ لا تخضع للعوامل المادية فحسب؛ وإلا فما كان لموسى أن يصارع فرعون، ولا للضعفاء أن يقاوموا المستبدين من المستعمرين، ولا لمحمد -صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه أن يقاتلوا قريشاً والقبائل العربية وفارس والروم. ولولا الخيانات لما سقط (العراق) حتى وإن تفوَّق الأعداء في العدد والعدة، وبالرغم من تلك القوة القاهرة؛ فإن المقاومة العراقية ما زالت صامدة ثابتة، ولو تمكنت من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي يمتلكها العدو لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم. قال ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] .
ومن يستقرئ التاريخ يجد فيه ما يبدد التشاؤم ويرفع اليأس ويزرع الثقة ويُذكي الأمل؛ فليس شرطاً أن الأمم المؤمنة بالله لا تتفوق ولا تنتصر على أعدائها إلا إذا كانت مكافئة لهم أو أقوى عدداً وعدة منهم.
بنو إسرائيل، كانوا يعيشون في مصر، وكانت بالنسبة لهم بيئة قاتمة خانقة، قد أطبقت عليهم كل الإطباق، وسدت في وجوههم المنافذ والأبواب؛ فهم يعيشون في حاضر شقي، ومستقبل مظلم، وقلة عدد وعدة، وفقر وذلة، وفي ظل هذه الظروف يولد موسى ـ عليه السلام ـ وولادته وحياته كلها تحدٍٍّ لفلسفة الأسباب، ومنطق الأشياء: أراد فرعون ألا يولد فوُلد، وأراد ألا يعيش فعاش. يعيش في صندوق خشبي مسدود، وفي ماء النيل الفائض، وينشأ عند عدو قاهر، وسُخرة ظالمة، لا قوة تدافع ولا دولة تحمي؛ فيجد الضيافة الكريمة، ويزوجونه إحدى بناتهم، ويرجع بأهله فيلفُّه الليل المظلم والطريق الموحش، وتتمخض زوجه فيطلب لها ناراً تصطلي بها، فيجد نوراً يسعد به بنو إسرائيل، ويهتدي به العالم، يطلب النجدة والمدد لامرأة واحدة، فيجد النجدة والمدد للإنسانية كلها، ويكرم بالنبوة والرسالة، ويدخل على فرعون في أُبهته وسلطانه، وفي ملئه وأعوانه. وهكذا يهلك فرعون وقومه (الأغنياء الأقوياء) ويملك بنو إسرائيل (الضعفاء الفقراء) : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] .
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي (القوة) التي قهر بها موسى (أعظم قوة) في عصره ومصره؟! وما سر انتصار بني إسرائيل على أعدائهم؟! وما (سلاحهم) الذي واجهوا به العدو القاهر الكاسر (1) ؟
وماذا لو كان موسى ـ عليه السلام ـ يفكر تفكير كثير من المسلمين اليوم، ويستعرض الإمكانات والقوة التي يملكها هو وقومه، ويوازنها بما يملكه فرعون وجنده، بنظرة مادية محضة، هل كان سيواجه فرعون ويدخل معه في حرب لا هوادة فيها؟!
ومثال آخر: أرجو أيضاً أن يكون في ذكره ما يبدد اليأس ويزرع الأمل والثقة:
فالأمة العربية كانت أمة موغلة في التخلف والضعف والهوان والانحطاط في معظم الميادين والمجالات، السياسية والعقدية والاجتماعية والسلوكية والحربية.
ومن كان هذا شأنهم فإنهم لا يفكرون ولا يحلمون حتى في المنام بالهجوم على الدول المجاورة فضلاً على الانتصار عليها، حتى إن فارس والروم (الدول العظمى في ذلك الوقت) لم تفكرا مجرد تفكير في فتح الجزيرة والاستيلاء عليها، وذلك لقلة خيراتها ومواردها، وهوان أهلها عليهم.
ولكن الله ـ تعالى ـ امتن على تلك الأمة بأن بعث فيهم خاتم أنبيائه ورسله محمداً -صلى الله عليه وسلم -، فجاء إليهم وعندهم من الفساد والهوان والبعد عن الفطرة ما ذُكر، وفي ظل سنوات معدودة، تغيرت حالهم، وانقلبت أمورهم، فخرجوا من جزيرتهم كالسيل الجارف يفتحون ويقهرون، بثياب مرقعة، وسيوف بالية، على خيل بعضها عارية؛ فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وانقلب رعاة الشاة والإبل إلى ساسة لأرقى الأمم.
هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا الانقلاب الهائل في جميع الميادين والمجالات، اعتبره المؤرخون الغربيون لغزاً من ألغاز التاريخ، بل رأوا أن هذا الحدث هو أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني كله.
لماذا سموه لغزاً؟
لأنهم قالوا: إن العادة جرت أن الغلبة والانتصار للدول بسبب أمرين: إما كثرة عدد أو قوة عتاد، والأمة العربية في ذلك الوقت لم تكن تملك لا كثرة عدد ولا قوة عتاد.
أما مسألة العدد:
فكلنا نعلم أنه ليس هناك معركة شارك فيها المسلمون إلا وهم أقل عدداً وعدة: بدر ـ أحد ـ الأحزاب ـ المريسيع ـ مؤتة ... إلخ، عدا معركة واحدة، كان المسلمون فيها أكثر عدداً وعدة وهي معركة حُنين، وقد سبق أن ذكرنا ما حصل فيها من اعتمادهم على كثرتهم فلن تغن عنهم شيئاً. كل ذلك ليُشعرهم ـ ومن بعدهم إلى قيام الساعة ـ أن المسلمين لا ينبغي أن يتعلقوا بأي سبب من الأسباب المادية، لا بكثرتهم، ولا بقوتهم، وإنما بإسلامهم وإيمانهم وتوكلهم على ربهم وثقتهم به أولاً.
أما مسألة قوة العتاد:
فالمسلمون لم يكونوا متقدمين في ذلك الوقت بأي نوع من أنواع السلاح، والجيش لم يكن منظماً، إنما هم مجموعة من المتطوعين يجهزون أنفسهم بأنفسهم حتى إن بعضهم كان يسمع منادي الجهاد فيخرج وما معه شيء، لا رمح ولا سيف ولا مركب {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92] (1) . ومع ذلك اكتسحوا العالم المعروف كله.
فما هي القوة التي قهر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم - من وقف في طريق دعوته؟ وما سر انتصار المسلمين في معظم الغزوات التي شاركوا فيها وأخضعوا أعظم قوتين في عهدهم (فارس والروم) تحت حكمهم وسيادتهم؟ وما سلاحهم الذي واجهوا به جميع أعدائهم الذين كانوا يفوقونهم عدداً وعدة؟
والجواب: ليس لغزاً ولا يحتاج لكثير تأمل؛ فنحن معشر المسلمين نعرف أن الإيمان هو السبب الذي عز به المسلمون وسادوا.
وتصوروا ماذا لو كان الرسول -صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من صحابته الكرام يفكرون تفكير كثير من المسلمين اليوم ويوازنون ما يملكونه بما يملكه أعداؤهم من القوة المادية فحسب؟ وما كان مصير الإنسانية لو قال المسلمون في ذلك الوقت: لا حول لنا ولا قوة في مقارعة تلك القبائل والدول، ولا ينبغي أن نقاتلهم حتى نملك مثل ما يملكون من كثرة العدد وقوة العتاد؟
لو قالوا مثل ذلك، فهل كانوا سيُخضعون العالم في ذلك الوقت تحت نفوذهم وسلطانهم؟
ولأجل ذلك كله، فإن سبب ضعف أمتنا، وذلها، وهوانها، وتسلط أعدائها عليها، ليس لأنها متخلفة علمياً وتقنياً وحربياً وعسكرياً ـ وإن كان لذلك أثر ولا شك ـ إلا أن السبب ـ الرئيس ـ لضعفها وتخلفها هو بعدها عن دينها، وما تخلفها في النواحي العلمية وغيره من المجالات إلا أعراض للبعد عن الدين، وهو المرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا، وكان السبب الأول في ضعفها وهوانها، وهو عقوبة من العقوبات الإلهية لبعد الأمة عن دينها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وحيث ظهر الكفار، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهراً عليهم، كان ذلك لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً» (2) .
ولذا فإنه لا مخرج من الحالة المتردية والأوضاع المأساوية التي تعيشها أمتنا، إلا بالرجوع إلى هذا الدين القويم.
الهزيمة النفسية داء عضال لم يتسلط على إنسان إلا أودى به، ولا على أمة إلا ساقها إلى الفناء.
وأمتنا اليوم لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطّمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان؛ حيث ألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس، إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة، أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق للعدو ما أراد من السيطرة على كثير من أفراد هذه الأمة نفسياً ومن ثَم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسلوكياً.
- حتى لا نيأس:
في عصور مضت دانت القوة والغلبة للأمة الإسلامية واستمرت قروناً طويلة، وحينما بدأ المسلمون بالتخلي عن دينهم بدأ الضعف يدب في أوصالهم حتى دانت القوة والغلبة لغيرهم.
وحينما استكملت أمريكا أسباب النصر من القوة وإقامة العدل وأداء الحقوق وعدم الظلم لرعاياها؛ دانت لهم القوة حسب سنن الله الجارية في التمكين والاستخلاف. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة» (3) .
واليوم بدأت تتعالى الأصوات وترتفع من عقلاء أمريكا قبل غيرهم، محذرين من السقوط والزوال، بعد أن فقدت أمريكا تلك الخاصية، وأصبح الظلم والإرهاب والاستبداد وانتهاك حقوق الآخرين والجور والغطرسة، سمة من أهم سماتها. وستسقط حتماً كل دولة تجعل من الظلم والاستبداد والقهر والإرهاب منهجاً لها ومبدأً من مبادئها، فالكون يسير حسب نواميس شرعية ووفق سنن جارية، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] .
وليس المهم متى سيحدث ذلك؛ إنما المهم أنه سيحدث إن عاجلاً أو آجلاً، والذي أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى، قادر على أن يهلك مَنْ دونهم، وأن يسلط عليهم جنداً من جنده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] ، وأمتنا متى استكملت أسباب النصر والتمكين فإنها حتماً ستعود قوية عزيزة، في هذا الجيل أو الذي بعده، والنصر والتمكين ليس شرطاً أن يراه الداعية بعينه؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم - وعد بفتح فارس والشام واليمن، ولكن ذلك لم يتحقق إلا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم - بسنين. فدعوة الله لا بد أن تعلو، ودين الله لا بد أن ينتصر ويسود، ولا نقول هذا جُزافاً؛ وإنما هو عقيدة نستقيها من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم -.
- المد والجزر في تاريخ المسلمين:
أقول هذا بعد أن بلغ اليأس والقنوط والإحباط ـ من عودة هذه الأمة إلى مجدها ـ منتهاه عند قطاع عريض من المسلمين، ونسوا أن ما تمر به الأمة من ضعف، إنما هو مرحلة سبق أن مر بها ما هو أشد ضراوة وأعنف شراسة؛ فقد تعرضت من قبل وعلى امتداد تاريخها الطويل لمحاولات عديدة للقضاء عليها واستئصال شأفتها وإبعادها عن دينها ومصدر عزها، ولكنها في كل مرة كانت تقوم من جديد، بعزيمة أقوى وشكيمة أشد، ومن يستقرئ تاريخ أمتنا، يجد أنه كان بين مد وجزر؛ فمتى كانت الأمة قوية بدينها وحققت أسباب النصر عزّت وسادت، ومتى ضعف تمسكها به ذلّت واستكانت، وإليك مصداق ذلك:
- قبل وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم -، كانت الأمة في عز وسؤدد، وقوة ومنعة، وحينما توفي -صلى الله عليه وسلم -، مرت الأمة بأزمة عصيبة، ومرحلة خطيرة؛ حيث عَظُمَ الخطب، واشتد الكرب، وظهر مدّعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، وارتد من ارتد من العرب، حتى إنه لم يبق للجمعة مقام في بلد سوى في مكة والمدينة، وأصبح حال المسلمين كما يقول عروة ـ رضي الله عنه ـ: «كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم» حتى وُجد من المسلمين من بلغ به اليأس أن قال لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «إن هؤلاء جُل المسلمين والعرب على ما ترى قد انقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين» (1) .
في ظل تلك الأوضاع، واليأس قد بلغ منتهاه، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة مرة أخرى؟!
ولكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لم يعتره اليأس، ولم يتملكه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث، وهذه البلبلة، وهذه النكبات، بإيمان راسخ، وعزيمة ثابتة، وتفاؤل عظيم، حتى ثبت وحارب مدعي النبوة والمرتدين، وأعاد للمسلمين قوتهم، وللخلافة هيبتها، ولليائسين تفاؤلهم.
وفي القرن الرابع الهجري من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة، حينما قام القرامطة في عام 417هـ باستباحة مكة يوم التروية! «حيث نهبوا أموال الحجاج، وقتلوا في رحابها وشعابها وفي المسجد الحرام بل وفي جوف الكعبة خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر ـ لعنه الله ـ على باب الكعبة، والرجال تُصرع من حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام وفي الشهر الحرام وفي يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا، ثم أمر بأن يُقلع الحجر الأسود، وقال: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟! ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم (اثنتين وعشرين) سنة» (2) .
وتأمل أي ذلة ومهانة كانت تعصف بالمسلمين في ذلك الوقت: الحجر الأسود يُقلع من مكانه الطاهر، ويُحمل إلى بلد القرامطة ويمضي عندهم اثنين وعشرين عاماً قبل أن يعيدوه بأنفسهم، والأمة الإسلامية كلها لا تستطيع أن تجتمع لاسترداد حجرها الأسود!
وبعد هذه الحادثة المأساوية، التي لم تتكرر في تاريخ الإسلام والمسلمين، قل لي بربك: هل من مجال للمقارنة بين ما مر على المسلمين في ذلك العصر من الضعف والذل والمهانة، وما نمر به في هذا الوقت من أزمات؟
ومع ذلك فقد عاد المسلمون مرة أخرى، ونهضوا من كبوتهم وصحوا من غفوتهم، وعادوا كأقوى ما يكونون.
- وفي أواخر القرن الخامس الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما تدفقت الجيوش الصليبية من أوروبا بأسرها على الخلافة الإسلامية، في تسع حملات صليبية شرسة، فقتلوا وطمسوا معالم الحضارة، واستعملوا جميع مظاهر الاضطهاد والعنف، واستولوا على كثير من البلاد الإسلامية، وأُغلق المسجد الأقصى ولم تُقم فيه جمعة ولا جماعة، ووضعت الصلبان فوقه ما يقارب (قرناً) من الزمان، حتى ظن كثير من المسلمين في ذلك الوقت، ألاَّ أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وألاَّ رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ولا سيما بعد أن فتكوا في الأنفس، وذبحوا من المسلمين في يوم واحد أكثر من (سبعين ألفاً) .
في ظل هذه الظروف، من كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم ما، على يد البطل (صلاح الدين الأيوبي) في معركة حطين الحاسمة، ويصبح للمسلمين من العزة والقوة والسيادة ما شرّف التاريخ الإنساني.
ومرة أخرى.. لم ييأس المسلمون ولم يقنطوا من رحمة الله؛ فقد عادوا ونهضوا من كبوتهم، واستردوا المسجد الأقصى بعد أن رفع النصارى الصلبان فوقه ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه أو مجرد دخوله قرابة (قرن) من الزمان. بينما يصاب اليوم كثير من المسلمين باليأس والقنوط وفقد الأمل بالكلية من مجرد التفكير في إمكانية استرداد المسجد الأقصى مرة أخرى رغم أنه لم يمض على احتلاله سوى سنوات معدودة.
وإذا كان المسلمون في ذلك الوقت ـ وحالهم كانت أشد مرارة من حالنا ـ قد نهضوا بعد تلك الكبوة؛ فالأمة اليوم قادرة بعون الله تعالى، ثم بالجهود المنتظرة من أهل الصلاح والإصلاح، أن تعود من جديد؛ وإرهاصاتُ ذلك تبدو في الأفق واضحة جلية بعون الله تعالى.
- وفي القرن السابع الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة، لما خرّب المغول العالم الإسلامي، ونهبوا الأموال، وداسوا القِيَم، وفتكوا بالأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً، حتى قيل إن جبالاً وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين؛ حيث كانوا في غاية الهمجية والوحشية، فكانوا يقتلون كل من يقابلهم دون تفرقة، فقتلوا العلماء والمشايخ والكهول والنساء والولدان، وأحرقوا المساجد ودور الكتب، وحطموا كثيراً من معالم الحضارة الإسلامية. وقد ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ عدد قتلى المسلمين إثر ذلك الغزو فقال: «وقد اختلف الناس في كمية من قُتِل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس» (1) .
وبلغ من شدة الحدث، أن المؤرخ ابن الأثير ـ رحمه الله ـ قال: «لقد بقيت عدة سنين مُعْرِضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أُقدّم إليه رجلاً وأُؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهَل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً» (2) .
من كان يظن أن بلاد الإسلام ـ بعد هذا ـ ستقوم لها قائمة، أو أنها ستتحرر في يوم من الأيام على يد البطل المقدام (قطز) في معركة عين جالوت الحاسمة، ويعود المسلمون إلى سابق عهدهم (3) .
ومرة أخرى.. هل من مجال للمقارنة بين ما حصل للمسلمين في ذلك الوقت من القتل والإيذاء والتنكيل، بتلك الصورة وتلك الوحشية وتلك الشراسة وذلك العدد الكبير من القتلى، وبين ما يحصل للمسلمين في هذا الوقت!
ومع ذلك كله فقد نهضوا من كبوتهم وصححوا خطأهم وعادوا إلى ربهم، فبنوا حضارتهم وواصلوا مسيرة فتوحاتهم بكل قوة وثبات.
ومن عجائب التاريخ وفرائده، أنه مع هزيمة الأمة في ذلك الوقت عسكرياً، إلا أنها لم تُهزم نفسياً؛ فقد ظل كثير من المسلمين معتزين بدينهم مستمسكين به، لدرجة أنهم أثَّروا بالغالب ولم يؤثر بهم، على خلاف العادة؛ إذ جرت أن المغلوب مجبول على التأثر بالغالب، إلا أن الذي حصل هو عكس ما جرت عليه تلك العادة، فدخل الغالب بدين المغلوب، وهذا من غرائب التاريخ الإنساني. وفي هذا دلالة على أن الأمة وإن هُزمت عسكرياً إلا أن كثيراً منهم لم ينهزموا نفسياً، ولم يفقدوا الأمل، ولم يصابوا باليأس والإحباط كما أصيب به كثير من المسلمين اليوم. فقد صحا أبناء ذلك الجيل من غفلتهم واستيقظوا من غفوتهم، وعادوا إلى دينهم فعاد لهم العز والتمكين مرة أخرى، بعد معركة عين جالوت المشهورة.
- وفي القرن الرابع عشر الهجري المنصرم، من كان يظن أن الإسلام سيعود من جديد، وقد أُصيب المسلمون بعدة طعنات لو وُجهت لغيره من الأديان لذاب واندرس؛ ففي ذلك القرن: سقطت دولة الخلافة الإسلامية على يد الهالك أتاتورك، وأصبح يُنادَى بالعصبية والقومية، واستُعمرت الدول الإسلامية وقُسمت بين دول الغرب، وعمت البلوى والافتنان بالحضارة الغربية حتى أصبح المثقفون ينادون بضرورة اللحاق بركب تلك الحضارة والانضواء تحت لوائها بخيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحمد منها وما يُعاب. أما العقائد فقد أصبحت الطرق الصوفية هي السائدة حتى عم الظلام والجهل والبدع والخرافات لا أقول بعض أوطان المسلمين، بل معظمها، وعاد الدين غريباً كما بدأ، وغابت معظم معالمه التشريعية حتى كاد يندرس في معظم البلدان الإسلامية، وبلغ اليأس منتهاه في إمكانية عودة الإسلام من جديد لدى البقية الباقية من المستمسكين به، بل ظن كثير منهم أن الإسلام لن تقوم له قائمة مرة أخرى.
ولكن الله ـ تعالى ـ بعث هذه الأمة من جديد، وبدأ الناس يعودون إلى دين الله أفواجاً، وبدأت الأمة تنهض بعد الغفلة، نرى ذلك ونلمس مظاهره في جوانب كثيرة ومجالات عديدة بحمد الله تعالى.
- من بشائر النصر:
إن مما يسر الخاطر ويفرح القلب ويُقوي الأمل في إمكانية عودة هذه الأمة إلى سابق عزها ومجدها، ما نراه من الآثار الملموسة للصحوة التي بدأت تؤتي أُكلها ونتنفس ثمرها ونستنشق عبيرها.
هذه الصحوة نتاج طبيعي لإخفاقات متكررة وهزائم متتابعة عاشتها الأمة، ولذا فقد ولدت وترعرعت وهي متعطشة لعز الإسلام وتمكينه، بعد أن جُربت جميع الشعارات الرنانة ولم تفرز إلا النكسات المتعددة، وتكالب الأعداء عليها من كل جانب.
وقد كانت هزيمة أو نكسة يونيو 1967م، بداية تحول كبير في عقول كثير من شباب الأمة الإسلامية؛ حيث تركت تلك الهزيمة آثاراً موجعة في نفوس ما لبثت أن تجلت على شكل صحوة عارمة بين طلبة الجامعات، ثم امتدت وبسرعة لتعبر عن نفسها في مظاهر كثيرة ومجالات عديدة بين جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم.
وما تزال إيجابيات هذه الصحوة قائمة ملموسة، تنمو وتزداد مع تقادم الأيام والسنين؛ فقد فرضت نفسها على الأحداث العالمية برمتها، وأصبحت همّاً عالمياً، تُفرِح الأصدقاء وتؤرق الأعداء، وتُقام من أجلها المؤتمرات، وتُعقد بسببها اللقاءات، ما بين محب يسعى لإصلاحها وتقويمها، وكاره يخطط لوأدها وإجهاضها؛ فهي أكبر مشروع حضاري نهضوي في العالم المعاصر، وإن كانت ثمراتها ظاهرة ملموسة، إلا أنها حتماً ستؤتي أُكلها وسيتم جني ثمرها بصورة أكبر في القادم من الأجيال اللاحقة بإذن الله تعالى.
ولعل من أهم مظاهر ثمراتها ما نراه من العودة الجماعية لهذا الدين، حيث عمّت بفضل الله ـ تعالى ـ الصحوة ربوع العالم الإسلامي كله، بل تجاوزت إلى ربوع المعمورة، حتى أصبحت الكنائس تُشترى وتُحوّل إلى مساجد للعبادة.
وأصبحنا نرى ونسمع عن مكتسبات ومستجدات ما كان أحد يظنها قبل بضع سنوات، من انتشار الوسائل الدعوية التربوية المختلفة من فضائيات وصحف ومجلات إسلامية، أصبحت تتكاثر وتتوالد بكثرة العائدين إلى الله.
وهذه الأمة ما تزال حُبلى بالمبشرات، وهي قادرة بعون الله ـ تعالى ـ على النهوض والعودة من جديد إلى سابق عزها ومجدها، ولعل مما يُبشر بذلك:
- تتابع سقوط الشعارات والحركات والنقابات والأحزاب غير الإسلامية، وثقة الناس في المقابل بالأحزاب والمنظمات والحكومات الإسلامية.
- ظهور أطفال الحجارة في فلسطين والعراق والفلبين وكشمير، والشيشان، وأفغانستان وغيرها في وسائل الإعلام المختلفة وهم يحملون المصحف في يد والبندقية في اليد الأخرى.
- صمود المقاومة العراقية واستمرار ثباتها، بل وتجدد قوتها شهراً بعد آخر وسنة بعد أخرى، ولولا الخيانات وخذلان الأصحاب لما سقطت العراق ـ ابتداء ـ بهذه السهولة حتى وإن تفوقت أمريكا في العدد والعدة، ولو تمكنت المقاومة من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي تمتلكها أمريكا لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم.
- ولعل من أهم المبشرات التي تدل دلالة واضحة على صحوة هذه الأمة، تنامي العمل الإسلامي في معظم دول العالم وقيامه بدور بارز في نشر رسالته، وهو الأمر الذي جعل حكومات العالم تقف أمامه بقوة للحد منه ومحاولة تجفيف منابعه بدعوى محاربة الإرهاب. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
[الصف: 8 - 9] .
والبشائر بحمد الله كثيرة، ولا يمكن الإحاطة بها أو حصر مظاهرها، وإنما هي أمثلة ونماذج تحيي الأمل وتدفع اليأس؛ فالأمة معطاء، والفأل مطلوب، والخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة، والثقة بالله ـ تعالى ـ هي مقدمة النصر، والقوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع شبابها ورجالها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الخالدة في كل زمان ومكان.
وما تمر به أمتنا اليوم من الضربات المتتابعة والصفعات الموجعة، ما هي إلا إرهاصات مبشرة لنهضة الأمة وصحوتها من غفلتها، وعودتها مرة أخرى إلى دينها ومصدر عزها ومجدها. فإن الظلام كلما احلولك وادلهمّ فإن وراء الأفق نوراً، وفي حضن الكون شمس ساطعة، وكلما اشتد غلس الليل اقترب ميلاد النهار، وشدة ظلمة الليل دليل على قرب انبلاج الفجر.(218/6)
الطفل والعيد
د. عدنان علي رضا النحوي
يقولون قد أقبل العيد! ما العيد؟!
كيف يجيء؟! فهلاَّ انتحى (1)
أبي! فهل العيد يأتي لِكَيْ
يسُرَّ القلوب وكي يشرحا؟!
أبي كيف أفرَحُ في عيدنا
أليس هو العيد أن نفرحا؟
فأين الملاعبُ؟ أين الفضاء
وما طاب للنفس أو رُوِّحا
نروح ونغدو على ساحِها
أليسَ من الحق أن نمرحا
وأرجُوحة العيد؟! والملتقى
سمعنا بذكر له فامّحى
وأين البساتين؟! أين الرياض
وزهرٌ هُنالك قد فوَّحا
أبي! أين إطلالة العيد في الأُفقِ؟!
ما شكله حينما يظهرُ؟!
أيأتي علينا ومِنْ حَولِنا
دمُ دافقٌ أو أسى أكبرُ
فلا الدار دارٌ وقد هُدمتْ
ولا خيمةٌ يا أبي تَسْتُرُ
ومن حولنا غاصب مجرم
يصول ويفتك أو يغدرُ
تُساندُه عُصبة المجرمين
فيمضي بطغيانه يفجُرُ
فلم يبق إلا بقايا دموعٍ
وشكوى تئن ولا َتجْهَرُ
وصمت من الأهل أقسى علينا
فلا هو يُسْعفُ أو ينصرُ
أبي أصبح العيد ذكرى لنا
يكاد يغيب فلا يُرقَبُ
وكنا نفيء لتلك الظلالِ
لزيتونة ساحها أرحبُ
إلى شجر البُرتقالِ فيحنو
علينا! ولَيْمُونةٍ تحْدبُ
إلى أمة عزُّها زاهر
ظلال الهدى والتقى الطيِّبُ
هُنالِكَ تلقى الطفولةُ أعيا
دُها! تَنْشُرُ العطر أو تسكبُ
أبي سأظلُ على ثغرةٍ
ليُقْبِلَ عيدٌ لنا يُطربُ
يضمُّ الشتاتَ ويُعلي البناء
على أمة مجْدُها أغلبُ
__________
(1) انتحى: جدَّ.(218/7)
المناخ الأسري السليم وسِماته
حسين بن عجاب العوفي
من حكمة الله ـ عز وجل ـ أنه جبل الإنسان على حاجات نفسية تساعده على البقاء، وتحميه من الهلاك، ويتعدى دورها في أحيان كثيرة إلى الحماية من الانحراف والضياع.
وهذه الحاجات قد تكون ظاهرة ومعلومة للجميع، مثل: الحاجة إلى الغذاء أو الحاجة إلى النوم ونحو ذلك؛ إلا أن الكثير من الحاجات النفسية المؤثرة في حياة الإنسان لا تكون معلومة إلا للمتخصص مما يعظم دوره في النفع العام وخدمة المجتمع، ويُعْظِم كذلك المسؤولية الواقعة على كاهل كل منا في تثقيف الذات ورفع مستواها في المجالات المؤثرة في مسيرتها في الحياة.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل بعض السلوكيات والعادات الإنسانية خادمة لاحتياجات كثيرة ومتعددة في وقت واحد، بل من رحمته أن جعل هذه الحاجات متداخلة ويشبع بعضها بعضاً.
ومن الطباع البشرية المشبعة لاحتياجات نفسية متعددة: الأسرة؛ فهي مغذية لحاجة الأبوة والأمومة والحب والحنان والجنس بالنسبة للزوجين، والخبرة والتقدير والمسؤولية والسلطة الضابطة والانتماء والإنجاز؛ إلى آخر القائمة من الحاجات. وليس هدفنا من هذا المقال تفصيلها وبيان كيفية إشباعها، بل الهدف بيان السمات الأسرية المعينة والمحققة للدور الأسري الفعال.
ولعلنا نذكر تلك السمات على شكل نقاط فيكون أوضح للمراد وأخصر للمقال، ولا يعني ترتيب السمات تسلسل الأهمية، بل كل السمات مهمة، وتوافرها متكاملة يعطينا المناخ الأسري السليم، وبحسب النقص فيها يحصل الخلل في مناخ الأسرة:
- السمة الأولى: تتسم عملية التأديب والتربية في المناخ الأسري السليم بالإيجابية:
وجوانب الإيجابية هنا متعددة، ومن ذلك:
1 - الحب والقبول غير المشروط:
أخرج الشيخان عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قَبَّلَ النبي -صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحم لا يُرحم» (1) .
التقبيل ما هو إلا مؤشر من مؤشرات الحب والرحمة من الوالد لولده، ودلائل هذه المحبة كثيرة ومتعددة، والأصل ظهورها من الوالد لولده ومعرفة الولد لها، والبعد عن وضع الشروط والمقاييس لمنح هذه المحبة للولد. والشرط الوحيد الذي من الممكن دخوله في هذا الأمر هو القرب والبعد عن الإسلام أو الطاعة كما في عقيدة الولاء والبراء؛ فهذا المقياس يدخل فيه جميع الخلق سواء كانوا من الأقارب أو الأباعد؛ ولذا قال الله ـ عز وجل ـ لنوح ـ عليه السلام ـ الأب الذي يرجو ربه أن ينقذ ابنه من الغرق: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 45 - 47] .
فمن القوة في التفريق والإبعاد نفي كونه من أهله، والسبب في ذلك الفرق الاعتقادي بين الوالد وولده.
أما في غير هذا الشرط فالأصل أن يُعطَى الولد مطلق المحبة، ولا نقيدها بنجاح أو إخفاق، ولا بموافقة أو مخالفة، ولا بحسن مظهر أو سوئه. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «يحبنا أطفالنا؛ لأننا نقدم لهم حباً غير مشروط، وهذا ما علينا أن نفعله؛ فالأولاد هدية من الله ـ تعالى ـ وعلينا أن نتقبل تلك الهدية مهما كان شأنها» (1) .
ويقول الدكتور كمال دسوقي: «يحتاج الأطفال من الناحية الانفعالية أول ما يحتاجون إلى الشعور بالأمان العاطفي؛ بمعنى أنهم محبوبون كأفراد ومرغوب فيهم لذاتهم وأنهم موضع حب وإعزاز الآخرين» (2) .
وتقول الدكتورة هدى قناوي: «ولا شك أن تقبُّل الطفل غير المشروط على ما هو عليه يؤثر في فكرة الطفل عن نفسه، وتوجد علاقة وثيقة بين تقبل الذات وتقبل الآخرين، ومن ثم يمكن القول إن تقبل الطفل على ما هو عليه يعزز إيجابية مفهوم الفرد عن ذاته وتقبله لها وتكيفه مع الآخرين مما يؤثر في النهاية على سلامة صحة الطفل النفسية» ) (3) .
ولا يعني الحب غير المشروط التسليم بالأخطاء، بل السعي لعلاجها بالطرق التربوية الإيجابية مع توافر ذلك الحب.
2 - التركيز على الإيجابيات:
يقول علماء الهندسة النفسية: «ما تركز عليه تحصله» ، وهذا الأمر ينطبق على النظرة إلى الذات وكذلك النظرة إلى الآخرين، ومنهم أعضاء المجتمع الأسري. فتركيز النظرة على الجوانب الإيجابية في أعضاء الأسرة يزيل بالتدريج ـ ومن غير أن نشعر ـ الجوانب السلبية لديهم. عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر» (4) ، فلا يخلو إنسان من إيجابيات تستحق التشجيع والثناء، وهذا التركيز هو نوع من أنواع التعزيز للصفة الإيجابية مما يوسع دائرة الإيجابيات على حساب دائرة السلبيات. يقول الدكتور عمر المفدى خلال كلامه عن تكوُّن مفهوم الذات لدى الأطفال: «أما كيف تنشأ هذه الأفكار التي تشكل مفهوم الذات؟ فإنها تنشأ من خلال ردود أفعال الآخرين تجاه الشخص أو تجاه سلوكه؛ فالطفل الذي يكرر عليه الآخرون أنه جيد وحلو وذكي وغيرها من الصفات الإيجابية من المتوقع أن يتجه مفهومه عن ذاته للإيجابية؛ بينما الطفل الذي يكرر على مسامعه بأنه طفل سيِّئ أو شرير أو غبي وغيرها من الصفات السلبية؛ فمن المتوقع أن يتجه في مفهومه لذاته نحو السلبية» (5) . ومن مشاكل النظرة السلبية أنها لا تؤثر على المتربي أو الآخر فقط، بل تؤثر على نفس المربي فتجعله يغفل أو لا يستطيع أن يرى الإيجابيات، بسبب الغشاوة التي وضعها على عينيه لعدم عدله بالتركيز؛ ويوافق هذا الأمر قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
3 - الحماية المسبقة من السلبيات:
فالوقاية خير من العلاج، والعلاج في القضايا التربوية والنفسية قد لا يستطيع إزالة العلة أو المرض أو المشكلة التربوية تماماً، بل في أحيان كثيرة لا بد من بقاء نسبة ولو قليلة من آثار ومظاهر تلك المشكلة؛ وهنا تكمن الخطورة؛ ولذا أصبح البحث عن الدروع الواقية والمانعة من وجود السلبيات من أقوى طرق التربية. وعندما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم - مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة غضب، وقال: «أمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده! لو أن موسى ـ عليه السلام ـ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني» (6) ، وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم - ليفعل ذلك مع مثل عمر إلا من أجل حماية ذلك الجيل ومن بعدهم من دخول سلبيات الأمم الأخرى عليهم أو وقوعهم في الخلل في مصدر التلقي، فكانت الشدة في أول الأمر مع ما يُتصور أنه سهل ويسير للحماية مما هو أشد وأعظم.
ومن جوانب الحماية المسبقة من السلبيات ما يلي:
أ - تنمية الانضباط الداخلي:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت خلف رسول الله يوماً، فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفَّت الصحف» (7) . في هذا الحديث يُعلِّم النبي -صلى الله عليه وسلم - هذا الغلام الصغير قواعد أساسية في الانضباط الداخلي يحتاج إليها الكبير قبل الصغير.
فمن أقوى جوانب تنمية الانضباط الداخلي لدى الإنسان تقوية مراقبة الله في قلبه، ووسائل تنمية ذلك متعددة وكثيرة، وليس هذا موضع بسطها.
ومن جوانب الانضباط الداخلي معرفة المعايير الاجتماعية ومعايير الأسرة وغرس الاهتمام بها وتقديرها لدى المتربي. وسيأتي الكلام عنها في السمة الثانية.
ب - اختيار البيئة الصالحة لأفراد الأسرة:
أمر النبي -صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لما اشتد بهم الأذى وفتنوا في دينهم، فكان اختياره للحبشة كبيئة جديدة للمهاجرين معللاً بأن فيها ملكاً عادلاً لا يُظلم عنده أحد، وبناءً على ذلك سيكون لديهم القدرة على أداء عباداتهم والتمسك بدينهم ومنع أي مؤثر خارجي على هذا الجانب. ولم يكتف النبي -صلى الله عليه وسلم - بتلك البيئة المناسبة لوجود بعض السلبيات فيها، بل ما زال -صلى الله عليه وسلم - يبحث عن بيئة أفضل من تلك البيئة، فعرض نفسه على قبائل العرب حتى تحققت له الفرصة وبايع الأنصار وهاجر إلى المدينة؛ ومن هناك تحققت الانطلاقة الكبرى للدين الجديد وبلغ الآفاق، وتربى أتباعه في بيئة إسلامية صافية وسالمة من كل سمات الجاهلية. وهذا الأسلوب ـ وهو أسلوب البحث عن البيئة الصالحة ـ من أهم أساليب التربية الاستباقية ـ إن صح التعبير ـ إذ فيها تربية جماعية، واختصار لجهد المربي وبعد عن الانشغال ببُنَيَّات الطريق. فعلى رب الأسرة لكي يحمي أسرته من السلبيات أن يختار لهم البيئة الصالحة. والمراد بالبيئة هنا الحي والمدرسة، بل ما يشاهد وما يسمع وما يقرأ، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى اختيار أقارب الأسرة الذين يستطيع رب الأسرة قبولهم أو رفضهم وهم أخوال أبنائه؛ إذ عليه أن يختار لهم أماً من بيئة صالحة تساعد أبناءه على الاستقامة والنجاح؛ إلا أن هذا الاختيار محصور بما قبل الزواج ومجيء الأولاد؛ فإذا تم ذلك فقد انتهى الاختيار.
4 - الاتفاق بين الأبوين على طرق التربية وتبادل الأدوار:
فوسائل التربية متعددة وما يناسب أسرة قد لا يناسب أخرى، والأدوار المطلوبة من كلا الوالدين مختلفة، وعلى الوالدين تحديدها وعقد الاجتماعات الخاصة بينهما من أجل مناقشة قضايا الأسرة، وحل المشاكل التي قد تطرأ بينهما بعيداً عن نظر بقية أفراد الأسرة. ومن الأخطاء التي تقع فيها كثير من الأمهات إخفاء الجوانب السلبية لدى الأولاد عن والدهم: إما خوفاً عليهم من سطوة والدهم، أو ظناً منها إمكانية الحل دون علمه، أو مخالفته بسلبية هذا الجانب. ومما يقع فيه الآباء ويسبب هذه المشكلة لدى الأمهات الشدة والغلظة الدائمة أو اللامبالاة والانشغال عن بيته بصحبه وجلسائه أو أعماله، وتتعدى دائرة الاتفاق الأبوين ويدخل فيها الإخوة الكبار والأقارب الذين لهم احتكاك دائم بأفراد الأسرة.
يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «ولا ينبغي أن ننسى أهمية التنسيق بين باقي أفراد الأسرة؛ فالأجداد والجدات والعمات والخالات والإخوة الكبار يستطيعون إجهاض العديد من السياسات والجهود التربوية للأبوين» (1) ، ويقول الدكتور مأمون مبيض: «إنه لأمر معين ونافع أن يكون لك أقرباء جيدون يسكنون بقربك؛ حيث يقدمون لك المساعدة العملية والمعنوية، ولا شك أن هذا الدعم المعنوي والنفسي أمر مفيد جداً؛ لأنك قد تتعرض لبعض القلق وانشغال البال وأنت تعمل على تنشئة ولدك» (2) .
- السمة الثانية: تتضح فيه معايير المقبول والمرفوض:
عن وهب بن كيسان قال: أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بطعام ومعه ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال: «سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك» (3) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم - بالفارسية: «كخ كخ! أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة؟» (4) .
في هذين الحديثين يبين النبي -صلى الله عليه وسلم - للصغيرين معايير عليهما الالتزام بها.
ووضوح هذه المعايير لدى أفراد الأسرة له دور في الاستقرار النفسي كما أن له دوراً في المشاركة العملية والإنجاز داخل الأسرة وخارجها؛ لأن الفرد قد عرف ماله وما عليه؛ فتبين له المراد، وسهلت عليه المنافسة، واستطاع تحقيق حاجة أساسية من الحاجات النفسية وهي الحاجة إلى إرضاء الآخرين وإرضاء المجتمع.
يقول الدكتور حامد زهران: «ويحتاج الطفل إلى مساعدة في تعليم المعايير السلوكية نحو الأشخاص والأشياء. ويحدد كل مجتمع هذه المعايير السلوكية، وتقوم المؤسسات القائمة على عملية التنشئة الاجتماعية ـ مثل الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام وغيرها ـ بتعليم هذه المعايير السلوكية للطفل مما يساعد في توافقه الاجتماعي. إن الطفل يحتاج إلى المساعدة في تعلم حقوقه، وما له وما عليه، وما يفعله وما لا يفعله، ما يصح وهو في خلوة وما يصح وهو في جماعة، ما يصح وهو في حدود الأسرة وما يصح وهو خارج نطاقها ... إلخ. ويحتاج إشباعُ هذه الحاجة من جانب الكبار إلى كثير من الخبرة والصبر والثبات والفهم» (5) .
- السمة الثالثة: له مواعيد منضبطة وقواعد واضحة:
عن أبي برزة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - «كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها» (6) .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا استجنح الليل ـ أو قال: جنح الليل ـ فكفُّوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ؛ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلُّوهم، وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله وأَوْكِ سقاءك، واذكر اسم الله، وخمِّر إناءك، واذكراسم الله ولو تعرض عليه شيئاً» (7) .
هذا جانب من تنظيم الإسلام للحياة الأسرية؛ وما اهتم الإسلام بهذا الجانب إلا لدوره وأثره النفسي والتربوي.
يقول الدكتور عبد الكريم: «من مسؤوليات الأم إشاعة النظام في بيتها، فتجعل وقتاً محدداً لتناول وجبات الطعام، كما تجعل وقتاً لنوم الأطفال وأوقاتاً يُنهون فيها مذاكراتهم وواجباتهم؛ إن مثل هذه الترتيبات والتنظيمات ترسِّخ في حس الأبناء معنى الانضباط والاهتمام بالوقت» (8) .
ويقول الدكتور إبراهيم الحارثي: «تَعَوَّدْ وضع قوانين لك ولأسرتك، وأشرك جميع أفراد أسرتك في صياغة القوانين العائلية. اعقد جلسات أسرية لمناقشة القانون الذي تضعه لحل مشكلة ما، ركِّز دائماً على الالتزام بالقوانين الأسرية التي تضعونها جميعاً» (1) .
ومن القواعد التي لا بد من وضوحها لدى أفراد الأسرة عواقب السلوك وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب؛ إذ في ذلك شعور بمسؤولية الفرد عن تصرفاته وتحمله ما يترتب عليها وتقبُّله لتلك العواقب عند وقوعها؛ إذ يشعر الكل أن ما تم هو نتيجة طبيعية ترتبت على سلوك معين؛ فلا يترتب على العقاب الشعور بالظلم والقهر والتسلط، ولا يترتب على الثواب الغيرة أو الشعور بتفضيل أحد أفراد الأسرة على حساب الآخر.
ولكي تحقق هذه القواعد والضوابط أهدافها لا بد من وجود سلطة ضابطة يشعر أعضاء الأسرة بوجودها، وهذه السلطة حاجة أساسية من الحاجات النفسية في الطفولة والمراهقة، والناس فيها بين إفراط وتفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والزيادة في السلطة والتشديد فيها يؤدي إلى وجود الصراع بين الكبار والصغار في الأسرة، بل ويؤدي إلى انفراط السيطرة في النهاية.
والإخلال في السلطة وعدم القيام بها يؤدي إلى الضياع والفوضى داخل المجتمع الأسري، والمطلوب سلطة ضابطة تجمع بين الحزم والحنان والرحمة، وتراعي مراحل النمو وتندرج نحو الاستقلال والحرية.
- السمة الرابعة: تتبادل فيه المسؤوليات والأدوار:
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته. قال: فسمعت هؤلاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأحسب النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته؛ فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (2) .
ولو تتبعنا منهجية النبي -صلى الله عليه وسلم - في تربية أصحابه لوجدنا توزيع المهام والمسؤوليات واضحاً وجلياً؛ فمنهم من تولى جانباً عملياً، ومنهم من أُعد لجانب علمي، ومنهم من تولى شأناً من شؤون النبي -صلى الله عليه وسلم - وخدمته.
والأدوار التي من الممكن تبادلها داخل الأسرة كثيرة ومتعددة، ومن الممكن تجزئتها أو دمجها حسب عدد أفراد الأسرة، ويأتي على رأس القائمة الوالدان وتبادلهما للدور التربوي والقيادي في الأسرة واتفاقهما على ذلك كما ذكر في السمة الأولى.
وإنه لمن المحزن في هذا العصر أن تجد شباباً قد قاربوا سن الزواج ولَمَّا يستطيعوا إدارة شؤونهم وحوائجهم الخاصة، فلا توجد لديهم قدرة على بيع أو شراء، ولا إنجاز معاملة في دائرة أو جهة، بل ولا القدرة على اختيار ما يناسبهم من ملبس ونحوه.
والفتيات ليس لديهن القدرة على إدارة منزل من طبخ أو غسل أو تربية أو استقبال ضيوف.
يقول الدكتور مصطفى فهمي: «يؤكد كثير من علماء النفس أهمية العمل في تكامل الشخصية؛ فهو وسيلة ومن وسائل التعبير عن الذات يحاول بها الفرد أن يحقق أهدافه وأن يشبع رغباته وحاجاته، وأن يحيل قيمه ومثله حقيقة واقعة، وأن يعبر عن دوافعه وصراعه وقلقه بصورة مقبولة منه ومن المجتمع في معظم الأحيان، وهو في أثناء التفاعل مع الوسط الذي يعمل فيه ينمو وتتكامل شخصيته وتتحقق ذاته ويشعر بقيمته وإنسانيته (3) . وذكر الدكتور عبد العزيز النغيمشي عند كلامه عن التهيئة لتحمل المسؤولية أن من ضمن المجالات التي تعين على ذلك المشاركة الأسرية، وعلل ذلك بقوله: «إذ إن الأسرة كالمجتمع الصغير لها أعضاء وأنظمة وقيادة وميزانية وبرامج وعادات، ويمكن من خلالها ممارسة كثير من الأدوار والمسؤوليات. والأسرة هي المحضن الأول للفرد الذي فيه يترعرع وينشأ؛ ووفق كيفية النشأة والتربية في الأسرة تكون استقلاليته أو تبعيته وإقدامه أو إحجامه» (4) .
إلا أن إعطاء هذه الأدوار والمسؤوليات لا بد أن يكون بتدرج وتدريب مسبق ومراقبة من المربي لئلا يؤدي ذلك إلى نتيجة عكسية.
- السمة الخامسة: يشجع المشاركة الاجتماعية:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة» (5) .
وقال -صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (6) .
إن تحميل الهم العام للأمة، وغرس حب خدمة الآخرين وتقوية الشعور بالانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد كل ذلك يساعد الفرد في اكتشاف الذات، وتحقيق الإنجاز الذي هو حاجة من الحاجات النفسية التي يحتاج الإنسان إلى إشباعها، وهي في الوقت نفسه وسيلة من وسائل بناء وتطوير الذات وتوسع دائرة العلاقات لدى الفرد.
ومن المجالات المتاحة في المشاركة الاجتماعية النشاط المدرسي اللامنهجي من توعية إسلامية، ونشاط كشفي، وجماعات النشاط الطلابي المتنوعة؛ ففي هذا المجال غرس البذرة الأولى للمشاركة الاجتماعية لدى أفراد الأسرة ممن ينتمون إلى التعليم باختلاف مراحله، ومن المجالات المتاحة في المشاركة الاجتماعية المؤسسات والجمعيات الخيرية النفعية أو الدعوية أو العلمية.
وعلى الوالدين إعانة أولادهم على المكان الأنسب لهم من بين تلك المجالات وفتح المجال لهم للاختيار.
واندماج أفراد الأسرة في البرامج الاجتماعية المتنوعة يساعد الأسرة في صقل شخصيات أفرادها وقوة الارتباط الأسري، والبعد عن سفاسف الأمور والانشغال بالترهات الملهية مما يرفع قوة الطرح في الجلسات الأسرية، ويفتح المجال لتبني مشاريع أسرية مشتركة، بل يؤثر تأثيراً ظاهراً في الأجيال المتتابعة من الأسرة الواحدة.
يقول الدكتور أمين أبو لآوي مبيناً مكانة المشاركة الاجتماعية في التربية الإسلامية: «تتجه التربية الإسلامية إلى زرع بذور التعاضد والتماسك والتضامن في نفوس الناشئين من أجل تحقيق اتجاه العمل الجماعي والشعور بالمسؤولية عن الجماعة؛ وذلك عن طريق إبراز أهمية العمل المنظم والهادف إلى رصِّ الصف وتنسيق الجهود الفردية لخدمة الأهداف العليا في المجتمع الإسلامي» (1) .
- السمة السادسة: يشجع النجاح والتميز:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل. فكان عبد الله بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً» (2) .
وعن عبد الرحمن بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء عثمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره. قال عبد الرحمن: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقلبها في حجره ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» (3) .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للأشج، أشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (4) .
ولو تتبعنا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - لوجدنا فيها مواقف متعددة لاستنفار الطاقات وتشجيع المواهب.
وهذا الجانب يعطي الشعور بالثقة وتقدير الآخرين للمتربي، ويقوي فاعليته وانتماءه للجهة التي منحته الفرصة لإظهار ما لديه من قدرات، ويساعد في تكرار النجاح والحرص عليه.
يقول الدكتور مأمون مبيض: «من الأهمية بمكان أن يبذل الآباء بعض الجهد في تعلم أساليب التشجيع فهو من أهم الأمور التي يمكنهم استعمالها في التربية وهو من الأمور المؤثرة في الأنواع الأخرى من السلوك» (5) .
وتشجيع النجاح والتميز في الأسرة لا يكون عن طريق التمييز في الحقوق بين أعضائها أو الاهتمام ببعضهم وإهمال الآخرين، بل يكون بغرس المفاهيم الصحيحة للنجاح، وفتح المجال للإنتاج والإبداع، وتوفير الوسائل المساعدة على ذلك والتحفيز المدروس والصادق الواقعي لمظاهر النجاح لدى أفراد الأسرة.
- السمة السابعة: لديه أوقات للمرح والفكاهة والاستجمام:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ «أنها كانت مع النبي -صلى الله عليه وسلم - في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة» (6) .
وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو» (7) .
وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَيِ العشاء وهو حامل حَسناً أو حُسيناً، فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فوضعه، ثم كبَّر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها. قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك. قال: «كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعَجِّله حتى يقضي حاجته» (8) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقاً» (9) .
إن إغناء أفراد الأسرة عن الالتفات إلى خارج الأسرة أو البحث عمن يشبع حاجة من حوائجهم أمر مهم، وعلى قائد الأسرة الاهتمام به. والمرح والفكاهة والاستجمام من الأشياء المهمة المهملة من الكثير من الآباء لعدم الاقتناع، أو لكثرة مشاغله، وقد اعتبر الكثير من التربويين اللعب والمرح وسيلة من وسائل التربية، بل أُلِّف في ذلك كتب متعددة ورسائل متخصصة.
يقول خالد العودة: «للترويج دور مهم في التربية الخلقية والروحية إضافة إلى دوره في الجوانب الأخرى، والأسرة محتاجة إلى اللعب والترويح حاجة أساسية كحاجتها للطعام والشراب أحياناً» (10) .
ووسائل الترويح في الأسرة المسلمة متعددة، ومن ذلك المداعبة والمزاح والنزهة والرحلة الأسرية، وتوفير لعب الأطفال الهادفة، والتجمعات العائلية، وزيارة المتاحف والمعارض المفيدة، وتوفير الكتب والأشرطة السمعية والمرئية وبرامج الحاسب الآلي التعليمية والترفيهية ووسائل الإعلام؛ إلى آخر القائمة من الوسائل التي بإمكان الأب توفيرها لأسرته وفق الضوابط الشرعية.
يقول خالد العودة: «وإدارة الترويح المنزلي تتميز بكونها شأن أسري خاص يصعب التحكم فيه من خارجها، ولذا تزداد مسؤولية الوالدين في اختيار الأنماط والتطبيقات المناسبة» (1) .
- السمة الثامنة: يتسم بالمرونة ومراعاة الظروف:
الأسرة محضن تربوي يستمد مكانته من النصوص الشرعية التي هي بدورها منضبطة بقواعد من ضمنها: «لا ضرر ولا ضرار» و «المشقة تجلب التيسير» وعدم المؤاخذة عند الجهل أو النسيان أو الإكراه.
ولا يخلو عضو من أعضاء الأسرة من ظروف تمر به وتمنعه من تحقيق الأهداف العامة للأسرة من مرض ومشاغل وتعكُّرِ مزاجٍ وقلة ذات اليد، ونحو ذلك.
فلا يعني وجود خطط أو أهداف أو اتفاقيات محددة داخل الأسرة أن نكون صارمين في تحقيقها؛ فقد تضطر الأسرة لتأجيل بعض برامجها أو إلغائها، أو قد تضطر للتعامل بطريقة معينة مع أحد أفرادها؛ لأنه يمر بمرحلة نمو معينة، أو قد تتنازل الأسرة عن بعض مطالبها لصعوبات مالية تمر بها.
ولو تتبعنا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم - في ذلك لوجدنا اليسر والسهولة والبساطة.
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَت» (2) .
قال أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله! لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله -صلى الله عليه وسلم - قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق؛ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه هو يضحك، فقال: يا أُنَيْسُ! اذهب حيث أمرتك! قلت: نعم أنا اذهب يا رسول الله! قال أنس: واللهِ لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لِمَ فعلتَ كذا وكذا، ولا لشيء تركتُ: هلاَّ فعلتَ كذا وكذا!» (3) .
ولا يعني ذلك اللين أو المداهنة في المحرمات، بل على رب الأسرة حمايتها من كل ما يخالف الشرع، والإنكار على من وقع في منكر منهم مع اعتبار الآداب الشرعية في ذلك.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلكَ الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (4) .
ومن المرونة في الحياة الأسرية النظرة الإيجابية للمشكلات؛ فلا يخلو تجمع بشري منها. والإيجابية هنا في تقبُّل وجود المشكلة، وأنها أمر طبيعي لا يعني انتهاء العلاقة الأسرية أو فسادها. ومن الإيجابية في النظرة إلى المشكلات الأسرية السعي لعدم ترسبها في الأسرة واستغلالها كحدث تربوي.
- السمة التاسعة: يسود فيه الأدب والاحترام المتبادل:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» (5) .
يتصور الكثير من الناس أن الأدب والاحترام عندما يُطلق يراد به احترام الأصغر لمن هم أكبر منه سواء كان ذلك في العمر أو في غيره؛ مع أن الاحترام قضية تبادلية لا يمكن أن توجد من الإنسان تجاه من لا يحترمه، ولكي يكون الاحترام سمة من سمات أسرنا علينا أن نسعى لتوفير سمات المناخ الأسري السليم في أسرنا؛ إذ بتوفيرها يشعر عضو الأسرة بالانتماء إليها والحرص على مصالحها ومحبته لأعضائها، وعلينا كذلك أن نحرص على توفير أمرين مهمين لهما أثرهما في الاحترام المتبادل.
أ - العدل بين أفراد الأسرة:
في الحقوق والواجبات وعدم إشعار أحد منهم أن غيره مقدم عليه أو أفضل منه.
يقول الدكتور عادل رشاد: «إن عطاءنا لأبنائنا يجب أن يكون متوازناً بشكل عام؛ فلا ينبغي أن يشعر الأبناء بأنك تفضل بعض أطفالك على بعضهم الآخر، وأي اختلال لهذه القاعدة كفيل ببعث الغيرة والكراهية ومن ثَم تهيئة أسباب النزاع بين الإخوة» (6) . ويقول مجاهد ديرانية: «إن التفضيل في المحبة بين الأولاد خطأ فادح؛ أما إظهار ذلك والتصريح به فهو خطيئة، بل هو جريمة لا تغتفر ولا تعود أضرار ذلك على المفضولين فقط بأن ينشؤوا ساخطين أو معقَّدين، بل إن الضرر يكون أوسع من ذلك؛ بحيث يسود بين الإخوة أنفسهم روح الحسد والضغينة ومشاعر الكره المتبادل» (7) .
وهذا العدل لا يكون في العطاء أو العاطفة فقط، بل حتى بالتكليف والمطالبة بالمشاركة في أعمال الأسرة؛ فبعض الآباء يركز على أحد أبنائه لسرعة استجابته أو لإتقانه العمل، ويظهر ذلك في تركيز الوالدين على الابن الأول أو البنت الأولى، فتجد هذين يقومان بالكثير من أدوار الوالدين في الأسرة، وهذا الأمر يؤدي إلى سلبيات تربوية متعددة من أقلها الحقد والكره بين الإخوة؛ فالمكلف بالعمل يرى أنه قد أثقل عليه بالعمل وفتح المجال للآخرين للهو وإنجاز ما يريدون من أعمال، والآخرون يرون أن والديْهم لا يثقان بهم كما يثقان بالمكلف بالعمل.
ب - فتح باب الحوار داخل الأسرة:
إن تنفيذك للأمر وأنت مقتنع فيه لا شك أنه سيكون أفضل وأتقن مما لو فعلته بالإكراه وقوة السلطة. ومن المحال أن يتقبل الإنسان فكرة من الأفكار عن طريق الإكراه والسلطة التعسفية حتى لو أظهر خلاف ذلك تجنباً للضرر الذي قد يلحق به عند المخالفة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يؤدي إلى التفكك ونشوء النجوى والثللية داخل الكيان الواحد، ولذا فمن الخير للأسرة ولكي تسود فيها الشفافية والجماعية في اتخاذ القرار أن يفتح فيها باب الحوار لنقاش المشكلات.
يقول سلمان خلف الله: «للحوار قيمة حضارية وإنسانية، وعلينا أن نعمل ونأخذ به في حياتنا وممارساتنا التربوية والأسرية، ويجب أن تؤمن به كل أمة. والحوار يخلق التفاعل الدائم بين الطفل من ناحية وبين المنهج والمعلم من ناحية أخرى؛ فلا بد أن يوصل الحوار إلى كشف الحقيقة وخاصة إذا كانت غائبة؛ فهو الوسيلة المهمة في بناء شخصية الطفل كفرد وكشخصية اجتماعية، وهو يخلق أيضاً روح المنافسة بين الأطفال، فيحملهم على الدخول في ميادين المناقشة العلمية. وكذلك يثبت فيهم روح الجماعة والتعاون، ويبعد عنهم الأنانية وحب الذات المفرط، ويبث فيهم روح الألفة والمحبة، ويعودهم على النظام والتعاون، ويساعد على الابتكار واحترام الطفل لذاته» (1) .
ومن صور الحوار التي أدت إلى المحبة والألفة والاقتناع، ومنعت من التمادي في الخلل ما رواه أبو أُمامة قال: «إن فتى شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادْنُهْ! فدنا منه قريباً قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله! يا رسول الله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فرجه! فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء» (2) .
فلو تعسف النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ وحاشاه ذلك ـ لما حصلت هذه النتيجة الجميلة.
ومشكلة الكثير من المربين مع الحوار هو عدم معرفة آدابه وأساليبه، بل إن الكثير من صور الحوار لدينا تنقلب إلى موعظة أو تحقيق أو مناظرة، ومع ذلك نظن أننا نؤدي الكم والكيف المطلوب من الحوار مع من نربي، وأن الخلل أتى من قِبَلهم وليس من قِبَلنا. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «لم تترسخ بعدُ تقاليد الحوار الصحيح في حياتنا الاجتماعية والأسرية، ولهذا فإن من الملاحظ أننا كثيراً ما نبدأ حديثنا مع من نربيهم من أبناء وطلاب على أنه محاورة تتجلى فيه النِّدِّية، ثم ينتهي إلى أن يكون مناظرة خشنة يملى فيه الرأي إملاءً مباشراً؛ فهل نتخذ من العثور على طريقة جديدة في التفاهم هدفاً نسعى إليه؟» (3) .
- السمة العاشرة: يشعر كل فرد فيه بالانتماء والاندماج والتحمس لتحقيق أهداف الآخرين والتعاون معهم:
هذه السمة هي نتيجة لتوفر السمات السابقة ومن الغريب أن يطالب بعض المربين مَنْ تحت يده بهذا الأمر وهو قد فرط بالأمور السابقة. وجزء من هذه السمة هو حاجة نفسية أساسية لا بد من إشباعها وإلا أدى ذلك إلى العزلة والشعور بالوحشة والاغتراب. يقول الدكتور أحمد راجح: «يزداد شعور الفرد بالأمن والتقدير الاجتماعي كما يزداد اعتداده بنفسه واعتزازه بها حين ينتمي إلى جماعة قوية يتقمص شخصيتها، ويوحد نفسه بها كالأسرة القوية، أو النادي، أو النقابة، أو الشركة ذات المركز الممتاز، وتنبت هذه الحاجة في أحضان الأسرة من علاقة الطفل بأمه وأفراد أسرته، ثم تعززها أو تحبطها بعد ذلك التجارب التي يمر بها الفرد، ومتى أرضيت هذه الحاجة وشعر الفرد بالانتماء إلى جماعة معينة زاد ولاؤه لها وشعوره بأنه جزء منها يصيبه ما يصيبها على أن إرضاءها يتوقف على تقبُّل الجماعة للفرد؛ لأنه يعمل من أجلها، وعلى تقبُّل الفرد للجماعة؛ لأنها تُرضي حاجاته ومطالبه» (4) . وتقول الدكتورة هدى قناوي: «المرء في حاجة إلى أن يشعر بأنه فرد من مجموعة تربطه بهم مصالح مشتركة تدفعه إلى أن يأخذ ويعطي، وإلى أن يلتمس منهم الحماية والمساعدة؛ كما أنه في حاجة إلى أن يشعر بأنه يستطيع أن يمد غيره بهذه الأشياء في بعض الأحيان» (5) .
وعندما يتحقق الشعور بالانتماء للأسرة لدى أعضائها سيترتب على ذلك الاندماج بين أفرادها والتعاون والسعي لتحقيق أهداف الجميع لشعورهم بأهمية وأثر ذلك على حياتهم الخاصة، وعندما يستطيع المربي تقوية الجوانب الإيمانية وغرس أهمية الجانب الأخوي وتقديم ما عند الله على ما عند الناس لدى المتربين ـ عند ذلك تزول النظرة للمصلحة المادية الدنيوية في هذا الجانب أو تعظيمها.
وأخيراً: فإن الوصول لإصلاح الأمة على المستوى العام يحتاج إلى إصلاحات كثيرة على المستويات الفردية والمؤسسية، ومن المؤسسات الأولى المؤثرة في هذه الجانب كيان الأسرة، وما ذكر في هذا المقال هو جزء من الإصلاح الأسري الذي نسعى إليه، وأرجو من الله ـ عز وجل ـ أن أكون قد وفقت للصواب فيه.
__________
(1) البخاري ومسلم.
(1) دليل التربية الأسرية، ص 12. (2) الطفل تنشئته وحاجاته، هدى قناوي، ص172.
(3) المرجع السابق، ص 352. (4) أخرجه مسلم. يفرك: يبغض.
(5) علم نفس المراحل العمرية، عمر المفدى، ص 292. (6) مسند الإمام أحمد، رقم (14623) ، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح.
(7) أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة.
(1) دليل التربية الأسرية، ص 158. (2) أولادنا من الطفولة إلى الشباب، مأمون مبيض، ص 45.
(3) أخرجه البخاري ومسلم. (4) أخرجه البخاري ومسلم.
(5) علم نفس النمو، حامد زهران، ص 297. (6) أخرجه البخاري ومسلم.
(7) أخرجه البخاري ومسلم. أوكى: شَدَّ. خمَّر: غَطَّى. (8) دليل التربية الأسرية، ص 91.
(1) كيف تنمي الانضباط الداخلي لدى طفلك، إبراهيم الحارثي، ومحمد دباس، ص73. (2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) سيكولوجية الطفولة والمراهقة، مصطفى فهمي، ص300. (4) المراهقون، عبد العزيز النغيمشي، ص 113.
(5) أخرجه البخاري ومسلم. (6) أخرجه البخاري ومسلم.
(1) أصول التربية الإسلامية، محمد أبو لآوي، ص 61. (2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، وحسنه الألباني. (4) أخرجه مسلم.
(5) أولادنا، ص 225. (6) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد وصححه الألباني.
(7) أخرجه البخاري ومسلم. (8) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق وصححه الألباني.
(9) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، وقال: حديث حسن صحيح. (10) الترويح رؤية إسلامية، خالد العودة، ص 153.
(1) المرجع السابق، ص 153. (2) أخرجه البخاري.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب. (4) أخرجه البخاري ومسلم.
(5) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة وصححه الألباني. (6) خمس خطوات لتعديل سلوك طفلك، عادل رشاد غنيم، ص 121.
(7) نصائح لتربية طفل صالح، مجاهد ديرانية، ص 28.
(1) الحوار وبناء شخصية الطفل، سلمان خلف الله، ص 51. (2) أخرجه أحمد، رقم (2118) ، وصححه الألباني.
(3) 175 بصيرة في التربية، عبد الكريم بكار، ص 56. (4) أصول علم النفس، أحمد عزت راجح، ص 95.
(5) الطفل تنشئته وحاجاته، ص 189.(218/8)
الإزراء على الناس منهجية العاجزين
د. صالح العبد الله الهذلول
يعمد بعضٌ لتسويغ تقصيرهم في التربية أو الدعوة والإصلاح إلى رمي التهم على المجتمع، أو على بعض دوائره الرسمية أو الأهلية، أو القائمين عليها، والتقليل من شأن الفرص التي تلوح بين فينة وأخرى؛ فيسارع إليها أرباب الدعوات ويسعون جاهدين إلى استثمارها وتوظيفها لخدمة دعوتهم سواء كانت دعوتهم إلى خير وفضيلة أو إلى ضدها، فـ «كلٌّ يعمل على شاكلته» . يفعل ذلك هروباً من تبعة المساءلة الأدبية أو الضميرية؛ ليوهم نفسه ـ بل يغشها ـ أنه إنما أحجم عن الإقدام؛ لأنه لا فائدة تعود من وراء ذلك.
يبدأ بتجهيز أو تصنيع التهم استعداداً لتوزيعها بدون غلاف على المصلحين والمربين وكافة العاملين بمصالح المجتمع، كلٌّ بالمقاس الذي يناسبه من التهم والشكوك وزرع الإحباط.
وهذه الإضاءة لا تتناول نقد ولومَ من في قلوبهم مرض، ولا يدخل في معناها أعداء الدين والمنافقون، وإنما أعني بها أناساً سيماهم الصلاح، واختاروا التدين عنواناً لهويتهم، لكنه العجز والكسل، وربما الهوى أحياناً يلقي بظله الثقيل عليهم، ليظهروا في الغالب سلبيين في ميدان الدعوة والإصلاح، وعوناً لأعداء الدين والمجتمع في التخذيل. غفلوا عن معنى حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكهم» . قال أبو إسحاق ـ أحد رجال السند ـ لا أدري أهلَكَهم أو أهلَكُهُم» (1) ، فرُوي بلفظ: أهلَكَهم: أي جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة، ورُوي بلفظ: أهلَكُهم: أي أشدهم هلاكاً.
قال النووي ـ رحمه الله ـ: «اتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم؛ لأنه لا يعلم سر الله في خلقه، وقال الخطابي: معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا، ونحو ذلك؛ فإذا فعل ذلك، فهو أهلكهم؛ أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم، والوقيعة فيهم، وربما أدَّاه ذلك إلى العُجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم» (2) .
فمثلاً:
1 - الذين يرون التفجير في المجتمعات الإسلامية أسلوباً أمثل للإصلاح، إنما هو تعبير عن العجز عن طلب العلم والتربية والدعوة، والصبر على ما يلاقي في سبيلها.
2 - ومن يختارون الفرار إلى الاستراحات «البريئة» ، وإمضاء الوقت في النقد والتجريح، والقيل والقال، إنما هو فرارٌ من الصبر على تربية الزوجة والأولاد، ومعايشة همومهم، وتعليمهم، وحمايتهم من الانزلاق في وديان الشبهات، أو مستنقعات الشهوات.
3 - الذين يقللون من شأن العلم والتعلُّم، وأنه لا يسمن ولا يغني من جوع في عصر غلبت فيه المادة، وقيمة الإنسان تصعد وتهبط بما يملك من مال، نسوا أن العلم نور، والجهل ضلال وظلام.
4 - إذا علم أن مسؤولاً تولى ولاية معينة، أجهد نفسه في البحث عن معايبه، وغلّب جانب التشاؤم في تعيينه، وربما ضرب أمثلة على أخطاء وقعت من ذلك المسؤول أيام صباه ليستدل بها على عدم كفاءته بعد أربعين أو خمسين سنة من التعلم والتجارب، أو استشهد بموقف حدث بينه وبين ذلك المتولي قبل سنين لم يوافقه هذا الناقد عليه، وغفل عن ملابسات يلزم استيعابها وفهمها لمن أراد إصدار حكم أو تقييم شخص.
5 - يُفتح للناس فرصة من فرص الإصلاح، فلا تعجب ذلك العاجز؛ جرياً على عادته في التشاؤم من كل ما يطرح، ومن ذلكم مثلاً:
أ - الانتخابات البلدية: نظرته إليها: أن المجالس البلدية لا تقدم ولا تؤخر؛ فمن العبث المشاركة فيها، هكذا يظن.
ب - التدابير الأمنية في بعض المواقع، أو على الطرق، أو في ظرف من الظروف، ونحو ذلك، يتسخَّط منها، واصفاً إياها بالتعقيد، وتعطيل مصالح الناس. وجَهِل ما يترتب على إهمال الأمن أو ضعفه، غير مقدر ولا متفهم ما تتطلبه العملية الأمنية من إجراءات وتدابير في مثل هذا العصر المتلاطم بالفتن والمكائد والمؤامرات.
إن الأوْلى إذاً بمن يسلك هذا المسلك، أو يعتمد هذا المنهج المغلِّب لإبراز السلبيات؛ تبريراً لقعوده عن الإصلاح، أن يعيد النظر في هذه المنهجية، وليتذكر أن ليس ثمة خيرٌ محضٌ، ولا شرٌّ محض، كما لا يوجد معصوم سوى الأنبياء.
أوَ ليس كل إنسان فيه نوازع متعددة، وله ميول وشهواتٌ وهذه كافية أن تضعفه عن الاحتفاظ بالتوازن السليم دائماً، فكيف تجهل هذا؟! أو: لماذا تتجاهله؟!
وقديماً قيل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرءَ نبلاً أن تُعَدَّ معايبه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، رقم 2623.
(2) صحيح مسلم، بشرح النووي، 16/175.(218/9)
قرارٌ.. وثلاثة رجال
إبراهيم بن سليمان الحيدري
يُحكى أن قراراً أراد أن يخرج في منظمة خيرية، ولكن كعادة القرارات في المنظمات الإدارية فإنه لا بد أن يمر قبل اتخاذه بمرحلة تسمى صناعة القرار.
تجوَّل القرار بين ردهات المنظمة وقلَّب النظر في رجالها ليختار الشخص المناسب لصناعته صناعةً تؤهله لأن يحصل على لقب القرار الناجح الذي طالما حلم الكثيرون من أقرانه بالحصول عليه.
رحَّب أحدهم بالقرار وأبدى استعداده أن يتولى هو وحده صناعة القرار واتخاذه، وألتزم أن يكتبه بالبنط العريض وينشره بين أفراد المنظمة ويلزمهم بتنفيذه. تذكر القرارُ وصية حكماء الإدارة أن القرار الفردي سرعان ما يذبل ويموت.
ناداه آخر من رجالها وكأنه قرأ امتعاض القرار من طريقة الأول في التعامل معه، فأخذ يَعِدُ ويُقسِم أن يجمع رجالات المنظمة ويحاول بكل ما أوتي من قدرة أن يمرره من بينهم ويشجعهم على تنفيذه.
فكر القرار في هذا العرض فأدرك أنها صناعة ناقصة، إذ إن سلطة المديرين كفيلة في كثير من الأحيان أن تجلب موافقة الموظفين على القرار وليس اقتناعهم به، فأعرض عن ذلك واستمر في جولته.
تأمل القرار العددَ الهائل من القرارات الإدارية المتكدسة على رفوف المنظمة وقد أعياها الانتظار للحصول على لقب القرار الناجح، فكان ذلك حافزاً له للبحث الجاد عن الرجل المناسب لصناعته وجعله قراراً ناجحاً حتى لو تطلب هذا بعض الوقت.
هناك في أحد المكاتب لمح القرار رجلاً سَمْحَ القسمات عريض البسمات، توسم القرار فيه خيراً وعرض عليه حاله وتفاصيل جولته، فهلّل الرجل ورحب وأجلس الرجلُ القرارَ على طاولة مستديرة، وأخذ الرجل والمختصون من موظفيه بالتشاور والتباحث المنطقي، يقلّبون حيثيات القرار مدركين أنهم جميعاً المعنيون بصناعته والملتزمون بتنفيذه. تعجب القرار كيف يتحدث الواحد منهم بكل أريحية وكأنه هو المدير، وقد تركز دور المدير على تنظيم الآراء وتلخيص الأفكار.
طأطأ القرار رأسه خائفاً من تلك الأيادي التي ارتفعت بصورة مفاجأة فهدَّؤوا من روعه، وأخبروه أن هذه عملية تصويت يُعبر من خلالها الجميع عن رأيهم في القرار، ثم يؤخذ رأي الأكثرية ويلتزم الجميع بالتنفيذ.
وقف القرار في حفل تتويجه بلقب القرار الناجح متحدثاً، فكان مما قاله:
إن القرار الناجح هو القرار الجماعي.
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(218/10)
معايير العقلاء (3)
السنن الكونية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
عقلاء الناس في كل زمان ومكان يؤمنون بأن الحوادث لا تحدث خبط عشواء، بل يعتقدون أولاً أن لكل حادث منها سبباً، ويعتقدون ثانياً أن الأسباب المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة سواء في عالم الطبيعة، أو عالم المجتمعات، أو عالم النفس. ويعلمون أنه لولا هذا الاطِّراد في الأسباب والمسبَّبات وجريانها على نسق واحد لما أمكن أن تكون هنالك علوم طبيعية ولا اجتماعية ولا نفسية، ولما استفاد الناس من دراستهم للتاريح، ولما استفاد بعضهم من تجارب بعض ولا اتعظوا بها، بل ولما استطاعوا أن يتعاملوا مع الطبيعة والناس من حولهم، بل ولا مع أنفسهم. كيف يمكن هذا إذا كان من الممكن للحادث أن يحدث من فراع، أو إذا كان السبب الواحد يؤدي إلى مسببات مختلفة بل متضادة بحسب الزمان والمكان؟ كيف إذا كان الماء الذي رش على النار فأخمدها بالأمس يُرَش عليها اليوم فيزيدها اشتعالاً؟
لكن الإيمان بالقاعدة لا يعصم الناس من الخطأ في تطبيقها، ولا يلزمهم بعزو المسببات إلى أسبابها الحقيقية التي يعلمونها، بل بعزونها زوراً إلى أسباب يعلمون أنها ليست أسباباً لها. فالناس يظلون مخيرين: من شاء اعترف بالحق، ومن شاء كذَّبه. لكن أولي الألباب منهم لا يكتفون بالإيمان بصدق القاعدة، بل ينظرون في دعاوى الربط بين المسبَّبات المعينة وأسبابها المدَّعاة: هل قام دليل على صدقها أم لا؟ ولولا ذلك لما كذَّب الناسُ السحرةَ والدجالين والمخرفين، ولما عرفوا الفرق بين النبي المرسل ومدعي النبوة. لكن الصدق لا يعصم من الخطأ. فقد يظن الإنسان صادقاً أن هنالك رابطاً بين نتيجة معينة وسبب معين، ويكون مخطئاً في ظنه. يحدث هذا حتى في أكثر العلوم الدنيوية انضباطاً كعلم الفيزياء أو الكيمياء، ودعك عن علم الطب وعلم النفس والاجتماع!
وبما أن الإسلام إنما يخاطب العقلاء من الناس فإنه يستعمل هذه الحجة التي يسلِّمون بها، فيدعوهم تارة إلى الاعتراف بالنتائج التي عرفوها، ويذكِّرهم تارة بأن السبب الذي رأوه أدى إلى نتيجة معينة لا بد أن يؤدي إلى النتيجة نفسها في حالة أخرى، ويعرِّفهم تارة بأسباب يجهلونها، ويخطِّئ ظنهم في أسباب ظنوها أسباباً لمسببات معينة وما هي بأسبابها الحقيقية. وإليك أمثلة على ذلك وهي قليل من كثير:
{فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
{لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 60 - 62] .
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 22 - 23] .
الملاحظ أن السنن التي وصفها القرآن الكريم في هذه الآيات وغيرها بأنها لا تتغير ولا تتبدل إنما هي ما يمكن تسميته بالسنن الاجتماعية. أما السنن الطبيعية فلم يرد في كتاب الله وصفها بهذه الصفات؛ والسبب واضح وهو أنها يمكن أن تُخرَق، أعني أن السنن التي يعرفها الناس والتي تسمى الآن بالقوانين الطبيعية كقانون الجاذبية يمكن أن تُخرَق. فالنار لم تحرق سيدنا إبراهيم، والبحر انفلق لسيدنا موسى، والقمر انشق لسيدنا محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. لكن بما أن الخوارق أمر نادر فيمكن أن يقال إنها هي الأخرى ثابتة لا تتغير. ثم إن الخرق إنما هو خرق للسنَّة التي اعتادها الناس، وليس خرقاً لقانون السببية؛ ذلك لأن الخرق نفسه يكون بأسباب أخرى ليست معهودة للناس.
وهذه أمثلة لم تُذكر فيها كلمة السنَّة، لكن ذكر فيها معناها وهو التذكير بأن الأسباب المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة:
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43] .
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بُمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51] .
وكما يذكِّرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بسنَّة تكرار النتائج إذا ما تكررت الأسباب؛ فإنه يرشدنا أحياناً إلى أسباب لم نكن نعلمها. من ذلك قوله ـ تعالى ـ:
{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118] .
في هذه الآية الكريمة دليل على أن هنالك علاقة سببية بين الأقوال اللسانية والأحوال القلبية. فإذا ما تشابهت القلوب تشابهت الأقوال، ولا يلزم لذلك أن يأخذ اللاحق من السابق. كما قال ـ تعالى ـ:
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53] .
أتواصَوْا به؟ كلاَّ؛ فهم لم يَلْقَ بعضهم بعضاً، ولكن سبب التشابه في الأقوال هو الطغيان الذي في القلوب.
وبسبب هذا التلازم بين الأحوال القلبية والعبارات اللسانية كان من المتعذر على المنافق أن يخفي نفاقه. قال ـ تعالى ـ:
{وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30] .
بل إن القرآن الكريم ليدلنا على أن هذه العلاقة بين الظاهر والباطن سُنَّة عامة:
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] .
في هذه الآية دليل على أن هنالك تلازماً بين الإرادة والعمل. فمن ادعى أنه يريد عملاً معيناً وكان قادراً على أن يأتي به أو بشيء منه ثم لم يفعل ذلك علمنا أنه كاذب في دعواه.
يذكِّرنا الإمام الشاطبي بأن هنالك علاقة لزوم بين معرفة الدين الحق واطِّراد السنن، أي أنه لو لم تكن السنن الكونية مطَّردة لما أمكن أن تعرف حقيقة الدين؛ لأنه إنما يعرف بالمعجزة التي تخرق العادة؛ فإذا لم تكن هنالك عادة مستمرة لم يكن هنالك ما يخرق.
ويذكِّرنا ـ رحمه الله ـ بأن اطراد التشريع مبني على اطراد السنن الكونية. أعني أنه لو كان خلق الناس وخلق الكون من حولهم في تغير مستمر لما أمكن أن يكون لهم تشريع ثابت لا يتغير. فثبات التشريع وعدم تغيره من زمان إلى زمان أو من مكان إلى مكان دليل على أن من شرع لهم لا تتغير فطرهم وطبائعهم التي بني عليها التشريع، وإن تغيرت بعض أحوالهم التي لا علاقة لها به (1) .
بقي من هذا الكلام سؤال نختم به هذا الحديث الموجز عن السنن الكونية: ما علاقة الأسباب بالخالق سبحانه وتعالى؟
افترق الناس في هذا إلى طرفين غالطين ووسط أصاب الصواب. وقف أصحاب الطرف الأول عند حدود الأسباب، واعتقدوا أنها هي التي تفعل بنفسها؛ فلا حاجة إلى افتراض خالق لها، وغفلوا عن حقيقة ماثلة أمامهم تقول: إنه لا يوجد في العالم سبب مستقل بفعل؛ فما من شيء ندعوه سبباً إلا وهو معتمد في فاعليته على أسباب أو شروط أخرى، تعتمد هي الأخرى على أسباب وشروط، فأنَّى يكون مستقلاً؟ وغلط مؤمنون فظنوا أن فاعلية الأسباب تتناقض مع خلق الله، فكأنهم ظنوا أنه إذا عُزي الفعل للسبب فلا يمكن أن يعزى إلى الخالق، ولذلك قالوا عن اطِّراد السنن التي يرونها ماثلة أمامهم بأن الله ـ تعالى ـ يخلق عندها لا بها، أي إذا رأيت الورقة أُلقيت في النار فاحترقت فلا تقل: إن النار أحرقتها، ولكن قل: إن الله أحرقها عند ملاقاتها للنار. قال أهل الحق: إن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق الأسباب وجعلها أسباباً؛ ففاعليتها لا تدل على الاستغناء عنه، كما أنها لا تتناقض مع خلقه لها، بل إن من عادته ـ سبحانه ـ أن يخلق بالأسباب، ولذلك استعملت باء السببية في وصف كثير من الحوادث الطبيعية:
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] .
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] .
وكما استُعملت في القرآن باء السببية فقد استُعملت كذلك عبارات أخرى كثيرة تدل على السببية، لكن المجال ليس مجال تفصيل لهذا الأمر.
نكتفي بهذا الآن، ونستأنف الحديث بإذن الله ـ تعالى ـ في معايير أخرى من معايير العقلاء.
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) انظر في تفصيل كل هذا كتابه (الموافقات) ، كتاب المقاصد، النوع الرابع، المسائل الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة. وقد عزا ـ رحمه الله ـ أول هذين الدليلين إلى الإمام الرازي يرحمه الله، ووصفه بأنه من أنبل الأدلة.(218/11)
فضيلة التعاطف
د. عبد الكريم بكار
حين يعيش الناس في قرى صغيرة وأحياء ضيقة، فإنهم يجدون أنفسهم منخرطين في أعمال تعاطفية وتعاونية على نحو غير مقصود، وهذا ما كان يلمسه الناس على نحو واضح في الريف والمدن الصغرى. أما اليوم فقد تغير كل شيء؛ حيث اتسع العمران، وتعقدت العلاقات، ونمت مساحات الحرية الشخصية إلى حدود الأنانية والخوف من الانفتاح على الآخرين والخوف من الاتصال بالأغراب. وإذا نظرنا إلى (السلام) بوصفه رمزاً للمشاركة المعنوية والتعاطف الأولي المجاني؛ فإننا سنجد تقلص أعداد المهتمين به؛ فهناك من لا يسلِّم إلا على بعض من يعرف، وهناك من لا يرد السلام؛ لأن الرد يقلل من درجة انشغاله بما هو منشغل به، وهناك ـ مع الأسف الشديد ـ من صار يبدي نوعاً من الضيق والانزعاج ممن يسلِّم عليه بوصف السلام شيئاً يحمل معنى العدوان على الكينونة الشخصية. هذه الحالة ترمز إلى أكثر مما نعده تركاً لسنة أو تقصيراً في أداء واجب؛ إنها ترمز في الحقيقة إلى نوع من وهن الرابطة المشتركة التي تجعل من الناس في البلدة الواحدة كياناً متواصلاً متراحماً متعارفاً. وقد وصلنا إلى ما هو أشد إثارة للقلق من ذلك؛ حيث إننا نشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى أن كلمة (الأخوة الإسلامية) التي سوّدنا في ذكر فضائلها صفحات كثيرة صارت شبه فارغة من أي معنى على الصعيد العملي وشبه مهملة على الصعيد التربوي والتنظيري.
ولست أريد هنا الخوض في ذكر أسباب هذه الوضعية، لكن أحب أن أشير إلى بعض ما يجب عمله على صعيد تحسينها:
1 - حين يسود الجفاء ويضعف التواصل والتعاطف بين أبناء البلد والعمل الواحد فإن الناس ينظر بعضهم إلى بعض بعيون متوحشة، ويصبح تلاقي عيونهم مصدراً للضيق والانزعاج. وحين تقع مشكلة أو يقع خلاف حول شيء في غاية السهولة، كما يصبح رأب الصدع شاقاً وعسيراً. ومن هنا فإن إحسان الواحد منا إلى غيره من الإخوان والجيران والزملاء، يستهدف أولاً تطهير نفسه وإعداد قلبه لتلقي مسرات البذل والتضحية، وهي مسرات ذات طعم فريد ومغاير تماماً لمسرات الاستحواذ وتلقي المعونة. إن المتعاطف مع غيره يحسن إلى نفسه أولاً، ويتلقى جزاء ذلك الإحسان على نحو فوري ومباشر. ولنتأمل في قول الله ـ تعالى ـ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] . وحين يعلم المسلم أن الله ـ جلّ وعلا ـ هو الذي يتلقى الصدقة ليجزي عليها أفضل الجزاء فإن مشاعره وآماله تتحرك في اتجاه الاغتباط بالإنجاز الذي حققه. وهذا المعنى هو ما يشعّه قول الله ـ تعالى ـ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأَخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104] .
إن الأعمال الخيرية والتطوعية وكل الأنشطة ذات الصبغة الإنسانية تشكل حجر الزاوية في إنشاء المجتمع المسلم، وجعله يقف على قدميه. أما القوانين والعقوبات فإنها تحمي ذلك المجتمع، ومن خلال إنشاء المجتمع وحمايته نحمي الخُلُق والروح، ونحمي الأجيال الجديدة من الانسلاخ من الهوية الإسلامية.
2 - إن التعاطف فطرة فطر الله ـ تعالى ـ الناس عليها، ولهذا فإننا نشاهد طفلاً رضيعاً يصرخ ويبكي إذا رأى طفلاً آخر يبكي. إنه لا يستطيع أن يميز بين نفسه وبين العالم الذي يعيش فيه؛ لأنه يرى أي كرب يصيب أي طفل آخر على أنه كرب خاص به. إن الشفقة ومراعاة مشاعر الآخرين جزء من التراث الجيني للبشرية، لكن هذه السمات تختفي إذا لم تتم رعايتها وتغذيتها. ومن هنا نفهم الثواب العظيم الذي أعده الله ـ تعالى ـ لأولئك الذين يعطفون على العناصر الضعيفة في المجتمع، ويعملون على سد خلاَّتها. وما أعظم دلالة قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما (1) . وقوله أيضاً: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» . قال راوي الحديث: «وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر» (2) .
3 - إن أطفالنا يحفظون العديد من الآيات والأحاديث التي تحث على عمل الخير، لكن هذا الحفظ لا يؤتي ثماره المرجوة؛ وذلك بسبب الممارسات اليومية للآباء والأمهات، والتي لا تشير إلى أنهم يهتمون بأوضاع غيرهم. كما أن انعدام الأُطر التي يبذل الأطفال من خلالها المعروف والإحسان يشكل سبباً مهماً في عدم اكتراث الأطفال بالأوضاع السيئة التي يعيش فيها كثير من المسلمين القريبين والبعيدين.
إن علينا أن نفكِّر داخل الأسر في الكيفيات التي نقدم من خلالها المعونة لمن يستحقها. وعلى المدارس والجامعات أن تحدد ساعات يجب أن يقضيها الطالب في الخدمة العامة وتقديم النفع العام بوصفها شرطاً للتخرج على ما هو معمول به في بعض الدول المتقدمة. وعلى الإعلام الذي أخذ كثيراً بعقول الأطفال ونفوسهم أن ينحو منحىً جديداً في التوجيه، كي يسهم في إخراج جيل متعاطف وودود وخدوم، وإلا فإن التطورات السلبية التي تحدث الآن قد تفضي بنا إلى حالة صعبة من الجفاء والتشرذم والأنانية.
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) رواه الشيخان.(218/12)
الأدب الذي نريده
د. محمد صالح الشنطي
قد يبدو هذا العنوان مستغرباً مثيراً للتساؤل؛ لأن الأدب رؤية تتشكل في فضاء الكلمة، وتنبثق من صميم الوجدان؛ حيث تتواشج التجربة الحية في نسيج خاص مع نبض القلب ووجيب الفكر. والعمل الأدبي لا يدخل إلى مختبر التصميم ومعمل الذهن ليخضع لجملة من المواصفات والمعايير ليتم إنتاجه وفقاً لها، ثمَّة دوافع داخلية حميمة هي التي تحفز الكاتب إلى إبداع النص فيتشكل بعيداً عن التجريد، لذا يبدو الأمر أبعد ما يكون عن الوصفات الجاهزة والخرائط المعدّة.
من هنا كان العنوان متجاوزاً للحدود الظاهرة على سطح الدلالات المباشرة للكلمات إلى ما هو أعمق وأبعد غوراً. ونحن حين نتحدث عن الأدب الذي نريد إنما نعني البُنية الثقافية الأساسية لمن يبتكر ويكتب ويبدع هذا الأدب، بعيداً عن المفاهيم التي تنظر إلى الإبداع الأدبي على أنه انحراف عن الفطرة وإيغال في تيه التجريب، وامتياح من سراديب اللاوعي وشطحات اللامعقول وخروج على مواضعات المنطق.
إننا حينما نتكلم عن الأدب ندرك إدراكاً كاملاً أننا نتحدث عن الرؤية التي تتبلور على قاعدة فكرية ووجدانية وإنسانية ملتزمة نافذة متمكنة من اللغة التي هي مادتها الأساسية، بما تختزنه من ثراء جمالي ودلالي سَرَى في عروق كلماتها على مدى العصور والأزمان، وترسّب في قرارات تراكيبها وفي مجالها الحيوي، ففهم اللغة والإحساس بنبضها واختراق غلافها الخارجي وملامسة باطنها ومعانقة ما يختمر في داخلها من خفقات إيمانية مذخورة ومعايشة ما توحي بها عبر تاريخها الممتد وعبر النسيج المعجز لبلاغتها، كما تجلّى في القرآن الكريم، ثم في روائع الكلم وشوارد القول، كل ذلك أساس في فهم الأدب الذي نريد؛ فاللغة ليس مجرد مفردات متراكمة، بل هي روح وثقافة وحياة.
إن الأديب يعمل داخل اللغة ويمخر عبابها ويغترف من بحرها المحيط الذي يغوص إلى أعماقه ولا يكتفي باللهو على شاطئه، ويتعرف على ما يدخره من وهج وثراء وأصداف مكنونة، إننا في حديثنا عن الأدب الذي نريد إنما نمضي في رحلة طويلة وعرة المسلك، هذه الرحلة التي نتطلّع فيها إلى بناء الفكر والوجدان. ولما كان الأساس هو الذي يصون البناء من الانهيار؛ فإن ضرورة الاطمئنان إلى سلامة الفطرة وسواء الطبيعة الإنسانية وصيانتها وصمودها أمام عواصف الفكر وأعاصير الثقافات الزاحفة في إرهاب العولمة وتحت لافتة التحديث والتطوير متوشِّحة بمختلف الشعارات ومتزجلة بألوان الزيف في عملية خداع ضخمة تخاتل الذوق وتصادي الوجدان أمر مهمٌّ. إننا نريد أدباً ملتزماً منبثقاً من صميم التجربة الإنسانية الحية، بازغاً من اقتناعات محفوفة بدفء العاطفة التي تختلج في دماء القلب، ولا تسترق الكلمات أو تلوي أعناق الدلالات أو تعبث بسياقات اللغة وتطرح بالمفردات في فضاءات عبثية.
والالتزام المطلوب ليس التزاماً (سارترياً) مقدوداً من لحم فكر ملحد أو ضال، وإنما التزام نابض من محب إنساني يحترم الطبيعة البشرية ولا يتركها نهباً للضلالات والرؤى الغائمة، ويخذلها لتبقى في صقيع الغربة الروحية والنفسية.
نريد أدباً يستفيد من منجزات الغير في مجال الجماليات، ولكن برؤى إنسانية إسلامية غير مكدّرة ولا مُهجّنة، نريده صافياً من شوائب التيه ومخرجات الانحلال، بعيداً عن الادّعاء والزيف والتمرّد الأهوج والتطرف الأعمى، والنرجسية الجوفاء.
نريد أدباً تخصبه الروح، وتدفئه التقوى من غير تعاظم أو مباهاة، ننشد فيه واحة تستروح فيها النفوس راحة القلب وسكينة الجوارح، نريده مضمخاً بنزف واقعنا ساعياً إلى التئام جروحنا، وقبل ذلك كله نريد أدباً غنيّ النفس شفيف الروح.
__________
(*) ناقد إسلامي.(218/13)
الاستفزازات الأمريكية ليست وليدة 11 سبتمبر
ممدوح إسماعيل
ترددت مقولة في الإعلام العربي عبر وسائله المتعددة مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحارب بلداً عربىاً ولا مسلماً من قبلُ، وأنه ليس بين العرب والأمريكان ثأرات قديمة أو جروح قديمة من استعمار ماضٍ كما هو الحال مع البريطانيين والفرنسيين، وأن حرب واحتلال العراق ليس ضد العرب ولكن ضد الإرهاب والاستبداد وأسلحة الدمار؛ ولما انتفى الاستبداد، ولم يجدوا أسلحة دمار شامل قالوا من أجل ترسيخ الديمقراطية، وحتى هذه الدعوى لم تجد تصديقاً في الواقع. ولقد اعتمدوا فى ترويج مقولاتهم على أن صفحاتهم المدونة فى التاريخ مجهولة للمعاصرين، ولكن بفضل الله وعملاً على ربط الحاضر بالماضي وكشف زيف الطغيان الأمريكي بكل صوره تبرز تلك الصفحات، وتبدأ بأول صفحة مجهولة؛ ففي عام 1800م ظهر فى الجانب الغربي من البحر الأبيض المتوسط سفينتان بحريتان أمريكيتان تجوبان البحر بحجة وهمية هي مكافحة القرصنة والنضال ضد القرصنة (كما يحدث الآن لا بد من وجود حجة وهمية الإرهاب ـ أسلحة الدمار الشامل) .
وفي الفترة من عام 1801 - 1805م شن الأمريكيون حرباً دون سابق إنذار ضد طرابلس الغرب (ليبيا) وحاصر الأسطول الأمريكي العاصمة طرابلس (رغم وجود اتفاقية عام 1796م بين الأمريكان وحاكم طرابلس لاستخدام الموانئ والمياه الإقليمية للسفن الأمريكية كترانزيت مقابل 10 آلاف دولار سنوياً) واتصل عملاء أمريكا بشقيق حاكم طرابلس (داي طرابلس) يغرونه بالاستيلاء على الحكم بدلاً من أخيه وكان ذلك الشقيق يعيش وقتها فى القاهرة واسمه (حامد كرمنلي) ووقع اتفاقية مع أمريكا لمساعدته في الوصول إلى حكم ليبيا بدلاً من أخيه يوسف كرمنلي.
ومقابل ذلك تعهد العميل (حامد كرمنلي) بتقديم العون للبحرية الأمريكية ضد التجار الأوروبيين المنافسين وأن يوفر للأمريكان وضعاً مميزاً فى البلاد، ووعد بتعيين القنصل الأمريكي في تونس (إيتون) قائداً للقوات المسلحة الليبية، وتولى (إيتون) قيادة الجيش الليبي المشكل من أعوان (حامد كرمنلي) بالأموال الأمريكية ومساعدة المخابرات الأمريكية، وهاجم مدينة (درنة) بمعاونة مدفعية الأسطول الأمريكى وفصيلة من المشاة البحرية، ورفع العلم الأمريكي فوق (درنة) ومنها تقدم إلى طرابلس، وعندئذ ذهل (يوسف كرمنلي) حاكم طرابلس من المفاجأة؛ حيث لا أسباب ولا مقدمات تدعو لهذا الهجوم الأمريكي، فوقَّع مضطراً معاهدة مع القنصل العام الأمريكي في أفريقيا الشمالية تحقق لهم مطالبهم، وكانت هذه المعركة أول معركة في تاريخ العالم العربي تشنها أمريكا على بلد عربي مسلم.
ويتغنى الأمريكان حتى يومنا هذا في نشيدهم الوطني لمشاة البحرية بهذه المعركة قائلين: (من تلال مونتيزوما إلى سواحل طرابلس، في السماء، في الأرض، في البحر خضنا معارك الوطن) . وفي مقابل هذه قامت (زمرة إيسكس) وهي كتلة من رجال الأعمال الأمريكان عرفت بهذا الاسم واسم آخر (شركاء بوسطن) وكان لهم نفوذ سياسي كبير في الولايات المتحدة نتيجة الأموال الطائلة التي يجنونها من تجارة الأفيون، وكانوا يؤثرون في انتخابات مجلس الشيوخ وتعيين الوزراء والشخصيات الهامة. ونلاحظ الدافع الاقتصادي كالبترول حالياً؛ بتكريم القائد (إيتون) حيث وصفته بأنه قاهر أفريقيا، ومنحته ولاية (ماساشوستش) هدية عبارة عن 10 آلاف فدان من الولاية.
وبينما كانت السفن الحربية الأمريكية تستعرض عضلاتها في البحر الأبيض بعد الاستيلاء على طرابلس تحركت السفن الأمريكية نحو ميناء طنجة بالمغرب وحاصرته بدون أسباب أو مقدمات أو إنذارات، وتلقى ملك المغرب رسالة إرهابية من قائد القطع البحرية الأمريكية في أكتوبر عام 1804م جاء فيها بالحرف بالواحد: (أيرغب السلطان في السلام أم في الحرب؟) فهل بعد ذلك إرهاب؟ التاريخ يعيد نفسه: من ليس معنا فهو ضدنا؛ إرهاب لا حدود له.
وعلى أثر وصول تلك الرسالة والتحذير والحصار ضعف الملك، وأذعن أمام الحصار ووقع معاهدة تضمنت شروطاً مجحفة للمغرب، والعجيب أنها مدونة مفعول معاهدة كانت موقعة بينهم عام 1786م بشروط إضافية جديدة.
وهكذا وتحت الإرهاب الأمريكي ضاعت ليبيا ثم المغرب، ولم يبقَ غير تونس التي قام القنصل الدبلوماسي الأمريكي بأعمال استفزازية مع الحكومة التونسية اضطر على أثرها داي تونس في يوليو عام 1805م لطرد الممثل الأمريكي، وكان الأمريكان في انتظار تلك الخطوة؛ فعلى أثر ذلك بادرت المدفعية الأمريكية في أول أغسطس عام 1805م بفتح نيرانها بقسوة على مدينة تونس العاصمة بأوامر من قائد الأسطول البحري الأمريكي (روجرز) دون سابق إنذار.
وسقطت القنابل والقذائف، وتناثرت الشظايا عشوائياً فوق المنازل والبيوت البسيطة والخيام، تدمِّر وتهدم، وتفتك بهذا وتقتل ذاك دون تمييز بين رجل وامرأة، أو بين شيخ وطفل؛ إنها القرصنة قديماً والإرهاب حديثاً. واستلم داي تونس من (روجرز) تعهداً ضمنياً للتوقيع عليه مفاده أن يُعطَى فوائد وتسهيلات إضافية لأجل الربابنة والكومودورات الأمريكيين، وقال (روجرز) إن التوقيع على هذه الوثيقة في الحال ينقذ عاصمة تونس من الدمار المحقق. وبدون تردد وقع داي تونس لتنكشف وتنفضح المقولة الأمريكية حول القراصنة، ويتضح أنهم هم القراصنة. ولعل ذلك يأخذنا إلى ما كتبه المؤرخ الأمريكي سبيرس عام 1897م أي بعد دخول تونس بحوالي 90 عاماً يقول: «لم تُخْفِ أمريكا اعتداءاتها على شعوب العالم الإسلامي، ولم تستطع أن تصور للعالم أنها صديقة للعالم الإسلامي، وأنها محبة للسلام وصديقة الإسلام الدائمة وهو ما أدهش حتى شعوب أوروبا؛ فتحت القصف العشوائي لمدافع السفن الأمريكية أُمليت على حاكم تونس شروط ومعاهدة وهو ما لم يحدث له مثيل من قبل» . المؤرخ يتحدث عن زمانه فما باله لو عاش لأيامنا هذه؛ فماذا كان سيقول وماذا كان سيكتب؟ ولم تكن الجزائر بعيدة عن هذه القرصنة الأمريكية، ولكن كانت أمريكا في الفترة من عام 1812م إلى 1814م مشغولة في الحرب الأنجلو أمريكية الثانية، وفور انتهائها عرضت زمرة (إيسكس) على الحكومة الأمريكية خطة احتلال الجزائر وطالبت الحكومة بالتنفيذ عام 1815م. وعلى الفور اتجهت سفينتان حربيتان نحو الجزائر بقيادة (ديكاتور ودبنبريدج) أيضاً تحت الحجة الوهمية القرصنة والقراصنة؛ فلم تكن كلمة الإرهاب والإرهابيين موجودة. وعندما اقتربت السفن من موانئ الجزائر رفعوا على سفنهم الأعلام الإنجليزية لتضليل الجزائريين، وفي هجوم وحشي خاطف وسريع وغادر على الأسطول الجزائري صوبوا مدافعهم فدمروه، وغرقت السفن الجزائرية بمن فيها، وتوجهت سفن الأسطول الأمريكى نحو مدينة الجزائر لتمطر الأهالي المدنيين الأبرياء بالقنابل والقذائف من المدفعية الثقيلة، وأثناء ذلك القصف والدمار والتخريب أرسل قائد الأسطول الأمريكى إنذاراً للحاكم الجزائري (عمر) بتوقيع معاهدة جائرة تتضمن بنوداً لمنح التجار الأمريكيين فوائد وتسهيلات، فلم يوافق الحاكم الجزائري (عمر) على هذه المعاهدة، فعاد الأسطول الأمريكي عام 1816م بسفن حربية كبيرة مزودة بمدافع أضخم وأحدث؛ عندئذ طلب الحاكم الجزائري من الدبلوماسي الأمريكي (شيلر) أن يعطيه شهادة خطية تفيد أنه اضطر لقبول هذه الاتفاقية تحت تهديد فوهات المدافع، وفعلاً حصل على تلك الشهادة، ووقع المعاهدة مع أمريكا مجبراً تحت التهديد في ديسمبر 1816م.
وأخيراً تبقى مصر التي هي دائماً حاضرة في مخططات كل المستعمرين؛ ففي عام 1870م كان يعيش في القاهرة أكثر من 50 عسكرياً أمريكياً بمن فيهم 5 جنرالات يعملون في خدمة القوات المسلحة المصرية؛ فقد تم تعيين الجنرال الأمريكي (ستون) رئيساً لهيئة أركان حرب القوات المسلحة، والعقيد (شايا لونج) لشؤون السودان، ولقد استلم خديوي مصر عام 1870م تحذيراً من الحكومة البريطانية والفرنسية بسبب النشاط الأمريكي في الشؤون العسكرية المصرية، وكان هذا الإنذار للتمويه على حقيقة العلاقات الخفية بين المخابرات الأمريكية والبريطانية والإيطالية؛ فقد قامت الدول الثلاث بإمداد جيش الحبشة سراً بالسلاح، وعملوا على توريط مصر بالحرب ضد الحبشة عام 1876م لإضعاف الجيش المصري وإنزال الهزيمة به، ولقد اشترك ضباط أمريكان مع جيش الحبشة ضد القوات المصرية في تلك الحرب التي هزم فيها الجيش المصري بفضل الأسلحة والمساعدات الأمريكية والبريطانية والإيطالية، ولقد استغلت بريطانيا تلك الحرب لتهاجم الإسكندرية عام 1882م وقصفتها قصفاً وحشياً؛ والخطير والملفت للنظر في هذه الحرب البريطانية هو اشتراك أربع قطع بحرية أمريكية بقيادة الجنرال البحري (نيكولسون) مع الأسطول الإنجليزي في مهاجمة الإسكندرية، وتسبب هذا الهجوم في قتل عشرات الألوف من المصريين، وتدمير المدينة، وبعد القصف نزلت على ساحل مدينة الإسكندرية فصيلة بحرية أمريكية مع قوات الاحتلال البريطاني، وكان يرأس هذه الفصيلة العقيد (شايا لونج) نائب رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية لشؤون السودان.
ما قدمناه مرور سريع على صفحات مجهولة لكثير من العرب والمسلمين، ولكنها في الوقت الحالي مهمة جداً، أن تُعرف ويعيها الجميع ليتعلموا من الماضي والتاريخ دروساً تفيدهم في فهم الواقع والتعامل معه بفطنة؛ فما أشبه الليلة بالبارحة، فأسباب الحرب لم تختلف، والحجج للحرب لم تختلف، ولكن الذي اختلف ليس الأمريكان وإنما العرب.
ملحوظة: من أراد التوثيق يمكنه الرجوع إلى الموسوعة البريطانية حرب طرابلس الغرب وما يتعلق بها، وموسوعة أنكارتا الخاصة بميكروسوفت.
__________
(*) محامٍ وكاتب إسلامي.(218/14)
أوروبا ـ تركيا ـ جُحا
أحمد فهمي
حسب الطرفة المروية فإن جحا تعهد أن يعلِّم حمار السلطان اللغة الإنجليزية خلال 20 عاماً، وكان منطقه يعتمد على استخدام نظرية الاحتمالات؛ فبعد 20 عاماً سيحدث غالباً واحد من ثلاثة على الأقل: أن يموت السلطان، أو يموت الحمار، أو يموت جحا.
بعض الكتابات تقول إن شخصية جحا الأسطورية ذات أصل تركي، وربما لذلك يفضل الاتحاد الأوروبي أن يتعامل مع الاشتياق التركي للانضمام إلى الاتحاد وفق المنطق الجحوي، فأعلن بدء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد، وهي مفاوضات - لمن لا يعرف - يُرجح أن تستمر مدة لا تقل عن عشرة أعوام كاملة، وهو ما يطرح ظلالاً من الشك حول ماهية القرار، هل يعد قبولاً عاجلاً أم رفضاً آجلاً؟
والقرار الأوروبي لا يقدم ضمانات حقيقية لانضمام تركيا إلى الاتحاد، ولذلك اعتبره المراقبون تعبيراً عن تأجيل أو ترحيل لقضية شائكة إلى أجيال قادمة؛ فلا تزال دول رئيسة في مقدمتها فرنسا وألمانيا ترفضان الانضمام التركي، وأي (فيتو) من هاتين الدولتين يمكن أن ينسف الحلم التركي في لحظات، كما أن 70% من الفرنسيين يرفضون الأتراك، ولذلك فإن ترحيل الأزمة في قالب متفائل تمثل حلاً ذهبياً لجميع الأطراف؛ فبعد عشر سنوات أو أكثر قد يغير القادة الجدد مواقفهم، أو تغير الشعوب رأيها، وربما يريح الأتراك الجميع ويتنازلون عن حلمهم العظيم.
ولكن ماذا يفترض أن يحدث في مفاوضات السنوات العشر؟ أشياء كثيرة في مقدمتها قيام الأتراك بالتهيؤ لتنفيذ 80.000 صفحة من قوانين الاتحاد الأوروبي تشمل كل مجالات الحياة، وبعبارة مبسطة: سيبدأ الأتراك مرحلة جديدة في ماراثون «خلع الهوية» الذي يمارسونه من عقود طويلة، وكأن ما قدمته العلمانية التركية منذ أتاتورك إلى الآن لإثبات النزاهة أو البلاهة غير كاف؛ فإسقاط الخلافة، وتحريم الإسلام، وتأليه العلمانية، وتحريف اللغة، ليست إنجازات كافية، وكأن قيام تركيا بدور القدوة ومصدر الإلهام للعلمانيين في بلاد المسلمين ليس مقنعاً للعالم الغربي القديم كي يرحب بالنظام التركي الذي قدم آخر إنجازاته وهو مشروع علمنة طَموح للحركات الإسلامية السياسية ممثل في حزب العدالة الحاكم.
والطريف أن الأتراك أنفسهم يعلمون جيداً أن الصراع هو محور العلاقات بين العالمين الغربي المسيحي، والإسلامي. ويقرأ الأتراك حالياً بشغف رواية تركية من الخيال العلمي اسمها «العاصفة المعدنية» وتتحدث عن حرب صليبية تشنها الولايات المتحدة بزعامة (جورج بوش) في العام 2007م لطرد الأتراك البرابرة من الأناضول وتحويلها إلى أرض نصرانية، وقد بيع من الرواية 300 ألف نسخة.
ونعود إلى المنطق الجحوي لنجد أن دولاً أوروبية أخرى بدأت تعتبره مفيداً في التعامل مع القضايا العربية، فقد بشَّر وزير الخارجية البريطاني جاك استرو بقرب استقرار العراق، فقال: «أنا متفائل بالنسبة للعراق أعتقد أنه بين خمس إلى عشر سنوات سوف نراه وقد أصبح مستقراً» .. فهل هناك أحد يحسب؟(218/15)
حقيقة تقسيم العراق ولعبة الدستور
محمد القيسي
التقارير الرسمية وغير الرسمية التي كانت تصدر عن الأمريكان قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت جميعها تؤكد لمتتبعيها قلقهم الكبير من العبارات التي تتضمنها خطابات الإسلاميين المتشددين الرافضين للهيمنة الأمريكية والداعين للتصدي لها، والتي كان يَرِدُ فيها ذكر إقامة الدولة الإسلامية؛ ولم يكن غائباً عن بال أحد أن دولة الخلافة الإسلامية ازدهرت في العراق وانتهت فيه؛ وبغداد بالنسبة للعرب والمسلمين هي عاصمة الخلافة ومركز إشعاعها. هذه الأفكار كانت تؤرق الأمريكان وكذلك الصهاينة وتجعلهم يستشعرون خطورة الدولة الإسلامية؛ ولذا فإنهم استبقوا الأمر، واتخذوا قرارهم مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالقضاء على العراق بكيانه التاريخي المعروف تماماً؛ بحيث يجب تحويله إلى كيان آخر غير الذي كان عليه؛ لأنهم على قناعة بأن هذا البلد يشكل خطراً عليهم باعتباره يمثل الثقل الأساسي للأمة العربية والإسلامية ودولتها التي حكمت نصف الكرة الأرضية، وهو الأمر الذي لم يتسنَّ لكل الإمبراطوريات في التاريخ. وكان لا بد لهذا الهدف من محتوى اقتصادي يحقق لهم أسس الهيمنة على العالم وهو المال الذي يمنح القوة والديمومة للتفرد الأمريكي. فقبل ثلاثة أعوام من الغزو ذكر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (هارولد براون) وهو يدلي بشهادته أمام الكونجرس أن التراجع المتنامي لأمن مصادر الطاقة يمثل أكبر تهديد لأمن الولايات المتحدة على المدى البعيد.
وهذا الأمر ليس جديداً؛ فإن جميع الساسة الأمريكان يركزون على أمر النفط، وقد قالها صراحة الرئيس الأمريكي السابق (جيمي كارتر) في آخر خطاب له حينما كان رئيساً بأن أي محاولة تقوم بها قوى خارجية للسيطرة على منطقة الخليج العربي ستعتبر تحدياً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة، وتستلزم مواجهتها بكافة الوسائل بما في ذلك القوة العسكرية. وعليه فإن المسألة هي سياسية واقتصادية في آن واحد؛ حيث إن الإدارة الأمريكية تتوفر على معلومات تفصيلية عن النفط العراقي وأهميته، ولذا فإن مخططي الحرب الأمريكيين ركزوا على أهمية السيطرة على حقول النفط العراقي في الشمال بكركوك والجنوب في الرميلة بأي ثمن؛ لأنهما يضخان ثلاثة أرباع الإنتاج الحالي من النفط العراقي؛ ومثل هذا الهدف قد يتطلب تقسيم العراق بأي شكل من الأشكال. وهكذا فإن أهداف احتلال العراق لا يمكن أن تدانيها أي اهداف أخرى من ناحية الجدوى الاقتصادية والاستراتيجية. فلنتصور مدى خطورة الأمر: تدمير دولة لأهمية دورها التاريخي وخطورته في نهضة الأمتين العربية والإسلامية، وتأثير ذلك على العالم وعلى الإنسانية، وكذلك الاستحواذ على ثرواتها النفطية المهمة للاقتصاد الأمريكي وفي تعزيز الهيمنة الأمريكية على العالم وديمومتها.
إن تحقيق مثل هذه الأهداف الحيوية ليس من السهولة بمكان؛ فلا بد أن تكون صفحاتها عديدة ومتنوعة، ولا بد أن يتم إنجازها حتى لو كان الثمن ذبح نصف الشعب العراقي وتدميره وتمزيقه؛ فهم عاقدون العزم عليها بعد أن أضحت السبيل الوحيد الآن لإنجاز مشروعهم المتهاوي تحت ضربات المقاومة العراقية الباسلة والرفض الشعبي الكبير للاحتلال والفضائح المتوالية التي كشفت حقيقته وأهدافه وممارساته التي أصابت أيضاً المجتمع الدولي بالصدمة والشلل، وجعلته عاجزاً عن إصلاح هذا الخطأ الكبير والجريمة التي ترتكب بحق العراق وشعبه؛ ولذا فإن الإدارة الأمريكية تعتبر مسألة الدستور وإتمام ما يسمى بالعملية السياسية المزعومة مخرجاً مهماً لها ولما تقوم به في العراق الآن أو لاحقاً؛ إذ إن المهم لديها هو أن تنهي صفة الاحتلال عن وجودها على أرض العراق ومسألة التحكم بمصيره ومقدراته وارتهان سيادته، وتُظهر للعالم أن العلاقة القائمة بينها وبين أتباعها العملاء الذين نصبتهم في العراق هي علاقة مع دولة فيها حكومة ذات صفة ذات سيادة لكونها حكومة دستورية. وبهذا تسقط كل المبررات والحجج والاتهامات التي تقيد استفرادها بالعراق؛ لأنها في هذه الحال ستكتسب صفة دولة تتعامل مع دولة دستورية صديقة طبقاً لاتفاقيات ومعاهدات ثنائية ووفقاً لمصالح الدولتين، بما لا يجعل مجالاً للشرعية التي تحكمها القوانين والمعاهدات الدولية المطالبة باتخاذ إجراءات ضدها أو ملاحقتها عن أي جرائم أو أفعال أو الاعتراض عليها أو حتى انتقادها؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى هو لتركيع الشعب العراقي وإخضاعه لإرادتها عبر أعوانها باسم الدستور والشرعية الوهمية القائمة على فكرة الإيغال بتمزيق وحدته وكيانه التاريخي المعروف، بالاشتراك مع عملائها الذين تعاونوا معها على الغزو والاحتلال، وأصبحوا على رأس السلطة في العراق، وكذلك بالتعاون مع أطراف انتهازية أخرى ظهرت مؤخراً داخل العراق؛ بالإضافة إلى عدد من دول الجوار في مقدمتها إيران؛ فالجميع باتوا يعملون على تمزيق هذا البلد باعتباره الحل الأمثل للمضي في السيطرة عليه وإنهائه.
فدعوة عبد العزيز الحكيم الطبطبائي في 11 آب /أغسطس في خطابه بمدينة النجف للمطالبة بإقامة إقليم فيدرالي لجنوب ووسط العراق لم تكن محض مصادفة أو وليدة رغبة متفردة للتجمع الطائفي الذي يتزعمه (1) ؛ وإنما هي في صلب الموضوع لتحقيق الأهداف المتشابكة للتحالف الأمريكي الصهيوني المتناغم مع أحلام الفرس وأطماعهم.
إن تفكيك العراق وشرذمة الانتماء الوطني فيه، هو بالأساس هدف صهيوني؛ إذ إن الصهاينة كانوا أول من أطلق فكرة أن العراق دولة مصطنعة، وأن تركيبتها الأساسية التي تبلورت عام 1920 بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية كانت تركيبة خاطئة، ولا بد من إعادة صياغته وفق تقسيمات طائفية وعرقية، وقد سخروا كل أدوات الإعلام لإشاعة هذه الفكرة. لقد كانت هناك حملة مكثفة عشية دق طبول الحرب على العراق للترويج لهذه الفكرة؛ فقد تحدث بها المؤرح الصهيوني (بيني موريس) في لقاءات للإذاعات الأمريكية قبل الحرب على العراق قائلاً: «إن العراق دولة مصطنعة رسمها الإنكليز وخلطوا فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة أن تتعايش مع بعضها» كما تحدث عنها المؤرخ اليهودي الأمريكي (برنارد لويس) معتبراً أن العراق هو دولة مصطنعة، وأن احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، أي تفكيكه إلى عدة دويلات، بحسب الطبيعة السكانية، وانتماءاتها الدينية والعرقية. إن هذا أمر طبيعي بالنسبة للصهاينة بأن يخشوا العراق؛ لأنه البلد العربي الذي طالما دعا إلى توحيد الأمة العربية والإسلامية المترامية الاطراف رغم تنوع أطيافه واحتضانه لشتى الملل والنِّحل.
ونعود إلى أمر التقسيم عبر الفيدراليات؛ فلقد بدا خلال الأيام الماضية أن المضي فيه يواجه عقبات أهمها التنازع المحموم على الاستئثار بالمغانم بين الأطراف التي تسعى إلى هذا التقسيم الذي قد يُوجِد إشكالات عديدة، ورافق ذلك حالة الرفض الشعبي لها التي عبرت عنها التظاهرات التي جرت في مدن عديدة شاركت فيها مختلف الأطياف العراقية؛ فقد يجد الأمريكان في ظل الأوضاع الحالية أن إطلاق عملية تقسيم العراق على أساس صنع فيدراليات عرقية وطائفية قد يضاعف المخاطر على قوات التحالف، وربما تمثلت أمامهم تجربة البريطانيين؛ حيث اعتقدوا عند دخولهم بغداد في عام 1917 أن العراقيين غير موحَّدين، وأوغلوا في الاعتداء عليهم، ولكن البريطانيين فوجئوا بقيام انتفاضة شعبية شاملة في عام 1920 غطت كل العراق، وشارك فيها الشعب العراقي بكل أطيافه، وكلفت المحتلين الآلاف من القتلى، وهذا قد يدفعهم لتخفيف حدة الاندفاع للتنفيذ العاجل لموضوع الفيدراليات ويصار إلى تضمينها بصيغ مصطنعة مبهمة في مشروع الدستور، ضمن لعبة خبيثة يراد بها تمرير المخطط الأصلي لإنجاز العملية السياسية الوهمية التي تخدم الأمريكان، ولجر أطراف أخرى للمشاركة فيها والاستفتاء على الدستور. أما عن موضوع رفض السيستاني لهذه الفيدرالية أو تلك أو عدم مباركته لها، فنعتقد أن هذا الشخص لا يتصرف إلا كأداة يمرر لها ما يراد أن تنطق به طبقاً لاغراض المعنيين وإيحاءاتهم ليس إلا.
وللأسف فإن الأمر يبدو قد انطلى على بعضهم، كما راح آخرون يروجون له عبر إطلاق فتاوى واجتهادات متناسين الاحتلال وعدم شرعية كل إجراءاته التي لا تقرها أي شرعية أو قانون او دين، وهذا الأمر بيَّن لكل مؤمن ووطني غيور وهو ليس بحاجة إلى اجتهاد أو فتوى من أي كان مهما وضع أمام اسمه من مسميات وتخصصات؛ خصوصاً الذين راحوا يجتهدون اليوم في أمور الباطل بعد أن سكتوا عن الاجتهاد في أمور الحق والدعوة له.
إن اللعبة لن تنطلي على أحد؛ إذ إن مشروع التقسيم لا زال قائماً وحاضراً بقوة ليس عبر الفيدراليات فحسب، بل عبر موضوع تقاسم الثروات؛ فهو التقسيم الحقيقي للبلاد أيضاً؛ حيث إن توزيع الثروة حسب الأقاليم أو المحافظات يلغي تماماً ملكيتها القومية للعراق الموحد الذي سيكون مجرد كيان هش يتلاعب بمصيره أمراء الطوائف وسُرَّاق الثروات والمتحكمون بها؛ لذا فالكل الآن يريد حصته الأكبر منها لإيجاد الأرضية المادية لحالة التقسيم فيما بعد. فإن بدا ظاهرياً أنهم قد يتنحون مؤقتاً عن موضوع التقسيم العاجل للعراق عبر جغرافيته التي وضعوا لها خصوصيات مصطنعة؛ فإنهم يمضون في تقيسمه عبر قاعدته المادية وثرواته القومية، وهو الأمر الذي سيحوِّل مسألة التقسيم إلى واقع حال عبر التنازع على الثروات والاقتتال من أجلها، ولا يتطلب الأمر عندها أي جهد لعملية التقسيم إذا ما أريد لها أن تقر يوماً والعياذ بالله.
وعلى الشعب العراقي أن يعرف تماماً أن الأمريكان والصهاينة هم أصحاب هذا المشروع الخطير، وهم المتحكمون الحقيقيون بمصير البلاد والماسكون بمقدراتها، وهم من يشرفون على إعداد العملية السياسية الموهومة طبقاً لما يحقق أهدافهم في عراق مرهون مستقبله بمصلحة الأمريكان والصهاينة. أما هذه الدولة التي يريدون تصنيعها فهي دولة وهمية؛ فإن الظاهرين في الصورة هم أتباع ينفذون أهدافاً مشتركة للأميركان والصهاينة والإيرانيين وغيرهم لذا تراهم يتنازعون اقتسام العراق باعتبار أنه قد أصبح غنيمة بأيدي اسيادهم الذين تصرفوا على هذا الأساس منذ أول يوم دخلت فيه دباباتهم إلى بغداد. وفق هذا المنطق يتنافس الجميع ويتمادى في مشاريعه وطلباته لتحقيق أكبر قدر من الكسب في هذه الغنيمة التي يتصورون أنه قد غاب راعيها وغفل أبناؤها عنها.
إن خطورة لعبة الدستور وأهدافها ومن يقف وراءها يستوجب التحرك على كل المستويات لوأدها وحث شعبنا في عدم الانجرار وراء الخديعة التي يروج لها عملاء أمريكا عبر الإغراءات وإطلاق الوعود بالرفاه والغنى تارة، وباللجوء إلى الدين باستصدار فتاوى تحث على المشاركة في التصويت على الدستور، واعتبار ذلك من واجبات المسلم، وما إلى آخره من الكلام الذي يطلقه بعضهم تارة أخرى؛ ما دام بصيغته الطائفية المشبوهة غير مأخوذ في الاعتبار حقوق أهل السنة وهم أكثر من نصف سكان العراق مهما دنس المدنسون؛ إذ إن من يريد الخير لشعبه وأمته عليه أن لا يتعلق بأهداف المشاريع التي لا جذور لها إلا في الهواء، وستنهار حتماً؛ لأن شرع الله هو الحق وهو الباقي، وما دونه زائل طال الزمن أم قصر، وسوف لن تنفع المكاسب السياسية والامتيازات أحداً منهم؛ لأن التاريخ قاسٍ في سرده للأحداث، وفي إطلاقه للصفات والنعوت على من يتخلى عن شعبه ويرتمي في أحضان أعدائه أو يستفيد على حساب آلامه.
إن الخلاص له طريق واحد فقط هو التمسك بالموقف المبدئي لمقاومة الاحتلال ورفض كل مشاريعه وإجراءاته ومؤسساته التي تكرس واقعه وتؤسس لتفريق الشعب العراقي على أساس طائفي أو عرقي أو عن طريق تقاسم الثروات. ومن يتغافل فعليه أن يدرك أن العراق ذا التاريخ العريق لا يمكن تقسيمه أو تغيير كيانه بجرة قلم من قِبَل ذوي الأحلام المريضة وأسيادهم.
نسأل الله أن يحفظ العراق وشعبه وأن يقيه شر المفرضين وأعوانهم.(218/16)
الصراع السكاني على أرض فلسطين
هل يحسم لصالح الفلسطينيين؟
د. يوسف إبراهيم
لم يكن الصراع بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني صراعاً عادياً، وإنما أخذ هذا الصراع أبعاداً خطيرة تمثلت في الصراع على الأرض، وانتزاعها من أصحابها الأصليين، والسيطرة عليها بكافة الوسائل والطرق. ومع بدايات ظهور هذا الصراع في أوائل سنوات القرن العشرين استطاع اليهود الوصول إلى فلسطين ضمن التسهيلات التي أعطيت لهم من حكومة الانتداب البريطاني التي قدمت لهم المساعدات الكثيرة والمتنوعة من أجل الحصول والسيطرة على كثير من الأراضي الفلسطينية، وتدريب اليهود على السلاح.
ولم يستطع اليهود إعلان دولتهم إلا بعد أن اكتمل العدد الكافي من المهاجرين إلى فلسطين؛ ومن هنا بدأ الصراع يظهر على الأرض، وأخذ في نهايته شكل الصراع السكاني؛ حيث شجعت بريطانيا اليهود على الهجرة إلى فلسطين وإعطائهم الامتيازات والتسهيلات.
والجدول التالي يكفي لإعطاء صورة التوزيع الجغرافي للفلسطينيين واليهود على أرض فلسطين التاريخية؛ حيث لم يكن لليهود وجود سوى 8% من عدد السكان، ارتفع إلى 31.5% في عام إعلان الكيان الصهيوني لدولة اليهود:
ومن هنا تبلور جوهر الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي الذي جرى على أرض فلسطين منذ قيام الحركة الصهيونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان صراعاً استهدف انتزاع الوطن الفلسطيني وإفراغه من الوجود العربي لصالح الوجود الصهيوني، وفي الجانب الآخر تحدد الهدف بالمحافظة على الوجود السكاني للشعب الفلسطيني بكافة مقومات الوجود العربي السياسية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
ومن هنا فإن كافة أطراف الصراع بدأت بتبني الخطط والبرامج والسياسات الاقتصادية منها والاجتماعية لتحقيق الأهداف التي يسعى الكل لها؛ فالطرف الإسرائيلي يسعى إلى حسم المعركة السكانية لصالحه عن طريق تشجيع الهجرة إلى فلسطين، وعن طريق تشجيع الأُسر بزيادة عدد أفراد أُسرهم؛ وذلك بتقديم كثير من المساعدات والهبات وتقديم المنح لهذه الأُسر، والجدول التالي يوضح حجم الهجرة اليهودية لفلسطين قبل إعلان دولة الكيان الصهيوني:
وفي الطرف الفلسطيني ظهرت المقاومة المسلحة لوقف زحف واستيلاء اليهود على الأراضي الفلسطينية، ونشر الوعي الاجتماعي والثقافي بين أفراد الشعب الفلسطيني، وحثهم على المقاومة والصمود في وجه الطغيان الصهيوني للسيطرة على الأراضي الفلسطينية؛ فعندما صدر وعد بلفور عام 1917م وُضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني من عام 1918م حتى عام 1948م، حيث تم تقديم التسهيلات اللازمة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبدأ اليهود بالتدفق بالآلاف، وارتفع عددهم من حوالي عشرة آلاف شخص في منتصف القرن التاسع عشر إلى ما يقرب من 62,5 ألف شخص عند بداية الانتداب البريطاني، وإلى ما يقرب من ستمائة وخمسين ألف شخص عند نهاية الانتداب المذكور عام 1948م؛ وبذلك ارتفعت نسبة اليهود إلى مجموع عدد السكان في فلسطين من 8,3% عام 1919م إلى 31,5% في 15/5/1948م.
وقد كان أول تقدير لعدد سكان فلسطين في القرن العشرين في فترة الحكم العثماني؛ حيث أعلن في عام 1914م ـ وهي السنة التي نشبت فيها الحرب العالمية الأولى ـ أن عدد سكان فلسطين هو 689,275 نسمة منهم 8% من اليهود. وبعد خضوع فلسطين للانتداب البريطاني أصبح عدد سكان فلسطين حسب التقدير الرسمي 673,000 منهم 521,000 من المسلمين و67,000 من اليهود و78,000 من المسيحيين و7000 من المذاهب الأخرى (1) .
وقد نجم عن نكبة فلسطين وإعلان قيام دولة اليهود تشريد القسم الأكبر من السكان الأصليين العرب؛ حيث تركوا منازلهم رغبة في النجاة بأرواحهم؛ نتيجة الوحشية التي اتبعها العدو الصهيوني في احتلاله للقرى الفلسطينية، وقد نجم عن هذه النكبة تقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق جغرافية:
ـ أراضي عام 1948م: وهي الأراضي التي احتلها اليهود بعد حرب عام 1948م؛ حيث أقاموا دولتهم على هذه الأراضي، وقد شغلت 76,7% من مساحة فلسطين.
ـ الضفة الغربية: وتشغل 22% من مساحة فلسطين.
ـ قطاع غزة: ويشغل 1.3% من مساحة فلسطين.
ولم يكتف العدو الصهيوني بأن تبقى رقعة دولتهم على أراضي 1948م، وإنما قاموا بالعدوان على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967م، وقاموا باحتلالها؛ وبذلك أصبحت فلسطين جميعها تحت السيطرة اليهودية، وعلى أثر هذا العدوان الجديد نزح العديد من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وانخفض عدد السكان في الضفة الغربية إلى 581,700 نسمة، كما انخفض عدد السكان في قطاع غزة إلى 937,6 ألف نسمة، بينما كان عددهم قبل عام 1967م مباشرة في حدود مليون وأربعين ألف نسمة (2) .
وتشير جميع الدلائل والمؤشرات إلى أن العدو الصهيوني يسعى جاهداً في مضايقة الشعب الفلسطيني، وإجباره على الرحيل من أراضيه؛ وذلك رغبة منه وطمعاً في أرض بلا سكان، وذلك لتحقيق ما يصبون إليه، واستمراراً لنظرية الصراع السكاني على أرض فلسطين، ويتضح ذلك من خلال الممارسات اليومية لهم من سحب هويات أبناء الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على أراضيهم، وطردهم منها، واقتلاع الأشجار المثمرة، وإقامة المستوطنات على تلك الأراضي المصادرة، وكان آخر هذه الممارسات بناء جدار الفصل الذي التهم آلاف الدونمات، وشَرّد آلاف الفلسطينيين من قراهم.
- التركيز على القدس:
تنفذ الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة منذ احتلال القدس عام 1967م سياسة هدفها تدعيم سيادة «إسرائيل» على القدس من خلال إيجاد أغلبية حاسمة لليهود في المدينة. كان الهدف المعلن لـ «إسرائيل» هو الحفاظ على ما تسميه بـ «التوازن السكاني» في القدس، والذي يعني بطبيعة الحال الحفاظ على أغلبية يهودية دائمة في القدس، ولكي يتحقق هذا الهدف تعمل «إسرائيل» على مدار سنوات طوال على زيادة أعداد اليهود في القدس الشرقية من ناحية، ودفع الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية إلى مغادرة المدينة من ناحية أخرى، ومن الوسائل التي تتبعها «إسرائيل» لتحقيق ذلك:
ـ التمييز المنظم والموجه ضد السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية فيما يتعلق بمصادرة أراضيهم؛ بزعم التخطيط والبناء على أسس قانونية منظمة، وفي المقابل نجد عمليات بناء واسعة النطاق واستثمارات ضخمة بهدف إنشاء أحياء سكنية لليهود في القدس الشرقية، لعل آخرها مستوطنتا: رأس العامود، وجبل أبو غنيم. ويترتب على هذه السياسة وجود نقص حاد يصل إلى آلاف الشقق بين السكان الفلسطينيين. ونتيجة لعدم وجود بديل آخر يضطر المواطنون الفلسطينيون إلى مغادرة المدينة والبحث عن حلول أخرى للسكن خارج حدود مدينة القدس (3) .
ـ تخصيص الحد الأدنى من الاستثمارات في مجال البنى التحتية والخدمات؛ فقد صرح رئيس البلدية «أيهود أولمرت» في هذا الشأن بقوله: «المشكلة الأساسية التي تعاني منها القدس هي الهوة السحيقة بين البنى التحتية في شرق القدس من ناحية وغربها من ناحية أخرى؛ فحالة البنى التحتية في معظم أحياء القدس الشرقية سيئة، وقد بذلت حكومات «إسرائيل» في الثلاثين عاماً الأخيرة جهوداً محدودة وغير كافية في هذا المجال» .
ـ رفض تلبية طلبات جمع شمل الأُسر التي قدمتها نساء فلسطينيات يسكنَّ في القدس من أجل أزواجهن الذين لم يقيموا معهن في القدس منذ عام 1994م، ويترتب على هذا أنه لكي تقيم هذه النسوة مع أزواجهن يضطر عدد كبير منهن إلى مغادرة المدينة. وما زالت رغبة «إسرائيل» في فرض سيطرتها الواسعة على القدس وتثبيت سيادتها على كل أجزاء المدينة ـ قائمة ومتأججة أكثر مما كانت عليه في ظل اقتراب التفاوض من المرحلة النهائية من المفاوضات التي سيناقش خلالها «موضوع القدس» . فعلى سبيل المثال لا الحصر بعد نشر التقرير السنوي لمعهد القدس (ماخون يروشالايم) لعام 1997م صرح رئيس بلدية المدينة (أيهود أولمرت) بأن «هذا التقرير يحوي أشياء لا أحبها، مثل الزيادة الطبيعية لدى السكان غير اليهود في المدينة» (1) .
- إجراءات وزارة الداخلية «الإسرائيلية» ضد الفلسطينيين في القدس لطردهم منها:
تعمل وزارة الداخلية في القدس الشرقية منذ شهر ديسمبر من عام 1995م على تطبيق السياسة العامة لـ «إسرائيل» التي تستهدف الحد من أعداد الفلسطينيين الذين يقيمون في المدينة، وتتخذ الوزارة خطوات عدة في إطار تنفيذ هذه السياسة، ومن هذه الخطوات:
ـ سلب حق المواطنة من سكان القدس الذين أقاموا سنوات عدة خارج حدود المدينة، ونتج عن هذا أن وزارة الداخلية طلبت من آلاف الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية مغادرة منازلهم.
ـ يتم إلغاء حق المواطنة دون أن تتاح للفلسطيني الذي سلب منه هذا الحق إمكانية أن يطعن في القرار، وحتى إذا منح هذا الحق فهو حق شكلي فقط.
ـ تطلب الوزارة بشكل متكرر من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية أن يقدموا أمام موظفيها ما يثبت أنهم ما زالوا يقيمون في المدينة، ولكن الحصول على الإثبات المطلوب مسألة صعبة جداً؛ فالأشخاص الذين أقاموا في القدس الشرقية طوال حياتهم يصعب عليهم إثبات ذلك؛ فالمستندات تطلب من المواطن حتى إذا كان قد قدّمها منذ فترة وجيزة إلى الوزارة، ولكن ضمن طلب آخر.
ـ رفض تسجيل الطفل الذي ولد لأبوين أحدهما من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية في سجل المواليد، وكذلك رفض إصدار رقم قومي له، حتى لو كانت وزارة الداخلية قد اعترفت من قبل أن هذه الأسرة تقيم في القدس.
ـ الامتناع التام عن قبول الطلبات الخاصة بجمع شمل الأسر، ويترتب على ذلك أن السكان الفلسطينيين في المدينة غير قادرين على الزيادة إلا في مجال الزيادة الطبيعية. والطريقة الوحيدة الآن التي يمكن من خلالها قبول طلب جمع شمل الأُسر هي إقامة دعاوى قضائية أمام «محكمة العدل العليا» الإسرائيلية.
ومن أبرز الإجراءات التعسفية التي تطبقها وزارة الداخلية «الإسرائيلية» ضد السكان الفلسطينيين في القدس لدفعهم إلى تركها الإجراءات التالية (2) :
أولاً: إلغاء حق المواطنة:
تنفذ وزارة الداخلية (الإسرائيلية) منذ شهر ديسمبر من عام 1995م سياسة جديدة تقضي بأن أي فلسطيني من سكان القدس الشرقية لا ينجح في أن يثبت أمام وزارة الداخلية أنه يقيم في القدس في الوقت الحالي، وكان يسكن بها في السابق بشكل متواصل يمكن أن يفقد وللأبد حقه في أن يعيش في المدينة التي ولد فيها؛ فيصبح مضطراً تبعاً لذلك إلى ترك بيته، كما لا يعود في مقدوره الإقامة في القدس التي تخضع للسيطرة «الإسرائيلية» دون موافقات وتأشيرات خاصة، كما لا تتاح له إمكانية العمل في الأراضي الفلسطينية التي تخضع للمحتل «الإسرائيلي» ، بما في ذلك القدس، وتسلب منه كل حقوقه الاجتماعية التي يضمنها له سداده للضرائب المستحقة عليه، مثل: الانتفاع بخدمات التأمين الصحي، وغير ذلك.
ويمكن القول إن إلغاء حق المواطنة بالنسبة للفلسطينيين من أبناء القدس يأتي نتيجة لتغيير في سياسات الحكومات «الإسرائيلية» في ضوء تطور مباحثات سلام الوضع النهائي مع الفلسطينيين.
فقد بات واضحاً الآن أن سكان المدينة الذين ينتقلون للإقامة في المناطق الفلسطينية سيتم التعامل معهم كما لو أنهم انتقلوا للإقامة في دولة أخرى خارج «إسرائيل» ، ويمكن أن يلغى إلحاقهم في المواطنة خلافاً لما كان يحدث في الماضي؛ حيث لم يكن لذلك أي تداعيات على هذا الحق. وقد كان عدد السنوات السبع يبدأ من جديد بعد كل زيارة للقدس وتجديد تصريح الخروج، ولكن في ظل السياسات الجديدة فإن تجديد التصريح لا يقطع العد، ولا يحافظ على حق المواطنة (3) .
ثانياً: حق الطعن:
أعلنت وزارة الداخلية «الإسرائيلية» في شهر يونيو من عام 1977م أنه يحق لأي مواطن أن يطعن في قرار إلغاء حق المواطنة، وأن يقدم لوزارة الداخلية بيانات تناقض النتيجة التي توصلت إليها، وتزعم وزارة الداخلية بشكل دائم ومتواصل أن حق الطعن مكفول للفلسطينيين أبناء القدس الشرقية الذين أُلغي حقهم في المواطنة. والحقيقة هي أن هذا القول يفتقد الأساس الموضوعي؛ فحتى منتصف عام 1997م اعتاد موظفو وزارة الداخلية إرسال خطابات للفلسطينيين أبناء القدس الشرقية الذين سلب منهم حق المواطنة، يبلغونهم فيها أنه ينبغي عليهم مغادرة البلاد خلال خمسة عشر يوماً مع أفراد عائلاتهم. وقد رفضت وزارة الداخلية صراحة أن توفر لهؤلاء الفلسطينيين أي إمكان لنقض القرار، زاعمة أن «حق المواطنة» قد «ألغي من تلقاء نفسه» ؛ من هنا ليس للموظف الذي أبلغهم بذلك أي دور للتدخل في الأمر.
ثالثاً: إثبات «مركز الحياة» :
تقضي المادة الحادية عشرة (ج) من قانون الدخول إلى إسرائيل بأن «صلاحية تصريح الإقامة الدائمة يلغى إذا ترك صاحب التصريح إسرائيل، وأقام خارجها» . وجاء في المادة الحادية عشرة (أ) أن المرء يبدو في نظر القانون أنه «أقام في دولة خارج إسرائيل إذا مكث خارج إسرائيل فترة تصل إلى سبع سنوات على الأقل، أو إذا حصل على تصريح بالإقامة الدائمة أو الجنسية في دولة أخرى» .
تطلب وزارة الداخلية من الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية المتقدمين إليها لتقديم أي طلب من أي نوع أن يثبتوا أن «مركز الحياة» لم يتغير، وأنهم ما زالوا يقطنون في المدينة. وتحقيق الأدلة التي تطلبها وزارة الداخلية مسألة صعبة جداً؛ فحتى الأشخاص الذين يقيمون طوال حياتهم في القدس سيصعب عليهم الحصول عليها. ومن ضمن ما تطلبه وزارة الداخلية موافقات جهة العمل، وإيصالات سداد الضريبة العقارية، وإيصالات سداد استهلاك الكهرباء والمياه والهاتف منذ يوم الزواج، وعقد إيجار السكن وغير ذلك، وفي الحالة التي يسكن فيها الشخص في منزل والديه، وليس لديه عقد إيجار يصبح المطلوب منه أن يقدم شهادة خطية موقعة من محام تفيد بأنه يقيم هناك (1) .
في ضوء هذا الواقع المرير من الصراع السكاني والصراع على الأرض انعكس عنه وجود تيارين متعاكسين من الهجرة؛ فالشعب الفلسطيني يُجبر على الهجرة من أراضيه في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ في حين نشهد هجرة يهودية من كافة أرجاء العالم إلى فلسطين، إلا أن هذه الصورة بدأت في السنوات الخمس الأخيرة تأخذ شكلاً أعنف من أشكال الصراع؛ حيث زاد اليهود من عمليات السيطرة على الأراضي في الضفة الغربية، وبدؤوا بتوسيع مستوطناتهم في الوقت الذي بدأ فيه الشعب الفلسطيني تعود له عافيته في الاستقرار والأمن، وبدأت جموع الشعب الفلسطيني بالعودة من خارج فلسطين إلى داخلها، وبدأت أعداد من العائدين والمستثمرين والقوات الفلسطينية بالعودة إلى فلسطين (الضفة الغربية + قطاع غزة) . وللوقوف على صورة المتغيرات السكانية ومدى أثر الهجرة عليها نرى أن المجموع الكلي لعدد السكان في فلسطين عام 1986م (5,6 ملايين نسمة) منهم 3,5 ملايين نسمة من اليهود أي ما نسبته حوالي 63 % من المجموع الكلي، والباقي من الفلسطينيين، أي ما نسبته 37 % من المجموع الكلي، يقيم منهم في الضفة الغربية وقطاع غزة حوالي 26 % من المجموع، بينما كانت نسبتهم 32 % قبل نكسة حزيران عام 1967م، وفي حدود 53% بعد نكبة 1948م مباشرة (2) .
ومع حلول عام 1998م بلغ المجموع الكلي لعدد السكان في فلسطين (8,09 ملايين نسمة) منهم 50,50 ملايين نسمة من اليهود أي ما نسبته حوالي 67,9 % والباقي من الفلسطينيين أي ما نسبته 32,1 % من المجموع الكلي، يقيم منهم في الضفة الغربية 1,596,442 نسمة و1,000,175 مليون نسمة في قطاع غزة (3) ، وخلال الأحد عشر عاماً الماضية استطاعت إسرائيل المحافظة على الميزان السكاني لصالحها على الرغم من ارتفاع نسبة النمو السكاني في الجانب الفلسطيني، ويرجع ذلك إلى موجات الهجرة في هذه السنوات، وخاصة بعد انتهاء المنظومة الاشتراكية، وتفكيك الاتحاد السوفييتي؛ وهو الأمر الذي استغله اليهود في ترحيل أعداد كبيرة منهم إلى دولة إسرائيل، إلا أن الأمور بدأت تنقلب، وخاصة بعد ظهور الهجرة العكسية بعد نشوب انتفاضة الأقصى.
- هجرة عكسية ضخمة:
كشفت مصادر إعلامية صهيونية عن تلقِّي شارون مؤخراً من «تسفي ليفني» وزيرة استيعاب المهاجرين معطيات تفيد بتراجع مكانة الكيان الصهيوني كهدف أول للمهاجرين اليهود؛ حيث كشفت المعطيات عن اختيار 18 ألفاً من يهود الاتحاد السوفييتي السابق الهجرة إلى ألمانيا خلال عام 2002م، بينما اختار 17 ألف يهودي فقط الهجرة إلى الكيان الصهيوني؛ مما يوضح تراجع مكانة الكيان كهدف أول لهجرة اليهود، وهذا مقابل تزايد نسبة الزيادة الطبيعية لفلسطينيي أراضي 48م، وفلسطينيي الضفة والقطاع، بينما تقل نسبة النمو الطبيعي للسكان اليهود، وتتراجع نسبة الهجرة اليهودية التي تشكل القوة المضادة للنمو السكاني الفلسطيني المتزايد، وكل ذلك يجعل كفة الميزان السكاني تميل لصالح الفلسطينيين؛ وهو ما دفع شارون إلى عقد اجتماع سري لمناقشة انخفاض نمو اليهود، وتراجع الهجرة وإقرار مخطط لرفع تعداد الكيان الصهيوني إلى 15 مليون يهودي لمحاربة الزيادة السكانية للشعب الفلسطيني داخل الكيان وخارجه.
وفي المقابل يحدث تزايد معدل الهجرة العكسية؛ حيث أظهرت آخر الإحصائيات الصادرة عن «مركز الإحصاء المركزي» الصهيوني في «هرتسليا» بالكيان العبري حول معدل سفر اليهود في صيف هذه السنة ـ 2004م ـ إلى دول أوروبية والولايات المتحدة أنه وصل إلى قرابة مليون ونصف مليون خلال شهري يوليو، وأغسطس الماضيين فقط. وقد أفادت مصادر أمنية غربية أن تردي الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية وداخل الكيان إثر اندلاع انتفاضة الأقصى وتوالي ضربات المقاومة دفع أعداداً كبيرة من الصهاينة إلى السعي في الهجرة من الكيان إلى الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية، وأوردت صحيفة «أوبزيرفر» اللندنية أن انتفاضة الأقصى المتواصلة أدت إلى موجة هجرة من «إسرائيل» ومن مناطق السلطة الفلسطينية. من ناحية أخرى كشفت تقارير صهيونية رسمية أن بين 700 ألف إلى مليون يهودي غادروا «إسرائيل» نهائياً بهجرة عكسية بسبب عدم إحساسهم بالأمن بعد انتفاضة الأقصى والعمليات الاستشهادية التي تقوم بها حماس، والجهاد الإسلامي، وكتائب الأقصى، في حين أعلن رسمياً أيضاً أن أعداد المهاجرين اليهود إلى الكيان الصهيوني في تناقص حاد وخطير، ويرجع ذلك إلى عزوف عدد كبير من يهود العالم عن الهجرة إلى فلسطين خوفاً من الموت، ويتوقع كبار موظفي وزارة الاستيعاب والوكالة اليهودية - وهما الجهتان المسؤولتان عن استيعاب المهاجرين - أن تتواصل وتيرة الانخفاض في عدد المهاجرين الذين يصلون إلى الدولة العبرية، وذلك بفعل تواصل مظاهر انتفاضة الأقصى.
- هجرة من المستوطنات:
أكدت الصحف الصهيونية أن الانتفاضة والوضع الأمني المتدهور والوضع الاقتصادي السيئ دفع بالمستوطنين في الضفة الغربية، وقطاع غزة، وغور الأردن إلى إخلاء المستوطنات والانتقال إلى داخل الكيان، بينما ذكرت وزارة الحرب الصهيونية أن عشرات النقاط الاستيطانية خالية تماماً من سكانها، وأن أفراد الجيش الصهيوني يتمركزون في هذه المناطق الخالية من السكان لحماية الممتلكات. ومن خلال هذه المعطيات فقد أثبتت الانتفاضة في عامها الثالث أن عهد الازدهار الذي وفره «اتفاق أوسلو» لنمو المشروع الاستيطاني الصهيوني وتوسعه قد بدأ يخفت بعد أن أصبح الهمُّ الأساسي للمستوطنين البحثَ عن توفير الأمن الشخصي لهم تاركين خلفهم الأيديولوجية ومقولة: «الاستيطان في كل مكان من أرض إسرائيل» .
وتشير الإحصاءات «الإسرائيلية» في هذا الصدد إلى انخفاض أعداد المستوطنين إلى أكثر من 75 في المائة، بالإضافة إلى تدني بيع الوحدات السكنية داخل المستوطنات إلى النصف؛ وهو الأمر الذي يدل بشكل واضح على عجز شارون وأجهزته الأمنية عن توفير الأمن للمجتمع الصهيوني ومستوطنيه.
وانخفض كذلك عدد المهاجرين إلى الكيان بصورة ملحوظة في السنتين الأخيرتين؛ إذ وصل في النصف الأول من عام 2001م إلى نحو 24,000 مستوطن، مقابل 32,000 في الفترة نفسها من العام 2000م، علماً بأن الرقم وصل إلى 37,000 مستوطن خلال الفترة ذاتها من عام 1999م.
والجدول التالي يوضح الميزان السكاني في التغيرات في مكونات النمو السكاني لدى الفلسطينيين واليهود:
- قراءة سكانية مستقبلية:
على الرغم من الممارسات الصهيونية والآثار الجغرافية والسكانية المترتبة عن ذلك، إلا أن الوجود اليهودي المنتشر على أرض فلسطين التاريخية لن يشكل أغلبية في عام 2006م إذا ما أخذنا بالاعتبار فلسطينيي عام الـ 48م، الذين يعيشون داخل دولة إسرائيل كمواطنين، ولكنهم يتعرضون للتمييز العنصري في المعاملة والخدمات، وتبقى جذورهم تنحو نحو إخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ حيث إن الفلسطينيين سيصبحون على تساوٍ مع اليهود، ومن المتوقع في السنوات القادمة أن يكون التفوق للفلسطينيين؛ والجدول رقم (3) يوضح الميزان السكاني المتوقع على أرض فلسطين حتى عام 2006م.
ملاحظة: أعداد المستوطنين لا يتم إضافتها إلى إجمالي عدد اليهود؛ لأنهم ـ بالطبع ـ محسوبون على إجمالي عدد اليهود في دولة إسرائيل عام 2006م ـ تقديرات الباحث على أساس ثبات الزيادة السنوية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة = 176.159 نسمة سنوياً / للفلسطينيين داخل إسرائيل = 34500 نسمة سنوياً / ولليهود = 83.500 نسمة سنوياً.
الزيادة في أعداد اليهود لم تأخذ بالحسبان موجات الهجرة اليهودية الجماعية التي قد تأتي إلى فلسطين.
لم يتم تقدير أعداد المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ لأن ذلك مرتبط بالظروف السياسية.
من خلال الجدول السابق يتضح أن الميزان السكاني سيكون في صالح الفلسطينيين في عام 2006م ـ بغض النظر عن مكان وجودهم سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو في داخل إسرائيل ـ فسيصل عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية في عام 2006م حوالي 5.467.472 فلسطينياً، في نفس الوقت الذي سيكون فيه عدد اليهود على أرض فلسطين التاريخية 5 ملايين يهودي، ويرجع هذا التفوق للفلسطينيين إلى الزيادة الطبيعية؛ في حين أن الزيادة السكانية عند اليهود كانت تعتمد وبشكل مباشر على المهاجرين القادمين من جميع أقطار العالم.
نستنتج مما سبق أن الهجرة الفلسطينية الواسعة وبهذا الحجم الكبير كانت نتيجة التهجير القسري وممارسات العصابات الصهيونية، مقابل قدوم آلاف اليهود من جميع أقطار العالم للاستقرار في فلسطين. وعلى الرغم من ممارسات العصابات الصهيونية إلا أن الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية سيكون لهم الأغلبية، خلافاً لما خططت له الحركة الصهيونية (9%سنوياً) ؛ حيث إن سلطات العدو ماضية في تنفيذ مخطط المحافظة على الميزان السكاني لصالحها، وهو الأمر الذي يستدعي منها القيام بتنفيذ مخططها الهادف إلى ابتلاع الأرض، وتشريد الأهل من فلسطين وحصرهم في بقع وكنتونات جغرافية غير مترابطة وغير متماسكة ليسهل السيطرة عليهم؛ وهو ما يبشر وينبئ بحدوث انفجار سكاني؛ لأن عوامل النمو السكاني هي في صالح الشعب الفلسطيني (4%سنوياً) واليهود (1.9%سنوياً) ، وارتفاع معدلات الخصوبة الكلي (6.1) للشعب الفلسطيني و (2.1) لدى اليهود، ومن ثم يعمل اليهود من خلال المؤسسة السياسية والعسكرية على استباق سنوات الحسم السكاني من خلال تكثيف عمليات الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، كما هو حاصل في شبكة الاستيطان المنتشرة على طول الضفة الغربية وقطاع غزة، والجدار الفاصل الذي يلتهم أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية، إذا ما تم تنفيذ الجدار الشرقي في أغوار الأردن؛ وهو الأمر الذي يساعد على تقطيع الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى كنتونات صغيرة منفصلة لا يوجد بينها تواصل جغرافي، مما سيعطل إنشاء وتكوين دولة فلسطينية مستقلة ذات خصائص تساعدها على النمو والتطور.
(*) متخصص في شؤون الجغرافيا والديموغرافيا ـ فلسطين.
(1) Luke, H. and Heith, The hand book of Palestine and Trans Hordan Macmillan London, 1930, P.31.
(2) Govenment of Palestine. census fof 1922, Jerusalem, 1923.
(3) Government of Palestine. census fof 1922, Jerusalem, 1932.
(4) حسن عبد القادر صالح، جغرافية فلسطين، برنامج التربية، الجامعة المفتوحة، القدس، 1996م، بدون دار نشر، ص 128.
(5) مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، الجزء الأول، رابطة الجامعيين بمحافظة الخليل، دار الطليعة، بيروت، 1973م، ص 23 24.
(6) موسى سمحة، التغييرات السكانية في فلسطين، دراسة في النمو السكاني والصراع الديموغرافي، الجامعة الأردنية، قسم الدراسات السكانية، ص 384.
(7) المصدر: موسى سمحة، التغيرات السكانية في فلسطين، دراسة في النمو السكاني والصراع السكاني، في كتاب (الخصائص الديموغرافية للشعب الفلسطيني) منشورات دار النضال للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ص 389.
(1) حسن عبد القادر، جغرافية فلسطين، بدون دار نشر، 1996م، ص 126.
(2) موسى سمحة وآخرون، الصراع الديموغرافي في فلسطين المحتلة، اللجنة الأردنية الفلسطينية المشتركة، 1986م، ص 8.
(3) http://www.wahdah.net/demog.html.
(1) المرجع السابق. (2، 3) المرجع السابق.
(1) المرجع السابق. (2) موسى سمحة، مرجع سابق، ص 9.
(3) السلطة الوطنية الفلسطينية، دائرة الإحصاء المركزية، نتائج للتعداد العام الذي أجري في نهاية عام 1997م.
(*) الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، السكان في الأراضي الفلسطينية 1997-2025 رام الله، ص 41. =
= - Statistical Abstract of Israel, Jerusalem, 1999, No, 50, Table 2.
- Foundation for Middle East Peace, Israeli Settlement, volume 10, No 6(218/17)
التعتيم الحكومي وحرب التجويع
هل يقضيان على حلم دولة المسلمين في تايلاند؟
رضا عبد الودود
حملات إبادة جماعية، وتوسيع سلطات قوات الأمن، وتعهدات بسحق مسلمي جنوب تايلاند خلال أربع سنوات من قِبَل حكومة رئيس الوزراء (تاكسين شيناواترا) الذي أصدر أوامره لحكومته يوم الخميس 17/2/2005م بدراسة القوانين الأمنية للدول الأخرى، مشيراً إلى القوانين العنصرية في بعض الدول، والتي تسمح باحتجاز المواطنين دون محاكمة بزعم تهديدهم للأمن، على الرغم من أن الدستور التايلاندي يسمح للشرطة باحتجاز المواطنين لمدة 48 ساعة قبل أن تحتاج للحصول على أمر قضائي بمدِّ الاحتجاز لمدة 12 يوماً، إلا أن قوات الشرطة تحبِّذ الأخذ بقوانين أكثر صرامة مثل القوانين السنغافورية؛ لكي تعطيها صلاحية واسعة وغير مقيدة في الاحتجاز لمدد طويلة بدون أمر قضائي أو محاكمة كل ذلك هو عنوان السياسة الإقصائية التي تمارسها سلطات بنكوك ضد نحو 8 ملايين مسلم في الجنوب كل خطيئتهم أنهم يطالبون بحقوقهم التاريخية في مملكة فطاني التي حكمت تايلاند سابقاً؛ وللأسف فإن العالم يشهد بكل منظماته وشعوبه وحكوماته هذه الأمور دون أن يرفع صوتاً معارضاً أو حتى معقباً على تلك السياسة غير الإنسانية.
ومنذ منتصف فبراير 2005م شهد ملف مسلمي الجنوب التايلاندي تصعيداً غير مسبوق؛ حيث تعهد (تاكسين شيناواترا) رئيس الحكومة التايلاندية بسحق مسلمي فطاني المطالبين بالاستقلال خلال أربع سنوات؛ وذلك أثناء أول زيارة يقوم بها إلى محافظات البلاد الجنوبية ذات الأغلبية المسلمة منذ فوز حزبه في الانتخابات بفترة ولاية ثانية. وأعلن رئيس الوزراء (تاكسين شيناوترا) أنه سوف يقطع المساعدات المالية للتنمية عن القرى التي يعتقد أنها متعاطفة مع من أسماهم بـ «المتمردين» ، وأن حكومته ستصنف الجنوب المضطرب إلى ثلاث مناطق: حمراء وصفراء وخضراء؛ ممثلة في ذلك مستويات تعاون أهلها مع سلطات الدولة في التعامل مع ما تصفه الحكومة التايلاندية بالتمرد الواقع. وأوضح أنه من بين1850 قرية بمحافظات تايلاند الجنوبية الثلاث التي تشهد أشد عمليات عنف (ناراتيوات ويالا وباتاني) تعتبر 358 قرية واقعة في نطاق مناطق حمراء لتعاطفها مع الناشطين، وسوف يمنع عنها أي تمويل حكومي، بينما تقع 200 قرية في مناطق صفراء بما يعني وجود مقاومة معتدلة للدولة، أما بقية القرى فيمكن اعتبارها مناطق خضراء يلتزم 90% من سكانها بالقانون ـ حسب مزاعمه ـ وسوف تتمتع هذه بمعظم مساعدات التنمية، تليها في ذلك الصفراء. وأضاف (تاكسين) أن الحكومة سوف تنشر قواتها المسلحة في المنطقة الحمراء فيما وصفه بأنه لحماية السكان الأبرياء، كما حثَّ هؤلاء على الضغط على جيرانهم لتغيير مسلكهم والتقدم بمعلومات تفيد في قمع التمرد وإنهائه.
يذكر أن هذه السياسة سبق تطبيقها في تايلاند لأول مرة أثناء محاربة المد الشيوعي في السبعينيات والثمانينيات في الضغط على أهالي القرى لطرد الناشطين وقطع العلاقات معهم. كما أشار رئيس الوزراء إلى أن حكومته اعتمدت ميزانية إقليمية خاصة للتنمية في الجنوب تولي تركيزاً على إصلاح قطاع المدارس الدينية الإسلامية المنتشرة به، وسوف يتحتم على تلك المدارس من الآن فصاعداً تدريس مناهج المدارس العامة، وتخضع لإشراف وزارة التعليم.
ولعل الآثار الناجمة عن تلك السياسة الإقصائية ستؤدي إلى تقسيم جنوب البلاد إلى مناطق ملونة طبقاً لوصف (تاكسين) مما سيزيد من معاناة الأهالي من التفرقة وتعميق العنف، فضلاً عن إضرارها بالمواطنين الأبرياء في المناطق المغضوب عليها بينما هم من دافعي الضرائب للدولة.
- العنف يقابله عنف مضاد:
وإزاء هذه التصريحات الاستفزازية صعَّد المسلحون بالجنوب التايلاندي هجماتهم أثناء زيارة رئيس الوزراء (تاكسين شيناواترا) للمنطقة بعد سلسلة من التفجيرات التي تواصلت لمدة أسبوعين قبل وصوله إليها في جولة تمتد ثلاثة أيام، وتشمل محافظات ناراتيوات ويالا وباتاني التي كانت مسرحاً لأشد أحداث العنف طوال العام الأخير الذي راح ضحيته نحو600 من المسلمين. فقد انفجرت مساء الخميس 17/2/2005م قنبلة قوية أمام فندق مارينا بمحافظة ناراتيوات وتسببت في مصرع أربعة أشخاص وجرح أكثر من أربعين آخرين، وكذلك في تدمير وإشعال النيران بالسيارات والدراجات البخارية الموجودة خارج المبنى.
- سياسة التعتيم:
وفي نفس سياق التعتيم المفروض على قضية المسلمين في الجنوب التايلاندي كان رئيس الوزراء التايلندي تاكسين قد شن هجوماً واسعاً ضد المشاركين في قمة الآسيان التي افتتحت في 29/11/2004م في لاوس مهدداً بالانسحاب من القمة إذا تطرقت لموضوع المواجهات العنيفة ضد إقليم (فطاني) المسلم، واعتبر تاكسين الاضطرابات الدائرة في الجنوب الذي يضم الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة في البلاد مسألة «داخلية» ينبغي عدم بحثها في قمة آسيان.
- مأساة مسلمي تايلاند:
وتكشف تلك التداعيات عن مأساة مسلمي تايلاند البالغ تعدادهم من 5 ـ 8 مليون مسلم أي نحو 10% من تعداد السكان والذين يتركز أغلبهم في الجنوب المسمى (فطاني) والذين باتوا وليمة دموية صباح مساء لحكومة تايلاند، وسط صمت العالم وتجاهل المسلمين وهلع الحكومة التايلاندية من المسلمين واستغلالها المظاهرة العالمية لمكافحة الإرهاب.
ودون الرجوع لتاريخ المسلمين الدامي في مملكة فطاني المسلمة من تهجير للتايلانديين إلى الجنوب وطرد أهاليه المسلمين، وتصفية العلماء، وإجبار المسلمين على ارتداء الصليب وحرق المصاحف، وإغلاق المدارس الإسلامية، شهد عام 2004م عدة مجازر بحق المسلمين في هذا الإقليم. وأسفرت المواجهات في جنوبي تايلاند عن سقوط نحو 600 قتيل على الأقل منذ مطلع العام الحالي، ففي شهر يناير اندلعت اشتباكات لم تعرف أسبابها أدت إلى سقوط نحو 60 قتيلاً في المناطق المسلمة الجنوبية المحاذية لماليزيا عندما شنت قوات الجيش التايلاندي حملة اعتقالات واسعة شملت عشرات المسلمين للاشتباه في علاقتهم بـ «إرهابيين» ، ووضعتهم قيد الاعتقال بدون محاكمة وهو ما أثار سخط المسلمين في الجنوب. وفي أبريل الماضي حصلت مجزرة في مسجد باتاني راح ضحيتها 95 شخصاً، بعد أن هدمت قوات الشرطة المسجد على أشلاء المسلمين. وفي الخامس والعشرين من أكتوبر 2004م كان نحو 3000 مسلم نظموا مظاهرة أمام أحد مراكز شرطة ولاية (ناراثيوات) ذات الأغلبية المسلمة جنوب البلاد احتجاجاً على اعتقال 6 مسؤولين محليين بتهمة دعم ما تصفه الحكومة بـ (الجماعات المتمردة المسلحة) في جنوب البلاد، إلا أن قوات الشرطة والجيش تدخلت لقمع المتظاهرين؛ وهو ما أسفر عن مقتل 6 أشخاص، بعدما استخدمت قوات الجيش والشرطة الذخيرة الحية والغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه.
وقامت قوى الأمن بحشر 1300 من المتظاهرين داخل شاحنات لنقلهم إلى ثكنات عسكرية في مدينة باتاني لاستجوابهم، وتم إرغام المعتقلين على التمدد على الأرض ووجوههم إلى الأسفل وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم قبل وضع بعضهم فوق بعض في الشاحنات مما أدى لمقتل 84 مسلماً. ومع أن المواجهات الأخيرة هي أخطر هذه المواجهات بين الجيش التايلاندي ومسلمي الإقليم، وقبلهم 108 من المسلمين، وإصابة واعتقال آخرين، فإنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة بسبب الجذور التاريخية للمشكلة التي تمتد إلى مملكة فطاني الإسلامية التي نشأت في القرن الثامن الهجري.
- فطاني بلد إسلامية:
وبالعودة لجذور الأزمة يتبين لنا أن فطاني هي المنطقة الواقعة بين ماليزيا وتايلاند، ويرجع أصل سكانها للمجموعة الملايوية ويتكلمون اللغة الملايوية ويكتبونها حتى الآن بأحرف عربية، ووصل الإسلام إلى فطاني عن طريق التجارة في القرن الخامس الهجري، وأخذ في التنامي حتى صارت المنطقة كلها إسلامية وتحت حكم المسلمين في القرن الثامن الهجري وصارت فطاني مملكة إسلامية خالصة ومستقلة. وعندما احتل البرتغاليون تايلاند أوعزوا إلى قادة تايلاند بحتمية احتلال فطاني للقضاء على سلطنة الإسلام بها ولابتلاع خيراتها فقام التايلانديون باحتلال فطاني سنة 917 هـ ولكنهم ما لبثوا أن خرجوا منها تحت ضغط المقاومة الإسلامية. ولكن الصليبية العالمية لم تكن لتهدأ ويرتاح لها بال ما دام للإسلام دولة بتلك البقاع السحرية من العالم، فدخل الإنجليز حلبة الصراع ودعموا التايلانديين البوذيين للهجوم على فطاني وقمع الثورات وتهجير المسلمين من البلد حتى أعلنت تايلاند ضم فطاني رسمياً لها سنة 1320هـ بعد سلسلة طويلة من الثورات والمقاومة الباسلة من المسلمين، وكان هذا الضم إيذاناً بعهد جديد في الصراع بين المسلمين وأعدائهم.
- وسائل محاربة المسلمين:
وفي سياق دراسة تاريخ مسلمي تايلاند تعتبر تايلاند في حكم الدولة المحتلة المستعمرة لأرض فطاني التي كانت بلداً مسلماً لفترة طويلة؛ لذلك فإن أساليب تايلاند في محاربة المسلمين لا تختلف كثيراً عن أساليب الاستعمار في أفريقيا وآسيا والدول المسلمة، ومن تلك الأساليب:
التهجير: حيث عملت تايلاند على إقامة معسكرات لاستقبال وتوطين المهاجرين التايلانديين وتستولي على أخصب البقاع وتمدهم بالمرافق اللازمة، وهذه الهجرة تؤدي إلى آثار خطيرة منها: إضعاف نسبة المسلمين في هذا البلد ورفع نسبة البوذيين، واتخاذ هؤلاء المهاجرين الجدد كأداة لنشر الثقافة والعادات البوذية واستخدامهم أيضاً جواسيس وعيوناً لنقل أخبار المقاومة الفطانية وعند حدوث الصدامات يستخدمونهم جنوداً ومقاتلين بالإضافة إلى تحقيق السيطرة الاقتصادية على الموارد والأراضي الزراعية، ومن ثَم إفقار الشعب الفطاني فلا يستطيع المقاومة والكفاح المسلح، ويكون جل همه تدبير موارد الرزق اليومية.
التعليم: قامت تايلاند بفرض التعليم باللغة السيامية بعدما كانت تدرس باللغة الملايوية، وأحضروا مدرسين تايلانديين، وجعلوا المناهج فيها تخدم مصالحهم، وقامت بإغلاق الكتاتيب التي تعلم القرآن والقراءة والكتابة، وعلى الطلاب الذين يريدون الانتساب إلى مدارس الحكومة أن يغير أحدهم اسمه العربي أو الملايوي إلى اسم سيامي بوذي، واشترطت على هؤلاء الخريجين من المدارس الفطانية أن يجيدوا القراءة والكتابة بالتايلاندية؛ وإلا فلا قيمة لشهاداتهم أبداً، وعمدت تايلاند إلى إهمال التربية الدينية وتعيين مدرسين موالين لها يجهلون الإسلام في مناصب التعليم الإسلامي لينشأ عن ذلك كله أجيال بعيدة كل البعد عن الدين والهوية الإسلامية.
إثارة الخلافات: بالعمل على بث الفرقة والخصومات بين العلماء، وإثارة الفتن بين أتباع المذاهب الفقهية، وإثارة الخلافات بين المدن والمناطق والسكان.
نشر الفواحش: حيث تعتبر تايلاند رائدة سياحة الدعارة على مستوى العالم بأسره، وهي من ثَم تعمل على نشر المفاسد بين المسلمين بإقامة بيوت الدعارة المرخصة والملاهي الليلية وتعليم الرقص في المدارس.
التعمية والتعتيم الإعلامي: بقطع كل أخبار مسلمي فطاني عن العالم الخارجي ومنع دخول المسلمين من خارج فطاني إليها.
دور اليهود: حيث استقدمت الحكومة التايلاندية عدداً من المدرسين اليهود من فلسطين وذلك لبث كراهية العرب في النفوس ومن ثم كراهية المسلمين عامة، ثم تقوم تايلاند بنشر الدعاية المسمومة التي مفادها أن أهل فطاني يفضلون المدرسين اليهود على غيرهم في التعليم والثقافة فتُعرِض الحكومات المسلمة عن تقديم أي مساعدات لأهل فطاني.
التحريف: لكتاب الله ـ عز وجل ـ وأحاديث الرسول # أثناء ترجمتها إلى اللغة التايلاندية ليضلوا المسلمين ويصدوا من يريد الدخول في الإسلام من البوذيين.
إفساد العقيدة الإسلامية: بالسماح بالدعاية للقاديانية وهي فرقة خارجة عن الإسلام بالعمل داخل فطاني لإفساد عقائد المسلمين وإيقاع الفرقة والاقتتال بينهم.
صور أخرى للاضطهاد: ومن أبرز مظاهر الاضطهاد أن الحكومة البوذية التي فرضتها تايلاند، عملت بعد أن أزاحت السلطان المسلم (تنكو عبد القادر) ، على محو الطابع الإسلامي من البلاد بإرغام الشعب المسلم فيها على اتخاذ الأسماء والألبسة والتقاليد البوذية، واستعمال اللغة التايلاندية. وألغت المحاكم الشرعية، ثم سمحت بعد غضب الشعب وهياجه للقضاة المسلمين بالجلوس في المحاكم المدنية لسماع القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية للمسلمين.
وعملت الحكومة على توطين البوذيين في المناطق الإسلامية، وبنت لهم أكثر من 70 مستوطنة يسكنها حوالي 180 ألف بوذي، وبنت القواعد العسكرية في فطاني، ولا سيما في القرى القريبة من (جبال بودور) مركز عمليات المجاهدين المسلمين، وقامت بتصفية العلماء والدعاة جسدياً أو تهديدهم وإهانتهم وتشريدهم مما اضطر فريقاً منهم إلى الهجرة واللجوء إلى ماليزيا. كما تقوم بإحراق الأحياء الإسلامية والقتل الجماعي؛ ففي حادث بشع قامت القوات التايلاندية بحرق (100) شاب مسلم بالبنزين، وصرح رئيس البوليس في المنطقة بأن حياة المسلم لا تساوي 26 سنتاً فقط (ثمن الرصاصة) .
كذلك حرمت حكومة بانكوك المسلمين من ثروات بلادهم، كما حرمتهم المراكز الهامة والوظائف الحكومية وكافة الحقوق التي يتمتع بها مواطنو تايلاند، وعرضتهم لألوان الذل والقهر والاستعباد.
- تاريخ طويل من الكفاح:
بدأت رحلة الكفاح الهائلة منذ أن أعلنت تايلاند ضم فطاني لها واعتبرتها مديرية تايلاندية في سنة 1320هـ، فقام الأمير (عبد القادر) وهو آخر ملوك فطاني المسلمين بقيادة الثورة سنة 1321هـ بعد سنة واحدة فقط من الضم، وتعرض للاعتقال، واندلعت الثورة بفطاني على إثر ذلك، ولكن التايلانديين قمعوها بمنتهى الوحشية بمساعدة قوية من الإنجليز.
ومع الانقلاب العسكري سنة 1351هـ الذي أطاح بالملكية في تايلاند والذي دعمه مسلمو فطاني الذين استغلوا الفرصة وقدموا عريضة بمطالبهم من الحكومة الجديدة، وتتلخص هذه المطالب بالتالي:
1 - تعيين حاكم واحد على المديريات الأربعة المسلمة عن طريق أهل البلاد، ويكون مسلماً.
2 - أن يكون 80% من موظفي حكومة فطاني ممن يدينون بالإسلام.
3 - أن تكون اللغة الملايوية هي لغة التعليم بالمدارس واللغة الرسمية لأهل فطاني.
4 - تطبيق الشريعة الإسلامية.
5 - تكوين مجلس أعلى إسلامي لتسيير شؤون المسلمين.
ولكن الريح جاءت بما لا يشتهي المسلمون، وتحول الحكم العسكري إلى واقع مرير للمسلمين؛ ليس لأنه تجاهل مطالبهم؛ ولكن لأنه سعى إلى مسخ هويتهم تماماً، وإذابتهم داخل الدولة؛ حيث أصدر الفريق أول (سنقرام) ـ الذي تولى السلطة في تايلاند ـ قرارات بتغيير الأسماء المسلمة إلى تايلندية، ومنع لبس الجلباب الأبيض المميز للمسلمين وغطاء الرأس للنساء، وتحريم استعمال اللغة الملايوية ذات الحروف العربية، وأغلقت أبواب المدارس والجامعات أمام الفطانيين، وكذلك المناصب الحكومية والجيش والشرطة، وأغلقت الجوامع والمساجد، وحرم التبليغ والتبشير بالدين الإسلامي.
وقد توالت على الإقليم المسلم عدة ثورات ومحاولات من جانب المسلمين لإعادة المطالبة بحقوقهم، واجهتها السلطات هناك بالقمع والاعتقال لكل من قاد المطالبة بهذه الحقوق، مثل: حركة الحاج محمد سولونج ـ أحد العلماء المسلمين بفطاني ـ والذي عمل على تكثيف جهود المسلمين سنة 1367هـ ورفع عريضة مطالب للحكومة البوذية بتايلاند يطالب فيها بنفس المطالب السالف ذكرها مع إضافة بند عدم إخراج محصولات وموارد فطاني خارجها واستهلاكها محلياً، وقام الحاج محمد برفع عريضة الدعوى في نفس السنة إلى الأمم المتحدة ولأول مرة تثار قضية فطاني في المحافل الدولية، وبسبب ذلك قبض على الحاج محمد سولونج ورفاقه وحكم عليهم بثلاث سنوات ولكنهم ما لبثوا أن اغتيلوا سراً في 14/12/1373هـ.
- المقاومة طريق الحرية:
وبعد أن تلاشت فرص مسلمي فطاني في تحقيق حلم الدولة المستقلة للمسلمين هبَّ الشعب الفطاني يجاهد لاستقلال بلاده، وأسس جبهات التحرير التي انضوى في صفوفها كثير من الشباب المسلم، وأخذ يقاتل على أرض فطاني، في جبال بودور الشاهقة، وبين الغابات والأدغال المتشابكة المجاورة لماليزيا، وبدأت عمليات المقاومة عام 1950م، ولا تزال حتى الآن تواجه أشد الظروف، وتتحدى المصاعب وحدها.
ومن أهم حركات المقاومة التي تواجه عنف حكومة تايلاند وإجراءاتها القمعية ضد المسلمين: (الجبهة الوطنية لتحرير فطاني) التي تأسست عام 1960م وهي أول جبهة أنشئت في فطاني، وتدعو إلى تنظيم المجتمع الإسلامي، ووسيلتها حرب العصابات، وكذلك (المنظمة المتحدة لتحرير فطاني) التي تأسست عام 1968م وتتبع أساليب العنف ضد الحكومة البوذية. وتوجد أيضاً (الجبهة الوطنية لتحرير فطاني) التي تأسست عام 1970م وتنادي بالاستقلال على أن يكون نظام الحكم ملكياً، ومعظم قادتها في الخارج. وهناك كذلك (الحركة الإسلامية الفطانية) التي تأسست عام 1975م على يد عدد من العلماء، وقد قامت بنشاط إعلامي للتعريف بقضية فطاني.
(*) صحفي مصري.(218/18)
الحمد لله لم يكن ما رأيت حقيقة
طارق بن خليفة الخليفة
في بداية الشتاء خرجت من منزلها باكراً، عندما بدأ حاجب الشمس بالشروق، و (امتطت) صهوة سيارتها (البورش) ذاهبةً ـ إن لم تخنّي ذاكرتي ـ إلى مقر عملها الواقع في شمال مدينتها، ولم يكن السير في هذه الساعة يبعث على السعادة؛ فسيارات العاملين والعاملات، وأصحاب الأعمال، ومديرات الأقسام، تأخذ حيّزاً من الطريق السريع ذي المسارات الأربعة. على أية حالة وعلى أنغام مسجّل سيارتها كانت تمضي (العنود) . غير أن ما عكّر عليها مزاجها أن إحدى عجلات البورش أعلنت الإضراب عن الدوران، والحمد لله كانت العواقب سليمة؛ فهي ملتزمة بالسرعة القانونية داخل الطريق (80 كلم) . عندها ترجَّلَت من سيارتها بحركة (شبابية) ملقية من على كتفها (العباءة) كي تقوم بإصلاح الإطار؛ فالمثل يقول: اِلبس لكلّ حالةٍ لبوسها.. لكنّها فوجئت بعشرة من الشباب العاطلين عن العمل مستعدين لخدمتها ممّن (لم تُدرَج أسماؤهم تحت قائمة طالبي الوظائف من المؤسسات الأهلية) .
ولك أن تستغرب هذه (الفزعة) في طريق سريع يكتظ بالسيارات في مثل هذه الساعة المبكرة صباحاً (7.45) .. ولكن بعد (فك العجلة.. والتربيط) قامت العنود (مجاملة) بشكر اثنين منهم على خدماتهما المتميزة، وأصرّت على الحصول على أرقام هاتفيهما للحاجة! ثم (شكرتهما مودّعةّ لهما) .. وركبت (البورش) ثانيةً وضغطت (دوّاسة الوقود من الغضب مما أثار غضب عجلاتها التي قامت بإصدار صوت يشبه ما يفعله المراهقون أيام قيادتهم المبكّرة) ..
على العموم؛ واصلت طريقها، ثم انحرفت بعد ذلك إلى يمين المنعطف الكبير الذي ينزلها إلى مواقف مؤسستها العقارية، لتجد على بوّابة المواقف، حارسة الأمن (نورة) التي كانت ترتدي القميص السماوي والبنطال الأزرق لتأخذ مفتاح السيارة فتدخلها (المرآب) .. ثم صعدت العنود عن طريق المصعد إلى الدور السابع حيث يقبع مكتبها العقاري، واستقبلها السكرتير الخاص بالمكتب من الجنسية ... ! بابتسامته (المشهود لها بالبراءة التامة!) فدخلت إلى مكتبها الواسع الذي تجزم عند رؤيتك له بأن تجهيزه قد تم بطريقة لو علم بها أصحاب الديكور (لحسدوها عليه) ..
ألقت العنود بنفسها على كرسيها الدوار وضربات قلبها ما زالت تعيش همّ مشوارها الذي استمرّ معها ما يزيد على ساعة وربع ساعة ... ومن غير شعور رجعت بذاكرتها تلقائياً إلى لحظة خروجها من المنزل ثم (تحمية السيارة) والتأكد من (مستوى الزيت في المحرك) وأنها اضطرت لتتأكد من (ضغط هواء العجلات) .. ثم تذكرت تلك اللحظة التي نزلت فيها من السيارة بعد تشغيلها لتجلب شيئاً من البيت، وعند رجوعها وجدت أنها أغلقت الباب على المفاتيح، فأخرجت (جوالها الجديد الذي اشترته قريباً) لتتصل بالعامل القادر على استخراج مفتاحها، وكيف جاء الرجل إليها وطلب مبلغ (250 ريالاً) بجشع واستغلال للموقف، وأطلقت تنهيدة وهي على كرسيها الدوار وهي تتذكر نظراته وهو يصلح المقبض ليفتح السيارة، وكيف كادت عيناه أن تشبه عيني ذئب قد ظفر بصيد لا يقدّر بثمن، وأرسلت العنود دمعة من عينيها، وضغطت على أسنانها وهي تتذكر (النقيبة خلود التي أوقفتها وأعطتها قسيمة على صرير العجلات) .
وفجأة ضربت العنود طاولة المكتب (الفاخر) بيديها بقوة، حين تذكرت زوجها وهو يأخذ لحاف النوم ليعلن لها (أنه عازم على المضي في نومه) وصوته ينبعث من تحت اللحاف وهو يقول: (يالعنود ... ودّي البنات للمدرسة.. ومرّي السوق وهاتي الخضار.. وبعد الظهر مرّي على الجوازات جدّدي الجواز؛ لأني سأسافر هذا الصيف) .
ونظرت حولها في المكتب الواسع، ثم دارت بكرسيها الدوّار أكثر من مرة وهي مسترخية، مطلقة لخيالها الرجوع إلى تلك الأيام الخوالي التي كان زوجها أحمد يقوم بإيصالها، وأيام كان جارهم سعد (عند الحاجة وغياب زوجها أحمد يقوم بإيصالها مع زوجته) فصرخت وهي على كرسيها الدوّار: اتركونا.. اتركونا، وفجأة سمعت صوت زوجها وهو يقول: العنود! العنود! قومي حبيبتي.. (عسى ما شر!) ففتحت عينيها؛ فإذا هي في غرفتها الوردية.. ونظرت إلى الساعة فإذا هي الرابعة فجراً، وإذا زوجها أحمد أمام عينيها.. وهو يهدّئ من روعها: عسى ما شر، فأطلقت تنهيدة لو قُدِّر لك سماعها لبكى قلبك لها وهي تتمتم بهذه الكلمات والتي تخرج من بين شفتيها: الحمد لله، الحمد لله أن ذلك لم يكن حقيقة.. لم يكم ذلك حقيقة.. الحمد لله.(218/19)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
- «هذا المزيج من الصخب والهتافات وأصوات أبواق السيارات يذكرني بوقت استقلالنا عن فرنسا عام 1956م» مواطن تونسي يصف خروج آلاف التوانسة ليلة الأحد 6 رمضان احتفالاً بوصول تونس إلى نهائيات كأس العالم لكرة القدم، وهو نفس اليوم الذي قتل فيه عشرات آلاف الباكستانيين إثر هزة أرضية» . [العربية نت، 7/10/2005]
- «كان من المستحيل تقريباً بالنسبة إلى عائلة سُنِّية كعائلتي تسبح في بحر من الشيعة مواصلة العيش في البصرة» أبو مشعل أحد العراقيين السنة اللاجئين. [وكالات11/10/2005م]
- «بوش سيُذكر في التاريخ على أنه أكثر الرؤساء الأمريكيين انعداماً للمسؤولية المالية في تاريخ أمريكا» فريد زكريا رئيس تحرير الطبعة الدولية من مجلة نيوزويك الأمريكية. [مجلة النيوزويك العدد (276) ]
- «يبدو أن مصر تريد أن تجرب حكم الإخوان المسلمين» الروائي المصري نجيب محفوظ محذراً من تنامي شعبية الحركة في مصر. [الشرق الأوسط، 5/10/2005م]
- «أنا غازي كنعان حاكم لبنان سنوات طويلة، إذا سألتموني عن الفساد والرشوات نعم! قد شاركت فيها» اللواء غازي كنعان وزير الداخلية السوري المنتحر متحدثاً أمام لجنة التحقيق في اغتيال الحريري، وهو الحديث الذي نشرته محطة تلفزيون نيو تي في اللبنانية، ونفاه الوزير قبل موته.
- «يقدر أن ما بين 23و 58% من المسؤولين الدينيين الكاثوليك لديهم توجهات جنسية مثلية» القس الأمريكي دونالد بي كوزنر في كتاب له بعنوان (الوجه المتغير للكهنوتية) . [النيوزويك العدد (276) ]
- «سوريا لا تتعامل بسياسة الاغتيالات مع أعدائها؛ فكيف بأصدقائها» وزير الإعلام السوري مهدي دخل الله في تعليقه على اتهام النظام السوري باغتيال وزير الداخلية غازي كنعان. [الشرق الأوسط، 13/10/2005م]
- «يمكنك إجهاض كل جنين أسود في هذه البلاد، وهو ما سيؤدي إلى خفض معدل الجريمة» وزير التعليم الأمريكي السابق ويليام جي بينيت متحدثا في برنامجه الإذاعي. [النيوزويك العدد (278) ]
__________
أحاج وألغاز
- أكاديمي أم أكاذيبي
في حوار مع فضائية العربية قال (الدكتور فؤاد عجمي) الأكاديمي الأمريكي والمتعصب ضد الإسلام والإسلاميين: «أنا حصل لي الشرف لقاء المرجع الأعلى السيد علي السيستاني.. كانت هدية لي واللي مهّد لي الطريق على بيته هو الدكتور أحمد الجلبي اللي هو صديقه، ورسالة السيستاني اللي سلّمها لأحمد جلبي ارجع على بغداد وجيب السنة العرب على اللعبة السياسية، وغيروا النظام الانتخابي حتى يحصل السنة على حصة أكبر في الجمعية الوطنية.. الشيعة شعب معتر شعب محروم، لما تروح على الجنوب وتشوف الناس بجنوب العراق، حتى حجمهم، حجمهم أصغر من اللي بتشوفن ببغداد.
هشام ملحم: سوء التغذية؟
فؤاد عجمي: من سوء التغذية والعذاب والحرمان. [برنامج عبر المحيط العربية نت، 7/10/2005م]
- اضحك مع فريدمان!
«والسؤال الآن هو: ما نوعية الأقلية التي يريدها السنة؟.. أعرف أن السنة يشعرون بالرعب من نفوذ إيران في جنوب العراق، ولكن كما سيقول البريطانيون الذين يديرون منطقة البصرة؛ فشيعة العراق مهووسون بخوف الوقوع تحت سيطرة إيران. وبالرغم من العلاقات الثقافية والتجارية المتزايدة مع إيران، فهم ينتمون للعراق أولاً» الصحفي الأمريكي اليهودي توماس فريدمان. [العربية نت، 12/10/2005م]
- اسم المستخدم: جورج بوش
رجل المخابرات الإيطالي (نيكولا كاليباري) الذي قتل في العراق بنيران القوات الأمريكية قبل أشهر، نقل كتاب يتحدث عن مقتله قول زملائه من الاستخبارات الإيطالية في العراق: «كان دائماً يحذرنا من الأمريكيين إلى حد أصبحنا نستعمل جملة: احذر الأمريكيين، ككلمة سر» .
[الوطن، 11/10/2005م]
- هل تأخر نشره 300 عام؟
لا يوجد فصل مسبق بين الدين والدولة في العديد من الدول المسلمة اليوم، ولا يتم الرجوع إلى القرآن فقط كنص ديني، ولكن أيضاً كمصدر للقانون ومرشد لتسيير شؤون الدولة وحكم في السلوك الاجتماعي. [من مقال نشرته مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية أغسطس2005م]
- السيدة رجل
لم يسبق لألمانيا ان حكمتها امرأة ولهذا السبب لم يفكر أحد قبل الآن في اللقب الذي ستحمله (أنجيلا ميركل) المستشارة الجديدة، وأثار الأمر لغطاً إعلامياً، هل يقال: المستشارة ميركل، أو السيدة المستشار ميركل أو السيدة المستشارة ميركل؟ وذكر عالم اللغة (البروفيسور فيرنر بيرش) أن الصيغة الأصح لمخاطبة (أنجيلا ميركل) هي: السيدة المستشار. [بتصرف عن الشرق الأوسط، 13/10/2005م]
__________
مرصد الأخبار
- أبو مصعب الظواهري أم أيمن الزرقاوي؟
«كبار العسكريين في أفغانستان قلقون الآن؛ فقوات طالبان أكبر وأقوى شكيمة وأفضل تسليحاً وتنظيماً من أي وقت مضى منذ نهاية 2001م. يقول وزير الدفاع عبد الرحيم ورداك: «لديهم المزيد من المعدات والمال والرجال ومتفجرات أفضل وصواعق يتم التحكم فيها من بعد» ، والأسوأ من ذلك كما يقول هو أن هناك «دلائل قوية» على أن القاعدة جلبت فريقاً من المدربين العرب من العراق لتعليم طالبان آخر تقنيات التمرد.
ويقول دبلوماسي أوروبي لم يشأ الإفصاح عن اسمه بسبب حساسية الموضوع: «لدينا معلومات بأن طالبان تسلمت أسلحة وأجهزة تفجير جديدة» .
وقُتل هذا العام 51 جندياً من الولايات المتحدة على الأقل في أفغانستان مقارنة بـ 60 جندياً في السنوات الثلاث الأولى من المعارك، ويبدو أن أحد الأسباب الكبرى لهذه القفزة في عدد القتلى هو تحول رجال العصابات إلى أجهزة التفجير المحلية المبتكرة. إن القلق الكبير هو أن دراسة تكتيكات العراق ستجعل المقاومة الأفغانية أقوى بشكل كبير وأكثر فتكاً، وخلال مسح حديث للمواقع المؤيدة لطالبان على طول الحدود الأفغانية شمال وزيرستان، جمعت القوات الباكستانية الكثير من أدلة التدريب باللغة العربية، والواضح أنها نسخ من تلك التي يستخدمها المتمردون في العراق» من تحقيق ميداني. [مجلة نيوزويك العدد (276) ، 27/9/2005م]
- احذروا «الجوجلة» القادمة
يستخدم المتخصصون مصطلحات مثل: الكوكلة - نسبة إلى كوكا كولا، والمكدلة - نسبة إلى ماكدونالدز، للدلالة على استخدام تلك العلامات الأمريكية التجارية المشهورة لأمركة الشعوب وترويج ونشر الثقافة الأمريكية، ويبدو أن السنوات القليلة القادمة ستحمل مصطلحاً جديداً يضاف لهذه القائمة، وقد يكون أخطرها، وهو مصطلح: الجوجلة، نسبة موقع البحث الشهير: جوجل، والذي يتضخم بوتيرة متسارعة متجاوزاً مجالات البحث التقليدية ليشمل معظم المجالات في عالم الإنترنت، وهذه مقتطفات نشرتها صحيفة الشرق الأوسط تتحدث عن خطط جوجل المستقبلية:
تم تأسيس جوجل عام 1998م، وفي الستة اشهر الأولى من عام 2005م حصلت الشركة على 72 براءة اختراع مقارنة بـ 47 براءة اختراع ما بين 2001 و 2004، والأرقام تؤشر إلى قفزة عملاقة.
وقامت جوجل ببناء مبنى جديد تبلغ مساحته مليون قدم مربع بالقرب من مبنى أبحاث ناسا في منطقة وادي السليكون للاستفادة من خبراتها، وتضاعف عدد موظفي جوجل في آخر سنتين ليصل إلى 4200 موظف بمعدل 4 موظفين في اليوم.
وكانت ياهو قد اعلنت أن لديها فهرساً للبحث في أكثر من 20 مليار ملف وصفحة في الإنترنت، ولكن جوجل أعلنت حديثاً أن فهرس بحثها أكبر ثلاث مرات من أكبر فهرس لدى الشركات المنافسة في مجال البحث.
وجوجل تعتبر ثاني أكبر خطر في حياة ميكروسوفت بعد خطر شركة نيتسكيب المصنعة لمتصفح الإنترنت الشهير نتسكيب نافيجيتير، فجوجل تنوي في المستقبل الا يضطر المستخدم إلى تنزيل البرامج على جهازه أو تخزين معلوماته واسترجاعها لاحقاً، بل من الممكن التخلص من نظام التشغيل كله عن طريق وصل الجهاز بالإنترنت فقط، واستقطبت جوجل الكثير من موظفي ميكروسوفت وأبرزهم (مارك لوكو فسكي) أحد أهم مصممي نظام التشغيل ويندوز. [الشرق الأوسط، 11/10/2005م]
- موسم التخفيضات
الحاخام (حاييم دروكمان) رئيس سلطة تحويل الديانات في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أبلغ ان زيادة بنسبة 50% طرأت على شهادات التحويل إلى اليهودية الصادرة عن مكتبه وذلك إثر السياسة الجديدة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية في تسهيل التحول أمام الراغبين من غير اليهود، وأشار دوركمان إلى أن هناك 300 ألف من غير اليهود الذين يعيشون في الكيان هم غير يهود هاجروا إلى الدولة العبرية في إطار قانون العودة، وقد تسلم حوالي 5546 شخصاً شهادات التحول في الثمانية أشهر الأولى من هذا العام. [الوطن، 11/10/2005م]
- وزارة الخوف القومي
«بالنسبة لغالبية الأمريكيين، فإن احتمالات الموت في هجوم إرهابي ضئيلة جداً، واستناداً إلى الهيئة الأمريكية لمراكز السيطرة على الأمراض يبلغ هذا الاحتمال: 1 في 88.000، بينما يبلغ احتمال الموت من السقوط على سلم: 1 في 10.000.
وحتى عام 2001م، قتلت حوادث اصطدام السيارات من الأمريكيين ما يزيد على 15 ضعفاً لقتلى الإرهاب.
يبالغ الناس في تقدير المخاطر التي يمكنهم تصورها ويتجاهلون المخاطر التي لا يستطيعون تصورها.
وتجعل تحذيرات الحكومة وشبكات الأخبار على مدار الساعة مخاطر معينة تبدو أكثر انتشاراً مما هي عليه حقاً، ونتيجة لذلك تسرف الولايات المتحدة في إنفاق مليارات الدولارات سنوياً في حماية الولايات والمواقع التي لا تواجه خطراً إرهابياً يذكر، وفي عام 2003م تلقت مقاطعة جراند فوركس بولاية نورث داكوتا مليوناً ونصف المليون دولار لشراء مقطورات مجهزة بمعدات الاستجابة لهجمات نووية وبزات الوقاية الكيمياوية بأعداد أكثر ممن في المقاطعة من ضباط شرطة.
هذه النفقات الصغيرة تتزايد مجتمعة، فقد ازداد الإنفاق الفيدرالي على أجهزة الرد الأولي للهجمات من 616 مليون دولار عام 2001 إلى 3.4 مليار دولار عام 2005م، أي بنسبة 500%، وسيقترب الإنفاق على الأمن الوطني من 50 مليار دولار هذا العام، فالإنفاق بعشوائية أصبح ملازماً لاستراتيجية الولايات المتحدة الحالية التي تخطر جميع الأمريكيين بأن يكونوا خائفين.
وعندما تنشر وزارة الأمن الوطني نصائح ساذجة فإنها تفترض أن جميع الأمريكيين يواجهون خطراً متساوياً وتخلق رعباً على نطاق واسع من دون أن تجعل أمريكا أكثر أمناً» . [المجلة الأمريكية فورين بولسي العدد (149) ]
- فكيف يكون الفزع؟
يروي المراسل الأمريكي (مايكل هيستينغز) تجربة عملية عايشها في العراق؛ حيث حاولت قوات الاحتلال أن تظهر لوسائل الإعلام من خلال زيارة ميدانية مدى الأمن المستتب في مدينة تكريت مسقط رأس صدام حسين، فهل حققت الزيارة هدفها؟ كتب المراسل إجابته كما رآها في العراق وأرسلها للنيوزويك، وجاء فيها: «كانت الزيارة تستهدف إبراز تكريت كمدينة كان فيها الأمن مستتباً غير أن أمر نقل مجموعة صغيرة منا تتكون من نحو (10) أشخاص إلى إحدى المدارس تتطلب (13) عربة «هامفي» مصفحة وطائرتين مروحيتين - إحداهما من طراز أباتشي هجومية - كانتا تطيران على ارتفاعات منخفضة لتوفير الدعم الجوي القريب لنا، وبوجود ثلاثة جنود في كل عربة هامفي فقد كان العدد الكلي لحراستنا هو 39 جندياً أو ما يقرب من أربعة جنود لكل واحد من هذه (الشخصيات المهمة جداً) منا، وكان هناك مئات من أفراد الشرطة العراقية، مصطفين على جنبات الطريق التي سلكناها إلى المدرسة وذلك من أجل إظهار قوتهم أمامنا ولضمان عدم تعرضنا لأي هجوم.
قبل أن نغادر القاعدة الأمريكية وجه إلينا مضيفنا المسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية في تكريت تحذيراً: «إذا حدث مكروه يرجى أن تظلوا في عرباتكم، وإذا حدث مكروه وأنتم لستم في عرباتكم يرجى سرعة التوجه إلى عرباتكم، يرجى الإصغاء لما يقوله قادة عرباتكم وهم سيقومون بكل ما في وسعهم للحفاظ على سلامتكم» .
قائد عربتي، (السيرجنت باتريك غارلاند) قال بكظم مشيراً إلى خلف العربة: «إنكم في العربة المحظوظة، هناك 23 ثقباً فيها جراء إطلاق النار عليها، القطعة المانعة للأوحال هي الوحيدة التي لم يخترقها الرصاص» .
- رجال الدين والأعمال
كشف أعضاء في الجمعية الوطنية العراقية من الكتل غير المشاركة في الحكومة عن قيام وزارة المالية ببيع ممتلكات حزب البعث من العقارات والمنازل في بغداد إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بزعامة عبد العزيز الحكيم، وبحسب المصادر فإن وزير المالية السابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي الدكتور عادل عبد المهدي أصدر أمراً ببيع عدد كبير من العقارات وبقيمة رمزية، ووصفت المصادر الإجراء بالباطل؛ لأن البيع لم يتم من خلال مزايدة علنية، وقال محام عراقي: إن الأرض المخصصة لإنشاء جامع الدولة الكبير وسط مدينة النجف بيعت إلى المجلس الأعلى ليكون ضريحاً لرئيس المجلس السابق محمد باقر الحكيم على أن يلحق به جامع كبير وقاعة ومكتبة. [الوطن، 3/10/2005م]
__________
لقطات سريعة
- قتل أكثر من 702 عراقي في هجمات في سبتمبر الماضي بحسب أرقام وزارات الصحة والدفاع والداخلية العراقية، وأصيب 848 بجروح، مقابل 526 قتيلاً و 647 جريحاً في أغسطس الماضي، وقتل هؤلاء في انفجار 32 سيارة مفخخة و 6 عبوات ناسفة وسقوط قذائف هاون ونحو 50 هجوماً مسلحاً وهجمات اخرى متفرقة، وفيما يتعلق بالمقاومة ذكرت وزارتا الدفاع والداخلية أن 194 مسلحاً قتلوا الشهر الماضي مقابل 58 في أغسطس وتم توقيف 907 مسلح في سبتمبر مقابل 745 في أغسطس. [وكالات، 3/10/2005م]
- أصبحت ألمانيا العام الماضي أكبر مصدِّر في العالم للسلع حتى أكبر من الولايات المتحدة مع أن اقتصاد الولايات المتحدة أكبر بخمسة أضعاف من الاقتصاد الألماني. [النيوزويك العدد (278) ]
- أكد تقرير رسمي أن السودان لديه أكثر من نصف مليون ضرير من أصل تعداد سكاني يبلغ 40 مليون نسمة، ويؤكد التقرير أن السودان ليس لديها سوى 120 طبيباً متخصصاً في طب العيون، 92 منهم في الخرطوم لكن لا أحد في المناطق الجنوبية. [صحيفة الجزيرة، 14/10/2005م]
- منحت جائزة نوبل للآداب لعام 2005 إلى الكاتب المسرحي البريطاني اليهودي هارولد بينتر، كما منحت جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2005 الى الإسرائيلي روبرت أومان والأمريكي توماس شلينج لنجاحهما في وضع نظرية متعلقة بشرح النزاعات. [الأهرام 14/10/2005م، الشرق الأوسط، 11/10/2005م]
- اظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «الدولية للمعلومات» أن اللبنانيين الذين يعتبرون أن انتماءهم لطوائفهم يأتي أولاً هم أكثر عدداً من الذين ينتمون أولاً إلى وطنهم لبنان، وكان الشيعة ثاني أقل الطوائف تمسكاً بالوطن بعد الأرمن الأرثوذكس، إذ بلغت نسبة من اعتبر لبنان خيارهم الأول 18.8 % فقط من عينة الاستطلاع. [الشرق الأوسط، 8/9/1426هـ]
- أظهرت دراسة لمؤسسة هولندية متخصصة أن التعرض لمدة 45 دقيقة للإشعاعات التي يبثها الهاتف الجوال يؤدي إلى نتائج صحية مضرة، وقال مراقبون أن هناك ما يقرب من 600 دراسة أعدت أو يجري الإعداد لها حول النتائج الصحية للموجات الكهرومغناطيسية غالبيتها تمول من الشركات المشغلة للهاتف الجوال، وتأتي نتائجها معروفة مسبقا، وفي فرنسا مثلا فإن مهمة صياغة التقارير وملاحظات الأبحاث حول نتائج هذه التكنولوجيا ينفذها دوماً الخبراء أنفسهم. [الوطن، 11/10/2005م]
- أعلنت عمدية باريس حرباً ضد مخلفات الكلاب التي ظلت لفترة طويلة من المعالم المألوفة لدى أبناء العاصمة الفرنسية والسياح الوافدين عليها، وأشار تقرير أمني نشر الجمعة إلى أن شرطة باريس تلقت العام الماضي 22 ألف بلاغ ضد أصحاب الكلاب التي تتسبب بمخلفاتها في إزعاج المارة، وفي بلد يضم 30 مليون حيوان أليف أغلبها من الكلاب بسلالاتها المختلف تضطر أجهزة التنظيف المتخصصة في إزاحة فضلات الكلاب بالتخلص من 16 طناً من هذه الفضلات يومياً. [الجزيرة نت، 23/9/2005م]
- يحرق المدخنون المصريون والخليجيون داخل مصر 10 ملايين جنيه يومياً على تدخين «الشيشة» في شهر رمضان، ويبلغ عدد المقاهي التي تقدم الشيشة في مصر ما يزيد على 50 ألف مقهى منها 30 ألف فقط داخل القاهرة. [الوطن، 11/10/2005]
- يشير استطلاع جديد لآراء نحو 24.000 مواطن من 23 بلداً، أجرته شركة الاستطلاعات الدولية «غلوب سكان» و «برنامج التوجهات السياسية الدولية» إلى أن: 20 من أصل 23 بلداً شمله الاستفتاء، رحب بفكرة تعاظم نفوذ أوروبا وتفوقها على الولايات المتحدة، وبعض أعلى مستويات الحماسة لتعاظم النفوذ الأوروبي جاءت من دول مجاورة لأمريكا المكسيك (66%) ، كندا (63%) ، والطريف أن نسبة الأمريكيين الرافضين للنفوذ الأوروبي لم تتجاوز (55%) . [مجلة فورين بوليسي العدد (149) ]
- أصدرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي دراسة عن «الدول الفاشلة» ومن بين أكثر الدول فشلا - ذات الحجم الكبير - جاءت ثلاث دول إسلامية كبرى، هي: إندونيسيا (242مليوناً) ، باكستان (162مليوناً) ، روسيا (143مليوناً) ، نيجيريا (129مليوناً) ، جمهورية الكونغو الديموقراطية (60مليوناً) . [مجلة الشؤون الخارجية أغسطس 2005م]
- يبلغ عدد اللاجئين السودانيين المقيمين في مصر طبقا لاتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951 نحو 16 ألف لاجئ يمثلون 76% من عدد اللاجئين في مصر البالغ عددهم نحو 21 الف لاجئ، بينما يتراوح عدد السودانيين المقيمين بمصر بشكل عام بين ثلاثة وخمسة ملايين سوداني. [وكالات، 13/10/2005م]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
تصريحات
- «بشار الأسد لم يعد يفهم الرسائل التي تُنقل إليه، ولذلك لا بديل عن إفهامه عن طريق استخدام القوة» . مصادر عسكرية صهيونية. [صحيفة معاريف العبرية، 11/10/2005م]
- «يجب على السلطة الفلسطينية محاربة حركة حماس بدون هوادة» رئيس حزب العمل الصهيوني «شيمون بيريز» . [الإذاعة الإسرائيلية 11/10/2005م]
أخبار
- «بحث وزير البنى التحتية الإسرائيلي «بنيامين بن إليعازر» مع مسؤولين أتراك خلال زيارته التي قام بها لأنقرة، قيام إسرائيل بالحصول على مياه تركية، وأوضح له الجانب التركي أن مصنع «منابجاوت» لإنتاج المياه الذي كان من المقرر أن يقوم بتزويد إسرائيل بالمياه في إطار الاتفاق السياسي الذي جرى التوقيع عليه في مارس 2004م بين تركيا وإسرائيل، تستعد الحكومة التركية لعرضه للخصخصة» . [صحيفة هاآرتس الإسرائيلية، 9/10/2005م]
- «يبدو أن الزعيم الروحي لحركة حماس الشيخ «أحمد ياسين» لم يلق حتفه بعد، فقد ظهرت على الساحة الفلسطينية في غزة فرقة غنائية تتبع حركة حماس، تقوم بتمجيد ياسين بين الحين والآخر في أغنيات وشرائط كاسيت لا توجد بها موسيقى؛ فالحركة تعتبر الموسيقى حرام» . [صحيفة معاريف العبرية، 12/9/2005م]
- «قدمت مستوطنة يهودية مذكرة احتجاج ضد أفراد جيش الدفاع المخولين بعمليات الإخلاء في مستوطنات غزة، بعد أن شاهدتهم يلعبون كرة القدم داخل أحد المعابد اليهودية، وقيام بعضهم الآخر بالغناء والرقص بداخله» . [موقع القناة السابعة الإسرائيلية، 14/9/2005م]
- «قرر رئيس الوزراء «أريل شارون» تغيير سياسته الخاصة بمنع الحجاج الفلسطينيين من الذهاب للحج، ورأى مقربون منه التغاضي هذا العام عن هذا النهج والسماح للفلسطينيين بالخروج للعمرة والحج لتغيير نظرة المجتمع الدولي نحوه خاصة عقب قيامه بتنفيذ خطة الانفصال عن غزة» .
[صحيفة هاآرتس العبرية، 4/10/2005م]
__________
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
- رئيس جديد للمنصرين الكاثوليك في شبه الجزيرة العربية
أصدر (بندكتس السادس عشر) بابا الفاتيكان قراراً بتعيين المطران بولس منجد الهاشم لشغل وظيفة سفير بابوي في دول منطقة شبه الجزيرة العربية، وبولس الهاشم هو ماروني شديد التعصب للكاثوليكية، من مواليد بلدة العاقورة بجبل لبنان عام 1934م، حصل علي مؤهلاته اللاهوتية العليا من إيطاليا، ودرجة الدكتوراه في اللاهوت والحق القانوني الكنسي من فرنسا عام 1959م، ثم تولى إدارة القسم العربي في إذاعة الفاتيكان لعدة سنوات، انتقل بعدها للعمل في دار الصحافة بالكرسي البابوي، ثم أميناً لسر دولة الفاتيكان، إلى أن ترقى أسقفاً لمجمع كنائس منطقة بعلبك (دير الأحمر) الماروني في العام 1995م. [الفاتيكان، 1/9/2005م]
- نهضة كاثوليكية في القاهرة
وفق حملة واسعة ومنظمة للكنيسة الكاثوليكية في مصر، موازية لحملتي الأرثوذكس والبروتستانت، نظمت الكنيسة الكاثوليكية مؤتمراً كبيراً ضم عدداً من شباب وفتيات الطوائف والكنائس في أنحاء الجمهورية، على مدى خمسة أيام متواصلة، في واحدة من أكبر الكنائس بمصر على هضبة المقطم، كما شارك في المؤتمر وفود من سوريا ولبنان والسودان وسويسرا وألمانيا.
كان الشعار الرئيس للمؤتمر (افتحوا أبوابكم للمسيح) ، وحملت موضوعات البحوث والدراسات والمحاضرات عناوين: (جئنا لنسجد له) في اليوم الأول، و (التميز عن الآخر) في اليوم الثاني، و (الضمير المسيحي) في اليوم الثالث، و (أتعشى مع الرب يسوع) في اليوم الرابع، و (المشاركة في المجتمع) في اليوم الخامس.
وكانت واحدة من أهم المحاضرات، تلك التي ألقاها القس المهندس (نادي ناشد) حول استخدام أجهزة الهاتف المحمول في تنشيط العمل التنصيري، قائلاً: إن في مصر (10) مليون خط هاتف أرضي، و (8) مليون خط هاتف محمول، وأن ترتيب مصر هو (24) بين أكبر (160) دولة تستخدم هذا الهاتف الأخير، أما ترتيب مصر في استخدام شبكة الإنترنت، فيحمل رقم (27) ، وهو الأمر الذي يضع مسؤولية العمل الدعوي على كل شعب الكنيسة. [القاهرة ـ دعم الإخبارية ـ 21/9/2005م]
- شافيز يطرد جماعة تبشيرية أمريكية من فنزويلا
أعلن (هوجو شافيز) رئيس فنزويلا، أنه بصدد طرد مجموعة تنصيرية أمريكية يطلق عليها اسم (بعثة القبائل الجديدة) من البلاد، وقال إن المجموعة مكونة من (إمبرياليين) وإنه يشعر بـ (العار) لوجودهم في مناطق السكان الأصليين في فنزويلا، واتهم الجماعة التي تتخذ من فلوريدا الأمريكية مقراً لها، بالقيام برحلات طيران غير مصرح بها، وإقامة معسكرات تنصيرية في مناطق فقيرة.
يذكر أن هذه الجماعة هي واحدة من أكبر المؤسسات التنصيرية في أمريكا اللاتينية، وتضم 3200 موظف، وتعمل في 17 دولة، إضافة إلى غرب أفريقيا وجنوب شرق آسيا.
وقال شافيز: إن جماعة «القبائل الجديدة ستخرج من فنزويلا، كفانا استعماراً» . [بي بي سي العربية، 13/10/2005م](218/20)
أمريكا الرومانية ومقدمات الانهيار
د. باسم خفاجي
تقدم هذه المقالة مراجعة للعلاقة بين انهيار المدن بسبب الكوارث الطبيعية، وبين تهاوي الإمبراطوريات عندما تفقد عوامل البقاء الأخلاقية، وينهار البناء الاجتماعي الذي يحفظ تماسك المدن وعلاقة الأغنياء مع الفقراء، والأقوياء مع الضعفاء، وهو ما تظهره الكوارث الطبيعية بشكل سريع ومفاجئ. تقدم الدراسة رؤية عن تداعيات إعصاري «كاترينا» و «ريتا» على الجنوب الأمريكي وخصوصاً مدينة «نيو أورلينز» بصفتها نموذجاً صارخاً لعدم المساواة في المجتمع الأمريكي من ناحية، وانتشار الفساد والجريمة من ناحية أخرى، وأخيراً المفارقة المرتبطة بتركيز المنشآت النفطية في المنطقة التي تعرضت للإعصارين وارتباط ذلك باهتمام أمريكا الخارجي للسيطرة على النفط، والعجز الداخلي عن تأمين المصافي في مواجهة الأعاصير. تبحث الدراسة أيضاً كيف ستؤثر هذه الكارثة الطبيعية على مستقبل المشروع الأمريكي في قيادة العالم.
- انهيار المدن وتهاوي الإمبراطوريات:
لكي تعرف حقيقة ما حدث في مدينة «نيو أورلينز» بسبب إعصار «كاترينا» فقد يكون من المهم العودة بالتاريخ طويلاً إلى بدايات التاريخ الميلادي عندما دمر بركان ثائر مدينة رومانية وهي «بومبيي» .. الفارق بين الحدثين أن الدمار الذي حدث هناك قد اختفى عن الأعين لقرون طويلة؛ أما دمار «كاترينا» وما تبعه من إعصار «ريتا» أيضاً فهو مشاهَد للعالم على الهواء مباشرة على شاشات الفضائيات وفي مواقع الإنترنت، ويا له من دمار!
«بومبيي» مدينة رومانية قديمة دمرها بركان ثائر منذ ما يقارب ألفي عام، و «نيو أورلينز» مدينة أمريكية تعرضت للتدمير بسبب كارثة طبيعية أخرى وهي إعصار «كاترينا» .. وبين المدينتين الكثير من أوجه الشبه، وبين الواقع الأمريكي المعاصر وماضي الإمبراطورية الرومانية التي جمعت بين عناصر القوة وبين مسببات الانهيار أوجه تشابه كثيرة أيضاً.
أما عن أهمية المقارنة بين المدينتين فسببها أن كلتيهما تمثلان اجتماع عناصر القوة والانهيار معاً لكل من الإمبراطورية الرومانية في القديم والأمريكية في هذا الزمان. وكذلك فقد اشتهرت المدينتان بأنواع مشتركة من أشكال الفساد والرذيلة التي تهدد البنى الاجتماعية للحضارات وتُؤْذِن بزوالها.
«بومبيي» مدينة إيطالية حفظتها الحمم البركانية كاملة بواقعها وفسادها وعهرها تحت الرماد لقرون طويلة ليعرف العالم بعد اكتشافها كيف كانت الأمبراطورية الرومانية تعيش. أما «نيو أورلينز» فستدخل التاريخ كمدينة دمرت بسبب الظلم الأمريكي الذي تجاوز الاعتداءات على شعوب العالم ليجمع معه إهمال وتجاهل معاناة أبناء أمريكا أنفسهم، وسيحتفظ التاريخ أيضاً بتوثيق ذلك من خلال عدسات الكاميرات وما دُوِّن عن هذه الكارثة في الصحف والمجلات والمواقع الإليكترونية.
ستدخل «نيو أورلينز» تاريخ العالم كشاهد على العار الذي يلحق الإمبراطوريات عندما تبدأ في مسيرة الانزواء إلى الأزقة الخلفية في مقابر التاريخ. إن كلمة «كاترينا» ترجع إلى أصول لغوية يونانية تعني «النقاء أو الطهارة» فهل نحن نشهد عقاب الخالق وتطهيره لتلك البقعة من بقع الفساد؟ ستجيب الأيام عن ذلك السؤال فيما يتعلق بمدينة «نيو أورلينز» وبالولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ولكن تبقى «بومبيي» وزوال الإمبراطورية الرومانية بعد زوال تلك المدينة واندثارها شاهدة على شدة ذلك العقاب وقسوته.. وحقاً {إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] .
- بين «بومبيي» الرومانية و «نيو أورلينز» الأمريكية:
في دقائق معدودة من يوم 24/8/79م دمر بركان ضخم مدينة «بومبيي» Pompeii الرومانية. انطلقت الغازات السامة من فوهة البركان لتقتل السكان في الوقت نفسه الذي اندفعت فيه الحمم البركانية لتوقف الحياة في المدينة، وتجمِّد كل ما كان يحدث بها من فعاليات الحياة اليومية ليبقى شاهداً تاريخياً على حياة تلك المدينة (1) .
كانت «بومبيي» مدينة تزهو بالأغنياء والترف والمجون والرفاهية من ناحية، ويكثر فيها الفقر والعبودية من ناحية أخرى. كانت تلك المدينة تمثل الإمبراطورية الرومانية بكل تناقضاتها وقوتها وموبقاتها قبل أن تزول تلك الحضارة وتنزوي في عالم النسيان. حفظت الحمم البركانية المدينة بحالها لحظة انفجار البركان لتصبح بعد اكتشافها مرة أخرى في القرن السادس عشر شاهداً على نمط الحياة في ذلك الوقت، وكيف اجتمع للرومان عناصر القوة ومظاهر الانحطاط والانهيار في مجتمع واحد وفي مدينة واحدة.
كانت منازل تلك المدينة مزينة بصور إباحية تعبر عن أنواع من الفساد والمجون شديدة الانحطاط. وكانت تلك الصور تمثل إحدى صور الحياة في المدينة وفي الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت. ولم تكن هذه الصور والرسومات الفاضحة في الملاهي أو محلات بيع الرذيلة فقط، بل إنها كانت أيضاً مرسومة على حوائط بعض منازل العامة. ولشدة فساد هذه الصور والرسومات وكثرتها فقد رفض معظم حكام تلك المنطقة طوال القرون الماضية وحتى أعوام قليلة مضت أن توضع هذه الصور والرسوم في متاحف عامة، ولم يسمح بذلك إلا في فترات محدودة للغاية طوال تلك القرون (2) . حفظت الحمم البركانية صور الحياة الداعرة والممارسات الشاذة لسكان تلك المدينة كما هي بكل بشاعتها وقذارتها لتصبح مزاراً سياحياً ضخماً يفد إليه ملايين البشر في كل عام للتعرف على نمط الحياة في تلك الإمبراطورية التي زالت.
وفي يوم 29/8/2005م، أي بعد ما يزيد عن ألف وتسعمائة عام من ذلك التاريخ البعيد، قام إعصار بتدمير مدينة أمريكية تسمى «نيو أورلينز» . كانت المدينة أيضاً تجمع بين معالم الحضارة الأمريكية اليوم وبين علامات الانحطاط. لم تجمِّد المياه الجارفة الواقع الأمريكي في تلك اللحظات، ولكن عدسات الكاميرات قامت بنفس الدور الذي قامت به الحمم البركانية منذ ما يقارب ألفي عام. قامت العدسات التلفزيونية في حالة «نيو أورلينز» بتوثيق حي ومباشر ودائم للتدهور الأخلاقي للفرد الأمريكي من ناحية، ولتقاعس الدولة الإمبراطورية من ناحية أخرى عن حماية أبنائها والانشغال عن ذلك بمعارك خارجية من أجل المزيد من السيطرة.
لقد ضرب إعصار «كاترينا» منطقة تبلغ مساحتها نحو 235 ألف كم2 أي ما يوازي مساحة رومانيا ونصف مساحة فرنسا. وامتدت الأضرار بطول ما بين 40 إلى 50 كم على شواطىء ولاية ميسيسبي، في حين غمرت المياه 80% من مدينة «نيو أورلينز» . واعتبر الخبراء هذا الإعصار أسوأ الكوارث الطبيعية التي عرفتها الولايات المتحدة منذ نشأتها قبل 230 عاماً، وقد قدر الخبراء حجم الدمار الذي حدث بـ 100 مليار دولار. وأعقب ذلك الإعصار، إعصار آخر هو إعصار «ريتا» الذي هاجم المصافي ومعامل التكرير بولاية تكساس إضافة إلى لويزيانا.
وبين «نيو أورلينز» و «بومبيي» أوجه شبه كثيرة ومفارقات عجيبة. «بومبيي» كانت ميناء تجارياً هاماً في شمال إيطاليا على ضفاف نهر «السامو» ، وكذلك كانت «نيو أورلينز» ميناء تجارياً هاماً على ضفاف نهر «الميسيسبي» وسواحل خليج المكسيك.
قُتل الفقراء في «بومبيي» ، بينما فر الأغنياء مبكراً؛ لأنهم عرفوا من جفاف الآبار أن البركان سينفجر، وكانوا أيضاً يملكون وسائل الانتقال التي مكنتهم من مغادرة «بومبيي» إلى القصور والمنتجعات المحيطة بتلك التلال الإيطالية بعيداً عن مسار الحمم البركانية، وتركوا خلفهم الفقراء والعبيد ليكونوا فريسة للبركان (3) . وفي «نيو أورلينز» نجح الأغنياء أيضاً في مغادرة المدينة بهدوء على متن السيارات الرياضية والفارهة التي تحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه، وتركوا خلفهم الآلاف من الفقراء.. من السود.. من عبيد الأمس كما يقولون.
أظهرت لنا الصور ورسومات الحوائط في منازل «بومبيي» درجة الانحطاط الأخلاقي التي بلغها أهل هذه المدينة. وفي المقابل - ومع انتقالة تاريخية وزمنية تقارب 19 قرناً ـ تظهر لنا شاشات الفضائيات صورة أخرى من صور الانحطاط الأخلاقي لإمبراطورية أخرى وهي الإمبراطورية الأمريكية عندما تناقلت تلك الشاشات مشاهد السرقات والاعتداء على المنازل والمتاجر من قِبَل رجال الشرطة إضافة إلى جموع من المواطنين.
- ثلاثية نيو أورلينز: الفساد - الجريمة - النفط:
في سنة 1719م، بعد عام من تأسيس «جون بابتيست لو موين» مدينة «نيو أورلينز» لتكون عاصمة مستعمرة لويزيانا الفرنسية الناشئة، أباد إعصار مجموعة الأكواخ المصنوعة من سعف النخيل التي كانت تتكون منها المدينة ... وبعد ذلك بعامين، جاء إعصار آخر ليبيدها مرة أخرى. من مفارقات هذه المدينة أن أول مؤسسة تجارية أقيمت فيها كانت عبارة عن متجر للنبيذ (1) .
لقد اشتهرت مدينة «نيو أورلينز» عبر تاريخها بثلاثة أمور ميزتها عن كثير من المدن الأخرى. وهذه الأمور تشكل ما يمكن أن يسمى «ثلاثية نيو أورلينز» وهي: الفساد، والجريمة، والنفط. ولا تكاد توجد في أمريكا أية مدينة أخرى تجمع هذه الثلاثية معاً بدرجة الوضوح التي تظهر في «نيو أورلينز» . ولعل هذه الثلاثية تقدم تفسيراً مقبولاً لمن يعتقدون أن ما حدث بسبب إعصار «كاترينا» هو عقاب إلهي.
لقد عُرفت المدينة بانتشار الفساد الأخلاقي فيها، وتميزت عن كثير من المدن الأمريكية الأخرى بالدعوة إليه من خلال المهرجانات العامة والاحتفالات المستمرة. كما أن معدلات الجريمة والقتل في المدينة هي الأعلى في الولايات المتحدة وبين كثير من مدن العالم. وأخيراً عرفت المدينة أنها أحد أهم مراكز الصناعات النفطية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تحارب أمريكا العالم اليوم من أجل السيطرة على منابعه والتحكم في مخزونه الاستراتيجي من خلال خطط أمريكا الخاصة بالشرق الأوسط ومأساة احتلال العراق.
إن مدينة «نيو أورلينز» هي مدينة هامة للحياة الأمريكية؛ فأكثر من 20% من تجارة أمريكا تمر عبر موانئ هذه المدينة، و25% من المنتجات البترولية الأمريكية تتدفق عبر خطوط الأنانيب التي تمر خلالها، ومحطات التنقية والتصفية وتصنيع المنتجات البترولية التي تنتشر حول المدينة. ويبلغ سكان منطقة «نيو أورلينز» نحو 1.4 مليون شخص، بينما يسكن المدينة نفسها حوالي نصف مليون نسمة، وتبلغ نسبة السود من بينهم 67% من إجمالي عدد السكان، ويعيش 30% منهم تحت خط الفقر.
1 - الفساد:
«نيو أورلينز» هي إحدى مدن اللهو والمجون الأمريكي، وتعرف بكازينوهات القمار المنتشرة في المراكب التي تبحر في نهر الميسيسبي الذي يخترق المدينة إلى شارع «بوربون» الذي اشتهر بمحلات بيع الهوى والرذيلة.
ومن المفارقات الملفتة للنظر أن إعصار «كاترينا» قد دمر المدينة قبل يومين فقط من احتفال سنوي ومهرجان عام للشواذ في أمريكا يسمى «الانحلال الجنوبي» Southern Decadence، وهو مهرجان بدأ منذ عام 1997م تدعو فيه المدينة الشواذ من مختلف أنحاء الولايات المتحدة لتمضية عدد من الأيام للاحتفال وممارسة الأفعال الفاحشة في شوارع المدينة وطرقاتها طوال أيام المهرجان. وقد كان الموعد المقرر لمهرجان هذا العام هو من 31 أغسطس إلى 5 سبتمبر (أي بعد يومين فقط من الإعصار) ، وكان من المتوقع أن يحضره 125.000 ألف شاذ من كافة أنحاء أمريكا وخارجها (2) .
كما اشتهرت «نيو أورلينز» باحتفال ومهرجان صاخب آخر منذ عام 1837م، تنتهك فيه الكثير من القواعد الأخلاقية كل عام يسمى ماردي جرا (Mardi Gras) وهي كلمة فرنسية تعني الثلاثاء المتخم أو السمين. كان هذا المهرجان يقام في المدينة في نهاية شهر فبراير من كل عام. وأصبح مما يميز هذا الاحتفال الماجن انتشار الخمور وممارسة الرذائل علناً بين الرجال والنساء.
واشتهر هذا المهرجان بشيء خاص به، وهو عادة قبيحة انتشرت في الأعوام الأخيرة، حيث تقوم النساء بكشف الجزء الأعلى من أجسادهن من أجل أن يراه المارة ويلتقطون له الصور. وللأسف فالأمر ليس منتشراً بين الساقطات أو الداعرات فقط من النساء، ولكن الأمر تخطى ذلك في الأعوام الأخيرة ليشمل الكثير من زوار المدينة أيضاً، وأصبحت هذه الظاهرة سمة مميزة للمهرجان وللمدينة أيضاً، وأصبح هناك مصطلح خاص باللغة الإنجليزية بتلك الظاهرة أيضاً، وهو «فلاشنج» Flashing.
2 - الجريمة:
عُرفت مدينة «نيو أورلينز» بأنها إحدى عواصم الجريمة في الولايات المتحدة. فالفساد المالي كان منتشراً بين قيادات المدينة، ومعدلات القتل فيها تزيد عن عشرة أضعاف متوسط معدلات القتل في الولايات المتحدة الأمريكية. ففي العام الماضي كان عدد القتلى في «نيو أورلينز» يساوي نصف عدد القتلى في مدينة نيويورك رغم أن نيويورك يقطنها 8 ملايين شخص مقارنة بمدينة «نيو أورلينز» التي يبلغ عدد سكانها (بدون الضواحي) نصف مليون فقط. وقد تعود سكان المدينة على إطلاق الرصاص وممارسة القتل في مدينتهم لدرجة أن عدداً من الباحثين قاموا بإطلاق أكثر من 700 طلقة نارية فارغة في أحد أحياء المدينة، ولم يهتم أي من سكانها بإبلاغ الشرطة أن هناك طلقات نارية في الحي، وكأن الأمر معتاد عليه (1) .
كما أن المدينة عُرفت بالمخدرات وجرائم الاغتصاب والسرقات، وطائفة أخرى من الجرائم التي ارتبطت بالفقر والفساد الأخلاقي معاً. وفي آخر إحصاء أجرته الولاية عن سوء حال المدارس وجد أن 55 مدرسة من أسوأ 87 مدرسة على مستوى الولاية هي مدارس في مدينة «نيو أورلينز» .
وفي دراسة أجراها مكتب التحقيقات الفيدرالي عن معدل الجرائم في المدينة، وجد أن المدينة تتجاوز معدلات معظم الجرائم في الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عام واحد وهو العام الماضي (2004م) كان بالمدينة أكثر من 274 حادثة قتل، و 213 اغتصاباً، 2071 سرقة بالإكراه، 2038 هجوماً مسلحاً، و6872 حادثة سرقة سيارة، وأكثر من 12726 حادثة سرقة (2) ، وتعد كل هذه الأرقام أعلى بكثير من المعدلات الأمريكية للمدن الشبيهة بهذه المدينة.
والغريب أن كارثة «كاترينا» لم تخفف من حدة النزوع إلى الجريمة في المدينة؛ فعندما لجأ سكان المدينة إلى الملعب الرياضي Superdome هروباً من الفيضان الذي اجتاح المدينة، وتمهيداً للخروج منها، حدثت 6 جرائم قتل في ذلك المكان، وأكثر من 12 حالة اغتصاب تم الإبلاغ عنها لسلطات الأمن خلال تلك الأيام القليلة. وذكرت إحدى الناجيات وهي (إفريكا برومفيلد) أن: «هناك عمليات اغتصاب تتم هنا. النساء لا يمكنهن الذهاب الى المرحاض بدون الرجال. إنهم يغتصبونهن ويقطعون رقابهن وهم يقولون لنا إن الحافلات قادمة ولكنها لا تغادر أبداً» .
3 - النفط:
لقد أدى الإعصار إلى إقفال 711 منصة أو بئراً نفطية في خليج المكسيك. وبعد خمسة أيام على مرور الإعصار على منطقة جنوب الولايات المتحدة توقف إنتاج 88.53% من النفط الخام في منطقة خليج المكسيك، وهو ما يمثل ربع الإنتاج العام للبلاد. وقد تتجاوز قيمة الأضرار المئة مليار دولار حسب تقديرات شركة «ريسك مناجمنت سولوشنز» المتخصصة. أما وقف العمل فيعني خسارة ما يزيد عن 100 مليون دولار يومياً من الأرباح.
«فإنتاج النفط في خليج المكسيك يشكل نحو 30%، وإنتاج الغاز الطبيعي يقارب 20% من إجمالي إنتاج الولايات المتحدة. ونحو 60% من واردات أمريكا النفطية تصل إلى موانئ خليج المكسيك. وما يقارب نصف مصافي النفط الأمريكية موجود هناك. وقد ضرب إعصار كاترينا هذا النظام الضخم بقوة، وبينما اقترب إعصار كاترينا، جرى إخلاء المئات من منصات الإنتاج في المنطقة، بحيث أغلقت 95% من إنتاجه النفطي و88% من إنتاجه من الغاز الطبيعي. والمصافي التي تمثل ثُمْنَ إجمالي عدد المصافي في الولايات المتحدة إما أنها توقفت، وإما أنها خفضت من تشغيلها» (3) .
إن أمريكا التي تسعى للسيطرة على منابع النفط العالمية، وتدفع بأبنائها وشعوب العالم الأخرى إلى حروب دموية من أجل الحصول على المزيد من النفط، لا تستطيع أن توقف إعصاراً ربانياً يهدد البنية التحتية النفطية في الدولة بأكملها، ويجبر الولايات المتحدة على البدء في استهلاك المخزون الاستراتيجي من النفط الأمريكي، وهو ما لم يحدث طوال أكثر من ثلاثين عاماً. ولذلك ليس من الغريب أن يتبع إعصار «كاترينا» إعصار آخر وهو «ريتا» ليهاجم معقلاً آخر من معاقل المصافي البترولية ليوقفه أيضاً في جنوب تكساس في كل من مدينة جالفستون وكذلك مدينة هيوستن، ولله ـ تعالى ـ في هذا الكون تدبير عجيب. والرسم المرفق يوضح درجة التطابق بين مسار إعصار «ريتا» وبين مواقع مصافي البترول ومعامل التكرير الأمريكية في تلك المنطقة التي أصابها الإعصار.
إن هذه الثلاثية ـ التي تميز مدينة «نيو أورلينز» ، والتي تجمع بين انتشار الفساد الشخصي والجرائم المنظمة العامة في المدينة، وبين وجود النفط الذي ترتكب بسببه أمريكا الكثير من الجرائم في العالم ـ قد تقدم تفسيراً مقبولاً لمن يعتقدون أن ما حدث بسبب إعصار «كاترينا» هو عقاب إلهي. ولهذا حديث آخر في هذه الدراسة، ولكن المفارقة ملفتة للنظر بلا شك. أما المفارقة الأخرى فهي المقارنة الحضارية بين تصرفات الشعب الأمريكي عندما أصابته كارثة الإعصار مع شعوب آسيا التي أصيبت بكارثة التسونامي، وأعقبها مؤخراً الزلزال الكبير الذي أصاب الهند وباكستان في أكتوبر من عام 2005م.
- الفوارق الحضارية بين أمريكا وآسيا:
ما حدث بسبب إعصار «كاترينا» كان غريباً في نظر الكثير من أبناء العالم. كان الجميع يشارك في نهب «نيو أورلينز» بينما العاصفة تقتل المئات من سكان المدينة، والرئيس الأمريكي يرفض أن يقطع إجازته السنوية.. ويعزف الموسيقى في وقت سقوط الكارثة على سماء «نيو أورلينز» وهو يستلم هدية عبارة عن جيتار موسيقي يقوم بالعزف عليه في مرح وتكلف ظاهرين بينما يموت أبناء «نيو أورلينز» في اللحظات نفسها بتأثير الإعصار والفقر معاً.
لا يستطيع الإنسان أن يتجاهل الفوارق الحضارية التي أظهرتها المقارنة مع كارثة التسونامي التي عصفت بأكثر من 11 دولة من دول جنوب آسيا، وتسببت في كارثة تفوق مرات عديدة حجم كارثة «كاترينا» و «ريتا» ، وحتى ما حدث مؤخراً في زلزال باكستان. لقد ظهرت الشعوب الآسيوية بشكل أكثر حضارة وتماسكاً رغم الفقر الشديد وانعدام الإمكانات التقنية أو الطبية التي كان من شأنها التخفيف من حدة الكارثة. لقد تسبب تسونامي في مقتل مئات الآلاف من البشر، ولكنه ساهم أيضاً في تحقيق الترابط والتعاطف بين الناجين. أما في أمريكا فقد تسببت الكارثة في مقتل المئات، ولكنها أثارت النزعات الفردية بين الناجين، وظهر وجه قبيح من الأنانية والفردانية والنفعية التي تسعى لاستغلال كل شيء حتى المآسي والكوارث من أجل المنفعة الفردية.
وفي مقارنة حضارية تعكس قلق المفكرين الأمريكيين من الوجه القبيح الذي أظهرته تلك الكارثة، يذكر الكاتب الأمريكي نيكولاس كريستوف تعليقاً بالغ القسوة فيقول: «إن عمليات السلب والنهب كانت واحدة من الأشياء المثيرة للإحباط وخيبة الأمل. وقد سبق لي تغطية زلزال «كوبي» باليابان عام 1995م، والذي قتل حوالي 5500 شخص. حاولت خلال تلك التغطية البحث عن أي مؤشر يدل على ارتكاب سلوك إجرامي وفي نهاية الأمر عثرت على شخص من سكان المنطقة شاهد ثلاثة أشخاص يسرقون الطعام. سألته ما إذا كان يشعر بالحرج إزاء ممارسة أشخاص يابانيين لمثل هذا السلوك، فأجابني إن الذين سرقوا لم يكونوا يابانيين وإنما أجانب» (1) .
إن المقارنة مع دول العالم الفقير كانت في غير صالح الدولة الأكثر قوة في العالم. فرغم أن سيريلانكا مثلاً كانت في حالة حرب بين الجيش الموالي للدولة، وبين «نمور التاميل» الانفصاليين، فإن الطرفين اتفقا فور حدوث كارثة التسونامي على إيقاف القتال حتى يتم إنقاذ الفقراء والضعفاء. وحدث الشيء نفسه بين الهند وباكستان مؤخراً من جراء الزلزال الذي أصاب منطقة كشمير.
وعند مقارنة التصرفات على مستوى القيادات المدنية بتلك المدن التي أصابها التسونامي مع تصرفات قادة أمريكا يظهر أن ردة فعل هؤلاء القادة الآسيويين كانت أفضل بمراحل من رد فعل قيادات مدينة «نيو أورلينز» . فقد اقتحم «ماورادي نور الدين» وهو عمدة مدينة «باندا أخيه» الإندونيسية أحد محلات البقالة عقب كارثة التسونامي لا ليسرق أو ينهب كما حدث في لويزيانا، وإنما ليوفر الطعام لسكان المدينة من الناجين من الكارثة.
أما في «نيو أورلينز» فقد نقلت وكالات الأنباء صور ضباط الشرطة وهم يشتركون في نهب المتاجر والمحلات، وانتشر في المدينة اغتصاب النساء والأطفال والقتل على مرأى من قوات الشرطة، بل إن محلات الأسلحة قد سرقت، واستخدمت الأسلحة التي كانت بها لإطلاق النيران على طائرات الإنقاذ القادمة لإيقاف النهب والسرقة التي كانت الشغل الشاغل لبعض من نجا من الموت في المدينة (2) . كان ما حدث في «نيو أورلينز» إدانة دامغة للثقافة النفعية الأمريكية وللغلو في الاهتمام بالفرد على حساب المجتمع.
إن ما يحدث في أمريكا من تبعات كارثة «كاترينا» و «ريتا» وما قد يتبعهما من أعاصير وكوارث طبيعية أخرى يكشف عن أمراض اجتماعية خطيرة في المجتمع الأمريكي، ويشير بما لا يدع مجالاً للشك أن الحضارة الإنسانية توشك أن تغادر الغرب في انتقالها وعودتها إلى مهدها في الشرق من جديد. وقد عبر عن ذلك أحد المفكريين الأمريكيين عندما قال: «لقد اجتاز القائمون بأعمال السلب والنهب ذلك الخط الدقيق - وإن كان أساسياً - في الفصل بين المتحضرين والهمجيين» (1) .
- وجه قبيح للحضارة:
أظهرت كارثة «كاترينا» أيضاً درجة الانقسام العرقي بين الشمال والجنوب، وبين الأبيض والأسود، وبين الفقير والغني في الولايات المتحدة الأمريكية. ويصف المفكر الأمريكي المعروف (بول كينيدي) ما حدث أنه كارثة أخلاقية فيقول: «لقد كان إعصار كاترينا كارثة وطنية، ولكن ما حدث في الواقع هو أنه ضرب الأميركيين بشكل غير متساوٍ، وحسب وضعهم في السلَّم الاجتماعي للأسف. إن المحافظين يحبون دائماً أن يكرروا مقولة «إن المد المرتفع يرفع جميع القوارب» ، ولكن المد المرتفع الذي غمر «نيو أورلينز» لم يفعل ذلك، بل إنه أغرق في الحقيقة العديد من القوارب الأكثر هشاشة» (2) .
إن العنصرية التي أظهرتها الأحداث الأخيرة في «نيو أورلينز» لم تظهر فجأة نتيجة الإعصار، ولكنها جزء لا يمكن تجاهله بعد الآن من التركيبة النفسية للمجتمع الأمريكي. وكما يذكر الكاتب الأمريكي (فيليب كينيكوت) ، فإن «هناك قضايا كامنة قام إعصار «كاترينا» بإطلاقها ليس إلا. لا أعتقد أن غالبية الأمريكيين يستطيعون تشخيص هذه الأعراض.. نعم! نحن نتحدث عن التعددية الثقافية، ولكن العنصرية الكامنة فينا منتشرة بصورة واسعة» (3) .
وحتى التغطية الإعلامية لما حدث من جراء الإعصار لم تكن عادلة، وفرقت بين الأبيض والأسود بشكل مقزز أظهر حقيقة العنصرية التي ما زالت مستشرية في المجتمع الأمريكي. وكان من أهم الأحداث التي أظهرت العنصرية في التغطية الإعلامية صورتان نشرتهما وكالات الأنباء العالمية بعد الإعصار مباشرة. في كلا الصورتين يظهر شخص يحمل معه بعض الطعام وهو يسير في الماء محاولاً النجاة من الغرق.
الفارق أنه في الصورة الأولى كان الشخص أسود، أما في الصورة الثانية فقد كان الشخص أبيض البشرة. وما لفت أنظار المراقبين الإعلاميين أن التعليق على الصورة الأولى (عن الشخص الأسود) ـ وقد صدر عن وكالة الأسوشيتد برس الأمريكية ـ كان يقول: «شخص يحاول السير في المياه إلى مستوى الصدر بعد أن سرق طعاماً من أحد المحلات..» . أما التعليق على الصورة الثانية (عن الشخص الأبيض) وقد صدر عن المكتب الأمريكي لوكالة الأنباء الفرنسية فكان يقول: «شخصان يحاولان السير في المياه إلى مستوى الصدر بعد أن وجدا خبزاً ومشروباً من أحد المحلات» .
فرغم أن الصورتين تعكسان نفس الموقف، والتعليق متشابه في معظم الكلمات، إلا أن الأسود اتهم بسرقة الطعام، بينما وصف الأبيض أنه قد وجد طعاماً. لقد أثارت الصورتان ضجة إعلامية كبيرة اضطرت وسائل الإعلام عقبها إلى الاعتذار عنها، وحذف الصور من المواقع الإليكترونية التي عرضت فيها، ولكن ذلك لن يحذف المشاعر التي تسببت في هذه العنصرية، أو المشاعر التي أوذيت بسببها.
- تقاعس الدولة.. ومؤشرات الهبوط:
تساءل عدد من المفكرين الأمريكيين والأوروبيين عن معنى ما حدث في «نيو أورلينز» وعلاقته باستمرار واستقرار الدولة الأمريكية. ويتساءل أحدهم قائلاً: «هل حقاً أن الولايات المتحدة بدأت تأخذ منحنى الهبوط؟ وإذا لم يكن باستطاعتها أن تحمي نفسها فأنَّى لها أن تتطلع إلى قيادة الآخرين؟ كتبت صحيفة لوموند اليومية الفرنسية تقول: إنه على الرغم من الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية التي سارعت أميركا بنشرها في الخارج إلا أن القوة العظمى وقفت عاجزة عن التعامل مع كارثة داخلية بهذه الصورة. وراحت الصحيفة تستطرد متسائلة: هل يعقل أن تنفق الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات على حرب العراق في الوقت الذي تعجز فيه عن توفير الحماية لمواطنيها في الداخل؟» (4) .
لقد عجزت الإدارة الأمريكية عن سرعة التعامل مع كارثة الجثث التي انتفخت وطفت على وجه الماء في شوارع «نيو أورلينز» وشاهد العالم عبر شاشات الفضائيات بعض الجثث والفئران تقضمها، وبقي أكثر من عشرين ألفاً في الأستاد الرياضيSuperdome أربعة أيام بين أكوام القذارة والرائحة النتنة دون أن تصلهم حافلات لنقلهم وإيوائهم. لقد انفعل من جراء كل ذلك رئيس بلدية «نيو أورلينز» فقال معلقاً على ولع الحكومة الفيدرالية بالتغطية الإعلامية وليس بإنقاذ المدينة: «بدل الغذاء يطعمون الشعب سطوراً من الخداع الإعلامي.. عار أمريكا أن الخبر أصبح يفوق الغذاء أهمية، وأن التسابق على الصورة يسبق التسابق على تزويد المرضى بالدواء، وتنظيم البث أسهل من ترتيب أمر الإيواء. إن هذا المشهد ليفيض حتى على الفيضان» .
- هل «كاترينا» لعنة أو عقاب إلهي؟
اهتم الكثير من المتدينين في العالم سواء من المسلمين أو من غيرهم بالإشارة إلى أن ما حدث لمدينة «نيو أورلينز» قد يكون عقاباً إلهياً بسبب فساد المدينة وانتشار الرذائل فيها من ناحية، أو عقاباً لأمريكا على عدوانها على شعوب العالم من ناحية أخرى. وأفردت لذلك الصفحات في الجرائد والمجلات والمواقع الإليكترونية. ولم يقتصر الأمر على المسلمين فقط كما يحاول أنصار التيارات العلمانية في العالم العربي تصوير الأمر، وكأنه شيء انفرد به أبناء الإسلام، وإنما انتشرت مثل هذه الكتابات والتحليلات بين التيارات المحافظة والمتدينة في أوروبا وأمريكا وحتى في الكيان الصهيوني الذي اعتبر ما حدث في «نيو أورلينز» عقاباً إلهياً على سماح أمريكا بإجلاء المستوطنين اليهود من غزة.
فقد ذكر الكاهن «أوفيدا يوسف» الزعيم الروحي لحزب «شاس» اليهودي في خطابه الأسبوعي عقب إعصار «كاترينا» أن (جورج بوش) كان وراء إجلاء 15.000 من المستوطنين [في غزة] ، وأن العقاب الإلهي جاء بإجلاء 150.000 من الشعب الأمريكي (في إشارة إلى (نيو أورلينز) . كما ذكر الكاهن أن العقاب قد حل بتلك المدينة أيضاً أو تحديداً بسبب تحلل المعايير الأخلاقية فيها (1) .
أما «مايكل ماركافاجي» وهو رئيس منظمة «توبي يا أمريكا» Repent America، فقد ذكر أنه «رغم الحزن الشديد لفقدان الأرواح [في كارثة «كاترينا] ، فإن الإله قد دمر مدينة فاسدة.. إن «نيو أورلينز» مدينة قد فتحت ذراعيها للاحتفال الشعبي بالمعصية. وقد يخرج من أنقاض هذا الدمار مدينة جديدة طاهرة.. ولا بد أن نصلي ونعاون ضحايا هذه الكارثة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن سكان مدينة (نيو أورلينز) كانوا متسامحين ومرحبين بشيوع الرذائل في مدينتهم لمدة طويلة» (2) .
وأما المسلمون فهم يعلمون أن كل ما يحدث في الكون إنما يحدث بتدبير الخالق ـ جل وعلا ـ الذي يقول في كتابه الكريم: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وأن كل قطرة ماء أو سحابة أو ريح أو ما أشبه ذلك فإنها كلها تحدث بسبب ظواهر طبيعية يمكن معرفتها علمياً، ولكنها في النهاية تخضع لأوامر الخالق جل وعلا، فتصيب من يشاء ـ سبحانه ـ بالعقاب، وتمطر الخير لمن يشاء. لذلك فلا عجب أن يكون المطر خيراً لقوم، وعقاباً لآخرين.
لا يملك أحد أن يقطع بحكمة الله فيما أصاب تلك المدينة فهذا أمر الله، وهو أعلم بحكمته، ونحن لا نستطيع أن نجزم أن هذا عقاب الله؛ فنحن لا نحيط بقدرته ولا بقوته سبحانه وتعالى، ولكننا جازمون أن كل ما يجري في هذا الكون خاضع لله القدير الحكيم، وهو الذي أخبرنا عن عقابه لمن يستكبرون في الأرض، ويظلمون الخلق: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15] .
وكما أننا لا نستطيع أن نجزم أن ما حدث كان عقاباً إلهياً، فنحن بالمقابل لا نستطيع ان نجزم أنه لم يكن كذلك. ما المانع أن يعاقب الله ـ تعالى ـ أقواماً بالريح أو ما دونها إن أراد ذلك لسبب يعلمه هو سبحانه وتعالى؟ كيف نجرؤ على القطع بمعرفتنا بحكمة الله سواء عند توقيع العقاب، أو عند ابتلاء الشعوب؟
إن من المهم أيضاً ألا يقع العقلاء فيما يحاول أنصار أمريكا ودعاة التحرر من الأديان أن يجبروا الشعوب على قبوله أو يخيفوها من الجهر بما يخالفه، ألا وهو إنكار أن ما يحدث من أحداث الكون يمكن أن يكون عقاباً أو مكافأة إلهية. يسعى هؤلاء إلى الهجوم الشديد على كل من يطرح فكرة أن أمريكا أو غيرها من الدول أو الشعوب يمكن ان تعاقَب عقاباً إلهياً بالمطر أو الريح أو البراكين أو ما أشبه ذلك. ولسان حال هؤلاء هو موقف الإنكار نفسه الذي ذكره الله ـ تعالى ـ عن قوم عاد عندما شاهدوا السحب تتجمع في السماء فلم يصدقوا أنها يمكن أن تكون عقاباً لهم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] .
لقد كانت الريح عبارة عن عذاب أليم لهم ولغيرهم من الأمم التي خلت؛ فلماذا نستكثر على الله ـ تعالى ـ أن يعاقب شعباً ما أو دولة ما بنوع العقاب نفسه لعلهم يرجعون؟ أم أن النفوس قد انشغلت بالانبهار بأمريكا أو الخوف منها حتى أصبحت لا تقدر على تخيل أن يعاقبها الله تعالى؟ لقد جاءت الآيات التالية من السورة لتشرح أن الفهم والسمع والأبصار قد لا تعين أصحابها إذا أصروا على الاستكبار والمعاندة. فيقول الله ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] .
- حقيقة الكارثة:
«لَكَمْ هو مفجعٌ أن نرى أميركا وقد أصبحت لا حول لها ولا قوة؛ فهي لم تعد كما كانت عليه في السابق ولا تستطيع حتى أن تنقذ أبناء شعبها؛ بينما هي تحاول من ناحية أخرى أن تقود زمام العالم؟» (1) كانت هذه هي عبارات «بولين سيكام» أحد المسؤولين في الحكومة الفلبينية في لقائه مع صحيفة «نيويورك تايمز» . إنها تلخص حقيقة الكارثة التي أسفر عنها إعصار «كاترينا» . لقد سقطت هيبة الحكم الأمريكي بسبب هذا الإعصار.
كما أن الأحداث أظهرت الخلل الكبير والكارثي الذي يمر به المجتمع الأمريكي. ويعبر عن ذلك أحد الكتاب الأمريكيين قائلاً: «هناك جميع أنواع المساومات التي يتباحث حولها الأغنياء أو ذوو النفوذ في أي مجتمع مع الفقراء.. من خلال الخبز أو السيرك أو الصدقة، أو الوعد بأن الجميع سينجون. الصفقة هي: لا تسببوا لنا أية مشاكل وسنعتني بكم. ولكن الإمبراطوريات تنهار عندما يصبح العرض خاوياً، وكأنه يقول: لن نعتني بكم، أو: لا نستطيع أن نعتني بكم.. أو: نحن لم نعد بحاجة لكم ولم نعد نخشاكم. وقد بلغنا هذه النقطة هنا» (2) .
فقد أصبح اليوم هناك أميركتان داخل الولايات المتحدة: بلد العالم الأول الذي يرفل في ثوب الرفاهية، وتلك التي تنتمي إلى العالم الثالث حيث المعاناة من شظف العيش والأوضاع المزرية التي تتوارى عن أعين وأقلام الصحفيين. وتبقى الحقيقة أن غض الطرف عن الواقع لا يعني مطلقاً أنه غير موجود وإهمال المشكلة ليس مرادفاً لحلها (3) .
- معنى انهيار المدن:
إن ما حدث لمدينة «نيو أورلينز» ليس مجرد إعصار أصاب مدينة، ولكنه إعصار أظهر للعالم أجمع مشكلات حضارة. قد لا تستطيع «نيو أورلينز» أن تعود أبداً إلى سابق عهدها رغم المليارات التي ستنفق على محاولة القيام بذلك؛ فمشكلة المدينة هي أن سكانها قد فقدوا الرغبة في العودة إليها، كما أن خبراء بناء المدن يقولون إن العامل الأهم في قدرة المدينة على أن تعيد إحياء نفسها ليس مدى الدمار الذي حاق بها، ولكنه الاتجاهات السائدة فيها من قبل الدمار.
لقد أتت النار على معظم مدينة شيكاغو عام 1871م ودمر الزلزال والحرائق مدينة سان فرانسيسكو عام 1906م، ولكن المدينتين كانتا في صعود دائم قبل الكوارث التي ألمت بهما. ولذلك ففي الوقت الذي كان الحطام فيهما لا يزال يحترق، كان المقاولون يحصلون على القروض ليعيدوا البناء.
المدن ليست أبدية؛ فهي كائنات تتطلب توازناً مناسباً من العناصر المكونة لها كما يقول الكاتب الأمريكي (جوناثان آلتر) . والتاريخ مليء بركام المدن البائدة، وإن كانت «بومبيي» الرومانية هي من بين المدن الكبرى التي زالت بفعل كارثة طبيعية، فإن أغلب هذه المدن قد فنيت؛ لأن الحضارات التي كانت تقطنها فقدت بوصلتها الأخلاقية - فقدت روحها - ومعها تلاشت قدرتها على أن تبدع وتجدد وتعيد البناء. يقول المؤرخ (لويس ممفورد) في رائعته «المدينة عبر التاريخ» The City in History إنه عندما تتراكم عوامل الفناء العفوية فإن مدينة الموتى تكون قريبة، وإن لم يسقط أي حجر (4) .
لقد لخصت الكاتبة الأمريكية (روزا بروكس) حقيقة المشكلة التي تواجه المثقفين في أمريكا عندما قالت: «إن ما حدث بسبب إعصار كاترينا هو كارثة حقيقية على مدينة «نيو أورلينز» ، ولكن الأمر الأشد خطورة ووضوحاً هي ما تقوله هذه الكارثة عن واقع ومستقبل الولايات المتحدة الأمريكية» .
واختتمت الكاتبة مقالها بعقد مقارنة أخرى بين أمريكا اليوم وبين الإمبراطورية الرومانية بالأمس.. فقالت: «كان نيرون يعزف الكمان بينما كانت روما تحترق.. ربما لم يكن الرئيس بوش، الذي ليس له ذكر كبير في الأعمال الكلاسيكية يفكر في هذا عندما وقف أمام الكاميرات يوم كانت العاصفة «كاترينا» تدمر مدينة «نيو أورلينز» وهو يعزف على جيتار قُدِّم له من المطرب الأمريكي (مارك ويللز) . وبينما كان بوش يستمتع بعطلته ويعزف على جيتاره الجديد، كانت مدينة كبيرة تدمرها المياه وليس الحرائق. إن عزف نيرون الشهير على الكمان ما زال - بعد ألفي عام من موته - حكاية لها رمزيتها ودلالتها عن القيادة اللامبالية والمتمحورة حول الذات في أوقات الأزمات. وسلوك بوش الغريب في اللعب على الجيتار في وجه دمار «نيو أورلينز» قد يحكم عليه بمصير مماثل» (5) .
__________
(*) باحث متخصص في الدراسات الفكرية والسياسة المتعلقة بالولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
(1) Senatore, M.R., J.-D. Stanley, and T.S. Pescatore. 2004. Avalanche-associated mass flows damaged Pompeii several times before the Vesuvius catastrophic eruption in the 79 C.E. Geological Society of America meeting. Nov. 7-10. Denver. Abstract.
(2) Maiuri, Amedeo, Pompeii, pp, 78-85, in Scientific American, Special Issue: Ancient Cities, c. 1994
(3) Cioni, R.; Gurioli, L.; Lanza, R.; Zanella, E. (2004) . Temperatures of the A.D. 79 pyroclastic density current deposits (Vesuvius, Italy) . Journal of Geophysical Research-Solid Earth 109
(1) «الأمل بين ثنايا الركام» ، بقلم جوليا ريد، مجلة نيوزويك العربية، العدد 274، 13/9/2005م، ص 52.
(2) Hurricane Katrina Destroys New Orleans Days before "Southern Decadence", press release, Repent America, August 31st, 2005.
(1) Profile of New Orleans, Before Katrina By MARTHA MENDOZA, AP National Writer, Sat Sep 3, 2:31 PM ET
(2) New Orleans Crime Statistics (LA) - CityRating.com
(3) «ضربة للاقتصاد» ، بقلم روبرت جيه صامويلسون، مجلة نيوزويك العربية، العدد 274، 13/9/2005م، ص 48.
(1) العار الأكبر بعد «كاترينا» ..!، نيكولاس كريستوف، خدمة «نيويورك تايمز» ، التاريخ 4/8/1426هـ.
(2) Katrina exposed America's seamy side, T V R Shenoy, Rediff.com, India, September 08, 2005.
(1) ملاذنا الآمن تحطم كما يتحطم الزجاج، فيليب كينيكوت ناقد ثقافي في الواشنطن بوست. خدمة (لوس انجلوس تايمز ـ واشنطن بوست) 30/7/1426هـ.
(2) التقسيمات العرقية في أميركا ... وحقيقة «بوتقة الصهر» بول كينيدي، «قراءات غربية» نشرة عدد: 10/8/1426 هـ، موضوعات فكرية.
(3) رسالة من أمريكا، مالكوم بيث، مجلة نيوزويك العربية، العدد 274، 13/9/2005م، ص 7.
(4) كاترينا تنخر عظام القوة العظمى أمام الرأي العام العالمي ترودي روبين، «قراءات غربية» نشرة عدد: 8/8/1426هـ، السياسة الدولية.
(1) Muslim and Jewish fundamentalists hail "Katrina" as God's punishment of the US, Asia News, September 7th, 2005, art=4067.
(2) Hurricane Katrina Destroys New Orleans Days before "Southern Decadence", press release, Repent America, August 31st, 2005.
(1) كاترينا تنخر عظام القوة العظمى أمام الرأي العام العالمي ترودي روبين، «قراءات غربية» نشرة عدد: 8/8/1426هـ، السياسة الدولية.
(2) من «ميتش» إلى «كاترينا» ألكسندر كوكبيرن، «قراءات غربية» نشرة عدد: 8/8/1426هـ، الولايات المتحدة الأمريكية.
(3) كارثة كاترينا تعيد الفقراء الأمريكيين للأضواء، روزا بروكس، «قراءات غربية» نشرة عدد: 6/8/1426هـ، الولايات المتحدة الأمريكية.
(4) كيف تنقذ نيو أورلينز؟، بقلم جوناثان آلتر، مجلة نيوزويك العربية، العدد 274، 13/9/2005م، ص 54.
(5) قيصر روما.. وقيصر أميركا، روزا بروكس، خدمة «لوس أنجلوس تايمز» ، التاريخ: 4/8/1426هـ.(218/21)
السيرة النبوية مشروعاً حضارياً
أ. د. عماد الدين خليل
إلى عهد ليس ببعيد (ربما يكون منتصف القرن الماضي) كانت البحوث والدراسات والمصنفات المعنية بسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعصر الرسالة تنحو ـ في معظمها ـ منحى تقليدياً يرمي بثقله في اتجاه المعارك والغزوات والشمائل، وقد يعالج المفردات الدعوية والتشريعية والسلوكية منفصلة عن سياقها العضوي العام، لكنه لم يكد يلتفت إلى البعد الحضاري لهذا العصر الذي أقام دولة كبرى، ونسج تشريعاً خصباً، وهيأ الشروط لقيام حضارة متميزة.
ثم إن معظم الباحثين سحبوا رؤيتهم التجزيئية في تعاملهم مع العصر إلى صيغ التعامل مع «المصادر» التي استقوا منها مادتهم التاريخية، فلم يحاولوا إلا في القليل النادر، أن يكسروا الفواصل بين أنماط تلك المصادر، وأن يستدعوا كل تلك الأنماط من أجل وضع أيديهم على الصورة الأكثر مقاربة لسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعصر الرسالة: القرآن الكريم وتفاسيره، الحديث النبوي الشريف، كتب الأدب ودواوين الشعر، كتب الفقه، كتب الجغرافيا والرحلات، فضلاً عن كتب التاريخ في أنماطها كافة: السيرة، التاريخ العام، التاريخ المحلي، تواريخ المدن، التراجم، الأنساب والطبقات.
وقد التزموا الخط الزمني لوقائع السيرة، فكانوا يتحدثون عن وقائع كل سنة مجتزَأة عن وحدتها الموضوعية، اسوة بما كان الأجداد يفعلونه فيما يسمى بالحوليات. وكان هذا يمارس تقطيعاً للوقائع الأساسية، واختراقاً لنسيجها بوقائع أخرى تتحرك في سياق مغاير، كأن يتم الحديث في السنة أو الحولية الواحدة عن الصراع ضد الوثنية، واليهود، والبيزنطيين، والمنافقين، جنباً إلى جنب مع المعطيات التشريعية أو الدعوية أو التعبدية أو السلوكية ... إلخ.
كما أن الرؤية النقدية كادت أن تغيب عن تلك الأعمال، فكان أصحابها يسلِّمون بالغث والسمين، ما يمكن قبوله وما لا يمكن.. وهو الأمر الذي أضاف إلى وقائع السيرة الأساسية أجساماً غريبة، وقادها إلى نوع من التضخم على حساب بنيتها الأصيلة المتفق عليها.
ولحسن الحظ بدأ النصف الثاني من القرن الفائت يشهد تطوراً ملحوظاً في دراسات السيرة، على مستوى المنهج والموضوع، وراحت هذه الدراسات تزداد ـ بمرور الوقت ـ نضجاً وإحكاماً بسبب من الوعي المتزايد بمطالب منهج البحث من جهة، والرغبة العلمية الصادقة في الرد على المحاولات الجانحة في التعامل مع السيرة، سواء جاءت من الخارج على يد المستشرقين بأجنحتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم كافة، أو من الداخل على ايدي المغالين أو العلمانيين أو المنساقين وراء الميول والأهواء والتحزبات، أو المتأثرين بالمعطيات الاستشراقية في توجهاتها كافة.
ثم جاء تنامي النشاط العلمي، وتزايد رسائل الدراسات العليا في المعاهد والجامعات، لا لتعزز القيم المنهجية الأصيلة في التعامل مع وقائع السيرة فحسب، وإنما ـ أيضاً ـ لكي تنفذ دراسات معمقة في هذه الواقعة أو تلك، وفق معايير نقدية صارمة، وقدرة على الإمساك بالدقائق والتفاصيل والجزئيات، تعين الباحث على الإيغال في شرايين الواقعة من أجل الوصول، أو محاولة الوصول إلى بنيتها الأساسية كما تشكلت فعلاً، لا كما أراد لها الرواة والأخباريون والمؤرخون أن تكون.
وفي موازاة هذا، أخذت تظهر دراسات تخصصية في السيرة باتجاه آخر ... لا تقف عند هذه الواقعة أو تلك في نسيجها العام، وإنما تتعامل معها ككل، ولكن من منطلق منهجي محدد يسعى لأن يتابع معطيات السيرة عبر هذا التوجه أو ذاك من مجراها العام.
وهكذا ظهر كتاب «فقه السيرة» للغزالي لكي يقدم رؤية «دعوية» للسيرة، وكتاب البوطي (1) بالعنوان نفسه لكي يقدم رؤية فقهية، والأستاذ سيد قطب ومنير الغضبان لكي يقدما رؤية حركية، وباحثون آخرون قدموا رؤية تربوية أو أخلاقية أو سلوكية أو سياسية.. هذا إلى قيام الدكتور أكرم العمري وعدد من طلبة الدراسات العليا بتنفيذ منهج المحدثين في التعامل مع مرويات السيرة (2) .
وفي موازاة هذا كله استمرت مكتبة السيرة تشهد دراسات شمولية تتناول السيرة في حلقاتها كافة، ولكن وفق منهج أكثر دقة وانضباطاً وإحكاماً، يسعى لأن يضم جناحيه على أبعاد السيرة كافة دعوية وحركية وفقهية وسلوكية وسياسية وعسكرية ... محاولاً ألا يمرر إلا المرويات الأكثر قبولاً على مستوى الرواية والدراية، أو الإسناد والمتن.
ولكن رغم هذا العطاء السخي، ظلت هنالك حلقة لم تنل حظها من البحث والدرس والاستقصاء والتحليل، بالمقارنة مع الحلقات الأخرى، تلك هي الحلقة الحضارية، أو بعبارة أكثر دقة: محاولة متابعة البعد الحضاري للسيرة، وتقديم تصور متكامل عن معطياته الأساسية.
ورغم أن العقدين الأخيرين شهداً عدداً من المحاولات في هذا الاتجاه لا تتجاوز ـ ربما ـ أصابع اليد الواحدة، فإن الحاجة لا تزال تتطلب المزيد من المحاولات، من أجل إعطاء هذا الجانب من السيرة حقه، والإلمام بجوانبه كافة.
لقد بشَّر عصر الرسالة بمشروع حضاري، وتمكن من تنفيذ العديد من حلقاته، ووضع شبكة من الشروط التأسيسية التي مكنت الأمة الناشئة من بناء حضارتها المتميزة بعد عقود معدودة من الزمن.
ولعل المدوَّنات الأولى لأخباريّي ومؤرخي السيرة (كمغازي الواقدي، وسيرة ابن إسحق، وطبقات ابن سعد، وأنساب البلاذري، وتاريخ الطبري ... إلخ) ، بإعطائها مساحة واسعة للمغازي (وأحياناً للرجال أو الشمائل) ضيقت الخناق على البعد العمراني أو الحضاري لعصر الرسالة الذي تمكن بعد كفاح مرير من إقامة دولة الإسلام، ووضع التأسيسات الأولى لحضارته المتميزة.
عشرات السنين ومئاتها، ونحن نتحدث عن هذا العصر من الداخل، وبرؤية تجزيئية تتمركز عند الغزوات، والشمائل، والمفردات الفقهية، ولقد آن الأوان لاعتماد «رؤية الطائر» إذا صح التعبير، لاستشراف الملامح الأساسية للعصر، والإنجازات الكبرى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم.
ولا بد، من أجل التحقق برؤية كهذه، من استدعاء المؤرخ والمفسر والمحدث والفقيه والجغرافي وفيلسوف التاريخ والأديب لتوسيع نطاق الفضاء المعرفي عن العصر.. هاهنا حيث يصير النصّ القرآني والحديث النبوي الصحيح والممارسة التاريخية لعصر الرسالة التي يقدمها المؤرخ والفقيه، والملامح البيئية التي يقدمها الجغرافي، والخبرة الذاتية والموضوعية التي يقدمها الشاعر أو الأديب.. فضلاً عن الدلالات المحددة للكلمات والتعابير التي يحددها اللغوي.. المصادر الأساسية التي يكمل بعضها الآخر من أجل تحديد ملامح المشروع الحضاري الذي وعدت به ومهدت له، ووضعت شروطه التأسيسية، ونفذت بعض حلقاته، «سيرة» رسول الله -صلى الله عليه وسلم -.
إننا ونحن نتحدث عن «السيرة» وشروطها المنهجية، يجب ألا ننسى ـ لحظة واحدة ـ أن القرآن الكريم هو الوثيقة «التاريخية» الأكثر أهمية في دراسة العصر ومحاولة الإلمام بنبضه الأساسي وملامحه المتفردة، وأنه ـ أي القرآن الكريم ـ ينطوي على شبكة خصبة من المعطيات التاريخية التي تحمل مصداقيتها المطلقة، والتي تشكل ـ من ثَم ـ نقاط الارتكاز في بنية السيرة حيث يجيء المحدث والفقيه والمؤرخ واللغوي والجغرافي والأديب فيقيم بنيانه عليها.
وبنظرة سريعة إلى «أسباب النزول» في التفاسير القرآنية والمصادر الخاصة بالموضوع، يتبين للمرء الالتحام الحميم بين التنزيل والتاريخ: أن المعطى القرآني يرهص، ويصف، ويعقب، وينذر، ويعد، وهو في خطواته الخمس هذه يمارس تغطية تاريخية للعديد من وقائع السيرة المتشكلة في الزمن والمكان.. أي في التاريخ.
ولقد تحدث الأستاذ سيد قطب طويلاً عن هذه المسالة وهو يكتب مقدماته الخصبة في (الظلال) ، عبر تفسيره للسور التي قدمت مادة سخية عن العديد من الغزوات والوقائع والمعطيات التشريعية، على مدى عصر الرسالة من بدئه حتى منتهاه ... كما تحدث عن طريقة عمل القرآن الكريم في إحداث التغيير، وهو في بدء التحليل ونهايته، تغيير تاريخي ينطوي بالضرورة على بعده الحضاري أو العمراني، بالمفهوم الشامل للكلمة.
لقد كانت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم - الكادحة وجهده الموصول حتى آخر لحظة، شهادة حية على قدرة هذا الرجل ـ النبي ـ على الإنجاز والتغيير، بكل ما تنطوي عليه الكلمتان من بُعد حضاري، ولقد جاءت شهادة الباحث الأمريكي المعاصر «مايكل هارت» في «المائة الأوائل» تأكيداً لهذا المعنى (3) .
لقد حاول الباحث المذكور أن يستقصي ويدرس بمعياري الإنجاز والتغيير، أعظم مائة شخصية في تاريخ البشرية ... ثم مضى لكي ينفذ خطوة تالية، باختيار أعظم رجل من بين هذه الشخصيات المائة، وبالمعيارين ذاتهما، فإذا باختياره يقع على محمد -صلى الله عليه وسلم - فيعتبره أعظم شخصية في التاريخ؛ وذلك في قدرته على تنفيذ إنجاز كبير ومتغيرات انقلابية تنطوي على الديني والدنيوي معاً.
وعندما جاءت السنة التاسعة للهجرة، ونزلت آيات (أو إعلان) براءة في صدر سورة التوبة، لتصفية الوجود الوثني في جزيرة العرب، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد حقق، وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم ـ على مستوى الفعل التاريخي، المنجزات التالية التي ينطوي كل منها على بُعد حضاري مؤكد:
أولاً: التوحيد في مواجهة الشرك والتعدد.
ثانياً: الوحدة في مواجهة التجزؤ.
ثالثاً: الدولة في مواجهة القبيلة.
رابعاً: التشريع في مواجهة العرف.
خامساً: المؤسسة في مواجهة التقاليد.
سادساً: الأمة في مواجهة العشيرة.
سابعاً: الإصلاح والإعمار في مواجهة التخريب والإفساد.
ثامناً: المنهج في مواجهة الفوضى والخرافة والظن والهوى.
تاسعاً: المعرفة في مواجهة الجهل والأمية.
عاشراً: الإنسان المسلم الجديد الملتزم بمنظومة القيم الخلقية والسلوكية المتجذرة في العقيدة، في مواجهة «الجاهليّ» المتمرس على الفوضى والتسيب وتجاوز الضوابط وكراهية النظام.
وكانت آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وتعاليمه قد أرست جملة من القيم المنهجية وآليات العمل التي مهدت للمتغيرات العشرة آنفة الذكر، ودعمتها، ووضعت ـ إلى جانبها ـ شبكة من الشروط هيأت المناخ الملائم للفعل الحضاري، ومن بين تلك القيم والآليات:
1 - المعرفة هي حجر الزاوية.
2 - النزوع إلى الأمام.
3 - التحذير من هدر الطاقة.
4 - مبدأ الاستخلاف.
5 - مبدأ التسخير.
6 - التحفيز على العمل والإبداع.
7 - مجابهة التخريب والإفساد.
8 - التوازن بين الأضداد والثنائيات، وتوحدها.
9 - التناغم والوفاق مع الطبيعة والعالم والكون.
10 - تحرير الإنسان والجماعات والشعوب على المستويات كافة (1) .
لقد جاء الإسلام لكي يتحرك وفق دوائر ثلاث تبدأ بالإنسان وتمر بالدولة، وتنتهي إلى الحضارة التي سيقدر لها أن تنداح لكي تغطي مساحات واسعة من العالم القديم.
ولقد اجتاز الإسلام في مكة دائرة الإنسان، ثم ما لبثت العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية أن صدته عن المضي في الطريق صوب الدائرة الثانية حيث الدولة؛ لأنه ـ بلا دولة ـ ستظل دائرة الإنسان ـ التي هي أشبه بنواة لا يحميها جدار ـ مفتوحة على الخارج المضاد بكل أثقاله وضغوطه وإمكاناته المادية والأدبية، ولن يكون بمقدور الإنسان الفرد أو الجماعة المؤمنة التي لا تحميها دولة، أن يمارسا مهمتهما حتى النهاية، لا سيما إذا كانت قيمهما وأخلاقيّاتهما ورؤيتهما للكون والحياة والإنسان والمصير تمثل رفضاً حاسماً للوجود الجاهلي، ولا بد إذن من إيجاد الأرضية الصالحة التي يتاح فيها للمسلم والجماعة الإسلامية أن ينسجا مشروعهما قبل أن تسحقهما الظروف الخارجية، وتنحرف بهما عن الطريق، وليست هذه الدائرة سوى الدولة التي كان على المسلمين أن يقيموها وإلا ضاعوا.
لقد تأكد للرسول -صلى الله عليه وسلم - بعد كفاح طويل استمر أكثر من عقد أن القيادة الوثنية المكية لا يمكن بحال أن تهادن الدين الجديد الذي جاء يمثل رفضاً حاسماً لكل قيم الوثنية وأهدافها وتقاليدها ومصالحها، وأنها ستظل تدفع حتى النهاية الأخطار التي يمثلها الإسلام بوجه هذه المصالح والتقاليد والأهداف.
وهكذا جاءت «الهجرة» لكي تنقل المسلمين إلى الدائرة الثانية وتمكنهم من إقامة دولتهم، والبدء بنسج مشروعهم الحضاري المتميز.
إن اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة هو نهاية حركة حاسمة من أجل إقامة الدولة التي ستتولّى قيادة حركة الإسلام في العالم، لكنه في الوقت نفسه بدء حركة حاسمة أخرى من أجل تعزيز الدولة وإقامة الحضارة، تماماً كما كانت بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم - في البدء حركة صوب تكوين الإنسان المؤمن صانع الدول والحضارات.
لقد كان هدف الجهد النبوي في عصر الرسالة هو التأسيس لحضارة إيمانية تستمد منهجها ومفرداتها من هدي الله سبحانه، وتقوم على لقاء الوحي بالوجود، لمجابهة حضارات الكفر والضلال، وإزاحتها، والتحقق بالبديل الحضاري الملائم للإنسان ووظيفته التعبدية والعمرانية.. البديل المتوازن في مواجهة حضارات الميل والانحراف: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27] .
__________
(*) مؤرخ سياسي.
(1) كتاب فقه السيرة بالرغم من عنايته الفقهية بالسيرة إلا أنه لم يسلم من أخطاء علمية في العقيدة على نسق الاتجاهات الصوفية في مسائل محددة.
(2) كما حصل ذلك في الرسائل العلمية التي قام بها كثير من طلاب الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
(3) هذا الباحث الأمريكي بالرغم من حسن ما توصل إليه من جعله المائة الأوائل في العالم على رأسهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - كان لا يؤمن برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، ويزعم مزاعم شتى ضد الرسالة ورسولها، حتى لا يغتر به بعض من تخدعهم العناوين.
(1) تمت معالجة هذه المبادئ بالتفصيل في كتاب (مدخل إلى التاريخ والحضارة والإسلامية) للمؤلف، الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا - 2001م، ص 309 ـ 328.(218/22)
المناهج التوفيقية وإخوان الصفا الجدد
عبد الله بن نافع الدعجاني
ما زالت الأمة الإسلامية تعاني تراجعاً حضارياً ونكوصاً فكرياً بَالغَيْن، مما تسبب في انحسار مد حضارتها، وضعف سياستها، وتمزق جماعاتها وتربُّص أعدائها بها.
ومن أعظم أسباب هذا التراجع وذلك النكوص قيامُ المتعالمين الجهلة والمتطببين المتهورين بزرع أنسجة قذرة في فكر الأمة وثقافتها، أنسجة أجنبية عن جسد الأمة ونافرة عن روحها. ومن عجائب أمر هؤلاء المتطببين والمتعالمين الأدعياء إصرارهم ـ مع طول عمر الأمة ـ على حقنها في غالب مراحل حياتها بتلك الأنسجة الفاسدة، مما زاد في نموها وترعرعها حتى كادت أن تغدو خلايا وأوراماً سرطانية، تعبث بحياة الأمة الفكرية وثقافتها، ولكن الله لطيف بعباده.
إن تلك الأنسجة الفاسدة ما هي إلا تلك المناهج الفكرية المنكرة القديمة والمعاصرة، التي تسعى جاهدة ـ عبثاً ـ في التوفيق بين دين الأمة وهويتها وخصوصيتها وبين ما يناقض دينها ويصادم هويتها وينتهك خصوصيتها؛ إذ لما تعذر على أولئك مطلبهم وعز عليهم مرامهم بالنيل من الإسلام ـ لأنه بعيد المرام أبيُّ الزمام منيع الجانب صعب المراس ـ انثنوا لعطفهم ولوَّوا رؤوسهم إلى حيلة التوفيق اليائسة؛ لكن هيهات هيهات، فلكأنهم يريدون بذلك أن يوفقوا بين الظلام وبدر الدجى، أو يجمعوا بين الخنفساء وقطر الندى، أو يلفقوا بين الخنزير وشمس الضحى، وصدق المثل القائل «ما يجمع بين الأروى والنعام؟» .
فقد أخفقت تلك المناهج الدخيلة ـ وبحمد الله ـ في مغزاها، وخابت في مرادها، لأنها سألت مستحيلاً فحُرمت، وطلبت ممتنعاً فمُنعت، إذ بمحاولتها الجمع بين المتناقضين والضم بين الضدين صادمت العقول البشرية وصادرت المبادئ الضرورية الأولية؛ وإلا فكيف يلتقي السكون والحركة؟ أم كيف يستوي النور والظلمة؟ أم كيف يتجانس الإسلام بالكفر؟ يقول الأستاذ (صاحب الظلال) ـ رحمه الله ـ عن منهج الإسلام ومنهج الكفر: «.. لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق البعيد المدى الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ـ والإنساني ـ وهو الاختلاف الذي لابد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور» (1) .
ولا غرو فإن الله ـ تعالى ـ فضح أسلاف دعاة هذه المناهج المشبوهة وهتك سترهم بقوله: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 150 - 151] .
وحسبك أن تكون هذه التوفيقية المتلونة منهج الكافرين حقاً؛ لأنها مناهج لا تُعْرفُ مواردها، ولا تبين مصادرها ولا يهتدى لمسالكها، ولا يتخلص من مهالكها؛ فطريقها مظلم وبابها مبهم ودليلها أبكم، ليس في نتائجها ما يستحسن إلا كما قال العرب قديماً: (كُسيرٌ وعُويرٌ وكل غير خير) ؛ إذ لا تنتج إلا التناقض والاضطراب والحيرة والارتباك، وهذه ـ لعمر الله ـ ثمرات الكفر بالله والإشراك.
- الجذور التاريخية للمناهج التوفيقية:
ومما يؤسف له أن لهذه المناهج الدخيلة جذوراً غليظة، غاص في جوف الحضارة جذمُها، واشتد في ثرى الثقافة عرقُها، وقد تمثلت تلك الجذور في دعوات ومناهج تنادي بالتوفيق بين الشريعة الغراء والمناهج الفلسفية النكراء؛ وذلك في خلال مراحل عمر الأمة منذ أن عُرِّبت الفلسفة اليونانية.
وأبرز المحاولات التوفيقية التي تمثل الجذور التاريخية للمناهج التوفيقية المعاصرة مشروعان:
الأول: ما قام به «الكندي» و «الفارابي» و «ابن سينا» غير أن أخطر من دعا لهذا المنهج وقعّد له ونظّر هو «ابن رشد» ، فقد أفرد لهذا المشروع كتاباً وسمه بـ «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» ، وقد انتهى فيه إلى نتائج ماحقة للحقيقة الشرعية، ومن أبرزها:
1 ـ تفسير الحقائق الدينية بالآراء الفلسفية.
2 ـ التأول الباطن للحقائق الدينية بما يتفق مع الآراء الفلسفية.
وقد بنى منهجه التوفيقي على نظرية الطبقات؛ إذ قسم الناس تجاه الأدلة الشرعية إلى خاصة وهم أهل البرهان أي الفلاسفة، وعامة وهم ما عدا الفلاسفة ولكل أن يأخذ من الأدلة الشرعية بما يناسب حاله؛ فالفلاسفة لهم الباطن، والعامة لهم الظاهر، ولكن آراءهم ـ وإن تناقضت في الظاهر ـ فهي متوافقة في الباطن!! (1) .
وقد تصدى لهذه المشاريع المغرضة علماء الشريعة وحفاظها ومن أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد كشف عوارها وأبدى تناقضها في مواضع من كتبه أبرزها كتابه الموسوم بـ «السبعينية» (2) .
الثاني: ما قام به لفيف من الزنادقة الباطنية فيما يسمى بـ «رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا» حاولوا فيها وضع رؤية جديدة ملفقة من تصور الشريعة السماوية المطهرة ومن رؤية الفلسفات الوضعية والدينية المحرفة، قاصدين بذلك مزاحمة الشريعة الإسلامية النقية واستبدالها بها.
وقد انطوت تلك الرؤية الفلسفية الجديدة على تناقضات شرعية ومصادمات لضرورات الشرع والواقع؛ وذلك من خلال المنهج التوفيقي؛ ولا أدل على ذلك من قولهم في رسائلهم:
«الرجل الكامل يكون فارسي النسب، عربي الدين، عراقي الأدب، عبراني المخبر، مسيحي النهج، شامي النسك، يوناني العلم، هندي البصيرة، صوفي السيرة، ملكي الأخلاق» (3) .
وقد كشف العلماء زيف تلك الرسائل وأظهروا عوارها. ومن تلك الكلمات المأثورة في نقدها قول الذهبي: «هي داء عضال وجرب مُرْدٍ، وسُم قاتل» (4) ، وما أجمل ما نقله أبو حيان التوحيدي عن شيخه أبي سليمان المنطقي السجستاني؛ إذ قال ناقداً لأصحاب هذه الرسائل المشؤومة: «تعبوا وما أغنوا، ونصَبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا ... حصلوا على لوثات قبيحة، ولطخات فاضحة، وألقاب موحشة، وعواقب مخزية، وأوزار مثقلة» (5) .
- إخوان الصفا الجدد:
وما زالت تلك المناهج المشبوهة تتابع وتتجدد حتى أصبحت لنا محنة ثقافية ننتظر زوالها، وغمّة فكرية منهجية نتأهب لكشفها؛ فقد ابتلي حاضر العالم الإسلامي بـ (إخوان الصفا) الجدد، وبمناهجهم ومشاريعهم التوفيقية المعاصرة، التي جاءت لتشيد ما أسسه «ابن رشد» ولتثمر ما غرسه «إخوان الصفا» ، يقود دفة هذه المشاريع والمناهج التوفيقية تيار عريض وُسِمَ في أوساط الثقافة العربية بـ «العصرانيين» وهم وإن نطقوا بنغمة أسلافهم ووافقوهم في أصل منهاجهم إلا أنهم كانوا طرائق قدداً؛ فمنهم المسلمون القاسطون، ومنهم العلمانيون الحداثيون، ومنهم أهل الأهواء العقليون، ومنهم دون ذلك، لكنهم متفقون على مبدأ واحد يمثل محور مشاريعهم التوفيقية وهو محاولة التوفيق بين الدين الإسلامي والفكر الغربي.
ومن أبرز مشاريعهم التوفيقية الخطرة على ثقافة الأمة وفكرها وهويتها ثلاثة مشاريع:
الأول: محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والمبادئ العلمانية:
ومع إيماننا بأن الشريعة الإسلامية والعلمانية نقيضان من حيث المبدأ والتصورات، ومن جهة الجوهر والمظهر، إلا أن «إخوان الصفا الجدد» ـ لما ثقلت عليهم وطأة الشريعة ـ أرادوا أن يركبوا كل صعب وذلول لمحاولة عسف مبادئ الإسلام لتوافق دينهم الجديد «العلمانية» فصادموا بذلك المبادئ العقلية وصادروا الضرورات الشرعية.
وما أكثر ضجيجهم ومزاعمهم حول تقرير هذا المشروع؛ إذ قد تنوع إصدارهم الثقافي في نصرتهم لهذا المشروع ما بين عمل فني درامي، وعقد مؤتمرات وندوات، إلى تأليف كتاب تأصيلي. ومع تنوع الصور التي يعرضونها في سبل تعزيز هذا المشروع ما بين التصريح والتلميح إلا أنه تجمعهم حقيقة واحدة وهي تصورهم الكهنوتي للدين الإسلامي.
ومن أول وأخطر ما كتب في هذا الصدد كتاب «الإسلام وأصول الحكم» (6) لعلي عبد الرازق؛ وذلك في عام 1925م؛ فقد انطلق لعرض مشروعه التوفيقي من النظرة الكنسية للحكم والولاية؛ وفي ذلك يقول: «ولقد كان عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ رسول الدعوة المسيحية وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (1) ، ثم حاول المؤلف أن يقيس مفهوم الإسلام للحكم والحكومة على مفهوم الكنيسة؛ فيقول: «لم يبق أمامك ـ بعد الذي سبق ـ إلا مذهب واحد؛ ذلك أن محمداً -صلى الله عليه وسلم - ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة، وأنه -صلى الله عليه وسلم - لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم «سياسة» من هذه الكلمة ومرادفاتها» (2) .
ويرى أن ما جرى زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم - من مظاهر الحكم، إنما هو من قبيل «الزعامة النبوية» على عهده. وهذا الوصف أعني به «الزعامة النبوية» وصف مستحدث مبتدَع لا سيما إذا تضمن سُمّاً ناقعاً ومعنى منكراً كما يريده «إخوان الصفا الجدد» ، ولذلك يقول علي عبد الرازق في تفسيره لهذا الوصف: «تلك زعامة كانت لمحمد بن عبد الله، فهي ليست لشخصه ولا نسبه؛ ولكن لأنه رسول الله ... فإذا ما لحق ـ عليه السلام ـ بالملأ الأعلى لم يكن لأحد أن يقوم من بعده ذلك المقام الديني» (3) يريد بذلك أن تكون الأحكام الشرعية خاصة بزمن الرسول -صلى الله عليه وسلم - ومتعلقة بوصفه نبياً؛ وإذ قد مات النبي -صلى الله عليه وسلم - فالأحكام الشرعية غير ملزمة من بعده، وهو بهذا التقرير يخدم هدفه الرئيس ألا وهو فصل الدين عن الدولة.
وقد استلزم في سبيل تحقيق هذا الهدف لوازم باطلة، وصادم ضرورات شرعية، وناقض مبادئ عقلية أولية، وليس هذا مقام الكشف عنها. غير أن (الدكتور محمد البهي) تعرض له ناقداً ومحللاً ومعلقاً في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» .
الثاني: محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والماركسية اليسارية:
ومن تلك المشاريع التوفيقية المعاصرة محاولة إنتاج نظام اجتماعي واقتصادي جديد يسمونه بـ «اليسار الإسلامي» وذلك بالتوفيق بين الإسلام والماركسية، يراد من هذا المولود المشوه المعاق أن يتبنى قضايا الثورة والاشتراكية والعدل الاجتماعي وغيرها من القضايا.
و «إخوان الصفا الجدد» دعاة هذا المشروع ـ لما انفض الناس عن دعوتهم الاشتراكية ونفر المسلمون من مبادئهم اليسارية ـ لجؤوا إلى حيلة التوفيق أسوة بأسلافهم من الفلاسفة والزنادقة، فألبسوا الاشتراكية الحمراء ثوباً شفافاً من الإسلام، وفصَّلوا على اليسارية النكراء قميصاً ممزقاً من الشريعة الغراء.
وقد حمل راية هذا المشروع لفيف من العصرانيين أمثال (فتحي عثمان) و (سيف الإسلام محمد) و (محمد عابد الجابري) غير أن من تولى كبره في النهوض بهذا هو (حسن حنفي) إذ قد أصدر في سبيل هذا المشروع مجلة وسمها بـ «مجلة اليسار الإسلامي» .
وهم في مشروعهم هذا يحاولون الجمع بين التيارات المتناقضة في عباءة اليسار الإسلامي؛ وفي ذلك يقول حسن حنفي: «ولا يرى اليسار الإسلامي أي حرج في أن يعتبر نفسه إسلامياً أو عربياً أو عالمياً أو قومياً دينياً أم علمانياً ... كل ذلك من أجل تجاوز التناقضات ووحدة الأهداف وتكامل الأبعاد بعيداً عن الصراعات» (4) .
وقارن ـ أخي القارئ ـ بين ما قرره حسن حنفي هنا وبين ما نقل سابقاً عن أسلافه «إخوان الصفا» في قولهم: «الرجل الكامل يكون فارسي النسب، عربي الدين، عراقي الأدب، عبراني المخبر، مسيحي النهج ... » فإنك حتماً ستجد رحماً فكرياً ووشاجاً ثقافياً بين (إخوان الصفاء القدماء) و (إخوان الصفاء الجدد) ، لا سيما إذا أدركت مدى اهتمام (إخوان الصفا الجدد) برسائل أسلافهم (إخوان الصفا القدماء) ، إذ كان على رأس المهتمين بتراث زندقتهم زعيم إخوان الصفا الجدد طه حسين.
غير أن «إخوان الصفا الجدد» بلغوا من الجرأة والطيش مبلغاً عظيماً حينما يجاهرون بإلحادهم وزندقتهم؛ من ذلك دعوة (حسن حنفي) إلى تجديد اللغة والمصطلحات، إذ يرى أن اللغة التقليدية في التراث الإسلامي قاصرة عن الدقة والوضوح مما يوجب استبدال المصطلحات الماركسية الحية بها، ويجعل على رأس عيوب اللغة التقليدية التي لا بد من محاربتها أنها لغة إلهية تدور ألفاظها حول الله ... بل يرى أن لفظ «الله» لا يعبر عن معنى معين، بل هو «صرخة وجودية» فلفظ «الله» عند الجائع تعني الرغيف، وعند المستعبد تعني الحرية، وعند المظلوم تعني العدل؛ أي أن هذا اللفظ في معظم حالاته «صرخة المضطهدين» ثم يصرح قائلاً: «لا يمكن إيصال أي معنى بلفظ «الله» لأن الله حوى كثرة من المعاني لدرجة أنه يدل على معانٍ متعارضة» (5) . سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقد ناقش هذا المشروع التوفيقي بعض الكتاب الإسلاميين منهم (الأستاذ محسن الميلي) في كتابه (ظاهرة اليسار الإسلامي) بيَّن فيه جذور هذا المشروع ودوافعه وأهدافه وخصائصه.
الثالث: محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية عقيدة ومنهجاً والديمقراطية الغربية فلسفة:
ومن أعظم الفتن انتشاراً، وأشدها هيجاناً مفاهيم وفلسفة الديمقراطية الغربية؛ فما من ناحية إلا أثير فيها نقعها وما من صقع إلا استفتح فيها بابها حتى نفشت في المجتمعات سوامها، وفشت في العقول سمامها.
ولما كاد أن يخطف بريق بهرجها عيون المفتونين بها وأوشكت خضرة زخرفها أن تسلب عقول المشدوهين لها أرادوا التوفيق بينها وبين دين أمتهم وثقافتها وفكرها؛ لكن كيف يكون توفيقاً؛ وعقيدة الإسلام وشريعته تناقض الديمقراطية الغربية في المبادئ والتصورات؟ ذلك لأن الديمقراطية نظام يحمل بُعداً عَقَدياً ونظرة «أيديولوجية فكروية» حول الكون والحياة والإنسان تخالف المفاهيم الإسلامية حول تلك القضايا مخالفة جذرية، فـ «الديمقراطية» نظام بني على مفهوم فلسفي أيديولوجي فكروي لا كما يظنه بعض دعاتها الإسلاميين من أنها نظام إجرائي تطبيقي مجرد على فلسفته وفكره؛ وهذا فهم ساذج سطحي للنظام الديمقراطي، وهذا الفهم القاصر للديمقراطية هو ما يفسر تبني بعض الجماعات الإسلامية وبعض رموز الدعوة التوفيق بين الشريعة المطهرة والديمقراطية الغربية وهذا مما يؤسف له (1) .
ومن أعظم البراهين على مخالفة الديمقراطية الغربية الشريعةَ الإسلامية مخالفة جذرية هو نظرة كل منهما إلى مرجعية الأحكام الدنيوية والدينية؛ فالإسلام يجعل المرجعية في ذلك إلى الوحيين: الكتاب والسنة وما يتفرع عنهما. والديمقراطية تجعل المرجعية في ذلك إلى الشعب، ولا أدل على ذلك من اشتقاق كلمة «الديمقراطية» ، إذ هي مشتقة من كلمتين يونانيتين (Demos) تعني الشعب، و (Kratos) تعني «سلطة» وهاتان الكلمتان تعني «سلطة الشعب» (2) .
بمعنى آخر: أن المعبود في الإسلام هو الله، والمعبود في الديمقراطية هو الشعب، وإن المبدأ العقدي للإسلام هو التوحيد، والمبدأ العقدي للديمقراطية هو العلمانية.
بل يمكن الزعم بأن حقيقة الفلسفة الديمقراطية تشبه إلى حد كبير حقيقة فلسفة (إخوان الصفا) ، ووجه الشبه في ذلك محاولة التوفيق بين التيارات الفكرية المتصارعة والمذاهب العقدية المتناقضة؛ وفي ذلك يقول (كرن شيلدز) أحد منظِّري الديمقراطية: «فالديمقراطي ممكن أن يكون بروتستانتياً، أو يهودياً، أو ملحداً، أو مؤمناً. ففيما يتعلق بالدين يمكن القول إن الديمقراطية مذهب محايد يتمثل في مجموعة من المعتقدات العلمانية الصرفية؛ فالمفهومات الديمقراطية لا ترتبط بالبواعث الدينية أو المضادة للدين» (3) .
هذه لمحة وإلمامة حول وصف بعض المشاريع التوفيقية لـ (إخوان الصفا الجدد) علَّها تسهم في كشف غطائها، وإبداء سوآتها؛ لكن هذه اللمحة التي يحتويها هذا المقال لن تؤدي واجب النقد كاملاً؛ إذ مازال استنساخ المنهج التوفيقي جارياً بصور متعددة وبأغراض مختلفة وما فتئت آثارها في فكر الأمة ومناهج استدلالها قائمة.
وإليك ـ أخي القارئ ـ بعض آثارها الملموسة في حياتنا الدينية والثقافية والفكرية:
1 ـ تعكير صفو التوحيد وتدنيس صفائه عبر محاولة التوفيق بين الدين الإسلامي الحنيف والأديان المنسوخة المحرفة التي تطفح بمظاهر الشرك بالله؛ وتلك ـ لعمر الله ـ الفاقرة الصاقرة والجائحة الذابحة، وقد تولى كبر هذه الدعوة من (إخوان الصفا الجدد) جمال الدين الفارسي المعروف بالأفغاني.
2 ـ تشويه صورة الإسلام المشرقة في أحكامه، ومن مظاهر هذا التشويه تجريد الإسلام من أحكام التكفير، وتفسير التكفير الوارد في أحكامه تفسيراً باطنياً؛ وذلك بمحاولة التوفيق بين الحقائق الشرعية والمظاهر الكفرية.
3 ـ تهييج الصراع الفكري وإثارة الاحتقان السياسي الطاحن في المجتمع الواحد؛ وذلك عن طريق محاولة التوفيق بين الحقائق الشرعية الخالصة والقرارات السياسية المستبدة الجائرة. ينتج عن تلك المحاولة تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله الله. وفي بيان هذا الأثر يعلق ابن تيمية على حديث أورده بلفظ: «يأتي على الناس زمان تُسْتَحَلُّ فيه خمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع» (4) .
4 ـ الهروب من ثقافة الأمة والتنكر لها، وذلك عن طريق محاولة التوفيق بين الحقائق الدينية والحقائق التاريخية للأمة، وبين ثقافة المستعمر والغازي، وأوضح مثال على ذلك تغيير المناهج الدراسية بما يتوافق مع ثقافة المستعمر.
5 ـ إضعاف الإيمان بالغيوب الشرعية في نفوس المسلمين؛ وذلك عن طريق محاولة التوفيق بين الغيوب الشرعية ومعطيات المدنية الغربية.
6 ـ قلب المفاهيم الشرعية والتلاعب بمصطلحاتها، ومن أوضح الأمثلة على ذلك تفسير الخيانة بالأمانة، والأمانة بالخيانة؛ وذلك عن طريق محاولة التوفيق بين الحقائق الشرعية والضرورات النفسية والعرفية، وبين الإدارة السياسية للمحتل الغاشم وأذنابه؛ وذلك مثل هذا المنهج التوفيقي؛ إذ يقول -صلى الله عليه وسلم -: «سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤمَّن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» (5) .
__________
(1) «في ظلال القرآن» سيد قطب، دار الشروق، 3/ 1586، الطبعة التاسعة 1400هـ ـ 1980م.
(1) انظر كتاب «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» دار السراج، بيروت.
(2) طبع الكتاب بعنوان «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد» تحقيق موسى بن سليمان الدويش، مكتبه العلوم والحكم، المدينة المنورة ط الثالثة 1422هـ ـ 2001م، وقد سمّاه مؤلفه ابن تيمية بالسبعينية، كما أن الذين ترجموا لابن تيمية سمّوه بالمسائل الإسكندرانية.
(3) رسائل إخوان الصفا، دار صادر، بيروت. 1377هـ ـ 1957م، 4/240.
(4) سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، بيروت 1401هـ/1981م، 19/328.
(5) الامتناع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت ـ صيدا، 3/6.
(6) سبق لمجلة البيان أن كشفت حقيقة هذا الكتاب، وسلطت الأضواء عليه بما وضح خطره وانحراف منهجية مؤلفه. انظر: العدد (179) من مجلة البيان بعنوان (كتاب الإسلام وأصول الحكم وذرائعية العلمانيين) .
(1) الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، الطبعة الثالثة، مطبعة مصر، 1925م ص 49.
(2) المصدر السابق، ص 55. (3) المصدر السابق، ص 87.
(4) «ماذا يعني اليسار الإسلامي» د. حسن حنفي، مجلة اليسار الإسلامي، العدد الأول 1401هـ، 40 ـ 45.
(5) التراث والتجديد، د/حسن حنفي، مكتبة الجديد، تونس، ص 129.
(1) انظر في ذلك «نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية» د. محمد أحمد علي مفتي، ضمن سلسلة المنتدى الإسلامي.
(2) انظر في ذلك وصف الديمقراطية ونقدها «مذاهب فكرية معاصرة» محمد قطب، دار الشروق، الطبعة السابعة، 1413هـ ـ 1993م، ص 178.
(3) «نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية» د. محمد أحمد علي مفتي، ضمن سلسلة المنتدى الإسلامي، الطبعة الأولى 1423هـ ـ 2002م ص 24.
(4) «بيان الدليل على بطلان التحليل» ، ابن تيمية، تحقيق فيحان بن شالي المطيري، مكتبة لينة للنشر والتوزيع، مصر، ط الثانية 1416هـ ـ 1996م، ص 105.
(5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة 2/291، وابن ماجه في سننه برقم 4036، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1887) .(218/23)
لماذا أخفق مشروع النهضة التغريبي؟
د. محمد مورو
بعد عشرات السنين من اندلاع حركة التحرر الوطني في العالمين العربي والإسلامي ودول العالم الثالث عموماً، وبعد سلسلة من التجارب والمحاولات لتحقيق وبناء النهضة، اكتشف الجميع قادة ومفكرين أن مشروع النهضة التغريبي ـ أي الذي استند إلى وسائل وأساليب وأفكار مستمدة من الشرق أو الغرب ـ قد وصل إلى طريق مسدود، وأنه لم يحقق أياً من أهدافه المرجوة.
وكان من الطبيعي أن يطرح السؤال نفسه، وهو: لماذا أخفق مشروع النهضة التغريبي ووصل إلى هذا المستوى من الانهيار وعدم الجدوى؟ وفي رأينا أن هذا المشروع النهضوي ـ الذي استند إلى أفكار الحضارة الغربية وأساليبها، والذي تجاهل خاصية الذات الحضارية لبلادنا ـ كان من الطبيعي والمؤكد أن يصل إلى طريق مسدود؛ لأنه افتقد المقومات البديهية لأية نهضة؛ ولأنه تجاهل العديد من الحقائق العلمية حول عملية النهضة.
- إخفاق منهج النهضة:
إذا افترضنا حسن النية في هؤلاء الذين قادوا محاولات النهضة في بلادنا وفي تاريخنا المعاصر فإننا نجدهم قد وقعوا في خطأ علمي فادح؛ حينما تعاملوا مع منهجية التغيير بمعزل عن السياق الحضاري لها؛ لأنه في الواقع لا منهج هناك مجرّداً من مقولاته ونماذجه؛ لأنه تشكل في أحشاء النماذج التي عالجها، واكتسى باللحم من خلال الموضوعات التي ولدها. والمنهج يقوم ويتشكل عبر عملية معقدة من خلال نمط مجتمعي محدد، مما يحدد له مبادئه ومقولاته ونماذجه؛ فالمنهج الأوروبي في النهضة تكوَّن عبر تاريخ النمط الحضاري الأوروبي، ومن ثَمَّ فإن هؤلاء الذين أخذوا منهج التغيير الأوروبي ـ حتى لو رفضوا نظرياً المقولات الفلسفية الحضارية الأوروبية ـ إنما هم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ لأن هذا المنهج خرج من خلال منظومة حضارية شاملة منهجاً ونماذج ومقولات، ومن ثَمَّ فإن هذا المنهج اكتسى وأخذ هذا الطابع الحضاري المميز له. ولكل حضارة شخصيتها المتميزة، ويكاد يكون من المستحيل زرع حضارة في بيئة حضارة أخرى؛ لأن النتيجة ستكون مسخاً أو ربما أسوأ من المسخ، وحتى هؤلاء الداعون إلى ما يسمى بالتطعيم الحضاري يتناسون حقيقة علمية معروفة؛ وهي أن التطعيم في علم النبات ـ مثلاً ـ لا ينجح إلا بين النباتات المتقاربة عائلياً، وبديهي أن التطعيم والتلقيح بين الحضارة الإسلامية ـ القائمة على التوحيد والعدل والحرية ورجاء الآخرة ـ والحضارة الغربية ـ القائمة على الوثنية والمنفعة غير الخلقية والقهر والنهب ـ أمر غير ممكن عملياً وموضوعياً.
إن الذين حاولوا بناء نهضة على أسس منهجية غربية لم يدركوا حقيقة موضوعية هامة؛ وهي أنهم لا يطبقون هذا المنهج في الفراغ، بل إن شعوباً عاشت تجربة حية من الإسلام لفترة طويلة جداً. إننا أمام حضارة إسلامية عريقة متميزة وثرية، حضارة تمتلك أصلاً نظرياً إلهياً، وتمتلك ثروة من التطبيقات الاجتماعية الهائلة، من خلال ما حدث طوال التاريخ الإسلامي من علاقات وحالات سياسية واقتصادية واجتماعية ارتبطت بالنص الإسلامي أو حادت عنه. وواجهت هذه الحضارة مشكلات في كافة الميادين، وترتب على تلك المشكلات فقه وثقافة وإجابات نظرية وتطبيقية في مختلف الفروع والمجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فضلاً عن ميادين العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية.
وهكذا، فإن القفز على هذا الواقع بكل أوجه الصحة والخطأ، والإنجاز، والقصور فيه سبَّب فجوة هائلة في الوعي والسلوك على حدٍّ سواء، وأهدر كل الأساسات فوق التربة أو تحتها، بحيث كان علينا أن نسير منذ البداية وفقاً للمنهج الأوروبي، ناهيك عن أننا نسير في الطريق الخطأ، وهو الأمر الذي يستلزم مئات السنين زمنياً، هذا إذا أمكن إخلاء الواقع من الوجدان والتراث الإسلامي، وهو مستحيل قطعاً.
إن علم الاجتماع قد أكد على حقيقة بديهية لم يراعها دعاة النهضة التغريبية، وهي أن المنهج العلمي في أساسه أنماط اجتماعية معينة ينبغي أن يتم بمنهج هذه الأنماط ذاتها، وليس بمنهج مغاير، وإلا فإن الأخطاء ستكون بالجملة، أي أنه لا يمكن استقرار عملية النهضة والتنمية في مجتمعاتنا بمنهج مستمد من نمط الحضارة الأوروبية مثلاً، وعليه فإن شرط النهضة هنا هو أن تقرأ الواقع قراءة صحيحة؛ وشرط الصحة هنا أن تكون القراءة من خلال منهج نابع من هذا النمط الحضاري الذي نحن بصدده، وليس من خارجه.
- غياب البعد الثقافي:
محاولات النهضة الحديثة في بلادنا تواكبت مع عملية التحرر الوطني من الاستعمار، ولا شك أن الصراع مع الاستعمار صراع سياسي واقتصادي وعسكري، فلا شك أن الغرب الاستعماري قد استعمل ضدنا أقسى الوسائل العسكرية وأبشعها لتحقيق عملية القهر والنهب، وكذلك لم يتورع عن استعمال كل الوسائل السياسية والاقتصادية في تحقيق أهدافه، ولذلك كان من الطبيعي أن تشنّ حركات التحرر الوطني الحرب ضد الاستعمار عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
ولكن البعد الثقافي لتلك المواجهة كان غائباً، وكان هذا هو السبب بالتحديد في إخفاق مشروع النهضة بعد رحيل الاستعمار، بل الوصول إلى طريق مسدود أهدر كل المكاسب التي تحققت في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية للمواجهة، بل أقسى من ذلك وأمرّ أننا أصبحنا مهددين بعودة الاستعمار بجيوشه وأساطيله كالسابق وبآليات أكثر تعقيداً وأكثر كفاءة.
إن البعد الثقافي للمواجهة كان يعني ضرورة تصفية الرواسب الثقافية الاستعمارية حكومياً وشعبياً؛ لأن هذا البعد الثقافي مرتبط بتحطيم أو بناء المكونات العقيدية والفكرية والحضارية، والأنماط المعيشية والإنتاجية، وأشكال العلاقات الجماعية والفردية؛ وتحطيمها يعني هدم القلعة من الداخل ومسخ الشخصية وجعلها في حالة عدم القدرة على الصمود والمواجهة، فضلاً عن تحقيق مشروع النهضة، أما بناؤها بصورة صحيحة فيعني التماسك الفردي والجماعي، والقدرة على المواجهة، والقدرة على تحقيق الذات الحضارية ومن ثَم تحقيق مشروع النهضة.
- والتغريب أدَّى إلى الاستبداد:
ما حدث بسبب التغريب يمكن أن نشبهه بنوع من الانفصال الشبكي بين الشعوب والنخب الحاكمة، فأصبحت الشعوب بمعزل حقيقي عن عملية النهضة، ولم تستطع النخبة السياسية أو الفكرية بحكم محدوديتها أن تنجز عملية النهضة.
إن الشعوب كانت وما زالت تحمل الوجدان الإسلامي، كانت وما زالت معبأة بالتراث ومفعمة بالعقيدة، ولا يمكن القضاء على هذا الوجدان أو طريقة التفكير بسهولة؛ ولذا فإن فرض مشروع نهضوي غير قائم على وجدان الجماهير وعقيدتها وحسِّها الثقافي وتراثها التاريخي يجعل تلك الجماهير لا تفهم هذا المشروع ولا تتحمَّس له، أو ترفضه وتعاديه، أو يحدث لها نوع من ازدواج الشخصية أو انفصامها، وبذلك يعود إلى سلسلة من الأخطاء والخطايا تجعل مشروع النهضة في مهب الريح. وإذا كانت النخبة المغتربة جادة في محاولة تحقيق نهضة على أساس تغريبي فإن رفض الجماهير لهذا المشروع النهضوي التغريبي أو عدم حماسها له يجعل تلك النخبة تحاول أن تجبر الجماهير على الانخراط والحماس في هذا المشروع. وبما أن التركيبة الثقافية والوجدانية للجماهير لا تستجيب للتحريض الإعلامي النخبوي بهذا الصدد؛ فإن النخبة الحاكمة تجد نفسها لاجئة في النهاية إلى قمع الجماهير والاستبداد بها وإجبارها ـ قهراً ـ على الانخراط في هذا المشروع؛ وبالطبع تبدأ المسألة من هذه الزاوية وتنتهي إلى أن يصبح الاستبداد والقهر سِمَةً أساسية للحكم التغريبي؛ بحيث يصبح للاستبداد لبنته الخاصة والذاتية حتى يصرف النظر عن مشروع النهضة التغريبي، أي أن التغريب يخلق الاستبداد خلقاً.
- في مسألة الحصول على التقنية:
من الأشياء التي يتشدق بها دعاة مشروع النهضة التغريبي، أنهم يستهدفون الحصول على العلوم الطبيعية أو التقنية من خلال مشروعهم التغريبي المرتبط بالمنهج التغريبي في النهضة، والمنفتح على الحضارة الأوروبية التي أنجزت تقدماً علمياً باهراً.
وينبغي هنا أن نضع الكثير من النقاط فوق الكثير من الحروف في هذه القضية الخطيرة.
ينبغي أن نعرف أن العلوم الطبيعية تنقسم إلى قسمين: قسم خاص بالحقائق العلمية والمكتشفات العلمية، وقسم خاص بتوجيه هذه العلوم في اتجاه معين، أي لإنتاج سلعة ضرورية أو كمالية مثلاً، للقضاء على مرض أو لنشر مرض، أي لإنتاج أدوات تسعد الإنسان وتساهم في راحته، أو لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، لإصلاح البيئة والمحافظة عليها أو لتخريبها وتلويثها.
أي أن هناك شِقاً علمياً وشِقاً قيمياً. والشق العلمي تراثٌ إنساني يجب الاستفادة منه وليس تراثاً أوروبياً، ولكن الشق القيمي للمسألة ـ أي توجيه العلوم في اتجاه معين ـ تراثٌ حضاري أي خاص بتوجه وقيم كل حضارة. والحضارة الإسلامية مثلاً عندما كانت متقدمة علمياً كانت توجه هذه العلوم لإسعاد الإنسان وتلبية حاجات كل البشر، بل كانت تسعى سعياً لنشر العلوم ولا تحجبها عن الآخرين؛ لأن حبس العلم جريمة في الشريعة الإسلامية الغراء. أما الحضارة الغربية فإنها عندما تقدمت علمياً استخدمت منجزات العلم في تحقيق أكبر قدر ممكن من النهب وقهر الشعوب الأخرى وظلمها، بل إنها أيضاً حجبت هذا العلم عن الشعوب الأخرى، بل أصدرت القوانين التي تجرم محاولة حصول الآخرين على تلك العلوم، مثل: قضية الدكتور المهندس عبد القادر حلمي مثلاً، بل وتغتال العلماء في البلاد الأخرى حتى لا تحدث نهضة علمية فيها، كاغتيال الدكتور يحيى المشد مثلاً.
إذاً فالعلم كحقائق ومعرفة تراثٌ إنساني ساهمت فيه كل الحضارات والمجتمعات، بل إن النهضة العلمية الأوروبية الحديثة استفادت من العلوم والمعارف الإسلامية في تحقيق تقدمها المعاصر، ومن ثَمَّ فإن الحصول على العلوم واكتسابها ليس قاصراً على المشروع النهضوي التغريبي، بل العكس هو الصحيح؛ فالحصول على العلم هدف أي مشروع نهضوي إسلامي، أما الشق القيمي في العلوم، أي الشق المرتبط بكيفية استخدام هذه العلوم، فهذا أمر مرفوض.
والعجب هنا، أن مشروع النهضة التغريبي لم ينجح حتى في الحصول على هذه العلوم لسبب بسيط هو أن الحضارة الغربية ترفض إعطاء العلوم للآخرين عن طيب خاطر، وما دام المشروع النهضوي التغريبي مشروعاً غير تصادمي مع الحضارة الغربية أي أنه متعاون ومهادن لها؛ فهو لن يحصل على هذه العلوم، بل الصحيح أن المشروع الإسلامي للنهضة هو القادر على الحصول عليها؛ لأنه سينتزعها انتزاعاً، ثم يستطيع أن يهضمها حضارياً، أي أن بإمكانه أن يوجهها التوجيه المتفق مع قيمه الحضارية وللمصلحة الإنسانية.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي.(218/24)
الحقيقة الكاملة لأعداد سكان العراق سنة وشيعة
قراءة في كتاب فضيلة الشيخ الدكتور طه الدليمي
عرض: أبو أويس البغدادي
الحقيقة (أول كتاب مخطوط عن تعداد السنة والشيعة في العراق) .
يتحدث الشيعة ـ ويكثرون من الحديث ـ عن كونهم يمثلون الأكثرية من سكان أهل العراق، وأن أهل السنة والجماعة لا يشكلون فيه إلا أقلية قليلة هي ربما أقل من بعض الأقليات الأخرى الموجودة فيه.
وقد ازداد حديثهم هذا كثرة في الفترات الأخيرة خصوصاً بعد الاحتلال؛ تسمع هذا في الإذاعات والفضائيات، وتقرؤه في الكتب والنشرات، وتجده على ألسنة الناس، حتى من بعض أهل السنة أنفسهم؛ وهذا جهل منهم بلا شك.
في الوقت نفسه تجد أهل السنة يُعرِضون عن هذا ولا يذكرونه أبداً حذراً من دعوى الإثارة الطائفية رغم أن الطرف الآخر لا يحذر مما يحذرون، ويكثر من ذكر ما لا يذكرون.
لقد آن لنا أن نسأل: هل صحيح ما يقوله الشيعة من أنهم الأغلبية، وأن أهل السنة هم أقلية؟ أم أنه مجرد إشاعة تلقتها الألسن ورددتها الأفواه فرسخت في الأذهان لطول التلقي وكثرة الترديد لا؛ لأنه يقوم على مستند من العلم أو أساس من الواقع؟
وآن لنا أن نجيب عن هذا السؤال لأجل أن يعلم الناس الحقيقة من الزيف في الداخل والخارج.
- حقائق لا بد من تقديمها:
وقبل مناقشة الموضوع نقاشاً علمياً إحصائياً أود تقديم الحقائق التالية:
1- الحق يقوم على الصدق والعلم، ويعتمد البرهان والدليل، والباطل يقوم على التزوير والخداع، ويعتمد الدعاية والتضليل وخلط الأوراق والتلاعب بالألفاظ.
والله يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] .
2 - يمتاز العقل الجمعي للمجتمع البشري ـ أو قل: عقل المجتمع كمجموع ـ بقابليته للتأثر بما يكثر وروده عليه، والتصديق بما يكرر طرقه على سمعه من معلومات مهما كانت خاطئة أو بعيدة عن الواقع؛ فكل ما يكثر إشاعاته ونشره على أسماع المجتمع تجده ـ بعد مدة ـ يرسخ، ويمسي كحقيقة مسلَّمة في أذهان الكثيرين من أفراده.
هكذا انتشرت العقائد الباطلة والأفكار الفاسدة، والنظريات الهدامة، بل الخرافات والأساطير في جميع المجتمعات. ولكل مجتمع عقائده وأفكاره وخرافاته وأساطيره التي رسخت فيه كحقائق مسلَّمة نتيجة الإشاعة والطرْق المستمر، وما اليهودية والنصرانية والبوذية والمجوسية والشيوعية إلا أمثلة على ما أقول.
ومن هذا الباب وجود ما يسمى بـ (الخطأ الشائع) فكثير من المعلومات والاعتقادات والتصورات إن هي إلا أخطاء شائعة لو دُرست علمياً ومُحصت على ضوء الدلائل والبراهين لظهر زيفها وبان خطؤها، ولذلك قيل: (كل مكرر مقرر) . ولأهل الباطل مقولة مشهورة (*) تعتمد على هذه الخاصية التي يمتاز بها العقل الجمعي هي: «اكذب.. اكذب حتى يصدقك الناس» .
3 - إن التفرقة الاجتماعية والتجزئة السياسية ليست حلاً لأي طائفة أو فئة من فئات المجتمع، مهما كان حجمها كثيراً أم قليلاً، أكثر أم أقل؛ فليس الحل بأن تستحوذ الفئة الكبيرة أو الأكبر على مقدرات البلد، وتظلم الفئات الأخرى وتهضم حقوقها، ولا بأن يقسم البلد أو تتناحر فئاته على أساس اختلاف هذه الفئات.
إن جميع بلدان العالم تتشكل مجتمعاتها من فئات مختلفة في انتماءاتها القومية والدينية والمذهبية والفكرية، ولقد ضمت دولة الإسلام تحت جناحها عشرات الأقوام والمذاهب.
إن الحل في وجود قانون متوازن يسري في أوصال المجتمع فيحفظ للكل حقوقهم.
وتأسيساً على ما سبق أقول: ليس دافعنا فيما نكتب أن نثبت أننا الأكثرية لتكون لنا الحصة الأكبر؛ فإن كل مسلم واع ووطني صادق لا تقف مطامحه دون الحصة الكاملة يتشارك فيها مع الجميع على قدم المساواة والعدالة؛ حصة يكون الجزء فيه كأنه هو الكل، والكل ممثلاً للجزء. إن صاحب الدار لا يرضى بحصة أو حجرة له فيها مع اللصوص؛ لكن بأن تكون هذه الحجرة لزوجته وتلك لأخيه وثالثة لولده إذا كان هذا التوزيع ضمن الدار الواحدة. إن الذي يريد التقسيم تحت أي ذريعة سارق لئيم، وإن الذي يريد أن يفوز بالحصة الأكبر على حساب الآخرين ظالم معتد أثيم، وفي تراثنا قصة مشهورة ملخصها أن امرأتين جاءتا إلى نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ تختصمان في ولد ذكر كل واحدة منها تدعي أنه ولدها دون الأخرى، وحين نادى ـ عليه السلام ـ بالسكين ليقسمه بينهما ولولت إحداهما وقالت: إنه لصاحبتي، بينما ظلت الأخرى ساكتة، فعرف سليمان ـ عليه السلام ـ أن الولد لتلك التي لم ترض بالقسمة فحكم به لها. إننا نرفض التجزئة ونرفض الظلم على أي أساس كان وأي نسبة كانت.
4 - ديننا دين الجماعة والمحبة والصلة وحسن الجوار. ونحن ـ أهل السنة والجماعة ـ السنة عندنا معناها الحق والدين كله، والجماعة هي الوحدة والتآلف المقابل للفرقة والتناحر؛ فانتماؤنا للإسلام حسب معادلة لها طرفان: أحدهما السنة، والآخر الجماعة.
وسلوكنا قائم على المحافظة على التوازن بين طرفي هذه المعادلة بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ولا يكون على حسابه. فنحن نؤمن بالحق ونصرح به، وفي الوقت نفسه نمد يد التعاون والأخوة والجماعة إلى الآخرين.
ودولة الإسلام كانت تضم أدياناً متعددة عاش أصحابها جنباً إلى جنب مع المسلمين، وحين طاردت الصليبية فلول اليهود في الأندلس بعد انهيار دولة الإسلام لم يجد اليهود ملاذاً لهم إلا أرض المسلمين ودولتهم فهاجروا إليها. والله ـ تعالى ـ يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] وقوله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ #! 8! #) إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9] .
وحين دخل رسول الله # في المدينة وجدها مختلفة الأديان والأعراق، لكن حين أقام دولته على أساس عقدي لم ينس الوحدة الوطنية.
العراق بلد فيه نصارى وفيه مسلمون وفيه يهود كذلك، وهؤلاء أديانهم مختلفة، ولكن هذا الاختلاف في الدين لا يمنع التقاءهم على مصلحة بلدهم؛ فهم ـ وإن اختلفوا دينياً ـ يجب أن يتحدوا وطنياً.
وفي العراق كذلك طائفتان كبيرتان هما أهل السنة والجماعة والشيعة، واختلاف هاتين الطائفتين دينياً (*) لا يمنع التقاءهما سياسياً ووطنياً، بل هذا واجب شرعي ومطلب وطني، عليهم أن يتعاونوا فيما بينهم من أجل تحقيقه وترسيخه، وعليهم أن يشيعوا بين جماهيرهم وعوامهم أن الاختلافات الدينية أو الطائفية لا ينبغي أن تكون عقبة في سبيل الوحدة الوطنية.
- لغة الأرقام:
بعد هذه المقدمة الضرورية نأتي لنستنطق الإحصائيات والأرقام ونرى ماذا تقول؟ وبِمَ تحكم؟
1 - عدد المحافظات السنية وعدد المحافظات الشيعية:
هذا إذا اعتبرنا العاصمة بغداد متساوية العدد بين أهل السنة والشيعة ولم نقل بأن أهل السنة متفوقون عددياً وهو الذي أرجحه.
2 - فرق العدد والكثافة بين المحافظات السنية والشيعية:
تبين لنا من الجدول السابق أن المحافظات الشيعية تزيد على المحافظات السنية بفارق عدد هو واحد (1) فالمحافظات الشيعية عددها (9) بينما المحافظات السنية عددها (8) .
لكن هذا الفرق العددي البسيط يتلاشى أثره تماماً إذا نظرنا إلى فرق الكثافة السكانية بين الطرفين؛ فإن غالب المحافظات الشيعية ذات كثافة سكانية متدنية مقارنة بالمحافظات السنية التي هي في غالبها مناطق أو محافظات ذات كثافة سكانية عالية، بل إن فرق الكثافة هذا يعكس المعادلة ويجعلها بالمقلوب.
هذه الحقيقة وحدها تكفي معرفتها في التحقق من أن الأغلبية السكانية في العراق هي لأهل السنة والجماعة وليست للشيعة كما هو شائع، وهذا يتبين من معرفة عدد سكان كل محافظة حسب آخر إحصائية رسمية وهي التي جرت عام 1996م.
وهذه هي الإحصائية مع التجاوز عن الكسور العددية وتقريبها إلى أوْلى عدد معتبر:
أي أن مجموع سكان المحافظات السنية يزيد إجمالاً على مجموع سكان المحافظات الشيعية بأكثر من سبعمائة ألف. لكن هذا العدد يكبر ويتضاعف إذا حسبنا عدد أهل السنة في المحافظات الشيعية وعدد الشيعة في المحافظات السنية ثم أضفنا الناتج كلاً إلى طائفته، فإن وجود أهل السنة في المحافظات الشيعية يزيد إلى حد الضعف تقريباً عن وجود الشيعة في المحافظات السنية، وسيأتي بيان ذلك بالأرقام.
أقضية في محافظات سنية تساوي محافظة شيعية:
ويبقى فرق الكثافة فعّالاً في إعطائنا حقائق أخرى مهمة. مثلاً: ثلاث محافظات شيعية هي كربلاء (740.000) وميسان (590.000) والمثنى (414.000) لا تساوي مجتمعة محافظة سنية هي نينوى (1.900.000) فإن الأخيرة تساويها وهي مجتمعة وتزيد عليها بمائة وستة وخمسين ألفاً (156.000) .
بل إن ما يقارب نصف المحافظات الجنوبية (الشيعية) كواسط وميسان والمثنى والقادسية هي عبارة ـ من حيث عدد السكان ـ عن أقضية في بعض المحافظات الغربية أو الشمالية (السنية) ؛ فمحافظة المثنى أو ميسان أقل في سكانها في قضاء الفلوجة في محافظة الأنبار، أو سامراء في محافظة صلاح الدين.
- غالبية المحافظات السنية عالية الكثافة عكس المحافظات الشيعية:
حقيقة أخرى تظهر لنا من النظر في فروق الكثافة وهي أن عدد المحافظات السنية ذات الكثافة السكانية العالية ـ أي التي بلغت مليوناً فأكثر ـ هو ضعف عدد المحافظات الشيعية العالية الكثافة.
إن عدد المحافظات الشيعية العالية الكثافة هو ثلاث من تسع (3 / 9) أي بنسبة واحد إلى ثلاثة (1/3) أي أن ثلثي المحافظات الشيعية قليلة الكثافة. بينما عدد المحافظات السنية العالية الكثافة هو بنسبة خمس إلى ثمان (5/8) . وإذ نظرنا إلى أن محافظة نينوى تقارب في عددها المليونين، ومحافظة صلاح الدين تقارب المليون فيمكن القول بأن العدد هو ست إلى ثمان (6/ 8) أي أن ثلاثة أرباع المحافظات السنية هي محافظات ذات كثافة سكانية عالية (3/4) .
كما يلاحظ بوضوح أن المحافظات السنية العالية الكثافة مقارنة بمثيلاتها من المحافظات الشيعية هي ست إلى ثلاث (6 /3) أي ضعفها.
وهذا الجدول يبين ما تقدم بالأرقام:
أ - المحافظات عالية الكثافة:
ب - المحافظات قليلة الكثافة:
- عدد السنة في المحافظات الشيعية أكثر من الشيعة في المحافظات السنية:
يتركز أهل السنة في المحافظات الشيعية عالية الكثافة، ويقلون في قليلة الكثافة؛ إذ يشكل أهل السنة نسبة تقارب الثلث (1/3) في اثنتين من المحافظات الشيعية الثلاث العالية الكثافة وهما البصرة وبابل. ففي الأولى يشكلون نسبة لا تقل عن 35% وتصل نسبتهم إلى 30% من عدد السكان في الثانية. بينما لا يتركز وجود الشيعة في أي محافظة في المحافظات السنية سواء منها العالية الكثافة أو الواطئة سوى ديالى بنسبة 35% من عدد سكانها.
ومن ملاحظة الأعداد في الجدول الأخير من هذه الدراسة نجد أن عدد أهل السنة في المحافظات الشيعية حوالي (1.135.000) بينما عدد الشيعة في المحافظات السنية حوالي (685.000) فقط.
- النسب التقريبية لكل طائفة في كل محافظة:
وصفت هذه النسبة بـ (النسب التقريبية) لعدم وجود إحصائية رسمية تتعلق بكل طائفة في كل محافظة. وإنما اعتمدت هذه النسب طبقاً للمعرفة الشخصية المبنية على المعايشة الاجتماعية والخبرة الواقعية والسؤال والبحث والتثبت من خلال الآخرين بحيث أستطيع القول بأن هذه النسب أقرب إلى الحقيقة. وهذا يعني أن الرقم المثبت قد يزيد قليلاً أو يقل عما هو عليه.
أ - المحافظات السنية:
ب - المحافظات الشيعية:
العاصمة بغداد:
هذا كله إذا اعتبرنا العاصمة (بغداد) متساوية النسبة بين الطائفتين. على أن الذي أرجحه أن أهل السنة في بغداد لا يزالون يشكلون أغلبية السكان، وأن نسبتهم قد تصل إلى 60%.
- عدد أهل السنة والشيعة طبقاً إلى نسبتهم المتوقعة في كل محافظة:
أما إذا اعتبرنا نسبة أهل السنة في بغداد 60% فتكون النتيجة كالآتي:
- عدد أهل السنة = 11.613.240
- عدد الشيعة = 9.118.760
فإذا قمنا بحذف 700.000 من هذه الأعداد ووزعنا هذا الرقم بحيث نحذف 400.000 من أهل السنة و 300.000 من الشيعة: ذلك أن مجموع أهل السنة مع الشيعة عام 1996 هو عشرون مليوناً (20.000.000) ، وأن العدد المحذوف (700.000) يمثل الأقليات الأخرى ـ فتكون النتيجة كالآتي:
العدد الإجمالي لأهل السنة يتراوح بين 10.750.000 و 000،200،11.
والعدد الإجمالي للشيعة يتراوح بين 000،800،8 و 000،250،9.
أي معدل عدد أهل السنة هو 000،000،11.
ومعدل عدد الشيعة هو 000،000،9.
أي أن عدد أهل السنة يزيد على عدد الشيعة في العراق بمقدار مليونين (2.000.000) .
وهذا يعني أن:
نسبة أهل السنة في العراق بين 52% و 54%.
ونسبة الشيعة في العراق بين 42% و 45%.
ونسبة الأقليات في العراق بين 3% و 4%.
والنتيجة النهائية التقريبية هي أن:
نسبة أهل السنة في العراق = 53%.
نسبة الشيعة في العراق = 43%.
نسبة الأقليات = 4%.
المجموع =100%.
- دور الإعلام الشيعي في إشاعة هذا الخطأ الشائع:
إذن ما يقال من أن الشيعة هم أكثرية سكان العراق ما هو إلا خطأ شائع رسخه الإعلام الشيعي الذي ما فتئ منذ عشرات السنين يردد هذه المقولة التي أخذت تنتشر وتشيع شيئاً فشيئاً، والذي شجع على انتشارها وإشاعتها خلو الساحة من المعارض لها مما أدى إلى رسوخها حتى في أوساط أهل السنة والجماعة أنفسهم في داخل العراق نفسه فضلاً عن الآخرين خارجه من الذين لا قناة لمعلوماتهم سوى الإعلام الذي اقتصر من هذه الناحية على الشيعة فقط؛ بينما أهل السنة يُعرضون عنها إعراضاً تاماً؛ فلا يذكرون شيئاً عنها قليلاً ولا كثيراً، لا تصريحاً ولا تلميحاً، لا في كتاب ولا مجلة ولا جريدة، ولا في خطبة ولا محاضرة ولا مقابلة تلفزيونية؛ إنما كان شأنهم الصمت المطبق؛ يحملهم على ذلك رغبتهم في أن يربؤوا بأنفسهم عن كل ما يثير الطائفية أو يشير إليها أو يشعر الآخرين بأن في العراق طائفتين، حتى ولو كان من باب الرد بالمثل، أو من باب إحقاق الحق ووضع الأمور في مواضعها كما هو ديدنهم دوماً؛ حتى إن من كان منهم يعارض هذه الحال ـ وهم قلة ـ ويتطرق إلى ذكر الحقائق كما هي، وينتقد هذا الصمت الذي لا نجني من ورائه سوى الخسارة، وينذر بسوء العاقبة إذا ظلت الحال على ما هي عليه كانت تقوم في وجهه زوبعة من المعارضة والتشهير والتجريح من قِبَل أهل السنة أنفسهم قبل غيرهم. والذي يعرف ما كان يدور في قضاء المحمودية، وكيف كان يجابه بل يحارب يدرك تماماً ما أقول.
حتى إذا وقعت الواقعة وظهر على السطح ما كان خفياً أو صغيراً لا تراه أكثر العيون عند ذاك بدأت الأمور تنحو منحى آخر، وصارت الألسن تنشط شيئاً فشيئاً من عقالها. والحمد لله على كل حال؛ فإن العاقل ـ كما قيل ـ يبدأ من حيث انتهى العقلاء، وعسى أن تكون البداية قد واتت قبل فوات الأوان.
كان هذا الإعلام كثيراً ما يظلم الحقيقة ـ تضخيماً وتحجيماً ـ إلى درجة الإسفاف؛ ولنتأمل معاً هذه الأمثلة:
في إيران تدعي الحكومة في وسائل إعلامها أن نسبة أهل السنة 3% فقط؛ بينما الحقيقة أن نسبة أهل السنة والجماعة في إيران قد تصل إلى 30% وقد تتجاوزها.
ناهيك عن الظلم والإجحاف الذي تلحقه الدولة الإيرانية بهذه الطائفة الكبيرة.
وما أن تعبر الحدود إلى العراق حتى تجد الظلم المسف نفسه؛ إذ يدعي بعض من الشيعة أن نسبتهم تناهز الـ 85% من مجموع الشعب العراقي، وهذا يعني أن مجموع نسبة أهل السنة من العرب والكرد والأقليات الأخرى لا يساوي 12%؛ فإذا علمنا أن نسبة الأكراد لا تقل عن 20% وأضفنا إليها 4% هي نسبة الأقليات غير المسلمة فإن نسبة السنة العرب لا يصبح لها وجود تماماً إلا في موقع وهمي يمكن العثور عليه عن طريق الرقم 12% تحت الصفر.
ومع كل هذا فإن هذه دعوى أن نسبة الشيعة 85% تقال وتكتب وتنشر بكل صفاقة؛ مع الصمت المطبق من علماء أهل السنة ترفعاً ـ من جانب واحد ـ عن إثارة الحساسيات الطائفية؛ فكيف لا يصدق الناس في الداخل والخارج ما يدعي الشيعة؛ بحيث يكون المتواضع منهم من يقول بأن نسبة الشيعة 60% أو 65%؟
ومن هذه الدعاوى الضعيفة التي تنشر بلا معارض وتسري بلا عقبات:
قولهم بأن نسبة الشيعة في محافظة الأنبار 25% مع أنها لا تكاد تحتسب.
وقولهم بأن قضاء سامراء في محافظة صلاح الدين أغلبيته شيعية مع أنه منطقة سنية صافية سوى بعض الزوار الذين يقصدون مرقد الحسن العسكري وعلي الهادي، وسرعان ما يرجعون من حيث أتوا.
وقولهم بعدم وجود نسبة تذكر لأهل السنة في البصرة؛ مع أنهم في الحقيقة يشكلون نسبة لا تقل عن 35%.
وقولهم إن عدد سكان مدينة الثورة في بغداد ـ وفيها غالبية شيعية ـ يساوي مليونين ونصف المليون؛ ورغم صفاقة هذا القول الواضح من حيث إنه يعني أول ما يعني أن أهل الثورة وحدهم يساوون أكثر من نصف سكان مدينة بغداد؛ وهذا واضح البطلان ـ لكنه شائع إلى حد التصديق. أما الحقيقة فإننا نجدها في إحصائية وزارة التجارة لحساب الحصص التموينية لعام 2002م إذ يتبين من خلالها أن عددهم حوالي (900.000) علماً أن هذا العدد لا يمكن التلاعب به بالناقص؛ لأنه متعلق بحساب الحصة التموينية الخاصة بكل فرد مع احتمال تزويره بالزيادة، ولا سيما أن أهل الثورة معروفون بإتقانهم لعمليات التزوير، وسوق (مريدي) شاهد حي على ذلك.
فإذا رجعنا بالعدد إلى عام 1996م - وهي الإحصائية التي اعتمدناها في حسابنا في هذا البحث - وأخذنا بالاعتبار وجود نسبة لا بأس بها من أهل السنة في مدينة الثورة، مع احتمال تزوير الرقم بالزيادة وهو احتمال وارد جداً - فإن هذا الرقم (900.000) سيقل كثيراً. ومن الأقوال التي يشيعونها بلا تردد أن نسبة الشيعة في المملكة العربية السعودية 25% وهكذا.
- عدد زوار كربلاء مقارنة بعدد حجاج مكة المكرمة:
الواقع أن التشيع مذهب يقوم على الإشاعة والإعلام. وقد تزعج هذه المقولة الكثيرين رغم أني لا أريد إزعاجهم، ولكن ماذا أفعل إذا كانت هي الحقيقة؟ ولهذا قيل: إن الحقيقة مرة.
وإلى هؤلاء الذين قد ينزعجون أسوق هذا المثل الواقعي الصارخ، فليقرؤوه ثم بعد ذلك سيدرك من يبغي الحق ويطلب الحقيقة من هو الأوْلى بالانزعاج.
في زيارة (الغدير) أو (أربعينية الحسين) يعطي الشيعة أرقاماً مذهلة عن عدد الزوار تصل أحياناً إلى اثني عشر مليوناً (12.000.000) مع أن الشيعة كلهم في العراق لا يصل عددهم إلى عشرة ملايين، والمقل منهم يتواضع لينزل بالعدد إلى أربعة أو خمسة ملايين. وإذا جئنا لنقرأ الحقائق بمنطق العقل والواقع، وأجرينا مقارنة بسيطة بين مدينة مكة المكرمة وبين مدينة كربلاء فإننا نجد أن مكة المكرمة على سعتها وامتدادها وكثرة مبانيها وعماراتها، والأرض الفسيحة التي تمتد في الصحراء المترامية الأطراف حولها، وتطور خدماتها المذهلة، وكونها مدينة عالمية، وهي بمثابة قلب العالم الإسلامي ومهوى أفئدة المؤمنين جميعاً في العالم كله تكاد تختنق بأعداد الحجاج وتحدث ـ نتيجة زحامهم ـ مشاكل كثيرة كل عام وبعضهم يكاد أن يسحق أو يختنق، ولا يمر موسم دون احتمال هذه الحوادث التي قد تصل إلى فقدان الأرواح، ومع هذا كله فإن عدد الحجاج كل عام لا يزيد على مليونين (2.000.000) إلا قليلاً وقد يقل عن ذلك أحياناً؛ فكيف يصدِّق عاقل أن كربلاء تلك المدينة الصغيرة ذات الأزقة الضيقة، والفنادق الصغيرة القليلة، والبنايات المتواضعة، والخدمات البسيطة يستوعب مركزها أربعة ملايين أو أكثر أو أقل؟ علماً أن زوارها طيلة السنين الماضية يقتصر عادة على أهل العراق وعلى الشيعة منهم فقط؛ بينما يقصد الحجاج مكة المكرمة من كل فج وصوب من أكثر من خمسين دولة إسلامية، وعشرات بل مئات الدول الأخرى سنة وشيعة، وهؤلاء جميعاً لا يتجاوز عددهم المليونين إلا قليلاً.
والمزعج في هذا كله أن بعض الشيعة يتجرأ ليفتخر قائلاً: (إن زوار كربلاء هذا العام اكثر من حجاج بيت الله الحرام) علماً أننا بتنا نسمع مثل هذا جهاراً نهاراً في كل عام.
- المنتسبون إلى البيت العلوي:
خذ مثلاً آخر: كثرة المنتسبين إلى البيت العلوي أو من يسمون أنفسهم ويلقبونها بـ (السادة) كم يبلغون عدداً في العراق وإيران فقط؟ إنهم لا يقلون عن خمسة ملايين؛ والآن نسأل كم عدد رجال العرب أيام سيدنا علي رضي الله عنه؟ لا شك أنهم لا يقلون في كل الأحوال عن مائة ألف (100.000) فإذا كانت ذرية واحدة من هؤلاء المائة الألف الذي هو علي ـ رضي الله عنه ـ قد بلغت خمسة ملايين فكم ينبغي أن تبلغ ذرية هؤلاء جميعاً؟
والجواب يتبين علمياً من ضرب خمسة ملايين بمائة ألف.
أتدري كم هو الناتج؟
إنه يعادل عدد سكان العالم اليوم مائة مرة، وعدد سكان الصين الشعبية أربعمائة مرة.
وإذا لم تصدق فتأكد بنفسك من صحة هذه العملية الحسابية:
100.000 * 5.000.000 = 500.000.000.000
هل تعلم أن عدد العرب في العالم كله اليوم لا يزيد على ربع مليار؟ وقس على ذلك!
إذاً لا تنزعج وتلُمْ إن قلت لك: إنك تعيش عالماً من الأوهام، أو عالماً هو عبارة عن خدعة كبيرة رسختها في ذهنك وسائل الإشاعة والإذاعة والإعلام، وأنك في أوهامك لا تختلف عن الصيني والياباني مثلاً وهو يعيش أوهام عقيدته البوذية.
- أخيراً:
نصيحتي إلى إخواننا من الشيعة أن يعوِّدوا أنفسهم تقبُّل الأشياء كما هي، وأن يوطنوها على التعامل مع الحقائق والوقائع كما هي في الواقع، وأن يدركوا الفرق الشاسع بين أن تعيش أمانيك، وحقك في أن تتخيلها كما وكيف تشاء، وبين أن تفرض هذه الأماني والخيالات على الآخرين؛ فإن هذا ليس من حقك، وإن كثيراً مما يزعج هو من حق الآخرين، وإن علينا أن نتقبله ونتعايش معه؛ فإن العالم مليء بالمزعجات والمنغصات.
__________
(*) وهذه سياسة الإعلام النازي على لسان وزير دفاعه (غوبلز) الذي عُرف بسياسة: اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.
(*) يحاول بعض الناس نفي الخلافات الجذرية بين الطائفتين لكن وجودها حقيقة يعرفها العلماء، وكانت محل دراسات وأبحاث كثيرة من علماء السنة. انظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب (الشيعة والسنة) للشيخ إحسان إلهي ظهير وأكدها أحد علماء الشيعة الدكتور موسى الموسوي في كتابه القيم (تصحيح التشيع) وهذا ليس مجاله هذا المقال.(218/25)
المرأة قضية انتخابية
وفاء بنت عبد الله العمر
موقع نووي هناك رغبة جارفة لاختراقه والجدل بكل ما يحيطه، وكلٌّ يرغب في سبقه الصحفي ليعرّف بنفسه.
قضية ساخنة على الدوام.
قضية دائماً في الفرن.
والغريب أن من له شأن ومن ليس له شأن وهم كثر، يتصدى لهذه القضية، والأغرب أنهم يتحدثون فيما لا يفهمون بعيدين عن اللب، يناقشون هموم المرأة، ويتحدثون عن هويتها المفقودة، يختلفون ويعلو الصياح والنقاش، وتتصدر العناوين مقالات كتَّاب كرام، وقُرّاء كِرام، يناقشون قضايا لأغراض انتخابية كما يُقال، لذا يتم اختيار ما يرونه القضية الأبرز رغم كونها قضية فرعية ليس لسبب سوى أنها القضية التي تشهر صاحبها، وتجعل من عملية الاستفزاز في كثير من الأحيان كشافاً يسلَّط على صاحب القلم وليس صاحب القضية.
وأنا امرأة وصاحبة شأن وأجدهم ليس لهم شأن، ويتناقشون في أمر ليس ذي شأن، ناقشوا قيادة المرأة للسيارة في مجالس خاصة ثم عامة ثم في مجلس الشورى، ناقشوا دخول المرأة للمطاعم دون محرم.
ومنذ الأجداد وهم يناقشون ويتحدثون عن واجباتها، وتخفت الأصوات كثيراً عند الحديث عن حقوقها، هذا داخل البلاد.
أما خارجها فكلهم ليس لهم شأن، تبرعوا بالحديث عن تحرير المرأة.
تحريرها ممن؟ لا أعلم.
لو حلّت قضيتهم الأساسية وقادت المرأة في بلادنا السيارة وسمح لها أن تجوب الأماكن العامة ودخول الأماكن المغلقة بلا ضوابط تحقيقاً للهوية كانت الضائعة فهل ستتحرر المرأة حقاً؟
وما هو تحريرها؟ هل هو مشابه لتحرير المرأة في (ميدان التحرير) على يد هدى شعراوي (1) وثلّة أرادت أن تناهض الاستعمار الإنجليزي بحرق الحجاب بعد وضعه تحت الأقدام؟ وبعدها تجاوباً لمناهضة الاستعمار قام الإنجليز أثناء وجودهم في مصر بترجمة كتاب (تحرير المرأة) لقاسم أمين إلى الإنجليزية ونشروه في الهند والمستعمرات الإسلامية. أم هو بقاء المرأة زوجة كادحة لا تأتي بيتها إلا كآلة مرهقة لتشارك الرجل في دفع أقساط السيارة، وشراء الخضار من أسواقها، وإيصال الأبناء إلى المدارس، و.... و.... و.... إثباتاً للهوية المفقودة؟
أم المطلوب أن تشارك الرجل مساواة له في أماكن العمل حتى تصبح نموذجاً لحرية المرأة، فتصبح هدفاً لهذا وأداة لذاك؛ متعرضة للتحرش في موقع تجاور فيه الرجل في عمل يناسب التحرير؟
لا أعلم: هل الرؤيا ضعيفة، أم للأمر غاية ضبابية؟
هل يرى الآخرون ما لا يراه المتصدرون لقضاياهم وليست قضايانا؟
هل ترى تلك القاضية السويدية (بريجيد أولف هامر) التي أعدت دراسة عن مشكلات المرأة العربية، أعدتها بتكليف من الأمم المتحدة، والتي أكدت فيها بتعجب أن المرأة الشرقية في قطاعات كثيرة وبارزة في البلاد العربية أكثر حرية من المرأة السويدية، وذكرت جملة رائعة: «المرأة العربية تمارس وضعاً ينتمي إلى القداسة لا إلى العبودية» .
ثم تتابع هذه القاضية ما استخلصته من خلال دراستها فتقول: «أما المرأة السويدية فقد ذاقت الأمرّين لكي تنال حريتها ومساواتها بالرجل، ولم يتحقق لها ما تريد إلا بعد أن جرّدتها قوانين بلادها من صفاتها الطبيعية وحريتها الأنثوية لتجعل منها كائناً أقرب إلى رجل» (2) .
هل قيادة المرأة للسيارة ودخولها المطاعم بدون محرم؟ وقضية الحجاب: هل الإسلام سنَّه أسود أم أخضر؟ (كأنهم يجهلون أنه ستر وعبادة) و.... و.... و.... و.....
هل هذا ما سيحرر المرأة؟
إنهم يختلفون ويناقشون وينظِّرون، وحتماً شاركت ثلّة من النساء، هي من وجهة نظرهم أساسية ورئيسية، وهي تمثل فئة، محدودة.
ألا أُخِذ رأي من في الميدان؟
هل طرحتم بجرأة مشكلات المرأة الاجتماعية؟
هل تمت دراسة مشاكل النساء على مقعد الدراسة وفي الجامعة؟
وهل ناقشتم ماذا يحل بآلاف البنات اللاتي لم يجدن مقعداً في الجامعة؟
هل بحثتم لهن عن فرص لاستثمار طاقاتهن حتى لو كان انطلاقهن من منازلهن، وفُتحت لهن أبواب العمل وهن في بيوتهن؟
هل ناقشتم الظلم الواقع على المطلقة المحرومة من أبنائها ليس بحكم الشرع ولكن بجهل قاضٍ بعيد عن الواقع، وقانون حدوده جدران المحكمة؟
هل يحكم لها بنفقة وتُصرف لها فعلياً بحاجتها الفعلية بدل تحديدها؟
هل درستم حالات كون المرأة أحياناً معلقة قبل الطلاق عشرات السنين يعلقها بعلها ليتزوج هو وينجب أبناء وهي معلقة في منزل أهلها؟ هل نوقش تقاعد المرأة وحقوقها المادية في ديوان الخدمة المدنية وما يضمن لورثتها حياة كريمة بعد أن حسم من راتبها ما حُسم كتقاعد؟
هل فَقِهَ الرجال كيفية الحفاظ على حرية المرأة وهويتها، وأن لها حقوقاً يجب أن تصان؟ كم تلك الخطب التي صيغت بأكملها لتوضيح قول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» ، «وإن النساء شقائق الرجال» ولتوضيح معنى هذه العبارة بدقة! وهل فَقِهَ الرجال الذين يتبرعون لنقاش قضايا النساء حرمةَ أموالهن وأنه ليس مشاعاً بحيث يؤخذ منها برضا أو بغصب؛ لأنها ولدت حرة ولم تُسترقّ بزواجها ووجودها في بيت زوجها، بل حريتها الحقيقية تبدأ منذ أن تصبح ملكة في أسرتها معززة مكرمة؟
كم مرة نوقشت القوامة على صفحات الصحف أو في البرامج المباشرة وفي خطب الجمعة!
كم مرة وُضِّحَ معنى القوامة أنه ليس الاستعباد وأن القوامة تسقط بعدم إنفاق الزوج على الزوجة!
هل حلّ تحرير المرأة بالمفهوم الغربي مشكلاتها في مجتمعها الذي منحها الهوية؟
ما زالت بعض النساء يعانين ويلجأن للمحاكم من أجل كسب حضانة الابن أو الابنة، وقد تنصفهن المحاكم الوضعية لديهن في نهاية الأمر بعد سنوات واستنزاف مادي.
وما زالت المرأة تلجأ إلى ملاجئ أهلية أسستها النساء في الغرب هروباً من العنف الزوجي والضرب إلى حدِّ العاهة والتشويه.
وما زالت تعاني من تحرش الرجال بها في مقر العمل وامتهان كرامتها.
وما زالت تعاني من أجل لقمة العيش وتمتهن مهناً لا تليق بـ (شقائق الرجال) .
أتعلمون أن المرأة في صدر الإسلام كانت تمارس حرية لا تمارسها الآن ولا تمارسها أي امرأة في أي مجتمع معاصر؟
- فقد بايعت النساء الرسول -صلى الله عليه وسلم - ولم يكتفِ ببيعة الرجال له (1) .
- كانت في مقام يؤخذ لها رأي، ويؤخذ من حكمتها، ولم يتنطع بعضهم في المجالس بنقصان عقلها ودينها دون فهم للبِّ الحديث وأبعاده.
ألم تحلّ أم سلمة بجزالة رأيها معضلةً أرّقت الرسول -صلى الله عليه وسلم - في قصة الحديبية، عندما أشارت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالخروج والنحر والحلق ليقتدي به الصحابة على الفور؟ وهذا ما حصل.
- هل بُتّ في قضاياها وكأنها طرفٌ غير مكلف؟
بل كان لها الشأن الأعلى والحرية المسؤولة. ألم يقل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على المنبر: «لا تغلو في صدقات النساء!» يريد بذلك تحديد مهور النساء، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر! يعطينا الله وتحرمنا؟ أليس الله ـ سبحانه ـ يقول: {وَإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 20] ، فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر (2) ؟
- ألم تكن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أم المؤمنين مرجعاً للصحابة؛ حيث كان أكابرهم ـ رضي الله عنهم ـ يسألونها عن الفرائض؟ فعن عطاء بن رباح قال: «كانت عائشة أفقه النساء وأعلم النساء وأحسن الناس رأياً في العامة» .
لم يقل عن عائشة إنها امرأة ناقصة عقل ودين في هذا الشأن رغم أنها كانت تملك مشاعر امرأة وعواطفها بكل معانيها؛ فقد استقلت بالفتوى زمن أبي بكر وعمر وعثمان إلى أن ماتت رضي الله عنها.
تلك الحريات الحقيقية وتلك الهوية، إن كان هناك من نقاش وإن كان هناك نوايا صادقة نحوها لإثبات الهوية كما يقولون فإننا نريدها هوية الصحابية التي مارست حرية حقيقية، فشاركت في البيعة، وشاركت في الجهاد، وشاركت في نشر العلم، وكان رأيها في قضيتها هو الأوْلى، لا نريد سوى تلك الحرية وتلك الهوية.
فهل يكفّ أدعياء نصرة المرأة عن دعواهم المغرضة؟ وهل تفطن أخواتي النساء إلى حقيقة تلك الدعاوى والمزايدات المكشوفة حتى لا يضللن عن الحقيقة؟
__________
(1) حتى تعرف أخي القارئ حقيقة تلك المرأة فاقرأ تاريخها ومنطلقاتها في الكتاب القيم (عودة الحجاب) ج 1 للشيخ الدكتور محمد بن إسماعيل المقدم، وستجد أيضاً حقيقة معركة (تحرير المرأة) في كتاب قاسم أمين، وما احتواه من تضليل بدعوى نصرة المرأة، وفي الحقيقة سترى استعبادها من قِبَل القوانين الغربية.
(2) لمعرفة المزيد من أحوال المرأة الغربية المستعبَدة من قِبَل الرجل في الغرب انظر على سبيل المثال كتاب (أهداف الأسرة في الإسلام) د. حسين محمد يوسف من مطبوعات (دار الإصلاح) في الدمام، والاعتصام في مصر.
(1) بيعة النساء. انظر البخاري في مناقب الأنصار، ومسلم في الحدود، وتهذيب سيرة ابن كثير للأستاذ مروان كجك.
(2) هذه قصة مشهورة لكن فيها مقال لعلماء الجرح والتعديل، انظر (الرسائل الثلاث) للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله.(218/26)
الأجرام السماوية وإبداع الخالق
خالد رستم
قال الله ـ تعالى ـ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38 ـ 40] .
إن الله أحسن خلق الشمس؛ وذلك لتؤدِّي وظيفتها في إمداد الحياة بالطاقة الضوئية والحرارية، ولكنه خلقها بحيث تجري إلى غايتها في مدار محدود، لا تصطدم بكوكب آخر، ولا تقترب من الأرض قُرْباً يحرق أحياءها، ولا تبعد عنها بُعْداً يحرمها الحرارة اللازمة للحياة فيها.
دعا الله الناس إلى إطالة النظر في جميع ما في الكون من مخلوقات ظاهرة وخفية، والتفكير في حقائقها وغاياتها، والتأمل في النظام الدقيق الذي وُضع من أجلها؛ فكل ذلك مما يدل دلالة قاطعة على وجود خالق عظيم لها، اتصف بالقدرة الكاملة على الخلق والإبداع، فلم يشكّ في هذا عاقل.
ذلك أن نظرة فاحصة في هذه الأشجار والزروع ودقّة مواعيد زرعها وحصادها وتساقط ورقها وعودتها في الوقت المقرر تدلُّ دلالة قاطعة على أن الخالق الأعظم لها إنما يعمل ذلك بحكمة ونظام عجيب ولغاية سامية.
فإذا نظرنا في بناء هذا الكون العجيب رأينا في تناسق أجزائه بعضها مع بعض وتطابق ذرَّاته الدقيقة ومجموع وظائفه وغاياته التي تؤدي إلى تحقيق غاية سامية؛ دليلاً على الخالق المبدع. فالأرض ووزنها الذي يمدُّها بجاذبية مقدرة ومعينة تمكِّن الإنسان من العيش عليها بشكل منتظم، والسماء وما فيها من شموس وكواكب، والنفس البشرية والجسم الإنساني ومراحل خلقه وتركيبه؛ تثبت ـ بجلاء ـ يدَ الله المبدعة في خلق هذا الكون وتنظيمه وما فيه من سماء وأرض وإنسان وحيوان وماء ... قال ـ تعالى ـ: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] . وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 11] .
إن معرفة الله معرفة حقيقية هي أساس الإيمان، ويتوقف عليها معرفة حقيقة أنفسنا، باعتباره الخالق لنا، ومصدر جميع القوى الموجودة فينا، لندرك مبلغ صلتنا به، ونأخذ عنه ما يُصلح أحوالنا ويحقق لنا أمانينا، وهذا هو أهم ما يعنينا؛ إذ هو الحجر الأساس الذي يقوم عليه بحثنا، والمادة الفعَّالة لما نصفه من علاج لدائنا، والسبيل الوحيد لسعادتنا وبلوغ آمالنا.
إذاً فلننظر إلى هذا الكون لنرى أن كل ما فيه يسير وفق نظام محكم، وبحسب قوانين دقيقة ونسب محدودة، كلها تسعى لتحقيق هدف واحد سامٍٍ، ألا وهو استقرار الكون واستمرار الحياة فيه، والعقل ينفي مطلقاً أن يكون ذلك قد حصل بطريق المصادفة.
قال الله ـ تعالى ـ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] . وقال ـ تعالى ـ: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] .
فكل إنسان في أي عصر يستطيع بتأمُّله وإدراكه الفطري أن يشهد ـ على قدر حاله ـ أن كل شيء في الكون قد خُلق بحساب ومقدار، وجاء العلم الحديث بكشوفه ووسائله فأماط اللِّثام عن الحكمة البالغة والأسرار العجيبة وراء ما بين المخلوقات من مقادير وحدود وضوابط وموازنات.
- النظام الكوني:
إن في الفضاء الفسيح الذي لا نعرف له حدوداً ملايين الملايين من النجوم السابحة في أجوائه، وبعض هذه النجوم أكبر من الشمس بآلاف المرات وملايينها، كالشِّعرى التي هي أثقل من الشمس بعشرين مرة، ونورها ضعف نور الشمس بخمسين مرة، وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرة.
ويقول الفلكيون: إن من هذه النجوم والكواكب ـ التي تزيد على عدَّة بلايين ـ نجماً لا يمكن رؤيته بالعين المجرَّدة، ولا يُرى إلا بالمجاهر والأجهزة. ولا يمكن أن تحسَّ به الأجهزة دون أن تراه. هذه كلها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم آخر ويصطدم بكوكب آخر.
ومع هذا التباعد بين كل نجم وآخر فقد وُضع كل نجم في مكانه؛ بحيث يتَّسق في آثاره وتأثيراته مع سائر النجوم والكواكب، وتؤدي جميعها مهمَّتها المنوطة بها في بناء الكون وسير حركته.
ولنأخذ الشمس والقمر والأرض وما بينها من علاقات مَثَلاً لهذا التقدير المحكم الدقيق، الذي كان من آثاره ظهورُ الحياة الإنسانية على الأرض واستمرارها إلى اليوم.
- والشمس تجري لمستقرّ ...
إن هذه الشمس هي الوحيدة بين آلاف النجوم التي تصلح لجعل الحياة على الأرض ممكنة، وإن حجمها وكثافتها ودرجة حرارتها وطبيعة أشعتها ودرجة بُعْدها عنا؛ كل ذلك لازم لقيام حياتنا على كوكبنا الذي هو الأرض.
يقول العلاّمة (أ. ك موربون) : تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل (24) ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة، والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة ميل فقط في الساعة. ولِمَ لا؟ عندئذ يكون نهارنا وليلنا أطول مما هو الآن عشر مرات؛ ففي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار، وفي الليل قد يتجمَّد كل نبتٍ في الأرض.
إن الشمس ـ التي هي مصدر كل حياة ـ تبلغ درجة حرارة سطحها (12000) درجة فارنهايت، وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى الحدِّ الذي يكفي أن تمدّنا هذه النار الهائلة بالدفء الكافي، لا بأكثر منه، وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب، وكان تغيرها خلال ملايين السنين من القلّة بحيث أمكن استمرار الحياة كما عرفناها.
ولو أن درجة الحرارة على الكرة الأرضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة؛ فإن كل نبتٍ يموت ويموت معه الإنسان حرقاً أو تجمُّداً.
والكرة الأرضية تدور حول الشمس بمعدل (18) ميلاً في الثانية، ولو أن معدل دورانها كان (6) أميال أو (40) ميلاً في الثانية فإن بُعْدنا عن الشمس أو قُرْبنا منها يكون بحيث يمتنع معه نوع حياتنا.
والنجوم كما نعلم تختلف في الحجم، واحدها يبلغ من الضخامة حدّاً لو كان شمسَنا لكان محور الكرة الأرضية داخلاً في سطحه لمسافة ملايين الأميال.
والنجوم كذلك تختلف في طراز إشعاعها، وكثير من أشعتها يُميت كل نوع معروف من أنواع الحياة، وتتراوح كثافة هذا الإشعاع وحجمه بين ما هو أقل من إشعاع شمسنا وما هو أكثر منه عشرة آلاف مرة.
ولو أن شمسنا أعطت نصف إشعاعها الحالي فقط لكنَّا تجمَّدنا، ولو أنّها زادته بمقدار النصف لأصبحنا رماداً من زمن بعيد (1) .
ومن ذلك نجد أن شمسنا هي الصالحة لحياتنا من بين ملايين الشموس غير الصالحة لهذه الحياة.
- منازل القمر:
ويبعد القمر عنا مسافة (240000) ميل، ويذكِّر المدُّ الذي يحدث مرتين تذكيراً لطيفاً بوجود القمر، والمدُّ الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدماً في بعض الأماكن، بل إن قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدَّة بوصات بسبب جاذبية القمر، ويبدو لنا كل شيء منتظماً، لدرجة أننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مساحة المحيط كلها عدَّة أقدام، وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية.
والمريخ له قمر، قمر صغير لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال، ولو كان قمرنا يبعد عنا (50000) ميل مثلاً بدلاً من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنها فعلاً، فإن المدَّ كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تُغمَر مرتين في اليوم بماء متدفق، يزيح بقوته الجبالَ نفسها، وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة، وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب، وكان المدُّ الذي في الهواء يُحدث أعاصير كل يوم.
قال سبنسر سائلاً نفسه: ما هي القوة التي يتحتَّم بقاؤها؟ أهي القوة التي تؤثر في عضلاتنا، والتي تشعر بها حواسنا؟ كلاَّ! بل هي تلك القوة المطلقة المجهولة المستقرة وراء الصور والمشاهدات، ونحن مع عدم إمكاننا أن ندركها، فإننا نتأكد من أنها أبدية، لم تتغير ولن تتغير، وكل شيء زائل، أما هي فباقية أبد الآبدين، وهي علة العلل (1) .
قال الله ـ تعالى ـ: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12 - 13] . وقال ـ تعالى ـ: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21] .
- الغلاف الغازي.... وأثره على الأرض:
ولو تركنا الكواكب والنجوم وعلاقتها بالأرض لوجدنا العلم يقول: إن الهواء المكوَّن من الأوكسجين والنتروجين على الأخص لا يزيد على جزء من مليون من كتلة الكرة الأرضية. وكان يمكن أن تمتصَّه الأرض في فترة تكوينها، وفق النظرية السائدة الآن، وكان يمكن أن يكون بنسبة أكبر بكثير مما هو عليه. وفي كلتا الحالتين لم يكن وجود الإنسان على ظهر الأرض ممكناً.
إن سُمك الهواء أو كثافته أمر مقصود ومقدر أيضاً؛ فلو كان أرقَّ وأرفع كثيراً مما هو عليه الآن، لكانت بعض الشهب ـ التي تحترق الآن يومياً بالملايين في الهواء الخارجي ـ تضرب في جميع أجزاء الكرة الأرضية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق، أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل ـ يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة ـ كان سيمزِّقه إرباً إرباً من مجرد حرارة مروره.
إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيماوي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلا إذا عرَّض نفسه لها مدة أطول من اللازم (2) .
وإذا نظرنا إلى الغازات التي نتنسّمها فسنجد الأوكسجين هو نسمة الحياة لكل الكائنات الحيوانية فوق الأرض، ومنها الإنسان، ولا يستطاع الحصول على هذا الغاز إلا من الهواء، وتُحدَّد نسبة الأوكسجين في الهواء عادة بـ (21) بالمائة، ولو زادت هذه النسبة إلى (50) بالمائة مثلاً أو أكثر فماذا كان يحدث؟ (2) يقول العلم: إن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بدَّ أن تلهب الغابة كلها، حتى لتكاد تنفجر. ومن المعلوم أن كل الكائنات الحيوانية تمتص الأوكسجين وتطلق ثاني أوكسيد الكربون، أما النباتات فهي على العكس، تستعمل ثاني أوكسيد الكربون وتلفظ الأوكسجين نهاراً، وفي الليل عكس ذلك. فهناك تبادل مشترك بين الإنسان والحيوان من جانب؛ وبين جميع النباتات والغابات من جانب آخر؛ فما نطرده نحن تنتفع به هي، وما تطلقه هي نتنسَّمه نحن، وبدونه تنتهي حياتنا بعد خمس دقائق. فلو لم تكن هذه المقايضة قائمة لما استمرت الحياة إلى اليوم. لو كانت الحياة كلها حيوانية لكانت الآن قد استنفدت كل الأوكسجين، ولو كانت نباتية لكانت نهاية الحياة؛ فإنه متى انقلب التوازن تماماً ذوى النبات أو مات الإنسان فيلحق به الآخر وشيكاً.
- مظاهر التوازن والتقدير:
فإذا تركنا عالم الغازات ونزلنا إلى عالم النبات والحشرات، رأينا مظاهر شتَّى لهذا التوازن والتقدير، وكذلك إذا تركنا عالم النباتات والحيوانات وذهبنا إلى الجسم الإنساني نتأمل في أعضائه وأجهزته وخلاياه، وما بينها من تضامن وتعاون ومن تناسق وتوازن لأدركنا من دقَّة التقدير وإحكام التدبير ما لا ينقضي منه العجب. وحسبنا أن نعرف من هذه الأجهزة جهازَ الغدد الصماء التي عاش الإنسان آلاف السنين قبل أن يعرف وظائفها؛ فقد بيَّن العلم أنها معامل كيماوية صغيرة في الجسم، تمدُّه بالتركيبات الكيماوية الضرورية له ضرورةً مطلقة وتؤثِّر في وجوه نشاطه، والتي يبلغ من قوتها أن جزءاً من بليون منها تُحدث آثاراً بعيدة المدى في جسم الإنسان، كما بيَّن العلم أنها مرتبة، ينظِّم كل منها غيرها ويضبطه ويوازنه، وإن إفراز كل غُدَّة يكمل إفراز الأخرى.
وهذا ما أكَّده الأستاذ العلاَّمة (أ. ك. موروبن) حين قال: ومن المتفق عليه أنه إذا اختلَّ توازن الإفرازات المعقَّدة تعقيداً مدهشاً، فإنها تُحدث اختلالاً ذهنياً وجسمانياً بالغ الخطر، لو عمَّت هذه الكارثة لاندثرت المدينة، وانحطَّت البشرية إلى حالة الحيوانات، هذا إذا بقيت على قيد الحياة.
تُرى كيف تحقق كل هذا التقدير؟ وكيف تمَّ كل هذا التدبير إذا لم يكن هناك خالق أعلى يقدِّر فيحسن التقدير، ويدبر فيحكم التدبير؟!
إن كل ما في العالم من مخلوقات قد أُتقن صنعه إتقاناً بديعاً، وهو يسير وفق قواعد عامة ثابتة لا يمكن خرقها، ونظام عجيب لا سبيل إلى تغييره أو تبديله، بما في ذلك هذا الكوكب الأرضي الذي نعيش عليه، وما يحيط به من الكواكب السيَّارة والنجوم المضيئة في ملكوت الرحمن، جلَّت قدرة الخالق {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61 - 62] .
__________
(*) رئيس اتحاد الصحفيين بحلب، سورية، حلب فرع اتحاد الصحفيين ص. ب 11230، ala_rostom@hotmail.com
(1) من دراسة بعنوان ـ وجود الله ـ للأستاذ يوسف القرضاوي ـ مجلة حضارة الإسلام ـ العدد الخامس ـ سورية 1968.
(1) عبد الحميد الخطيب ـ مستقبلك في يدك ـ مطبعة الترقي بدمشق ـ 1956.
(2) كتاب: العلم يدعو إلى الإيمان ـ الفصل الثالث ـ الغازات التي نتنفّسها.
(3) المصدر السابق.(218/27)
تل أبيت أم (تل حبيب) ؟
يحيى أبو زكريا
تتنافس القيادات العربية الرسمية التي عجزت عن إذابة الخلافات فيما بينها، على الجهر بحبّها العذري والفاحش للدولة العبريّة التي لم تتغيّر قيد أنملة، وما زالت محافظة قلباً وقالباً على ثوابتها كما هو الحال في متغيراتها.
وبدأ الرسميون الصهاينة يكشفون عن العلاقات السرية بينهم وبين مجمل العواصم العربية التي كانت تكذب على شعوبها صباحَ مساءَ، وتخفي على شعوبها حقيقة هذه العلاقات القائمة والفاعلة في كل الاتجاهات، وهنا يسجّل الكيان الصهيوني لحسابه بعض النقاط على الأنظمة العربية؛ ففي الوقت الذي يبلّغ فيه هذا الكيان شعبه اليهودي بحركته الدبلوماسية الاتجاه نحو العواصم العربية، فإنّ هذه الأخيرة تخفي عن شعوبها ليس هذه المعلومات فحسب، بل تخفي عنه كل شيء، وتعتبر أنّ الحديث عن هذا الأمر يندرج في سياق الأمن القومي.
وتتصوّر بعض تلك القيادات العربية الآيلة إلى السقوط أنّ الشعوب العربيّة لا تعرف شيئاً عن هذه العلاقات السرية والودية بين الكيان الصهيوني وهذه القيادات التي رفعت من سقف ودّها لهذا الكيان.
والتطوّر البسيط الذي حدث في مشهد العلاقات العربية ـ العبريّة هو أنّ المصافحات والقُبَل واللقاءات السريّة باتت تتمّ في العلن وقبالة مصوِّرات (الديجيتال) الرقمية الدقيقة والتي لا تبقي مجالاً للشكّ في أنّ هذا المسؤول العربي وذاك وهو يبتسم للمسؤول الإسرائيلي أنه يفعل ذلك من أعماق قلبه، ونخاعه وكأنّه بذلك قد حقق نصراً لسياسة بلاده على الصعيد الدولي، كيف لا؛ والرضا الأمريكي يُحاز عليه من بوابة تل أبيب التي أصبحت وبعد الإصرار العربي الرسمي على التطبيع مع الكيان الصهيوني (تل حبيب) ؟
وقد زايد بعض الرسميين العرب كالعقيد معمّر القذافي على هذه القيادات العربية بقرب قيامه بزيارة مفاجئة إلى تل أبيب معيداً إلى الأذهان ما قام به ذات يوم الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات الذي ما فتئ القذافي يلعنه، واستبدل اسم القاهرة بالمقهورة بعد تلك الزيارة المشؤومة.
ويبدو أنّ القذافي مصاب بداء التطرف والمزايدة فيما يُقْدِم عليه؛ فالرجل الذي كان متعصباً لعروبته ثمّ لإفريقيته ارتدّ عن كل ذلك ليتطرّف ويغالي في إبراز حبه للكيان الصهيوني.
وإذا كان الشرط الأمريكي للبقاء في السلطة والحصول على تأشيرة الحكم والتسلط هو التطبيع مع الكيان الصهيوني، فلْتُرْجَم المبادئ، ولْيُدَسْ على رقاب الناس، ولْتذهب القضية الفلسطينية إلى الجحيم!
إنّ حالة العري السياسي التي باتت أهمّ ميزة تلك القيادات السياسية الرسمية، والتراجع عن كل المبادئ والقيم والمنطلقات السياسية، والارتماء في أحضان الكيان الصهيوني بلا ثمن لن تفضي إلى تماسك هذه القيادات وبقائها في السلطة كما تخطط لذلك، بل على العكس من ذلك ستتسع الفجوة بينها وبين شعوبها وهي المقدمة الأساس باتجاه السقوط.
لقد مدّ العرب ـ الرسميون طبعاً ـ جسور التواصل مع الكيان الصهيوني؛ فرئيس وزراء الكيان الصهيوني (آرييل شارون) جزّار صبرا وشاتيلا بل جزار المخيمات في الأراضي المحتلة بات مرحباً به في عموم المغرب والمشرق العربيين، و (شالوم) وزير خارجيته لكثرة لقاءاته بالمسؤولين العرب من المغرب العربي ومشرقه وخليجه بات يتقن اللغة العربية، وهو يدعو كل الرسميين العرب الذين التقاهم أن يعلنوا عن ولائهم وحبهم وتشبثهم بعلاقة قوية مع الكيان الصهيوني.
والعجيب أنّ الذين كانوا يخطبون بصوت جهور، ويطالبون بإنصاف الشعب الفلسطيني كانوا ينافقون، وربما يكون النفاق السياسي والغدر بالشعوب هو أبسط وأقلّ ما يمكن إلصاقه بهذه القيادات العربية.
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو: لماذا هذه الهرولة الآن باتجاه الكيان الصهيوني والتعري المباشر أمام الشعوب؟
مبدئياً تجب الإشارة إلى أنّ الرسميين العرب الذين كانوا يزورون واشنطن كانوا يسمعون توجيهاً واضحاً من الرئيس الأمريكي جورج بوش الصغير مفاده ضرورة التنسيق والتعاون مع الكيان الصهيوني، وكانت الدول العربية المطبّعة والعريقة في التطبيع والتي أفادت ماديّاً من تطبيعها بحصولها على مساعدات إضافية من الإدارة الأمريكية كانت تلبي على الفور، وفي اليوم التالي كانت تبعث أحد كبرائها إلى (تل أبيب) أو (تل حبيب) للبرهنة على التنفيذ الفوري للرغبة الأمريكية باعتبار أنّ الرغبة الأمريكية أمر واجب التنفيذ، وخصوصاً أنّ هذه الدول العربية المطبعة ضليعة في فهم مفردات ودلالات الفقه الأمريكي فيما يجب ولا يجب أمريكياً إلى درجة أنّ بعض هذه العواصم وقبل أن تدلي واشنطن بتصريح معيّن تتنبأ بذلك وتلتزم بالأمر الأمريكي قبل صدوره.
أما الدول المطبعة في السر والمناضلة في العلن، فتطلب بل تترجى من واشنطن أن لا تحرجها أمام الشعوب لأنّ الموضوع حسّاس ويتطلب بعض الكذب الإضافي على هذه الشعوب. أما الدول غير المطبعة لا في الجهر ولا في السرّ وهي قليلة ونادرة فالرسالة الوحيدة التي تتلقاها من واشنطن هي ضرورة التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل الاحتفاظ بالسلطة.
غير أنّه ومع الهيجان الأمريكي بدأت الدول العربية تتخلى عن بعض الاعتراضات، وتلتزم قولاً وفعلاً بالرغبة الأمريكية في ضرورة إعلان عرس التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ومن باب إرضاء واشنطن والحصول على تزكيتها، ومن ثم تأشيرتها للبقاء في الحكم، زادت الدول العربية المطبِّعة من تطبيعها، ورفعت سقف التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى الحدود القصوى، وخرجت الدول المطبعة في السرّ عن صمتها وأعلنت أنّ الوصال قائم بينها وبين الكيان الصهيوني، وأعلنت ترحيبها بـ (شارون) والسفارات والممثليات التجارية العبرية في العواصم العربية.
والدول المقاطعة وبعد أن تعلمت الكثير من المشهد العراقي وسقوط نظام صدام حسين أعلنت ترحيبها بالحركة الصهيونية في الجوار العربي، بل في الخارطة العربية، إذا كان ذلك سيجلب العز، وزيارة القذافي المرتقبة إلى (تل أبيب) ستكون البداية لزيارات عدة لرؤساء دول عربية طالما رددوا: لن نخذل فلسطين.
لقد تسنى لي أن أقابل السيدة (حنان عشراوي) في العاصمة السويدية ستوكهولم، فقلت لها: يا أستاذة! أنت جئت إلى الغرب للبحث عن دعمٍ للقضية الفلسطينية؛ فالأوْلى أن تعيدي تذكير الرسميين العرب بالقضية الفلسطينية وأن يدرجوها في أجندتهم من جديد.
لكن يبدو أنّ هذه النصيحة قد انتهى مفعولها مع بداية حجّ بعض الرؤساء العرب إلى (تل حبيب) حيث سيحصلون فيها على التزكية السياسية التي تجعل واشنطن تغضّ الطرف عن ظلمهم لشعوبهم، ووأدهم لحقوق الناس، وسرقتهم لموارد الأرض العربية ظاهرها وباطنها.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(218/28)
219 - ذو القعدة - 1426 هـ
(السنة: 20)(219/)
حقاً إن ممارساتهم منسجمة مع قيمهم
علق المتحدث باسم البيت الأبيض الأمريكي (سكوت ماكليلان) على ما يثار حالياً في وسائل الإعلام من مخالفة الحكومة الأمريكية للقوانين واعتدائها على حقوق الإنسان، باعتماد التعذيب وسيلة لمعاقبة المتهمين بالإرهاب، أو انتزاع الاعترافات منهم، فقال: «ممارساتنا منسجمة مع قيمنا» ، في محاولة ساذجة منه لنفي وقائع التعذيب، على أساس أن القيم الأمريكية لا تسمح بتعذيب الإنسان. ولسنا في حاجة للتذكير بوقائع التعذيب الثابتة والمسجلة في أكثر من وسيط من وسائط المعلومات؛ لأن هذه الوقائع ما زالت بتفصيلاتها ماثلة أمام نواظر من تابعوها، وهي وقائع كثيرة ومتعددة وفي أماكن مختلفة من أنحاء العالم: في سجن أبي غريب في العراق، وفي خليج جوانتانامو في كوبا، وفي سجن باغرام في أفغانستان؛ ناهيك عن السجون السرية التي كُشِفَ عنها مؤخراً والتي لا يعلم أحد عما يدور فيها غير هؤلاء الشياطين، وهي بلا شك أسوأ حالاً من تلك التي نعرف، ولا زال يتكشف اليوم ما كان مخبوءاً بالأمس وهكذا (1) . وتحاول أمريكا في سبيل تحسين صورتها في عيون العالم أن تدعي أن ذلك لم يكن إلا مسلكاً معزولاً سلكه بعض الجنود، ولا يمثل سياسة عامة أو وجه أمريكا الحضاري، ولعل هذا ما دعا أغلبية مجلس الشيوخ إلى اقتراح صيغة قرار يدعو إلى النص صراحة على منع التعذيب في كل صوره وأشكاله، ليُعرض على مجلس النواب لإقراره، لكن الغريب في الأمر أن الإدارة الأمريكية التي تزعم أن التعذيب ليس نهجاً عاماً لها، لم تُبْدِ ارتياحاً لهذا الاقتراح، وبينت أنه في حالة موافقة مجلس النواب عليه، فإنها سوف تستخدم حق النقض (الفيتو) لمنع هذا القانون، وبذلك يتبين أن التعذيب سياسة ومنهج، وليس خطأ فرد أو مجموعة؛ إنه يمثل سياسة دولة بوجهها الحضاري الزائف، مما يشهد أن قيمهم لا تمنع من التعذيب. إن دعوة أمريكا إلى نشر الحرية وحقوق الإنسان والإصلاح ليس إلا مفردات لفظية لسياسة النفاق التي ظلت تمارسها آماداً بعيدة. حقاً إن ممارساتهم منسجمة مع قيمهم.
__________
(1) أثناء إعداد المجلة للطبع اعترف المتحدث باسم البنتاجون باستخدام الفوسفور الأبيض ـ وهو سلاح كيماوي ـ في عدوانه على المقاومة في الفلوجة، كما اعترف باستخدامه أيضاً المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء البريطاني ولربما تكشف الأيام القادمة عما هو أفدح من ذلك.(219/1)
اللهم أرنا الحق حقاً..!
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فعندما نُكبت الأمة منذ نحو ربع قرن، بغزو الروس الشيوعيين لأرض أفغانستان المسلمة، تداعى المسلمون في أنحاء العالم الإسلامي بكل شرائحه وطوائفه لنجدة الشعب الأفغاني والوقوف معه بالمستطاع من الجهد والمال والرجال، حتى يستطيع أن يرد ذلك الاجتياح الذي كان ـ على ما ظهر ـ مقدمة لاجتياحات إمبراطورية أخرى، كان يتطلع من خلالها الروس أن يصلوا إلى نفط الشرق الأوسط، ومن ثم سَبْق الولايات المتحدة إليه.
وللحقيقة فإن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في تسعير ذلك الحرب ضد غريمها العنيد ـ الاتحاد السوفييتي السابق ـ لا لمشروعية هذه الحرب وبسالتها ضد العدوان، بل كان ذلك استغلالاً وانتهازية لفرصة تاريخية، يمكن للولايات المتحدة أن تتمكن فيها من صد عدوها من وراء أرواح ودماء وأموال المسلمين.
وقد حدث ما حدث من انكسار العدو الروسي وانتصار الجهاد الأفغاني الذي أجمع علماء الأمة وقتها على مشروعيته ووجوبه، مع اختلاف فقط في كون ذلك الوجوب وجوباً عينياً أم كفائياً.
وقد عُلم من وقتها أن الحرب ضد الروس في أفغانستان، والتي نزلت فيها الولايات المتحدة بثقلها بطرق مباشرة وغير مباشرة، تمكنت أمريكا فيها من حشد حلفائها من الدول لتأييدها في قهر روسيا، وقد سَهَّل هذا كثيراً مهمة المجاهدين في ذلك الوقت؛ إذ كان كيداً من الله لأوليائه ضد أعدائه {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 15 - 17] .
واليوم تتبدل الأحوال، وتتغير الظروف، ويجد المسلمون أنفسهم في مواجهة أخرى مفروضة ضد الولايات المتحدة وحلفائها في عدد من بلدان العالم الإسلامي، لأطماعٍ إمبراطورية أخطر من الأطماع الروسية السابقة.
وكانت أفغانستان نفسها ثم العراق، أولى محطات هذه المواجهة، مع ما يدبر الآن من وراء الجدران، لكل من سوريا، ولبنان، والسودان، وغيرها من البلدان.
ولكن المشهد اليوم اعترته اختلافات ومفارقات عجيبة وغريبة عن مشهد الأمس؛ فالبلدان التي تعرضت للعدوان الذي لا شك في وجوب صده ورده، قامت فيها هبات جريئة من مجموعات مخلصة، حاولت أن تقوم بمثل ما قام به المجاهدون الأفغان أيام الحرب في أفغانستان، ولكنها وجدت نفسها في بيئة دولية مغايرة، وإقليمية متنافرة ومحلية متناقضة، مما أثمر صدوداً شبه عام عن قبول هذا الجهاد رسمياً فضلاً عن دعمه، وزاد الأمر شدة أن الإسلاميين أنفسهم بدعاتهم وعلمائهم مختلفون حول الكثير من مسائل هذا الجهاد وقضاياه لأسباب علمية أو سياسية أو حزبية أو حتى عنصرية، وما كان لهم أن يختلفوا، وهو ما أوقع مسيرة هذا الجهاد في ورطات متعددة، وبخاصة في العراق.
ü ومع هذا نقول:
إن الغزو الأمريكي الحاصل اليوم في العراق، أخطر بمراحل من غزو الروس لأفغانستان لاعتبارات كثيرة:
- منها: هذا الانصراف الواضح عن التصدي له إقليمياً وعالمياً، رسمياً وشعبياً، بسبب أن الولايات المتحدة هي طرفه الرئيس، ولهذا لم تجرؤ الكثير من الأنظمة على الاعتراض عليه، بل إن الولايات المتحدة نفسها وجدت من الأنصار ضد المقاومة في العراق ـ عالمياً وإقليمياً ومحلياً ـ ما كاد يشعرها ويصورها على أنها هي الضحية المجني عليها، مما زادها غطرسة وجرأة في المضي في خططها التي جاءت من أجلها.
- ومنها أن غزو العراق ـ ومن قبله أفغانستان ـ إنما جاء وفق خطط أسبق من التهديدات الوهمية لصدام، والتداعيات المبالغ فيها لأحداث سبتمبر، والأخطار المضخمة لما تسميه أمريكا بالإرهاب؛ إنها الخطط التي يتوالى الكشف عنها والتي تستهدف ضمان تفرد أمريكا بالسيطرة على زعامة العالم طيلة القرن القادم.
- ومنها أن غزو العراق ـ ومن قبله أفغانستان ـ إنما جاء في أكثر ظروف العرب والمسلمين ضعفاً وتشتتاً، وفي أشد الأوقات تعرضاً لتداعي الأمم؛ حيث نجح الأعداء في تحويل اهتمامات الشعوب إلى الداخل، لتنكفئ كل دولة على همومها ومشكلاتها غير عابئة بالحريق المجاور لها الذي يوشك أن يطالها فيلتهمها.
- ومنها: أن شرائح كبرى من الإسلاميين في العالم، وعلى عكس ما كان منطقياً وطبيعياً في زمان تداعي الأمم عليهم، قد تغيرت اهتماماتهم، وبردت حميتهم، وانصرف بعضهم إلى الهموم الصغرى، بل التحق بعضهم بالخنادق المعادية، في وقت لا تزال النيران مفتوحة على الأمة من هنا وهناك.
- ومنها: أن العلمانية في العالم الإسلامي التي أضاعت الأعمار في أقوال بلا أفعال، وأفكار بلا ثمار، تنتقل الآن بأقوالها وأفعالها وأفكارها إلى الحصون المعادية للأمة، والأوكار المحادَّة للدين تاركة الشعوب تلقى مصيرها، الواحد بعد الآخر.
- ومنها أن العراق أصبح ساحة لتصفية الحسابات والأخذ بالثارات القديمة والحديثة، من الإيرانيين مرة، ومن اليهود مرة، ومن بعض دول الجوار مرات، وهو ما جعل المقاومة في العراق تواجه أصنافاً من الأعداء الظاهرين والباطنين إلى جانب العدو الرئيس المتمثل في الاحتلال.
ü ولهذا نؤكد:
أن قلوب الغيورين في سائر الأمة تحترق، وأكبادهم تكتوي، كلما رأوا تعثراً يعرقل مسيرة هذه المقاومة، أو تشوُّهاً يشوبها، أو وهناً يدخل عليها فينفذ إلى سائر الجسد الذي يتداعى لها. ولهذا فإن هناك أموراً لا نرى مناصاً من المناصحة فيها، ودواعي قلق لا يسوغ السكوت عنها ومن أهمها:
أولاً: أننا أمة دعوة؛ فعقيدتنا دعوة، وجوهر عبادتنا وشريعتنا دعوة، بل نحن في محبتنا وعداوتنا حَمَلة دعوة، بل حتى جهادنا وقتالنا دعوة، بل هو ذروة سنام الدعوة.
ودعوة الجهاد وشرعته، لها هيبتها ووضاءتها وسماحتها التي عَرَفَنا بها العالم المنصف عبر التاريخ، ودخل الناس بسببها في دين الله أفواجاً، وواجبنا أن نحافظ على هذا السمت وتلك السمعة وهذه السيرة، حتى لا نضر بأصل دعوتنا.
دعوة التوحيد، هي التي يحملها منا العالم في مجلسه، والداعية على منبره، والمقاتل في ميدانه، وكل مختص في مجال تخصصه؛ فهي ليست حكراً على أحد، ونصرها ونشرها ليس مسؤولية أحد دون أحد.
ثانياً: إذا كان تكثير الأنصار لنصرة الدين أمراً محموداً مطلوباً، فإن تكثير الأعداء وزيادة الجبهات يعد أمراً مذموماً مرفوضاً، وإن من أولى مبادئ علم الاستراتيجية العسكرية مبدأ (لا تكثِّر أعداءك) ؛ فما بال أقوام أعداؤهم أكثر من أصدقائهم وأنصارهم، ومع ذلك يبحثون بحثاً عن مزيد من الأعداء، لا بل ينقبون عن مسارات يخسرون بها العديد من المؤيدين والمتعاطفين!
نرى في هذا الشأن خطراً جسيماً على مستقبل الجهاد، لا في العراق فحسب، بل في أماكن أخرى ساخنة من العالم الإسلامي، ولقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينازل قوماً من أعدائه ويترك ـ ولو مرحلياً ـ منازلة قوم، وكان ينشغل بأناس من المحاربين ويتشاغل عن أناس منهم، وأحياناً كان يتألف ويعالج قلوب فريق، بينما يعاجل بالحرب والضرب فريقاً آخرين، ونحو ذلك مما تعج به سيرته -صلى الله عليه وسلم- وسيرة الخلفاء والأتباع السائرين على هديه؛ فما كان -صلى الله عليه وسلم- ينازل الجميع ـ ولو كانوا جميعاً من المحاربين ـ في ظرف واحد، ولا كان حريصاً على فتح جميع الجبهات في كل الأوقات شفقة منه وحكمة ورحمة؛ لأنه أمين على مصلحة المسلمين، حريص عليهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم.
ولهذا ينبغي ألا ينقل المقاومون للمحتل الغاصب معركتهم خارج مكانها الصحيح كما حدث للأسف في أكثر من ساحة، حتى لا تضيع الأهداف وتفسد الثمرات.
ثالثاً: الخطاب الإعلامي، من أخطر المؤثرات في توجيه مسار المعركة؛ وخطورة هذا الخطاب لا تأتي من سرعته وصدقه ومواكبته للأحداث فحسب، بل من لهجته وطبيعته ومفرداته المراعية لكل من يتوجه إليه من صديق أو عدو، من عالم أو جاهل، وعندما يكون هذا الخطاب الإعلامي قاصراً فإنه يضر بالمعركة على الأرض، ويشيع الوهن والإحباط لدى المراقبين لها، وبخاصة إذا تجاهل المشاعر، وتغافل عن الحساسيات، وضرب عرض الحائط بتعارض المصالح والمفاسد، واختلاف الطباع وتباين الانتماءات والولاءات. وإن من أشد أضرار الخطاب الإعلامي غير المتزن: الإخلال بوحدة الأمة واجتماع قلوبها على قضاياها الكبرى؛ فالجهاد إذا توجه إلى غير ساحاته، أو تجاوز غير استحقاقاته من أفراد أو منشآت أو مصالح؛ فإنه قد يثير حفيظة شعب على شعب، وينكأ جراح جماعة على جماعة، بل وقد يُحدِث الانشقاقات في الصف الواحد على الجبهة الواحدة، ومن عجيب الأمر أن هذا الخطاب أحياناً ما يتجاهل مستوى وعي الناس، فيفترض أنهم جميعاً على مستوى فهم دقائق الأحكام الفقهية والاختلافات العقدية التي ينطلق منها (هذا إن كانت صحيحة في كل الأحوال) . فالحاصل أن الغالبية العامة لا تفهم إلا الظواهر الواضحة، ولا تعي ما تخبئه العقول وتستره القلوب؛ فالقاتل عند الناس قاتل، والمقتول عندهم مقتول، وللدماء بشاعتها وللحرائق رهبتها وكل هذه البشاعة تحتاج إلى تفسير لا إلى مزيد من التسعير، ولنعترف بأن توجه آلة الإعلام عالمياً وإقليمياً ليست لصالح المسلمين، ولا هي في حيز قدرتهم على التحوير والتأويل، فلا ينبغي إعانة الأعداء على الأمة بتقديم خدمات مجانية إعلامية، تستغلها آلة شيطانية، لا ترقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على أن تكون سمعة المسلمين حسنة. والصورة لا تكون حسنة إلا إذا كان الأصل حسناً. وصورة الحدث ينبغي أن تعكس حقيقة الحدث دون حاجة للتعسف في تفسيرها أو التكلف في تأويلها، ولما أشير عليه -صلى الله عليه وسلم- بقتل من يستحق القتل من أعدائه المنافقين قال: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (1) .
نعم! ونحن لا نريد أن يتحدث الناس أن الجهاد في العراق أو في غيره من الساحات المشروعة قد فقد بوصلته، أو حاد عن سبيله، أو أن المجاهدين قد فقدوا الإنسانية، أو خرجوا عن الضوابط الشرعية والقيم الإسلامية.
رابعاً: اختيار ميدان الشهادة مسؤولية جسيمة؛ فهو ليس مجرد قرار بدخول أعلى درجات الجنة في أسرع وقت ومن أقصر طريق.. لا؛ فالشهادة منزلة سامقة، تستهدف بذل الروح بعد إراقة الدم، بغية دخول الجنة بلا سابقة حساب ولا عذاب، وهذا أعلى درجات قدرة الإنسان على الفعل، ولكنَّ هناك أفعالاً لا بد أن تسبق هذا الفعل حتى يتوج بغايته ويصل المرء به إلى بغيته، وأعلى هذه الأفعال إخلاص النية والاجتهاد في إصابة الصواب. أما النية فظنُنا أن أكثر من يوفق إلى هذا المستوى من الرغبة في البذل؛ وراءه نية صافية صادقة، ولكن نية الصادق لا تكفيه حتى يضم إليها الفعل الصائب، المنضبط بضوابط الشريعة، ومع علمنا بأن الحرب حرب، يحدث فيها ما لم يكن وارداً أو مراداً من الأخطاء والأخطار، إلا أنَّ الأصل العام أن الجهاد ليس مجرد حرب وضرب، فليس كل القتال جهاداً، وليس كل الجهاد معصوماً، بل ليس كل من مات مقتولاً كان شهيداً مقبولاً؛ فدون كل ذلك تصحيح النوايا وتصويب الأعمال، ولهذا فإن التغرير بالنفس لدفعها لميدان الشهادة، لا ينبغي أن يتحول بهذه النفس من مقام المقاتل في سبيل الله، إلى مقام القاتل لعباد الله، ولا ينبغي أيضاً أن يتحول عن جبر كسور الأمة، إلى كسر قلبها وإدخال الحزن عليها، ولا ينبغي كذلك أن يصير فرحاً وشماتة عند الأعداء، بدلاً من كونه نكاية بهم وإضعافاً لصفهم؛ فكم سمعنا عن أعمال فرح بها الأعداء المحاربون، وشَرِقَ بها المسلمون المشفِقون.
خامساً: ذلك التساهل المخيف في الدماء أمر مستهجن وبخاصة دماء المسلمين؛ لأن شأن سفك الدم بغير حق؛ مما جاءت شريعتنا وكل الشرائع قبلها باستنكاره وتجريمه، وهل هناك أعظم من قول الله ـ تعالى ـ المسطور في الكتب السابقة، والمنقول إلى الكتاب الخاتم: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ، ووصية الله ـ تعالى ـ في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] .
ولذلك جاء حرص الشريعة على التحرز في أمر الدماء، حتى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن، أكبَّهم الله في النار» (1) . ولنلحظ هنا التعبير بـ (مسلم) ، أي: مسلم واحد؛ فما بالكم إن كان عشرة أو عشرين أو مائة؟ لقد بلغ شأن التحرز من الدماء المعصومة أن قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] .
أي: ولولا أنَّ بين المشركين في مكة قبل الفتح من يكتم إيمانه ويخفيه، لسلط الله المسلمين عليهم فلقتلوا المشركين وأبادوا خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين أقوام لا تعرفونهم حالة القتال، ولهذا أخر الله عقوبة المشركين حتى يخلِّص من بين أظهرهم المؤمنين (2) .
فهذا إن وطئوهم وتسببوا في قتلهم بغير علم؛ حيث لم يعلموهم؛ فكيف إذا كانوا يعلمون.. وكيف إن كانوا يتقصدون؟ إن المعرَّة أي الإثم والغم والغرم والشدة لا بد أن تلحق بالمسلمين بسبب هذا القتل. قال الشيخ ابن عاشور: «فتصيبكم منهم معرة: أي ما تكرهونه من ضر أو غرم أو سوء قالة، ومن إثم يلحق القائلين إذا لم يتثبتوا فيمن يقتلونه، ومن قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينجُ أهل دينهم من ضرهم، ليكرِّهوا الناس في الإسلام وأهله» (3) . و (المعرة) لا بد أن تصيب المؤمنين، عندما يرون قتيلاً لا يدري فيمَ قُتل، أو قاتلاً لا يدري فيمَ قَتَل. ولقد اشتد وعيد الكتاب الحميد على ذنب الوقوع في الدماء، حتى إنه لم يأت وعيد في القرآن بعد الشرك أعظم من الوعيد بقتل المؤمن: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] ، ومن أجل هذا الوعيد الشديد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً» (4) .
فالتحرز الشديد في أمر الدماء وتحاشي إزهاق الأرواح بغير حق، أهم وأخطر وأوجب من وضع الخطط وحشد الأنصار؛ لأنه مسألة جنة أو نارُ و «لَزوالُ الدنيا جميعاً أهونُ على الله من دم يُسفَكُ بغير حق» (5) . وقد تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من أفعال من لا يتحرز في الدماء ولا يتحاشى في شأن الأرواح بين ظهراني المسلمين فقال: «ومن خرج على أمتي يضرب بَرَّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه» (6) .
سادساً: ما يقال في التسرع في الدماء، يقال في التسرع في الأحكام من تكفير أو تبديع، أو تحليل أو تحريم؛ فما تسرع متسرع في الدماء، إلا بعد التسرع في الأحكام، والأحكام في المسائل الكبرى من الشريعة والعقيدة، لها أهلها ومتخصصوها الراسخون في العلم، ولا ينبغي تجاوزهم أو الافتئات عليهم، وبخاصة ممن يستمطرون أسباب النصر ويبحثون عن أسباب التوفيق؛ فلا ينبغي الخلط بين فعل المجاهدين للدين والمجتهدين في الدين؛ فالاجتهاد شأن آخر غير الجهاد؛ فهذا ميدان وذاك ميدان، ولهذا رجاله ولذلك رجاله. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
سابعاً: ضعف التأصيل الشرعي والتسرع في تنفيذ الخطط قبل أخذ حقها وحظها الوافي من الدراسة الميدانية والتقنية والشرعية، هما من مظنة الوقوع في إراقة الدماء الحرام، وقد لوحظ في الآونة الأخيرة المبادرة إلى استهداف أماكن غير مشروعة، مثل الفنادق والمقاهي والسفارات، والمدارس والأنفاق والشواطئ ... نحو ذلك من الأماكن التي لا يُؤمَن أبداً خلوُّها من أصحاب الدماء المعصومة مع شكنا فيمن وراء بعض تلك الأعمال. وهؤلاء لا يحل قصدهم بحالٍ مسلمين أو غير مسلمين ما داموا غير محاربين، ولا يمكن الاحتجاج بأن الأعداء يتترسون بالمسلم منهم؛ فهذا ما لم يحدث أبداً في كل ما جرى تنفيذه في بلدان متفرقة من العالم، وحتى صاحب النفس المعصومة لو تترس به الأعداء؛ فإن جمهور الفقهاء على أنه لا يُقتل إلا بشروط مغلَّظة، تُراجَع في مظانِّها، ولهذا فإن المسلمين الصادقين ـ وغُرتهم من المجاهدين ـ ينبغي أن يكونوا على ذكر دائم بأن التهاون في الدماء أمر عظيم، وخطر جسيم، وما يقال عن الدماء المعصومة للمسلمين يقال عنها في غير المسلمين، وهم من قال الله فيهم: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
فاللهم أرنا وإخواننا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل(219/2)
الكوارث الطبيعية وهلاك الصالحين
إبراهيم الأزرق
إن من رحمة الله بالخلق أنه لا يعذبهم بعذاب عام ينال المسيء والمحسن إلاّ إذا فشا فيهم الخَبَث، وابتعدوا عن منهج الله. «قال المهلب: ظهور الزلازل والآيات وعيدٌ من الله ـ تعالى ـ لأهل الأرض. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة والإعلان بالمعاصي، ألا ترى أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ حين زلزلت المدينة في أيامه قال: يا أهل المدينة! ما أسرع ما أحدثتم! والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم (1) . فخشي أن تصيبه العقوبة معهم» (2) .
حينها يكون الهلاك خيراً عند أهل الإيمان المغلوبين على أمرهم من الحياة وسط بيئة يُحارَب فيها الله صباح مساء، ويجاهَر فيها بمعصيته ومحادّته.
وعلى هذا جرت سنَّة الله في خلقه؛ فمتى استشرى السرطان في الجسد وتمكن منه فغلب عليه وساد أعضاءه؛ بعث الله برحمته ملك الموت ليقبض المصاب على الرغم من صلاح الكبد والطحال أو غيرها من الأعضاء، فيموت المريض وله قلب ينبض، وعقل يحمد، ولو مدَّ الله في أجله لفسدا تأثُّراً بالبيئة السرطانية.
وهكذا إذا استشرى الفساد في المجتمعات، وأبى مفارقتَها أهلُ الصلاح، أوشك أن يعمهم العذاب، إما عقوبة لهم على بقائهم، أو رحمة بهم قبل أن ينالهم الفساد الذي أحكم قبضته فحال بينهم وبين المفارقة.
وفي حديث أنس المتفق عليه: «لا يتمنينَّ أحدكم الموت من ضر أصابه؛ فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» (3) ، فدلَّ هذا بمفهومه على أن الوفاة قد تكون خيراً للمسلم. قال ابن عبد البر ـ عند هذا الحديث بعد أن قرر النهي عن تمنِّي الموت لبلاء نزل ـ: «وقد يجوز تمنِّي الموت لغير البلاء النازل، مثل: أن يخاف على نفسه المرء فتنة في دينه» (4) ، قال النووي: «فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا؛ فأما إذا خاف ضرراً في دينه أو فتنة فيه فلا كراهة فيه؛ لمفهوم هذا الحديث وغيره، وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم» (5) .
وما ضُرُّ مشتاق إلى لقاء ربه، طامع في النظر إلى وجهه، أن تعجلت له بوادر ذلك، بأمر الله إذا فسد الناس؟
ذكرت هذه المقدمة حتى لا يقال: كيف تعدون هذه الزلازل وتلك الكوارث والحوادث عقوبات من الله وقد يهلك فيها الصالحون؟ أو كيف يجوز نزول العذاب على الصالحين عندكم؟ ومع أن هذه المقدمة تشير إلى الجواب، بل إن النص النبوي فيها صريح، غير أن بسطه من الأهمية بمكان؛ لأن التشغيب بنحو هذا من قِبَل أولياء الباطل من أجل تقرير أن الزلازل والفيضانات والبراكين التي تصيب بعض الأمم الباغية لا علاقة لها ولا مدلول يشير إلى صلاح أو فساد نجمت عنه الكارثة، والحجة عندهم أن تلك الكوارث ـ بعينها ـ تصيب أهل الإسلام فيهلك من الصالحين أناس؛ مع أن الله ـ تعالى ـ يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 14] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، وقال لخير القرون ـ رضي الله عنهم ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] .
أنهلك وفينا الصالحون؟
فإذا قيل: أيهلك القوم وفيهم الصالحون؟ أجيب أن الله قد أعذر فأنذر عباده. قال ـ عز سلطانه ـ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] ، وفي الصحيحين من حديث زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟
قال: نعم! إذا كثُر الخَبَث (1) .
قال أبو الوليد الباجي وهو من علماء القرن الخامس (2) : «فهذا مع الصالحين؛ فكيف مع قلّتهم أو مع عدمهم؟! نسأل الله أن يتجاوز عنا بفضله ويتغمد زللنا برحمته» (3) ، ولا يسعنا إلاّ أن نقول: آمين!
وفي صحيح البخاري بابٌ: إذا أنزل الله بقوم عذاباً (4) .
قال ابن حجر: «حذف الجواب اكتفاء بما وقع في الحديث» (5) ، ثم ساق حديث يونس بن زيد: «إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بُعِثوا على نياتهم» قال ابن حجر: «والمراد من كان فيهم ممن ليس هو على رأيهم، قوله: «ثم بعثوا على أعمالهم» أي بُعث كل واحد منهم على حسب عمله، إن كان صالحاً فعقباه صالحة، وإلاّ فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين ونقمة على الفاسقين» . ثم ذكر آثاراً عدة في هذا المعنى، وقال: «والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب بل يُجازى كل أحد بعمله على حسب نيته» ، ثم ذكر قول ابن أبي جمرة في سبب إهلاك الصالحين فقال: «إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقاً، لا يرسل الله عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، ويؤيده قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، ويدل على تعميم العذاب لمن لم يَنْهَ عن المنكر وإن لم يتعاطاه قولُه ـ تعالى ـ: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140] ، ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار، ومن الظلمة؛ لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يُعِنْهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره -صلى الله عليه وسلم- بالإسراع في الخروج من ديار ثمود.
وأما بعثهم على أعمالهم فحكم عدل؛ لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيراً لما قدموه من عمل سيئ، فكان العذاب المرسل في الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم ولم ينكر عليهم؛ فكان ذلك جزاء لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يُبعث كل منهم فيجازى بعمله.
وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن، فكيف بمن رضي، فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة. قلت: فأتى كلامه أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، وإلى ذلك جنح القرطبي في التذكرة» (6) اهـ.
ثم مال ابن حجر إلى أنه ليس من شرط إهلاكهم سكوتهم عن الإنكار فقال: «وما قدمناه قريباً أشبه بظاهر الحديث وإلى نحوه مال القاضي ابن العربي» .
ولعل هذا القول قريب من قول ابن قتيبة - رحمه الله - في تأويل مختلف الحديث: (فأما عقاب الله ـ تعالى ـ إذا هو أتى فيعم وينال المسيء والمحسن، قال الله ـ تعالى ـ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] ، يريد أنها تعم فتصيب الظالم وغيره. وقال ـ عز وجل ـ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 14] ، وقالت أم سلمة (7) : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: «نعم! إذا كثُر الخَبَث» ، وقد تبين لهم أن الله ـ تعالى ـ أغرق أمة نوح ـ عليه السلام ـ كلها ـ وفيهم الأطفال والبهائم ـ بذنوب البالغين، وأهلك قوم عاد بالريح العقيم، وثمود بالصاعقة، وقوم لوط بالحجارة، ومسخ أصحاب السبت قردة وخنازير، وعذّب بعذابهم الأطفال. قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: إن الضب في جحره ليموت هزلاً بذنب ابن آدم، وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مضر فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف» (1) ، فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين، حتى أكلوا القد والعظام.. فنال ذلك الجدب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ... ) إلخ.
ثم عقَّب ـ رحمه الله ـ بكلمة تَسَطَّر بماء الذهب، رأى صوابها كل من له عينان، فقال: «وقد رأينا بعيوننا ما أغنى عن الأخبار؛ فكم من بلد فيه الصالحون والأبرار، والأطفال والصغار، أصابته الرجفة، فهلك به البر والفاجر، والمسيء والمحسن، والطفل والكبير؛ كقومس ومهرجان وقذق والري ومدن كثيرة من مدن الشام واليمن، وهذا شيء يعرفه كل من عرف الله ـ عز وجل ـ من أهل الديانات وإن اختلفوا» (2) ، وما حل مؤخراً بأجزاء من أرض الباكستان عنا ببعيد.
مناقشة الخلاف في إهلاك المصلحين وأممهم:
لعل ما اختاره ابن أبي جمرة من عدم وقوع العذاب على المصلحين بل دفع الله بهم العذاب عن العاصين أقرب للصواب، وتشهد له أدلة كثيرة، منها:
1 - تقييد الإهلاك العام في النصوص التي احتج بها المخالف بالسكوت عن الإنكار في أحاديث أخر، كما في حديث الترمذي الذي صححه هو وغيره، عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: أيها الناس؛ إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (3) ، وكما في حديث السفينة (4) وغيرهما.
2 - قول الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] ، وقوله ـ سبحانه ـ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وما في معناهما.
3 - عموم الأدلة في حفظ الله مَنْ حفظه، كحديث ابن عباس: «يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ... الحديث» (5) . قال ابن رجب: «وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله ... النوع الثاني من الحفظ ـ وهو أشرف النوعين ـ: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه ثم موته فيتوفاه على الإيمان» (6) .
4 - النصوص الواردة في حفظ الله للقرى وأهلها الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، كقول الله ـ تعالى ـ: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 - 117] .
5 - نصوص الوعد بالسلامة والنجاة للأنبياء والمؤمنين إذا نزل العذاب، كما في قول الله ـ تعالى ـ: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 102 - 103] .
6 ـ إخبار الله عن إنجائه الذين ينهون عن المنكر ويدعون إلى المعروف في مواطن عدة، إذا نزل العذاب، كشأن كثير من أنبياء الله ورسله وأتباعهم من المؤمنين. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] ، {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66] ، {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] ، وكما في خبر نوح، ولوط، وغيرهم من رسل الله، قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء: 7 - 9] ، وقال الله ـ عزوجل ـ عن أصحاب السبت: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] ، ولهذا قال حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: «لم يُعذب أهل قرية حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أُمروا» (1) .
فهذه وغيرها أدلة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لمنع العذاب العام، فإذا قيل: فما بال القرى ترتجف فيهلك فيها الصالح والطالح؟ أجيب بأن الصالح لا يلزم أن يكون مصلحاً، وإن كان صالحاً؛ فإنَّ تركه الأمر والنهي قد يكون معصية لا ترفع عنه وصف مطلق الصلاح، وخاصة مع تأوله وتركه الهجرة، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: «كان يقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عُمِلَ المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم» (2) . قال أبو الوليد الباجي: «يريد قول الله ـ عز وجل ـ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وقول عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ: «ولكن إذا عُملَ المنكر جهاراً» يقتضي أن للمجاهرة بالمنكر من العقوبة مزية ما ليس للاستتار به، وذلك أنهم كلهم عاصون من بين عامل للمنكر وتارك للنهي عنه والتغيير على فاعله، إلا أن يكون المنكر له مستضعفاً لا يقدر على شيء فينكره بقلبه، فإن أصابه ما أصابهم كان له بذلك كفارة وحشر على نيته» (3) .
وقال ابن العربي في قول الله ـ تعالى ـ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] : «وتحقيق القول في ذلك أن الله قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . وقال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب، بَيْدَ أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عنه فكلهم عاصٍ؛ هذا بفعله، وهذا برضاه به. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظم الذنب بالعقوبة، ولم يتعد موضعه، وهذا نفيس لمن تأمله» (4) .
كما أنه ربما قام بعضهم بالأمر والنهي ولكن قام بهم مانع يحول دون تحقق وصف الصلاح أو الإصلاح فيهم، وإن خفي هذا على البشر فليس بخاف على الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وقد يكون السبب المانع من العذاب قائماً متحققاً؛ كأن يكون الأمر بالمعروف لا يكل عنه المصلحون، والنهي عن المنكر لا يمل منه الطيبون، ومع ذلك ينزل الله العذاب، فيكون هذا من قبيل تخلُّف النتيجة مع تحقق السبب بقدر الله وأمره لاقتضاء الحكمة له في ذلك الموطن، كتخلف الولد على الرغم من حصول سببه وهو الزواج، ونحو ذلك مما هو مخالف للأصل، فيقدر بقدره.
والأصل هو أن الإصلاح من أسباب نجاة الداعين، وتقليل خبث المخبثين، وتأخير العقوبة عن عامة الناس أجمعين.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يُسْتَجب لصاحبه فقد يكون سبباً لإكرام الله له بالنجاة عند حلول العذاب.
ويمكن تقسيم تعلق النجاة بالأمر والنهي إلى أقسام:
- فإن قام المصلحون بالمعروف، ورفعوا المنكر بأمرهم ونهيهم، سلموا وسلم الناس جميعاً.
- وإن تركوا الأمر والنهي هلكوا وهلك الناس، ومثال صورة هذين الفريقين هو المذكور في حديث السفينة؛ حديث النعمان ابن بشير في الصحيح والذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (5) .
- فإن أمروا ونهوا وبذلوا ما في وسعهم فلم يُستجب لهم، ففارقوا قومهم وفاصلوهم، كما فعل كثير من أنبياء الله قبل حلول العذاب بأقوامهم، حينها تكون المفاصلة نجاة لهم، كما كانت نجاة لأنبياء الله ورسله، وعندها يكون البقاء محرماً لوجوب الهجرة، وهذا المعنى يمكن انتزاعه من حديث السفينة؛ فقد ضربت صورة للمسألة وبُيّن المآل لاحتمالين، وسكت عن تبيين المآل إذا ما حاول الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الأخذ بأيدي الواقعين في محارم الله فلم ينتهوا وأصروا على الخرق بالوقوع في المحارم، فهنا يتعين على الآمرين والناهين المفارقة لينجو بأنفسهم قبل أن يدركهم الغرق، وقد استدل غير واحد من أهل العلم على وجوب المفارقة إن استشرى الفساد بالآثار المؤذِنة بحلول العذاب العام. قال الزرقاني: «وفي الاستذكار هذا يقتضي أنه لا ينبغي المقام بأرض يظهر فيها المنكر ظهوراً لا يطاق، والمقام بموضع يظهر فيه الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأغلب» (6) . أما إن لم يأنِ أوان المفاصلة فيظل الإنكار والقيام بأمر الله صارفاً للعذاب، قال الله ـ عزوجل ـ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، ولذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا» (1) .
- وقد يأمر أهل الخير بالمعروف وينهون عن المنكر فلا يستجاب لهم، ويستشري الفساد فلا يمايزون قومهم، وقد يكون هذا بعذر كعدم القدرة على المفارقة مع سعيهم لها، أو بغير عذر غير استمرارهم في الأمر والنهي طمعاً في أن يغير الله حالهم، فيدأبون على ذلك حتى ينزل العذاب؛ فهؤلاء قد يكرمهم الله بالنجاة وبالأخص إن سعوا في التمايز وبذلوا أسبابه، كما أكرم الله ـ سبحانه ـ موسى وقومه بالمعجزة الباهرة يوم فرق البحر فأنجاهم، ثم أغرق عدوهم ودمّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون. وقد يأخذهم الله مع الهالكين وبالأخص إن لم يعمدوا إلى مفاصلة قومهم، ولم يسعوا في مفارقتهم، رحمة بهم وتداركاً لهم قبل أن تصلهم يد الباطل المفسدة، ثم يبعثهم على نياتهم. ولعل من لطف الله بعباده المخلصين أنه يقدر لهم في مثل هذه الأحوال ما هو خير لهم فيكتب النجاة لمن كانت الحياة خيراً له، ويقبض إليه من كان قبضه خيراً له.
وبهذا يظهر وجه احتجاج نبي الله الحليم إبراهيم ـ عليه السلام ـ على الملائكة بقوله: {قَالَ إنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت:32] ، أثناء مجادلته عن قوم لوط طمعاً في تأخير العذاب عنهم، فجاءه الجواب: {نحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32] .
فكان اعتراضه صحيحاً، ومراده منه تأخير العذاب عن القوم لعلهم يرجعون، كما قال الله ـ تعالى ـ في الآية الأخرى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 74 - 75] ، فاعتراضه بلوط كان من أجل قومه؛ ولهذا قال الله ـ تعالى ـ: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] ، فجاءه الرد أن ما اعترض به لن يناله السوء هو وأهله المؤمنون به، فلم تبق حجة تمنع حلول العذاب بالمفسدين. وفي هذا إقرار لصحة الاعتراض الأول القاضي بمنع إهلاك الأنبياء بعذاب يعمهم وأقوامهم، وكذلك في أمر المؤمنين من أتباعهم، وقد أورد أهل التفسير ما يدل على هذا أثناء حكايتهم لمجادلة إبراهيم، ويشهد له ما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما.
شبهة عصرية:
إن الزلازل ونحوها آيات كونية يجريها الله لحِكَم عظيمة وأسباب كثيرة، إلاّ أن بعض الماديين الذين أعرضوا عن آيات الله السمعية، تمادوا فأعرضوا عن الآيات الكونية؛ فإذا رأى أحدهم كسوفاً أو خسوفاً جلّى أسنانه الصفراء بابتسامة مثلها فرحاً بما عنده من العلم، وبصدق ما تنبأت به أرصاده، ولأنه علم أسبابه.
وهكذا حال بعضهم مع غير الشمس والقمر من الآيات الكونية كالزلازل؛ فأسبابها عندهم معروفة، كما أن التنبؤ بها ورصدها لم يعد أمراً شاقاً في ظل العلم الحديث.
وقد تجرأ بعضهم فعزا الحوادث الكونية إلى أسبابها التي علمها، ثم استطال فقال: إن فكرة الخالق لم تعد ضرورية.
يعني لأجل تفسير الحوادث. وربما كان هذا المنطق حجة على من ينكر قانون الأسباب، أما أهل الإسلام الذين يعلمون أن الله ـ تعالى ـ قد أجرى هذا الكون على نواميس، وجعل النتائج متعلقة بأسبابها، فلا ينبغي أن يرد عليهم هذا، فإذا قال المسلم: إن الله هو الرزاق، فلا يعني ذلك نفيه أسباب الرزق المختلفة.
وكذلك إذا قالوا: الزلازل أو البراكين أو الخسوف أو الكسوف آيات يخوِّف الله بها عباده، أو أنها من خلقه، فلا يلزم من ذلك ألا يكون له سبب أو قانون تجري عليه. أما من قصر نظره على السبب ـ فمتى وجد أسباباً أو قوانين مطردة تمسّك بها، ورفض أن ينسب الفعل إلى ما عداها، وغفل عن مسببها ـ فهؤلاء في الحقيقة لا يختلفون عن بعض الحمقى الذين وجدوا طفلاً تائهاً في البرية يتحدث بغير لسانهم فلم يفهموا منه شيئاً، فقال بعضهم: هذا خَلْقُ الله؟ ثم بحذق بعضهم أو بفضل مترجم عابر تمكنوا من معرفة أبيه فاستنتجوا من ذلك أنه ليس له خالق.
وهؤلاء كذلك فجميعهم عزا الأمر الحادث إلى سبب عرف طريقة عمله، وغفل عن أنه يفتقر هو بدوره إلى سبب آخر ينتهي في سلسلة تنتهي عند مسببها الذي أجراها لحكمة ومراد.
وإذا تأملت هذا المذهب وجدت أن له أصولاً قديمة قدم البشرية، فجلُّ الأمم التي أخذها الله بذنوبها جاء أخذها بعد أن بعث الله إليهم رسله فأنذروهم بالآيات السمعية، ثم بعث عليهم الآيات المرئية في أثر السمعية، فلما لم يرتدعوا دمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها. ولعظم غفلة هؤلاء لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه مقتصرين على قولهم بالأسباب.
ولم يُذكر في القرآن أن الله أنجى قوماً بعد أن رأوا الآية الكونية المرئية إلاّ قوم يونس. قال الله ـ تعالى ـ: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] . فما أعقلهم من قوم آبوا جميعاً ورجعوا إلى ربهم مذعنين عندما رأوا الآية؛ بينما قال غيرهم: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] !.
قد يتعجب المرء: ما بال أولئك المكذبين؟ أليست لهم عقول؟ أوَ لا يرون الآيات؟ فما بالهم لا يتعظون ولا يرجعون؟! أيُعقل أن يرى فرعون تسع آيات ثم يصر مستكبراً؟ ألا يَعقِل؟
والجواب: بلى كانت لهم عقول، وكانت لهم حضارة، وكانت لهم علوم، ولكنهم اغتروا بها، فاقتصر نظرهم على الأسباب القريبة ولم يتعدّاها إلى مسبباتها وحقائقها وما وراءها. وتأمل معي قول العزيز الحكيم: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 81 - 85] .
نعم! قد سمعوا بالآيات التي نزلت بالأمم كما سمعنا بها، ورأوها كما شهدناها، وعلموا أن الهالكين أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض كما علمنا، وفوق ذلك كله قد جاءتهم الرسل بالبينات كما جاءتنا، ولكن ... {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83] ، فكانت النتيجة الطبيعية: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] ، {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85] .
لقد كانوا يرون الآيات، ولكن ما عندهم من العلم قد قادهم إلى بطر الحق، فإذا رأوا عارضاً في أفق من آفاق السماء، قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] . ومن أُهلكوا بالريح قالوا عنهم: غضبت عليهم الطبيعة؛ وفق علومهم إثر تقلبات جوية سببتها تخلخلات في الضغوطات الجوية بفعل تغيرات في السخونة والبرودة. وهكذا تنتهي الآية فلا ينظر عاقل في مسبب الأمر وموقته ومدبره، سبحانه وتعالى.
بل من أصبح على فراشه ميتاً حتف أنفه بغير علة فموته موت طبيعي، ومن أُهلك بالريح العقيم مات موتاً طبيعياً أيضاً.
كان أحدهم يرى الخسوف فيقول: من الطبيعي: انعكاس ظل الأرض على القمر؛ وينسى الذي أوجد هذه الطبيعة بعد أن كوكب الكواكب وأجراها على ناموس مطَّرد فلا يتساءل: من أوجده؟ وما باله اضطرب هنا؟ ولماذا؟
وإذا أُهلك قوم بالطوفان، ورأوا الآية فرحوا بما عندهم من العلم، وقالوا: هزة أرضية ناجمة عن تخلخل للصفائح في قعر المحيط أدى إلى ارتفاع مد البحر، وتنتهي القضية دون نظر إلى من أوجد تلك الصحائف وأرساها وجعل بها صدوعاً في ذلك المكان، ودون اعتناء بأمرِ مَنْ أمر تلك الصحائف أن تضطرب الساعة فاضطربت، وأمرها أن تسكن بعدها فسكنت؛ فتلك سنة الله التي خلت في عباده تجري اليوم في هؤلاء.
فإذا تساءلت عن كل تلك العوارض وقلت: من المسبب لتلك الأسباب؟ وما هي الحكمة وراء تسبيبها؟ يخرس متفلسفة كل عصر، وينطق العجاج؛ من عاصرَ الجاهلية الأولى ثم منّ الله عليه بالإسلام:
الحمد لله الذي استَقَلَّتْ
بإذنه السماءُ واطمأنتْ
بإذنه الأرض فما تَعَنَّتْ
وَحَّى لها القرارَ فاستقرتْ
وشَدَّها بالراسيات الثُبَّتْ
رَبُّ العبادِ والبلادِ القُنَّتْ
لقد رأى فرعون طوفان النهر أو البحر أحد تسع آيات ذكرت في القرآن فلم يعتبرها آية، بل ثورة كونية! وفرصة سانحة لكي يطارد أتباع الأنبياء، ويرى اليوم بعض الناس الزلازل المودية بالآلاف والفيضانات والأعاصير، فلا يعدها آيات بل هو غدر الطبيعة القاسي.
ثم يصر على عزو الحوادث إلى أسباب تفتقر إلى أخرى لا تنتهي إلاّ عند مسببها الغافل عنه، المصر على إنكاره بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا برهان تجريبي أو عقلي واحد، فليس معه حجة في إنكاره غير الجهل، مع أنه يرى الحوادث تترى. وقد تقرر في ميزان العقول أن كل ما هو جائز الحدوث من نحو هذه العوارض الأرضية وأسبابها التي يذكرونها، من الممكن أن تكون، ومن الممكن ألا تكون؛ فكونها جائزة قضى باستواء طرفي الوجود والعدم فيها، فلا يترجح أحد الطرفين فيكون موجوداً أو يكون معدوماً إلاّ بمرجح خارجي ليس بجائز، بل هو واجب تختلف صفاته ونعوته عما يدركه البشر من الموجودات الجائزة فلا تجري فيه مقايسهم.
إن المسلم لا ينكر الأسباب والنواميس التي أجراها الله في الكون، ولكنه ينكر على بعض القائلين بها اقتصارهم عليها، ونسيانهم لمسببها وجهلهم بحكمته منها؛ فإن الله قد أجرى الدنيا على قانون الأسباب، فلا يقتضي القول بها إنكار الخالق، ولا يقتضي إثبات الخالق إنكاراً لها.
إن من فرح بما علمه من أسباب كونية وأصر على قصر تفسير الظواهر الأرضية بها فسينتهي به المطاف إلى الحيرة أو الاتِّكاء على سبب هشٍّ لن يجد له مسبباً إلاّ إن أقرّ بالخالق الرازق المدبر، واعترف بعلمه وقدرته ومشيئته، وعلم أنه لا يحيط به علماً.
وعندها حري به أن يلهج بدعاء الأنبياء: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] ، {وَذَا النُّونِ إذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .
أسأل الله أن يرفع الضر والبأس عن المسلمين، وأن يتداركهم برحمته فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وصلى الله وسلم على نبينما محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند مستقيم عن صفية بنت أبي عبيد [زوج ابن عمر] قالت: «زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر وابن عمر يصلي فلم يدرِ بها ولم يوافق أحداً يصلي فدرى بها، فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم لقد عجلتم، قالت: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم» ، وقد رواه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى: 3/342 برقم (6170) ، وابن عبد البر في التمهيد: 3/318، وغيرهم.
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني: 7/57.
(3) ينظر: صحيح البخاري: 5/2146 (5347) ، ومسلم: 4/2064 (2680) ، ورواه غيرهما.
(4) التمهيد لابن عبد البر: 18/28.
(5) شرح النووي على مسلم: 17/8.
(1) صحيح البخاري: 3/1317 برقم (3403) ، ومسلم: 4/2207 برقم (2880) .
(2) فقيه المالكية وإمامهم في الأندلس سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي القرطبي، ولد في آخر ثلاث وأربعمائة، وكانت وفاته في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، تنظر ترجمته في تكملة الإكمال: 1/361، وطبقات الحفاظ: 1/440، وغيرهما.
(3) المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي: 5/109.
(4) 6/2602، باب رقم (18) .
(5) ينظر فتح الباري: 13/60 وما بعدها.
(6) السابق ص 61.
(7) الحديث مشهور عن زينب بنت جحش، ترويه زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان أو عن حبيبة عنها - هكذا وقع عند بعضهم - عن أم المؤمنين زينب بنت جحش، ولكن ذكره الإمام مالك بلاغاً عن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- (الموطأ: 2/991 برقم (1798)) ، قال ابن عبد البر في التمهيد 24/304: (وهذا الحديث لا يعرف لأم سلمة بهذا اللفظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلاّ من وجه ليس بالقوي يروى عن محمد بن سوقة عن نافع بن جبير بن مطعم عن أم سلمة، وقد روي في معنى هذا الباب حديث عن أم سلمة في هذا المعنى بغير هذا اللفظ، وأما هذا اللفظ فإنما هو معروف لزينب بنت جحش عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مشهور محفوظ من حديث ابن شهاب) .
(1) حديث مشهور أصله عن البخاري ومسلم متفق عليه روياه في غير موضع، ينظر صحيح الإمام البخاري: 1/277 (771) ، ومسلم: 1/466 (675) .
(2) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 249 ـ 251.
(3) سنن الترمذي: 4/467 برقم (2168) ، وكذلك 5/256 برقم (3057) ، ورواه أيضاً ابن حبان في صحيحه: 1/540 برقم (305) ، وأبو داود في سننه: 4/122 برقم (4338) ، والبيهقي في الكبرى: 10/91، والطبراني في المعجم الكبير: 24/23 برقم (55) ، ورواه غيرهم، وهو حديث صحيح صححه الترمذي، وكذلك صحح المقدسي إسناده في المختارة: 1/146.
(4) ينظر صحيح البخاري: 2/882 برقم (2361) وأوله: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة..» الحديث المشهور.
(5) الحديث مشهور، وأصح طرقه التي أخرجها الترمذي من طريق حنش الصنعاني هكذا قال ابن منده (جامع العلوم والحكم: 1/185) ، قال ابن رجب في جامع العلوم: «وطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة» 1/185، وقد أخرجه الترمذي في جامعه: 4/667 برقم (2516) ، وقال: «هذا حديث حسن صحيح» ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/623 برقم (6303) والذي يليه، وهو عند أحمد أيضاً: 1/293، و 1/303، و 1/307، ورواه آخرون، وقد صححه غير واحد من أهل العلم.
(6) جامع العلوم والحكم: 1/186-187، باختصار.
(1) ذكره القرطبي: 5/427، وابن كثير: 2/306، وأسنده ابن جرير في تفسيره: 9/273، وهو من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس والخلاف في صحيفته مشهور، فعليّ لم يلق ابن عباس وقد نص عليه غير واحد، ولكن روايته من صحيفته واسطته فيها ثقات معروفون، وقد أثنى عليها الإمام أحمد، ولعل الصواب قبول ما أورده إجمالاً ما لم يخالف فيه أو يستنكر.
(2) موطأ مالك: 2/991 (1799) ، والأثر صحيح إلى عمر رضي الله عنه، ورجاله ثقات.
(3) المنتقى للباجي: 7/316.
(4) أحكام القرآن لابن العربي: 2/391.
(5) صحيح البخاري: كتاب الشركة، رقم 2313.
(6) شرح الموطأ: 3/434.
(1) ذكره القرطبي: 5/427، وابن كثير: 2/306، وأسند ابن جرير في تفسيره: 9/273، وقد مرّ.(219/3)
حقيقة الشورى بين الاتباع والادعاء
محمد بن شاكر الشريف
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن الشورى في الأمم السابقة، كما تحدث عن الشورى في القرآن، وذكر أهل الشورى وبيّن صفاتهم، كما تحدث عن مجالات الشورى وفوائدها، خاصة في الأمر الذي يعني جماعة المسلمين، وابتدأ الحديث عن حكم الشورى، وذكر أنها أنواع ثلاثة: شورى واجبة ونتيجتها ملزمة، وشورى واجبة ونتيجتها غير ملزمة، وشورى مستحبة ونتيجتها غير ملزمة، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة تفصيل ذلك:
الأولى: شورى واجبة ونتيجتها ملزمة، ومن ذلك:
1 ـ اختيار الحاكم:
إن الحاكم لا يجوز له تولي الأمر استبداداً، أو بالقوة والغلبة والقهر، بل يجب أن تكون هناك شورى بين المسلمين في ذلك، وإذا تشاور المسلمون فأجمعوا على اختيار شخص للولاية فإن نتيجة اختيارهم ملزمة، وكذلك إذا اختارته غالبيتهم أو أكثرهم، والشورى التي تحدث في ذلك هي في حقيقتها بين أهل العقد والحل، وبقية المسلمين تبع لهم في الاختيار، ويدخل ذلك تحت قوله ـ تعالى ـ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، فإن هذا الأمر مما يصدق عليه أنه أمرهم، فهو لا يخص فرداً أو طائفةً، بل يخصهم جميعاً، ومن ثم ينبغي أن يكون هذا الأمر شورى بينهم كما بينت الآية ذلك، وقد دل عليه قول وتصرف الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو من الخلفاء الذين أُمرنا باتباع سنتهم في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (1) ، فقد عدَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ تفرّد فرد أو طائفة من المسلمين بعقد البيعة من غير مشورة، غصباً لأمور المسلمين، وقال بعدما بلغه قول من يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، قال: «إني ـ إن شاء الله ـ لقائم العشية في الناس، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم» (2) ، وقال أيضاً ـ رضي الله عنه ـ في أول خطبة له بالمدينة، بعدما رجع من الحج في السنة التي قتل فيها: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه؛ تغرة أن يُقتلا» (3) ، وقد قال عمر ـ رضي الله عنه ـ ذلك بمحضر من الصحابة من أهل الفقه وأشراف الناس، ولم يعارضه في ذلك أحد مما يدل على إجماع الحاضرين على وجوب الشورى في نصب الوالي. وقد أجمع أهل العلم على أن نصب الخليفة فرض كفاية على الأمة، فكيف يفرض عليها القيام بشيء في الوقت الذي لا يؤخذ رأيها فيه، أو لا يعتدّ به بعد أخذه، هذا كلام متدافع متناقض، فدل ذلك كله على أن الشورى في هذا الأمر واجبة، كما أن الالتزام بما انتهت إليه واجب أيضاً.
2 - أمور ليست داخلة في صلاحية الحاكم، أو ليست داخلة في عقد البيعة:
يجب على المسلمين طاعة أولي الأمر الشرعيين؛ فإن مضمون البيعة أن يقوم الولاة بتنفيذ الشريعة بمعناها الشامل لا المحدود في مقابل السمع والطاعة من المسلمين، لكن ليست كل الأمور في ذلك على وِزان واحد؛ فهناك أمور ليس من صلاحية الحاكم الأمر بها أو النهي عنها، أو أنها ليست داخلة في عقد البيعة الذي يجب الوفاء به، فهذه يجب على الحاكم مشاورة أهلها، ولا يجوز له أن يتجاوز ما انتهت إليه شوراهم، وقد حدثت لذلك أمثلة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن ذلك: في غزوة بدر الكبرى لما أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ملاقاة المشركين ـ بعد نجاة قافلة مشركي مكة ـ استشار من معه في القتال، فوافقه على ذلك المهاجرون، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بذلك وقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس!» وهو يريد بذلك الأنصار؛ وذلك أن البيعة التي أخذها عليهم في مكة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج المدينة، وإنما كانت قاصرة على أن يمنعوه وهو في ديارهم مما يمنعون منه أنفسهم، ولم يُفرَض الجهاد في ذلك الوقت فرضاً عاماً، فكان خروج الأنصار إلى القتال في غزوة بدر خارجاً عن حد البيعة، كما لم يكن هناك إلزام من الشرع بذلك؛ لذلك أصرَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على معرفة رأي الأنصار وموافقتهم على القتال، فقال له سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ لما فطن أن رسول -صلى الله عليه وسلم- يقصدهم بذلك: «لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم! وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم؛ فاظعن حيث شئت، وصِلْ حبل من شئت، واقطع حبل من شئت..» إلى أن قال: «والله! لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك» فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد ونشَّطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» (1) ، أخرجه مسلم بلفظ: «عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ... » الحديث (2) ، فلم يُقْدِم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على إشراكهم في القتال حتى استشارهم، وعلم موافقتهم بذلك، ولم يعتدَّ بقول المهاجرين؛ لأن المقصود بالشورى هنا الأنصار للعلة التي ذكرناها، وقد أجاب عنهم سعد ابن معاذ ـ رضي الله تعالى عنه ـ وكان سيدَ الأوس؛ فهو يمثل أهل العقد والحل بالنسبة لهم، ولذلك قال: «وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم» .، وفي رواية مسلم أن المتكلم سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ وكان سيد الخزرج، وهو أيضاً يمثل أهل العقد والحل بالنسبة لهم، ومن المحتمل أن يكون الاثنان قد تكلما بذلك فهما سيدا الأنصار، وأيّاً كان الأمر فإن أحداً من الأنصار لم يعترض على ذلك، ولذلك عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قولهما.
وفي غزوة حنين، عندما قسّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين غنائمهم التي أفاءها الله عليهم؛ جاء وفد هوازن مسلماً تائباً وسألوه أن يمنّ عليهم بما غنمه المسلمون منهم من السبايا والأموال، ولما كانت قسمة الغنيمة قد وقعت ووصلت أصحابها بمقتضى القسمة الشرعية، ووضع أصحابها يدهم عليها، وصارت ملكاً لهم بذلك؛ لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ منهم ما استحقوه بحكم الشرع، ويخرجه من ملكهم إلا بموافقتهم؛ لذلك عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك عليهم وندبهم إليه، وبيَّن لهم أن من طابت نفسه بردِّ ذلك عليهم فليردّه، ومن لم تطب نفسه فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعوِّضه عن ذلك من أول ما يفيء الله على المسلمين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخاطباً المسلمين بعدما أثنى على الله بما هو أهله: «أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين، وإني قد رأيت أن أردَّ إليهم سبيهم؛ فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظِّه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيَّبنا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنَّا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا» (3) ، فهنا أيضاً شاور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحاب الشأن وعمل على رأيهم؛ لأنهم هم أملك بذلك، ولم يقبل الإجابة الجماعية، لأنها قد لا تمثل رأي الجميع، ولأن من وافق قد يكون وافق حياءً من غير إرادة حقيقية، لذلك طلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من العرفاء أن يرفعوا حقيقة الأمر.
وفي غزوة الأحزاب أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يفرق صف المشركين، بأن يستميل بعضهم ويعطيهم عطاء حتى يرجعوا، ولما كان العطاء الذي يريد هو جزء من تمر المدينة، وكان هذا التمر مملوكاً لأصحابه، ولم يكن هو من ممتلكات بيت المال، فإنه لم يفعل ذلك قبل أن يستشير أصحاب المال، فاستشار في ذلك السَّعدين سيدي الأنصار: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، يقول الذهبي: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك، فلما أن أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفعل بعث إلى السَّعدين فاستشارهما، فقالا: يا رسول الله: أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا منه، أم شيئاً تصنعه لنا، قال: بل شيء أصنعه لكم، والله! ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك، ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال: فأنت وذاك، فأخذ سعد الصحيفة فمحاها ثم قال: ليجهدوا علينا» (1) ، فالشورى هنا واجبة ونتيجتها ملزمة.
الثانية: شورى واجبة ونتيجتها غير ملزمة:
المسلم مطالب بأن يُقًْدم على ما يقدم عليه على علم وبصيرة، ولا يجوز له الإقدام على جهل، ويعظم ذلك بأمرين أحدهما: أن يكون صاحب الإقدام كبيراً معظماً يتبعه على ما أقدم عليه الكثيرون، والثاني: أن يكون الأمر المقدَم عليه أمراً ذا شأن، وهذان متحققان بأوضح صورة في حالة الأمير أو الوالي؛ إذ ما يقدم عليه ترتبط به مصالح الأمة، ويتبعه على ذلك الناس جميعهم، فإذا كان هو يجهل ولا يدري ما التصرف الصواب إزاء هذا الأمر، لم يحل له أن يقدم على جهل، بل يجب عليه والحالة هذه أن يستشير في هذا الأمر من يثق بعلمه، ودينه وأمانته التي تحجزه عن أن يشير بهواه أو بالباطل، ويدخل في ذلك مسائل الاجتهاد، وكذلك مسائل الدنيا، وقد يكون المستشار في ذلك فرداً واحداً، أو عدة أفراد كل على حدة، أو مجموعة من الناس سواء سموا مجلس الشورى أو لم يسموا، وإذا استشارهم وتبين له من الكلام معهم ومن المداولات والمراجعات وجه الصواب الذي ينبغي العمل عليه، فلا يجب عليه والحالة هذه أن يلتزم بما انتهت إليه الشورى، سواء اتفقوا على رأي واحد أو اختلفوا فيما بينهم، ما دام ولي الأمر عدلاً، وجاء باختيار حقيقي من المسلمين، بل يجب عليه أن يعمل بما ظهر له صوابه، وليس في يد أحد نص شرعي يبين أن الإنسان يترك ما تبين صوابه من القول أو العمل، من أجل أن كثيرين من نظرائه أو ممن هم أكثر منه علماً قد خالفوه في رأيه. قال ابن أبي العز الحنفي صاحب (شرح الطحاوية) : «وقد دلَّت نصوص الكتاب والسنَّة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة؛ يُطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه» (2) . وقال ابن عاشور: «وقوله: {فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] ، العزم: هو تصميم الرأي على الفعل، وحذف متعلق عزمت؛ لأنه دل عليه التفريع عن قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، فالتقدير: فإذا عزمت على الأمر، وقد ظهر من التفريع أن المراد: فإذا عزمت بعد الشورى، أي تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه، فعزمت على تنفيذه، سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى، أو كان رأياً آخر للرسول [ظهر] سداده، فقد يخرج من آراء أهل الشورى رأي، وفي المثل: ما بين الرأي والرأي رأيٌ» (3) .
فإن «الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف وينظر أقربها قولاً إلى الكتاب إن أمكنه؛ فإذا أرشده الله ـ تعالى ـ إلى ما شاء منه، عزم عليه، وأنفذه متوكلاً عليه؛ إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله ـ تعالى ـ نبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية يعني قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] (4) ، وقال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «لا غنى لولي الأمر عن المشاورة؛ فإن الله ـ تعالى ـ أمر بها نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال ـ تعالى ـ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] ، وقد رُوي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» ، وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به مَنْ بعده ليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي: من أمر الحروب والأمور الجزئية، وغير ذلك، فغيره -صلى الله عليه وسلم- أوْلى بالمشورة.
وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى: 36 - 40] ، وإذا استشارهم فإن بيَّن له بعضهم ما يجب اتِّباعه من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع المسلمين، فعليه اتِّباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيماً في الدين والدنيا. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] (5) .
وقد تبين من قصة ملكة سبأ أن رأيها وحدها كان هو الصواب، ولو أخذت بما عرَّض به الملأ من قومها وهو الحرب لكان فيه الهلاك لهم جميعاً، وهو ما يبين أن الإنسان الفرد ربما أدرك من الصواب ما لم يدركه الكثيرون من أهل النظر والاستشارة.
لكن ها هنا حالة، وهي ما إذا لم يتمكن الحاكم من معرفة الأصوب من الأقوال والآراء والخطط، فيما عرض عليه في الحادثة موضوع الشورى، بحيث لم يكن عنده ما يُرَجَّح به قول على آخر، فقد اختلف أهل العلم في ذلك، والأرجح والله ـ تعالى ـ أعلم أن يلتزم قول الغالبية أو الأكثرية في هذه الحالة، فتكون هذه المسألة من مسائل الحالة الأولى «شورى واجبة ونتيجتها ملزمة» ، أما إذا اختلفوا على عدة آراء، ولم يكن هناك ما يمكن أن يقال عنه أغلبية أو أكثرية، فله أن يتبع في ذلك من كان عنده أرضى علماً وديناً سواء كان فرداً أو مجموعة. قال ابن تيمية بصدد هذه الحالة: «وإن كان أمراً قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عمل به، كما قال ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى ـكل منهما أن يتحرَّى ما يقوله ويفعله، طاعة لله ورسوله واتِّباع كتاب الله، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ـما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت، أو عجز الطالب، أو تكافؤ الأدلة عنده، أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال، وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره) (1) .
الثالثة: شورى مستحبة ونتيجتها غير ملزمة:
وهو كل ما يراد اتخاذ قرارٍ فيه، مما يحتمل عدة أوجه، وهو داخل في صلاحيات ولي الأمر، ووجه الصواب واضح فيه، فإنه يجوز لولي الأمر المشاورة فيه، بل تستحب - إذا لم يكن من الأمور التي لا تحتمل التأخير - تشوّفاً لمزيد من العلم والاطلاع حول الموضوع؛ وحذراً من الوقوع في الخطأ غير المقصود، تمشّياً مع قول القائل: «رَأْيُنا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب» ، و «من جاءنا بأحسن مما قدرنا عليه أخذنا به» ، ويدخل في ذلك تسيير ولي الأمر لأمور الدولة، وإصداره للتعليمات التي تنظِّم العمل، وعمل اللوائح والنُّظُم التي يضبط بها أمره، واختياره لمعاونيه، وتوليته للولاة على الأقاليم أو غيرها، وتحديد صلاحياتهم ومحاسبتهم وعزلهم إذا اقتضى الأمر، ونحو ذلك من الأمور التي تدخل في صلاحياته؛ فإنه يعمل ذلك انطلاقاً من صلاحياته، ولا تجب عليه الاستشارة في ذلك، وإن كانت السنة النبوية تبين أن الاستشارة في هذه الأمور وما جرى مجراها فيها خير كبير، ولن يعدم المستشير أن يستفيد خيراً إذا أحسن اختيار من يستشيره. قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «واعلم أنه يُستحبّ لمن همّ بأمر أن يُشاور فيه مَن يَثقُ بدينه، وخبرته وحذقه، ونصيحته ووَرَعه وشفقته، ويُستحبّ أن يُشاور جماعة بالصفة المذكورة، ويستكثر منهم ويعرّفهم مقصودَه من ذلك الأمر، ويُبيِّن لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شيئاً من ذلك، ويتأكّدُ الأمرُ بالمشاورة في حقّ ولاة الأمور العامة: كالسلطان والقاضي ونحوهما» (2) . وعندما يستشير الحاكم فهو الذي يحدد كيف يشاور: أيكون ذلك فردياً؛ بمعنى أن يستشير كل فرد على حدة، أم جماعياً، بمعنى أن يجمعهم معاً ويعرض عليهم ما يريد، أم يستخدم هذا حيناً، وذاك حيناً آخر، وهذا في مسائل، وذاك في مسائل أخرى، وهل لذلك عدد ثابت، أو يستشير فرداً في حالة وأفراداً في حالات أخرى؟ وهل يلزم لذلك تكوين مجلس يُعرف بمجلس الشورى أو لا؟ وهل لهذا المجلس اجتماعات دورية أو أنه ينعقد عند الاستدعاء؟ وإذا كانت له اجتماعات دورية؛ فكم مرة يجتمع في السنة مثلاً، وأين، ومتى؟ والطريقة التي يتم تبادل الرأي فيها بين المجتمعين، وإلى أي مدى يؤثر غياب بعض أهل الشورى في قرارهم؟ وهل لذلك نصاب محدد؟ ونحو ذلك من الأمور؛ وذلك أن التكييف الفقهي لوضع أهل شورى الحاكم، أنها جماعة مساندة أو معاونة للحاكم، وليست جماعة رقابة أو حسبة، فكما يختار الحاكم الوزراء والولاة ونحوهم، فإنه يختار أيضاً مستشاريه، انطلاقاً من مسؤوليته، ولا يمكن أن يكون الحاكم محاسباً أمام الأمة ومسؤولاً عنها، في الوقت الذي يمنع من تسيير الأمور بطريقته التي يراها، فيما هو داخل في صلاحياته، ويبقى بعد ذلك للأمة حق الاحتساب عليه في ذلك إذا أساء التصرف أو لم يحسن التدبير.
وتحرم المشاورة فيما تبيَّن فيه حكم الشرع: بإيجاب، أو تحريم، أو إباحة، فلا يمكن المشاورة فيه؛ لقضاء الله ورسوله في ذلك، قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، ولا تكون الشورى فيه إلا في فهم المقصود منه، أو في كيفية التنفيذ، إذا كان هناك أكثر من طريقة لتنفيذه.
والشورى تعمل ضمن نظام متكامل، ومن ثم فإنه من غير المقبول أن يأخذ بعض الناس هذه الجزئية من النظام السياسي الإسلامي ثم يتركون باقيه؛ لأن النظام السياسي في الإسلام كالجسد يشد بعضه بعضاً؛ فإذا غاب بعضه اختل توازنه، فالنظام السياسي وهو يبين هذه الأحكام المتعلقة بالشورى، فإنه قبل ذلك اشترط شروطاً معينة فيمن يصلح أن يكون ولياً لأمر المسلمين، من العلم والعدالة والشجاعة، والخبرة بسياسة الدنيا، على ما هو مذكور في كتب الأحكام السلطانية، كما بَيَّن الطريقة التي يمكن أن يتولى بها هذا الأمر، والتي هي في لُبِّها أن يكون ذلك بشورى المسلمين الحقيقية، ثم بعد ذلك جعل للمسلمين الحق في محاسبة الولاة عند مخالفتهم لأحكام الشريعة، أو عند عدم قدرتهم على تحقيق المقاصد الدينية والدنيوية من نصبهم، أو عند تجاوزهم للصلاحيات المشروعة لهم، بل أوجب عليهم ذلك.
في تلك العصور المفضلة اتخذت الشورى عديداً من الصور، ولم يُلتزم فيها بصورة واحدة أو طريقة معينة، ولكنها مع ذلك اتفقت في تحقيق الغرض من الشورى، فكانت شورى حقيقية وليست شورى شكلية؛ فمن هذه الصور:
ـ في غزوة بدر عندما أرد -صلى الله عليه وسلم- النزول في مكان ما، أشار عليه أحد الصحابة وهو الحباب بن المنذر ـ على ما تروي كتب السيرة ـ بالنزول في مكان آخر لمناسبته لظروف المعركة، فقبل منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك لمَّا تبين له جودة الرأي، ولم يحتج إلى مشاورة غيره في ذلك.
ـ وفي غزوة بدر أيضاً عندما استشار الأنصار في القتال، وقام سيدهم سعد ـ رضي الله عنه ـ موافقاً ومؤيداً، اكتفى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله، ولم يستشر بقية الأفراد؛ إذ لم يعترض أحد منهم على ما قاله سعد.
ـ وفي أسرى بدر استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر، فقال لهما: ما ترون في هؤلاء الأسارى (1) ؟ وتضيف بعض الروايات إليهم علياً لكنها لم تذكر له رأياً، وبعضها تضيف عبد الله بن رواحة وتذكر رأيه، ولم يستشر غيرهم صراحة، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، ولم يأخذ بقول عمر، وقد يكون ظهر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميل الناس لما رآه أبو بكر، لكن ليس على ذلك دليل صريح.
ـ وفي غزوة أحد استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وكان يرى هو البقاء في المدينة والتحصن فيها، وكان يرى مثل رأيه الأكابر من المهاجرين والأنصار، وكذلك عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان على رأي عبد الله بن أبيّ ثلث الجيش، وكان - كما يقول ابن سعد -: «فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً فطلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخروج إلى عدوهم ورغبوا في الشهادة» (2) ، ولما ألحوا عليه في الخروج وافقهم على ذلك، ولم يكونوا هم الأكثرية كما يلهج بذلك كثير من المعاصرين؛ فإن جيش المسلمين في غزوة أحد حسب ما تذكر المصادر كان حوالي الألف، وقد انخزل عبد الله بن أبيّ بن سلول ـ رأس المنافقين ـ بثلثهم حينما توجهوا للقتال، على أساس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ برأيه وأخذ برأي الفتيان، وهو ما يبين موافقة المنخذلين على رأيه في عدم الخروج، وقد كان الذين ألحّوا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخروج هم الذين لم يشهدوا بدراً، وقد كانت عدة أهل بدر فوق الثلاثمائة بقليل؛ فإذا طرحنا عدة أهل بدر وكذلك المنخذلين مع عبد الله بن أبيّ بن سلول من عدةّ أهل أحد، فكيف يكون الباقون وهم الراغبون في الخروج هم الأكثرية؟ على أنَّا نقول: إنه لم يكن في رأي المشيرين بالخروج خطل أو خلل، كما يحاول أن يروِّج ذلك القائلون بوجوب الأخذ برأي أغلبية أهل الشورى ولو كان الرأي خطأ، أو أدّى إلى هزيمة كما حصل في أحد، ويقولون: تهزم الأشخاص ولا تهزم المبادئ، والثابت يقيناً أن الهزيمة في أُحُد لم تكن بسبب الخروج، ولم تكن الإشارة بالخروج خطأ، وإنما الخطأ كان في مخالفة الرماة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما تركوا أماكنهم للاشتراك في الغنيمة، فقد هزم المسلمون المشركين في أول النهار، وظلوا يجمعون الغنائم، مما أغرى الكثير من الرماة بالنزول عن أماكنهم للمشاركة في الغنيمة، وقد بين الله ـ تعالى ـ ذلك بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] ، قال ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ: «يعني بقوله ـ تعالى ذكره ـ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ} أيها المؤمنون من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بأُحد وعده الذي وعدهم على لسان رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، والوعد الذي كان وعدهم على لسانه بأُحد قوله للرماة: اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنَّا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وكان وعدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النصر يومئذ، إن انتهوا إلى أمره» (3) ، ويقول ابن كثير: «وقد كان النصر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة» (4) ، فأراهم الله ـ تعالى ـ ما يحبون وهو النصر، ومكَّنهم من الكفار فأخذوا يحسونهم بإذنه، والحسّ: القتل، أي يقتلونهم بحكمه وقضائه لهم بذلك، وتسليطه لهم عليهم، ففي هذه الغزوة استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان له رأي وافقه عليه أكثر أصحابه، وأخذ برأي مخالف لرأيه، وهو يعلم أن النصر متحقق في كلا الحالين إذا امتثلوا أمره، وقد كان النصر للمسلمين، إلى أن عصوه فبدل الله حالهم، كما قال ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] .
ـ وفي غزوة الخندق أشار سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، وهي الخبرة التي اكتسبها سلمان من الفرس، فأخذ بقوله ولم يستشر غيره في ذلك، وأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق وحفر معهم، قال ابن حجر: «وكان الذي أشار بذلك سلمان فيما ذكر أصحاب المغازي منهم أبو معشر، قال: قال سلمان للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنَّا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق حول المدينة، وعمل فيه بنفسه ترغيباً للمسلمين، فسارعوا إلى عمله حتى فرغوا منه» (5) .
وقد روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» (6) ، وفي هذا دليل على أن استشارة بعض الناس من أهل العلم والفضل والإيمان تغني عن استشارة غيرهم، وأن قولهم مقدم على قول غيرهم عند الاختلاف، وفيه من الدليل أيضاً على أن الناس لا يستوون في أمر الشورى، وأن هناك من الأفراد من يوزن قولهم ورأيهم بقول العشرات أو بالمئات من الناس، والأمثلة من استشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرة، وغرضنا التمثيل وليس الاستيعاب.
ولو انتقلنا إلى عصر الخلافة الراشدة لوجدنا أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يقول في وصيته لعمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ عندما أرسله أميراً على جيش من جيوش المسلمين: «وشاور أهل الرأي والتجربة ولا تستبد برأيك دونهم؛ فإن في ذلك احتقاراً للناس ومعصية لهم» (7) ، فأمره بالشورى ونهاه عن الاستبداد بالرأي وذكر له الحكمة من ذلك، وبيّن له مَنْ مِن الناس يشاور، وهي شورى قاصرة على أهل الرأي والتجربة وليست شورى عامة.
وكتب عمر إلى شريح القاضي: «أن اقضِ بما استبان لك من قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاقضِ بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح» (1) ، فأمره بالاستشارة عند الاجتهاد، وحدَّد له مَن الذين يشاورهم، وهم أهل العلم والصلاح؛ فهم الذين يرجع إليهم في القضاء، وقال عمر أيضاً: «واستشر في أمرك الذين يخشون الله» (2) ، ففيه ـ أيضاً ـ بيان صفة من يستشار، «وكتب عمر بن الخطاب إلى النعمان بن مقرن ـ رضي الله عنهما ـ: أن استعن في حربك بطليحة وعمرو بن معد يكرب، واستشرهما في الحرب، ولا تولهما من الأمر شيئاً، فإن كل صانع أعلم بصناعته. أخرجه أبو عمرو وأبو موسى» (3) ، فأمره باستشارة أهل الخبرة والتجربة، فـ «القاضي والإمام والحاكم لا ينفذ قضاء ولا يفصله إلا عن مشورة من بحضرته، ويصل إليه ويقدر عليه من علماء موضعه، وهذا مشهور من مذهب عمر رضي الله عنه. ذكر سيف بن عمر عن عبد الله بن المستورد عن محمد بن سيرين قال: عهد عمر إلى القضاة أن لا يصرموا القضاء إلا عن مشورة وعن ملأ وتشاور، فإنه لم يبلغ من علم عالم أن يجتزئ به، حتى يجمع بين علمه وعلم غيره، وتمثَّل:
خليليَّ ليس الرأي في صدر واحد
أَثِيرَا عليَّ اليوم ما تريان
ولم يكن في عدم تنظيم الشورى في ذلك الوقت أو عدم سلوك طريق محدد في إجرائها نقص أو قصور، فقد كان أهل الرأي والخبرة يحيطون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان من السهل جداً استشارة من يريد استشارته، فلم تكن البيئة التي تجري فيها الشورى آنذاك تحوج إلى التنظيم، وكان في هذا دليل على أن المطلوب القيام بالشورى حقيقة بغضِّ النظر عن الرسوم والأشكال.
وعدم تنظيم الشورى في شكل موحد أو طريقة محددة هو في الواقع من طبيعة هذا الأمر؛ فإن هذا من باب الوسائل، والوسائل تتغير بتغير المكان والزمان والبيئة تبعاً لعوامل متعددة، فكان من الحكمة - التي تتميز بها التشريعات الإسلامية - تقرير الأحكام الشرعية مع عدم إلزام المسلمين على مدى الزمن بوسيلة تنفيذ ترتبط ملاءمتها ببيئتها التي تعمل فيها؛ فقد أمر الله ـ تعالى ـ مثلاً بالسعي إلى صلاة الجمعة فقال ـ تعالى ـ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، ولم يلزمنا بطريقة واحدة في السعي؛ فمنا اليوم من يسعى على رجليه، ومنا من يسعى على دابة، ومنا من يركب السيارة، وهكذا؛ فالوسيلة هنا غير مرادة، وإنما المراد السعي إلى صلاة الجمعة، فبأي طريق أو وسيلة سعى الإنسان جاز، وحيث تكون الوسيلة مرادة فإن النصوص الشرعية تدل عليها؛ كالأذان مثلاً فهو وسيلة للإعلام بدخول وقت الصلاة، لكنه لما كان مراداً لما اشتمل عليه من تقرير عقيدة التوحيد، والحث على الصلاة، وبيان أنها هي الفلاح نفسه؛ فقد أمرت به النصوص الشرعية. ومن هنا يتبين أن الشريعة إذا أمرت بشيء ولم تحدد طريقاً أو وسيلة معينة لأدائه، كان هذا حكماً بإباحة كل الطرق والوسائل التي تؤدي إلى تحقيقه، وليس عليها قيد سوى: أن لا تخالف هذه الطرق الأحكام أو المقاصد الشرعية الحقيقية، وأن تكون مؤدية حقاً إلى تحقيق الحكم الشرعي، وأن لا يترتب على الطريق المحدد مفسدة تزيد على المصلحة المتحققة، وأن لا تكون ثابتة ثبوت الأحكام الشرعية بل يمكن تغييرها إذا فقدت مسوغ اتخاذها، أو إذا تبين وجود طرق أفضل منها لتحقيق المقصود.
ليس هناك في الشرع ما يمنع من تنظيم الشورى، ولذلك سابقة في الصدر الأول؛ فعندما طُعِنَ عمر ـ رضي الله عنه ـ حصر الخلافة في ستة أشخاص، وهم الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم وهو راض، وأمرهم بالتشاور فيما بينهم لاختيار واحد منهم، ثم أدخل معهم في الاختيار عبد الله بن عمر ليكون مرجحاً عند انقسام الآراء أقساما متساوية، وأمرهم أن لا يزيد وقت تشاورهم في ذلك عن ثلاثة أيام، وجعل صهيباً على الصلاة في تلك الأيام، وأمر بانعزالهم عن الناس أثناء التفاوض حتى لا يشوش عليهم أحد، وأقام عليهم حراسة من خمسين رجلاً حتى يمنعوا الناس من الدخول عليهم إلى آخر ما ورد في هذا التنظيم العبقري، فلِوَلي الأمر على ذلك أن يقوم بتنظيم الشورى الخاصة به في مجلس شورى أو نحو ذلك، فيختار له من يثق فيهم ممن تتوفر فيهم صفات أهل الشورى، ويحدد عددهم، ويضع لهم التعليمات والضوابط التي تضبط العمل، ويستعين المجلس بمجموعات متخصصة في الأمور الفنية نظراً لتشعب التخصصات، واستحالة أن تحيط مجموعة صغيرة بجميع التخصصات، وأن تكون هناك متابعة ومراقبة شرعية من المجلس نفسه للتأكد من عدم مخالفة الاقتراحات للقواعد أو الأحكام الشرعية، ثم تُعرض الاقتراحات المختارة على ولي الأمر فيتدارسها معهم أو مع وزرائه ومعاونيه، ويعمل بما يرى أنه الأفضل من الاقتراحات المتقدمة، ويبقى بعد هذا كله حق الاحتساب من المتابعة والمراقبة لأهل الحل والعقد، سواء في اختيار أهل الشورى، أو في اختيار الاقتراحات للعمل
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب: السنة، رقم 3991؛ واللفظ له، والترمذي، كتاب: العلم، رقم 2660، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) البخاري، كتاب: الحدود، رقم 6328.
(3) البخاري، كتاب: الحدود، رقم 6328، وتغرة أن يقتلا: أي حذراً من القتل، قال ابن حجر: والمعنى أن من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل.
(1) الرحيق المختوم، الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، (ص 186) ، وانظر: السيرة النبوية، لابن هشام: 1/616.
(2) أخرجه مسلم، كتاب: الجهاد، رقم 3330.
(3) أخرجه البخاري، كتاب: الوكالة، رقم 2142.
(1) تاريخ الإسلام، 1/240.
(2) شرح الطحاوية، (2/534) ، ط/ دار هجر.
(3) التحرير والتنوير، 1/851، وما بين القوسين زيادة من الكاتب لاستقامة المعنى به.
(4) تفسير القرطبي، 4/240.
(5) السياسة الشرعية، ص 213.
(1) السياسة الشرعية، ص 213.
(2) الأذكار للنووي، 1/755.
(1) أخرجه مسلم، كتاب: الجهاد، رقم 3309.
(2) طبقات ابن سعد: 2/38.
(3) تفسير ابن جرير الطبري: 3/468.
(4) تفسير ابن كثير: 1/545.
(5) فتح الباري: 7/293-294، وأورده البغوي أيضاً في تفسيره: 1/321.
(6) أخرجه أحمد: رقم 17309، لكن الحديث ضعفه الألباني والأرناؤوط.
(7) الاستذكار لابن عبد البر: 5/21.
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم: 1/47.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 5/229.
(3) أسد الغابة: 1/548.(219/4)
دعوية الحوار والتعاون مع الآخر
د. عدنان علي رضا النحوي
لقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة لدى عدد من الدعاة والكُتَّاب المسلمين عن أهمية الحوار مع «الآخر» وعن ضرورة الاعتراف «بالآخر» وعن ضرورة البرِّ والقسط إليه، إلى درجة يكاد يرفع، من خلال ذلك، بعض الكتّاب المسلمين «الآخر» فوق المسلم، ويحرصون عليه وعلى حقوقه ولا يلتفتون إلى المسلم وحقوقه، وعُقِدت مؤتمرات وندوات عن ذلك. وبعضهم يبني ذلك على قوله ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] .
فيأخذون بعض هذه الآية ويتركون بعضها الآخر الذي هو الأساس. إنهم يقولون: يجب أن نتعامل مع هؤلاء وهؤلاء بالحكمة ونخاطبهم بالتي هي أحسن. وفي سبيل هذا الهدف يمكن أن نتنازل ونتعاون ونتقارب. وبذلك يلغون القاعدة التي قامت عليها الإشارة إلى الحكمة وما تلاها، ألا وهي: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ... } ! تَركوا الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، وأقاموا مكانها علاقات اجتماعية واقتصادية ومصالح مادية، وأخذوا من الآية الكريمة ما يظنّون أنه يسوّغ ما هم فيه من علاقات تطورت حتى أصبح فيها المسلمون يمتدحون مبادئ هؤلاء وفلسفاتهم ونظمهم وأدبهم وفكرهم. انقلبت الآية وأصبحنا نحن الذين نُدْعَى ولسنا الذين يدعون، على الأقل من الناحية العمليّة التطبيقية والنتائج الملموسة.
كيف يأمرنا الله أن ندعو هؤلاء من أهل الكتاب وغيرهم؟ وكيف تكون العلاقة معهم؟ فلنستمع إلى آيات الله البيّنات:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 47 - 48] .
إنَّ أوّل ما نفهمه من هذه الآية الكريمة هو أنَّ الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الإسلام، دعوة واضحة جادّة صريحة، دعوة إلى التخلّي عن الشرك.
إنَّ المواربة في هذا الأمر أو المداهنة أو المساومة ليست أسلوباً يدعو له الإسلام أو يرضى به الله. إنَّ الله يريد أن تكون دعوته واضحة جليّة، وأن نُبلّغها كما أُنزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فليست الدعوة إذن إلى التقارب مع «الآخر» فأيّ تقارب بين التوحيد والشرك؟ إنَّ قوة أهل الكتاب اليوم وسلطانهم الممتدّ يضغط على بعض المسلمين وعلى فكرهم، فتختلط الأمور تحت تأثير هذا الضغط.
لا بدَّ من أن نؤكِّد أنَّ أساس العلاقات هو الدعوة إلى الإسلام، وأن تكون الدعوة واضحة جليّة لا تدع لأحد عذراً يدّعي معه أنه لم يستوعب الدعوة، ويجب أن تكون الدعوة عامة على جميع المستويات، كما أنزلت من عند الله.
ولنستمع إلى آيات بيّنات أخرى توضّح ذلك:
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ وَإنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 60 - 63] .
وهذا أسلوب آخر من أساليب الدعوة إلى الإسلام يحمل خصائص الأسلوب السابق نفسها: الوضوح والجلاء، النهي عن المراء والمماراة؛ فإذا لم ينفع الجدل بإقناعهم بالحقّ من عند الله، فليجتمعوا ليدعوا أنَّ لعنة الله على الكاذبين. وأسلوب آخر:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] .
أسلوب ثالث، ولكنه مثل سائر الأساليب، واضح جليّ حاسم. فإن لم يستجيبوا فيعلن المسلم إسلامه واضحاً جليّاً ويقول: «اشهدوا بأنا مسلمون» .
لقد عرضت هذه الآية الكريمة أُسس الخلاف وأخطر قضاياه، وحددت الموقف الإيماني الحاسم منها كلّها.
هذه هي الحكمة والموعظة الحسنة التي يريدها الله والتي أشارت إليها الآية من سورة النحل: قول الحقّ والصدق، الوضوح والجلاء، عرض أخطر القضايا.
فلم يكن القرآن يبحث عن العوامل المشتركة الأساسية في دعوة الآخرين من المشركين ومن أهل الكتاب وغيرهم كما يدّعي بعض المسلمين اليوم؛ إنَّما كان يعرض الحق ويدعو إليه. فأنَّى يكون بين التوحيد والشرك عوامل مشتركة؟ وإذا كانت هنالك عوامل مشتركة هم يؤمنون بها ونحن نؤمن بها؛ فلماذا ندعوهم إليها؟ فما ذكرته الآية الكريمة من سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ..} ، لا تعرض عوامل مشتركة، وإنما تعرض جوهر الخلاف والقضايا غير المشتركة لتذكّرهم بها؛ لأنَّها كانت هي أساس دينهم الذي حرّفوه، حتى أصبحوا بسبب التحريف مشركين. وإذا كانت كلمة «سواء» عاملاً مشتركاً فلماذا ندعوهم إليها؟
إنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمرنا أن ندعو أهل الكتاب إلى الحقِّ الذي فارقوه، وأمرنا أن نُجادلهم بالتي هي أحسن، دون أن نُغيّر حقيقة الدعوة وأهميتها وقضاياها تحت ادعاء «بالتي هي أحسن» :
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] .
نعم! بالتي هي أحسن. إنها الأسلوب الذي يقنعهم بالحقِّ دون أيّ تنازل عنه. وهذا الحق هو الذي أُنزل إلينا فآمنَّا به وحفظه الله لنا، وهو الذي أُنزل إليهم كذلك فحرّفوه وبدَّلوه فأشركوا. ثم تكون النتيجة هي الحسم والفصل: «ونحن له مسلمون» .
لا بدّ أن يكون أسلوب الجدال يجمع قوة الحجّة، وصدق النيّة، وسلامة المنهج.
إنَّ الذي يعرضه القرآن الكريم من أجل التعامل مع «الآخر» وغيرهم في الأرض هو منهج متكامل متماسك، وليس قطعاً منثورة هنا وهناك. فلا بدّ حين نتحدّث عن هذا الموضوع أن نشير إلى هذا المنهج وإلى تكامله وإلى أسسه التي يقوم عليها، حتى تكون الصورة التي نعرضها أقرب للتقوى.
وحين لا نلتزم النهج أو لا نشير إليه وإلى أُسسه، ونكتفي بأخذ آية واحدة من هذا المنهج، فإنَّ الصورة ستختلف عندئذ كثيراً، والمصطلحات التي نستخدمها لا تنصف الدلالة المرجوة وقد تفارقها.
ويقول بعض الدعاة إنَّ الإسلام يدعو إلى التضامن مع «الآخر» ، لدرء المفاسد وجلب المصالح والمنافع للناس، كرفع الظلم ورعاية حقوق الإنسان وتعزيز الحريّة والعدالة وسائر المبادئ الإنسانية، ويستشهد على ذلك بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد حضرت في دار ابن جدعان حلفاً ما أُحبُّ أنَّ لي به حمر النعم، ولو أُدعى إليه في الإسلام لأجبت» [سيرة ابن هشام] .
حين يقال ذلك فإنه لم يُبيّن مَنْ هو «الآخر» أولاً، وما هي المفاسد وما هي المصالح، وما هي حقوق الإنسان وما هي الحريّة والعدالة والمبادئ الإنسانية، وما هو مقياس ذلك كله وميزانه؟ ومن الذي يحدّد المقاييس والموازين؟ إنّ حلف الفضول الذي كان في الجاهلية كان تعاهداً بين قبائل قريش: «على أن لا يَدَعوا بمكّة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا أقاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تردّ إليه مظلمته» . لقد كان أولاً حلفاً على قضيّة محدّدة بين قبائل قريش، لهم على الظلم ميزان يحتكمون إليه في جاهليتهم. وبعض هذا الميزان خير وبعضه غير ذلك. فإن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثه المذكور أعلاه فلا يعني أنه أقرَّ ميزان الجاهليّة لتحديد الظلم ولرفعه. ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- في حديثه المذكور «لو أُدعى به في الإسلام لأجبت» . وهذا يعني أنه «في الإسلام» لن يكون إلا ميزان واحد هو ميزان الإسلام، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه التعاون في نظر الإسلام؛ حيث يكون ميزان واحد يميّز الباطل من الحقِّ.
ففي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إقرارٌ لمبدأ التعاون على رفع الظلم، وتحديد للميزان الذي يحدّد الظلم. وكان «الآخر» آنذاك محدّداً معلوماً.
أما اليوم، فحين ندعو إلى التضامن مع «الآخر» فمن هو «الآخر» ؟ أليس هو الذي أجرى دماء المسلمين في فلسطين وفي العراق وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين؟ أليس هو القوة المسيطرة التي تحكم في الأرض بموازينها المضطربة وشعاراتها المزخرفة ومكاييلها المتعددة؟
فيحقُّ لنا أن نتساءل: إذاً لماذا هذا الحرص على «الآخر» ، و «الآخر» ليس بحاجة إلى حرصنا عليه، ولا هو حريص علينا؟ ولماذا تُثار هذه القضية و «الآخر» يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد؟
وباستعراض تاريخنا وخاصة في العصر الحديث الذي نعيشه لا أجد أنَّ «الآخر» وجد عدالة وحياة أفضل مما وجدها بين المسلمين. لقد عاش النصارى في معظم أقطار العالم الإسلامي حياة مطمئنّة كريمة إلا في فترات قليلة من تاريخنا الإسلامي. فالنصارى واليهود لم يُظْلموا في المجتمعات الإسلامية، ولكن يعاقبون بمقدار ما يُكْشَف من تعاونهم مع أعداء الأمة حين يتلقّون منهم التوجيه، ويعملون حسب المخطط الذي يرسمونه لهم.
فمن قائل: يجب أن نُقْسِط مع الآخر، ومن قائل: يجب أن نعترف به. ونتساءل: ولِمَ لَمْ يكن الأمر على عكس ذلك بأن يقسط «الآخر» معنا ويعدل معنا؟ فهو الظالم المعتدي المنكِر لحقوقنا. ومن قائل: يجب أن ننفتح عليه. وهل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه؟ فُتِحَتْ له القلوب والديار؟ إنَّ الآخر بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام.
نحن المسلمين اليوم نجابه أخطاراً تحيق بنا من كلّ ناحية. وإنَّ أبسط أنواع التفكير يجب أن تدفعنا جميعاً لندرس نهجاً عمليّاً يعين الأمة على الخروج مما يُكاد لها ويُمْكرُ بها.
إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام ونور الكتاب والسنّة، وفيه كلُّ ما يعين ويُنير الدرب والطريق.
يجب أن لا يدفعنا الإحباط والهوان إلى أن نتلمس النجاة عند «الآخر» . إنَّ سبيل النجاة بيّنه الله لنا وفصَّله، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله ونغيِّر ما بأنفسنا، ولننطلق على صراط مستقيم.
إنَّ الإسلام، والإسلام وحده، مصطلحاً ومعنىً ونهجاً، هو الذي يُعلّمنا كيف نحترم أنفسنا وكيف نقسط مع أهل الأرض كلّها، وكيف نتعامل مع شعوب الأرض نحمل رسالة الله، نبلّغهم إياها ونتعهّدهم عليها، بها نُخاصِم وبها نرضى وبها نتعاون.
مهما شعرنا بعجزنا وضعفنا وهواننا، فإنَّ لحظة الرجوع الصادق إلى الله تحيي في نفوسنا الأمل، وتبعث فينا القوة والعزيمة، وترسم لنا الدرب والأهداف والوسائل والأساليب، في صورة عبادة لله، ووفاء بالأمانة التي حملها الإنسان والتي(219/5)
جذوة العز
عبد الله عيسى السلامة
بَعْضُ نَفْسِ البَصير في أَحداقِهْ
والكَثيرُ المُثيرُ في أَعماقِهْ
ما بَصيرٌ مَنْ ضُمِّنتْ مُقْلتاهُ
كُلَّ ما في الضَّمير مِن أَشْواقِهْ
رُبَّ أَعمى العَينَينِ أَبصَرُ قلباً
مِن بَصيرٍ يَهيمُ في آفاقِهْ
* * * * *
ظالِمٌ ذلكَ الذي يَسْحَقُ الشَّعبَ
ويَجْني ما شاءَ من أَرزاقِهْ
ويَدُ الظالِمِ الذي يُمْكِنُ الظالمَ
مِن قَهْرهِ وشَدِّ وَثاقِهْ
وجَبانٌ يُكَفّنُ السَّيفَ رُعْباً
حينَ تُمْسي حَياتُه في امتِشاقِهْ
وفَقيهٌ يُزَيِّن الذُلَّ بالفِقْهِ
فتَعْساً للخائِرِ المتَفاقِهْ
نَسِيَ العِزَّ، إنّ للعِزّ فِقْهاً
ضَجَّ سمُّ الطغاة من تِرياقِهْ
إنّ للعِزّ جَذوةً تُحْرِق الشَّمسَ
إذا نالَ حَرُّها مِن رواقِهْ
* * * * *
أيُّ حقٍّ أَحقَّهُ اللّغْوُ لَمّا
نامَ حدُّ الحُسامِ عَنْ إحقاقِهْ
كَمْ رأَيْنا مِنْ نابهٍ عَبْقَريٍّ
سَخِرَ المجرمون مِن أوراقِهْ
وأَحالوهُ دُمْيةً تَتَنَزّى
وأَكُفُّ الجلاّدِ حَولَ خِناقِهْ
* * * * *
نَحنُ ظُلاّمُنا، ونحنُ المظاليمُ
وكُلٌّ مُوَكّلٌ برِفاقِهْ
رُبَّ شاكٍ من سَطْوة الظُّلم يشكو
كُلُّ ما في الحياةِ من أخلاقِهْ
يُشْهِدُ اللهَ أَنّهُ الصادِقُ البَرُّ
وسُمُّ الثُّعبانِ في أشْداقِهْ
رُبَّ صَدْرٍٍ يَضُمُّ بِذْرةَ فرعونَ
ويَحْوي زُجاجةً من مَذاقِهْ
إنْ تعامَتْ عَنه العُيونُ رَماها
بالعَمى، ثم ساقَها في سِياقِهْ
فهو يَشْكو لَذْعَ الحَميمِ، فإنْ سادَ
فَويْلٌ للأرضِ مِن غَسّاقِهْ
مَيِّتٌ كُلُّ مَنْ يَموتُ، ويَخْزى
دون مَوتٍ مُنافقٌ في نِفاقِهْ
فإذا صَفَّقَ المنافِقُ للظالِمِ ذُلاً
أو صارَ مِنْ أَبْواقِهْ
صار نَعْلاً أو يُشْبهُ النَّعلَ في رِجلَيهِ
يُلْقيهِ عِندَ انْخِراقِهْ
ليسَ للظُّلمِ مِنْ مُعينٍ عَلَيه
غيرُ سيفٍ يُفْنيهِ عنْدَ انْبِثاقِهْ(219/6)
من خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة
د. أحمد العمراني
1 - موقع خطبة الجمعة ومكانة الخطيب في الأمة:
تعد خطبة الجمعة واحدة من وسائل الدعوة إلى الله التي وضع أسسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، شرعت مرة كل أسبوع لتذكير الناس بأمور دينهم وحسن توجيههم وتوعيتهم وتثقيفهم.
وعلى هذا فالخطيب داعية إلى الله، ومهمة كل داع إلى الله النيابة عمن بعثهم الله لعباده؛ إذ الدعوة في أصلها رسالة الرسل والأنبياء، وبعد غيابهم ورثها عنهم العلماء لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ - وَرَّثُوا الْعِلْمَ - مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (1) .
والعالِم هو ناقل علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته، بتوضيح الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؛ وهو قائم في الأمة مقام الأنبياء، وسراج الأمة وضياؤها بلا مراء، يبين لهم الأحكام ويفرق لهم الحلال من الحرام، ويخرجهم من الآثام ويوضح لهم شرائع الإسلام.
وهو كالعين العذبة نفعها دائم، وكالغيث حيث وقع نفع، وكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل زمانه وعصره، وكالسراج من مر به اقتبس.
وكل من يعتلي منبر الخطابة فهو يعتلي منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخصوصاً في جانبه الدعوي التوجيهي، لهذا وجب على الخطيب أن يسد ثغرة خطيرة، ويتخصص في جانب مهم من أمور الدين يمنع به ما قد يؤذي المسلمين.
وربنا يقول: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (2) .
إضافة إلى كل ما ذكر فمخاطبة الناس زيادة على ما تستلزمه من شروط ينبغي توفرها في الخطيب، تتطلب موهبة خاصة يهبها الله ـ سبحانه ـ لمن اعتلى منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهناك من يُفتح له في هذا المنبر وهو بذلك يستحق اعتلاءه، وهناك من لا يُفتح له فيه فيجب بالضرورة أن لا يعتليه.
فقد روي عن الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه قال مجيباً العمري العابد لما كتب له يحضه على الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم؛ حيث قال له: «إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق فرُبَّ رجل فُتِِح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصيام؛ ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كِلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قُسم له والسلام» (3) .
فالحديث في أمور الدين ليس من السهولة بمكان كما قد يفهم الكثيرون، لهذا يجب أن يتولاها أهلها المستحقون لها، وقد حذر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- من عكس هذا فقال: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله» (1) .
كما يجب أن يكون خطاب الخطيب للناس خطاباً يسير وفق الأصل النبوي، خطاباً مبنياً على حسن البيان، والاختصار والإفهام؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي وَائِلٍ قال: «خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ؛ فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ! لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ! فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَأقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وإن مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً» (2) .
كما أن الخطاب يجب أن يكون هادياً ومحبباً الناس بالإسلام، وهو ما أشار إليه الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ في قوله: «إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمِّنهم من عذاب الله، ولم يَدَع القرآن رغبة إلى غيره» (3) .
فرواد الجمعة هم كل المجتمع، فيهم الأمي والمثقف، والجاهل والعالم، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والمتحزب وغيره، ويمكن تصنيفهم إلى أربع فئات - من حيث فهمهم وما يلزمهم - اجتهد في وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ رحمه الله ـ حيث قال: «الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فارشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه» (4) .
وكلهم يحضرون بقصد الاستفادة من توجيه الخطيب، والتعلم من العلم النافع الذي يخدم مسيرة كل واحد منهم في حياته؛ فمنهم من يأتي للاستفادة، ومنهم من يحتاج إلى من يوقظه من غفلاته وسهواته، ومنهم من يرغب في الإرشاد، ومنهم من يستحق التنبيه والتحذير.
2 - خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة:
إن المتفحص في نصوص شريعتنا، يستخلص خصائص مهمة للخطاب الديني الذي يجب على خطيب الجمعة الالتزام بها، والحرص على تنفيذها للإسهام في توجيه مسار الأمة نحو الخير والوسطية التي جاء بها ديننا الحنيف - باعتبار أن الخطيب هو واحد من دعاة الأمة الذين يوجهون للناس خطابهم الأسبوعي دون مناقشة أو استفسار، وينصتون إليه بكل شغف وشوق، ويعطونه آذانهم دون كلل أو لغو، ويحرصون على الاستفادة من خطابه لحسن معاشهم ومعادهم - وخصوصاً أن نص الحديث يحيط بهم بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالإمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» (5) .
لهذا على الخطيب أن يراعي في خطابه جملة من الخصائص تتمثل في الآتي:
1 - أن يكون خطابه شرعياً ربانياً؛ حيث يحرص في خطابه على دعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته وحده وعدم الإشراك به؛ فالأصل في بعثة الأنبياء والرسل الدعوة إلى عبادة الله وحده، وتصحيح عقيدة الناس التي انحرفت؛ وخير مثال على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث مُعَاذاً ـ رضى الله عنه ـ عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: «إنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ. . .» (6) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَارِزًا يَوْماً لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: مَا الإيمَانُ؟ قَالَ: الإيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ. قَالَ: مَا الإسْلاَمُ؟ قَالَ: الإسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شيئاً. .» (7) .
فالله ـ سبحانه ـ أخبر بأن المغفرة تشمل كل الخطايا والذنوب باستثناء الشرك فقال: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] . كما حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منه بقوله فيما رواه عن ربه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (8) .
لهذا يبقى خطاب الدعوة العقدي أصل الخطاب الذي ينبغي أن لا يغيب، ولا بأس بتكراره، وتجديد الحديث فيه بطرق ووسائل تبليغية تواكب مستجدات الشرك ومستحدثاته، كما تبدع في وسائل الخطاب الذي يحاربه، وبلغة سهلة ميسرة تصل إلى القلوب قبل الأسماع.
2 - أن يكون الخطيب هادياً لا جابياً:
أي يحرص في خطابه على هدي الناس إلى البر، مع تجنب الجباية أو طلبها بخطابه؛ فالهادي ضد الجابي، والله في عون كل من رغب في هداية الناس إلى الخير ويوفقه ويجازيه خير الجزاء، ويكفي في بيان أجر ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب ومن خلاله لكل الأمة: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» (9) . فأحب العباد إلى الله الذين يحببون الله إلى الناس، وهو ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه: «إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى الناس» (10) .
والخطيب إن تمثل الحكمة في خطابه كان من أفضل المحببين الله لعباده؛ وهذا بالتركيز على أن الهداية بيد الله، وأن مهمة الخطيب لا تتجاوز التذكير؛ لأن من هو أسمى من كل خطيب قد وُجه إليه هذا الخطاب في قوله ـ تعالى: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] .
3 - أن يكون خطابه اجتهادياً:
أي ليس توقيفياً؛ فالمطلوب من الخطيب الاجتهاد في خطابه، والإعداد الجيد لمواضيعه، والإبداع المستمر لما يقدمه للناس، مع تجاوز المكرر من الخطاب حتى لا يمل الناس فيملوه.
فالخطبة موعظة، والموعظة كلها توفيقية؛ فليس هناك نمط واحد لا يتغير في الأسلوب الذي يمكن مخاطبة الناس به، بل لا بد من التجديد والابتكار دون الخروج عن الأصول والثوابت؛ فألوان الخطاب كلها وسائل يستعان بها لحسن التبليغ، لكن الوسيلة في شرعنا غير مبررة بالغاية، بل لا بد من إخضاعهما معاً لشرع الله.
4 - أن يكون خطابه متدرجاً:
وهذا أمر بدأ به أمر الدين وخُتم؛ فكل ما حُرِّم على الأمة حرم تدريجياً وعلى مراحل، وما أمر الخمر والربا والإرث وغير ذلك في تنزيلات القرآن بخافٍ على المسلم.
فعلى الخطيب إن قصد بخطابه توجيه النصح أو الرغبة في تغيير ما يستحق التغيير أن يعرف كيف يعالج الأمر، وأن يستلهم منهجه ذلك من منهج رسول الإنسانية والرحمة المهداة للعالمين، ويكفي لبيان ذلك حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لعائشة ـ رضي الله عنها ـ إذ كان يرغب في تغيير معالم الكعبة، بل هدمها وتجديدها؛ حيث قال لها: «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية (أو قال بكفر) لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحِجْر» . وفي رواية: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحِجْر؛ فإن قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة» (1) .
إنه التدرج والتأني، ومراعاة أحوال الناس وقوة إيمانهم أو ضعفه لحسن تقبُّل الأمر الصعب الذي قد لا يوافق رغبتهم وهواهم، أو قد لا يحسنون فهمه.
5 - أن يكون خطابه متفاعلاً مع الواقع:
أي يكون خطاباً يعترف بالواقع ومشكلاته، ويعرف كيف يُخرج الناس من مشاكل الحياة وصعوباتها، ويقدم لهم الحلول المناسبة التي تهدئ النفوس وتطمئن القلوب، وهذا يقتضي من الخطيب حسن التفقه في الدين وحسن التعرف على الواقع، وحسن التفقه في كيفية تنزيل النص الشرعي على الواقع.
كما يقتضي من الخطيب أن لا يتقوقع أو يدعو إلى القوقعة في مواضيعه التوجيهية فيما لا يعود بالنفع على المسلمين، بل لا بد أن يعيش واقع الناس ويوجههم للمشاركة الايجابية في المجتمع، وعلى مخالطة الناس بالتي هي أحسن، ويعلِّمهم أن الأصل والأفضل هو المخالطة وليس الانعزال، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (2) .
6 - أن يكون خطابه جامعاً لا مفرقاً:
فالخطيب للجميع ومعلم لهم، مثل شجرة الزيتون «لا شرقية ولا غربية» ينير ضوؤه طريق كل الناس، بمختلف ألوانهم وأشكالهم، يحترم الجميع ويسعى لهداية وتعليم الجميع دون تحيز أو ميل، يجمع ويوحد، يصلح ولا يفسد، مفتاح للخير، مغلاق للشر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للشر؛ فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» (3) .
ويبني عمله وخطابه هذا على قول الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 103 - 105] .
وهذا يقتضي استخدام الكلمة المسؤولة استخداماً أميناً، مع جمال التعبير والعرض، والتذرع بأخلاق أهل الإيمان، التي تنفِّر من الحقد والوقيعة وسوء الظن، كما تنفر من الجهر بالسوء، لتصل إلى الحوار المنصف، والخطاب الصحيح السليم، مع تجنب التعيين والوصف والتشنيع؛ لأنه لم يثبت عن سيد الخطباء أن عيّن يوماً في خطابه أو خطبه أحداً باسمه، بل كان خطابه دائماً عاماً، لا يعدو أن يقول فيه: «ما بال أقوام» أو «ما بال أحدكم» . وهلمَّ جراً. ومن أمثلة ذلك:
ـ ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ ـ قَالَ عَمْرٌو وَابْنُ أَبِي عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ - فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِي لِي. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؟ أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ ... ؟» (4) .
- وعَنْ مَسْرُوقٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَنَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئاً فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ، قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَيْءِ أَصْنَعُهُ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» (5) .
- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعَ أَمَامَهُ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعُ فِى وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا ... » (6) .
هذه بعض خصائص خطاب الجمعة، ما أحوجنا إلى فقهها واستيعابها، فهل من سبيل لتطبيق ذلك على الوجه الأحسن؟
من خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة ملتقى الخطباء
يقول الله ـ تعالى ـ في محكم التنزيل: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
تعيش الأمة الاسلامية اليوم زمناً اختلطت فيه المفاهيم والتبست، وكثرت فيه التوجيهات عبر وسائل الإعلام المختلفة سواء منها المكتوبة أم المرئية أم المسموعة.
ومما وقع فيه الخلط الشديد، وأصبح محط جدال ونقاش خطاب خطيب الجمعة: كيف يجب أن يكون؟ وما هي خصائصه؟
ولعل أول ما يجب أن يوضح في هذا
__________
(*) أستاذ الفقه والتفسير بجامعة شعيب الدكالي بمدينة الجديدة، وخطيب الجمعة والعيدين بالمسجد الأعظم - المغرب.
(1) صحيح البخاري كتاب العلم: 10، وصحيح ابن ماجه: 183/222/ج/1/92.
(2) الفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع الديلمي الهمذاني: 5 /537/ 9018، والتمهيد لابن عبد البر: 1/28.
(3) التمهيد لابن عبد البر: 7/185.
(1) المستدرك للحاكم: 8571 /279/ وصححه الذهبي.
(2) صحيح مسلم كتاب الجمعة باب 13 رقم: 2046.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 14/343.
(4) إحياء علوم الدين للغزالي: 1/74.
(5) صحيح البخاري كتاب الجمعة باب 36 رقم: 934.
(6) صحيح البخاري باب 41 كتاب الزكاة رقم: 1458.
(7) صحيح البخاري الايمان باب 37 رقم: 50.
(8) صحيح البخاري رقم الحديث: 2942 و 3009 و 3701 و 4210.
(9) صحيح مسلم: رقم الحديث: 2985.
(10) المستدرك للحاكم: 1 / 116 /164/164.
(1) صحيح البخاري كتاب الحج باب 4 رقم: 1586، و 7243.
(2) سنن ابن ماجه: 2 / 338 /4033.
(3) صحيح ابن ماجه، رقم: 195 /237.
(4) صحيح مسلم كتاب الامارة باب 7 رقم: 4843.
(5) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب 72 رقم: 6101.
(6) صحيح البخاري، كتاب المساجد، باب 13 رقم: 1256.(219/7)
عوِّدوا أبناءكم على التخطيط
إبراهيم بن سليمان الحيدري
إن من أفضل الهبات التي نمنحها لأبنائنا تلك الأخلاق التي تعينهم على العيش في حياة إسلامية هانئة ومثمرة يحققون فيها ذواتهم ويخدمون فيها مبادئهم، وأحد هذه الأخلاق هو التخطيط.
نعم! فالتخطيط ليس حكراً على المنظمات الإدارية، وليس مقتصراً على الكبار. والتخطيط على المستوى الشخصي بمفهومه البسيط هو أن يرسم الواحد منا أهدافاً طموحة تناسب إمكانياته، ويعمل على تحقيقها؛ وهو بذلك يحتوي على كثير من الفوائد التي سيجنيها الأبناء، لو أنَّا عوَّدناهم على التخطيط منذ الصغر مثل: التعرف على الذات، الاعتماد على النفس، العيش في حياة محفزة، إضفاء روح من الجدية على سلوك الأبناء، استثمار الوقت، التفكير، وغير ذلك.
وحتى لا نستغرق في الحديث عن أهمية التخطيط إليك مع التحية هذا المقترح البسيط لتعويد الأبناء على التخطيط (1) :
i مرحلة المهام:
وفيها يُعَوَّد الأبناء على تحديد وكتابة مهام أسبوعية أو شهرية غير (روتينية) ومن المهم أن تكون هذه المهام محددة وواضحة بالنسبة لهم، ومن أمثلة ذلك:
- حفظ آية الكرسي.
- تصليح ساعتي اليدوية.
i مرحلة الأهداف:
بعد أن يتمرس الأبناء على تحديد وإنجاز مهام محددة وواضحة تأتي مرحلة أكثر تفصيلاً وهي مرحلة رسم الأهداف. والهدف في هذا السياق هو مجموعة من المهام المتناسقة التي تحقق في جملتها شيئاً واحداً، مثل:
هدف: دعوة الأصدقاء للعشاء في المنزل هذا الشهر.
المهام التي يتضمنها الهدف السابق: تجهيز المكان، تحديد نوع العشاء، الاتصال بالأصدقاء، إلخ.
ومن المقترح ألا تكون الأهداف طويلة المدى حتى لا يمل الأبناء وتضعف عزيمتهم.
i مرحلة التخطيط:
وهي مرحلة أشمل وأبعد مدى من المرحلة السابقة، وفيها يضع الأبناء لأنفسهم غاية أو مجموعة من الغايات (الغاية هدف بعيد المدى) يتطلب مجموعة من الوسائل لتحقيقه، وهذه الوسائل تتضمن مجموعة من المهام.
غاية: إتقان فن الحديث والتأثير على الآخرين.
ويمكن أن تحقق هذه الغاية من خلال عدة وسائل مثل:
الوسيلة الأولى: الدورات التدريبية.
الوسيلة الثانية: القراءة، ويمكن ترجمة هذه الوسيلة على شكل عدة مهام مثل:
- قراءة كتابين عن أساليب الحديث والإلقاء.
- قراءة مقالة عن طرق الإقناع.
وينبغي في كل المراحل السابقة أن يلفت انتباه الأبناء إلى الإمكانيات باختلاف أنواعها كالوقت المتوفر والتكاليف المالية والقدرات الذاتية.
i فاصلة..
تذكَّر أخي الكريم كم هي السنوات التي قضاها الكثير منا بلا أهداف أو تخطيط واضح لحياتهم مع أهمية ذلك لكل
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.
(1) ما يمكن اعتباره هدفاً في مرحلة يمكن أن يكون غاية أو مهمة في مرحلة أخرى؛ وذلك بحسب مستوى التخطيط والمدى الزمني وطبيعة العمل.(219/8)
حول الهجمة الأمريكية والضغوط الخارجية على سورية
المأزق ... والمخرج
د. علي صدر الدين البيانوني
تأتي الهجمة الأمريكية الشرسة، إبَّان صدور تقرير: (ميليتس) متَّهماً بعض الأشخاص من الجانب السوري، وقد طلب مجلس الأمن أن تتعاون سورية في كلِّ ما يُطلب منها، وإن لم تستجب فسيكون مصيرها معروفاً؛ حيث ستتم محاكمتها، والأبواب مشرعة مع كلِّ الاحتمالات الخطيرة.
وفي هذه العجالة تقدم المجلة تصريحاً لأحد الفعاليات السياسية المعروفة، وهو الدكتور: علي صدر الدين البيانوني، المراقب العام للإخوان المسلمين
لم تزل أمتنا في أقطارها المختلفة تعيش في دائرة الاستهداف العالميّ منذ أكثر من قرن، ولم تزل هذه الأمة تحاول الدفاع عن نفسها بما أوتيت من قوة مادية أو معنوية، وبما يتهيأ لها من أسباب الدفع في معادلات القوى العالمية في مراحلها المختلفة. ولا يشك أحدٌ اليوم، أن سورية هي في بؤرة الاستهداف العالميّ الذي يسعى بذرائع مختلفة، للنيل من وجودها وثوابتها وهويتها..
وبغضّ النظر عن جدّية الذرائع المطروحة للتدخّل في شؤون سورية؛ فإننا ندرك أيضاً أن لمواجهة الخطر مقتضَيات واستحقاقات، وأن من يستشعر جدية الخطر، يتحتّم عليه أن يتخذ من الأسباب ما يتمكّن معها من مواجهته. وأول هذه الأسباب الالتفاتُ إلى الجبهة الداخلية، وتعزيز اللُّحمة، لبناء الصف المرصوص، القادر على تحمّل أعباء المواجهة.
أما الضغوط الخارجية على سورية، فلا شك أن بعضها يتصل بالمخطّطات الأمريكية الهادفة إلى إعادة رسم خريطة المنطقة بما يتفق مع مصالح القوى المتنفذة في العالم، وبما يخدم أمن الكيان الصهيوني. وليس غريباً أن تحاول هذه القوى توظيف كلّ المعطيات والمتغيرات الإقليمية والدولية لخدمة أهدافها العدوانية، وأن تستخدم في سبيل ذلك كلّ الحجج والذرائع.. إلاّ أنّ عَجْزَ النظام السوريّ عن إدراكِ المتغيّراتِ ومُقتَضَياتها واستحقاقاتها، واستهتارَه بالنداءاتِ الوطنية، وبمصلحةِ الوطن العليا، وإصرارَه على سياساتِ الاستبداد والانفراد بقرار الوطن وثرواته، وتسلّطَه على مقدّراتِ الشعبِ اللبنانيّ الشقيق.. أوصلَ سورية إلى فوهةِ البركانِ الذي تعيشُ عليه اليوم.
ثم جاء اغتيال الرئيس الحريري في ظلّ الهيمنة السورية الأمنية على لبنان، والانسحاب السريع للجيش السوري، والطريقة التي تعامل فيها النظام السوري مع لجنة التحقيق الدولية.. لتضيف بُعداً جديداً إلى المأزق السوري، خصوصاً بعد تقرير لجنة التحقيق الدولية، وقرار مجلس الأمن رقم (1636) الذي يطالب سورية بالتعاون الكامل مع لجنة التحقيق الدولية، وتسليم المشتبه بهم في جريمة الاغتيال. وهنا أرى أنه لا بدّ من التعاون مع لحنة التحقيقِ الدولية، إسقاطاً للذرائع، وسعياً للكشف عن الحقيقةِ في هذه الجريمة، ولو أنّ بعض القوى الدولية ستحاولُ توظيف نتيجة التحقيق أو تسييسه.
لقد وضعت سياسات النظام الحاكم الشعب السوري في مأزق تاريخي خطير نشأت عنه الكثير من حالات القهر والكبت والتسلّط والفوضى والفساد.. لا سيّما بعد أن أدارَتْ الفئةُ الحاكمةُ ظهرَها لجميع المبادرات الوطنية، والتي توافق على إحداها معظم القوى السياسية والوطنية، ولم تُقِمْ هذه الفئة وزناً لأيّ تطلّعٍ شعبيّ للمشاركة في بناء الوطن والدفاع عنه.
وسواء كان النظام السوري متورطاً في قتل الحريري أو لم يكن، فإن جميع القوى الوطنية السورية تُجمع على رفض التدخل الأجنبيّ في الشأن الداخلي، وتقف صفاً واحداً للدفاعِ عن الوطن وحمايته ضدّ أيّ عدوان ومساومة، كما ترفض توقيع أيّ عقوبةٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ على سوريةَ (الدولةِ والمجتمع) ، وتطالب المجتمع الدوليّ، والأشقّاء في الدول العربية، أن يميّزوا بين الفئةِ الحاكمةِ وسياساتها من جهة، وبين الدولةِ والمجتمعِ السوريّ من جهةٍ أخرى، وأن يبحثوا عن آلياتٍ خاصة، تطالُ الجُناةَ أو المشبوهين ليجنّبوا الشعب السوريّ الذي عانى طويلاً من الاستبداد، معاناةً أخرى يدفعُها ضريبةَ ما فعلَ الجُناة؛ فليس في الشعب السوريّ من يُدافعُ عن قاتلٍ أو مشبوه.
وخلاصة القول: ليس أمام النظام السوري للخروج من المأزق الذي أوصل البلاد إليه، إلاّ المصالحة مع شعبه، لتحصين الجبهة الداخلية في مواجهة الأخطار والتحدّيات، والتعاون الجادّ مع لجنة التحقيق الدولية. وبغضّ النظر عن الإدانة أو البراءة في هذه الجريمة، لا بدّ من الفصل بين سورية (الدولة والمجتمع) من جهة، وبين بعض المسؤولين المشتبه بعلاقتهم بالجريمة؛ إذ لا يجوز أن يتماهى أيّ فردٍ بالدولة والمجتمع، أو يتترّس بهما، أو يعتبرَ نفسَه رمزاً للوطنية والسيادة، مهما كان شأنه أو موقعه؛ فمصلحة الدولة والمجتمع مقدَّمةٌ دائماً على مصلحة الفرد كائناً من كان، ولا يجوز أن(219/9)
معايير العقلاء
النفع والضرر
أ. د. جعفر شيخ إدريس
أذكِر القارئ الفاضل بأننا نتحدث في هذه السلسلة عن المعايير التي يقرُّ بها ويزن بها الأمور عقلاء الناس، أو كل إنسان في الحال التي يكون فيها عاقلاً. وهي معايير فطر الله الناس عليها؛ فهم عالمون بها قبل ورود الشرع، والشرع يأتي مقراً بها ومؤكداً لها ومستعملاً لها في دعوته الناس إلى الحق، وفي الحِجَاج معهم. واستعمال هذه المعايير في مجادلة الناس مهم؛ لأن الناس وإن كانوا يعترفون بها، بل ويلتزمون بها في كثير من شؤون حياتهم، إلا أنهم كثيراً ما يتناقضون فيأبون الالتزام بلوازمها لأسباب غير عقلانية.
معيار النفع والضرر هو أحد هذه المعايير، وهو معيار يقر به الناس ويستعملونه في حياتهم اليومية: في الأمور المادية، والمسائل الفكرية. فالناس يختارون من الأشياء والأفعال والتصرفات ما يرون فيه نفعاً لهم، ويفضلون ما كان أكثر نفعاً على ما كان أقل منفعة، ويجتنبون ما يضرهم، ويرتكبون أخف الضررين حين لا تكون لهم خِيَرة. يستعملون معيار النفع والضرر هذا في ما يختارون من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب وأدوية وآلات وغيرها. إن من أكبر الأدلة على التزام الناس بهذا المعيار أنك لا تجد أحداً يدعو إلى فكرة أو إلى آلة فيقول للناس إنها ضارة بهم، أو أنه لا نفع فيها لهم.
لكن كون الشيء نافعاً أو ضاراً أمر يحتاج إلى علم. ولذلك فإن الإنسان مع التزامه بمعيار النفع والضرر قد يخطئ فيختار بسبب جهله ما هو ضار أو أكثر ضرراً، ويترك ما هو نافع أو أكثر نفعاً. وكثيراً ما يفعل هذا بسبب الدعاية التي يدعوه بها الكذابون والغشاشون من التجار والمشعوذين والسياسيين.
يأتي الدين الحق ليقر هذا المعيار الذي فطر الله الناس عليه، وليستعمله في دعوتهم إلى قبول الحق الذي يهديهم إليه. فإذا كانت دعامة الدين الأولى هي الإيمان بالله، فإنه يذكِّرهم بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم، وهو الذي خلق لهم من الأشياء ما فيه منفعة لهم كالحديد والفلك والأنعام، وهو الذي يميتهم ويحييهم، وهو المتصف بصفات الكمال من علمٍ بكل شيء، ومقدرة على كل شيء ورحمة وسعت كل شيء. ولذلك كان من الخير لهم أن يعبدوه فيخضعوا له ويطيعوا أمره فيما أمرهم:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22] .
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 1 - 5] .
ولذلك كان من عدم العقل أن تعبدوا ما لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً، ولا يصرف عنكم سوءاً، ولا يمنع عنكم شراً:
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67] .
والإنسان العاقل يُؤْثِرُ النفع الآجل الأكثر على النفع الحاضر الأقل. هكذا يفعل الإنسان حين يدخر، وهكذا يفعل التاجر حين يكف عن البيع العاجل إذا توقع ربحاً آجلاً أكثر. والقرآن الكريم يستعمل هذه الحجة في مثل قوله ـ تعالى ـ:
{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 20 - 25] .
وإذا كان الله ـ تعالى ـ هو القادر على ان يعطيكم ما تعلمون أن فيه منفعة لكم، وهو القادر على أن يقيكم مما تعلمون أن فيه ضرراً بكم؛ فإنه هو أيضاً الذي يدلكم على ما لا تعلمون من أنواع المنافع والمضار.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .
وإذا كان في بعض الأشياء نفع وضرر فإنه أعلم منكم بمقدار نفعها وضررها، وأعدل منكم في الحكم لها أو عليها:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] .
\ الجمال:
وهل الجمال معيار؟ أجل! والله إنه لمعيار من أهم المعايير المتفق عليها بين العقلاء. كيف أقول هذا والناس دائماً يرددون القول بأن الجمال من الأمور التي تختلف فيها الأذواق؟ أقول: لكنهم لا يختلفون في تفضيل ما يرونه جميلاً على ما يرونه قبيحاً، ولا يختلفون في جمال كثير من الأشياء وقبح أضدادها. والجمال المتفق عليه بينهم بشمل جمال المناظر، وجمال الأصوات، وجمال الأقوال، وجمال الروائح.
هل رأيت من بشر يبتهجون لمنظر أكوام الزبالة ويكتئبون حين يشاهدون باقات الزهور؟ وهل رأيت من بشر يَطرَبون لنهيق الحمير ويشمئزون حين يسمعون تغريد البلابل والطيور؟ وهل رأيت من بشر يصغون لثرثرة الجهلاء ويصدون عن شعر الشعراء ونثر الأدباء؟ وهل رأيت من بشر يستمتعون بالروائح المنبعثة من مداخن المصانع ويتأذون من عبير العطور؟
بين الناس إذن اتفاق على ما هو جميل وما هو قبيح وإن اختلفوا في بعض التفاصيل. وفي القرآن الكريم ما يدلك على هذا الاتفاق. ألم يقل الله عن بقرة بني إسرائيل إنها تسر الناظرين، فعمم الناظرين ولم يخصهم بناظري بني إسرائيل. وألم يقل ـ سبحانه ـ في معرض المن على عباده بما خلق لهم من بعض الحيوانات:
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8] .
فجمع ـ سبحانه ـ في هذه الآيات بين نعمة المنفعة من دفء وأكل وحمل وركوب وبين نعمة الجمال ونعمة الزينة.
وقال ـ تعالى ـ عن الحدائق:
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] .
ففي هذه الآية الكريم ذكر نعمة البهجة فقط، ولم يذكر نعمة المنفعة.
فالجمال كما تدلك هذه الآيات ليس قاصراً على جمال المناظر.. فكما توصف النساء بالجمال فكذلك توصف به مكارم الأخلاق. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} ، [الأحزاب: 28] " {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] . وكما يوصفن بالحسن؛ فبه أيضاً توصف الأعمال. فالأعمال منها ما هو حسنات يحبها الله، ومنها ما هو سيئات لا يحبها. وكل ما يحدث للناس من أنواع النعم فهو حسنات، وكل ما يصيبهم من أنواع النقم فهو سيئات.
وأعظم الحسن وأجله وأعلاه هو حسن الأسماء والصفات الإلهية.
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] .
ومن أوصافه الحسنى هذه كونه جميلاً ومحباً للجمال.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(219/10)
القوة اللينة
د. عبد الكريم بكار
يحاول علماء الاجتماع تقسيم العصور وإطلاق تسميات محددة عليها من أجل توفير منهجية علمية ورؤية (أيديولوجية) لفهم حركة التاريخ وبلورة مسلَّمات ومقولات توجه النشاط البشري بما ينسجم مع متطلبات كل عصر. لقد كان العصر الزراعي طويلاً جداً؛ حيث امتد آلاف السنين، وانتهى في منتصف القرن الثامن عشر؛ حيث حلَّ العصر الصناعي. إن دور الزراعة لم ينته ولكن تراجع؛ حيث صار مصدر الثراء والقوة والنفوذ (المصنَع) وليس الحقل والمزرعة.
إن قطاع الزراعة لا يسهم في الناتج القومي للدول المتقدمة إلا في حدود (5%) .
الآن نحن نعيش في عصر المعلومات، حيث تحوَّل ثقل التحديث والتقدم من المصنع إلى جهاز (الكمبيوتر) . إن هذا العصر قد تسلَّم القيادة من الماكينة وسلَّمها للنظم الإلكترونية التي تتحكم بالماكينة والمصنع في كل مجالات الحياة.
في العصر الصناعي كان صاحب المال هو صاحب السيطرة وصاحب النفوذ الأكبر، أما اليوم فإن صاحب السيطرة هو صاحب العلم والذكاء ومن يمتلك أدوات التقنية، إنه هو الذي يبدع اليوم المفاهيم الجديدة في اللغة والاقتصاد والفكر والسياسة والاجتماع.
وكما جاء عصر الصناعة وانتهى دون أن ندخله؛ فإنه من الممكن ـ مع أشد الأسف ـ أن ينتهي عصر المعلومات ويبدأ عصر آخر دون أن يكون لنا فيه دور أو مكان. ومن هنا؛ فإن من المهم أن نبادر بأقصى سرعة ممكنة من أجل ترجمة قوانا المالية والاقتصادية إلى قوى معرفية حديثة، وهذا يتطلب الكثير من القرارات والكثير من القيم والأفكار والاتجاهات. ولعل مما يساعد في هذا الأمورُ التالية:
1- نحن في حاجة إلى (رياض أطفال) من نوعية جديدة، رياض أطفال تأخذ على عاتقها تأسيس عقلية الطفل على نحوٍٍ يدفعه في اتجاه حب العلم واحترامه والصبر على تحصيله والتضحية من أجله. وتشتد الحاجة إلى رياض أطفال ممتازة كلما كانت الأسر أقل استعداداً أو أقل أهلية للقيام بتربية أطفالهم تربيةً جيدة. يجب أن يتعلم الطفل في مرحلة الروضة أن العلم أهم من الذكاء، وأن الأشياء التي نتعب في الحصول عليها تكون ذات قيمة أكبر من الأشياء التي نحصل عليها بطريقة سهلة، وأعتقد أن على الدول أن تهتم بإيجاد رياض للأطفال منذ سن الرابعة، وإذا لم يتيسّر هذا في كل البلاد فليكن في المدن الكبرى على الأقل.
2- من المهم أن تدرك الأسر لدينا أن توفير تعليم جيد لأبنائها يُعدّ من المهمات الأساسية في هذا الزمان، وقد صار من المهم توفير جزء يسير من الدخل منذ بداية الحياة الزوجية من أجل إنفاقه على تعليم الأولاد في المستقبل. لقد انتهى زمان الأشياء العادية وجاء زمان الأشياء المتفوقة والمتقَنة. والتعليم الجيد مكلف، وعلينا الاستعداد له.
3- لا بد لأهل المال وأهل المبادرات الخيرة أن يكون لهم دورٌ مؤثر في هذا، وقد قام أهل الخير في بعض الدول بتأسيس صناديق للقرض الحسن، يتم من خلالها ابتعاث الطلاب للدراسة وتحصيل العلم، والإنفاق أيضاً على طلاب الدراسات العليا. ويمكن للدولة أن تسنّ بعض القوانين التي تلزم المؤسسات المالية الكبرى توفيرَ قروض حسنة للنابهين والمتفوقين من خريجي الثانويات والجامعات ممن لا يستطيع أهلوهم الإنفاق عليهم.
4- يشكو العالم الإسلامي من ندرة الجامعات الممتازة؛ حيث ليس لدينا أي جامعة إسلامية أو في دولة إسلامية مصنفة ضمن أفضل مئة جامعة على مستوى العالم، وإن البحث العلمي في معظم جامعاتنا هامشي وعقيم. إننا نرسل أبناءنا إلى الغرب كي يتعلموا، فننفق عليهم هناك الأموال الطائلة، ونعرّضهم لمخاطر الفتنة الثقافية السلوكية، وكثير منهم لا يعودون إلينا؛ وقد آن الأوان لقيام مؤسسات عملاقة تتبنّى إقامة جامعات ومراكز بحوث ممتازة، وفي مجتمعاتنا اليوم شريحة واسعة قادرة على دفع تكاليف ذلك مهما علت، ومن ثم فإنه ليس للتأخر في القيام بهذا العمل أي مسوِّغ.
5- لا بد أن يتكامل مع كل ما ذكرناه إيجاد مشروع وطني للقراءة في كل قطر إسلامي، وهذا المشروع تطلق شرارتَه الأولى الحكوماتُ، ثم ينخرط فيه الكثير من الجهات والفئات وطالبي المعرفة. إن إعراض أكثر من (90%) من فتيان الأمة وشبابها عن قراءة الجيد والاحتفال بالكتاب النافع يشكل خطورة ثقافية واجتماعية أكبر من الخطورة التي يشكلها التدخين أو إدمان المخدرات أو الطلاق؛ لأن الجهل في عصر يقوم التقدم فيه على العلم والبحث والاكتشاف يضع الأمة في مربع الوهن، ويدفع بها بعيداً عن حلبة المنافسة العالمية.
إن الازدهار ومدافعة الأعداء وحل المشكلات الآسنة اليوم تحتاج إلى ثلاثة أمور أساسية: العلم، ثم العلم، ثم العلم. وحضارة الإسلام قامت أساساً على العلم والإيمان، وهذا ما(219/11)
الشيخ الدكتور محمد بشار الفيضي في حوار مع البيان
حاوره في العراق: سيف العبيدي
سيدي العزيز الشيخ الدكتور محمد بشار الفيضي! مجلة البيان تشكركم لإتاحة الفرصة لقرائها في هذا اللقاء.
تتسارع الأحداث السياسية في العراق لدرجة كبيرة يتعذر معها فهم ما يدور في حقيقة الواقع السياسي ... فما بين الأزمات التي تمر بها الحكومة في العراق وما بين التحركات الإقليمية والعربية، وما بين دور المحتل في كل هذه المعطيات ...
^: الدستور قد تم تمريره بالقفز فوق السنَّة؛ فما موقفكم منه، وما هي النقاط التي تعترضون عليها؟
| الأصل في مشروع الاحتلال أن يمرر، وإذا لم يمرر فهذا مثير للاستغراب؛ لأن الدستور بشكله الحالي يبدو محققاً لكل الأحلام المريضة التي تداوي أعداء هذه الأمة؛ فهو يؤسس لإضعاف البلاد وتبديد ثرواتها، وإبقاء المنطقة هشة ضعيفة.
أما ملاحظاتنا على الدستور فهي جمة، وقد نشرناها كاملة في صحيفة (البصائر) الناطقة باسم الهيئة. ومنها موضوع الفيدرالية المبتدَعة على نحو مغاير لما عليه حال الفيدراليات في العالم، ومنها تغييب الهوية العربية للبلاد، وإضعاف موقف الإسلام من خلال تقييد مصدريته للدستور بشروط في ذلك، وغيرها من الاعتراضات كثير.
^: هل انتم نادمون على عدم المشاركة في الانتخابات القادمة والتي كان نتاجها هذا الدستور؟
| لا، أبداً، بل إن الواقع يكشف يوماً بعد يوم أن موقف الهيئة (المقاطعة) هو الجدير بالتبني؛ والدليل الدستور نفسه؛ فقد كان ثمرة غير ناضجة لعملية مشوهة، وسيدرك الناس بعد ان يقر الدستور بـ (نعم!) أنهم ضحية التضليل الأمريكي، وأن ما زعموه بالعملية السياسية لا يعدو ان يكون فخاً سياسياً للإيقاع بالقوى الوطنية وتوريطها بمشروع الاحتلال.
^: كيف تنظرون إلى مستقبل العراق في ظل الدستور، وما هي الوسائل التي تمتلكونها لمواجهة المشاكل القادمة وخصوصاً شبح الحرب الأهلية؟
| لا مستقبل زاهراً للعراق في ظل الدستور ... هذا دستور الاحتلال وليس دستور الشعب العراقي. وقد فُرِض على الشعب العراقي في ظل الاحتلال، لكنه سيزول بزوال الاحتلال. أما الحرب الأهلية فلن تحصل بإذن الله، وثقتنا بأبناء العراق عالية.
^: لماذا لا تعملون على إقامة إقليم سني وتستفيدون من الفيدرالية التي أقرها الدستور العراقي الجديد؟
| لأننا لا نريد ان نكون أداة لتحقيق المشروع الأمريكي في المنطقة. الفيدرالية كما ذكرت تعني تقسيم العراق طائفياً ... وهذا هدف أمريكي استراتيجي؛ فكيف تريدنا يا سيدي العزيز أن نساهم في تحقيقه؟
^: متى ستشاركون في العملية السياسية؟
| سنشارك في يوم يخرج المحتل أو على الأقل حين يضع جدولاً زمنياً مكفولاً دولياً وتجري عملية انتخابية حرة ونزيهة وبإشراف الأمم المتحدة، ويطمئن العراقي إلى سلامة النتائج التي ستتمخض عنها العملية السياسية.
^: من الأمور التي يأخذها الآخرون على أهل السنَّة عدم وجود مرجعية موحدة لهم. فلِمَ لا تعملون على توحيد مرجعية أهل السنة؟
| أهل السنة درجوا على التمسك بالكتاب والسنة مرجعيةً لهم؛ أما علماء الأمة فهم للاستشارة والاستدلال على الأحكام.. ومن هنا لم يكن للسنة مرجعية كالتي عند الشيعة مثلاً. وهيئة علماء المسلمين حين تأسست تدرك ذلك. لذا حرصت على أن يكون أعضاؤها من كل المكونات لتكون مرجعية علم واستشارة للمسلمين جميعاً، وهي لم تفرض نفسها على أحد، ولم تَدَّعِ الإجماع عليها، لكنها على مستوى الواقع الأكثر تمثيلاً للجميع.
^: كيف تنظرون إلى مستقبل المقاومة في ظل هذه التطورات، وهل ما زالت هي اللاعب الأساسي في الساحة العراقية؟
| مستقبل المقاومة بخير، وما زالت اللاعب الأساسي في الساحة العراقية، وبيدها الكلمة الأخيرة والفصل. ونعتقد أنها في نماء وتطور، والمراقب لسير العمليات العسكرية في العراق يدرك ذلك بوضوح.
^: كلمة أخيرة فضيلة الشيخ الفيضي!
| يجب ألا نتعجل في الحصول على مكاسب لأهل السنة ونفرِّط بمصلحة المسلمين جميعاً؛ هذه معركة فاصلة، وعلينا أن نتحلى بالصبر، وأن نقدم لها كل ما نملك من غالٍ ونفيس، ويقيننا بالله أننا منتصرون.(219/12)
الروائي السعودي د. عبد الله العريني في حوار مع البيان:
حاوره: محمد شلاّل الحناحنة
جاء لقاؤنا بالروائي السعودي الدكتور عبد الله بن صالح العريني بعد أمسية له بندوة الوفاء الخميسية الأسبوعية بالرياض، وكانت بعنوان: (خُصوصية الرواية الإسلامية) ، والتي أثارت مشاركات كثيرة متنوّعة، لا سيما أنه أصدر ثلاث روايات إسلامية، آخرها كان في هذا العام، وهي: «مثل كُلّ الأشياء
^: أنت تكتب القصة والرواية والنقد، لكنّك عُرفت روائيّاً! ترى ماذا تمثّل لك الرواية؟ وأين تضعها اليوم في سلّم الإبداع الفنّي؟ وأين تمضي الرواية العربية برأيك؟
وفيما يخص قيمة ما قدمته في سلّم الإبداع الفني فذلك متروك لصوت النقد الموضوعي المحايد.
وإذا عرفنا أن فيروس الثللية ينتشر وسط منابرنا الصحفية عرفنا أن الأضواء لن تركز إلا على ما يدخل ضمن اهتمامها مهما كان ضعيفاً فنياً، وفيما عدا ذلك فليس داخلاً ضمن اهتمام تلك الثلليات مهما كان رائعاً بديعاً، وفي النهاية لا يصح إلاّ الصحيح.
وإن مشكلة الرواية العربية بدأت منذ البداية التاريخية لها، حين ظهرت النماذج الأولى لها على يد «نجيب محفوظ» الذي لم تكن له رغبة ـ فيما يبدو ـ للتفاعل الإيجابي مع القضايا الإسلامية على المستوى الاجتماعي، وظلت شخصيته شخصية (إميل زولا) النسخة العربية التي لا تتعاطف مع الخير بمفهومه الشرعي الصحيح، ثم أصبح «نجيب محفوظ» أنموذجاً مكرراً، وكانت تلك هي المشكلة التي ما زلنا نجني ثمرها المرّ حتى الآن.
^: كيف تنظر إلى الالتزام الأدبيّ؟ وهل تجده يضيّق حريّة الأديب أو الروائي ويوقعه بالخطابِية والمباشرة بعيداً عن جماليّة الفنّ الروائيّ؟
دائرة المباح في الأدب واسعة تشمل فنون الأدب كلها وألوانه المختلفة، وتتسع لتشمل موضوعات كثيرة، ليس هذا فقط، بل تفتح الآفاق إلى مجالات أدبية أوسع، ويصبح الحلال والحرام مثل ضلعي الزاوية، يحددان رأس الزاوية ومنطلقها ونوعها من جهة، لكنهما يتيحان المجال بلا حدود من جهة أخرى.
لقد جاء الدين الإسلامي لرفع الحرج عن المسلم أياً كان، وفي أي موقع، سواء كان أديباً أو غير ذلك؛ وذلك ليستثمر كل إمكاناته في الإبداع بشرط واحد مقدور عليه، وهو ألاَّ يتعدى حدود الدين؛ لأن تعدي حدود الدين وتحطيم المقدس ليس إبداعاً كما يشيع الآن، ولكنه خطأ كبير وظلم للأديب نفسه قبل أن يكون ظلماً للأدب والحياة.
لقد جاء الإسلام ففجّر الإبداع لدى الصحابة الكرام، حتى قال الشعر من لم يُعرف منه ذلك، وحتى أصبح الأديب ـ ممثلاً في حسَّان رضي الله عنه ـ يلقى تأييد روح القدس ودعمه.
إن شواهد رفع الالتزام لمستوى الإبداع تشكلت في صورة تاريخية عبر آلاف الأدباء المسلمين خلال خمسة عشر قرناً وحتى الآن، وهي دليل يجب أن يؤخذ بالاعتبار، وإشكالية التعامل مع الفنون الحديثة ـ كالرواية والمسرحية ـ هي إشكالية مؤقتة فقط، سرعان ما يتضح ـ إن شاء الله ـ أن التزام الأديب المسلم لمْ يَعُقْهُ عن الإبداع بهذين الفنّين الأدبيين يزينان ويرفعان درجة الإبداع فيهما كما فُعل مع أخٍ لهما من قبل وهو الشعر.
^: يقول بعض النقّاد: (إنَّ الرواية التي تخلو من المرأة وعلاقاتها بالرجل رواية باهتة لن تعبّر عن واقع الحياة وحقيقتها!) ؛ ما ردّك على هذا القول؟
^: لعلّي أنطلق من إجابتك للسؤال السابق لأسألك: ماذا حققت الرواية الإسلامية؟ وهل وصلت إلى العالميّة كما نطمح أنْ يكون الأدب الإسلامي عالمياً؟
الرواية الإسلامية جعلتنا نراجع أمثال تلك الروايات، فنكتشف بُعدها عن المعيار الفني المحض إلى سلوكيات شائنة تسقط على الشخصيات، ويُقدَّم لنا المجتمع من خلالها، وهي بذلك تنقل تلك السلوكيات إلى القراء بالطبع.
الإنجاز الآخر للرواية الإسلامية أنها قدمت النموذج القوي على إمكان ترويض الفن الروائي ليحمل المضمون الطيِّب، ولتقول للمبدعين: إن الإبداع لا يقتصر على دائرة المحرّم، بل إن في موضوعات الخير بديلاً أفضل، مع التذكير أن موضوعات الشر إذا عُرضت بأسلوب لا يُغري بها ولا يحرِّض على الرذيلة فهي داخلة ضمن إطار الرواية الإسلامية واسع المدى.
أما أن تحقق الرواية الإسلامية مكانة عالمية فهذا هو المتوقع، لأنها تعكس اهتماماً عالمياً يتفق مع الفطرة التي يذهب بعض الناس عنها مؤقتاً؛ كما في سلوكيات الغرب، ولكنهم لا بد أن يعودوا إليها.
وحينما التقى «نجيب محفوظ» بمراسلي وكالات الأنباء والصحفيين بعد فوزه بجائزة «نوبل» كان من أهم الأسئلة التي وُجهت إليه: ما يختص بالرواية الإسلامية؟ ومن رائدها؟ وما دورها؟ وأذكر أنه أشار إلى «نجيب الكيلاني» بوصفه رائد الرواية الإسلامية.
^: روايتك الأخيرة: «مثل كُلّ الأشياء الرائعة» إلى أيّ مدى تحمل الهمّ الإسلاميّ في ظلّ ما تعيشه الأمّة من استلاب سياسي وفكري وثقافي؟ وما رأيك بمن يقول: أنّها تحلّق في فضاء غير فضاء همومنا وواقعنا؟
^: لنتحدث عن المشهد الثقافي السعودي؛ ماذا ترى فيه أمام ما يسمّى عولمة الثقافة؟
^: دعنا نتعرّف على جديدك القادم ـ بإذن الله ـ.(219/13)
على العهد
صالح البوريني
أول لقاء جمعه بها كان في رحلة مدرسية، وكان يومئذ في الثالثة عشرة من عمره، دعاه صاحبه إلى نزهة على الدراجة الهوائية، وحينما ابتعدا عن رفاقهما قدمها له زاهية بثوبها ناصع البياض، يتوهج طرفها، وتجر وراءها خيوطاً من الدخان يبددها نسيم الربيع؛ تلك هي السيجارة الأولى، ولكنه الآن ـ وبعد أربعين سنة من الشقاء في صحبتها، وبعد رحلة مع مرض القلب وتركيب شبكة في أحد شرايينه، وبعد أن خلّفت بصماتها الصفراء على أسنانه وأصابع يديه ... ـ يقول بكل مرارة:
ـ إن السيجارة أكبر همٍّ يؤرّقني، ولقد حذّرني الأطباء من شرها، ورغم ذلك فما زلت أعاقرها.
سألته: كم سيجارة تدخن في اليوم؟
ـ حوالي ثلاثين سيجارة، علبة ونصف العلبة تقريباً، هذا بعد أن كنت أستهلك أكثر من (60) سيجارة يومياً.
وعلى الإشارة الضوئية تراخت يده عن مقود (سيارته) ونظر إليَّ بوجه حفرت عليه رحلة المعاناة أخاديد خريف العمر وأقسم لي أنه مريض ومرهق ومحبط، وأنه لولا الحاجة الماسة لما بقي في مهنته التي سماها (مهنة المتاعب) .
سألته: ألا تستطيع الامتناع عن التدخين؟
ـ لا أستطيع أبداً، حاولت كثيراً وأخفقت.
ـ لماذا أخفقت؟!
ـ لأنني بصراحة أشعر بالعجز وضياع الإرادة.
ـ ما أطول مدة تخليت فيها عن التدخين؟
ـ ثلاثة أشهر.
ـ هل تدخن في نهار رمضان؟
ـ معاذ الله!
ـ إذن! أنت تستطيع ترك التدخين؛ لأن من يستطيع الامتناع عن التدخين طوال نهار رمضان يمكنه أن يمتنع عن السيجارة في الليل، ومن تركه ثلاثة أشهر يمكن أن يتركه طوال العمر.
ـ يا ليت! يا ليت!
ـ هل تشعر أن التدخين ذنب؟
ـ ذنوب كثيرة لا ذنب واحد.. الأول: أنه قاتل للصحة، والثاني: أنه مضيعةٌ للمال، والثالث: أنه إيذاء للناس، والرابع: أنه محرقة للثياب، وكم وكم.
ـ لو تجسدت لك السيجارة رجلاً يقف أمامك فما كنت تفعل به؟
ـ أخنقه.
ـ لماذا؟
ـ لأنه عدوي اللدود.
حملت علبة السجائر الموضوعة على الفرش الأمامي للسيارة وسألته:
ـ فماذا تفعل بهذه العلبة إذن؟
وبعينيه اللتين تقدحان شرراً وتفيضان حنقاً وغيظاً أخذ العلبة وضغطها بين أصابعه حتى جعلها فتاتاً، وقال:
ـ هذا عدوي اللدود، هذا عدوي اللدود، ولن أعود إليه أبداً أبداً.
ـ تعاهدني على ذلك؟
ـ نعم هذا عهد.
تصافحنا ودونت اسمه ورقم هاتفه. وحين اتصلت به بعد ثلاثة أيام قال:(219/14)
قطوف من اللغة
يوسف محمد غريب
i الترادف في اللغة العربية:
هناك مقولة شهيرة تؤكد أن اللغة العربية غنية بمترادفاتها، والحق أن فيها ألفاظاً تتقارب معانيها ولكن لا تتحد تماماً في دلالتها.
والترادف لغةً: هو «الردف» وهو ما تبع الشيء، وكل شيء تبع شيئاً فهو ردفه.
والترادف: التتابع، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] . ونشير هنا إلى بعض الكلمات التي يشيع استخدامها على أنها مترادفات:
i الجسم والجسد:
الجسم يطلق على: ما يكون فيه روح وحركة، أما الجسد فيستعمل لما ليس فيه روح أو حياة؛ وذلك استناداً لقول الله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا} [الأعراف: 148] .
i الصَّبُّ والسَّكب:
السَّكب: هو الصَّب المتتابع، وقد ورد هذا اللفظ في موضع واحد في القرآن الكريم: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ} [الواقعة: 30 - 31] .
أما الصَّبُّ ففيه القوة والعنف، مثل قوله - تعالى -: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] ، وكما في قوله: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 48] .
وعليه؛ فاستعمال لفظ «الصب» في العذاب يوحي بظلال أخرى غير التي نحسُّها في لفظ «السكب» ؛ إذ نلاحظ القوة والعنف مع الصب، والهدوء والسلامة مع السكب.
i الاستماع والإنصات والإصغاء:
الاستماع: هو إدراك المسموع، أما الإنصات: فهو السكوت بغية الاستماع لشيء ما، وعلى ذلك فقد جمع الله بينهما في قوله: {وَإذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ؛ حيث إن الواجب على المسلم الاستماع للقرآن دون حديث أو حركة وذلك هو الإنصات. أما الإصغاء فمعناه لغةً: «الميل» ، وذكر لسان العرب أن «أصغيْتَ إليه» أي ملْتَ برأسك نحوه، والإصغاء إذن يكون للسمع وغيره؛ فإذا مال الإنسان بسمعه قلنا: أصغى سمعه، وإذا مال بقلبه قلنا: أصغى قلبه، ومن ذلك في القرآن: {إن تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وكما في قوله ـ تعالى ـ: {وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام: 113] .
i الغيث والمطر:
في القرآن الكريم نجد أن الماء النازل من السماء يُذكر باسمه، والغيث والغوث هو العون والمساعدة كما في قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] ، كما أن مادة «غيث» تأتي بمعنى: الماء المغيث الذي يسقي الناس والزرع؛ كما في قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان: 34] ، أما المطر فقد ورد ذكره في القرآن الكريم سواء جاء اسماً أو فعلاً في خمسة عشر موضعاً؛ منها. أربعة عشر في العذاب والعقاب صراحة، منها: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [الشعراء: 173] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] .
i الزواج والنكاح:
كلمة «الزواج» والفعل «زوّج» لا يستعملان إلا بعد تمام العقد والدخول واستقرار الحياة الزوجية، لذا نلاحظ استعمال الفعل «زوّج» بصيغة الماضي الذي يدل على وقوع الحدث، كما في قوله: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] ، وكما في قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] .
أما «النكاح» فإنه يعني الرغبة في الزواج، أو إرادة وقوعه، أي قبل أن يتحقق الزواج فهو نكاح، لذلك نجد أن الأفعال التي تؤدي هذا المعنى في القرآن الكريم جميعها دالة على المستقبل؛ كما في قوله: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] ، وكما في قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ(219/15)
طمس آثار الاحتلال ضورة
د. يوسف إبراهيم
i المشروع الصهيوني وطمس هوية الغير:
أراد المحتل الصهيوني طمس التراث الحضاري والتاريخي والجغرافي الفلسطيني من خلال العمل على تغيير أسماء الأماكن الجغرافية الفلسطينية.
وانطلاقاً من حرصنا على إظهار العمق الحضاري والتاريخي الفلسطيني كان لا بد لنا أن نبحث عن أصول المسميات التي أقيمت عليها هذه (المغتصبات) (1) ؛ حتى نقوم بمسح آثار العدوان والاغتصاب، ولكي نقوم برسم معالم خريطة جديدة لمسميات الواقع الجغرافي الفلسطيني في غزة ذات العمق والجذور التاريخية، ومن الممكن أن نتعاون لإصدار خريطة جديدة للواقع الجغرافي الفلسطيني في قطاع غزة.
لقد قام المشروع الصهيوني في فلسطين على ادِّعاء «يهودية البلاد وعودة اليهود إلى وطنهم» ، وعلى أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ومن ثم نشطت الممارسات الصهيونية لطمس الصورة الفلسطينية للمواقع والمسميات الفلسطينية وإظهار يهودية المكان، فكانت عملية تهويد أسماء ومعالم فلسطين من الأسس التي بني عليها المشروع الصهيوني، وذلك محاولة منهم لطمس الحقيقة وإخفاء جرمهم بالتعدي على أراضي الغير، وإخفاء عملية الإحلال التي اتبعها قيادات الفكر الصهيوني، فكانت الممارسات الصهيونية لفرض أسماء توراتية أو أسماء لشخصيات قيادية من العمل الصهيوني على معالم أرض فلسطين سواء كانت الطبيعية منها أو الدينية أو السياسية، وتركزت محاولاتهم لطمس معالم الأرض؛ لأنها هي مرتكز إثبات الذات وإنكار الغير، وهذا ما حصل من مسميات المغتصبات التي كانت قائمة على أرض قطاع غزة قبل 12/9/2005م، فأسماء المغتصبات الصهيونية نُسبت إلى أسماء توراتية، أو لقيادات صهيونية مارست الإرهاب بحق الشعب الفلسطيني، أو نسبة لمواقع جغرافية لها أثر في التاريخ الصهيوني، ومنها:
i مسميات المغتصبات والبدائل الوطنية:
لم تكن هذه المسميات التي أطلقها العدو على مغتصباته إلا ذات دلالات مرتبطة بالأرض والاقتصاد والجني والثمار؛ حتى يرسخ ارتباطه بالأرض. وإن هذه المغتصبات أقيمت في أماكن ذات جذور فلسطينية يجب أن تعود إلى أصل مسمياتها، حيث أقيمت معظم هذه المغتصبات على طول الساحل الفلسطيني الذي يرتكز على التلال الرملية الصفراء والتي تكونت في الزمن الجيولوجي الأول قبل ملايين السنين. وإن إقامة (المغتصبات) على طول الساحل وعلى التلال الفلسطينية إنما كان يهدف تحقيق عدد من الأهداف، والتي أولها النواحي الأمنية؛ على اعتبار أن هذه التلال مناطق مرتفعة تطل على منطقة المواصي على طول خط الساحل، بالإضافة إلى أن هذه المنطقة تعتبر جيولوجيا منطقة خزان جوفي تقف فيها حدود المياه الحلوة مع المالحة من مياه البحر، كما أن هذه المنطقة تطل على الساحل الفلسطيني وعلى الحدود الفلسطينية المصرية، وهو الأمر الذي يضمن سيطرة على البحر والحدود في آن واحد، ومنطقة المواصي في (خان يونس) تنقسم إلى ثلاث مناطق: الأولى: ويطلق عليها اسم مواصي البلد، وتقع غرب مدينة خان يونس، الثانية: ويطلق عليها اسم مواصي السطر (السطر الغربي) ، وتقع شمال مواصي البلد، والثالثة: ويطلق عليها اسم مواصي القرارة، وهي شمال مواصي السطر وجنوبي مواصي دير البلح. يفصل تلك المواصي ثلاث تلال، هي: تل قطيفة مواصي القرارة، تل ريدان مواصي السطر، وتل الجنان مواصي خان يونس البلد، وكلها تقع ضمن مواصي منطقة (خان يونس) . ومن ثم يجب علينا أن نعيد أسماء هذه المغتصبات إلى أصلها ذات الجذور الفلسطينية التي أقيمت على هذه التلال (1) المنتشرة على طول الساحل الجنوبي لفلسطين، وهي كما يلي:
1 - تل الخرائب: يقع في أقصى جنوب الساحل الفلسطيني عند رفح عند خط عرض (20 31) وخط طول (13 34) ، وعنده تبدأ الحدود (الفلسطينية - المصرية) .
2 - تل ردان: يقع في أقصى جنوب الشاطئ الفلسطيني، إلى الجنوب الغربي من دير البلح.
3 - تل العجول: ويقع على بعد (7) كلم الى الجنوب الغربي من (غزة) ، وكانت تقوم عليه البلدة الكنعانية (بيت إجليم) ، ويرجح أن موقع غزة (ما قبل التاريخ) كان عليه.
4 - تل القطيفة: ويقع على شاطئ البحر المتوسط في أقصى جنوب السواحل الفلسطينية إلى الجنوب الغربي من دير البلح عند خط عرض (24 31) وخط طول (18 34) .
وانطلاقاً من حرصنا من الناحية الجغرافية على إظهار التراث الفلسطيني وحضارته الممتدة في عمق التاريخ سوف يقوم الباحث بتقدير مواقع التلال السابقة ووضع المستوطنات في أماكنها على هذه التلال كما هو في الجدول التالي:
وقد تعمّدت السلطات الصهيونية طمس الأسماء الحقيقية للأراضي التي أقيمت عليها المستوطنات في قطاع غزة، وخلال مراجعة الهيئة العامة للاستعلامات (2) لسلطة الأراضي في غزة ومن خلال مراجعتها لسجلات «الطابو» فقد وجدت أن غالبية تلك المستعمرات ـ البالغ عددها (21) ـ هي حكومية، من ضمنها (3) مستعمرات هي في الأساس تعود إلى عائلات فلسطينية في جزء منها، وفي الجزء الآخر للحكومة الفلسطينية. وذكرت سجلات سلطة الأراضي أن (5) مستعمرات كانت واقعة في شمال القطاع هي أراض حكومية خالصة، بينما تقع مستعمرة بيت حانون «إيرز» على أراضي بيت لاهيا، وموقعها غفر التين وبقية غياضة، والعصافير.
أما مستعمرة نسيانيت فإنها تقع على أراضي بيت لاهيا، وموقعها في منطقة غفر التين وبقية غياضة، والعصافير، أما بالنسبة لمستعمرة إيلي سيناي؛ فقد كانت قائمة على أراضي بيت لاهيا، وبالتحديد في موقع اللهاونة، كما تقع مستعمرة دوغيت في بيت لاهيا، وموقعها في العمية الشرقية.
وإن الجدول التالي ـ الذي أصدرته هيئة الاستعلامات ـ يوضح البيانات الأساسية حول المستوطنات الإسرائيلية التي تم إخلاؤها في قطاع غزة وأسماؤها الأصلية حسب سجلات سلطة الأراضي الفلسطينية:
أما مستعمرة نيتساريم فتتكون من (6) قطع، وتقع أراضيها بين غزة الدرج وأراضي أبو مدين. وأما مستعمرة كفار داروم الواقعة وسط قطاع غزة، فتتكون من 3 قطع، وتقع كلها في أراضي دير البلح، كما أن مستعمرة تل قطيف تقع أراضيها في دير البلح وتحديداً في موقع البركة الغربية، وهي أراض حكومية.
i مسميات الأراضي التي كانت تقام عليها المستوطنات:
من خلال مراجعة القائمة التي نشرتها هيئة الاستعلامات الفلسطينية يتضح أن جميع مواقع المستوطنات أقيمت على أراض تنسب إلى عائلات كـ (اللهاونة، الملالحة، الزعاربة، الأغوات، الدراغمة، اللحام، النجار، الجبور، أبو شلوف، أبو مدين) ، أو أن المواقع نسبت إلى طيور وحيوانات؛ وذلك تجسيداً لهذه الأماكن على أنها كانت أحراشاً ومحميات طبيعية تعيش فيها العصافير والطيور والحيوانات (العصافير، الخنازير، الطير، العجول) ، أو أن أسماء المواقع التي أقيمت عليها المستوطنات كانت تعود لأسماء شجر وثمار، مثل: (التين، العوسج) أو تعود لأسماء تلال مثل: (تل الرمل، تل الجنان) .
وفي النهاية ندعو المسؤولين وصنّاع القرار إلى اعتماد الأسماء الأصلية التي كانت تُعرف بها الأراضي التي أقيمت عليها ما يعرف سابقاً بالمغتصبات الصهيونية، وندعو أيضاً الإعلاميين والصحافة إلى عدم تكرار أسماء المغتصبات وتسليط الأضواء على
__________
نسبة للجنرال شاكي إيرز، رئيس الإدارة المدنية في عهد الاحتلال العسكري لغزة.
نسبة إلى شبة جزيرة سيناء التي اقتلعوا منها.
وتعني قرية الصيادين.
تعني الجذور.
وتعني البوابة الجنوبية التي تتمتع بموروث تاريخي وديني.
نسبة الى وزير الزراعة السابق.
جنة التل.
واحة النخيل.
قطف التمر (البلح) .
مستوطنة النور.
اسم توراتي.
بحر رفح.
الكريستال.
مجمع القطف أو الجني.
إيرز
نيسانيت + إيلي سيناي
دوغيت
نتساريم
كفار داروم
نيتسر حزاني
جاني تال
نفيه دكاليم
جديد
جان أور
عتصمونة
رافيح يام
بدولح
غوش قطيف
ترجمة الأسماء تمت بمراجعة الباحث لمتخصصين باللغة العبرية.
(*) أستاذ الجغرافيا والدراسات السكانية، جامعة الأقصى - غزة. (1) المغتصبات هو اصطلاح جديد وذو دلالة روحية على ما يسميه العدو (المستعمرات) .
(1) قسطنطين خمار، موسوعة فلسطين الجغرافية، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، فبراير 1969م، ص103، 126.
(2) الهيئة العامة للاستعلامات.(219/16)
انتفاضة فرنسا!
د. يوسف بن صالح الصغير
لم يكن اضطهاد الفتيات الصغيرات ومنعهنّ من دخول المدارس لمجرد التزامهنّ بوضع غطاء أو منديل على الرأس سوى رأس الجبل في عملية تهميش وإلغاء لعدة ملايين من المسلمين القاطنين في فرنسا. إنهم يتحدثون كثيراً عن عملية إدماج المهاجرين في المجتمع الفرنسي، ولكن ما يجري هو عملية عزل اجتماعي لتجمّعهم في الضواحي الفقيرة المهملة، وذلك نتيجة للحصار الاقتصادي؛ حيث سُدّت أمامهم سبل العمل الشريف، وانتشرت البطالة بين الشباب؛ بحيث أصبحت وسائل الكسب غير المشروع هي الخيار الأسهل، وأدّى ذلك إلى تساهل القوى الأمنية في عملية امتهان حقوقهم والتعدي عليهم، حتى إنها قامت بإلقاء قنابل مسيلة للدموع داخل مسجد «كاربنترا» جنوب فرنسا. لقد كانت الحملة الفرنسية ضد الحجاب في المدارس أولاً، ومن ثم المكاتب الحكومية ثانياً محاولةً لتجريد المسلمين من أن يكون لهم أي مظهر إيجابي. فالحجاب يمثل الالتزام الديني مع انضباط أخلاقي يثبت أن الفتاة يمكن أن تكون سعيدة وطاهرة في الوقت نفسه، وأن الإسلام منهج للحياة الهانئة. إن الفتاة الملتزمة طاقة دعوية هائلة دون جهد منها؛ فإن مجرد وجودها في القاعة الدراسية يمثل أكبر خطر على النظام العلماني في فرنسا.
لقد وقفت فرنسا مشدوهة لتلاحق أحداث الشغب، التي تمثلت في قيام مجموعات من الشباب المهمش بحملة من التدمير والحرق في مختلف أنحاء فرنسا، والتي أثبتت أن عليها أن تدفع ثمن سياسة الإقصاء والإلغاء. وإن ما تمارسه السلطات الفرنسية حالياً ـ من اعتماد الحل الأمني؛ من فرضٍ لحظر التجول وإعلان حالة الطوارئ والتلويح بترحيل من تسميهم بالمشاغبين ـ ليس حلاً، وقيام الاتحاد الأوروبي بعرض مساعدات مالية لتأهيل المناطق المهمشة هو من باب تذكير فرنسا أن هذا هو طريق الحل.
إن هذه الأحداث تذكرنا أن لنا هناك إخوة يعيشون حالة رفض لواقعهم المادي والثقافي المفروض عليهم، وهي أكبر
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(219/17)
الاحتلال يريدها حرباً أهلية
د. عماد محمد ذياب الحفيظ
أما التفجيرات التي يقوم بها الآخرون ـ ومنهم جهات مدعومة من الاحتلال أو جرى تجنيدها بحجّة محاربة الإرهاب المفتعل المصطنع أو بدعوى الانتقام والثأر ـ فإن جميع هذه الأحداث طابعها تطرف طائفي وعرقي وبمباركة من المحتل، ويشارك بها العديد من المجموعات السياسية المؤيدة للاحتلال؛ فبعضها من الجهات المشاركة في السلطة فاقدة السيادة في السابق من أجل الكسب غير المشروع، أو الحكومة منقوصة السيادة في الوقت الحاضر، وبغضِّ النظر عن حقيقة الانتخابات أو تزويرها؛ فالمهم أن يعتبرها الاحتلال مقبولة من وجهة نظر ساسته، وكذلك الميليشيات التي تتبع الأحزاب والحركات والمجموعات المتطرّفة طائفياً وعرقياً وغير المتجانسة في شيء سوى سرقة ما يمكن سرقته من الحق العام والخاص للشعب العراقي وقوته وحضارته التي نهب معظمها وهرّب لخارج العراق. وما يؤكد التطرّف الطائفي أن معظم قوى الأمن الداخلي والاستخباراتي والجيش تكاد تكون مقتصرة على أحزاب متطرفة طائفياً مؤيدة للاحتلال؛ من طائفة الشيعة أولاً، ثم من أحزاب مؤيدة للاحتلال من بعض الأحزاب المتعصّبة للقومية الكردية العلمانية ثانياً، وغيرها من بعض المجموعات والأحزاب العلمانية والماركسية أو الإسلامية في الظاهر، ومن بعض الأقليات القومية والدينية غير الإسلامية الأخرى.
أما باقي أبناء الشعب العراقي من غير المؤيدين للاحتلال ـ الذين يشكلون نسبة كبيرة جداً من الشعب العراقي ـ فهم مغيّبون ومحرومون من كل شيء، بما في ذلك فرص العمل وغيرها من الامتيازات التي تمنح للآخرين مكافأة لولائهم للمحتل، وهذا سوف لن يخدم الشعب العراقي على المدى القريب والبعيد.
في حين أن المحتل ما زال يقدم الكثير من الفُتات لبعضٍ، ومنهم أحفاد المغول والصفويين المتطرّفين، والعلمانيون والماركسيون والشعوبيون وغيرهم الذين ليس لهم شاغل غير السلب والنهب والاغتصاب والقتل، والتي يقدم لهم المحتل الدعم والمكاسب وبمختلف الوسائل لبث الفتنة الطائفية والعرقية أكثر فأكثر في كل يوم ومناسبة أو غير مناسبة بين أبناء الشعب الواحد، ومن هذه الوسائل إساءة استغلال الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، حيث يروّج هذا الإعلام في كل مناسبة أو غير مناسبة لما يريده أولئك، ويمكن توضيح هذا الاستغلال من خلال منح التصاريح والإجازات لأعداد كبيرة من محطات التلفزيون والإذاعة والصحف اليومية ذات السمة الطائفية والعرقية والتحريضية، التي تم تأسيس معظمها منذ سقوط بغداد في 9/4/2003م وحتى وقتنا الحاضر وذلك لفرض سطوته وسلطته.
ولما وجد المحتل أن الرافضين للاحتلال في ازدياد أخذ يزيد من وسائل الإعلام المأجورة هذه في سبيل خدمة أغراضه حتى أصبح متوسط وسائل الإعلام الموجّهة للتطرف والتعصّب يفوق التصوّر (شكل 1، 2، 3) ، وكل هذا من أجل صب نار الطائفية فوق حطب الشعب الذي وصل إلى مرحلة ما عاد يحتملها، لدرجة أن الكثير من شرائح الشعب العراقي أصبحت تنشد أي طريق من أجل الوصول إلى أي مخرج لهذه الأزمات وإن كان يؤدي إلى حرب أهلية من أجل تحقيق الأهداف التي رسمها لهم الاحتلال وجهات أخرى خارجية في سبيل تحقيق مصالحها.
لذلك نجد هناك الأعداد الكبيرة من المحطات التلفزيونية الفضائية والمحلية وغيرها من وسائل الإعلام المغرضة التي تعكس حجم الفتنة المراد بثّها بين أبناء الشعب الواحد، والتي ظاهرها طائفي وهي في الحقيقة لدعم الموالين للاحتلال من خلال هذه الوسائل والمحطات، والتي يتحكم بها المحتل بواسطة مكتب إعلامي مقرّه في المنطقة الخضراء في بغداد تشرف عليه أجهزة استخباراتية تابعة للاحتلال، مما يؤكد الممارسة المريضة التي يمارسها الاحتلال والكثير من الأحزاب الفاقدة للقواعد الشعبية من الذين يؤيّدونه ظلماً. وحقيقة الأمر يمكن اعتبارها من أهم الأسباب التي تثير الفتنة الطائفية والعرقية، والتي يشجع عليها المحتل لإشباع رغباته الانتقامية والطامعة وتكريس الاحتلال.
كل ذلك يتم بتحريض من قِبَل المحتل والصهاينة وغيرهم المتحالفين معه والدوائر الاستخباراتية الغربية المختصّة التي تخطط لذلك. وعلى أصحاب العقول من القيادات ورجال الدين والشخصيات وزعماء العشائر العراقية وغيرهم التنبّه لذلك، والعمل على مواجهته لكي يساعدوا العراقيين في محنتهم، ولا يعطوا فرصة للطامعين والفاقدين للانتماء العراقي لنهب ثروات وخيرات العراق، وعلى كافة العراقيين من الشيعة وأهل السنة عرباً وكرداً وتركمان وأقليات أخرى قومية أو دينية أن يعملوا جميعاً من أجل خدمة الشعب العراقي، كل الشعب دون تفرقة أو تعصّب طائفي وعرقي، كي يتمكن هذا الشعب الأصيل من الوصول إلى شاطئ الأمان، وينتهي من هذا البلاء والشر المستشري في جسد البلاد ـ إن شاء الله تعالى ـ.
وبذلك فإنه سوف لن يبقى لطرف طامع أو حاقد دور في التسلط على رقاب الشعب العراقي، بل سيتسامى الجميع فوق هذه الأطماع والتفاهات من أجل الشعب كل الشعب وليس لفئة طائفية معينة أو عرقية محدّدة دون أخرى. وإن كان هناك من يقول غير هذا القول فهو للتجارة بالشعب والوطن من أجل مكاسب ذاتية وطروحات طائفية وعرقية جوفاء يسعون من خلالها للحفاظ على تلك المكاسب غير المشروعة والتي تمكنوا من تحقيقها بأساليب وطرائق تؤكد عدم انتمائهم للشعب العراقي، وإنما جاؤوا دخلاء بطرائق لا يرضى بها الله ورسوله وكل مؤمن شريف، وإن الشعب العراقي سيعرف كيف يتخلص منهم في مزبلة التاريخ أو يعيدهم إلى جادّة الصواب.
أما من قتل آلاف الأبرياء أو أرهبهم أو هجّرهم من مواطني شعب العراق ـ في البصرة وذي قار والأنبار والموصل وكركوك وبغداد والحلة والكوت والنجف وبغداد وغيرها ـ فإن هؤلاء قد قدّموا الدعم للاحتلال بمختلف أشكاله من المتطرّفين أحفاد المغول والصفويين وغيرهم من الحاقدين والطامعين؛ في الوقت الذي يدّعون أنهم يعملون ذلك خدمة للوطن، بينما نجدهم قد قتلوا آلاف العراقيين أو شاركوا المحتل في قتل عشرات الآلاف من العراقيين الأبرياء بما فيهم النساء والأطفال والشيوخ، وكذلك تشريد مئات الآلاف من العوائل العراقية منذ سقوط بغداد عام 2003م وعلى مدى سنتين فقط في النجف ومدينة الصدر والفلوجة والرمادي والموصل وسامراء والكاظمية وتلعفر وغيرها؛ حيث نلاحظ أن جميع هذه الأعمال تُنفّذ قبيل انتخابات الجمعية الوطنية والتي ستتكرّر أيضاً قبيل الانتخابات اللاحقة وغيرها، والهدف من كل ذلك تمرير المؤامرات والاحتيال والتزوير في نتائج الانتخابات والتصويت من أجل تكريس الاحتلال. فضلاً عن اعتقال عشرات الآلاف من شباب وشابات العراق في سجون معلومة ومجهولة داخل وخارج العراق، والذين يتعرّضون يومياً إلى أسوأ أنواع التعذيب والمهانة، والذي يؤدي في أحيان كثيرة إلى قتلهم بعد توقيفهم ليتم قتلهم بأبشع الوسائل وأكثرها وحشية دون محاكمة أو جرم اقترفوه. وأنواع هذا التعذيب متعددة كاستعمال المثاقب الكهربائية التي تستخدم لثقب الرؤوس والصدور أو «نار لحم» الألواح المعدنية وغيرها، وهذا ما أقرته اللجنة المختصة الأمريكية على الرغم من أنها غير مستقلة، حيث لم تشر سوى إلى بعض الحالات دون إحصائها وإدانتها أو إحالة المجرمين المنفذين لهذه الجرائم إلى المحاكم المختصة أو محاكم مجرمي الحرب الدولية.
إن الذين تم اعتقالهم كان على أساس معلومات كاذبة أو ملفقة ومفبركة تقدم لقوات الاحتلال والقوى الداعمة له من القوى المحلية والخارجية. وإن الكثير من المعتقلين مفقودون لا تعلم عوائلهم أي معلومات عنهم، في الوقت الذي نجد فيه هؤلاء المتطرفين الطائفيين والمتعصبين العرقيين من أوائل الذين يقاتلون في سبيل الملذات والشهوات المادية والمعنوية والمصالح الشخصية والطائفية والعرقية، وإن الصور المسجلة في وسائل الإعلام المختلفة خير دليل على هذه الجرائم، وما لم ينشر أعظم، ولم أجد سلطة في أكثر دول العالم تخلّفاً تفرح عند تدمير مدن العراق والتنكيل بأبنائها من قِبَل محتلٍّ ما ـ في الوقت الذي شعر فيه شعب المحتل بالأسف نتيجة أفعال بعض جنوده وضباطه ـ وأنها ترقص عندما يقتل المحتل أبناء شعبها نساء وأطفالاً وشيوخاً؛ كما شاهدت ذلك يحصل لدى بعض الطائفيين والعرقيين المتطرفين وهم يهنِّئون بعضهم بعضاً ويتندّرون حينما يشاهدون على شاشات التلفزيون صور القتلى والمنكّل بهم في سجون المحتل وخارجها من أبناء شعب العراق؛ الذين هم عرب من أهل السنّة في الأنبار وغيرها، أو من الشيعة في النجف ومدينة الصدر والكاظمية، أو من أهل المدائن وتلعفر وهم مزيج من أهل السنة والشيعة عرباً وأكراداً وتركمان وغيرهم.
أما ما نشرته الصحف الغربية والأمريكية عن عدد القتلى من العراقيين فحقيقة الأمر قد تجاوزت أعدادهم اليوم أكثر من (100) ألف عراقي قتيل من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، ليس لسببٍ سوى أنهم رافضون الاحتلال منذ عام 2003م وحتى الوقت الحاضر، على الرغم من معاناتهم خلال النظام السابق؛ إلا أن النظام الحالي هو كسابقه إن لم يكن أسوأ. والغريب في الأمر أننا نجد بعض وسائل الإعلام المروّجة لاستمرار الاحتلال تحاول أن تقلل من أعداد القتلى، فتقدّرهم مثلاً بـ 25 ألف قتيل فقط، ولعلهم يستهينون بهذا الرقم أو يجدونه ما زال قليلاً، ولعل بعضهم ينادي فيقول: ألا تقتلون المزيد من أجل الاحتلال؟!
بل إن هذه الأفعال المشينة للإنسانية جمعاء وجدتها متطابقة مع ما فعله المغول في العراق خلال القرن الثالث عشر الميلادي، والصفويون من بعدهم في القرن السابع عشر الميلادي، والذين قتلوا ونكلوا وشرّدوا العرب والأكراد والتركمان وغيرهم؛ ليس لشيء سوى أسباب طائفية متشددة وعرقية متعصبة شوفينية، كما فعل ويفعل الإسرائيليون من قتل وترهيب وتنكيل بالفلسطينين، من خلال جيش الاحتلال المغتصب أو المستوطنين المتطرفين، وذلك منذ منتصف القرن العشرين الميلادي الماضي وحتى يومنا الحاضر؛ فما أشبه ذلك بهذا! أولئك الذين يعودون للأصول ذاتها الحاقدة على العرب والمسلمين والإنسانية؛ فهؤلاء الطامعون والحاقدون ما زالوا يحلمون ببقائهم في المنطقة ليعيثوا في الأرض فساداً من أجل تحقيق الشهوات الذاتية
ما زال العراقيون يعانون منذ سقوط بغداد عام 2003م من التطرّف الطائفي والعرقي الذي يستخدم ضد جميع أبناء الشعب العراقي من عرب أهل السنة وعرب الشيعة والأكراد والتركمان والأقليات الأخرى غير المسلمة الرافضين للاحتلال، بما في ذلك عمليات القتل والاختطاف ليلاً (من قِبَل الميليشيات الطائفية التي جعلوها بإطار وزارتي الداخلية والدفاع، التي تعتبر نفسها مخوّلة من قِبَل السلطة منقوصة السيادة إن كان لها سيادة حقيقية في ظل الاحتلال) .
__________
(*) عضو اتحاد المؤرخين العرب.(219/18)
هل تمهد الجامعة العربية لشرعنة الاحتلال
رضا عبد الودود
حملت زيارة السيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية للعراق، ثم المؤتمر الذي عقد في القاهرة للوفاق الوطني، الكثيرَ من علامات الاستفهام، وكذا الاتهامات، وكذا النتائج الإستراتيجية وإن كانت ضعيفة على المستوى القريب. وكانت الزيارة قد جاءت بناءً على طلب من وزراء الخارجية العرب في واشنطن خلال اجتماعات قمة الأمم المتحدة، ثم صيغت أهدافها وبرامجها في قمة المبادرة العربية بجدة مؤخراً، بعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء العراقي على الدستور.
ورغم كافة الرؤى ووجهات النظر العديدة ومواقف القوى العراقية منها وتأثيرها على مؤتمر المصالحة الوطنية الذي عقد بالقاهرة تمهيداً لمؤتمر عام تصالحي بالعراق، يفترض أن يتناول مسائل وحدة العراق وسيادته على أراضيه ونجاح العملية السياسية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتسريع إنهاء الوجود الأجنبي؛ رغم ذلك كله لا بد من التأكيد على عدة حقائق قبل الولوج في تناول هذا التحرك بالتحليل:
ـ إن زيارة عمرو موسى أتت في وقت يمر فيه العراق بمرحلة دقيقة، إزاء الشكوك حول نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد، والأمل من خلاله في إرساء الخطوط العريضة للعملية السياسية المرتقبة في العراق. كما أتت الزيارة بعد بدء المحاكمة التاريخية للرئيس المخلوع صدام حسين، وما رافقها من أصداء واسعة في الشارع العراقي. ومن ثم فهناك واقع جديد يتشكل بالعراق توافقاً مع تلك الزيارة التي قد تعيد العرب السنة للعراق مجدداً بعد عامين من التهميش.
- جاءت الزيارة بعد إعلان أطراف عربية وإقليمية عن مخاوفها من الأوضاع في العراق؛ فمثلاً حذرت دول خليجية من أن إيران الشيعية كسبت نفوذاً كبيراً في العراق مما قد يشيع الاضطراب في المنطقة. وحذرت دول أخرى من مخاطر تقسيم العراق بين السنة والأكراد والشيعة. كما انتقدت الجامعة العربية الدستور العراقي المقترح؛ لأنه لا يؤكد بشكل كافٍ على الهوية العربية للعراق. وكان عمرو موسى قد انتقد ما وصفه بأنه غياب سياسة واضحة للمصالحة بين الطوائف والأعراق المختلفة في العراق محذراً من اندلاع حرب أهلية، ووصف الحال في العراق بأنه يسير في نفق مظلم، وهي التعليقات التي أثارت حفيظة كثير من المسؤولين العراقيين.
نجاحات نسبية على طريق المصالحة المنقوصة
وبالانتقال لفعاليات الزيارة ـ التي كشفت عن عدم تحقيق نجاح ملموس لمهمة الجامعة العربية في إيجاد تفاهمات بين الأطراف المختلفة لإنجاح مؤتمر المصالحة الوطنية ـ نرى أن المهمة كانت شاقة وليست بالسهلة، فالحكومة العراقية اشترطت عدم مشاركة رجال المقاومة ـ الذين تصفهم بالإرهابيين أو أنهم مسؤولون بعثيون سابقون ـ في مؤتمر المصالحة، وأكدوا على ذلك خلال المؤتمر، معتبرة أن الجلوس مع هذه الأطراف يعد جريمة سياسية. من ناحية أخرى أعلنت هيئة علماء المسلمين ـ إحدى أبرز الهيئات السنية ـ أنها على استعداد للمشاركة في مؤتمر للحوار الوطني شرط أن يجري داخل العراق، وأن يتم الاعتراف «بالمقاومة الوطنية» ، وإدراج بند تحديد موعد زمني للانسحاب من العراق، وهو ما يتعارض مع شروط الحكومة السابقة، ورغم ذلك فإن كل التحركات التي قام بها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أكدت أن مبادرته - ووفقاً لمعظم الذين التقى بهم وحسب تصريحاته الإعلامية - تسير في الاتجاه المرسوم لها.
أما النجاح الآخر فهو تغيير وجهة نظر الحكومة العراقية تجاه المبادرة، والتي أعلنت قبل زيارة موسى العراق عن رفضها للمبادرة. لكن رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري أكد خلال لقائه بموسى على دعم الحكومة لدور الجامعة العربية.
كما تعتبر زيارة موسى إلى إقليم كردستان العراق - وهي الأولى من نوعها - جزءاً من نجاح مهمته، حيث ألقى خلالها كلمة في برلمان الإقليم تعد الأولى لرئيس الجامعة العربية بهذا المكان. وقد وصف عمرو موسى وجوده بكردستان العراق بأنه نقطة تحول تاريخية في العلاقات بين العرب والأكراد، قائلاً: «الذي يعنينا هو العراق الجديد ونحن موقنون بأن العراق القديم انتهى» .
ولكن هذا النجاح في نظر الجامعة العربية يكون مغلوطاً بمتابعة تصريحات وخيارات الأكراد الذين لم يعجبهم تصريح موسى بأنهم جزء من العراق الذي هو جزء بالأساس من الأمة العربية، وتغليبهم خيار الانفصال عن الوحدة مع العراق.
دعم الاحتلال الأمريكي في مأزقه:
لكن ورغم الجهود التي يقوم بها موسى، يبقى الطريق العراقي الوعر مليئاً بالأشواك وخاصة بعد إعلان عدد من الفصائل المسلحة تبرُّؤها من زيارة موسى العراق، وتشكيكها بأن الزيارة إنما تأتي لمصلحة أمريكية بل وبطلب أمريكي، كما ذهب إلى ذلك البيان الذي أورده تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، هذا بالإضافة إلى تشكيك العديد من السياسيين بقدرة عمرو موسى على لمِّ الشمل العراقي.
ولعل النظر بعين الموازنة بين مكاسب عمرو موسى التي حققها من الزيارة، وما تمثله للجانب الأمريكي المحتل للعراق يذهب فريق من المحللين لمنحى آخر، في ظل عدم تقديم قوات الاحتلال الأمريكية موعداً محدداً للانسحاب من العراق، ومن ثم تعد تحركات عمرو موسى في ظل الاحتلال المرة الأولى في التاريخ السياسي للمنطقة العربية التي يتاح فيها للجامعة العربية أن تقوم بدور في بلد تحت الاحتلال الأميركي، أو لواشنطن كلمة في تقرير مصيره، ذلك أن السياسة الأمريكية اختارت على الأقل في العقود الثلاثة الأخيرة إقصاء الجامعة العربية من السياسة في المنطقة، إلا إذا كان لها دور تحدده واشنطن مسبقاً، وما حدث في فلسطين والسودان، دليل يؤكد ذلك الادعاء، كما يدل على ذلك التحمس الأمريكي لهذا التحرك، إلى الحد الذي دفع السفير الأمريكي في العراق إلى القيام بزيارة أكثر من عاصمة عربية قبل أسابيع لترتيب الأمر، كما دفع القيادة الأميركية إلى التعهد بتأمين رحلة عمرو موسى طول الوقت، وليس ذلك من أجل عيون الجامعة العربية أو تقديراً لها، وهي التي رأت فيها طرفاً مناوئاً يجسد أحد أشكال الوحدة العربية وأحد أحلام الانتماء القومي العربي، وهو الأمر الذي يقف حائلاً دون انخراط الكيان الصهيوني في خريطة المنطقة، التي تفضل لها واشنطن وصفَ الشرق الأوسط الذي يحتضن إسرائيل وليس العالم العربي الذي يلفظها. لا تفسير لذلك الحماس الأميركي سوى أنه دال على عمق المأزق الذي تواجهه واشنطن في العراق، والذي أدَّى إلى تدهور شعبية الرئيس بوش، حتى أن مؤيدي البقاء في العراق أصبحوا لا يتجاوزون (30%) ، وهو ما أدَّى إلى تزايد الحملة الشعبية الداعية إلى الانسحاب من هناك، وهي الحملة التي وصل صداها إلى صفوف ممثلي الحزب الجمهوري في الكونجرس. ولأجل الخروج من الورطة، فإن أمريكا أصبحت مستعدة لأن تفعل أي شيء يستر موقفها أو يخفف من وطأة الظروف الضاغطة عليها في العراق، وهي التي استقوت من البداية وأعلنت على لسان وزير دفاعها رونالد رامسفيلد أنها ماضية وحدها إلى الحرب في العراق، وليست بحاجة إلى مساعدة أو عون من أحد، ثم تراجعت خطوة وأقامت «التحالف» الذي قادته وتولى إسقاط النظام، وتراجعت خطوة أخرى حين رحبت بمشاركة دول إسلامية في الحفاظ على الاستقرار في البلاد، لكن الفكرة لم تنجح، وآخر ما لجأت إليه بعدما ازداد المأزق وتعمقت الورطة هو دعوة الجامعة العربية للمساهمة في تهدئة الوضع، بعدما تخلت الجامعة عن أحد ثوابتها، وقبلت الاعتراف بنظام أقامته سلطة الاحتلال.
وفي هذا الإطار يبقى التساؤل حقاً للقارئ وهو: هل تستطيع الجامعة العربية الآن أن تطلب رحيل القوات الأميركية قبل أن تقوم بدور في العراق، يمكن أن يترجم إلى إرسال قوة سلام عربية تتولى تأمين البلاد؟ الأمر شبه مستحيل، حيث يبدو أن تحركات الجامعة العربية ينظر إليها على المدى الإستراتيجي البعيد بأنها خطوة عربية في ظل الاحتلال تسعى لتأمينه عبر التوصل لتهدئة مصالحة وطنية، حيث يبدو لنا من خلال قراءة جدول الجامعة العربية وفعالياتها أنها متوافقة تماماً مع ما تذهب إليه مراكز البحوث الإستراتيجية الأمريكية حول الدور العربي في العراق والمتمثل بالاضطلاع بعدد من المهام هي: وجود دائم للأمة العربية في بغداد، من خلال التمثيل الدبلوماسي لمختلف الدول الذي اقترح له أن يتم في المنطقة الخضراء تحت الحماية الأمريكية، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك الوجود على الأرض سيوفر فرصة للحوار المستمر مع العراقيين حول مختلف الشؤون، مثل: حل مشكلة ديون العراق المستحقة للدول المجاورة، بما يساعد على توفير الموارد لإعمار البلاد، وتوفير المساعدات اللازمة لإعانة العراق على النهوض بصناعة النفط، وإقناع أهل السنّة بإمكانية النهوض بالمحافظات التي يعيشون فيها إذا توقفت عمليات المقاومة، وإزالة أسباب التوتر والحساسية بين السنّة والشيعة، وإقناع السوريين والإيرانيين بضرورة مساهمتهم في استقرار العراق وإبعاد شبح الحرب الأهلية عنه، وتنبيه الجميع إلى أن انخراط أعداد كبيرة من الشباب في عمليات المقاومة يمكن أن يشكل تهديداً ليس للعراق فحسب، لكن لدول المنطقة كلها، والعمل مع الحكومة العراقية لإقناع إيران بخطورة العواقب الوخيمة التي تترتب على تقسيم العراق أو دفعه إلى مربع التطرف، والتعامل مع الملف الكردي ومع تركيا بقدر من التفهم الذي ينطلق من احترام الخصوصية، حتى لا تتفاقم المشكلة وتتحول المسألة الكردية إلى سبب إضافي للتوتر في المنطقة، وتشجيع الدول العربية على احتذاء النموذج الأردني والخليجي في تقديم العون للعراقيين في مجالات تدريب الشرطة وتوفير الاحتياجات اللازمة لهم لإنجاح مهماتهم على هذا الصعيد، ومن شأن ذلك التشجيع أن يساعد على انخراط السنّة والأكراد في جهود الأمن بالبلاد، وبمعنى أكثر وضوحاً: توفير الأجواء المناسبة لاستمرار الاحتلال وتحويله إلى احتلال ناعم هادئ لا يعكر صفوه أحد. ولعل عدم تعرُّض عمرو موسى لملف الاحتلال وممارساته البشعة بحق الشعب العراقي وعدم وضوح مطالب محددة بتحديد مواعيد يتفق عليها للانسحاب من العراق، يكرِّس الأزمة السياسية بالعراق وإن بقيت النتائج المحققة مجرد إشادة بالتجاوب الإعلامي من الفصائل العراقية مع مبادرته بغض النظر عما يجري في الواقع من منافسات ومواجهات للمحافظة على المنجزات التي تحققت على أرض الواقع للفصائل العراقية المختلفة.
أي مستقبل ينتظر العراق؟
ولعل النقطة الأبرز بل الأخطر في تحركات عمرو موسى وتصريحاته تبنِّيه لمشروع الفيدرالية، ونصوص الدستور العراقي، عندما قال إنه يقبل بعراق فيدرالي أو موحد وفق الدستور الجديد. وهذه الإشارة تعكس تحولاً واضحاً في موقف الأمين العام والجامعة العربية بالمقارنة مع مواقف سابقة للجولة، كانت تدين التقسيم بوضوح وتؤكد على حتمية النص على عروبة العراق. ورغم أنه من السابق لأوانه إصدار أحكام مسبقة على جهود ما زالت في بواكيرها، إلا أنه من الجائز القول إن فرص نجاح تحركات الجامعة العربية ستكون محدودة للغاية، وقد تُوجِد من المشاكل أكثر مما ستُوجِد من الحلول للخروج من الأزمة الحالية ... فالمصالحة ـ أي مصالحة ـ حتى تنجح لا بد من توافر أسباب النجاح، وأن تستند على ثوابت أساسية يمكن أن تشكل أرضية للتوافق، وأساساً متيناً للبناء المستقبلي من حيث التمهيد لخطوات لاحقة.
ومن ثم فإن المصالحة لا يمكن أن تتم في ظل الاحتلال، وبين طرفين أحدهما يقاوم بشراسة ويواجه حرب إبادة وتطهير عرقي بسبب هذه المقاومة، وطرف آخر يستظل بهذا الاحتلال ويستقوي به ويطالب باستمراره، لذا فإن جهود الجامعة العربية ربما تكون بداية حوار، ولكنه حوار من المشكوك فيه أن يؤدي إلى مصالحة، بل ربما إلى المزيد من الخلافات، وكأن العراق وقواه السياسية بحاجة إلى خلافات جديدة.
لذلك وفي إطار تقييم جهود الجامعة والتدخل العربي في العراق نرى وجوب أن يكون هذا التحرك في اتجاه إنهاء الاحتلال، وإلغاء سياسات الإقصاء، والنزعات الثأرية والانتقامية. إلا أن الأمر في مجمله(219/19)
قراءة الكف أو: دراسات المستقبل الأمريكية
أحمد فهمي
يف سيصبح العالم عام 2020م؟ هذا سؤال يشغل بال الكثيرين في العالم الغربي، ومن أجله تُؤلف الكتب وتُكتب الدراسات وتُعقد المؤتمرات، ولكن في عالمنا العربي لا يبدو أن هذا السؤال يسبب أي نوع من القلق؛ فالزمان ممتد أمام العرب وهم يكادون ألاَّ يعرفوا ما حدث في أمسهم ويلاحقوا ما يحدث في يومهم؛ فأيَُ مجال للغد وسط هذا الزحام؟ فضلا عن أن يكون هذا الغد بعيداً 15 عاماً.
وهذا السؤال: كيف سيصبح العالم عام 2020م؟ هو بالتحديد عنوان كتاب صدر مؤخراً من تأليف عدد كبير من الباحثين والمختصين في علم المستقبليات في الولايات المتحدة، وتبنى المجلس القومي للاستخبارات هذا الكتاب ورشحه للمخابرات المركزية والبيت الأبيض [لشرق الأوسط، 2/11/2005م] وقدم الكتاب أربع سيناريوهات للعالم بعد 15 عشر عاماً، أحدها يتوقع تأسيس خلافة إسلامية تمتد من إسبانيا إلى إندونيسيا، ولا أدري من أين جاء جهابذة الكتاب بهذا السيناريو، هذا التوقع أثار إعجاب جورج بوش وأعلنه على الملأ على سبيل التحذير والتهديد.
ويعيد الكتاب في واقع الأمر بسيناريوهاته الباقية طرح إشكالية الدراسات المستقبلية الأمريكية، والتي تمارس نوعاً من التنبؤ يبدو في ظاهره معتمداً على المنهج العلمي الرصين، ولكنه في حقيقته لا يتجاوز قواعد قراءة الكف؛ فالكتاب يطرح بالإضافة إلى الخلافة سيناريو آخر مكفهر الرُّؤى بالإرهاب ـ الإسلامي بالطبع ـ أما الثالث والرابع فيتضمنان نهاية سعيدة على النمط الغربي، في أحدهما تسود العولمة، وفي الآخر تسود الأمركة.
إن الدراسات المستقبلية الأمريكية لا تهدف في أحيان كثيرة إلى تقديم ملامح للمستقبل، بل تستخدم في واقع الأمر كوسيلة للتأثير في الواقع عن طريق فرض تصورات أو مسارات حتمية للمستقبل في الأذهان، ويعتمد ذلك على القول بأن أي فكرة جديدة منتظمة يتم طرحها من قِبَل جهة مؤثرة في واقع مضطرب ومشرذم كالواقع الإسلامي فإنها تكون قادرة على إعادة تنظيم الرؤى والتصورات والأفكار الأخرى في سياق يتلاءم معها، وتصبح مسألة الرفض أو القبول عديمة التأثير في هذا المجال.
وجانب كبير من الدراسات أو نتائج الدراسات المستقبلية التي تُنشر من قِبَل مراكز بحثية تنتمي إلى الولايات المتحدة يكون هدفها الترويج لتصورات محددة؛ فهي في الأصل مخطّطات وليست دراسات مستقبلية، والأمر المثير للشفقة والحنق أن أغلب الباحثين العرب يقومون بإعادة إنتاج هذه التصورات وتقديمها في قالب عربي يساهم في ترسيخ الرؤية الأمريكية للمستقبل في عالمنا.
إن مقاطعة الكوكاكولا الأمريكية قد تبدو أمراً جيداً، ولكن مقاطعة الأفكار الأمريكية التي تتسرب من ثقوب تناثرت في العقل العربي أكثر أهمية ولا شك؛ إنها حرب أفكار كما أكد وزير الدفاع الأمريكي(219/20)
رحلات التعذيب
ترجمة: براق عدنان البياتي
الكاتب: نيل ماكاي
الناشر: صحيفة «The Sunday Herald» الأسكُتلندية.
التاريخ: 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2005م.
الأشخاص [موضوع المقالة] قد يكونون ممن يتجولون في شوارع السويد، إيطاليا، ألبانيا، أندونيسيا، أو باكستان. يجري اختطافهم في وضح النهار، فتغطّى رؤوسهم، ويتمّ بعدها تخديرهم وتقييدهم بالسلاسل، ثمّ ينقلون إلى طائرة تعمل ضمن دائرة عمليات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A)) وعندما يستيقظون يجدون أنفسهم في دول مثل المغرب ومصر وأوزبكستان - حيث يُعدّ التعذيب ديدنًا للممارسات داخل غرف التحقيق هناك.
هنالك تقوم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بتسليم الأشخاص المأسورين للشرطة السريّة المحليّة، فيختفي المُحتجَزون من على البسيطة؛ وإن حالفهم الحظ فإنهم سيظهرون بعد بضع سنين داخل قفص بمعتقل خليج غوانتنامو، منكسرين جرّاء عمليات الضرب، والاغتصاب، والصعق بالصدمات الكهربائية ... أما إن لم يكونوا من المحظوظين، فإنهم لن يُرَوْا مرة ثانية.
ويستهدف برنامج أمريكا «للتسفير غير الشرعي» بعض الإسلاميين المشتبه بأنهم من الإرهابيين؛ حيث يتم أسرهم وتسليمهم إلى دول صديقة لأمريكا، ممّن يتوق لهم جدًا استخدام التعذيب لانتزاع المعلومات التي تريدها الولايات المتحدة لحربها على الإرهاب.
ويُعدّ هذا البرنامج سيئ الصيت ممقوتًا من قِبَل جمعيات حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، غير أن بريطانيا هي من المؤيدين المتحمّسين له؛ حيث إنه ومنذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001م قام أسطول الـ «C.I.A» المتين والمكوّن من 33 طائرة - الذي يُستخدم لنقل بضاعته البشرية ممّن يُزعم أنهم أسرى إرهابيون حول العالم - بالتوقّف في مطارات بريطانيا لما لا يقلّ عن 210 مرّات للتزوّد بالوقود ولأغراض الدعم اللوجستي الأخرى.
وقد تم خلالها استخدام ما يقرب من 20 مطاراً بريطانياً، احتلّ موقع الصدارة فيها مطارا: «بريستوِك» و «جلاسكو» حيث استقبل مطار «بريستوِك» 75 من رحلات التسفير غير الشرعي المذكورة، في حين استقبل مطار «جلاسكو» 74 رحلة منها. وتشمل قائمة المطارات المستخدمة كلاً من «لوتِن» ، «هيثرو» ، «جاتوِك» في لندن، و «بيلفاست» في إيرلندا الشمالية.
يُذكر أن غيرنا من الدول لا يتعاون بهذا الصدد؛ فإيطاليا مثلاً قامت بإصدار أوامر بالقبض على 19 عميلاً للـ «C.I.A» كانوا قاموا بخطف رجل دين مسلم في مدينة ميلان ونقله إلى مصر. كما أن السويد مستاءة من أعمال خطف جرت في أراضيها.
وتقوم الأمم المتحدة بالتحقيق في مسألة أن التسفير غير الشرعي هذا - وغيره من وسائل الحرب على الإرهاب - يُعدّ خرقًا للتشريعات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
ويقول الرئيس (جورج بوش) إن عمليات «التسفير غير الشرعي» هذه تُعدّ قانونية تمامًا، على الرغم من أن وزارة خارجيته تقول إن أوزبكستان، ومصر، والمغرب هي من الدول التي تنتهك حقوق الإنسان وتستخدم التعذيب، بشكل(219/21)
الشراء بالهامش وأحمامه الشرعية
خالد بن إبراهيم الدعيجي
i المبحث الأول: مفهوم الشراء بالهامش:
يمكن التفرقة بين أسلوبين لسداد قيمة الصفقات في الأسواق المالية، هما: الأسلوب النقدي الكامل، والأسلوب النقدي الجزئي. ويقصد بالأسلوب النقدي الكامل قيام العميل بسداد قيمة صفقاته نقداً والحصول على قيمة مبيعاته نقداً؛ وذلك على النحو المتعارف عليه في المعاملات الأخرى. أما الأسلوب النقدي الجزئي فيقصد به في حالة الشراء قيام العميل بتمويل جزء من صفقاته نقداً، والباقي يتم بأموال مقترضة.
وبناء على ذلك يكون تمويل الصفقات إما كاملاً أو جزئياً، وفي كلا الحالين لا بد من ضمانات حتى يتم التمويل.
والطريقة المعمول بها في الأسواق المالية هي التمويل الجزئي، ويقصد بها: سداد جزء من قيمة الصفقة نقداً، والباقي قرضاً مع ضمان الأوراق محل الصفقة (1) .
وتسمى هذه الطريقة: الشراء بالهامش: ((Margin Buying
فالشراء بالهامش: شراء الورقة المالية بسداد جزء من قيمتها نقداً؛ بينما يسدد الباقي بقرض، بشرط ضمان الأوراق محل الصفقة.
ويُستخدم في الأسواق المالية نوعان من الهامش:
النوع الأول: الهامش المبدئي:
والمراد به: الحد الأدنى الذي يشترط أن يدفعه المشتري من ماله الخاص عند إرادة الشراء، وغالباً لا تزيد عن 60% من قيمة الصفقة (2) .
النوع الثاني: هامش الوقاية:
يحتفظ بيت السمسرة بالأسهم التي اشتراها لعميله، مسجلة باسمه، إلى أن يقوم هذا العميل بسداد قيمة القرض، وتمثل رهناً لديه يتمكن من بيعه إذا لم يقم المقترض بالوفاء، ولكن نظراً للتقلبات التي قد تتعرض لها قيمة تلك الأسهم، مما يعرض قيمة تلك الأسهم للانخفاض إلى أقل من مبلغ القرض؛ فقد جرت العادة بتحديد هامش آخر غير الهامش المبدئي، يسمى هامش الوقاية؛ بحيث إذا انخفضت القيمة السوقية لتلك الأسهم في وقت ما، وترتب على ذلك إن الهامش الفعلي قلَّ عن هذا الهامش؛ فإنه يلزم المقترض أن يدفع للسمسار ـ خلال مدة محددة ـ مبلغاً إضافياً، أو أن يبيع جزءاً من الأسهم؛ وذلك بهدف زيادة نسبة الهامش الفعلي، ليصل إلى مستوى هامش الوقاية (3) .
ويمكن تعريف هامش الوقاية بأنه: الحد الأدنى الذي يشترط أن لا تقل عنه حقوق الملكية.
والقاعدة في استخراج الحد الأدنى: الفرق بين القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة المرتهنة، وبين المبلغ الذي اقترضه المستثمر.
صورة الشراء بالهامش:
يمكن أن تمر عملية الشراء بالهامش عبر الخطوات الآتية:
1 - يقوم العميل بفتح حساب بالهامش لدى سمسار.
2 - يعين العميل كمية الأسهم التي يريد شراءها ونوعها، ولنفرض أنها (1000) سهم من شركة الأمانة وقيمة كل سهم (100 ريال) فيكون قيمة الصفقة نقداً (100,000) ريال.
3 - الهامش النقدي الذي يدفعه العميل هو 50%، فيكون (50,000 (ريال.
4 - ومن ثم يقترض السمسار المبلغ المتبقي من أحد البنوك، بسعر الفائدة السائد، والمبلغ المتبقي هو (50,000 (ريال، وهذا الاقتراض يلجأ إليه السمسار عندما لا تكون الأسهم المطلوبة موجودة عنده، فأما إذا كانت موجودة فإنه لا يقترض.
5 - ومن ثم يقوم السمسار بإقراض العميل المبلغ المتبقي لإتمام صفقته وهو (50,000 (ريال، بسعر فائدة يزيد عن سعر الفائدة الذي دفعه السمسار للبنك.
6 - يقوم السمسار بعد ذلك بشراء الأوراق المالية المطلوبة، وتسجل باسم السمسار، وتكون مرهونة لديه حتى يقوم العميل بسداد قيمة الصفقة كاملة.
وحيث إن أسعار الأسهم المرهونة عرضة للتقلب؛ فإن الهامش الفعلي سيتغير من يوم لآخر، تبعاً للتغير الحاصل في القيمة السوقية لتلك الأسهم؛ ولذا فإن بيوت السمسرة تقوم ـ في نهاية كل يوم ـ بحساب نسبة الهامش الفعلي، على أساس سعر الإقفال؛ لمقارنته بالهامش المطلوب، ولا تخلو نتيجة المقارنة من واحدة من أربع حالات، بيانها على النحو الآتي (1) :
الحال الأولى: ارتفاع نسبة الهامش الفعلي عن الهامش المبدئي:
وهذا يحصل عندما ترتفع القيمة السوقية للأسهم المرهونة، عن السعر الذي اشتُرِيَتْ به.
وفي هذه الحالة، فإن بإمكان العميل أن يفعل أحد أمرين:
الأمر الأول: سحب جزء من القيمة التي سبق أن دفعها من أمواله الخاصة، على أن لا تقل نسبة الهامش الفعلي عن الهامش الابتدائي.
الأمر الثاني: شراء أسهم جديدة، تمول بقرض جديد يحصل عليه العميل من السمسار.
الحال الثانية: وقوع الهامش الفعلي بين الهامش المبدئي وبين هامش الوقاية:
وهذا يحصل عندما تنخفض القيمة السوقية للأسهم المرهونة، لكن بقدر لا يقل معه الهامش الفعلي عن هامش الوقاية.
ومن ثم لا يحق للسمسار مطالبة العميل بزيادة مساهمته وذلك بدفع أموال إضافية؛ كما لا يكون من حق العميل شراء أسهمٍ جديدة إلا عن طريق النقد، ولهذا يصنف حساب العميل في هذه الحالة من ضمن الحسابات المقيدة.
الحال الثالثة: انخفاض الهامش الفعلي عن هامش الوقاية:
وهذا يحصل عندما تنخفض القيمة السوقية للأسهم المرهونة انخفاضاً كبيراً.
وحينئذ فإن على العميل أن يفعل واحداً من أمرين:
الأمر الأول: دفع مبلغ إضافي، يودع في حسابه لدى السمسار، أو يستخدم لتسديد جزء من القرض.
الأمر الثاني: بيع جزء من الأسهم، واستخدام ثمنها في سداد جزء من القرض؛ ليترتب على ذلك انخفاض مبلغ القرض، ومن ثم ارتفاع نسبة حقوق الملكية إلى القيمة السوقية للأسهم؛ لينبني على ذلك ارتفاع نسبة الهامش الفعلي إلى مستوى هامش الوقاية.
الحال الرابعة: إن تثبت قيمتها.
فلا ضرر على كِلا الطرفين، بينما المستفيد في هذه الحالة السمسار؛ حيث إن الأسهم محل الصفقة مرهونة لديه، وكل ما تحصل عليه هذه الأسهم من أرباح فهي له (2) .
i المبحث الثاني: الحكم الشرعي للشراء بالهامش:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تكييف العلاقة بين العميل والسمسار والحكم الشرعي لها.
وهي لا تخلو من حالين:
الأولى: عقد قرض.
ويشترط لصحة هذا التكييف على عقد القرض أن تكون الأسهم محل الصفقة ليست مملوكة للسمسار وقت العقد، ومن ثم يقوم السمسار بإقراض العميل القيمة المتبقية للأسهم محل الصفقة.
الثانية: عقد بيع.
ويشترط لصحة هذا التكييف أن تكون الأسهم محل الصفقة مملوكة للسمسار؛ ومن ثم فإن السمسار يبيع عليه الأسهم محل الصفقة، بدفع جزء من قيمتها، والباقي يكون ديناً في ذمة العميل.
ولكل من التخريجين صور متعددة، ولكل واحدة من هذه الصور حكم خاص، وبيان هذه الأحكام يكون في الفرعين الآتيين.
الفرع الأول: تكييف العلاقة بين العميل والسمسار على عقد القرض:
ويشترط لصحة هذا التكييف على عقد القرض أن تكون الأسهم محل الصفقة ليست مملوكة للسمسار وقت العقد.
ولهذا التكييف صورتان:
الصورة الأولى: القرض بشرط الاقتراض:
مثاله: أن العميل إذا دفع هامشاً نقدياً قدره 60%، فسوف يقترض 40% لإتمام الصفقة من السمسار بشرط كتابة جميع أسهم الصفقة باسمه، فتكون ملكاً له يتصرف فيها بما يشاء كما سبق بيانه.
فالعميل اقترض من السمسار 40% من قيمة الصفقة، والسمسار اقترض جميع الأسهم محل الصفقة من العميل.
فاشتراط عقد قرض آخر من المقترض للمقرض في مقابل القرض الأول، تسمى عند فقهاء المالكية بـ «أسلفني وأُسلفَك» .
وقد نص المالكية والشافعية والحنابلة على عدم جواز هذا الاشتراط، وعلى المنع منه (3) ، ولم أجد للحنفية نصاً في هذه المسألة ويتخرج على قواعدهم القول بالمنع أيضاً (4) .
قال في المغني: (وإن شرط في القرض أن يؤجره داره، أو يبيعه شيئاً أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يَجُز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع وسلف، ولأنه شرط عقداً في عقدٍ فلم يجز) (5) .
ويدل على عدم جواز اشتراط عقد قرض آخر في القرض من المقترض في مقابل القرض الأول ما يأتي:
أن هذا الاشتراط يجر منفعة للمقرِض، وقد أجمع العلماء على أن كل قرض يجر منفعة مشروطة للمقرِض فهو حرام (6) .
ووجه هذه المنفعة المشروطة في الشراء بالهامش:
أن السمسار عندما أقرض العميل 40% من قيمة الصفقة، كان مشترطاً عليه أن يقرضه جميع أسهم الصفقة؛ فالسمسار سوف ينتفع بـ 60%، وهذه هي المنفعة المشروطة في عقد القرض الأول، بالإضافة إلى أنه في القرض الأول قد اشترط عليه أن يرده بفائدة.
فيتلخص من ذلك أن السمسار انتفع من هذا العقد - القرض - منفعتين:
المنفعة الأولى: الفائدة الربوية بسبب القرض الأول.
المنفعة الثانية: أن يقترض جميع أسهم الصفقة من المقترض الأول، لينتفع بها.
الصورة الثانية: القرض بشرط الرهن.
وهي نفس الصورة السابقة لكن يشترط السمسار رهن الأسهم محل الصفقة، وفائدة الرهن أن ينتفع السمسار بما تدره هذه الأسهم من أرباح.
ولا خلاف بين الفقهاء أن المرتهن متى شرط على الراهن الانتفاع بالرهن بلا عوض فيما لا يحتاج حفظه إلى مؤنة، وكان المرهون به دين قرض، فالشرط فاسد؛ لأنه قرض بمنفعة (1) .
الفرع الثاني: تكييف العلاقة بين العميل والسمسار على عقد البيع:
ويشترط لصحة هذا التكييف أن تكون الأسهم محل الصفقة مملوكة للسمسار، ولهذا التكييف ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يجتمع في العقد الواحد بيع وقرض.
مثاله: أن يشتري العميل من السمسار الأسهم محل الصفقة، وذلك بدفع 60% نقداً من قيمة الصفقة، والباقي مؤجل، ومن ثم يقوم العميل بإقراض السمسار جميع الأسهم محل الصفقة.
وقد اتفق الفقهاء على عدم جواز الجمع بين القرض والبيع في عقد واحد (2) ، واستدلوا على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك» (3) .
وجه الدلالة منه:
أن السلف في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل سلف وبيع» بمعنى القرض، والحديث يدل على عدم جواز الجمع بين القرض والبيع في عقد واحد.
الصورة الثانية: أن يجتمع في العقد بيعتان في بيعة.
مثاله: أن يقوم العميل بشراء الأسهم محل الصفقة، وذلك بدفع 60% من قيمتها نقداً، والباقي مؤجلاً، ومن ثم يقوم السمسار بشراء جميع الأسهم محل الصفقة بثمن مؤجل أكثر منه، فيكون السمسار مديناً للعميل بكامل قيمة الصفقة (4) .
وهذه الصورة تُخرج على «عكس مسألة العِينة» .
والعِينة: بيع سلعة بثمن مؤجل، ثم شراؤها ممن اشتراها بأقل منه نقداً (5) .
وقبل أن نذكر حكم العينة، يحسُن ذكر مواطن الاتفاق في هذه المسألة، فنقول وبالله التوفيق:
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على تحريم بيع العِينة إذا كان هناك شرط مذكور في نفس العقد الأول على الدخول في العقد الثاني (6) .
وإذا باع البائع السلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بعَرَض، أو كان بيعها بعَرَض فاشتراها بنقد، أن ذلك جائز، قال الموفق: «لا نعلم فيه خلافاً» (7) .
أما إذا باع سلعة بثمن مؤجل، ثم اشتراها من مشتريها بنقد، ولم يكن ثمت شرط بين العاقدين، فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:
القول الأول: التحريم.
وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة (8) .
القول الثاني: الجواز.
وهو قول الشافعية والظاهرية (9) .
والقول الراجح هو قول الجمهور، وهو اختيار ابن القيم، رحمه الله (10) ، ويدل على ذلك:
1 - ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ حيث قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (11) .
وجه الدلالة منه:
أن الحديث دل على أن التبايع بالعِينة سبب لإنزال البلاء والذل بينهم حتى يرجعوا إلى دينهم؛ فنزول هذه الأمور والتوعد عليها مما يدل على أنها تحرم بنص من الشارع، وجعل الفاعل لذلك بمنزلة الخارج عن الدين المرتد على عقبه، ولا يكون ذلك إلا لذنب شديد، والذنب الشديد هو البيع بالعينة (12) .
2 ـ ما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» (13) .
وجه الاستدلال:
أن هذا يشمل بيع العِينة؛ فإن فيها بيعتين؛ إذ يباع المبيع مرتين والعاقد واحد وهو المطابق لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فله أوكسهما أو الربا» فإنه إذا باعه السلعة بمائتين مؤجلة ثم اشتراها منه بمائة فقد باع بيعتين في بيعة؛ فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا وإن أخذ بالناقص أخذ بالأوكس (14) .
3 - ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن امرأته أنها قالت: «إن عائشة أم المؤمنين قالت لها أم محبة أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين! إني بعت زيد بن أرقم عبداً إلى العطاء بثمانمائة درهم، فاحتاج إلى الثمن فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة: بئس ما أشريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد بطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب. فقالت: أرأيتِ إن تركتُ وأخذتُ الستمائة؟ قالت: نعم! {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] (1) .
(ووجه) الاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أنها ألحقت بزيد وعيداً لا يوقف عليه بالرأي، وهو بطلان الطاعة بما سوى الردة؛ فالظاهر أنها قالته سماعاً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يلتحق الوعيد إلا بمباشرة المعصية، فدل على فساد البيع؛ لأن البيع الفاسد معصية (2) .
والثاني: أنها ـ رضي الله عنها ـ سمت ذلك بيع سوء وشراء سوء، والفاسد هو الذي يوصف بذلك لا الصحيح، وسبب الفساد أن هذا البيع يؤدي إلى الربا (3) .
أما مسألة «عكس العِينة» :
فصورتها: أن يبيع السلعة بنقد يقبضه، ثم يشتريها البائع من المشتري بأكثر من الثمن الأول من جنسه نسيئة.
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التحريم مطلقاً.
وهو مذهب الحنابلة (4) .
واستدلوا بأدلة مسألة العينة، ولهذا قال في الفروع عند كلامه عن العينة: «وعكس العينة مثلها» (5) .
ولهذا قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: فإن قيل: فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟
قلنا: قد نص أحمد في رواية حرب على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة؛ لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا؛ فهو كمسألة العينة سواء، وهي عكسها؛ وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقداً، لكن في إحدى الصورتين: البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته، فلا فرق بينهما» (6) .
القول الثاني: الجواز إذا لم تكن حيلة على الربا.
وهو رواية عن أحمد ـ رحمه الله ـ اختارها الموفق (7) .
القول الثالث: الجواز.
وهو جار على أصول الشافعية؛ لأنه إذا جازت عندهم العينة فعكسها من باب أوْلى.
والقول الراجح:
التحريم مطلقاً، سداً لباب الربا.
ومما سبق يتبين أن السمسار إذا باع العميلَ مجموعةً من الأسهم ثم رجع واشتراها منه بثمن مؤجل أكثر منه فهي تنطبق على مسألة عكس العِينة.
الصورة الثالثة: أن يجتمع في العقد بيع ورهن.
مثاله: أن يقوم العميل بشراء الأسهم محل الصفقة، وذلك بدفع 60% من قيمتها نقداً، والباقي مؤجلاً، ومن ثم يقوم السمسار برهن جميع الأسهم محل الصفقة، إلى أن يسدد العميل المبلغ المتبقي عليه.
وتكاد أن تكون هذه الصورة هي الغالبة في التعامل في الأسواق المالية إذا كانت الأسهم مملوكة للسمسار.
وفائدة العميل من هذا العقد: ترقُّب الأسعار؛ فإن ارتفعت ربح، وإن نزلت خسر.
وفائدة السمسار: ما تدره هذه الأسهم من أرباح أثناء تربُّص العميل وانتظاره.
ولبيان حكم هذه الصورة من الشراء بالهامش لا بد من معرفة الحكم الشرعي لثلاث مسائل:
الأولى: حكم حبس المبيع على ثمنه.
الثانية: حكم رهن الأسهم.
الثالثة: حكم انتفاع المرتهن بالرهن؛ وذلك من خلال انتفاعه بما تدره الأسهم من أرباح.
المسألة الأولى: حكم حبس المبيع على ثمنه.
وسبب ذكر هذه المسألة: أن السمسار حبس الأسهم - العَيْن المبيعة - حتى يقوم المستثمر بقضاء الدين الذي عليه بسبب البيع، علماً أن ثمن المبيع منه ما هو حالٌّ ومنه ما هو مؤجل، كما سبق بيانه.
والفقهاء تارة يعبرون عن هذه المسألة بحبس المبيع على ثمنه، وتارة برهن المبيع على ثمنه.
فهل يجوز للبائع أن يشترط على المشتري حبس العين المبيعة على ثمنها؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يجوز حبس المبيع على ثمنه، وهو مذهب الشافعية (8) .
القول الثاني: جواز اشتراط حبس المبيع على ثمنه.
وهو قول الجمهور من الحنفية (9) ، والمالكية (10) ، والحنابلة (11) .
والقول الراجح هو قول الجمهور واستدلوا بما يلي:
1 - قول الله ـ تعالى ـ: {وَإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] .
ووجه الدلالة من الآية: أن كلمة «رهان» في الآية نكرة في سياق الشرط فتعم كل ما يمكن أن يوثق به سواء كان مبيعاً أو غير مبيع.
2 - ولأنه يصح رهن المبيع عند غير البائع، فيصح عند البائع من باب أوْلى (1) .
3 - ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه، فصح رهنه على ثمنه من باب أوْلى (2) .
4 - ولأن الأصل في الشروط الصحة واللزوم.
وعليه يجوز للسمسار أن يحبس الأسهم محل الصفقة إلى أن يسدد المستثمر جميع دينه.
المسألة الثانية: حكم رهن الأسهم.
أما على القول بأن السهم يأخذ حكم العروض؛ فإن رهن السهم يأخذ حكم رهن العروض، وهذا لا إشكال فيه، بل هو الأصل في الرهن.
أما على قول الجمهور بأن السهم يمثل موجودات الشركة، فهذه الموجودات مشاعة أي غير مفرزة، فيأخذ حكم رهن المشاع.
فيُخرّجُ رهن السهم على مسألة «رهن المشاع» .
وقد اختلف العلماء في حكم رهن المشاع على قولين:
القول الأول:
عدم صحة رهن المشاع مطلقاً.
وهذا مذهب الحنفية (3) .
القول الثاني:
جواز رهن المشاع مطلقاً.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) ، والظاهرية (7) .
والقول الراجح هو قول الجمهور. واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول:
1 - قول الله ـ تعالى ـ: {وَإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] .
ووجه الدلالة من الآية: أن كلمة «رهان» في الآية نكرة في سياق الشرط فتعم كل ما يمكن أن يوثق به، فتشمل المشاع والمقسوم، وحتى على قول من يرى من الأصوليين أن النكرة في سياق الشرط لا تعم؛ فإنها حينئذٍ مطلقة، فلم تقيد بكونها مشاعة أو مقسومة، وما أطلق فلا يصح تقييده إلا بدليل (8) .
2 - أن موجب الرهن استحقاق البيع في الديْن، والمشاع عين يجوز بيعها فيصح رهنها كالمقسوم (9) .
المسألة الثالثة: حكم انتفاع المرتهن بالرهن.
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن إذا لم يكن للرهن مؤونة.
قال ابن قدامة: «ما لا يحتاج إلى مؤونة، كالدار والمتاع ونحوه، فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأن الرهن ملك الراهن، فكذلك نماؤه ومنافعه، فليس لغيره أخذها بغير إذنه» (10) .
وقال السرخسي: «لا خلاف أن المرتهن لا يملك الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن» (11) .
واشترط الشافعية والمالكية في المنفعة أن تكون مقيدة بمدة، وكذلك مشروطة في العقد.
قال في نهاية المحتاج: «وإن نفع الشرط المرتهن وضر الراهن كشرط منفعته من غير تقييد للمرتهن بطل الشرط وكذا الرهن في الأظهر؛ لمخالفته لمقتضى العقد كالشرط المضر بالمرتهن، والثاني لا يبطل بل يلغى الشرط، ويصح لأنه تبرع فلم يؤثر فيه» (12) .
قال في شرح الخرشي: «يجوز للمرتهن أن يشترط منفعة الرهن لنفسه مجاناً بشرطين: الأول: أن تكون مؤقتة بمدة معينة ... الثاني: أن يكون الرهن في عقد بيع لا في عقد قرض» (13) .
وسبب اشتراط الشافعية والمالكية التأقيت لأمرين:
الأول: عدم الإضرار بالمشتري.
الثاني: أنهم خرَّجوا هذه المنفعة بأنها إجارة، والإجارة يشترط لها العلم بالمدة، فإذا جهلت المدة لم تصح.
والذي يظهر أن المنفعة تُخرَّجُ على عقد الهبة؛ فهي هبة من المشتري للبائع، وهي من عقود التبرعات فلا يشترط لها التأقيت.
وعليه فيجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بشرطين:
الأول: أن يأذن الراهن؛ لأن الرهن مُلك له، ومن ملك شيئاً ملك تمليكه.
الثاني: أن لا يكون سبب الرهن قرض؛ إذ كل قرض جر نفعاً فهو ربا (14) .
ومن ثَم فإن الصورة الثالثة من الشراء بالهامش تكون جائزة ولا بأس فيها؛ لأن الراهن قد أذن للمرتهن أن ينتفع بالرهن، ولأن سبب الرهن هو البيع وليس القرض.
فإذا كانت هذه الصورة الوحيدة الجائزة من الشراء بالهامش فإنه قد يصاحبها بعض التصرفات من السمسار والعميل عندما ترتفع قيمة الأسهم محل الصفقة، أو عندما تقل عن هامش الوقاية الذي سبق بيانه في المبحث الأول، وذكرنا أن القيمة السوقية للأسهم لا تخلو من أربعة أحوال، ويهمنا منها حالتان وهما المؤثرتان في التصرفات، والحالتان هما:
الحال الأولى: ارتفاع القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
الحال الثانية: انخفاض القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
وفي كل من الحالتين يخير العميل بأنواع من التصرفات، وهذه التصرفات منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، وبيان ذلك في المطلب القادم.
المطلب الثاني: أحكام التصرفات المصاحبة للشراء بالهامش أثناء ارتفاع وانخفاض القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
وفيه فرعان:
الفرع الأول: التصرفات المصاحبة لارتفاع القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
ولإيضاح هذه الصورة نضرب مثالاً:
لو فرض أن مستثمراً أراد شراء ألف سهم بسعر (100 ريال) للسهم الواحد، فإن عليه إيداع مبلغ (50 ألف ريال) في حسابه ويقوم السمسار بإقراضه (50 ألف ريال (أخرى ليتمكن من شراء كامل الأسهم المطلوبة.
فلو ارتفعت القيمة السوقية فأصبحت (120 ريالاً (للسهم الواحد، فإن القيمة السوقية لجميع الصفقة ستكون (120 ألف ريال) . فيلاحظ هنا أن المستثمر ربح (20 ألف ريال) .
وما سبق ذكره يظهر في الشكل الآتي:
وفي هذه الحالة، يخير العميل بين تصرفين:
الأول: سحب جزء من القيمة المدفوعة مسبقاً.
الثاني: شراء أسهم جديدة.
وبيان ذلك في المقصدين الآتيين:
المقصد الأول: سحب جزء من القيمة المدفوعة مسبقاً.
فالمستثمر عندما ترتفع قيمة أسهمه يقوم بسحب جزء من المبلغ المرهون لدى السمسار، يتصرف فيه بما شاء، بشرط أن يكون المبلغ المتبقي بعد السحب لا يقل عن الهامش الفعلي للصفقة.
فهنا مسألتان نحتاج إلى تكييفهما:
الأولى: تكييف هذه الزيادة.
الثانية: تكييف السحب النقدي.
المسألة الأولى: تكييف الزيادة النقدية.
في المثال السابق كانت قيمة الأسهم المرهونة (100 ألف ريال) ، ولكن ارتفعت قيمتها فأصبحت تساوي (120 ألف ريال) .
فالزيادة الحاصلة وهي (20 ألف ريال) تحتمل أحد تخريجين:
التخريج الأول: أن تكون زيادة في الرهن من قِبَل الراهن.
وصورة ذلك كما قال البهوتي: « (وتجوز الزيادة) فيه أي في الرهن بأن رهنه عبداً بمائة، ثم رهنه عليها ثوباً؛ لأنه زيادة استيثاق» (1) .
وقد ذكر ابن المنذر إجماع الفقهاء على جواز الزيادة في الرهن. قال ـ رحمه الله ـ: «وأجمعوا على أن للراهن أن يزيد المرتهن رهناً مع رهنه أو رهوناً» (2) .
ونَقْلُ الإجماع في هذه المسألة فيه نظر؛ فقد خالف في هذه المسألة زُفَر من الحنفية (3) ، وبعض الحنابلة وقالوا بعدم الجواز (4) .
ولكن ذهب جماهير أهل العلم من الحنفية (5) ، والمالكية (6) ، والشافعية (7) ، والحنابلة (8) إلى جواز الزيادة في الرهن..
واستدلوا:
بأن الرهن الثاني إنما هو زيادة استيثاق، فصحت الزيادة، كما لو رهنهما معاً (9) .
التخريج الثاني: أن تكون الزيادة من نماء الرهن.
ونماء الرهن لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون متصلاً كالسِّمَن، وتعلُّم الصنعة، وكبر الشجر.
الثاني: أن يكون منفصلاً كالولد، والثمرة، والصوف، ونحو ذلك.
والنماء سواء كان متصلاً أم منفصلاً فهو ملك للراهن.
فهذه الزيادة في قيمة الأسهم سواء قلنا إنها متصلة أم منفصلة فهي ملك للراهن.
والذي يظهر للباحث أن التخريج الثاني أحسن من التخريج الأول؛ لأن الزيادة هنا تابعة للأصل غير منفكة.
المسألة الثانية: تكييف السحب النقد:
يحتمل في هذا السحب أن يُخرج على ثلاث مسائل:
الأولى: أنه استرجاع لنماء رهنه.
فما يسحبه المستثمر من نقد إنما هو نماء رهنه، ومن ثَم كأنه استرجع جزءاً من رهنه.
الثانية: أنه استرجاع لجزء مما دفعه سابقاً.
وهذه نص عليها من كتب في آلية ونظام الأسواق المالية؛ فقد قال الدكتور منير هندي: «أما إذا ارتفعت القيمة السوقية للأوراق المالية محل الصفقة، فحينئذ يحق للعميل إما سحب جزء من القيمة التي سبق دفعها من أمواله الخاصة، أو زيادة مشترياته من الأوراق محل الصفقة» (10) .
وفي كِلا الحالين يكون ملكه رجع إليه، وهذا التصرف وقع بإذن من المرتهن فلا بأس بذلك.
الثالثة: وقد يقال: إن هذا السحب يكيف بأنه قرض من السمسار للمستثمر، ويكون الرهن الموجود رهناً بالدينْين الأول والثاني.
والذي يظهر أن هذا التكييف لا يستقيم لأمور:
أولاً: أن المعروف في نظام السوق أن هذا السحب إنما هو استرجاع لما دفعه المستثمر سابقاً.
ثانياً: أن هذا السحب لا يكون إلا عند زيادة القيمة الاسمية للأوراق محل الصفقة، وما ذلك إلا لأن صفقته ربحت؛ فهو يستحق أن يأخذ الربح وهذا من ربحه.
ثالثاً: أن السمسار عندما رهن هذه الأسهم اشترط أن ما تدره من أرباح فهي له، فيقابل ذلك أنه إذا ارتفعت قيمتها فإن للمستثمر أن يسترجع ما دفعه مسبقاً؛ فهذه بتلك.
رابعاً: أننا لو خرجنا السحب النقدي على القرض فإنه سيطرأ على المعاملة الفساد؛ لأن الانتفاع بالرهن مقابل القرض محرم ولا يجوز، وقد سبق بيان هذه المسألة، فتصحيح العقود أوْلى من إفسادها.
المقصد الثاني: شراء أسهم جديدة.
وهذا هو التصرف الثاني المتاح للمستثمر أثناء ارتفاع القيمة السوقية لأسهمه.
وشراء الأسهم إما أن يكون نقداً بالكامل أو يكون بالهامش، وكلا الأمرين سبق الكلام عنهما.
فالشراء بالهامش إن كانت الأسهم غير مملوكة للسمسار فالعقد عقد قرض، ولا بأس برهن الأسهم محل الصفقة بشرط أن لا ينتفع السمسار بالرهن؛ لأجل ألا يكون قرضاً جر نفعاً.
وإن كانت الأسهم مملوكة للسمسار، فالعقد عقد بيع، وأما رهن الأسهم ففيه تفصيل:
فإن كانت الصفقة الثانية مستقلة عن الأولى، فلها حكم الصفقة الأولى جملة وتفصيلاً.
أما إن كانت الصفقة الثانية غير مستقلة عن الأولى، أي أن الرهن في الصفقة الأولى يكون رهناً كذلك في الصفقة الثانية، فهذه الصورة تُخرج على مسألة ذكرها الفقهاء وهي:
الزيادة في دَيْن الرهن، والمراد بذلك: «أن يقول الراهن للمرتهن: زدني مالاً يكون الرهن الذي عندك رهناً به وبالدين الأول» (1) .
ومثاله: أن يقترض منه (1000) ريال، ومن ثم يرهنه ساعة وأقبضها إياه، ثم اقترض منه (1000) ريال أخرى، وجعل الساعة رهناً بالدينيْن.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: عدم جواز الزيادة في الديْن.
وهو مذهب الحنفية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول:
أنها عين مرهونة، فلم يجز رهنها بدين آخر؛ لأن الرهن اشتغل بالدين الأول والمشغول لا يشغل (5) .
ويناقش:
أن هذا الاشتغال لا محذور فيه شرعاً، إنما هو زيادة استيثاق، والعقود مبناها على الرضى، فإذا رضيا بذلك وكان لهما فيه مصلحة فلا يمنع من ذلك.
القول الثاني: جواز الزيادة في الديْن.
وهو مذهب المالكية (6) وبه قال أبو يوسف من الحنفية (7) .
واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول:
عموم قوله ـ تعالى ـ: {وَإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، حيث جاء الأمر في الآية بالرهن، من غير أن يخص ذلك بكون الرهن غير مرهون بدين آخر.
الدليل الثاني:
أن الرهن في مقابلة الديْن؛ فلما جاز أن يزاد في الدين الواحد رهناً على رهن، جاز أن يزاد في الرهن الواحد ديْناً على دين (8) .
الترجيح:
الذي يترجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثاني؛ وذلك لقوة أدلته، ولأن الأصل في العقود الصحة، ولم يَرِد دليل صريح على المنع، ولا يترتب على القول به محظور شرعي.
الفرع الثاني: التصرفات المصاحبة لانخفاض القيمة السوقية للأسهم محل الصفقة.
لو فرض أن مستثمراً أراد شراء ألف سهم بسعر (100 ريال) للسهم الواحد، فإن عليه إيداع مبلغ (50 ألف ريال (في حسابه ويقوم السمسار بإقراضه (50 ألف ريال (أخرى ليتمكن من شراء كامل الأسهم المطلوبة.
وسبق في المطلب الأول أن هناك هامشين يتعامل بهما في السوق:
هامشاً مبدئياً: وهو المبلغ النقدي المدفوع ويمثل نسبة 50% من قيمة الصفقة.
هامش وقاية - صيانة -: وهو شرط يضعه السمسار على المستثمر بأنه إذا انخفضت قيمة الأوراق محل الصفقة 25% فإن له أن يتدخل لصيانة الحساب، وبيان ذلك:
لو انخفضت القيمة السوقية فأصبحت (65 ريالاً (للسهم الواحد، فإن القيمة السوقية لجميع الصفقة ستكون (65 ألف ريال) . فيلاحظ هنا أن المستثمر خسر (35 ألف ريال) .
وما سبق ذكره يظهر في الشكل الآتي:
وبالرغم من أن القيمة ما زالت كافية لتغطية المبلغ المقترض، إلا أن العرف في الأسواق المالية يقضي بأن يقوم السمسار في هذه الحالة بإصدار أمر صيانة على الحساب ليصبح صافي الحساب على الأقل (17,000) ريال مثلاً، أي أن على المستثمر إيداع (2000) ريال على الأقل، وفي حالة عدم قدرته على إيداع المبلغ يقوم السمسار ببيع كامل الأسهم أو جزء منها لتصحيح الوضع.
فالتصرفات المصاحبة لانخفاض القيمة السوقية لا تخلو من تصرفين:
الأول: دفع مال لسداد جزء من الدين السابق.
الثاني: بيع جزء من الأسهم المرهونة لاستيفاء ديْنه من ثمنها.
وبيان ذلك في المقصدين الآتيين:
i المقصد الأول: دفع مال لسداد جزء من الدين السابق.
الديْن - كما يعرفه الأحناف -: «مال واجب في الذمة بالعقد أو الاستهلاك أو الاستقراض» (1) .
وهو عند الجمهور: «ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته» (2) .
وهو أعم من الأول؛ لأنه يشمل كل الالتزامات المالية، ما كان منها حقاً لله ـ تعالى ـ كالزكاة، وما كان حقاً مالياً للعباد، وسواء كان بإلزام الشارع، أم بالالتزام الإرادي من المدين، وسواء ما ثبت في نظير عين مالية أم ثبت في نظير منفعة (3) .
وعلى كِلا التعريفين ـ تعريف الأحناف وتعريف الجمهور ـ فإن الالتزام الناشئ من الشراء بالهامش داخل في مسمى الدين.
وهذا الالتزام إما أن يكون بقرض أو ثمن مبيع، وكِلا الحالين الأجل فيهما غير محدد، والمتعارف عليه في السوق أن الديْن لا يجب الوفاء به إلا إذا بيعت الأسهم محل الصفقة، لكن إذا نقص سعرها نقصاناً ظاهراً فإن السمسار يعطي المستثمر فرصة البقاء في السوق ومزاولة الاستثمار أو المتاجرة بشرط أن يدفع مبلغاً معيناً - هامش صيانة - وهذا المبلغ يُكيف على أنه سداد لجزء من الديْن السابق على المستثمر للسمسار.
واشتراط السمسار هذا الشرط على المستثمر لا بأس به، ويجب الوفاء به؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «المسلمون على شروطهم» (4) .
لكن إذا لم ينص على الشرط، ولم يكن متعارفاً على هذا العمل، أو أن المستثمر اشترط على السمسار أن لا يسدد الدين إلا بعد بيع الأسهم؛ فهل يجوز للسمسار أن يطالب المستثمر بسداد جزء من الدين مع أن الدين لم يحل وقت سداده؟
أما إن كان الدين بسبب ثمن مبيع فلا يحق له ذلك، للحديث السابق.
وأما إن كان الدين بسبب قرض فهذه المسألة تُخرجُ على مسألة ذكرها الفقهاء وهي:
هل يجب الوفاء بالقرض حالاً أو يتأجل بالتأجيل؟ وإليك ما قيل في هذه المسألة:
اتفق الفقهاء على جواز التأخير في وفاء القرض من غير شرط (5) .
واختلفوا في مسألتين:
الأولى: هل الوفاء بالقرض يكون حالاً أو مؤجلاً؟
الثانية: لو شرط التأجيل هل يجب الوفاء بالشرط أو لا؟
وإليك بيان الخلاف في هاتين المسألتين:
المسألة الأولى: هل الوفاء بالقرض يكون حالاً أو مؤجلاً؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يتأجل الوفاء بالقرض بالتأجيل، بل يكون حالاً.
وهو قول الجمهور، من الحنفية (6) ، والشافعية (7) ، والحنابلة (8) .
فعلى هذا القول: يحق للسمسار مطالبة المستثمر بسداد جزء من الديْن ولو لم يحلَّ أجله.
واستدلوا بما يلي:
1 - أن القرض عقد يمتنع فيه التفاضل؛ فمنع فيه الأجل كالصرف (9) .
ويناقش من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يُسَلَّم بأن القرض يمتنع فيه التفاضل مطلقاً؛ وذلك لأمرين:
أ - أن الزيادة في الوفاء من غير اشتراط جائزة؛ لما روى أبو رافع «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استسلف من رجل بَكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكرة، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أعطه إياه؛ إن خيار الناس أحسنهم قضاء» (10) .
ب - أن اشتراط الوفاء بالأقل جائز عند بعض العلماء، وهو وجه عند الشافعية (11) وقول عند الحنابلة (12) .
الوجه الثاني:
أن قياس القرض على الصرف غير صحيح؛ لأنه قياس مع وجود الفارق، وذلك أن القرض عقد تبرع وإرفاق؛ وأما الصرف فعقد معاوضة.
2 - أن القرض سبب يوجب رد البدل، فأوجبه حالاً كالإتلاف (13) .
ويناقش من وجهين:
الأول: أن القياس على الإتلاف غير صحيح؛ إذ القرض تبرع، والإتلاف جناية.
الثاني: أن بعض أنواع الإتلاف لا توجب رد البدل معجلاً، بل يكون مؤجلاً، كما في دية شبه العمد والخطأ (14) .
3 - القياس على العارية؛ وذلك: «أن القرض يسلك به مسلك العارية، والأجل لا يلزم في العواري» (15) .
ويناقش:
أن هذا القياس غير صحيح؛ لأن حكم الأصل وهو لزوم الأجل في العارية محل خلاف فلا يصح القياس عليه.
جاء في الكافي لابن عبد البر: «ومن أعار شيئاً عارية مطلقة فليس له عند مالك أخذه من المستعير حتى ينتفع به الانتفاع المعهود بمثله في العواري في تلك المدة» (16) .
القول الثاني: يتأجل القرض بالتأجيل.
وهو مذهب المالكية (17) ، ووجه عند الحنابلة اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (18) .
وعلى هذا القول لا يحق للسمسار مطالبة المستثمر بدفع جزء من الديْن قبل حلول الأجل.
واستدلوا بما يلي:
1 - قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
وجه الاستدلال: أن القرض دين، فيدخل في عموم الآية، والمراد من الكتابة حفظ قدر الدين وأجله، وهذا يدل على أن القرض يتأجل بالتأجيل؛ فالآية لم تفرق بين القرض وسائر المداينات.
2 - ما ثبت من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً. قال فائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى ... » الحديث (1) .
وجه الدلالة من الحديث: أن التأجيل في القرض ذكر في الحديث من باب المدح للمقرض، وهذا يدل على مشروعيته.
ويناقش:
أن هذا شرع من قبلنا فلا يحتج به.
ويجاب:
أن شرع من قبلنا ليس بحجة إذا خالفه شرعنا، أو لم يوافقه، وفي هذه المسألة لم يرد في شرعنا ما يخالفه، بل جاء شرعنا بموافقته، فيكون حجة ودليلاً على جواز تأجيل القرض.
الترجيح:
بعد عرض الخلاف في المسألة نجد أن الجمهور استدلوا بأقيسة مناقشة، ولم يستندوا لأدلة من الكتاب ولا السنة، بينما المالكية استندوا إلى الكتاب والسنة.
فالراجح ـ والله تعالى أعلم ـ هو القول الثاني لقوة ما استدلوا به، ويعضدهم كذلك الأصل في المعاملات الإباحة، كما أن التأجيل فيه مصلحة للمقترض وهو من تمام التبرع.
وعليه: إذا لم يحدد الأجل، ولم يكن هناك عرف متبع، فليس للسمسار أن يطالب المستثمر بسداد الديْن، لا سيما أن الأسهم مرهونة لديه.
المسألة الثانية: الثانية: لو شُرط تأجيل الوفاء بالقرض، هل يجب الوفاء بالشرط أو لا؟
هذه المسألة مبنية على المسألة السابقة؛ فالخلاف فيها كالخلاف السابق، ولهذا اختلف الفقهاء فيها على قولين:
القول الأول: لا يجوز اشتراط الأجل في القرض، وللمقرض المطالبة بقرضه في أي وقت، ويلزم المقترض الوفاء عند طلب المقرض له.
وهذا قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة (2) .
واستدلوا بأدلتهم في المسألة السابقة.
القول الثاني: أن اشتراط الأجل في القرض جائز، ويجب الوفاء به.
وهذا مذهب المالكية (3) .
يلزم من ترجيح الباحث قول المالكية في المسألة السابقة ترجيحه لقولهم أيضاً في هذه المسألة؛ إذ لا فرق بين المسألتين، والله ـ تعالى ـ أعلم.
ومما سبق فإن تحديد أجل وفاء القرض وعدمَه لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يُحدَّدَ أجلٌ للوفاء، وسواء كان هذا الأجل حدد بمدة كشهر أو شهرين، أو بوصف كنزول القيمة السوقية للأسهم نزولاً شديداً؛ ففي هذه الحالة يجب الوفاء به في وقته على كِلا القولين.
الثانية: أن لا يُحدَّدَ أجلٌ للوفاء، فهنا إن كان هناك عرف متبع وجب العمل به، وإلا فيُنْظَر المقترض إلى الميسرة على القول الراجح.
المقصد الثاني: بيع جزء من الأسهم المرهونة لاستيفاء دينه من ثمنها.
التصرف الثاني الذي يُخيَّرُ به المستثمر عند نزول القيمة السوقية لأسهمه: بيع جزء من أسهمه المرهونة، وهذا التصرف يُخرجُ على مسألة ذكرها الفقهاء وهي:
بيع الرهن لاستيفاء دين المرتهن من ثمنه.
تحرير محل النزاع في هذه المسألة:
اتفق الفقهاء على المسائل الآتية:
1 - إذا حل الدين لزم الراهن الإيفاء؛ لأنه دين حالٌّ فلزم إيفاؤه كالذي لا رهن به.
2 - فإن امتنع الراهن من وفاء الدين فإن أذن للمرتهن في بيعه، وكان البيع بحضور الراهن صح البيع اتفاقاً.
3 - وإن لم يكن بحضوره ولكن حدد له ثمناً صح البيع اتفاقاً.
واختلفوا فيما إذا:
أذن الراهن للمرتهن ببيع الرهن، ولم يحدد ثمناً أو كان غائباً، على قولين:
القول الأول: لا يصح البيع.
وهو القول الأصح عند الشافعية (4) .
القول الثاني: إذا أذن الراهن ببيع الرهن صح البيع مطلقاً.
وهذا مذهب الجمهور من الحنفية (5) ، والمالكية (6) ، والحنابلة (7) ، وقول عند الشافعية (8) .
وهو القول الراجح، واستدلوا بما يلي:
1 - أن من جاز أن يشترط له الإمساك، جاز اشتراط البيع له، كالعدل (9) .
2- أن ما جاز توكيل غير المرتهن فيه، جاز توكيل المرتهن فيه، كبيع عين أخرى (10) .
3 - أن الراهن مالك، له أن يوكل من شاء من الأهل ببيع ماله معلقاً ومنجزاً؛ لأن الوكالة يجوز تعليقها بالشرط؛ لكونها من الإسقاطات؛ بدليل أن المانع من التصرف حق المالك، وبالتسليط على بيعه أسقط حقه، والإسقاطات يجوز تعليقها بالشروط (11) .
وعليه: فيجوز للسمسار بيع جزء من الأسهم إذا حل أجل الدين، لاستيفاء ثمن دينه منها، ولكن يشترط في ذلك أن يبيعها
__________
(1) الأوراق المالية وأسواق رأس المال، د. منير هندي، ص 135.
(2) أساسيات الاستثمار في الأوراق المالية، د. منير هندي، ص 110.
(3) المرجع السابق، ص 138.
(1) الأوراق المالية وأسواق رأس المال، د. منير إبراهيم هندي، ص 138.
(2) الأوراق المالية وأسواق رأس المال، د. منير هندي، ص 138.
(3) مواهب الجليل 6/273، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 5/47، المغني 6/437.
(4) بدائع الصنائع 7/395، وجاء فيه: «وأما الذي يرجع إلى نفس القرض فهو أن لا يكون فيه جر منفعة، فإن كان لم يجز» .
(5) المغني 6/437.
(6) الإجماع لابن المنذر 95.
(1) حاشية الدسوقي 3/246 أسنى المطالب 2/161، المغني 6/510.
(2) المغني 6/334.
(3) أخرجه أبو داود (3504) والترمذي (1234) ، والنسائي (4608) ، وابن ماجه (2188) ، والحديث حسنه الألباني كما في الإرواء 5/146.
(4) وهذه الصورة نادرة الوقوع، ولكن ذكرها الباحث من باب أنها يمكن أن تقع، ولأنه يمكن أن يتطور حال هذه الأسواق فيكون من باب تشجيع كبار التجار للدخول في هذه الأسواق؛ لأن الربح فيها مضمون.
(5) لسان العرب مادة «عين» 13/306.
(6) مجموع الفتاوى 28/74.
(7) المغني 6/261.
(8) بدائع الصنائع 5/198، جواهر الإكليل 2/29، التاج والإكليل 6/273، كشاف القناع 3/184، شرح المنتهى 6/162.
(9) الأم 3/79، تكملة المجموع 10/149 - 158، روضة الطالبين 3/419، المحلى 7/548 - 549.
(10) تعليقات ابن القيم على السنن، عون المعبود 9/337.
(11) أخرجه أبو داود (3462) . قال عنه الألباني ـ رحمه الله ـ: صحيح بمجموع طرقه. (الصحيحة 1/15) .
(12) الربا والمعاملات المصرفية د. عمر المترك ـ رحمه الله ـ ص 261.
(13) أخرجه أبو داود (3461) .
(14) تعليقات ابن القيم على السنن، عون المعبود 9/337.
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/84، برقم 14812) ، والدارقطني 3/52، والبيهقي 5/330 - 331. والأثر صححه ابن القيم في إعلام الموقعين (5/80 - 81) .
(2) بدائع الصنائع 5/199.
(3) المرجع السابق.
(4) الإنصاف 4/337، الفروع 4/170، شرح المنتهى 3/164.
(5) الفروع 4/170.
(6) تعليق ابن القيم على السنن، عون المعبود 9/345 - 346.
(7) الإنصاف 4/337، الفروع 4/170، المغني 6/363.
(8) نهاية المحتاج 3/459 - 460، 4/105، حاشية الجمل 3/80، أسنى المطالب 2/33.
(9) بدائع الصنائع 5/237، وانظر أيضاً 5/249، تبيين الحقائق 4/14، الفتاوى الهندية 3/15، واشترط الأحناف للجواز: أن يكون بعض الثمن حالاً، أما إذا كان كل الثمن مؤجلاً فلا يحق له الحبس؛ لأنه أسقط حقه بذلك.
(10) شرح الخرشي 5/81 - 82، حاشية الدسوقي 3/67، حاشية الصاوي 3/102.
في الحقيقة لم أجد للمالكية نصاً في المسألة المذكورة حسب ما اطلعت عليه من كتبهم، ولكن فهمت من عموم كلامهم جواز مثل هذا الشرط، ورأيت في شرح الخرشي كلاماً أجازوا فيه بعض الشروط مثل اشتراط رهن المبيع ونصه: «ولا بأس بالبيع بثمن إلى أجل على أن لا يتصرف ببيع ولا هبة ولا عتق حتى يعطي الثمن؛ لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن لأجل مسمى. والله أعلم بالصواب.
(11) شرح المنتهى 3/ 169، الإنصاف 4/357، الفروع 4/61.
(1) المغني 6/504.
(2) المغني 6/504.
(3) المبسوط 21/69، تبيين الحقائق 6/65، العناية شرح الهداية 10/152، الجوهرة النيرة 1/228.
(4) المنتقى شرح الموطأ 5/243-244، التاج والإكليل 6/541.
(5) أسنى المطالب 2/144، حاشية قليوبي وعميرة 2/327، تحفة المحتاج 5/55.
(6) المغني 6/456، الإنصاف 5/141، كشاف القناع 3/326.
(7) المحلى 6/364.
(8) أحكام القرآن لابن العربي 1/261، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/441.
(9) المغني 6/456.
(10) المغني 6/509.
(11) المبسوط 21/106.
(12) نهاية المحتاج 5/52.
(13) شرح الخرشي على خليل 5/249 - 250.
(14) المبسوط 21/106، الشرح الكبير للدردير 3/246، تكملة المجموع 13/243، الفروع 4/225.
(1) حاشية الروض المربع لابن قاسم (5/74) .
(2) الإجماع، لابن المنذر، ص 96.
(3) المبسوط، 21/97.
(4) الفروع 4/ 215، الإنصاف 5/140.
(5) المبسوط 21/97، تبيين الحقائق، 6/95، فتح القدير 10/199.
(6) لم أعثر على ذلك في كتبهم التي اطلعت عليها، لكن بناء على أصلهم في جواز الزيادة في ديْن الرهن فإنه تجوز الزيادة في الرهن من باب أوْلى، وقد ذكر الموفق أن المالكية يقولون بجواز الزيادة في الرهن كما في المغني 6/466.
(7) مغني المحتاج 3/57، نهاية المحتاج 4/ 253، تحفة المحتاج 5/66.
(8) المغني 6/466، الفروع 4/ 215، كشاف القناع 3/322، الإنصاف 5/140، شرح المنتهى 3/333.
(9) المغني، لابن قدامة 6/467.
(10) الأوراق المالية وأسواق رأس المال ص 138.
(1) المغني 6/466، وانظر كذلك: تبيين الحقائق، 6/95.
(2) تبيين الحقائق، 6/95، فتح القدير 10/199، المبسوط 21/97.
(3) مغني المحتاج 3/57، نهاية المحتاج 4/ 253، تحفة المحتاج 5/66.
(4) المغني 6/466، الفروع 4/ 215، كشاف القناع 3/322، الإنصاف 5/140، شرح المنتهى 3/333.
(5) شرح المنتهى 3/333.
(6) المدونة 4/146، منح الجليل 5/428، حاشية الدسوقي 3/237، شرح الخرشي 5/241.
(7) تبيين الحقائق، 6/95، فتح القدير 10/199، المبسوط 21/97.
(8) المغني 6/ 466.
(1) فتح القدير 6/332.
(2) القوانين الفقهية ص 79، أسنى المطالب 1/356، شرح المنتهى 1/369.
(3) دراسات في أصول المداينات، للدكتور نزيه حماد، ص 16.
(4) أخرجه أبو داود (كتاب الأقضية/ باب في الصلح، برقم 3594) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ. وصححه الألباني كما في الإرواء 5/142.
(5) الذخيرة للقرافي 5/295، القبس لابن عربي 2/790.
(6) بدائع الصنائع 7/396، المبسوط 14/37، العقود الدرية لابن عابدين 2/226، البحر الرائق 6/133، فتح القدير 6/523.
(7) نهاية المحتاج 4/231، مغني المحتاج 3/34، تحفة المحتاج 5/47.
(8) شرح المنتهى 3/328، الإنصاف 5/130، الفروع 4/202، كشاف القناع 3/314.
(9) شرح المنتهى 3/327.
(10) أخرجه مسلم (4084) .
(11) المهذب للشيرازي 1/304.
(12) الفروع لابن مفلح 4/205.
(13) شرح المنتهى 3/327.
(14) شرح المنتهى 6/149.
(15) بدائع الصنائع 7/396.
(16) الكافي لابن عبد البر 2/810.
(17) منح الجليل 5/408، مواهب الجليل 4/ 548، حاشية الدسوقي 3/226، حاشية الصاوي 3/295.
(18) الإنصاف 5/130.
(1) أخرجه البخاري (2291) .
(2) المراجع في المسألة السابقة.
(3) المراجع في المسألة السابقة.
(4) أسنى المطالب 2/167، حاشية البجيرمي على المنهج 2/381، حاشية الجمل 3/288 - 289.
(5) البحر الرائق شرح كنز الدقائق 8/292، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 6/81، العناية شرح الهداية 10/150.
(6) المنتقى شرح الموطأ 5/255، الجوهرة النيرة 1/232، مواهب الجليل 5/22 - 23.
(7) كشاف القناع 3/342، الإنصاف 5/162، شرح المنتهى 3/355.
(8) مغني المحتاج 3/70، تحفة المحتاج 5/84.
(9) المغني، لابن قدامة 6/505.
(10) المغني، لابن قدامة 6/505.
(11) تبيين الحقائق، 7/174، البحر الرائق، 8/292.(219/22)
الشعراء والعيد
شمس الدين حسين درمش
جعل الإسلام يومي الفطر والأضحى عيدين للمسلمين يمتازان عن سائر أيام السنة بمظاهر احتفالية قائمة على معاني الدين الخاصة بحمد الله وشكره على توفيقه ـ سبحانه ـ العبدَ بالقيام بواجب فريضة الصيام في الفطر، وفريضة الحج في الأضحى.
ولصلاة العيدين، وما يحصل من تجمُّع عام فيهما، وما يصحب ذلك من تواصل اجتماعي وصِلات قربى أثرٌ عميق في النفوس لا يوجد في الأمم الأخرى مثيل له.
ومن أبرز مظاهر العيدين احتفالات الفرح، وإظهار الزينة، وتبادل التهاني، وتظهر تلك المظاهر على الصغار بشكل أكبر، حتى إن الكبار يرون العيد في أفراح الصغار وسعادتهم.
والشعراء بطبيعتهم أكثر رهافة في الأحاسيس، وأعمق رصداً للمشاعر، وأكثر قدرة على تصوير ذلك كله بسعة تخيلاتهم. فكيف يستقبلون العيد؟ وكيف ينظرون إلى أحوال الناس فيه؟
يقول الشاعر حسين عرب (1) في قصيدة له بعنوان «فرحة العيد» :
أقبل العيد مستفيض الجلال مستنير الشروق والآصال
أصبحت من صباحه الناس في بشـ ـر وأمستْ من ليله في اختيال
التهاني على الشفاه تراجيـ ـع تغنّت بفرحة الإقبال
والأماني بين الجوانح خفق دائب بالرجاء والابتهال
فهو يصور جمال العيد جلالاً، وأماني القلوب ممتزجة بالابتهالات إلى الله سبحانه.
ويقوم بعد ذلك بجولة في تاريخ الإسلام المجيد، ثم يعود فيخاطب العيد وكأنه شخص يستمع إلى قصيدة الممتلئ بمعاني العزة والإباء، وأمنيات الأمان والسلام فيقول:
أيها العيد قد رجوناك عيداً يغمر النفس بالرضى والجمال
نجتني بعده من العسر يسراً ومن البؤس بالنعيم الموالي
سنة الله في الوجود كما شاء تعالى مبدِّل الأحوال
وعسى أن تتحقق الأماني وتتبدل الأحوال بمشيئة الله تعالى.
ونجد لدى الشاعر محمد إبراهيم جدع (2) عدة قصائد عن العيد، مثل: «تهاني العيد» و «أنشودة العيد» و «بسمة العيد» . فبعد أن يعبِّر في قصيدة «تهاني العيد» عن المعاني العميقة للعيد في الإسلام، ويرسم مظاهر السعادة والفرح، وتصافح الأحباب بالأيدي والقلوب، وشدو الصبية ومرحهم، وفوز الصائمين بالأجر العظيم؛ يقول:
ما العيد لبس الثوب بين نضارة تختال فيه بزهوة وجماح
أو رفع أعناق الرجال ومشيها في بزَّة تزهو مع الأطماح
لكن عوناً للضعيف ومنحة وسداد رأي في هوى وصلاح
العيد أن تعطي الجميل وترتضي سبل السلام وسيلة الأفلاح
فيقدم لنا ما يمكن تسميته فلسفة العيد، وأن مظاهر الزينة والزهو لا تعبر عن حقيقة العيد؛ لأن العيد الحقيقي في الإسلام هو العطاء الجميل، وارتضاء سبل الإسلام وسيلةً للفلاح، وبذل للفقراء والضعفاء، وتقديم النصح الصادق والرأي السديد.
ويرى الشاعر عبد الرحمن بن عبد الكريم العبيد (1) العيدَ من زاوية أخرى، فهو يفتتح قصيدته «العيد» بجملة نثرية يمهد بها لمعاني قصيدته قائلاً: «ما أجمل أيام العيد لولا القلوب التي تتأوّه، والدموع التي تتهامى، فيستحيل إلى مأساة» . وتأتي قصيدته لتعبِّر عن هذا التناظر المتضاد والتي ترسم الدموع على الوجوه المبتسمة صباح العيد فيقول:
أطلَّ العيد في ثوب جميل يطوف على الروابي والسهول
وجاء الحب يغمر كل قلب يبدِّد قسوة الهجر الطويل
فأسفر في صباح العيد وجهٌ ووجهٌ فيه آذنَ بالأُفول
وكم قلب تأوَّه في صباح وكم دمع تهامى في أصيل
وكم بالعيد من بيت سعيد تذكر فاستحال إلى عويل
لوحات متضادة ومناظر مختلطة، وملهاة ومأساة في مسرح واحد!! ويُتبع الشاعر لوحاته الخيالية تلك بلوحات من الواقع في أفغانستان وفلسطين، وما أكثرها من لوحات متكسرة في أرض الإسلام!
ويستقبل الشاعر عبد الرحمن العشماوي (2) عيداً من لون آخر ممتزج بالأحزان؛ لأن أعياد المسلمين ما عادت تأتي إلا وهم يعانون مزيداً من الجراح الدامية؛ فما عادت الأعياد ـ كما يصورها حسين عرب ومحمد إبراهيم جدع وعبد الرحمن العبيد ـ تُقبل بوجه متهلل وثوب زاهٍ لتجد الناس في الأحزان.
بل العيد نفسه صار حزيناً كئيباً لما فيه المسلمون من مآسٍ فظيعة. ولذلك يختار لقصيدته عنوان «عندما يحزن العيد» ، ويقول فيها:
أقبلت يا عيدُ والأحزان أحزان وفي ضمير القوافي ثار بركان
أقبلت يا عيدُ والرَّمضاء تلفحني وقد شكت من غبار الدًّرب أجفانُ
ويتابع الشاعر العشماوي قصيدته بهذه الصورة القاتمة، ويتوجه إلى العيد بخطابه الدامي الحزين، وكأنه يعاتبه بقوله ـ الذي يكرره في أبيات متعاقبة ـ «أقبلت يا عيد» أو كأنه يعتذر إليه حيث أقبل وحال المسلمين غير الحال التي يستقبلون فيها العيد، ولكن شاعرنا يجد نفسه مضطراً لأن يجامل الناس صباح العيد مبتسماً باشّاً مصطنعاً سروراً غير موجود في داخله، والناس من حوله إذ يعلمون من قوافيه الحزينة ما يعلمون، يتهامسون غمزاً ولمزاً قائلين:
هذا الذي تصدر الآهات عن دمه شعراً رصيناً له وزن وألحان
فيضطر أن يبين لهم أن تلك البشاشة منه صباح العيد تجثو على أحزان وأشجان، ولو أنهم علموا بعض ذلك:
لأغمضوا أعيناً مبهورة وبكوا حالي وقد نالني بؤس وحرمان
ثم يعود إلى مخاطبة العيد مرة أخرى واصفاً حاله مع أحزان أمته:
أقبلت يا عيد والأحزان نائمة على فراشي وطرف الشوق سهران
وهي صورة شعرية مؤثرة ومعبرة عن مدى تغلغل الحزن في حياة الشاعر إحساساً منه بحال أمته حتى إنه لا يفارقه في يقظة ولا منام.
أما الشاعر وليد الأعظمي (3) فإنه ينكر أن يكون العيد عيداً وهذه حال المسلمين؛ لأن تجذر المأساة يلفت لديه غايتها، ويبادر نفسه قاطعاً عليها طريق أي شعور بالفرح بقدوم العيد؛ لأنه ليس عيداً، فيقول:
العيد أقبل يا (وليد) فلا تكن فرحاً به أبداً فما هو عيد!!
ولكن؛ ما العيد في نظر وليد الأعظمي؟
ما العيد إلا أن نعود لديننا حتى يعود نعيمنا المفقود
ما العيد إلا أن يُرى قرآننا بين الأنام لِوَاؤُهُ معقود
ما العيد إلا أن نكوّن أمة فيها محمد لا سواه عميد
ما العيد إلا أن نعدّ نفوسنا للحرب حيث بها هناك نجودُ
ما العيد إلا أن تكون قلوبنا نحو العدو كأنها جلمود
وبأسلوب التكرار يؤكد الشاعر معانيه، وبأسلوب القصر يصر على مفهومه للعيد أنه استعادة أمجاد الأمة الضائعة في زمن «تداعي الأكلة على القصعة» ينتهبونها، لذلك يأتي خطابه بوتيرة متشددة وكأنه ينظر إلى قوله ـ تعالى ـ في وصف المؤمنين في القرآن الكريم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
وعندما يطول الانتظار، وتتكاثف الظلمات يبحث الإنسان عن بصيص ضوء يشعل به الأمل في نفسه، ويخفف عنها شعور الإرهاق حتى لا تيأس فتنقطع، لذلك فإن الشاعر فيصل محمد الحجي (1) لنفسه محطة راحة شعورية يستمد منها دفعة للسير قدماً في الطريق الطويل؛ فالأعياد لا تأتيه بالمسرات، فيتخذ من مناسبة خاصة ملأت نفسه بهجة ومسرة عيداً، هكذا بدا لي الشاعر فيصل الحجي في قصيدته «ما العيد؟» فالعنوان الذي وضعه بصيغة سؤال يفتح لنا كوّة مبصرة إلى أعماق الشاعر ومعاناته مع الأعياد في واقع المسلمين. يقول في قصيدته:
يا دامع الطرف محزوناً ومسروراً إلامَ تبقى كليل الطرف محسورا
ألا ترى العيد قد وافاك مبتسماً وقد أزاح عن العينين دَيجورا (2)
أتعرف العيد أم أُنسيت بهجته لما توالى نزيف الدمع مهدورا
وبعد هذه المقدمة يجيب على سؤاله في العنوان فيقول:
فقلت: ما العيد إلا أن أرى (أَنَسي) وأن يباح لنا ما كان محظورا
العيد في أن أراه اليوم مبتهجاً وأن أشاهد أستاذاً ودكتورا
و (أنس) الابن الأكبر للشاعر وقد طال انقطاعه في دراسته سنوات وبات اللقاء أمنية عزيزة في قلب الوالد، فلما تحقق ذلك كان شعور الفرح طاغياً باكياً، وكان ذلك وحده يساوي العيد.. وأي عيد!!
لكن الشاعر يتابع فيضفي على العيد أبعاداً أخرى؛ إذ كل ما يرضي الرحمن من عمل يُوفَّق فيه المرء فهو (عيد) ، وتمتُّع الإنسان بالصحة والعافية عيد، وفرح الصغار عيد، واجتماع شمل الأحباب عيد.
العيد في أن يكون السعي مزدهراً وأن يكون لدى الرحمن مبرورا
العيد في أن يكون العيش في دعة والجسم في صحة والحال مستورا
العيد في أن أرى (غفران) ضاحكة والبشر يطفح من ألحاظها نورا
العيد في أن أرى حبل الوداد هنا بين الفؤادين موصولاً وموفورا
العيد في أن يكون الشمل مجتمعاً وأن أكون بعطف الجمع مغمورا
فنراه في الشطر الثاني من البيت الأخير يدفع نفسه دفعاً للإحساس بفرحة عيده الخاص (وأن أكون بعطف الجمع مغموراً) ، وبذلك يرسم لنا الشاعر صورة أخرى للعيد، فيأتي بالعيد الذي يريد حين عزّ أن يأتي العيد للمسلمين كما يريدون، فيضيء الدرب بأنوار كثيرة مبثوثة في الحياة اليومية هنا وهناك لتستمر الحياة، ويسود الرضا، ويطرد الضياء جيوش اليأس والظلام.
__________
(*) عضو هيئة تحرير مجلة الأدب الإسلامي.
(1) حسين عرب من مواليد مكة 1338هـ، ديوان الأعمال الكاملة ص 53.
(2) محمد إبراهيم جدع من مواليد جدة 1330هـ، ديوان الأعمال الشعرية ص 146.
(1) عبد الرحمن بن عبد الكريم العبيد ـ رئيس النادي الأدبي في الدمام، ديوان «يا أمة الحق» ص 191.
(2) عبد الرحمن العشماوي ـ ديوان شموخ في زمن الانكسار ص 115، ط 1، 1410هـ، مكتبة الأديب في الرياض.
(3) وليد الأعظمي شاعر عراقي توفي 1425هـ، ديوان الأعمال الكاملة ص 274، ط 1، دار القلم، دمشق.
(1) فيصل محمد الحجي، شاعر سوري، ديوان دموع الرجال ص 188، دار القلم ـ دمشق. (2) الدَّيجور: الظلمة.(219/23)
من أجل كلمة الله
عبد الله سليمان القفاري
يمثِّل القرآن الكريم في حياتنا جميعاً نبراس هدى وطريق دلالة إلى الخيرية العالمية التي جاء بها محمد -صلى الله على محمد- من بين جبال مكة الشامخة. والمسلمون على مرِّ التاريخ مجّدوا القرآن وعظّموه في نفوسهم، وجعلوه تاجاً فوق هاماتهم ونوراً لصدورهم، وشفاء لأسقامهم. هذه الرؤية تشكلت في تاريخ المسلمين نموذجاً راقياً في تنمية الذات وصناعة المجتمعات، فأضحت أمة الإسلام خير أمة أُخرجت للناس، وبسطت بالمصاحف التي حوتها الصدور قوانين الشريعة الإسلامية عبر تاريخ خلفائها ومماليكها.
ولا تزال الخيرية في أمة القرآن الكريم في حياتنا المعاصرة وإلى قيام الساعة؛ حيث حُفظ القرآن الكريم من التغيير والتبديل خلافاً لغيره من الكتب السابقة، قال ـ تعالى ـ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
ولقد رفض المسلمون في أقطار الأرض تلك الحملة المسعورة التي هاجمت القرآن الكريم وحاولت تدنيس قداسته بصور شتى وحالات تتعدى العدّ والذّكر؛ فكيف نقرأ هذه الحملة الشرسة؟ وما واجبنا تجاه كل هذه الأحداث التي تنتهك حرماتنا، وتدنِّس مقدساتنا، وتهاجم بلادنا بلاد الحرمين التي هي أعز البلاد لدى كافة المسلمين، وتنتقص تعاليم شريعتنا باسم التقدم والمدنية؟
إنني من خلال هذه المقدمة لا أجد عملاً واجباً على المسلمين اليوم مثل وجوب الوقوف أمام هذه الدعوات، والسير بخطى ثابتة لدحضها وتفنيد شبهها، بعيداً عن السير بخطى العاطفة أو القرارات الوقتية الآنية، ولهذا وذاك فإنه ليسرني أن أقدم عبر هذه المجلة العالمية بعضاً من المقترحات التي أحسب أنها خطوات مهمة للوقوف في وجه هذا التيار الجامح، وهي بعض واجبي نحو كتاب ربي عز وجل:
i السعي لإقامة مؤسسة عالمية باسم القرآن الكريم، وتكون تحت مظلّة منظمة الدول الإسلامية، ويكون مقرها مكة المكرمة، ولها فروع في أشهر عواصم الدول الغربية؛ لتقوم بالتعريف بالقرآن الكريم، ودفع الشبه حوله، وبث المكارم والأخلاق والأنظمة التي جاء بها القرآن لحماية البشرية، وتكون بعدد من لغات العالم.
i إقامة مؤتمرات سنوية عن القرآن الكريم بعدة لغات، وتكون في عدة عواصم في العالم، ويُهيّأ لها حملة إعلامية قوية عبر شركات عالمية، وتُتحرّى الأوقات المناسبة لمثل هذا العمل العظيم؛ كشهر رمضان مثلاً أو إجازة الصيف.
i تشجيع «مجمع الملك فهد رحمه الله» الذي اعتنى عناية كبيرة بالمصحف، حيث يوجد أكثر من ستمائة عين تقوم برصد المصحف قبل أن يصل إلى أيدي القراء، إضافة إلى كثافة الإنتاج الذي يصل إلى مئات الملايين التي وصلت إلى المسلمين في كل مكان في العالم، ولهذا ينبغي دعمه لطباعة وتوزيع مليارات النسخ في العالم من المصحف وترجمة معانيه، وإرسالها عبر شركات البريد وبعدة لغات، ووضع عناوين لاستقبال ردود أفعال المراسلين من دول العالم والتواصل معهم.
i إقامة رابطة عالمية عبر مؤسسة «رابطة العالم الإسلامي» للعاملين في حقل القرآن الكريم من مؤسسات وجمعيات وباحثين ومواقع إنترنت، ويكون لهم لقاء سنوي للتعاون والتواصل في خدمة كتاب الله عز وجل.
i طباعة رسائل (كتيبات) توضح معاني القرآن الكريم، وتشرح توجيهاته ودروسه، ويختار منها ما يخص العامة من الناس، وتكون بحجم الجيب، وتوزع أيضاً بعدة لغات، وعلى مستوى العالم الإسلامي والغربي، وتكون منهجاً يدرس في المدارس العامة.
i دعم المؤسسات والجمعيات والحلقات التي تهتم بالقرآن الكريم في جميع دول العالم.
i الاهتمام ببرامج التفسير وحلقاته ومؤسساته إلى جانب علوم القرآن الأخرى، وحثّ الباحثين على العناية بذلك، وإلقاء المحاضرات والندوات في هذا الجانب، وتوعية الشارع العام للأمة.
i إقامة الدراسات الأكاديمية عبر الجامعات الإسلامية وغيرها للعناية بالقرآن الكريم، وإبراز أوجه البيان والإعجاز العلمي والتربوي والسلوكي والنظامي التي جاء بها القرآن الكريم في ضوء العالم الجديد والتحديات المعاصرة.
i تكثيف المسابقات الدولية على غرار مسابقة الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في مكة المكرمة، ودعم هذه المسابقات ونشرها في بلاد العالم.
i الإكثار من الدورات المكثفة ودعمها، والاهتمام بتطويرها وتشجيعها، وتفعيل رابطتها للتواصل والتكاتف والتطوير.
i الاهتمام بجانب القوانين الإسلامية، والتأكيد في كل المحافل الدولية أن القرآن شريعة الدول الإسلامية ومنطلق حياتها، وبث الصور المشرقة التي جاء بها الإسلام والمتوافقة مع أهم مكتشفات العصر الحضارية، سواء كانت في مجال الحياة العامة أو الخاصة للأمة، والتأكيد على السلام العالمي الذي جاء به القرآن ليكفله للأبيض والأسود والفقير والغني في ظلّ العبودية الكاملة لله رب العالمين لا شريك له.
وإليك أخي القارئ الكريم هذه الوقفة لترى كيف أننا بحاجة إلى العمل الجاد في هذا المجال مع معجزة الأرض والسماء كتاب الله المقدس جلّ جلاله:
ينقل أحد الدعاة (*) كلام أحد القساوسة وهو يسرد قصة إسلامه فيقول:
تخرجت من الفاتيكان معقل التنصير في العالم، وبدأت أتنقل من بلد إلى بلد لتنصير المسلمين، وكانت أكثر زياراتنا لمصر، فإنها مصدر من مصادر قوة المسلمين، ثم جلست يوماً مع مجموعة من القساوسة والمنصرين، فقلت لهم: لقد طفنا أكثر بلاد الأرض ولم يبق إلا جزيرة محمد (-صلى الله على محمد-) لم تصل إليها دعوة المسيح ـ بزعمهم ـ ولا بد من اقتحامها؛ فهي معقل الإسلام العنيد. فخططت ودبّرت للوصول والحصول على طريقة أدخل بها تلك البلاد ـ يعني بلادنا المباركة ـ فنجحتُ في ذلك، فلما وصلت بدأت أبحث عمن يعطيني نسخة مترجمة للقرآن لأكتشف أسرار الإسلام وأتعرف على أخطاء القرآن فتكون هي طريقي لتنصير المسلمين ومحادثتهم. سألت هذا وطلبت من ذاك ولكنهم تأخروا عليّ ـ مما يدل أحبتي على تقصيرنا في دعوة الآخرين ـ. يتابع قائلاً: حتى حصلت على النسخة فأخذتها، وأغلقت الأبواب وجلست ولا أحد يراني إلا الله. بدأت أقرأ وفي نيتي تتبّع واستخراج الأخطاء؛ فإذا بسورة الفاتحة تحيّرني وتأخذني إلى عالم آخر، ثم أول مقطع من سورة البقرة يتحداني ويخبرني أن هذا الكتاب خالٍ من الأخطاء، مما زاد في حرصي على القراءة والتدبر، وبدأتْ أقفا ل الكفر تنحلّ وتنفتح، وبدأ ظلام الشرك ينجلي، وبدأت أمطار الهداية بالنزول، وبدأ القرآن يجاوبني عن كل الأسئلة والاستفسارات، وبدأت أقول لنفسي: من هذا الذي يتحداني؟ ومن هذا الذي عنده كل هذه القدرة وكل هذه الصلاحيات حتى يتكلم في ملكوت الأرض والسماوات؟ فجاءني الجواب من أعماق قلبي: إنه الله جل جلاله، إنه الله الذي قال بسم الله الرحمن الرحيم: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان: 1 - 3] ، وقال أيضاً: {الچـر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} . [إبراهيم: 1 - 3] .
سألته: كم استغرق إسلامك؟ فقال: فقط عدة أيام. فقلت: يا الله! ما أقوى الحق! كما قال الله ـ تعالى ـ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] ، ثم يتابع ـ المنصِّر السابق ـ فيقول: كلما خطر على بالي سؤال ولبَّس عليَّ الشيطان وجدت الجواب في القرآن. ويقول أيضاً: وجدت أجوبة كثيرة في قوله ـ تعالى ـ في أول سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] .
وانطلق الذي كان قسيساً يوماً من الأيام داعياً إلى الله وباذلاً كل قواه للدعوة إلى الإسلام ونصرة القرآن، فاسمع إلى إنجازاته في سنوات: أسلم على يديه عشرات الآلاف من الأمريكان والنصارى في كل مكان. ويقول: ولا زلنا نمدهم بعشرات الآلاف من المصاحف والكتيبات، ولا زلت أستلم عشرات الرسائل يومياً والاستفسارات.
وأخيراً: فإن العمل الجاد نحتاجه كثيراً في معالجة مثل هذه القضية التي أرّقت كل مسلم في أصقاع المعمورة، فسدد الله الجهود ونفع بالأسباب المبذولة وجعلها تحت عنايته وتوفيقه.
__________
(*) عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام.(219/24)
220 - ذو الحجة - 1426 هـ
(السنة: 20)(220/)
221 - ذو الحجة - 1425 هـ
(السنة: 20)(/)
نحن أولى بحقوق المرأة
التحرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ... وبعد:
فالمطالبة بحقوق المرأة من الشعارات المستهلكة التي تتشدق بها جميع الاتجاهات العلمانية في بلادنا العربية والإسلامية، وقد ارتفع ضجيجهم بهذا الشعار في السنوات الأخيرة خصوصاً، مع موجة التغريب والعلمنة الجديدة التي اجتاحت العالم الإسلامي.
ونستطيع أن نوجز معالم الخطاب النسوي التغريبي البائس في ما يلي:
أولاً: اختزال قضايا المرأة وحقوقها في تغريبها وتحلّلها الأخلاقي؛ فقضية السفور، ونزع الحجاب، والاختلاط، وقوامة الرجل، والتخلص من المحرم.. ونحوها، هي الحقوق التي يعنونها ويدورون حولها ويعملون جاهدين لتقريرها بكل السبل المتاحة.
ثانياً: تسطيح قضايا المرأة في موضوعات جانبية، ومماحكات شكلية مصطنعة، وتضخيمها بصورة كبيرة، تشعر المجتمع بأنه مجتمع متخلِّف أو سينهار إذا لم تتحقق مطالبهم تلك، وذلك مثل دعوتهم في المجتمع الخليجي لقيادة المرأة للسيارة أو لمشاركتها في العملية الانتخابية، ونحوهما من القضايا الباردة.
ثالثاً: مجاراة المجتمعات الغربية في كل صغير ووضيع، والدعوة المحمومة لتغيير الأنظمة والقوانين الاجتماعية والأسرية المحلية لتتوافق مع مقررات هيئة الأمم المتحدة، والمنظمات النسوية العالمية التي أجمع علماء الإسلام على خطورتها ومخالفتها لمسلَّماتنا الشرعية.
رابعاً: التحلل من القيم، والتمرد على المبادئ والأخلاق؛ فالقيم ـ بزعمهم ـ ما هي إلا قيود مصطنعة تحدّ من الحريات، وتكبت الطاقات المبدعة كما قال قائلهم، بل يرى آخر ممن يصفون أنفسهم بالمثقفين الخليجيين أن من ذنوبنا: (القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية، والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة) .
وأصبح الأدب بفنونه المختلفة منبراً لتلك الأقلام الملوثة، وقد ظهرت في الآونة الأخيرة في منطقة الخليج مجموعة من القصص والروايات بأقلام رجالية ونسائية على حد سواء تقرأ المرأةَ قراءةً جنسية خالصة؛ فلا ترى فيها عقلاً ولا روحاً ولا خلقاً؛ فما المرأة ـ عندهم ـ إلا مجرد ألعوبة رخيصة يتسلى بها الرجال أو تتسلى بهم..! (1) .
وتطفح صحافتنا العربية ووسائل إعلامنا المختلفة بهذه الرُّؤى التغريبية الآسنة، وتستنفر الإمكانات المادية والبشرية للترويج لها وتلميعها بكل الوسائل. قال الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27] .
أما القضايا والحقوق الكبرى التي تتطلع لها المرأة فهي غائبة تماماً أو مُغيَّبة، وإلا بماذا نفسِّر تغافلهم عن حقوق المرأة في العيش الكريم الذي ينتشلها من مستنقع القهر، ويرفع رأسها عزيزة بعيدة عن مواطن المهانة والمذلّة..؟!
أوَ ليس غريباً أن يتشنج بعض المستغربين ويلهثوا في دعوتهم للتعليم المختلط، في الوقت الذي تُحرم فيه كثير من النسوة من حق التعليم ابتداء فضلاً عن التعليم العالي..؟!
أوَ ليس غريباً أن تُخاطَب المرأة بالتفاهات الإعلامية الوضيعة، ويُحشى عقلها وقلبها بالكلمات الغنائية الساقطة، وبالمسلسلات السينمائية والتلفزيونية الهابطة، ويُراد لها أن تدور اهتماماتهما النسائية في دور الأزياء وموائد الطبخ، في الوقت الذي تعاني منه مجتمعاتنا من تخلف حضاري وفكري يضرب بأطنابه في أعماق أمتنا..؟!
أوَ ليس غريباً أن تخصص موازنات مالية كبيرة لمكافحة الختان في السودان ومصر وغيرهما من الدول الإسلامية، في الوقت الذي تفتقد كثير من النساء حقوق العلاج والدواء من أبسط الأمراض، فضلاً عن الأمراض الوبائية التي تفتك بالنساء والأطفال خصوصاً..؟!
أوََ ليس غريباً أن تجتهد بعض المنظمات النسوية الغربية والعالمية في الترويج لوسائل منع الحمل في الوقت الذي تتغافل فيه عن دراسة أسباب انتشار الأمراض الجنسية الفتاكة التي عبثت بالنساء والمراهقات منهن خصوصاً..؟!
والأغرب من ذلك أن تقرّ هيئة الأمم المتحدة ـ في مؤتمراتها ومواثيقها الدولية ـ الزنا والإجهاض، بل والشذوذ الجنسي، وتعدّ ذلك من الحريات التي يجب المطالبة بها والدفاع عنها، في الوقت الذي يحاربون فيه الزواج المبكر..!
أوَ ليس غريباً أن تُدفع المرأة العراقية دفعاً للمشاركة السياسية، وتصبح هذه هي القضية الرئيسة أو الوحيدة للمرأة في العراق، في الوقت الذي يُستهان بعرضها، وتنتهك حرمتها، وترمى كسيرةً مهينةً بعد أن قُتل زوجها، ويُتِّم أطفالها، وهُدم منزلها..؟!
ثم أين الدعاة والمصلحون وأهل الغيرة من أبناء الأمة رجالاً ونساءً للحديث عن تلك المشكلات والتنبيه على مخاطرها؟
لماذا تكون المطالبة بحقوق المرأة حكراً على أهل الأهواء والمفسدين..؟!
لماذا لا نتصدر نحن المطالبة بالحقوق المشروعة للمرأة ونرفع بها رأساً، ونقدم البديل الذي يُشرِّف المرأة ولا يهينها، ويحفظها ولا يبتذلها؟
الحق الذي لا شك فيه: أن المرأة في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية شرقاً وغرباً تعاني من انتهاك صارخ لكثير من حقوقها، وورثت بعض بيئاتنا ممارسات جاهلية منحرفة تئدُ قيمة المرأة، وتعتدي على حرماتها؛ ولهذا انتشر الشغار وعضل المرأة، وانتشر الظلم بصوره المختلفة في كثير من الأُسر، وظهر الاعتداء على المرأة بالضرب، وأسرف بعضهم في الاستيلاء على مالها، والتسلط على حقوقها المادية والمعنوية.. هذا فضلاً عن سلسلة طويلة من الممارسات الاجتماعية والثقافية غير المحمودة التي لا يرتضيها العقلاء، فضلاً عن أصحاب الدين والغيرة..!
أوَ ليس الدعاة هم أوْلى الناس بالانتصار للمرأة والمطالبة بتلك الحقوق المسلوبة بعيداً عن مزايدات العلمانيين وألاعيبهم الإعلامية..؟!
ألم ينتشر الطلاق والعنوسة ونحوهما من الأدواء الأسرية التي انعكست سلباً على نفسية المرأة، وأحدثت شرخاً غائراً ظهر أثره في اختلال الاستقرار الاجتماعي لكثير من المجتمعات..؟!
ألا يستطيع الدعاة ـ رجالاً ونساءً ـ أن يتصدروا لمثل هذه الحقوق، ويقدموا فيها رؤى علمية وعملية تحفظ للمرأة اطمئنانها الأسري والاجتماعي..؟!
أوَ لسنا نرى الأُمّية بصُوَرها المختلفة تمتد برواقها القاسي لتطغى على عقول كثير من نساء العالم العربي والإسلامي حتى وصلت إلى معدلات قياسية بلغت أكثر من (70%) من النساء في بعض البلدان..؟!
أوَ ليس الدعاة ـ رجالاً ونساءً ـ أوْلى الناس بالدعوة إلى تعليم المرأة، وتثقيفها، وبنائها علمياً وفكرياً..؟!
ونحسب أن حقوق المرأة وقضاياها الجديرة بالمعالجة والمطالبة كثيرة وكثيرة جداً، وربما قصّر بعض الدعاة والعلماء في الذبِّ عنها والدعوة إلى تصحيحها ردحاً طويلاً من الزمن، فوجد الرويبضات وأهل الفساد ـ ممَّن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ـ وجدوا ضالّتهم في التصدُّر لقضاياها والتحدث الماكر المملِّ على لسانها. وقد آن الأوان أن يستدرك العلماء والدعاة ـ رجالاً ونساءً ـ ما يمكن استدراكه، ويعيدوا لحقوق المرأة شرفها الأخلاقي، وموضوعيتها الإنسانية.
ما أجمل الحياء والستر الذي تتدثر به المرأة المسلمة! لكن أيصح أن يكون ذلك الحياء مانعاً لها من التصدّر للدعوة والتربية، والذبِّ عن عقيدتها وهويتها..؟!
أيسرُّها أن تتصدر النساء المسترجلات المتغربات لتشويه قيمنا وثقافتنا، وهي تتفرج ولا تملك سوى التوجع والحوقلة..؟!
نحن أحوج ما نكون ـ خاصة في هذه المرحلة من تاريخنا ـ إلى القيادات النسوية الفاعلة التي تدافع المبطلين والمبطلات، وتتصدى لأراجيفهم وتضليلهم، وتقدم الأنموذج الأمثل للمرأة العفيفة المعطاء..!
إنَّ إدراكنا لخطورة الهجمة التغريبية التي تواجه المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية يجب أن لا يكون مجرد انفعالات غاضبة محدودة الأثر عقيمة النفع، بل ينبغي أن يتحول تفاعلنا إلى رؤى فكرية ناضجة، وبرامج عملية مثمرة؛ فنحن أوْلى من غيرنا بتبنِّي هذا الشعار، فـ: «خيركم خيركم لأهله» .
__________
(1) من آخرها قصة: (بنات الرياض) ، التي تصور الفتيان والفتيات في مدينة الرياض على أنهم مجموعة من العابثين اللاهثين، وأن همهم الأكبر وشغلهم الشاغل هو التمرد على قيم المجتمع، انظر لتقويم موضوعي للرواية كتبتها الدكتورة: (أمل الطعيمي) نشرتها في صحيفة اليوم السعودية مؤخراً..!(220/1)
221 - المحرم - 1427 هـ
(السنة: 21)(221/)
وجاء عام جديد
آمال رغم الآلام
التحرير
الحمد لله مصرف الأيام والدهور ومقلب الليل والنهار، والصلاة والسلام على البشير النذير محمد بن عبد الله الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن الجديد من كل شيء محبَّب إلى القلوب ومبهِج للنفوس، تشتاق إليه وتأنس به، وذلك بعكس القديم الذي غالباً ما تعافه النفوس، وتبتعد عنه. وقد أقبل علينا عامنا الجديد بزهوته وجماله الذي يذكرنا بمناسبة من أهم وأعظم المناسبات التي مرت بها الأمة الإسلامية؛
إن العام الهجري لم يكتسب قيمته إلا من خلال الحدث الفذ الذي ارتبط به، ألا وهو هجر الديار والأوطان والأهل والخلان، قُربة إلى الله ـ تعالى ـ وتقديم حبه وحب دينه ورسوله على حب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن، {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] ، لقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة عملاً إيجابياً وإعداداً للمواجهة التي لا بد منها بين الحق وأهله وبين الباطل وأحزابه، ولم تكن عملاً انسحابياً يُؤْثِر الفرار على المواجهة؛ إبقاءً على المهج وضناً بالأرواح أن تزهق في سبيل الله، والأموال أن تنفق في نصرة دينه وإعلاء كلمته.
كانت الهجرة الميمونة حداً فاصلاً واضحاً بين مرحلتين متمايزتين من مراحل الدعوة الإسلامية: مرحلة كف الأيدي والصبر على الأذى رغبة في هداية الناس وجمع أكبر عدد من الأنصار لرسالة الإسلام، ثم مرحلة الدفاع عن النفس ورد العدوان والمعاملة بالمثل، والدعوة إلى الله بالجهاد في سبيله تعالى. وكان في هذا تعليمٌ وتدريبٌ للأمة على أهمية مراعاة الواقع وظروفه على أرض الحدث، بعيداً عن الأفكار النظرية التي لا تمتلك رصيداً من الواقع أو التجربة يؤهلها لقيادة المواجهة مع الجاهلية التي تتعدد صورها وتتباين ألوانها على مدى التاريخ.
ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيلة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله ـ تعالى ـ في مكة المكرمة: يصبر على الأذى من قومه، ويحتمل منهم الصد والإعراض، لم يصبه من جراء ذلك كلل أو ملل، ولم يدفعه ذلك إلى سياسة حرق المراحل، أو القفز إلى نهاية الطريق من غير المرور على محطاته المتتابعة. وقد كان في هذا دليل على أهمية حنكة القائد وخبرته، وعدم يأسه وقنوطه من تحقق المطلوب، رغم الظلام الدامس الذي يغلف الأجواء. وكان في هذا أيضاً دعوة إلى الأمل المشرق بانبلاج الصبح بعد عتمة الليل، والثقة في وعد الله ـ تعالى ـ بالنصر والتمكين وإن طال الزمن، وهذا يدفع المؤمن ويشحذ همته ويحمله على العمل الدائب، كما أن فيه ما يُشعِر بأنَّ تأخر النصر قد يكون لحكمة تربية النفوس وتثبيت دعائم الإيمان وليس فقط نتيجة للتقصير وعدم بذل الجهد المطلوب؛ فإن الله ـ تعالى ـ ينصر عباده الذين صَدَقوه ولا يخذلهم ولا يسلمهم لأعدائهم، وأنهم لو تعرضوا لأمور طارئة تخرج عن قدراتهم؛ فإن الله ـ تعالى ـ يجعل لهم منها مخرجاً، فإذا أُتي المسلمون فلن يؤتَوْا إلا من قِبَل أنفسهم؛ والتاريخ كله شاهد على ذلك، فالله صادق في وعده ولا يخلف الميعاد كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] ، وقال ـ تعالى ـ مقرراً قاعدة عامة تنطبق على كل أحد في كل وقت وفي كل مكان: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] فكل من كان متقياً لله ـ عز وجل ـ فإن الله قد وعده بالمخرج من الضيق الذي هو فيه، وهذا ما يجعل الصف المجاهد في سبيل الله يحذر المعصية أشد الحذر؛ فمعصية الله أشد على الجيش المجاهد في سبيله من أسلحة عدوه وإن كانت أسلحة قوية متطورة.
إن الهجرة لم تكن حدثاً اضطرارياً لجأ إليه المسلمون تخلصاً من ظرف طارئ، بل كانت حدثاً قد خُطِّط له ودُبِّر بعناية تامة كاملة، سواء في أرض الحدث نفسه مكة المكرمة أم في الأرض المستقبِلة له المدينة النبوية؛ فلم يهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة إلا بعد أن استقر الإيمان في نفوس طائفة ليست بالقليلة من عظماء أهل المدينة النبوية وقادتهم، وقد كانوا بايعوه من قبلُ على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، وإذا كان التخطيط والتدبير قد ظهرت دلائله في أرض المهجر؛ فإن الدلائل كانت أشد ظهوراً في أرض الحدث نفسه مما ينفي أن تكون الهجرة قد حدثت اضطراراً من غير روية أو تدبير.
كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مفعمة بالعظات والعبر؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو في مكة إلى طاعة ربه حتى ضيَّق أهلها عليه واتفقوا على قتله ليتخلصوا منه، بعد أن أخفقت كل محاولاتهم من الإغراء أو التخويف والإيذاء، في إثنائه عن تبليغ الرسالة التي ائتمنه الله ـ عز وجل ـ عليها. ورغم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو إلى ربه ولا يدعو إلى نفسه، ورغم أن الله ـ تعالى ـ قد أخبره بما مكر به الذين كفروا وأَذِنَ له في الهجرة، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يهاجر إلا بعد أن أعد العدة وأحكم الخطة لذلك أيما إحكام، فذهب إلى أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ ليُعْلِمه بأمر الهجرة في ساعة لم يكن يذهب إليه في مثلها حتى لا يفطن له أحد، وقال له: «أَخْرِجْ مَنْ عندَك» حتى يحافظ على سرية الأمر، ثم استأجر رجلاً خِرِّيتاً أي ماهراً بالطرق ليكون دليله في الهجرة، وذهب في أول أمره في طريق اليمن جنوباً ولم يذهب مباشرة في طريق المدينة شمالاً، حتى يموِّه على المشركين ويغطي عنهم وجهته، واختبأ في غار ثور ثلاثة أيام حتى يهدأ الرَّصد ولم يواصل الرحلة، وكان يرسل من يأتيه بأخبار أهل مكة حتى يعرف خطتهم ليتصرف وهو على علم بما يدبرون، ولم يقل: إن الله معي - وهو معه حقاً - فلا عليَّ أن آخذ بالأسباب؛ مما يبين أن العاملين لنصرة هذا الدين ينبغي عليهم الأخذ بالأسباب المعينة لهم، وإلا كانوا مقصرين، ومن كان مقصراً فلا يلومن إلا نفسه، وقد بين الله ـ تعالى ـ أن رحمته قريب من المحسنين، فقال ـ عز من قائل ـ: {إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] فمن كان مقصراً فيما وجب عليه لم يكن من المحسنين.
وعندما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتجهز لهذا السَّفَر البعيد عرض عليه أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن يعطيه دابة من عنده كان قد أعدها لمثل هذا اليوم، فأبى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذها إلا بالثمن. تقول عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ: «لقَلَّ يومٌ كان يأتي على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يأتي فيه بيتَ أبي بكر أحَدَ طرفي النهار؛ فلما أُذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهراً، فخُبِّر به أبو بكر، فقال: ما جاءنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الساعة إلا لأمر حدث؛ فلما دخل عليه قال لأبي بكر: أَخْرِجْ مَنْ عندَك! قال: يا رسول الله! إنما هما ابنتاي ـ يعني: عائشة وأسماء ـ قال: أشعرت أنه قد أُذن لي في الخروج؟ قال: الصحبةَ يا رسول الله! قال: الصحبة! قال يا رسول الله: إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج فخذ إحداهما، قال: قد أخذتها بالثمن» (1) ، وفي هذا ما يرشد إلى أن الداعي إلى الله يتحمل النفقات المادية التي تحتاج إليها دعوته ولا يحمِّل الآخرين حتى وإن بذلوها بطيب نفس، ما دام قادراً على ذلك حتى يتحصل له الأجر الكامل.
والعاملون لدين الله ـ تعالى ـ يأتيهم من فضل الله وكراماته لهم وقت الشدة ما يخرجهم به من الورطات التي لا يملكون لها دفعاً، لكن بعد أن يكونوا قد أخذوا بالأسباب المتاحة لهم حتى لا يكونوا مقصرين، وقد حدث هذا في قصة الهجرة؛ فمع كل هذه الاحتياطات التي أخذ بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أن المشركين قد تمكنوا في نهاية الأمر من خلال حملة الاستنفار غير المسبوقة في البحث والتحري إلى أن يصلوا إلى مكان الغار الذي يختبئ فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، ولو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لرآهما، وهنا يصرف الله ـ تعالى ـ أبصار المشركين عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، ويسجل القرآن هذا المشهد الفريد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرِّي عن أبي بكر ما أهمه، فيقول الله ـ تعالى ـ: {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] ، وبعدما عجزت قريش وأحست بعدم قدرتها على الوصول إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه جعلت لمن يدل عليهما أو يقبض عليهما جائزة كبيرة، فأخذ الناس يبحثون في كل واد وناحية، إلى أن تمكن أحد فرسان قريش من معرفة طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن الله ـ تعالى ـ منعه منه قبل أن يلحق به، ويَعِدُه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن رد الرَّصَد عنهم بجائزة فوق جائزة المشركين، يَعِده وهو في هذه الحالة بسِواري كسرى ملك الفرس الذي كان يمثل ملك إحدى القوتين العظميين في ذلك الزمان. وهذا درس تربوي عظيم من دروس الهجرة، فلا يكفي للمجاهد في سبيل الله سلامة المعتقد وحسن النية، والرغبة في نصر دين الإسلام، بل لا بد من الأخذ بالأسباب التي خلقها الله تعالى؛ فما خلقها الله وجعلها موصلة لمسبباتها إلا لكي يعمل بها الناس ويستفيدوا منها، وفي هذا درس آخر وهو بيان حقيقة التوكل؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان سيد المتوكلين. فالتوكل لا يعني إهمال الأسباب أو تركها، بل يأخذ المسلم بكل الأسباب الممكنة ويتوكل على الله؛ لأن الأسباب قد لا تنتج مسبباتها، فيحتاج المسلم إلى التوكل على الله في كل حين.
لقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الله فتحاً عظيماً ونصراً كبيراً، على شح النفس التي تميل دائماً للارتباط بالأرض وعدم مغادرتها والتشبث بها، فكانت الهجرة إعلاء لقيم الدين على قيم التعلق بالأرض؛ فإن ذلك قد يوقع المسلم فيما يعرِّضه لسخط الله تعالى؛ فقد تمسك قوم من المسلمين الأوائل بالأوطان حتى منعتهم من الهجرة في سبيل الله، وقد اضطرتهم قيادات المشركين للخروج في الجيش المشرك ليكثِّروا أعداد المشركين في أعين المسلمين من غير أن يباشروا القتال حقيقة؛ فهم بذلك أقل ممن يعمل في الخطوط الخلفية أو الشؤون الإدارية بكثير، بل لا نسبة بينهم؛ ومع ذلك أنزل الله ـ تعالى ـ فيهم قوله: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] .
وقد ضمن الله ـ تبارك وتعالى ـ لمن خرج من بيته مهاجراً إلى الله بدينه أن يوسع عليه، وأن أجره لا يضيع حتى لو حال الموت بينه وبين الهجرة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100]
كما كانت أيضاً نصراً على الأعداء؛ حيث تمكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذه الهجرة الموفقة أن يكسر الطوق الذي صنعه المشركون حول الدعوة، فتمكن من مقابلة الوفود من غير مضايقات ودعوتهم إلى الله ـ تعالى ـ وهذا مصداق قوله ـ تعالى ـ: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] ، وتمكنت الدعوة في مدة قصيرة أن تحقق من الفتوحات والانتصارات والاستجابة والانتشار ما لم يتحقق لها في مدة طويلة، حتى عمَّ الإسلام جزيرة العرب في ما لا يزيد عن عشر سنوات.
لقد ربَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيل المهاجرين الأُوَل على العطاء غير المحدود؛ فلما أُذِن لهم بالهجرة لم يتخلف عن ذلك أحد ممن آثر الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يتعلق أحد منهم بأهل أو أموال أو ديار، وقد سجل القرآن الكريم هذا المشهد العظيم، فقال ـ تعالى ـ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] ، والهجرة في سبيل الله شريعة مُحْكَمَة غير منسوخة، بل هي قائمة ما دام هناك من المسلمين من يُحارَب في دينه، فيخرج المسلم إلى حيث يمكنه أن يعبد الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (1) وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو» (2) وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ستكون هجرة بعد هجرة؛ فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ... » (3) .
وقد بلغ من مكانة الهجرة وموقعها في الدين أن الله ـ تعالى ـ قد قطع ولاية التناصر بين المؤمنين وبين من آمن ولم يهاجر، فقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] .
إن حدث الهجرة يمثل مَعْلَماً بارزاً من معالم صناعة الأمة التي تستعلي بإيمانها على كل الروابط التي من شأنها أن تكبل انطلاقة الأمة الكبرى نحو السمو والكمال، ولا أحسب أن محاولة إعادة بناء الأمة لتحقق في عالم الواقع ما أنيط بها من المهام الجسام، يمكن أن تتم إلا عبر بناء الجيل المؤمن المتخلق بأخلاق المهاجر إلى الله ورسوله؛ فهل حان الوقت لبروز هذا الجيل القرآني وتبوُّؤ مكان الصدارة؟ هذا أمل يداعبنا ونراه قام بإذن الله رغم الآلام؛ والله غالب على أمره.(221/1)
الوحي الإلهي العقل الوضعي
عبد الله بن نافع الدعجاني
لطالما كان الوحي السماوي المنزَّه المورد الزلال، والنبع الصافي لسلف هذه الأمة وأجيالها؛ فمنه يصدرون وإليه يَرِدون، وبسببه كان ذلك الجيل الأول من الأمة خالص القلب والتصور والشعور من كل ما يفسد نظره في مسائل دينه ودلائله، ولذلك كان معلمهم الأول -صلى الله عليه وسلم- حريصاً كل الحرص على صفاء ذلك النبع من كل شائبة تعكر صفوه، ومن كل قذىً يفسد رونقه؛ فقد غضب -صلى الله عليه وسلم- حينما رأى مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صحيفة فيها شيء من التوراة وقال ـ معاتباً له ـ: «أمتهوّكون فيها يا
لكنه في أعقاب هذا الزمان اختلطت الينابيع العكرة بذلك النبع الصافي، وامتزجت به رواسب الحضارات الوثنية وزبالة الثقافات الإلحادية، ولكن ما زال ذلك النبع الصافي ينفي الخبث عنه ويزيل القذى منه بقوته الذاتية، وكان أخطر آثار ذلك الامتزاج والاختلاط على الحضارة الإسلامية، هو الارتداد عن منهج التلقي كما كان عليه سلف هذه الأمة، والعبث بمصادر المعرفة الإسلامية التي تمثل العين النضاخة الثرَّة التي تمد ذلك النبع الصافي والمَعِين القُراح.
- أصول المعرفة الإسلامية:
ولما كانت أصول الديانة قسمين: الأول: مسائل يجب الإيمان بها اعتقاداً وقولاً وعملاً، والثاني: دلائل تلك المسائل، كانت «المعرفة الإسلامية» المحضن الفكري لتأصيل تلك الدلائل؛ إذ تتمحور مواضيعها حول تأصيل المنهج الاستدلالي الشرعي وبيان مصادره المعرفية وحدود كل مصدر ومجالاته (2) .
وتعد المعرفة أو «نظرية المعرفة» ـ كما يطلق عليها في الأوساط الفلسفية ـ قضية كبرى محورية في كل اتجاه ومذهب ونِِحلة؛ إذ بسببها يمكن أن نحفر في جذور كل مذهب فكري، لاستخراج مبادئه المنطقية ومنطلقاته الفلسفية، ليسهل ـ بعد ذلك ـ تصوره والحكم عليه؛ فهي من المعارف بمنزلة الأم، ومن العلوم بمنزلة الجذر.
وقد تميزت «المعرفة الإسلامية» من بين نظائرها باعتمادها على أُمَّات الأصول المعرفية، وانتهاجها أقوى الطرق اليقينية وهي ثلاثة:
الأول: الوحي الإلهي: وهو عمود «المعرفة الإسلامية» وذروة سنامها؛ فمن الله تبتدئ العلوم والمعارف وإليه تنتهي. قال ـ تعالى ـ: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 ـ 5] .
الثاني: الحواس: وأعظمها السمع والبصر، وهي طريق يقيني لنقل المعرفة والعلم. قال ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] .
الثالث: العقل: وهو غريزة فطرية خلقها الله في الإنسان تنطوي على مبادئ ضرورية الصدق، أعظمها مبدأً عدم التناقض ومبدأ السببية، فهو قوة من قوى الإدراك يقوم بوظيفتي التصور والتصديق، لكن يشترط لإدراكه معاضدة الحواس له. قال ـ تعالى ـ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
فبهذه المصادر الثلاثة تتكامل المعرفة اليقينية في النظر الشرعي؛ فمعرفة «عالم الشهادة» تدرك بطريقي الحواس والعقل، ومعرفة «عالم الغيب» تدرك بطريق الوحي إن كان غيباً محضاًً كالجنة والنار، وتدرك بطريق العقل والوحي إن كان غيباً متعقلاً كوجود الله.
وقد جمع القرآن بين طرق المعرفة الثلاثة كما جمع بين مجالات المعرفة ـ الغيب والشهادة ـ في آية واحدة، فقال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109] .
لكن في هذا السياق لا بد أن أنبه القارئ الكريم إلى قضيتين هما غاية في الأهمية:
القضية الأولى: أن «الوحي» الإلهي، وإن كان حقيقة غيبية، لا يمكن إدراك ذاتها بالطرق الحسية، إلا أنه يمكن إثباته بالطرق العقلية وذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: دلالة أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفاته على ثبوت نبوته؛ وأعظم صفاته الدالة على نبوته: صدقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإذا ثبت صدق النبي من طريق التجربة لزم أن يكون صادقاً في ادعائه الوحي؛ إذ يستحيل استحالة تجريبية أن يكون المرء صادقاً في كل أحواله عظائمها وصغائرها ثم يكذب في أمر جلل كادعاء الوحي؛ وهذا الدليل العقلي هو ما خاطب به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه لما نزل قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ؛ فقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه! فقالوا: مَنْ هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ» ؟! قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب عظيم» (1) .
الثاني: دلالة المعجزات على النبوة؛ إذ إن هناك تلازماً ضرورياً بين وقوع المعجزة لنبي وبين كونها دالة على صدقه في ادعائه الوحي؛ فإذا ادعى النبي نزول الوحي عليه، ثم حصلت له معجزة خارقة للسنن الكونية ليست في مقدور البشر دل ذلك على تأييد الله له في ادعائه النبوة، لا وجه لغير هذه الدلالة؛ إذ يستحيل استحالة شرعية وتجريبية أن يكون كاذباً في ادعائه النبوة مع تأييد الله له.
الثالث: تضمن الوحي لأدلة ثبوته وهي أدلة كثيرة أعظمها عجز المكذبين به أن يأتوا بمثله لَمَّا تحداهم القرآن بذلك، وما زال التحدي قائماً. قال ـ تعالى ـ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] . فإعجاز القرآن للبشر دليل على صدق النبي فيما ادعاه من النبوة التي ليست في مقدور البشر.
ومن تلك الأدلة آيات الإعجاز العلمي في جميع المجالات مثل الطب والفلك والجويولوجيا؛ وهذا مجال خصب واسع بهر المخالفين للوحي الإلهي (2) .
القضية الثانية: أن طرق المعرفة في الإسلام ومصادرها متسقة مؤتلفة لا متنافرة متضادة؛ فالدليل القائم على الطريقة العقلية قسم من منظومة الأدلة الشرعية وليس قسيماً لها، وهو ملازم للدليل النقلي القائم على الوحي؛ بهذا التقرير يمكن إدراك العلاقة المنسجمة بين العقل والوحي، لكن العلاقة بينهما تسوء إذا حاولنا أن نفصم عرى الوثائق بينهما، وهذا ما أراد فعله الفكر القلق المضطرب قديماً وحديثاً. يقول ابن تيمية: (الأدلة العقلية والسمعية متلازمة، كل منهما مستلزم صحة الآخر؛ فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به، والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يُعرَف اللهُ وتوحيدُه وصفاتُه، وصدقُ أنبيائه، ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي، والعقليات لا تتضمن السمعي، ثم افترقوا: فمنهم من رجح السمعيات وطعن في العقليات، ومنهم من عكس، وكِلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية) (1) .
وبسبب عدم فهم العلاقة المنسجمة بين العقل والوحي افتُعل الصراع بينهما حتى أصبحت قضية العلاقة بينهما من أكبر إشكاليات الفكر والمنهج، وهذا الصراع ـ الذي لا مبرر له ـ بدأ منذ فجر نزول الوحي؛ فقد كانت المعركة الفكرية على أشدها بين الثقافة الجاهلية والوحي الإلهي، وأهم مواطن الصراع بينهما هو قضية «البعث» ؛ فقد حاول الجاهليون مصادمة الوحي بالطرق العقلية حتى قال قائلهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ولذلك أوْلى الوحي عنايته بإثبات قضية البعث بأنواع كثيرة من الأدلة العقلية.
ولم تلبث أن عادت إشكالية العلاقة بين العقل والوحي إلى الظهور مرة ثانية؛ وذلك في الصراع الفكري الذي دار بين الفلاسفة والمتكلمين، وكانت إحدى صور ذلك الصراع ما كان بين الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» وابن رشد في كتابه «تهافت التهافت» ، ثم ظهر الصراع الفكري مرة أخرى ـ في تلكم القضية ـ بين المتكلمين والسلفيين وكان ابن تيمية أبرز أبطال هذه المعركة الفكرية ممثلاً في كتابه العظيم «درء تعارض العقل والنقل» ، نقض فيه قانون المتكلمين الشهير في علاقة العقل بالنقل، ثم ظهر الصراع الفكري المحتدم بصورته الجديدة في الساحة الفكرية العربية والإسلامية المعاصرة، بعد انتشار الفكر العلماني وتبني رواده العرب أطروحات تيار التنوير الغربي القائلة بكفاية العقل واستقلال مرجعيته، واستبعاد الوحي من دائرة المعرفة، وكان «العقل الوضعي» خصماً للوحي الإلهي المنزَّه في هذه الجولة من جولات الصراع الفكري بين الوحي وخصومه.
- العقل الوضعي وجذوره الفلسفية:
العقل الوضعي هو ذلك المنهج الاستدلالي المعرفي الذي يستبعد المعرفة الغيبية والقيمية من دائرة اهتمامه، ويتحدد تبعاً لاحتياجات الواقع الحسي ووفقاً لمظاهره، وقد اعتمد رواد العلمانية العربية على «العقل الوضعي» في نقد التراث ورفض الوحي وإقصائه من المعرفة، واتخذوه قاعدة للانطلاق في مشروعهم الحضاري القائم على مفاهيم الحداثة الغربية، وهذا يدعونا لبيان الرابطة الفكرية بين مشروعهم الحضاري والمفاهيم الغربية؛ وذلك بالكشف عن جذور «العقل الوضعي» في الفلسفة الغربية؛ فقد كان المذهب الحسي في الفلسفة الغربية الحديثة الأساس الفلسفي والمستند المنطقي «للعقل الوضعي» ، وهو مذهب ظالم للمعرفة البشرية؛ إذ حبسها في الظواهر الحسية فقط، وسنشير إلى أبرز رواد المذهب الحسي ممن كان لهم الأثر في تكوين المنظومة الفكرية «للعقل الوضعي» .
1 ـ «ديفيد هيوم» ـ 1776م:
وهو أبرز من قعَّد للمذهب الحسي ونظَّر له، كما كان له الأثر الكبير في تشكيل البناء الفلسفي لاتجاهات وفروع الفلسفة التجريبية الحسية، ويُعَدُّ من أكبر ملاحدة العصر الحديث، وله كلمة شهيرة في ختام كتابه «بحث في العقل» يقرر فيها رفضه للوحي والغيوب؛ إذ يقول: (إذا تناولت أيدينا كتاباً ـ كائناً ما كان في (اللاهوت) أو في الميتافيزيقا الأسكولائية (الغيبيات) مثلاً فلنسأل: هل يحتوي هذا الكتاب على أي دليل مجرد يدور حول الكمية والعدد؟ لا، هل يحتوي على أي دليل تجريبي يدور حول الحقائق الواقعة القائمة في الوجود؟ لا؛ إذن فاقذف به في النار؛ لأنه يستحيل أن يكون مشتملاً على شيء غير سفسطة ووهم) (2) .
2 ـ «أوجست كونت» (1798م ـ 1857م) :
وهو مؤسس المذهب الوضعي والمؤسس الحديث لعلم الاجتماع، وقد اشتهر بقانونه المسمى «قانون الأطوار الثلاثة» وهو قانون بُني على الإلحاد، وأُسِّس على جحد الخالق؛ إذ يرى أن تطور التفكير الإنساني مرَّ بثلاثة أطوار تاريخية وهي:
الأول: الطور اللاهوتي وهو بداية التفكير الإنساني، وفيه يفسر الإنسان كل الظواهر الطبيعية بردِّها إلى أسباب وقوى خرافية كالإله ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ أو العفاريت والأشباح.
الثاني: الطور الميتافيزيقي أي الغيبي، وفيه يفسر الإنسان كل الظواهر الطبيعية بردها إلى قوى ظاهرة ـ كالجبل أو الشمس ـ يظنها قادرة على إحداث الظواهر الطبيعية.
الثالث: الطور الوضعي وهو الطور العلمي المعاصر الذي ارتقى فيه الإنسان بفكره واستطاع أن يفسر الظواهر الطبيعة بردها إلى أسباب موضوعية خالية من تخيلات اللاهوتيين وتوقعات الميتافيزيقيين (3) .
لكن اعتماد رواد العلمانية العربية على «العقل الوضعي» في الدعوة إلى مشروعهم التنويري واستخدامهم قوالب التفكير الغربية لنقد التصورات والقيم الإسلامية المبنية على «الوحي الإلهي» قد أخفق لأسباب منها:
1 ـ أن مشروعهم التنويري أعمى لا يعي الطبيعة المرحلية التاريخية للفكر الغربي، ولا الخصائص الفكرية للمجتمع الإسلامي، وذلك من وجهين:
الوجة الأول: إغفالهم لدور الفكر الديني المؤمن بقضية «الوحي» في قيادة التيار التنويري الغربي؛ إذ كانت حركية الإصلاح الديني بقيادة «لوثر» في القرن الخامس عشر الميلادي على رأس هذا الفكر في قيادة مشروعهم التنويري، لكن التيار التنويري الإلحادي في العصر الحديث والمعاصر قَلَبَ المِجَنَّ على قادة التيار التنويري المتدينين، وأنكروا دور التفكير الديني في بعث مشروعهم؛ وتلك مرحلة تاريخية للفكر الغربي لا يمكن تجاوزها أو تغافلها؛ إلا أن أصحاب التيار التنويري المعاصر انتهازيون تتأصل في نفوسهم معاني الجحود والنكران للخلق وللخالق.
الوجة الثاني: محاولة غرسهم لمفاهيم التيار التنويري الغربي في غير أرضه؛ فإذا كان الوضع الديني والاجتماعي في الغرب لا يعارض هذا التيار؛ فإن الدين الإسلامي ومجتمعه يناقض هذا التيار مناقضة عقلية ونفسية؛ فرواد العلمانية العربية وقعوا في خطأ منهجي لا يغفر ذلك بتبنيهم أحكاماً عقلية مكتسبة من تجربة تاريخية لثقافة مغايرة، مع مكابرتهم على الدور الذي قام به «الوحي الإلهي» في تشكيل العقل العربي الإسلامي؛ فحقيقة مشروعهم التنويري أنه لقيط لا نسب له ولا صهر في الحضارة الإسلامية، فهو مُنْبَتٌّ من جذوره منفك عن فلكه.
2 ـ أن مشروعهم التنويري عدو لدود لا صديق حميم للحضارة الإسلامية؛ إذ يسعى إلى استلاب أعز ما يملكه أبناء الإسلام وهو القيم الأخلاقية والروحية؛ فكيف يتوافق العدو مع عدوه؟ أم كيف يتعايش اللص الأهوج مع صاحب الدار الحذر؟
ولما كان الإسلام أبيَّ الزمام، بَعِيدَ المرام، كان الإخفاق الذريع حليفاً لمشروعهم التنويري الذي رضي أن يكون خصماً للإسلام؛ والأدلة على إخفاقه جلية كثرة؛ منها أمران:
الأمر الأول: لجوؤهم إلى بناء مشروعهم التنويري عبر نقد التراث نقداً ذاتياً ـ باعتباره البعد التاريخي المعرفي للثقافة الإسلامية ـ ولذلك كثرت جهودهم في ذلك، بدأها الماركسي «حسين مروَّة» في كتابه (النزعات المادية في الإسلام) ، ثم تابعه «طيب تيزيني» في موسوعته التي بدأها بكتابه (من التراث إلى الثورة) ، ثم جاء على إثرهم «حسن حنفي» في موسوعته الخماسية (من العقيدة إلى الثورة) التي قدم لها في كتابه (التراث والتجديد) ، ثم توج محمد عابد الجابري هذه الأعمال النقدية في ثلاثيته الموسومة بـ (نقد العقل العربي) التي استهلها بكتابه (تكوين العقل العربي) ، وإن نسينا فلا ننسى ما قام به زكي نجيب محمود في كتابيه (تجديد الفكر العربي) و (المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري) ، وما قام به صادق جلال العظم في كتابه (نقد الفكر الديني) ، وما فعله «إسماعيل مظهر» في كتابه (تاريخ الفكر العربي) والذي أظهر فيه التزامه بوضعية «أوجست كونت» .
الأمر الثاني: تراجع بعض دعاة التنوير في العالم العربي عن مواقفهم المتطرفة إلى انكسار حدة دعوتهم وانخفاض نبرة أصواتهم، كان على رأس هؤلاء زكي نجيب محمود رائد «الوضعية المنطقية» في العالم العربي وسلاَّمة موسى رائد العلمانية العربية. فزكي نجيب محمود على سبيل المثال بعد أن كان يدعو إلى إحراق التراث ـ كما نادى به من قبل الفيلسوف «ديفيد هيوم» ـ تراجع عن موقفه الغالي المتطرف شيئاً يسيراً إلى الدعوة باحتفاظ التراث على سبيل التسلي به وإشباع شهوة الحنين إلى الماضي؛ إذ يقول: «تسألني: وماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتي تحتكر عندنا اسم «الثقافة» ؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ، ولم اعد أقول ـ كما قلت مراراً مقلداً هيوم وجارياً مجراه ـ لم أعد أقول إنها خليقة بأن يقذف بها في النار، وحسبي هذا القدر من الاعتدال ابتغاء الوصل بين جديد وقديم» (1) ، وسبب تراجعه هو مصادمته ومنازعته لضرورات ومسلَّمات وخصائص الحضارة الإسلامية.
- موقف «العقل الوضعي العربي» من الوحي ومعارفه:
وفي هذه العجالة أحاول أن أبين ـ بإيجاز ـ الموقف المعرفي للعقل الوضعي العربي من الوحي ومعارفه؛ فأهم هذه المواقف للوضعيين العرب الذين أشير لهم سابقاً ما يلي:
أولاً: إنكاره للوحي باعتباره حقيقة غيبية لا يمكن التحقق منها بطريق الحواس؛ فبناءً على أصلهم الفلسفي القاضي بأن كل حقيقة موجودة لا بد أن تكون مدركة بالحواس أنكروا إمكان الوحي أصلاً، وهذا ما قرره أحد دعاة العلمانية في الوطن العربي (2) ، وهو باطل من وجهين:
الأول: زعمه أن المعرفة البشرية محصورة في المدركات الحسية وهي دعوى مجردة من البراهين.
الثاني: أن الوحي وإن كان غيباً في ذاته إلا أنه يمكن إثباته بالطرق العقلية، وقد أشرنا إليها في أول المقال.
ثانياً: تفسيرهم للإيمان بالوحي تفسير وجداني شعوري خالٍ من معنى العقل والتعقل. يقول رائد الوضعية المنطقية في الوطن العربي زكي نجيب محمود: «صاحب الرسالة الدينية لا يقول للناس: إنني أقدم لكم فكرة رأيتها ببصيرتي، بل يقول لهم: إنني أقدم رسالة أُوحِيَ بها إليَّ من عند ربي لأبلغها؛ وها هنا لا يكون مدار التسليم بالرسالة برهاناً عقلياً على صدق الفكرة ونتائجها المستدلة منها، بل يكون مدار التسليم هو تصديق صاحب الرسالة فيما يرويه وحياً من ربه؛ أي أن مدار التسليم هو الإيمان» (1) .
ولا ريب أن هذا الفهم للإيمان قائم على فكرة الانفصام المفتعل بين الوحي والعقل، وإلاَّ؛ فإن تصور إمكان تحقق الإيمان بالوحي من دون برهان عقلي وهمٌ لا حقيقة له، وهذا المعنى الميت للإيمان والذي قام على عزل الشعور عن العقل هو الرائج اليوم في أفهام كثير من الغرب والمستغربين، ويعود سبب انتشار هذا المعنى الباهت للإيمان إلى ما قام به الفيلسوف «كانت» من تقريره ـ في فلسفته النقدية ـ أن أساس الإيمان بالدين وطريق إثباته هو الأخلاق لا العقل.
ثالثاً: ادعاؤه استقلالية العقل عن الوحي وافتقار الوحي إلى العقل، وفي ذلك يقول حسن حنفي ـ وهو صاحب فكر اعتباطي وخطاب متمرد ـ: «الحجج النقلية كلها ظنية حتى ولو تضافرت وأجمعت على شيء أنه حق، لم يثبت أنه كذلك إلا بالعقل ... » (2) .
رابعاً: ادعاؤه المرجعية الحاكمة على التراث المؤسس على الوحي. يقول حسن حنفي: «مهمة التراث والتجديد التحرر من السلطة بكل أنواعها: سلطة الماضي، وسلطة الموروث؛ فلا سلطان إلا العقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه ... » (3) .
خامساً: تقريره بأن «الواقع الحسي» هو أساس المرجعية العقلية وأصل المعارف المؤسسة على الوحي، ومحمد عابد الجابري في دعوته إلى إعادة تأسيس العقل العربي انطلاقاً من الواقع الحسي والاجتماعي الغربي، يقول: «العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع، ومن دون شك فإن قواعد العقل إنما تجد مصدرها الأول في الحياة الاجتماعية التي تشكل أول أنواع الواقع الحي ... » (4) ؛ فمرجعية الواقع الحسي للعقل الوضعي هو ما يميزه من غيره من العقول، ولذلك فإن العقل ـ عنده ـ أداة مجرد من مبادئه الفطرية، ولذلك وصفه (الجابري) بوصف غارق في الوضعية وهو أنه «لعب حسب قواعد» (5) .
سادساً: رفضه للمنهج الاستدلالي الشرعي بدعوى عدم تجرده من الأيديولوجية ولهذا يرى الجابري أنه من غير الممكن التحرر من الأيديولوجيات في الدراسات الإنسانية، خصوصاً فيما يتعلق بالدراسات التراثية (6) ، ولكن هذه الدعوى لا رصيد لها من البراهين العلمية؛ وذلك من وجهين:
الأول: أنه بالنظر إلى علاقة الثقافة بالأيديولوجية يصعب ـ إن لم نقل يستحيل ـ انفكاك المعرفة العلمية عن دوافعها الأيديولوجية؛ ذلك لارتباط العلم بالخصائص الثقافية التي تشكله والتراث التاريخي الذي صنعه، وليس في ذلك ما يوجب رد مسائل المعرفة العلمية بذلك الزعم.
الثاني: أن المناط في رفض وقبول المسائل العلمية أياً كان نوعها هو الضوابط والقواعد العقلية المنهجية إضافة إلى الضوابط الخاصة لكل علم، ولا علاقة للأيديولوجيات بهذه الضوابط إلا إذا كانت الأيديولوجية على حساب الحقيقة العلمية وضوابطها؛ عندها يمكن تمرير الطعن في مثل هذه المسائل العلمية؛ فالطعن في التراث بمثل هذه المزاعم محاولة يائسة لإخراجه من منظومة المعرفة بكاملها، ولكن هيهات أن يؤثر هذا الطعن في مناهج تراثية قامت على الحقائق العقلية والقواطع الشرعية، وما لنا قولٌ في وصف هذه المحاولة إلا كما قالت العرب قديماً: «عُثَيْثَةٌ تقرمُ جِلداً أملَسَ» .
وفي الختام أدعو علماء الأمة ومثقفيها إلى استشعار خطورة «العقل الوضعي» على دين الأمة الإسلامية وهويتها وثقافتها، لا سيما إذا علمنا بتبني كثير من المؤسسات العلمية والثقافية لأطروحاته، بل تأخذنا الدهشة إذا علمنا أن هناك دولاً وحكومات في الوطن العربي تروِّج لهذا الفكر المتمرد على دينه وثقافته وحضارته، كما أدعو علماء الأمة ومثقفيها إلى إقامة المشاريع العلمية النقدية لنقض هذا الفكر وكشف عُواره وإبداء سوآته؛ حفظاً لعقيدة الأمة وثقافتها وهويتها من أيدي العابثين بها.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، (3/387) ، وابن أبي عاصم في السنة، ص (27) ، وغيرهما، وقد حسنه الألباني في الإرواء برقم (1589) .
(2) انظر في ذلك:
1 ـ المعرفة في الإسلام، مصادرها ومجالاتها، عبد الله بن محمد القرني، دار عالم الفوائد.
2 ـ مصادر المعرفة في الفكر الديني والفسلفي، د. عبد الحمن الزنيدي.
3 ـ نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، راجح الكردي. دار الفرقان للنشر، عمان الأردن.
4 ـ دستور الأخلاق في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، مؤسسة الرسالة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (4971) ومسلم في صحيحه برقم (208) .
(2) انظر في تفصيل تلك الأوجه كتاب «المعرفة في الإسلام» مصادرها ومجالاتها عبد الله محمد القرني، دار عالم الفوائد 1419هـ ص131 ـ 154، وانظر أيضاً كتاب «شرح العقيدة الأصفهانية، ابن تيمية، تحقيق سعيد بن نصر بن محمد» مكتبة الرشد، الرياض ط الأولى 2001م صـ155 ـ وما بعدها.
(1) «درء تعارض العقل والنقل» ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، 8/24 ـ 25.
(2) فلسفة التحليل عند فتجنشتين، عزمي إسلام، رسالة أكاديمية لنيل الدكتوراه من جامعة القاهرة، كلية الآداب قسم الدراسات الفلسفية، ص (86) .
(3) انظر: موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط الأولى 1984م، 2/312.
(1) «تجديد الفكر العربي» زكي نجيب محمود، دار الشروق سنة 1973م، ص (241) .
(2) انظر: «الأسس الفلسفية للعلمانية» ، لعادل ظاهر، دار الساقي، بيروت، ط الأولى 1993، ص 294 ـ 296.
(1) «موقف من الميتافزيقا» ، زكي نجيب محمود، دار الشروق، ط الثانية 1403هـ 1983م، ص والمقدمة، وكان هذه الكتاب في طبعته الأولى تحت عنوان (خرافة الميتافيريقا) وتعرض لنقد حاد من علماء الإسلام لنقده للغيبيات وهذا (منهج الوضعيه المنطقية) الذي كان يؤمن به، وهي مرحلة من حياة الكاتب تجاوزها فيما أحسب. ولمعرفة مراحل فكر الرجل انظر: (الفكر الديني عند زكي نجيب محمود) للدكتورة (منى أحمد أبو زيد) دار الهداية بالقاهرة.
(2) «من العقيدة إلى الثورة» حسن حنفي، دار التنوير للنشر 1988م، بيروت 1/368.
(3) «التراث والتجديد» حسن حنفي، دار التنوير للنشر 1980م، بيروت ص (45) .
(4) «تكوين العقل العربي» محمد عابد الجابري، مركز الدراسات ال وحدة العربية، ط الأولى 1991، ص (23) .
(5) المصدر السابق، ص (24) .
(6) انظر: «التراث والحداثة» محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط الأولى 123199، ص (23) .(221/2)
رؤية شرعية في (عيد الحب) !
جماز بن عبد الرحمن الجمّاز
- أصل عيد الحب:
ذكرت الموسوعة الكاثوليكية، أن القسيس (فالنتاين) ، كان يعيش في أواخر القرن الثالث الميلادي، تحت حكم الإمبراطور الروماني (كلاوديس الثاني) .
وقد قام الإمبراطور بسجن القسيس؛ لأنه خالف بعض أوامره، وفي السجن تعرّف على ابنةٍ لأحد حراس السجن، ووقع في غرامها وعشقها، حتى إنها تنصَّرتْ، ومعها ستة وأربعون من أقاربها، كلهم تنصّروا، وكانت تزوره ومعها وردة حمراء لإهدائها له.
فلما رأى منه الإمبراطور ما رأى، أمر بإعدامه؛ فعلم بذلك القسيس، فأراد أن يكون آخر عهده بعشيقته؛ حيث أرسل إليها بطاقة، مكتوباً عليها: «من المخلص فالنتاين» ثم أُعدِم في الرابع عشر من فبراير سنة 270م.
وذكرت الموسوعة أيضاً: أنه في إحدى القرى الأوروبية، يجتمع شباب القرية في منتصف فبراير من كل عام، ويكتبون أسماء بنات القرية في أوراق، ويجعلونها في صندوق، ثم يسحب كل شاب من هذا الصندوق ورقة، والتي يخرج اسمها على ورقته، تكون عشيقته طوال السنة، ويُرسل لها على الفور بطاقة مكتوباً عليها: «باسم الآلهة الأم، أرسل لك هذ البطاقة» ، ثم تجدّد الطريقة بنهاية منتصف فبراير في العام المقبل، وهكذا.
وبعد مدة من الزمن، قام القساوسة بتغيير العبارة إلى «باسم القسيس فالنتاين» (1) .
والظاهر من حادثة شباب القرية، أنهم فعلوا ذلك، تخليداً لذكرى القسيس فالنتاين، وعشيقته، وحباً للفاحشة والخنا. وكذلك يفعلون.
- واقعنا وعيد الحب:
سرت تلك الحادثة إلى أرجاء واسعة، وتناقلها جيل بعد جيل حتى تمكنتْ من مجتمعات المسلمين والمسلمات؛ فمنهم من احتفل بها عامداً للإفساد، ومنهم من احتفل بها تقليداً، حتى طار بها الناس كل مطار، وانتشرت بطاقات تهنئة بهذه المناسبة، فيها صورة لطفل بجناحين فوق مجسم لقلب، وُجِّه إليها سهمٌ، وهذا رمز «آلهة الحب عند الرومانيين» ووُضع في الصفحة الرئيسية لأحد مواقع عيد الحب، على الشبكة الإلكترونية، مجسم لقلب يخترقه صليب.
وللأسف، فإننا نرى بعضاً من المسلمين والمسلمات في بعض أنحاء العالم، يحتفلون بعيد الحب، في الرابع عشر من فبراير كل عام (ويوافق هذه الأيام الخامس من محرم عام 1427هـ) .
ومن مظاهر هذا الاحتفال، أن نرى أزياء حمراء، من لباس أو أحذية أو حقائب أو زهور أو هدايا، فضلاً عن تبادل البطاقات الخاصة بالاحتفال، مكتوب عليها عبارات فيها اعتزاز بالعيد، وتهنئة بالحب، ورغبة في العشق، وما من شأنه أن يبرز معاني الحب والبهجة والسرور، والمشاركة الوجدانية في الاحتفال، وبعضهم يبعث بهدية من لباس أو أكل أو شرب أو نُصُب تذكاري، ليشاركهم فرحة العيد. ولهذا يحلو لبعض الناس أن يُسميه بـ «عيد العُشاق» .
- ومن المظاهر السافرة للاحتفال بعيد الحب ما يلي:
1 ـ الاستعداد المبكر للمحلات التجارية، كالفنادق والمطاعم والمتاجر، بالترحيب بعيد الحب، بشعار اللون الأحمر، كالمداخل والأبواب والإنارة والورود والمفارش والأطباق.
2 ـ استخدام اللون الأحمر في مراسم الاحتفال، رمزاً للحب وإحياء لذكرى الوردة الحمراء التي أهدتها عشيقة القديس فالنتاين له، من شال ومناديل وأكسية وحقائب وجوارب وأحذية.
3 ـ انتشار البالونات والألعاب والدمى الحمراء، مكتوب عليها [Lov You] .
4 ـ قيام بعض أصحاب المنازل بتعليق الورود الحمراء على مواضع في واجهة المنزل كالأبواب والنوافذ والأسوار.
5 ـ اتفاق بعض الطالبات مع بعض صديقاتها بربط شريطة حمراء اللون في معصم اليد اليسرى، وإرسال بطاقات مكتوب عليها «كن فالنتينياً» .
6 ـ نقش القلوب على اليدين وكتابة الحرف الأول من الاسم للعشيقين.
7 ـ إقامة الحفلات الراقصة، والسهرات المختلطة، فرحاً بتلك المناسبة. وتشير بعض الإحصائيات إلى أن عيد الحب يحتل المرتبة الثانية في الاحتفالات بعد عيد الكريسمس (1) .
- الآثار والأضرار المترتبة على المشاركة في عيد الحب:
تتجلى الآثار والأضرار الناشئة عن المشاركة في هذه المناسبة بأمور؛ منها:
1 ـ أنَّ الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك، بل إنها من أخصّ ما تتميز به. قال ـ تعالى ـ: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] .
فمن وافق الكفار في جميع عيدهم؛ فإنَّ ذلك ينتهي به إلى الكفر بشروطه، ومن وافقهم في بعض فروع العيد، فقد وافقهم في بعض شُعَب الكفر.
2 ـ أن ما يفعله الكفار في أعيادهم واحتفالاتهم، منه ما هو كفر، ومنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح، والتمييز بين هذا وهذا، قد يخفى على الكثير، وهذا مؤداه أن يتساهل عامة المسلمين بأمور كفرية صريحة، أو ما دونها من الموبقات.
3 ـ أن مشاركة الكفار في أعيادهم واحتفالاتهم والتشبه بهم في ذلك، يُؤدي بالمسلمين المُتشبهين بهم والمشاركين لهم إلى اكتساب أخلاقهم المذمومة، حتى يشاركوهم في اعتقاداتهم وانحرافاتهم؛ إذْ إنَّ المشاركة في الظاهر تقتضي المشاركة في الباطن ولو بعد حين.
4 ـ أن مشاركة الكفار ومشابهتهم في مناسباتهم، تُورث نوعاً من مودتهم ومحبتهم وموالاتهم، وقد تقرّر أن محبة الكفار وموالاتهم تنافي الإيمان، كما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
5 ـ أن الاحتفاء بأعياد الكفار، تُوجب سرور الكفار بما هم عليه من الباطل، وذلك إذا رأوا المسلمين تابعين لهم في طريقتهم، وهذا ظاهر في قوة قلوبهم وانشراح صدورهم، وطمعهم في المسلمين ونهب خيراتهم واستذلالهم، وقد فعلوا.
6 ـ أن مشاركة الكفار فرحتهم، ولو بشيء قليل مثل تقديم الهدية أو الحلوى أو نحوها، يقود لفعل الكثير في المستقبل وفي شتى مناحي الحياة مع الكفار حتى يصير عادة لهم، ويتتابع عليه الناس، حتى يرتفع الكفر وأهله، وتُعظَّم مناسباتهم بغير نكير؛ فالأمر جدّ خطير.
7 ـ تعطيل أعياد المسلمين؛ فالنفس تأخذ حظها من اللعب واللهو في تلك الأعياد المحرَّمة؛ فإذا ما جاء العيد الحقيقي للمسلمين، فترت النفوس عن الرغبة في عيد الله، وزال ما كان عنده له من المحبة والتعظيم.
8 ـ أن رسالة الكفار في إفساد المسلمين، ولَبْس الحق بالباطل، والدعوة إلى الكفر والضلال والإباحية والإلحاح وتغريب المسلمين عن دينهم، تجد لها مرتعاً واسعاً، وباباً مفتوحاً من خلال تلك الاحتفالات الكفرية، فيحتالون على المسلمين ويدخلونها تحت مسميات رياضية أو ثقافية أو اجتماعية أو سياسية، ويتقبلها الناس بدون نكير.
9 ـ أن أصل عيد الحب عقيدة وثنية عن الرومان، يُعبَّر عنها بالحب الإلهي للوثن الذي عبدوه من دون الله تعالى؛ وعليه فمن يحتفل به فهو يحتفل بمناسبة تُعَظَّم فيها الأوثان التي تُعبَد من دون الله تعالى، وهذا أصل ضلال الطوائف الكافرة (1) .
10 ـ أن من مقاصد عيد الحب، إشاعة المحبة بين الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، وهذا يخالف دين الإسلام، بل يصادم أصلاً من أصول أهل السنة والجماعة، وهو الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين (2) .
- حكم الاحتفال بعيد الحب:
الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بغير الأعياد الإسلامية: الفطر والأضحى، بدعة محدثة في الدين، مثل: عيد رأس السنة الميلادية، وعيد الكريسمس، وعيد اليوبيل، وعيد الاستقلال، ونحوها.
وهكذا الاحتفالات، كالاحتفال بذكرى المولد النبوي، والإسراء والمعراج، والعام الهجري الجديد، كلها احتفالات وأعياد محرّمة.
والاحتفال بعيد القديس فالنتاين [Valentine,s DAY] أو ما يسميه بعض المسلمين «عيد الحب» ، احتفال بِدْعي محرم قطعاً، وعادة سيئة، وبدعة منكرة ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن الاحتفال به من البدع والإحداث في دين الله عز وجل، بل هو ضلال. وفي حديث العرباض بن سارية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « ... وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (3) .
وخرجه الآجري، وزاد: «وكل ضلالة في النار» وهو صحيح (4) .
والأعياد توقيفية من جملة العبادات، لا يجوز إحداث شيء منها إلا بدليل. عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» أخرجه البخاري وغيره (5) .
وإن اعتقد من يحتفل به أنه عادة، فهو قد اعتبر ما ليس بعيد عيداً، وهذا من التقدم بين يدي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أثبت عيداً في الإسلام، لم يجعله الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- عيداً.
ولا شك أن الاحتفال به، تشبّه، بأعداء الله؛ فإن هذه العادة ليست من عادات المسلمين أصلاً، بل هي عادة من عادات النصارى.
عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تشبّه بقومٍ فهو منهم» . أخرجه أبو داوود وغيره وهو صحيح (6) .
قال ابن كثير: «فيه دلالة على النهي الشديد، والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار في أقوالهم، وأفعالهم، ولباسهم، وأعيادهم، وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تُشرع لنا، ولم نُقرَّر عليها» ا. هـ (7) .
وفيه دلالة صريحة على وجوب الحذر من مشابهة أعداء الله في أعيادهم وغيرها.
والاحتفال بعيد الحب إذكاء لروح الحب المحرم والعشق والغرام المشين، وتعاون على نشر الرذيلة والفساد، وإحياء لذكرى شخصية كافرة نصرانية.
والله ـ جل وعلا ـ يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] ويقول ـ تبارك وتعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]
والمعنى: يحبون أن تفشو الفاحشة وتنتشر (8) .
والاحتفال بعيد الحب، كالاحتفال بغيره من أعياد الكفار، يربأ المسلم بنفسه أن يشهدها، والله ـ جل وعلا ـ وصف عباده المؤمنين بأنهم لا يشهدون أعياد الكفار.
قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]
والزور في قول غير واحد من التابعين وغيرهم: «أعياد المشركين» ذكره القرطبي (9) ، والبغوي (10) ، وابن كثير (11) ، وابن تيمية (12) ، وغيرهم.
وأما الإجماع على تحريم حضور أعياد الكفار أو تهنئتهم بها، فقد نقله غير واحد. قال ابن تيمية عن أعياد الكفار: «فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها؛ فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟ أوَليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها، مظهراً لها؟» . (1)
وقال ابن القيم: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به، فحرام بالاتفاق؛ مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد، ونحوه؛ فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام، ونحوه ... » ا. هـ (2) .
- وبناء على ما تقدم:
فإنَّ عيد الحب من جنس ما ذكر من الأعياد المبتدعة، بل هو بذاته عيد وثني نصراني، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفعله أو أن يقره أو أن يُهنّئ به، بل الواجب تركه واجتنابه، استجابة لله ولرسوله وبعداً عن أسباب سخط الله وعقوبته. قال ابن القيم عن التهنئة بأعياد الكفار: «وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فَعَل؛ فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه» (3) .
كما يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد أو غيره من الأعياد المحرمة، بأي شيء من أكل أو شرب أو بيع أو شراء أو صناعة أو هدية أو مراسلة أو إعلان أو غير ذلك؛ لأنَّ ذلك كله من الإثم والمجاوزة لحدود الله تعالى، والتعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول (4) .
قال ابن تيمية عن أعياد الكفار: «لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختصّ بأعيادهم، لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار الزينة. وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام» ا. هـ (5) .
- كلمة أخيرة:
واجب الجميع التعاون على وأد هذه الظاهرة في مهدها؛ فالآباء والأمهات يضطلعون بمسؤولية عظيمة في تحذير أولادهم من المشاركة في هذا الاحتفال، ومنعهم من شراء بعض الألبسة أو الأحذية أو الورود ذات اللون الأحمر، إذا أراد لبسها والتزين بها، ابتهاجاً بالمناسبة، أو مسايرة للأصدقاء أو مجاملة لهم، أو مغايرة لهم.
وكذلك الأولاد، متى رأوا من والديهم شيئاً من ذلك، أشعروهم بحرمة هذا الاحتفال، وطلبوا منهم عدم المشاركة أو الإعانة.
وهكذا أصحاب المراكز التجارية، يضطلعون بمسؤولية كبيرة؛ فواجبهم عدم إصدار بطاقات خاصة أو شعارات تلائم المناسبة، أو استيراد وبيع ما هو من خصوصيات ذلك الاحتفال من حذاء أو قبعة أو نُصُب تذكاري أو ورود أو حلوى أو هدايا، ونحو ذلك.
والمعلمون والمعلمات، ليس لهم أن يسكتوا عن التحذير عن هذا الاحتفال متى استطاعوا ذلك؛ فعليهم بيان أصله وسببه، وأنه عقيدة وثنية نصرانية، وأنه وسيلة لنشر الفاحشة بين الشباب والفتيات، وتشجيع للإباحية، ويُراد منه نشر الضلال بالعقائد الفاسدة، وتمكُّن الفساد في صفوف المسلمين. وهكذا الخطباء والكتاب والمسؤولون في أجهزة الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، يتعين عليهم بيان حرمة مثل هذه الأعياد والاحتفالات وأنها إحداث في دين الله عز وجل، وتشبه بأعداء الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يجوز حضورها ولا تشجيع أهلها ولا تهنئتهم بها، ونحو ذلك مما فيه إعانة على هذا المنكر أو إقرار عليه.
وهكذا العلماء وطلاب العلم في كل عَصْرٍ ومِصْرٍ، يجب
__________
(1) عيد الحب: لرقية المحارب، عيد الحب لمن؟ لخالد الشايع.
(1) عيد الحب في عيون الفتيات، لسلام نجم الدين الشرابي، موقع «لها أون لاين» اختاه، اقرئي وعي كي لا تخدعي! لهناء الكندري. عيد الحب «موقع شبكة الفوائد الإسلامية» . الاحتفال بعد الحب، موقع الإسلام سؤال وجواب.
(1) انظر: هذا، وما قبله من الآثار، بتصرف من أقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية (ج 1، صـ 470 ـ 490) .
(2) هذا، وما قبله، بتصرف من مقالة، عيد الحب/ قصته، شعائره حكمه، لإبراهيم محمد الحقيل.
(3) سنن أبي داوود رقم «4607» السنة، وصحيح الجامع للألباني مجلد الأول صـ (499) رقم (2549) .
(4) الشريعة، للأجري رقم (90) صـ (39) ، مصححه المحقق هامش.
(5) صحيح البخاري، رقم «2697» الصلح.
(6) سنن أبي داوود رقم (4031) اللباس، وفتاوى ابن تيمية المجلد الخامس والعشرون صـ (331) ، فتح الباري، لابن حجر المجلد السادس صـ (120) .
(7) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير المجلد الأول صـ (328) سورة البقرة آية (104) .
(8) فتح القدير، للشوكاني، المجلد الرابع، صـ (17) .
(9) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، المجلد الثالث عشر، صـ (54) .
(10) معالم التنزيل، للبغوي، المجلد السادس، صـ (98) .
(11) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، المجلد الرابع، صـ (614) .
(12) أقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، المجلد الأول، صـ (427) .
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية المجلد الأول صـ (454) .
(2) أحكام أهل الذمة، لابن القيم المجلد الأول صـ (205 ـ 206) .
(3) أحكام أهل الذمة، لابن القيم المجلد الأول صـ (206) .
(4) فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية رقم «21203» وتاريخ 23/11/1420هـ.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد الخامس والعشرون صـ (329)(221/3)
الطريق إلى العزة
إبراهيم بن صالح الدحيم
تشتد الهزيمة ويعظم الخطب حين تُهزم الأمة من داخلها، حين تهتز ثقة الأمة بدينها وعقيدتها ومقدراتها (إن الأزمة الحقيقية لأمتنا الإسلامية هي انعدام الوعي بذواتنا، أزمة فقدان الثقة بقدراتنا على الفعل، وأسوأ ما يمكن أن يصيب أمة هو فقدان الثقة بنفسها وبإمكانياتها وبقدرتها على الفعل والمشاركة الإيجابية في صنع الأحداث وتجاوز المحن والأزمات. وقد تساءل «غوستاف لوبون» في كتابه «حضارة الهند» : كيف استطاع البريطانيون ببضعة آلاف من الجنود أن يستعمروا الهند ذات الملايين العديدة؟! وأجاب: عند تشريح جمجمة الهندي لا نراها مختلفة عن جمجمة الإنجليزي، ولكن الفرق هو الإرادة: الثبات والعزم في قوم، والضعف والاستكانة في آخرين) (1) .
إن أمة تُشعِر نفسها بالضعف فهي ضعيفة، وستظل ضعيفة ما دام هذا الشعور لا يفارقها. لقد بُلي كثير من المسلمين اليوم بالهزيمة النفسية، التي كان من ثمارها الحنظلية العيش مع المجتمعات الأخرى بنفسية المغلوب لا بنفسية الغالب، فحملها ذلك أن انقادت وراء هذه المجتمعات وسلمت لها خطامها وأقرت لها بالتبعية والولاء.
من يهنْ يسهل الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
لقد نكبت الأمة وذلت، وزلت، وضلت، يوم وجهت وجهها نحو الغرب الكافر، فأصبحت تقتات من فتاته، وتتمسح بأعتابه، وتسير في ركابه. زيَّن لها ذلك أصحاب الفكر المغلوب، والعقل القلوب، الذين ما فتئوا يصيحون بالأمة أن تسلم قيادها للغرب، وأن تأخذ كل ما عنده من عادات وثقافات (خيرها وشرِّها، حلوها ومرِّها، ما يُحمد منها وما يُعاب) (2) ، زد عليه ذاك الجهد الكُبَّار من الكفار في تغريب المجتمعات الإسلامية، ومسخ هويتها وعزلها عن منبع عزِّها ومكمن فخرها، حتى خرج جيل بعيد كل البعد عن روح الإسلام، بعيد في ثقافته، وشخصيته، وسلوكه، ونمط حياته.
وإن الذي ينظر في أحوال المسلمين اليوم يرى عجباً من نتاج التغريب المستمر، يرى ذلك الجهل الظاهر لمهمات الدين في الشعوب المسلمة، بينا تجد جموعاً منها لا تجهل ملابسات (وفاة الكلب سولي أو الكلبة لولي!!) (3) لقد كان من نتاج هذا التغريب أيضاً: الجهل بالتاريخ الإسلامي وأمجاده وأبطاله، وكان من نتاجه أيضاً: السعي المحموم خلف (الموضات) والتقليعات الغربية، حتى أصبح ما يُفصَّل هناك في الصباح يُلبس هنا في المساء، وتسربت إلى البلاد الإسلامية عادات ليست منها بباب. ذكرت بعض الإحصائيات أن عدد الكلاب في إحدى الدول العربية أكثر من مليون كلب (4) !! إنها ليست كلاب حرث أو حراسة أو صيد، إنها كلاب مدللة أحدثها التقليد: «حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه» (1) .
إن الأمة التي تعيش على فُتات الغير، وتقتات من موائده، لا يمكن أن تصنع نصراً، أو تبني مِصْراً، بل ستظل أمة ضعيفة هزيلة تابعة لا متبوعة.
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان: عير الحي، والوتدُ
هذا على الخسف مربوط برمّته وذا يُشَجُّ فلا يرثي له أحدُ
لما ذلت أمتنا غابت العزيمة من خطابها، ولم يعد في قاموسها غير الرخصة! نسيت {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171] وبقيت تردد «يسِّروا ولا تعسروا» ، قرأت {أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] وتركت {ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9] والشرع يُعرف من مجموع أدلته. لقد أصبحت قراءتنا للنصوص قراءة تناسب ضغط الواقع! لا مقاصد الشريعة.
وحين نريد لأمتنا أن ترقى، ولمكانتها أن تبقى، فلا بد من بعث روح العزة والقوة فيها، وأن يربّى أفرادها على ذلك، ولعل مما يبعث على العزة أمور أذكر منها ما يلي:
1 ـ تحقيق التوحيد وتنقية الاعتقاد:
لقد جعل الله العزة ملازمة للإيمان: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، فمتى استقر الإيمان ورسخ، فالعزة معه مستقرة راسخة؛ حتى في أحرج اللحظات. دخل الإيمان قلوب السحرة فصرخوا في وجه فرعون باستعلاء: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72 - 73] ألا ما أروع الخطاب يوم يخرج بلغة الإيمان! إنه (الإيمان الذي جعل من بلال الحبشي قوة يتحدى «سيده» أمية بن خلف ويحارب أبا جهل بن هشام.. الإيمان الذي جعل القلة تنتصر على الكثرة، والأميين يغلبون المتحضرين، ودفع العرب البداة، ويقينهم في قلوبهم، ومصاحفهم في يد، وسيوفهم في أخرى، ومساكنهم على ظهور خيولهم يقولون لملوك فارس وأباطرة الروم: نحن قوم بعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده) (2) .
وحين انحرف الناس في فهم التوحيد وضلّوا في الاعتقاد، وأطفؤوا بتخليط الشرك نور الوحدانية، كان عاقبة أمرهم خسراً، واستبدلوا برفيع منازلهم أودية وقفاراً، فبارك عدوهم ما هم فيه، وأغمد سيفه مطمئناً لجانبهم، بل ربما أصاب بسهامهم ما لم يصبه هو بسهمه.
ماذا جرَّت الصوفية ـ مثلاً ـ على بلاد المسلمين لما ضلت في الاعتقاد، وصنعت لأتباعها إيماناً مشوهاً مشوشاً لا يصنع العز في النفوس، بل يرسِّخ فيها الذل والهوان كما يصف صنيعهم محمد الغزالي رحمه الله بقوله: (تمارين على الذل) ، ومما قاله أيضاً: (إن الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة؛ فإذا رأوا أنفة من مسلك أحدهم، أو دلائل عزة وترفع، جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة، والمحافظة عليها، حتى تنكسر نفسه، وينخفض رأسه، وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يحب! ولم يَدْرِ المغفلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها) (3) .
وصدق (توينبي) وهو كذوب حيث يقول: «لقد ظللنا نُخرج المسلم التركي حتى يتخلى عن إسلامه ويقلدنا؛ فلما فعل ذلك احتقرناه؛ لأنه لم يعد عنده ما يعطيه» اهـ.
أما حين يرجع المؤمن إلى دينه ويتمسك بثوابته فإنه سيجد في كتاب ربه ما يغنيه، وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يرويه، وفي عقيدته ما يكفيه، ولن يكون بحاجة إلى مخلفات الحضارة الغربية. ورحم الله محمد إقبال حين قال: إن بريق المدنية الغربية لم يُغْشِ بصري؛ لأني اكتحلت بإثمد المدينة النبوية.
2 ـ تحقيق تقوى الله ـ تعالى ـ بلزوم الطاعة واجتناب المعصية:
قال ابن القيم وهو يعدد آثار الذنوب والمعاصي: (إن المعصية تورث الذل ولا بد؛ فإن العز كل العز في طاعة الله. قال ـ تعالى ـ: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أي فليطلبها بطاعة الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزّني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك) (4) ، ويعلِّق ابن القيم على قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] فيقول: (والمعنى: قد أفلح من كبّرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقّرها وصغّرها بمعصية الله. فما صغّر النفوس مثل معصية الله، وما كبّرها وشرّفها ورفعها مثل طاعة الله) (5) . وعن جبير بن نفير قال: (لما فُتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى) (6) . إن المعصية ذل وعار وسواد في الوجه، وظلمة في القلب، وبغضة في قلوب الخلق. قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» (1) ، وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: «أنا العزيز؛ فمن أراد العز فليطع العزيز» . وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
3 ـ التعالي على مطامع الدنيا وشهواتها ولذائذها:
إن النفس حين ترتفع عن المطامع الدنيوية، والشهوات الدنية، فإنها يوماً ما لن تكون أسيرة لها أو ذليلة لوطأتها، بل سترتفع إلى مكان أرقى وجوٍّ أنقى.
إني جواد عصي لا يطوعه بوح العناقيد أو عطر الهنيهات
أتيت أركض والصحراء تتبعني وأحرُف الرمل تجري بين خطواتي
أتيت أنتعل الآفاق.. أمنحها جرحي وأبحث فيها عن بداياتي
إن المسلم حين يتعامل مع الدنيا على حذر، ويأخذها على أنها متاع زائل وبُلْغة مسافر؛ فإنه لن يقع عبداً لها، ولن يبيع عزته ومكانته فداءً لها، بل سيتخلى عن دنياه أسهل ما يكون حين تتعارض مع مبادئه وقيمه وثوابته، وحين يساوم على شيء من دينه. وقع عبد الله بن حذافة السهمي ـ رضي الله عنه ـ أسيراً في يد الروم، فلجؤوا معه إلى الإغراء فلم يستجب، عرض عليه ملك الروم إن هو ترك دينه أن يعطيه نصف ملكه، فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ملك العرب ما رجعت عن دين محمد -صلى الله عليه وسلم- طرفة عين، وفي بعض الروايات: ثم جعلوا له في بيتٍ معه الخمرَ ولحم الخنزير ثلاثاً لا يأكل، فاطلعوا عليه، فقالوا للملك: قد انثنى عنقه، فإن أخرجته وإلا مات، فأخرجه، وقال: ما منعك أن تأكل وتشرب؟ فقال: أما إن الضرورة قد أحلتها لي، ولكن كرهت أن أشمِّتك بالإسلام (2) .
أيُّ ثبات هذا الثبات؟! وأيُّ عزة تلك التي امتلأت بها نفس ابن حذافة؟! إنها النفوس حين تتعالى عن مطامع الدنيا، وترتفع عن شهواتها.
4 ـ النظر إلى الكافر نظرة احتقار مشوبة برحمة:
هكذا ينبغي أن يكون نظرنا للكافر، لا أن ننظر له نظرة اعتزاز وإكبار، حتى ولو بلغ من الحضارة كل مبلغ، فقد صغَّر الله شأنهم، وحقَّر أمرهم، فلا يصح أن نرفع منهم، قال ـ تعالى ـ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] وفي الحديث الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه» (3) ، وإن ذل المعصية لا يفارق جباههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، كما يقول الحسن البصري رحمه الله: (إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إلا أن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه) (4) .
إن الذي يعلم حقيقة ما عليه الغرب الكافر اليوم، يرى أنه ليس حقيقاً بالإكبار، بل يرى أنه مجتمع متساقط متهالك، ليس لديه من مقومات البقاء شيء. يقول الرئيس الأمريكي السابق (جون كنيدي) : إن الشباب الأمريكي مائع منحل، غارق في الشهوات، وإنه من بين سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين ـ كل ذلك بسبب انهماكهم في الشهوات ـ. وتقول الإحصائيات: إنه في لندن وخلال (24) ساعة يحدث 332 اعتداء، و314 حادث سطو منزلي، و 530 حادث مرور، وتتم سرقة 116 سيارة و 273 حادث سرقه و 34 اعتداءً جنسياً، وعلى هذا يكون معدل الجرائم في اليوم الواحد في لندن 1599 جريمة!! {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] .
كيف نرجو من السجين معيناً وهو في القيد ينشد الإفراجا
سبل الغرب كلها جحر ضبٍّ وسبيل الإسلام كانت فجاجا
5 ـ التعلق بالآخرة وطلب ثوابها:
إن الذي يتعلق بالآخرة تهون الدنيا في عينه، وتهون عليه نفسه فيقدمها رخيصة لله.
تقول ابنة السعدي وهي تلومني أما لك عن دار الهوان رحيل
فان عناء المستقيم على الأذى بحيث يذل الأكرمون طويل
وعندك محبوك السراة مُطَهَّم وفي الكف مطرور الشباة صقيل
نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ففعلت هذه الكلمات في نفوس أهل الآخرة فعلها، فقام عمير بن الحُمَام «وقال: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم! قال: بَخٍ بَخٍ! فأخرج تمراتٍ من قَرنِهِ فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل» (5) . لقد رأى أن هذه التمرات ـ والتي كان يتقوّى بها على الجهاد ـ قد تعيقه وتؤخر وصوله إلى الجنة فألقى بها وهو يقول: «إنها لحياة طويلة إن أنا بقيت حتى آكل هذه التمرات» . وهذا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ لما سمع رجلاً يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: «أرأيت إن قتلت؛ فأين أنا؟ قال: «في الجنة» . ألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل» (1) .
6 ـ التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في النفوس:
لا بد من التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في نفوس الأطفال من صغرهم، وأن يحدَّثوا بأمجادهم وتاريخ أسلافهم، قُلْ له: أنت ابن الإسلام، أنت حفيد أبي بكر، ووارث عمر، وصاحب عثمان، وخليفة علي، حدِّثْه عن نور الدين وصلاحه، أعدْ عليه ذكرى بدر، وأخبار القادسية واليرموك وأحداث حطين ونهاوند وبلاط الشهداء.
من أنت؟ فانتفضت حروفي وانتشت في كبرياء
وتطامنت حولي الرؤوس وهب يعليني الإباء
حتى علوت على السُّهى وشربت من ماء السماء
وتساءلت حولي النجوم فضج فيَّ الانتماء
من أنت؟ أي رسالة جعلتك ملتهب الدماء
الشمس تشرق في يديك البيض ما هذا السناء؟
والناس في درب الدجى هلكى وأنت مع الضياء
من أنت؟ أسئلة تراودني الصباحَ مع المساء
تعبت من الأسفار أرجلهم فناموا في العراء
ومضوا يعبُّون السراب ويرشفون الكبرياء
لا تسأليني من أنا؟ «أنا واحد من هؤلاء»
جسدي (بأرضي) ها هنا لكن روحي في السماء
0 عوِّدْ من تقوم على تربيته أن لا يستجدي الناس شيئاً، وأن يستغني بما عنده عما في أيدي الناس، وقد قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
0 عوِّدْه ردَّ الضيم وعدم قبول الذل؛ فإن ذلك ليس من سجية المؤمن ولا من خلقه، بل هو عزيز أبيٌّ. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (إذا أردت أن تعرف الديك من الدجاجة وقت خروجه من البيضة فعلِّقه بمنقاره فإن تحرك فديك، وإلا فدجاجة) (2) .
0 عوِّده أن يرفع رأسه دائماً إلى السماء، وأن لا يطأطئ إلى الأرض. روى العسكري: (أن رجلاً مرّ على عمر ـ رضي الله عنه ـ «وقد تخشع وتذلل وبالغ في الخضوع، فقال عمر: ألستَ مسلماً؟ قال: بلى! قال: فارفع رأسك، وامدد عنقك؛ فإن الإسلام عزيز منيع» (3) ورأت الشفاء بنت عبد الله بعض الفتيان يمشون متماوتين فقالت: مَنْ هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء النسّاك. فقالت: لقد كان عمر إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذ ضرب أوجع؛ وكان هو الناسك حقاً (4) .
(إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء إيمانه، وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان، أو يتَّضع في مكان، أو يكون ذَنَباً لإنسان. هي كبرياء فيها من التمرد بقدر ما فيها من الاستكانة، وفيها من التعالي بقدر ما فيها من التطامن (5) فيها الترفع على مغريات الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة، وفيها من الانخفاض إلى خدمة المسلمين والتبسط معهم، واحترام الحق الذي يجمعه بهم، فيها إتيان البيوت من أبوابها، وطِلاب العظمة من أصدق سبلها ... والعز والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى الإسلام بها، وغرسها في أنحاء المجتمع وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسنَّ من تعاليم. وإليها يشير عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: أحِبُّ الرجل إذا سِيمَ خطةَ خسفٍ أن يقول بملء فيه: لا. .. «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه مالك! قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله! قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد! قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار» (6) ، نعم! فمن عزة المؤمن أن لا يكون مستباحاً لكل طامع، أو غرضاً لكل هاجم. بل عليه أنت يستميت دون نفسه وعرضه، وماله وأهله، وإن أريقت في ذلك دماء؛ فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع ... أمَّا تهيُّب الموت وتحمّل العار طلباً للبقاء في الدنيا على أية صورة فذلك حمق؛ فإن الفرار لا يطيل أجَلاً، والإقدام لا ينقص عمراً. كيف؟ {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] إن القضاء يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره؛ فكن عزيزاً ما دام لن يفلت من محتوم القضاء إنسان) (7) .
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار أن تموت جبانا
اللهم أعزنا بالإسلام قائمين وقاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء
__________
(1) العولمة والعالم الإسلامي أرقام وحقائق، ص 236.
(2) طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام، أنور الجندي، ص 31.
(3) صلاح الأمة، للعفاني: 7/267.
(5) صلاح الأمة، للعفاني: 7/267.
(1) البخاري (7320) ، مسلم (2669) .
(2) الإيمان والحياة، القرضاوي، ص 240.
(3) تأملات في الدين والحياة، الغزالي، ص 173.
(4) الجواب الكافي، ص 63 ط، مكتبة المؤيد.
(5) الجواب الكافي، ص 85 ط، مكتبة المؤيد.
(6) حلية الأولياء: 1/216.
(1) أخرجه أبو داود (3462) .
(2) سير أعلام النبلاء، رقم الترجمة (3192) .
(3) الترمذي (2700) .
(4) الجواب الكافي، ص 63.
(5) مسلم (1901) ، وأحمد (3/136ـ137) .
(1) البخاري (4046) ، ومسلم (1899) .
(2) بدائع الفوائد: 3/ 1201، ط عالم الفوائد.
(3) فيض القدير: 7/3885، ط. الباز.
(4) الإيمان والحياة، القرضاوي، ص 241.
(5) قد وصفهم الله ـ تعالى ـ بقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
(6) مسلم (140) .
(7) خلق المسلم، الغزالي، ص (215ـ 223) ، ط دار الكتب الحديثة 1394هـ.(221/4)
المسلمون ومرحلة الغربة
د. الحسين آيت سعيد
بعض المسلمين لَمَّا يسمعون أحاديث الغربة، يتبادر إلى أذهانهم أن هذا الدين قد انحسر بالكلية عن مواقعه، وأنه ضعُف واستكان، ولم يعد له مفعول قوي، وأن عودته للظهور البارز وسرعة الانتشار، بات أمراً بعيد المنال، وهذا الفهم ليس بصحيح ولا سليم، تكذبه النصوص الواردة في الغربة، وفي
أـ الغربة مرحلة، وليست سُنة لا تزول:
القراءةُ الصحيحة لأحاديث الغربة، هي فهمها على أنها مبشرات لعودة هذا الدين لمسرح الحياة كما كان، ومقدماتٌ لانتشاره ودخوله كل بيت من مدَر أو وبَر، ولا ينبغي أن نُؤيِّس المسلمين ونشل حركتهم، ونُفقدهم الأمل في دينهم بما يُفهم أولَ وهلة من بعض هذه النصوص؛ فهذه النصوص إذا ضمت لأشباهها، وفُهمت في سياقها، فإنها تفيد أن غربة الدين ما هي إلا مرحلة عارضة، تمر منها الأمة، ولا تستقر فيها ولا تدوم عليها، ثم تعود إلى المرحلة الطبيعية التي هي انتشار هذا الدين بين العالمين، وبلوغُه ما بلغ الليل والنهار؛ ففي حديث ثوبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون» (1) . فهذا الحديث من أعظم الأحاديث الدالة على أن الله تكفل باستمرار هذا الدين، وأنه يبعث له في كل زمان حماة يحمونه ويلتزمون به، ويدافعون عنه إلى يوم القيامة، وهذه الطائفة ما انقطعت ولن تنقطع بضمان الله ـ عز وجل ـ لاستمرارها، وذاك يشجع المسلم أن يكون من جنود هذا الدين، ويدفعُه أن ينخرط في سلك هذه الطائفة المنصورة، حتى تتحقق له بشارة الثبات على الحق والدفاع عنه، والانتظام في جماعة أهله، فيضاعف المسلم جَهده ليكون على الحق، ويكون ممن يظاهر الحق ويناصره. وفي حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» (1) . وكان تميم الداري يقول: قد عرفتُ ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرُ والشرفُ والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذلُّ والصَّغار والجزية. ففي هذا الحديث بشارة صريحة أن هذا الدين سيعم الكرة الأرضية، وأنه لا يبقى بيت إلا دخله، أبى ذلك من أباه أو قَبِله من قبله، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن غربة الدين وغربة أهله لا تستمر، وأنها ليست قانوناً حتمياً؛ كما يفيد الحديث أن العزة ستعود للمؤمنين، وأن الذلة ستلحق الكافرين، ولو عَلوا وطغوا وتجبروا بما أتوا من قوة وجبروت، لكن يبقى أن يتحرك المسلمون وأن يعملوا جميعاً لتحقيق هذا الوعد والتعجيل به، فالله ـ تعالى ـ قد تكفَّل لدينه بالظهور، ويبقى تنفيد الوعد بأيدي المسلمين حتى لا يفهم أحد من هذه البشارات التواكل، والاسترخاء، وعدم العمل، وترك التبليغ، والركون إلى الدَّعة، بحجة أن الله سينصر دينه لا محالة؛ فهذا الفهم ليس بسليم، فالله ـ تعالى ـ سينصر هذا الدين بنا، وإن تخلينا فسينصره بغيرنا. قال ـ تعالى ـ: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] فما أحوجنا إلى رجال يحققون وعد الله، ويستنزلون نصر الله، ويكونون رحماء بإخوانهم المؤمنين، ويوم تتحقق فينا هذه الأوصاف، فإننا سنخرج من دائرة الغربة إلى دائرة الكثرة والشمولية. وفي حديث ثوبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله زوى ـ ضم وجمع ـ لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكها ما زُوي لي منها» (2) فهذا الحديث علم من أعلام النبوة، وإخبار صادق بأن ملك هذه الأمة سيبلغ المشرق والمغرب، وأن الخلافة على منهاج النبوة ستعود، وفيه تحفيز للعاملين للإسلام وتثبيت لهم، وشحذ لعزائمهم إلى العمل البنَّاء الذي تسود فيه الرحمة والمحبة، كما فيه إيقاظ الغافلين، وتحميس المتواكلين، وبعث الأمل في نفوس اليائسين، وقطع الطريق على المتربصين. وفي إطار هذه البشارات الثلاث التي تدل عليها هذه الأحاديث، يمكن أن تُفهم أحاديث الغربة، التي يستعملها أعداء هذا الدين سلاحاً للتأييس، وتثبيط الهمم؛ فعن عبد الله بن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء. قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» (3) .
وعن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم ـ ونحن عنده ـ: «طوبى للغرباء! فقيل: مَنِ الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أناسِ سوءٍ كثيرٍ، من يَعصيهم أكثر ممن يطيعهم» (4) . فهذان الحديثان، فيهما وصف أهل الغربة بأنهم قلة، وأنهم صالحون مصلحون، وأنهم بين كثرة فاسدة، لذلك يعملون للإصلاح، ويحاولون إزالة الفساد؛ وهذا يدل على غيرتهم وتمام قيامهم بواجبهم، فليسوا يائسين مستسلمين، ولا قابعين في بيوتهم، يتأوهون على ما صار إليه الحال من غربة الدين، مسَلِّمين بالأمر الواقع، بل هم على العكس، متحركون، فاعلون، إيجابيون، مواصلون، متشبثون بالدين، منافحون عنه، موسعون لدائرته، متحدُّون لكل العراقيل الموضوعة في طريقهم. قال ابن تيمية ـ شارحاً لهذا الحديث ـ: وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام، جزِع، وكلَّ، وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر، والتوكل، والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ... وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتر بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام كما كان الأمر حين بدأ، وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون في بعض الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريباً (5) ، وقال ابن القيم: «فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً، سُمّوا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع، فيهم غرباء، والداعون إليها، الصابرون على أذى المخالفين، أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم … وغربتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم: {وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم» (1) . وهذا هو الفهم السليم لأحاديث الغربة، لا ما جنح إليه من لم يفقه عن الله ورسوله مرادهما.
ب ـ ما الواجب على العلماء في زمن الغربة أن يفعلوه؟
الواجب على العلماء مما ألزمهم الله به وفرضه عليهم، هو وظيفة الدعوة إلى الله تعالى، والأمرِ بالمعروف بالمعروف، والنهي عن المنكر بلا منكر. قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] .
فهذه الآية تقرر فضيلة الدعوة والدعاة، وأنه لا أحد أفضل عملاً، وأكثر أثراً، وأنفع خلقاً من الدعاة إلى الله، العاملين بالصالحات، المصلحين بالآيات البينات، وهل من فضيلة فوق فضيلة تربية الخلق، ودلهم على الله، وإيصالهم به، وحثهم على ملازمة هديه، وتبصيرهم بطريقه ومنهجه؟ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم» (2) فهذه الفضيلة قد يستقلها من لا يزن الأمور بميزان الشرع، ولا يعقلها بهديه، ويعدُّها مبالغة وترغيباً، لكن لو أمعن النظر لعلم أن كل مهدي ومتعلمِ خيرٍ على يد رجل، فإنه يكتب له أجره في كل ما عمله من خير، دون أن ينقص ذلك من أجره شيئاً، وإذا هُدي أو تَعلَّم على يد ذلك المهدي الأول أحدٌ آخر، فإن أجره يكتب للهادي الأول والثاني، دون أن ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً، وهكذا ما استمرت عملية الهداية تتعاقب في الأجيال.
ولهذا فأجور هذه الأمة المحمدية وحسناتها تكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه الهادي الأول لها، ولا ينقص ذلك من أجر العاملين شيئاً، وهذا يستفاد من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده، كُتِب له مثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعُمل بها بعدَه، كُتِب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء» (3) ويزداد الأجر، وتعظم المثوبة في زمن الغربة، الذي يقلُّ فيه النصير، ويندُر فيه المواخي، ويكثر فيه المخالف، ويَنزُر فيه الموافق، ويشتد فيه الابتلاء، وتعظم المحنة، مما يستدعي مضاعفة جهد الداعية، على واجهات عديدة، كلها مشرعة الأبواب، تنتظر من يلجها ليعالج بالإسلام مشاكلها، ويزيلَ بالوحي عقباتها، ويمهد بذلك السبيلَ للمستضعفين، المغلوبين، لينعموا بنعمة الإسلام، ويتفيؤوا ظلاله، ويستنشقوا عبيره، ويشعروا بنسيمه يدب في أوصالهم، ويتواصلوا بروح جديدة تحيي منهم ما اندثر ـ أو أوشك أن يندثر ـ من معالم الفطرة؛ فطرةِ هذا الدين التي قال الله ـ عز وجل ـ فيها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .
وهذه الفطرة، هي التي ينبغي للدعاة أن يسعوا لإزاحة ما ران عليها من ركام الذنوب، وأوزار الآثام حتى غلَّفتها، ومنعت الحق أن يصل إليها، فلا بد أن تعود إلى حالتها الأولى نقية صافية، ثم تُملأَ بما ينفع من العلم والعمل الصالح، ولا بد من التخلية أولاً ثم التربية ثانياً، وبهما معاً تصل النفوس إلى كمالها المنشود. وهذه العملية ليست بسهلة وميسورة ينجح فيها كل من ينسب نفسه للدعوة، ويحشر أنفه في صف الدعاة، وإنما ينجح فيها من آنس من نفسه الرشد، واتصف بأوصاف: هي شرائط لهذا الأمر، لا ينفذ ولا يتم إلا بها، وهي كالتالي:
العلم: فالداعية في حاجة إلى أن يكون على دراية تامة بما يدعو إليه وبأصناف المدعوين، حتى تنجح دعوته وتؤتي أكلها، وما يدعو إليه الداعية هو الإسلام، فلا بد أن يصل إلى مستوى البصيرة والرسوخ فيه، قال ـ تعالى ـ مبيناً هذا الشرط: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] . فما لم يصل الداعية إلى مستوى البصيرة فيما يدعو إليه، فإنه ـ بلا ريب ـ سيخفق في دعوته.
والبصيرةُ تعني أن يكون متقناً لأصول هذا الدين وفروعه، وما يُتوصل به إلى ذلك من وسائل، وأن يكون مجتهداً نسبياً في ذلك، قادراً على إلحاق المتجددات بمناطاتها التي ترتبط بها، ولا يكفي الداعيةَ أن يتعلم مقداراً ضئيلاً من أحكام هذا الدين، ويعتقد أنه به ينقذ الحيارى والهلكى؛ فالداعية المؤثِّر المقتدر، هو من يتصرف في العلوم المطلوبة، ويقدر على ذلك، لشدة ممارسته لها، وطول عكوفه عليها، حتى أصبحت مَلَكة وسجية له، يستطيع بها أن يوجد لكل نازلة حكمها الشرعي الملائم. وأما من اقتصر على الضروريات التي لا بد من معرفتها، أو أتقن جوانب دون أخرى، فحسبُه أن يقتصر في دعوته على ما يعلمه ولا يتعداه؛ فإن فعل فهو من جملة الدعاة، لكن ليس بالمعنى الذي تقرره الآية، ولا يمكن أبداً أن تستقيم الدعوة ولا أن تنجح، في غياب دعاة وصلوا إلى مرتبة البصيرة في الدين وأحكامه وواقعِه الذي ينزَّل عليه ويعالَج به؛ فهذه الدرجة، ينبغي للأمة أن تهيئ لها جماعات يصلون لهذا المستوى، وإلا ضاع الدين وضاعت الأمة بضياعه، وكما تنفق الدولُ ميزانيات لتكوين أطر علمية مقتدرة في الاقتصاد، والصناعة، والسياسة، وتعتمد آراءهم وتخطيطاتهم؛ فكذلك يجب عليها أن تنفق بالمقدار نفسه أو أكثر منه على تكوين دعاة بصراء بهذا الدين، قادرين على التجديد فيه، والاجتهاد في مضامينه، وفق القواعد والأصول المقررة المسلَّمة؛ وبذلك يكون التجديد في الخطاب والوسائل، مواكباً للتجديد في الأحكام والاجتهاد في النوازل، حتى يحور بذلك إلى الإسلام من بحث عن حلول لمشاكله في غيره، فيستعيد ثقته بدينه، ويعوَّل عليه في حل طوارئه.
وأكبرُ مشكلة تعترض الدعوة، ويلمسها كل مخلص، هو قلة المؤطِّرين الإسلاميين المقتدرين على هضم الثقافة الإسلامية وهضم الواقع الذي تنزل عليه تلك الثقافة. وما دمنا لم نقتل الماضي بحثاً، ولم نستوعب الحاضر فقهاً، فإننا سنبقى نجتر ما كان، دون أن نفقه معناه لنأخذ منه ما يلائم أوضاعنا. والحركةُ الإسلامية ـ مع امتدادها وانتشارها ـ لا بد لها أن تستشعر بإحساس بالغ ضرورةَ التمكن من العلوم الشرعية، وأخذ أصحابها زمام الدعوة ومِقْوَدَها. ولغياب العلماء القادرين عن بعض المواقع، اضطربت بعضُ مفاهيم الدعوة، وتخلخلت فتاوى المتولين لها، واعوجَّ علاجهم لواقع الأمة وأزماتها، وإذا كان الغرب الصليبي الحاقد أدرك إدراكاً كاملاً خطورة الأطر المتخصصة والمدرَّبة بشكل كاف وممتاز ـ فهيأ لهم لذلك مدارس متخصصة وخاصةً بهم، ووضع تحت تصرفهم ما يحتاجون إليه من ماديات ومعنويات ومشجعات ـ فإنه لم يفعل ذلك سدى، ولا تبناه بغير دراسة، ولكنه أدرك جيداً أن التأثيرالسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتحولات التي تشهدها المجتمعات، لا تكون إلا برجال أقوياء، تعرَّفوا على سنن الله في خلقه، وبنوا على تلك السنن ما تؤدي إليه من نتائج، فقَلبوا بذلك الدنيا رأساً على عقب، وتحكموا فيها وفي بشرها وخيراتها من المحيط إلى المحيط، فالمأمول في الدول الإسلامية هو التغيير الجذري، ولن يكون ذلك إلا بالإسلام، والإسلام لا بد له من رجال أوفياء، ولن يكونوا إلا العلماء بهذه الشريعة، وبسنن الله في الكون والأنفس والآفاق، وهم الذين تثق فيهم الأمة، وتسلِّم لهم زمام أمرها؛ لأنهم في مستوى الأحداث التي تجري في العالم. فعالميةُ الرسالة المحمدية تستوجب أن يعم نورُها جميع القارات، حتى يخرج الصالحون المصلحون من دائرة الغربة إلى دائرة الكثرة والسعة، وذلك يحتاج إلى العلم بالله، وبشرع الله، وبسنن الله في دينه وخلقه وشرعه وكونه، والبيوتُ تؤتى من أبوابها. قال ـ تعالى ـ: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] الحكمة (1) : والشرع عند تطبيقه وتنزيله على الوقائع وعلى الناس، لا بد أن تصاحبه الحكمة. ونعني بالحكمة السدادَ في القول والتطبيقِ معاً، والصوابَ فيهما؛ والحكمةُ يدور معناها على هذا، وهي هبة من الله ـ عز وجل ـ يمنحها من يشاء من عباده من جهة، ومن جهة أخرى تُصقَل بالمعاناة والتجربة والخبرة. قال ـ تعالى ـ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وهو ما يسمى إتقان العمل. والمراد بالحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، والإتقانُ يستدعي تبصُّراً وعلماً، فيتوقف مفهوم الحكمة على العلم، فالحكمة تمنع صاحبها من الجهل، والحكم يمنع من الظلم. والحَكَمة تمنع الفرس أن يجمح بصاحبه، والإحكام هو الفصل والتمييز، والفرق، والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه، ولهذا دخل فيه معنى المنع، كما دخل في الحد بالمنع، جزءُ معناه لا جميع معناه (2) .
وهذا المعنى للحكمة، يستمد من الوحي وبه يكون وينمو؛ لأن الوحي كله حكمة، وهو حكمة الله للأولين والآخرين. قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2] فوظيفةُ النبوة التعليم والتربية، ولا فلاح إلا بهما، وأي أمة لم تصل مناهجها التعليمية إلى مستوى التزكية، فهي أمة ميتة، ميؤوس منها، والحكمة يتجلى عنصُرها جيداً ويصبح ضرورياً عند التطبيق والتنزيل؛ فكم من قيلٍ هو حق في ذاته، لكنه لما أسيء فهمه عند التطبيق، ووضع غير مواضعه، اشمأز الناس منه ونفَروا، وابتعدوا عنه وتفرقوا، وهو حق يحمل في طياته جميع عناصرالحقيقة، ولهذا المعنى يشير قوله ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ؛ فالمَواطن التي تتطَلب فيها الأناة، لا ينبغي فيها العجلة، ومواطن الرفق واللين لا تجوز فيها الخشونة، ومَواطن القوة لا يجوز إظهار الضعف فيها؛ فكل مدعو يعامَل بأسلوب يناسبه، وهذا هو غاية الحكمة التي أمر الله بها في الدعوة.
ولما سوَّى بعض الناس بين المقامات كلها، وخلطوا هذه بتلك، كانت النتائج سيئة أحياناً، ومسيئة للإسلام أحايين، ومدمِّرة تارات أخرى، فانقلبت النتيجة إلى ضدها، وانعكس القصد، وضاعت الجهود، وانحصرت الدعوة في متاهات لا يعلم مداها إلا الله عز وجل؛ فكم من حق أسيء استخدامُه، فأصبح في نظر الناس غُولاً يُتقى ويحارَب؛ فمن المسؤول عن هذه الوضعية المزرية؟ إنه من يتصدى للدعوة، وهو خالٍ من علم الدعوة، ومن انتصب لنشرها، وهو لا يملك من أساليبها وحكمتها شيئاً، ولا يعلم عنهما قطميراً ولا نقيراً؛ ولا ريب أن من كان هكذا، فهو آثم شرعاً، متحمل وزر من تنكروا للحق وجحدوه؛ لأنه هو الذي قدمه لهم في صورة الباطل، فنفروا منه، وكل من كان كذلك، فهو مشمول بقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة: «ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (1) .
فهذه الأدلة مفيدة أن المتسبِّب في الشيء، يؤخذ بمسبَّبه، ويُسأل عنه، وإن كانت نيته صالحة مع الجهل؛ لأن النية الصالحة لا تشفع للجاهل، ولا ترفع عنه حكم ما تسبب فيه، وإنما تخفف عنه الحكم أحياناً، ولكنها لا تدفعه بالكلية. وهذه الحقيقة لا يعيها كثير من الدعاة إلى الإسلام بدون علم ولا حكمة، وإنما يدفعهم الحماسُ الزائد للدعوة، بحجة أن العلماء المكوَّنين ليسوا بموجودين الآن، وإذا وُجدوا لا يتحركون ولا يعملون، فيجب أن نعمل نحن، وننشر ما نعلم، وغاب عن أصحاب هذه المقالة أن المشروط يفقد بفقدان شرطه، فما داموا يعترفون بأنهم ليسوا من أهل العلم؛ فالواجب عليهم أن يتركوا الدعوة لأهل العلم إذا وجدوا، ويحمِّلوهم مسؤوليتهم أمام الله عز وجل، وإذا لم يوجَدوا فعليهم أن يسعوا في إيجادهم وتكوينهم من منطلق فقه: توقُّف المشروط على وجود شرطه.
ثم هم ليسوا كلهم صادقين في أنهم يدعون لما يعلمون فحسب، فجلُّهم يتجاوز ما علمه إلى ما لا يعلمه؛ فكم من واحد نعرفه يدغدغ العواطف في بداية اتصاله بالدعوة بأنه واقف عند ما علمه، ثم لا يلبث أن يتصدر ويُستفتَى، فيستنكف أن يقول: لا أعلم، فيفتي ويقضي فيما أحجم أهل بدر أن يقضوا فيه، وينصب نفسه مصدراً في كل علم، فيَضل بذلك ويُضل، ويدخل في عداد من قال فيهم المعصوم -صلى الله عليه وسلم- من حديث عمرو بن العاص: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» (2) .
والجدير بالذكر أن غربة الدين، يكون هذا السبب أحدَ أسبابها؛ لأنه يتضمن أن يتكلم في علوم الوحي من لا يحسنها، فيقدمها بذلك في حلة باهتة، لا تجلب رغبة، ولا تثير حماساً، ولا تشحذ عزيمة، ولا تنبه الغافلين، ولا تؤُزُّ المعادين ولا تزعجهم، فينشأ عن ذلك الإعراض الكلي، الذي تنشأ عنه غربةُ الإسلام وأهله المتمسكين به، ويسبب لهم وحشة بين أقوامهم. صحيح أن الإسلام ليس حكراًً على أحد، وليس بمحرم على من لم يتخصص في علومه أن يتكلم فيه؛ لأنه رسالة الله للعالمين من الجن والإنس، ولكن ما ليس بصحيح، هو أن يتكلم الإنسان فيما لا يعلمه من دقائق هذا الدين وعلومه؛ والكلام فيه لا بد أن يكون بعلم؛ فمن تكلم في حدود ما يعلمه، وأحال على غيره فيما لا يعلمه، فلا أحد يلومه؛ فلو كان بعض الناس قد التزم بهذا المبدأ لأراح واستراح، ولم يكن سبباً في ضلال أحد؛ ولا في تحريف فهم أحد؛ فهذا القياس لا اعتراض على أحد أن يتكلم وأن يناقش فيه؛ لأن ضروريات هذا الدين لازمة لكل أحد، مفروض عليه علمها والسؤال عنها، فهي مِلك مشاع لجميع البشر؛ ولهذا لا يفترض أن يوجد في ديار المسلمين من يجهل ضرورياته، ولكن يفترض أن عامة الناس ليسوا في مستوى التنظير والاجتهاد والاستنباط؛ فإذا تكلم هؤلاء في هذه الدقائق، فقد ضلوا وأضلوا، والإسلام لا يرغب في ضلالهم ولا إضلالهم؛ فكما لا يوجد عندنا في الواقع طبيب يتكلم في غوامض الطب دون أن يتخصص في ذلك حتى عُرِف تأهلُه فيه، واشتهر فيه علمُه ومعرفته، فكذلك علوم الدين الدقيقة، لا بد أن يكون من يتكلم فيها عالماً بها، متخصصاً فيها؛ فكما ينكر الناس تلقائياً على الأول ويتنكرون له ولا يتطببون عنده؛ فكذلك ينبغي أن يفعلوه مع هذا الثاني، بأن لا يثقوا في علمه، ولا يعتمدوا فتواه، ولا يُكْبِروا أمره، لكن الذي وقع، هو أن الناس منسجمون مع فطرهم وواقعهم في الأول دون الثاني؛ فلن تجد أحداً يأتي غير الطبيب الحقيقي إلا نادراً، ولكن تجد الناس بالآلاف يستفتون من لم يتأهل للفتوى، ويعتبرون العالم من عَطِلَ عن حلية العلم؛ فنشأ عن ذلك ما نلاحظه من رقة التدين، وقلة الحماس لعلوم الدين.
الحِلْم: ومع العلم والحكمة، فلا بد من الحلم؛ فموقع الحلم من الدعوة، موقع العضد من الكتف. والحِلْم يعني ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب (3) ، وهو صفة كمال، وليس بصفة نقص، ولذا سمى الله ـ تعالى ـ نفسه حليماً، فقال: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] . وحِلمُه ـ تعالى ـ أنه يعفو عن عباده ويصفح عنهم، ويتجاوز عن عصيانهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، وجعَل لكل شيء نهاية وقدراً ينتهي إليه.
والداعيةُ في حاجة لخلُق الحلم والأناة؛ فبالحلم يقبل من الجاهل، ويعذر المخطئ، ويتحمل الإساءة، وهذا يجعل الخلق مقبلين عليه، راغبين في دعوته، لما يرونه في سلوكه من الأناة، وكظم الغيظ، والصبر على الأذى؛ فالحلم للدعوة، كالإدام للطعام؛ فكما لا يستساغ الطعام إلا بتأديمه، فكذلك الدعوة لا تستساغ إلا بحِلم، ولا ينبغي أن يغفل الداعية أن الحلم لا ينبغي أن يزداد عن حده، ولا أن ينقص عنه؛ لأنه خصلة حميدة بين رذيلتين: رذيلةِ الغضب بسرعة والانفعالِ الاندفاعي الذي يستجيب للنزغات بلا تبصر ولا روية، ورذيلةِ الذلة والبلادة والرضا بالظلم وهضم الحقوق.
والحِلمُ هو العفو عمن يستحق مع المقدرة، والصبر مع من يعترف به، وليس عجزاً ولا غفلة، ولا غباء كما يعتقد بعض، والأناةُ واجهة من واجهات الحلم، وهو تدبرُ الأمور، والنظرُ في مآلاتها وعواقبها، ثم التحركُ لعلاجها وفق ما تتطلبه عواقبها، من حسم، أو إغضاء. ولو كان الحلم إنساناً يمشي على قدميه، ما كان إلا محبوباً عند الناس كلهم، مرغوباً في مجالسته ومعاشرته؛ فلو لم يكن في الحلم إلا عواقبُه الحميدة، لكان محل إجماع على احتياج الناس إليه؛ فما بالك إذا كانت نتائجه وخصاله عديدة.
وأحق من يحتاج إلى الحِلم، الداعية في دعوته، فلا شك أنه يواجه المشكلات وتواجهه، ويصادف التحديات وتعترضه، فلا أمل في أن يتغلب عليها في جل أحواله إلا بالحلم والأناة؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشجّ عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة» (1) .
وكثيرٌ من المواقع التي يمارَس فيها التشنج، والغلظة، وعدمُ الأناة، وقلةُ الصبر، تراجعت فيها الدعوة، وهانت فيها كلمة الحق؛ لأن النفوس التي تحملها لم تَتربَّ على هذا الخلق الرفيع، وقد لا تعرف إلا التشدد مسلكاً، والتيئيس شعاراً، والتعنت أسلوباً، والإعجابَ برأيها منهجاً متبعاً، لذلك ترى مثل هذه النفوس الهزائمَ انتصاراً، والانتكاسات تقدماً، فانقلبت حقيقة الدعوة إلى سوق من البغضاء، والفرقة، والجدال حول أمور ما وُضعت مواضعهاالحقة لتظهر نصاعتها وأحقيتها، مع العلم أن الرفق، من أعظم الأعمدة التي بنى عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوته، ووصل به إلى الانتصارات الباهرة في فتح مغاليق النفوس، قبل الانتصار على أعداء هذا الدين. قال ـ تعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
فانظر إلى تقرير القرآن أن خُلُق اللِّين والحِلم، هبة ورحمة من الله لعباده، وأن خلق الفظاظة والغلظة، ينفِّر الناس، ويبعدهم عن الداعية، ويفرقهم من حوله. فما أحوجنا أن نحذو حذو المواقف النبوية في تطبيقات هذا الخُلُق الفريد. عن أنس بن مالك قال: «كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك، ثم أمر له بعطاء (2) . الله أكبر؛ إنه كمال النفس في كمال خُلُق يتحمل الأذى، ويتجاوز عن المسيء، ولا يقابله بمثل فعله؛ فهذه الأخلاق الرفيعة، هي التي أثرت في الأعراب ذوي الطبائع الشرسة، والأخلاق الشكسة، فأذعنوا للحقيقة وأسلموا وجوههم لله وحده.
فما أحوج الدعاة في زمن الغربة، التي كثر فيها الأذى والقذى، أن يستلهموا مواقف دعوتهم من سيرة سيد العرب والعجم، ولهذا فالقوة لا تقاس بقوة الجسم، وإنما تقاس بقوة النفس على التحمل، وكظم الغيظ، وعدم مقابلة السيئة بمثلها، وشاهد هذا حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (3) . ولما طلب رجل من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوصيه بأعلى خصلة حسنة يتصف بها المرء، قال له: «لا تغضب» (4) لأن الغضب خلُقٌ مدمر للمروءة، مفسد للعمل، مبعد للناس عن صاحبه، موصِد لأبواب التواصل الذي هو أحوج ما يحتاج إليه في زمن الغربة لإزالة الغربة، وإن لم يكن في الغضب من السوء إلا تغيُّرُ الملامح، وانتفاخ الأوداج، لكان يليق بعاقل عادي أن يتركه، فما بالك إذا كان داعية متصدراً لهداية الناس وإرشادهم. جعلنا الله ـ تعالى ـ ممن تخلَّق وتحمَّل، وعمل لدينه وأمته وما توانى، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة/1523/23/3 وأخرجه البخاري في كتاب الاعتصام من حديث المغيرة بن شعبة. ح 7311.
(1) حديث صحيح: أخرجه أحمد في المسند 103/4 والحاكم 4/430 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وله شاهد عن المقداد بن الأسود عند ابن حبان 6699.
(2) رواه مسلم في الفتن 4/2251/3.
(3) أخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن 1/66، بإسناد صحيح.
(4) أخرجه أحمد 222/177/2، والطبراني في الكبير ـ كما في الجامع 10/259، وقال: وله في الكبير أسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح، قلت: وصححه الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ في المسند.
(5) مجموع الفتاوى 291 ـ 503/18.
(1) مدارج السالكين 3/195، 196.
(2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، حديث 3701، ومسلم كذلك 4/1872.
(3) أخرجه مسلم في العلم 4/2061، 2062.
(1) المفردات للراغب الأصفهاني ـ مادة حكم 127.
(2) مجموعة الرسائل لابن تيمية 2/7.
(1) أخرجه مسلم.
(2) أخرجه البخاري في العلم - بالفتح - 4/2085/ ومسلم في كتاب العلم 1/234/ وروى أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة أن ذلك كان في حجة الوداع.
(3) مفردات الراغب: ص 129.
(1) أخرجه 1/48 - مسلم في الإيمان.
(2) أخرجه البخاري - بالفتح - في الخمس 6/251.
(3) أخرجه البخاري - بالفتح - الأدب - 4/2014 ومسلم 10/518.
(4) مسلم 10/518.(221/5)
خبط عشواء..
أم تقدير حكيم؟
أ. د. جعفر شيخ إدريس
في العشرين من ديسمبر من السنة الماضية أصدر قاضٍ أمريكي بولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة حكما بأن تدريس النظرية المسماة التصميم الذكي (1) في المدارس الحكومية (وهي نظرية معارضة لنظرية التطور) أمر مخالف للدستور. وكان السبب الذي علل به حكمه هو أن النظرية نظرية دينية لا علمية؛ لأنها تشير إلى الخالق.
ماذا تقول هذه النظرية؟ وعلامَ يدل هذا الحكم؟ ثم ما العلاقة بين الداروينية والمعتقدات الدينية؟
هذا ما سنعرض له بإيجاز في هذا المقال.
أما النظرية فإن أكثر من اشتهر بها من علماء الأحياء في الأيام الأخيرة، ودافع عنها دفاعاً علمياً أقر به خصومه، هوMichael Behe الأستاذ في علم الأحياء الكيماوية في كتاب له صدر في عام 96 بعنوان (صندوق دارْوِن الأسود: التحدي الأحيائي الكيماوي للتطور) (2) .
قال المؤلف في كتابه هذا إن الأحياء الدقيقة مثل الخلية كانت بالنسبة لدارْوِن أمراً مجهولاً ـ صندوقاً أسود لا تعرف محتوياته، وأن نظريته لا تفسر أشياء مهمة مثل الخلية التي هي أساس الكائنات الحية. وكانت حجته الجوهرية أن تركيب هذه الكائنات يدل على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت، وأنها صممت منذ البداية لتؤدي وظيفتها، وأنه لا بد أن يكون قد صممها مصمم حكيم (3) .
وذكر في كتابه بأن دارْوِن نفسه كان قد قال إنه إذا أمكن أن يقام دليل على وجود كائن حي مركب ما كان من الممكن أن يتكون من تغيرات كثيرة طفيفة متتالية، فإن نظريتي ستنهار انهياراً كاملاً (4) . ما طبيعة هذا الكائن الأحيائي الذي تنطبق عليه هذه الصفات؟ يقول المؤلف بإيجاز: إنه النظام المكون من أجزاء متفاعلة متوائمة يسهم كل منها في الوظيفة الأساسية للنظام، بحيث إنه لو أزيل واحد منها توقف النظام عن العمل. إذا وجد نظام أحيائي بهذه المثابة فإنه سيمثل تحدياً عظيماً للداروينية؛ لأن الاختيار الطبيعي إنما يعمل على كائنات فاعلة، ومثل هذا الكائن لا يفعل، لا يؤدي وظيفته إلا إذا اكتمل تركيب أجزائه كلها.
وأعطى في مقدمة كتابه فكرة مبسطة لمفهوم التركيب المعقد الذي ليست له أجزاء بسيطة. ضرب المؤلف مثلاً لنوع هذا التركيب بشَرَك اصطياد الفئران. هذا الشَّرَك مركب من خمسة أجزاء لا يعد أي منها شركاً في مرحلة بدائية؛ فالقاعدة الخشبية مثلاً لا تؤدي وحدها أي وظيفة من وظائف الشرك، وكذلك الحال بالنسبة للزنبرك وسائر الأجزاء. إن هذه الأجزاء لا تكون شَرَكاً إلا بتركيبها هذا التركيب المعين الذي قصد منه أن يجعل منها شركاً.
أما الكائنات التي يمكن أن تتطور والتي اعتمد عليها دارون في نظريته؛ فإن كل مكون من مكوناتها يمثل طوراً من أطوار تطورها، ويؤدي شيئاً من وظيفتها وإن كان بدائياً. ومهمة النظرية الداروينية هي أن تفسر لنا الطريقة التي ينتقل بها هذا الكائن من طور إلى طور بما أسماه الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعي.
فالكائنات التي يمكن أن تصلح لتفسيرها نظرية دارون هي كائنات من هذا النوع الذي يمكن أن يتطور. أما الذي لا تنطبق عليه هذه الصفة، والذي لا تكون أجزاؤه مرحلة من مراحل نموه كالشَّرَك، فإن النظرية لا يمكن أن تفسره، بل إن تركيبه ليدل على أنه جاء نتيجة تقدير لموجد حكيم.
لم يكتف المؤلف بهذا بل أضاف إلى أن مما يثبت قوله بأن نظرية دارون لا تستطيع تفسير مثل هذه الكائنات الجزيئية أن أحداً لم يستطع حتى الآن أن يفسرها بها. فمن بين آلاف البحوث التي كتبت في موضوع الكيمياء الحيوية، لم تكتب إلا ثلاثة بحوث في هذا الموضوع، ولم ينجح واحد منها في تطبيق الداروينية عليها.
يبدو من هذا الكلام أن صاحب نظرية التصميم الذكي قد زعم أنه يعتمد في دعواه على حقائق حسية، واستنتاج عقلاني. فعلى الذين يخالفونه أن يبينوا زيف ما قال بحجج مماثلة. وقد حاول بعضهم أن يفعل هذا.
وقد استمع القاضي إلى شهود من أمثال هؤلاء انتقدوا النظرية على أساس علمي. لكن القاضي لم يعتمد في حكمه على مثل هذه الشهادة، بل اعتمد على أيدلجية مادية إلحادية شاعت في عصرنا حتى صارت جزءاً من مفهوم العلم. فحوى هذه الأيدلجية هو أن الكون الطبيعي كون مكتفٍ بنفسه؛ فالتفسير العلمي لما يحدث فيه يجب أن يكون بأسباب من داخله، وأن كل إشارة إلى سبب فوق الطبيعة، كتعليل الحوادث بقدرة الله ـ تعالى ـ تعليل غير علمي. وقد عبر أحد الشهود، وهو أستاذ مختص بفلسفة العلوم عن هذا الرأي؛ إذ قرر أنه بما أن القضية الأساس لنظرية التصميم هي أن معالم العالم الطبيعي أحدثها كائن متعال غير مادي وغير طبيعي؛ فإن نظرية التصميم هي قضية دينية بغض النظر عن كونها سميت بهذا أو لم تسمَّ (1) .
أنا لم أستغرب حجة القاضي هذه؛ لأن هذا هو المفهوم الشائع للعلم، وهو مفهوم فلسفي واعتقادي غالط لا علاقة له بالعلوم، كما كان بعضنا قد قال ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وبنوا عليه الدعوة إلى ما سمي آنذاك بأسلمة العلوم. ولم يكن القصد من الدعوة إلى الأسلمة أن نغير الحقائق العلمية كما ظن بعض من اعترضوا على الفكرة؛ لأن ديننا يقوم على الحق، فلا يحتاج إلى تغيير حقيقة مهما كان نوعها. هو أن توضع الحقائق كلها الطبيعية والاجتماعية والنفسية في إطار إيماني بدلاً من الإطار المادي الإلحادي الذي توضع فيه الآن، والذي يؤدي إلى جعل الدين بالضرورة أمراً مخالفاً للعلم الطبيعي.
- الدارونية ووجود الخالق:
لو أن كل الوقائع التي اعتمد عليها دارون في نظريته كانت صحيحة، ولو أن كل العلاقات السببية الطبيعية التي فسر بها تطور الكائنات الحية كانت أيضاً صحيحة، لم يكن في هذا كله ما يدل على عدم وجود الخالق، أو الاستغناء عنه. فالقول بالإلحاد ـ هو كما قلت ـ اعتقاد لا علاقة له بالعلم، ويمكن لذلك أن يضاف إلى كل نظرية علمية. فكلما اكتشف العلماء سبباً طبيعياً لظاهرة من الظواهر الكونية عزوا سببها إلى ذلك السبب الطبيعي، وزعموا أنه يغني عن القول بوجود خالق، هذا اعتقاد قديم وليس من العلم الحديث في شيء. فالذين روى الله لنا قولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] كانوا يعتقدون مثل هذا الاعتقاد، والذين فسروا التاريخ بقولهم: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] كانوا أيضاً منكرين لوجود الخالق معتقدين أنه ليس وراء حوادث الكون مدبر وأنها تقع خبط عشواء.
أما المؤمنون فإنهم لا ينكرون فاعلية الأسباب الطبيعية، أو المقدرات البشرية. هل رأيت مؤمناً ينكر أن الطعام يغذي، والماء يروي، والدواء يشفي؟ لكنهم مع اعتقادهم بفاعلية الأسباب إلا أنهم مؤمنون بأن لها خالقاً هو الذي جعلها أسباباً، وأنه لا تنافي بين فاعلية الله وفاعلية الأسباب الطبيعية أو فاعلية الإرادة البشرية؛ لأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق الأسباب وجعلها أسباباً، ولأنه ـ سبحانه ـ من عادته أن يفعل بالأسباب كما كان علماؤنا يقولون.
نعود إلى نظرية دارون فنقول:
1 ـ إنها تبدأ بالتسليم بحقائق لا تفسرها، لكنها تعتمد عليها. فهي تبدأ بأن هنالك كائنات حية، وأن هذه الكائنات تتكاثر بالتناسل، وأن المولود يرث بعض خصائص الآباء، وأنه لا يوجد كائنان حيان متماثلات تماثلاً كاملاً في صفاتهما. وإذا كانت لا تفسر وجود هذه الحقائق فأنى لها أن تنفي أن لها خالقاً؟
2 ـ تفترض النظرية أن للكائنات الحية كلها أصلاً واحداً تكاثرت عنه.
3 ـ مهمة النظرية هي أن تفسر هذا التكاثر، أي أن تبحث عن الأسباب الطبيعية التي تجعله ممكناً وبهذه المثابة التي نشاهدها.
4 ـ تقرر النظرية حقيقة مشهودة هي أن الموارد الطبيعية التي تعتمد عليها الكائنات الحية في وجودها محدودة، ولذلك لا يمكن أن تتكاثر تكاثراً لا يحده شيء، بل لا بد أن ينقرض بعضها ويبقى بعضها.
5 ـ تقول النظرية إن «الميكانزم» الذي يجعل هذا ممكناً هو ما أسماه دارون بالانتخاب الطبيعي. أي أن الطبيعة تنتخب بعض الكائنات للبقاء، وتحكم على بعضها بالفناء. لكن عبارة الانتخاب الطبيعي ليست عبارة علمية؛ إذ إنها تعني أن هنالك شيئاً اسمه الطبيعة هو الذي ينتخب، والانتخاب فعل إرادي؛ ولذلك قال دارون إن غيره أسمى هذه العملية بالبقاء للأصلح، ولم يعترض عليه.
6 ـ فحوى الفكرة التي سميت خطأ بالانتخاب الطبيعي هي أن هنالك علاقة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها. والمقصود بالبيئة كل سبب خارجي يؤثر في حياتها؛ فهي تشمل وجود حيوانات أخرى، كما تشمل المناطق الجغرافية والأحوال المناخية، وغير ذلك. وبما أن الكائنات الحية حتى التي تنتمي إلى مجموعة واحدة كالكلاب مثلاً أو الأرانب، لها صفات مختلفة، فإن ما كانت صفاته مُعِينةً له على العيش في البيئة المعينة التي وجد فيها، كانت فرصته في البقاء أحسن من فرصة من كانت بعض صفاته غير مناسبة مع بيئته. فالحوانات والنباتات تختلف في ألوانها مثلاً؛ فقد يكون لونٌ ما كالبياض مثلاً مناسباً مع بيئة معينة وغير مناسب مع بيئة أخرى، أعني من حيث فرص البقاء أو الفناء. ضرب أحدهم مثلاً بأنه إذا كانت هنالك أرانب برية في الاسكيمو وكان بعضها أبيض اللون وبعضها بنياً، وكان هنالك مصطادون للأرانب، فإنه سيكون من السهل عليهم رؤية الأرانب البنية، وعليه فإن عددها سيقل وربما انقرض إذا استمر الصيد.
إن إنساناً مؤمناً قد يوافق دارون على كل هذا، ويرى فيه تفسيراً طبيعياً لظاهرة بقاء بعض الحيوانات وانقراض بعضها، بل ولتطورها، ولا يرى فيه ما يتناقض مع إيمانه بالخالق، بل يقول: إنه كما أن الله ـ تعالى ـ جعل النار وسيلة للإحراق، والماء وسيلة للإنبات، فقد جعل هذه أسباباً لتطور الحيوانات.
7 ـ حتى القول بأن للحيوان كله أصلاً واحداً نما عنه وتكاثر، ليس فيه ـ سواء كان حقاً أو باطلاً ـ ما يتناقض مع وجود الخالق وفاعليته.
8 ـ إن فكرة التطور التي رأى فيها بعض أهل الأديان غير الإسلامية ما يتناقض مع تصورهم للخلق، لا تتناقض مع التصور الإسلامي له. وذلك لأن الخلق عندنا ليس أمراً يحدث مرة واحدة كما صورته تلك المعتقدات. إن الخلق في التصور الإسلامي أمر مستمر، فما من حادث يحدث في الكون إلا بمشيئة الله ـ تعالى ـ وقدرته. فالله ـ تعالى ـ خالق كل شيء. فكل مرحلة من مراحل تطور الجنين في بطن أمه مثلاً هي من خلق الله تعالى.
9 ـ الذي يتناقض مع الإسلام في الداروينية هو القول بأن البشر تطوروا عن حيوانات قبلهم. إن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يفعل هذا، لكنه أخبرنا بأنه كرم الإنسان فخلقه خلقاً خاصاً، ولم يجعله متطوراً عن حيوان قبله. وقد اعترف بعض من يسمون بالداروينيين الجدد بأن هنالك خطاً فاصلاً بين الإنسان وما سبقه من حيوان، وأن هنالك خصائص إنسانية لا يمكن ردها إلى أصول حيوانية سابقة للإنسان.
لكن القول بخصوصية الإنسان لا يعني أنه مختلف في كل شيء عن سائر الحيوان، ولا يعني اتفاقه معها في بعض الخصائص أنه تطور عنها. بل إن الذي خلقه هو خالق الحيوانات قبله، وهو الذي جعل بينها وبينه شبهاً. ألا ترى أن صانع السيارات ـ ولله المثل الأعلى ـ يمكن أن يصنع سيارة تمتاز عما سبقها من سيارات، لكنها تشابهها في بعض صفاتها؟
دلالة التصميم على وجود الخالق:
الأدلة على أن للكون خالقاً كثيرة؛ لكن من أشهرها ما يسمى بالدليل الكوني ودليل العناية. أما الدليل الكوني ففحواه أن الشيء الحادث لا يمكن أن يخلق نفسه ولا أن يأتي من العدم، بل لا بد أن يكون له صانع من غير نفسه، وأن هذا الصانع لا بد أن يكون غير حادث. المنكرون لوجود الخالق لا يستطيعون أن يفسروا وجود الكائنات الحادثة إلا بأن يقعوا في أحد الخيارين المستحيلين: إما أن يقولوا إن الشيء خلق نفسه، أو يقولوا إنه جاء من العدم.
أما دليل العناية الذي اعتمد عليه صاحب كتاب (الصندوق الأسود) فدليل قديم ومعروف، فحواه أن في الكون تصميماً يدل على أنه لا يمكن أن يكون خبط عشواء وإنما هو تقدير خالق حكيم. هذا التصميم أمر يدركه كل متفكر في الكون وليس قاصراً على الأمثلة التي استدل بها صاحب الكتاب. إن هنالك شمساً، وهنالك بحراً، وهنالك سحاباً، وهنالك أرضاً، وهنالك بشراً، وهنالك حيوانات يقول لك الدليل الكوني إنه لا بد أن يكون لها خالق أزلي، ويقول لك دليل العناية إن هذه المخلوقات منسقة بحيث تؤدي إلى غايات لا يمكن أن تكون قد جاءت بالمصادفة. فالشمس تسطع على البحر فيرتفع منه بخار يتحول إلى ماء تسوقه رياح ينزل على أرض خصيبة تنبت نباتاً يأكله بشر وتأكله حيوانات يكون بعضها غذاء لبعض. المنكرون لوجود الخالق من أمثال بعض الدارونيين يعترفون بهذا لكنهم يصرون على انه جاء مصادفة ولم يأت عن تدبير. ويغلو بعضهم في هذا إلى درجة سخيفة. من ذلك أن عالم دين نصراني اسمه (بالي) كان قد كتب كتاباً نقد فيه فكرة المصادفة وقال: إن وجود هذا التصميم في الكون بالمصادفة كساعة يصنعها صانع أعمى. فكتب رجل من أكبر دعاة الإلحاد الدارويني في أيامنا كتاباً أسماه (صانع الساعات الأعمى) يدافع فيه عن فكرة المصادفة ويزعم فيه أنه وإن كان الكون مصمماً كالساعة فإن تصميمه جاء بالمصادفة فهو كساعة صنعها صانع أعمى!
كتاب الله ـ تعالى ـ مليء بتوجيه الأنظار إلى هذا التصميم الذي يشهد لصانعه بالحكمة والإرادة بل والرحمة بعباده. في مثل هذا التذكير لا يلفت القرآن الكريم الأنظار إلى عجيب صنعه في المخلوق الواحد، وإنما يدعو إلى النظر في العلاقة بين عدة مخلوقات، وكيف أنها علاقة تؤدي إلى نتائج معينة هي في مصلحة الإنسان. من ذلك قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) ترجمة لعبارة intelligent design وهي ترجمة غير صحيحة؛ لأن كلمة ذكي العربية لا يوصف بها الله تعالى، لكنه يوصف بكلمة intelligent في اللغة الانجليزية؛ لأن الكلمة لا تعني الذكاء فقط،بل تعني المقدرة على العلم. لذلك أرى أن تترجم بعبارة تصميم خبير أو حكيم.
(2) Michael J. Behe, Darwin's Black Box: The Biological Challenge to Evolution, The Free Press, 1996
(3) استعمل هو كلمةintelligent وهي كلمة لها معان منها ذكي، ولكننا لا نصف الله تعالى بهذه الصفة وإنما نصف بها البشر وأما الله تعالى فيوصف بالحكمة. لذلك أرى أن الترجمة العربية المناسبة للعبارة هي التقدير المحكم، أو تقدير حكيم.
(4) ص 39.(221/6)
البيان الادبي ـ ولادة الصبح
بدر محمد عيد الحسين
سُكونٌ ووجومٌ يلفان أفق الكون بمائه ويابسه، وشبحُ الظلام يقترب من الأشياء، ويلامسها، ويتغلغل فيها، ويزداد سواداً فتتحدُ طبقاته، وتتماسك خيوطه ليسدل ستارة سميكة على الكون، إنه ملعب الليل حيث يصول ويجول، إنها النشوة والذروة.
ومن بين ذلك الركام طفق الجنين الصغير ـ على قلة عزمه وضعف حاله ـ يتململ في رحم الكون ليطرد ما غشيه ببطء شديد.
أجنحة الفارس بدأت تضعف، وخيوط الظلام ها هي تنجابُ عن جبهة الوليد المنيرة، وها هي امتدادات العتم بدأت بالانكماش.
في خضم هذ المخاض المتداخل يتجرأُ ضياء الصبح فينسلُّ من غِمد الليل، وتصيح الديكة معلنة بدء الولادة، وتخرق المآذن جدران الصمت، فيستأنس الجنين ويتشجعُ ويصرخ ويتنفس تنفساً ينشر الضياء والعبير إلى أعالي الرُُّبا، وإلى دروب الحقول وأعشاش الطيور.
إنها ولادة الصبح المنير ... إنها ساعة من السَّحَر والتأمل ما أروعها! ساعة عذراء يكَلِّلُها الطُّهر، ويلفها الصفاء، ويزينها النقاء.
ساعةٌ هي أشبه ما تكون بلقاء الأحبة؛ حيث يغازل الصبح فيها أزهار الياسمين فتتفتحُ، وأكوام القش فتلين، وسنابل القمح المثقلة بحباتها، وأوراق الأغصان فتطربُ وتتمايل.
إنه جمال رباني صاغه الخالق عز وجل، جمالٌ تتحرك لأجله الشمس من مكانها فتشرقُ، وتُثار الطيور من وكناتها فتنطلق، وينسابُ الظلُّ من رقاده فيمتدُّ.
إطلالة يتحول فيها الشذا إلى ندى، والرياح إلى صَبا، والبراعم إلى زهور، والهواء إلى عطر تعجز أن تأتي بمثله مصانع الغرب وأشجار بخور الشرق. ذلك العطر خضَّبتهُ تراتيل الأذان، وهمسات الإيمان، وتدفُّق مياه الغدران. عطر يعرفه المشَّاؤون في الظلمات، والفلاحون في الربوات.
هذا الصباح هو اليسر والفرج، هو الرحمة والرضا. فمهما طال ليلك يا أيها المهموم! فلا بد من أن يأتي الصباح الندي ببشائر الخير.
ومهما تأخر شفاؤك يا أيها المريض فاعلم أن كف الرحمة تحمله إليك فلا تتعجل ـ يا أخي ـ مجيءَ الفرج وقدوم البشائر؛ لأن الله عادل ورحيم.
وثق أنه جل جلاله لن يحرمك من ساعة فرح تغسل شحوب الحزن، وركام الألم، وتحوِّل الدموع الساخنة التي ألهبت صفحات خديك إلى قطرات غيث تُنبتُ الكلأ في رياض نفسك، ليتحول خريف قلبك إلى ربيع ينشر الفرح والجمال على امتداد خريطة روحك الزكية.
واعلم يا من أدار ظهره للأمل! أن مع العسر يسرين، واعلم أن أعذب المياه تلك التي تنبجس من أصلب الحجارة.
ورحم الله الشاعر الذي قال:
ما بين غمضةِ عين وانتباهتها يُغيِّرُ الله من حالٍ إلى حالِ
والآخر الذي قال:
فلا الغيمُ يبقى طوال الفصول ولا البدر دوماً ينير الفضاء
فبالصبر كنت أداوي الجروح وبالأمل العذب أخفي البكاء (1)
فالصبر دَأْب الحكماء، وديدن الأنبياء. والأناةُ مركبُ العقلاء، وسبيل الحُصَفاء (2) وعدم الشكوى لغير الله منهجُ الأتقياء، والتسليم لله خير سلوان، وراحةٌ للأبدان. إن مع
__________
(1) هذان البيتان من الشعر لكاتب المقال.
(2) حصفاء: جمع حصيف أي متزن وسديد الرأي.(221/7)
التمتع بالموجود
د. عبد الكريم بكار
كثير من الناس لا يعرفون كيف يكون التصرف الأمثل تجاه طموحاتهم ومرغوباتهم؛ فهي مصدر إرباك حقيقي لوعيهم، بل مصدر لشعورهم بالشقاء والحرمان. ومصدر هذه الوضعية هو أن كل أحوالنا وأوضاعنا وكل ما نتطلع إليه، ونرجوه يحتمل الرؤية المتعددة والاعتبارات المتباينة؛ حيث إن في إمكان كثير ممن نغبطهم على ما هم فيه من نعمة أن يشعروا بالحاجة إلى أشياء كثيرة، كما أن كثيراً منهم يضبط غيره، ويحسده على ما يظن أنه محروم من مثله. ومن هنا جاء التوجيه لنا أن نمارس نوعاً من إدارة الإدراك والسعي إلى القيام بمقارنة تجلب لنا الرضا والطمأنينة على نحو ما نجده في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا نظر أحدكم إلى مَنْ فُضِّل عليه في المال والخَلْق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه» (1) . إذا نظرنا إلى من هم فوقنا في أمور الدنيا، فلن نحصد سوى الحسرة، وسنزدري نعمة الله علينا من خلال الشعور بالنقص، ويا حبذا أن ننظر إلى من هم فوقنا في التقوى وشدة الإقبال على الله ـ تعالى ـ وعمل الخير ونفع الخلق؛ إذن لشكَّل ذلك حافزاً لنا على الصلاح والتقدم على الصعيد الشخصي.
إن القرآن الكريم يعدِّد الكثير من آلاء الله ونعمه على الخلق حتى يتمتعوا بها، ويحمدوه عليها، وهو يعلمنا في غير موضع أننا سنظل عاجزين عن إحصاء نعمه؛ وذلك حتى نستمتع في حمده وشكره والثناء عليه؛ نحن عاجزون عن إحصاء نعم الله ـ تعالى ـ علينا. لأننا لم نكتشف حتى اليوم تفاصيل لطفه بنا وتدبيره لنا، كما أننا غير مؤهَّلين لمعرفة أنواع النقم والرزايا التي يدفعها عنا دون أن نشعر، أو نجهد.
وفي هذا تحفيز للوعي الإسلامي على اكتشاف الخيرات الناجزة التي ننعم بها عوضاً عن قطع العمر في التشوق إلى ما لا نملك. شيء مؤسف أن تنقضي أعمار كثيرين منا في الأمنيات والحسرات؛ وقد صدق من قال: بعضنا يقضي الشطر الأول من عمره في اشتهاء النصف الثاني والتطلع إليه وانتظاره بفارغ الصبر؛ فإذا بلغه قضاه في الحسرة على النصف الأول؛ وهذا واضح فيما نحفظه من أدبيات رثاء الشباب والبكاء على سالف الأيام. إن خداعنا سهل ميسور، وأشعر أننا كثيراً ما نكون ضحايا الأوهام البراقة، وكثيراً ما تكون الإفاقة في وقت متأخر، وهذا بسبب ضعف فهمنا لطبائع الأشياء وسنن الله ـ تعالى ـ في الخلق. إن الأشياء التي نتطلع إليها تتمتع بقدرة فائقة على جذبنا إليها، وكلما كانت تلك الأشياء بعيدة المنال كان إغراؤها أعظم، وكلما اقتربنا منها تراجع لمعانها، وحين نظفر بها فإن قدرتها على إمتاعنا تصبح ضئيلة، وسرعان ما يقفز بنا الخيال إلى ما يمكن أن يأتي بعدها، لنبدأ رحلة جديدة من التشهِّي وخداع النفس؛ وأعتقد أنه لو كان لدينا مئة شخص يعرفون بعضهم على نحو جيد، وطلبنا منهم أن يتحدثوا عما يضمرونه في أنفسهم من مشاعر تجاه بعضهم بعضاً ـ أعتقد أننا سنرى العجب العجاب، وسنكتشف أن كثيراً منهم يغبط غيره على ما هو زاهد فيه، ويغبطه غيره على ما يشعر نحوه بالسأم والملل!! وهكذا تبدو الحياة وكأنها فارغة من أي معنى، وخالية من أي معيار محايد لمعرفة ما يجلب لنا الهناء، وما يجلب لنا الشقاء!
تعالوا كي نتعلم من الأطفال كيف يصنعون الأفراح والمسرات أياماً طوالاً من خلال اللعب بالقليل جداً من الألعاب. وتعالوا لنقنع أنفسنا بأننا سعداء ومحفوفون بآلاء الله ونعمائه وبركاته، ولنحاول ألا نجعل السعادة هدفاً نطارده كي نمسك به، كما يفعل الذي يحاول القبض على ظله!
دخل أحدهم السجن من غير جرم اقترفه، وكان مثقفاً، فوجد من انضم إليهم من المساجين غارقين في الأحزان: أحزان على فراق الأهل والأولاد، وأحزان على الأعمال التي توقفت بعدهم، وأحزان على الحرية والمتع المسلوبة ...
وكان ذلك الرجل حكيماً وخبيراً في تحويل الوعي وتوجيه الخيال؛ فما كان منه إلا أن اقترح عليهم فكرة لتخفيف الضغوط التي يواجهونها، وتلك الفكرة هي الاجتماع في آخر النهار من أجل الاحتفال بانتهائه وشطبه من مدة الحكم الصادر في أولئك السجناء. وكان ذلك، واستطاعوا من خلال الحفل اليومي الضئيل جداً في إمكاناته أن يضحكوا من قلوبهم وملء أفواههم، وحين أُخرِجوا من السجن أضفى ذلك الحفل المتكرر على ذكريات الأيام الصعبة مسحة من الشوق والحنين.
إن كثيراً من الناس يشعرون بالسخط والضيق بسبب ما يعتقدون أنهم فاقدون له من متاع الدنيا وزينتها، وكان عليهم أن يستعيضوا عن ذلك بفتح أبواب جديدة للهناء، لا يتطلب الدخول منها المال والجاه والمنصب، وإنما يتطلب القناعة والرضا بما قسم الله إلى جانب الإكثار من التعبد والثناء على الرحمن الرحيم، بالإضافة إلى إثراء حياتنا بالتواصل الأخوي ومعاني النبل والوفاء وبذل المعروف ...
إن جعل سعادتنا مرتبطة على نحو جوهري بالحصول على المزيد من المال، يشكِّل تركة في الاتجاه الخاطئ؛ لأن المطلوب من المال سيظل باستمرار أكثر من المعروض؛ ومن ثَم فإن مشاعر الحرمان ستظل مسيطرة على أعداد هائلة منا على نحو ما نلمسه اليوم حيث اتجهنا.
إن الرسالة التي أحببت اليوم إيصالها، تهدف إلى الدفع في اتجاه البحث عن ضروب من السعادة المجانية الناجزة عوضاً عن
__________
(1) أخرجه البخاري.(221/8)
الاولاد والشرير
أيمن دراوشة
كان الأولاد عادل وباسم وطارق غارقين في اللعب والمرح حول بيتهم القديم، هذا البيت الذي يقف صامداً بأقواسه الشامخة، وقبته المنتفخة. كانوا يحلمون بالثلج الذي غطّى بياضه الناصع كل شيء، ويحلمون أيضاً برؤية قوس قزح ممتداً في السماء، يتراكضون تارةً، ويلعبون لعبة الشرطي واللص تارةً أخرى.
وبينما هم منهمكون في اللعب والمرح، اقترب منهم الرجل الشرير المعروف بعداوته لأهل القرية، والذي يرغم المزارعين على بيع أراضيهم. قال الرجل الشرير للأولاد وهو ينظر إليهم بعينيه البغيضتين: (لقد حذرتكم من اللعب حول هذا البيت القديم ولم تسمعوا كلامي) . ردّ عادل ـ وهو أكبر الأولاد ـ: (ولكنه بيتنا، ولن نتخلّى عنه أبداً) .
قال الشرير بخبث: (أعلم هذا، ولكني أخاف عليكم من ثعبانٍ كبيرٍ مخيف، وقد رأيته بأم عيني، وهو يسكن داخل تلك الشجرة الملتفة حول المنزل) .
تبادل الأولاد النظرات كأنهم تفطَّنوا إلى كذبته التي يقصد منها تخويفهم وإبعادهم عن هذا البيت؛ كي يستولي عليه كما استولى على غيره من بيوت أهل القرية بالمكر والدهاء.
واستمرّ الشرير على بثّ الرعب في قلوب الأولاد بقوله: (لهذا الثعبان سبعة قرون، ولسانه يبلغ سبعة أمتار، وبإمكانه ابتلاع إنسان) ولم يكمل الشرير كذبته حتى انطلق الأولاد حول البيت يتسابقون كأنهم خيولٌ تصهل، واتّجهوا نحو الشجرة التي يزعم الشرير وجود الثعبان في داخلها. قال طارق وهو أصغرهم: (إني أسمع فحيحه) ، وقال باسم: (سأقطع لسانه) . وبينما هم مشغولون بهذا الأمر رآهم الشيخ عبد الصمد؛ حيث كان في طريقه إلى أداء صلاة المغرب، هذا الشيخ الذي جاوز الثمانين عاماً، وما يزال يحتفظ بحيويته ونشاطه، وما زال محطّ تقدير واعتزاز من طرف الصغار والكبار في القرية.
اقترب الشيخ عبد الصمد من الأولاد بينما الشرير فرّ هارباً عندما رأى الشيخ عبد الصمد يصدح بالأذان. نادى الشيخ الأولاد وقال لهم: (ماذا تفعلون يا أحبّائي) ؟
قال طارق: (لقد أخبرنا الرجل الشرير أن ثعباناً كبيراً يسكن داخل هذه الشجرة، وله سبعة قرون، ولسانه يبلغ سبعة أمتار) .
اقترب الشيخ من طارق، وطبع قبلةً على جبينه، وقال: (الكذب عند الأشرار والأعداء سجية، يكذبون على الصغار لينالوا مرادهم، ابتعدوا يا أولادي من هنا!) .
قال طارق: (ولكني أسمع فحيحه) .
ردّ الشيخ عبد الصمد مبتسماً: (إن ما تسمعه يا بني! هو الصوت الناجم عن تخلل الهواء بين فروع هذه الشجرة الملتفة دون فائدة مرجوة منها، ولو ذهبت إلى شجرة الزيتون المباركة وأصغيت إلى صوت أغصانها فإنك لن تسمع صوت هذا الفحيح) .
قال عادل: (ولماذا لا تصدر الأصوات منها) ؟!
قال الشيخ: (لأن أغصان شجرة الزيتون متناسقة؛ ولذلك حاول الشرير خداعكم بتلك الشجرة ذات الأغصان الملتفة، وشجرة الزيتون يا أولادي! من أقدم الأشجار المعروفة في الدنيا.
قال طارق: (لقد أقسم الله ـ تعالى ـ بها في سورة التين) .
ردّ الشيخ باعتزاز: (أحسنتَ يا صغيري! وعليكم أن لا تستمعوا بعد الآن لادعاءات ذلك الشرير الكاذب، هل تعدوني بذلك) ؟
قال الأولاد بصوتٍ واحد:
(نعدك يا شيخنا المبجّل أن نحافظ على بيتنا من الأشرار) .
قال الشيخ عبد الصمد: (إذاً عليكم أن تغرسوا أشجار(221/9)
الشيخ الداعية: يوسف بن عبد الله الصيني في حوار مع البيان:
الصين أكبر سوق مفتوح للدعوة الإسلامية ولكن!
حاوره في الرياض: خباب بن مروان الحمد
يؤلمك أن تجد بلاداً شاسعة الأرجاء، يوجد فيها أكثر من عشرين مليون مسلم، قلَّما تجد فيها رعاية من الدعاة والمصلحين، مع أنَّ أهلها يوصفون بأنَّهم قوم فارغو القلب، وأصحاب خلقٍ رفيع، وتستطيع أن تقنعهم بحجَّتك، وبيانك المؤثّر، وتنظمهم في سلك المسلمين متى وُفقت لذلك، تلك هي بلاد الصين ومقر مليار نسمة يدبُّون على أرضها غادين رائحين.
والشيخ يوسف بن عبد الله الصيني، داعية أحسبه ممَّن نذر نفسه للدعوة الإسلامية لأهل الصين؛ فهو يمتلك زمام اللغة الصينية، ويجيد الحديث باللغة العربية، وقد ولد من عائلة مسلمة، وكان أجداده القدماء من أصول عربية، سافروا إلى الصين قبل (800) سنة للدعوة إلى الله، ثم أقاموا فيها واستقروا بأرضها، وعاشوا هناك فأصبحوا صينيين، وقد درس الشيخ يوسف في المعهد الإسلامي مدَّة ثلاث سنوات، ثمَّ تخرج فيه، وأكمل دراسته في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ثمَّ رجع للصين وأقام فيها مدَّة سنتين كان له فيها عدَّة جهود دعوية في شرق الصين، وقد واصل مشواره العلمي حيث درس في جامعة الملك سعود مناهج طرق التدريس وإعداد المعلمين، وتخرج فيها هذا العام (1426هـ) .
وفي لقاء ماتع جمعني به في الرياض قبل سفره إلى الصين للاستقرار فيها، كان هذا الحوار حيث يحدثنا عن الدعوة في الصين: همومها، وشجونها، والتطلعات المستقبلية لها، عله يكون محفزاً للمهتمين بشؤون الإسلام في شرق آسيا، بأن يواصلوا مسيرتهم الدعوية، فينطلقوا في آفاقٍ أرحب بنشر الإسلام والدعوة إليه، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
^: أهلاً بك يا شيخ يوسف في هذا اللقاء، والذي نرجو أن تحدث القرَّاء من خلاله حول هموم العمل الدعوي في الصين، ولعلِّي أبدأ معكم في التعرف على أوضاع المسلمين في الصين من ناحية دينية واقتصادية واجتماعية؟
| بسم الله الرحمن الرحيم. أنا مسرور بكم جداً، لاهتمامكم في مجلة البيان بشؤون المسلمين، وابتداءً فإني أقول: إنَّ الصين بلاد كبيرة؛ فهي بمثابة قارة، والمسلمون في الصين منتشرون في كل مكان منها، وهم كذلك يجتمعون في أحياء أو مناطق معينة تخصُّهم، وهذه ميزة للمسلمين في الصين؛ فهم منتشرون ومع انتشارهم فهم مجتمعون، وأكثر وجود المسلمين في شمال غرب الصين، وهي منطقة تتكون من خمس مقاطعات هي: قانسو ـ تشينغهاي ـ شينجيانغ ـ شانسي ـ نينغشيا.
والظروف الاقتصادية في هذه المقاطعات متخلفة اقتصادياً وعلمياً وصحياً.
وأمَّا مناطق جنوب الصين فإنَّ المسلمين قليلون فيها جداً، مع أنَّها أوَّل محطة وصل إليها المسلمون في الصين عن طريق التجار؛ حيث كان هناك طريقان إليها: الطريق البرِّي، والطريق البحري، فجاء تجار العرب من البر.
وأول مسجد في الصين، هو مسجد نعرفه بأنَّه (منار) واسمه (تذكر النبي) وهو موجود في مدينة (غونتو) بشرق الصين، وهو أقدم المساجد في الصين؛ مبني منذ أكثر من 1400 سنة، ويقال إنَّ من بناه هو سعد بن أبي وقاص وأبناؤه، حيث ذهب مع سبعين صحابياً وسافر إلى هناك ولم يرجع، وبعض العلماء يخالف هذه الرواية، وبعضهم قال إنَّ سعد بن أبي وقاص لم يسافر للصين، وهناك مقبرة باسم سعد بن أبي وقاص موجودة بمدينة (غونتو) .
وأمَّا في بكين عاصمة الصين فيوجد بها ستون مسجداً، ويوجد بها مثقفون مسلمون ومفكرون وبعض المسؤولين في الحكومة من المسلمين.
وأمَّا شرق الصين فيوجد فيها بعض المسلمين إلا أنَّهم قليلون، ويوجد فيها مساجد قليلة، ولأن شرق الصين مركز (الكنفوشيوسية) وتعتبر مقرّاً ثقافياً واقتصادياً قويّاً؛ فإنَّ بعض أبناء المسلمين يتعلمون هناك حتى يحصلوا على منصب حكومي.
وأمَّا الناحية الدينية في شرق الصين أو شمال الصين فإنَّها ضعيفة، وبعض الشباب يعرف أنه من عائلة مسلمة، ولا يعرف شيئاً غير ذلك، بالإضافة إلى أنَّه لا يأكل لحم الخنزير، وأمَّا أركان الإسلام والإيمان فلا يعرف منها شيئاً، فهو مسلوب الهوية، ولكن مع هذا فعنده عاطفة قوية للدفاع عن الإسلام، وإذا قال لهم أحدٌ: إنَّ الإسلام غير جيد، فإنهم يغضبون ويدافعون عن الإسلام، ولكن حين تسألهم ما الإسلام؟ فإنهم لا يعرفون شيئاً؛ لأنهم حينما درسوا بالابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، والجامعة، تسلَّل إلى أذهانهم فكر الشيوعيَّة وفاقد الشيء لا يعطيه، وقد أعددنا خطة دعوية لذلك والله نسأل للجميع السداد والتوفيق.
^: كم عدد المسلمين بالصين؟ وهل يوجد تداخل بين الحكومة الصينية وبين المسلمين من ناحية سياسية؟
| لا أعلم إحصائية معتبرة عن عدد المسلمين في الصين، ولكن في الثمانينيات قالت الحكومة إن عدد المسلمين في الصين (20) مليوناً، والآن يقول كثير من المهتمين، إنَّ عدد المسلمين (30) مليوناً وبعضهم يقول (50) مليون مسلم، والذي أظنه أن عدد المسلمين في الصين لا يتجاوزون (30) مليوناً.
وبالنسبة للتداخل بين المسلمين والحكومة الصينية من الناحية السياسية فإن الحكومة توكل لبعض المسلمين بعض الأعمال، كمجلس الشورى السياسي، فيوجد من يكون إمام مسجد وهو عضو في مجلس الشورى السياسي الصيني، وهذا الرجل يشارك في إبداء اقتراحات، كغيره من المندوبين النصارى وغيرهم، ويقدمون آراء واقتراحات ويشاركون بذلك في ذلك المجلس.
^: ذكرت آنفاً أنَّك حين تعلمت دين الإسلام، دعاك ذلك لأن تتحرك بالدعوة إلى الله في أرض الصين؛ فما هي خطَّة العمل الدعوية المأمولة إن شاء اللَّه؟
| الحقيقة أنَّ الصين بلاد كبيرة، ويوجد بها عدد من إخواني الدعاة، ولكني بدأت أولاً بالمسلمين وقراهم، حيث أقصد مساجدهم بالدعوة في المنطقة التي أنا منها وهي شرق الصين، وفي هذه المنطقة يوجد 80 مسجداً، ووجدت الدعوة مناسبة لأنَّ المسلمين متفرقون، وعلمهم بدين الإسلام قليل، وكنت أجلس لطلاب المرحلة الثانوية والجامعية في العطلة الصيفية، وأعلمهم علوم الدين الأساسية.
وشرق الصين مركز ثقافي للـ (كنفوشيوسية) وأهل الشرق متأثرون جداً بها، ولذلك فإنَّ نسبة المسلمين فيها قليلة، وإيمان المسلمين ضعيف؛ ولهذا نحن نعلمهم ما هو ديننا؟ وماذا يجب علينا؟ وكيف يكون المسلمون مؤمنين بالله حقّاً؟ ونعطيهم المعلومات الأساس، ثم بدأنا نؤسس جمعية إسلامية في إحدى مدن شرق الصين، وأخذنا رخصة من الحكومة بذلك، والعمل جارٍ بدأب والحمد لله.
^: ما الحدود المسموح بها للدعاة في الدعوة إلى الله، وما هي الخطوط الحمراء التي يقف عندها الدعاة وتضايقهم عندها الحكومة الصينية؟
| الحكومة تمنح رخصة لكل مسجد من قِبَل إدارة الأديان في الصين؛ فالمسجد مكان للدعوة إلى الله قانونياً، فداخل المسجد مسموح بالدعوة، وأمَّا خارج المسجد فالحكومة لا تريد ذلك، وقد يمكن الدعوة خارج المسجد للرجل النشيط، ولكن حتماً سيجد الدعاة المضايقة من الحكومة إن هم فعلوا ذلك، ولا شك أنَّ هذه قيود تحدُّ من حركتنا، وتجعل مكاننا محصوراً في بقع محدودة.
^: بماذا تنصح الدعاة المسلمين عموماً لإفادة أهل الصين؟ وما الأسلوب الأمثل لدعوة أهل الصين إلى الإسلام؟
| بداية أنا أريد من الدعاة أن يفهموا ثقافة الصين وعاداتهم بشكل أفضل، فبعض الدعاة الذين يأتون من خارج الصين، قد لا يعرفون شيئاً من ثقافة الصين؛ فالصينيون عندهم ثقافة خاصة، ولديهم اهتمام بالعقل والمنطق؛ فأسلوب الإقناع أحسن وأفضل وسيلة لهدايتهم، ولهذا فإن إسلام الصينيين قد يكون أعسر من إسلام المناطق التي في شرق وجنوب آسيا؛ فشرق آسيا هي الصين والكوريَّتان واليابان، وشرق جنوب آسيا هي الفلبين وماليزيا وأندونيسيا، فالصينيون بخلاف الفلبينيين لا يسلمون بسرعة، وإذا دعوتهم للإسلام فإنهم يردون عليك، ولهذا فهم يحتاجون للنقاش والإقناع، ولكن من كانت عنده حجة وبيِّنة، وردٌّ قوي واضح على الشبهات المثارة، فإنَّ الصيني غير المسلم ينهزم أمامه، ومن خلال تجربتي رأيت أنَّ الصيني يناقش أولاً ثم يستسلم.
ونحن لا نحتاج للتعريف بدين الإسلام بأمور فرعية كما يفعله بعضهم؛ فهذه المسائل لا تهمنا كثيراً، مثل: لماذا تزوج رسول الله # أكثر من أربع نساء ومات عن تسع من زوجاته؟ فمثل هذه الأسئلة (وقس عليها) لا يحتاجها أهل الصين؛ والذي أرى أنَّ الصينيين بحاجة إليه هو الذي نركِّز عليه، وهو شرح فضائل الإسلام، والمسائل الأساسية في دين الإسلام كأركان الإسلام والإيمان والإحسان؛ فنحن إذا بدأنا بالأصول دخلنا في الشيء المهم، وهو الذي يحتاجه الناس في الصين، وأنا أقول إنَّ الصينيين قلوبهم فارغة، وإذا شرح الداعية بالشكل الواضح فسيقبلون منه دين الإسلام، بشرط أن يكون الأسلوب في الشرح مقنعاً.
ومن أنسب ما وجدته جيداً في دعوة الصينيين، أن يستحثَّهم الداعية على التفكير؛ فالصينيون أكثر الناس علمانية، فلا يؤمن جميع الشعب بالإله، ويقولون كما تلقوا عن الشيوعيين: لا إله والحياة مادة، ولا يصدقون أنَّ الخالق موجود، ولهذا دعهم يفكرون، واطرح عليهم الأسئلة التي تستحثّهم للتأمل: هل يوجد خالق؟ هل الناس يحتاجون إلى الإيمان بالله؟ وأيضاً أعطهم بعض القصص والثقافة العامة من بيئتهم، وبعض الأدلة والبراهين، حتى يعترفوا بأننا نعيش ونحتاج في حياتنا للإيمان بالله. ولا بأس من عقد نماذج في المقارنة بين الأديان، مثل النصرانية والبوذية والأديان الأخرى، والمقارنة بين الإنجيل والقرآن، والمقارنة بين الفكر الغربي والدين الإسلامي، حتى يعرفوا أن دين الإسلام دين الحق، ومن ثمَّ نخبرهم ما هو الإسلام على حقيقته.
^: ما الأشياء العملية، والمفيدة لدعوة الصينيين، والتي ترى أنَّها تنقصهم؟
| أنا أودُّ من الإخوة المهتمين بالدعوة إلى الله، أن يفيدوا الصينيين عن طريق ترجمة الكتب الإسلامية، والداعية لو سافر للصين ويمتلك اللغة الصينية القوية فإنَّه كم سيخاطب: مائة، ألف؟ ويبقى مليار، ومع أهمية الدعوة المباشرة إلاَّ أنَّني أرى أن يُنتدَب أناس منَّ الله عليهم بمعرفة اللغة الصينية، ويقوموا بترجمة الكتب باللغة الصينية بالألفاظ القوية المقنعة، وأنا أركز بأنَّ صاحب اللغة القوية هو الذي يترجم، فأنا قرأت بعض الكتب المترجمة باللغة الصينية، فوجدتها مليئة بالأخطاء اللغوية، مع ألفاظ ضعيفة؛ فكيف تريد من الصينيين أن يفهوا دين الإسلام على حقيقته، والكتب المترجمة لهم ضعيفة الأسلوب؟
ومن الطرق الهامة للصينيين دعوياً، إنشاء موقع على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ونشر الكتب الهامة الموضحة لدين الإسلام؛ فهم شعب قارئ، ويستخدم (الإنترنت) وإذا وجد هناك موقعاً إسلامياً، باللغة الصينية، فسيستفيدون جداً منه، ويقتنعون بهذا الدين الحق بإذن الله، وأنا أرى أن هاتين الطريقتين، من أهم الطرق المفيدة لدعوتهم لدين الإسلام، ونستطيع أن ندخل الإسلام بسرعة إلى قلوبهم، والغربيون يعرفون هذا، فأرى الاهتمام بهذين الأسلوبين لدعوة بلد المليار نسمة لدين الإسلام؛ فالصين بنظري تعتبر أكبر سوق مفتوحة للدعوة، وجُلّ أديانهم وثنية لا تصمد أمام العرض العلمي والموضوعي.
^: ما جهود النصارى في الدعوة بالصين؟
| عندهم جهود قوية جداً، وهم لا يشددون في دينهم، ويستخدمون الإعلام لنشر أفكارهم وفق خطة نشطة جداً، وعندهم دعاة متميزون يعرفون الفكر والثقافة وحاجات الناس، وأكثر من يتقبل دعوة النصارى النساء؛ لأن النساء عموماً أسرع تقبلاً من غيرهن، ثم إذا دخلت المرأة في النصرانية؛ فإنها تخبر صديقاتها وعوائلها، وبهذا الطريق يتنصر بعض الصينيين.
ومن ضمن الأشياء التي عند النصارى، قوة مساعداتهم للمنصِّرين برؤوس الأموال، لتكوين مشروعات تخدم دينهم، وأعطي مثالاً على ذلك:
فمدينتنا إحدى مدن شرق الصين، ولم يكن يوجد بها قبل عشر سنوات إلا كنيسة واحدة، وكانت هذه الكنيسة جديدة، وقبل ثلاث سنوات حين مررت بهذه الكنيسة دخلتها وسألت: كم عدد النصارى؟ فقالوا: ليس عندنا إحصاء ولكن هم تقريباً من ألفين إلى خمسة آلاف، وبعد سنة دخلت هذه الكنيسة مرَّة أخرى، وقلت كم عددكم؟ فقالوا: من (20) إلى (25) ألفاً، وفي السنة الماضية وهي السنة الخامسة، سألت رئيس الأديان في تلك المدينة والتي هي في شرق الصين: كم عدد النصارى؟ فقال: لا نعرف العدد ولكن كل النصارى يجتمعون يوم الأحد في عدَّة كنائس أو بيوت، ويمارسون فيها طقوسهم الدينية، ثمَّ قال رئيس الأديان: ونحن لا نسمح لهم بالاجتماع إلا إذا أعطيناهم رخصة، وقد أعطينا عام (2004م) وهي السنة الماضية (160) رخصة في هذه المدينة الصغيرة فقط! وأنا أقدِّر أنَّ كل كنيسة يوجد بها من (300) إلى (500) ولك أن تعلم أنَّ في هذه المدينة التي حدَّثتك عنها يوجد (23) مسجداً فقط.
^: ولكن فضيلة الشيخ يوسف: ما جهود دعاة المسلمين إزاء جهود النصارى؟
| بالنسبة لي فلم أقم بالصين باستقرار تام؛ لأنني درست خارجها، وإن كانت هناك مشاركات دعوية وإنشاء جمعية إسلامية في شرق الصين، ولكن بالنسبة للدعاة بالصين فهم في الحقيقة فئة قليلة، وفي شمال غرب الصين يوجد أئمة مساجد، أما الدعاة المتفرغون فلا تكاد تجد أحداً منهم إلاًَّ نادراً.
نعم! توجد معاهد إسلامية في شمال غرب الصين، ولكن مع الأسف لا توجد خطة وخطوات دعوية مميَّزة، وكذلك فإنَّ في الشمال الغربي ثقافة المسلمين ولغتهم الصينية ضعيفة، ولا يمكن أن يؤثروا على الشرق؛ لأنَّهم يعدُّون متخلفين من ناحية تعليمية وثقافية، فلا توجد لغة أو علم قوي في تلك المنطقة حتى يؤثروا في المناطق الأخرى من الصين مع كثرتهم في تلك المنطقة أكثر من غيرهم، ولا ريب أنَّه إذا كان المرء ضعيفاً في اللغة ويريد أن يؤثر في منطقة شرق الصين فلا يستطيع التأثير، وأيضاً فإنَّ الطلاب في الشمال الغربي يدخلون ويدرسون في المساجد والمعاهد الإسلامية، ولكن كثيراً منهم لم يدخل مدرسة ابتدائية وثانوية حكومية، لذلك عندهم لغة التواصل الفكري ضعيفة.
^: هل توجد بشارات وأمور مفرحة في الصين يُستطاع من خلالها إفادة أهل الصين بالدعوة والتعليم؟
| بعد أحداث سبتمبر صار كل شيء في العالم يتعلق بالإسلام، وصار الصينيون يريدون أن يقرؤوا في كتب الإسلام ويتعلموا بشكل أكبر وإيجابية أفضل، فصار الصينيون يعرفون الإسلام، وصدقني أن هناك بعض المناطق في الصين مثل مناطق الجنوب ما سمعوا باسم الإسلام أو المسلمين إطلاقاً، ولهذا حين ذهبنا مع تجار العرب إلى بعض مناطق الصين، وقلنا لهم نحن مسلمون تساءلوا مستنكرين: ما الإسلام؟ فهم لم يسمعوا بالإسلام ألبتة!!
^: هل يدرس الطلاب المسلمون في الجامعات الصينية، وما النشاطات الإسلامية الموجودة في هذه الجامعات؟
| نعم! يوجد كثير من الشباب المسلمين الذين يدرسون في الجامعات، وفي الحقيقة إذا كان الداعية رجلاً عملياً، فإنه يجتمع بالشباب المسلمين في الجامعة بطريقة مناسبة مثل السياحة في بعض المناطق القريبة منها، أو المخيمات الصيفية ثم يعلمهم الدين، ولا شك أنه يوجد دعاة بين الشباب الجامعيين ولكنَّهم قلَّة، والحقيقة أن هذا مشروع مهم جداً ويحتاج للمساعدة علمياً ومادياً برأس مال قوي، وأنا آسى على بعض الشباب الصينيين المسلمين الذين يدرسون خارج الصين في دول عربية، ويتعلمون الإسلام على حقيقته وحين يرجع بعضهم للصين يتكاسلون عن الدعوة إلى الله في المنطقة التي هم منها، وهذا كسل لا ينبغي، بل ينبغي أن يكونوا جادين في الدعوة إلى الله في بلادهم.
^: ذكرت أن كثيراً من الطلاب المسلمين يدرسون في الجامعات الصينية، ولكن ألا ترى أنَّ هؤلاء الطلاب غُيِّبوا عن دينهم، وصارت ثقافاتهم صينية؟
| يوجد كثير من الطلاب يدرسون بالجامعات، ويتأثرون بالتأكيد بالثقافة والقيم الصينية، بل يكادون لا يعرفون شيئاً من الإسلام؛ لأن كل شيء بالثقافة الصينية، وهذا في شرق وشمال الصين، وأما في الشمال الغربي للصين، فهم يدرسون مواد الدين، ولكنهم قليلون، إضافة إلى الضعف الذي لديهم من ناحية لغوية.
ولكن في السنوات الأخيرة وخصوصاً بعد أحداث سبتمبر، شعر الشباب الذين يدرسون بالجامعة وخاصة من أبناء المسلمين بحبِّهم لدينهم، وبدؤوا يقرؤون كتب الإسلام الدينية، ويريدون أن يعرفوا ما هو ديننا؟ ومن الممكن أنَّ 20% من طلاب الجامعة منتسبون للإسلام بالهوية، لكنهم بدؤوا يصلون ويصومون ويطبقون الإسلام، فكان لهذه الأحداث آثارها الإيجابية الكبيرة ـ ولله الحمد ـ لأنهم قبل ذلك كانوا لا يهتمون بدين الإسلام، وحين طالعوا كتب الإسلام أعجبهم وصاروا أشد تمسكاً به، والمشكلة عندنا في الحقيقة قلة الكتب الدينية التي تشرح الإسلام بلغة قوية، ولها أسلوب جذاب ومؤثر.
^: هل توجد جهود دعوية مع الطالبات في الدعوة إلى الإسلام؟
| ذكرت لك أنَّ بعض الجمعيات الإسلامية مثلاً في شرق الصين يلقون على الطالبات شيئاً من دروس الدين، فتوجد جهود ولكنَّها يسيرة، وبعض الطالبات يتحجبن بعد أن يتأصل الإسلام في قلوبهن، وبعضهن قد لا يبقين محجبات، والحقيقة أننا نأتي للنساء المسلمات وندعوهن ولو كنَّ متبرجات، ولو شدَّدنا في الأمر فإنهن لن يأتين لحضور دروس الدين، ودورنا تعزيز الإيمان في قلوب النساء ليتحجبن بعد تأثُّرهن بقيم ومبادئ هذا الدين.
^: لا شك أنَّك في جولاتك بالصين وجدت انحرافات عند كثير من المنتسبين للإسلام؛ فهل حقّاً توجد عادات وتقاليد وانحرافات عند بعض المسلمين؟
| أكثر الانحرافات هو التأثر بـ (الكنفوشيوسية) ، والتأثر بالعادات الصينية، وكذلك التأثر بالانحرافات الصوفية لطول البقاء وقلة الدعوة لبعض المسلمين، كما يوجد في شمال غرب الصين، ويوجد في الشمال الغربي من الصين الطواف بالقبور والشرك بالله، والاستغاثة بغير الله؛ نسأل الله العافية. وعلى كلٍ فإنَّ الانحرافات تختلف باختلاف المناطق التي في الصين، ولكن من أبرز الانحرافات التي رأيتها منتشرة في الصين، تلك الانحرافات المتعلقة بالجنائز، وهي متأثرة بالثقافة الصينية؛ فإذا مات الميت يأتي أولاده ويلبسون اللباس الأبيض عند الجنازة، وحين يفارقون الجنازة يجلسون من سبع أيام إلى أربعين يوماً وهم لابسون لتلك الملابس، وكذلك ينتشر عندنا، حين يموت الميت أن يأتي بعض أقاربه أو أصحابه، ويُنَوِّر على القبر بالمصباح مدَّة سبع ليال، وهذه بدع متواترة نرجو أن تزول بالدعوة المستمرة إن شاء الله.
^: أنت شاركت في الدعوة إلى الإسلام في الصين، ولا بد أن تقع للداعية إشكاليات تواجهه على هذا الطريق؛ فهلاَّ أبرزت أهمَّها؟
| المشكلات الموجودة أن كثيراً من المتبرعين يريد أن يبني مساجد ولا يريد أن يعين على ترجمة الكتب، ولا المساعدة في إنشاء مواقع بـ (الإنترنت) لشرح دين الإسلام الصحيح باللغة الصينية، وكذلك إعانة شباب المسلمين بالجامعات ودعمهم برأس مال يعينهم ليقوموا بالدعوة وتنشيط برامجهم الدعوية؛ ولهذا أقول: بعض الناس يبني مساجد جيدة ومكلفة، ولكن الداخلين فيها والمعلمين قلة؛ وكذلك نعاني من قلَّة دعم أهل الخير والإحسان للمراكز والجمعيات الإسلامية ممَّا يؤثِّر سلباً على أنشطتها، وأرجو من الدعاة خارج الصين أن يعوا مسائل الخلاف الموجودة بين المذاهب، وأهمية التعريف بأدب الحوار ونصح المسلمين الصينيين وخاصة الكبار منهم، فقد أتى بعض الدعاة المخلصين وحين رأى الصينيين يتمشون مع المذهب الحنفي حيث لا يرون رفع اليدين إلا مرة واحدة بخلاف بعض المذاهب التي ترى رفع اليدين في الصلاة أربع مرات، فهذا قد أنكر على بعض المسلمين الصينيين بشدة على ذلك الفعل، وقال إنَّ صلاتكم باطلة لأنكم لم تتبعوا السنَّة! وحين أنكر عليهم لم يجد منهم آذاناً صاغية، وكان الكبار منهم يقولون: نحن نصلي لله مدة خمسين سنة؛ فهل كل تلك الصلوات باطلة؟ ولا شك أن هذا الأسلوب في الدعوة خاطئ، ما دام فعل هؤلاء المصلين مأثوراً عن مذاهب معتبرة، ولذلك ينبغي عدم التعرض لمثل هذا جمعاً للصف بين المسلمين.
وإنني أنادي وأقول إن كثيراً من الدعوات الباطلة كالرافضة مثلاً كونت بدعم من إيران إذاعة خاصة بالصينيين، وهي تدعوهم باسم الإسلام لدينهم الباطل؛ فأين رؤوس الأموال الإسلامية لتكوين إذاعة خاصة بالصينيين المسلمين السنة؟
فهل تعمل الجهات الدعوية في العالم الإسلامي على فتح إذاعة للمسلمين وتشجيع مواقع (الإنترنت) للدعوة للإسلام في عصر هذه أسلحته الفاعلة في الدعوة إلى الله؟
^: برؤيتك المستقبلية؛ هل تظن أن الإسلام سينتشر بالصين بعد عشرسنوات؟
| هناك نكتة واقعية حيث كان بعض الشباب يفاخر ويقول إن الإسلام سينتشر على يد المسلمين الصينيين؛ لأن هناك عالم أمريكي (صاموئيل هنتنغتون) يقول: في القرن الحادي والعشرين ستكون الحرب بين الأمم المتحضرة، وإذا كانت تلك الحضارتان الإسلام و (الكنفوشيوسية) اجتمعتا معاً فَسَتُسْقِطْ تلك الحضارتان (الحضارة الغربية) فكان بعض الشباب الصينيين يحللون ذلك ويقولون: الذي يُسقِط الحضارة الغربية هم المسلمون الصينيون ـ إن شاء الله ـ حيث إنهم هم الذين يعرفون الإسلام ويعرفون (الكنفوشيوسية) . فكان بعض الشبان الصينيين يقولون: الإسلام سينتشر عندنا، ونحن الذين سنُسقط الحضارة الغربية، وهذا الكلام كان في الثمانينيات الميلادية من القرن الفائت.
ولكن هذا الأمر علمه عند الله، وأنا متفائلٌ بالمستقبل، إلا أنَّه بصراحة: الدعوة للإسلام في الصين ضعيفة، وتحتاج إلى جهود كبيرة، ونحن ـ إن شاء الله ـ سنبذل الكثير من الجهود للدعوة إلى الإسلام في الصين، وننصر دين الله فيها، ونتفاءل بعدها بمشيئة الله، وحين يعرف الناس الإسلام فإنَّهم سيدخلون في دين الله أفواجاً.(221/10)
وللحزن مدى
محمد بن عبد الله عبد الباري
أيُ شمسٍ آذنتنا بالمغيبِ
أيُ جرحٍ والحنايا مثقلات
أيُ حزنٍ أطلق الآلام فينا
هذه الدنيا التي ما فتئت
نحنُ فيها للمنايا هدفٌ
عمر الإنسان كالشمس التي
كيف مات الشيخ؟ وارتد الصدى
إنه للعلم نبعّ ليس يفنى
إنه الطهرُ تسامى ورعاً
إنه الزهدُ تناءى ورعاً
حين جاء النعي غصت بالشجى
ما يقول الشعرُ يا شيخ الهدى
هذه ذكراكمُ يا (ابن قعود)
سرتمُ للمجدِ في أكرمِ وفد
آهِ! يا شيخُ وفي قلبي نمت
كيف أبكيت وروحي أُترعت
كيف أبكيك وقد كنت لنا
كنت للمحتاج عوناً ويداً
لم يزل يبكيك فينا منبرٌ
فلكم ألقيت منه خطباً
كنت تذكي جذوة الإخلاص فينا
كنت للقلب طبيباً يا لقلب
كنت بالدمع تربي أمة
في دروب العلم أزجيت الخطى
وزرعت الخيرَ في عمر الصبا
وسكبت العمر علماً وتقى
في حنايا الليل أشعلت الهدى
هذه الظلماءُ كم زينتها
غبت يا شيخُ وللحزن مدى
حسبنا أنك حي في قلوب
وانعمن بالخلد واهنأ بالمنى
وتوارت خلف أسوار الغيوبِ
والمآقي جدن بالدمع السكيبِ
ورمانا بين أنياب الخطوبِ
تبتلينا كل يومٍ في حبيبِ
وشراكُ الموتِ في كلِ الدروبِ
سافرت بين شروقٍ وغروبِ
في فضاءٍ من رؤى الحزن مهيبِ
لا ولا يعرفُ معنى للنضوبِ
كغمامٍ مرّ في الأفق الرحيبِ
عن ملذاتِ وعن عيشٍ كذوبِ
أحرفُ الشعر وهمّت بالهروبِ
وحروفي أُلْبستْ ثوبَ الشحوبِ؟
عنبر فينا وطيبٌ أيُ طيبِ
وركبتم للعلا أسمى ركوبِ
نبتةُ الأشواق والحبِ العجيبِ؟
بالأسى والقلبُ مخنوقُ الوجيبِ؟
كالزلال العذب في عصر جديبِ
تبذلُ الخير وسلوى للغريبِ
هزه التذكارُ شوقاً للخطيبِ
سكنتْ أصداؤها عمقَ القلوبِ
وتسوق الوعظَ في وقعِ رهيبِ
لم يزل يهفو إلى كفٍ الطبيبِ
سافرت في درب غي وذنوبِ
شامخ الهمة محمود الدؤوبِ
فحصدت الفضل في وقت المشيبِ
وجهاداً للجحودِ المستريبِ
قبساً يهزأ بالليل الكئيبِ
بدعاء ورجاءٍ ونحيبِ
أبحرت فيه تباريحُ الأديبِ
شفّها الشوقُ إلى لقيا الحبيبِ
في جوار الله علاَّمِ الغيوبِ(221/11)
الأستاذ/ عبد الغفار عزيز ـ القيادي في الجماعة الإسلامية في الباكستان ـ في حديث لمجلة البيان:
حول الاعتداءات الأمريكية الأخيرة على باكستان
متابعة: خباب بن مروان الحمد
في الساعة الثالثة قبل فجر يوم السبت (14 ذي الحجة/14 يناير) حلَّق عدد من الطائرات الأمريكية على قرية (دما دوما) في منطقة (باجور) القبلية الباكستانية، ووسط الأزيز الرهيب أطلقت عشرات القنابل الضوئية الَّتي حوَّلت ليل القرية إلى نهار، ثم كوَّنت دائرة ضوئية كبيرة على ثلاثة بيوت بعينها، وأطلقت عليها القنابل والصواريخ التي صيَّرت البيوت الفقيرة إلى أطلال، وحولت ساكنيها الأحياء من الشيوخ والأطفال والنساء إلى كومة من الأشلاء. إنَّ تحليق الطائرات الأمريكية في المنطقة ليس بأمر جديد خاصة أنَّه منذ ثلاث أيام بلياليها كانت الحركة الجوية مكثفة حتَّى أرعبت سكان المنطقة وجعلتهم يتوقعون حدوث محظورٍ ما. لكن لم يطرأ على بالهم أبداً أن أسراً فقيرة والتي ليس لديها أي انتماء سياسي أو تنظيمي سوف تذهب ضحية أخطر غارة أمريكية في باكستان، منذ بدء الحرب الأمريكية ضد ما يصفونه بالإرهاب.
تشير عقارب الساعة التي بقيت متوقفة وشبه معلقة على إحدى جدران البيت المهدم إلى ساعة الهجوم والدمار وهي الساعة الثالثة وعشرون دقيقة صباحاً، وما أن وقعت الانفجارات وارتفعت أعمدة النار والدخان، حتَّى هُرِعَ أهالي المنطقة إلى مكان الهجوم وامتلأت المنطقة بالآلاف من أفراد القبائل المختلفة قبل أذان الفجر، وأصيب الناس بالذهول، ولا أحد يستطيع تفسير ما حدث، ثم طفقوا يُخرِجون الجثث من تحت الأنقاض ويحاولون إنقاذ الجرحى؛ حيث صار عدد القتلى ثمانية عشر، والجرحى بالعشرات.
وقد واصل سكان المنطقة عملية إغاثة المصابين والجرحى ودفن الموتى، وإذا بهم يفاجَؤون بأنهم أصبحوا مركز أهم الأخبار الدولية، وأن القنوات العالمية أوقفت برامجها ونشراتها لتعلن الخبر العاجل، ومفاده أن «كبار الإرهابيين» قد لقوا حتفهم في (باجور) وأنَّ الرجل الثاني وربما الأول في تنظيم القاعدة من ضمن ضحايا الهجمة الأمريكية! وهنا ثارت ثورة القبائل وبدؤوا يحتشدون في موقع الحادث، وخلال بضع ساعات بلغت الحشود الغاضبة حوالي خمسين ألف شخص كلهم يهتفون: «الموت لأمريكا» و «الموت لبوش ولحليفه برويز» وكلهم ينادون بالثأر لدماء الأبرياء مهما كان الثمن، وهنا خاطبهم زعماء القبائل وعضو البرلمان من تلك المنطقة واسمه هارون الرشيد ـ وقد سبق لي أنني دخلت معه السجن لمدة أربعين يوماً في جريمة المشاركة في مظاهرة سلمية تضامناً مع الكشميريين واحتجاجاً على زيارة رئيس الوزراء الهندي السابق فاجبائي ـ وقال لهم: إننا لن ننسى على مرّ التاريخ هذه الجريمة النكراء، ولكن علينا أن نسلك الطريق الصحيح للاحتجاج، وألاّ ندع نيران الغضب تشتعل لنحرق أنفسنا دون أن نصيب المجرم القاتل بشيء، وطالب مخاطباً حليف بوش الرئيس برويز مشرف بأنك تتحمل مسؤولية هذه الجريمة؛ لأنها نتيجة حتمية لتحالفك مع بوش؛ فأنت أيضاً مسؤول وبنفس الدرجةعن قتل هؤلاء الأبرياء. وأضاف مخاطباً الجماهير: سوف نرفع هذه القضية في البرلمان، وسوف يقف كل أفراد الشعب الباكستاني الغيورين معنا وضد المعتدين.
ولقد كان خطابه محاولة منه لئلا يتحول الغضب الشعبي القبلي إلى نار ودمار عشوائي، ولئلاَّ تتطور الأمور إلى فوضى عارمة لا يمكن لأحد السيطرة عليها، ولن يتضرر من ذلك إلا باكستان.
وهذا ما أكد عليه القاضي حسين أحمد أمير الجماعة الإسلامية ورئيس مجلس العمل الموحد (تحالف الأحزاب الدينية) عندما عقد مؤتمراً صحفياً عاجلاً في مقر الجماعة في لاهور ودعا إلى احتجاجات شعبية في جميع أنحاء الدولة قائلاً: إن باكستان قد فقدت حريتها واستقلاليتها وسيادتها الوطنية، وقد صارت الأجواء الباكستانية وأراضيها مرتعاً للقوات الأمريكية، وأصبح رعاياها دون أي أمن أو أمان؛ إذ سلمهم رئيس جيشهم ورئيس الدولة إلى قوى الاعتداء وباعهم وباع السيادة الوطنية بثمن بخس، فلا بدَّ من الوقوف والتحرك حتى نتخلَّص من هذه الحكومة. وكانت الاستجابة الشعبية لهذا النداء أقوى وأكبر من كل النداءات السابقة ضد برويز مشرف وسياساته؛ حيث خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين في كل العواصم الإقليمية ومراكز المحافظات، وأعلنوا رفضهم لهذا الهجوم الأمريكي ولسياسات برويز مشرف الداعمة للإدارة والجيش الأمريكي.
إنَّ هذه الغارة الأمريكية ليست الأولى ولكنها أخطر العمليات والهجمات الأمريكية في الأراضي الباكستانية؛ إذ تبعد منطقة باجور عن الحدود الأفغانية أربعين كيلو متراً وليست مجاورة وملاصقة لها، وهذا يعني أن أمريكا لا تتورع عن ضرب أي من الأهداف في باكستان مهما كانت مواقعها ومهما كانت حجج الهجوم واهية وباطلة.
وبمعنى آخر لو أصرت أمريكا على أن عناصر إرهابية ـ كما تزعم ـ قد دخلت المواقع العسكرية الباكستانية ولا بد من شن الغارة عليها فلا يردعها من ذلك رادع، وإنَّ الأنكى من كل ذلك أن من يؤمل منهم أنهم سوف يقفون للجناة والمعتدين بالمرصاد أصبحوا يبررون لهم جرائمهم ويشجعونهم على مزيد من الاعتداءات؛ فهذا برويز مشرف يوجه إلى المناطق القبلية نصائحه بألاَّ يؤووا العناصر الإرهابية وأن يخرجوهم من مناطقهم، ثم يظهر على شاشات التلفاز ويخاطب الشعب خطاباً مباشراً لمدة ساعة وخمس وعشرين دقيقة دون أن ينطق بكلمة عن الاعتداء الأمريكي أو الغارة على باجور ويشغل الشعب بقضايا خلافية حول توزيع مياه الأقاليم وبناء السدود.
وهذا رئيس الوزراء شوكت عزيز ـ أحد كبار موظفي ستي بنك الأمريكي إلى وقت قريب ـ يصرح عشيَّة الغارة الأمريكية بعد لقائه مع جون كيري مرشح الرئاسة الأمريكية أمام بوش: «إننا نستمر في تعاوننا مع أمريكا ضد الإرهاب والإرهابيين» ثم قال في تصريح آخر قبل أن يغادر في أول زيارة له لواشنطن كرئيس لوزراء باكستان وليس كأحد موظفي ستي بنك: إن علاقاتنا مع أمريكا لن تتعثر بأمور بسيطة، ولن أصغي إلى النداءات التي تطالبني بإلغاء زيارة واشنطن لسبب أو لآخر. وهذا وزير الإعلام يعقد أقصر مؤتمر صحفي له منذ توليه الحقيبة الوزارية، ويكتفي بقراءة نص بيان أُعطِي له يعرب فيه عن حزنه لما حدث ويتوقع ألاَّ تتكرر حادثة باجور دون أن يشرح كيفية منع أو سبب امتناع الأمريكان من معاودة الكرّة. ثم عندما رأت الحكومة المظاهرات والانتقادات الشعبية الكبيرة وحتى من داخل الحزب الحاكم قررت استدعاء السفير الأمريكي إلى وزارة الخارجية، واحتجت على ما حدث، وبشرت الشعب الباكستاني بأن باكستان لن تسمح بتكرار ما حدث، أي لن نعمل سوى التعلق بحبال الهواء.
في اليوم التالي من هذا التأكيد الرسمي والاحتجاجات الشعبية صرَّحت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بأن هجمات أمريكا ضد الإرهابيين سوف تستمر ورفضت أن تعلق أو تعتذر عن الغارة الأمريكية ومقتل ثمانية عشر مدنياً، وقبلها صرَّح عضو مجلس الشيوخ الأمريكي من حزب بوش جون ميكنن «بأننا لا نستطيع أن نضمن لباكستان عدم تكرار حادث مماثل» كما انتقد عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الحكومة الباكستانية بأنها لم تقم بالواجب وأنها مسؤولة عن وجود «العناصر الإرهابية» في المناطق القبلية وأن الهجوم الأمريكي كان صائباً وفي وقته.
إنَّ هذه التصريحات والردود توضح خطورة وضخامة ما حدث وتشرح المخاطر الجمة التي لحقت بأمن باكستان وسلامتها، فبعد أن كانت القوات الأمريكية ترتكب بعض المخالفات الحدودية أصبحت توسع دائرة التوغل وبعد أن كانت تؤكد لباكستان سيادتها الوطنية أصبحت الآن تصر على فعل كل ما يحلو لها دون مراعاة لأية حدود أو قوانين دولية أو وخزة ضمير.
ويتساءل الشعب الباكستاني بأعلى صوته قائلاً للجنرال برويز مشرف: هل هذا ما كنت تعدنا به وتقول إنك تحالفت مع أمريكا لتحافظ على سلامة باكستان؟ الحقيقة المرة أن برويز مشرف زرع الشوك ولن يحصد العنب، ولكن السؤال الأكبر هو: ما مصير الشعب وما مصير باكستان؟ هل تتجه باكستان فعلاً نحو أصعب مراحلها كما أشار إليه عديد من كبار المحللين العسكريين والجنرالات المتقاعدين الذين اعتبروا الغارة الأمريكية مجرد جس النبض وأن أمريكا قد ترتكب خطيئتها الكبرى تجاه المنشآت النووية أو العسكرية.
وسواء أكانت هذه المخاوف في محلها أم لا، لكنها أكدت على عدة حقائق:
أولاً: أن هذه الغارة قد أسقطت ورقة التوت عن النوايا الأمريكية تجاه باكستان، ورأى الجميع بمن فيهم برويز مشرف أن صداقة أمريكا مجرد وهم ليس إلا، وأن على باكستان أن تحسب حساب الغد القادم.
ثانياً: أكَّد هذا العدوان وبقوة على ضحالة الكفاءات الاستخباراتيَّة والعسكرية الأمريكية وعلى غبائها أيضاً؛ إذ استمرت طائرات القوة الكبرى «تنقب في الأجواء» الباكستانية في باجور وضواحيها لمدة ثلاثة أيام بلياليها مستخدمة الطائرات التجسسية والطائرات بلا طيار والأقمار الصناعية وكذلك «العيون الغالية الرخيصة» ثم قامت بعملية فضحتها أمام الرأي العام الداخلي وأسقطت حلفاءها حتى في عيونهم أنفسهم.
ثالثاً: كما أكدت الغارة أن الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة وسوف تستمر على زرع مزيد من الكره والغضب في قلوب المسلمين في العالم، وأن سياساتها المعلنة لكسب عقول وقلوب الشعوب لن تحقق سوى هدر الملايين من الدولارات وإسقاط كل الأقنعة الخادعة عن وجهها الحقيقي وكذلك عن وجوه عملائها واحداً تلو آخر.
وصدق المولى ـ عزَّ وجل ـ إذ يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] .(221/12)
ضحايا بريئة للحرب العالمية على الارهاب
عرض: الهيثم زعفان
يعد هذا الكتاب امتداداً لكتاب «القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب» الذي تحدث عن المرحلة الأولى للحملة الأمريكية الإعلامية ضد العمل الخيري الإسلامي؛ حيث يأتي كتاب (ضحايا بريئة) ليكمل الصورة بتناول مرحلة تاريخية جديدة لهذه الحملة اتسمت بالمستجدات في الإجراءات الإدارية والعالية.
ينطلق المؤلف من حيث انتهى كتابه الأول من عدم وجود تعريف للإرهاب حتى الآن ليثبت في كتابه الجديد من خلال آراء الساسة الغربيين أنه إذا كانت الحرب الباردة تعتبر حرباً ثالثة واضحة الأهداف والمعالم؛ فإن الحرب العالمية الرابعة (حرب الإرهاب) ليست كذلك؛ لأنها حرب هلامية لم تتحدد فيها حقيقة العدو، لكنها حرب خلفت أشلاء بريئة من الفقراء والأغنياء على حد سواء؛ فالقاسم المشترك بينهم هو الانتماء الديني والعمل الإنساني.
يطرح الكاتب اصطلاح «ضحايا بريئة» قاصداً به المؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية الإغاثية والتعليمية ببرامجها وأنشطتها وأموالها وبعض العاملين فيها لتكون الضحايا الأكثر تضرراً بعد ذلك هي تلك الشعوب والأقليات الجائعة والمتعطشة للإغاثة من ملايين البشر التي تصارع الموت وتعاني من المرض، وتتجرع كل آثار الحروب والتشرد والاضطهاد، وليصبح العالم المتحضر أكثر سوءاً من قبل. يوضح الكاتب أن ذلك بدأ بشكل مبكر من خلال طرح الافتراءات والشكوك والشبهات تجاه المؤسسات الخيرية الإسلامية داخل وخارج أمريكا؛ وذلك قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بسنوات، وإن كانت مسوغات قوة عولمة الحملة الأمريكية جاءت بعد الأحداث؛ حيث الاتهامات ودعاوى التجميد والمصادرة والإغلاق تحت مسمى «الدعم المالي للإرهاب» والتي يعدها غطاء للاستراتيجية الجديدة التي تعتبر الإسلام ومؤسساته من فصيلة «المنافسين الجدد» متفقاً في ذلك مع رؤية «توفلر» عن منظومة المنافسين الجدد؛ وذلك لأن عنصري المنافسة والاستقلالية عن الحكومات متحققان بشكل كبير في المنظمات والجمعيات الخيرية الإسلامية، ولأنها ـ حسب هذه الرؤية الجديدة ـ تعتبر خارج نطاق السيطرة كما تصنفها أمريكا، ومن ثم فهي بأجندتها الأخلاقية الإسلامية واستقلاليتها المالية والفكرية تشكل عنصراً قوياً في ميدان المنافسة والندِّية للمتعصبين من الغرب أفراداً ومؤسسات ودولاً. ويخشى الكاتب من امتداد التعسف الظالم إلى أن تصنف بعض وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة ومواقع مستقلة في شبكات الإنترنت ـ بل بعض المراكز العلمية والمناهج الفكرية حتى المؤسسات والمنظمات الدولية المستقلة ـ ضمن قائمة (المنافسين الجدد) خوفاً من انتقال القوة أو السلطة لها؛ لأنها تتعارض مع سياسة المرحلة التاريخية الجديدة؛ ويدل على ذلك بعدة شواهد منها: الحرب على الإرهاب أسفرت عن موجة من التغييرات ضمن الدول؛ حيث بدأت الواحدة تلو الأخرى في فرض إجراءات تشديدية جاءت على حساب الحريات المحدودة. ودليل آخر على ذلك تمثَّل في طلب الولايات المتحدة الأمريكية إلغاء مناهج التعليم الديني في الوطن العربي باعتباره الوعاء الذي يتخرج منه الإرهابيون بحسب دراسة للخارجية الأمريكية.
ويبرز الكتاب حرفية اختيار اتهام المنظمات بصلتها بالإرهاب؛ حيث من الصعب تخيل قضية يمكنها تقويض الثقة في العمل الخيري أكثر من الشك في صلتها بتمويل الإرهاب؛ وعلى ذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالضغط على دول العالم لإلزام بنوكها بتجميد الأرصدة المشتبه في دعمها للإرهاب دون سند قانوني أو يقين تام بانتماء هذه الأرصدة إلى جماعات إرهابية، وإنما الأمر مجرد اشتباه. وإزاء هذه القرارات أصبحت دول العالم أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن تحترم قوانينها الداخلية ونظامها القضائي ولا تجمد الأرصدة إلا بالرجوع إلى القواعد المتبعة في هذا المجال واحترام سرية العملاء، وإما أن تسارع إلى إرضاء أمريكا وتضع نظامها البنكي وسرية الحسابات بل نظامها القضائي وقوانينها الداخلية في متناول الأيدي الأمريكية وتحت تصرفها.
ويرى الكاتب بعد تحليلاته أن الدول التي سلكت المسلك الثاني هي الغالبية العظمى من دول العالم التي سارعت بمراجعة قوائم الأشخاص والمؤسسات التي أعلنت عنها الولايات المتحدة الأمريكية، وتجميد الأموال التي تخص الأفراد والمؤسسات الواردة فيها دون أن تبذل أي جهد لمراجعة واقع هذه المؤسسات أو الأفراد للتحقق من مصداقية انتمائها أو مساعدتها للإرهاب «غير المعرَّف» من عدمه، ودون أن تدرس خطورة اتباعها لهذا المسلك على مناخ الاستثمار فيها، وعلى علاقة بنوكها مع العملاء بعد إهدار أهم الأعراف والقوانين المصرفية وهو سرية حسابات العملاء؛ مما حقق للإدارة الأمريكية مراقبة كاملة للحركات المالية؛ إضافة إلى تحقيق الإفلاس المالي للمؤسسات الخيرية الإسلامية والانصراف عن مواقع العمل الإنساني والانشغال بالدفاع عن النفس.
3 الوهابية والكونجرس:
حشدت الإدارة الأمريكية عدداً من كبار موظفيها ومن الخبراء من خارج الإدارة للشهادة أمام لجان الكونجرس لإقناعها بخطر (الوهابية) على مصالح وأمن الولايات المتحدة؛ بزعم أن الوهابية تهيئ بيئة صالحة لنمو ثقافة الإرهاب؛ إذ تتميز ـ حسب هذا الزعم ـ عن الاتجاهات الإسلامية الأخرى بعداوة غير المسلمين وكراهيتهم، ولإقناع الكونجرس بخطر الجمعيات الخيرية الإسلامية بشكل عام والسعودية منها بشكل خاص بزعم أنها تعمل على نشر الفكر الوهابي في العالم الإسلامي؛ حيث إنه بين عامي 1975 و 1987 أنفق السعوديون حوالي 48 مليار دولار وهو ما يعادل 4 مليارات سنوياً في إطار المساعدات الخيرية والتنموية في الخارج والمستمرة إلى الآن؛ هذه الأموال ـ بحسب التقارير ـ هي عبارة عن مساعدات سعودية حكومية؛ وفي الغالب لا تتضمن التبرعات الخاصة ويتساءل الأمريكان: ما الذي يستطيع السعوديون شراءه بهذه التبرعات الإسلامية غير المسبوقة؟ وخاصة أن المذهب الوهابي أصبح لاعباً رئيساً في المؤسسة الإسلامية العالمية من خلال شبكة متقنة من المنظمات الأممية والخيرية، ومن ثَم ينبغي تقزيم هذا الخطر.
ويقف الكاتب عدة وقفات مع تقرير الحالة الدينية في العالم لاستيضاح معالم تلك الإشكالية القائمة على استعمال الأسلوب الخطابي والشحن العاطفي للمتلقي.
- يحلل الكاتب من خلال أسلوب دراسة الحالة ثلاثاً من الدول الأشد تضرراً من الحملة الدولية على العمل الخيري الإسلامي وهي: فلسطين، وأفغانستان، والعراق. ففي الحالة الفلسطينية ـ على سبيل المثال ـ يرى أن المراقب بشكل دقيق للحملة الأمريكية على مؤسسات العمل الخيري الإسلامي يلحظ من خلال النتائج أن الشعب الفلسطيني أصبح ضحية بريئة للحرب على الإرهاب مع ما نالته تلك الحملة من كل أو معظم مؤسسات الإغاثة الإسلامية داخل الأراضي الفلسطينية والمؤسسات الداعمة لها من خارج فلسطين، سواء في أمريكا أو أوروبا أو العالم العربي، وهذه الحملات المنظمة تعطي انطباعاً للمتابع بأنها قد تكون داخلة ضمن سياسة (الحرب الاستباقية) .
- ومن النقاط الحيوية والتي سيسلمها القارئ في أكثر من موضع في هذا الكتاب هي «عملية الإحلال» من خلال تفريغ المجتمع من المنظمات الإسلامية وإحلالها بالمنظمات التنصيرية، فيكشف الكاتب عن محاولات التنصير في العراق، مع إشارات بليغة لما يحدث على الساحة المصيرية هناك عبَّر عنها المتحدث باسم الكنيسة المعمدانية الجنوبية والتي تعتبر أكبر كنيسة بروتستانتية أمريكية ساندت الغزو على العراق بكل قوة، بعيداً عن تقديم العون المادي للشعب العراقي؛ فإن القضية الأساس هي الوصول إلى الحرية الحقيقية مع يسوع المسيح.
وترفع تلك المنظمات العاملة في العراق شعار «إنقاذ المسلمين من دينهم المزيف» .
كذلك استثمار الأزمات في العمليات التنصيرية والتي أطلق الكاتب عليها تعبير «الراقصون في الأزمات» فيشير إلى الإرساليات التنصيرية في أفريقيا والتي رفعت شعاراً يقول: «تخلوا عن دين الإسلام، وسوف نقوم نحن بتحريركم من الجوع والفقر والخوف والمرض» فضلاً عن استثمار كارثة تسوماني وأزمة دارفور التي ينقل الكاتب عن والي جنوب دارفور قوله: «إن الخطر الحقيقي ليس في التدخل الخارجي بالسلاح، ولكن في تغييب شبه كامل للمنظمات الإسلامية، والخطر الأكثر هو في تنصير مواطني دارفور الذين عُرِفوا بحبهم للقرآن» ؛ وذلك من خلال 30 منظمة تنصيرية أوروبية وأمريكية تعمل في دارفور.
وفي محاولة لتفسير تلازم التنصير مع الحرب العالمية على الإرهاب يذهب الكاتب إلى بوش الابن ليجده استحدث في البيت الأبيض ولأول مرة في تاريخ أمريكا مكتباً يُعنى بالشؤون الدينية اسمه: (مكتب البيت الأبيض للأديان والمبادرات الاجتماعية) وبناء على طرح وزارة الخارجية الأمريكية؛ فإن الرئيس الأمريكي جورج بوش مهتم شخصياً ـ وبصورة لم يسبق لها مثيل من رئيس أمريكي ـ بدعم المؤسسات الخيرية الكنسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، والتي يسميها بوش الابن باسم «جيوش الرحمة» حيث يرى الرئيس الأمريكي أن هذه المؤسسات والجمعيات أهم بكثير من المؤسسات الخيرية العامة وجمعيات الضمان الاجتماعي؛ وعلى ذلك فقد طلب بوش الابن من وزارة العدل اتخاذ إجراءات كفيلة بصرف 3.7 مليار دولار من الأموال الفيدرالية لمساعدة الأنشطة الخيرية التي تقوم بها جمعيات دينية نصرانية، ودافع عن ذلك بقوله: «إن هذا البلد يجب ألا يخشى تأثير الإيمان على مستقبله، ينبغي أن نجد مجالاً للإيمان لنجعل من أمريكا مكاناً أفضل» . ومن هنا تم اختياره أكثر شخصية مسيحية مؤثرة لعام 2005.
وهنا يلتقط الكاتب خيط ظاهرة التمييز السلبي بين المنظمات الإسلامية حيث الإمكانيات المالية المحدودة وغيرها من المنظمات غير الإسلامية المصحوبة بالأموال الضخمة؛ فبحسب الجارديان أنه بينما تقابَل المنظمات الخيرية النصرانية والعلمانية بالثناء لإرسالها الأموال إلى أفغانستان، تُعامَل المنظمات الإسلامية كمشتبه بها في تمويل الإرهاب.
ويلاحظ الكاتب أن تلك الدعاوى والمزاعم على المنظمات الخيرية الإسلامية أو الدول والمؤسسات المالية أو حتى الأفراد غالباً ما تقوم بسبب طمع بعض شركات المحاماة الأمريكية التي تجوب العالم لاصطياد وتوظيف بعض الأخبار، ولا سيما في مجالات دعاوى التعويضات المالية المتوقعة عن أضرار الحادي عشر من سبتمبر؛ منتهزةً التوجهات السياسية الجديدة لأمريكا. فأبرز الذين تصدروا المرافعات في قضية تعويضات (لوكربي) هو من أوائل المحامين الذين قاموا بجولات عالمية لشراء بعض الأخبار عن المؤسسات الخيرية الإسلامية في أنحاء العالم وتوظيفها للقيام بعمل دعاوى تعويضات نيابة عن أهالي ضحايا الحادي عشر من سبتمبر. والجانب الآخر في ضعف الدعاوى والمزاعم أنها تعتمد في معظمها على ما ينشر في وسائل الإعلام دون وجود أدلة دامغة؛ في الوقت الذي تقوم فيه بعض المنظمات الغربية غير الإسلامية بدعم الإرهاب المحلي والعالمي وبصفة خاصة دعم الميليشيات العسكرية داخل الأراضي الأمريكية وخارجها؛ مثلما حدث من مجلس الكنائس العالمي من دعم للمتمردين في جنوب السودان؛ وكذلك دعم الحركة الانفصالية في إقليم بيافرا النيجيري ذي الأغلبية المسلمة، إضافة إلى الدعم الأمريكي والبريطاني للمنظمات الإرهابية الهندوسية التي تقوم بذبح المسلمين وحرق ممتلكاتهم حسب خطط المنظمات الهندوسية؛ وعلى هذا المنوال يورد الكاتب العديد من صور دعم المنظمات الغربية للإرهاب.
يصل الكاتب في نهاية كتابه إلى أن الصعوبات في وجود أدلة بوقائع محددة تدين المؤسسات الخيرية الإسلامية في حركتها المالية؛ وبهذا الشمول والعمومية في الاتهام الدعائي؛ كل ذلك أصبح شاهداً لها على انضباطها الإداري والمالي في بلادها؛ حيث إن الجمعيات والمؤسسات الخيرية الإسلامية - خاصة في العالم العربي- تخضع لإشراف داخلي حكومي قوي ومبالغة في الرقابة الحكومية ولا سيما في الجوانب المالية؛ حيث الارتباط الوثيق بوزارات حكومية، وإعداد ميزانيات وموازنات سنوية معتمدة من محاسبين قانونيين؛ وقد يتعدى في بعض الدول العربية إلى تحكم في أموالها ومجالس إداراتها، وقد كان كل ذلك الانضباط المالي قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر مما يؤكد صعوبة أن يكون التصرف من قِبَل هذه المؤسسات متجاوزاً أو خارجاً عن نظامها.
يتميز هذا الكتاب «ضحايا بريئة» بأنه استند في استدلالاته وتحليلاته واستنتاجاته على الحقائق والآراء والشهادات الموثقة والصادرة من الساسة والمفكرين والمراقبين الغربيين.
__________
(*) نشر الكتاب ضمن سلسلة كتاب البيان عن (مجلة البيان) ، الطبعة الأولى 1426هـ ـ 2005م.(221/13)
المقاومة والانتخابات ... دروس في التعامل مع واقع المحتلين
طلعت رميح
حملت الفترة الأخيرة دروساً هامة ومتعددة الاتجاهات على صعيد التعامل مع «شعارات الديموقراطية» والإصلاح السياسي من خلال الانتخابات التي تجري بضغط من الخارج، لعل أهمها ما جرى ويجري تحت الاحتلال المباشر في فلسطين والعراق؛ حيث كانت قوى المقاومة والجهاد في الأمة فى مواجهة مباشرة مع هذه الشعارات. كما قدمت هذه التجارب زوايا جديدة من المعرفة لأهداف الضغوط الغربية (الأمريكية والأوروبية والصهيونية) من أجل إنفاذ هذه الشعارات، أو هي كشفت بشكل أعمق طبيعة المستهدف من وراء الضغوط لتطبيق هذه الشعارات، حتى باتت كل الأفكار المطروحة بهذا الشأن من قِبَل القوى المحتلة والضاغطة على المجتمعات العربية والإسلامية، وكذا كل أشكال المواجهة لهذه الأفكار في الممارسة الحية، واقعاً عملياً تستخلص منه الدروس والعبر لا مجرد حالة نظرية.
على صعيد قوى المقاومة والجهاد، وضمن إطار ما شهدته المجتمعات العربية من عمليات انتخابية متعددة ـ كان أبرزها ما جرى في لبنان ثم مصر ـ فقد جرت وتجري انتخابات في الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 وفي العراق المحتل، كلاهما وُضعت حركات المقاومة والجهاد في موقع الاختيار والاختبار في كيفية التعامل مع واقع فرضه الاحتلال وصار يطبق شعاراته الخاصة بالديموقراطية، ضمن إطار وحالة وضع فيها كل من المجتمع العراقي والفلسطيني في ذلك الموقف.
في الحالة العراقية: رفضت التيارات الجهادية والمقاومة الدخول في انتخابات ما سمي بالمجلس الوطني العراقي التي جرت منتصف شهر ديسمبر من العام الماضي؛ ضمن إطار العملية (اللعبة) السياسية التي حددت قوانينها وقواعدها وشروطها قوات الاحتلال وأشرفت عليها، متخذة بذلك الموقف نفسه الذي سبق أن اتخذته من قبل خلال الانتخابات التي جرت في مطلع العام نفسه لانتخابات المجلس «المؤقت» ذاته وخلال ما تبعها من استفتاء على دستور احتلال العراق. غير أن الانتخابات الأخيرة قد شهدت تغيراً هاماً طالما سعت إلى تحقيقه قوات الاحتلال خلال العمليات الانتخابية السابقة؛ إذ شاركت في هذه الانتخابات بعض التيارات السياسية التي رفع بعضها شعارات إسلامية، وبعضها الآخر أعلن أنه يمثل السنة العرب ـ متخلين عن موقفهم الرافض سابقاً للمشاركة ـ لتحدث تفاعلاً وصراعاً من داخل العملية السياسية، تحت مبررات وشعارات مثل «خطأ عدم المشاركة» في المرات السابقة و «عدم ترك الساحة» خالية للآخرين ... إلخ، فكان ذلك هو التطور الأبرز الذي أثار التساؤلات حول صحة موقف التيارات والقوى الجهادية والمقاومة التي رفضت المشاركة وأدانت من شاركوا فيها، كما وضعها ذلك في مواجهة تيارات أخرى إضافة إلى قوات الاحتلال وأعوانها.
وفي الحالة الفلسطينية: كان التطور الأبرز هو أن التيارات الجهادية والمقاومة التي رفضت المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية السابقة وما تلاها من انتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية، عاد أهمها ليغير موقفه ـ حركة المقاومة الإسلامية «حماس» ـ من مقاطعة الانتخابات التشريعية إلى المشاركة فيها وبقوة جماهيرية واسعة. كانت حماس قصرت مشاركتها في العملية السياسية الجارية وفق أسس وقواعد اتفاق أوسلو، على المشاركة في الانتخابات البلدية باعتبارها انتخابات ترتبط بالشؤون المعيشية للمواطن الفلسطيني، وبالنظر إلى سريانها منذ ما قبل اتفاق أوسلو، إلا أنها فاجأت الكثيرين بتغيير موقفها تجاه الانتخابات التشريعية الراهنة بالمشاركة فيها وهو ما أربك الخصوم والأعداء، وأحدث حالة سياسية جديدة على الساحة الفلسطينية.
وإذا كانت مشاركة حركة حماس مع عدم مشاركة حركة الجهاد، لم تثر لغطاً في الساحة الإسلامية في فلسطين، إلا أن مشاركة حماس طرحت تساؤلات حول برنامجها السياسي في الفترة المقبلة، بالنظر لقبولها المشاركة في مؤسسات سلطة جرى تأسيسها ضمن أطر وقواعد وحدود اتفاقات أوسلو التي قاومتها حركة حماس ذاتها.
والأهم هنا أننا بجمع الحالتين في فلسطين والعراق إحداهما تجاه الأخرى نجد أنفسنا أمام موقفين من قوى جهادية ومقاومة في مواجهة الاحتلال: أحدهما: وافق على الدخول في اللعبة التمثيلية والسياسية قبل الجلاء الكامل للاحتلال. والآخر: رفض. وإننا أصبحنا أمام قضية عامة تتعلق بكيفية التعامل مع واقع فرضه الاحتلال، وأمام إجابتين تبدوان في الظاهر مختلفتين على سؤال عام واحد.
وعلى صعيد قوى الاحتلال، فقد جرت الانتخابات في كل من العراق وفلسطين تحت ضغط من شعارات أمريكية وغربية وصهيونية حول الديموقراطية كآلية لتغيير وإصلاح المجتمعات العربية والإسلامية، ولمواجهة المقاومة الموجهة ضدها، فكانتا تطبيقاً عملىاً لتلك الشعارات.
في العراق، كان شعار إحلال الديموقراطية ضمن الشعارات التي جرى على أساسها التعبئة الجماهيرية وتقديم المبررات لغزو العراق واحتلاله. لكن هذا الشعار وقت إجراء الانتخابات أصبح هو الشعار الوحيد الباقي قيد التعامل السياسي والإعلامي من قِبَل قوات الاحتلال والسلطات في الولايات المتحدة؛ إذ إن مختلف الشعارات الأخرى قد تبخرت أو هزمت بعد انكشاف كذبة الغزو لإزالة أسلحة الدمار الشامل التي انتهت بعدم العثور على تلك الأسلحة، أو الغزو لتحقيق حقوق الإنسان التي انتهت بفضيحة سجن أبو غريب، وهو ما جعل شعار إحلال الديموقراطية أمام امتحان عسير في تلك الانتخابات.
وفي فلسطين كان أساس الحملة التي جرت لحصار رئيس السلطة الفلسطينية السابق عرفات وأدّت في نهاية المطاف إلى قتله، هو شعار إجراء انتخابات فلسطينية تنتج ممثلين يمكن التفاوض معهم كممثلين للشعب الفلسطيني.. إلخ. وبعد انتخابات رئاسة السلطة ونجاح محمود عباس، وبالنظر إلى نهاية المدة المحددة لدورة المجلس التشريعي، كان من المحتم على مختلف الأطراف التوجه نحو الانتخابات التشريعية (تهتم الولايات المتحدة والصهاينة بالشرعية الشكلية لمؤسسات السلطة لضمان صحة توقيعها على الاتفاقات) . غير أن عجلة إجراء الانتخابات ما إن دارت ودخلت فيها حركة حماس حتى انقلب موقف الولايات المتحدة وأوروبا والكيان الصهيوني إلى المطالبة بعدم مشاركة حماس، وهو الأمر الذي أدخل الشعارات الغربية والصهيونية في امتحان عسير، وبالقدر نفسه الذي قدم تجربة مهمة على صعيد حركة المقاومة الإسلامية حماس.
كانت الانتخابات إذن حالة امتحان لشعارات الديموقراطية ولإمكانيات هذا الفعل في ظل الاحتلال، فأي الدروس قدمت مشاركة حماس؟ وأي الدروس قدمها عدم مشاركة القوى الجهادية والمقاومة في العراق؟
- الانتخابات وصياغة المجتمعات العربية:
قبل البحث في نتائج الانتخابات في كل من العراق وفلسطين وتوضيح المواقف واستخلاص الدروس، يجب أن نحدد أولاً ماذا تستهدف القوى الغربية من خططها وشعاراتها لإجراء الانتخابات في المجتمعات العربية، بالنظر إلى أهمية هاتين التجربتين كحالتين نموذجيتين للفعل المباشر وللتطبيق العملي لشعارات الديموقراطية بضغط الاحتلال أو تحت الاحتلال، ومن ثم تجسدان الإطار العام لممارستها في المجتمعات الأخرى ـ حسب درجة نضج وقوة الحركات المقاومة للنفوذ والضغط الغربي والصهيوني ـ كما يجب أن نفتش في ظروف وأوضاع هذه المجتمعات الضاغطة في توقيت إجراء الانتخابات.
وبمراجعة مشروع الشرق الأوسط الكبير وقبله مبادرة الشراكة من أجل الديموقراطية التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول، وكذا المحاضرات المتعددة التي ألقاها المسؤول البارز في وزارة الخارجية الأمريكية ريتشارد هاس، يمكن القول إن الأهداف العامة التي من أجلها تجري الضغوط الغربية بشأن الديموقراطية في مجتمعاتنا هي أهداف كبرى ومتعددة.
فهناك أن تلك الخطة تستهدف إجراء عملية معقدة من أجل تحديث النخب الحاكمة في المجتمعات العربية والإسلامية من خلال إمدادها بكوادر وقيادات جديدة من النخب لتضم النخب التي جرى «تربيتها» من خلال النشاطات الممولة في داخل البلدان العربية والإسلامية من خلال مبادرة الشراكة ومجموعات ومنظمات حقوق الإنسان، ومن خلال الكوادر التي تربت في الغرب. وهناك أن هذه العمليات الانتخابية تستهدف منح النظم الحاكمة قدراً أعلى من المشروعية من خلال آليات الديموقراطية لعدم إمكانية تحقيق المشروعية لها في أعين مواطنيها من خلال الشعارات القديمة (العداء للكيان الصهيوني ـ الوحدة العربية ـ التنمية الداخلية) بحكم تعارضها مع مصالح الدول الغربية الضاغطة.
وتستهدف العمليات الانتخابية هذه، تحديث هياكل النظم السياسية في المنطقة العربية والإسلامية بهدف استيعاب أكبر قدر من القوى السياسية بما فيها بعض القوى الإسلامية، وعزل القوى الإسلامية المقاومة وحصارها وجعلها خارج المشروعية من خلال آلية الانتخابات لا آلية القهر، وحشد قوى أوسع في مواجهتها. كما تستهدف هذه الآليات الديموقراطية وفق المضمون الغربي المضغوط من أجل إنفاذه إتاحة أوسع فرصة فكرية وسياسية لإحداث تغييرات حقيقية في البناء الاجتماعي والمنظومة العقدية والقيمية والمفاهيم والعادات في إطار المضمون الحضاري للفكر العولمي.
وعلى صعيد الظروف التي تعيشها الحكومات الضاغطة من اجل إنفاذ الديموقراطية فإنها هي الأخرى تعيش حالة من الإجراءات الانتخابية في داخلها؛ حيث تجري انتخابات في الكيان الصهيوني بعد نحو شهرين من ظهور نتائج الانتخابات الفلسطينية، كما تجري انتخابات التجديد في الكونجرس الأمريكي قبل نهاية العام مما يجعل الانتخابات العراقية والفلسطينية ذات تأثير مهم على نظائرها في الدول العدوة لحركات المقاومة في كل من فلسطين والعراق.
- الانتخابات في العراق:
جاءت الانتخابات التي جرت في العراق لتحمل متغيرات جديدة رغم استمرار الأهداف القديمة نفسها من إجراء الانتخابات السابقة تحت الاحتلال.
كانت أهداف الانتخابات من قبل هي تحقيق شرعية زائفة «لحكومة باسم العراق» للحصول منها على شرعية لعملية الاحتلال وللتغطية على جرائمه العسكرية والاقتصادية؛ كما استهدفت التسويق لمثل هذه الحكومة عربياً ودولياً، وكذلك استهدفت الانتخابات من قبل إحداث حالة سياسية وجماهيرية للترويج للقوى القادمة مع الاحتلال من الخارج ولتحويلها عن طرق الألاعيب السياسية والإعلامية إلى قيادة شعبية وشرعية. غير أن أهداف الانتخابات الأخيرة شهدت أهدافاً إضافية على رأسها دفع قطاعات سياسية لدخول الانتخابات باسم السنة «العرب» من أجل القيام بخطوة أكبر في عزل التيارات المقاومة بإحداث شرخ في عقول الجمهور الإسلامي المؤيد للمقاومة، وكذلك لاستخدام تلك المجموعات في التغطية على وجود الاحتلال بتقديم صيغة الصراع الداخلي على الصراع مع الاحتلال. كما هي استهدفت تقديم سند للرئيس الأمريكي جورج بوش في صراعه الداخلي، ولتقوية أوضاع الحزب الجمهوري في انتخابات الكونجرس القادمة.
وفي ضوء ما صدر من نتائج لعمليات التصويت من استمرار سيطرة (التحالف الشيعي) على البرلمان والحكومة مع ممثلي الحالة الكردية العرقية ـ وكلاهما متحالف مع قوات الاحتلال ـ وما جرى خلال إجراء الانتخابات العراقية من عمليات تزوير لأصوات من شارك فيها، ومن عدم تحقيق أي من الأطراف التي شاركت من خارج حالة التعاون المباشر السابق مع مشروع قوات الاحتلال لأي نتائج مؤثرة؛ فإنه يمكن القول بأن من شارك في الانتخابات التي جرت في العراق من خارج المجموعات المتعاونة مباشرة مع الاحتلال ومشروعه، إنما جرى توظيفه لتحقيق تلك الأهداف التي أرادها المحتلون، كما يمكن القول بأن رفض التيارات المقاوِمة في العراق الدخول في اللعبة التمثيلية هو ما قلص إمكانيات استفادة قوات الاحتلال من لعبة الديموقراطية؛ حيث حافظ على فكرة المقاومة وممارستها كبديل وضاغط على كل الأطراف المشاركة، مما أحبط كل محاولة لتصوير الشعب العراقي كمؤيد للعبة التمثيلية السياسية من داخل مشروع الاحتلال، ومن ثِم أفسد على الرئيس الأمريكي محاولة الاستفادة من إجراء الانتخابات لتحسين أوضاعه الداخلية.
- انتخابات فلسطين:
في الانتخابات الفلسطينية كان أبرز الملامح الجديدة هو أن حركة حماس أصبحت هي عنوان شرعية إجرائها، وعنوان مشكلة إجرائها في الوقت ذاته. على صعيد القوى المشاركة فإن ثمة 11 قائمة تشارك في الانتخابات تضم مختلف أطياف القوى السياسية الفلسطينية، إلا أن أياً منها لم يثر ما أثارته مشاركة حركة حماس. فمنذ أن بدأ الإعداد للانتخابات والحديث الداخلي في فلسطين، والخارجي في واشنطن والكيان الصهيوني وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي لا يهتم إلا بمشاركة حماس وبرفض هذه المشاركة إلا إذا تخلت حماس عن حمل السلاح والمقاومة، حتى وصل الأمر إلى تهديد السلطة الفلسطينية بقطع المعونات المالية الأمريكية والأوروبية عنها؛ إذ جرى تمرير قرار في الكونجرس الأمريكي بقطع المعونات عن السلطة الفلسطينية، كما أعلن (خافير سولانا) وزير الخارجية الاوروبى وخلال زيارة له لغزة عن موقف مماثل. وبطبيعة الحال لم يدخر الصهاينة وسعاً في ممارسة الضغط لمنع مشاركة حماس. وعلى الصعيد الداخلي الفلسطيني كان مجرد حدوث اختلاف وانشقاق حول لوائح حركة فتح إشارة لبدء الحديث حول أن هذا الانشقاق إنما ياتي لمصلحة حماس، كما كان الموقف من مشاركة فلسطينيي القدس مرتبطاً أيضاً بمشاركة حماس إذ لم توافق سلطات الاحتلال على ممارسة مرشحي حماس لدعايتهم الانتخابية في القدس أو هي لم توافق على مشاركة الفلسطينيين إلا بشرط عدم ممارسة حماس دعايتها في القدس.
وإذا كانت مشاركة حماس قد فتحت مجالاً من الحوار يتعلق ببرنامجها السياسي الذي تخوض على أساسه الانتخابات بحكم أنه جاء دون تشديد على ثوابت حركة حماس، كما هو أثار فكرة أن مشاركة حماس على الدخول في الانتخابات إنما يحمل ضمنياً أنها تشارك في مؤسسات أقيمت على أساس عملية أوسلو.. إلخ. إلا أن مشاركة حماس في واقع الحال مثلت ضربة سياسية كبرى لمشروع الاحتلال، وإذا كان مفهوماً أن البرنامج الانتخابي يختلف عن البرنامج العام للحركة، وأن أوسلو قد انتهت بدماء شهداء حماس وغيرها من القوى الجهادية ـ إلا إذا كانت أوسلو تنص على حق المقاومة المسلحة ـ فإن حماس حققت من خلال مشاركتها العديد من النجاحات حتى قبل إجراء الانتخابات؛ إذ هي جسدت معادلة من أهم المعادلات السياسية؛ حيث حافظت على سلاحها ومقاومتها مع تسخير آلية التمثيلية للحصول على تمثيل الشعب الفلسطيني على أرضية المقاومة لا على أرضية أوسلو. كما نجحت في معركة إجبار كل الأطراف على إرجاء الانتخابات، أما حقيقة موقفها السياسي فهو يُقرَأ من خلال عمليات الاعتقال والقتل التي تجري ضد كوادرها، كما يقرأ من موقف الأعداء منها. كما يمكن القول إنها من الناحية العامة وضعت الجانب الأمريكي والصهيوني أمام حالة اضطراب قد تجعله يعيد كل حساباته حول الشعارات التي يطرحها في عملية اختراق المنطقة.
- مأزق الانتخابات الأمريكية والصهيونية:
من البديهي القول بأن ما جرى في العراق وفلسطين قد كشف زيف الادعاءات الغربية بالديموقراطية، وأبانت أنها بحر من الألاعيب والأكاذيب. غير أن الأخطر أن لنتائج هذه الانتخابات تأثيرات مهمة على نتائج الانتخابات التي ستجري في الكيان الصهيوني وفي الولايات المتحدة.
فالانتخابات الفلسطينية ستحدد نتائجها على نحو كبير الحالة التصويتية داخل الكيان الصهيوني على أكثر من صعيد؛ إذ إن مشاركة المقاومة وفوزها بهذه الدرجة أو تلك في هذه الانتخابات سيؤثر على تصويت الناخب الصهيوني من زاوية زيادة إدراكه من خلال المشاهدة والمعايشة أن المقاومة الفلسطينية انتصرت على الجيش الصهيوني بالسلاح، وأنها باتت تشكل قوة سياسية جماهيرية في الأراضي الفلسطينية، وأنها باتت قاب قوسين أو أدنى من تمثيل الشعب الفلسطيني على المستوى الرسمي بهذه الدرجة أو تلك.. إلخ.
الانتخابات العراقية بدورها لم تحقق لجورج بوش والحزب الجمهوري ما كان يستهدفه منها من تقليص قوة المقاومة ليذهب إلى الانتخابات معلناً أنه فاز أخيراً؛ إذ إن الانتخابات لم تنجح لا في عزل المقاومة ولا في إضعافها؛ حيث تساقُط الطائرات المروحية الأمريكية بات يتزايد معدله وكذلك عدد القتلى الأمريكيين بعد الانتخابات عما كان يعلن عنه ما قبل الانتخابات، وهو ما يجعل النتيجة عكسية لبوش والحزب الجمهوري.
- التقييم العام:
بدراسة كل من تجربتي العراق وفلسطين، يمكن القول بأن الأسباب التي دفعت إلى المشاركة في فلسطين أسباب مختلفة عن الأسباب التي جعلت المقاومة في العراق ترفض، وأن المقاومة في العراق أخذت الموقف ذاته الذي أخذته حركة المقاومة الإسلامية حماس عند بدء تشكيل السلطة الفلسطينية، وأن القوى الغربية الضاغطة لتحقيق أهدافها في المجتعات العربية قد وُضعت في مأزق أشد من المأزق الذي وُضعت فيه المقاومة من خلال شعارات الديموقراطية، وأن نتائج رفض المقاومة الانخراط في اللعبة التمثيلية في العراق وزيادة معدل عملياتها والتطور النوعي الذي دخل على عملياتها، وكذلك دخول حركة حماس على خط المشاركة في الانتخابات دون توقف العمل الجهادي المسلح سيؤثران على الانتخابات داخل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أو سيدفعان الأزمة إلى داخل الدول المصدرة لشعارات الديموقراطية ذاتها.(221/14)
هل تحتل أمريكا سورية؟
ممدوح إسماعيل
الحقيقة أنه لم يكن تقرير ميليس وما احتواه من اتهامات لشخصيات سورية مفاجأة لي، ولا ما تبعه بعد ذلك من صدور القرار 1636 من مجلس الأمن، الذي يفرض على سورية التعاون مع لجنة التحقيق في اغتيال الحريري، ويحمل اتهاماً لها بذلك الفعل الشنيع.
ذلك ليس استبعاداً لضلوع شخصيات سورية أو لبنانية في اغتيال الحريري، ولكن المهم في الأمر أن العلاقة بين سورية والولايات المتحدة الأمريكية ـ صاحبة القرار الأول والرئيسي في مجلس الأمن ـ لم تكن أبداً في يوم من الأيام على وفاق دائم؛ فالسوريون منذ ما يزيد عن أربعين عاماً حملوا راية الفكر القومي العروبي، وعملوا على نشره بكل السبل، واتجهت علاقتهم السياسية الدولية وتحالفاتهم إلى المعسكر الشرقي، بقيادة الاتحاد السوفييتي العدو التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الغربي، ومن وقتها وهم دائماً على نقيض وخلاف سياسي مع الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأول للعدو الصهيوني، وهذا الخلاف تقل حدّته أو ترتفع بحسب الظروف الدولية، ورغم سقوط الاتحاد السوفييتي وتغيّر خارطة المجتمع الدولي سياسياً إلا أن (الصراع العربي الصهيوني) واحتلال العدو للجولان أبقى على توتر العلاقات السورية الأمريكية، وجاء احتلال العراق وما تبعه سياسياً من خطط وسياسة أمريكية تسعى لتفتيت المنطقة العربية وما بقي فيها من أي شكل من أشكال الوحدة العربية، والأخطر هو العمل على محو إرادة المقاومة للعدوان تماماً في المنطقة العربية، مما زاد من حدّة الخلاف السياسي، نظراً لوجود بقية من قادة الفكر القومي في سورية، وحملهم لواءه منفردين بعد سقوط العراق، وإن كان الأمريكان يدَّعون بتساهل سوري مع المتسللين لدعم المقاومة العراقية.. وقد سبق للولايات المتحدة الأمريكية بالاتفاق مع فرنسا أن دفعا مجلس الأمن لإصدار القرار 1559 الذي يتضمن إنهاء الوجود السوري من لبنان، وذلك قبل تقرير ميليس، وقبل اغتيال الحريري.... لكن بعيداً عن اغتيال الحريري وتداعياته المستغلة سياسياً إقليمياً ودولياً نجد أنه من الملاحظ أن سورية والعراق كانا يتنافسان في حمل لواء القومية العربية، وكانا يتنافسان في دعم المقاومة الفلسطينية، وإن زادت سورية في دعم حزب الله ووجود قوة في علاقاتها العربية؛ بعكس العراق الذي خلا من هذين الأمرين وإن اتحدا في شكل نظام الحكم الشمولي القائم على القوة الأمنية السلطوية ليبقى التساؤل: ما الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية تغزو وتحتل العراق ولا تفعل ولن تفعل ذلك في سورية؟ الإجابة واضحة ونجدها في الأسباب التالية:
أولاً: الإدارة الأمريكية تختار دائماً الأهداف السهلة في ضرباتها العسكرية والعراق أسهل من سورية للآتي:
1 - علاقة النظام العراقي المتدنية مع دول الجوار ـ إيران والكويت وتركيا وأيضاً السعودية وسورية ـ كانت من أهم الأسباب التي ساعدت على غزو العراق بطرق متنوعة، بعكس سورية التي تحتفظ بعلاقات قوية مع كثير من دول الجوار، خاصة تحالفها الإستراتيجي مع إيران صاحبة القوة النووية.
2 - ضعف القدرات العسكرية العراقية؛ لخوضها حروباً عديدة، مثل: الحرب الإيرانية العراقية، وغزو الكويت، وحرب الخليج، التي أضعفت وأرهقت القدرات العسكرية العراقية. ولا يفوتنا الإشارة إلى سلاح القوات الجوية العراقي الذي انهار واختفى تماماً؛ بعكس القدرات العسكرية السورية التي منذ حرب أكتوبر 1973م وهي في حالة نمو وتجديد، ولم تتدخل إلا في لبنان وحرب تحرير الكويت، وهو تدخل ساعد على تقوية القدرات العسكرية السورية ولم يضعفه، وسلاحها الجوي ما زال له تواجد وقوة، والأخبار المتناثرة تشير إلى تطوير سورية في منظومة الصواريخ عبر التعاون مع كوريا الشمالية.
3 - البترول ذلك الذهب الأسود المتوافر في العراق بعكس سورية تماماً.
ثانياً: التركيبة السكانية؛ حيث يلاحظ في التركيبة السكانية العراقية تنوّع واختلافات قوية، ما بين طائفية وعرقية، ولا تقف عند ذلك بل تتعدى إلى نسبة تلك الطوائف والعرقيات في عدد السكان، وهي الملحوظة الهامة في هذا السياق، حيث تتفاوت نسبة تقدير كل طائفة؛ فالشيعة يعلنون أنهم الغالبية وهو خلط للأوراق، حيث إن التقديرات الصحيحة تشير إلى أن نسبتهم من 35% إلى 40% من السكان، وأن السُّنّة عددهم يزيد عن 50%، ويشمل ذلك العرب السُّنّة والأكراد والتركمان، والخلط يأتي من حساب الأكراد والتركمان وغيرهم من السُّنّة خارج حساب السُّنّة على أساس حسابهم ضمن العرقيات فقط.
على العموم هذه التركيبة السكانية باختلافاتها محمّلة بكُرْهٍ ومرارة ومعارضة شديدة تجاه نظام الحكم العراقي البعثي الديكتاتوري، مما جعل الجبهة الداخلية ممزقة ومنفصلة تماماً عن النظام، مما ساعد على إضعافه وسقوطه بالتعاون مع الشيعة والأكراد ومليشياتهما التي كان لها شبه سيطرة على شمال وجنوب العراق بعد حرب الخليج الثانية، وفي ظل الحظر الجوي الأمريكي على مناطق الشمال والجنوب.
أما في سورية فالأمر مختلف، حيث على رأس نظام الحكم رئيس علوي من الطائفة العلوية التي تحتل معظم المناصب الهامة في سورية، مع أنها لا تمثل إلاَّ أقل من 10% من السكان، وأكثر من 70% من السكان هم من السُّنّة وليس لهم ميليشيات ولا أيّ سيطرة مطلقاً. والقراءة السريعة للتركيبة السكانية السورية تقول: إنهم أجدر من العراق، ولكن استقرار الحكم في سورية ومقدرته العسكرية جعلت استهدافه يتأخر، وكان القول باستهدافه ممكناً وقت مذبحة «حماة» للسُّنّة، منذ ما يقرب من ربع قرن، بحسب مقولات الإدارة الأمريكية في مبررات التدخل العسكري، ولكن وقتها كانت الظروف الدولية متغيرة تماماً، وكان الاتحاد السوفييتي يحمي سورية، وكانت الإدارة الأمريكية مهتمة بالشيوعية في سلّم أولوياتها، ولكن الآن تغيرت الاهتمامات للإدارة الأمريكية، وأصبح السُّنّة هم على سلّم الأولويات الخططية للإدارة الأمريكية، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي أصابت الكبرياء الأمريكية في مقتل، وكان منفذوها من السُّنّة فقط، وعلى التحديد من عرب السُّنّة؛ لذلك تغيرت أجندة الإدارة الأمريكية، وتحالفت مع أعدائها وخصومها السياسيين ـ مثل إيران ـ في حربها ضد أفغانستان عبر التسهيلات الجوية، ثم العراق التي كان لا بد للساسة الأمريكيين من ضربها كهدف عربي يُرضي الغرور والكبرياء الأمريكي الجريح في الحادي عشر من سبتمبر، وكانت العراق جاهزة على مائدة الذئب الأمريكي لالتهامها، لكن لماذا تأخرت سورية في الأجندة؟ ولماذا تحاربها الإدارة الأمريكية عبر الطرق القانونية والسياسية والإعلامية والاقتصادية فقط؟
هنا مربط الفرس كما يقولون؛ والحقيقة أنني مندهش للضجيج والصخب الذي ملأ كثيراً من أدوات الإعلام من القوميين وبعض الإسلاميين حول خطة أمريكا لضرب سورية واحتلالها؛ لأن الواقع يقول عكس ذلك؛ فالولايات المتحدة الأمريكية لم تضع في أجندتها احتلال سورية، ولم تعلن عن أي نية عسكرية لذلك، حتى ولو كان في أجندتها السرية خطة عسكرية ضد سورية؛ فهي تعمل على استخدام كل الطرق البديلة والممكنة لإضعاف القرار السياسي السوري والهيمنة عليه فقط، بعد أن استعصى عليها، ثم الإدارة الأمريكية ما زالت تتجرع ويلات المقاومة العراقية السنية، التي أصابت الكثير من الخطط الأمريكية في العراق ـ بل في المنطقة ـ في مقتل؛ يزيد عن ذلك وهو أهم الأسباب، ولا أعلم لماذا يغفل عنه الكثير عمداً، وهو أهل السنة في سورية، الذين يشكلون الغالبية دون أدنى شك؛ فماذا سوف تفعل معهم وهم متأثرون بلا شك من تطورات الأحداث حولهم؟
ومع الموقف الأمريكي من غزو سورية لنا عدة وقفات:
1 - الغزو سوف يسبب إحياء النشاط الإسلامي مصدر الخطر ـ كما يدَّعون ـ للأمريكان، وبما أن الحكومة السورية تصادر الحريات للإسلاميين هناك، فإن ذلك الإحياء من الأسباب التي تجعل الإدارة الأمريكية تطرح فكرة غزو سورية واحتلالها حرصاً على استقرار الحكم حتى لا يقع في أيدي الإسلاميين من أهل السُّنّة، وقد أبصرت الإدارة الأمريكية كيف كان احتلال العراق سبباً لظهور جماعات إسلامية كثيرة في العراق، ما كانت لتظهر لولا الحرب والاحتلال وسقوط النظام الذي كان يصادر وجودها.
2 - إن الإدارة الأمريكية تلجأ للضغط فقط لمحاولة تفكيك قوة الحكم وتسهيل عملية انتقال السلطة لأشخاص موالين لأمريكا، تحت ما يسمى المعارضة السورية.
3 - إن الإدارة الأمريكية لجأت لإثارة الملف السوري إعلامياً وسياسياً؛ لجذب الانتباه العالمي بعيداً عن العراق وما تتكبده من خسائر مادية وبشرية، يزيد عن ذلك جذب انتباه الشارع الأمريكي، بعيداً عن النقد الذي وُجّه للإدارة الأمريكية في معالجتها لإعصار كاترينا، وما سبّبه من تدنٍ في شعبية الرئيس بوش.
4 - المعالجة السياسة والقانونية من خلال الهيئات الدولية من قِبَل الإدارة الأمريكية للملف السوري؛ لتحسين وجهها أمام العالم والشعب الأمريكي؛ بعدما دخلت العراق دون غطاء دولي ونقد شديد من شطر كبير من الشعب الأمريكي.
5 - وهو أهم النقاط: أن إثارة حرب ومواجهات عسكرية في دولة لها حدود مع إسرائيل له خطورته الشديدة على أمن الصهاينة المحتلين الذين تحميهم أمريكا بكل ما تستطيع.
6 - سقوط النظام السوري يفسح المجال للشعب السوري لتحرير الجولان، ويعني أيضاً تدافع الفلسطينيين الموجودين في المخيمات في سورية ـ وهم حوالي نصف مليون ـ إلى فتح جبهة قتال مع العدو الصهيوني كان النظام السوري مغلقها تماماً.
7 - لا يُعقَل والإدارة الأمريكية فشلت بكل الطرق في احتواء أو إبادة المقاومة العراقية أن تفتح باباً جديداً لمقاومةٍ سوريةٍ لن تجد معارضة كما يحدث في العراق.
8 - سوف تلجأ الإدارة الأمريكية للضغط بكل طريقة خفية على الدول العربية القريبة من سورية؛ لدفعها للضغط على النظام السوري، واستخدامها كأداة لإذعان القرار السياسي السوري للأداة الأمريكية، وهو طريق مرجو منه النتائج، حيث سبق للدول العربية الصديقة لسورية أن أدخلت سورية في التسوية أو العملية السلمية كما يطلقون عليها إبان عهد الرئيس حافظ الأسد القوي.
وقد وقع في يدي صحيفة الكرامة المصرية العدد 7 تاريخ 15/11/2005 صفحة (9) فقد نقلت عن صحيفة «معاريف» الصهيونية شهادة من عدو فلنتأملها بدقة، وهي عدة آراء لمحللين عسكريين، منهم رئيس الاستخبارات العسكرية (أهارون زئيفي) الذي يرى أن الحفاظ على استقرار سورية هو الخيار الأفضل، حيث يربط بين ما أسماه الجهاد الإسلامي العالمي ووجود أغلبية سنية في سورية، ويرى أن النهاية الحتمية لأي تدخل عسكري أمريكي بريطاني سيكون بمثابة فتح الباب لنشاط الإسلاميين على غرار بن لادن والقاعدة، وهو الرأي الذي يؤيده (إفرايم هاليفي) الرئيس السابق للموساد، ويقول «بن كسبيت» المحلل الصهيوني لصحيفة «معاريف» : إن الاتجاه الصهيوني المحافظ ـ والمتمثل في قادة الأجهزة الأمنية وشارون رئيس الوزراء وموفاز وزير الدفاع ـ يميل إلى بقاء الوضع القائم في سورية مستقراً دون القفز إلى المجهول. ويقول «جاكي جوكي» مراسل الشؤون العربية في الصحيفة: «إن دمشق أحد الأنظمة العربية المستقرة، واستقرارها في مصلحة أمريكا وإسرائيل، ولكن من شأن حدوث انقلاب في نظام الحكم في دمشق جَلْبُ نظام حكم إسلامي» . فسورية والصهاينة المحتلون الآن في موقف عداء، ولكن عدو اليوم قد يصبح صديق الغد، ومن الأفضل أن يكون هناك طبيب عيون متقلب، من أن يكون شيخ يعرف جيداً ماذا يريد.
أيضاًً في الموضوع نفسه عن مراسل موقع ديكا للمعلومات الاستخباراتية في واشنطن؛ حيث يقول: «إنه من الممكن التوصل إلى دفع الأسد إلى تحول كبير في سياسة بلاده على غرار العقيد القذافي بوساطة مصرية خليجية، فيعلن قطع أي ـ علاقة مع ما أسماه ـ بالإرهاب في العراق وتنظيم القاعدة، ووقف تعامل البنوك السورية واللبنانية مع هذه الجماعات، والتخلص من الأسلحة الكيماوية والبويولوجية، وقبل ذلك العمل على نزع سلاح حزب الله، وتفكيك قواعد المقاومة سواء الفلسطينية أو اللبنانية، ويشمل ذلك ـ أيضاً ـ العراقية» . اهـ.
ويبدو أن آخر كلمة هي الأهم «تفكيك قواعد المقاومة» ، وأظن أن هذا سوف يحدث في سورية، عبر مقايضة سياسية، من ضمن ثمنها تقرير ميليس الأخير، وسورية تعرف ذلك جيداً.
__________
(*) محامي وكاتب إسلامي.(221/15)
بشائر الهزيمة الأمريكية
آيات وتحديات
(2 ـ 2)
د. عبد العزيز كامل
يخطئ كثيراً من يظن أن الصراع الدائر في العراق، شأن يخص العراقيين وحدهم، أو يخص المجاهدين هناك فقط، وهذا الخطأ يعود لأمرين جوهريين: أولهما: أن المحتل الأمريكي الذي جاء إلى المنطقة لمطامع إمبراطورية بذرائع نشر الحرية والديمقراطية انطلاقاً من العراق؛ أراد تحويل هذا البلد إلى قاعدة عسكرية يمكن الوثوب منها إلى دول الجوار القريب والبعيد للهيمنة عليها بصورة أو بأخرى؛ فالخطر هنا لم يكن قاصراً على العراق، والأمر الثاني: أن المحتل الأمريكي أعلن مراراً على ألسنة ساسته بأن العراق أصبح الساحة الرئيسية لما تسميه أمريكا بالحرب (العالمية) على الإرهاب! وهو ما يعني أن تلك الحرب يمكن أن تنتقل إلى ساحات أخرى في بلدان أخرى، يقع عليها الاستهداف الخبيث بخطة إبليس المسماة بـ (الفوضى الخلاقة) التي يريد الأمريكيون تكرارها في كل بلد يريدون أن ينقلوا إليه مركز الحرب العالمية على الإسلام، المتسترة وراء الحرب على الإرهاب.
المجاهدون في العراق، أو ما يصطلح على تسميتهم في الإعلام العربي بـ (الجماعات المسلحة) ، وما يصطلح في الإعلام الأمريكي والغربي على تسميتهم بالإرهابيين أو المتمردين، هؤلاء قاموا بقدر كبير من الواجب التاريخي في التصدي للهجمة الأمريكية، من الناحية العسكرية الميدانية على الوجه الذي فصلت الكلام عنه في الحلقة السابقة من هذا المقال، وهو الأمر الذي رأيت فيه ـ ولا أزال ـ معجزة تاريخية، وآية ربانية تمر بنا وأكثرنا عنها معرضون أو غافلون.
إلا أن تلك الإنجازات الضخمة والنتائج الجبارة التي ألجأت قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة إلى التسليم «العملي» بالهزيمة باتخاذ قرار الانسحاب بعد أقل من ثلاث سنوات من الغزو تتهددها تحديات، يمكن أن تفرغ الإنجاز الضخم من محتواه، وتحوِّل النتائج المبهرة من صورتها الإيجابية إلى صور أخرى سلبية، وهذا المحظور الخطير؛ يمكن أن يقع ـ ونسأل الله ألا يقع ـ إذا حدثت محاذير أساسية، يمكن اختصارها فيما يلي:
1 ـ إذا لجأ الأمريكيون إلى خيار (الأرض المحروقة) عند انسحابهم المخزي المهزوم، بإشعال حرب أهلية، طائفية وعنصرية، يمكن أن تؤدي إلى إحراق ما تبقى من العراق، إذا استجاب لها أقوام دون تقدير للظرف التاريخي الخطر، والمنعطف الحضاري الحساس.
2 ـ إذا أصيب بعض المقاومين بداء نشوة النصر، فراحوا يسارعون إلى جمع الغنائم واقتسامها في شكل مواقف متعجلة، وقرارات منفردة من شأنها أن تمكن الأعداء من استعادة التوازن، أو تمكِّن بعض الفرقاء من اختطاف النصر، واقتطاف الثمار.
3 ـ إذا استمرت الأنظمة في الدول العربية والإسلامية في خذلان العراقيين والسير في ركاب الأمريكيين، لينوبوا عنهم ـ بعد الانسحاب ـ في أداء مهمة أمريكا المستحيلة في العراق، وهي تقوية العملاء وحمايتهم وإضفاء الشرعية على حكومتهم.
4 ـ إذا استمر أكثر الإسلاميين في رفع أيديهم عن التحدي الذي تواجهه الأمة في العراق عقائدياً وحضارياً ـ حيث يتربص به العلمانيون ليسلخوه عن الإسلام، والفرس ليعزلوه عن العروبة، وأمريكا والغرب واليهود ليردوه إلى عصور ما قبل الحضارة.
والضرورة تقضي ـ ونحن على مشارف الاستبشار بالنصر الجديد ـ ألا يسمح الغيورون على الأمة وحرماتها في العراق وخارجه؛ أن يتحول هذا الانتصار إلى انكسار؛ فكم في التاريخ من نجاحات لم يحفظها أهلها فتحولت إلى إخفاقات؛ فما حدث في أُحُد، كُبِّرت صور عديدة منه في الشام وإفريقيا والأندلس، وكُررت في عصرنا في حرب رمضان وحرب أفغانستان. ولكن أوضاع الأمة هذه المرة لا تحتمل مثل هذه التحولات الحادة، فالخصم ضخم، والمشوار طويل، والجراح كثيرة.
ü لكن الفرصة سانحة:
نعم! ... فهناك متسع من الحظ لأن تغالب الأمة هذه التحديات، وتمارس خيريتها مرة أخرى فتستنقذ العالم من غول المغول الجدد، والصليبيين المعاصرين في حملاتهم المتجهة ـ كما هي العادة في التاريخ ـ نحو شرقنا العربي الإسلامي بغرض إنشاء إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات الشر، وقد ساق الله بأقداره الحكيمة الأمور إلى تناغم عجيب بين أداء الفداء الأسطوري للمقاومين في العراق، مع الغباء الاستثنائي للتخطيط الأمريكي الذي يتخبط في ورطاته، ويتورط في تخطيطاته من مرحلة إلى مرحلة وفق إستراتيجية هلامية، اتفقت عليها النخبة الحاكمة في أمريكا.
هذه الإستراتيجية، كانت تقوم ـ حتى الانتخابات الأمريكية الأخيرة ـ على أمور ثلاثة أساسية وهي:
وهذه الإستراتيجية التي تبدو منطقية لدى الأمريكيين، هي في الحقيقة غير عملية؛ لأنها تستند إلى عدة افتراضات وهمية: الوهم الأول منها: هو افتراض أن الوجود الأمريكي سيظل ممكناً رغم فداحة الخسائر حتى تحقق أمريكا مصالحها وتؤكد هيبتها وتثبت عملائها، والوهم الثاني: هو توقع أن يوافق أحرار العراق على قرار أمريكا بالاستقرار في بلادهم دون أن يضاعف هبّتهم لرد الصاع صاعين في وجه الغزاة ومن يشابههم، والوهم الثالث: هو افتراض سهولة القضاء على المقاومة عسكرياً، أو تدجينها والتغرير بها سياسياً، والوهم الرابع: هو افتراض وجود القابلية للممارسة الديمقراطية في البنية الطائفية والعنصرية العراقية، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تقدم النموذج المحتذى ـ كما يحلم الأمريكان ـ في نشر ما يسمى بقيم الحرية والتعددية وقبول الآخر؛ فالطائفية والعنصرية في العراق جبرية قهرية تاريخية، لا يحيّدها أو يحد من أثرها إلا التوازن بين الأقوياء، ولا يزيل أوضارها إلا أخوّة الدين.
وعليه، فإن إستراتيجية أمريكا للانتصار في العراق هي إستراتيجية مفلسة سلفاً، لاستنادها إلى تلك الأوهام والافتراضات الخاطئة، وقد بدت أمام العالم مؤشرات إقبال الولايات المتحدة على مواجهة أسوأ النتائج المترتبة على انهيار إستراتيجيتها في العراق، وهذا وإن كان يحمل في طياته من المبشرات والتطمينات ما يحمل، وبخاصة فيما يتعلق بتسريع وتيرة الانسحاب المهزوم، إلا أنه يشير في الوقت نفسه إلى الكثير من المحاذير؛ لأن أمريكا التي ستواجه أسوأ النتائج، لا شك أنها وعملاءها سيُقْدِمون على أسوأ الحيل وأنذل التوجهات والإجراءات، للتغطية على النتائج الكارثية لهزيمتهم التاريخية في العراق.
والمتوقع أن يترجم هذا إلى عدد من التحديات الجديدة التي ستتوجب مواجهتها على الصعيد العراقي الخاص، والعربي الإسلامي العام.
ويمكننا أن نصنف هذه التحديات إلى مستويات عديدة، باعتبار أن تحديات ما بعد الانسحاب، لن تأتي من أمريكا وحدها، وإنما من أطراف عديدة، يمكن تفصيلها على الوجه التالي:
أولاً: أمريكا وخيارات الانتقام:
إن هذه التحديات الجسام، تحتاج إلى مئات العقول المفكرة، والقلوب النيرة والكفاءات القديرة كي تنتدب لمواجهة ما قد تخبئه الأيام لا على مستوى العراقيين فحسب، بل على مستوى الأمة كلها بالأقرب منها فالأقرب؛ فمن غير المقبول أن نكون شركاء في إجهاض النصر وتبخر الحلم وفقدان الفرصة، بترك هذه التحديات تمضي لغايتها. وبما أن العثور على الحلول لا يُنال بمجرد الآمال، فإن ذوي الرأي وأصحاب الفقه وأرباب التخصصات الدينية والسياسية والإستراتيجية والإعلامية في الأمة مدعوون اليوم بإلحاح إلى تقديم المستطاع من الرأي والمشورة، والتسديد والتقريب والنصيحة، إلى أصحاب القرار الإسلامي في العراق باعتبارهم نواباً عن الأمة في مواجهة الملمات التي تحيق بجزء من جسدها على أرض الرافدين، علماً بأن عاماً أو أكثر قد يمضي حتى ينتهي الاحتلال، وتبدأ مشكلات ما بعد الاحتلال.
ولعل ما يتبادر إلى الذهن منها ـ فيما يتعلق بالتحديات على المستوى الأمريكي ـ ما يلي:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ثم قال بعدها: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وهم المنافقون الممالئون للكافرين. ومن الخير أن يتواكب النصح مع الردع، بإقناع الفرقاء بأن العراق الموحد قوة للجميع؛ وتمزيقه إضعاف للجميع، فدعاة التقسيم لن يقفوا عن حد ثلاث دويلات للأكراد والسنة والشيعة، بل قد يسعون إلى مزيد من التفتيت حتى يصل الأمر ـ لا قدر الله ـ إلى أن نسمع عن الإمارات العراقية «المتحدة» ، مع الولايات الأمريكية المتحدة!!
ثانياً: إيران واللعب بالنيران:
هيام الفرس بعبادة النار قديماً، قد ترك آثاره فيما يبدو على تكوين مَنْ لم يتطهر بالكامل من أدران تلك النيران الفارسية الجاهلية الماضية؛ فالثورة والثأر والتثوير، كلها مفردات جاهزة للإنتاج والتصدير، في ظل معتقدات التشيع الفارسي التي حولت هذه السلوكيات الدخيلة إلى قربى إلى الله، وزلفى إلى أهل بيت رسول الله #، فانضمام الطبيعة الفارسية إلى العقيدة الشيعية، جعل مذهبهم ناراً على نار بدلاً من أن يكون نوراً على نور.
وقد أخرجت دوافع الثارات التاريخية القديمة أصحاب القرار في إيران عن كثير من فرضيات العقل والمنطق، فضلاً عن مقتضيات الدين والمصلحة، فراحوا يُحنون ظهورهم أمام العدو الكافر الظاهر ليمر من فوقها إلى اقتحام حرمات المسلمين ومقدراتهم في كل من أفغانستان والعراق، وسوف يكتب التاريخ بحروف سوداء تلك المواقف النكراء التي كرر بها هؤلاء سلوك أشياعهم وأجدادهم من أمثال نصير «الدين» الطوسي، ومؤيد «الدين» العلقمي الذين جعلوا من الدين ستاراً يخفي التآمر مع أعداء الدين.
وإذا كنا لا نزال نذكر مواقفهم في الموالاة الصريحة لـ «الشيطان الأكبر» قبل وأثناء وبعد غزو أفغانستان والعراق، فإننا ـ وبكل مرارة ـ نتوقع الأسوأ بعد أن تمضي سحابة الاحتلال السوداء الهوجاء.
وسيناريو التغلغل الشيعي على الصعيد السياسي أو العسكري، قد أسس له منذ البداية خميني العراق «الإيراني» السيستاني، فهو الذي دفع بالشيعة إلى الانخراط بقوة في العمل السياسي والعسكري في ظل الاحتلال الذي لن يقتصر في المستقبل ـ على ما يبدو ـ على جزر الإمارات العربية، بل يريد الامتداد للسيطرة على بعض العواصم العربية، بالتواطؤ مع الأمريكيين حيناً، وبالانفراد عنهم أحياناً.
وعلى غرار الجهد المطلوب لمواجهة التحديات الأمريكية، تتأكد الحاجة لجهود مضاعفة لمواجهة التحديات الإيرانية، ولعل من المعالم البارزة في هذا الصدد أن يجري استحضار الحقائق التالية:
1 ـ ليس كل الشيعة من أهل القناعات الدينية؛ فهناك شرائح منهم علمانية، ولكن الديني والعلماني في إيران، مشبع بروح فارسية، تستبطن العداء للعرب، وبخاصة السنة منهم، ولذلك فلن يكون لشيعة العراق العرب مهما توهموا كبير وزن في إدارة شؤون العراق إذا ما تمكنت إيران هناك، ولهذا فإن الحاجة ماسة إلى شىء من التأليف وتقريب الآراء بين العرب السنة والعرب الشيعة في العراق، لا على خلفية عنصرية ضد الفرس؛ فذلك ليس من الإسلام، بل على خلفية المصلحة العامة التي يحتاج إليها الطرفان في مواجهة التغول الإيراني القادم.
والذي نعرفه أن شيعة العراق من غير الفرس، أقل خبثاً وأدنى قرباً من السنة هناك، بفعل عوامل التعايش والتجاور والمصاهرة، وبخاصة العامة منهم؛ حيث يعتقد أنه يسهل كسبهم أو تحييدهم إذا افتضح استغلال الإيرانيين لهم.
2 ـ لأن شيعة العراق منهم المتدينون المتشددون، ومنهم العلمانيون والليبراليون؛ فإن رهان أمريكا منذ البداية كان على الشيعة العلمانيين، وبخاصة الليبراليين الذين رأت أنها يمكنها من خلال تمكينهم أن تدعي النجاح في إحلال قيم الحرية والديمقراطية في العراق، كنموذج أول في الشرق الأوسط.
ومن غير المستبعد أن تتدخل أمريكا بشكل ما، لإفساد الطبخة التي أنضجها الدينيون المتشددون في الانتخابات الأخيرة، لتعيد العلمانيين الليبراليين من أمثال العلاوي والجلبي إلى سُدَّة الحكم، وهذا ـ إن وقع ـ سيكون مقدمة صِدام مصالح آخر بين أمريكا وإيران على أرض العراق، وبوسع السنة أن يستفيدوا من هذا التناقض، وهم وحدهم الأقدر على اغتنام هذه الفرص.
3 ـ من الممكن أن يجد شيعة العراق العرب أنفسهم في خيار يدفعهم إلى التقرب من جديد إلى أهل السنة؛ وذلك عندما يكتشفون حقيقة الطمع الإيراني والجشع الأمريكي، وهنا ... فعلى سنة العراق ـ وبخاصة العلماء والدعاة ـ أن يحسنوا استثمار هذه الفرصة إذا سنحت، من خلال إعلان المبادرات المشتركة لحقن الدماء وإيقاف الشحناء، والانتقال ـ أو بالأحرى ـ الرجوع إلى صيغة التعايش التاريخية المعروفة عن شعب العراق حتى يهدي الله من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولا شك أن هذا الخيار قد يكون فيه الخير للطرفين؛ فالسنة ليسوا في حاجة إلى تكثير الأعداء، والشيعة ليسوا في حاجة إلى مزيد من الاستعداء لقوم بدا أنهم أولو بأس شديد إذا جاسوا خلال الديار.
ثالثاً: العراق: عراك ما بعد المعركة:
لكن الأمر سيختلف، والمنطق سيتعقد، والحسابات سترتبك، إذا ما تغيرت معالم المواجهة في الميدان العراقي بعد الانسحاب الأمريكي، سواء بفعل الأمريكيين الراغبين في إغراق أو إحراق العراق من بعدهم، أو بفعل الفرقاء المتشاكسين الذين سيحاول كل منهم أن يؤسس لواقع جديد، يخدم الشريحة التابعة له، ولهذا فإن ألواناً جديدة من التحديات على الساحة العراقية، ربما يتوالى ظهورها على مسرح الأحداث هناك، وهو ما يستدعي إعادة النظر في بعض الاجتهادات وربما الاستراتيجيات لمواجهة هذه المتغيرات بما يحفظ ما تحقق من مكاسب على صعيد المواجهة الكبرى مع أمريكا.
ومن التحديات المتوقع بروزها على المستوى العراقي ما يأتي:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] .
ü المواجهة لا الهروب:
عوَّدنا المجاهدون من أهل السنة في العراق، على الإقدام لا الإحجام، وعلى المجابهة لا الهروب من المواجهة، وأملنا أن تثبت الأقدام في مهمة الإقدام على مواجهة تلك التحديات قبل فوات الأوان؛ فالهروب منها أو تأجيلها لن يقلل من أهميتها، ولن ينفي خطورتها، على أنَّا لا يمكن أن نحمِّل المجاهدين، أو حتى عموم العراقيين مسؤولية المواجهة وحدهم لكل تلك التحديات؛ فالنازلة ليست خاصة بهم وحدهم، كما أسلفت في صدر المقال، وإنما هي عامة لكافة الأمة، وهي ينبغي أن توزع على الجميع ـ أعني التحديات ـ في صورة واجبات كفائية وعينية وفروض وقتية ومستقبلية، كل بحسب قدرته واستطاعته، مع تأكيد التذكير بأن المجاهدين الأبرار، قد قاموا عن الأمة، بما أزاح عن مجموعها الإثم وإزالة العار، فلا أقل من أن تقوم بقية صلحاء الأمة بقسطهم من الواجبات في مجابهة التحديات.
فعلى كل ذي رأي وخبرة واختصاص، من أصحاب الأقلام أو المنابر أو القدرات العلمية أو البحثية أو المالية، في كل ميدان يحتاج إليه أن يسارعوا للقيام بواجب النصرة، والمشاركة في صنع النصر، ولن يعدم حريص الوسيلة لإيصال النصيحة وتقديم العون وتيسير المنفعة، لمن يمسكون الآن بدفة تغيير التاريخ وتصحيح المسار.
ومع الاعتراف بأن التحديات المقبلة أكبر من قدرات قطاع إسلامي واحد في داخل العراق أو خارجه، لتفرعها وتنوعها، فإن ذلك لا ينبغي أن يصد عن التقريب والتسديد بحسب الاستطاعة، ولو كانت البداية ـ كما يحدث الآن ـ محاولة رصد أهم تلك التحديات، والبدء في دراستها، وتمييز الحقيقي منها والوهمي، والنظري والعملي، ثم وضع الأسس العريضة لمواجهتها، بتضافر الجهود بين المختصين والمجربين والمراقبين.
وهذه بعض المعالم العامة في هذا الموضوع:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وندرة المرجعيات العلمية المشهورة في العراق تحتاج إلى معالجة لا يكفيها المدى القريب، ولكن الضرورة تقضي بألا تؤجل وظائف هذه المرجعية حتى وجودها؛ فمن خارج العراق يمكن أن تدرس كبار المسائل، وتبحث دقائق النوازل بالتواصل العلمي الذي تيسرت أسبابه في عصرنا، وإن كان هذا لا يغني عن أن تنتدب طائفة من أهل السنة العراقيين لتعويض هذا النقص، لمعادلته بما هو حادث مع الطوائف الأخرى.(221/16)
ديمقراطية الاحتلال!
د. عماد محمد ذياب الحفيّظ
- المقدمة:
مما لا شك فيه أن بعض الفترات التي مرّت على العراق تم فيها تنفيذ خطط تنموية كان لها انعكاساتها الإيجابية على شعب العراق، ابتداءً من الاهتمام بالأسرة والنساء الحوامل، ووصولاً للنشء الجديد منذ الولادة؛ وذلك من خلال وضع برامج تهتم بالمحافظة على الطفولة ورعايتها لإعداد أجيال صحيحة الجسم والعقل قادرة على بناء عراق يتناسب ومتطلبات النمو والتحضر خلال أوائل الربع الأخير من القرن الماضي؛ وهذا ما شهدت به المنظمات الدولية.
ففي مجال رعاية الأمومة والطفولة صار الاهتمام في رفع الواقع الصحي والبيئي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي لخفض معدلات النسبة المئوية لأعداد المرضى والوفيات بين أفراد المجتمع وخاصة لدى الأطفال حديثي الولادة دون سن الخامسة، كما انتشرت الوسائل الحديثة لتنظيم الأسرة والتحصين ضد الأمراض الخطيرة والمعدية، كالسيطرة على أمراض شلل الأطفال والإسهال وأمراض الجهاز التنفسي؛ وصولاً إلى الاهتمام بقطاع الصحة المدرسية والتوعية الصحية للمجتمع، والرقابة الصحية والخدمات العلاجية لمختلف المراحل العمرية في المجتمع العراقي حتى شملت هذه الإجراءات أقصى وأصغر قرية عراقية؛ لذلك نلاحظ انخفاض معدلات الوفيات وخاصة وفيات الأطفال الذين هم دون سن الخامسة من العمر والأمهات في سن الإنجاب؛ وهذا ما لاحظناه في العراق حتى عام 1989 - 1990؛ حيث أوضحت المسوحات الميدانية والتقارير العلمية عن انخفاض معدل وفيات الأطفال إلى (25 وفاة) لكل ألف طفل، كما أوضحت أن معدلات وفيات الأمهات عند الإنجاب هي (11.7) حالة لكل مئة ألف حالة إنجاب، وهذا ما أيّدته تقارير منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف في حينها. بالإضافة إلى ازدياد المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات الحكومية في مختلف محافظات العراق، كما تم افتتاح وحدات خاصة للأطفال الخدَّج وحديثي الولادة في جميع مستشفيات الأطفال والمستشفيات العامة حتى بلغت هذه الوحدات (56) وحدة طبية قبل عام 1990.
وقد توصل القطاع الصحي في العراق بالماضي إلى نسب من التغطية في مجال التحصين ضد أمراض الطفولة إلى مستويات الدول المتقدمة حسب التقارير الصحية الدولية المعلنة؛ حيث وصلت النسب المئوية في إعطاء لقاحات بي سي جي واللقاح الثلاثي إلى أكثر من (97%) من أعداد الأطفال دون السنة الواحدة من العمر، فضلاً عن خفض معدلات عدد مرات الإصابة بالإسهال لدى الأطفال مرتين فقط خلال السنة، وارتفعت نسبة توعية الأمهات إلى نسبة (80%) من مجموع الأمهات في العراق عام 1989.
ثم بدأت بعد ذلك تظهر حالات سلبية كانت من انعكاسات الحصار بعد أحداث عام 1990 والذي استمرّ لأكثر من عشر سنوات ثم فترة الحرب عام 2003 وما تلاها حتى يومنا الحاضر، وهذا ما سنسلط عليه الضوء لتحديد هذا الواقع المرير الذي عاشه وما زال يعيشه شعب العراق وخاصة الأطفال الذين معظمهم ولدوا بعد عام 1990 أي أنهم ليس لهم أي ذنب في كل هذه المعارك والمآسي، ومع ذلك طالتهم التأثيرات السلبية المباشرة وغير المباشرة لهذه العمليات العسكرية، فحصدت الآلاف المؤلفة من أطفال العراق سواء كانوا ما زالوا أجنة في أرحام أمهاتهم، أو أطفالاً من فئات عمرية مختلفة؛ فضلاً عن آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم أو غيرهم.
- تأثير الديمقراطية على واقع الحياة في المدينة العراقية:
لم تتغير الطبيعة العامة على جانبي الطرق بين محافظات العراق؛ فالصحراء تارة تُصْلينا بقيظ صيفها ورمالها وسرابها الساطع، وتارة تبدو أراضيَ قاحلة وقرى قد هجرها أهلها طوعاً أو قسراً بعد أن حكم بالإعدام على مزارعهم لأسباب عديدة لا داعي للخوض فيها الآن.
إلا أن الطرق في العراق أصبحت أقل اعتدالاً واتساعاً للذهاب والإياب بين المدن، وقد ازدانت أرضياتها بالحفر والتصدّعات والكتل الكونكريتية، والتي تفصل بينها ساحات وسطية جرداء (يسميها العراقيون جزرات وسطية) وأسيجة معدنية ذات مواصفات يعتقدها بعضٌ تقارب في مواصفاتها شوارع أوروبا السريعة، وعند كل مسافة محددة تجد ساحات لوقوف الشاحنات والحافلات والسيارات الصغيرة، هذه الساحات نجد فيها مقاعد كونكريتية مظللة لاستراحة المسافرين أنيقة ومخصصة لها هواتف كانت تعمل قبل الاحتلال، إلا أنها غير موجودة الآن؛ فقد نهبت وحطمت صناديقها؛ فما عادت تنفع حتى لرمي القمامة، واختفى الجزء الأكبر من الأسيجة المعدنية لتباع أو تشترى، وتكسّرت مقاعد الساحات ومظلاتها.
عند مداخل كل مدينة من مدن العراق تشاهد بقايا حدائق وساحات فيها بقع من الزرع المتهالك المصفر بسبب شحة المياه التي لم تعد متاحة للمواطنين وخاصة بعد أن فاضت مجاريها، فأصبحت تلك الساحات لرمي القمامة والأزبال بعد أن كانت حدائق غناء تذهب إليها العوائل العراقية للراحة، وليلعب فيها الأطفال، واليوم هي مرتع للفئران والحشرات والحيوانات والأطفال السائبة (عذراً فهذا هو الواقع) !
أما عن أسواق المدينة فقد غاب الكثير من معالمها وهندستها بعد أن طال اشتياقها إلى عقول المهندسين وأيادي العمال المهرة الذين كانوا يعملون على عمرانها وصيانتها وإدامتها، فأصبحت تحل بين زواياها ومداخلها المهملة البسطات أمام المحلات والدكاكين التي أنهكتها حرارة الشمس وظروف القتل والمداهمات والاعتقالات العشوائية والإجرامية، والقصف الجوي والمدفعي لتحيل المدن والبلدات والقريات قاعاً صفصفاً؛ وطبعاً وفق مقاييس طائفية وعرقية، ولتبدأ رحلة كل يوم مع انقطاع التيار الكهربائي وشحة مياه الشرب، فتختلط على القادم قطرات عرق العمل وعرق القيظ مع قطرات الدموع حيث تتكفل ظلمة الليل حجب الواقع المرير الذي تعيشه كل مدينة، أو بلدة، أو قرية عراقية، وما خفي كان أعظم.
- مدن في ظل ديمقراطية المحتل:
نجد بين رواد الأسواق وباعتها في المدن السيدات العراقيات قد ذبلن وهزلن، لا بفعل السنين فحسب بل لغياب معظم مقومات الحياة أو ارتفاع أسعارها، وما يلاقينه من ضنك وعذاب.
أما اللون المفضل لدى معظم نساء وشابات العراق اليوم فهو اللون الأسود الذي أصبح السائد في كل مدينة، ليس بسبب استمرار حالات الوفيات بين أفراد العائلة الواحدة أو أقاربها وجيرانها وأصدقائها، بل لقتلهم بأيدي آثمة لأسباب طائفية أو عرقية، أو بسبب الجريمة المنظمة التي تقف وراءها ميليشيات تقبض الثمن وبحماية جهات من السلطة الحاكمة لحمايتها في تحقيق مآربها أو مآرب المحتل، وهذا ما ترك بصمته على رغبتهن في ارتداء ثياب ذات ألوان مختلفة نتيجة حالة العتمة النفسية التي يعشنها على مضض.
ومع إشراقة صباح يوم جديد تخرج لتتجول بين شوارع وأزقة المدينة العراقية تستوقفك أوضاع الباعة القاعدين والمتجولين والزاحفين والعاجزين؛ فمنهم الصغير دون عشر السنوات، ومنهم الشيخ الذي تجاوز الستين من عمره، وعلى شاكلتهم المتسولون الأطفال أولاداً وبنات ورجالاً مسنين ومسنات، وأحياناً تجد أسرة قد افترشت الرصيف لتتسول، ومن هذه الأسر من جعل أنفاق السابلة في شوارع مراكز المدن مساكن لهم، ثم تشاهد المعوقين ولا ندري من أي معوقي حرب هم؟ ولماذا يتسوّلون؟ أو يعملون كباعة متجولين أو ماسحي زجاج سيارات عند الإشارات الضوئية يتدافعون أو باعة صحف وجرائد على الأرصفة يلهثون.
وإن رغبت أن تبحث عن جريدة لتقرأها وتتابع ما كتبت صحافتهم أو قراءة بعض خطوطها العريضة فستجدها ومعظم وسائل إعلامهم تنطق بالطائفية المتطرفة أو العرقية المتعصّبة، وقد تم شراء ذمم معظم أقلام هذه الصحف من قِبَل المحتل؛ وذلك لنشر الديمقراطية التي يصوّرونها بالأمل المنشود في المستقبل غير المعهود بالواقع الممجوج، إلا أنك لن تجد سوى صحف قد تقزمت حتى لا يتجاوز عدد وحجم صفحاتها ربع حجم الجريدة الاعتيادية، وسعرها أصبح 150 ديناراً عراقياً لكنها تباع بمبلغ 500 دينار أو تزيد؛ فالسواد شمل كل شيء وليس أسواقها فقط؛ فقد أصبحت قراءة الصحف نوعاً من الترف والإسراف المالي بعد أن كانت بالحجم والوسيلة التي يراها القارئ تناسبه، لذا يضطر بعضهم إلى أن يقرأ الجريدة لقاء أجر وزمن معلوم ليعيدها للبائع كي يقرأها مستأجر آخر بمبلغ بسيط وهكذا؛ وعليك أن لا تعترض؛ فهذا حق مشروع في الممارسات الغريبة في ظل الديمقراطية الغربية القادمة من بلاد ممارسات الغرائب والعجائب التي أحالت المدن المحرّرة الى خرائب.
- العدالة والحرية في ظل محتل ديمقراطي:
أصبح الأطفال والرجال والنساء والشيوخ يكتشفون ويبتكرون أعمالاً لا تخطر على بال أحد كي يعيلوا عائلاتهم أو يرفعوا مستوى مدخولاتهم بما يتناسب ومتطلبات الحياة اليومية؛ ففي النهاية هي أفضل من السرقة والانحراف، وأحفظ للشرف والكرامة، وأفضل من بيع طفله أو أحد أعضاء جسده؛ فالبطالة قد تمكن المحتل من القضاء عليها حتى أصبحت نسبتها 65% اليوم، والعمل متاح لمن يؤيد الاحتلال ويروّج لمشاريعه المختلفة من فساد وفجور وانحراف وشذوذ لبسط نفوذه ومخالبه بجسد الضحية؛ حيث أصبح المجرم عادلاً، والسارق مانحاً، والخائن مخلصاً، والكافر عابداً، والكاذب صادقاً، والذي يقاوم الاحتلال سلباً أو إيجاباً جاحداً؛ وحدّث ولا حرج؛ فكل شيء مخالف للقيم فهو فكر متجدّد غير بائد.
نعم! إن الكل يشكون من واقع معاشي صعب في الوقت الذي يجني فية كبار موظفي الدولة غير المسؤولين، بل المنتفعين بمليارات الدنانير العراقية دون رقيب أو حسيب، فأصبح أصحاب المهن الحرة والباعة وصغار الموظفين والمتقاعدين جميعاً يعانون، مما اضطر معظمهم إلى بيع أثاثه وأجهزته المنزلية، ومنهم من باع أبواب وشبابيك بيته، بل وباع دار سكنه كي يستطيع أن يعيل أسرته؛ فالأجور والمرتبات لا تكفي إلا جزءاً يسيراً من أيام الشهر كي يعيل عائلته، ونجد أيضاً أن الإكرامية والبقشيش أصبحت حقاً مدفوعاً للصنائعي والعامل والضابط والموظف والمسؤول؛ وإن اختلفت مستوياتهم؛ ومسؤولياتهم فهي حق مشروع لإنجاز عمل لك أو معاملة تأخر إنجازها أو عمل تتقدم لتعمل فيه؛ ففي كل يوم عليك أن تدفع؛ ابتداءً من عامل التتنظيف، ومروراً بسائق النقل العام وموظف الحكومة وغيرهم من الذين يعملون على حماية الممتلكات الشخصية والعامة؛ فالكل يطالبون بحق معلوم كالسائل والمحروم.
أجل هذه حقيقة في بلد كانت تعتبر الإكرامية فيه رشوة وهي جريمة تؤدي الى السجن وإن غابت الديمقراطية، وكانت الرشوة إهانة لا يرضاها أحد مهما صغرت أو كبرت طبيعة عمله، بل وكانت تعتبر حالة من حالات التخريب الاقتصادي والاجتماعي، واليوم تغض عنها الطرفَ الجهاتُ القضائية والأمنية والشعبية المعنية؛ فالكل أصبحوا متساوين كأسنان المشط بالفساد المالي والإداري. عذراً هناك أمشاط قد تتباين أحجامها وعند ذاك لا تتساوى أسنان مشط مع أسنان مشط آخر.
ما أصعب الواقع إن أردت أن تحيا حياة كريمة ودخلك الشهري لا يتجاوز 100 دولار أمريكي أو أقل وحتى لو يزيد في الوقت الذي تفرض عليك احتياجاتك الشهرية أن يكون دخلك الشهري لا يقل عن 500 دولار أي حوالي 750 ألف دينار عراقي أو يزيد، فالدولار الواحد لا يعني سوى 1500 دينار وقد يقل أو يزيد يومياً. ماذا تشتري بهذا الدخل وإن كانت توجد الحصة التموينية لك ولأفراد أسرتك؟ فبكم تشتري المأكل الذي لا توفره لك الحصة التموينية؟! وما أطول قائمة المأكل وما أقصر قائمة التموين؟! وبكم تشتري لأطفالك عند ذهابهم إلى المدرسة؟! فبذلة الطفل لا تقل عن 25 ألف دينار، وحذاؤه لا يقل عن 10 آلاف دينار، والقائمة تطول؟ أم تشتري القرطاسية للابن والبنت، فهي لا توفرها الجهات التعليمية بما فيها قلم الرصاص الذي سعره يتراوح ما بين 100 - 200 دينار، وكراسة المدرسة سعرها يتراوح ما بين 200 ـ 400 دينار، وكم تستطيع أن تشتري منها خلال العام الدراسي وغيرها وغيرها وغيرها؟
أما كيف تراجع عيادة الطبيب لعلاج أحد أفراد أسرتك إن أصيب بمرض أو زوجتك الحامل؛ فأجرة الطبيب في كل مرّة تتراوح بين 5000 ـ 10000 دينار أو تزيد؟ وكم أجرة سيارة التاكسي إن توفر البنزين ولو في السوق السوداء؟ كما أن المستشفيات الحكومية حدّث عنها ولا حرج؛ فحتى الدواء لا توفره لك دون أن تدفع الحق المعلوم ابتداء من الاستعلامات ووصولاً إلى أعلى مسؤول فيها، وإن أردت أن تعالج أسنانك فإنك ستحتاج لما يتراوح ما بين 100000 إلى 200000 دينار لعلاج أبسط أنواع مشاكل الأسنان وحتى يومنا الحاضر، وإن الدواء الذي كانت الدولة توفر جزءاً منه، إلا أنها كانت توفره عادة لأصحاب الأمراض المزمنة فقط كمرض السكر ومرض القلب وضغط الدم وغير ذلك من الأمراض وبكمية لا تتناسب وحاجة العلاج؛ واليوم أصبحت عملية توفيره أزمة مزمنة، بينما باقي أنواع الدواء فهي غالباً مفقودة؛ لأنها قد تجد طريقاً تخرج به من المستشفيات الحكومية أو مخازنها إلى الصيدليات الخاصة وباعة السوق السوداء، ومنهم من يفترش الأرصفة لبيع تلك الأدوية، وقد تجد أدوية بيطرية تباع لبني البشر في ظلٍّ ديمقراطي غريب؛ حيث تجد الدواء الذي تبحث عنه وإن طال انتظاره وقصر النظر في سعره كيوم عزّ حرّه عند منتصف نهاره وارتفاع شمسه كارتفاع سعره للمواطن البسيط.
- شعب في ظل الديمقراطية النموذج:
هل عليك أن تحكم على نفسك وأسرتك بالإعدام كي تنقذوا أنفسكم من طول المعاناة، أم تحاول جاهداً وبمختلف السبل المشروعة أو غير المشروعة لتوفير ولو جزءاً يسيراً من احتياجاتك اليومية؟!
فقد نجد مثلاً طفلة بعمر تسع سنوات تبيع الماء في الشوارع والساحات المزدحمة منذ شروق الشمس وحتى غروبها، أو طفلاً بعمر عشر سنوات يبيع السجاير عند مواقف الحافلات والساحات العامة وقد يروّج أحياناً المخدرات مع السجائر، وغير ذلك من الوسائل والأساليب التي يلجأ إليها رب الأسرة وزوجته وأطفاله كي يقاوموا الاحتلال ويصمدوا أمام قسوة الإنسان والزمان في ظروف وساعات لا يعلم بها إلا الله؛ فما أدراك ما طبيعة هذه الظروف والساعات، وكيف دفعت بعضاً لترك الوطن، وإن أردت أن تذهب للأسواق للتبضّع وشراء بعض حاجاتك أو لأسرتك فستجدها أسواقاً سوداء لآخر حجر فيها، معتمة حتى في تفاصيلها؛ هذا فضلاً عن الحشيش والمخدرات التي دخلت مع المحتل الديمقراطي أو من خلال الحدود الإيرانية أو غيرها دون رقيب إن لم يكن بحمايته.
إلا أنك لن تجد كل ما تشتهيه نفسك ابتداءً من الخبز الفرنسي في حي المهندسين، والرغيف اللبناني قرب ساحة أبو جعفر المنصور، والفستق الحلبي والإيراني عند المعرض الدولي، والزيتون اليوناني والجبنة الهولندية والشكولاته اللندنية والمعلبات الأمريكية، والزبدة الدانماكية والمارتديلا الإيطالية وغيرها… وغيرها، مما لذ وطاب لمن هو قادر على الشراء دون استحياء ولا يُسأل من أين لك هذه الثروات، وكيف حصلت عليها دون سابق إنذار في ظل ديمقراطية الاحتلال؟
كما توجد في كل مدينة عراقية شريحة حديثة التكوين وهي شريحة الدلالين والدلالات والطفيليين والطفيليات والسارقين والسارقات والقاتلين والقاتلات والخاطفين والخاطفات والمتزلّفين والمتزلّفات بدأت بالظهور بشكل كبير بعد الاحتلال الأمريكي حيث بداية الانفتاح على المستورد مع زيادة دخل العراق بفعل ارتفاع عائدات النفط والتي بلغت 20 مليار دولار سنوياً، إلا أن شعب العراق ظل يلهث ويتدافع في طوابير من أجل الحصول على لقمة العيش التي زاحمه عليها القاصي والداني من الأغراب والمغتربين الجاحدين الذين جاؤوا لتطبيق ديمقراطية الاحتلال، حتى كاد العراقي أن يعيش الغربة في وطنه بعد أن رفضته كل الأوطان.
لقد تطورت هذه الشرائح الشاذة والمنحرفة التي فرضتها ديمقراطية المحتل في العراق؛ فالحضارة تتطوّر في كل أرجاء العالم خلال فترة ما بعد حرب عام 2003؛ فأصبح لهذه الشرائح حدود مفتوحة ومعالم مسموح بها خلال القرن الحادي والعشرين بسبب أحداث فترة ما بعد الحرب في عام 2003، وإن مجال نشاطات هذه الشرائح قد قويت شكيمتها على الأرصفة والطرقات قرب الأحياء التي يسكنها من هم الأفضل دخلاً والأكثر حباً للمحتل في المنطقة الخضراء وما جاورها. أما في الأحياء الشعبية والفقيرة كأحياء مدينة العامل والشعب والحرية والأعظمية والكرخ فلا يمكن القول سوى: أكرمْ عزيز قوم ذل؛ فالأسواق التي كانت مزدحمة وصاخبة كالسوق العربي وسوق الشورجة والسوق العباسي وسوق الثلاثاء وغيرها أصبحت أثراً بعد عين بعد أحداث عام 2003 في ظل الديمقراطية.
- قادة المجتمع الديمقراطي الجدد:
إن معظم بضائع المجتمع الديمقراطي في العراق ليست ذات علامات تجارية مسموعة أو معلومة من الملابس والمكياج والعطور والمواد الغذائية المختلفة، بل تحدّد وفق أسعار يفرضونها على المستهلك المضطر وليس له بديل، وهناك أيضاً من هم متخصصون في إنتاج وتسويق المشروبات الغازية ومساحيق الغسيل وزيوت ودهون الطبخ والسجائر والدقيق وعلب حليب الأطفال دون المواصفات المقبولة، وغير ذلك من المواد الغذائية المغشوشة في ظل حماية رقيب إن حضر فله حق معلوم من فم السائل والمحروم.
بل لقد ظهرت شريحة أخرى في العراق هي شريحة مقاولي أو متعهدي تجارة الأزبال والقمامة ومسوّقي منتجات من علب الشامبو وقناني العطور والمشروبات الغازية المستوردة وجميعها فارغة بعد استخدامها، ومخلّفات المواد البلاستيكية والصفائح المعدنية وغيرها من المنتجات التي يعملون على بيعها إلى وسطاء آخرين لتسويقها بعد تعبئتها بالمواد المغشوشة لتباع كبضاعة أصلية بما في ذلك علب وقناني الدواء، ووجدت هناك من يتاجر بالمواد البلاستيكية المستهلكة وبقايا عظام الحيوان والإنسان والخبز ومخلفات المطاعم وغير ذلك من أنواع البضائع التي أصبحت لها أسواق رائجة في العراق، كل حسب استخداماته وحاجة السوق له، خاصة أن تلال الأزبال والقمامة في المدينة العراقية أصبحت معلماً معروفاً من معالم أزقتها وأحيائها بعد أن كانت أطلال آثار حضارات بلاد الرافدين من أهم معالمها، إلا أن الآثار أخذت هي الأخرى تُسرق وتهرّب إلى خارج العراق من قِبَل أشخاص محتلّين ومن يتبعهم من الغاوين لا شعور لهم بالمسؤولية، بل إن بعضهم جاء محرراً لا غازياً كما يقولون ومبشرين بمفاهيم ديمقراطية صوّروها كقدوم العروس في يوم زفافها لتجلس في الخدر العراقي، وكأن حالهم يقول ساخراً: هنيئاً للشعب العراقي في يوم زفافه بظل الديمقراطية التي تأسّست على تزوير الانتخابات ونهب الثروات وغيرها مما هو فات أو آت.
- الواقع الديمقراطي الجديد:
أصبح للجريمة سطوتها وهيبتها وعلى اختلاف مستويات مسؤوليها ومريديها، ابتداء من سرقة قناني غاز الطبخ ومنظماتها، ومروراً بملابس الغسيل والسيارات والأثاث المنزلية وكل ما غلا ثمنه وخف وزنه، ووصولاً إلى جرائم خطف الأطفال والنساء والرجال من أجل مبلغ من المال، وجرائم احتيال الشركات والمكاتب الوهمية، وجرائم القتل العمد والاعتداء على المحارم، وغير ذلك من الجرائم التي لم يسمع بها شعب العراق من قبل؛ فهي من إفرازات وثقافة ديمقراطية الاحتلال بعد عام 2003 وما جرّت بعدها من ممارسات ديمقراطية لا يعلم خفاياها إلا الله سبحانه وتعالى؛ أضف إلى ذلك جرائم التزوير ابتداء من تزوير العملة المحلية والأجنبية (الصعبة) ووصولاً إلى تزوير مستندات الملكية والوثائق الرسمية والاستيلاء على أراضي المقابر لأغراض شخصية، وشراء العقارات والأراضي بحجج ما أنزل الله بها من سلطان في المدن التي يقولون عنها مقدّسة، حتى أصبح لهذه المهن أسواق مثل سوق الحرامية في مدينة (؟!) وغيره الكثير الكثير؛ فهذا زمان شهرزاد لتروي لنا قصصاً جديدة من ليالي بغداد عمن غادر أو عاد الى ما ضاع من البلاد.
أجل! هكذا تغيرت المدينة العراقية التي ما عدنا نعرفها أو كأن أهلها هجروها وحل محلهم قوم آخرون ليس لهم صلة بأهلها أهل مدينة السلام كما سمّاها أبو جعفر المنصور ـ رحمه الله ـ عذراً فقد تم تفجير نصب مؤسّس بغداد هناك مؤخراً من ِقبَل مجهولين، وما أطول قوائم الاتهام ضد هؤلاء المجهولين في ظل الديمقراطية ... ديمقراطية الاحتلال.
__________
(*) عضو اتحاد المؤرخين العرب.(221/17)
الملفات المتتابعة
د. يوسف بن صالح الصغير
لقد عاش العالم في السنوات الأخيرة مرحلة دبلوماسية الملفات المتتابعة، وتتلخص في فتح ملف بلدٍ ما عن طريق تصريح مسؤول أو مقالة صحفية مقربة من دوائر صنع القرار، أو محاضرة في إحدى الدوائر الرسمية، ثم يُسَكت عنها حتى يخال المرء أن القضية انتهت، وينشغل العالم بملف جديد ومن بعده آخر. وبدون مقدمات يعود الملف الأول إلى واجهة الأحداث لفترة من الزمن، ومن ثَمَّ يوضع على الرف مرة أخرى بعد أن يصل الملف إلى نقطة جديدة تصلح أن يبدأ منها، أو إلى طريق مسدود ينبغي أن يتم التراجع عنه. إنها سياسة الخطوة خطوة مع تعدد الملفات وهو ما يمكِّن صناع السياسة في الغرب من التعامل مع ملفات شائكة كثيرة بصورة متوازية، وكل ملف يتقدم فيه العمل ينتقل إلى مرحلة جديدة. فمثلاً يبدأ الملف دعائياً، ثم دبلماسياً، وينتهي غالباً عسكرياً.
وعلى هذا يُفْهَم الملف العراقي بعد حرب الكويت الذي تعدى مرحلة الحسم العسكري الفاشل إلى مرحلة الخروج المشرف، والملف الكوري الذي يعيش حالياً مرحلة سُبات، والملف السوري الذي شهد تسخيناً شديداً تُوِّج بتهديدات وإملاءات وصلت إلى حد طلب التحقيق مع رأس النظام والتلويح بتوظيف تمرد نائب الرئيس عبد الحليم خدام على النظام. ويعيش الملف السوري حالياً مرحلة التقاط أنفاس وترتيب الأوراق من جديد؛ فنائب الرئيس الأمريكي يقابل سعد الحريري وآلاف المتظاهرين ضد التدخل الأمريكي في لبنإن في محيط السفارة الأمريكية في بيروت؛ وذلك استعداداً لجولة جديدة بعد الجولة الحالية في تسخين الملف الإيرإني الذي وصل إلى مرحلة متقدمة دفع رئيس الوزراء الإيرإني إلى محاولة فتح جبهة تنفيس جديدة بالكلام عن أسطورة إبادة اليهود في أوروبا وأن الأوربيين إذا ارادوا الاعتذار الجاد لليهود فليقيموا لهم كياناً في النمسا أو ألمانيا وليس في فلسطين، وأن من استخدم الأسلحة النووية ضد الأبرياء في العراق هم الذين يستحقون العقاب.
إنها محاولات متأخرة؛ فقد شاركت إيران في تسهيل مهمة الغرب في السيطرة على افغانستان والعراق على امل سيطرة الشيعة الموالين لها على العراق، وتجاوز أتباعها الحد في اضطهاد السنة تحت الراية الأمريكية، وهي الآن تواجه مأزقاً استراتيجياً حيث أصبح التورط الأمريكي في العراق والإحساس المتزايد لدى الأمريكإن بأن سياستهم السابقة بمحاربة السنة بالشيعة تخدم مصالح إيران بقدر ما تضر بمصالحهم في المحيط السني دافعاً لأمريكا للضغط على إيران من أجل تقزيمها بل وتفكيكها، ولا يستبعد أن تثور قضية تهميش السنة في إيران، وبدلاً من تقسيم العراق يتم تقسيم كلٍ من إيران والعراق، وتدخل المنطقة في مرحلة اضطراب طويلة قد يمتد لهيبها إلى كل دولة في المحيط يوجد فيها تنوع طائفي. والذي أريد إن أصل إليه أن كل دولة فُتِحَ لها ملف فهو مؤجل حتى الفراغ من بقية الملفات، وليتذكر الجميع أن كل من يعين أمريكا على إغلاق ملف فهو يقرب من أوان فتح ملفه الخاص.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(221/18)
سجون أمريكا في أوروبا
يحيى أبو زكريا
تُجري العواصم الأوروبية فيما بينها مشاورات واسعة للوصول إلى صيغة موحدة لمواجهة الاختراق الأمريكي المتكرر للجغرافيا الأوروبية وقوانينها بهدف إقامة سجون أمريكية في أكثر من منطقة أوروبية.
وقد أدّى كشف بعض الصحف الأوروبية وبعض البرامج التلفزيونية عن هذه الحقيقة إلى استياء أوروبي شعبي واسع واكبه استياء رسمي وخصوصاً عندما صرح بعض الرسميين في بعض العواصم الغربية أن لا علم لهم بهذه السجون الأمريكية في المواقع الأوروبية (1) .
وللإشارة فإنّها ليست المرة الأولى التي يجري فيها اختراق القوانين الأوروبية من قِبَل الأجهزة الأمنية نفسها؛ فقد سبق للدانمارك أن عرضت على دول الاتحاد الأوروبي مشروع قانون لمراقبة محطة التجسس الهاتفي والإلكتروني الأمريكية الموجودة في بريطانيا، والتي تكمن وظيفتها في التجسس على ملايين المكالمات وبشكل يومي انطلاقاً من بريطانيا، ومن ثَم ترسل هذه التسجيلات الدقيقة والمعقدة إلى أمريكا لفحصها وفرزها وامتصاص ما ينفع الأجهزة الأمنية المشار إليها.
وتلا ذلك قيام عناصر المخابرات الأمريكية باختطاف العديد من الأشخاص من الأراضي الأوروبية ودون علم المؤسسات الرسمية وهو الأمر الذي ولّد نقاشات برلمانية حادة في أكثر من عاصمة أوروبية حول عدم احترام الأجهزة الأمنية الأمريكية للقوانين المعمول بها في أوروبا والتي على رأسها عدم جواز اعتقال أي شخص إلاّ من خلال إذن خاص من الجهات القضائيّة المختصّة.
كما أنّ الأجهزة الأمنية الأمريكية باتت تأمر الأجهزة الأمنية الغربية أن تعتقل من تراه مشبوهاً، وتطالب باستمرار بتسلم هذا وذاك من إيطاليا والسويد والدانمارك والنرويج؛ وهو الأمر الذي أحرج الأجهزة الأمنية الغربية أمام الرأي العام الأوروبي والذي أبدى انزعاجه من هذه الخروقات الأمريكية لحرمة القوانين الأوروبية.
وقد بات مألوفاً في أوروبا أن تحطّ الطائرات الأمريكية في بعض المطارات الأوروبية وتنقل من تشاء أو تسجن من تشاء في سجونها الخاصة المنتشرة في بعض الدول الغربية والمتاخمة لقواعدها العسكرية المحصنة التي تعتبر دولة داخل دولة، وتتمتّع بحصانة كبيرة. ولم تكتفِ أمريكا بذلك؛ بل استغلت فقر بعض الدول الأوروبية التي كانت محسوبة على المحور الاشتراكي سابقاً وساومتها على إقامة سجون على أراضيها مقابل مساعدات مالية وتسهيلات اقتصادية.
وقد أدّت هذه الخروقات إلى نفور شعبي أوروبي من هذه التصرفات تجلّى من خلال المقالات والتعليقات الصحفية اليومية ومواقع الإنترنت التابعة لبعض التيارات الأوروبية المناوئة للأمركة، وقد وصل هذا الانزعاج إلى المؤسسات البرلمانية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي التي ستبحث في هذه الخروقات الأمريكية للقوانين الأوروبية وإقامة سجون لمعتقلين يجري اعتقالهم بدون حكم محكمة أو سند قانوني، وأغلب هؤلاء المعتقلين يُخطَفون من دول أخرى ويؤتى بهم إلى تلك السجون دون أن تعرف دولهم أو أهلوهم عنهم شيئاً.
وتعليقاً على هذه السجون الأمريكية التي أصبحت شبه منتشرة في بعض الدول الأوروبية يقول أعضاء في حركة الهجوم الغربية المناوئة للأمركة والعولمة الأمريكية: إنّ أمريكا تريد تعميم تجربة (سجن غوانتنامو) في الغرب؛ فهي بعد أن أقامت ذلك السجن في كوبا تريد تعميم التجربة نفسها في دول الاتحاد الأوروبي ودون علم بعض الرسميين الأوروبيين الذين سافر بعضهم إلى أمريكا وطلب من الإدارة الأمريكية بعض الاستفسارات بخصوص هذه الخروقات، كما فعل وزير العدل السويدي الذي سافر إلى أمريكا قبل فترة للاستفسار عن طائرة المخابرات الأمريكية التي حطّت في مطار (بروما) السويدي وخطفت مواطنيْن من مصر كانا قد طلبا اللجوء
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.
(1) هذا ما كشفته (صحيفة الصندي هيدالد) الأسكتلنديه ونشرته البيان في العدد (219) لشهر ذي القعدة معرَّباً تحت عنوان: رحلات التعذيب ـ البيان ـ.(221/19)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
مفكرة الشهر
16/11/1426هـ: مشروع قرار أمريكي بحجب المساعدات إذا شاركت حماس في الانتخابات.
17: 5000 متظاهر ضد منظمة التجارة العالمية في هونغ كونغ.
18: بوش يعترف أن بعض قراراته في العراق كانت كارثية.
18: الانتخابات العراقية: الائتلاف الشيعي ثم جبهة التوافق السنية ثم قائمة علاوي.
19: سنة العراق يتهمون الشيعة بتزوير الانتخابات ونتانياهو يفوز بزعامة الليكود.
20: قاض بلجيكي يخلف ميليس في رئاسة لجنة اغتيال الحريري.
21: تشاد تتهم السودان بجرها لحرب أهلية وتطالب بتدخل دولي.
22: رامسفيلد يعلن سحب 7500 جندي أمريكي من العراق ربيع 2006م.
23: كشف برنامج سري لمراقبة مساجد ومنازل مسلمين في أمريكا بحثاً عن قنابل نووية.
24: محكمة فلسطينية تفتح باب الترشيح خصيصاً لقائمة فتح بعد انتهاء المدة.
25: طائرات إسرائيلية تقصف غزة لفرض منطقة عازلة شمال القطاع.
26: افتتاح الدورة الأولى للبرلمان العربي الانتقالي.
27: رجال الأعمال يسيطرون على الحكومة المصرية الجديدة.
28: القاعدة في العراق تتبنى إطلاق صواريخ كاتيوشا على أهداف إسرائيلية من جنوب لبنان.
29: مقتل 25 لاجئ سوداني في مصر في محاولة الشرطة تفريق اعتصامهم.
1/12 عبد الحليم خدام يتهم الرئيس السوري بتهديد الحريري قبل مقتله.
1: بوتفليقة يعود إلى الجزائر بعد رحلة علاجية استغرقت 36 يوماً في فرنسا.
2: حزب البعث السوري يطرد عبد الحليم خدام من عضويته.
3: لجنة التحقيق الدولية تطلب التحقيق مع بشار الأسد.
4: مسلحون من فتح يقتحمون الحدود المصرية ويقتلون جنديين، وتسلل المئات في الاتجاهين.
5: الشرطة الإسرائيلية تعلن امتلاكها أدلة على تلقي عائلة شارون رشاوي.
6: حالة شارون الصحية تدخل مرحلة خطيرة.
7: الاحتلال يسعى للتحاور مع بعض تنظيمات المقاومة العراقية لتفريقها ودفعها للعمل السياسي.
8: خبير أمريكي: حرب العراق تكلف أمريكا 2000 مليار دولار.
9: إيهود أولمرت يترأس مجلس الوزراء الإسرائيلي.
10: دول مجلس الأمن تشن هجوماً حادّاً على إيران لاستئناف النشاط النووي.
11: السي آي إيه: القاعدة في العراق تراجعت نتيجة مقتل عدد كبير من أنصارها.
12: حماس تسقط تدمير إسرائيل من برنامجها الانتخابي وتكتفي باستعادة حدود عام 67م.
13: طائرة أمريكية تقصف قرية باكستانية حدودية وتقتل 18 أكثرهم نساء وأطفال.
14: وليد جنبلاط يصف حزب الله الشيعي بأنه سلاح غدر والحزب يرد بأنه لو تجسد الغدر في رجل لكان جنبلاط.
15: رئيس محكمة صدام حسين يستقيل بعد انتقادات شيعية تتهمه بالتساهل.
15: ست مجموعات جهادية تعلن تأسيس مجلس شورى للمقاومة في العراق.
16: مدير الوكالة الذرية لا يستبعد القوة لإجبار إيران على التراجع نووياً.
علامة تعجب
موعد على العشاء
ارتكب القيادي في القاعدة أيمن الظواهري جريمة كبرى عندما تخلف عن موعد العشاء في أحد المنازل الباكستانية على الحدود الأفغانية، فهو بذلك تسبب في أن يُقتل 18 باكستاني بقصف أمريكي دون فائدة تذكر، ولعله لو حضر وقُتل لكان في الأمر تسلية لأهالي القتلى.
هكذا يريدنا الأمريكيون والحكومة الباكستانية أن نعتقد؛ فقد أدى فشل العملية إلى وقوع الطرفين في مأزق، وعلى الفور قامت حكومة مشرف باتخاذ موقف صارم فاستدعت السفير الأمريكي إلى الخارجية، يعني مسافة أمتار قليلة، لكي يحتسي الشاي مع وزير الخارجية بينما يبلغه استياء حكومته.
وللأسف كان السياسيون الأمريكيون أكثر صراحة، ولم يندم أحد منهم لمقتل باكستانيين أو يعترف بالخطأ، فقط هم يأسفون، وتساءل السيناتور إيفان بايه قائلاً: «الحادث مؤسف.. ولكن ماذا كان ينبغي علينا فعله؟» ..
حزب شارون.. موضة «كاديما»
أسس شارون حزبه الجديد «كاديما» أو بمعنى أدق «فصَّله» ليناسب مقياسه السياسي، وهدفه أن يعبِّر من خلاله عن رؤيته السياسية، وضم إليه أشتاتاً من كل الأطياف الإسرائيلية، ولكن شارون الآن على فراش الموت، والحزب فقد هدف تأسيسه، رغم ذلك يريد شذاذ الآفاق الذين جمعهم شارون مواصلة المسيرة، مع كونهم كتلة غير متجانسة وغير متفاهمة: العمل اليساري - الليكود اليميني - شينوي العلماني، كما أن الناخب اليهودي عادة ما يتأثر بشخصية الزعيم أكثر منه تأثراً بالحزب أو برنامجه، وهذه الحقيقة تنسف الفخر بإسرائيل بنظامها الديمقراطي؛ ففي نهاية الأمر يبقى الأشخاص هم الأساس، ولا قيمة لما يسمى: برامج الأحزاب..
من يغسل أوروبا 7 مرات؟
فضلات الكلاب تملأ الشوارع في المدن الأوروبية، هذه أزمة حقيقية تعاني منها الحضارة الغربية، فهناك في ألمانيا وحدها 5.3 ملايين كلب مسجل رسمياً تصل فضلاتهم اليومية إلى 2500 طن، وفي بودابست - المجر - هناك 400 ألف كلب في المدينة تخلف نحو 14600 طن من الفضلات سنوياً يعادل وزنها ما يتجاوز وزن برج إيفل في باريس وعجلة الألفية في لندن معاً.
مرصد الأخبار
أمريكا تدرب المقاومة العراقية
كشف الأستاذ في «دراسات السلام والأمن الدولي» في جامعة أمهرست الأميركية (مايكل كلير) أن أساليب المقاومة داخل المدن العراقية هي أكثر ما يثير القلق في أوروبا وأمريكا حالياً؛ لأنها تمثل «النموذج المثالي للمعارك داخل المدن الذي لم يكن متوافراً في أفغانستان» واوضح أن «القوات المعادية للأميركيين في العراق تتدرب في الشوارع والمباني، وتستخدم عبوات ناسفة يدوية الصنع، وتلجأ إلى قناصة وانتحاريين، كل ذلك يسهل للغاية نقله إلى مدينة أوروبية، وسيكون في غاية الخطورة فيها» .
ورأى محللون في (سي آي إيه) في تقرير ذكرته صحيفة نيويورك تايمز ان «العراق قد يكون بالنسبة للمتطرفين الإسلاميين ميدان تدريب اكثر فاعلية من أفغانستان؛ لأنه بمثابة مختبر أقرب إلى ظروف القتال الحقيقية في المدن» .
وقال جيريمي بيني المتابع للمقاومة العراقية في مجلة «جاينز» البريطانية المتخصصة إنه في أفغانستان «كان هناك تكتيك حرب الشوارع التقليدية؛ حيث ينسحب المقاتلون إلى معاقل جبلية» . وتابع «في العراق يتم اللجوء إلى منازل آمنة ولا تلفت الانتباه، وتهريب أشياء أمام أنظار قوات الأمن وتطوير تكتيكات مثل السيارات المفخخة والسترات الناسفة والعبوات المزروعة على حافة الطرقات، كل هذا أكثر تكيُّفاً مع شروط حملة إرهابية داخل المدن» .
وقال «إنهم في الوقت الحاضر يقاتلون في العراق، ويبدو أنه لم يبدأ بعد إرسالهم إلى أماكن أخرى، لكنه أمر يثير مخاوف كبيرة لدى أجهزة الأمن لأسباب واضحة» . ورأى الخبير أن «الأخطر ليس الشخص الذي قصد العراق لتفجير نفسه، بل أولئك الذين يدربونهم ويطورون التقنيات، عددهم ليس كبيراً على الأرجح ولا بد أنه لا يتعدى بضع مئات وليس بضع آلاف، لكنهم يمكن أن يكونوا على خطورة كبيرة» .
وقال مايكل كلير: «كلما طالت الحرب العراقية تدربوا بشكل أفضل على هذه الأساليب وازدادوا خطورة» ..
[ميدل إيست أون لاين 12/1/2006م]
الصحاف في نسخته الأمريكية
مجموعة لينكولن، هي مؤسسة للعلاقات العامة تتخصص في «الاتصالات الاستراتيجية» في مناطق الصراعات، ومقرها في واشنطن ويترأس هذه الشركة ضابط استخبارات سابق في سلاح البحرية الأمريكية، ومنذ عام تقريباً قرر الاحتلال الأمريكي أن يكثف الحملة في المناطق السنية، فتم منح مجموعة لينكولن 20 مليون دولار لتشوه سمعة المقاومة وتدعو لمساندة الحكومة العراقية، تميهداً للانتخابات الأخيرة، وقد أنفقت المجموعة اكثر من 16 مليون دولار على الإعلانات في التلفزيون العراقي، كما أغدق المال على اللوحات الإعلانية في الشوارع وفي الإذاعة واعلانات شبكة الأنترنت، إضافة إلى خدمة «الرد السريع» لمجابهة مزاعم المقاومة العراقية.
وقام ضباط أمريكيون بكتابة مقالات وقصص صحفية نشرت بأسماء عربية، أحدها نشر في جريدة «الصباح» في بغداد بعنوان: أطفال قتلوا على أيدي الإرهابيين، وكتبه ضابط أمريكي، وقال فيه: «هل أذعنّا واستسلمنا؟ أي رجل أكون إن تسامحت إزاء مجزرة أطفالنا؟ وأي كائن بشري أكون إن أنا تغاضيت عن ذبح الأبرياء؟ وأي صنف من المسلمين أنا إن أنا وقفت صامتاً بينما يقتل من لا أخلاق لهم أطفالنا باسم الله وباسم النبي محمد #؟
وتظهر الوثائق ان جريدة «الصباح» دفع لها اكثر من 1500 دولار لتنشر المقال. وثمة مقال آخر اعدته مجموعة لينكولن لينشر في صحيفة «الزمان» ، وهي إحدى صحف بغداد «المستقلة» ، وأقر مصدر في جريدة «الدستور» العراقية بتلقيه مبالغ مالية من سلطات الاحتلال.
وما مجموعة لينكولن سوى واحدة من حشد كبير من شركات العلاقات العامة الأمريكية التي تلقت ملايين الدولارات من البنتاجون «لتهيئة الساحة الإعلامية وتمهيد سبلها» .. من مقال كتبه ديفيد إداوردز المحلل السياسي في موقع ميديالينس..
[صحيفة الخليج 28/12/2005م]
جلطة في العقيدة
زعم القس الأمريكي الشهير (بات روبرتسون) أن الجلطة الدماغية التي أصيب بها رئيس الوزراء الإسرائيلي (أرييل شارون) غضب إلهي على «تقسيم أرض (إسرائيل) المقدسة» .
وقال (روبرتسون) في أحد برامجه المتلفزة إن «الله يغضب على الذين يقسمون أرضه؛ لأنه يعتبر هذه الارض ارضه» . وقال (روبرتسون) إنه شخصياً «حزين» لشارون وأنه يصلي من أجله مضيفاً: إن «أي رئيس وزراء إسرائيلي» يتبع سياسة شبيهة بسياسة شارون «لتهدئة خواطر الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة» سيحرك نفس الغضب الإلهي.
ودان السفير الإسرائيلي لدى الامم المتحدة داني ايالون تصريحات روبرتسون التي وصفها بانها: معيبة.
[موقع شام برس 7/1/2006م]
قل: سخافة ولا تقل: صحافة
أدركت للمرة الأولى الضغوط الهائلة التي تمارس على الصحافيين الأمريكيين في الشرق الأوسط، عندما ذهبت قبل سنوات لوداع زميل من صحيفة «بوسطن جلوب» ، كان مراسلاً في المنطقة، فقال لي إنه مسرور؛ لأنه لم يعد مضطراً إلى تغيير الحقيقة لكي تناسب قراء صحيفته الأكثر صخباً.
قال: «كنت أدعو حزب الليكود «الإسرائيلي» بوصف «الجناح اليميني» ، ولكن محرري صحيفتي أصبحوا يطلبون مني في الآونة الأخيرة ألا أستعمل هذه العبارة؛ فقد احتج عدد كبير من قرائنا عليها» .
وليس ذلك إلا قمة جبل جليد الدلالات اللغوية، الذي ارتطم بالصحافة الأمريكية في الشرق الأوسط. فالمستوطنات اليهودية غير الشرعية، «مستعمرات» على نحو بيّن، ولا أستطيع تذكر اللحظة التي بدأنا فيها استعمال كلمة «مستوطنات» . ولكن قبل سنتين تقريباً استُبدلت كلمة «مستوطنات» بتعبير «تجمعات المنازل اليهودية المجاورة» ، بل حتى بتعبير «المواقع الأمامية» في بعض الحالات.
وبالمثل، تم تخفيف تعبير الأراضي الفلسطينية «المحتلة» ليصبح الأراضي الفلسطينية «المتنازع عليها» امتثالاً لتوجيه وزير الخارجية الأمريكية يومئذ كولن باول سنة 2001 إلى السفارات الأمريكية.
ثم هنالك «الجدار» ، العائق الأسمنتي الهائل، كثيراً ما يشير إليه الصحافيون في هذه الأيام بتعبير «السياج» بدلاً من «الجدار» أو يدعونه بوصف «الحاجز الأمني» وهو ما تفضل «إسرائيل» أن يدعوه به.
والأثر الدلالي لهذا التشويش الصحفي واضح؛ فإذا تم بناء مستعمرة يهودية بصورة غير شرعية على الأرض العربية، فهي ببساطة «مجموعة منازل» صديقة مجاورة جميلة، ومن ثم فإن أي فلسطيني يهاجمها لا بد أنه ينفذ عملاً إرهابياً غبياً، وبالتأكيد، ليس هنالك سبب يدعو إلى الاحتجاج على «سياج» أو «حاجز أمني» ، وهي كلمات تستحضر في الذهن صورة سياج حول حديقة، أو حاجز متحرك عند مدخل مجمع سكني خاص.
وقد أصبح الصحفيون منذ زمن طويل متواطئين مع الحكومات في جعل الصراع والموت أكثر تقبلاً لدى المشاهدين، وبذلك أصبحت الصحافة مساعداً فتاكاً للحرب
[بتصرف، عن روبرت فيسك مراسل الإندبندنت البريطانية في الشرق الأوسط.. المركز الفلسطيني للإعلام] .
مجرد إقتراح وزارة التعذيب السنية
كشف اللواء منتظر السامرائي المسؤول السابق عن القوات الخاصة بوزارة الداخلية العراقية تفصيلات جديدة حول فضائح التعذيب في السجون السرية للداخلية العراقية، وذلك في حوار مع فضائية العربية،، فقال إنه كانت هناك قوات تابعة لوزارة الداخلية العراقية مهمتها «إلقاء القبض على الأشخاص ليلاً» .
وقال السامرائي الذي كان يتحدث من خارج العراق: إن وزير الداخلية (بيان جبر) كان قد أصدر أمراً بعد تسلمه الوزارة «بمنع أي حركة لأي قطعة عسكرية من أي وحدة من وحدات الداخلية إلا بعلم وزير الداخلية ... وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تخرج قوات عسكرية بعد ساعات فرض حظر التجوال في بغداد الساعة الحادية عشر ليلاً بكافة الأسلحة والمعدات إلا إذا كانت هناك سلطة تحركهم» ، وتحدث السامرائي عن تشكيل «جهاز الأمن الخاص وهو مرتبط بشكل مباشر بوزير الداخلية الحالي ولا يسمح لأي شخص سواء وكلاء الوزارة او المستشارين بالتداول مع الأشخاص المسؤولين فيه» .
وقال السامرائي: إن مقر هذا الجهاز الأمني كان ملجأ الجادرية الذي ارتبط اسمه بفضيحة أماطت اللثام عنها القوات الأمريكية قبل أكثر من شهر حيث وجد فيه أكثر من 170 معتقلاً تبين فيما بعد تعرضهم لتعذيب وسوء تغذية.
وقال السامرائي: «إن عناصر من منظمة بدر الشيعية المسلحة تم تعيينها وضمها إلى مؤسسات وزارة الداخلية العراقية وأن «الأوامر الإدارية لتعيين أفراد ميليشيات بدر كانت تصدر من قِبَل وزير الداخلية» .
وكشف السامرائي عن وجود «أكثر من ستة سجون معروفة في بغداد ... وكل لواء أو مقر قيادة تابع لوزارة الداخلية له سجن» .
وأضاف: إنه بحكم موقعه في سلم المسؤولية في وزارة الداخلية كان بإمكانه الاتصال بجميع المعتقلين في سجون وزارة الداخلية «إلا المعتقلين في ملجأ الجادرية. وعرض السامرائي قائمة قال إنها تحوي أسماء ضباط عراقيين من ذوي الرتب الكبيرة اغتيلوا «في شهر رمضان من بينهم أحد عشر ضابطاً برتبة عميد أو عقيد تم تصفيتهم»
[موقع سويس إنفو 15/1/2006م]
شخصيات وراء الأحداث
وليد جنبلاط:
هو زعيم الطائفة الدرزية في لبنان ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والكتلة النيابية المسماة «اللقاء الديمقراطي» ورث زعامة الطائفة والحزب بعد مقتل أبيه كمال جنبلاط عام 1977م، واشتهر بتغيير ولائه حسب المناخ السياسي، فرغم أن أصابع الاتهام أشارت إلى نظام الأسد في اغتيال أبيه إلا أنه سافر إلى دمشق بعد الاغتيال بأربعين يوماً والتقى الرئيس حافظ الأسد، الذي أرسل قواته عام 1983 لدعم جنبلاط ضد القوات اللبنانية التي اجتاحت مقره في جبل لبنان، وكان جنبلاط يقول: أفضل لبنان تحت هيمنة سورية، وعبر عن علاقته القوية بالأسد قائلاً: «كلنا تعلمنا من مدرسة الأسد» ولكنه انقلب على سوريا منذ عام 2000م وأصبح مؤيداً لسياسة واشنطن، وتصاعد العداء إلى درجة دعوته إلى تدخل دولي لتغيير النظام في دمشق، كما وصف الرئيس بشار الأسد بالرجل المريض، واتهمه بمحاولة قلب الأغلبية في مجلس النواب عن طريق الاغتيال، وهو ما عرضه لانتقاد زعيم الدروز في سورية الشيخ حسين جربوع. ويتحالف جنبلاط حالياً مع تيار المستقبل الذي يتزعمه سعد الحريري، رغم مواقفه السلبية من السنة في الحرب الأهلية، كما يتحالف حالياً مع أعدائه السابقين (سمير جعجع) زعيم القوات اللبنانية بالإضافة إلى (أمين الجميل) . ويحتفظ جنبلاط في الوقت الحالي بعداء كبير مع تيار (ميشيل عون) الماروني الذي ينافسه انتخابياً في محافظة جبل لبنان، وقد وصفه (عون) بأنه مثل «سائق التاكسي لا يملك موقفا محدداً» واعتبره الرئيس السابق (سليمان فرنجية) «فتنة متجولة» ، وقد أيد جنبلاط اتفاق الطائف أولاً ثم عارضه بعد ذلك قائلا إن: «الاتفاق أكله سمك القرش ثم لفظه» في إشارة إلى دمشق.
ويقف جنبلاط حالياً في مواجهة حزب الله و (نبيه بري) زعيم حركة أمل وحليفه السابق، وهو يعد ابنه (تيمور) الذي يدرس العلوم السياسية في فرنسا لخلافته.
سين وجيم
س: كيف يمكن الجمع بين الحملة الأمريكية الشرسة على إيران وبين التقارير التي تتحدث عن تعاون خفي بينهما في مجالات متعددة؟
ج: يقول أحد السياسيين الغربيين المخضرمين: «السياسة هي قبل كل شيء: تحديد العدو» وفي المفهوم الغربي الميكيافيللي للسياسة لا توجد جهة يمكن وصفها بأنها عدو مطلق؛ فالسياسة تدور مع المصالح؛ والمصالح تتغير وتتمحور غالباً حول المنفعة الاقتصادية قبل أي شيء آخر.
ومبدأ التقاء المصالح مع الأعداء له أمثلة تطبيقية كثيرة في التاريخ السياسي الأمريكي، وفي مطلع السبعينيات اعترفت واشنطن بأنها شاركت في تطوير وتجهيز نظام الدفع الصاروخي العابر للقاراتMIRV الخاص بالاتحاد السوفييتي عدوها اللدود، كما أن الشركات الأمريكية الأبرز: جنرال موتورز، وفورد دعمتا حكومة هتلر في الحرب العالمية الثانية بشتى السبل، حتى إن الأولى صنعت حوالي 50% من محركات الطائرات المتقدمة للنظام النازي وهو ما دفع هتلر لمنح أحد مديريها وساماً من الدرجة الأولى، والعجيب أن الشركة حصلت على تعويض من الإدارة الأمريكية قدره 33 مليون دولار جراء تدمير الطائرات الأمريكية لمصانعها في ألمانيا النازية أثناء الحرب، وكان أحد رؤساء الشركة البارزين يقول: «ما هو جيد لجنرال موتورز فهو جيد لأمريكا» .
و (بريسكوت بوش) جد الرئيس الأمريكي الحالي، كان اقتصادياً بارزاً في ذلك الوقت، وكان له تعاملات مالية متعددة ومعروفة مع النازية أثناء الحرب العالمية الثانية.
وأثناء الحرب العراقية الإيرانية كانت أمريكا تدعم العراق، بينما حليفتها إسرائيل كانت تهرِّب قطع الغيار للطائرات الإيرانية وتدرب طياريها سراً في ألمانيا.
والخلاصة: أن السياسة الأمريكية لا تجد حرجاً في أن تصنع سلاحاً لتقتل شخصاً ما في نفس الوقت الذي تتفاوض معه على نعوش بأسعار جيدة.
ومن ناحية أخرى فإن الثورة الإيرانية اشتعلت تحت المجهر الفرنسي الأمريكي، وكان في إيران وقتها أربعون ألف خبير أمريكي في مختلف المجالات لم يتدخلوا لدعم الشاه الحليف الذي احترق، وأيضاً فإن إيران كما هي سوريا، لا تريد واشنطن إسقاط النظام فيهما دون توفر البديل، إذ إنهما يلعبان دوراً مهما في التوازن وفي دعم السياسة الأمريكية بصورة غير مباشرة، وفي المفهوم الأمريكي لا تقل صناعة الأعداء أهمية عن صناعة الحلفاء، ولكل دور.
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
أخبار
زيادة اعتناق الطلاب اليهود للإسلام:
طالب كبار الحاخامات اليهود المسؤولين في الوكالة اليهودية بالتعاون الفعال فيما بينهم في المرحلة الحالية، لحل مشكلة اعتناق عدد كبير من الطلاب اليهود بالدول الأوروبية وخاصة فرنسا للإسلام.
[صحيفة معاريف 22/12/2005م]
مواليد فلسطين في ارتفاع:
لا تزال المعضلة الدموجرافية تميل بكفتها نحو الفلسطينيين، فالملاحظ أيضاً أن نصف سكان العرب المسلمين في «إسرائيل» والأراضي الفلسطينية هم أولاد قبل سن العاشرة، في حين أن ثلث أطفال «إسرائيل» ليسوا يهوداً.
[من التقرير السنوي لمركز أريئيل الخاص بالدراسات السياسية والاجتماعية]
المستوطنون يمارسون البلطجة:
وقفت الشرطة «الإسرائيلية» عاجزة عن اتخاذ اي خطوات لمنع شبان التلال - أبناء عُتاة المستوطنين اليهود المتطرفين - من بناء 14 موقعاً استيطانياً جديداً في الضفة الغربية.
أغر ب التعليقات صدرت عن مسؤول بالجيش «الإسرائيلي» ، قال: «لا يمكننا أن نقوم بالرد على استفزاز؛ فهذا الأمر هامشي بجانب واجباتنا الأخرى» .
[عن موقع حركة السلام الآن «الإسرائيلية» ]
6 أحزاب جديدة بالكيان الصهيوني:
سجلت وحدة تسجيل الأحزاب والحركات السياسية بالكنيست 6 أحزاب سياسية جديدة، ليصبح عدد الأحزاب والحركات السياسية في «إسرائيل» 73 حزباً وحركة سياسية. [قناة الكنيست التلفزيونية 1/1/2006م]
تصريحات عبرية:
«لا أشعر بالراحة هذه المرة على حالة أبي الصحية» [عمري شارون - معاريف 19/12/2005م]
«تلقيت من رئيس الوزراء المصادقة على حماية أمن إسرائيل، في الداخل والخارج. وهذا يعني اننا قد نقوم بعمليات على أعدائنا في الخارج كما نقوم بها مع أعدائنا في الداخل» .
[رئيس الموساد «مائير دجان» 28/12/2005 للإذاعة الصهيونية العامة]
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
التنصير في المغرب [مجلة المجتمع الكويتية 19/11/2005م]
ذكرت مجلة المجتمع أنه خلال الأعوام الثلاثة عشر الماضية نفذت السفارة الفرنسية ومراكز وإرساليات أجنبية تنصيرية أساليب في التنصير، منها إغراء الشباب في المغرب العربي للحصول على الجنسية الفرنسية نظير التخلي عن دينه، وقالت المجتمع إن جريدة «لوموند» الفرنسية نشرت تحت عنوان «المسيحيون الجدد في المغرب العربي» شهادات لمنصرين أوروبيين يعملون من أجل تنصير الشباب في المغرب العربي، وقالت الصحيفة بوضوح: «إن التوقيت صار مناسباً للتنصير بسب وصم الإسلام بتهمة الإرهاب والعنف» !
التنصير ينشط في تشاد [دعم ـ القاهرة ـ 23/12/2005]
في تصريح خاص لوكالة بلدي الإخبارية المتخصصة (دعم) قال الصحفي التشادي محمد آل الحاج، إن الولايات التشادية شهدت خلال السنوات العشرين الماضية حملة تنصيرية شرسة، وقال آل الحاج إن هناك وسائل صريحة وأخرى خفية، كما أن هناك وسائل تقليدية وأخرى حديثة، واتخذت الأنشطة الصليبية نوعين مختلفين في التنصير:
1 ـ النقاش أو السفسطة والتشكيك.
2 ـ اختطاف الصغار وإيوائهم في كنائس خاصة، أو تسفيرهم إلى بلاد أخرى غير معلومة.
واستطاع آل الحاج أن يرصد 25 من المؤسسات التنصيرية التي ترعى هذه الحملات، وفي أفريقيا وحدها وفي تشاد بالذات والدول المجاورة لها ما يزيد عن سبعين منظمة كنسية تنصيرية تعمل ليل نهار.
عمر البشير: التمرد في دارفور هدفه تنصير أفريقيا:
[دعم ـ القاهرة 20/12/2005]
في لقاء مع قناة «اقرأ» الفضائية، قال الرئيس السوداني عمر البشير: «إن التمرد في دارفور هدفه تنصير أفريقيا وطمس عروبة السودان» ، ويذكر أن الكنائس في السودان وأفريقيا هي في المقام الأول مقرات إدارية لتوجيه الأنشطة التنصيرية والسياسية والعسكرية في المنطقة، وأن النتائج التي حققها الجنوب هي ثمرة هذه الجهود.
حملة تنصير الطفل الفلسطيني [دعم ـ القاهرة ـ 3/1/2006]
كشفت أوراق صادرة عن الدار العالمية للكتاب المقدس الفاتيكانية، وزعتها إحدى الإرساليات الأمريكية في مصر احتفالاً برأس السنة، عن بدء حملة تنصيرية كبيرة في كل من مصر ولبنان وفلسطين في وقت واحد، بالمشاركة بين كنيستين كاثوليكيتين أمريكية وإنجليزية، وكان النصيب الأوفر من هذه الحملة للطفل الفلسطيني الذي يعاني ظروف الاحتلال الصعبة، وتطبق الحملة خطة علمية دقيقة تستخدم الجذب والإبهار من خلال عناصر فنية تشويقية مفعمة بالمفاهيم التنصيرية، والتركيز على منهج الضخ اللاشعوري لتعديل الأفكار وتبني أفكار بديلة.
ومن الأشكال الفنية:
1- العروض المرئية:
أ - حدوتة من الكتاب المقدس.
ب - المغامرون الصغار. كرتون.
ج - فيلم كرتون (الملك المنتصر ـ يسوع) .
2- القصص السلوكي وكتب التلوين القصصية:
أ - قصص الكتاب المقدس المصورة للأطفال.
ب - رسالة كرازية (دعوية) بعنوان خبزنا اليومي.
ج - رسالة بعنوان: اسلكوا للمحبة.
د - رحلات جماعية مشتركة للكنائس والمزارات المسيحية.
هـ - يوميات خادم، ويوميات طبيب للأطفال.(221/20)
مقالات معربة تقرير أوروبي سري
يشن هجوماً على الدولة الصهيونية
ترجمة: براق عدنان البياتي
الناشر: صحيفة «The New Zealand Herald» النيوزيلندية.
خلُص تقرير بالغ الحساسية للاتحاد الأوروبي إلى أن: «على الحكومات الأوروبية أن تنظر في وسيلة التدخل المباشر، كمحاولة لكبح الإجراءات المنسّقة التي تقوم بها الدولة العبرية لتوسيع سيطرتها وزيادة حجم سكانها في الجزء الذي يُعدّ تاريخياً - وقانونياً - عربياً؛ القطاع الشرقي للقدس.
ويُحذّر التقرير السرّي ـ الذي أعدّه كبار الدبلوماسيين الذين يمثلون حكومات الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرين في مدينة القدس ـ من أن فرص الحلّ القاضي بإقامة دولتين آخذة بالتلاشي، بسبب «السياسة الصهيونية المُتعمدة لإكمال ضمّ القدس الشرقية» ، والذي يُعدّ خرقاً للقانون الدولي.
وقد صوّت وزراء الخارجية الأوروبيون هذا الأسبوع ضدّ نشر التقرير، الذي يُحذّر أيضاً من أن التوسّع السريع للمستوطنات اليهودية داخل وحول القدس الشرقية ـ الذي يصاحبه استخدام الجدار الفاصل لعزل القدس الشرقية عن الضفة الغربية ـ «يُخاطر باحتمال دفع فلسطينيي القدس الشرقية ـ الهادئين نسبياً ـ إلى التطرّف» .
ويوفّر التقرير تصوراً ـ يُعدّ الأكثر تفصيلاً والأقسى نقداً ممّا هو معروف حتى الآن، من قِبَل هيئة دولية غربية ـ عن سياسة إسرائيل في القدس الشرقية، التي ترسف في أغلال الاحتلال منذ تمّ الاستيلاء عليها في حرب الأيام الستة عام 1967م.
ويشير التقرير إلى «أن القدس، كما هو الحال، واحدة من أصعب المسائل» في طريق الوصول إلى اتفاق سلام نهائي بين الدولة الصهيونية والفلسطينيين. ويضيف أنه نتيجة لتلك الإجراءات فإن «فُرص الحلّ القاضي بإقامة دولتين تكون وفقها القدس عاصمةً لفلسطين، آخذة بالانحسار» .
ومن بين التوصيات التي جاءت في التقرير ـ الذي أُعدّ في شهر تشرين الأول/ أكتوبر، خلال فترة رئاسة بريطانيا للاتحاد الأوروبي التي ستنتهي الشهر القادم ـ حثّ الاتحاد الأوروبي للنظر في سلسلة من الخطوات، تتضمن الدعم المباشر لمشاريع تساعد الفلسطينيين على الخوض في معارك قانونية ضدّ عمليات هدم المنازل، التي تُنوّه إلى أنها تضاعفت ثلاث مرّات خلال عام 2004م، وضدّ الرفض الدائم لمنح رخص البناء لجميع الفلسطينيين، خلا أقليّة صغيرة منهم.
كما يقترح التقرير عقد لقاءات مع القيادة الفلسطينية في القدس الشرقية، على افتراض أن ذلك سيدلّ على أنه - خلافاً لهدف الحكومة الإسرائيلية الذي يفضي إلى أن القدس هي «عاصمتها غير المقسّمة» - يرى القدس الشرقية عاصمة المستقبل لدولة فلسطينية.
هذا؛ وقد تمّ الترويج بشكل واسع النطاق (لدى الصهاينة) لخبر أن اجتماع وزراء الخارجية للاتحاد الأوروبي قد انتهى إلى قرار ضدّ نشر التقرير في صيغته الحالية، على اعتبار أنه سيعرّض علاقة الاتحاد بالدولة اليهودية للخطر، وخصوصاً أن (الدولة العبرية) قد منحت ـ وللمرة الأولى ـ تأييدها لأن يقوم الاتحاد الأوروبي بدور أمني ريادي في المنطقة، من خلال مراقبة معبر رفح (نقطة العبور من غزّة إلى مصر) .
معلوم أن الاتحاد الأوروبي قد مُثِّل على مستوى عال في الحفل الرسمي عند افتتاح المعبر من قِبَل الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
ويبيّن التقرير المذكور ذو الإحدى عشرة صفحة ـ الذي سُرّب إلى [صحيفة الإندبندنت «The Independent» اللندنية]ـ أن مشروع «E1» للقيام بتوسعة ضخمة لـ «Ma'ale Adumim» المستوطنة الإسرائيلية الأكبر في الضفة الغربية، لربطها بالقدس «يهدّد بإكمال تطويق المدينة بالمستوطنات اليهودية، مُقسّمة بذلك الضفة الغربية إلى منطقتين جغرافيتين منفصلتين» . ويقول التقرير إنه في الوقت الذي يحتل فيه سكان المستوطنة الـ 30000 الحاليون نسبة 15% فقط من المنطقة المخطّط لها في الوقت الحاضر، إلاّ أن الخطّة الإجمالية تضع في تصوّرها مساحة تبلغ 53 ميلاً مربعاً - أكبر من مساحة تل أبيب - ممتدة عبر الضفة الغربية ما بين القدس وأريحا.
والمخططات ستقسّم الضفة الغربية ضمنياً وعزلها عن القدس الشرقية، كما جاء في التقرير الذي يُنوّه ـ أيضاً ـ بأن: «الإمكانيات الاقتصادية للضفة الغربية (التي يبلغ المعدل السنوي للناتج المحلّي الإجمالي «GDP» فيها حوالي 1000 دولار للشخص الواحد) تعتمد بشكل كبير على إمكانية الوصول إلى القدس الشرقية (التي يبلغ معدل الـ «GDP» السنوي فيها حوالي 3500 دولار للشخص الواحد) » . ثم يضيف: «ومن منظور اقتصادي فإن إمكانيات وديمومة دولة فلسطينية تعتمد إلى حدّ كبير على المحافظة على التواصل العضوي بين كلٍّ من القدس الشرقية ورام الله وبيت لحم» .
ثمّ يُعقّب التقرير أنه عندما يتمّ إكمال الجدار الفاصل فإن (الدولة العبرية) «ستسيطر على جميع المنافذ، من وإلى القدس الشرقية، عازلة بذلك مدنها الفلسطينية المتناثرة الفضاء: بيت لحم، ورام الله، وبقية الضفة الغربية وما بعدها، وسيكون لذلك عواقب اقتصادية واجتماعية وإنسانية وخيمة على الفلسطينيين.
وبتعنّت سلطة الاحتلال في تطبيق سياسات تخصّ الإقامة وبطاقة الهوية الشخصية، ستصبح (الدولة العبرية) قادرة على إتمام عزل القدس الشرقية، المركز السياسي للتجارة والبنية التحتية للحياة الفلسطينية» .
ثم يضيف: «إن نشاطات (الدولة العبرية) في القدس تُعدّ انتهاكاً لالتزاماتها فيما يخصّ (خارطة الطريق) وللقانون الدولي. لقد قمنا، نحن وآخرون في المجتمع الدولي، بالتعبير عن قلقنا وبوضوح في مناسبات عديدة تفاوتت درجة تأثيراتها. والفلسطينيون، دون استثناء، قلقون جداً بشأن القدس الشرقية؛ حيث إنهم يخشون من أنه سيُتغاضى عمّا تفعله (الدولة العبرية) تحت ستار انسحابها من غزة» .
ويذكر التقرير أن مستوطنات يهودية صغيرة داخل المناطق الفلسطينية يتم إقامتها أحياناً من قِبَل مستوطنين «مُستغلّين صعوبة المعاناة المالية للفلسطينيين أو ببساطة: قيامهم باحتلال الأملاك بالقوة» .
وبجانب اقتراحها أن نداءً رسمياً من قِبَل الاتحاد الأوروبي والرباعي الدولي ـ الذي تقوده أمريكا ـ إلى (الدولة العبرية) ـ للتوقف عن الإضرار بمفاوضات الهيئة النهائية، من خلال تصرفاتها في القدس الشرقية ـ سيكون «مناسباً من حيث التوقيت» ، فإن هناك اقتراحاً آخر للاتحاد الأوروبي بأن ينظر في «استثناء القدس الشرقية من نشاطات تعاون معيّنة ممّا يشترك بصدده الاتحاد الأوروبي مع (الدولة العبرية) » . ومع أن التقرير لا يقولها صراحة؛ فإن ذلك قد يعني بواقع الحال إيقاف التمويل الأوروبي لمشاريع الطرق والسكك الحديدية، التي تخدم عملية الاستحواذ على الأراضي الفلسطينية.
ويشير التقرير إلى أن الغرض من إبعاد حَمَلة بطاقة الهوية الشخصية ـ التابعة للضفة الغربية ـ عن القدس الشرقية، وحَمَلة بطاقة الهوية الشخصية ـ التابعة للقدس الشرقية ـ عن الضفة الغربية «من المؤكّد تقريباً أنه من أجل تخفيض حجم سكان القدس الفلسطينيين، بينما يتم تفعيل الجهود لرفع عدد اليهود الصهاينة الذين يعيشون في المدينة، شرقاً وغرباً» .
__________
(*) مصدر المقالة الأصلية: http://www.nzherald.co.nz/section/story.cfm?c_id=2&ObjectID=1035697(221/21)
الثقافة الإنسانية بين رؤيتين
د. عبد السلام رياح
نحصر الرؤيتين المذكورتين في العنوان فيما يتحكم بثقافة تريد الخير للناس، وتمهد أسبابه وسبله من أجل الوصول إليه، وهو ما نسميه «ثقافة الرحمة» ، وفي ما يسلك سبلاً أخرى مخالفة، غير مكترث من لدن أصحابه بشيء مما يحقق نفعاً للإنسانية، محكومين في ذلك كله بعزة تأخذهم بأنهم أعلم الناس، وأفقه الناس، وأجدر الناس بألاَّ يعزب عنهم شيء من قضايا الحياة،
ولكي يتبين لنا ما نريد بكلامنا هذا؛ فإننا نحبذ أن نحدد المفاهيم الأساسية التي يدور عليها هذا المقال، حتى يسير عملنا على صراط مستقيم ويُدفَع اللَّبسُ والغَبَش عما نقول، وليكن ذلك في الآتي:
- تحديد المفاهيم:
أ - مفهوم الثقافة:
ترجع دلالة الثقافة في اللغة إلى الحَذَق، والفهم، وسرعة التعلم، والظفر، والأخذ، والتسوية.
قال ابن منظور: «ثَقِف الشيءَ ثَقْفاً وثِقَافاً وثُقُوفَة، حذِقه، ورجل ثَقْف وثَقِف وثَقُف، حاذق فهِم، ويقال ثقِف الشيءَ، وهو سُرعة التَّعلم، وثِقف الرجلَ ظَفر بِه، وثقِفنا الرجلَ بموضع فلان؛ أي أخذنَاه، وتَثقِيف الرِّمَاح تَسويِتُها» (1) .
وقال صاحب القاموس المحيط: ثَقُف ككَرُم وفَرِح، ثَقْفاً وثَقَفاً وثَقَافَة، صار حَاذِقاً خفِيفاً فَطِناً، وثَقِفَه كسمِعه صَادَفَه، أو أخَذَه، أو ظَفَر به، أو أدرَكَه، وثَقَّفَه تَثقِيفاً: سَوَّاه، وثَاقَفَه فَثَقَفَه كنَصَره، غَالَبَه فغَلَبَه في الحِذقِ» (2) .
وقال الراغب الأصفهاني: «الثَّقْفُ: الحِذقُ في إدرَاك الشيء وفعله، ومنه استُعِير المُثَاقَفَة، ويُقال: ثَقِفتُ كذا إذا أدرَكتَه ببصَرِك لحِذقٍ في النَّظر، ثم يُتَجوَّز به فيُستَعمَل في الإدرَاك وإن لم تَكُن معه ثَقافَة» (3) .
أما في الاصطلاح فقد تعددت مفاهيم الثقافة تبعاً لموقع رؤية كل مدرسة اهتمت بها وبما يُعد من مكوناتها، إلا أننا نريد بها في مقالنا هذا: طبيعة الرؤية التي تتحكم في المرء فيأتي ما يأتي في حياته، ويذر ما يذر، منطلقاً من ملامح عقلية تميز سيرورة حياته.
ب - مفهوم الرحمة:
وأما «الرحمة» فترجع في اللغة إلى الرقة، والعطف، والمغفرة.
قال ابن منظور: «الرحمة: الرقة والتعطف، والرحمة المغفرة، وترحم عليه دعا له بالرحمة» (4) .
وقال صاحب القاموس: «الرحمة ـ ويُحرَّك ـ الرقة، والمغفرة، والتعطف» (5) .
وفي الصحاح: «تراحم القوم: رحم بعضهم بعضاً» (1) .
والرحمة في الاصطلاح تنصرف إلى تشكيل رؤية خاصة تجاه الإنسان والكون والحياة؛ فهي «حالة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان» (2) ، الذي يكون بالمعنوي كما يكون بالمادي.
ج - مفهوم الاستكبار:
وأما «الاستكبار» فيرجع في اللغة إلى الاستعظام، والتعاظم، «واستكبر الشيء: رآه كبيراً وعظُم عنده، وأَكبَرتُ الشيءَ: أي استعَظَمتُه، واستِكبَارُ الكفَّار ألاَّ يقولوا لا إله إلا الله، والتكَبر والاستكبار، التَّعظُّم، وقد تكبر، واستكبر، وتكابر، وقيل: تكبر، من الكبر» (3) .
وأما الاستكبار في الاصطلاح فهو أن يرى المرء نفسه أكبر من غيره، طالباً «ذلك بالتشبع وهو التزيين بأكثر مما عنده» (4) .
- ثقافة الرحمة:
ونعتزم الوقوف على المواصفات التي تتميز بها ثقافة الرحمة في الآتي:
أ - إخلاص العبودية لله تعالى:
إن من الخصائص التي تتميز بها ثقافة الرحمة إخلاصَها العبودية لله تعالى، وهي معتبرة من المحددات الأساسية التي تبين طبيعة القِبلة التي يُولِّي المرءُ وجهه شطرها، كما تتحدد من خلالها طبيعة الرؤية التي يصدر عنها؛ ذلك لأن الرؤية تمثل الضابط الذي بالانطلاق منه تتحدد الأشياء وتتحدد العلاقة التي تربط المرء بها.
وإخلاص العبودية لله ـ تعالى ـ أمر موجه إليه شرعاً وعقلاً؛ فقد قال ـ سبحانه ـ: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105] ، وهو أمر مباشر من الله ـ تعالى ـ لرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي لنا فيه أسوة حسنة.
ويقول ـ عز وجل ـ في الأمر نفسه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، وهو ملمح من الملامح الأساسية التي يتبين من خلالها أن الإنسان قبل أن ينصرف إلى الاعتقاد في عقيدة أخرى غير الإسلام، يكون مفطوراً على الإيمان بدين الله تعالى، والإيمان به؛ لأنه رب الكون الذي ينبغي أن يتوجه إليه كل الناس بالعبادة، وهو الأمر الذي يؤكده حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (5) .
ومن الدلائل العقلية التي تجعل الانصراف إلى الله بإخلاص الدين والإيمان، كون غيره لا يملك للمرء ضراً ولا نفعاً، والدلائل الواقعية أكبر من أن تحصى في هذا الباب. ومن المفارقات الغريبة، بهذا الخصوص أن نجد كثيراً ممن منَّ الله ـ تعالى ـ عليه بعلم ومعرفة وثقافة واسعة يُنكِر التوجه إلى الله ـ سبحانه ـ بالعبادة، ونجد غيره ممن اعتُبر أُمِّيّاً يعرف طريقه التي ينبغي أن يسير عليها الأمر كله، فنقول إنه أوعى من سابقه، وأقوى بصيرة من كثير ممن يعدون مثقفين، إلا أنهم لم يستفيدوا من ثقافتهم شيئاً ولم يضيئوا بها طريقاً، ويرحم الله الأعرابي الذي كان يتردد على «صَنَمِهِ» صباح مساء، وذات مرة جاءه على عادته، فوجد ثَعلَباً يَبُول عليه، فقال قولاً مشهوراً ينبغي أن يتَّخذ موقعَه في الأذهان: (الطويل) .
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَان بًِرَأسِه؟!
لَقد ذَلَّ مَن بَالَتْ عَليه الثَّعَالِبُ
ولم يهدأ له بال إلا بعد أن حط رحاله عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعلن إسلامه (6) .
ب - التسامح الإيجابي:
ومن الخصائص التي تتميز بها ثقافة الرحمة خاصية التسامح التي ربطت ها هنا بوصف أراه ضرورياً، حتى لا يسود الأذهانَ لَبْس بخصوصه،؛ ذلك لأن «التسامح» صرنا نسمعه في كل حدب وصوب، وينادي به من لا يمارسه، مستهدفاً به أن يتحقق لدى غيره، فيصيبه، كما يصيب أيديولوجيته، نفع عميم، وحينما يتعلق الأمر به باعتباره مُمَارِساً ينطلق منه الفعل، فآنذاك يتخذ التسامح مفهوماً آخر يَِزْوَرُّ به عما كان مُتَبَنّى من قبل.
لقد وُصِف «التسامح» بوصف «الإيجابي» حتى يتحدد من خلاله موقع الرؤية الذي نريد الانطلاق منه؛ ذلك لأن المفهوم يعود إلى أصول سابقة عليه، تتمثل في المحبة والإخاء والرغبة في سيادة الخير بين الناس، وليس المراد هو التعامل المتبني «للانتهازية» و «النفعية» اللتين تؤسسان لرؤية تسود لدى من اتخذ مكاناً قصياً من رؤيتنا هاته، وهو ما نجد الإشارة المنكِرة على أصحابه في القرآن الكريم في قول الله ـ تعالى ـ: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] .
ومن تجليات التسامح الإيجابي حب الخير للناس أجمعين، والتجاوز عن هفواتهم التي تبين أنهم إنما هم مُغرَّرٌ بهم، مع رجاء العودة وفتح الصدر في رضىً وسَعَة. قال ـ تعالى ـ على لسان إبراهيم ـ عليه السلام ـ: {فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وهو قول لا ترى من خلاله الرغبة في إلحاق الضرر بالآخرين، رغم أن منهم من ألحق الأذى بإبراهيم ـ عليه السلام ـ ومنهم من جاوز أذاه كل حد مطاق، فبلغ به الحقد والصلف حد إلقائه في النار.
ج - معرفة قَدْرِ ابن آدم:
ومن الخصائص التي تتميز بها ثقافة الرحمة أيضاً الدعوة إلى معرفة المرء قدر نفسه «ورحم الله من عرف قدره» ، فقبل أن يتطاول، وقبل أن ينصرف ببصره إلى مواطن العظمة لديه، ينبغي له أن يصرف اهتمامه إلى الانتباه إلى مواطن الضعف فيه، {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
لقد وضع القرآن الكريم سبَّابة الإنسان على مثل هاته المواطن التي تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن أمره جملة ليس موضوعاً فيه الحبل على الغارب؛ فذكَّره بسيرورة حياته بقوله ـ تعالى ـ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] . ونبهه إلى أصول الضعف لديه وإلى بداياته الأولى قبل أن يكون شيئاً، لافتاً بصره إلى أن العلم الذي يباهي به كثير من الناس، إنما هو مكتسب، مما يدل على كونه طارئاً غير عائد إلى المنطلقات الأصول، فقال ـ سبحانه ـ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] ، بل أكثر من ذلك نبَّهه إلى كونه جملة وتفصيلاً لم يكن شيئاً يذكر، فقال ـ عز من قائل ـ: {أَوَلا يَذْكُرُ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67] .
إن ثقافة الرحمة تعرف هذا جيداً وتنبه عليه بغية العض عليه بالنواجذ حتى لا يصاب المرء بغرور قد يأتي على الأخضر واليابس، ونسأل الله العافية.
د - شكر النعمة:
ولما كان حال المرء على هاته الشاكلة، وكانت حقيقته على هاته الصورة، كان أوْلى أن يذكر نِعَمَ الله التي تحيط به من كل حدب وصوب، يراها كلما استدار، ويجد أثرها أنى حل وارتحل، وآنذاك يكون متوجباً عليه أن يقابل عطاء الله بالشكر، وأن يديمه به؛ ذلك لأنه قد ورد في الحديث النبوي الشريف قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر» (1) .
ولكي يتحقق داعي الشكر ينبغي أن يتحدد الموقع الذي يستقر فيه المرء في حياته، ولن يتحقق ذلك على الوجه الصحيح إلا باستحضار صورة من يستقر في موقع أدنى من موقعه، ولذلك تجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «انظروا إلى مَنْ أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَنْ هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله» (2) . وهو ما ينسجم مع قول بعضهم: «صحبت الأغنياء فلم أرَ أحداً أكبر همّاً مني: أرى دابة خيراً من دابتي، وثوباً خيراً من ثوبي، وصحبت الفقراء فاسترحت» (3) .
إن هاته الرؤية هي ما يتحكم بأفعال المسلم وأقواله وإحساساته، فيستحضر أن كل ما يملكه أو ما هو طوع يمينه إنما هو في حقيقته مسخَّر له من لدن الله تعالى، وحينئذ يسوده إحساس نابع عن اعتقاد أن الأمرَ جملةً عائدٌ إلى إنعام الله عليه، ولذلك فإن الصواب عقلاً وخلقاً يفرض أن يعود إلى المنعم عليه بشكر ما أمده به.
- ثقافة الاستكبار:
إن هاته الثقافة ليس شرطاً أن نجدها محددة في اسم معين يحيل على جهة من الجهات، وإنما الشرط هو أن نعثر على الملامح التي سنذكرها، فيما بعد، في رؤية حياة انعكست على قول أو ممارسة أو إحساس، وهو ما يجعل الباب مفتوحاً على مصراعيه من أجل إدراج ثقافات مختلفة ـ يجمعها قاسم/ قواسم مشتركة ـ يكون لها كِفْلٌ مما نقول.
إن ملامح هاته الثقافة ـ على كثرتها وتشعُّبها ـ نراها داخلة بوجه من الأوجه في الآتي:
أ - التعاظم:
إن كل فرد تراه يعاني من خصلة التعاظم هاته يحق لك أن تصنفه في ثقافة الاستكبار التي تستصغر من كان على رؤية أخرى؛ فكأنها تمثل الرؤية الفاصلة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وكل ما عداها هُرَاءٌ وتُرَّهَات، ويرحم الله من سمَّى أصحابها أصحاب «المرايا المحدبة» ؛ ذلك لأنهم ينبهرون بذواتهم أيَّما انبهار، وينتقصون من أقدار غيرهم ممن لم يكن على ما هم عليه؛ فكأنهم حين يرون ما يخصهم يستخدمون «مرايا محدبة» ، وهي المرايا التي من خصائصها عكس الصورة بشكل أكبر من حقيقتها، وإن أرادوا رؤية غيرهم استخدموا «مرايا مقعرة» ، وهي التي من خصائصها تصغير الأجسام التي تنعكس عليها (4) .
إن هذا الأمر في واقعه ليس جديداً، وإنما هو قول كانت قد نطقت به أمم أخرى في سالف الدهور؛ فقد قال الملأ من قوم نوح ـ عليه السلام ـ لنبيِّهم: {مَا نَرَاكَ إلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] . وهو قول يظهر منه الانشداد إلى سحر المظاهر؛ ذلك لأن المظاهر، تبعاً لما استقر في هاته الرؤية، تعد المقياس الأول، بل الوحيد، الذي تقاس به الأشياء من أجل تحديد قيمتها.
وقال قومُ نبيِّ الله شعيب ـ عليه السلام ـ: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] . فطبيعة رؤية هؤلاء كانت تفرض عليهم الاحتكام إلى المظاهر من زاويتين: أولاهما: ما تعلق بضعف المخاطَب، وهي تقتضي استصغاره والتهوين من قدره، ومن ثم عدم الالتفات لما يقول. وثانيتهما تتمثل في استحضار ما يمكن أن ينتج عن إلحاق الأذى المادي بالمقصود بالخطاب/ الرجم. إنها رؤية تحتكم لقانون المظاهر من قوة وضعف، وحاشية ومحيط، ولا شيء غيرها.
ومن جهة أخرى نجد من كانت رؤيته على هاته الشاكلة يقتفي أثر قارون الذي آتاه الله مالاً فظن أنه إنما أوتيه بذكائه وفطنته. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] ، وهي رؤية ليست مقتصرة على هذا أو ذاك، وإنما هي سارية بين الناس، يتبناها أو يمارسها، كل من فقد شرط التوازن، وانزاح إلى ما يقتضيه تطرف الفجور. قال ـ سبحانه ـ: {فَإذَا مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49] .
ب - عبادة الذات والشهوة:
إن المتتبع لما تراه ثقافة الاستكبار يجده يشتمل على ما يمكن تسميته «عبادة الذات والشهوة» ؛ ذلك لأن من كانت رؤيته كذلك ارتمى في أحضان ما تطالبه به ذاته ـ سواء كانت فردية أم جماعية ـ فعمل على تلبية مطالبها ولو كان تحقيقها على حساب غيرها، وحينما تصير حقيقة الارتباط بالذات والشهوة على تلك الشاكلة تصيران إلهين معبودين من دون الله. قال ـ تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43] . وقال ـ عز وجل ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] .
إن عبادة الذات والشهوة لا تبقي الرؤية في حدود هاته الشريحة وإنما تبلغ بها مبالغ لا تقتصر عواقبها عليها، فتصل تأثيراتها إلى من ظن أنه لا يمثلها، وآنذاك يبدو للاستكبار، كما يظهر لمن يسحر الاستكبار عينيه، أنه الأقوى، وأن ما يأتيه وما يذره هو عين الصواب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ج - الاستهتار بالآخر:
تشدني بهذا الخصوص عبارة لعبد العزيز حمودة في كتابه: «المرايا المقعرة» ، حين وصف تجلياً من تجليات ثقافة الاستكبار محدداً في «الحداثة» ، وهي قوله: «كأنَّ الحداثيين العرب، في الوقت الذي وقفوا فيه طويلاً أمام «المرايا المحدبة» فصدقوا وَهْمَ ضخامة إسهاماتهم، قد وضعوا التراث الفكري والنقدي العربي أمام «مرايا مقعرة» قامت بتصغير إنجازات العقل العربي والتقليل من شأنها» (1) ، ورغم أن هذا الشاهد المعتمد هنا ينصرف إلى أمر خاص يتحدد في «الحداثة» أولاً، باعتبارها تجلياً من تجليات ثقافة الاستكبار، التي قلنا من قبل إنها لا تتحدد في ثقافة خاصة، وإنما تمثل محضناً كبيراً لثقافات قد تكون مختلفة في لافتاتها ومظاهرها الخارجية، إلا أنها تتوحد في ماهياتها ورؤاها. كما ينصرف إلى رؤية الحداثة الخاصة بالفكر والنقد العربيين، رغم كل ذلك فإنه من الممكن أن نجد ما يخدم ما نريد باعتماد توسيع الفكرة لتشمل غير العناصر المذكورة؛ ذلك لأن رؤية الحداثة ها هنا إنما هي رؤية رمز لها كان على شاكلتها واتخذ اسماً غير اسمها، كما أن الحديث عن الفكر والنقد العربيين إنما هو مثال يجد الحكمُ من خلاله منطلَقاً ليعمَّم على كل ما لم يكن منسجماً مع رؤية ثقافة الاستكبار.
إن الاستهتار بالآخر استصغار لقدره وانتقاص من قيمته، وهذا الأمر لا يبقينا في هذا المستوى من الرؤية فقط، وإنما يتمدد ليشمل كل الحالات التي يتجلى من خلالها، كأن ينصرف بنا إلى فرض ما ليس مرغوباً فيه ديناً وعقيدة وعادات على الناس؛ فأن تسلك بك قنوات الإعلام مسلكاً تريد من خلاله تدمير ثقافتك، وتدمير رؤيتك، وأن تبث عليك في وقت من أوقات اجتماع أفراد الأسرة؛ ظهراً أو عشاء، مشاهد لن تخدم المجتمع بأي حال من الأحوال، ولن يكون لها مردود غير الإجهاز على ما تبقى من عناصر الأخلاق، تكون الرؤية الثقافية تسلك مسلك الاستهتار بما عندك، مستصغرة لما تمسك به المجتمع منذ أمد بعيد، تعكس ممارستها أن ما تأتي به إنما هو القول الفصل، والرؤية التي ينبغي الالتزام بها، وكل ما عداها هراء وهباء، فتكون متخذة موقع رؤية من قال: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] ، وهو رأس ثقافة الاستكبار.
هكذا تكون قد تبينت لنا الملامح التي تتميز بها ثقافتان هيكليتان يمكن أن تدرج فيهما الثقافات المختلفة وأن تنضوي تحتهما؛ قرباً وبعداً، ضعفاً وقوة، فتتعدد الأشكال وتختلف التجليات والمظاهر، ولكن تبقى المحتويات والمضامين عائدة إلى هذين الإطارين اللذين ننوي تعميق النقاش بخصوصهما مستقبلاً بحول الله تعالى. وحتى هذا الحد الذي وصلنا إليه في مقالنا هذا نرجو أن نكون قد وُفِّقنا فيما طرحناه، وأصبنا الهدف فيما ذهبنا إليه، والله الموفق للصواب.
__________
(1) لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت، 1412هـ ـ 1992م، مادة «ثقف» .
(2) القاموس المحيط، للفيروز آبادي، المكتبة التجارية، مصر، مادة «ثقف» .
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن، الأصفهاني، تحقيق نديم مرعشلي، دار الفكر، بيروت، مادة «ثقف» .
(4) لسان العرب، مادة «رحم» (مذكور) .
(5) القاموس المحيط، مادة «رحم» (مذكور) .
(1) المصدر السابق.
(2) الكليات للكفوي، مقابلة وإعداد عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1412هـ ـ 1992م، ص 471.
(3) لسان العرب، مادة «كبر» (مذكور) .
(4) الكليات، للكفوي، ص 28 (مذكور) ، وقد فرق الكفوي بين «التكبر» و «الاستكبار» فاعتمدنا المفهوم الذي حدده لأولهما هاهنا، إلى جانب ما حدده لثانيهما، لأننا نجد فيه ما ينسجم مع ما نريد عرضه بعد.
(5) رواه البخاري في صحيحه، نشر دار القلم، بيروت 1987م، كتاب الجنائز، حديث رقم 1296، ومسلم في صحيحه، دار إحياء التراث العربي، 1972م، كتاب القدر، حديث رقم 4803.
(6) انظر هاته الحادثة في أدب الكاتب، لابن قتيبة، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية، مصر، 1963م، 1/82، وانظر الإشارة إليها في مجمع الأمثال، للميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، بدون رقم للطبعة، ولا تاريخ، 2/ 181، وجمهرة الأمثال، للعسكري، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وعبد الحميد قطامش، دار الفكر 1988م، الطبعة الثانية، 1/465.
(1) رواه الترمذي في سننه، نشر دار الفكر، 1983م، من غير رقم للطبعة، كتاب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حديث رقم 1957.
(2) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، حديث رقم 5264 (مذكور) .
(3) رواه الترمذي في كتاب اللباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حديث رقم 1702 (مذكور) .
(4) انظر التربية في المجتمع الإسلامي، قراءة في سيرورة التحول، عبد السلام رياح، ص 27، (مرقون) .
(1) المرايا المقعرة، نحو نظرية نقدية عربية، الدكتور عبد العزيز حمودة، عالم المعرفة، جمادى الأولى، 1422هـ، أغسطس 2001م، العدد 272، ص 41.(221/22)
من يسمع شكواها؟
د. إبراهيم بن صالح الحميضي
لقيتها على غير ميعاد، فقلت: يرحمك الله، إنَّا إلى خبرك بالأشواق؛ فبالله عليك حدثينا عن نفسك، وكيف حالك الآن؟ فقالت: لقد كبرت سني، ووهن عظمي، ولولا أنك سألتني بالله ما حدثتك. لقد أعلى الإسلام شأني، وعظّم مكاني، ورفع عنواني، وجعل المحافظة على وصالي آيةً على الصلاح والاستقامة، وبراءة من الضلالة والغواية.
وقد عرف سلفُ هذه الأمة مكاني، وصانوا جنابي، ولم ينقطعوا عن وصالي، بل قدموه على شهواتهم وحاجاتهم؛ فلم يصرفهم عن القيام بحقي صارف، ولم يشغلهم عن ملازمتي الأصحابُ والمعارف. ثم إنه خلف من بعدهم خلوف خفَّ عندهم ميزاني، وهان في نفوسهم مكاني.
فقلت: يرحمك الله! حدثينا عن سلف هذه الأمة وأحوالهم معك؛ فلعل هِممَنا تتحرك لسماعها، وعزائمنا تتقوى لعظاتها.
قالت: لقد أحسن صحبتي أناس كثيرون، وتعاقب على وصلي رجال مَرْضِيُّون، لا يملون مجاورتي، ولا يفترون عن ملازمتي، وإنْ أنسَ فلن أنسى الإمام سليمانَ بن مهران الأعمش الذي ظل سبعين عاماً لم يفارق سوادُه سوادي، لقد أرغم الشيطانَ، فلم يقدر عليه سبعين عاماً.
فقلت: الله أكبر، ما أطولَ صبرهم على الطاعة، وأعظم جلدهم في العبادة! ومَنْ غيرُ الأعمش؟ قالت: وأبو محمد، قلت: ومن أبو محمد؟ قالت: ثكلتك أمك! أما تعرف إمامَ أهل المدينة (سعيد بن المسيب) الذي لم ينقطع عن ملازمتي أربعين عاماً؟ رحمك الله يا سعيد! فحينما وقعت الحرَّةُ، ولزم الناسُ بيوتهم، أبيتَ الانقطاع عني، ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم عند مسلم بن عقبة بأنك مجنون لقتلك! رحمة الله عليك، وحينما أشار عليك بعض أصحابك بالخروج إلى البادية أبيتَ من أجل ألا تنقطع عني؛ ولم يزل ـ رحمه الله ـ قائماً بحقي رغم ما أصابه من الفتن، حتى لحق بربه، فحزنت لفقده حزناً كبيراً، وكان مما زاد في حزني وضاعف في مصيبتي أنه في السنة نفسها ـ سنة الفقهاء ـ فقدتُ عابد الكوفة الإمام (إبراهيم بن يزيد التيمي) الذي لم يزل ملازماً لي، حتى قيَّده الحجاج بن يوسف بالحديد، فقتل فيها أو مات، لقد قال هذا الإمام كلمة ما أُحب أن لي بها الدنيا. قلت: وماذا قال؟ قالت: ويحك ألم تسمع قوله: إذا رأيتَ الرجل يتهاون بها ـ يعنيني ـ فاغسل يديك منه؟ قلت: قدَّس الله روحه، أرأيت لو أدرك زماننا هذا كم من الناس يبقى لم يغسل يديه منه؟! قلت: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل! قلت: فلو حصل أن تخلف أحد منهم عن وصلك كيف يصنع؟
قالت: لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لمرض مفسد، أو سفر مبعد، أو عذر مقعد، ومع ذلك يبادر أحدهم إلى التوبة ويندم، ويستكثر من الطاعات ويغنم؛ فهذا قاضي بغداد العلاَّمة (محمد ابن سَمَاعَة) مكثتُ أربعين سنة لم ينقطع عن مصاحبتي إلا يوم ماتت أمه؛ فكرر زيارتي خمساً وعشرين مرةً، عوضاً عمَّا فاته.
قلت:
لا تعرضن بذكرنا معْ ذكرهم
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
ثم قلت لها: حدثينا عن أهل زماننا هذا!
قالت: لقد طلبتني عسيراً، وأقحمتني كبيراً؛ فعن أي شيء من شأنهم تستخبر؟
قلت: عن أحوالهم معك؟
قالت: لقد جفاني أكثر أهل زمانكم هذا، ولم يعبؤوا بحالي، ويعرفوا مكاني، ويحزنني أن ترى الرجل يُحسَبُ من أهل العلم والديانة، ومع ذلك تصرفه عني الصوارف، وتلفته اللوافت، وأشنع من ذلك أن ترى الرجل قد بلغ الستين ـ وقد أعذر الله إلى أمرئ حتى بلَّغه ستين سنة ـ ثم تراه يبيعني بدرهمين أو ثلاثة، يُقبِل على دنياه حتى إذا أردتُ الرحيل أقبل يسعى كالصبيان ثم لا يلقاني؛ فإلى الله أشكو غربتي، وهواني على الناس. ثم حوَّلت وجهها وجعلت تبكي، وإذا هي (تكبيرة الإحرام) .
__________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم(221/23)
مشروعهم للنهضة والتغيير
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
يخطئ من يظن أن التيارات العلمانية في العالم العربي بمختلف اتجاهاتها الفكرية، وولاءاتها الداخلية والخارجية، تحمل
والعجيب أنهم حينما يتهمون الإسلاميين بغياب المشروع، وبالتقليد والماضوية.. ونحوها من الاتهامات المستهلَكة، يوهمون أنفسهم وأتباعهم وقراءهم بأنهم مجددون إبداعيون، يتميزون بالتحرر الفكري والانطلاق الثقافي والتجديد المعرفي ـ هكذا زعموا ـ مع أن الواقع يحكي شيئاً آخر.
تأمل إبداعهم السياسي، فسوف تجد أنه لا يتجاوز الدعوة إلى الديموقراطية الغربية، ولا يجدون حلاً للإصلاح السياسي ولمواجهة الدكتاتوريات القمعية إلا الاندفاع المهين تحت أعتاب أسيادهم البيض، والاستقواء بهم، حتى إن بعضهم رفع شعار (الليبرالية هي الحل) في برنامجه الانتخابي قبل أسابيع قلائل.
وإذا كان الولاء للاستعمار سبّة سياسية في وقت مضى من الأوقات؛ فهو الآن عند هؤلاء المبدعين مطلب من مطالب النهضة والتغيير، وزينة يتدثرون بها لا تثير الخجل، بل تدعو إلى التفاخر والتعالي.
وتأمل كذلك رؤيتهم وبرامجهم الاقتصادية، وسوف تجد أن النظام الرأسمالي الغربي بكل طغيانه ونفعيته هو خيارهم الوحيد، ويزعمون أنه لا يمكن أن يقوم نظام اقتصادي ناجح إلا بالربا، ولا يمكن الاندماج الاقتصادي في المنظومة التجارية الدولية إلا باستخدام الفلسفة الرأسمالية.
أما تحررهم الفكري الذي يتشدقون به في كل محفل من محافلهم فهو يعني: التيه في مدارس الفكر الغربي، واجترار المناهج والفلسفات المادية، مع قطيعة معرفية شاملة مع تراث الأمة وعقيدتها، ويتبع ذلك الدعوة إلى تفكيك مصادر التلقي عند الأمة، والجرأة على نقد المقدسات والمسلَّمات الشرعية، والاحتفاء بالفجور والزندقة والانحلال الفكري.
وأما التحرر الاجتماعي الذي يُبشرون به فغايته الكبرى عندهم: الانعتاق التام من قيود الشريعة، واستيراد كافة النظم والقوانين الغربية، وفرضها على الناس قسراً. وما المانع عندهم من أن تتحول مجتمعاتنا إلى مستنقعات آسنة تملؤها الرذيلة، ويعمرها الزنا والشذوذ الجنسي إذا كان ذلك من متطلبات الثقافة الأممية المشتركة التي ترعاها الأمم المتحدة؟!
وحتى في مجال الأدب والنقد نرى تميزهم في الدوران في فلك مدارس الحداثة الغربية، وما بعد الحداثة، وتختلف إمكاناتهم في مدى قدرتهم على الفهم والاستنساخ فحسب، فصبغوا الأدب بلون فكري ملوَّث مذبذب لا يُخفي سقوطه، بل غيبوبته في مستنقع التيه الغربي (1) .
إن مشروع التغيير ـ ولا أقول الإصلاح ـ العلماني بكل أبعاده الثقافية، ورهاناته السياسية البائسة، يعتمد على مبدأين رئيسين:
الأول: نقض المشروع الإسلامي بكل مقوماته الفكرية والاجتماعية والسياسية.
الثاني: محاكاة المشروع الغربي بكل تناقضاته وتقلباته الفكرية، حذو القذة بالقذة (2) .
ومهما حاول صنّاع التغريب تلميع مشروعهم المستورد، والحديث بلغة متعالية تزدري كل ما حولها؛ فإن الأكاذيب الهشة المؤسسة له تفضحه، ويكتشفها عامة الناس في لحن القول..!
قال الله ـ تعالى ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] .
وهاهنا يأتي حقاً دور الإسلاميين: فنحن نملك رؤية للإصلاح والنهضة مستقلة، تستمد أصالتها من جذورنا العقدية العلمية، ومن امتدادنا التاريخي والحضاري. لكن ربما لم يُحسِن بعضنا عرضها للناس بطريقة صحيحة؛ ولهذا فإن التحدي الحقيقي الذي يواجهنا هو في القدرة على تقديم تلك الرؤية بشمولية ناضجة تستوعب المتغيرات الإقليمية والدولية، وتعالج المستجدات بواقعية مدركة لطبيعة المرحلة.
يؤلمني أننا ندرك ذلك، لكننا أحياناً قد نستسلم للهجمة العلمانية، ونحاول التوفيق التعسفي بين رؤيتنا الإسلامية، ومناهج الفكر الغربي، بحجة الواقعية تارة والمرحلية تارة أخرى، ونضطر للتنازل أو التجاوب مع بعض جوانب التغيير العلماني، ونردد مصطلحاتهم وشعاراتهم، وتكون جزءاً من برنامجنا في التغيير، دون أن نستوعب أبعادها الحضارية والسياسية. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} . [الكهف: 28](221/24)
222 - صفر - 1427 هـ
(السنة: 21)(222/)
{إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}
التحرير
دارت بنا الدنيا، تفطَّرت نفوسنا، وتزلزلت الأرض من تحت أقدامنا. الغضب يملأ قلوب المسلمين في المشرق والمغرب، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونساءهم، صالحيهم وفساقهم.. أوَ يتجرؤون على مقام النبوة؟!
أوَ يستهزئون بسيد ولد آدم..؟!
يا لله.. أتدرون بمن تسخرون..؟!
ويحكم أتدرون من هو محمد -صلى الله عليه وسلم-..؟!
ألَمٌ شديد هزَّ كيان الأمة وصدَّع أركانها، وجعلها تنتفض، تستنفر خفافاً وثقالاً، تغضب.. ترفع صوتها بكل حميَّة: (إلا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) ..!
والذي زاد من هول الواقعة ذلك الصلف والتعالي والمكابرة، أخذتهم العزة بالإثم، فأبوْا أن يتراجعوا، بل تسارعوا للتناصر.. {وَإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202] .
وزادها فجيعةً أنَّ مِن بني جلدتنا سمَّاعين لهم، فراح بعض الصحفيين في بعض البلاد العربية والإسلامية يعيد نشر تلك الصور الآثمة لحجج تافهة باردة، ونظر بعض أهل الأهواء ومن يسمون أنفسهم بالليبراليين نظرة لا مبالاة للحدث واثَّاقلوا عن نصرة نبيهم، بل اجتهدوا في التهوين منه، وتفيهقوا علينا بالدعوة السمجة إلى الصفح والتسامح..!!
لكن الرد على هؤلاء جميعاً من أرض الحرمين، من مصر والسودان، من الجزائر والمغرب، من أندونيسيا والباكستان، من نيجيريا والسنغال.. من كل أرض ينادَى فيها بنداء التوحيد.. جاء الرد بعفوية مذهلة وبفطرة صادقة بعيدة عن الشعارات السياسية أو المزايدات الإعلامية، قال الناس بصوت واحد: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] .
هذه المشاعر تدل على فطرة صالحة، وأرض خصبة تستحث الدعاة لتأسيس محبة صادقة، واتِّباع مخلص لسيِّد الأولين والآخرين، إنها فرصة لنتجاوز خطابات الإدانة والشجب لندعو إلى التعظيم والاتِّباع والاستسلام لأمره ونهيه.
إنها فرصة تاريخية لنقول للمسلمين: هذا هو نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- عليكم بتعزيره وتوقيره والاهتداء بهديه والذب عن دينه.
إنها فرصة تاريخية لنقول فيها للعالم أجمع بعد أن بدأ الناس يتساءلون من هو محمد: إن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- لكم جميعاً، جاءت لتخلصكم من رهق الضلالات والأهواء البشرية.. جاءت تدعوكم بدعاية الإسلام أسلموا تسلموا: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
حدث آخر له دلالته وأبعاده في المنطقة: إنه الفوز الكاسح لحركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات الفلسطينية. انتصار مذهل قلب المعادلة السياسية، وأربك صناع القرار في الدولة العبرية وحلفائها.
وها نحن في ^ نقدم عدداً خاصاً يحتوي على ملفين فقط، ونعتذر لقرائنا الكرام عن تأجيل بقية المواد والزوايا التي ينتظرونها على أمل أن نعود إليها ـ بإذن الله ـ في العدد القادم.(222/1)
يا أدعياء التسامح والديمقراطية من يكره من
التحرير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن العداء القائم ضد الإسلام والمسلمين وخاصة في كثير من الدول الغربية هو نتيجة طبيعية للصورة النمطية التي رسمها كثير من الكتاب والباحثين والمستشرقين والمنصّرين والتي تقوم على رسم المسلمين على أنهم عنصريون وأغبياء ومتخلفون وقتلة، وأنهم لا يستحقون الحياة، ومن ثم تتم الإساءة لدينهم ونبيهم عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يسوّدون به كتاباتهم منذ قرون.
ولم يكن ذلك وليد ما حصل مؤخراً مما أثارته صحيفة دانماركية بنشرها عدداً من الكاريكاتيرات وما أحدثته تلك الهجمة من ردود أفعال كبرى من المسلمين نصرة لنبيهم عليه الصلاة والسلام، ورفضاً لكل ما يسيء له؛ فإن ديمقراطيتهم المزعومة التي ينشرونها ويطالبون بتطبيقها وتتولى كثير من دولهم المقاتَلة على إقرارها مما هو معروف للجميع، وسنوضح كذبها وعدوانيتها وكراهيتها للإسلام ووصم ثقافته بأنها تقوم على الكراهية كما يزعمون!!
ونحن نتساءل بكل صراحة: هل من الديمقراطية والحرية الإساءة للآخرين والسخرية من أديانهم؟ وهل من الديمقراطية والحرية إهانة أنبياء الله المرسلين؟ أو حتى الإساءة والإهانة ولو لإنسان واحد بدون وجه حق؟
ثم أين ما يزعمون من حقوق في حرية الدين؟ وأين ما يدَّعونه من دعاوى حقوق الإنسان؟ وأين احترامهم لما في دساتيرهم من احترام للقيم الدينية والإنسانية؟ ولماذا يقتصر الاحترام لأمور بعينها تخصهم؟ حتى إنهم يجرِّمون من يتجرأ على مجرد ذكرها والتشكيك فيها كما في «مسألة الهولوكست» إلى حد أنه يمكن أن يعاقب ويسجن كل من ناقشها ولو ببحث علمي بحت كما حصل في حق «جارودي» حيما ألف كتابه الشهير «الدولة الصهيونية والأساطير المؤسسية» حيث شُهِّر به وعوقب وهو في أرذل العمر.
وأخيراً وليس آخراً نشرت وكالات الأنباء العالمية إدانة محكمة نمساوية في 21/2/2006 المؤرخَ البريطاني (ديفيد ارفنج) لإنكاره (الهولوكست) وحكمت عليه بالسجن 3 سنوات وكان معتقلاً منذ نوفمبر 2005، والويل لمن يجرؤ على الكلام بالنيل من الصهاينة حتى ولو كان ذلك بالحقائق!!
بينما الإساءة للإسلام والمسلمين قائمة في وسائل إعلامهم المرئية والمكتوبة والمسموعة؛ حيث تؤثر تأثيراً سلبياً وسيئاً في حق دين سماوي، ومن ثم التنفير من أن الإسلام مع أنه هو الدين الذي احترم الأديان الأخرى ولا يصح إسلام مسلم ما لم يؤمن بالإله ـ جل وعلا ـ وملائكته وكتبه ورسله، ولا يفرق بين أحد منهم، وأشاد بالأنبياء كلهم وساق قصصهم، وصحح كثيراً من الأخطاء التي نُسبت لهم مما يدفع كل قارئ منصف لأن يُعجَب بهذا الدين ويعلن إسلامه؛ ولذلك يعلن كثير من الغربيين إسلامهم ولسان كل واحد منهم: (لقد كسبت محمداً (-صلى الله عليه وسلم-) ولم أخسر المسيح) وهذا ما جعل متطرفيهم يعلنون العداء والعنصرية البغيضة ومحاربة ديننا الحنيف بدون وجه حق؛ خوفاً من أن ينتشر هذا الدين بينهم لما يتميز به من قيم أخلاقية ومبادئ إنسانية، وكما قيل: الإنسان عدو ما جهل. هذه مواقفهم غير الموضوعية؛ فمن يكره من؟
إن المتابع المنصف يلمس عداء القوم للإسلام والمسلمين في صور شتى معروفة كثيراً ما يسيئون بها لديننا، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1 ـ الإساءة والإهانة لنبي الإسلام من خلال تلك الرسوم الكاريكاتورية المهينة، وهو ما أحدث ردود فعل كبرى لدى المسلمين في شتى ديار الإسلام، وحينما طالب المسلمون الدانماركيون بالاعتذار عن تلك الخطيئة رفضت الصحيفة في شخص رئيس تحريرها الاعتذار، وحينما رُفِعَ الأمر للقضاء رفض القضاء عندهم الشكوى بدعوى أن ذلك حرية رأي لا يملكون حيالها رداً، وزاد طغيانهم وعنصريتهم وحقدهم يوم قامت المقاطعة الشعبية لمنتجات المستهزئين بنا والتي لم يتوقعوها، وأحدثت في أيام محدودات أضراراً كبرى على اقتصادهم مما جعل رئيس وزرائهم بعد عدة أشهر يطالب بتهدئة الأمور؛ فهو تارة يعتذر، وتارة يصرّ على عدم الاعتذار؛ فمن يكره من؟
2 ـ إعادة العديد من الصحف والمجلات الأوروبية في فرنسا وإيطاليا والسويد والنرويج لتلك الرسومات المهينة نفسها مع ما فيها من إساءة وإهانة للمسلمين؛ فمن يكره من؟
3 ـ ارتكب حزب عصبة الشمال الإيطالي حماقة جديدة وخرجت صحيفة (لابدانيا) برسوم كاريكاتورية جديدة مسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وطالب رئيس تحرير الصحيفة المذكورة في افتتاحيتها باتباع خطى الحكومة الدانماركية في رفض الاعتذار للمسلمين قائلاً: (أيها الرسامون اتحدوا من أجل معركتنا في مواجهتهم حتى لا يضعونا تحت أقدامهم ... ) ، مع دعوته لبابا الفاتيكان الحالي لشن حرب صليبية ضد المسلمين وأنه سيحشد الشباب الكاثوليك ضد ما أسماه بالتغلغل الإسلامي، واتصل بالسفارة الدانماركية مؤيداً موقفهم من عدم الاعتذار للمسلمين، وهذا ما نشرته كثير من الصحف العربية (1) ؛ فمن يكره من؟
4 ـ اليمين المتطرف في دولة السويد رفع سقف الإساءة لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بإعلانه في صحيفة حاقدة عن مسابقة كاريكاتورية جديدة لرسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في مارس المقبل، وقالت الصحيفة على لسان رئيس تحريرها: إن حرية التعبير تتجاوز المنع بشأن محمد؛ لافتاً إلى ضرورة دعم الصحيفة الدانماركية، وداعياً للتقدم برسوماتهم!! هكذا وبكل وقاحة! فمن يكره من؟
5 ـ أن القوانين الوطنية في كل الدول الغربية تحترم حقوق الإنسان ومنها حقه في التدين؛ ومن ثم تجريم الإساءة لمعتقدات المتدينين؛ فأين القوم من هذا التجييش الحاقد؟ وهذا العمل يجرمونه هم، وهو ما يسمونه بـ (التجديف) وهو ممنوع نظاماً لديهم؛ فكيف يتناسى أولئك العنصريون هذه الأمور بدعوى أنها حقوقهم في الحرية المزعومة؟ فمن يكره من؟
6 ـ معاناة المسلمين المهاجرين في جُل دول الغرب؛ فما زالوا يعانون الأَمَرَّين من المضايقات والسخرية وخاصة بحجاب الفتيات اللاتي يُمنعن من ارتدائه بدعوى أنه رمز ديني، بينما لباس المتدينات النصرانيات أقرب ما يكون للحجاب الإسلامي ولا يُمنع، فلماذا؟ لا شك أن ذلك يذكِّرهم بالإسلام؛ والتزام أهله به يسوؤهم، وخاصة أن قبولهم المهاجرين المسلمين كان متوقعاً منه في مخططاتهم دمجهم في مجتمعاتهم الغربية وإذابتهم فيها تماماً، لكنهم فوجئوا بالتزام الأجيال الجديدة بإسلامه واعتزازهم به، ورفضهم الذوبان في المجتمعات الغربية، وما لمسه الغرب من انتشار الإسلام بين الغربيين أنفسهم حتى صار الإسلام الديانة الثانية في أوروبا، وتناقصت أعداد الغربيين حتى صرخ أحد رموزهم محذراً من تلاشي قومه في كتابه «موت الغرب» (1) . هذه فلسفتهم ورؤيتهم التي تقوم على الخوف من الإسلام مع أنه دين يحترم دينهم وله أخلاقياته المحترمة وقيمه الإنسانية الرفيعة، ومع ذلك يكرهونه ويحذرون منه؛ فمن يكره من؟
لقد أصبحت كراهية الإسلام ظاهرة مَرَضية يعانون منها كثيراً حتى سموها «الإسلام فوبيا» وقد ضرب على وتره العنصريون وذوو الاتجاهات اليمينية المتطرفة.
وللحق والحقيقة؛ فإن هناك أفراداً واتجاهات موضوعية في الغرب ترفض ذلك النهج العدواني وتحذر منه، ومن ذلك المستعرب (الألماني) الشهير (فريتس شيبات) في كتابه القيم «الإسلام شريكاً» ، الذي تحدث فيه عن المفاهيم والأفكار الخاطئة التي يُروَّج لها في الغرب ضد الإسلام؛ داعياً قومه إلى تصحيحها، وأمرهم بتعديل مواقفهم الخاطئة من الاتجاهات الإسلامية، ومحاولة فهمها بشكل موضوعي بعيداً عن التعصب والنظرات الشوفينية (2) .
ونحن نعتقد أن الشرق والغرب لم يكونوا برؤية الشاعر الإنجليزي (كبلنج) حينما قال: «الشرق شرق، والغرب غرب؛ ولن يلتقيا» بل سيلتقيان وإن اختلفت الأديان بعدما أصبح العالم قرية كونية، وذلك بإشاعة العلم والمعرفة والدعوة، وبتفعيل وسائل الاتصال، وبعد إزالة الشبهات المغرضة وكشف الاتجاهات العنصرية وفضحها؛ وخاصة بعدما صدر عام 2004م من قرارات أممية تجرِّم التطرف العنصري وتدين الربط بينه وبين الإسلام أو ربط الإسلام بالإرهاب، وكذلك رفض الممارسات والتمييز العنصري؛ وهذا يزيل العوائق التي يستشهد بها أعداء الإسلام في محاولاتهم البائسة في الإساءة للإسلام بهدف وضع العراقيل ضد انتشاره بينهم.
ونعتقد جازمين أنه لو فُتح المجال لدعاة الإسلام وبشتى الأساليب الإعلامية المختلفة لأمكن للغربيين أن يدخلوا في دين الله أفواجاً، وخصوصاً بعدما لمسناه مؤخراً من إدانة صريحة لتلك الموجة العارمة ضد الإسلام ونبيه من بعض رجال الدين النصارى وعلى رأسهم بابا الكاثوليك، ورؤساء بعض الكنائس الغربية في بريطانيا، وغيرهم.
ولقد تناولنا في هذا العدد ملفاً علمياً موضوعياً عن كشف منطلقات الإساءة للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، نصرةً له ـ عليه السلام ـ وكشفاً للاتجاهات المعادية لديننا الحنيف، آملين أن يجد فيه القارئ ما يشفي ويكفي، كما تطرقنا في ملف آخر عن انتصار حركة حماس الإسلامية في الانتخابات النيابية الأخيرة في فلسطين، وفيه يتضح مدى كراهية كثير من الغربيين للإسلام من زاويتين:
1 ـ الحقد الدفين المتمثل في الإعلان منذ وقت مبكر وقبل ظهور نتائج الانتخابات الفلسطينية من عدم تعاون الغرب مع حماس إن فازت، بل إنهم سيقطعون الإعانات الإنسانية عن الشعب الفلسطيني إن رشَّحَ حماس.
2 ـ سكوت الغرب حيال استفزاز الصهاينة للشعب الفلسطيني بالقتل والغارات العدوانية بعد فوز حماس، ولا نكاد نسمع أي اعتراض غربي على هذه الهجمات الهمجية، ولسان حالهم يقول للصهاينة: اعملوا ما تريدون، ولعل المقصود هو إفشال مشروع حماس في الإعداد القائم للحكومة المنتظرة، مع معاناتها من رفض التعاون معها حتى من رفاق السلاح والمقاومة؛ فهل يليق أن يكونوا مع العدو ضد (حماس) ؟ سبحان الله العظيم!
ويبقى السؤال قائماً ومشروعاً: من يكره من؟
وهل ثقافة الكراهية المنسوبة زوراً للمسلمين صحيحة أم لا؟ أم هي ثقافة الآخر المعادي لنا ولديننا ولنبينا -صلى الله عليه وسلم-، والمخالفة لكل القيم والنظم الإنسانية؟
ندع الإجابة للقارئ الكريم؛ فقد اتضح لذي عينين أين تكمن ثقافة الكراهية وعند من.
ومما يبشر بالخير أن تلك الموجة العدوانية ضد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدانمارك جعلت الكثير من عامة الناس يبحثون عن حقيقة الإسلام، ومن هو هذا النبي الذي هوجم وسُخِرَ منه فثار له أتباعه والمؤمنون الذين يدافعون عنه؟ ونؤكد على أن الاحتجاج يجب أن يكون بعيداً عن العنف والتدمير؛ إذ لا مبرر له، بل إنه يضر أكثر مما ينفع.
لقد جعلت هذه الهجمة الظالمة على النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً من هؤلاء بعد الاطلاع على سيرته -صلى الله عليه وسلم- وتعاليم دينه يعلنون إسلامهم؛ فلله الحمد من قبلُ ومن بعدُ.(222/2)
بأبي أنت وأمي يا رسول الله
محمد بن شاكر الشريف
تدلهمّ على الناس الخطوب وتفجؤهم المصائب الكبيرة، فإذا تأملوها حق التأمل وجدوا فيها من فضل الله وإحسانه ما تعجز الألفاظ عن التعبير عنه. لقد فوجئ المسلمون بحفنة من الحاقدين النصارى الذين أعمى بصيرتهم شعاعُ الحق الظاهر من دين الإسلام، الدين الذي رضيه الله ـ تعالى ـ لعباده ولم يرض ديناً سواه، فذهب هؤلاء المنكوسون يفرغون حقدهم وضلالهم في العيب والذم لرسول الله ـ تعالى ـ الذي أرسله ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
لقد كانت فاجعة وأي فاجعة ومصيبة وأي مصيبة، لكن الله جعل من ذلك فرصة عظيمة للمسلمين لبيان حبهم لدينهم وشدة تمسكهم به، وبذل الغالي والنفس والنفيس للذود عن حبيبهم، ومهما كتب الكاتبون ومدح المادحون ونافح المنافحون فلن يستطيعوا أن يوفوه حقه اللائق به -صلى الله عليه وسلم-، ولكنها كلمات يكتبها المسلم المحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليعبر بها عن بعض ما بداخله، وليؤدي جزءاً مما يجب عليه نحوه، كيف لا وقد أخرجنا الله ـ تعالى ـ به من الظلمات إلى النور وهدانا به الصراط المستقيم؛ فمن أقل ما يجب علينا أن ننتهز هذه الفرصة لنعّبر عما يجيش في صدورنا تجاه هذا الرسول الأكرم الذي لم تعرف له البشرية نظيراً أو مدانياً، وما مثل الكاتبين ومثل سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا كمثل رجل دخل بستاناً مثمراً من كل أنواع الثمار التي تحبها النفوس وتشتهيها، وذلك وقت نضجها، فلم يدر من شدة جمالها وحسنها ماذا يأخذ وماذا يدع.
- كيف كان العالم قبل مجيء الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
كان العالم كله يعيش في ظلمات الجهل والضلالة والشرك، إلا عدداً قليلاً جداً ممن حافظ على دينه من أهل الكتاب، فلم يحرفوه أو يقبلوا تحريفه ممن قام به. يقول الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان ... » (1) ، فهذا الحديث يصور الحالة البشعة التي كان عليها العالم قبل مبعث خير البرية، حيث استوجبت من الله ـ تعالى ـ أشد البغض، وهذا لا يكون إلا مع الانغماس التام في الضلالة والبعد عن سنن الرشاد.
فقد كان العرب يئدون البنات ويحرّمون أشياء مما رزقهم الله ـ تعالى ـ بغير حجة أو برهان. قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140] » (2) . وكانوا يأكلون الميتة ويشربون الدم، كما قال الله ـ تعالى ـ مبيّناً حالهم، وآمراً رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول لهم: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145] ، وفوق ذلك كله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، ويحرّمون على أنفسهم الاستفادة من بعض حيواناتهم، ويجعلون إنتاجها للطواغيت، كما نعى الله عليهم ذلك في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] (3) ، ولم يكن أهل الكتاب أحسن حالاً منهم، فحرّفوا كتابهم المنزّل على رسولهم، وافتروا على الله الكذب وأشركوا بالله، وادّعى اليهود أن لله ـ تعالى ـ ولداً، كما ادّعت النصارى أن لله ـ تعالى ـ ولداً: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى. قال الله ـ تعالى ـ في وصف ذلك: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] ، ولم يكونوا يتناهون عن المنكرات التي تحدث بينهم كما قال الله عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 ـ 79] ، وكان المجوس يعبدون النار ويستحلون نكاح المحارم فينكح الرجل منهم أخته أو ابنته. وبالجملة: فقد كان العالم في ظلام دامس وشرك وضلال، حتى جاءهم الرسول الكريم بالرسالة الشاملة الهادية إلى صراط مستقيم؛ فبأبي أنت وأمي يا رسول الله!
كما يبين الحديث الغرض الذي لأجله بعثه الله ـ تعالى ـ وهو دعوة الناس إلى الله ـ تعالى ـ ومجانبة طريق الشرك والضلال، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. قال النووي: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، معناه: لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله ـ تعالى ـ وغير ذلك، وأبتلي بك من أرسلتك إليهم؛ فمنهم من يظهر إيمانه ويُخلص في طاعاته، ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق» (4) . ولم ينس الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان العدل والإنصاف من شمائله أن يستثني من الشرك والضلالة طائفة من أهل الكتاب ظلت محافظة على عهد الله ـ تعالى ـ إليهم، فقال: «إلا بقايا من أهل الكتاب» ؛ فالإسلام دين يحث على العدل والإنصاف وعدم غمط الناس. قال الله ـ تعالى ـ: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] وقال: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [آل عمران: 199] ، وقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75] وغير ذلك من الآيات.
- ماذا قدّمت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعالمين؟
بعد أن عمَّ الشرك والجهل والضلال والظلم العالم كله، وكان في حاجة ماسة إلى من يخرجه من كل هذه الظلمات منَّ الله ـ تعالى ـ على العالمين ببعثته، كما قال ـ تعالى ـ: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] ؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- مرسل ليخرج الناس كلهم من أنواع الظلمات كلها إلى النور التام وليس جنساً دون جنس؛ إذ دعوته -صلى الله عليه وسلم- ليست قومية أو عنصرية، كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 9] ، فكان -صلى الله عليه وسلم- بذلك رحمة للناس جميعاً، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
فدعا الناس إلى الله ربهم، لا يطلب منهم على ذلك أجراً أو مقابلاً، وتحمّل منهم في سبيل ذلك الأذى الكثير، ومنع العدوان على الناس حتى لو كانوا من الكافرين، فبلّغ عن ربه قوله: {وََلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] الشنآن: هو البغض.
ومنعَ الظلم بين الناس ولم يقبله حتى من أتباعه على أعدائه، وأمر بالعدل حتى مع الأعداء، فبلَّغ عن ربه ـ تعالى ـ قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] .
ودعا الناس إلى الوفاء بالعهود والعقود حتى مع الأعداء، ولم يكونوا كالذين قالوا: ليس علينا لمن خالفنا في ديننا أية حقوق، يستحلون بذلك ظلم من يخالفهم ويكذبون على الله وينسبون ذلك إليه (1) ، فبلَّغ عن ربه ـ تعالى ـ قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] .
وقد كان النهي عن الخيانة من الأحكام التي جاء بها الرسول الكريم وبلّغها للناس، حتى من يُخشى خيانته من الأعداء؛ فلا ينبغي خيانتهم؛ لأن الخيانة خلق ذميم والله لا يحب الخائنين. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ؛ فإذا خاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أتباعه من قوم عاهدوهم خيانةً بإمارة تلوح أو ترشد إلى ذلك، فلا ينبغي للمسلم أن يخون بناء على ما ظهر من إقدام العدو على الخيانة، ولكن عليه أن يبين لهم أن العهد الذي بيننا وبينكم قد ألغي. قال ابن كثير: «أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك» (2) ؛ فإن غير ذلك من الخيانة، والله لا يحب الخائنين.
وقد كان لتعليماته -صلى الله عليه وسلم- أكبر التأثير على أصحابه، فالتزموا بها حتى ضربوا أروع الأمثلة في كل ذلك؛ فعن سليم بن عامر ـ رجل من حمير ـ قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرْذَوْنٍ وهو يقول: الله أكبر ... الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا؛ فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلّها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء، فرجع معاوية» (3) .
فما أحسن أثر دعوته -صلى الله عليه وسلم- على العالمين جميعاً، وما أقبح موقف الكافرين منه، الذين ناصبوه العداء وعاندوا دعوته، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله!
- احتماله -صلى الله عليه وسلم- الأذى في تبليغ الدعوة:
وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في التمسك بالحق والثبات عليه وعدم التضعضع أمام الباطل وسلطانه؛ فعن عقيل ابن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مجلسنا فانهه عن أذانا، فقال لي: يا عقيل! ائت محمداً. قال: فانطلقت إليه، فجاء في الظهر من شدة الحر فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فأتيناهم، فقال أبو طالب: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانْتَهِ عن ذلك! فحلَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم! قال: ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تُشعلوا منها شعلة. فقال أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا» (4) ، يبين لهم شدة تمسكه بالحق الذي هداه الله إليه واستحالة تركه أو ترك الدعوة إليه؛ فكما أنهم عاجزون عن أن يشعلوا شعلة من الشمس فهو لا يمكنه ترك ما أوحاه الله إليه. وإزاء هذا الإباء والثبات، عادته قريش وآذوه وصدوا الناس عنه، حتى بلغ بهم الأمر أن يتعاقدوا ويتعاهدوا على مقاطعة الرسول والمؤمنين ومن يسانده من أقربائه حتى لو كانوا على دين قريش، فقاطعوهم مقاطعة اجتماعية، لا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ولا يكلمونهم ولا يجالسوهم، وقاطعوهم مقاطعة اقتصادية لا يبتاعون منهم ولا يبيعون لهم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها في سقف الكعبة، وظلت هذه المقاطعة ثلاث سنوات. وانظر تصويراً لتلك الحالة الصعبة التي كان فيها المسلمون: يقول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: لقد رأيتني مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة فخرجت من الليل أبول؛ فإذا أنا أسمع قعقعة شيء تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها، فرضضتها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثاً» (5) ، «وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام لعياله، فيقوم أبو لهب عدو الله، فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علمتم ما لي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به» (1) ؛ فما ردَّه ذلك عن دعوته، وقد بلغ الإيذاء بأصحابه مبلغه حتى اضطرهم ذلك إلى مغادرة الأوطان والهجرة منها، وترك التجارات والأموال والأهلين، وانتهى الأمر به -صلى الله عليه وسلم- إلى الهجرة وهو صابر محتسب صامد كالطود الأشم، تميد الجبال الشم وهو -صلى الله عليه وسلم- ثابت لا ينحني، ولم يقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يساوم على دعوته، أو يقبل بما يدعونه من الحلول الوسط، بأن يكتم بعض ما أنزل الله إليه في سبيل أن يمتنع الكافرون عن معاداته أو محاربته، أو أن يلين في الحق مقابل أن يلينوا معه في مواقفهم، بل رفض كل ذلك وظل صامداً فصلى الله تعالى عليه وسلم، وقد سجل القرآن الكريم هذا الموقف بقوله ـ تعالى ـ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ، وقال لهم في قوة وصلابة في الحق كما أمره ربه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1ـ 6] ، وعرضوا عليه الأموال والنساء والملك، فيأبى كلَّ ذلك ولسان حاله يقول: واللهِ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ـ تعالى ـ أو أهلك دونه.
ولما مكّنه الله ـ تعالى ـ وأظهره لم يطغَ أو يظلم أحداً ولم يبغ العلو في الأرض، وإنما جاهد في الله حق جهاده، وبذل نفسه في سبيل ذلك، وسنَّ في ذلك سنناً هي في غاية العدل والكمال، فلا ظلم ولا اعتداء ولا إفساد، ولا رغبة في العلو في الأرض بالباطل، ولا رغبة في التوسع على حساب الشعوب، بل كان يدعوهم إلى الله ـ تعالى ـ لا إلى نفسه ولا إلى قومه، حتى كان العربي والعجمي في كنفه سواء؛ فهذا بلال الحبشي مؤذنٌ لصلاة المسلمين بين يدي رسول الله، وهذا صهيب الرومي الذي ترك ماله لقريش حتى لا يمنعوه من الهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول له: ربح البيع أبا يحيى! وهذا سلمان الفارسي الذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «سلمان منا أهل البيت» ، وكان يدعو الناس فمن قَبِلَ منهم دعوة الله كان واحداً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، من غير تفرقة بلون أو لغة أو جنس، وهذه هي وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن خرج مجاهداً في سبيل الله تعالى؛ مما يبين بكل وضوح نبل غاية الجهاد، وأنه جهاد لإحقاق الحق وليس للعلو في الأرض أو الإفساد؛ فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً! وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال؛ فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية؛ فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم!.. الحديث» (2) فبأبي أنت وأمي يا رسول الله!
- الأمانة في تبليغه -صلى الله عليه وسلم- الدعوة:
حيثما توجهت مع الرسول الكريم لا تجد إلا الطهر والنقاء، والثبات والقوة، والصدق والأمانة، يبلِّغ ما أوحاه الله إليه، ولا يُخفي منه شيئاً، حتى لو كان فيما أمر بتبليغه ما يدل على معاتبته على أحد التصرفات، فبلّغ قوله ـ تعالى ـ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 1ـ4] . قال ابن كثير: «ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، فجعل يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء ويلحّ عليه، وودّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لو كفّ ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعاً ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله ـ تعالى ـ: {عَبَسَ وَتَولَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1 ـ 3] » (3) ؛ فما انصرف عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعبس رغبة عنه أو استهانة به، وإنما حمله على ذلك رغبته في إسلام أولئك العظماء؛ ليعزّ بهم المسلمون، ومع ذلك فقد بلّغها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكتمها.
وكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مولى اسمه زيد بن حارثة ـ رضي الله تعالى عنه ـ تبناه الرسول قبل البعثة، وكانت عادة العرب أن زوجة الابن تحرم على الوالد، ولو لم يكن ابناً للصلب، وإنما كان ابناً بالتبنّي، وأراد الله ـ تعالى ـ أن يهدم هذا العرف الجاهلي، فلما طُلقت زينب بنت جحش زوجة زيد ـ رضي الله تعالى عنها ـ شرع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- زواجها ليكون هو أول من يهدم هذا العرف الجاهلي؛ لكن هذا الأمر كان صعباً على تلك البيئة؛ لتأصّل تلك العادة فيهم، فأخفى -صلى الله عليه وسلم- في نفسه هذه المشروعية، فقال الله ـ تعالى ـ له في شأن زينب بنت جحش وزوجها زيد بن حارثة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] فبلّغها ولم يكتمها، قال أنس: «جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك! قال أنس: لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: زوّجكن أهاليكن، وزوّجني الله ـ تعالى ـ من فوق سبع سموات» (1) ؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمين على وحي الله ـ تعالى ـ يبلغه كما أنزله الله عليه، لا يزيد فيه ولا ينقص منه.
- رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالعالمين:
قال الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فما أرسله ـ تعالى ـ إلا ليكون إرساله رحمة للعالمين جميعاً، فمن قَبِلَ رسالته فهو ممن رحمه الله ـ تعالى ـ ومن أعرض فعلى نفسه جنى، ولقد شملت رحمته -صلى الله عليه وسلم- حتى الحيوانات؛ فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: «كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من فجع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها! ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن ُيعذِّب بالنار إلا ربُّ النار» (2) فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يرقّ لحال هذا الطائر الذي فقد ولديه، ويرحمه ويأمر من أخذهما بإطلاقهما، مع أن صيد البر حلال، لكن الرحمة التي ملأت جوانح الرسول الكريم لم يقدر معها على رؤية هذا الطائر المسكين المفجوع في ولده، حتى أمر بإطلاقه. وها هو ذا -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى رحمة كل ما فيه روح، ويحث على ذلك ببيان ما فيه من الأجر فيقول: «بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفّه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر» (3) وكان -صلى الله عليه وسلم- يرحم الصبية الصغار ويقبّلهم؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قبّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: مَنْ لا يَرحم لا يُرحم» (4) ، ودعا أمته إلى رحمة الخلق جميعهم ـ من في الأرض ـ من يعقل كالإنس، ومن لا يعقل كالحيوانات، فقال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» (5) . وقد سجلت لنا السيدة خديجة ـ رضي الله تعالى عنها ـ شمائله التي طبعه الله ـ تعالى ـ عليها حتى من قبل أن تأتيه الرسالة، فقالت له لما جاءه الوحي: «واللهِ ما يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (6) فكانت هذه خِلالُه -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه، فلما جاءه الوحي زادت نوراً وتلألؤاً وجلالاً، فصلى الله عليك يا من أرسلك ربك رحمة للعالمين!
- الحلم والعفو والصفح من شمائله -صلى الله عليه وسلم-:
كان الحلم والعفو والصفح شيمة هذا الرسول الكريم، حتى إنه لم ينتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حدود الله تعالى؛ فقد كان لرجل من اليهود دَيْن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتاه يتاضاه منه وأغلظ له في الكلام، فردَّ عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحلم وصفح على ما يتبين من هذه الرواية حتى أدّاه ذلك إلى الإسلام؛ فقد كان زيد بن سعنة من أحبار اليهود وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- «يتقاضاه فجبذ ثوبه عن منكبه الأيمن، ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل، وإني بكم لعارف. فانتهره عمر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عمر! أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه، أما أنه قد بقي من أجله ثلاث [أي: لم يحن أجل الدَّيْن بعدُ، بل بقي منه ثلاثة أيام] فزِدْه ثلاثين صاعاً، لتزويرك عليه» (7) ، ورواه ابن حبان وفيه: «فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب بمُطْل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، قال: ونظرت إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، وقال: أيْ عدوَّ الله! أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع وتفعل به ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك؛ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: إنَّا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر! أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً من غيره، مكان ما رعته، قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أزيدك مكان ما رعتك، فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحَبْر؟ قلت: نعم! الحَبْر، قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قلت وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر! كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حِلمُه جهلَه، ولا يزيده شدةُ الجهل عليه إلا حِلماً، فقد اختبرتهما، فأشهدك يا عمر! أني قد رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً، وأشهدك أن شطر مالي ـ فإني أكثرها مالاً ـ صدقة على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: أو على بعضهم؟ فإنك لا تسعهم كلهم، قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده.. الحديث» (1) فحلم عليه، ولم يردّ عليه بمثل ما قال، بل زاده في حقه من أجل انتهار عمر له. وعن أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء» (2) فلم يقابل جفاء الأعرابي وغلظته وقسوته عليه إلا أن التفت إليه وضحك، ثم أعطاه ما سأل؛ فما أحلمك يا رسول الله!
وقد حاربته قريش أشد المحاربة، وألَّبوا عليه القبائل وآذوه وآذوا أصحابه، فلما أمكنه الله منهم وأظهره عليهم ودخل مكة فاتحاً في عام الفتح في موقف النصر والعزة والتمكين، لم يعاملهم بما يستحقونه من العقاب البليغ، بل عفا عنهم «وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» (3) .
- شجاعته -صلى الله عليه وسلم-:
كان لرسول -صلى الله عليه وسلم- في الشجاعة القِدح المعلَّى، فكان أسرع الناس إلى العدو وأقربهم إليه، ولم يفرّ -صلى الله عليه وسلم- من أية معركة رغم شدتها والتحام الصفوف؛ فعن أبي إسحاق قال: «جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم ولّيتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ما ولَّى، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزِّل نصرك، قال البراء: كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للَّذي يحاذي به، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-» (4) ، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا دهم المدينةَ خطر يكون أسرع الناس لاستجلائه، فعن أنس قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: لن تُراعوا، لن تُراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحراً أو إنه لبحر» (5) فلفرط شجاعته -صلى الله عليه وسلم- كان أول من انطلق حتى يستجلي الأمر، حتى إن أسرع الناس من بعده لم يلحقه إلا وهو راجع، وذهب على فرس عري ليس عليه سرج والسيف في عنقه، فأي شجاعة هذه التي تجعل من صاحبها يقدم بمفرده ولا ينتظر من يعاونه أو يساعده على هذا الوضع الصعب؟! وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أخبر: «أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نجد؛ فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت سَمُرة فعلَّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، ثم إذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صَلْتاً، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله؛ فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» (1) ، في هذا الوضع الصعب حيث الرجل ممسك بالسيف، والرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس معه سلاح، لكنه ظلَّ رابط الجأش واثقاً من معية الله، ولم يظهر منه خوف أو جزع، بل ثبات ويقين. قال ابن حجر: «وفي الحديث فرط شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال» (2) .
- وجوب نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-:
نصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من لوازم الإيمان، وقد ضمن الله ـ تعالى ـ الفلاح لمن آمن برسوله ونَصَرَه، فقال ـ تعالى ـ: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] ، فالذين عزّروه هم الذين وقَّروه، والذين نصروه هم الذين أعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم، وقد مدح الله ـ تعالى ـ المهاجرين الذين نصروا رسوله وشهد لهم بالصدق في إيمانهم فقال ـ تعالى ـ: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] ، كما شهد لمن آوى المهاجرين ونصر الرسول بأنهم هم المؤمنون حقاً فقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] ، فكان البذل والعطاء في سبيل الله سواء بالهجرة أو بالنصرة دليل الإيمان الحق.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في مكة قبل الهجرة يطوف على الناس يطلب النصرة حتى يتمكن من إبلاغ رسالة الله ـ تعالى ـ للعالمين؛ فعن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة؟ ..» الحديث (3) ، وعندما أراد الهجرة إليهم في المدينة أخذ البيعة عليهم أن ينصروه وأن يمنعوه مما يمنعون منه أهليهم، ففي الحديث المتقدم قال لهم: «وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة» (4) .
وقد أخذ الله ـ تعالى ـ الميثاق على من تقدّمنا من الأمم بنصرة الرسول الكريم؛ فما أتعس قوماً أخذ عليهم الميثاق بنصرته -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا هم يسخرون ويستهزئون! قال الله ـ تعالى ـ في أخذه الميثاق على من سبق من الأمم: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] ، فأخذ الميثاق على النبيين كلهم وأممهم تبع لهم فيه. قال ابن كثير: «قال علي ابن أبي طالب وابن عمه ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أُخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به وينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه» (5) .
وقد بين الله ـ تعالى ـ أنه ناصر رسوله، وأن رسوله ليس في حاجة إلى نصرهم، والمسلم عندما ينصر الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- فإنما يسعى لخير نفسه، وإذا تقاعس فلن يضر إلا نفسه، وقد نصر الله رسوله في أحلك الظروف وأصعب الأوقات عندما هاجر من مكة إلى المدينة وقريش كلها تطارده بخيلها ورجلها تأمل العثور عليه، لكن الله أنجاه منهم مع ضعف الإمكانات وقلة الزاد والمعين، قال الله ـ تعالى ـ يبين ذلك: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] فمن تقاعس عن نصرة الرسول فلا يُزري إلا بنفسه، وهي منزلة من العز والشرف قد حرم منها.
وإذا كانت هناك وسائل كثيرة لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والانتصار له ممن سخر أو استهزأ من الكفرة والملحدين، فإن من النصرة التي يقدر عليها كل مسلم، ولا يعذر في التخلف عنها: محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وموالاته واتباع سنته، وترك الابتداع في الدين؛ إذ لا يستقيم أن يكون المسلم ناصراً حقاً للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الوقت الذي يعصيه فيه ويخالف سنته، ويبتدع في دينه، أو يوالي أعداءه، ويناصرهم ويقف معهم في ملماتهم، وكيف تكون هناك موالاة بين المسلم وبين الكافر الذي يسخر أو يسب الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله ـ تعالى ـ: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ؟ [المجادلة: 22] .
- وجوب تعزيره وتوقيره -صلى الله عليه وسلم-:
التعزير: النصرة والحماية، والتوقير: التعظيم والإجلال، وكل ذلك يستحقه الرسول الكريم، وبذلك أمرنا رب السماوات والأرضين. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8 - 9] ، ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره يرجع إلى أمرين: أمر إلى صفاته الشخصية وشمائله التي تحلّى بها، والتي لا تدع لأي منصف اطلع عليها إلا أن يحب هذا الرسول ويوقره ويعظمه، وهذه تكون من المسلمين كما تكون من المنصفين من غير المسلمين، وهناك كمٌّ كبير من أقوالهم في ذلك، وآخر: إلى أمر الله بذلك وإيجابه على المسلمين، وهذه يختص بها الذين آمنوا بالله ورسوله، حتى يفديه المؤمن بأبيه وأمه، بل يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من كل شيء، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (1) ، بل لا بد أن يكون الرسول أحب إلى المسلم من نفسه التي بين جوانحه، فيؤْثر مرضاة الرسول على ما تطمح إليه نفسه، ويقدم أمره وسنته على محبوباته ورغباته، فعن عبد الله بن هشام قال: «كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبُّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر!» (2) ، وقد كان المسلمون من محبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرِّضون أنفسهم للمهالك والردى في سبيل حفظ الرسول ونجاته، فعن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو طلحة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- مجوب به عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد القد يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، فأشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبْك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك» (4) . وإزاء كل ما تقدم لم يكن من المسلمين لرسولهم إلا الحب والإجلال والإكبار والرغبة في فدائه بكل ما يملكون، ولم يكن أحد من أصحابه يطيق أن يسمع شيئاً مما قد يكون فيه أدنى نقص من قدره -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «استبَّ رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تخيِّروني على موسى؛ فإن الناس يُصعقون يوم القيامة فأُصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله» (5) ، فلم يحتمل الصحابي الجليل أن يسمع من اليهودي تفضيل موسى ـ عليه السلام ـ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (5) ، وقد روى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قصة تبين مدى حب الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعنه «أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشتمه فأخذ المِغْوَل فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ألا اشهدوا أن دمها هدر» (6) .
ولم يكن يتصور أن يقوم أحد ممن آمن به بانتقاصه أو سبّه أو السخرية منه أو الاستهزاء به، وقد أجمع علماء المسلمين على أن من سبّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أحداً من أنبياء الله ورسله أنه مرتد ويجب قتله، كما أن من سبّه من أهل العهد والذمة فإن عهده ينتقض بذلك ويجب قتله، فإنَّا لم نعاهدهم على سب رسولنا أو الانتقاص منه. قال محمد بن سحنون: «أجمع العلماء على أن شاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر» (7) وقال ابن تيمية: «وتحرير القول فيه: أن السابَّ إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذمياً فإنه يقتل ـ أيضاً ـ في مذهب مالك وأهل المدينة، وقد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة. قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: «كل من شتم النبي -صلى الله عليه وسلم- أو تنقَّصه ـ مسلماً كان أو كافراً ـ فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب» (8) .
وبعد: فهل وفيتُ حق الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ لا، وألف لا، بل ولا قطرة في بحر حقه وفضله، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله! اللهم إنَّا قد أحببنا نبيك وأصحاب نبيك، فاللهم احشرنا في زمرتهم!(222/3)
الجذع يحن إليه!!
د. لطف الله خوجه
- محبة مفترضة:
من حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- محبته، وقد ورد الأمر بها في القرآن. قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .
وموضع الشاهد: ما في الآية من الوعيد، لمن كانت محبته لشيء، أكثر من محبته لله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، في كلمتين هما:
أولاً: قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} والتربص هنا للعقوبة، ولا تكون العقوبة إلا لترك واجب.
ثانياً: قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فقد وصفهم بالفسق؛ وذلك لا يكون إلا بفعل كبيرة فما فوقها، من كفر وشرك، لا في صغيرة.
فمن قدّم شيئاً من المحبوبات على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو فاسق، متربص ببلية تنزل عليه.
وقد اقترنت محبته -صلى الله عليه وسلم- بمحبة الله تعالى؛ وذلك يفيد التعظيم، كاقتران طاعته بطاعة الله تعالى.
وثمة نصوص نبوية صريحة، في وجوب تقديم محبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ على كل المحبوبات الدنيوية:
3 النص الأول:
كان النبي آخذاً بيد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال له عمر:
- «يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي.
- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا، والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك.
- فقال له عمر: فإنه الآن والله! لأنت أحب إليَّ من نفسي.
- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر!» . [البخاري، الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي] .
النفي المؤكد بالقسم يدل على وجوب تقديم محبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ على النفس.
فأَمْرُه بتأخير محبة النفس، وتقديم هذه المحبة النبوية عليها ـ مع كون محبة النفس جِبِلَّة في الإنسان، يقدمها على كل شيء، ولا يُلامُ على ذلك في أصل الأمر، إلا إذا تجاوز بها إلى محظور ـ دليل وجوب، لا استحباب.
إذ لا يؤمَر الإنسان بترك فِطرة فُطِرَ عليها، وليست مذمومة في أصلها، إلا إذا قادته إلى محظور. وتقديم محبة النفس على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، تقود إلى فعل المحظورات، كما هو مجرّب، فلذا وجب التقديم.
أمر ثانٍ: النفس هالكة لولا فضل الله ـ تعالى ـ على الناس بهذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو سبب نجاتها، فمحبته أحق بالتقديم.
3 النص الثاني:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [البخاري، الإيمان] .
هذا نص في وجوب أن يكون ـ عليه الصلاة والسلام ـ أحب إلى المرء من كل شيء دنيوي، وذلك لأمور:
- كونه نفى حصول الإيمان إلا بكونه أحب شيء، والإيمان واجب، وما تعلق به فهو واجب.
- ثم إن الخطاب جاء في حق الأعيان في قوله: «أحدكم» ، فكل مؤمن مخاطب بهذه المحبة.
- ثم إنه أتى بصيغة التفضيل: «أحب» ، وهو صريح في تقديم محبته مطلقاً على كل شيء دنيوي.
وهذه المحبة الواجبة من فرّط فيها فهو آثم مذنب، ومن قدّم عليه محبة: الآباء، أو الأبناء، أو الإخوان، أو الأزواج، أو شيء من متاع الدنيا، فهو آثم فاسق، مستحق للعقوبة، فقوله: «لا يؤمن أحدكم ... » نفي للإيمان الواجب، بمعنى أن من فعل ذلك فقد نقص إيمانه نقصاً يستحق به الإثم والعقوبة.
فالشارع لا ينفي واجباً، ثبت وجوبه، إلا لترك واجب فيه.
والإيمان واجب، ولا ينفي بقوله: «لا يؤمن.. .» إلا لترك واجب فيه، كالصلاة لا تنفى إلا لترك واجب فيها، كقوله: «لا صلاة لمن لا وضوء له» [أخرجه أحمد] .
والإثم والعقوبة متفاوت بحسب نوع التقديم:
فتارة يكون كفراً، وذلك في حالين:
- الأول: إذا كان التقديم مطلقاً، فلا يتعارض شيء مع محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا قدّم ذلك الشيء، وهكذا في كل شيء، فهذا يعبد هواه، ولا يعبد الله ـ تعالى ـ في شيء.
- الثاني: إذا كان التقديم في بعض الأحوال، لكن في أمور كفرية، ينقض بها أصل دينه، فيقدم محبة الأمور الكفرية على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كمن نصر الكافرين على المسلمين.
- وتارة يكون كبيرة، وذلك إذا قدّم محبة الكبائر على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فشرِبَ الخمر وزنى، ولم يطع النبي -صلى الله عليه وسلم- في نهيه عنها، فهذا قدّم محبة هذه الكبائر.
- وتارة صغيرة، وذلك إذا فعل الصغائر، فقدم حبها على حبه النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وطاعتَه.
- عبودية لا إلهية:
وليس فوق محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا محبة الله تعالى؛ فإن محبة الله ـ تعالى ـ هي أعلى المحبوبات وأوجبها على الإطلاق، ولا يجوز أن يساوى بينه ـ تعالى ـ وبين غيره في المحبة، حتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن محبته وإن كانت عظيمة مقدمة على المحبوبات الدنيوية، لكنها تبقى في مرتبة البشرية، لا تبلغ مرتبة الألوهية؛ فلله ـ تعالى ـ محبة تخصه تسمى: محبة التألُّه، والخلة. ويقال كذلك: المحبة الذاتية. فلا يجب محبة شيء لذاته إلا الله تعالى.
ومن هنا يُفهَم خطأ من بالغ في محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى جعله كمحبة الله تعالى، فنسب إليه خصائص الخالق سبحانه، من:
- علم الغيب.
- وتدبير الخلق.
- ونسبة إجابة الدعوات إليه.
- ودعائه والاستغاثة به من دون الله ـ تعالى ـ في قضاء الحوائج، وتفريج الكربات.
- وسؤاله شيئاً لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
فإن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن اقترنت بمحبة الله ـ تعالى ـ إلا أنها كاقتران طاعته بطاعته. أما المحبة الإلهية فشيء وراء المحبة البشرية، وما أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ليعلّق القلوب بالله تعالى، ويخلص الناس محبتهم لله ـ تعالى ـ فلا يشركون فيها معه غيره، وهذه هي العبودية، التي قال ـ تعالى ـ فيها:
ـ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، أي: ليخلصوا المحبة والخضوع والطاعة لله تعالى.
وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا المسلك غاية التحذير، وحرص على منع كل ذريعة تفضي إلى مساواته بالله ـ تعالى ـ في المحبة، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
- «لا تُطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم؛ فإنما أنا عبده، فقولوا: عبدُ الله ورسوله» .
ومعنى الأثر: لا تبالغوا في مدحي، وتغلوا فيّ كغلوِّ النصارى في عيسى عليه السلام.
فإن النصارى زعموا فيه أنه إله، وأنه ابن الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5] ، فقد خشي النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا المسلك، فنهى عن المبالغة في مدحه.
وقد وقع ما نهى عنه -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث غلا فيه أناس حتى جعلوه في مرتبة الألوهية والربوبية:
- فنسبوا إليه ما لا يليق إلا بالخالق، وصنعوا به كما صنع النصارى بالمسيح، غير أنهم لم يقولوا: هو ابن الله، لكنهم نسبوا إليه: التصريف، وعلم الغيب، وإجابة الدعاء، وهذا إنزال له في مرتبة الألوهية، وإن لم يقولوا: إنه الله؛ فإن العبرة بالمعاني والحقائق.
- كما أنهم ابتدعوا له عيداً، يحتفلون فيه بمولده -صلى الله عليه وسلم-، كابتداع النصارى عيد الميلاد للسيد المسيح عليه السلام، ولم يفعله ولم يأمر به عليه السلام، كما لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يأمر في حق نفسه الشريفة.
لقد اتبع طائفة من المسلمين سنن اليهود والنصارى حذو القُذة بالقُذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
نعم! النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق، وسيد ولد آدم، وخليل الله تعالى، وأعلى الناس منزلة يوم القيامة، وفي الجنة، وهو إمام الأنبياء والمرسلين، لا يبلغ مقامه نبي مرسل، ولا مَلَك مقرَّب، غير أنه تحت سقف العبودية، دون مرتبة الألوهية، وقولُه:
- «إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» .
تقريرٌ لهذه الحقيقة، ولجم وإبطال لدعاوى فريقين:
الأول: الغالي، الذي رفعه عن مرتبة العبودية، وذلك بقوله: «فقولوا: عبد الله» .
والثاني: الجافي، الذي عامله كسائر الناس، فلم يميزه بالمرتبة العالية، وذلك بقوله: «ورسوله» .
قال الله ـ تعالى ـ:
- {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] .
وتقديم محبته -صلى الله عليه وسلم- على كل شيء له أربعة أسباب: الاثنان الأولان منها على سبيل الوجوب، والآخران على سبيل الاستحباب:
الأول: أمر الله ـ تعالى ـ به، حيث تقدمت الأدلة الدالة على هذا، وهذا السبب وحده يكفي في الوجوب.
الثاني: منّته -صلى الله عليه وسلم- على أمته؛ إذ هداهم الله به، ودلهم على طريق السعادة والنجاة من شقاء الدنيا والآخرة.
الثالث: كماله الخُلقي: كرماً، وشجاعة، وإحساناً، ومروءة، وصدقاً، وعدلاً، وأمانة، وحلماً، ورحمة، وعفواً وصفحاً. بالإضافة إلى العلم والفقه والبصيرة، وأية واحدة من هذه السجايا توجب محبة من تحلى بها؛ فكيف بمن اجتمعت فيه على أكمل وجه. قال ـ تعالى ـ: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
الرابع: كماله الخَلْقي: فقد كان جميلاً، منيراً كالقمر، طيب الرائحة، عرقه كالمسك، معتدل القوام، حسن الشعر، جميل العين، أبيض البشرة؛ فله أوصاف الجمال؛ فمن رآه أحبه -صلى الله عليه وسلم-.
- الشوق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وعلامات المحبة -صلى الله عليه وسلم- متعددة، هي: الإيمان به، وتوقيره، ونصرته، وطاعته.
ثم إن منها كذلك: الشوق والأُنْس عند ذكره، وتمني رؤيته، والجلوس إليه، ولو كان ذلك لا يحصل إلا بإنفاق كل المال، وما عرف عن الصادقين من المؤمنين إلا مثل هذا الشعور الصادق، وهذه آثارهم:
1 ـ سأل رجل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: «متى الساعة؟
قال: «وما أعددتَ لها؟»
قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله.
فقال: «أنت مع من أحببتَ» .
قال أنس: فما فرحنا بشيء فَرَحَنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنت مع من أحببت» .
- قال أنس: «فأنا أحب النبيَّ وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم» [البخاري، الأدب، باب: علامة الحب في الله دون قول أنس] .
2 ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفس محمد بيده! ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني. ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم» [أخرجه مسلم في الفضائل، باب: فضل النظر إليه -صلى الله عليه وسلم-، وتمنيه، 4/1836] .
3 ـ وجاء أن امرأة قُتِلَ أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت:
- «ما فعل رسول الله؟
- قالوا: خيراً، هو بحمد الله كما تحبين.
- فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل» [الروض الأُنُف للسهيلي: 6/25، الشفا: 2/22] .
4 ـ ولما احتُضر بلال ـ رضي الله عنه ـ قالت امرأته: «واحزناه!
- فقال: واطرباه! غداً نلقى الأحبة.. محمداً وحزبه» . [سير أعلام النبلاء: 1/359، الشفا: 2/23] .
5 ـ ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنّة ـ رضي الله عنه ـ من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان ـ ولم يكن قد أسلم بعدُ ـ:
- «أنشدك الله! أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك يُضرَب عنقه، وأنك في أهلك؟» .
- فقال: «واللهِ ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في أهلي» .
- فقال أبو سفيان: «ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً» . [السيرة النبوية الصحيحة للعمري: 2/400، سيرة ابن هشام: 3/160، الروض الأنف: 6/166، الشفا: 2/23] .
6 ـ وكان خالد بن معدان لا يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله وإلى أصحابه، ويسميهم ويقول: «هم أصلي وفصلي، وإليهم يحنّ قلبي، طال شوقي إليهم، فعجِّل ربِّ قبضي إليك» ، حتى يغلبه النوم. [سير أعلام النبلاء: 4/539، الحلية: 5/210، الشفا: 2/21] .
7 ـ وقد كانت الجمادات فضلاً عن المؤمنين تشتاق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحبه وكذا البهائم:
- فقد كان ـ عليه السلام ـ يخطب إلى جذع نخلة، فلما صُنِع له المنبر، تحوَّل إليه، فحنّ الجذع، وسمع الناس له صوتاً كصوت العشار، حتى تصدع وانشق، حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليه فسكت، وكثر بكاء الناس لما رأوا به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذا بكى لِمَا فقد من الذكر، والذي نفسي بيده! لو لم ألتزمه، لم يزل هكذا إلى يوم القيامة» ، فأمر به فدُفن تحت المنبر.
- وكان الحسن البصري ـ رحمه الله ـ إذا حدَّث بهذا بكى، وقال: «يا عباد الله! الخشبة تحنّ إلى رسول الله شوقاً إليه بمكانه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه» . [بتصرف، وأصله مروي في صحيح البخاري، في المناقب، باب: علامات النبوة قبل الإسلام، 3/1314، انظر: الشفا: 1/304، صحيح الجامع: 2256] .
8 ـ وقد كان الطعام يسبِّح في يده، والشجر والجبل والحجر يسلم عليه. [الشفا:1/306، وأثر التسبيح عند البخاري، في المناقب، باب: علامات النبوة قبل الإسلام، 3/1312، وأثر تسليم الحجر في مسلم، الفضائل، باب: فضل نسب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، 4/1782] .
9 ـ لما قدم عمر ـ رضي الله عنه ـ الشام، سأله المسلمون أن يسأل بلالاً ـ رضي الله عنه ـ يؤذِّن لهم، فسأله، فأذّن يوماً، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكياً من يومئذ، ذكراً منهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-. [سير أعلام النبلاء: 1/357]
10 ـ عن أُبَيِّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان رسول الله إذا ذهب ربع الليل قام، فقال: أيها الناس! اذكروا الله! اذكروا الله! جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه.
- فقلت: يا رسول الله! إني أُكْثِرُ الصلاةَ عليك؛ فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت.
- قلت: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير.
- قلت: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير.
- قلت: الثلثين؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير.
- قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذاً تُكْفَى همَّك، ويغفر لك ذنبك» . [أخرجه الترمذي: صفة القيامة، وأحمد: 5/136] ؛ لأن من صلَّى على النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الله عليه بها عشراً، ومن صلى الله عليه كفاه همه وغفر ذنبه. [انظر: جلاء الأفهام: لابن القيم ص 46] .
كثير من الصالحين يرون النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، بعضهم كان يراه في كل ليلة، فإذا ما لم يره في ليلة اتهم نفسه بالنفاق، ورؤيته في المنام -صلى الله عليه وسلم- دليل على تعلق القلب به، واشتغال اللسان بالصلاة عليه، والعين بالنظر في سنته، والأذن في سماع حديثه.
أما أولئك الذين:
لا يصلُّون عليه حتى إذا ذُكر.
ولا يسمعون لحديثه ولو تُلي.
ولا ينظرون في سنته، ولو مرّ بهم كتاب حديث.
فإنه لن يكون له في قلوبهم: ذكر، ولا شوق.
فأنَّى لهم أن يروه في المنام، ولو لمرة؟ فهل لهم أن يتهموا أنفسهم بالنفاق!
__________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى ـ السعودية.(222/4)
خلفيات التحول السيء للدانمارك ودول شمال أوروبا
يحيى أبو زكريا
كانت دول شمال أوروبا: السويد والنرويج والدانمارك وفنلندا وإيسلندا تعتبر نفسها دوماً مغايرة ومختلفة عن بقية الدول الأوروبية ذات الإرث الاستعماري والتي تزعمت إمبراطوريّات احتلت لمئات السنين أجزاء واسعة من العالم العربي والإسلامي والثالث، بل إنّ دول شمال أوروبا كانت تعتبر نفسها ذات خصوصية مناخية وثقافية واجتماعية وحضارية، وأنهّا نجحت في إقامة نظام سياسي إنساني في كل أبعاده يؤمن بالإنسان أولاً وثانياً وأخيراً. ولطالما نظّر المنظرون والإستراتيجيون في شمال أوروبا لمجتمع متعدد الثقافات ومتنوّع الأعراق والديانات.
وبناءً عليه وضعت قوانين أساسية تنصّ على مبدأ حريّة التديّن وعدم جواز المساس بأي دين أو التحامل على ديانة بعينها. صحيح أنّ هذا البند ربما وضع ليحمي الديانة اليهودية ورموزها في شمال أوروبا، لكن عدم تحديد الديانة بالاسم جعل القوانين التي تصون الديانات تنسحب على الإسلام أيضاً، وخصوصاً عندما أصبح الإسلام الديانة الرسمية الثانية في السويد والنرويج وحتى في الدانمارك.
وبسبب الطبيعة المناخية الباردة لمنطقة شمال أوروبا فإن سكانها الأصليين هجروها في أوقات سابقة باتجاه أمريكا وباتجاه مدن الشمس، كما أنّ انتهاء مفهوم الأسرة في هذه الجغرافيا واكتفاء الرجل والمرأة بمبدأ المعاشرة أثَّر إلى أبعد الحدود في حدوث تضاؤل فظيع في نسبة المواليد وهو الأمر الذي جعل الإستراتيجيين في هذه المنطقة يفكرون باستيراد البشر من الدول التي تعيش أزمات حروب وأزمات سياسة، فتدفق المهاجرون المسلمون على هذه البلاد، وحصلوا على حق الإقامة الدائمة بموجب اللجوء السياسي أو اللجوء الإنساني، أو من خلال مفوضية شؤون اللاجئين التي ترسل تباعاً عناصر بشريّة بالتوافق مع هذه الدول التي تستقبل سنوياً حصّة معينة ومعدودة من مفوضيّة شؤون اللاجئين.
وخلال ثلاثين سنة ارتفع عدد المسلمين بشكل غير متوقّع في دول شمال أوروبا؛ حيث أصبح عددهم في السويد أزيد من نصف مليون مسلم، وفي النرويج أزيد من 270 ألف مسلم، وفي الدانمارك أزيد من 150 ألف مسلم، وفي فلندا قرابة 50 ألف مسلم، وفي إيسلندا عدة آلاف من المسلمين.
وهذا الاضطراد في ارتفاع عدد المسلمين جعل الكثير من الجمعيات اليهودية الفاعلة في هذه المناطق والمنظمات الكنسية الكبيرة كجمعية (كلمة الحياة العالمية) و (شهود يَهْوَهْ) تنظر بريبة إلى هذا الوجود الإسلامي، وعمدت إلى تكثيف التنصير في المناطق الإسلامية، وراحت تستغل فقر الجاليات العربية والمسلمة لتمرر رسالتها الدينية التي تستهدف بالدرجة الأولى المسلمين حتى يغيِّروا ديانتهم.
وهذا التنامي في عدد المسلمين في مناطق شمال أوروبا جعل الكثير من مراكز الدراسات المستقبلية في الغرب تشير إلى عمق الأزمة الاجتماعية والتركيبة العقائدية لهذه المجتمعات بعد عشرين سنة، كما أنّ بعض الباحثين الإسرائيليين ذكروا بكل صراحة في بحوثهم أنّ المستقبل في هذه المناطق مقلق للصهيونية الذين قد يفقدون أي دعم أوروبي فيما لو أصبح (محمد) و (خالد) من صنّاع القرار في أوروبا؛ في إشارة إلى احتمال وصول الجيل الثالث المسلم المولود في هذه البلاد إلى دوائر القرار.
وقد كانت حياة المسلمين في بلاد شمال العالم طبيعية وعادية، وكانوا يتمتعون بكثير من الامتيازات والتسهيلات، غير أنّ هناك حدثين قلبا ظهر المجن عليهم في هذه البلاد، وبموجب الحدثين أصبحوا عرضة لتآمر دولي يستهدف كيانهم ووجودهم ومستقبلهم:
الحدث الأول: هو تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001م التي حدثت في أمريكا، وقد استطاعت الإدارة الأمريكية أن تفرض توجهاتها الأمنية على دول شمال العالم وأشركتها في سياستها الأمنية، وهو الأمر الذي جعل أحد المتابعين يقول: إنّ أمريكا تملك أكبر قاعدة سياسية ولوجستية في شمال أوروبا.
والحدث الثاني: يرتبط بالاستفتاء الشهير الذي أجراه الاتحاد الأوروبي حول الدولة الشرّيرة الأولى في العالم، فأجمع الأوروبيون بمن فيهم سكان شمال العالم على أنّ الدولة العبرية هي أخطر دولة على السلام العالمي، وبعد هذا الاستطلاع طالب وفد الوكالة اليهودية العالمية الأمين العام للاتحاد الأوروبي ساعة نشر الاستطلاع (رومانو برودي) بأن يلغي هذا الاستطلاع، وحاول الوفد اليهودي إقناع (برودي) بأنّ المسلمين الإرهابيين هم الأخطر على أوروبا والعالم، وأنّ المواطنين الأوروبيين من أصول إسلامية هم الذين جعلوا الاستطلاع في منحى مضاد للدولة العبرية.
ومنذ تلك اللحظة بدأت كبريات الجرائد ووسائل الإعلام المرئية المملوكة بنسبة تسعين بالمائة ليهود في شمال أوروبا في تحقير الهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية التي كانت تعتبر، ولا زالت ثقافة كراهية وتحامل على السامية، وبات واضحاً أنّ هناك حملة متكاملة الأبعاد ومخططاً لها سلفاً ضد الإسلام والمسلمين وبشكل استفزازي؛ ففي السويد أطلق قسّ سويدي يدعى (رونارد سوغارد) تصريحاً مفاده أنّ محمداً الرسول العربي معقّد ومزواج ومحبّ للفتيات القاصرات، وتبين أنّه تلقى الضوء الأخضر من الكنيسة الإنجيلية من كاليفورنيا - كنيسة المحافظين الجدد - وتزامناً مع هذا التصريح طالبت إذاعة دانماركية محلية بطرد المسلمين كل المسلمين من الدانمارك، وتلاقياً مع ذلك خرج علينا رئيس الحزب المسيحي النرويجي بتصريح يتهم فيه محمداً الرسول العربي بتخريج إرهابيين ودفع الأطفال إلى الحروب، وأصبحت الكلمة والصورة ضدّ الهوية الإسلامية، وحتى المؤتمرات التي انعقدت في دول شمال أوروبا لم تخلُ من نَفَس كراهية المسلمين؛ ففي مؤتمر حظر الإبادة الذي انعقد في السويد زُجّ باسم المسلمين الساعين ـ حسب أحد المحاضرين ـ إلى إبادة البشريّة برمتها من خلال إقامة دولة إسلامية عالمية على أساس الخلافة الإسلامية؛ وحسب قول هذا المحاضر فإنّ المسلمين ومن خلال الإسلام الراديكالي يهدفون إلى إبادة كل الأجناس وكل الديانات، وفكرهم قائم على تدمير الآخرين وإزالتهم من الخارطة الكونية كما قال.
وقد انضمّ إلى هذا المحاضر اليهودي (هنري آشر) المقيم في السويد والمتخصص في طبّ الأطفال؛ حيث أشار إلى أنّ المسلمين في السويد يعادون السامية بشكل كامل، وكثيراً ـ كما قال آشر ـ ما نصادف كراهية مطلقة لليهود وسط الأحياء الآهلة بالمهاجرين المسلمين في مختلف المحافظات السويدية.
وعلى الرغم من غياب رسمي كامل للدولة العبرية التي مثّلها سفيرها في العاصمة السويدية ستوكهولم (زفي مازل) إلاّ أنّ صوتها كان مسموعاً بقوّة في مؤتمر الإبادة؛ حيث أرادت ومن خلال أدواتها أن تعيد الكرة إلى ملعب المسلمين وخصوصاً بعد الصفعة السياسية التي تلقاها السفير الإسرائيلي (زفي مازل) في ستوكهولم عقب تخريبه لعمل فني يمسّ الكيان الصهيوني في الصميم في المتحف الوطني السويدي.
والملاحظ أنّ الصوت العربي والإسلامي كانا غائبين بل خافتين وخصوصاً بعد أن عمدت بعض الجهات المنظمة للمؤتمر إلى تغييب محنة الشعب الفلسطيني والعراقي والشيشاني والأفغاني إرضاءً لواشنطن وتل أبيب وموسكو.
وتكررت الإساءات للإسلام بشكل لم يسبق له مثيل؛ حيث عرضت قناة تلفزيونية في شمال أوروبا برنامجاً عن الحيوانات، وكان المشرف على إطعام هذه الحيوانات ينادي أحد التماسيح باسم محمد، ويناديه: تعالَ يا محمد كُلْ بشراهة! ولا يُعرف لماذا اختار راعي حديقة الحيوانات اسم محمد لتمساحه دون سائر الأسماء.
وقد أظهر استطلاع ودراسة أجرتها دائرة الاندماج أنّ السويديين أكثر انفتاحاً ولكن ليس إزاء الإسلام والمسلمين. وحسب الدراسة فإنّ السويديين يميلون إلى مواقف إيجابية أكثر نحو التعددية وتمازج الثقافات داخل مجتمعهم، ولكنهم في الوقت ذاته يبدون ريبة من الإسلام والمسلمين، هذا ما أظهرته دراسة حديثة أجرتها مصلحة الهجرة.
وحسب الدراسة فإنّ ثلثي السويديين الذين شملتهم الدراسة يعتقدون أن القيم الإسلامية لا تنسجم مع قيم المجتمع السويدي.
وبينما قال 60% من السويديين الذين شملتهم الدراسة أن الشكوك لا تراودهم من معاشرة مسلمين، قالت نسبة مماثلة إنهم لا يفكرون في الانتقال إلى منطقة ذات أغلبية إسلامية، وأبدى 50% معارضتهم لارتداء غطاء الرأس من جانب النساء المسلمات في المدارس وأماكن العمل. وقد طالب حزب الشعب السويدي folkpartiet الممثل في البرلمان السويدي أساتذة المدارس السويدية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية السويدية للتجسس على الطلبة والتلاميذ المسلمين الذين لديهم ميول إسلامية ونزعة إلى التطرف، وقد طالب حزب الشعب السويدي الداعم منذ نشأته للكيان الصهيوني والذي استضاف في المدة الأخيرة النائبة الهولندية المرتدة، وهي من أصل صومالي (هرسي) والمشهورة بسبّ رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- في هولندا ـ طالب الأساتذة السويديين بأن يكونوا عيوناً وجواسيس على تلاميذهم وطلبتهم المسلمين الذين يميلون إلى التطرف.
واقترح حزب الشعب كما تقول ممثلته (لوتا إدهولم) أيضاً أن يكون هناك تنسيق كامل بين المخابرات السويدية وأساتذة المدارس لتعقّب المتطرفين المسلمين، ومن الضرورة ـ كما قالت ممثلة حزب الشعب ـ أن يلعب الأساتذة هذا الدور. وعللت (لوتا) هذا الاقتراح بقولها: إنّ المعلومات المتوفرة تشير إلى وجود العديد من المتطرفين المسلمين في المدارس السويدية ويجب أن يتم التصدّي لهم، أو بعبارة أخرى: استئصالهم بالتعاون مع المخابرات السويدية.
ويريد حزب الشعب السويدي أن تكون المدارس السويدية في كل المحافظات السويدية مؤسسات جاسوسية وعيناً على التلاميذ؛ وهو خلاف المهمّة الحضارية للمدرسة.
أما نقيبة المعلمين السويديين (ميتا فيكنر) فقد استغربت هذا الاقتراح الذي يتجاهل المهمة الحضارية للمدرسة والذي يُخرِج الأساتذة عن مهامهم التعليمية النبيلة إلى التجسس على التلاميذ. وعلى الرغم من أنّ السويد لم تُبْتَلَ بالتطرف أو العنف إلاّ أنّ بعض الأحزاب السويدية تحرص على اتهام المسلمين كافة وتصويرهم على أنهم خطر على الأمن السياسي والاجتماعي كما صرح بذلك قادة حزب الشعب المتطرّف.
وفور بروز هذه التصريحات والبداية الفعلية للتواصل بين المعنيين بالشأن التربوي والمخابرات السويدية، أجرت جريدة (داغينس نهيتر) الشهيرة ـ dagens nyheter ـ استطلاعاً شارك فيه قرّاء الجريدة حول تكليف الأساتذة بالتجسس على الطلبة المسلمين، فأجاب 64 بالمائة ضدّ هذه الخطوة الأمنية، بينما وافق 35 بالمائة على هذه الخطوة، ولم يُبْدِ 1% رأيهم في الموضوع.
وتعليقاً على هذا الموضوع قال أحد التربويين السويديين (إريك نلسون) إنّ هذا الموضوع غير مقبول بتاتاً، وقال: صحيح أننا في السابق تعاونَّا مع الشرطة في قضية الشباب النازيين، لكن ذلك كان ضمن مشروع مدروس للديموقراطية.
وفي أقل من سنتين عقب الحادي عشر من سبتمبر ظهرت عشرات العناوين التي تتحدث عن الإسلام وكانت في مجملها سلبية؛ فقد ظهر كتاب في السويد عن الإسلام وعن محمد -صلى الله عليه وسلم- تحديداً، ثمّ تلاه كتاب آخر في الدانماراك وهو الكتاب الذي أسس للمسابقة التي أقامتها جريدة (يولاند بوستن) لرسم النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ويقول أحد الرسامين الدانماركيين الذين شاركوا في رسم النبي محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ: إنّ فكرة رسم الرسول محمد تعود إلى الكاتب الدانمركي (كوري بلويتن) الذي كتب كتاباً عن رسول الله محمد، وقد احتاج إلى رسومات تقريبية لشخص النبي محمد، فاتصل بنقابة الصحفيين الدانماركيين معلناً عن حاجته إلى رسومات لكتابه الجديد عن النبي محمد، وإثر ذلك دخلت جريدة (يولاند بوستن) حلبة المسابقة، وكلفت أشهر الرسامين بتشخيص النبي محمد، وقد اختارت في نهاية المطاف اثني عشر رسماً، وكانت تلك الرسوم التي فجّرت الموقف في العالم الإسلامي.
وفي هذا السياق يقول أحد رسامي الرسوم الاثني عشر المتعلقة بالنبي محمد: إنّي تقزّزت في بداية الأمر من دعوة رئيس تحرير (يولاند بوستن) لرسم النبي العربي، واستشرت أصدقاء لي من الشرق الأوسط الذين نبهوني إلى خطورة الموقف، لكن في النهاية وافقت حتى لا أُتهم بالجبن والتردد من قِبَل زملائي. وفي الوقت الذي تبدي فيه بعض دول شمال العالم عناداً شديداً وترفض تقديم اعتذار رسمي للمسلمين بحجة أنّ حرية التعبير مقدسة في الغرب؛ فإنّها في واقع الأمر بدأت تشعر بحجم الأضرار التي ألحقتها المقاطعة باقتصادها، وقد اتصلت المخابرات الدانماركية ببعض القيِّمين على العمل الإسلامي في الدانمارك لحملهم على مساعدة الدانمارك في تجاوز هذه المرحلة الصعبة، كما أنّ الاقتصاديين الدانماركيين الذين لديهم مصالح واسعة في العالم الإسلامي عابوا كثيراً على حكومة (راسموسين) تأخرها في الاعتذار للمسلمين على غرار ما فعلته الحكومة النرويجية. أما الحكومة السويدية؛ فقد قررت أن لا تخلط أوراقها مع العالم الإسلامي، وتعهد رؤساء تحرير صحفها بعدم إعادة نشر الرسومات المسيئة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى لا تجرح مشاعر المسلمين.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(222/5)
حوار مع الشيخ: رائد حليحل رئيس اللجنة الأروبية لنصرة خير البرية
حاوره: خباب بن مروان الحمد
يعمُّ العالم الإسلامي حالة حقد وكراهية شبَّ أوارها، وازداد اشتعالها، إثر الحملة المسعورة الدانماركيَّة؛ التي انتهكت حقوق أعظم إنسان على وجه الأرض، محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد انتفض المسلمون وهبُّوا هبَّة جماعية، استنكاراً لما فعلته الصحيفة الدانماركيَّة (يلاندز بوسطن) بالسخرية برسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وزاد الطين بلَّة، حين لم تعتذر الحكومة الدانماركيَّة الصليبيَّة رسميّاً من فعلة تلك الصحيفة الشنعاء، قبالة السخرية برسولنا ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأحسب أنَّ هؤلاء القوم الكفرة لم يكن يدر في خلَدِهم، أن يشتعل المسلمون غيرة وحماساً، كما شاهدوا من قِبَلِهِم، حتى أسقط في أيديهم.
فقد علم العالم الإسلامي حقيقة حقد ما يسميه بعضهم بالآخر على الإسلام ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت تلك المحنة والأزمة منحة إلهيَّة جعلت جلَّ الناس وبالأخص المسلمين، يلتفتون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحثاً عن سيرته، وقراءة عن شخصه؛ فرب ضارَّة نافعة!
كما ظهر أنَّ في الأمَّة الإسلامية خيراً كثيراً، لم يزل أثره يتجدَّد حيناً بعد حين، ولعلَّ في هذه الإساءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنبيهاً لبعض السادرين في لهوهم، أو الجالسين فوق التل يرقبون ما يحدث للإسلام ورسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ من إهانة وسخرية من قِبَلِ أعداء الله، لعلَّها تثير بقايا صدق طاهر في الولاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالذب عنه ونصرته والغيرة عليه ...
وبما أنَّ هذه القضيَّة أضرمت نيرانها بدءاً من ذلك البلد الصليبي، بحجَّة حريَّة الرأي! فقد اتَّجهتُ إلى أحد العاملين في حقل الدعوة الإسلامية في الدانمارك، ونثرت أمامه شيئاً من التساؤلات التي يجيش بها قلب كلِّ مسلم يحبُّ الله ورسوله ليجيب عنها؛ ذلكم هو الشيخ الداعية: رائد حليحل ـ رئيس اللجنة الأوروبيَّة لمناصرة خير البريَّة -صلى الله عليه وسلم-؛ وقد أثرانا ـ جزاه الله خيراً ـ بإجابته عن الأسئلة التي طرحتها عليه، فبيَّن الحقَّ والحقيقة، وأوضح ملابسات الحدث، وما وراء السديم.
نسأل الله ـ عزَّ وجل ـ أن يجزل له الأجر والمثوبة، وأن يحفظنا وإيَّاه وجميع المسلمين من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإلى نصّ الحوار:
البيان: فضيلةَ الشيخ رائد! نرحب بك في مستهَلًّ هذا اللقاء، ونرجو من فضيلتكم أن تعطينا لمحة موجزة عن المسلمين في الدانمارك ـ أصولهم ـ عددهم ـ وظائفهم ـ سبب وجودهم ـ موقف الدانمارك من المسلمين وأوضاعهم فيها؟
3 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين. أما بعد:
فإني أتقدم لمجلتكم الموقرة بشكري على إتاحة هذه الفرصة من أجل إطلاع قرائكم الكرام على تفاصيل قضية مهمة وحساسة لطالما سعيت أن يشاركنا العالم الإسلامي كله في معالجتها؛ وذلك لأهميتها البالغة؛ إحقاقاً للحق ونصرة لسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-؛ فبارك الله فيكم وجزاكم خيراً على ما تبذلونه من تنوير ودعوة مباركة عبر منبر ـ البيان ـ.
وَفَدَ المسلمون إلى مملكة الدانمارك من فترات ليست بعيدة، وكانت وفادتهم لأسباب شتى وأغراض متباينة، ويتميَّز المجتمع الدانمركي بعمومه بعدم التواصل مع الآخرين والانكفاء على الذات، وهناك مشاعر مخزونة في تفكيرهم تجعلهم يتوجسون دائماً من الآخر وينظرون له وكأنه يريد أن يسلبهم ما في أيديهم؛ علماً أن تجربة التواصل مع شعوب من ديانات وأعراف مختلفة تعتبر بالنسبة للدانمركيين حديثة وليست كغيرها من بعض البلاد الأوروبية التي لها سابق احتكاك مع الشعوب، مما جعل إمكانية التعايش وقبول الآخر تتعثر في كل محطة من محطات حياتهم.
ومن أقدم الجاليات المسلمة وفوداً للدانمرك هم الأتراك الذين قدموا للعمل، ثم المغاربة والباكستانيون، وأغلب هؤلاء قدم طمعاً ورغبة في تحسين مستوى عيشه، ثم بدأت حملة لجوء واسعة ابتدأت من ثمانينيات القرن الميلادي الماضي إثر حروب ونكبات، والأبرز من هؤلاء هم من لبنان، وأغلبهم من اللاجئين الفلسطينيين. ثم أناس من العراق وكذلك البوسنة والصومال.
وهناك قاسم مشترك بين الوافدين وهو أنهم ليسوا من أصحاب الأموال ليشكلوا قوة اقتصاديةً ضاغطةً، ومن جهة أخرى فإن من أتى فارّاً من ويلات الحروب، لا بد أن تكون بصمات تلك الحروب ظاهرة عليه؛ فعندما يصل إلى بلد مرفَّه نوعاً ما، يخلد للعيش المطمئن، وهو الشيء الذي حال دون بزوغ نوعيات متميِّزة في مجالات العلوم اللهم إلا بعض الظواهر الشابة التي استفادت مما يتاح هنا من إمكانية البروز العلمي ونحوه، وهذا يبشر بخير في مستقبل الأيام - إن شاء الله - فلا بد من تقرير مسألة وهي: أن الذي حالَ دون ظهور شخصيات - كما في بعض البلاد - على المستوى السياسي والاقتصادي والعلمي، مرده إلى أن الجالية تعد ناشئة في هذه الديار، وإذا ما نظرنا إلى خلفية أبناء البلد الأصليين الثقافية والاجتماعية فإنها قد تجلِّي سبب هذا التأخر في بروز دور واضح؛ هذا إذا ما أضفنا عليه اختلاف أجناس وأعراق وخلفيات أبناء هذه الجالية مما حال دون غاية موحدة مشتركة يسعى الجميع لتحقيقها، ولكن لعل تتالي المحن ـ وهذه آخرها ـ تسهم في ضرورة توحد ظهرت بوادره باجتماع المسلمين صوماليين وعرباً وأتراكاً وباكستانيين، راجين أن يكون لهذا اللقاء استمرار نافع.
علماً أن عدم الاعتراف الرسمي بالإسلام، ومع تراكم الأحداث العالمية والحملة الشعواء على المسلمين في العالم، إلى جانب النظر إلى الخلفية (ثقافية أو اجتماعية) لدى المجتمع الدانمركي فإن هذا كله أسهم في حالة توجس من المسلمين، وقد انعكس ذلك على الواقع لا سيما عندما يصل للحكم بعض الأحزاب اليمينية كما هو الحال اليوم من وصول الحزب الليبرالي إلى الحكم.
البيان: تناقلت وكالات الأنباء خبر الاستهزاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إحدى الصحف الدانماركيَّة بالرسوم الهزليَّة؛ فكيف بدأت هذه القضيَّة؟ وماذا تنقم الصحف الدانماركيَّة من رسول الله؟ وهل الدافع ديني أم سياسي؟ وهل نظرة الغرب عموماً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتلك الطريقة؟
3 لقد أساءنا جداً ما تجرأت على نشره - عن سابق إصرار وترصد - تلك الجريدة الآثمة صاحبة التوجه المعادي للمسلمين؛ فقد نشرت ما لا يقبله عقل من جرأة على مقام النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك على خلفية امتناع الرسَّامين عن رسم صورة ساخرة بنبينا لتوضع على غلاف كتاب للأطفال نُشر في الأسواق (24/1/2006) مما عُدّ نسفاً لمبدأ حرية التعبير (!) فقد قامت هذه الجريدة الغيورة على الديمقراطية وحامية حمى الرأي والتعبير! بتحدي مشاعر المسلمين عبر نشر تلك الصور بقصد التهكم زاعمة أنَّه ينبغي أن يلاقَى ذلك من قِبَل المسلمين برحابة صدر.
وإن هذا الفعل الذي كان واضحاً في كونه استفزازاً ظاهراً حركه جانبان: الأول: نظرة راسخة في العقل الباطن من نظرة تكذيب وخوف وازدراء بالإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم-. ودافع آخر: لعله سياسي، والمقصود منه التنبيه على الخطر المتنامي في الغرب بسبب وجود الإسلام، وكأن المقصود بنشر تلك الصور هو محاولة جس لنبض الساحة، وكيف سيكون تفاعلها مع هذه القضية، ومحاولة إيجاد جو انهزامي لدى المسلمين يمكنه قبول أي شيء مهما كان، بحجة مراعاة حرية الرأي والتعبير. وهذا لا يتنافى مع وجود أصوات أنصفت عندما أقرت بعظمة الدين ولا سيما بإنصافها لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أن الجو العام والذي ساعده على الظهور هو التشويه الإعلامي واستغلال كل حدث لتوظيفه في هذا السياق من التوجس خيفةً من الإسلام إن لم نقل العداء له. والله المستعان.
البيان: ما سبب عدم اعتذار الصحف الدانماركيَّة للمسلمين من سخريتها برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل تراه كافياً لو حدث تجاه تصرُّفهم الأرعن؟
3 حتى نعرف هل يمكن لهؤلاء أن يعتذروا؛ فإنه لا بد من تسليط الضوء على أمر مهم ألا وهو أن مما يميز الشعب الدانمركي أنه معتز بنفسه كثيراً لا يقبل النقد لما يقوله، ويصعب عليه الاعتذار، وينظر لغيره لا سيما إذا كان مخالفاً له في ثقافته نظرة ازدراء، وكأنهم يقولون: مَنْ هؤلاء حتى يعلِّمونا ما يجب علينا؟ ولكأني بهم يريدون (أنا خير منه) . هذا من ناحية، ثم ناحية ثانية: إذا علمنا لماذا فعل هؤلاء هذه الفعلة (ما دوافعهم وما النتائج التي يصبون إليها) فإني أستبعد جداً أن يعتذروا؛ لأنهم جعلوا القضية قضية قيم ومبادئ وطنيَّة ناضلوا من أجلها، ومن ثَم ليسوا على استعداد لاعتذار يعدُّونه هزيمة وتراجعاً؛ فالمسألة عندهم معركة وجود والعياذ بالله؛ علماً أن مطلب الاعتذار يعد مناسباً لحجم وفداحة تلك الجريمة، ولكن لخطورة الفعل من جهة ولعلمنا بطبع هؤلاء وثقافتهم اكتفينا بهذا الطلب على أن يصحبه شيء من إصلاح تلك الصورة السيئة التي وصلت للقارئ الدانمركي بأن يسمحوا لنا بإخراج بعض الصور المشرقة التي تسلِّط الضوء على جوانب مشرقة من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن يكون منهم ضمانة بعدم تكرار مثل هذا الفعل، ولكن للأسف الاعتذار عن ذلك يعد عندهم بمثابة الردة عندنا. فالله المستعان.
البيان: ما دور الحكَّام ـ العلماء ـ رجال الأعمال ـ الشعوب ـ الهيئات، تجاه تلك الحملة الشرسة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل ترى أنَّ موقف المسلمين كان مناسباً؟
3 إن حق الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- كبير جداً، ولئن كان يجب على المسلم الذب عن أخيه المسلم ونصرته، ولا يجوز له أن يسلمه ولا أن يخذله؛ فما بالكم بحق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؟ وإننا نهيب بعالمنا الإسلامي كله أن يتحرك حركة تناسب الحدث من جهة شناعة الفعلة ومن جهة حرمة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وضرورة نصرته، ولقد طالبنا من أول أيام تلك المحنة أن يناضل كل بحسبه؛ فما يُطلب من الحكام يعجز عنه العامة، وما يطلب من العلماء ويتوقع منهم لا يجيده دهماء الناس، وما ننتظر من أهل الدثور لا يحسنه من قُدِرَ عليه رزقه؛ وهكذا أقول للجميع: كل منكم أدرى بنفسه وقدرته فلا يتوانَ أحد عن هذه النصرة الواجبة: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] والله ـ عز وجل ـ لا يكلف نفساً إلا وسعها، فاستعينوا بالله ولا تعجزوا، واعلموا أنكم إن ساهمتم فأنتم في معركة معلومة العواقب فاتقوا الله في رسوله علكم تنالون بذلك شفاعته يوم القيامة.
وإنني أقولها بصراحة على قدر ما كنت حزيناً أول أيام الأزمة؛ لأننا سعينا جاهدين أن نوصل القضية للعالم ليتحرك، وقد تناولت بعض القنوات الفضائية ذلك في مطلع شهر رمضان ومع ذلك لم نسمع ما يثلج صدورنا حتى إني كنت أقول لنفسي: أيعقل هذا من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تخذله، وقد لمتُ وعاتبتُ البعض، ولكنَّ ما رأيته في هذه الأيام أعاد لي الأمل في هذه الأمة وأنها ما زالت بخير والحمد لله، ولكني أهيب بالجميع أن لا يكون ذلك ردة فعل عاطفية مع أن العواطف مطلوبة، لكن نأمل أن نضع خطة متكاملة فيها الذب عن النبي قولاً وفعلاً فنواجه من يعتدي عليه، وعلينا أن نجتهد في تعريف العالم بشخصية النبي الكريم على شتى الصعد، ولعلنا بذلك إن اجتهدنا أن نكفِّر عن تقصيرنا، ونساهم في رفع العقاب عنا لو سكتنا عن منكر عظيم كهذا.
البيان: ما رأيك بالمقاطعة الإسلاميَّة لمنتجات الدانمارك: هل ستؤثر سلبياً على المنتجات الدانماركيَّة؟ لأنَّ بعضهم يقول إنَّ المقاطعة فكرة غير ذات جدوى اقتصادياً؛ لأنَّ هذه المنتجات الدانماركيَّة تندرج تحت قائمة الامتياز التجاري، فالمتضرر من المقاطعة هم الوكلاء التجاريون، الذين يحملون امتياز بيعها في البلاد، فما رأيكم بهذا القول؟
3 موضوع المقاطعة من باب: (آخرُ الدواء الكيّ) ، واسمحوا لي أن أقول إن المقاطعة ستؤثر دون شك اقتصادياً على الدانمرك، لكن خسارة الدانمرك القيمية والمعنوية أكبر بكثير من خسارتها المادية؛ لأن خسارة المال قد تعوض مثلاً من الاتحاد الأوروبي أو غير ذلك، لكن الذي خسرته الدانمرك اليوم هو سمعتها التي ينبغي أن تكون جميلة على مستوى العالم وهي التي لديها مقدرات تعينها على أن تتبوأ منزلة قويَّة في عالمنا اليوم.
ونحن حذرنا الدانمرك أن عواقب العناد على هذه الإساءة قد تكون أكبر من كل التوقعات، وما حصل اليوم خير دليل على صدق نصحنا للمجتمع الدانماركي وحتى لا يتضرر بسبب فعلة الجريدة تغاضي الحكومة.
لذا فإن ضرر هذه الحملة لن يقتصر على وكلاء الشركات، بل على الشركات نفسها؛ ولو لم يكن لها فعل في ذلك، لكنا نعلم أنه ما من أسلوب يراد منه الضغط لانتزاع حق إلا وسيكون معه مثل ذلك ولكنه مفيد عندما يتأثر المتضرر مادياً فيضغط مع المسلمين المتضررين معنوياً لانتزاع الحق بالقهر بعد أن سلب ولم يرجع بالنقاش والحوار.
البيان: ما العوامل الدافعة للنيْل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل ذلك يمثِّل مخطَّطاً صليبياً للكيد للإسلام؟
3 أرى ـ والله أعلم ـ أنه في المخزون الفكري لدى غالبية الأوروبيين نوع من توارث عداء تقليدي للإسلام وللنبي -صلى الله عليه وسلم- ولو اتصفوا بالعلمانية؛ لذا لا أستطيع أن أنفي وجود دوافع دينية غير ظاهرة، إلا أن الدافع السياسي أظهر؛ وذلك من تصريحات عدة تدل على أن الغاية منها هو تحدي المسلمين لاستفزازهم تمشياً مع نغمة الجرأة على الإسلام على وقع أنغام (الحرب على الإرهاب) ، واختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالذات للطعن به، وذاك مقدمة للطعن بدينه كله، ولعلمهم بمكانته وقدسيته؛ فهو أفضل اختيار لاستفزاز المسلمين عبره.
البيان: هل ترى أنَّ هذه السخرية لجسِّ نبض المسلمين، تجاه دفاعهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
3 إن التأمل في الواقع ليس داخل الدانمرك فحسب بل على صعيد أوروبا قاطبة، إن لم نقل العالم؛ يدفع إلى الخشية من أن تكون هذه الفعلة عبارة عن (بالون اختبار) لجس نبض الساحة داخلياً وخارجياً، ومن ثَم سيكون مستوى الرد مؤشراً على حجم وقوة وتفاعل المسلمين ومدى بقاء الإسلام حياً في نفوسهم. ثم يتبع ذلك تعميم لهذه التجربة ونتائجها. وهذا ما نخشاه أن يُجعَلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- محل تجربة (والعياذ بالله) ويعقب ذلك خطوت متبنَّاة في الغرب حسب إيحاءات مستوى ردة الفعل الإسلامي.
البيان: ألا يتعارض ذلك مع حرية التعبير؟ وهل تجرؤ الصحف الدانماركيَّة بفتح المجال لنقد الصهاينة وبخاصَّة مسألة (الهولوكوست) التي استُغلَّت أيما استغلال مما يفضح ديموقراطيَّتهم المزعومة؟
3 المشكلة أن التخفي وراء شعار حرية التعبير، يعتبر حيدة عن الحقيقة، وذلك أننا نجد المعايير مزدوجة، وإننا لنعجب لما تكون الحرية في أوسع مجالاتها عندما يتعلق الأمر بالإساءة للإسلام، أما في غيره فإنَّا نجد لها حدوداُ، فإن الكلام عن السامية عموماً فضلاً عن التشكيك في المحرقة أصلاً أو وصفها حجماً وكمّاً، ومجرد الحديث عن ذلك لا يُسمح به تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير؛ فهذه الأمور ريب وشكوك؛ علماً أن الحرية بمعناها المعروف أنها التي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين.
وقد يكون حسناً هنا التنبيه في وقت يراد أن يصوَّر فيه المسلمون على أنهم الأعداء العظام للحرية، فنقول إن الحرية أمر قد نادى به ديننا حتى في أدق الأمور، بل أجلِّها وهو التوحيد: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فالخلاصة أن الحرية تكفل لك أن تدين بما تشاء لا أن تتهكم بمن تشاء.
ومن العجب أن يطالب المسلمون دائماً باحترام الآخرين وقيمهم ومقدساتهم مهما كانت باطلة ونجد في الوقت نفسه محل هجمة شرسة علينا، فنطالب إذاً بعمل متناقض أن لا ننتقدهم، وأن نقبل في اللحظة ذاتها إساءتهم فتأمل!
البيان: ما دور عقلاء النصارى أمام هذه الهجمة؟ ولماذا هذا السكوت الكنسي عن سب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
3 إن ديننا علمنا الإنصاف {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وقد سمعنا بعض الأصوات المستنكرة هنا لهذا الفعل، لكنها كانت خافتة، وهذا طبيعي فلن تكون بحجم ردة فعل المسلم، وما كان منها وإن كان قليلاً هادئاً ليس فيه الحماسة الكافية إلا أنه لم يبرز بالشكل الكافي حتى لا يعكر على الجو العام السائد الذي يريد تفعيل هذه الأزمة - للأسف -.
البيان: ألا ترى أنَّ ذلك يسبِّب مشكلة وخطورة على الدانمارك، بمعنى أنه سيفتح عليها جبهات قد تؤذيها ممَّا يؤجِّج ويزيد حال العداوة من المسلمين تجاه الغرب؟
3 لقد حذرنا مراراً الدانمارك من مغبة تلك الفعلة النكراء، ولكن للأسف بدل أن يحمل كلامنا محمل المشفق الناصح الأمين، حُوِّر الكلام حتى صُوِّر وكأنه تهديد، وقلنا مراراً إن هذا سيزيد الإحساس بالغبن مما يضاعف من مشاعر الكراهية من المسلمين للغرب والعكس أيضاً، ولكن العناد لم يكن يوماً طريقاً صحيحاً للحوار والتفاهم، ويكرس الهوة الكبيرة بين الثقافتين إن لم يكن مقدمة عملية لتأجيج حرب حضارات.
البيان: ما رأيك ببعض المواقع على الإنترنت وتدَّعي الانتساب للإسلام، تضع استفتاء عن سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهل هو مقبول بدعوى حرية الرأي أم لا؟
3 إن قضية تعظيم الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- عموماً لا سيما مقابل أي إساءة أو إرادة انتقاص فإنه ينبغي أن لا تحمل في ثناياها أي ضعف، بل ينبغي أن تكون كل المؤشرات في سياق واحد وهو التعظيم، وإني أرى أنه من الخطأ أصلاً التقليل من شأنها لتُجعل محل نقاش، بل ينبغي أن يكون مستقراً أنها لا دخل لها إطلاقاً بمبدأ حرية الرأي، بل كان ينبغي أن يكون التساؤل حاملاً في طياته النكير الكبير وليس هذا الأسلوب الذي يوهم أنه من الممكن أن تكون هذه القضية قابلة للنقاش.
البيان: كلمتكم تجاه رجال الأعمال الكبار الذين قاطعوا المنتجات الدانماركيَّة؟
3 من الأمور القطعية التي لا مرية فيها أن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم من حب الولد والوالد والمال بل والنفس؛ وعليه فإنَّنا نفديه بآبائنا وأمهاتنا وكل شيء يرخص فدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كل من ضحى بشيء إكراماً لرسول الله فإني أقول له: عوَّضك الله خيراً، بل قد عوَّضك؛ لأن مجرد حبك للنبي هو أخير وأفضل من الدنيا وما فيها. وأقول للجميع إن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً في الدنيا والآخرة، وإنه لجميل جداً أن نرى أن الكل يعبر عن حبه لرسول الله؛ كل بحسبه، وكل بطريقته، وإنه ما دامت النوايا خالصة فإنه لا يضيع شيء عند الله، ويكفي من يفدي رسول الله أن يطمح إلى نيل شفاعته يوم القيامة وصحبته في جنات النعيم - اللهم آمين.
البيان: سمعنا أنَّ الدانماركيين بيَّتوا نيَّة إحراق المصاحف في أكبر ساحة في كوبنهاجن نرجو منك التوضيح لملابسات هذا الحدث؟
3 الحمد والمنة لله وحده أنه لم يحصل شيء من ذلك أبداً، والقضية قد بدأت بالظهور بعد إحراق العلم الدانمركي - أول مرة في فلسطين - والعَلَم عندهم له قدسية مما مكَّننا أن نحتجَّ عليهم ألا ينكروا علينا انزعاجنا من إهانة مقدساتنا كما حصل لهم عند إحراق علمهم.
المهم أنه بُعَيْد ذلك انتشرت رسالة قصيرة عبر الجوال وكان انتشارها سريعاً جداً - كعادة الفتن - ولم يعرف مصدرها الأصلي وطبعاً لم تتجرأ أي جهة على تبنيها وكان فيها دعوة الشباب الدانمركي للتجمع في الساحة العامة يوم السبت في 4/2/2006 وذلك لإحراق المصحف الشريف ـ عياذاً بالله ـ ولكن وبعد إبلاغنا الجهات الأمنية وتحذيرنا لهم من كون هذا العمل سيحدث ردة فعل أعظم مما أحدثته الرسومات، فإنهم وعدوا بملاحقة الأمر ومنع حدوثه، ونحن بدورنا نصحنا بعدم تناقل تلك الرسالة حتى لا تشيع بل تخبت، ونعمل على وأدها، وفي هذا اليوم الموعود احتشد عدد كبير من المسلمين لا سيما الشباب مع وجود مكثف للشرطة، بل مع وجود بعض الدانمركيين المتعاطفين أو الخائفين من عواقب هذا الفعل، وقد حصلت هناك مواجهات ولغط أعقبه توقيف البعض، وتحولت الحشود من ساحة لأخرى ولكن باءت كل المحاولات بإحراق المصحف بالفشل الذريع؛ فالحمد لله على ذلك؛ علماً أن شعار المسلمين يومها كان (لا يمكن أن يحرق المصحف وفينا عرق ينبض) وطبعاً كلنا يعلم أن الحكومة ليس من مصلحتها الإذن بمثل هذا الأمر حتى لا تدخل نفسها في أزمة أكبر.
البيان: هل صحيح أن الجريدة التي رسمت صور مسيئة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رفضت قبل سنتين أن ترسم صوراً للمسيح عيسى بن مريم، وإذا كان ذلك صحيحاً أفلا ترى أنَّ في ذلك تناقضاً صارخاً في دعاوى الحريَّة؟
3 نعم! لقد صرح غير واحد من المطلعين بل المتخصصين أن الجريدة في عام 2003 عُرضت عليها رسومات للمسيح ـ عليه السلام ـ تحكي قيامته - عندهم - إلا أنهم بادروا برفضها، وعللوا ذلك أنهم سيغضبون القراء، ولن يروق لهم مشاهدة تلك الرسومات وقد تثير احتجاجات هم بغنى عنها، وقد أوردت هذا الخبر جريدة محلية دانمركية إلى جانب المواقع العالمية.
وقد شاع خبر أن الصحيفة ستنشر هذه الصور ورسومات عن اليهود يوم الأحد القادم، ولعل ذلك مرده إلى مقابلة أجرتها (CNN) مع المحرر الثقافي الذي نشر الرسومات المسيئة لنبينا -صلى الله عليه وسلم-. وقد رفع أثناء المقابلة رسم قنبلة عليها نجمة الصهاينة؛ إلا أنه بُعَيْد المقابلة وعلى موقع جريدتهم ظهر اعتذار واضح وصريح على لسان هذا الشخص امتثالاً لأمر رئيس التحرير يقول: لا يمكن أن ننشر شيئاً عن المسيح أو الهولوكوست. والأعجب من ذلك كله ـ وهو آخر خبر ـ أن المخطئ - رغم اعتذاره - قد أُعطِيَ في إجازة مفتوحة. فتأمل مدى حرية الرأي والتعبير، وكيف أنها تطبق في مجال وتمنع في آخر، ألا ينبغي بعد ذلك كله أخذ إجراءات صارمة لمنع مثل هذه الترهات تحت هذه الشعارات الزائفة؟
البيان: هل الشعب الدانماركي يجهل حقيقة المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبماذا توصي المسلمين لتبيين حقيقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للشعب الدانماركي؟
3 إنما جرى ويجري وما واكب ذلك من مواقف يدل بوضوح على جهل القوم بشخصية نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد، بل الخلفية الفكرية والثقافية التي أقصت الدين عن كل مناحي الحياة وأضعفت في النفوس معاني الاحترام والقداسة، كل ذلك لعب دوراً كبيراً في الجرأة على نشر تلك الرسومات يدل عليه موافقة أكثرية (حسب إحصائهم) وعدم مبالاة الباقين؛ لأن القضية لا تعنيهم، وكأن شيئاً لم يكن؛ لذا فإنه ولا سيما بعد تكرار نشر تلك الرسومات في أغلب البلاد الأوروبية فإنه لا بد من السعي على جهتين:
الأولى: جهة دعوية تُعنَى بتوصيل رسالة الإسلام وسماحته لهؤلاء عبر كل الوسائل المتاحة، بل ابتكار كل ما من شأنه أن يوصل هذا الصوت المبارك. وهنا أنصح بالتنسيق الكامل بين العلماء الربانيين وبين المثقفين المأمونين الذين يعون الغرب تماماً وكيف يمكن مخاطبته.
الثانية: الجهة القانونية؛ وذلك بالعمل لاستصدار قانون دانمراكي، بل أوروبي إن لم أقل عالمياً، يحرم نشر مثل تلك الأمور بل يعاقب ويجرم مرتكبيها؛ لأنه إن غابت القداسة لم يعد ثَّمَ وازع يردع، ولم يبق إلا الجانب القانوني؛ لأنه يُحترَم في الغرب ويردع كثيراً لخوفهم من عواقب المخالفة؛ فإن تحقق فهو خير عظيم؛ لأنه يجلب مصلحة ويدفع مفسدة.
البيان: السؤال الأخير: سمعنا أنَّ رئيس تحرير إحدى الجرائد المتورِّطة قدَّم اعتذاراً شفهيّاً للجالية المسلمة بالدانمارك، وأنَّ الدانمارك نفسها قدَّمت اعتذاراً للمسلمين، برأيكم هل هذا صحيح، وهل آتى هذا الاعتذار أُكُله، وخصوصاً أنَّ الاستهزاء عاد مرَّة أخرى في يوم 22 و23 من الشهر الجاري؟
3 أخي الكريم أحب أن أشهد شهادة للتاريخ أُسأل عنها أمام الله أنه حتى هذه اللحظة 11/1/1427هـ لم يصدر أي اعتذار من جانب الدانماركيين على الصعيدين الرسمي أو الإعلامي من قِبَل الجريدة، عما نشر من إساءة لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أما من جهة الجريدة فإنها إبَّان ظهور الضجة العارمة، ولا سيما المقاطعة التي نودي بها في بلاد الحرمين، فإنَّ الجريدة وجَّهت خطاباً - باللغة العربية - على صفحتها في الإنترنت عنونته بـ (إلى مواطني المملكة العربية السعودية المحترمين) وقد تضمن هذا المقال أغاليط كثيرة، كنت قد رددت عليها بمقال هو على صفحتنا www.islamudeni.net عنونته (ردود موثقة على مزاعم ملفقة) وغاية ما في خطابهم الأسف لمشاعر الحزن التي لحقت بالمسلمين جراء نشر تلك الرسومات، وليس فيه أي اعتذار عنها أو عن نشرها. وكان ذلك محاولة ماكرة من الجريدة بعد ضغوط كثيرة عليها من داخل الدانمارك (سياسياً واقتصادياً) بتحميلها مسؤولية ما يجري على الدانمارك، فأرادت بذلك تخفيف الحملة ظناً منها أنها بذلك ستنهي المشكلة. ولا ينقضي عجبنا هنا من هذا الإصرار على معاملة المسلمين وكأنهم غير عقلاء لا يفهمون ما بين السطور.
ولما لم تجد أن رسالتها هذه قد أفادت، ومع تزايد الضغوطات المترامية الأطراف عمدت الجريدة إلى حيلة عجيبة سبقت خروج رئيس تحريرها على التلفاز الدانماركي بلحظات وهو يتبجح قائلاً: إنَّ الرسومات لا تخالف القانون وأنه لن يعتذر عن نشرها، ولكن بعد لحظات تفاجأ المراقبون بمقالهم باللغتين العربية والدانماركية وعلى موقعهم بعنوان صريح وواضح (صحيفة اليولاند بوستن تعتذر عن الإساءة للمسلمين) وقدم لمقال أرسله رئيس التحرير لوكالة الأنباء الأردنية بجملة ليست فيه أصلاً (تعتذر صحيفة اليولاند بوستن، وبما لا يدع مجالاً للشك على أنها أهانت العديد من المسلمين من خلال رسومات للنبي محمد) .
ولكن الريبة من هذا الكلام كان سيد الموقف؛ لأنه في ثنايا المقال ليس هناك اعتذار واضح، بل تلاعب مُرِّر معه التدليل على قانونية نشر تلك الرسومات، ولكن انجلت الأمور بعد أربعين دقيقة تماماً عندما سحبوا هذا المقال ووضعوا الكلام الأصلي بعنوان مغاير تماماً (حضرات المواطنين العرب) وليس فيه تلك الجمل المصرحة بالاعتذار، وقد حصل ذلك كله يوم الإثنين ليلاً في 30/1/2006 وكأنها مخادعة إعلامية من أجل تمرير الخبر ليهدأ العالم الإسلامي وللأسف تلقفت بعض القنوات هذا الاعتذار المزعوم، وقامت بدور مشبوه في إقناع المشاهد أن الاعتذار قد حصل، وأن الله قد كفى المؤمنين القتال.
ولما لم يُجْدِ ذلك نفعاً غيَّروا عنوان المقال فقط (حضرات المواطنين المسلمين) وهكذا أصبح مقال رئيس التحرير وكأنه نص من كتابهم المقدس له عدة شروحات وتفسيرات! كيف وقد طالعنا رئيس التحرير مراراً عبر التلفاز وعلى صفحات جريدته بما يتعارض مع مزاعم الاعتذار كان من آخرها مقال يوم 9/11/1427هـ حاول فيه إقناع الرأي العام عن مدى إيجابيته ومدى استعداده لحوار المسلمين كي تنتهي الأزمة وقد ضمن رسالته هذه ثلاثة شروط:
الأول: قد يعتذر ولكن عن الإساءة الناتجة عن نشر الرسومات، وليس عن الرسومات نفسها ولا عن نشرها.
الثاني: مطالبته المسلمين بتوقيع على إقرار (الديمقراطية الدانمركية) والتي أخبرنا مراراً أنها تبيح له فعلته هذه، وأن عمله على ضوئها قانوني تماماً وكأنه يريد منا ما قاله الله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} . [النساء: 27]
الثالث وهو الأدهى - وقد سحب بعد سويعة من هذا المقال -: أنه لا يستطيع أن يعد المسلمين بعدم تكرار إهانتهم مرة أخرى!!
فتأمل بارك الله فيك! أيعقل بعد ذلك كله أن يقال إنهم قد اعتذروا؟!
أما من الجهة الرسمية فهناك إصرار على أنهم لا يمكنهم الاعتذار عن عمل الصحيفة ولا حتى التنديد بعملها. والذي التبس على الناس ما قاله رئيس الوزراء أنه يرحب باعتذار الجريدة (الذي بينَّا حاله سابقاً) بينما في صبيحة تلك الليلة المخادعة عنونت الصحف نقلاً عن رئيس الوزراء: (لن نعتذر) فهل يعقل قبول اعتذار خجول وغير واضح ولا ثابت ولو لساعات، بل حتى لم ينشر على صحيفتهم اليومية، بل نشروه على موقعهم لغاية غير مخفية؟(222/6)
وقفات شرعية مع جريمة الإساءة إلى مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-
الشيخ محمد بن صالح المنجد
ساء كلّ مسلم غيور على دينه ما قام به السفهاء المجرمون من الاستهزاء بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل من وطئت قدماه الثرى، وهو سيد الأولين والآخرين صلوات ربي وسلامه عليه.
وهذه الوقاحة ليست غريبة عنهم؛ فهم أحق بها وأهلها؛ فقد كفروا بالله ـ تعالى ـ وسبوه ونسبوا إليه الصاحبة والولد.
فماذا ينقم هؤلاء من سيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!
هل ينقمون منه أنه دعا إلى توحيد الله ـ تعالى ـ وهم لا يؤمنون لله بالوحدانية؟
أم ينقمون منه أنه عَظَّمَ ربه تبارك ـ وتعالى ـ ونزَّهه عما يقوله هؤلاء المفترون، وهم ينسبون إليه النقص والصاحبة والولد؟
أم ينقمون منه أنه دعا إلى معالي الأخلاق، وتَرْك سفسافها، ودعا إلى الفضيلة، وسد كل باب يؤدي إلى الرذيلة، وهم يريدونها فوضى أخلاقية وجنسية عارمة؟
يريدون أن يغرقوا في مستنقع الشهوات والرذيلة، وقد كان لهم ما أرادوا!
أم ينقمون منه أنه رسول الله؛ والله ـ تعالى ـ هو الذي اصطفاه على الناس برسالته ووحيه؟
ودلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أن تحصر: شق الله له القمر ليُري الكفار آية، ونبع الماء من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم- مرات، وتكلمت الشاة المسمومة فأخبرته أن بذراعها سُمّاً، وأعطاه خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبله، منها نصره بالرعب مسيرة شهر، وبعثه للناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] .
أم لم يسمعوا عن آيته الكبرى، هذا القرآن الكريم، كلام رب العالمين، الذي حفظه الله ـ تعالى ـ فلم تمتد إليه يد العابثين المحرفين، أما كتبهم المنزلة على أنبيائهم فتلاعبوا بها أيما تلاعب: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] .
بل من أعظم الأدلة على صدق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، بقاء دينه هذه القرون الطويلة ظاهراً منصوراً، وقد كان أمره -صلى الله عليه وسلم- في حياته دائماً إلى ظهور وعلو على أعدائه، وحكمة الله ـ تعالى ـ تأبى أن يُمَكِّن كاذباً عليه وعلى دينه من العلو في الأرض هذه المدة الطويلة، بل في كتبهم التي كتمها علماؤهم وحرفوها أن الكذاب (مدعي النبوة) لا يمكن أن يبقى إلا مدة يسيرة ثم ينكشف أمره ويضمحل.
كما ذُكِر عن أحد ملوكهم أنه أُتِي برجل من أهل دينه (نصراني) كان يسب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويرميه بالكذب، فجمع الملك علماء ملته، وسألهم: كم يبقى الكذاب؟ فقالوا: كذا وكذا. ثلاثين سنة، أو نحوها، فقال الملك: وهذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة، أو ستمائة سنة (يعني: في أيام هذا الملك) ، وهو ظاهر مقبول متبوع؛ فكيف يكون هذا كذاباً؟ ثم ضرب عنق ذلك الرجل (1) !!
ألم يعلموا أن كثيراًً من عقلائهم وملوكهم وعلمائهم لما وصلت إليهم دعوة الإسلام بيضاء نقية لم يملكوا إلا الإقرار بصحة هذا الدين، وعَظَّموا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من أعلن الدخول في الإسلام.
فقد أقر ملك الحبشة النجاشي بذلك، ودخل في الإسلام.
ولما أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإسلام أقرّ هرقل بصحة نبوته، وهمّ أن يُعلن إسلامه وتمنى أن يذهب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكون خادماً عنده، إلا أنه خاف على نفسه من أهل ملته ثم ضنَّ بملكه وأخذته شهوة الرئاسة، فبقي على الكفر ومات عليه.
ولم يزل الكثير من مفكريهم وكتّابهم ومؤرخيهم المنصفين يعلنون الثناء على محمد -صلى الله عليه وسلم-.
1 ـ برنارد شو الإنكليزي، له مؤلف أسماه (محمد) يقول:
«إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، وإنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوّاً للنصرانية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للنصرانية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوُفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمِّن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها» .
2 ـ ويقول آن بيزيت:
«من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم ويعرف كيف عاش هذا النبي وكيف علَّم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء» .
3 ـ شبرك النمساوي:
«إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها؛ إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته» .
4 ـ ويقول (جوته) المفكر الألماني: «إننا أهل أوروبا بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مَثَلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد، وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد» (2) .
وقد ميز الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبينا محمداًً -صلى الله عليه وسلم- وكرَّمه بعدد من المعجزات الباهرات كما خصه بأشياء دون غيره من الأنبياء، ومعرفة هذه الخصائص تزيدنا في معرفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتجعلنا نحبه ويزداد إيماننا به فنزداد له تبجيلاً ونزداد له شوقاً.
والخصائص النبوية: (هي الفضائل والأمور التي انفرد بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وامتاز بها إما عن إخوانه الأنبياء وإمّا عن سائر البشر) .
فاقَ البُدورَ وَفاقَ الأَنبِياءَ فَكَم
بِالخُلقِ وَالخَلقِ مِن حُسنٍ وَمِن عِظَمِ
وخصائصه ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي اختُص بها دون بقية الأنبياء ـ عليهم السلام ـ كثيرة، دنيوية وأخروية.
3 فمن الخصائص الدنيوية:
اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بأن آيته العظمى في كتابه وبأن كتابه مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وفُضِّل بالمفصَّل وبخواتيم سورة البقرة وببقاء معجزته إلى يوم الدين.
جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَانصَرَمَت وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ
ومنها: اختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- بكونه خاتم النبيين وبإرساله إلى الثقلين ومنها: اختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن السماء حُرست بمبعثه، وباختصاصه بالإسراء والمعراج، وأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أَمَّهم جميعاً فكانوا وراءه، هو الإمام وهم المأمومون، واختصاصه بأخذ الميثاق له من جميع الأنبياء بالإيمان به ونصرته وأنه سيد ولد آدم، وبأنه أوتي مفاتيح خزائن الأرض.
3 وأما خصائصه الأخروية فمنها:
اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بأنه أول من تُشَق عنه الأرض يوم القيامة وبإعطائه لواء الحمد، وبأن الله ـ تعالى ـ يبعثه يوم القيامة مقاماً محموداً وأنه أول من يدخل الجنة يوم القيامة، وبأنه أول شفيع في الجنة وأول من يقرع بابها، وبأنه أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة ويدخل من أمته الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، وبأنه أول من يجوز الصراط من الرسل بأمته وبإعطائه الكوثر: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] .
ربَّاكَ ربُّكَ.. جلَّ من ربَّاكا ورعاكَ في كنفِ الهدى وحماكاَ
سبحانه أعطاك فيضَ فضائلٍ لم يُعْطها في العالمين سواكاَ
ولما كان ذلك كذلك فإن من واجب العالم كله ـ ولا محيص له عن ذلك ـ أن يجعل عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الخلق جميعًا فوق كل عظمة، وفضله فوق كل فضل، وتقديره أكبر من كل تقدير، ويجب على العالم أجمع أن يؤمن برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه خاتم أنبياء الله الكرام.
ونحن نغتنم هذه الفرصة وندعو هؤلاء إلى الإسلام، فإن ما اقترفته أيديهم الآثمة لا يمحوه إلا الإسلام، فإن عاندوا وكابروا وأصروا على ما هم عليه فليبشروا بعذاب النار خالدين فيها أبداً. قال الله ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم (153) .
3 ولنا مع هذا الحدث وقفات:
| أولاً: مصالح وبشارات:
قال الله ـ تعالى ـ: {عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] . وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» رواه مسلم (2999) .
وقديماً قيل:
قد يُنْعِمُ اللهُ بالبلوى وإنْ عَظُمَتْ ويبتلي اللهُ بعضَ الخلقِ بالنعمِ
وقيل: وربما صحت الأبدان بالعلل.
فما وقع من الاستهزاء أثار حميّةَ المسلمين للهِ ـ تعالى ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأيقظهم من سباتهم، وبصّرهم بأعدائهم؛ فهي طعنة آلمتنا ولكنها أيقظتنا، وقد قال الله ـ تعالى ـ في حادثة الإفك التي هي صورة من صور أذيَّته -صلى الله عليه وسلم-: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: 11] .
فمثل هذه الهجمات صارت سبباً في حصول خير كثير للمسلمين، وحصول الخزي والصغار لأعدائهم، فمن ذلك:
| اختلاف الأعداء وانقسامهم:
إذ حصل خلاف بين الشركات الكبرى التي تأثرت من المقاطعة من جهة والجهات التي نشرت ما نشرت من جهة أخرى، كما انقسم الشعب الدانماركي على نفسه إزاء ما حصل: هل هو فعلاً من حرية الرأي؟ أم أنه اعتداء وعدوان؟
| علو الصوت الإسلامي:
فهذه الأزمة أعادت الاعتبار للمسلمين وجعلت لهم وزناً، وأصبح كل حاقد على الإسلام يعيد حساباته قبل أن ينال من الإسلام وأهله.
وتملَّق الكثير من المنافقين للمد الإسلامي، واشترك بعضهم في المقاطعة قائلاً: لقد تعدَّت القضية الخط الأحمر، بل حتى إن بعض القنوات الهابطة أصبحت تعلن أخبار الغضب الإسلامي وتظهر تأييده، وفرضت مجريات الأحداث على وسائل الإعلام العالمية أن تقوم بتغطيتها تغطية كاملة، وتكلَّم الساسة الكبار وزعماء الدول وأدلوا بتصريحات حول الموضوع.
| في الأمة خير كثير:
أثبتتْ هذه الحادثة الدنيئة، أنَّ أمّتنا أمّة عظيمة، وأنها إذا مرضت فإنها لا تموت، وفيها رجال يذودون بكل ما أوتوا دونَ نبيّهم الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأن فيها خيراً كثيراً، ولكنها تعيش فترة من التخدير والخمول، وأنها إذا استيقظت فستتحرك كالبركان، وهذا ما رأيناه من التسابق في المساهمة والبذل، وما نسمعه من استنفار الأمة كلها، والتحرك في جميع المجالات؛ حيث شارك في هذه الحملة المحامون والتجار والصناع والأكاديميون والطلاب والصغار والكبار والرجال والنساء.
ـ توحيد صفوف المسلمين، فرأينا ـ ولله الحمد ـ تكاتف المسلمين وتبنّيهم لنفس المواقف، وإن اختلفت البلدان، واللغات. ويمكننا القول: إن الأمة الإسلامية في العصر الحديث قلَّما قابلت حدثاً كان له مثل هذا التأثير.
عرضي فدا عرض الحبيب محمد وفداه مهجةُ خافقي وجَنانيِ
وفداه كلُّ صغيرنا وكبيرنا وفداه ما نظرت له العينانِ
ـ إحياء جذوة الإيمان في قلوب المسلمين، فقد رأينا من ردة فعل المسلمين ما يدل على محبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى من عنده شيء من التفريط في بعض واجبات الدين، ثار دفاعاً عن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-. ولا عجب في ذلك؛ فإن للرسول -صلى الله عليه وسلم- في قلوب المسلمين المكانة العظمى والمحبة الكبرى.
ـ ظهر في الأزمة أن أهل التوحيد الخالص هم أهل النصرة والمحبة الحقيقية، بخلاف بعض أهل البدع والخرافات الذين ضعفت أصواتهم ـ إلا ما قلَّ ـ في الذود عن عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- في أوَّل الأمر، فدعوى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته وحدها لا تكفي، بل لا بد من النصرة بالقول والعمل والمبادرة إلى ذلك.
ـ تبين من الأزمة حرص عدد من الغيورين على الدعوة إلى الإسلام، وبيان الصورة المشرقة الحقيقية لهذا الدين، من خلال ما رأينا من تسابق الكثيرين إلى طباعة الكتب بلغة أولئك وبذل المال في سبيل هذا، وهذا مظهر يُحمَد ويحتاج إلى ترشيد ووعي.
ـ مسايرة الإعلام وبعض كبار المسؤولين لمواقف الشعوب الإسلامية وحركتها المباركة.
ـ إرسال رسالة واضحة للغرب، أننا ـ نحن المسلمين ـ لا نرضى أبداً أن يُمَسَّ دينُنا أو يُنَال منه، أو يعتدى على رسولنا؛ فكلّنا فداء له؛ بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.
فإنَّ أبي ووالدَه وعِرْضي لعِرضِ محمدٍ منكم فداءُ
| {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} :
قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ: (وقد فعل ـ تعالى ـ فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة) ، فهذه الجريمة النكراء ـ مع أنها تمزق قلوبنا، وتملؤها غيظاً وغضباً، ونود أن نفدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنفسنا ـ إلا أنها مع ذلك مما نستبشر به بهلاك هؤلاء، وقرب زوال دولتهم؛ إذ الله ـ تعالى ـ يكفي نبيه -صلى الله عليه وسلم- المستهزئين المجرمين.
وقد كان المسلمون إذا حاصروا أهل حصن واستعصى عليهم، ثم سمعوهم يقعون في النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسبونه، يستبشرون بقرب الفتح، ثم ما هو إلا وقت يسير، ويأتي الله ـ تعالى ـ بالفتح من عنده؛ انتقاماً لرسوله -صلى الله عليه وسلم-.
«الصارم المسلول» (ص 116-117) .
وشواهد التاريخ كثيرة على هلاك وفضيحة المستهزئين بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
| ظهور اتحاد الغرب على الإسلام:
فما أن استنجدت تلك الدولة باتحادهم حتى وقفوا جميعاً بجانبها، وتواصى بعض المجرمين على نشر هذه الصور في صحافتهم تعاوناً على الإثم والعدوان وتفتيتاً للمقاطعة وتأكيداً لحرية النشر بزعمهم، وكان بعض ساستهم يأسف لإهانة مشاعر المسلمين ثم يتصل بكبير الدانمارك ليؤيده ويقول: {إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] ، حتى يُعلموا المسلمين أنهم جميعاً في خندق واحد، وأننا لا نستطيع مواجهتهم جميعاً.
| ظهور الحقد الصليبي الدفين:
حيث عبَّر بعض مسؤوليهم عن أنه لا بد من إيقاف المقاطعة ولو أدى ذلك إلى شن حرب صليبية جديدة، وهذا وإن لم يصرح به كثير منهم إلا أنها زلة تمثل رأي طائفة منهم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] .
| اتضاح غطرسة الغرب وعناده:
فهو يرفض الاعتذار حكومةً وشعباً وينظر للمسلمين نظرة استحقار، بل يصرح بعض مسؤوليهم أنهم لا يريدون الاعتذار ولا يرغبون فيه.
| اتضح في هذه الأزمة موقف المنافقين:
وهم الواقفون مواقف الرّيبة من هذه الجريمة، إمّا بالسّكوت تارة، أو بالتّبرير تارة، أو بالتّهوين تارة، أو بالاستهزاء من استنكار المسلمين لهذه الجريمة تارات وتارات.
| ازدياد أهمية التقليل من الحجم الهائل لمستوردات الدول الإسلامية من العالم الغربي:
والسعي للتعويض عن ذلك بمنتجات دول إسلامية أخرى من خلال اشتراك الموارد مع المال مع الخبرات.
| ظهور جدوى تلك المقاطعة التي قام بها المسلمون لمنتجات المعتدين على مقام الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-:
فلم تتحرك دولتهم لمطالب رسمية أو سياسية، لكن لما قامت المقاطعة لم يمض عليها إلا أيام قليلة حتى هبت الصحيفة الآثمة ورئيس تحريرها لتدارك الأمر، وتغير أسلوب رئيس وزرائهم المكابر، فَلانَ شيئاً ما مع المسلمين ـ لا بل مع مصالحه ـ وبهذا يظهر سلاح جديد للمسلمين أفراداً وجماعات يمكن أن يستخدموه للتأثير على أعدائهم، وإلحاق الضرر بهم.
3 المقاطعة الاقتصادية (1) :
لا شك أن للاقتصاد في هذا الزمن تأثيراً كبيراً وفعَّالاً على مواقف الدول واتجاهاتها؛ وقد أصبحت الدعوة إلى مقاطعة البضائع والمنتجات التي تصدِّرها الدول التي تحارب المسلمين من وسائل الضغط عليها لتوقف أو تخفف من موقفها المعادي للمسلمين.
وسلاح المقاطعة سلاح مؤثر بلا شك في المواجهة مع الأعداء.
وقد استُخدم هذا السلاح قديماً وحديثاً.
فقديماً: استخدمته قريش ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يسمى بـ «شِعْب أبي طالب» ، واستمر ثلاث سنوات، وكان تأثيره على المسلمين بالغاً.
وهدد به ثمامة بن أثال قريشاً عندما منع الحنطة من بلاد نجد، حتى جاءت قريش وناشدت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن لثمامة أن يبيعهم الحنطة. والقصة في صحيح البخاري برقم (4372) .
وأما حديثاً: فقد استُخدمت المقاطعة في الحرب العالمية بين المتحاربين، واستُخدمت مؤخراً ضد عدد من البلاد الإسلامية كالعراق وليبيا وأفغانستان والسودان.
واستخدمتها الدول الإسلامية قبل معاهدات السلام ضد الشركات المتعاونة مع إسرائيل.
وفي الحقيقة إن المتابع لمجريات الأحداث يلمس ما لهذه المقاطعة من آثارٍ كبيرة تدفع بعض الشركات إلى التبرُّؤ من العدوان والضغط على الساسة في بلدانهم لاتخاذ ما يوقفها.
هذا من الناحية الواقعية، أما من ناحية الحكم الشرعي للمقاطعة الاقتصادية:
فإن الأصل جواز معاملة الكفار بالبيع والشراء سواء كانوا أهل ذمّة أو عهد أو محاربين، فلا تُمنع المقاطعة، ولا تُشرع، ولكن هذا الحكم قد يتغير بالنظر إلى ما يترتب على المقاطعة الاقتصادية من مصالح أو مفاسد:
فإذا غلب على الظن إفضاء المقاطعة الاقتصادية إلى الإضرار بالكفار الحربيين من غير أن يترتب على ذلك مفسدة تعود على المسلمين، فهنا يتأكد الأمر وقد يصل إلى الوجوب؛ فكل ما يُلحِق الضرر بمن أعلن لنا العداء مطلوب ومأمور به، ولا شك أن التعامل التجاري والاقتصادي الحاصل في هذا الزمن يباين التعاملات التجارية في الأزمان السابقة؛ فهو الآن أوسع وأشمل، ولا شك في ارتباط الاقتصاد الآن بالسياسة وتأثيره، وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على قريش أن تضَّيق عليهم معيشتهم؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه، فقال: «اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف» فأصابتهم سَنَةٌ حصّت كل شيء (أي أذْهَبَتْه) (1) حتى كانوا يأكلون الميتة، وكان يقوم أحدهم، فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجَهْد والجوع، فأتاه أبو سفيان فقال: أيْ محمد! إن قومك هلكوا؛ فادع الله أن يكشف عنهم. (صحيح البخاري 4823) .
ففي هذا إشارة إلى استخدام السلاح الاقتصادي ضد الأعداء المحاربين.
ـ وإذا كانت المقاطعة الاقتصادية لا يترتب عليها إضرار بالكفار، بل تعود على المسلمين أنفسهم بالضرر، فهنا يتوجه القول بالتحريم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة يُنْهى عنه» . «مجموع الفتاوى» (1/164) .
ـ وأما إذا كانت المقاطعة الاقتصادية ستوقع الضرر بالكفار لكنها في المقابل ستوقع ضرراً بالمسلمين أيضاً؛ فهنا تعارضت مصلحة الإضرار بالكفار مع مفسدة وقوع الضرر على المسلمين، فينظر: فإن كانت المفسدة على المسلمين غالبة منعت المقاطعة، وإن كانت المصلحة بمقاطعتهم غالبة كانت مأموراً بها، وإن تساوت المصلحة والمفسدة فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ـ وأما إذا كانت المقاطعة الاقتصادية لا مصلحة فيها من حيث الإضرار بالكفار، ولا مفسدة فيها على المسلمين، فلا حرج من القول باستحبابها؛ لأنها تكون من وسائل التعبير عن السخط ضد ممارسات الكفار العدوانية، فلو لم ينتج عن هذه المقاطعة إلا التعبير عن عقيدة الولاء بين أهل الإيمان والبراءة من أهل الشرك والكفران، والتعبير كذلك عن إرادة الشعوب الإسلامية لكفى، فهي على الأقل «تسجيل موقف للشعوب الإسلامية» .
3 دعوات وشعارات تساقطت:
لقد أظهرت هذه الأزمة حقائق كانت خافية على جمّ غفير من الناس؛ فهؤلاء القوم الذين ما فتئوا يدَّعون أن بلادهم رمز للحرية والديمقراطية، ويتشدَّقون باحترامهم لجميع الأديان، أظهرت هذه الأزمة ما تنطوي عليه قلوب هؤلاء المجرمين من الحقد والكره للمسلمين، وإن تظاهروا في كثير من الأحيان أنهم مسالمون: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] .
ومنها: انكشاف تزوير الغرب في معاييره؛ فهنا يحتجُّون بحرية الرأي والتعبير، وكل عاقل يعلم أن حرية الرأي المزعومة تقف عند المساس بحرمة الآخرين والاعتداء عليهم، وهم كاذبون في دعواهم حرية الرأي؛ فكلنا يذكر ما حدث منذ سنوات قريبة عندما أقدمت حكومة إسلامية على تكسير أوثان وأصنام عندها، أقاموا الدنيا وما أقعدوها!! فأين كانت حرية الرأي المزعومة؟! ولماذا لم يعتبروا هذا أيضاً من حرية الرأي؟!
وإذا كان الشرع والعقل بل والقانون يمنع الإنسان أن يتصرف في بيته بما يؤذي جاره، كالأصوات المزعجة أو الروائح الكريهة؛ فكيف تُقْدِم الصحيفة على هذه الجريمة التي فيها استهانة بمشاعر مليار و300 مليون مسلم، ثم تحتج بحرية الرأي؟
ومنها: بيان بطلان ما يدعو إليه بعض المتغربين من أبناء جلدتنا بمثل قولهم: (لا تقولوا على غير المسلمين كفاراً، بل قولوا «الآخر» حتى لا تشعلوا نار الفتنة بيننا وبينهم) .
فتبيَّن من الجريمة من الذي يكره الآخر، ولا يراعي حرمته ويعلن الحرب عليه.
ومنها: كذب دعاويهم التي ملؤوا بها الدنيا من (حوار الحضارات) القائم على احترام الآخر، وعدم الاعتداء عليه!! فأي حوار يريدون؟ وأي احترام يزعمون؟
إنهم يريدون منا أن نحترمهم ونوقرهم ونعظمهم، بل ونركع لهم ونسجد، أما هم فلا يزدادون إلا استهزاءً بنا وسخرية وظلماً!
ـ ومن المعاني التي تساقطت أيضاً في هذه الأزمة: انهزامية الأمة تجاه الغرب، فقد كان الغربيون ينظرون إلى الأمة الإسلامية كأنها الرجل المريض الذي أُصِيب بالشلل، فمهما ضربته فلن يتأوه، ولن يكون له رد فعل، ثم إذا بالموازين تنقلب بعد نشر تلك الرسومات، وبدأ رئيس الوزراء الدانماركي ـ الذي كان يرفض مجرد لقاء سفراء البلاد الإسلامية في بلده ـ يستأجر بعض القنوات العربية للظهور في مقابلات، محاولاً تبرير موقفه وموقف بلاده، وكذلك رأينا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يتحدث منتقداً هذه الرسومات، وكذا الرئيس الفرنسي والأمين العام للأمم المتحدة وغيرهم من الساسة؛ إذ أذهلتهم ردود أفعال المسلمين فكان لا بد لهم من التحدث بالاستنكار ولو تصنُّعاً ومجاراةً.
فظهر أن مرض الأمة مؤقت، وأنها متى أخذت بأسباب السلامة والعافية ـ ومن أعظمها: اتحادها ـ فسوف تفعل الكثير والكثير.
3 المخذلون كثر:
في ظل توحد المسلمين واجتماع كلمتهم على موقف واحد في التصدي لهذه الهجمة يُسَرُّ المرء لما يرى ويشاهد من الغَيْرة الإسلامية العظيمة المتولدة من الغضب لانتهاك حرمته -صلى الله عليه وسلم-.
إلا أننا نرى هنا وهناك من يحاول تخذيل المسلمين، والوقوف في صف أعدائهم.
فقد أغاظتْ هذه المقاطعة كثيراً من المنافقين، فحاولوا التبرير تارة، والتهوين تارة، وزعم الإصلاح وإرادة الخير تارة أخرى!
فمِن زاعمٍ أَنَّ المقاطعة ستقطع الحوار معهم!
وهل نقبل الحوار مع من يهزأ بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويسخر بثوابتنا؟!
ومن زاعمٍ: أَنَّ سبب جناية تلك الصحيفة هو تقصير المسلمين أنفسهم في تعريفهم بالإسلام! فمرادُه تبرئة هؤلاء المعتدين من جنايتهم، أو تبريرها لهم، وإناطة جُرْمِها بالمسلمين!
وقد جهل هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أدى الرسالة، وبلَّغ الأمانة أعظم التبليغ، ومع ذلك لم يسلم من سخرية كفار قريش.
ومن مستهزئٍ بالمقاطعة فيقول: هذا غاية ما تملكون؛ ترك أكل الزبدة والجبنة!!
وهذا شبيه بموقف المنافقين الذين كانوا يسخرون من المؤمنين لكونهم يتصدقون بالقليل من المال، مع أنه غاية ما يستطيعونه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79] .
ومن زاعمٍ: أنَّ المسلمين «عمَّموا خطأ جريدة على دولة كاملة لا تملك بحكم القانون أي سيطرة على هذه الجريدة» !!
والجواب عن هذا:
أولاً: أن حكومتهم قد وقفت بجانب الجريدة وبررت فعلتها، بأنها حرية الرأي.
وثانياً: أن شعبهم نفسه قد وافق غالبيته الجريدة والحكومة على موقفهما؛ ففي استطلاع للرأي رأى 79% ممن شملهم الاستطلاع أن رئيس الوزراء يجب ألا يعتذر نيابة عن الدانمارك، بينما قال 18%: إن عليه الاعتذار.
وقال 62% منهم: إنه لا يتعين على الصحيفة تقديم اعتذار، بينما قال 31%: إن عليها أن تعتذر. [موقع إسلام أون لاين] .
ويرى بعضهم أن هذه المقاطعة لن تفيد شيئاً؛ فهل تغافلوا عن استغاثات الدانمارك المتكررة بالاتحاد الأوروبي لإنهاء المقاطعة الإسلاميَّة؟ وهل تجاهلوا الخسائر الدانماركيَّة التي ستصاب بها حين تقاطعها الأمة الإسلامية؟ حيث بلغت خسارة شركة واحدة من شركاتهم للألبان في دولة إسلامية واحدة ما يتراوح بين ثمانمائة ألف ومليون وستمائة ألف دولار يومياً، كما صرح بذلك مدير هذه الشركة، فضلاً عن فرص الوظائف التي سيفقدها أصحابها [موقع الجزيرة] . بل قد صرح بعضهم أن ما بنوه في عشرات السنوات ـ أي من السمعة الحسنة لبضائعهم التجارية ـ قد تهدَّم في أيام قليلات.
ويرى آخرون أن المتضررين من المقاطعة إنما هم الوكلاء التجاريون الذين يحملون امتياز بيعها في البلدان الإسلاميَّة!!
وهذا عجيب، أن يتولى هؤلاء الدفاع عن أولئك التجار؛ مع أن التجار أنفسهم لهم مواقف مشرفة؛ فقد رأيناهم تداعوا بشجاعة لطلب المقاطعة؛ فهل هو أحرص منهم على أموالهم أم أنَّها عقليات التطبيع؟
ومن هؤلاء من بدأ يدعونا للتسامح معهم والسكوت عن أذاهم، وما علموا أن التسامح لا يكون مشروعاً إلا إذا وقع موقعه الصحيح، وأولئك المستهزئون بمقامه -صلى الله عليه وسلم- ليسوا موضعاً صالحاً للتسامح، بل التسامح مع أمثال هؤلاء المجرمين جريمة شرعية، ولئن كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحق في التجاوز عمن أساء إليه فإن هذا ليس إلى الأمة، بل الأخذ بحقه والغضب له واجب شرعي لا يجوز أن يمس أو يتبرع أحد بالتنازل عنه.
ومن زاعمٍ: أن المقاطعة مجرد رد فعل عاطفي، ولا ينبغي أن تكون تصرفاتنا مبنية على ردود الأفعال وهذا الزعم لا بد له من وقفة تبين أهمية ردود الأفعال والتأصيل الشرعي لها من خلال ما يلي:
| أمر الشارع بإنكار المنكر مثال واقعي لاعتبار ردود الأفعال في الشريعة:
قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» رواه مسلم (70) .
فإنكار المنكر وتغييره باليد هو رد فعل على ظهور المنكر ورؤيته، وهو رد فعل أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- «فليغيره بيده» ، وهو واجب بإجماع المسلمين، كما نقله النووي.
| الغضب على انتهاك حرمات الله صورة من صور ردود الأفعال المأمور بها:
إذ من الغضب ما يكون محموداً بل ما يكون واجباً، وهو الغضب لله عز وجل، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يغضب لنفسه، ولكن إذا انتُهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء.
فعَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: «وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ» رواه البخاري (6288) .
| بل إن التعامل برد الفعل أمر جِبِلِّي:
ولقد أحسن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ حين قال: «من استُغضب ولم يغضب فهو حمار» !!
(سير أعلام النبلاء 10/43) .
فالإنسان مجموعة من الأحاسيس والمشاعر، فلا بد أن يتأثر بما يدور حوله ويكون له رد فعل عليه.
والميْت هو الذي لا يوجد لديه ردود أفعال، كما قال الشاعر:
جَرَحُوه فَمَا تألَّّم جُرْحاً ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
ومن أمثلة ردود الأفعال من السنُّة:
قنوته -صلى الله عليه وسلم- شهراً على رعل وذكوان وبعض أحياء العرب لما غدروا بالقراء في بئر معونة. البخاري (3064) ومسلم (677) .
ودعوته -صلى الله عليه وسلم- للبيعة على القتال لما بلغته شائعة قتل عثمان في الحديبية، ثم لما تبين كذب الشائعة كان الصلح.
[ابن أبي شيبة مرويات غزوة الحديبية ص 124] .
وكغضبه -صلى الله عليه وسلم- حينما اختصم أصحابه في القَدَر حتى كأنما يُفقَأ في وجهه حب الرمان ـ كما عبر الراوي - ابن ماجة (82) .
وغير ذلك كثير من صور غضبه -صلى الله عليه وسلم- تفاعلاً مع ما يطَّلع عليه أو يُنقل إليه من أقوال أو أفعال.
ومن ردود أفعال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بحضرته -صلى الله عليه وسلم-:
مقولات عمر بن الخطاب المتعددة «دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ» وما شابهها كما كان مع عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين لما قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. البخاري (4905) .
وكما حصل مع ذي الخويصرة اليماني الذي قال: اعدل يا رسول الله. البخاري (3341) مسلم (1675) .
ولذلك فإن ردود أفعال المسلمين تجاه هذا السب لخير من وطئت قدماه الأرض، مهمٌّ جداً؛ لأنه نوع من إنكار المنكر أولاً، وهو أمر واجب، بل هذا من أعظم المنكرات التي يجب إنكارها، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتغيير المنكر باليد، فإن لم يُستَطع فباللسان، فإن لم يُستَطع فبالقلب قال: «وذلك أضعف الإيمان» وفي حديث آخر: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» رواه مسلم (4676) .
وثانياً: من أجل تقزيم هؤلاء المعتدين والمفترين، كي لا يستمرئوا هذا السب والاعتداء.
أما ألاَّ يكون هناك غيرة على حرمات الله، ولا يتمعر وجهنا غيرة وغضباً؛ فيُسَبّ دين الله، ويُسَبّ نبينا، دون أن يحرك ذلك فينا ساكناً؛ فهذه والله هي الكارثة.
3 الواجب علينا:
على كل مؤمن يحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويغار على دينه أن ينتصر لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يقدِّم كل ما في وسعه لرد هذه الهجمة الشرسة، ومهما بذلنا فهو قليل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأما تفصيل دورنا في هذا فمنه:
1 ـ إعلان النكير على كل الأصعدة وبشدة:
فعلى الدول الإسلامية أن تهب على جميع مستوياتها لنصرة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، وتستنكر ذلك في المؤتمرات والمحافل العامة، وتتخذ موقفاً حازماًَ يتناسب مع شناعة الجريمة.
وكذلك يكون الاحتجاج على مستوى الهيئات الرسمية وغير الرسمية كوزارات الأوقاف، ودور الفتيا، والجامعات، وإعلان الاستنكار من الشخصيات العامة كالعلماء، والمفكرين، ورجال الإعلام.
وكذلك الإنكار على المستوى الفردي، كلٌّ حسب ما يستطيع: بإرسال رسالة، أو كتابة مقالة، أو اتصال هاتفي بحكومتهم وخارجيتهم وصحافتهم، ومراسلة المنظمات والجامعات والأفراد المؤثرين في الغرب، ولو نفر المسلمون بإرسال آلاف الرسائل الرصينة القوية إلى المنظمات والأفراد فإن هذا سيكون له أثره اللافت قطعاً.
2 ـ مطالبة هؤلاء الجناة بالاعتذار الجاد الواضح، لا الخداع وتبرير الجريمة الذي يسمونه اعتذاراً، فلا نريد اعتذاراً لإهانة المسلمين، وإنما نريد إقراراً واضحاً بالخطأ، واعتذاراً عنه، ومعاقبة رادعة للمجرمين على جرمهم، وأن تكف حكوماتهم عن العداء للإسلام والمسلمين.
3 ـ ذكر فتاوى علماء الأمة التي تبين حكم من تعرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء من الانتقاص ووجوب بغض من فعل ذلك والبراءة منه.
4 ـ بيان حُسن الإسلام وموافقته للعقول الصريحة، والرد على شبهات المجرمين من خلال قيام المؤسسات الإعلامية والصحف والمجلات والمواقع الإسلامية بكتابة ردود على هذه الافتراءات، وأن تسطر على صفحاتها شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتبين الدور العظيم الذي قام به -صلى الله عليه وسلم- لإنقاذ البشرية، وأنه أُرسل رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين.
5 ـ استئجار ساعات لبرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية لا سيما في البلدان الغربية لتدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتذب عن جنابه، ويستضاف فيها ذوو القدرة والرسوخ، والدراية بمخاطبة العقلية الغربية بإقناع، وهم بحمد الله كثر.
6 ـ إعداد المقالات القوية الرصينة لتنشر في المجلات والصحف ومواقع الإنترنت باللغات المتنوعة.
7 ـ مطالبة الكتّاب والصحفيين والإعلاميين بل كل غيور بالقيام بدور النصرة للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ من خلال محاولة إثارة الرأي الغربي ضد هذا الانتهاك والتدنيس العلني للمعتقدات الدينية.
8 ـ إنشاء مراكز متخصصة لبحوث ودراسات في السيرة النبوية والإسلام وفضائله وترجمة ذلك إلى اللغات العالمية.
9 ـ الحرص على دعوة هذه الشعوب؛ فإننا وإن كنا ننظر إليهم بعين الغضب والسخط والغيظ، إلا أننا أيضاً ننظر إليهم بعين الشفقة عليهم، فهم عما قريب سيموتون، ويكونون من أهل النار إن ماتوا على ذلك، فدعوتهم إلى الإسلام والنجاة رحمةٌ بهم، وشفقةٌ عليهم؛ ولا سيما عوامهم الذين غُيِّبَتْ عنهم صورة الإسلام المشرقة، حتى نقيم الحجة ونوصل نور الهداية والحق إليهم فيعرفوا عن ديننا وعظمة نبينا -صلى الله عليه وسلم-: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] .
10 ـ ترجمة الكتب التي تدعو إلى الإسلام، والكتب التي تعرّف بالإسلام ونبيّ الإسلام، وتبيِّن سيرته الحسنة العطرة وفضائله بلغة هؤلاء القوم.
11 ـ إنشاء مواقع إسلامية وبرامج متخصصة في الإذاعات والقنوات والشبكة المعلوماتية للتعريف بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله وأخلاقه الكريمة باللغات المختلفة، ونشر ذلك في المطبوعات من الصحف والمجلات ونحوها.
12 ـ عقد المؤتمرات العلمية التي يُتكلم فيها عن نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- ورسالته، مع التركيز على تلك الدول التي تحتاج إلى تصحيح صورتهم عن الإسلام.
13 ـ نشر ما ذكره المنصفون من غير المسلمين بشأنه -صلى الله عليه وسلم-، إذ هو أدعى لقبول أقوامهم له.
14 ـ بيان خصائص دعوته ورسالته -صلى الله عليه وسلم-، وأنه بعث بالحنيفية السمحة، وأن الأصل في دعوته
15 ـ المشاركة في حوارات علمية رصينة مع غير المسلمين من المختصين أصحاب القدرات العلمية واللغوية، ودعوة أولئك الباحثين بالحكمة لدراسة شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدين الذي جاء به.
16 ـ الإعلان في محركات البحث المشهورة عن بعض الكتب أو المحاضرات التي تتحدث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
17 ـ التمسك بالسنة والتزام هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل شيء والصبر على ذلك؛ إذ بهذا يكفينا الله كيدهم: {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] .
18 ـ مقاطعة منتجاتهم ما دام لها تأثير عليهم ـ وهذا هو الواقع ـ والبحث عن شركات بديلة يمتلكها مسلمون ترسيخاً لمبدأ الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين.
19 ـ الوعي لكيفية إدارة أعداء الإسلام لصراعهم مع المسلمين وعدم استبعاد التعمُّد والتخطيط المسبق منهم لهذه الجريمة، مع الدراسة المتأنية للمواقف المتوقعة منهم والتدابير التي ينبغي اتخاذها مع كل موقف حتى لا يخلصوا إلا شق الصف وإضعاف قوة وحدة الموقف.
20 ـ تبادل الأفكار في هذه القضية، وإضافة الجديد منها والتواصي بها، وبحث كل واحد عما يناسب ميوله وتخصصه منها، وبهذا سيجد كل محب لرسوله -صلى الله عليه وسلم- مجالاً لإظهار حبه وغيرته وتعظيمه؛ فهذا يأتي بفكرة، وذاك يكتب مقالة، وهذا يترجم، وذاك يرسل، وآخر يموِّل، في نفير عام لنصرة أفضل الخلق ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
رسولَ الحُبِّ في ذكراك قُربى وتحتَ لواكَ أطواقُ النجاةِ
عليك صلاةُ ربِّكَ ما تجلى ضياءٌ.. واعتلى صوتُ الهُداةِ
يحارُ اللفظُ في حُسناك عجزاً وفي القلب اتقادُ المورياتِ
ولو سُفكتْ دمانا ما قضينا وفاءك والحقوقَ الواجباتِ
3 ليس من النصرة:
إن ما نراه من ردود فعل غاضبة من المسلمين، وعمل جاد لمواجهة تلك الهجمة التي يتعرض لها الإسلام لَيبعثُ البهجة والسرور والأمل في نفس كل مسلم، غير أن بعض المسلمين ـ وهم بحمد الله قلة ـ قد مال بهم حماسهم عن الصواب، والمأمول من المسلمين أن يلزموا العدل والإنصاف، حتى مع أعدائهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] .
فليس من النصرة:
1 ـ الاعتداء على معصومي الدم والمال كالمستأمَنين، من أي دين كان.
2 ـ اختراق وتدمير مواقع صحف ومجلات لم تصدر منها بنبينا -صلى الله عليه وسلم- سخريةٌ؛ فمثل هذا العمل يُحرضها هي الأخرى على سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والنيل منه، وينقلها من حِيادها إلى مُصافّة المعتدي في موقفه، ويحرض سفهاءهم على تدمير مواقعنا.
3 ـ ليس من النصرة في شيء أن نجود بأموالنا لكل من يدعونا إلى مشروع دعوي في تعريف الكفار بالإسلام وبنبيه الكريم وفي كشف ما يثار حوله من شبهات من غير أن نتوثق من صاحب المشروع والجهة المشرفة عليه، ومن غير أن نتبيَّن المضمونَ المراد نشره، ومن يزكِّي ذلك من أهل العلم.
4 ـ ما صاحَبَ بعض المظاهرات التي قام بها المسلمون في أماكن شتى من إتلاف للأنفس والممتلكات.
5 ـ عدم تحري البعض في نشر الأخبار قبل التثبُّتِ من صحتها، كالخبر بإسلام خمسين دانماركياً، أو خبر قتل الصحفي.
6 ـ نشر بعض البدع والتعلُّق بالمنامات، كالدعوة إلى توحيد الدعاء في ساعة معينة وصيغة معينة، أو تناقل رسائل بها مخالفات شرعية، أو التعسف في محاولة الربط بين رقم بعض الآيات القرآنية التي لها شيء من التعلق بالموضوع وبين الرقم التسلسلي الدولي لمنتجات الدولة المعتدية زاعمين أن ذلك من الإعجاز العددي القرآني.
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من أنصار دينه ونبيه -صلى الله عليه وسلم- بوعي وصدق، وأن يعلي دينه، وينصر أولياءه، ويذل أعداءه، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .
وصلى الله وسلم على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(222/7)
معالم من تلك الحادثة
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
أخبرني صاحبي ـ وهو من الراصدين مواقع الصوفية على شبكة «الإنترنت» ـ أنه تصفح قرابة ستين موقعاً للصوفية أثناء نازلة تطاول «الدانمارك» على سيّد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يرَ للقوم حديثاً، ولم يسمع لهم همساً في تلك الحادثة التي غدت مَشْغَلة السمع والبصر في جميع الأصقاع؛ ثم تدارك صاحبي قائلاً: اللهمّ إلا أن واحداً من تلك الستين قد نقل مقالة من أحدالمواقع السنية!
وختم هذا الصاحب كلامه قائلاً: هؤلاء الصوفية يعرفون الرسول عند الطمع، ويتخلون عنه عند الفزع.
ولئن كشفت هذه الحقيقة زيف محبة القوم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتهافت دعاويهم العريضة، فهي تبيّن حالة «السُّكْر» الذي أغرقهم، و «الفناء» الذي استحوذ عليهم، فكأن الأمر لا يعنيهم، وكما لو كانوا خارج العالم! ولو كان «السُّكْر» و «الاصطلام» أمراً ملازماً لهم لهان الخَطْب؛ فالمجنون معفو عنه، إلا أن هذا السكر سرعان ما يزول عند صوفية الأرزاق، إذا كان في الصحو تحقيق لحظوظهم الشخصية ومطامعهم الدنيوية.
هذه الواقعة الموجعة مع تداعياتها المختلفة، والتي حرَّكت القلوب، فأظهرت محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعمدت إلى الذبّ عنه، وعبّرت عن ذلك من خلال مقاطعات اقتصادية، ومظاهرات واحتجاجات، وتأليف كتب ورسائل في دعوة الكفار إلى الإسلام، والتعريف بسيّد الأنام -صلى الله عليه وسلم-.. هذه الواقعة تقرر أن الخير فيما اختاره الله تعالى، وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يخلق شراً محضاً، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] .
«فمن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة إنباء المرسلين: ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.. وذلك أن الحق ـ إذا جُحد وعُورض بالشبهات ـ أقام الله ـ تعالى ـ له ما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات والبينات» (1) .
هذه النازلة يمكن تسخيرها وتوظيفها في سبيل ترسيخ جملة من الأصول الشرعية، كوجوب محبة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ووجوب تعزيره وتوقيره، وأهمية الاتباع لسنته، والتحذير من الإحداث والابتداع في دين الله تعالى.
ورحم الله الشيخ محمد رشيد رضا إذ يقول: «من تتبع التاريخ يعلم أن أشدَّ المؤمنين حبّاً واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غلواً فيه، ولا سيما أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ومن يليهم في خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشدهم غلواً في القول وابتداعاً في العمل وترى ذلك في شِعْر الفريقين» (2) .
ومن الأصول التي ينبغي تقريرها في هذا الشأن: تلازم الظاهر والباطن؛ فالمحبة القلبية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بد أن تظهر على الجوارح، من خلال الاتِّباع له والذبّ عنه وتعظيمه وإجلاله، وما المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الدانمارك إلا سبب من الأسباب العملية المشروعة في تحقيق تعزيره -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره، وردع أولئك السفهاء المتطاولين على خير البرية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كما أن هذه الواقعة لتكشف عن عداوة الكافرين لأهل الإسلام، وتواطئهم على ذلك، وهذا يؤكد أهمية أوثق عرى الإيمان: الحبّ في الله والبغض في الله، ووجوب البراءة منهم، وأن عداوتهم لأجل كفرهم لا تنافي العدل والقسط معهم، بل ينبغي دعوتهم إلى الإسلام بالطريقة الصحيحة الملائمة، والحذر من تمييع الإسلام أثناء تلك الدعوة والتعريف.
هذه الأمة كالغيث لا يُدرى أأوله خير أم آخره؟ فقد أظهر أهل الإسلام احتساباً ونصرةً لمقام سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم-، وهذه المشاعر الصادقة والمواقف النبيلة توجب أهمية إحياء شَعِيرة الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك على أوسع نطاق، وفي أكثر من مجال؛ فهناك الاحتساب بالخطبة والمحاضرة، والاحتساب بالمقاطعة، والاحتساب بالمظاهرة والاحتجاج، والاحتساب بالرسالة والكتاب، وكما أن العلماء والدعاة احتسبوا في هذه النازلة؛ فقد احتسب الساسة والتجار، والمثقفون والمفكرون، والعامة والصغار؛ فهذه الواقعة حققت تجييشاً لأهل الإسلام، وحشداً لأنواع متعددة من المناشط والجهود في سبيل الذبّ عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يوجب على أهل الشأن إعداد برامج وخطط احتسابية تجاه هذه الواقعة ونظائرها.
غارت أمة الإسلام لرسول الأنام -صلى الله عليه وسلم-، وظهرتْ هذه الغَيْرة في صور صادقة ومشاهد مؤثِّرة، والمتعيَّن تحريك هذه الغيرة وتقويتها من جهة، وضبطها وفق ما توجبه الشريعة وتقتضيه المصلحة من جهة أخرى.
فابن تيمية احتسب على نصراني شتم نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، وذلك سنة 693هـ، وألّف كتابه النفيس «الصارم المسلول في الردّ على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-» ، ولما تحدّث عن أنواع السبّ في هذا الشأن، قال ـ رحمه الله ـ: «التكلم في تمثيل سبّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر صفته، ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين أو آثرين..» (1) .
فغيرة ابن تيمية تجعله يتعاظم مجرد تصوير مسألة السبّ وحكايتها، لولا أن الحكم الشرعي يقتضي ذلك، وهذه الغيرة الصادقة اقترن بها المسلك الشرعي الملائم؛ فقد كلّم شيخ الإسلام الأميرَ آنذاك، وسعى في الاحتساب على ذاك النصراني المخذول، وألّف كتابه «الصارم المسلول» بعد هذه الواقعة.
وها هو السبكي ـ رحمه الله ـ يقول ـ في مطلع كتابه «السيف المسلول على من سبَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم-» عن سبب تصنيفه ـ: «كان الداعي إليه أن فُتيا رُفعت إليّ في نصراني سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يُسْلم، فكتبتُ عليها: يُقتل النصراني المذكور كما قَتَل النبي -صلى الله عليه وسلم- كعبَ بن الأشرف، ويُطهّر الجناب الرفيع من ولوغ الكلب.
لا يَسلمُ الشرفُ الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
إلى أن قال: وليس لي قدرة أن أنتقم بيدي من هذا الساب الملعون، والله يعلم أن قلبي كارهٌ منكر، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ها هنا، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم، وأسأل الله عدم المؤاخذة بما تقصر يدي عنه، وأن ينجِّيني كما أنجى الذين ينهون عن السوء، إنه عفوّ غفور» (2) .
فالسبكي بلغتْ غيرته ما بلغت، وصاحبَ ذلك موقفٌ عملي من خلال تحرير هذه الفتيا وكتاب «السيف المسلول» .
وهذا ابن عابدين ـ رحمه الله ـ يقول عن شقيٍّ استطال على سيد المرسلين: «وإن كان لا يشفي صدري منه إلا إحراقه وقتله بالحسام..» (3) .
والمقصود أن نجمع بين إحياء هذه الغَيْرة الإيمانية وتحريكها، وبين ضبطها وفق الأصول الشرعية والمصالح المرعية.
لعل هذه الحادثة تكون سبباً إلى فقه التعامل مع أهل القبلة، والتعاون مع أهل الإسلام في الأصول المتفق عليها، دون الإخلال بثوابت أهل السنة ومعالمهم؛ فالذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محل اتفاق بين أهل الإسلام، ومدافعة التغريب والهيمنة الأمريكية كذلك.. وما أكثر القضايا التي هي محل إجماع بين أهل الإسلام. فمن المهم أن نبعث هذ التعاون والتنسيق بين أهل الإسلام، مع المحافظة على شعائر أهل السنة وأصولهم، لما في ذلك من المقاصد الشرعية، ونفوذ أهل الإسلام وتقويتهم.
فلقد تعاون أهل الإسلام من قبل ـ في القرن الرابع الهجري ـ في مواجهة المدّ العُبَيْدي الباطني، فكتب المعتزلة والزيدية والأشاعرة ـ وكذا أهل السنة ـ في فضح الباطنيين وهتك أستارهم.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعزّ فيه أهل الإيمان، ويُذلّ فيه أهل الكفر والطغيان.
معالم من تلك الحادثة
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض ـ السعودية.
(1) الجواب الصحيح، لابن تيمية: 1/ 13، 14.
(2) تعليق محمد رشيد رضا على كتاب صيانة الإنسان للسهسواني، ص 244.
(1) السيف المسلول: ص 113 ـ 114.
(2) الصارم المسلول: 3/1005.
(3) رسائل ابن عابدين: 1/293.(222/8)
هوامش على أزمة التحدي
خالد أبو الفتوح
أثار إقدام صحيفة (يلاندز بوسطن) الدنماركية على نشر رسوم ساخرة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما تلا ذلك من أحداث.. ردود أفعال عديدة على كافة المستويات والأوساط في أرجاء كثيرة من العالم، وبعيدًا عن سباق الفعل ورد الفعل الذي صاحب هذه الأزمة والذي وجه انفعال بعض الأفراد أو المجموعات ـ ولبعضهم العذر في ذلك؛ لعظم الحدث وشدة وقعه ـ.. أحببت تسجيل بعض الملحوظات واستخلاص بعض الفوائد والدروس، ليتسنى لنا فهم بعض أبعاد هذه الأزمة، ولنستطيع إدارة الأزمات (القادمة) بأداء أفضل وفاعلية أكبر:
أولاً: يُظهر هذا الحدث أن الحقد والكراهية للإسلام ونبيه ما زالا كامنين تحت القشرة العلمانية التي يتجمل بها الغرب، فهذا الحدث يأتي في سياق سلسلة من الاعتداءات والأذى المستمر الذي يوجَّه للمسلمين ودينهم والذي لا تخطئه عين أي خبير، ونظرة سريعة على أهم بعض (الفلتات) الصريحة التي وقعت خلال العامين الماضيين فقط يوضح ذلك بجلاء:
3 ففي يناير 2004: وصف عضو الحزب الوطني البريطاني نيك جريفن الإسلام بأنه «عقيدة فاسدة» ، ويخلو من أي مساحة للتسوية الضرورية في مجتمع حر، ولا يتفق مع الديمقراطية.
3 وفي نوفمبر 2004: عرض فيلم تلفزيوني بعنوان (الخضوع) للمخرج الهولندي ثيو فان جوخ يزعم فيه أن الإسلام يضطهد المرأة.
3 وعلى إثر ذلك منح الحزب الليبرالي في الدانمرك (جائزة الحرية) للبرلمانية الهولندية الصومالية الأصل المرتدة هرسي علي التي كتبت سيناريو الفيلم.
3 وفي مايو 2005: كشفت تقارير عن تدنيس الجنود الأمريكان للمصحف الشريف بالتبول عليه أو وضعه في المرحاض في معسكر غوانتانامو.
3 وفي الشهر نفسه وصف مايكل غراهام المذيع بمحطة إذاعية في واشنطن (الإسلام) بأنه (منظمة إرهابية) ، وأنه في حالة حرب مع الولايات المتحدة، وأنه يجدر بهذه الأخيرة ضرب مكة المكرمة بالسلاح النووي.
3 وفي يوليو 2005: سخر الممثل الكوميدي الأميركي ـ جاكي ميسون ـ في برنامج للمذيع جيم بوهانون من الإسلام ووصفه بأنه منظمة تشجع على القتل والكراهية والإرهاب.
3 ضع ذلك بجوار: احتضان الغرب لرموز الردة والطعن في الدين من بني جلدتنا أمثال: سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، ونصر أبو زيد، وهيرسي علي؛ وضَعْه أيضاً بجوار القرصنة الدولية والإرهاب الاحترافي الذي يمارسه الغرب منذ قرون ضدنا، والذي كان آخره ما يحدث في العراق وأفغانستان والسودان وغوانتانامو، واستحضر مع ذلك فلتات ألسنة قادتهم السياسيين والفكريين التي ما فتئت تصف صراعهم معنا أنه صراع حضاري، يظهر تارة في حملة على حجاب، ويستتر أخرى خلف دعوى (حقوق إنسان) ، وبأن مواجهتهم لنا حملة صليبية، ولكنها تُشَن بموجب (البند السابع) .. لتعلم أن صحيفة «يلاندز بوستن» جاءت لتفجر القِدر الذي ما انقطع غليانه منذ الحروب الصليبية، ولتتوج منظومة الكراهية الغربية للإسلام، ولكن أيضاً لتُُلبسها ثوب «حرية التعبير» ، ولتعلم كذلك أن (تعبيرهم) إنما دل على أنه {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] .
ثانياً: لا يوجد لديّ أي مساحة لتصديق مزاعم الصحيفة بأن نشرها لهذه الرسوم لـ (اختبار حرية التعبير في بلادهم) ، وإذا حاولنا معرفة مرامي هذا الحدث، أو الفائدة التي ستجنيها بعض الأطراف من ورائه، فإن هناك عدة احتمالات أو فرضيات يمكن ذكرها، منها:
1 ـ صرف الأنظار عن قضايا أخرى مهمة أو أحداث تجري تتصل بالعالم الإسلامي، أو التغطية على جرائم أخرى (تاريخية) تحاك أو تنفذ ضد المسلمين (تكتيك مصارع الثيران) .
2 ـ محاولة جس نبض الشارع الإسلامي، وقياس ردة فعله كمّاً ونوعاً ومدى استعدادهم لتقديم تنازلات جديدة وقبول قيم غربية بديلة.
3 ـ محاولة تحطيم معنويات المسلمين وقهرها، بتدنيس المقدسات التي يعتزون بها وتشويه الرمز الذي يجلُّونه والاستهزاء بمحبوبهم علناً، مما يؤثر على قدرتهم على المقاومة والصمود.
4 ـ محاولة دق أو تعميق (إسفين) بين الشعوب الأوروبية والإسلام تحول دون تعرف الشعوب الأوروبية على الإسلام الحقيقي، وتمنع التواصل الإيجابي بين هذه الشعوب والأمة الإسلامية.
5 ـ الضغط على الجاليات الإسلامية في أوروبا؛ فحسب بعض المحللين الغربيين فإن ذلك يأتي في سياق هجمة مضادة رداً على تعرض القيم العلمانية الغربية لهجمات (المسلمين المتشددين) في أوساط المهاجرين في الغرب، كما أن هذا الحدث يُعد اختباراً لقياس مدى اندماج المهاجرين والأجيال الناشئة من أبنائهم في المجتمع الغربي، وبمعنى آخر: معرفة حجم التنازلات التي يجب أن تقدمها الدولة المضيفة لمسايرة المهاجرين، والإشارة إلى المهاجرين أنفسهم بنمط التنازلات التي تريدها منهم دولتهم المضيفة لكي يندمجوا في المجتمع الذي ينتقلون للعيش فيه، أي: إنهم يريدون وضع المهاجرين على محك التخلي عن دينهم مقابل قبول عيشهم في البلاد الغربية!
6 ـ جس نبض الشارعين العربي والإسلامي ومراكز القوى الإسلامية في أوروبا, تمهيداً للبدء في إنهاء الوجود الدعوي الإسلامي هناك، وحظر أي قنوات دعوية إسلامية يمكن من خلالها: تغيير الوجه (الحضاري) المسيحي لأوروبا، أو كسب أرضية (أصولية) داخل المهاجرين المسلمين والحيلولة دون ذوبانهم في المجتمع الغربي، أو النجاح في تجنيد (إرهابيين) يهددون الأمن والمصالح الغربية في عقر دارها.. وقد ظهر هذا التوجه بالفعل في صورة: إغلاق بعض المساجد, ومحاربة الحجاب, ووضع أقنية فضائية عربية وإسلامية تحت المراقبة, وإغلاق المؤتمر العربي الإسلامي الأوروبي والتضييق على أنشطة المراكز الإسلامية ومراقبتها, والعديد من حملات الاعتقال والمداهمة لكثير من المراكز الإسلامية.
وقد ذكر فادي ماضي رئيس المؤتمر العربي الإسلامي الأوروبي أن هناك خطة صهيونية مبرمجة، يقف وراءها مركز سايمون فيزنتال والمؤتمر اليهودي العالمي، وتطال الوجود العربي والإسلامي لضرب الإسلام وإنهاء الوجود العربي والإسلامي في أوروبا.
7 ـ ظهر بوضوح محاولة استغلال أمريكا وبريطانيا للحدث من أجل موازنة صورتهما العدائية مع صورة الدول الأوروبية الأقل تحالفاً، على طريقة (إنه سيئ ولكن أخاه أسوأ منه) ، وذلك باتخاذ موقف أقل صفاقة.. فرغم أن الحقد الذي يضمرونه على الإسلام والمسلمين لا يقل بحال عن (أوروبا شرق الأطلنطي) ، إلا أن أمريكا وبريطانيا كانتا حريصتين على عدم تورطهما في هذه الأزمة:
فمن جانبها امتنعت وسائل الإعلام الأميركية عن إعادة نشر الرسوم التي تتناول النبي محمد بسبب الطبيعة «المهنية» لهذه الرسومات.
وقد كان ملفتاً أن موقع (CNN) الإخباري على الإنترنت ذيَّل معظم أخباره عن هذه الأزمة بهذه العبارة: «يُذكر أن CNN تمتنع عن نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد احتراماً لمشاعر المسلمين» في متاجرة غير ذكية بالموقف من القضية.
وقال مديرو تحرير عدة مؤسسات إعلامية أمريكية: إنهم يغطون الخلاف المتصاعد بشأن الرسوم ولكنهم لن ينشروها مجدداً ولن تبث على التلفزيون احتراماً لقرائها ومشاهديها!
وفي يوم الأربعاء 8/2/2006 نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالاً للكاتبين فيليب هينشر وجاري يونج اعترفا فيه بأن الصحيفة الدانمركية أخطأت بنشرها تلك الرسوم، وبأن هناك إهانة لحقت بالمسلمين ما كان يقبلها أتباع أي مدرسة علمانية لو وجهت هذه الإساءات لرموز مدرستهم، كما قالا إن غضب المسلمين له ما يبرره، ومضى الكاتبان إلى القول إن الصحيفة الدانمركية كانت ستفكر ألف مرة قبل أن تكتب شيئاً يمس الديانة اليهودية، حتى لا يتهمها أحد بالعداء للسامية؛ لأنها تهمة خطيرة في أوروبا وأمريكا، وقد يدفع المتهم بها عشرة أعوام من عمره في السجن.. أما الدين الإسلامي ـ على حد قولهما ـ فلم يحدث أن سُجِن أحد بسببه في أوروبا.
وقالت صحيفة الفياننشال تايمز البريطانية إن حق النشر ليس مطلقاً.
وإذا استثنينا تصريحات نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، فإن مجمل الموقف الأمريكي والبريطاني الظاهر ـ الإعلامي والرسمي ـ هو محاولة اتخاذ موقف متوازن بين إدانة أعمال العنف والمقاطعة التي ظهرت في العالم الإسلامي، والتأكيد على أهمية حرية التعبير، مع تفهم غضب المسلمين، والإلماح إلى أن حرية التعبير يجب أن يكون لها حدود بحيث لا تمس المقدسات.. وهذا ما يرمي إلى ترميم صورة البلدين السياسية في العالم الإسلامي، بعد فشل جهود الحملات الإعلامية والإعلانية التي حاولت أداء هذه المهمة.
ثالثاً: وضح أن الغرب يقف خندقاً واحداً (حتى ولو في الظاهر) عندما يتعلق الأمر بمواجهة المسلمين، سواء أكان هذا من منطلق الخلفيات التاريخية والحضارية التي تجمعهم، أو بموجب الاتحاد والتحالفات والاتفاقات المعقودة بينهم، أو بموجب المصالح المشتركة بينهم.
يظهر ذلك في تعاضد بعض الصحف مع الجريدة الدانمركية وتأييدها بنشر الرسوم المسيئة، ومحاولة إحباط قوة حملة المقاطعة والاحتجاج التي ظهرت في العالم الإسلامي، باستخدام تكتيك (توسعة الخرق على الراقع) أو سياسة (تفريق الدم بين القبائل) ، ولا أستبعد ما ذكرته بعض التقارير من وجود أيادٍ مخابراتية وراء هذا النشاط والتكاتف، فقد «اعتبر مراقبون لتطورات الأحداث في جريمة الاعتداء على حرمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في بعض الصحف الأوروبية أن اتساع دائرة النشر يرتبط بجهود استخباراتية مكثفة في بعض عواصم الاتحاد الأوروبي لتخفيف الضغط عن الدانمرك، بعد أن اعترفت مفوضية الاتحاد بعجزها عن وقف موجة المقاطعة أو التورط في الأزمة بشكل مباشر وعلني، في حين اعتبرت أوساط ثقافية أن هذه الأزمة قد تمثل تحولاً خطيراً في البنية الثقافية للمجتمع الغربي؛ لأنها تفتح على نطاق واسع أبواب الجدل حول المحرمات في الإعلام الغربي، لأن بعض الأصوات الغربية بدأت تطرح الآن تساؤلات حول النفاق الأوروبي فيما يتعلق بقضية حرية التعبير..
مصادر دبلوماسية استطلعت صحيفة (المصريون) رأيها أشارت إلى أن الخطة التي تحتاج إلى إمكانيات أكبر بكثير مما تملكه الدانمرك انطلقت منذ الثلاثاء الماضي 3/1/2006م عبر صحف تصدر في عدة دول أوروبية، تبنت الخطاب نفسه، وسارت على منهج موحد، وهو ما يدل على التنسيق بين الصحف الموزعة على عدة دول، ويشير إلى أصابع أجهزة الاستخبارات التي تقود هذا التنسيق بهدف تخفيف المقاطعة التي بدأت المصانع الدانمركية تعاني بسببها، وذلك بتوريط عدة دول أوروبية في قضية الإساءة، مما يجعل العالم الإسلامي يقف عاجزاً عن مقاطعة كل هذه الدول دفعة واحدة، وفي الوقت نفسه يصبح لا معنى لاستمرار مقاطعة الدانمرك وحدها.
هذا في المدى القريب، أما في المدى البعيد فإن افتعال ما يشبه «إجماعاً أوروبياً» على الإساءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدر ما يكسر شوكة الوجود الإسلامي في أوروبا بقدر ما يشكل حاجز صد يحول دون مزيد من التمدد العقائدي الإسلامي بين المواطنين في أوروبا والذي بدأ يثير قلق الكثير من دوائر الأمن القومي دون قدرة على وقفه» جريدة (المصريون) 2/2/2006.
ويظهر ذلك أيضاً في محاولة رأب الصدع الاقتصادي الذي أصاب الدانمرك جراء مقاطعة معظم الشعوب الإسلامية لمنتجاتها، ويؤيد ذلك: ما ذُكر من أن مطاعم كنتاكي وماكدونالدز وهارديز وبرجر كنج وبيتزا هت قرروا شراء المنتجات الدنمركية لتعويض الخسائر الدانمركية، وما ذكر من أن بعض الأفكار كانت تتداولها الإدارة الأمريكية؛ لإنقاذ المنتجات الدانمركية وإفشال المقاطعة، من أهمها: إلزام صناديق المساعدات الأممية باعتماد المنتجات الدانمركية، وتعويض الدانمرك عن خسائرها الناتجة عن المقاطعة إن لم تفِ الصناديق الأممية بالغرض، عبر إلزام متعهدي تمويل الجيوش الأمريكية وحلفائها في الخارج باعتماد البضائع الدانمركية أولاً.
رابعاً: كما أن الأزمة فضحت دعاوى الطابور الخامس الذي يعيش بيننا، والذي كان يروج زوراً أن الغرب تخلى عن تعصبه وكراهيته لنا، وأنه ارتقى في أسلوب حل خلافاته فأصبح (الحوار) هو الأسلوب المعتمد عنده، والذي كان يتغنى بقيم الغرب ويدعو لها زاعماً أنها لا تتعارض مع جوهر الإسلام، فها هو الغرب يضيف إلى (اعتماده) القوة سبيلاً لحل خلافاته معنا وفرض رؤيته الحضارية علينا.. يضيف عدم احترامه لديننا وهدره لمقدساتنا.
وأظهرت هذه الأزمة أيضاً خطورة الطابور السادس أو السابع (سمه ما شئت) الذي يعيش بيننا، وأعني به الكفار والمشركين الذين جاؤوا باسم العمل والارتزاق وحملوا معهم حقدهم ووثنيتهم وكفرهم وقذارتهم الأخلاقية ليبثوها في مجتمعاتنا متى ما استطاعوا، فقد كان ملفتاً للنظر ما قامت به مدرِّسة أمريكية بإحدى الجامعات في دولة الإمارات ـ وأيدها المشرف عليها من بني جلدتها ـ من عرض الرسوم المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- في قاعة الدرس، مبررة عملها هذا بأنه يندرج في إطار حرية الرأي والتعبير.. ولا أدري ما الذي يحمل مدرِّسة لغة إنجليزية على إقحام نفسها في قضية لا تتعلق بعملها وليست طرفاً فيها وتعلم أنها تمس مشاعر من تخاطبهم، إلا أن يكون دافعها هو الحقد والتعصب الأعمى الذي لم تستطع كبته أو التجمل بإخفائه، وإلا أنها تحس بالأمن من عقوبة تنالها إذا فعلت هذه الجريمة (الحضارية) باساءة الأدب مع رسول من تخاطبهم.
وفي الإمارات أيضاً ومع بدء حملة مقاطعة البضائع الدانمركية، قامت العمالة الآسيوية ـ ومعظمها هندوس ـ التي تدير كثيراً من محلات السوبر ماركت بتكثيف عرض المنتجات الدانمركية والتقليل من المنتجات المحلية وغير الدانمركية البديلة، مما يجبر المشترين على شراء المنتج الدانمركي؛ لأنه المنتج الأكثر وفرة؛ وذلك بقصد تصريف المنتج الدانمركي بسبب هبوط سعره عند الوكيل، وهذه التصرفات أعدها منطقية ومتوقعة إذا استحضرنا تلقائية (الولاء والبراء) لدى كل إنسان.
خامساً: ملحوظات حول ردود أفعالنا وكيفية تفاعلنا مع الأزمة وإدارتها:
كثرت جرائم الغرب تجاه العالم الإسلامي، أو قل: كبر وعي المسلمين وإحساسهم بهذه الجرائم، مما يرشح الأمور لوقوع مزيد من (الفلتات) ، ومزيد من التصعيد، ومزيد من (المواجهات) .. ومن خلال متابعة الأحداث وتحليلها نستطيع استخلاص هذه الملحوظات:
الملحوظة الأولى: ضرورة استغلال واستثمار هذه (الفلتات) في واقع العمل الإسلامي من غير تكلف، مثل: تعميق محبة الله ورسوله، تعميق مفهوم الولاء والبراء، إظهار مأزق العلمانيين والتغريبيين، إيضاح عداء الغرب للإسلام نفسه، إظهار وفضح بعض الأنظمة المعادية للإسلام، إظهار حقيقة الدعوة إلى الحوار بين الأديان والحضارات، التدرب على توحيد الصفوف ومحاولة القيام بعمل مشترك منظم ومؤثر..
وداخل أوروبا، مثل: وضع الشعوب الغربية أمام حقيقة مبادئهم التي يتغنون بها وتذكيرهم بمواقفهم التي لا تتفق مع هذه المبادئ (حرية التعبير ـ حقوق الإنسان ـ التسامح مع الديانات والحضارات الأخرى) ، تعريفهم بحقيقة الإسلام، الإجابة على التساؤلات الكبرى التي تشغلهم من منطلق إسلامي..
ولا يكون ذلك إلا من خلال وضع تصور مسبق لاحتمالات الأحداث، وطرق ـ أو خطط ـ معالجتها أو مواجهتها، والوسائل والأساليب الأنجع للتعامل معها، والإمكانات المطلوبة ...
الملحوظة الثانية: باستقراء تسلسل الأحداث الأخيرة يتضح أن هناك استفزازاً متعمداً لإثارة المسلمين، ولكن رد فعل المسلمين جاء متأخراً عن الحدث الأصلي ـ رغم أنه جاء قويّاً ومؤثراً ـ وهذا التأخر يضع علامات استفهام حول ما إذا كانت هناك أهداف من وراء الإثارة في مثل هذا الوقت بالذات، كما أنه يضع علامات استفهام على آلية وكيفية إحساس المسلمين بمآسيهم، وكيفية وتوقيت التصرف المناسب من غير انجرار لما يضر بأمتنا أو الوقوع فيما يحيكه لنا أعداؤنا؛ فهل من المناسب أن يشكل في كل بلد ما يشبه المرقب لمتابعة أحوال الإسلام والمسلمين وإنذار قومهم عند الإحساس بالخطر؟ وإذا كان ذلك مهمّاً فيمكن الاتفاق على جهة (أهلية) محددة موثوق بها يناط بها تلقي هذه التقارير ونشرها، أو على الأقل إنشاء موقع على الشبكة العالمية، يستطيع فيه المراقبون ـ مع الأخذ في الاعتبار احتياطات الأمان الإلكتروني ـ وضع هذه التقارير ليطلع عليها المسلمون، وتلقي التحليلات والاقتراحات لهذه التقارير.
الملحوظة الثالثة: استخدم الغرب في مواجهة حملة المقاطعة التي انتشرت في العالم الإسلامي أكثر من تكتيك لإفشال المقاطعة أو إضعافها على الأقل، وأهم هذه التكتيكات: تشتيت هدف الخصم (توسعة الخرق على الراقع) أو (تفريق الدم بين القبائل) ، تفتيت القوة المضادة، امتصاص الغضب، تبادل الأدوار، استغلال عامل الوقت، تكتيك مصارع الثيران، ازدواجية الخطاب الإعلامي، الإشباع النفسي للخصم ... وبجانب جهوده وإمكاناته استغل الغرب الثغرات المنتشرة فينا لإنجاح هذه التكتيكات، ونستطيع ضرب الأمثلة على ذلك:
3 تكتيك (توسعة الخرق على الراقع) أو (تفريق الدم بين القبائل) : فإنه عندما أثارت الرسوم الكاريكاتيرية للنبي -صلى الله عليه وسلم- استهجاناً واسعاً في العالم الإسلامي، فإن صحفاً أوروبية تنتمي لأكثر من دولة أعادت نشر الرسوم نفسها بدعوى حرية التعبير وإطلاع القراء على حقيقة الحدث الذي أثار المسلمين (لاحظ أنه لم تنشرها أي صحيفة أخرى في الدانمرك نفسها) .
وبذريعة (حاكي الكفر ليس بكافر) أعادت بعض الصحف في البلدان العربية والإسلامية نشر بعض الرسوم أو كلها، كما أظهرت بعض المواقع الإسلامية الرسوم أو أشارت إلى صلات تُبرزها.
فواضح أن الهدف من ذلك كان استنساخ سبب المقاطعة نفسه في أكثر من مكان، وإشهار ذلك، وعندها إما أن يندفع المسلمون إلى إعلان مقاطعة جميع هذه الدول أيضاً؛ لاتحاد السبب، وهذا مما يصعب عليهم القيام به والاستمرار فيه فتخور عزيمتهم عن المقاطعة جميعها.. وإما أن تسقط مصداقية السبب نفسه عندما لا يطَّرد السلوك المبني عليه في جميع الأحوال.
وإذا كان موقف الصحف الغربية مفهوماً ـ خاصة في ضوء التقارير التي أشرت إليها سابقاً من وجود أصابع مخابراتية في الموضوع ـ فإن موقف الصحف التي تصدر في البلاد العربية والإسلامية كان أشد وقعاً وأكثر إيلاماً، ليس فقط لأنها طعنة من الخلف غير منتظرة ممن يعلنون انتماءهم لهذا الدين، وليس فقط لأنه عضَّد وساهم في نجاح هذا التكتيك، ولكن لأنه استخدم أيضاً من قِبَل وسائل إعلام غربية لإظهار أن الضجة بشأن الرسوم مبالغ فيها؛ لأن الصحف العربية نفسها أعادت نشرها.
وفي هذا السياق ينبغي الإشارة إلى أن بعض المصلحين يمكن أن يسهم في ذلك بحسن نية! ويتمثل ذلك في محاولة استغلال الحدث في إصلاح المسلمين وحل جميع مشكلاتهم دفعة واحدة، أو خلط المشكلات وتشابكها مع بعضها (الإعلام الفاسد والفن الهابط، وترك سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهديه، و.. مئة وسيلة لنصرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ... ) ، وبالطبع فإن من يرى أو يسمع ذلك يفهم أنه لا بد من تغيير حياته كلها، وقد يكون هذا حقاً ومطلوباً، ولكنه غير مؤهل له الآن، فلا يقوم من الوسائل المئة بوسيلة واحدة ـ أو يكاد ـ وتكون النتيجة أنه ينصرف عن النصرة لأنه ـ بهذا الشكل ـ غير مستعد لها.
بل إن بعض المتعاطين مع الأزمة اقترح حلاً لها بأن تتبنَّى الحكومات العربية والأمم المتحدة موقفاً يهدئ من مشاعر المسلمين، وهو: إلزام العدو الصهيوني بالانسحاب الفوري من القدس وتطبيق الفقرة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة التي تقضي بفرض عقوبات سياسية عليها في حال رفضها القرار!
ومثل هؤلاء كمن يريد إسقاط مئة عصفور على شجرة بطلقة واحدة فتكون النتيجة أن تطير العصافير كلها ولا يستطيع أن يسقط عصفوراً واحداً.
فضعف التركيز وافتقاد نَظْم الأهداف المرحلية مع الأهداف الاستراتيجية و (الاستجابة للتداعي) ، يساعد على تحقيق المخطط الغربي بتشتيت التركيز، وهذا يختلف عن البحث عن الجذور والربط بين الظواهر لاستخلاص النتائج والحلول لمشكلة ما.
3 كما ظهرت بعض محاولات لاستخدام تكتيك (مصارع الثيران) ، وهذا التكتيك يهدف إلى ترويض الخصم بأقل قدر من الجهد والمخاطرة، وهو يقوم على محاولة إشغال الطرف الآخر بمثيرات أخرى جانبية، وتوجيهه وجهة ـ أو وجهات ـ معينة بحيث يفقد تركيزه وينصرف عن هدفه، ويظهر هذا التكتيك هنا بمحاولة إشغال الرأي العام بقضايا مثيرة أو حساسة أخرى، لتشتيت تركيزها المنصب في قضية موحدة، وصرف انتباهها إلى قضايا أخرى هامشية ومؤقتة.. وعلى سبيل المثال: فقد نشرت صحيفة (ذي جارديان) البريطانية أوائل شهر فبراير (أي: في ذروة الغضب الشعبي الإسلامي) صورة سمكة من نوع أوسكار تحمل على حراشفها لفظ الجلالة (الله) واسم الرسول -صلى الله عليه وسلم- (محمد) ، وبالطبع فإن الصحيفة البريطانية لا تؤمن بالله ولا بالرسول، ولكنها تلقي الطعم ليتلقفه السذج والبسطاء ـ أو المغرضون! ـ ويتخذوا من الخبر دليلاً على صحة إيمانهم، ثم يعملوا على نشره (تعاوناً على الخير) ، فينشغل الرأي العام به، مما يفقدهم تركيزهم في القضية التي كانوا يهتمون بها، فتضعف طاقتهم ...
وهذا الأسلوب نفسه استخدم مراراً قبل ذلك، وإذا كان القارئ ذا ذاكرة قوية فإنه يمكن أن يستدعي قصة البنت العُمانية التي (سُخطت) بعد تحديها أمها في المعصية.. فقد راجت تلك القصة بعد ضجة تدنيس المصحف في غوانتنامو وظهور فضائح التعذيب في (أبو غريب) .
3 أما تكتيك تفتيت القوة المضادة فيظهر في محاولة اللعب على المذهبيات والطائفيات والعرقيات، كما يمكن أن يندرج تحته محاولة الساسة الغربيين والإعلام الغربي استغلال حوادث الحرق والتخريب والعنف التي صدرت من بعض المحتجين، إذ إنه بجانب استغلاله لهذه الأحداث دليل إضافي يقدمه لجمهوره على وحشية المسلمين وتخلفهم وتعطشهم للعنف ومهاجمة (المسالمين) ، فقد حاول بتضخيمها حرف القضية عن أصلها، لتتحول إلى قضية (عنف وتخريب وإرهاب) يرفضها كثير من المشاركين في الاحتجاجات، أو يخشون من عواقبها، مما يدفعهم إلى غلق أبوابهم عليهم، والاكتفاء بـ (اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين) .
كما أن نشر الرسوم في أكثر من صحيفة يهدف أيضاً إلى تفتيت قوة المقاطعة الاقتصادية الشعبية للدانمرك؛ لأنه بعد النشر في بلاد مختلفة وعدم استطاعة مقاطعة كل هذه البلاد، فسيكتفي كل فريق بمقاطعة بلد ما، وعندها يخف الضغط الواقع على البلد الأصلي.
3 أما تكتيك ازدواجية الخطاب الإعلامي، فإنه يهدف إلى ترويض الخصم بأقل قدر من التنازلات، ومما يساعد في تحقيق آثاره عاملان: العامل الأول: عدم معرفة الخصم المستهدف إلا بالخطاب الموجه له فقط، العامل الثاني: جهل هذا الخصم يدلالة مفردات الخطاب الموجه له بدقة؛ فقد وضح في هذه الأزمة التلاعب الإعلامي وعدم انتباه معظم المهتمين (وسط الفوضى والغوغائية) لفروق الألفاظ (كالفرق بين الأسف والاعتذار، وبين الاعتذار عن الفعل وعن آثار الفعل ونتائجه، وبين سحب السفير واستدعاء السفير ... ) ، ولدلالة عبارات، مثل: (لم نستورد من الدانمرك، يملك أسهمها شركاء وطنيون، يصنع في بلادنا ... ) ، ولضيق المقام نوضح فرقاً واحداً، هو الفرق بين الأسف والاعتذار:
فالأسف يكون عن أي فعل أو قول يُحزِن الإنسان أو يغضبه أو يتحسر عليه، سواء صدر منه أو من غيره، وسواء أكان بقصد أو غير قصد، أما الاعتذار فهو طلب رفع اللوم والذنب، فالاعتذار يتضمن الاعتراف بالخطأ والذنب، ويحمل في طياته المسؤولية عن الفعل أو القول، وهذا قد يترتب عليه عقوبة أو عوض.
أما الإشباع النفسي للخصم، فيتم عن طريق الإدلاء بمعلومات معينة ـ صحيحة أو مغلوطة ـ تساعد على إحساس المقاطعين بنشوة نصر كاذب؛ مما يخمد حماسهم ويوقف استمرارهم؛ لأنهم بلغوا هدفهم و (أثخنوا) في عدوهم.
وكمثال على هذه الأخبار: ما أعلنه سفير الدانمارك بالقاهرة (يان سورنسن) أن حجم الخسائر المترتبة على مقاطعة الدول العربية للمنتجات الدانمركية بلغت 35 مليار يورو، إضافة إلى زيادة نسبة البطالة داخل الدولة، مشيراً إلى أن المصنع الدانمركي الذي أغلق أبوابه بالسعودية مع مقاطعة المنتجات بصفة عامة أدى إلى فقدان 15 ألف وظيفة داخل الدانمارك، وقد تصل إلى 50 ألفاً إذا استمرت المقاطعة لفترات أطول من ذلك.
وخبر غيره يقول: إذا استمرت المقاطعة حتى شهر أغسطس فستصل خسائرهم إلى 39 مليار يورو.
وخبر آخر يقول: شركة آرلا الدانمركية تخسر 1.8 مليون دولار يومياً بسبب المقاطعة.
ومسؤول في شركة ألبان دانمركية يقول: «ما بنيناه خلال 40 عاماً خسرناه خلال أيام» .
وقد ساهم في نشر هذه الأخبار رسائل قصيرة من مصدر مجهول أرسلت إلى الهواتف المحمولة ... و (انشر) !!
الملحوظة الرابعة: وهي عن الخطاب الدعوي في الأزمة، فالملاحظ أن معظم الخطاب الإسلامي كان موجهاً للداخل فقط، مع اتسامه بالعاطفية وعدم التنظيم مما يقلل من جدواه وثمرته.
كما ظهرت الهزيمة النفسية في خطاب بعض (المدافعين) عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أقلها: التستر خلف رفض إهانة (الرموز الدينية) لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
كما حاول بعض المحسوبين على الدعوة إظهار (التعقل) والتحلي بالمناداة بالحكمة (يريدون التهدئة وعدم التهور) ، وإذا كانت الحكمة مطلوبة في كل شيء فيجب أن يستحضر أن الحكمة الحقيقية هي وضع الشيء في نصابه، ونصاب هذا الأمر معروف لدى من له أدنى إلمام بعلم شرعي، ومن نصابه أيضاً: أن للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعفو عَمَّن شتمه وسَبَّهُ في حياته، ولكن ليس لأمته أن تعفو عن هذا الجاني عليه -صلى الله عليه وسلم-.
وهناك خطأ استراتيجي يقع فيه بعض الدعاة في مثل هذه المواقف، وهو إذاعة المقارنة بين الأزمة الراهنة والمصائب الأكبر التي يحيا فيها المسلمون، وإذا كان هذا الكلام يحتمل أن يكون صحيحاً من ناحية التنظير والواقع، إلا أنه قد يكون أحياناً غير موفق من ناحية التحرك الدعوي أو السياسي.
ففي مثل حالتنا فإن نشر مقولة إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهان في أوقات كثيرة بترك هديه والإعراض عن شرعه.. في الوقت الذي يتلظى الناس جمراً مما أصاب نبيهم ويبدون استعدادهم للبذل في سبيل نصرته ... لا يكون موفقاً فيما أحسب.
أعتقد أنه من الضروري على حملة الدعوة تبني قضايا الأمة الحيوية حتى ولو كانت هذه القضايا لاحقة في ترتيب الأولويات أو التتابع المنطقي للعمل الدعوي، ولكن بشرط رد هذه القضايا إلى أصولها وربطها بأصل الإسلام والتوحيد وليس فقط معالجتها معالجة (علمانية) باردة ولو باسم الإسلام، وهذا منهج الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ؛ فقد تقترن الدعوة إلى التوحيد بدعوة إصلاح اقتصادي وعدل اجتماعي: {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85] ، وقد تقترن بدعوة تطهر أخلاقي: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسَأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 160 - 165] .
فأمام السيل الجارف لاهتمامات الأمة نجد من يساير هذا السيل فيستهلك طاقته ويذوب فيه، ونجد من يحاول الوقوف أمامه لإيقافه ومنعه فيغرقه ويهلكه، ولكن يجب أن يوجد أيضاً من يحاول أن يغير مسار هذا السيل إلى الاتجاه الصحيح ويستفيد في الوقت نفسه من قوته الجارفة لكي تكون قوة إيجابية ... وهذا هو التحدي.
أما عن دعوة الخارج: فإنه بغضِّ النظر عن تعصب الشعوب الغربية ضد الإسلام والمسلمين، وبغض النظر عن حقد قادتهم وموجهيهم وعدائهم للإسلام والمسلمين، فإن الواقع والوقائع تثبت دوماً أن عموم الشعوب الغربية ـ ولا أتحدث عن قياداتهم التي تسوقهم ـ تعيش حالة من الجهل المركب عن الإسلام والمسلمين، وهذا ما أثبتته هذه الأزمة؛ فقد ذكر المسؤول عن الرسوم الكاريكاتيرية أن معلوماته عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قليلة، وبتتبع انطباعات الشعب الدانمركي تبين أنهم فوجئوا ـ بعد الأحداث ـ بأن المسلمين يصل تعدادهم لأكثر من مليار نفس.
وبالطبع فإن ذلك نتيجة أن معلوماتهم (القليلة) استقوها من مستشرقين معظمهم مغرضون أو من رجال دين نصارى متعصبين ومنتفعين، مقالات وكتب ودراسات وقصص وروايات ونصوص مدرسية ومناهج تعليمية وكتابات ساقطة.. كلها تعمل على تشويه صورة العرب والمسلمين في عيون الرأي العام الغربي، وكلها تعمل على تعمية بصيرة الغرب وتجهيله عن الاطلاع بوضوح على الإسلام وحضارة العرب والمسلمين، وكلها تصر جاهدة على استمرار تفريخ صورة الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، وأيضاً نتيجة تقصير المسلمين في إيصال الدعوة الإسلامية بشكل يتناسب مع حجم المسؤولية.
وفي الأزمة الراهنة يزيد الوضع سوءاً ما أشيع عن أن رئيس تحرير كل من صحيفة يولاند بوستن الدانمركية ومغازينات النرويجية اللتين نشرتا الصور المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- هما من أعضاء المؤتمر اليهودي العالمي وممولي ومصدري معلومات قسم الدراسات والأبحاث في مركز سايمون فيزنتال اليهودي، الذي يهدد مصالح العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم بحجة دفاعه عن السامية؛ فالأصابع الصهيونية ـ التي لا تريد خيراً لمسلمين ولا لنصارى ـ غير مستبعدة من هذه القضية، والصحيفة الدانمركية لا تخفي توجهها الصهيوني، بل تضع نجمة داوود شعاراً لها على اسمها في الإصدارات المطبوعة وعلى اختصار رابطها الموصل لموقعها على الشبكة العالمية، ويعضد ذلك أن المسؤول عن نشر الرسوم المسيئة فيها عندما صرح باستعداده لنشر مسابقة أعلنت عنها صحيفة إيرانية حول رسوم تتناول محرقة الهولوكست.. لم يتوان مسؤولو الصحيفة عن إعطائه (إجازة إجبارية) غير محددة المدة.
إننا في زحمة التدافع وسخونة الصراع يجب ألا ننسى أننا أصحاب دعوة إلى دين الله الحق، وأن مهمتنا ـ مع بسط سلطان الله في الأرض ـ استنقاذ البشر من أن تجتالهم الشياطين وتختم لهم بالموت على الشرك بالله والكفر بدينه، وأن القوى الصهيونية والصليبية يهمها الحيلولة بين الشعوب ودين الله الحق ... وكل ذلك يوجب علينا ـ بجانب الانتصار لنبينا ـ بذل أقصى جهد للدعوة إلى دين الله، بل إن ذلك من أكبر صور الانتصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الملحوظة الخامسة: لا يستطيع أي عاقل إنكار أن التحرك الشعبي انطوى على إيجابيات عديدة: فقد اتحد الجميع على الوقوف ضد إهانة نبيهم، وهذا لم يحدث مثله منذ وقت طويل، حتى نستطيع القول: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قاد المسلمين من جديد، وعلَّم العالم ـ وخاصة الغرب ـ معرفة مدى المكانة التي ما زال يحظى بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قلوب المسلمين رغم الجهود الدؤوبة لإبعادهم عن دينهم، وكذلك اهتم العالم بشخصيته -صلى الله عليه وسلم- وأصبحت قضية الساعة، وقد ينتج عن ذلك أن يصل بعض الباحثين عن الحقيقة إليها ويدرك ظلم الإعلام الغربي المتصهين، وقد كان رد الفعل الشعبي في عموم الدول العربية والإسلامية شديداً لدرجة أحرجت معظم حكومات تلك الدول وأخرجتها عن صمتها على الرسوم، ودفعتها للتنديد باستهداف شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- والإسلام، لامتصاص الغضب الشعبي، أو لحين التشاور مع القيادات الغربية لإيجاد الحلول والخروج من المأزق الذي أوقعهم به السلوك الغربي الفج.
ورغم كل ذلك نستطيع القول: إن تعامل عوام المسلمين مع الأزمة اتسم بالتوهج العاطفي في الشعور، واختلاط الوعي الإيجابي بالوعي الزائف عند كثير منهم، والارتجالية أو الفوضوية في السلوك، بالإضافة إلى الحياة بإسلام الفضلة في الإرادة والتضحية عند بعضهم.
وهنا يجب أن ندرك أن أعداءنا يعوِّلون على استغلال السلبيات الكامنة فينا لإفشال جهودنا نحن وحرماننا من ثمراتها.
ومركوز في أذهان أعدائنا أننا شعوب عاطفية هوجاء تشتعل بسرعة وتنطفئ بسرعة ولا يحركها المبدأ والفكرة، وأنها قصيرة النَّفَس لا تستطيع الاستمرار أو الصمود مدة طويلة، فوضوية لا تعرف كيف تحقق هدفها، وهذا فيه قدر من الصحة، وتعالوا نراجع: افتتاح نفق الأقصى وتهديده بالهدم، ودعم المجاهدين في فلسطين، والموقف من العراق، وقبلها الشيشان وأفغانستان وكوسوفا، وموقفنا من كارثة تسونامي، وزلزال كشمير، إهانة الجنود الأمريكان للمصحف في غوانتنامو والعراق.. وكلها أزمات تحمسنا للمشاركة فيها بصورة من الصور، ثم خمدت الهمم رغم استمرار هذه الأزمات وحاجة المسلمين فيها للدعم والمؤازرة.
فمعظم هذه الأزمات تعاطفت معها الجماهير وقامت بمظاهرات صاخبة وأعلنت المقاطعة للمعتدين، ولأن دافع هذا السلوك كان هو العاطفة فإنه بعد انطفاء توهجها ـ خاصة مع وجود إعلام يحترف التضليل والتزييف ـ خمدت مظاهر الاحتجاج انتهت المقاطعة بدون تحقيق هدفها ـ إن كان لها هدف ـ ولكن لو تحركت الجماهير من أجل فكرة ومبدأ لظلت على سلوكها حتى يتحقق لها ما تريد، بل يمكن القول: إن أحد أسباب إقدام الغرب على إهانتنا وظلمنا هو معرفته بهذه الصفات فينا.
سادساً: تساؤلات شرعية في خضم الأزمة:
سأتجاوز هنا عرض عقوبة المستهزئ بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذه العقوبة يعرفها من له أدنى إلمام بالعلم الشرعي ـ كما سبق أن ذكرت ـ كما سأتجاوز أيضاً الاعتراض على أصل مشروعية المقاطعة؛ إذ أراه اعتراضاً بارداً؛ فالحصار أشد من المقاطعة، وقد كان شائعاً ومعروفاً شرعيته، كما أن المقاطعة تدخل تحت باب وسائل إنكار المنكر، ولمزيد من الإيضاح يمكن الرجوع إلى تفسير قوله ـ تعالى ـ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] وأمثالها من الآيات ... ولكني سأستعرض هنا بعض التساؤلات الشائكة بالفعل والتي تحتاج إلى وقفات وبحث متعمق ومتأنٍ من هيئة شرعية أو أكثر من عالم متخصص يحيطون بعلم الشريعة وعلم الواقع، وإذا كنت أعتقد أني لست أحد هؤلاء فإني سأعرض ما يدور في أذهان بعض الناس من أفكار وأدلة و (وجهات نظر) أو تساؤلات شرعية لها وجاهتها، ولكن قبل هذا العرض أحب أن أذكّر بأن حقيقة إسلامنا تقتضي أن نستسلم جميعاً لأوامر الله ـ عز وجل ـ أياً كانت، وألا نقدم بين يدي الله ورسوله، بمعنى ألا ننساق خلف عواطفنا أو (أهوائنا) وألا نضع نتيجة نرغب فيها ونبحث لها عن مقدمات تؤدي إليها، وهذا ما أظن أننا جميعاً متفقون عليه، أما التساؤلات فهي كما يأتي:
التساؤل الأول: إذا علمنا عقوبة المستهزئ بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهل هناك فرق بين حالة الاستضعاف وحالة التمكين في كيفية الرد على المستهزئ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإيذائه؟ لقد ذكر القرآن سخرية المكذبين ببعض الرسل كما في قوله ـ تعالى ـ عن قوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] ، وذكر استهزاء المشركين برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95] ، ومع ذلك لم يَسْعَ رسول الله إلى عقوبة المستهزئين من كفار قريش؛ فهل كان ذلك لأن هذه العقوبة لم تكن مشروعة بعد، أم لعدم التمكن من إيقاعها بسبب حالة الاستضعاف التي كان يعيشها المسلمون؟ إن دعوى نسخ الآية بآية السيف التي كثيراً ما يذكرها بعض المتحمسين نقلاً عن بعض العلماء لا تصمد أمام التدقيق العلمي، حيث لا تنطبق شروط النسخ على الآيتين (آية السيف وآية الإعراض) ، ولذا يرى بعض العلماء أن حال المسلم في النصرة يختلف من مكان إلى مكان ومن زمن إلى آخر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وصارت تلك الآيات (آيات الصفح والعفو والصبر على الأذى) في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصَّغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله وعلى عهده خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام؛ فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» (الصارم المسلول، جـ2، ص414) ، فما مدى انطباق ذلك على حالتنا؟
التساؤل الثاني: هل المقاطعة ـ أو أي عقوبة جماعية أخرى في حالتنا ـ يعد أخذ أناس بجريرة غيرهم سواء في الداخل (التجار والعاملين المتضررين) ، أو الخارج؟ المعروف أن الأصل في دين الله عدم أخذ البلاد والنَّاس أجمعين بجريمة واحدٍ منهم إذا لم بتواطؤوا على تأييدها أو المشاركة فيها، فقد قال الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، {وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] ، وهل (في مثل الحالة التي نحن بصددها) امتدت عقوبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن الأشرف ـ الذي آذى الله ورسوله ـ إلى جميع قومه وكل من استمع شعره وحضر مجالسه التي نال فيها من الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ إن العدل يجب أن يكون حادينا في جميع الأحوال حتى ولو كان شاقاً على نفوسنا: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] ، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء: 33] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
وهل تغيُّر الملابسات والظروف الحالية يوجب إيجاد فقه جديد وفتوى جديدة في المسألة؟ ومن المخوَّل بإصدار مثل هذه الفتوى؟
يحتج بعض الناس هنا بأن استطلاعات الرأي أوضحت أن غالبية الشعب الدانمركي تؤيد عدم اعتذار الصحيفة عن فعلتها وتؤيد موقف رئيس الحكومة في ذلك، ويرد آخرون بأن ذلك الاستطلاع جرى بعد أكثر من شهر من المقاطعة، أي لم يكن المقاطعون يعرفون كيف يبنون مقاطعتهم على هذا الأساس، كما أنه يمكن القول إن ذلك لا يعني الموافقة على الفعل نفسه، ولكنه من قبيل تأييد حق الآخر في إبداء رأيه سواء أكان موافقاً له أو مخالفاً له، «يمتد العداء في هذه القضية إلى أطراف ومستويات عديدة، لا ريب أن معظمها يفكر في الأصل بطريقة مشابهة لما يفكر به الرسام والصحيفة، ولكن لا ريب أيضاً أن الرد لا ينبغي أن يستهدف من يفكر بل من يتصرف ويسيء؛ فهذا ما يساعد على امتناع أصحاب التفكير المشابه عن «التصرف والإساءة» . (نبيل شبيب ـ الإساءة لمقام النبوة بين الجماهير والنخب ـ موقع الجزيرة نت) .
سابعاً: حول المقاطعة، واقتراحات لجعلها أقل فوضوية وارتجالية وأكثر فاعلية:
تعد المقاطعة الاقتصادية أحد أساليب المقاومة السلمية الفعالة والمؤثرة إذا أُحسن استخدامها، ولكن يجب أن ندرك أنها ليست الأسلوب الوحيد للمقاومة، كما أنها قد لا تكون سلاحاً فعالاً لمواجهة هذه الجرائم والحد منها أو الرد عليها في بعض الظروف والأحوال؛ فقد تصلح المقاطعة في بلد وتكون دون جدوى في بلد آخر، وذلك حسب حجم التعامل الاقتصادي بين البلد المقاطِع والمقاطَع، وعند عدم جدوى المقاطعة يجب التفكير في وسائل تأثير أخرى بحسب ظروف كل بلد (مظاهرات، اعتصامات، احتجاجات....) .
ولكن التساؤلات التي تفرض نفسها، هي: ما مصير المقاطعات السابقة؟ وهل حققت أهدافها؟ ومتى توقفت؟ وهل توقفت بقرار منا وإرادتنا؟ وما السبيل لجعل المقاطعة أكثر فاعلية وأشد إيلاماً؟
وبغضِّ النظر عما حدث من محاولة الدول الأوروبية فتح عدة جبهات في آن واحد على المقاطعين والمحتجين، فإن الواقع يقول إن التداخل السياسي والاقتصادي بل والإداري آخذ في النمو بين هذه الدول، فأوروبا تتجه منذ فترة للتحول إلى (الولايات المتحدة الأوروبية) ، بحيث سيصعب في أحيان كثيرة تحديد منتج معين موسوم بعبارة (Made in ---) من الدول الأوروبية، أو فصل دولة معينة واتخاذ إجراء معين يمسها هي بالذات بحيث لا يتداخل مع دول أخرى؛ ففي هذه الحالة سنحتاج بشكل أكبر إلى تنظيم المقاطعة وحسن إدارتها لتكون ممكنة وفعالة.
ينبغي أن نلاحظ أولاً أنه إذا افترضنا أن المقاطعة الاقتصادية هي الخيار المناسب في أزمةٍ ما؛ فهذا لا يعني أن المقاطعة هي السلاح المناسب كل مرة؛ فكثرة استخدام المقاطعة مع عدم ترشيدها وتنظيمها سيؤثر مستقبلاً على فاعليتها وقوتها وتأثيرها، لذا لا ينبغي أن نرمى به في كل معركة وحالة دون النظر في مناسبته، وكيفية استخدامه، والوسائل التي تضمن فعالية نتائج هذا الاستخدام، وعدم الخروج من ذلك بنتائج عكسية ... «إن كل تحرك جماهيري يصنعه الوجدان الحي في الأمة لا يؤدي مفعوله على الوجه الأمثل، إلا إذا توافرت من ورائه عناصر التوجيه والتخطيط والتنظيم، وهذا بالذات ما افتقدته مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية، وتفتقده الآن مقاطعة البضائع الدانماركية» (نبيل شبيب ـ مصدر سابق) .
وهذه بعض الخطوط التي أتصور أنها تساعد على إنجاح المقاطعة الاقتصادية باعتبارها إحدى وسائل المقاومة:
1 ـ تحديد حجم التعدي وقدر العقوبة التي يستحقها والوسيلة المناسبة للرد عليه والتعامل معه.
2 ـ أن تكون هناك جهة أو جهات يسترشد بها أو ينسق معها في خطوات المواجهة، ويمكن الاسترشاد في ذلك بما ذكر في الملحوظة الخامسة من (ثانياً) .
3 ـ تحديد أهداف للمقاطعة، وتتحدد الأهداف بحسب نوع وحجم الاعتداء (فقد تكون بانسحاب قوات، أو تقديم اعتذار، أو إلغاء توكيلات، أو محاكمة أشخاص، أو استرداد مظلومين، أو نشر تعريف صحيح من قِبَلنا بالإسلام والرسول ... ) ، بحيث تظل هذه المقاطعة مستمرة حتى تتحقق هذه الأهداف، وإذا تحققت هذه الأهداف تلغى المقاطعة، أو تحديد مدى زمني معروف تتحقق فيه الأهداف المحددة أو معظمها، وأهمية هذا التحديد تكمن في ألا يكون قصر النَّفَس أو الإيقاع في الحرج العملي لبعض الفئات مدعاة لإضعاف سلاح المقاطعة وجعله بلا جدوى أو ضعيف التأثير بعد ذلك.
وتحديد الهدف سيجعلنا أقرب إلى معرفة الممكن وغير الممكن، حتى لا نسعى إلى مستحيل أو صعب لا يتناسب بذل الجهد فيه مع الثمرة المتوقعة من ورائه، فلا يتحقق هدفنا ويؤثر على معنوياتنا.
وعلى سبيل المثال، ففي الأزمة الحالية طالب كثيرون باعتذار رئيس الحكومة الدانمركية عن النشر، أو محاكمة من نشر هذه الرسوم، وبغض النظر عن التحفظ في كون هذا الاعتذار هو الهدف المطلوب أم لا، ويكفي للرد على هذه الجريمة أم لا يكفي، فإننا إذا فهمنا طبيعة هذا المجتمع يتضح لنا أن هذا المطلب غير منطقي، وذلك من عدة نواحٍ:
أولاً: يجب أن نضع في اعتبارنا أن القوم يكفرون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الحقيقة بالله وبجميع الرسل، وليس من المنطقي أن نطالبهم بمقتضيات الإيمان به قبل حدوث هذا الإيمان، أي: ليس لنا الطلب منهم بمعاقبة من يستهزئ برسول لا يؤمنون به وخاصة أن ذلك ليس مجَرّماً في منطق عدالتهم، ولكننا في الوقت نفسه يجب أن نحقق نحن مقتضيات الإيمان به في أن ننتصر له ونذب عنه، وهنا ينبغي ملاحظة الفرق بين تناول شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ناحية فكرية أو عقائدية التي قد تقبل مجادلة ودعوة، وبين النيل منه بالسخرية والاستهزاء التي ليس لها إلا العقوبة والتأديب.
وهذا يجعلنا نعرف ما الذي نفعله وما الذي نطالب به؟
ثانياً: يجب أن نعرف طريقة حكم هذه البلاد القائمة على الفصل بين السلطات؛ فالصحافة والإعلام سلطة منفصلة عن الحكومة، ولا سيطرة للأخيرة عليها إلا في ضوء القانون؛ فهي لا تنشر ما تنشر بموافقة الحكومة أو إذنها، والحكومة لا تستطيع محاسبتها على ما تنشره؛ فمطالبة الحكومة بالاعتذار مطالبة بمحال وغير عادلة من وجهة نظرهم، ونستطيع فهم ذلك من طرح سؤال: (من المسؤول عن المشكلة حتى يعتذر عنها؟) . إن مطالبتنا لرئيس الحكومة بالاعتذار تقع عليهم كمن يطالب وزير الأوقاف عندنا بالاعتذار عن خطأ وزير البترول! وهذا لا يعني أنهم لا يضمرون ما نشرته الصحيفة، ولكن هذه مسألة أخرى.. وفي ضوء ذلك نفهم أن رفض شريحة استطلاع الرأي لاعتذار رئيس الحكومة كان منطقيّاً، ونفهم لماذا كانت نسبة من يرفض اعتذار رئيس الحكومة أعلى من نسبة من يرفض اعتذار الجريدة.
ومن ثم: تكون مطالبتنا نحن بذلك وجعله هدفاً نسعى إلى تحقيقه نوعاً من العبث.
ثالثاً: كما أن الاحتجاج بإمكانية محاكمة من يعادي السامية أو يشكك في الهولوكست لا يصلح أيضاً من وجهة نظرهم؛ لأن هذه المحاكمات تعقد بناء على قانون عندهم يجرم هذه المعاداة وهذا التشكيك، ولا يوجد قانون آخر يجرم السخرية من الأنبياء (هكذا كفرهم!) ، ولا جريمة إلا بنص (قانون) كما هو معروف عند الحقوقيين، ولذلك قال بعض الحقوقيين: إن المدخل الصحيح لهم هو اعتبارها جريمة إنسانية (تتعلق بحقوق الإنسان) وسياسية، وليست قانونية.
4 ـ تحديد الشريحة الموجهة لها المقاطعة والتي يكون لها صلة منطقية بمقترف التعدي أو لها تأثير محسوس في إزالة التعدي، وتحديد العدو المستهدف تحديداً دقيقاً.
«فالفارق كبير على سبيل المثال بين اختيار منتجات معينة، لشركات تساهم إسهاماً مباشراً ـ وليس تحت عنوان تسديد الضرائب لحكومة عدوانية وما شابه ذلك ـ في العدوان على المسلمين والإساءة إلى مقام رسولهم الكريم، وبين تعميم المقاطعة على كل منتج وكل شركة تحمل الاسم الأميركي أو الآن الدانماركي.
الصيغة الأولى: تساهم في تحويل عدو محدد المعالم إلى عدو كبير، وفي تحفيز من لا يتضامن معه في الأصل إلى التضامن «تعصباً» ، والصيغة الثانية: يمكن أن تؤثر من منطلق التفكير في المصالح الذاتية في الامتناع عن المشاركة في العدوان والإساءة، بل ربما في المشاركة في الضغوط على من يمارسهما ليمتنع عن ذلك.
الصيغة الأولى: تسمح بالتواصل مع جهات عديدة في الغرب ممن يسعى لاستعادة مكانة القيم في المجتمع، وممن يرفض ممارسات العدوان والإساءة، للعمل على تحرك مشترك، والصيغة الثانية: تثير لدى هؤلاء التخوف من مثل تلك المشاركة، لا سيما في ظل تعميم خطاب المواجهة والاحتجاجات بما يشملهم ولا يميزهم عن سواهم» (نبيل شبيب ـ مصدر سابق) .
وتحديد الشريحة المستهدفة سيجعلنا نتوخى الحذر في عدم إصابتنا لآخرين قد يكون من الظلم أن ينالهم أثر المقاطعة، وهنا يأتي ذكر الشركات والتجار وأصحاب المصالح المرتبطة بالجهات المقاطعة: حيث لوحظ أنه بجانب العاطفة الصادقة في نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعضهم، فإن الذعر من المقاطعة، والمراوغة في الالتزام بها، وركوب الموجة واستغلال تحصيل الحاصل، والنفاق الاقتصادي.. ظهر من سلوك بعض الشركات والتجار.
ولا شك أن الإحساس بظلم وقع عليهم وعدم القناعة باستحقاقهم لتلك العقوبة التي تأتي على جريمة لم يقترفوها يعد أحد أسباب هذا السلوك، خاصة والبضائع التي سيخسرونها اشتروها قبل حدوث الجريمة، وأنهم لم يشتركوا في هذه الجريمة، ولا يرضون بها.
منطق العدالة يقول: ما دام أن الأمة توجهت جميعها إلى المقاطعة فمن الواجب أن يشارك جميع القادرين في تحمل تبعات هذه المواجهة؛ فالمقاطعة قد لا تعدو عند كثير من (الأفراد) أكثر من (تغيير الصنف) ، ولكنها عند بعض التجار والعاملين تعني خسائر بالملايين أو إغلاق مصادر رزقهم لذنب لم يقترفوه هم، وهذا قد يكون أحد أسباب التحايل والالتفاف على المقاطعة ومحاولة إجهاضها من قِبَل بعض الشركات المحلية.
وإضافة إلى العدالة فإن مساهمة هذه الشركات والتجار في المقاطعة يعد أحد أسباب نجاحها؛ لذا أقترح: مشاركة بعض المسلمين في تحمل تبعات من يتضررون من المقاطعة رغم عدم مشاركتهم في التعدي، مثل المشاركة في تحمل تكلفة البضائع المشتراة قبل المقاطعة (مع تعهد التاجر أو المستورد نفسه بمقاطعته لهذه البضائع فيما بعد ما دامت المقاطعة سارية) ، أو المساعدة في توظيف العاملين في المنشأة إذا كان سيترتب على المقاطعة تضرر منشأتهم أو إغلاقها أو فصلهم من عملهم.. ويمكن إنشاء صندوق لدعم المقاطعة يتم بحصيلته شراء هذه المنتجات وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، أو فتح حسابات للجمعيات الخيرية نفسها لتشتري هي هذه البضائع وتتولى توزيعها بمعرفتها.. وذلك من العدل، إضافة إلى أنه سيقلل من معارضة بعض الشرائح للمقاطعة ويزيد من فاعليتها وواقعيتها.
كما أقترح إنشاء مشروع متجر وطني (الإسلامي) ، يقوم على تشجيع منتجات البلدان الإسلامية والاقتصار عليها، بحيث تكون نسبة المنتج المصنَّع في هذه البلاد لا تقل عن 50%، وألا تحمل هذه المنتجات علامة تجارية لمنشأة رأسمالها لغير المسلمين، وألا يوظف في جميع هياكله الوظيفية غير المسلمين، أي أن يتبنى مقاطعة جميع البلدان غير الإسلامية طوال العام، وهذه الفكرة تحتاج إلى دراسة اقتصادية لوضع معايير نجاح المشروع، وأظن أن فرص نجاحه ليست بالقليلة، كما أن ذلك لا يتعارض مع اتفاقية منظمة التجارة؛ إذ إنها تشترط عدم منع منتج ما (إذا طلب) ، ولا تستطيع إجبار أحد على شراء منتج معين.
5 ـ أن تكون المقاطعة شاملة، بمشاركة جميع المسلمين في المقاطعة بترجمة الدعوات إلى ذلك ونشرها بين أوساط المسلمين غير الناطقين بالعربية في بلادهم، وأن تكون شاملة لجميع الأنشطة والجوانب الاقتصادية والإعلامية وغيرها، وأن تكون شاملة أيضاً للمقاطعة العكسية.
6 ـ العمل بأسلوب الحملات الإعلامية في الترويج للمقاطعة: أي أن تتزامن الدعوة إلى المقاطعة في جميع وسائل الدعاية والإعلام، كالجرائد والمجلات والإذاعة والتلفزيون ـ حتى ولو في صورة إعلانات مدفوعة الأجر ـ وخطب الجمعة والمحاضرات والدروس، والإنترنت (بجميع إمكاناته) .
هذا ما يحضرني، وهذا اجتهادي؛ فما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، أدعو الله أن يغفره لي.(222/9)
عولمة الغضب
د. عبد العزيز كامل
منذ زمن ليس بالطويل، يلحظ من يراقب العلاقة بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني، أن هناك استدراجاً واستغضاباً واستفزازاً متعمداً للمسلمين، يتنامى ويتنوع بصورة مطردة، في شكل غزوات عسكرية، أو حملات ثقافية وإعلامية، أو محاصرات اقتصادية، وأخيراً ... تهجمات دينية. وأصبحنا لا نكاد نرى مكاناً في العالم الإسلامي غير مستهدف بجل أو كل تلك التحديات.
وتتجاوز حملة الاستغضاب والاستدراج لتخرج من النطاق الجغرافي للعالم الإسلامي لتنتقل إلى المسلمين المواطنين أو المستوطنين في أكثر بلدان العالم الغربي بغرض إشعار كل مسلم في العالم أنه تحت المواجهة، بشكل أو بآخر، إما أمنياً أو اقتصادياً أو حضارياً أو عسكرياً أو سياسياً أو ثقافياً..!
من اللافت للنظر أيضاً أن من يستغضبون عموم المسلمين اليوم، ليسوا من أبناء طائفة واحدة من النصارى، حتى يقال إن بينهم وبين المسلمين ثأراً أو قضية، ولكن عداء أولئك يصدر من جميع طوائفهم، بروتستانتية كانت أو كاثوليكية أو أرثوذكسية، مع قدر غير قليل من التعاون الجلي والخفي مع اليهود؛ فهؤلاء جميعاً مع اختلاف بعضهم مع بعض إلى حد أنهم يلعن بعضهم بعضاً، ويكفِّر بعضهم بعضاً؛ إلا أنهم يجتمعون في هذا المسار، مسار التحدي والاستكبار على المسلمين. فمن جرائم البروتستانت المتواترة والمتكاثرة من الأمريكيين والبريطانيين والأستراليين والدانماركيين والنرويجيين، إلى جحود الكاثوليك من الفرنسيين والإيطاليين والأسبان، إلى أحقاد الأرثوذكس من الروس والصرب، إلى تعاون كل هؤلاء وتواطئهم مع حثالات اليهود في الشرق والغرب؛ فالهجمة اليوم عامة، وهي مستأنفة تمثل امتداداً لهجمات استعمارية بروتستانتية وكاثوليكية وأرثوذكسية ويهودية طالت غالب أوطان المسلمين على مدى ما مضى من قرن ونصف. والآن تمتد لتشمل العالم الإسلامي دفعة واحدة لإغضابه دفعة واحدة، ودفعه إلى الارتباك والارتجال.. طمعاً ـ ربما ـ في إحداث (فوضى خلاَّقة) دولية.! ... إنها عولمة من نوع جديد: عولمة للغضب.. تهدف إلى تدويل الغضب الإسلامي بعد إيقاظه!
لقد نجحت عولمة الغضب في صهر العالم الإسلامي كله في بوتقة غضبية واحدة، بعد تلك الجريمة النكراء الشنعاء التي تطاول فيها سفهاء الروم من سكان أوروبا على النبي الكريم المرسل إلينا وإليهم وإلى الناس أجمعين ـ صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ـ فلأول مرة في التاريخ المعاصر، تحدث على مستوى المسلمين (انتفاضة عالمية) تعم كل مكان في الأرض، لتشمل كل نَسَمَة مسلمة تشهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة، ولأول مرة يجري التعامل مع (العالم الإسلامي) على أنه شيء واحد، في مقابل (العالم الغربي) ، فتصدر التصريحات وتلقى البيانات وتوجه الكلمات والوساطات إلى: (العالم الإسلامي) وليس إلى بلد معين أو منظمة معينة أو تجمع إقليمي معين؛ فهل كان هذا مقصوداً..؟! هل أراد هؤلاء أن يكرسوا هذا التقابل المتناقض بين (عالمين) ، ليكون ذلك من الآن فصاعداً لغة التخاطب بين العالم الإسلامي والعالم الغربي؟!
لقد عاش العرب والمسلمون في السنوات الأخيرة وهم يتصورون أن الصراع اختُصر مع أمريكا وحليفتها (إسرائيل) وأن الغرب ليس أمريكا فقط، فإذا هم اليوم (يفاجَؤون) بأن الغرب عالم واحد وموقف واحد، ويناصر بعضه بعضاً {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] فهل نحن بصدد دخول عملي في (عولمة) للصراع مع المسلمين، أو ما يطلقون عليه صراع الحضارات؟! وهل هو تدشين مبكر لملاحم عالمية جديدة لا يعلم مداها إلا الله..؟!
الذين بشروا بـ (صراع الحضارات) يعلمون أن هذا الصراع، هو تاريخ البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل؛ حيث كان جزء كبير منه صراعاً بين الحق والباطل، ولهذا لم يكن صراع الحضارات أو الثقافات أو الأديان شراً كله، بل كان في أحيان كثيرة طريقاً وحيداً، يُكْرَه عليه المؤمنون لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإفاضة البلاغ للعالمين، ودفع شر الأشرار وبأس الكفار بجهاد وجلاد الأخيار {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
والفساد اليوم يهدد الأرض كلها بحماقات الغرب المحادِّ لله ورسله ... فساد في الاعتقاد وفساد في الأخلاق وفساد في الإعلام وفساد في المجتمعات وفساد في الأسر وفساد في العلاقات وفساد في البيئة، ومع هذا يراد (عولمة) كل هذا الفساد بالقوة؛ لأنه يمثل نموذج الحضارة الأخير الذي ينبغي إخضاع كل الحضارات له، ولو أدى ذلك إلى صدامها وصراعها.
أليس هذا ما تؤمن به وتدعو إليه وتسير فيه الصقور والنسور الحاكمة في أمريكا وبريطانيا وأستراليا وفرنسا وإيطاليا ... وأخيراً.. (الدجاج المتوحش) في كل من الدانمرك والنرويج وإسبانيا ... ؟! دعك من الشعوب، في التهائها وغفلاتها، فهي تُستَغَل وتُستغفَل من كبرائها وزعمائها، لتساق إلى أتون مواجهة، قد لا ترضى بها ولا توافقها عليها.
لقد تنامى التحذير من تفجير (صدام الحضارات) بعد الأحداث الأخيرة التي اندلعت في العالم بسبب الرسوم المسيئة، ونحن في حاجة إلى أن نعيد قراءة الأطروحة، أو النظرية المسماة بذلك الاسم، لنتدبر شأننا، وننظر إلى مواضع خطانا، ونحكم بعين البصيرة على هذه النظرية الخطيرة التي احتفى بها الغرب، أهي أسطر في كتاب فكري ... أو تخطيط لانقلاب كوني؟
صراع الحضارات: نظرية أم إستراتيجية؟
صاحب هذه النظرية: (صموئيل هنتنجتون) أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد الأمريكية، وقد صاغ أطروحته لأول مرة في شكل مقالة نشرت في صيف عام 1993 م في دورية (فوريجن أفيرز) ، وكان ذلك بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة التي رأى الغرب بعدها أن عدوه الشيوعي قد توارى، ليبدأ البحث عن عدو جديد، ثم ألَّف هنتنجتون كتاباً في الموضوع ذاته بعنوان (صدام الحضارات ... إعادة صنع النظام العالمي) والعنوان نفسه يشي بأن الأمر ليس مجرد نظرية، بل هو إستراتيجية (عملية) . فقد تضمن أفكاراً هي أقرب إلى الخطط، وفرضيات يراد تحويلها إلى حتميات.
ولْنُعِد التأمل في أهم مرتكزات ومنطلقات ذلك الكتاب/النظرية/الإستراتيجية:
1 ـ الدين هو أهم العوامل التي تميز بين الحضارات، وهو العامل الأهم في صراعات المستقبل.
2 ـ القرارات التي تصدر عن المنظمات الدولية ينبغي أن تخدم مصالح الغرب، ولكنها تقدم في صورة إرادة المجتمع الدولي.
3 ـ المجتمعات الإسلامية لا تحدد هويتها إلا بالإسلام (الأصولي) ، ورفض العلمانية الغربية هو أكبر الحقائق الاجتماعية في بلاد المسلمين طوال القرن العشرين.
4 ـ الكتل الاقتصادية الإقليمية المتنافسة هي صيغة الاقتصاد العالمي في المستقبل.
5 ـ الصراعات العسكرية بين الحضارات الإسلامية والغربية استمرت عدة قرون وسوف تستمر وتزداد في المستقبل، وقد تكون أكثر قساوة.
6 ـ الازدياد السكاني للعالم الإسلامي سيسبب المشاكل لأوروبا بسبب الهجرات المتزايدة صوب الغرب.
7 ـ أطراف العالم الإسلامي هي مناطق صدام بين الإسلام وغيره من الأديان: في الجنوب (جنوب السودان ـ نيجيريا ـ الصومال ـ إريتريا ـ إثيوبيا) في الشمال: (البوسنة ـ كوسوفا ـ ألبانيا «مع الصرب» ـ أرمينيا «مع أذربيجان» ـ روسيا مع «أفغانستان» ـ باكستان «مع الهند» ـ الفلبين «مع الجنوب الإسلامي الفلبيني» ، فحدود العالم الإسلامي حدود دامية.
8 ـ حروب المستقبل ستشهد تحالفاً وتضامناً بين حضارات ضد حضارات.
9 ـ الحضارة الغربية تعيش مرحلة القمة الآن، اقتصادياً وعسكرياً.
10 ـ الغرب سيسيطر على بقية العالم عن طريق المؤسسات الدولية.
ثم يخلص الكاتب إلى توصيات، قال إن على الغرب أن يتبناها لمواجهة صراعات المستقبل. وقد قسم السياسات الموصى بها إلى قسمين:
سياسة على المدى الطويل، وسياسة على المدى القصير.
أما على المدى القصير، فقد قدم التوصيات التالية:
ـ على الغرب أن يسعى إلى تعاون أوثق داخل دول الحضارة الغربية، وخاصة بين دول أوروبا وأمريكا الشمالية.
ـ ضرورة السعي لدمج دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية في المجتمع الغربي واستغلال التقارب الثقافي (الديني) في هذا.
ـ السعي للحفاظ على علاقات تعاونية أوثق بين كل من روسيا واليابان.
ـ منع تطور الصراعات المحلية داخل الحضارة الغربية إلى صراعات كبيرة.
ـ العمل على الحد من توسع القوة العسكرية للدول الإسلامية والكونفوشية (الصين وكوريا وفيتنام واليابان) .
ـ عدم السعي إلى تخفيض القوة العسكرية الغربية، مع أهمية الاحتفاظ بقوة عسكرية في شرق وجنوب آسيا (إندونيسيا ـ باكستان ـ أفغانستان ـ الخليج) .
ـ استغلال الخلافات بين الدول الإسلامية والكنفوشية والهندوسية.
ـ دعم الجماعات المتعاطفة مع القيم والمصالح الغربية (الليبراليين) في دول الحضارات الأخرى.
ـ تقوية دور المؤسسات الدولية التي تعكس مصالح الغرب وقيمه وتمنحها الشرعية.
أما على المدى الطويل، فملخص مقترحات «هنتنجتون» هو: أن على الحضارة الغربية أن تحتفظ بقوتها العسكرية والاقتصادية، وتعمل في الوقت نفسه على مقاومة محاولات الحضارات الأخرى في السعي للحصول على أسباب القوة الاقتصادية والعسكرية، مع أهمية أن تفهم دول الحضارة الغربية المنطلقات الدينية والفلسفية التي تدفع الحضارات نحو مصالحها.
عندما نعيد قراءة أحداث الأعوام القليلة الماضية، وخاصة منذ بدأت الألفية الثالثة، نكاد نرى مجموع أفكار صراع الحضارات في خلفية الأحداث جميعاً، وخاصة فيما يتعلق بالعالم الإسلامي أو ما اصطلحت أمريكا على تسميته مؤخراً بـ «الشرق الأوسط الكبير» ، حيث اندلعت حروب عسكرية، ودشنت حملات أمنية وإعلامية، وهجمات ثقافية على خلفيات حضارية أو دينية صريحة مثل: اجتياح أفغانستان وما تبعه من دعم لعصابة الإفساد الحاكمة هناك، والتواطؤ في الجرائم اللاإنسانية التي ارتكبت في سجن يانجي، وبعده في معتقل جوانتنامو، ثم ما حدث في العراق ولا يزال يحدث بعد الغزو الذي استند الى كذب صريح على العالم كله، أدخل العراق بعده في دوامة الفوضى الشاملة، وكذلك ما تسرب من أنباء عن مقتل ما لا يقل عن 120 ألفاً من المدنيين أثناء غزو العراق، وقبلهم 20 ألفاً من القتلى المدنيين في غزو أفغانستان، وقبلهم قتل ما يزيد عن مليون طفل عراقي أثناء الحصار، ولا ننسى قضية الشيشان التي قايضوا عليها روسيا، وبلاد البلقان المسلمة التي طردوا منها الصرب ليحتلها (ناتو) الغرب، والسودان المستهدف بالتقسيم المصلحي بين الفرقاء الغربيين، وفلسطين التي يستكثرون عليها بعدما يقرب من ستة عقود من الاحتلال، مجرد سلطة (حكم ذاتي) نظيف ونزيه اختاره الشعب، لا لشيء إلا لأنه يحمل قضية (الإسلام) في برنامجه الانتخابي (الديمقراطي) .
وكانت أحداث أزمة (الرسوم المسيئة) للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم ما تلاها وواكبها من نشر صور ولقطات إذلال وامتهان كرامة الإنسان على يد الأمريكيين والبريطانيين في السجون والثكنات العسكرية في العراق، آخر حلقات ذلك المسلسل الهجومي الصِدامي المتواصل.
ليست مصادفات:
لا يمكن لعاقل أن يفسر ذلك التسلسل العدائي بالمصادفات أو محض الاتفاق، ولا يمكن كذلك أن يتفهم ذلك الإجماع المتواطئ ـ مؤخراً ـ من أكثر دول الغرب على العناد والاستفزاز بإعادة نشر الرسوم المسيئة، والإصرار على عدم الاعتذار بصورة واضحة، إيغالاً في التحدي الجماعي لمجموع شعوب العالم الإسلامي؛ حتى إن مسؤولي الاتحاد الأوروبي، عدُّوا مقاطعة الدانمرك اقتصادياً، مقاطعة لدول الاتحاد الأوروبي كلها. وتوحيد أوروبا لموقفها يجيء لتعجيز أو تشتيت الموقف الإسلامي الموحد، بتكثير عدد الدول التي سيتعين على المسلمين مقاطعتها اقتصادياً بسبب اتخاذ موقف الدانمرك نفسه أو الوقوف معها.
يساورني شك يكاد يقترب من اليقين، بأن تحريك فتنة الأزمة الأخيرة، إنما تلعب فيه أصابع ماهرة في خبثها، وبعيدة في مراميها، ولا أستبعد منها اليهود وإن كنت لا أُغفل غلاة النصارى من ذوي الاتجاه اليميني الديني الإنجيلي، ومنم الحزب الحاكم في الدانمارك، بمعنى أن الأحداث ليست مجرد تفاعلات وتداعيات؛ فالفريقان اللذان يكادان يتطابقان في أهدافهما ووسائلهما وعقائدهما، يتركان كل حين آثاراً تشير إلى تعمد التصعيد.
وعلى وجه الخصوص فإن بصمات اليهود ـ قتلة الأنبياء ـ في الحملة على سيد الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا تكاد تخطئها العين، وهناك قرائن واضحة تدل على أن ظل اليهود ليس بعيداً عن أجواء تلك الأزمة؛ فالصحيفة الدانماركية التي تولت كبر هذه الفتنة ونفخت في كيرها ـ وهي صحيفة (يولاند بوسطن) ـ يتوسط عنوانها الرسمي نجمة داوود اليهودية بلون أصفر يميزها عن الحروف الإنجليزية في الكلمتين المكتوبتين باللون الأسود، مع شيء من التحوير في تلك النجمة، وإذا صح أن رئيس تحرير الصحيفة الدانماركية وكذا رئيس تحرير الصحيفة النرويجية اللتين نشرتا الرسوم الشائنة، هما من أعضاء المؤتمر اليهودي العالمي الذي يدير شؤون الفتن في العالم، يكون الكثير من ملامح ومعالم الصورة قد بدأ يتضح. ويتضح أكثر إذا عُلم أنهما من الناشطين مع مركز (سايمون فيزنتال) اليهودي في أمريكا، والمختص بوضع الاستراتيجيات الدولية لخدمة أهداف اليهود والدفاع عنها.
إن أول من بدأ جرائم الاعتداء العلني على شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السنوات الأخيرة هم اليهود، حيث أقدمت امرأة يهودية إسرائيلية على نشر رسوم لها، رسمت فيها ـ قاتَلها اللهُ ولعنَها ـ صورةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة خنزير، وكتبت على جسده باللغة العربية اسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسمحت بعض الصحف بنشرها، لتنشر بعد ذلك في بعض صحف العالم، وقد ثارت وقتها ضجة من الاحتجاج الاسلامي في أنحاء متفرقة من العالم، وكعادته انبرى بعض الغربيين يؤيدون والبعض الآخر يفلسفون، وآخرون يعتذرون، ليسكِّنوا الحمية ويميِّعوا القضية، وكان على رأس هؤلاء وقتها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، لكن بلاد كلينتون نفسها ـ الولايات المتحدة ـ تسلمت من اليهود راية التحدي لمقدسات المسلمين بعد ذلك، عندما أقدم جنودها مرات متعددة على دعس المصحف الشريف وتمزيقه بل ... التبول عليه (قاتلهم الله ولعنهم) . ثم جاء حمار بشري في شكل وزير إيطالي هو (ربرتو كالديرولي) وزير (الإصلاح) في إيطاليا ليرتدي قميصاً عليه الرسوم المسيئة متحدياً جميع المسلمين في العالم، وقبل ذلك كان أحد مهاويس أمريكا وهو الصحفي (ريتش لوري) قد طالب بضرب مكة بقنبلة نووية! وذلك في مقال نشرته له مجلة (ناشيونال ريفيو) ، وقد كرر الدعوة نفسها السيناتور الأمريكي (توم تانكريدو) !! وكأن القوم يتناوبون على امتهان مقدساتنا ودوس كرامتنا.
وفي تناغم أخير مع السلوك الشائن في أمريكا وأوروبا، أقدم مجند يهودي إسرائيلي ـ بعد جريمة الدانمارك ـ على كتابة شتائم نابية على جدران أحد المساجد في إحدى مدن فلسطين في 15 فبراير 2006، يسب فيها رسول -صلى الله عليه وسلم- بألفاظ وقحة؛ فلما ثار المواطنون المسلمون وتظاهر بعضهم احتجاجاً؛ تدخلت الشرطة الإسرائيلية، فأطلقت عليهم النيران الحية! ثم تكررت الفعلة الشنعاء بعد ذلك بثلاثة أيام من جندي آخر في مسجد آخر!!
إن هذه الشرارات الصغيرة الحقيرة، هي التي تنشئ النيران الكبيرة الخطيرة، وهذا هو ما يراهن عليه مشعلو الفتن وسماسرة الحروب؛ فقد يصدر تصريح، أو يبدر تصرف أو ينشر مقال أو رسم أو مشهد مسيء، فإذا هو يضيء سماء العالم الاسلامي بوهج الغضب وشهب التثوير، وهم يعلمون أننا لسنا بحمير حتى نستغضَب فلا نغضب أو نستثار فلا نثور.
إن هؤلاء الساعين الى إيقاد نار الحروب يريدونها محرقة عالمية، ولولا أن الله ـ تعالى ـ يطفئ من نارهم ما يشاء، لقلنا: على الأرض العفاء، منذ زمن طويل {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64] ، إننا لا نستند في ترجيح تعمد الاستغضاب الصهيوني ـ يهودياً كان أو نصرانياً ـ إلى ظن أو تخمين، بل نستند الى يقين نطق به القرآن المبين، في قول الله ـ تعالى ـ عن عداوتهم وجراءتهم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى الدين الذي جاء به، كفراً وحسداً، لا جهلاً وغفلة: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46] ، وهم لن يطعنوا في ديننا فقط؛ بل سيقاتلوننا عليه في حروب دينية صريحة، كما حدث كثيراً في التاريخ {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] . ولليهود والمشركين الدور الأساس في ذلك: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] ؛ فهم العدو الأول للمسلمين في الزمان كله والمكان كله، منذ مبعث النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-. ولا نستطيع هنا أن نتجاهل أن الحزب الحاكم في مملكة الدانمارك هو حزب يميني ديني بروتستانتي متشدد، والصحيفة التي أشعلت الفتنة هي صحيفة صادرة عنه.
وهذه الحملة المشتركة بقيادة المغضوب عليهم للضالين قد تجر العالم ـ كما جروه من قبل إلى صدامات دولية، تكون ساحتها على أرض المسلمين، وبأموال المسلمين، وأرواح المسلمين.
الأحقاد الدينية ... على درب المحرقة الكبرى:
لا تزال البشرية في البدايات المبكرة للألفية الثالثة، التي يعتقد المتشددون الإنجيليون وغلاة البروتستانت ـ تبعاً لعقائد يهودية ـ أنها لا بد أن تشهد بداية النهاية لأيام (العامة) أو الكفار أو الكُفريم أو (الجويم) بتعبير التوراة المحرفة التي يقرؤونها ويتعبدون بها، حيث ستأتي بعد أيام (العامة) تلك، أيام (الخاصة) التي تخص الشعوب المختارة وحدها من الأنجلوساكسون وحلفائهم من اليهود، لضمان سيادتهم على العالم لألف سنة قادمة؛ وهذا هو جوهر (العقيدة الألفية) ، التي ترجمت في السنوات الأخيرة إلى برامج عملية، وإستراتيجية عالمية للولايات المتحدة، أطلقوا عليها مشروع (القرن الأمريكي) أو (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) . ليبدأ هذا القرن أمريكياً يهودياً غربياً، تمهيداً لـ (الأيام الأخيرة) أو بالتعبير العبري التوراتي (أحريت أياميم) والذي ستعقبه مرحلة (يوم هدين) بالعبرانية أو (يوم الدين) بالعربية. ولا بد ـ قبل أن يأتي (يوم هدِّين) أو يوم القيامة الكبرى ـ من التمهيد للألف السعيد بإقامة قيامة صغرى، تكون سبباً في هلاك غالبية سكان الأرض، أو بالتحديد: (ثلثا سكان العالم) (1) من غيرهم. والأسباب التي ستؤدي لإقامة هذه القيامة الصغرى عندهم لا تُنتظر، بل تُدبر وتصنع!!
هل نفتري عليهم....؟! هل نبالغ في تقدير خطورة أحلامهم التدميرية الإرهابية العالمية..؟! لا ... وسأذكر بعض الأدلة من كتبهم (المقدسة) بنصوصها وتأويلاتها التي تصنع وجداناً عدائياً لسائر البشر، وخاصة ـ أكرر ـ: (وخاصة) : العرب والمسلمين والكنفوش (الصينيون والكوريون والفيتناميون واليابانيون) (2) الذين تجمعهم عند هؤلاء تسمية التوراة: (يأجوج ومأجوج) حيث سيتكتل هؤلاء في الأيام الأخيرة ـ كما يعتقدون ـ في (محور الشر) الذي ينطلق من الشرق لينازل محور الخير أو العالم الغربي، في وسط العالم أو (الشرق الأوسط) وبالتحديد في (فلسطين) التي أرادوا محو اسمها لتصبح فقط (إسرائيل) كما سمتها التوراة المحرفة.
3 تقول التوراة التي يدين بها أكثر من ملياري نصراني، ونحو (16) مليون يهودي في عالم اليوم:
(في الأيام الأخيرة، عندما تتجمع إسرائيل من الأمم، سوف تتسبب في أمرٍ ما، هذا ما سوف يحدث، إنني سوف أضع صنارة في أفواه القوى المؤتلفة) .
3 وجاء فيها أيضاً: (بعد أيام كثيرة، تُفتقد في السنين الأخيرة، تأتي إلى الأرض المستردة من السيف، المجموعة من جبال إسرائيل التي كانت خربة للذين أخرجوا من الشعوب وسكنوا آمنين كلهم، وتصعد وتأتي كزوبعة، وتكون كسحابة تغشى الأرض أنت وكل جيوشك، وشعوب كثيرون معك) .
3 وجاء فيها: (ويكون في ذلك اليوم، يوم مجيء جوج على أرض إسرائيل ... يقول السيد الرب: يكون سيف كل واحد على أخيه، وأعقبه بالوباء وبالدم، وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة الذين معه مطراً جارفاً وحجارة برد عظيم وناراً وكبريتاً) (3) .
3 أما التلمود الذي يمثل شروح التوراة، والذي يعد عند التوراتيين أقدس من التوراة نفسها فيقول: (قبل أن يحكم اليهود نهائياً، لا بد من قيام حرب بين الأمم، يهلك خلالها ثلثا العالم، ويبقون سبع سنين، يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر) (4) .
3 وجاء في بروتوكولات حكماء صهيون: (إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة، لم ير العالم لها مثيلاً من قبل، والوقت متأخر بالنسبة لعباقرتهم) (5) .
3 أما الإنجيل الذي يدين به نصارى العالم بكل طوائفهم، فإنه يزيد في تحديد المعلومات عن هذا الصدام الأخير، فيشير إلى موقع المعركة الكبرى، أو المحرقة الكبرى ويشير الى اسمها ووصفها؛ فقد جاء فيه ـ كما يقولون على لسان عيسى ـ عليه السلام ـ وهو يصف مجيئه المفاجئ في آخر الزمان تمهيداً للألف السعيد: (ها أنا آتي كلص، طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلاَّ يمشي عرياناً فيروا عريته، يجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدُّون) (6) .
لن أطيل في تفصيل هذه المعتقدات الأشبه بالخرافات؛ فقد فصلت فيها في بعض كتبي، وبينت أنها وإن كانت أشبه بالأساطير، إلا أنها أساطير مدججة بالجيوش والأساطيل، تقف وراءها أحلاف عظمى، تملك القوة ولا تملك الحكمة، ولها ترسانات ضخمة من كل أسلحة الدمار التقليدي وغير التقليدي. وهذه الأساطير ينظر لتفعيلها العديد من المفكرين والاستراتيجيين الذين يغلِّفون أفكارهم الخرافية بأغلفة أكاديمية، تتحدث عن احتمالات وسيناريوهات الحرب العالمية الثالثة، التي أثبتت الحربان العالميتان قبلها، زيادة احتمال وقوعها.
لا أريد أيضاً أن يُفهَم من كلامي أني أجزم أن أحداث فتنة (الرسوم المسيئة) بالذات، والتي أرجح تدبير وتنسيق المواقف فيها؛ قد جاءت كلها على خلفية تلك المعتقدات، لكني أؤكد، أن ما حدث وما يمكن أن يحدث هو مقدمة شحن لعواطف الدين والعقيدة عند الشعوب المستهدفة بصدام الحضارات أو الثقافات، وهذه الأحداث فرصة سانحة، لن يفوِّتها الحاقدون على البشر، المعظمون لأنفسهم والمقدسون لذواتهم دون بقية الخلق: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18] ، هؤلاء البشر ممن خلق الله، ينحدرون مع الأيام، استجابة للشيطان، حتى يصبحوا جزءاً أصيلاً من رعيته، المكونة من أتباعه وذريته، وصدق الله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} [الأعراف: 179] .
وهذه الأنعام التي تطاولت على خير الأنام محمد ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ تستكثر كبراً وعتواً، أن يمس أحد «مقدساتهم» وثوابتهم، وعلى رأسها «حرية التعبير» التي تستلزم عندهم «حرية التعيير» ، وتتضمن حرية التغيير بالقوة وغير القوة لثوابت ومقدسات الغير!
أما ثوابتهم هم، ومقدساتهم هم، ومسلَّماتهم هم؛ فالويل، ثم الويل لمن يتعداها أو يعاديها، وأبرز مثال على ذلك ما يسمونه: (معاداة السامية) (1) ... وما ينتج عنها مما يصفونه بـ (المحرقة الكبرى) أو (الهولوكست) ، التي تتكسر عندها كل أدوات التعبير، ولا تقبل عند المساس بها التأسفات أو المعاذير!
من يجرؤ على الكلام؟
بهذا العنوان، صدر كتاب عام 1985 لمؤلفه السيناتور الأمريكي السابق: (بول فندلي) ذكر فيه أن هناك إرهاباً يمارس على حرية النقد والتعبير، يمارسه اليهود وأشياعهم داخل الأروقة السياسية في أمريكا، يقدح في كل دعاوى الحرية والديمقراطية في الغرب؛ فهي حرية ذات حدود مرسومة، وسقوف معلومة، يحرم تخطِّيها، ويجرَّم من يقع فيها.
فدعاوى الغربيين اليوم أن حرية التعبير والرأي عندهم لا حدود لها، يدحضها سلوكهم عند أي تصرف أو سلوك أو تفكير أو تعبير يتعرض بالعداء لـ (السامية) !
ومن أبرز التجليات المجسدة لقضية (معاداة السامية) ، قضية المحرقة اليهودية، أو (الهولوكست) . والهولوكست، كلمة يونانية، تعني (القربان الكامل) إشارة إلى القرابين التي كانت تُقَدَّم تعبُّداً، كي تُحرق في المعابد بشكل كامل، حيث لا ينال أحد من البشر منها شيئاً. وقد أشاع اليهود هذا التعبير كمصطلح يرمز إلى ما حدث لهم على يد الزعيم الألماني (أدولف هتلر) ، حيث صوَّروا ما فعله ضدهم من انتقام وحرق في السجون أنه أكبر محرقة في التاريخ.
لقد مارس اليهود كمّاً كبيراً من التهويل والتزييف لحقائق تلك المحرقة، بغرض تضخيم أموال التعويضات التي طلبوها ـ ولا يزالون ـ عوضاً عما لحق بهم من (أعداء السامية) . وفلسفة (الهولوكست) أو المحرقة اليهودية، كانت تنطوي على إبراز حقيقة مفادها أن (المسيحيين) يكرهون اليهود، وعليهم أن يثبتوا عكس ذلك، ولن يثبت عكس ذلك إلا بدفع التعويضات والتجاوز عن مساءلة اليهود وفق أي قوانين أو معايير دولية أو محلية في أي بلد يسكنونها؛ لأنه (يكفيهم) ما كابدوه من تعنت هتلر معهم، حيث لم يدفعه إلى ذلك إلا (معاداة السامية) ! إنهم يقولون: إن العالم كله يكرههم ويريد قتلهم، ولهذا فيجب ألا تكون الأمم المتحدة عوناً مع العالم عليهم. وتماشياً مع هذا الابتزاز اليهودي فإن الصحافة في العالم الغربي، تصور دولة اليهود دائماً على أنها محاصرة ومضطهدة من طوفان عدائي محيط بها، يريد إدخالها في محرقة أخرى (2) .
وبالرغم من حداثة حادثة المحرقة اليهودية نسبياً في التاريخ؛ فقد استطاع اليهود أن يحرِّفوا ويزيِّفوا تفاصيلها، ثم يجعلوا هذا التزييف والتحريف أمراً ثابتاً بل مقدساً، لا ينبغي لأحد أن يشكك فيه أو حتى يناقشه وإلا كان معادياً للسامية، ومن ثم معرضاً نفسه للعقوبات القانونية. لقد عبثوا بالأرقام الدالة على عدد الذين أحرقهم هتلر؛ فالمحققون الأكاديميون والمحايدون أثبتوا ـ وفقاً لمصادر اليهود أنفسهم ـ أنه كان في أوروبا كلها في الفترة التي حدثت فيها المحرقة، ثلاثة ملايين وعشرة آلاف وسبعمائة واثنان وعشرون يهودياً فقط (722.010.3) بمن فيهم يهود ألمانيا، فكيف يتم حرق ستة ملايين يهودي على يد هتلر داخل حدود ألمانيا..؟!
واليهود يغالطون، فيتحدثون عن (ضحايا) المحرقة، فيدخلون فيها كل يهودي «تأذى» من تلك المحرقة، ولو كان ذلك بدموع ذرفها، أو دولارات خسرها، فيوصلونهم إلى ستة ملايين!! ويردد العالم «الحر» بغبائه ذلك الدجل، لا بل يحاسب بقية العالم بمقتضاه!! وقد أشاع اليهود أيضاً أن سكان فلسطين من الإسرائيليين، أكثرهم من الناجين من المحرقة! فهم على هذا يستحقون هم وأولادهم وأحفادهم من العالم كله والعالم الغربي على وجه الخصوص، ألاَّ يقطع عنهم المعونات والتعويضات، وألاَّ يتردد في معاقبة من يعاديهم بشتى أنواع العقوبات.
لقد قتل هتلر من الغجر والشيوعيين أكثر مما قتل من اليهود، بل تسبب في الحرب العالمية الثانية التي قُتل فيها نحو خمسين مليوناً من البشر، منهم 17 مليون سوفييتي، وتسعة ملايين ألماني، وعشرات الملايين من السلافيين والغجر والبولنديين ومختلف دول آسيا وأفريقيا، ولم يتحدث أحد عن هذه المحرقة الحقيقية التي لم يكن ظل اليهود بعيداً عنها.
معاداة السامية، وشجاعة الجبناء:
صدرت في العديد من الدول الأوروبية قوانين تحرم وتجرم كل من يشكك في الرواية اليهودية عن (الهولوكست) بل كل من يحاول كشف الحقيقة عنها، (من هذه الدول فرنسا الحرة) التي لاحقت بموجب هذا القانون المفكر الفرنسي (روجيه جارودي) الذي أعلن إسلامه عام 1981م؛ فقد اتُّهم بمعاداة السامية بسبب تشكيكه في المحرقة، وإثباته أن عدد الضحايا اليهود في المحرقة، يبلغ 900 ألف إلى مليون ومئتي ألف، وليسوا ستة ملايين كما يدعي اليهود، لقد حوكم جارودي وحكم عليه بالسجن، وصودر كتابه الذي تجرأ فيه على الكلام وهو كتاب: (الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل) !
ـ وحوكم كاتب سويدي آخر، وهو (رينيه لويس) بمقتضى القانون السويدي الذي يحرم معاداة السامية؛ لأنه شكك في قصة المحرقة، وحُكم عليه بالسجن لمدة 17 عاماً، ولا يزال في سجنه حتى اليوم.
ـ واعتقل الكاتب البلجيكي (سيغفريد فيريبكيه) في أحد مطارات هولندا، بسبب تشكيكه في المذكرات التي تُدَرَّس في الكثير من مدارس الدول الأوروبية عن المحرقة.
ـ وفي عام 2000 م، صدر كتاب في الولايات المتحدة الأمريكية للكاتب الأمريكي (فينكلشتاين) اسماه (صناعة الهولوكست) ، فضح فيه الممارسات اليهودية التي تتاجر بما وصفه (الآلام الإنسانية) لإشباع أغراض مادية، فثارت ضجة بسبب الكتاب، حتى إنه كان الموضوع الأول الذي وضع للنقاش في احتفالات أوروبا (السنوية) بـ (عيد المحرقة) !
ـ وحوكم الكاتب الألماني (أرنست ذوندل) في 15 نوفمبر 2005، بتهمة التشكيك في المحرقة، وطرد من كندا بسبب نفيه وقوع ما يسمى بـ (أفران الغاز) .
ـ وفي 16 نوفمبر 2005، تم ترحيل عالم الكيمياء الألماني (جيرمان رودلف) من أمريكا إلى ألمانيا؛ لأنه أعد بحثاً كيميائياً أثبت فيه أن صنف الغاز الذي تحدث اليهود أن هتلر استخدمه ضدهم في أفران الغاز الحارقة، غير موجود أصلاً بالخواص التي ذكرها اليهود، وقد حكم على هذا الباحث بالسجن لمدة عام وشهرين، عقاباً له، لا على حرية الرأي فحسب، بل على حرية التفكير والبحث!
ـ واعتقل المؤرخ البريطاني (ديفيد ارفنج) في النمسا، وهو في طريقه لإلقاء محاضرة في إحدى جامعاتها، بتهمة أنه سبق أن ألقى محاضرة هناك عام 1989م، شكك فيها في المحرقة، وكان قد ألف كتاباً بعنوان (حروب هتلر) في الموضوع نفسه، وقد بدأت محاكمته مؤخراً في 20/2/2006، وهو في العام السابع والستين من عمره، مما جعله يتراجع عن آرائه في محاولة منه لتفادي هذا الحكم، وحكم عليه رغم ذلك بالسجن ثلاث سنوات!
في مقابل ذلك، كانت السويد قد دعت الكاتب الهندي المرتد (سلمان رشدي) صاحب كتاب (آيات شيطانية) لزيارة عاصمتها، وعندما جاء احتفت به كل وسائل الإعلام، وأتاحت له كامل الحرية في مخاطبة الشعب السويدي النصراني عن آرائه في الدين الإسلامي، بينما حجبت تلك (الحرية) نفسها عن ضيف آخر في التوقيت نفسه، وهو الكاتب الفرنسي المعروف بالعداء للصهيونيين (فوريسون) ومنعته من المحاضرة، بل سمحت ـ من باب حرية التعبير ـ بالتظاهر ضده!!
الذين تحدثوا عن جرم التشكيك في حرق اليهود؛ لم يتحدثوا عن مئات الملايين التي أبادها الأمريكيون ـ حلفاء اليهود وأشباههم ـ فقد أبادوا نحو ستين مليوناً من الهنود الحمر في الأمريكتين الشمالية والجنوبية، وأبادوا في عملية إحلال العبيد من الأفارقة مكانهم، أكثر من مائة مليون أفريقي، قضوا في عمليات الحشر الوحشي في سفن الشحن التجارية، ومع هذا لم يتحدث أحد عن هذا (الهولوكست) الأمريكي، بل تحدثوا عن أمريكا «محررة» العبيد!! ويتحدثون اليوم عن (حرية التعبير) التي يُستثنى منها التعرض لليهود، ويريدون ـ وهذا هو الأدهى ـ (عولمة) القوانين القاضية بتجريم التشكيك في المحرقة، فعلى عادة الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في محاسبة ومعاقبة كل من يخالف سياساتها ويتعرض لمصالحها ومصالح ربيبتها وحبيبتها (إسرائيل) بإصدار القوانين في ذلك، وعلى غرار (قانون محاسبة سورية) و (قانون محاسبة السودان) و (قانون محاسبة إيران) وأخيراُ (قانون محاسبة مصر) ! ... صدر في أكتوبر عام 2002 قانون في الولايات لمحاسبة ومعاقبة كل من يعادي اليهود، ويحمل القانون اسم (قانون محاسبة أعداء السامية) .
ولم يتوقف الأمر على تصدُّر أمريكا لحماية (جناب) إسرائيل من التعدي أو التحدي، ولو بفكرة أو تصريح أو كتاب أو مقال على مستوى العالم، حتى دفعت الأمم المتحدة ... (ممثلة العالم) في طريق إصدار قانون مماثل، ففي أول نوفمبر من عام 2005، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً ينص على رفض الأمم المتحدة لأي إنكار لحقيقة المحرقة كحدث تاريخي، سواء بشكل كلي أو جزئي، واعتبر القرار مثل هذا التصرف أمراً ممنوعاً ويعرض صاحبه للمساءلة، ودعا القرار إلى ضرورة (تثقيف) شعوب العالم عن المحرقة، واختار يوم 27 يناير من كل عام ليكون يوماً عالمياً لتخليد ذكرى ضحايا المحرقة!!
وفي السياق نفسه، أقامت الحكومة الإسرائيلية في 19 مارس 2005، معرضاً في تل أبيب عن المحرقة، ودعت إليه آلافاً من الشخصيات، من رموز الفكر والسياسة والفن، وقد لبوا الدعوة، وكان على رأسهم (الأمين) العام للأمم المتحدة: كوفي أنان، الذي عبر عن تضامن العالم الذي يمثله، مع اليهود!
وماذا بعد ... ؟
إن (عولمة الغضب) تسير في اتجاهات متعددة وليس في الاتجاه الإسلامي فقط؛ فإصرار الخبثاء من فجار الكفار على المزيد من استغضاب المسلمين كل حين، يبدو أنه يلعب على أوتار الأفعال المحسوبة، بانتظار ردات الفعل غير المحسوبة، ليبدو المسلمون في النهاية هم المجرمون، وهم الإرهابيون، وهم الفوضويون، وتثور في المقابل موجات غضب مضادة في الغرب، تنعكس مزيداً من التضييق على المسلمين، ومحاربة لهم في أمنهم واستقرارهم ومقدساتهم ومقدراتهم، يمكن استغلالها ـ وهذا هو الأخطر ـ في تدبير (فوضى خلاَّقة) على مستوى العالم، لا يوجد من المسلمين من هو مستعد لمواجهتها وإحباط كيدها.
لكننا لا نريد أن يظل أعداؤنا وأعداء الإنسانية أشباحاً وهمية؛ فالجرم موجود، والفاعلون معروفون، والشركاء مستعلنون، وإذا كان البرلمان الأوروبي قد أعلن في 15/2/2006 تضامنه مع الدانمارك واعتبر أن استمرار مقاطعتها، هو مقاطعة للاتحاد الأوروبي كله، إرهاباً وإرعاباً للمسلمين وكسراًً للحصار الاقتصادي ضد من أجرموا في حقهم؛ فعلى المسلمين أن يقولوا كلمتهم بلسان إسلامي واحد، ويقولوا إن الاعتداء على مقام نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو اعتداء على كل مسلم في أعز شيء عنده، ومن ثم، فإن كل مسلم من حقه، بل من واجبه رد الاعتداء، في حدود المشروع والمقدور؛ لأن من أَمِن العقوبة أساء الأدب، وأي إساءة للأدب أسوأ من التطاول على سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-؟ والمقاطعة الاقتصادية هي أحد الحقوق أو الواجبات في نصرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهي يجب أن تؤدي دورها كاملاً، كما أدت الإساءة ـ كما أراد أصحابها ـ دورها كاملاً.
لكن المقاطعة وحدها لا ينبغي أن تكون آخر المطاف في ظل إصرار المعتدين على إفشالها وإرباكها، وقد أفاض العلماء والدعاة والمفكرون في تعديد الأشكال والأنواع التي تندرج تحت صنف مواجهة التحدي، لكن تحدياً آخر لم يتطرق إليه أحد فيما أعلم، وهو من سينظم هذه المواجهة، سواء كانت مقاطعة اقتصادية أو غيرها مما تفرضه تداعيات الأزمة أو ما يمكن أن يأتي بعدها؟ من سيضع ضوابطها، ويحدد أوقاتها، ويتابع فعالياتها؟ في ضوء الفرقة والشتات الذي تعانيه الأمة على مستوى نخبها قبل شعوبها؟!
إن هذا هو التحدي الأكبر الذي تواجهه النخب العلمية والدعوية والفكرية والسياسية في الأمة، وإذا كانت تلك النخب غير قادرة اليوم على أن توحد صفوفها ـ ولا أقول رأيها ـ لتقود الشعوب في وجه مثل هذه التحديات الجديدة الكبرى، فلتترك الجماهير المسلمة تعبر عن مكنون الخير في الأمة في مواجهة التحدي؛ ولتدع لها (حرية التعبير) لكن بالضوابط والشروط بحيث لا تخرج عن الشريعة التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد أثبتت تجارب السنوات القليلة الماضية أن (الفطرة) التي تحرك تلك الجماهير، هي أذكى وأجدى من كثير من التنظير الناشئ عن حسابات حزبية أو آنية أو أمنية؛ فـ (عولمة الغضب) لا نتوقع لها نهاية قريبة ... حتى لو انتهت أزمة الرسوم المسيئة.(222/10)
تحية ودفاع عن عرضه - صلى الله عليه وسلم-
محمد بن عائض القرني
ما بالُ مكةَ قد ضجت نواحيها؟
ودمع طيبةَ يجري من مآقيها؟
ما للجزيرةِ قد مادت بساكنها؟
فاهتز شامخُها وارتج واديها!
ما للعروبةِ والإسلامِ روَّعَها
خَطبٌ ألمَّ وظُلمٌ من أعاديها؟
أيسخرون من الهادي الذي شرفت
به البريةُ قاصيها ودانيها؟!
أيسخرون من الأنوارِ قد كشفت
مجاهلَ الظلم فانزاحت غواشيها
أيسخرون من المجدِ الذي خضعت
له الجبابرُ حتى ذل طاغيها
أيهزؤون به؟ شُلت أكفُّهُمُ
ودمر الله ما تجني، وجانيها
أعداءُ كلِّ نبي جاء يُنقذُهم
من الضلالةِ لما أُركسوا فيها
محمدٌ خيرُ من سارت به قدم
وأكرمُ الناس ماضيها وباقيها
أوْفَى الخليقةِ إيماناً وأكملُها
ديناً، وأرجحُها في وزن باريها
من مثلُه في الورى بِراً ومرحمةً؟
ومن يشابهُه لطفاً وتوجيها؟
جاءت رسالتُه للناس خاتمةً
وجاء بالنعمة المسداةِ يهديها
أحيا الحنيفيةَ الغراءَ متبِعاً
نهجَ الخليلِ ولم يخطئْ مراميها
وسار في كنفِ الرحمنِ يكلؤه
إلى الحسانِ من الأخلاقِ يبنيها
هو البشيرُ لمن أصغى لدعوتِه
هو النذير لمغرور يعاديها
كسرى تَكَسَّرَ إذعاناً لهيبته،
قصورُُ قيصرَ هُدت من أعاليها!
وأقبلت أممٌ شتى مبايعةً
تمُد للعدلِ والإحسانِ أيديها
نالت بدعوته نُعمى ومكرُمةً
وأسعد الله بعد البؤسِ ناديها
في الهندِ والصينِ والقوقازِ طائفةٌ
تذود عن عرض خير الناس تنزيها
وفي (أُورُبَّةَ) أقوامٌ قلوبُهُمُ
بدين أحمدَ قد نالت أمانيها
الصامدون بوجهِ الكُفرِ ما ضَعُفُوا
يجابهون المنايا في تحديها
يفدون عرضَ رسولِ الله ما بخلوا
وبالنفوس إذا نادى مناديها!
حتى إذا نشر الأنذالُ حقدَهُمُ
وبارزوا اللهَ من عدوانهم تيها
تؤزُّهم زُمَرٌ ضاقت نفوسُهم
لهم عيونٌ شُعاعُ الحق يُعشيها
بنو اليهودِ ومن ساءت سريرتُه
فأبدل الصدقَ تزويراً وتمويها
أيسخرون من المعصومِ ويلهُم؟
ويطلبون له ذماً وتشويها؟
من جاء بالملةِ البيضاءِ صافيةً
نقيةً؛ وبنور الوحي يحييها
أقام بالعدلِ مجداً لا زوال له
وأمَّةً كنفُ الرحمنِ يحميها
من بئرِ زمزمَ سُقياها ومطعمُها
من تمر طيبةَ قد طابت مغانيها
أرواحُها بظلالِ البيتِ هائمةٌ
من دونه تُرخِصُ الدنيا وما فيها!
فداءُ عرضِ رسولِ الله أنفسُنا
وكلُّ نفس وما تحويه أيديها
وصلِّ يا ربِّ ما هبَّ النسيمُ على
معلمِ الأممِ الحَيرَى وهاديها
تحيةً لرسولِ الله أبعثُها
ويومَ هجرتِه الغراءِ أهديها
تحية ودفاع عن عرضة -صلى الله عليه وسلم-(222/11)
حرية التعبير في الغرب الحقيقة والوهم
د. أحمد محمد الدغشي
\ أسطورة حق التعبير في الغرب:
حقّاً إنها أسطورة مخجلة أن يظل بعض مثقفينا يردد بلا إدراك حصيف أن الغرب قِبلة الحُرّيات، ومهوى أفئدة المضطَهَدين على نحو من المبالغة المفرطة، والتقديس الفجّ. ولئن كان لذلك بعض البريق ذي الأساس المقدّر قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م؛ فإن الأمر اختلف بعد تلك الأحداث إلى حدّ كبير؛ حيث كانت ذريعة حق الدفاع عن أمن الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية ـ ولا سيما مع تكرار حدوث أعمال مشابهة جزئياً في بعض تلك البلدان ـ من وراء ذلك الانقلاب الكبير في الحقوق والحرّيات بمختلف تصنيفاتها. ومع أن العديد من النصوص والوقائع التي سنأتي على ذكرها توّاً تسبق أحداث سبتمبر، إلا أن القيود على حركة الحرّيات ازدادت أضعافاً مضاعفة بعد ذلك.
وإليك الآن الشواهد التالية:
ـ في أمريكا تم منع عرض مجموعة من الأفلام الوثائقية التي قام بإعدادها الصحفي البريطاني البارز (روبرت فيسك) ، لأنها أثارت غضب اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، الذي هدّد شبكة التلفزيون بسحب الإعلانات ذات المردود المادي منها.
أما إذا سألت عن سرّ هذا الغضب فيأتيك الجواب أن مجموعة تلك الأفلام كان عنوانها (جذور غضب المسلمين) ، حيث اتهمت الصهيونية بأنها السبب الرئيس وراء نقمة المسلمين على الغرب. ولاحظ أن (فيسك) حاصل على جائزة الصحافة البريطانية لعام 1995م كأحسن صحفي بريطاني قادر على عرض الأخبار السياسية الدولية وتحليلها.
ليس ذلك فحسب بل إن كاتباً بحجم (نعوم تشومسكي) الذي حصل كتابه (الهيمنة أم البقاء: سعي أمريكا للسيطرة العالمية) على مرتبة أكثر الكتب مبيعاً عام 2002م، وتصفه بعض الصحف الأمريكية كصحيفة (نيويورك تايمز) بأنه يمكن اعتباره أهم مفكّر في العالم اليوم، هذا الكاتب وبهذا المستوى قلّما تتجرأ شبكات التلفزة الأمريكية على استضافته، بسبب آرائه الشهيرة التي عادة ما تزعج القادة والساسة الأمريكيين والصهيونيين على حد سواء. وقد حدث له في عام 1972م وبعد أن طبع أحد كتبه أن أوقف توزيع الكتاب وتم سحبه من السوق وإتلافه، بعد أن اطلع بعض أعضاء مجلس إدارة الشركة المالكة على محتوى الكتاب، الذي لم يَرُقْ لهم.
وهل يتعارض مع حرية التعبير ما أقدم عليه رئيس مجلس النواب الأمريكي الأسبق (نيوت جنجرييتش) من فصل مؤرخة تعمل بالمجلس حين علم أنها سبق أن قالت: «وجهة نظر النازيين بصرف النظر عن عدم شعبيتها لا تزال وجهة نظر، ولا تأخذ حقها في التعبير» .
وفي عام 1986م لم يستطع المؤلف (جورج جيلبرت) أن يجد ناشراً ليعيد طباعة كتابه (الانتحار الجنسي) على الرغم من أن كتب (جيلبرت) المنشورة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي تصدرت قوائم المبيعات العالمية. والسبب في إعراض الناشرين هو الاحتجاج الصاخب الذي قامت به رائدات حركة تحرير المرأة ضدّه؛ لأن «اختلافات الرجل عن المرأة لا ينبغي حتى أن تدرس» حسب تعبير إحداهن في مقابلة عرضت على شبكة (A B C) الأمريكية.
أما الممثلة البريطانية الشهيرة (فانيسا ريد جريف) فلم يسمح لها بأداء دورها في مسرحية كوميدية بريطانية أثناء عرضها في الولايات المتحدة بسبب تصريحاتها المعادية للتدخل الأمريكي ضدّ العراق في حرب الخليج.
الجدير ذكره أن أعمال (جريف) كثيراً ما تتعرض للمقاطعة أو الإلغاء من العرض في الولايات المتحدة بسبب آرائها المعادية للصهيونية وسياسات الدولة العبرية.
وإذا كانت (جريف) قد منعت من أداء دورها المسرحي فقط؛ فقد منع من دخول الولايات المتحدة مفكّرون وعلماء ومشاهير، من أمثال: أحمد ديدات، ويوسف القرضاوي، ويوسف إسلام؛ ناهيك عن آلاف غيرهم!
أما حرية الإعلام المباشر ونشر المعلومة فقد انكشف ذلك بلا أدنى ريب من خلال التعتيم الذي مارسته الإدارة الأمريكية على حظر نقل وقائع الحرب الأخيرة على أفغانستان والعراق، وقصف قناة (الجزيرة) في كابول، وقتل العديد من الصحفيين في العراق، وأبرزهم (طارق أيّوب) ، ثم إغلاق مكتب (الجزيرة) في بغداد، والأمر بسجن مذيعها الشهير (تيسير علّوني) في مدريد ومصوِّرها (سامي الحاج) في جوانتنامو. وأخيراً ما كشفته صحيفة (ديلي ميرور) البريطانية، وتأكيد رئيس تحريرها المشارك (كيفين ماغواير) من أن لدى صحيفته محاضر موثقة تكشف أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) أبلغ رئيس وزراء بريطانيا (توني بلير) خطة قصف قناة (الجزيرة) . وحين تزايدت المطالبة بكشف الحقيقة أُوعِز إلى النائب العام البريطاني بإصدار قرار يمنع الكشف عن الوثيقة أو نشرها.
ويستغرب المرء حين يجد أن مقدّسات المسلمين وحدها هي الكلأ المباح الذي لا يعاقب القانون مقترفه بأية عقوبة، بل يُردّ عليه بممارسة أسطورة حق (حرّية التعبير) . فحين تقدم صحيفة دانماركية (جيلاندس بوستن) في 26 شعبان 1426هـ الموافق 30 أيلول/ سبتمبر 2005م ـ وهي صحيفة ذائعة الصيت، وذات مصداقية كبيرة لدى الشعب الدانماركي ـ على إعلان مسابقة لرسم أحسن كاريكاتير للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وبالفعل أرسل القراء أكثر من مائة صورة، تصور رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يلبس عمامة مليئة بالقنابل والصواريخ، وتصوره وهو يصلي في أوضاع مهينة للغاية. وتم نشر حوالي 12 كاريكاتيراً علناً، وعلى مدار عدة أسابيع، وبمعرفة من الحكومة الدانماركية، وموافقتها بل وتأييدها، وبتفاعل الرأي العام الدانماركي معها.
وحين حاولت الجالية الإسلامية هناك، الدفاع عن الإسلام ومقدساته، وذلك بوقف نشر هذه الصور، رفض رئيس تحرير الصحيفة حتى مجرد مقابلتهم، بل وتضامنت كل الهيئات الحكومية مع الصحيفة، ورُفضت كل محاولات الجالية الإسلامية، حتى مع تطوّر الأمر إلى إعلان جملة إجراءات دبلوماسية كسحب السفراء أو استدعائهم من قِبَل بعض الدول الإسلامية، إلى جانب إعلان المقاطعة للمنتجات الدانماركية والنرويجية (إذ كانت صحيفة «مغازينات» النرويجية أعادت في 10 يناير 2006م ما نشرته الصحيفة الدانماركية سالفة الذكر) فإن عقيرة غلاة العلمانية تُرفع، وشعارات حرية التعبير والإبداع تُلقى في وجه كل معترض. وعلى هذا الأساس الهشّ تجاوبت صحف مماثلة في كراهية الإسلام في فرنسا وألمانيا التي تقوم الدنيا في أيّ منهما ولا تقعد إذا حدث أدنى تشكيك في حكاية المحرقة (الهولوكست) التي يصرّون ـ في دوغمائية لافتة ـ أنها حدثت لليهود، ثم تفاعل معهم في منطقتنا بعض المفتونين، أو المهووسين بفن (الإثارة) بأي ثمن، ومهما كانت النتائج، كما فعلت بعض الصحف في كل من الأردن ومصر واليمن.
هذا في حين أن القانون الدانماركي يحظر أي تهديد أو إهانة أو حط من شأن أي إنسان بصورة علنية، بسبب الدين أو العرق أو الخلفية الإثنية، أو التوجّه الجنسي. وبسبب ذلك القانون تعرّضت امرأة تعمل محرّرة صحفية لمحاولات تقديمها للمحاكمة، لأنها كتبت خطاباً للصحيفة تصف فيه الشذوذ الجنسي بأنه أسوأ أنواع الزنى. وكأن هذا القانون يشمل أي إنسان باستثناء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومما له دلالة مباشرة على هذا ـ حسبما أورده موقع إسلام أون لاين في 8/ 2/ 2006م ـ أنه في الوقت الذي نشرت فيه صحيفة (جيلاندس بوستن الدانماركية) رسوماً كاريكاتيرية مسيئة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدعوى حرية التعبير، رفضت الصحيفة نفسها نشر رسومات تسيء إلى المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ خشية ردود الفعل الغاضبة من جانب قراء الصحيفة، حسبما نشر الموقع الإلكتروني لصحيفة (جارديان) البريطانية.
وقالت (جارديان) إنه في إبريل 2003م تبرع الرسام الدانماركي (كريستوفر زيلير) للصحيفة بسلسلة من الرسوم الساخرة تتعلق ببعث السيد المسيح من جديد.
غير أنها أشارت إلى أن الصحيفة الدانماركية «رفضت نشر الرسومات التي تسيء إلى المسيح، بدعوى أن نشر الرسوم لن يسعد القراء، وربما يؤدي إلى تعرض الصحيفة لانتقادات شديدة» .
وتسلم (زيلر) رسالة بريد إلكتروني من رئيس تحرير صحيفة «جينز كيسر» الدانماركية تقول: «لا أعتقد أن قراء الصحيفة ستروق لهم هذه الرسوم، بل أعتقد أنها ستثير مشاعر الغضب لديهم؛ لذا فلن أنشر الرسوم» ، وذلك بحسب الصحيفة البريطانية. ونقلت (جارديان) عن (زيلر) قوله تعليقاً على الرسوم: «الرسوم مجرد مزحة بريئة لدرجة أنها أضحكت جدي» .
غير أن رئيس تحرير الصحيفة الدانماركية أوضح من جهته أن الرسومات الكاريكاتيرية كانت سخيفة للمضي قدماً في نشرها في ذلك الوقت.
ـ في بريطانيا يتم التعامل مع المقدّسات وفق قانون خاص يسمى (BIASPHEMY LAW) الذي يمنع سب المقدّسات؛ إذ يسري العمل بالقانون في كل من إنجلترا وويلز. ولكنه خاص بالمقدّسات المسيحية وحدها. ولذلك فعندما أعلن المخرج الدانماركي (جينز ثور سن) (لاحظ الدانماركي) اعتزامه إخراج فيلم في إنجلترا عن الحياة الجنسية للمسيح فقد أدى ذلك إلى موجة غضب عارمة في المؤسسات الدينية الأوروبية وعلى رأسها الفاتيكان وأسقفية (كانتر بري) ، وعلى الفور قام رئيس الوزراء البريطاني حينذاك (جيمس كالاهان) بالتحذير من أن أي محاولة لإخراج ذلك الفيلم في إنجلترا سوف تكون عرضة للمحاكمة تحت طائلة قانون (سب المقدّسات) مما أثنى المخرج عن إتمام إنتاج الفيلم.
وفي يونيو 1976م قامت صحيفة (News Gay) الخاصة بأخبار الشواذ جنسياً من الرجال بنشر قصيدة للشاعر البريطاني (جيمس كيركوب) يصف فيها المسيح ـ عليه السلام ـ في أوضاع غير لائقة، مما أثار غضب اتحاد المشاهدين والمستمعين الإنجليز، الذي يتولى الرقابة الشعبية على كل ما ينشر في الصحف أو يعرض في وسائل الإعلام والأفلام السينمائية، وقامت رئيسة الاتحاد بمقاضاة رئيس تحرير الصحيفة والشركة التي تملكها وتتولى نشرها بتهمة سبّ المقدّسات.
وبالفعل تمت المحاكمة في شهر يوليو عام 1977، وبالرغم من محاولات الدفاع المستميتة في إقناع المحلّفين أن القصيدة لم تعنِ أو تضمر أيّة إساءة للدين النصراني، بل بالعكس كانت تصوّر العلاقة العاطفية التي تربط الشاعر بشخص المسيح ـ عليه السلام ـ إلا أن هيئة المحلّفين لم تقبل هذا الدفاع وأدانت الصحيفة بأغلبية عشرة أصوات مقابل صوتين بتهمة امتهان مشاعر المسيحيين في إنجلترا، والإساءة إلى مقدّساتهم، بعد قرار هيئة المحلّفين القاضي على رئيس التحرير بالسجن لمدّة تسعة أشهر مع وقف التنفيذ ودفع غرامة مقدارها (خمسمائة جنيه إسترليني) ، وعلى الناشر بغرامة مقدارها (ألف جنيه إسترليني) ، بالإضافة إلى تحمّل تكاليف القضية. وعلى الرغم من استئناف الصحيفة الحكم عام 1978م أمام القسم القضائي بمجلس اللوردات البريطاني، الذي يمثل أعلى سلطة قضائية في بريطانيا إلا أنها خسرت للمرّة الثالثة، حيث أقرّت المحكمة البريطانية العليا الأحكام السابقة الصادرة ضدّ رئيس التحرير.
بعد حكم المحكمة العليا جرت محاولات عِدّة لإنهاء العمل بقانون سبّ المقدّسات من خلال مجلس العموم البريطاني، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، حيث لم يقبل مجلس العموم ولا مجلس اللوردات أي مساس بذلك القانون بالرغم من أنه يحمي الديانة المسيحية فقط من السبّ ويهمل بقيّة الديانات المنتشرة داخل بريطانيا، وأنه يعاقب على المساس بالمقدّسات المسيحية دونما نظر أو مراعاة لقصد أو نيّة الشخص المتهم بسبّ المقدّسات.
ومع محاولات أخرى تمت في الاتجاه الذي يجعل من القانون عامّاً لكل المقدّسات في كل دين يوجد في إنجلترا إلا أنها باءت كذلك بالفشل. لذلك لم يفلح المسلمون في بريطانيا في أن يرفعوا دعوى قضائية ضدّ (سلمان رشدي) صاحب كتاب (آيات شيطانية) ؛ إذ القانون الذي يحظر سبّ المقدّسات خاص بالمسيحية فقط. فلم يكن (سلمان رشدي) خارجاً عن القانون البريطاني حين أهان المقدّسات الإسلامية، بل ذلك أمر يندرج في إطار حرّية التعبير رغم أنه سخر من المقدّسات الإسلامية وأهانها. غير أن الطريف حقاً أن حرّية التعبير هذه لم َتحْمِ (فيلماً) باكستانياً سخر من (سلمان رشدي) ، بل منعت دخوله.
إن الشخصيات الدينية في حصانة (مقدّسة) كذلك بموجب قانون حظر (سبّ المقدّسات) ، لذلك فقد قامت هيئة الرقابة على المصنّفات الفنية البريطانية برفض عرض فيلم وثائقي على شاشات التلفاز البريطاني عن الراهبة (تيريزا) التي عاشت في بريطانيا في القرن السادس عشر، بسبب محتوى الفيلم الذي يمكن تأويله على أنه إهانة للدين النصراني.
ـ وفي إيطاليا يمنع عرض الفيلم الأمريكي (الإغراء الأخير للسيد المسيح) ، لما فيه من استثارة مشاعر المسيحيين، لذا لم يُكْتَفَ بمنع عرضه فقط في العديد من البلاد الأوروبية بل قُدِّم مخرج الفيلم في المهرجان للمحاكمة في روما بسبب الفيلم.
ـ وفي فرنسا يقر مجلس الشعب الفرنسي قانون فابيوس ـ جيسو في عام 1990م الذي يحظر مجرّد مناقشة حقيقة وقوع الهولوكست في الحرب العالمية الثانية. وقد عوقب المفكر الفرنسي الشهير (روجيه جارودي) عام 1998م بسبب كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) ، وحكم عليه بغرامة (20) ألف دولار.
ولم تصمد حريّة التعبير أمام حق قناة (المنار) اللبنانية التابعة لحزب الله في بث أفكارها ورؤاها، بل عملت فرنسا على منع بثّها، لأنها قدمت مسلسلاً عن جرائم إسرائيل، غير أن السؤال الأهم لماذا الوقوف هنا ضدّ حق التعبير؟!
ولماذا تعمل دولة الحرية والمساواة والإخاء ـ وهي الشعارات الشهيرة للثورة الفرنسية عام 1787م ـ بإيقاف (400) إمام وخطيب مسجد في فرنسا تحت دعاوى متهافتة تسقط جميعها أمام أسطورة حرّية الرأي والتعبير.
ولماذا يتم تغريم (برنارد لويس) الأستاذ بجامعة (برنستون) مبلغ (10) آلاف فرنك فرنسي (حوالي 2062 دولاراً أمريكياً) عام 1995م لأنه أنكر أن الأرمن تعرضوا لإبادة جماعية على يد الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين الميلادي.
ـ وفي ألمانيا يحظر بيع أو شراء أو طباعة كتاب (كفاحي) لـ (هتلر) ، كما تحظر طباعة أو توزيع أي مقال أو كتاب يؤيد النازية بأي شكل من الأشكال، بل تحظر حتى الهتافات النازية، ولو على سبيل المزاح. وهذا الحظر يفسّر المشكلة التي تعرض لها لاعب الكرة المصري (هاني رمزي) في ألمانيا، حين قام بإلقاء التحية النازية المشهورة على سبيل المزاح في إحدى الحفلات.
في عام 1991م قام (جنتر ديكارت) زعيم الحزب الوطني الديمقراطي الألماني (يمين متطرّف) بعقد محاضرة استضاف فيها محاضراً أمريكياً أشار فيها إلى أن رواية قتل اليهود بالغاز غير صحيحة. وترتب على ذلك أن قُدّم (ديكارت) للمحاكمة، وعوقب طبقاً للقانون الذي يحظر الأحقاد بين المجموعات العرقية.
وفي شهر مارس 1994م حوكم (ديكارت) مرة أخرى وحكم عليه بالسجن لمدة عام واحد مع وقف التنفيذ، بالإضافة إلى غرامة خفيفة، مما أدى إلى تعرّض القضاة الذين حاكموا (ديكارت) لموجة من الغضب والنقد من القضاة الآخرين، بسبب ضآلة العقوبة التي حكموا بها، مما أدّى إلى تدخل المحكمة الفيدرالية التي أبطلت الحكم وأمرت بإعادة المحاكمة.
وفي إبريل 1994م أعلنت المحكمة الدستورية الألمانية أن أية محاولة لإنكار حدوث (الهولكوست) لا تتمتع بحماية حق حرّية التعبير التي يمنحها الدستور الألماني، مما دفع البرلمان الألماني أن يسن قانوناً يجرّم أيّة محاولة لإنكار وقوع (الهولكوست) ، ويوقع بمرتكب هذه الجريمة عقوبة حُدّدت بالسجن خمس سنوات بغض النظر عمَّا إذا كان المتحدّث ينكره أم لا.
وفي عام 1993م تم نشر ترجمة ألمانية لكتاب أمريكي عنوانه (العين بالعين) ، غير أن الناشر تنبّه إلى خطورة الأمر فقام على الفور بسحبه وإتلاف كل نسخ الطبعة الألمانية رغم توزيعها في السوق، تحاشياً للوقوع تحت طائلة القانون أو إثارة غضب الرأي العام، وذلك لأن الكتاب يورد أن (ستالين) كان يتعمّد اختيار اليهود للقيام بالأعمال البوليسية السريّة في بولندا بعد الحرب العالمية الثانية.
ـ وفي النمسا من المتعارف عليه قانونياً معاقبة كل من أنكر وجود غرف الغاز التي أقامها النازيون أثناء الحرب العالمية الثانية بالسجن، غير أنه في العام 1992م تم تعديل القانون ليطال التجريم أية محاولة تنكر أو تخفّف أو تمدح أو تبرّر أيّاً من جرائم النازية، سواء بالكلمة المكتوبة أو المذاعة.
ـ وفي كندا على الرغم من أن القانون الكندي ينص على حق كل مواطن في التعبير الحرّ إلا أنه يحظر ـ في الوقت ذاته ـ أيّ نوع من أنواع التعبير من شأنه أن يؤدي إلى إثارة الكراهية ضدّ أية مجموعة عرقية أو إثنية أو دينية، ويمنح القانون المجالس التشريعية في كندا تقييد حريّة التعبير أو غيرها من الحريّات الدستورية إذا استدعت الضرورة ذلك، وبناء على هذا أقرّت المحكمة الكندية العليا العقوبة التي أقرّت بها إحدى محاكم مقاطعة (ألبرتا) ضدّ (ناظر) مدرسة اتهم بمعاداة السامية والترويج لكراهية اليهود.
ولكون السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام في الغرب حقيقة ساطعة فإن شبكة تلفاز (CTV) الكندية قامت باستضافة (جوزيف ليبد) المعلّق السياسي الإسرائيلي صباح يوم 15/ 10/ 1994م الذي دعا مباشرة وعلى الهواء يهود كندا لأن يتولى أحدهم اغتيال (فيكتور أوستروفوسكي) ضابط الموساد الذي ألف كتابين كشف فيهما عن العمليات السريّة للموساد، دون أن تُحدث هذه الدعوة أي ردّ فعل على أي مستوى إعلامي في كندا. ولم يُسمع عن الكُتّاب والمعلّقين الذين دافعوا بحماس بالغ عن حق (سلمان رشدي) في التعبير الحرّ دفاع أقل من ذلك في حق (أوستروفوسكي) في التعبير الحُرّ كذلك.
قارن هذا بما حدث في عام 1996م عندما قام قاضٍ كندي بمقاطعة (كيوبيك) بالحكم بالسجن مدى الحياة على امرأة قامت بذبح زوجها بسكين، وقال تعقيباً على الحكم الذي أصدره: «لقد أثبت أن المرأة تستطيع أن تكون أكثر عنفاً من الرجل، حتى النازي لم يُعذّب ضحاياه اليهود قبل قتلهم» .
هذا التعقيب أثار زوبعة من الاحتجاج ضدّ القاضي من قِبَل الجمعيات النسائية واليهودية في كندا، فاضطر القاضي للاعتذار، ولكنه أعلن أنه مؤمن بكل كلمة قالها في ذلك التعقيب، مما ضاعف موجة الاحتجاج ضدّه، وتعالت الأصوات مطالبة باستقالته، ولكنه رفض الاستقالة. عندئذ تدخّل المجلس القضائي الكندي وقام بالتحقيق مع القاضي، ثم أوصى المجلس البرلماني الكندي بإقالة القاضي بسبب التعليق الذي صدر عنه. وحين وصلت الأمور إلى ذلك الحدّ اضطر القاضي أن يقدّم استقالته بدلاً من أن تأتي الإقالة من البرلمان، حيث كان واضحاً أنه سيقبل توصية مجلس القضاة الكندي بالإقالة.
ـ وفي أستراليا ينص قانونها على اعتبار أية مادة مكتوبة من شأنها الحطّ من قدر أية مجموعة عرقية محظورة طبقاً للقانون المانع للتفرقة العنصرية الصادر عام 1998م، وقد يعاقب الكاتب والناشر بغرامات تصل إلى (40) ألف دولار أمريكي.
ـ وفي سويسرا قامت مقاطعة (دي تور) بمنع كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) لـ (روجيه جارودي) من التداول، وحكمت محكمة على ناشر عرض الكتاب بالسجن أربعة أشهر.
وقد سرى رعب التشكيك في حكاية (الهولوكست) حتى في بلد صناعي (عريق) غير أوروبي هو اليابان؛ إذ حدث أن نشرت مجلة (ماركوبولو) في عددها الصادر في شهر فبراير 1995م مقالاً يزعم عرض الحقيقة التاريخية الجديدة، ويوضّح أن غرف الغاز التي أقيمت في الحرب العالمية الثانية ليس لها أساس تاريخي موثّق. وقد أدّى المقال إلى ردود فعل عنيفة وسريعة، حيث قامت المؤسسات الصناعية الكبرى ـ مثل: (فولكس واجن) و (ميتسوبيشي) ـ بإلغاء عقود الدعاية مع المجلة، احتجاجاً على المقال، مما أدّى بناشر المجلة إلى سحب كل أعداد المجلة من الأسواق وفصل كل أعضاء تحرير المجلة، بل واضطر ذلك المقال المجلة إلى إغلاق نفسها نهائياً.
وفي هذه الأجواء تعلن صحيفة (همشهري) الإيرانية ـ حسب موقع الجزيرة نت في 9/2/2005م ـ دعوتها لمسابقة عالمية لرسم (كاريكاتيري) يسخر مما يسمى المحرقة النازية (الهولكوست) لليهود، معلنة أنها بهذا تهدف إلى اختبار ردود الفعل الأوروبية والأمريكية، وهو ما سيفضح أسطورة (حريّة التعبير) . وتأتي (الفضيحة) الأولى حين يُستدعى السيد (دياب أبو جهة) رئيس الرابطة العربية الأوروبية للمحاكمة، لكونه دعا إلى نشر رسوم (كاريكاتيرية) ضدّ المحرقة (الهولكوست) ، بهدف كشف حقيقة (حريّة التعبير) الغربية!!
والآن: أرأيتم كيف أن الحديث عن حرّية التعبير في الغرب مجرّد أسطورة باهتة، ووهم طغى بسبب طغيان الحضارة الغربية على تفكيرنا ومسالكنا في كل اتجاه، حتى بات بعض المشتغلين بالثقافة والفكر والسياسة يعتقدون حقيقتها، وأن المناقشة فيها نقاش في (المقدّس) أو (التابو) الممنوع التطرّق إليه والحديث عنه؟
__________
(*) أستاذ أصول التربية المشارك، كلية التربية، جامعة صنعاء، اليمن.(222/12)