تجربة عملية في إحياء اللغة العربية الفصحى
حسين حسن أبو بكر
اللغة العربية الفصحى وسام شرف على صدر أمتنا العربية، ويكفي بالعربية فخراً أن تكون آية إعجاز القرآن، وأن يكون تعليمها فداء من لا فداء له من أسرى بدر، حين أوكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للقادرين على التعليم من الأسرى تعليمَ أبناء الأنصار القراءة والكتابة باللغة العربية الفصحى، باعتبارها لغة الرسالة السماوية لإبلاغها للحاضر والبادي.
ومع هذا نجد من يسوق التهم يكيلها عن اللغة الفصحى وعن تعلُّمها أو الحديث بها بأنها لغة صعبة، بزعم أننا في عهد اندثرت فيه هذه اللغة. ودفع هذه الاتهامات ودحضها:
أن ما يشاع عن صعوبتها ليس بصحيح؛ إذ كيف يخشع العامي في صلاته، ويوجل قلبه فيبكي خشية مما في آيات الله وهو لم يفهمها؟! بل كيف يفسر ما يرد في خطبة الجمعة إذا لم يُحِطْ بها علماً؟!
أم كيف يعي أخبار العالم عبر المذياع وهي بلغة فصيحة؟! حتى الصغار يتفاعلون مع ما يبث لهم من برامج (مدبلجة) ، مع أنها بلغة فصيحة؛ فأين وجه الصعوبة إذن؟!
فإحياء اللغة العربية والتخاطب بها، وجعلها لغة لكثير من العلوم ليس صعباً، بل من الواجب تطبيقها وممارستها لدى أمة شعارها الإسلام، ولغتها القرآن. فالواقع اللغوي للشعوب العربية، أطفالاً وكباراً، يتسم بظاهرة لغوية تسمى «الثنائية اللغوية» التي لم تأخذ حظها بعدُ، حتى الآن، من الوصف والتحليل والعلاج. وتشير الدراسات العلمية المبنية على الملاحظة والتحليل أن الله زود الطفل بالقدرة على اكتشاف قواعد اللغة التي يتعرض لها باستمرار، ويكتشف قواعد اللغة من جملة المفردات والتراكيب التي تعرض عليه، وقد يخطئ القاعدة في البداية لقلة الأمثلة والعينات، ولكنه ما يلبث أن يراجع نفسه ويعدّل القاعدة حتى يتقن اللغة تماماً، فيكاد الطفل يصحح هذه الأخطاء من تلقاء نفسه حتى يصل إلى رتبة الإتقان.
يقول العلماء: إن هذه القدرة تبدأ من خلق الإنسان، وتبلغ ذروتها في سني حياته الأولى، ثم تأخذ بالضمور والاضمحلال بعد سن السادسة، لتموت قريباً من سن البلوغ، وهذا يعني أن السن المثلى التي يكتشف فيها الإنسان قواعد اللغة التي يسمعها حوله عندما يكون طفلاً دون السادسة، وأنه بعد ذلك ـ إن لم يكن قد أتقن قواعد اللغة ـ يحتاج إلى من يلقنه ويعلمه إياها؛ إذ لا يكون قادراً على اكتشافها بنفسه، كما أنه ـ في الغالب ـ لن يستطيع أن يصل إلى درجة الإتقان التي بلغها من اكتشف قواعد اللغة في السن التي يكون مهيأ لها.
والجدير بالذكر أن هذا الجهاز لا تنحصر قدرته على اكتشاف لغة واحدة، بل يمكنه أن يكتشف قواعد عدة لغات، وبدرجة من الإتقان، إذا تيسر له القدر الكافي من السماع والممارسة.
فالطفل العربي، يتعرض للعامية في سني حياته الأولى، فيتعرف على مفرداتها، ويتقن تراكيبها وقواعدها، حتى إذا ذهب إلى المدرسة وجد أن لغة الكتاب والمعرفة غير اللغة التي يتقنها. ونتج عن هذه المأساة أمران:
1 ـ عزوف الطفل عن القراءة؛ فإنها تكلفه مجهوداً شاقاً، ولا يفهم كل ما يقرأ، فلا يستمتع بها، والنتيجة ألا يُقبِل على القراءة إلا مضطراً كاستذكار لامتحان أو نحوه، ويصبح هناك نوع من العداء بين (الطفل ثم الشاب) والكتاب.
2 ـ صعوبة التحصيل المعرفي والعلمي؛ لأن الطفل غير متمكن من أداته، وهي اللغة الفصحى.
- وهنا تظهر الحاجة إلى حل ما يسمونه بصعوبة اللغة:
إذاً لا بد من البحث عن الحل! الحل ذو شقين:
الأول: يكمن في أن يتقن أطفالنا الفصحى قبل دخول المدرسة ـ بالإضافة إلى العامية، ولكن معظم البيوت في مجتمعنا العربي اليوم لا يحسن أي من الأبوين الفصحى. وهنا نصل إلى الحل الثاني.
الحل الثاني: يكون بتدريب المعلمين والمعلمات في المدارس ـ دور الحضانة ـ الروضات ـ الابتدائية على المحادثة بالفصحى؛ بحيث تكون لغة المدرسة طوال اليوم المدرسي.
فعلى غرار الحل الأول بدأ الدكتور عبد الله الدنان يكلم ابنه (باسل) قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً بالفصحى، وكانت والدة باسل تكلمه بالعامية، وكان عمر ابنه آنذاك سنة واحدة، أتقن المحادثة بالعربية الفصحى ـ يرفع وينصب ويجر دون خطأ ـ كما أتقن المحادثة بالعامية وعمره ثلاث سنوات، وعندما أصبح في الصف الثاني الابتدائي كان قد قرأ 350 كتاباً من كتب الأطفال. كرر الدكتور عبد الله الدنان التجربة نفسها مع ابنته (لونه) التي تصغر باسلاً بأربعة أعوام، فأتقنت الفصحى والعامية مثل باسل تماماً، ثم انتقل إلى التطبيق الجماعي في رياض الأطفال؛ فأنشأ روضة الأزهار العربية بدمشق، ومن ثم أخذت الفكرة بالانتشار والتطبيق في أكثر من دولة عربية، وإن كانت المملكة العربية السعوية أكثر هذه الدول، وقد تبنت الفكرة حتى الآن أكثر من ستة عشر مدرسة منتشرة في سبعة أقطار، وقد تزايد الإقبال على البرنامج في السنتين الأخيرتين بشكل كبير لأسباب من أهمها: تطبييق الفكرة بالمدارس، وتشجيع المعلمين والمعلمات على المبدأ الأساس الذي يقوم عليه البرنامج، وهو اعتماد اللغة العربية الفصحى لغة وحيدة للتواصل في المدرسة طوال اليوم المدرسي داخل الصف وخارجه. والسبب الآخر هو النتائج الملموسة لتطبيق البرنامج. ومن أهم النتائج المذهلة التي حصل عليها الطلاب والطالبات الذين طبق عليهم البرنامج: زيادة تحصيلهم العلمي بنسبة تتراوح بين 8% إلى 19% ليس فقط في مواد اللغة العربية، بل في جميع المواد، وهو ما أثبتته دراسة علمية أجريت لهذا الغرض، بالإضافة إلى إتقان التحدث باللغة العربية الفصحى، حيث تنمو لدى الطفل مهارات القراءة والكتابة وزيادة القدرة على الاستيعاب، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى الثقة الكبيرة بالنفس والجرأة على النقد والاستفسار، هذا بالإضافة إلى ارتفاع مستوى التحصيل الدراسي في جميع المواد الدراسية.(214/29)
وقفة تدبر مع آية من كتاب الله العزيز
د. حياة بنت سعيد با أخضر
يقول ـ تعالى ـ في سورة النور في معرض ذكره ـ سبحانه ـ لحادثة الإفك: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] .
معنى الإشاعة: الانتشار. وشاع الحديث: إذا ظهر في العامة.
معنى الفاحشة: الفاحشة مأخوذة من الفحش.
يقول ابن فارس ـ في كتابه المقاييس ـ: الفاء، والحاء، والشين كلمة تدل على قُبح في شيء وشناعة. وقال ابن منظور في لسان العرب: الفحش والفحشاء: القبيح من القول والفعل، وجمعهما الفواحش. والفحشاء: اسم الفاحشة، والفاحش: ذو الفحش والخنا من قول أو فعل، وكثيراً ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا.
وخلاصة ما سبق: أن الفاحشة: ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقضه العقل المستقيم.
ولنا وقفات مع هذه الآية، نستشعر من خلالها ما يجري في مجتمعنا المسلم من ظواهر تعين على انتشار الفاحشة.
- الوقفة الأولى: تفسير الآية:
يقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: الفاحشة: أي الأمور الشنيعة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة: {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] أي موجع للقلب والبدن؛ وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجرأته على أعراضهم؛ فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة واستحلاء ذلك بالقلب؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك من إظهاره ونقله، وسواء كانت الفاحشة صادرة أم غير صادرة؟ وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم كما صان دماءهم وأموالهم. وأمَرهم بما يقتضي المصافاة أن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ؛ فلذلك علّمكم وبيّن لكم ما تجهلونه. ولنقرأ وقفة الرازي ـ رحمه الله ـ في موسوعة التفسير الكبير؛ حيث عقب على قوله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فقال: فهو حسن الموقع بهذا الموضع؛ لأن محبة القلب كامنة، ونحن لا نعلمها إلا بالأمارات. أما الله ـ سبحانه ـ فهو لا يخفى عليه شيء؛ فصار هذا الذكر نهاية في الزجر؛ لأن من أحب إشاعة الفاحشة، وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله ـ تعالى ـ يعلم ذلك منه. وإن علمه ـ سبحانه ـ بذلك الذي أخفاه كعلمه بالذي أظهره، ويعلم قدر الجزاء عليه، كما تدل الآية على أن العزم على الذنب العظيم عظيم، وأن إرادة الفسق فسق؛ لأنه ـ تعالى ـ علق الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة، ثم ختم الرازي ـ رحمه الله ـ تفسيره لهذه الآية بقوله: قال أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ: المصابة بالفجور لا تُسْتَنْطَق؛ لأن استنطاقها إشاعة الفاحشة، وذلك ممنوع منه (1) .
ونقرأ تعليق: صاحب الظلال ـ رحمه الله ـ على هذه الآية؛ إذ يقول: والذين يرمون المحصنات ـ وبخاصة أولئك الذين تجرؤوا على رمي بيت النبوة الكريم، إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة، وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفواحش؛ وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها؛ وبذلك تشيع الفاحشة في النفوس لتشيع بعد ذلك في الواقع؛ من أجل هذا وصف الله ـ تعالى ـ الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية، يقوم على علم تام بالنفس البشرية، وتكيُّف مشاعرها واتجاهاتها، ومن ثم يعقِّب الله ـ تعالى ـ بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي يبصرها ويعلم بها؟ ومن ذا الذي لا يخفى عليه شيء إلا العليم الخبير؟
- الوقفة الثانية:
من خلال ما سبق نعلم أن مجرد حب إشاعة الفاحشة يؤدي بصاحبه إلى وقوع العقاب الأليم عليه في الدنيا والآخرة. ونلاحظ أن الله ـ تعالى ـ لم يقل بأن عقوبتهم بالعذاب فقط وإنما وصفه بالأليم، ولن نستطيع أن نتخيل أبداً مدى ألم هذا العقاب، ومن ثم علينا ألا نستخف به، ونراه هيناً وهو عند الله عظيم، كما أن هذا العقاب لا يتوقف على حياة واحدة في الدنيا، بل يمتد إلى الآخرة ليشهد عقابه الأليم أهل القيامة، ويظل ينتظر الأمل بشفاعة قد تنجيه من هذا العذاب؛ فأي شؤم يطال محبي إشاعة الفاحشة بين الذين آمنوا في الدنيا والآخرة، وهو يتقلب في عذاب أليم قاده إليه قلبه لمّا أحب ما أبغض الله! وهذا يقودنا للوقفة الثالثة.
- الوقفة الثالثة:
إذا كان ما سبق من عقاب أليم إنما خصص لمن أحب بقلبه إشاعة الفاحشة؛ فكيف بمن ساهم في نشرها بين الذين آمنوا بكل قوة وبذل مادي ومعنوي، ورصد لذلك الجوائز المغرية، والمسابقات الملفتة للنظر بفحشها ومجونها، وهيأ الأماكن المترفة، ونشر الصفحات والمجلات المتعددة، والمواقع المشبوهة، في تسابق محموم بغيض حاقد؟ فكلما ظهرت قناة تبعتها قنوات أخرى، وكلما أنشئت مجلة ماجنة نافستها مجلات على النهج نفسه، وكلما سطَّر قلم مجوناً وفحشاً تنافس معه متنافسون، وكلما ظهر صاحب فحش من الجنسين في أي مجال شيطاني؛ قام شياطين الإنس ببعث المئات من أمثالهم، وأصبح هؤلاء هم النجوم التي يهتدي بها بعض شباب المسلمين في حياتهم ليزدادوا ظلاماً وتيهاً.
- الوقفة الرابعة:
مما يدمي القلب، ويشعله خوفاً من نزول عذاب متتابع فوق أنواع العقوبات التي نكابدها أنّ حب إشاعة ونشر ودعم الفاحشة بين الذين آمنوا إنما يبلغ أَوْجَهُ وقوته في مواسم العبادات وذروة الأوقات التي يمنّ الله الرحيم بها علينا لنكفر عن السيئات، ونزداد في الحسنات، ونعيش في نعيم نسائم الرحمات، وهي أوقات رمضان المبارك، وعيد الفطر، والأيام العشرة الأولى من ذي الحجة، وأيام عيد الأضحى المبارك، فنجد الشياطين وقد أجلبت علينا بخيلها ورجلها لتقدم كل ما يحطم ويقتل معاني الحب، والذل والخضوع والطاعة والاستسلام لله تعالى، وتجعل من المسلم عبداً ممسوخاً لشهواته ولذَّاته، لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من العبادة إلا رسمها، ولا من الحب لله إلا نطق اللسان فقط، فينقلب المسلمون إلى أهل الإرجاء الذين يجعلون الإيمان قولاً واعتقاداً فقط؛ أما العمل فلا دخل له في ذلك، فنتحول إلى قطعان تهرف بما لا تعرف، تنساق إلى مذابحها في عقيدتها وهي ضاحكة مستبشرة. فأي حقد يصبه علينا أعداء ديننا، ونحن نراهم يتقاسمون الأدوار فيما بينهم وبأموالنا، ووقودهم شبابنا ونساؤنا، وقبل ذلك ديننا، كل منهم قد علم دوره جيداً فأتقنه وبلّغه؛ فأصبحنا أمة أحبت إشاعة الفاحشة؛ فأي عذاب ينتظر الجميع؟!
- الوقفة الخامسة:
هذه الآية إن كانت تهديداً ووعيداً لمن أحب إشاعة الفاحشة؛ فهناك حديث صحيح يبين لنا عقوبات نشر الفاحشة إذا شاعت؛ فعن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتُليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمُطَروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (1) . وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» (2) .
هذه العقوبات المتوالية في الدنيا، وما عند الله أعظم.
- الوقفة السادسة:
هناك مظاهر في مجتمعنا تعين على نشر الفاحشة بين أفرادنا، وإن كان فاعلوها لم يقصدوا ذلك. وهي: بيع وشراء ولبس الحجاب المتبرج الذي يكشف أكثر مما يحجب، فنجد المسلمة، وقد لبست من الحجاب أنواعاً تغري الرجال، وتوقعهم في زنا النظر المتكرر، ومن ثم الكلام، وقد تصل الأمور إلى ما هو ما أبعد من ذلك، وهذه المسلمة تصر على إظهار مفاتنها أمام الجميع بلا حياء في كل مكان؛ لما ترتدي الملابس الفاضحة في كل مناسبتها؛ فهي تشجع غيرها على مجاراتها، وتقليدها مسلكها، وتثير في نفوس بعضهم مشاعر شاذة، ونظرات خاصة لا يرضاها الله تعالى.
كذلك من هذه المظاهر المعينة على إشاعة الفاحشة جلب العمالة لبلادنا من الرجال بلا زوجاتهن، ومن النساء بلا أزواجهن لسنوات أقلها سنتان؛ مما يشجع كثير من هؤلاء النساء على اقتراف الفاحشة بالتراضي، أو مع غيرهم بوسائل الاغتصاب المعروفة، وصحفنا ودوائرنا الحكومية لا تخلو أحياناً من أخبار يندى لها الجبين المسلم الحر، وهذا أمر بدهي وفطري؛ فهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ جعل للمجاهد فترة محددة يبتعد فيها عن زوجته، حتى لا يكلفهما ما لا يطيقان من مشاق تصطدم مع حاجاتهما الضرورية الفطرية؛ فيكف بهؤلاء؟ أليسوا بشراً مثلنا؟
وأختم ما سبق بأن القرآن العظيم ما أنزله الله ـ تعالى ـ إلا لنتدبره؛ فهل تدبرناه؟ وهل سألنا الله دائماً ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا؟ نعوذ بك اللهم من جَلَد الفاجر، وعجز الثقة.. اللهم آمين.
__________
(*) أستاذ مساعد بمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
(1) تفسير الرازي من تفاسير الرأي، وعليه ملاحظات، ولذا أُثِرَ عن بعض العلماء في التوعية منه أن فيه كل شيء إلا التفسير وهي مبالغتة في القول، إلا أنه لا يخلو من الفوائد لمزيد من الرأي حوله أنظر (التفسير والمفسرون) للشيخ محمد حسين الذهبي، رحمه الله. ـ البيان ـ.
(1) صحيح سنن ابن ماجه، كتاب الفتن ـ وقال عنه الألباني ـ رحمه الله ـ: حديث حسن. وذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
(2) صحيح سنن ابن ماجه، كتاب الفتن. وقال عنه الألباني ـ رحمه الله ـ: حديث صحيح.(214/30)
بشهادات اليهود..
الفلسطينيون لم يبيعوا أرضهم
كما روجت العصابات الصهيونية
صلاح حسن رشيد
أوهام صارت واقعاً مغلوطاً خارجاً على الأديان والأعراف والتاريخ والجغرافيا، وخزعبلات تحولت بالمكر والخديعة، وسلاح شراء الذمم، وسياسة الاغتصاب، والتشويه والتزوير إلى واقع بئيس يحاصر العرب. ويغرس خنجره المسموم في أنف المنطقة. ويدس أفكاره الباطلة في سياسة العالم، وكائن لقيط لا أب له ولا جد يسرق أمجادنا وتراثنا. تلك هي إسرائيل الزائفة التي ليس لها تاريخ ولا جغرافيا ولا هوية في فلسطين؛ لكنها تجرأت على أصحاب الأرض فطردتهم وشردتهم، وهدمت مدنهم وقراهم، واستولت عليها بعد أن مسخت ونسخت، وبدلت كل المعالم التي تؤكد أن القدس عربية إسلامية، وأن فلسطين أرض العرب والمسلمين. كما روجت العصابات الصهيونية لروايات منتحلة مدسوسة على أهل فلسطين تزعم أنهم باعوا أراضيهم بمحض إرادتهم لليهود. وتلقَّف العالم هذه الافتراءات والأكاذيب، والأساطير والخرافات التي جعلوها من المسلّمات التي لا يجوز الاقتراب منها أو المساس بها. وهكذا قامت إسرائيل دولة الإرهاب والقهر، والنازية الجديدة، والفاشية الملعونة على أشلاء المطرودين، والمشردين، والمضطهدين من أهل فلسطين، وليس على أكاذيب وتخرصات تحكيها رواياتهم الفاسدة المجروحة المدلسة التي تزعم أن الفلسطينيين باعوا أرضهم وديارهم، وتركوها لليهود.
هذا ما يقصه ويحكيه كتاب «فلسطين وأكذوبة بيع الأرض» من تأليف (عيسى القدومي) الصادر عن مركز المقدس للدراسات التوثيقية ـ 2004م، مؤكداً أن تلك فرية ظالمة، وأكذوبة سمجة كذبها الواقع، وشواهد التاريخ، انطلت على الساسة، والقادة والمؤرخين في الغرب الذين صدقوا هذه القصص الواهية، فساندوها، وأيدوها، وخالفوا قرارات الشرعية الدولية والأدلة التاريخية التي تنحاز للعرب، وأهل فلسطين أصحاب الأرض والماضي والتاريخ والجغرافيا، وعن حجم تلك الأكذوبة تصف روز ماري ـ الباحثة البريطانية ـ انتشارها بالقول: «لقد آذى التشهيرُ الفلسطينيين أكثر مما آذاهم الفقر، وأكثر الاتهامات إيلاماً كان بأنهم باعوا أرضهم، أو أنهم هربوا بجبن. وقد أدى الافتقار إلى تأريخ عربي صحيح لعملية الاقتلاع التي لم تُرْوَ إلا مجزأة حتى الآن ـ أدى بالجمهور العربي إلى البقاء على جهله بما حدث فعلاً» . ولهذا استطاع اليهود بهذه الأكذوبة أن يرسخوا مفاهيم غاية في الخطورة، يصعب التحول عنها لدى الكثير من الناس؛ فأصبحت أكذوبة متجددة منذ احتلال أرض فلسطين في عام 1948م إلى يومنا هذا، والحقيقة المرة التي يندى لها الجبين هي أن تاريخ القضية الفلسطينية ـ منذ بدايتها حتى الآن ـ لم يكتب بعدُ.
فما حدث في فلسطين من اقتلاع شعب من أرضه، وإحلال شتات اليهود في مساكنهم، وممتلكاتهم وأرضهم، وهم لا يزالون يحملون مفاتيح بيوتهم، وينتظرون العودة إليها، ما زال يدور حول هذا التاريخ الكثير من الأكاذيب؛ لأنه كتب بأيد منطلقُها: «إذا أردت أن تقتل عدواً فلا تطلق عليه رصاصة بل أكذوبة» .
- بداية الأكذوبة:
يقول الكتاب: «إن أكذوبة بيع الفلسطينيين أرضهم لليهود أكذوبة تتصاغر أمامها كل الأكاذيب التي أشاعها اليهود؛ لتبرر احتلال أرض فلسطين المباركة. فقد راجت في الأوساط العربية، واستطاعت أن ترسخ في أذهان الكثيرين تلك الأساطير المريضة التي لا أساس لها من الصحة؛ فلقد اختزل تاريخ فلسطين المعاصر، وأصبح مشوهاً في عدة فقرات وعبارات ملفقة هي: (الفلسطينيون باعوا أرضهم لليهود) ، (من باع أرضه لا يحق له الرجوع إليها) ، (الفلاحون قاموا ببيع مزارعهم، وحقولهم، وتمتعوا بأثمانها، ثم جاؤوا اليوم يدعون ويلاً وثبوراً) .
والمؤسف حقاً أن كثيراً من أبناء الشعوب العربية صدَّقوا تلك الأكاذيب التي نشرها اليهود، وروج لها أعوانهم، وأهمها: «أن الشعب الفلسطيني باع أرضه لليهود؛ فلماذا يطالب بتحرير أرض قبض ثمنها؟» .
لكن الجديد هذه المرة أن دحض هذه الخرافات لم يأتِ عن طريق العرب والفلسطينيين، وإنما من قِبَل اليهود أنفسهم.
وعن مصدر هذه الأكذوبة، وغيرها يقول الشيخ (محمد أمين الحسيني) مفتي فلسطين: «إن المخابرات البريطانية وبالتعاون مع اليهود أنشؤوا عدة مراكز دعاية ضد الفلسطينيين، ... ملؤوها بالموظفين والعملاء والجواسيس، وكان من مهامها بث الدعاية المعروفة بدعاية الهمس واللمز والتدليس» .
- أراضي فلسطين أيام العثمانيين:
من المعروف والبديهي أن (السلطان العثماني عبد الحميد) تصدّى للأطماع الصهيونية في فلسطين، ومحاولات الزحف اليهودي إليها بكل ما أوتي من قوة، وإيمان، ودبلوماسية أيضاً، ورفض جميع أنواع الإغراءات المادية والمعنوية للمحافظة على المقدسات الإسلامية في فلسطين من السيطرة الصهيونية واليهودية عليها، وهو الأمر الذي أدى به في النهاية إلى فقدان عرشه وعزله ونفيه.
إلا أن الضغوط البريطانية على الدولة العثمانية أفرزت قانون «تصرف الأشخاص الحكمية» لعام 1910م، الذي أعطى الشركات حق التملك والتصرف بالممتلكات غير المنقولة. وقد تمكنت المؤسسات الصهيونية من استغلال هذا القانون للتحايل غير المشروع، لتجد لنفسها فرصة اقتناص أراضٍ في فلسطين.
ونجحت الضغوط البريطانية في تغيير بعض القوانين العثمانية، لتفسح المجال أمام العصابات الصهيونية التي كانت الخلافة العثمانية حريصة على عدم تمكينها من أراضي فلسطين. كما قدمت البعثة الفنية التي أرسلتها بريطانيا لمسح أراضي فلسطين خدمات خطيرة للاستيطان اليهودي في فلسطين. وأخذ المشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين بالسير بوتيرة متسارعة؛ حيث تمكن اليهود بواسطة دعم بريطاني ضخم، وعن طريق التحايل على القوانين العثمانية، وبأساليب ملتوية، وهو الأمر الذي أدى إلى اقتناص 650.000 دونم، وتُعَدُّ بريطانيا مسؤولة بالدرجة الأولى عن تسهيل حيازة وسرقة هذه الأراضي من قِبَل اليهود.
ويؤكد هذه الحقيقة الشيخ (أمين الحسيني) ؛ حيث يقول: «إن 650.000 دونم استولى عليها اليهود في عهد الحكومة العثمانية خلال حقبة طويلة، من الأراضي الفلسطينية؛ بحجة إنعاش الزراعة، وإنشاء مدارس زراعية» على الرغم من أنه لم يكن لليهود أي حيازات للأراضي الزراعية في فلسطين حتى عام 1868م، كما لم يزد عددهم حتى عام 1877م عن 1.3% من إجمالي عدد سكان فلسطين. وكان لبريطانيا الدور الأكبر في استعمار اليهود جزءاً من أرض فلسطين، وتشجيعهم على الهجرة غير الشرعية إليها.
- الإقطاعيون ودورهم في بيع الأراضي:
ويحكي الكتاب عن قصص دامية، ومخجلة لكبار الملاك الذين باعت لهم الدولة العثمانية القرى والأراضي الفلسطينية التي عجزت عن تسديد ديونها؛ بسبب الضرائب الباهظة المستمرة التي فرضت على هذه القرى. وهكذا حصل كبار الإقطاعيين على الأراضي الفلسطينية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر تمكن الثري اللبناني «سرسق» من شراء قرية في (سهل مرج بني عامر) في فلسطين عام 1869م، وكان هذا السهل قد آل للدولة عندما انتزعت ملكيته من قبيلة بني صخر. وحين وجد هؤلاء التجار من يدفع لهم أكثر باعوها لليهود. وهذه الأراضي بيعت من قِبَل العائلات العربية غير الفلسطينية ومنها: عائلات «القباني» و «التويني» و «الجزائري» و «سرسق» و «سلام» و «الطيان» ، وهي التي باعتها لليهود بأثمان باهظة بعد ذلك. لكن الحقيقة المؤكدة أنه لم تتسرب لليهود من أملاك وممتلكات الفلسطينيين سوى نسبة ضئيلة جداً لا تذكر.
- كم باع الخونة من أرض فلسطين؟
مما أسلفنا يتأكد بالأدلة والوثائق أن مساحة الأراضي التي اشتراها اليهود من عرب فلسطين، وبعضها نتيجة قانون نزع الملكية، وتنفيذاً للأحكام التي أصدرتها المحاكم المختصة، أو لظروف اقتصادية بالغة القسوة، أو لوجود بعض العملاء هي 261.000.000 دونم، وهي تعني أنها نسبة ضئيلة تعادل أقل من 1% من مجموع مساحة أرض فلسطين. وفى هذا الإطار يحكي الخبير الإنجليزي (فرانس) في مذكراته مفنداً ادعاءات العصابات الصهيونية بقوله: «إن بعض الأهالي اضطروا إلى بيع أراضيهم إما لتسديد ديونهم، أو لدفع ضرائب الحكومة، أو للحصول على نقد لسد رمق عائلاتهم» .
ويؤكد الإنجليزي (جون رودي) الحقيقة التالية: إن الأكثرية الساحقة من العرب لم تقم ببيع أراضيها، وحتى إن الكثيرين من أصحاب الملكيات الكبيرة مثل (آل الحسيني) ، حافظوا على أملاكهم مصونة إلى النهاية. ويشير الشيخ (أمين الحسيني) رداً على شائعة بيع أراضي الفلسطينيين بقوله: «إن أهل فلسطين منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، ولا يبعد أن يكون بينهم أفراد قصروا، أو اقترفوا الخيانة، لكن وجود أفراد قلائل من أمثال هؤلاء بين شعب كريم مجاهد كالشعب الفلسطيني لا يدمغ هذا الشعب، ولا ينتقص من كرامته، ولا يمحو صفة جهاده العظيم» . ولا شك أن هناك قلة قليلة من عرب فلسطين، سواء من بين كبار الملاك، أو غيرهم قد شاركوا ولو بقدر بالغ الضآلة في هذه الجريمة، وأعانوا عليها؛ بسبب الجهل، وعدم الوعي بحقيقة المؤامرة بصورة كلية، وبعضهم الآخر ربما بسبب عدم اللامبالاة، والتصرف غير المسؤول، وآخرون بسبب ضعف النفس والرغبة في الإثراء الحرام، وعدم الانتماء. كما كانت هناك أسباب قهرية أخرى استثمرتها أبواق الدعاية والإعلام الجهنمية الصهيونية والغربية على حد سواء، ومجمل تلك الأراضي لا تتعدى نسبتها 5% من إجمالي مساحة أرض فلسطين. والحقيقة أن الشعب الفلسطيني فتك بأولئك القلة الذين باعوا أراضيهم، أو كانوا سماسرة للبيع، وعاقبهم على فعلتهم النكراء، كما صدرت الفتاوى بتجريم وتحريم بيع الأراضي لليهود، أو السمسرة على بيعها.
ومع تلك الممارسات الفظيعة تمكن شعب فلسطين برغم قسوة الظروف، والمعاناة من الصمود في أرضه طيلة ثلاثين عاماً محتفظاً بأغلبية 68% من السكان، وبمعظم الأرض 93%، وتدل الإحصاءات الرسمية على أن مجموع ما عليه اليهود إلى يوم انتهاء الانتداب البريطاني في 15/5/1948م نحو مليوني دونم أي نحو 7% من مجموع أراضي فلسطين، ويؤكد «روجيه جارودي» : أن الصهاينة أيام وعد بلفور عام 1917م كانوا لا يملكون إلا 2.5% من الأراضي. وعندما تم تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، كانوا يملكون 6,5% منها، أما في عام 1982م فإنهم أصبحوا يملكون 93%، أما الأساليب المستخدمة لانتزاع الأرض من أصحابها، فإنها كانت أساليب الاستعمار الأشد عنفاً.
ويؤكد اليهودي العالمي (هنري فورد) في كتابه «اليهودي العالمي» : أن إدارة الانتداب البريطاني كانت يهودية، ولا ريب في أن فلسطين تقدم الدليل على ما يفعله اليهود عندما يصلون إلى الحكم.
ويضيف تحت عنوان «اقتناص الأراضي» أنه: «لو عرف العالم حقيقة الأساليب التي مورست لاغتصاب أراضي فلسطين من أهلها في الأيام الأولى من الغزو، والاحتلال الصهيوني، أو لو سُمح لهذا العالم بمعرفتها، لعمه السخط والاشمئزاز، ولا ريب في أن الأساليب كانت تجري بمعرفة (صموئيل) المندوب السامي اليهودي» .
- شهادات وأقوال:
يقول المؤرخ الإنجليزي (أرنولد توينبي) : «سلب أراضي فلسطين جرى في أكبر عملية نهب جماعية عرفها التاريخ.. ومن أشد المعالم غرابة في النزاع حول فلسطين: هو أن تنشأ الضرورة، للتدليل على حجة العرب ودعواهم» .
أما الكاتب اليهودي المنصف «عميرة هاس» فيقول: وفي الوقت الحالي لا يوجد شخص يستطيع أو يرغب في ذكر حجم الأراضي التي بيعت بالغش والخداع، وما هي نسبتها للأراضي الشاغرة، وما هو عدد المتضررين ـ يقصد الفلسطينيين ـ.
أما البروفيسور اليهودي (إسرائيل شاحاك) فيقول: «لم يبق من أصل 457 قرية فلسطينية وقعت ضمن الحدود الإسرائيلية التي أعلنتها في عام 1949م إلا تسعون قرية فقط، أما القرى الباقية وعددها 358 فكانت قد دمرت، بما فيها منازلها، وأسوار الحدائق، وحتى المدافن وشواهد القبور؛ بحيث لم يبقَ بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة ـ حجر واحد قائماً. ويقال للزوار الذين يمرون بتلك القرى إن المنطقة كلها كانت صحراء» .
أما شهادة (موشيه ديان) فهي تبرئ الفلسطينيين من تهمة بيع أراضيهم؛ حيث يعترف قائلاً: «لقد جئنا إلى هذا البلد الذي كان العرب توطنوا فيه، ونحن نبني دولة يهودية.. لقد أقيمت القرى اليهودية مكان القرى العربية. أنتم لا تعرفون حتى أسماء هذه القرى العربية وأنا لا أتكلم؛ لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة. وليست كتب الجغرافيا هي وحدها التي لم تعد موجودة، بل القرى العربية نفسها أيضاً. وما من موضع بني في هذا البلد إلا وكان أصلاً لسكان عرب» .
كما يؤكد تلك الحقيقة أيضاً الباحث اليهودي «بني موريس» بقوله: «نشرنا الكثير من الأكاذيب، وأنصاف الحقائق التي أقنعنا أنفسنا وأقنعنا العالم بها.. لقد حان وقت معرفة الحقيقة، كل الحقيقة.. والتاريخ هو الحكم في النهاية» .
وهو المعنى نفسه الذي تؤكده المحامية اليهودية (إليغرا باشيكو) قائلة: «الوثائق المزورة وعمليات الغش أمر عادي في صفقات بيع الأراضي إلى المستوطنين اليهود» .
ويقول الشيخ (محمد أمين الحسيني) نافياً تلك الأباطيل الصهيونية: «الفلسطينيون حرصوا على أراضيهم كل الحرص، وحافظوا عليها رغم الإغراءات المالية الخطيرة من قِبَل اليهود، ورغم الضغط الاقتصادي عليهم بمختلف الوسائل من قِبَل الانتداب البريطاني» .(214/31)
المكر الإعلامي ودوره في التضليل بين القديم والحديث
أكرم عصبان الحضرمي
لقد صوبت النظر في استغلال قريش حادثة قتل ابن الحضرمي، وأجلْت التأمل في مضامينها؛ فألفيتها ذات صلة قوية باستغلال المؤسسات السياسية الكبرى المناوئة للإسلام لحوادث تنسبها للمسلمين، وإذا بالأسلوبين ـ قديماً وحديثاً ـ يخرجان من مشكاة العداء السافر الذي ينتهي أمره إلى حيث ينسلخ المسلمون عن دينهم، ويعبران من بوابة الإعلام الذي رسنه بأيدي الأعداء. فيقذف من رَحِمِهِ بالتعيير للمسلمين بتلك الحادثة، ويرافقه الحديث عن المحرمات، وانتهاكها بمكر ساخر وكيد ساحر، يؤثر سحره في بعض المسلمين؛ فلا يدري كيف يتعامل معه، ويسقط بعضهم في الهوة التي أرادها الإعلام بتضليله صريعاً. ولا يُبطل هذا السحر ويذهب أثره إلا ما جاء شفاؤه في القرآن، حين فصّل القول في حادثة قتل ابن الحضرمي التي نحن بصدد الحديث عنها.
- أحداث سرية عبد الله بن جحش:
إن أحداث سرية عبد الله بن جحش التي استثمرتها قريش مفادها أن النبي -صلى الله عليه وسلم - بعث سرية من الصحابة، وأمّر عليهم عبد الله بن جحش، وأمرهم أن ينزلوا بطن نخلة ـ بين مكة والطائف ـ ليرصدوا قريشاً، ويعلموا من أخبارها؛ فبينما هم كذلك إذ مرّ بهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة في عير لقريش، فقتله واقد بن عبد الله التميمي، وأسروا اثنين، وساقوا العير إلى المدينة. ولم يدروا أن ذلك اليوم الأخير من رجب. فقالت قريش: إن محمداً وأصحابه استحلوا الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم، وأسروا الرجال، وأخذوا الأموال. هذه هي الحادثة التي أبدت فيها قريش غيرتها على انتهاك الحرمات التي تزعم أنها راعية لها، واستغلت ما ورثه العرب من حرمة القتال في الشهر الحرم، لا سيما شهر رجب، وبما بقي عندهم من دين إبراهيم الذي حادوا عنه، وهذه الحرمة تمكن لقريش ـ سادنة الحرم ـ الأمن الذي تطلبه الوفود التي تفد إلى البيت الحرام، علماً بأنهم يتلاعبون بالأشهر الحرم ـ تقديماً وتأخيراً ـ ويضيفون بذلك رجساً إلى رجسهم، كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37] .
إذن فقد طارت قريش فرحاً بهذه الحادثة فأشاعتها عند العرب كافة، وأذاعتها حتى ردد صداها اليهود في المدينة متفائلين، فقالوا: عمرت الحرب وحضرت، وأوقدت نارها أخذاً من قتل واقدٍ لعمرو بن الحضرمي، لقد عيّرت بذلك المسلمين ـ وهي ظالمة ـ في هذا التعيير، ولم تكن تتباكى على انتهاك المقدسات، وقتل واحد أو أسر اثنين، وإنما وراء هذا التعيير خبيئة تكمن في استمرار حربها ضد المسلمين، وإظهار العداء في أسلوب جديد عاجت عليه، ومالت إليه بعد أن أخفقت جميع أساليبها في الصدّ عن الدين، والذي انتهى بإخراجهم من مكة ليجدوا أرضاً صالحة ينطلقون من خلالها؛ فما أن سمعت بأول حادث قتل، حتى أخرجت أضغانها في هذه الصورة.
- التوجيه القرآني في هذه الحادثة:
وفي ظل هذه الحملة الإعلامية والتحريف الدعائي للحقائق وقف المسلمون منتظرين التشريع الإلهي بعد أن سُقط في أيدي أفراد السرية؛ فظنوا أنهم قد ارتكبوا جرماً عظيماً. فنزل القرآن بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] فسما المسلمون ـ وحري بهم أن يسموا ـ بهذا التوجيه الرباني في دحض فرية الأعداء الذين عندهم من ارتكاب المحرمات، وهي الكفر بالله، والصدّ عن سبيله ما هو أعظم جرماً من قتل ابن الحضرمي. قال ابن كثير: «أي: ثم هم مقيمون على أخبث ذلك، وأعظمه غير تائبين ولا نازعين» (1) . وقال السعدي: «وكانوا ـ يعني المشركين ـ في تعييرهم ظالمين؛ إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما يعيرون به المسلمين» (2) .
فالقرآن إذاً أقرّ أولاً حرمة الأشهر الحرم، بل قد جعلها في آية التوبة من الدين القيِّم؛ فالقتل فيها إثم كبير آنذاك، ثم نسخ هذا الحكم، كما حكى ذلك القرطبي في تفسيره لهذه الآية بأن «الجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، واختلفوا في ناسخها..» . ثم قرر ثانياً أنهم ظالمون في استغلال هذا الحادثة، والتشدق بالحرمات التي لا يقيمون لها وزناً، بل يدوسونها بأقدامهم؛ لأنهم قد صدّوا عن سبيل الله، وكفروا بالله، وأخرجوا المسلمين من المسجد الحرام، وقد كانوا أحق به وآهل منهم، ثم هم مع ذلك قائمون على الشرك ماضون في العداوة. ونحن علينا في مثل هذه الأحداث أن نسلك شِعْب الهدى وناديه، ونُنزل رحلنا بناديه؛ فاشدد أخي يديك بهذه الآيات، ولا تحد عنها بعد استنارتها!
وقد تنكب الهدي القرآني فريقان أقلهما ميلاً من لا يقرّ بخطأ الحدث، وهو غاشٌّ بذلك؛ إذ الواجب عليه أن يبذل النصح للمسلمين، ويلتمس العذر للغالطين، مستنيراً بقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وأعلاهما ميلاً نقيض ما سبق ممن ينجر خلف ركب الأعداء، ويبارك إعلامهم، ويغضي الطرف عن أفعالهم، فيؤخذ على حين غفلة من أمره فيبدي الانفتاح بزعمه، ويشاهد نار الحرب في كل أرض تشعل، والأمر عنده في حادثةٍ مّا مشكل.
وفي الآية لفتة كريمة في قطع دابر الجدال العريض الذي يرتفع ضجيجه حين يكون للخصم شبهة؛ فالمسلك القويم أن ينتقل به إلى ما يخفت معه صوت الباطل من ذكر فضائحه التي يقوم عليها.
- حذو المؤسسات الإعلامية اليوم المكر الأول:
إن المؤسسات الإعلامية الكبرى المعادية للإسلام قد سارت على درب الأولين من الكفار، ولم يدخر أصحابها جهداً في النقيصة من المسلمين إلا وسارعوا في إظهارها ابتغاء التشهير، بل قد أوغلوا في العداوة إيغالاً بعيداً حين يختلقون إفكاً، ويصيغون حديثاً مفترى، وينسبونه للمسلمين زوراً، وبعد ذلك يطالعنا إعلامهم الأصيل، أو ما تبعه من وسائل الإعلام المسيطرين على أعنتها بالحديث عن الحرمات والقوانين الدولية، وانتهاك شرعيتها الزائفة، وحدودها الزائغة، وفي الوقت نفسه ينسى ملايين المسلمين الذين غُيِّبوا في التراب؛ بسبب السياسات الرعناء، ومثل عددهم من الأرامل، وأضعاف عدتهم من اليتامى، وتنسى ملايين المشردين في مجاهل الأرض من أسرى يرسفون في القيود ظلماً. وما يسطر من الأحداث في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وغيرها عنّا ببعيد، ولولا خشية الإطالة لخضنا في أحداثها، ولكن اشتهارها يغني عن الحديث عنها:
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصاً جناحاهُ
فإذا تحدثت هذه المؤسسات عن انتهاك الحرمات ـ والعمل بجهد في فتنة المسلمين عن دينهم ـ فمن يسمع نوح النائحات، ومن يرفع ظلم المكروبين، ويدفع كرب المرملين، ويقف مع اليتامى والمنكوبين.
قال سيد قطب: «إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر، وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان» (3) .
- ما ينبغي مراعاته:
مما ينبغي استخلاصه هنا حين يفيض التضليل الإعلامي في خلفية حادثة معينة ألمّ بها جماعة من المسلمين، وتولت المؤسسات الإعلامية الكبرى الحديث عنها مراعاة ما يلي:
أولاً: التأكد من نسبة ذلك لتلك الجماعة المشار إليها صراحة كالشمس لا تخفى على أحد؛ إذ على مثلها فليشهد المسلم، أو يدع، فإنه لا يأمل غائلة الأعداء، فيقع في معرة بغير علم، كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] .
ثانياً: عدم الإفاضة فيما أشكل أمره، وترك الخوض فيه؛ إذ الواجب فيه الرد إلى الكتاب والسنة، واستنباط العلماء الراسخين، قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
ثالثاً: ما تبيّن حكمه فكان واضحاً، أو خفي فاستخرج حكمه المستنبطون؛ فالمسلك ترك الكبر الذي حده بطر الحق، ولا بد من إيضاح الخطأ مشوباً بمحض النصح للغالطين، وتوليهم مصحوباً بالعذر لهم إن وُجِدَ إليه سبيل، وإلا فإنها زلة تقال ـ من القول ـ وعثرة ينبغي أن تقال ـ من الإقالة ـ.
رابعاً: الغوص في حقائق هذا التضليل، وكشف هوية المؤسسات الإعلامية الدولية التي تعزف على وتر الحدث بعدة نغمات، وتستخف بالدين وأهله، ثم بيان ما هم عليه من الكفر، والصدّ عن سبيل الله، والقتل والتشريد، واستمرار حربهم حتى ينخلع المسلمون من الدين؛ فلا مسوغ لهؤلاء في حديثهم عن انتهاك المحرمات؛ فإما أن يكفوا عن ذلك، وإما إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
قال عبد الله بن جحش شعراً:
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة صدودكم عما يقول محمدُ
وأعظم منه أن يرى الرشد راشد وكفر به والله راءٍ وشاهدُ
واللهَ نسأل أن يبصرنا بديننا، ويتقبل منا صالح أعمالنا، وينصرنا على أعدائنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(214/32)
عولمة الفئران
علاء سعد حسن
الفأر في ثقافتنا من الفواسق الخمس، وهو بلا شك حيوان قذر ضار، يطلق رائحة كريهة، ووجوده في مكان ما يوحي بقذارة المكان، ويثير التقزز والاشمئزاز. تراثنا الديني والثقافي كله يحملنا على شدة (القرف) من الفأر، وعندما كانت ترسو السفن الأوروبية على موانئنا، محملة بالفئران النرويجية التي تسللت إليها بكثرة؛ لتتسرب إلى عالمنا بمئات الآلاف، كانت تروج تجارة مكافحة الفئران من مصايد ميكانيكية، ومبيدات وسمّ للفئران.. إن لحظة دخول الفأر في بيت أحدنا وما يثيره من هلع واضطراب لحظة لا توصف، ويتم تجنيد أفراد الأسرة جميعاً بحثاً عن الفأر واصطياده، وربما لا ينام أهل البيت ليالي مطمئنين، حتى يتم القضاء على الفأر.. ولقد وافقت ثقافتنا وتراثنا علوم الطب الحديث من أن الفأر حيوان ضار ينقل الحشرات القذرة والأمراض الوبائية.
وحيث إنني غير ضليع في اللغة الإنجليزية؛ فلقد كنت أتابع (كرتون ميكي ماوس) ، ولم أكن أعرف أن كلمة (ماوس) في الإنجليزية تعني الفأر، لكن ولا شك أن الغرب كما صدَّر إلينا الفأر النرويجي على متن سفن الشحن؛ فلقد صدر لنا (الماوس) باعتباره بطلاً كرتونياً، ونجماً ثقافياً، يعشقه الصغار والكبار على السواء.. ولقد كنت من المنبهرين بالغرب، وثقافته ونظافته، حيث كنا في شبابنا الأول ننسب إليه كل جميل كأنه جنة الله على الأرض، حتى اهتزت هذه الثقة مع درس التشريح في العام الجامعي الأول لما درسنا الصرصور الأمريكي الذي استوردناه كذلك على متن سفن البضائع، ولقد كنت أتخيل قبل هذا الدرس أننا صدرنا الصرصور إلى العالم فإذا به أمريكي المنشأ والجنسية.
ولم يقتصر الأمر على الفأر (ميكي) - ولو اقتصر عليه لقلنا: إنها فلتة - لكن الغرب يصر على تصدير الفأر وثقافته إلينا؛ فبعد (الميكي ماوس) الذي طارد (بطوط) و (سمير) (1) في عقر دارهما، وسجل انتصاراً ساحقاً على (بوجي وطمطم) (2) ؛ فإن حلقات الكرتون (توم وجيري) تعد أشهى وجبة إعلامية تقدم لنا، وفي الغالب ينتصر الفأر الأذكى، والأخف ظلاً على القط؛ ولأني أعمل في مجال الكمبيوتر؛ فلقد ظللت أتساءل طويلاً عن معنى (الماوس) ، وهو ما يعرف في العربية باسم الفأرة، وهو كما يبدو أهم مكون من مكونات الكمبيوتر الخارجية مع لوحة المفاتيح، وأخيراً عرفت أن الماوس هو الفأر نجم الفواسق الخمس في تراثنا كله. الأمر إذن متعمد، بل إنه في الحقيقة يعبر عن ثقافة القوم، وتراثهم الأصيل؛ فالفأر رمز القذارة والعفن والأمراض، ورمز الخراب؛ حيث ينتشر في الغالب الأعم في الخرابات، والمناور، والأماكن المهجورة؛ فإنه بطل قومي عند الغرب لا شك في ذلك.. ونحن لا ننكر على القوم ذلك، فمن حقهم أن يكون لهم تراثهم الحضاري الأصيل المرتبط بزعيم الثقافة الغربية (الماوس) ، من حقهم ذلك تماماً، ولقد درسنا في مبادئ علم الاجتماع أن من خصائص الثقافات أنها نسبية؛ فما تلفظه ثقافتنا قد تمجده ثقافة أخرى، ولأني أيضاً أؤمن بالعقل وأحترم العلم، وقد تكون سطوري موجهة كذلك إلى من يعتبرون الدين من مكونات الثقافة البيئية، ومن ثم لا يحتج به على ثقافات الآخرين باعتباره موروثاً بيئياً؛ فإنني أحتكم إلى العلم وحده، والعلم يؤكد أن الفئران كائنات ضارة مقززة يجب مكافحتها. فلنجعل العلم فيصلاً بين ثقافتنا وثقافتهم، ولنجعل الدين فيصلاً آخر بين تراثنا وتراثهم نحتج به للذين يؤمنون بأن الدين فوق الثقافة؛ لأنه من لدن خالق البشر، ينزل مثل الغيث من السماء.
إننا إذن في ظل العولمة نعيش صراعاً مريراً بين (بطوط) وبين (ميكي ماوس) ، بين مكونات ثقافة رمزها الأعلى (الفأر) وبطلها القومي (الماوس) ، وبين حضارة أعلت من شأن القط؛ لأنه يلتهم الفأر، ويخلص الأرض من شروره وقذارته، حتى إن (الهرة) وهي القطة التصق اسمها باسم صحابي جليل من صحابة نبينا -صلى الله عليه وسلم -: هو أبو هريرة الراوية المكثر من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم -، ولأن ثقافة (الماوس) ترعرعت في الخرابات، والأماكن والمهجورة والقذرة؛ فمن الطبيعي أن تمتلئ بكل ما تذخر به هذه الأماكن من أوبئة اجتماعية، وثقافية، وأخلاقية؛ فالحشاشون ومدمنو المخدرات ومدخنو الماريوانا لن يجدوا أكثر من هذه الأماكن أمناً لهم، ودعاة الانحراف الخلقي، والشذوذ الجنسي، وراغبو المتع الضالة لا يأمنون على أنفسهم إلا بين مستنقعات العفن: مثل خفافيش الظلام بعيداً عن أنوار الطهر والفطرة السليمة، وتحت حماية عصابات الليل. كان من الطبيعي أن يصل إلينا الفأر، أو (الماوس) مع كل رفاق بيئته الطبيعية، فنضحت الفضائيات الأوروبية والمواقع النتنة بكل مكونات البيئة الثقافية للفأر في تبجح عجيب، ولا تنسوا أبداً أن الثقافة نسبية، وأنه لا ضير أن يتعرى الناس في الغرب، فيعيشوا كالأنعام بل أضل.
فهل إذا انتكست الفطرة، وانقلبت الموازين الإنسانية جميعاً، ودفع بالدين بعيداً عن الحوار الثقافي؛ لأنه وراء التطرف والعنف، وإذا استثنينا كل ذلك من مقومات الإنسانية، فهل يقبل القوم والمقلدون لهم والمفتونون بـ (ماوسهم) وبيئته الطبيعية؛ هل يقبلون بالعلم وحده فيصلاً بيننا وبينهم؟ هل يعقلون أن العلم كما أثبت أن الفأر ينقل الطاعون، وأنه أثبت أيضاً أن الإباحية تؤدي إلى تفشي الإيدز بصورة تكاد تكون وبائية؟
إن الارتكاس الفطري، والشذوذ الخلقي، والهوس العقلي، وسيادة اللامعقول تكاد تصل بالعالم إلى مرحلة (قوم لوط) الذين تنادوا فيما بينهم: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] ؛ ولأن العالم أصبح منذ زمن قرية صغيرة؛ فإننا نخشى أن يطردونا منه؛ لأننا أناس نحيا على الطهر. إن علينا أن نواجه الفأر، وثقافته وبيئته قبل أن يخرجونا من قريتنا، أو يتنزل عليها غضب الله ـ تعالى ـ فيأمر ملائكته أن تقذفها {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33 - 34] .(214/33)
الأمة عندما يراد لها الافتراق والاجتماع معاً
ماجد حمد الماجد
افتراق الأمة واقع يتفطَّر له قلب كل مسلم، وحقيقة معاشة يكابد ألمها كل مصلح، واجتماع الأمة ووحدة كلمتها ماضٍ جميل لا تفتر أفواه الغيورين من ترديده والتذكير به، وحلم يتراءى لكل فرد من هذه الأمة صادق الإيمان.
وبين هذه الحقيقة المؤلمة والحلم الجميل تختلف مدارك الكثيرين وتتباين مواقفهم تجاهه.
فطائفة ركنت لهذا الواقع المؤلم واستسلمت له، ورأت الفرقة حقيقة لا يمكن الانعتاق منها، فبُليت باليأس وقنطت من زوالها، وأصبحت أمة الجسد الواحد ـ عندهم ـ حقيقة تاريخية عفا عليها الزمن، فسعت إلى تجسيد هذه الفرقة بالقول والعمل، تارة باسم العقلانية والواقعية، وتارة أخرى تحت شعار (مصالحنا أولاً) .
فقد رأت في افتراق الأمة مجالاً رحباً للبوح بأنانيتها المفرطة دون مواربة، وانفكاكاً من أداء واجباتها نحو أمتها، فلا جراح هذه الأمة المكلومة تدمي مقلتيها، ولا العوز والفاقة ـ اللذان يجثمان على صدر الكثير من أبناء أمتها ـ يحركان مكامن نفوسها، أو ينقصان من ثرائها.
فلا تعجب إذا رأيتها تصب جام غضبها على إخوانها، وتقرعهم بشديد عتابها، وتحمِّلهم تبعة كل مصيبة تحل بهم، وفي الوقت ذاته تبحث عن أسمج المعاذير وأبعدها عن العقل والدين لتدافع عن خصوم الأمة لمصالح إقليمية موهومة؛ فإن احتل العدو بعض بلاد المسلمين حمَّلت أهل تلك البلاد وزر هذا الاحتلال بأن زعمت أنهم هم من هيَّج هذا العدو لاحتلال أرضهم، وإن انتهكت أعراضهم وشردوا في مخيمات البؤس وسيموا سوء العذاب؛ انبرت لتقول إن مقاومتهم هي التي جعلت العدو يخرج عن طوره وهي لا تمثل رأي سُيَّاسه.
فذبل الولاء والبراء عندها حتى لا يكاد يبين، فلا أبغض إليها من ذكره وترديده؛ فضلاً عن أن تراه في مناهجها مسطوراً؛ لأنها علمت بتبعته عليها؛ فهو يلزمها بنصرة ضعيف بائس، وينهاها عن مصافحة من يداه ملطخة بدماء إخوانها.
ظنت أنها في غنى عن أمتها فقطعت وشائج الصلة التي أمر الله بها أن توصل، وأصبحت تعيش خصوصية إقليمية بغيضة، قد أهمتهم أنفسهم فحسب.
وطائفة أخرى وقفت على النقيض من هذه، رأت في اجترار الماضي خير وسيلة للهرب من واقعها المأزوم، تمارس أحلام اليقظة فلا يتراءى أمام ناظريها إلا الفاروق وعدله؛ والمعتصم ونخوته؛ وأن الراكب يخرج من خراسان إلى مراكش لا يخاف إلا الله، فأسكرتها نشوة الماضي عن إدراك كُنه الحاضر، فأصبحت تعيش غيبوبة لا شعورية عن واقعها المر؛ فهي تتحدث نيابة عن الجميع باسم الجميع في جميع شؤون الأمة، لا تقر بخصوصية ولا تعترف بالافتراق الحاصل فضلاً عن أن تحسن التعامل معه.
ما لا تريده من افتراق الأمة واختلاف مرجعيتها تنكره ولا تقر بوجوده، وما تحلم به تراه حقيقة تتحسسه بيديها، وتراه بكلتا مقلتيها.
ولا شك أن كلتا الطائفتين قد جانبت الصواب؛ فكِلا الأمرين ذميم؛ فالأول يتعامى عن حقائق الدين، والآخر ينكر الواقع ويدفعه.
والمتابع للمشهد الإسلامي يعلم أن الطائفتين السابقتين قليلة الحضور، قليلة التأثير، وأن الحق الذي عليه السواد الأعظم بينهما في وسطية حقة.
وسطية لم تُنْسها مرارةُ الافتراق السعيَ للذيذِ الاجتماع، رأت في وحدة أمتها في الصدر الأول شمعة تضيء لها الطريق لتحقيق هذه الوحدة مرة أخرى، وهدفاً سامياً تسعى لجعله حقيقة تتفيأ ظلاله الشعوب المسلمة، وتسلك في سبيل ذلك كل طريق رشد يوصلها إليه؛ من نشر الأخوة الإسلامية، إلى تلمُّس حاجات إخوانها ونصرة مظلومهم وإعانة ذي الحاجة الملهوف، بل ترى أن في الأمة من جوانب الوحدة الشيء الكثير الذي يحتاج إلى من يفعله ويستثمره لتحقيق الصالح العام؛ فالأمة وإن افترقت سياسياً فلا زالت عقيدة الولاء حية في نفوس الكثير من أبنائها، يؤلمهم كل مصاب يحل ببعضهم، ويؤمنون أن هناك مصالح مشتركة تؤلف بينهم.
لكنها في الوقت نفسه ترى الافتراق الواقع في الأمة حقيقة لا تنكرها كراهة له، بل تتعاطى معه بطريقة عملية تخفف من سوئه؛ لأنها تؤمن أن هناك كبير فرق بين ما تحب أن يكون وبين ما هو كائن حقيقة.
ترى في الفرقة مرضاً طارئاً على جسد الأمة يجب علاجه حتى تتعافى منه، وأولى مراحل العلاج الإقرار بوجود المرض؛ فلا تكلف الأمة حال مرضها بما لا تطيق؛ فالإسلام جعل للمريض رُخَصاً لا يقبلها من الصحيح المعافى.
فهي تدرك خصوصيات البلاد الإسلامية واختلاف الأولويات فيما بينها وتنوع المشكلات التي ينبغي أن يكون علاج الكثير منها بأيدي أهلها، ولكنها تعلم أن هناك ثوابت من مصالح الأمة ينبغي ألا تُمَسَّ باسم الخصوصيات الضيقة، ولا أن يُتلاعَب بها تحت شعار المصالح الخاصة.
ولكن هذه الوسطية لم تسلم من الدَّخَن، من أناس يتزيون بزيها وهم كلابسي ثوبَيْ زور، يريدون غنمها، ويتبرؤون من غرمها.
يعتذرون بالفرقة وأن لكل بلد خصوصيته، أو أنهم لا يرغبون في التدخل في شؤون الآخرين عندما يطالبهم إخوانهم بالنصرة وأداء واجابهم نحوهم، ولكن إن أصابتهم قارعة أو حلت بديارهم مصيبة علا هديرهم مطالباً الأمة بحقوق الأخوة، وتذكروا حين ذاك أن الافتراق صنيعة الاستعمار.
يختزلون مصالح الأمة في ذواتهم؛ فهم الأمة، والأمة هم؛ فعدوهم هو عدو الأمة التي ينبغي أن تُرْخِصَ كل غال في منازلته، وصديقهم الذي يرجون نفعه هو الصديق الذي يجب على الأمة أن تتناسى عداوته وأن تمسح عن يده القذرة آثار الدم لتقبلها.
فلا أحد يملك الحديث نيابة عن الأمة إلا هم؛ فإذا رأوا من أحد منافسة لهم على صعود هذا المنبر دوَّى صخبُهم: مَنْ خوَّله الحديث نيابة عن الأمة؟
وهم وحدهم من يقدِّر مصالح الأمة ويصون كيانها من الاستلاب، وغيرهم إن تحدث فهو جاهل لا يدرك تقدير هذه المصالح أو أحمق يشوه صورة الأمة عند الآخر.
فلا تعجب عندما تقرأ لكاتب يُصَنَّف أنه إسلامي حين يطالب شعب الشيشان أن يقبل بالاحتلال الروسي لبلاده ويغض طرفه عن فداحة الدمار الذي حل بأرضه والإبادة التي نالت أهله؛ والتبرير الذي يقدمه الكاتب سبباً لمقترحه هذا أن عداوة الأمة ليست مع الروس وإنما مع الغرب.
بل لعلك واجد من يتباكى على مصالح الأمة التي ضُيِّعت والخسارة التي نالتها؛ فإذا نقَّبت عن هذه المصالح المضاعة وجدتها مدرسة يملكها قد أُغلقت، أو صحيفة قد ضُيِّق عليها، فيطالب الأمة أن تتنازل عن حقوقها صيانة لممتلكاته.
مثلهم كمثل رجل رأى أخاً له يهرب من أسد يطارده فيطالبه بالاستسلام والتضحية بنفسه كيما تسلم حظيرة أغنامه.
أو كرجل رأى الناس أقبلت لتطفئ ناراً قد اشتعلت في بيت جاره وهو يسمع صراخ النساء والأطفال والحريق يلتهمهم وليس للناس طريق إليهم إلا من خلال زرعه؛ ثم هو ينهاهم عن المرور صيانة لهذا الزرع من الفساد؛ لأنه وَقْفٌ على أيتام.
هذه حالهم يريدون للأمة الافتراق والاجتماع معاً حسب مصالحهم التي يغلِّفونها تارة باسم الدين، وتارة أخرى باسم العمل الإسلامي، فيتعامون عن مصائب إخوانهم، ويشقُّ عنانَ السماء صراخُهم عندما يُشاكون بشوكة.(214/34)
215 - رجب - 1426 هـ
(السنة: 20)(215/)
لِنَعْتَدِ العملَ في أجواءِ التحامل!
جُبِلَتْ مجتمعاتنا الإسلامية على احترام من يدعوها إلى ربها، ويبصِّرها بأمر دينها، حتى صار المتطاول بباطل على أحد منهم منبوذاً مردوداً عليه من عامة أفراد المجتمع؛ فكيف بخاصته؟
وفي زماننا هذا ـ الذي كثر فيه حزب الشيطان، وعظم تواصي أبناء هذا الحزب على إزهاق الحق وتشويه حَمَلَته ـ تنامت ظاهرة تجريح علماء الإسلام والتحامل الجريء على أطروحات دعاته بصورة قد يوصلها في المنظور القريب إلى حد المشكلة إن لم تتنامَ إلى مرحلة الأزمة.
ومن كثرة الطَّرْق وشدته عبر وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال المتعددة صار يمارس ذلك النقد المتحامل فئات من أبناء المجتمع ـ الذين لا يشك في صدق تدينهم بل وحتى في صحة الباعث لديهم ـ تضخيماً منهم لأخطاء واقعة في صفوف الدعاة من جهة، ولتأثرهم بشبهات حزب الشيطان وأصواتهم العالية من جهة ثانية.
والمهم ليس ما يفعله أعداء الإسلام وطلائعهم من أبناء جلدتنا؛ إذ إن طبيعة الصراع وغياب البعد الأخلاقي لدى عامتهم تجعل ذلك هو المتوقع منهم، بل المهم هو: مدى قدرتنا على تجاوز ذلك التجريح والنقد المتحامل والتفريق بينه وبين النقد الموضوعي، ومدى قدرتنا على إدارة ذواتنا، والتركيز على التوجه نحو أهدافنا بعزيمة وإصرار دائبين دون الشعور بإحباطٍ أو انشغال بردّات فعلٍ تُفرح (الآخر) وتجعله يستعر في حملته.
إن طبيعة المرحلة التي نمر بها تحتم على أهل العلم والدعوة التواصي بالصبر، والتنازل عن كثير من حقوق النفس في ذات الله ـ عز وجل ـ والتدرب على امتلاك مهارات الحوار، وتحمُّل النقد الجائر والتجريح المتعمد بصورة تحول دون تحقيق مآرب (الآخر) ، وتمكن في الوقت ذاته من تفهُّمه وتقبُّل ما لديه من حق؛ إذ إن الحكمة ضالة المؤمن وحيثما وجدها أخذها؛ فهو أحق بها.
ولنا في إعراض الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم - عن سفاهات قومه وسبابهم المقذع، واشتغاله بتبليغ ما أنزل إليه من ربه عظيم الأسوة.
وهذا بكل تأكيد لا يتنافى مع الحاجة إلى الاحتساب على بعض رموز تلك الحملة المغرضة من قِبَل بعض الغيورين القادرين على ذلك، لكن بشرط أن يتم ذلك بصورة لا إغراق فيها ولا تضخيم.
اللهم ألهمنا رشدنا، واحفظ علينا ديننا، ووفقنا إلى ما يرضيك عنا، إنك الرحمن الهادي إلى سواء السبيل.(215/1)
رحيل القادة
د. عادل بن محمد السليم
رئيس مجلس إدارة مجلة البيان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين.. وبعد:
فإن للموت هيبة عظيمة في نفوس المؤمنين، وهو سُنَّة من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه جميعاً، تدل أبلغ الدلالة على عظمة الله الحي الذي لا يموت، سبحانه وتعالى. قال الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] ، وقال ـ تعالى ـ في محكم التنزيل: {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] .
وكلنا سائر في هذا الطريق عاجلاً أم آجلاً، كبيرنا وصغيرنا، أميرنا ومأمورنا، رجالنا ونساؤنا، وكما قال الشاعر:
للموت فينا سهام جدُّ صائبةٍ من فاته اليوم سهم لم يفته غدا
وقال الآخر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمولُ
وموت عظماء الأرض ـ خصوصاً ـ يملأ القلب وجلاً ومهابة وخشية فإن «للموت فزع» ، لما ثبت في صحيح مسلم (1) ، فسبحان من بيده مقاليد الأمور! وسبحان من بيده ملكوت السماوات والأرض!
ولقد كان رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ حدثاً كبيراً، ومؤثراً جداً على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، لما للفقيد وللمملكة العربية السعودية من منزلة كبيرة في قلوب المسلمين، وإنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى.
تحدث الكثيرون عن مآثر الملك الفقيد، وخصصت الجرائد اليومية والإذاعات والقنوات الفضائية حيزاً كبيراً لاستعراضها والتذكير بها، وحسبي هنا أن أذكِّر بإنجازين اثنين على رأس تلك الإنجازات:
الأول: العناية بطباعة المصحف الشريف؛ وذلك بإنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة.
ويعد هذا المشروع نقلة نوعية رائدة في ضبط طباعة المصحف وحفظه ونشره، حيث استقطب المشروع مجموعة من كبار القرَّاء وعلماء القراءات، ليصبح أكبر صرح لطباعة القرآن الكريم في العالم، وكان من ثمراته طباعة أكثر من (200.000.000) نسخة انتشرت في مختلف آفاق العالم. كما اعتنى المشروع بالترجمات التفسيرية للقرآن الكريم التي بلغت أكثر من (30) ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وتبلغ الطاقة الإنتاجية للمجمع حوالي (عشرة ملايين) نسخة سنوياً، منها مليون نسخة لترجمة تفاسير القرآن الكريم.
الثاني: خدمة الحجيج والعناية بعمارة الحرمين الشريفين ورعايتهما، وتسهيل السبيل أمام العُمَّار والحجاج من جميع أنحاء العالم.
ويعد مشروع توسعة الحرمين الشريفين من أهم المشاريع التي أُنجزت؛ حيث بلغت المساحة الإجمالية لمسطحات التوسعة في المسجد الحرام (76.000م2) لتصبح المساحة الإجمالية للمسجد الحرام كاملاً (328.000 م2) مع العناية الفائقة بتسهيل الحركة والانتقال داخل أروقة المسجد وخارجه.
أما المسجد النبوي الشريف فقد بلغت المساحة الإجمالية لتوسعته (82.000 م2) وسوف يتم الاستفادة من سطح التوسعة بمساحة قدرها (67.000م2) . هذا بالإضافة إلى توسعة المنطقة المحيطة بالمسجد النبوي الشريف، وتجهيزها بكافة المرافق والتسهيلات التي يحتاجها المسلمون.
أما مسجد قباء فحظي بأكبر توسعة حيث كانت مساحته (1352م2) وأصبحت بعد التوسعة (7465م2) بزيادة قدرها 550% تقريباً.
إنَّ خدمة الحجيج وتعظيم بيوت الله ـ عز وجل ـ وإعادة مجدها ووظيفتها في الأمة من أعظم الواجبات وأجل الحرمات التي يجب أن تتضافر حولها الجهود، وتوفر لها الإمكانات المادية والتقنية والبشرية.
إنَّ لهذا البلد المبارك (المملكة العربية السعودية) خصوصية تميزه عن سائر البلدان؛ فهو يحتضن أشرف بقعتين على وجه البسيطة: مكة المكرمة، والمدينة المنورة؛ فهما أرض النبوة، وفيهما تعلقت أفئدة المسلمين بمختلف أعراقهم وألوانهم في شرق الأرض ومغربها، وقدر هذه الجزيرة أن تكون إسلامية؛ ليس ذلك فحسب، بل أن تكون حامية لحمى الإسلام، رافعة لراية التوحيد، وقد بذرت البذور الأولى لهذه النبتة الشامخة منذ التأسيس الأول والتلاحم الأمثل الذي أصَّله الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب ـ رحمهما الله تعالى ـ حيث تعاهدا على تطبيق الشريعة الإسلامية، وسياسة الناس بكتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم -، تحقيقاً لقول الله ـ عز وجل ـ: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] . ومنذ ذلك الحين انطلقت الدعوة السلفية التجديدية المباركة من هذه البلاد إلى أرجاء المعمورة. وفي العصر الحديث ساهمت المملكة العربية السعودية في دعم مسيرة الدعوة عبر بناء المساجد والمراكز الإسلامية، ونصرة قضايا المسلمين في فلسطين والبوسنة والهرسك وغيرها.
واختيار الملك فهد بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ للقب خادم الحرمين الشريفين تأكيد لهذه الخصوصية، وترسيخ للتلاحم الوثيق الذي يجب أن يكون بين الدين والدولة في هذا البلد. كما أن اختيار الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ رعاه الله ـ لهذا اللقب أيضاً استمرار لهذا التأكيد وإلجام لمن يدفعون بهذا البلد العزيز بعيداً عن هوية الأمة وثوابتها العقدية، ويريدون إلباسها لباس الشرق تارة، ولباس الغرب تارة أخرى. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151 - 152] .
وعندما تولى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ رعاه الله ـ مُلك المملكة العربية السعودية أكد ذلك في كلمته الأولى للشعب عندما قال: «أعاهد الله ثم أعاهدكم أن أتخذ القرآن دستوراً والإسلام منهجاً» وهذا ما نحسبه ـ بإذن الله ـ الطريق الأقوم لتعزيز التعاون الوثيق بين مختلف فئات الشعب ولحماية راية الأمة، وعقيدتها، وتنميتها علمياً وحضارياً، لتكون شامة شامخة بين الأمم، خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تكاثرت فيها الفتن، واستهدفت الأمة بأعز ما تملك، وأجلب عليها أهل الأهواء بخيلهم ورجلهم، والله نسأل أن يحفظ لبلدنا تماسكه وأمنه ورخاءه، وأن يعز دينه وينصر أولياءه.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
(1) كتاب الجنائز، (2/660 ـ 661) ، رقم (960) .(215/2)
الحكم على المسلم
محمد بن عبد الله السحيم
خلق الله الإنسان ظلوماًَ جهولاً، ونوّر بصيرة من شاء بالعلم والعدل، وقضى عليهم بسنته أن يخالط بعضهم بعضاً؛ تسخيراً لهم، وابتلى بعضهم ببعض، ليمتحن صبرهم {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] ؛ فأضحى ميزان القسط الضابط لعلاقتهم مطلباً ملحّاً؛ ليسلم المرء من ظلمه وجهله.
هذا، وإن من أبرز معالم ذلكم الميزان مَعْلَم الحكم على الآخر، فرداً كان أو جماعة؛ إذ به يُعْطِي المرء ما عليه من الحق، ولا يُمنع مما يستحق. وفي هذا المقال سأتناول ما يخص الحكم على المسلم فرداً أو جماعة، سالكاً درب الاختصار، ومتطفلاً على موائد أهل العلم الأخيار، سائلاً ربي المعونة والادِّكار. وقد انتظم عقد المقال في ثلاث مسائل وخاتمة، بيانها التالي:
- المسألة الأولى: خطورة الحكم على الآخرين:
تكمن خلف الحكم على الآخر مخاطر عدة، تجعل المرء يستأني في الإقدام عليه، ويتوخى الحذر منه، وذلك لمخالفته الأصول العظيمة المراعاة في الشريعة، وخاصة في أحكام الثلب. فمن هذه الأصول:
1 - أن الأصل في دم وعرض المسلم العصمة إلا ما استثناه الدليل؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله» (1) .
2 - أن الأصل في المسلم السلامة، ولا محيد عن هذا الأصل إلا بدليل.
3 - أن الأصل عدم صدور الأفعال والأقوال ـ مناط الحكم ـ من الأشخاص إلا إن ثبت بالدليل خلافه.
ولا بد في مخالفة هذه الأصول من معارض راجح يسوغ الكلام في المحكوم عليه.
ومما يزيد في خطورة الأمر أنه متعلق بحق آدمي، وحقه مبني على المشاحَّة، ولا يسقط إلا بالاستيفاء أو المسامحة، إضافة إلى ورود نصوص زاجرة محذرة من إيذاء المسلم ورميه بما هو بريء منه. قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58] «ولهذا كان سب آحاد المؤمنين موجباً للتعزير، بحسب حالته وعلو مرتبته؛ فتعزير من سب الصحابة أبلغ، وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم» (2) ، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (3) . وقال -صلى الله عليه وسلم -: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك» (4) ، وقال: «إن أربَى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه» (5) . قال ابن دقيق العيد: «أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف عليها المحدثون والحكام» (6) . ويزداد الأمر خطورة بمآلاته ـ خاصة إن صدر من مُتَّبَع ـ فكم من آصرة قُطعت، ومشاريع عطلت، ودماء سفكت، وخيرات ذهبت، وصفوف تخلخلت، وقيادات هُمشت، ورويبضة سودت، وفتن أوقظت، وأعداء سلطت! إلى غيرها من المصائب الناجمة عن هذه الأحكام العوراء.
فإذا كان الأمر مُكتنَفاً بهذه المخاطر؛ وجب على المرء ألا يُقْدِمَ عليه إلا بمسوِّغ شرعي مضبوط بشروط الحكم وهو ما سنتناوله في المسألة الثانية.
- المسألة الثانية: شروط الحكم على المسلم:
لا بد من معرفة شروط الحكم ليقام على أساس صحيح؛ فإن اختل منها شرط اختل الحكم. والشروط خمسة، بيانها ما يلي:
1 - التجرُّد والإخلاص:
وهو من أبرز أسباب التوفيق، بل هو أساسه، وسبيل تحصيل الثواب؛ فلو أصاب الحكم بلا نية فلا ثواب له (1) ؛ وعليه فليكن القصد موافقة الحق من إصابته ابتغاء مرضاة الله؛ وطلب ثوابه؛ لا نفوذ فيه لهوى أو سمعة أو رياء.
فإن قلت: ما السبيل للتجرد؟ وما منهجية تطبيقه؟ فالجواب ـ كما قال ابن القيم ـ: «فإذا أردت الاطلاع على كُنه المعني: هل هو حق أو باطل؛ فجرده من لباس العبارة، وجرد قلبك عن النفرة والميل، ثم أعطِ النظر حقه ناظراً بعين الإنصاف ... » (2) . هكذا يكون التجرد، ويسلم الأساس الأول؛ فإذا تحقق أتى الشرط الثاني.
2 - وجود المسوّغ:
فإن انعدم المسوغ ـ وهو الأصل إلا إذا عورض براجح ـ كان خوضاً فيما لا يعني. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (3) ، وإن كان الكلام بالقدح؛ صار ولوغاً في الحرام ووقوعاً في الآثام؛ فإن استوى وجود المسوغ وعدمه، فالأصل انتفاء الحاجة؛ والسلامة لا يعدلها شيء. وضابط الحاجة: أن تتعلق العناية بهذا الأمر بحكم الشارع، لا بالهوى وطلب النفس (4) .
قال الحسن: «من علامة إعراض الله - تعالى - عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه» (5) ، وقال سهل التستري: «من تكلم فيما لا يعنيه؛ حُرِم الصدق» (6) ، وقال معروف: «كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله، عز وجل؛ ولا أدل على هذا الخذلان من ضياع أوقات وقدرات وفرص ومكاسب من ابتلي بالكلام في الناس بلا حاجة (7) . والله المستعان.
3 - العلم: وله شقان (8) :
أ - العلم بالواقع:
والمراد به: العلم بصدور مناط الأحكام، وهي الأفعال والأقوال، ممن يحكم عليه؛ إذ الميزان هي الأفعال والأقوال. ويقوم هذا العلم على أسس لا بد من سلامتها لسلامة النتيجة، وهي ما يلي:
(1) التأني والتثبت:
والعمدة في ذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] ، قال الحسن: «المؤمن وقَّاف حتى يتبين» ؛ فلا تَحِدْ عن هذا الأصل، خاصة في هذا الزمن الذي تعددت فيه قنوات المعلومة، وكثرت فيها الشائعات، وعم الفسق كثيرها، وطمَّت جهالةُ الحال أكثر نقالها؛ فوجب التثبت، حتى تدل الدلائل والقرائن على صدقها، وإلا ردت (9) ، فإن ثبتت المعلومة بقي معرفة بساط حالها.
(2) معرفة بساط الحال:
وهي معرفة ظروف وملابسات الفعل والقول: ممن صدر؟ ولماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ فلربما أفاد القول أو الفعل بملابساته معنى غير المعنى المجرد عن معرفة الحال. ومن الأمثلة على ذلك كلام الأقران في بعضهم، والتفريق بين حال الإلزام والمناظرة وبين التقرير، والإكراه والاختيار، والعلم والجهل، وهكذا حال تغير الأعراف؛ إلى غير ذلك من العوامل المؤثرة المعتبرة.
(3) الحمل على أحسن المحامل:
قال سعيد بن المسيب: «كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أن ضع أخاك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً» (10) . هذا هو منهج الشرع الذي أرشد الله إليه بقوله: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] ، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12] ، كل هذا ليعيش المسلمون في وئام ونقاء؛ إذ أغلب الأمور ظنون، والشيطان متربص، والنفوس مجبولة على الضعف.
ب - العلم بحكم الشرع المطابق للواقعة:
فلا بد لكل نازلة من حكم في ساح الشرع متوافر الشروط، سالم من الموانع؛ كالتفسيق، والتبديع، والتكفير، والكفارات، والتوبة، والقضاء، والاستيفاء؛ فإن لاح الحكم للناظر، وإلا فلا يحل له أن يحكم، بل يسأل أهل العلم بعد ذكر الواقعة وافية دون وكس أو شطط.
4 - العدل:
وهو ميزان القسط الذي أمر الله ـ سبحانه ـ به. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، وقال: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90] ، وللعدل في الحكم على المسلم علائم يجب ألا تُغفَل، منها:
1 - الموازنة بيد الإيجابيات والسلبيات: كما هو ميزان العدل؛ إذ من الظلم المقيت نسف جهود أشخاص وجماعات بأخطاء ما وزنت بإزائها، ولم يرجح بينها، كما قال محمد بن سيرين: «ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره» (1) ؛ فالعبرة بالكثرة، ولا يعني هذا إقرار الخطأ؛ فالخطأ يصوّب وإن عُذِرَ فاعله، كما صوّب النبي -صلى الله عليه وسلم - خطأ الأعرابي الذي بال في المسجد، مع أنه قد عذره ولم يعاقبه، بل أنكر على من همّ بمعاقبته (2) .
2 - ترك المبالغة في الثناء والثلب: بل يُعطَى الحكم حجمه بلا تهويل أو تهوين؛ إذ ربما راج حكم خطل ببريق عبارة، وتحسين إشارة.
3 - جمع النصوص والأحوال: كما هو المنهج المعتمد في أحكام الشرع؛ فرب إطلاق قد قُيّد، أو إجمال قد بُيّن، أو تعميم قد خصص، أو مفهوم قد رده منطوق، أو اعتراه نسخ. وهذا المَعْلَم من أبرز دلائل إنصاف الحاكم.
4 - خطأ الفرد لا ينسب للجماعة: فمن الظلم اطِّراح جهود جماعة وتسفيه رؤاها بخطأ بعض أفرادها؛ إذ الأصل أن الفرد في تصرفه لا يمثل إلا نفسه ما لم يدل الدليل على غيره، «ولأجل هذا لا يصلح أن ننتقد جماعة لخطأ وقع فيه بعض من ينتمي إليها، حتى ولو كان هذا الخطأ صدر عن رئيسها؛ إذ ليست كل أقواله وأفعاله تنسب إلى الجماعة وتتحمل تبعتها، وإن من يعيب جماعة من الجماعات الإسلامية لخطأ بعض أفرادها، فمثله كمثل من يعيب الإسلام جهلاً وظلماً؛ ألسنا نقول للناس: لا تنظروا إلى الأفراد، ولكن انظروا إلى الإسلام بصفته وحياً في القرآن والسُّنة، وعندها ستجدونه شرعاً فريداً» (3) .
هذه خلاصة الشروط، وهي ترجع إلى أصل العلم والعدل. قال شيخ الإسلام: «والكلام في الناس لا بد أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع» (4) .
- المسألة الثالثة: أمور ينبغي مراعاتها في الحكم:
إن استكمل المناظر شروط الحكم، ولاحت له علاماته، بقي عليه أن يجيل نظره في أمور لا غنى عنها لسلامة حكمه، وهي كما يلي:
1 - اعتبار المآل: فالأحكام لها متعلقات ومآلات، «والنظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً» (5) ، ودور ذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة» (6) .
2 - الاستشارة: وهي من الفقه العظيم، ذات الأثر الخيري الجسيم، ولذلك أمر الله نبيه بها، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . قال الأحنف: «اضربوا الرأي بعضه ببعض يتولد منه الصواب» (7) ، وكان يقال: «بإحالة الفكرة يبتدر الرأي المصيب» (8) ، وقال عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: «ما نزلت بي قط عظيمة فأبرمتها حتى أشاور عشرة من قريش مرتين؛ فإن أصبت كان لي الحظ دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة» (9) ، وحسبك بأعراض المسلمين عظيمة؛ وتزداد التبعة إن عظم المتعلق.
3 - احذر أن تصاب بوهم (الحق معي) : لأن الحكم ظني غالياً؛ فالمعلومات يشوبها ما يشوبها، وهكذا النية والنظر؛ فاجعل للرأي الآخر مكاناً عندك، كما قال الأحنف: «اضربوا الرأي بعضه ببعض يتولد منه الصواب، وتجنبوا منه شدة الحزم، واتهموا عقولكم؛ فإن فيها نتائج الخطأ، وذم العاقبة» (10) .
4 - عفة اللسان: فـ «من لوازم الورع: أن يكون الناقد عفيف اللسان، يكسو ألفاظه بأحسن الأدب، ويختار أدلها على المقصود بألطف عبارة، ويربأ بنفسه عن الفظاظة والغلظة، ووضيع الكلام؛ فما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً ولا بالبذيء» (11) . قال المزني: «سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذاب، فقال لي: يا إبراهيم! اكسُ ألفاظك! أحْسِنْها! لا تقل: كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء» (12) .
هذا؛ وإن لعفة اللسان أثراً في قبول الحق، والرجوع إليه، وإصلاح الزلل، فقديماً قيل: «قبل أن تُغضب أحداً فليسمع منك!» ، وخاصة أن المقصود حاصل بالكلام العف. هذا منهج الشرع، وهو الأصل إلا لمعارض راجح، وإن شك فيه؛ فالأصل عدمه، واليقين لا يزول بالشك.
وبعد أيها الحبيب: فالموضع كما رأيت مزلة قدم؛ أنت محفوف فيه بين الغيبة، وحقوق الآدميين، والنفس الظلومة الجهولة، والتجرد عزيز، والعاقبة وخيمة؛ فحذارِ حذارِ أن تريق حسناتك بفلتات لسانك؛ فإن الطالب شحيح، والشهود الأعضاء، والحَكَم العليم الخبير. رزقنا الله ـ سبحانه ـ الفقه في دينه، وثبتنا عليه، والله أعلم.
__________
(*) قاضي المحكمة العامة بمحافظة شرورة، السعودية.
(1) رواه مسلم (2563) . (2) تفسير ابن سعدي، ص 671.
(3) رواه البخاري (48) ، ومسلم (64) .
(4) رواه البخاري (6045) .
(5) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني لغيره، صحيح الترغيب، (2/376) .
(6) طبقات الشافعية الكبرى، (2/18) ، نقلاً عن منهج أهل السنة، لهشام الصيني، ص 20.
(1) انظر: منهاج السنة، لشيخ الإسلام (5/239 - 240) نقلاً عن منهج أهل السنة، للصويان، ص 45.
(2) مفتاح دار السعادة (1/141) ، نقلاً عن الإنصاف، للعلي، ص 70.
(3) رواه الترمذي (2317) ، وابن ماجه (3976) ، وحسنه النووي في الأربعين.
(4) انظر: جامع العلوم والحكم (1/288) .
(5، 6، 7) جامع العلوم والحكم، (1/294) .
(8) انظر: إعلام الموقعين (1/69) .
(9) انظر: تفسير ابن سعدي، ص 800.
(10) الدر المنثور (6/99) نقلاً عن الإنصاف، للعلي، ص 79، وانظر: تفسير ابن كثير (4/224) .
(1) البداية والنهاية (9/275) نقلاً عن الإنصاف، للعلي، ص 89.
(2) رواه البخاري، (219) ، ومسلم (284) .
(3) ضوابط رئيسية في تقويم الجماعات الإسلامية، د. زيد الزيد، نقلاً من الإنصاف، للعلي، ص 93.
(4) منهاج السنة (4/337) نقلاً عن منهج أهل السنة، للصيني، ص 23.
(5) الموافقات، (5/177) .
(6) المصدر السابق.
(7) بهجة المجالس، لابن عبد البر، (2/456) .
(8) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/452) .
(9) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/455) .
(10) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/456) .
(11) منهج أهل السنة، للصويان، ص 39.
(12) الإعلان بالتوبيخ، ص 68 - 69، نقلاً من كتاب الصويان السابق، ص 40.(215/3)
تناقل الصور الإباحية.. خطر ماحق ومعصية جارية
إبراهيم بن محمد الحقيل
من نعمة الله ـ تبارك وتعالى ـ على عباده في هذا العصر ما سخر لهم من التقنيات النافعة، وخاصة في مجالات الاتصال؛ إذ صار الواحد من الناس يحمل في جيبه أجهزة في حجم الكف يختزن الواحد منها ما لا يحصى من المحفوظات، ويلتقط صوراً كثيرة ثابتة ومتحركة، وفيه من النفع ما يعز على الحصر؛ ولكن إذا أسيء استخدامها فإن أضراها بليغة، وعواقبها وخيمة؛ إذ بها تكشف العورات، ويهتك ستر العفيفات، وتشاع الفواحش والمنكرات، وبواسطتها ينشر أهل الفساد فسادهم، ويحققون أهدافهم وأغراضهم، ويصلون إلى أهل البيوت في بيوتهم. وكم من امرأة عفيفة طُعنت في عفافها من صديقة أو زميلة نشرت صورتها على ملأ من الناس؟ وكم من أسرة مجتمعة فرقتها صورة أشيعت هنا وهناك؟ حمى الله نساءنا ونساء المسلمين من كل خزي وفضيحة.
إن فئاماً من شباب المسلمين قد ركبوا سُنَّة من كان قبلهم من الكفرة والمنافقين والمُجَّان الفاسقين؛ وذلك بالاستهانة بالمشاهد الخليعة، والصور القبيحة، ولم يكتف أكثرهم بحفظها والنظر إليها مع ما في ذلك من إسخاط الرب ـ جل جلاله ـ وقتل الغيرة والمروءة، بل راح كثير منهم يشيعونها في المسلمين، ويتناقلونها مع أصحابهم وأقرانهم، ويهدونها إلى من يعرفون ومن لا يعرفون؛ ولا يدركون مغبة ما يفعلون.
- الداعي لكتابة هذا الموضوع:
منذ أن ظهرت الجوالات المصوِّرة صوراً ثابتة ومتحركة وخدمة (البلوتوث) ونحن نسمع الفضائح تلو الفضائح، وطالب أناس كثيرون بمنعها، وعارضهم آخرون، وأضحى كثير من النساء يتحرجن من الذهاب إلي المجمَّعات النسائية كحفلات الأعراس وغيرها خوفاً من التقاط صورهن، ومن ثم خراب بيوتهن، وهدم أسرهن.
ثم تطور هذا الموضوع بتخزين مواد إباحية (صوراً وأفلاماً جنسية غربية أو فضائح لممثلات ومغنيات عربيات) وصار الشباب يتناقلونها بشكل دائم، وإذا التقى أحدهم بزميله أو قريبه لا همَّ له إلا أن يطلعه على ما عنده من جديد في جواله ليأخذه منه، ثم يهديه إلى آخرين في سلسلة لا تنتهي من نشر الفاحشة في المجتمع.
علمت بعد ذلك أن مواقع جنسية عربية صارت متخصصة في هذا الإثم المبين، وتهوِّن وقعه على مرتاديها بحيل شيطانية لتصطاد أكبر عدد من الشباب المسلم ولا سيما المراهقين، وزاد من سوء هذه المواقع الخبيثة أنها أتاحت فرصة الاتصال بين مرتاديها؛ ليتبادلوا ما شاؤوا من صور وأفلام جنسية عن طريق البريد الإلكتروني، ثم فتحت صفحات معلنة مجانية للقصص والمغامرات الجنسية المكتوبة على غرار المجلات الجنسية في البلاد المنحلة، وصار كثير من الشباب يرتادها ليقرؤوا ما فيها من إثارة، وبعضهم يكتب قصته الجنسية مع زميلته أو قريبته أو بنت الجيران، إلى جانب قصص أخرى تكتب على ألسن فتيات يحكين مغامراتهن في عالم الجنس المحرم؛ والله أعلم بحقيقة من يكتبونها. وكثير من القصص الموجودة في هذه المواقع لا تخلو من مغامرات جنسية مع المحارم كالأخت والخالة والعمة، بل والبنت والأم، وقصص أخرى تحكي ممارسات جماعية للجنس بين المحارم في البيت الواحد، مما لا تتقبله الخنازير من الحيوان فضلاً عمن كُرِّموا بالعقل، وشُرِّفوا بالعبودية لله رب العالمين.
وهذه (الموضة) من القصص الجنسية المكتوبة بدأت تغزو الهواتف المحمولة الجوالة، ويتداولها الشباب مكتوبة، وخطورتها إن لم تكن أعظم من الصور والأفلام، فهي لا تقل عنها بحال؛ ذلك أن القارئ لها يتخيل أبطال القصة كما يشتهي، ويكيفهم في ذهنه على ما يريد؛ مما يجعلها أكثر إثارة ودفعاً إلى الحرام، وطامَّتها العظمى وبليتها الكبرى: أنها تلفت قارئها إلى محارمه وتهوِّن وقع النظر إليهن بشهوة، ومن أدمنها فلا يؤمَن على محارمه، كيف وقد يكون من محارمه النساء من يطلع على مثل هذه القصص في غيبة الرقابة الأسرية، فيجمع الشيطان بين الشرين في بيت واحد، ويكون خوف أهل البيت من مأمنه، وهتك ستره وحرمته من قِبَل حراسه. نسأل الله العصمة والسلامة لبيوتنا وبيوت المسلمين، وأن يستر على نسائنا ونسائهم، وأن يصلح أولادنا وأولادهم، آمين، آمين، آمين.
- دعوة إلى كل مسلم غيور على حرمات الله تعالى:
لما سبق عرضه ولتفاقُم هذا الأمر المخزي بين الناس وخاصة من يعيشون عنفوان الشباب وقوته، وسني المراهقة وتقلباتها من فتيان وفتيات؛ رأيت أن هذا الأمر يجب أن يتداعى له الغيورون على حرمات الله ـ تعالى ـ ومحارم إخوانهم المسلمين؛ تذكيراً بمخاطره، وبياناً لأضراره، ومشاركة في علاجه؛ لئلا يجتاح البيوت كلها؛ وحينها لا يأمن المسلم الشر ولو تحصن ببيته، وأغلق عليه بابه؛ فهذه الشرور لا تلج من الأبواب، ولا تعيقها الحدود والأسوار، ولا مفزع منها إلا إلى الله ـ تعالى ـ سؤالاً ودعاء بأن يحفظنا والمسلمين أجمعين، مع زرع الحصانة الإيمانية في قلوب أبنائنا وبناتنا وأولادالمسلمين، بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، وزجرهم بقوارع الكتاب والسنة، مع ترغيب من تلوَّث بشيء من هذه القاذورات، وتذكيره بالتوبة التي تجبُّ ما كان قبلها.
وإنني أدعو كل صاحب قلم ولسان، ومنبر وبيان، من العلماء والدعاة والخطباء والكتاب في الصحف والمجلات، والمدرسين والمدرسات، أن يقوموا بحملة إصلاح لقلوب أبناء المسلمين وبناتهم، ومكافحة هذه الظاهرة الخبيثة؛ نصرة لدين الله تعالى، ومعذرة إليه، ودفعاً لعقوبته، وإغاظة لأهل الفساد والنفاق. كما أدعو المسؤولين وصناع القرار أن يفكروا في الوسيلة تلو الوسيلة؛ لتقليل هذا الشر المستطير، وحماية الشباب من الضياع والانحلال؛ فبضياعهم ضياع البلاد والعباد؛ وهم يعرفون أن تدمير الشباب وإغراقهم في الشهوات هدف استراتيجي لكل أمة تعادي الأخرى؛ وشباب الإسلام مستهدَف من القوى المستكبرة عن شرع الله ـ تعالى ـ كفاراً كانوا أم منافقين، والله المستعان في كل الأحوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
- أضرار تناقل الصور الإباحية:
لن أتطرق هنا للأضرار التي تنتج عن حيازة هذه الصور والأفلام على من يحوزها ويشاهدها وخاصة من أدمن عليها، وهي أضرار عظيمة: دينية، وأخلاقية، وصحية، ونفسية، وتعود بأضرار أخرى على كل مجتمع تنتشر فيه، ويكفي فيها قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام» (1) .
بيد أن مقالتي هذه تتناول أضرار تناقل هذه الصور والأفلام والقصص الجنسية؛ إذ يحصل شاب عليها من زميله أو قريبه، أو تحصل عليها فتاة من زميلتها أو قريبتها، أو يحصلان عليها من المواقع الإباحية في الشبكة العالمية (الإنترنت) ، أو من جهاز جوال مماثل (البلوتوث) في سوق أو حفلة أو مقهى، أو أثناء الانتظار في مستشفى أو مطار أو عند إشارة مرور أو غير ذلك، فيقوم الشاب أو الفتاة بتخزين هذه المواد الجديدة في الجهاز، ومن ثم يقوم بإهدائها إلى الأصدقاء والصديقات، عن طريق نقلها على أجهزتهم؛ وأكثر من يفعلون ذلك من الشباب والفتيات ـ إن لم يكن كلهم ـ يرون أنهم عصوا الله ـ عز وجل ـ بحيازة هذه المواد المحرمة، ولا يرون أن في ذلك كبير خطر لو أعطوها للغير، وأكثرهم مقتنع بأن حيازتها أعظم جرماً من إهدائها لغيرهم، بل قد يرى بعضهم أن لا إثم عليه في دفعها لغيره؛ لأنه هو من يطلبها وستصله عن طريقه أو طريق غيره؛ وهذا المفهوم الخاطئ عند من يتداولون هذه المواد المحرمة كان سبباً في انتشارها انتشار النار في الهشيم، وصاروا يدفعونها إلى من يعرفون ومن لا يعرفون، وربما تبرع بعضهم بإنزالها في الإنترنت وأعلن عنها في كثير من المواقع؛ ليتلقفها عنه بشر لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
إنني أفهم أن تدفع الغريزة الجنسية وحب الاستطلاع، بعض الفتيان والفتيات إلى حيازة هذه المشاهد الإباحية وحفظها، والاستمتاع بها، ولست أقلل من مخاطر ذلك الدينية والنفسية والأخلاقية على من يشاهدها؛ بل هي إثم وذنب، ودرك سحيق من المعصية قد ينزل بصاحبه إلى كبائر الذنوب، ويدفعه إلى الوقوع في الموبقات التي توبق صاحبها؛ لكن الجرم الأعظم، والإثم الأكبر: أن يتولى من حازها وحفظها في جهازه توزيعها يمنة ويسرة، دون دافع لذلك سوى الاستهانة بهذا الإثم المبين، وعدم إدراكه لمفاسد ذلك.
- المفاسد المترتبة على تناقل الصور الإباحية:
والمفاسد المترتبة على هذا العمل القبيح عديدة، أهمها ثلاث مفاسد كبرى تكفي إحداها لرد من فعل ذلك عن غيه، وإعادته إلى رشده، ولأن كثيراً ممن يقارف هذا المنكر لا يدرك عواقبه، ولا يعي مخاطره عليه هو قِبَل الناس والمجتمع، وعلى من أهدى إليه هذه المواد المحرمة؛ فإنني سأذكر المفاسد الثلاث لتناقل هذه الصور أو الأفلام أو القصص الجنسية، مع ذكر الأدلة التي تبين حجم هذا الضرر:
المفسدة الأولى:
أن من أرسل الصور أو الأفلام أو القصص الجنسية إلى غيره فإنه يبوء بإثم صاحبه مع إثمه من غير أن ينقص من إثم من أُرسلت إليه شيء، ومن أدلة ذلك:
1 - قول الله ـ عز وجل ـ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] . وهذه المواد الإباحية من أعظم الضلال، ومن أرسلها إلى غيره فهو يضله، ويدعوه لمشاهدة المحرم، ويعينه عليه؛ بل يدفعه إليه دفعاً، وقد ينتج عن ذلك: وقوعه في الزنى أو عمل قوم لوط أو الاغتصاب أو الوقوع على ذات محرم، نسأل الله السلامة والعصمة.
ولا يمكن لأحد من الناس أن يقول إنها ليست من الضلال، وأن دفعها للغير ليس إضلالاً له؛ حتى لو كان عند المرسلة إليه مواد غيرها؛ فما يرسل إليه يزيده إضلالاً إلى ضلاله، ومعصية إلى معصيته، لا يختلف في ذلك مسلمان، ولا يجادل فيه مجادل.
بل إن كثيراً من الدول الكافرة التي تستبيح المحرمات، وتقر الزنى والشذوذ ونكاح المحارم؛ لا تسمح بتداول هذه المواد الجنسية إلا وفق ضوبط يضعونها، وأنظمة يشرعونها.
وإذا تقرر أنها من الضلال؛ فالذي ينشرها فهو ناشر للضلال، وإذا أهداها الشاب لزميله فهو يضله، وكذلك الفتاة إذا أرسلتها لصديقتها فهي تضلها، وكلاهما يحمل أوزار من أُرسلت إليهم عن طريقهما؛ كما هو نص الآية. قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «أي: يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم» (1) .
2 - قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13] . قال مجاهد ـ رحمه الله تعالى ـ: «يحملون ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً» (2) .
3 - قول الله ـ عز وجل ـ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] ، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في معناها: «ما قدَّمتْ من سُنَّة صالحة يعمل بها من بعده فله أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، وما أخرت من سُنة سيئة يعمل بها بعده؛ فإن عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً» (3) .
4 - حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» (4) .
5 - حديث جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من سن سنة خير فاتُّبِع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئاً» (5) . قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقاً إليه» (6) .
فدلت هذه الآيات والأحاديث على أن من هدى غيره إلى ضلالة فهو يحمل وزره مع وزره؛ ومن أهدى غيره صورة أو أفلاماً أو قصة جنسية فهو كذلك؛ وبحسب أعداد من أعطاهم هذه المواد المحرمة، وهم أعطوها غيرهم ما أعطاهم يحمل من أوزار، بحيث تصير أعدادهم بعد مدة أعداداً كبيرة جداً، تزيد ولا تنقص بسبب التطور الهائل في وسائل الاتصال وتبادل المواد بالهواتف الجوالة أو الإنترنت. والعاقل تكفيه ذنوبه؛ فكيف يرضى بحمل أوزار الآخرين، وبأعداد مهولة تزيد بتقدم الأيام؟
وقد يأخذ الفيلم من الشاب أو من الفتاة من يقع بسببه في الزنى، أو على ذات محرم، أو يفعل فاحشة قوم لوط، وما أغواه إلا صاحبه في حال ضعف وغفلة، وغلبة شهوة، وتسلط الشيطان الرجيم وجنده.
ولو لم يكن في تبادل هذه المواد المحرمة إلا هذه المفسدة لكانت كافية في امتناع كل من عنده ذرة من إيمان وعقل عن إعطائها لغيره مهما كان قريباً إليه، عزيزاً عليه.
ولو نقلت هذه الحقيقة المرعبة إلى الشباب والفتيات لكف كثير منهم عن غيه، وخافوا تكاثر الذنوب بتداول هذه الصور.
المفسدة الثانية:
أن في إعطاء هذه المواد المحرمة للغير مجاهرة بالذنب، وخروجاً من المعافاة التي يُحرَم منها المجاهرون.
إن من نعمة الله ـ تعالى ـ على العاصي أن يستره ربه، فلا يفتضح أمره أمام الناس، ولا سيما من يشتد حياؤه منهم كوالديه وأقاربه وأساتذته. والفتاة أو الشاب الذي يقتني صوراً محرمة عاصٍ لله ـ عز وجل ـ والله ـ تعالى ـ قد ستره في معصيته تلك؛ فإذا أطلع غيره على ما يحمل من صور محرمة فقد هتك ستر الله ـ تعالى ـ عليه، وجاهر بعصيانه، وبقدر توزيعه لتلك المواد المحرمة تكون مجاهرته حتى تبلغ الآفاق. والمجاهر بعصيانه حري أن لا يعافى في الدنيا من العقوبة أو من الإقلاع عن ذنبه.
فليعلم من يتناقلون الصور المحرمة أنهم حريون بالخروج من ستر الله ـ تعالى ـ إلى المجاهرة بعصيانه، ويُخشى عليهم الحرمان من المعافاة في الدنيا والآخرة؛ مما ينذر بسوء الخاتمة، وشؤم العاقبة، نسأل الله العافية. ودليل ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه» (1) .
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ: «المجاهرون الذين يجاهرون بالفواحش ويتحدثون بما قد فعلوه منها سراً، والناس في عافية من جهة أنهم مستورون وهؤلاء مفتضَحون» (2) .
وقال ابن الأثير: هم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها وكشفوا ما ستر الله تعالى (3) .
وقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من (جاهر بكذا) بمعنى جهر به، والنكتة في التعبير بـ (فاعَلَ) : إرادة المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة، والمراد: الذين يجاهر بعضهم بعضاً بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول. وقال أيضاً: «الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المُجَّان، والمجانة مذمومة شرعاً وعرفاً، فيكون الذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين: إظهار المعصية، وتلبُّسه بفعل المُجَّان (4) .
فمن أعطى غيره هذه المواد الفاسدة فهو حري أن يحرم المعافاة في الدنيا والآخرة؛ لأنه مجاهر بذنبه، دال عليه غيره:
1 - أما في الدنيا فهو مستحق للعقوبة بالتعزير، وقد يعاقبه الله ـ تعالى ـ في نفسه أو عرضه، وقد يعاقب بانطماس قلبه، وعدم رجاء توبته، وأسره بالمعصية. نسأل الله العافية من ذلك كله.
قال ابن القيم وهو يعدد أضرار المعاصي: «ومنها أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهو عند أرباب الفسوق غاية التفكه وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدِّث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان! عملتُ كذا وكذا، وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب» (5) .
وقال ابن بطال ـ رحمه الله تعالى ـ: «في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم - وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها من إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حداً» (6) .
قلت: لا يحصل العاصي على المعافاة الواردة في الحديث إلا بحصوله على الستر، ولا يتأتى له الستر إلا إذا ستر هو على نفسه، فلم يُطْلِع غيره على معصيته، ومن أخبر غيره أنه يملك صوراً أو أفلاماً أو قصصاً جنسية لم يكن ساتراً على نفسه، بل هو فاضح لها؛ فكيف بمن زاد على ذلك بإطلاعهم عليها، أو إعطائهم إياها؟
قال الحافظ ابن حجر: «ستر الله ـ تعالى ـ مستلزم لستر المؤمن على نفسه؛ فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره، ومن قصد التستر بها؛ حياء من ربه ومن الناس منَّ الله عليه بستره إياه» (7) .
2 - وأما في الآخرة فهو حري بالمؤاخذة على عصيانه، بعيد عن عفو الله تعالى؛ ودليل ذلك ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ حيث قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب! حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» (8) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «المستخفي بما يرتكبه أقل إثماً من المجاهر المستعلن، والكاتم له أقل إثماً من المخبر المحدث للناس به؛ فهذا بعيد من عافية الله ـ تعالى ـ وعفوه» (1) .
قال ابن بطال ـ رحمه الله تعالى ـ: «وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه؛ فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك» (2) .
فإذا انضم إلى ما سبق أنه يعطي غيره هذه المواد المحرمة، ويدعوه إلى الاستمتاع بها؛ فإن إثمه أشد؛ لأنه صار داعية إلى الإثم مع مقارفته للمعصية، ومجاهرته بها. نسأل الله أن يعافينا وإخواننا المسلمين.
قال المناوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وذلك خيانة منه على ستر الله الذي أسدله عليه، وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه أو أشهده؛ فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته فتغلظت به؛ فإن انضاف إلى ذلك: الترغيب للغير فيه، والحمل عليه؛ صارت جناية رابعة، وتفاحش الأمر؛ فيكشف ستر الله ـ عز وجل ـ عنه فيؤاخذ به في الدنيا بإقامة الحد؛ وهذا لأن من صفات الله ـ تعالى ـ ونعمه: إظهار الجميل، وستر القبيح؛ فالإظهار كفران لهذه النعمة وتهاون بستر الله» (3) .
مسألة مهمة: لو أخبر بمعصيته أحداً من أهل العلم والصلاح لا مجاهرةً بها؛ لكنه يريد أن يشير عليه بما يكون سبباً في الإقلاع عنها، والتوبة منها، أو الدعاء له؛ فهل هذا الفعل يُعَدُّ مجاهرة أم لا؟
الجواب: يسأل من يسأل لا على أنه صاحب المعصية؛ فإن كان الجواب لا يتأتى إلا بأن يصرح بذلك صرح به، ولا يأثم به؛ لأنه مسترشد لا مجاهر؛ ودليل ذلك حديث الذي جامع أهله في نهار رمضان، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه إخباره له، ولا عده مجاهراً بذنبه، وبين له ما يجب عليه.
وقد بوَّب الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ على ذلك فقال: (باب من أصاب ذنباً دون الحد، فأخبر الإمام فلا عقوبة عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتياً) قال عطاء: «لم يعاقبه النبي -صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن جريج: ولم يعاقب الذي جامع في رمضان» (4) .
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «واستُدل بهذا على أن من ارتكب معصية لا حد فيها وجاء مستفتياً أنه لا يعزَّر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية؛ وتوجيهه: أن مجيئه مستفتياً يقتضي الندم والتوبة؛ والتعزير إنما جُعِل للاستصلاح، ولا استصلاح مع الصلاح، وأيضاً فلو عوقب المستفتي لكان سبباً لترك الاستفتاء وهي مفسدة، فاقتضى ذلك أن لا يعاقب؛ هكذا قرره الشيخ تقي الدين» (5) .
ونقل المناوي عن النووي ـ رحمهما الله تعالى ـ قوله: «يُكره لمن ابتُلي بمعصية أن يخبر غيره بها، بل يُقلِع ويندم ويعزم أن لا يعود؛ فإن أخبر بها شيخه أو نحوه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها، أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها، أو يدعو له، أو نحو ذلك فهو حسن، وإنما يكره لانتفاء المصلحة. ثم نقل عن الغزالي قوله: الكشف المذموم إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء لا على السؤال والاستفتاء، بدليل خبر من واقع امرأته في رمضان، فجاء فأخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه» (6) .
المفسدة الثالثة:
إن في تناقل الصور أو الأفلام أو القصص الجنسية إشاعة للفاحشة في الذين آمنوا؛ وقد قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] .
قال البغوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «يحبون أن تشيع الفاحشة: يعني: يظهر ويذيع الزنى» (7) .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها؛ فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها؟» (8) .
وقال الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ: «لا شك أن ظاهر قوله: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ} يفيد العموم، وأنه يتناول كل من كان بهذه الصفة (9) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولهذا نهى الله ـ تعالى ـ عن إشاعة الفاحشة، وكذلك أمر بستر الفواحش ... فما دام الذنب مستوراً فعقوبته على صاحبه خاصة، وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاماً؛ فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه؟!» (10) .
وقال أيضاً: «كل عمل يتضمن محبةَ أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخلٌ في هذا، بل يكون عذابه أشد؛ فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل؛ فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟! بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة، والقذف بها، وإشاعتها في الذين آمنوا، ومن رضي عمل قوم حشر معهم كما حشرت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل فاحشة اللواط؛ فإن ذلك لا يقع من المرأة لكنها لما رضيت فعلهم عمها العذاب معهم، فمن هذا الباب قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها مثل القوَّاد الذي يقود النساء والصبيان إلى الفاحشة لأجل ما يحصل له من رياسة أو سحت يأكله، وكذلك أهل الصناعات التي تنفق بذلك مثل: المغنين وشَرَبة الخمر وضُمَّان الجهات السلطانية وغيرها؛ فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة ليتمكنوا من دفع من ينكرها من المؤمنين» (1) .
وقال الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} «أي: الأمور الشنيعة المستقبحة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلب والبدن؛ وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم؛ فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك من إظهاره ونقله؟!» (2) .
فليتق الله ـ تعالى ـ في نفسه كل من تلطخ بهذا الإثم المبين، وليبادر بتوبة نصوح قبل أن يدهمه الموت وهو على هذه الحال السيئة.
ومن ابتلي بهذه القاذورات حتى صار أسيراً لها فلا أقل من أن يستتر بستر الله تعالى، ولا يكون عوناً للشيطان الرجيم على شباب المسلمين وفتياتهم، وليقصر هذا الإثم على نفسه ولا يعدِّيه إلى غيره؛ فمن فعل ذلك رُجيت له التوبة، وهو حري أن يُعتق من أسر تلك الخطيئة المردية، وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله» (3) .
- التكفير عما سلف:
كثير من الفتيات والشباب قد يعزمون على التوبة من هذا الإثم العظيم، لكن يبقى في صدورهم حرج مما فعلوا في السابق من توزيع لهذه المواد المحرمة، ونشر للفاحشة على أوسع نطاق، وقد يكون ذلك سبباً في صدودهم عن التوبة، واليأس من عفو الله ـ تعالى ـ ورحمته؛ وهذه وسوسة من الشيطان ليرد بها المقبل على التوبة عن توبته، ومكافحة هذه الوسوسة بما يلي:
1 - ليعلم أن الله ـ عز وجل ـ تواب رحيم يفرح بتوبة عبده إذا تاب، ويمحو ذنوبه مهما كانت، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
2 - أنه إذا صدق في توبته بدَّل الله ـ تعالى ـ سيئاته إلى حسنات، وهذا فضل من الله ـ عز وجل ـ على عباده، وهو من أكثر الحوافز التي تحفز المذنب إلى المبادرة بالتوبة، وقد قال أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاًِ منها: رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا منه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا؟ وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم! لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب! قد عملت أشياء لا أراها ها هنا! فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه» (4) .
3 - أن يجعل من ندمه على ما وزَّع من صور أو أفلام أو قصص جنسية قبل توبته سبباً لنشاطه في مكافحتها بكل الوسائل الممكنة، ومراسلة كل من أرسلها إليهم يرجوهم أن يزيلوا ما وصلهم منها عن طريقه، مع نصيحتهم بالإقلاع عن اقتنائها أو توزيعها، ويجتهد في هذاالسبيل؛ ليكفر عن ماضيه، فلعل الله ـ تعالى ـ يعافي على يديه كثيراً ممن ابتُلوا بهذا الداء الخبيث.
وعلى كل أب وأم أن يتعاهدوا أولادهم ذكوراً وإناثاً بالنصيحة والتوجيه بالرفق واللين، والكلمة الطيبة، مع بيان مخاطر سوء استخدام التقنيات المعاصرة، وإقناعهم بذلك؛ ليكون الواحد منهم رقيباً على نفسه، مراقباً لله ـ تعالى ـ في سره وعلنه، عسى الله أن يصلح أولادنا وأولاد المسلمين، وأن يكفيهم شرور أنفسهم وشرور شياطين الإنس والجن، إنه سميع مجيب.
ولا سبيل لحفظ المسلمين من هذا البلاء الماحق إلا بتحصين أبنائهم وبناتهم بالدين القويم، وملء قلوبهم بمحبة الله ـ تعالى ـ ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم - ومحبة ما يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، وبُغض ما يبغضه الله ورسوله، مع تقليل وسائل الشر والفساد قدر الإمكان، وتحصين البيوت منها، وإيجاد البدائل النافعة، وإشغال الفتيات والشباب بما يعود عليهم بالنفع عاجلاً وآجلاً.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة الجندي المسلم.
(1) رواه البخاري (5889) ، ومسلم واللفظ له (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1) تفسير ابن كثير، 2/ 567.
(2) المصدر السابق، 2/ 567.
(3) التمهيد، لابن عبد البر، 24/330.
(4) رواه مسلم (2674) .
(5) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (2675) .
(6) شرح مسلم 16/227.
(1) رواه البخاري (5721) ، ومسلم (2990) .
(2) كشف المشكل، 3/ 397.
(3) النهاية في غريب الأثر، 1/321.
(4) فتح الباري، 10/487.
(5) الداء والدواء، 37.
(6) فتح الباري، 10/487.
(7) المصدر السابق، 10/488.
(8) رواه البخاري (2309) .
(1) إغاثة اللهفان، 2/ 147.
(2) فتح الباري، 10/487.
(3) فيض القدير، 5/11 ـ 12.
(4) صحيح البخاري، 6/2500.
(5) فتح الباري، 4/ 164 ـ 165.
(6) فيض القدير، 5/12.
(7) معالم التنزيل، 3/333.
(8) بدائع الفوائد، 2/ 484.
(9) التفسير الكبير، 23/159.
(10) مجموع الفتاوى، 14/465.
(1) المصدر السابق، 15/344.
(2) تفسير السعدي، 564.
(3) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، 4/ 272.
(4) رواه مسلم، 190.(215/4)
شهر رجب بين المشروع والمبتدع
د. نايف بن أحمد الحمد
في هذه الأيام يكثر السؤال عن شهر رجب (فضله وصيامه..) ولعلِّي في هذه العجالة أذكر بعض الأحكام المتعلقة بهذا الشهر مستعيناً بالله تعالى.
- رجب أحد الأشهر الحُرم:
قال ـ تعالى ـ: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36] ، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، ورجب. عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض: السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان» (1) .
وقد سُميت هذه الأشهر حُرماً لأمرين:
1 - لتحريم القتال فيها إلا أن يبدأ العدو. لذا يُسمى رجب الأصم؛ لأنه لا يُنادى فيه: يا قوماه! أو لأنه لا يُسمع فيه صوت السلاح.
2 - ولأن تحريم انتهاك المحارم فيها أشد من غيرها.
وسُمي رجبٌ رجباً؛ لأنه كان يُرجَّب أي يُعظَّم (2) .
- دعاء دخول رجب:
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا دخل رجب: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا رمضان» (3) .
- ذبح العتيرة (الذبيحة) في رجب (الرجبية) :
استحب بعض العلماء ذبح عتيرة في شهر رجب مستدلين بحديث مخنف بن سليم ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنا وقوفاً مع النبي -صلى الله عليه وسلم - بعرفات فسمعته يقول: يا أيها الناس! على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة. هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية» (4) .
والجمهور على أنها منسوخة لما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ من أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «لا فَرَعَ ولا عَتِيرَة» (5) .
- العمرة في رجب:
يخص بعض المسلمين شهر رجب بعمرة ظناً منهم أن لها فضلاً وأجراً؛ والصحيح أن رجباً كغيره من الأشهر لا يُخَصُّ ولا يُقصد بأداء العمرة فيه، والفضل إنما يكون في أداء العمرة في رمضان أو أشهر الحج للتمتع، ولم يثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم - اعتمر في رجب، وقد أنكرت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (6) .
- بدع شهر رجب:
من العبادات التي أحدثها الناس في شهر رجب ما يلي:
أولاً: صلاة الرغائب: وقد جعلوها اثنتي عشرة ركعة بعد المغرب في أول جمعة بست تسليمات يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة القدر ثلاثاً، والإخلاص ثنتي عشرة مرة، وبعد الانتهاء من الصلاة يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم - سبعين مرة ويدعو بما شاء. وهي بلا شك بدعة منكرة وحديثها موضوع بلا ريب وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (1) . وقال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب؛ قاتل الله واضعها ومخترعها؛ فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة. وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها ودلائل قبحها وبطلانها وتضليل فاعلها أكثر من أن تحصر» ا. هـ (2) .
وقال الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ: «حديث صلاة الرغائب جمع من الكذب والزور غير قليل» ا. هـ (3) .
وقال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ: «فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء ... وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة؛ فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها» ا. هـ (4) .
ثانياً: صلاة النصف من رجب: ويعتمد الآخذون بها على الأحاديث الموضوعة (5) .
ثالثاً: صلاة ليلة المعراج: وهي صلاة تصلى ليلة السابع والعشرين من رجب وتسمى: صلاة ليلة المعراج وهي من الصلوات المبتدعة التي لا أصل لها صحيحاً لا من كتاب ولا سنة (6) .
ودعوى أن المعراج كان في رجب لا يعضده دليل. قال أبو شامة ـ رحمه الله تعالى ـ: «ذكر بعض القُصَّاص أن الإسراء كان في رجب؛ وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب» ا. هـ (7) .
وقال أبو إسحاق إبراهيم الحربي ـ رحمه الله تعالى ـ: «أُسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الأول» ا. هـ (8) .
ومن يصليها يحتج بما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «في رجب ليلة كُتب للعامل فيها حسنات مائة سنة، وذلك لثلاث بقين من رجب..» (9) .
أقول: أمارات الوضع ظاهرة على هذا الحديث؛ فقد أجمع العلماء على أن أفضل ليلة في السنة ليلة القدر وهذا الخبر يخالف ذلك.
ومن بدع تلك الليلة: الاجتماع وزيادة الوقيد والطعام. قال الشيخ علي القاري: «لا شك أنها بدعة سيئة وفعلة منكرة لما فيها من إسراف الأموال والتشبه بعَبَدَة النار في إظهار الأحوال» ا. هـ (10) .
- صيام رجب:
رجب كغيره من الأشهر لم يرد في الترغيب في صيامه حديث صحيح، بل يُشرع أن يصام منه الإثنين والخميس والأيام البيض لمن عادتُه الصيام كغيره من الأشهر؛ أما إفراده بذلك فلا.
أما ما يذكره الوعاظ والقصاصون في الترغيب في صيام شهر رجب كحديث «إن في رجب نهراً يقال له رجب ماؤه أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل من صام يوماً من رجب شرب منه» وهو حديث موضوع (11) .
وحديث: «رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات؛ فمن صام يوماً من رجب فكأنما صام سنة، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم، ومن صام منه ثمانية أيام فتح له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام منه عشر أيام لم يسأل الله إلا أعطاه، ومن صام منه خمسة عشر يوماً نادى منادٍ في السماء: قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل؛ ومن زاد زاده الله» (12) .
وأختم بما ذكره الحافظان ابن القيم وابن حجر ـ رحمهما الله تعالى ـ تلخيصاً لما ذكرناه:
قال ابن القيم: «كل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالي فيه فهو كذب مفترى» ا. هـ (13) .
وقال الحافظ ابن حجر: «لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا صيام شيء منه معيَّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة» ا. هـ (14) .
أسأل الله ـ تعالى ـ بمنه وكرمه أن يوفقنا لاتباع السنة واجتناب البدعة؛ إنه جواد كريم، والله ـ تعالى ـ أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) قاضي المحكمة العامة بمحافظة رماح.
(1) رواه البخاري (4662) ومسلم (1679) .
(2) لطائف المعارف، ص 225.
(3) رواه أحمد 1/259، والبزار (616 زوائد) والطبراني في الأوسط (3939) والبيهقي في الشعب (3815) وهو من رواية زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري قال البخاري: (منكر الحديث) ا. هـ شعب الإيمان 3/375، وضعفه الحافظان ابن رجب وابن حجر رحمهما الله تعالى (لطائف المعارف، ص 234) .
(4) رواه أحمد 5/76 وأبو داود (2788) والنسائي (4224) والترمذي (1518) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه من حديث بن عون ا. هـ وضعفه ابن حزم (المحلى، 7/356) وعبد الحق كما في (تهذيب السنن 4/92) والخطابي في (المعالم 4/94) وقال ابن كثير: «وقد تُكلم في إسناده» ا. هـ (التفسير 3/225) .
(5) رواه البخاري (5474) ومسلم (1976) (انظر: المحرر 1/250، المغني 9/367، المبدع، 3/ 306، فتح الباري، 9/512، لطائف المعارف، ص 226، بدائع الصنائع، 5/62، البحر الرائق، 8/197، قال أبو داود: قال بعضهم: الفَرَع: أول ما تنتج الإبل كانوا يذبحونه لطواغيتهم، ثم يأكلونه، ويلقى جلده على الشجر. والعتيرة في العشر الأول من رجب. (السنن، 3/104) وذهب بعض العلماء كابن سيرين وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه والشافعية إلى أن المنسوخ هو الوجوب. (المجموع، 8/335) ، تهذيب السنن 4/94، لطائف المعارف، ص 226، الفروع، 3/415، المبدع، 3/ 306، وفتح الباري، 9/511، نيل الأوطار، 5/232، عون المعبود، 7/343. تحفة الأحوذي، 5/85.
(6) (رواه البخاري، 1775) .
(1) الموضوعات، 2/124.
(2) شرح مسلم، 8/20، الأدب في رجب، للقاري، ص 43 نيل الأوطار، 4/ 337.
(3) الباعث، لأبي شامة، ص 143.
(4) لطائف المعارف، ص 228.
(5) الموضوعات، لابن الجوزي، 2/126.
(6) انظر: خاتمة سفر السعادة، للفيروز أبادي، ص 150، التنكيت لابن همات، ص 97.
(7) الباعث، ص 232، ومواهب الجليل، 2/408.
(8) الباعث، ص 232، شرح مسلم للنووي، 2/ 209، تبيين العجب، ص 21. مواهب الجليل، 2/ 408.
(9) رواه البيهقي في الشعب، 3/374 وضعفه كما ضعفه الحافظ ابن حجر في تبيين العجب (25) وقال القاري: «ضعيف جدا» الأدب في رجب، ص 48.
(10) الأدب في رجب، ص 46.
(11) رواه ابن الجوزي في الواهيات (912) وقال الذهبي» باطل» . الميزان، 6/524.
(12) رواه البيهقي في الشعب (3801) والطبراني في الكبير (5538) وعده الحافظ ابن حجر من الأحاديث الباطلة (مواهب الجليل 2/408) وقال الهيثمي: «وفيه عبد الغفور ـ يعني ابن سعيد ـ وهو متروك» ا. هـ. مجمع الزوائد، 3/ 188 وقد ذكر الحافظان ابن الجوزي وابن حجر رحمهما الله تعالى جملة من الأحاديث الباطلة والموضوعة في فضائل شهر رجب (انظر مواهب الجليل، 2/ 408) .
(13) المنار المنيف، ص 96.
(14) تبيين العجب، ص 11، (وانظر: لطائف المعارف، ص 228) .(215/5)
دعوة إلى تأصيل المصطلحات السياسية
(2 ـ 2)
محمد بن شاكر الشريف
نُشِرَت الحلقة الأولى من هذا المقال في العدد (213) حيث تحدث الكاتب عن الحل الغربي لقضية التباين في المجتمع الذي انبثقت عنه فكرة المعارضة، ثم تحدث عن الحل الإسلامي وآلياته التي انطلق منها الحديث عن الحسبة، وذكر أن الحسبة مصطلح شرعي مستخدم في تراثنا الشرعي تعضده الأدلة من الوحيين وعمل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وأنه خالٍ من خطل المصطلحات الوافدة مثل المعارضة التي همها البحث عن المغانم والمناصب، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة عرض ما تبقى من المقال. -^ -
- نماذج من الحسبة:
أول من باشر الحسبة السياسية رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فقد احتسب على عامله ابن اللتبية جامع الصدقة؛ فعن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - رجلاً على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية؛ فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً! ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعدُ: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاَّني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي؛ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته! والله! لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة؛ فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يده حتى رُئي بياضُ إبطه يقول: اللهم هل بلغتُ بصر عيني وسمع أذني؟» (1) ؛ فقد حاسبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. لكن الأمر لم يكن في حاجة إلى وضع نظام في المحاسبة، واكتفى الرسول -صلى الله عليه وسلم - بأن قال له ما قال، ثم خرج إلى الناس فوعظهم؛ لأن ذلك كان يكفي في تحقيق المطلوب في ذلك الزمان.
فلما كان عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حوَّل ذلك إلى نظام، للحاجة إليه، فكان ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما يريد أن يستعمل عاملاً، ويوليه ولاية كان يحصي عليه ماليته، ثم إذا انتهى من ولايته يحصي عليه ماليته، ويوازن بين الماليتين، فإذا وجد أن هناك زيادة غير معقولة شاطره هذه الزيادة، فترك له النصف، وجعل النصف الباقي في بيت المال.
وقد أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم - محاسبة خالد بن الوليد سيف الله المسلول ـ رضي الله عنه ـ من قِبَل جنوده الذين هم تحت إمرته، عندما امتنعوا عن تنفيذ أمره، عندما أخطأ في اجتهاده وقتل الذين قالوا: (صبأنا) ولم يحسنوا أن يقولوا: (أسلمنا) ، وقال: «اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين (2) .
وهذا أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقر مبدأ الحسبة السياسة عقب توليه الخلافة مباشرة؛ إذ خطب الناس وقال لهم: «راعوني! فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني» (3) ، مما يبين أن الحسبة ليست قاصرة على الرعية دون الولاة؛ لأن الكل في ميزان الشرع عبدٌ لله، والحاكم والمحكوم كلاهما مطالَب بعبادة الله وحده وطاعته واتباع ما شرعه، وما طلبه أبو بكر ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ من الصحابة لا يتأتى منهم إلا بعد المتابعة والمراقبة التي بها يتمكنون من معرفة الإحسان والاستقامة أو الإساءة والزيغ، وهذا عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقول: «إني والله! ما أُرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنتكم؛ فمن فُعِلَ به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ؛ فوالذي نفسي بيدي إذًا لأقصنِّه منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين! أوَ رأيت أن كان رجل من المسلمين على رعية فأدَّب بعض رعيته أئنك لمقتصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذاً لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه: ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمِّروهم (1) فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض (2) فتضيعوهم» (3) ، فعمر ـ رضي الله عنه ـ يحض رعيته على عدم السكوت على ظلم الولاة، ويوجه الولاة بعدم منع المسلمين حقوقهم والعمل على راحتهم والحفاظ عليهم، بل إن الحسبة لا تمتنع حتى في اللحظات الصعبة كلحظات الحرب ونحو ذلك؛ فقد حفظت لنا الوقائع ما كان من أمر عمر عندما أراد أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قتال مانعي الزكاة فاعترض عمر، وقال: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فمن فعل ذلك فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله» ؟ فبين له أبو بكر وجه الصواب في موقفه حتى ظهر الأمر لعمر، وتبين له صواب موقف الصدِّيق وسداد رأيه، ولم يرفع أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في وجه عمر ـ رضي الله عنه ـ تلك المقولة الزائفة: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
والقصد أن حالة الحرب لم تمنع من الحِسْبة؛ فالمحكوم بَذَلَها، والحاكم قَبِلها؛ لأن الحسبة ليست كالمعارضة لتحقيق مكاسب ذاتية، وإنما هي ضمانة الحفاظ على الأمة وعلى الشريعة، وقد كان الحفاظ على الشريعة وتقديم كتاب الله هو أوْلى ما يحرص عليه المؤمنون؛ وقال: «إني مخاصم» (4) ، وقد كانوا يتواصون فيما بينهم بذلك. فعن الحسن: «أن زياداً استعمل الحكم بن عمرو الغفاري على جيش فلقيه عمران بن حصين في دار الإمارة فيما بين الناس، فقال له: أتدري في ما جئتك؟ أما تذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لما بلغه الذي قال له أميره: قم فقع في النار، فقام الرجل ليقع فيها فأدركه فأمسكه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: لو وقع فيها لدخل النار، لا طاعة في معصية الله، قال الحكم: بلى! قال عمران: إنما أردت أن أذكِّرك هذا الحديث» (5) .
ولم يكن الولاة يمنعون الرعية من الاحتساب، ولا يستخدمون سلطانهم أو قوتهم في تعطيلهم أو عرقلتهم عن القيام بذلك؛ فهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ وقد رأى رأياً في الأرض المغنومة وخالفه في ذلك الفاتحون واحتجوا عليه بما يرونه حجة لهم، فلم يلزمهم ولم يقهرهم، وإنما أخذ يحاججهم بما يرى صوابه ومصلحته؛ فعن نافع مولى ابن عمر يقول: أصاب الناسُ فتحاً بالشام فيهم بلال وأظنه ذكر معاذ بن جبل ـ رضي الله عنهما، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إن هذا الفيء الذي أصبنا، لك خمسه ولنا ما بقي، ليس لأحد منه شيء كما صنع النبي -صلى الله عليه وسلم - بخيبر. فكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ: إنه ليس على ما قلتم، ولكني أقفها للمسلمين، فراجعوه الكتاب وراجعهم: يأبون ويأبى، فلما أبَوْا قام عمر ـ رضي الله عنه ـ فدعا عليهم فقال: اللهم اكفني بلالاً وأصحاب بلال، ... ، قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: قوله ـ رضي الله عنه ـ: أنه ليس على ما قلتم؛ ليس يريد به إنكار ما احتجوا به من قسمة خيبر؛ فقد رويناه عن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم -، ويشبه أن يريد به ليست المصلحة فيما قلتم، وإنما المصلحة في أن أقفها للمسلمين، وجعل يأبى قسمتها لما كان يرجو من تطييبهم ذلك، وجعلوا يأبون لما كان لهم من الحق؛ فلما أبَوْا لم يُبرم عليهم الحكم بإخراجها من أيديهم ووقفها، ولكن دعا عليهم؛ حيث خالفوه فيما رأى من المصلحة، وهم لو وافقوه وافقه أفناء الناس وأتباعهم، والحديث مرسل والله أعلم» (6) ، والشاهد أن عمر ـ وهو الإمام ـ لم يقهرهم على رأيه الاجتهادي، بل ظل يراجعهم ويراجعونه، ويأبى عليهم ويأبون عليه، وكان أقصى ما عمله معهم أن لجأ إلى الله بقوله: «اللهم اكفني بلالاً وأصحاب بلال» .
لقد كانت الحسبة في حس وشعور المسلمين حتى في عوامهم الذين قد يتصور عدم تنبههم لمثل ذلك، ولكن الإسلام قد ربَّاهم على ذلك، فصاروا يتصرفون في هذا الأمر وكأنه أمر جِبِلِّي؛ فقد ورد في أخبار عمر ـ رضي الله عنه ـ عن أسلم مولى عمر قال: «خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى (حَرَّة واقم) حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال: يا أسلم! إني لأرى ها هنا ركباً قصَّر بهم الليل والبرد، انطلق بنا! فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقِدْر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادْنُ بخير أو دَعْ! فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصَّر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما أُسكِتُهم به حتى يناموا؛ واللهُ بيننا وبين عمر. فقال: أَيْ رحمك الله، وما يُدري عمرَ بكم؟ قالت: يتولى عمر أمرنا، ثم يغفل عنا، قال: فأقبل عليَّ؛ فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدْلاً من دقيق، وكُبَّة من شحم، فقال: احمله عليَّ! فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أُمَّ لك. فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذُرِّي عليَّ وأنا أحرِّك لك، وجعل ينفخ تحت القدر، ثم أنزلها، فقال: أَبغيني شيئاً! فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك وقام وقمت معه، فجعلَتْ تقول: جزاكَ الله خيراً؛ كنتَ أوْلى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً إذا جئت أمير المؤمنين، وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها، ثم استقبلها فربض مربضاً، فقلنا له: إن لنا شأناً غير هذا؟ ولا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدؤوا، فقال يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت» (1) ، فالمرأة تقول: واللهُ بيننا وبين عمر، وتقول أيضاً: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا؟ ثم تقول له وهي لا تعرفه ـ بعدما أتاها بالمعونة: ـ جزاك الله خيراً، كنتَ أوْلى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، والمقصود أن هذه المرأة الفقيرة كانت تفهم ما يجب على ولي الأمر فعله، وهي تقرر أن الأوْلى بذلك المنصب مَنْ يقوم على شؤون رعيته ويعتني بهم ولا يغفل عنهم. إنه لم يخلُ عصر من عصور المسلمين من القيام بالحسبة في ذلك الجانب؛ ومرادنا التمثيل لا الحصر، والقيام بتنظيم هذا الأمر يساعد على تثبيته في أذهان الناس، ويكون أدعى لاستمرار العمل به.
بين الحِسْبة السياسية والمعارضة السياسية مفارقات وموافقات: عندما نقارن بين ما لدينا من الحسبة السياسية وبين المعارضة السياسية الوافدة إلينا والتي يراد لها الذيوع والانتشار والغلبة على مصطلحاتنا السياسية الشرعية، يتبين الفرق الكبير بين الأمرين؛ بحيث لا يمكن لمن عقل وابتعدت نفسه عن الأهواء المردية إلا أن يحرص على الحِسْبة السياسية ويتمسك بها ويدعو إليها، وإن كان هناك بعض الموافقات بين الحِسْبة والمعارضة وخاصة في الألفاظ العامة، لكن الاختلافات تظهر بقوة عند التفاصيل؛ فقد يقال في المعارضة كما يقال في الحسبة بضرورة اتباع العدل؛ لكن مفهوم العدل في شرعنا غير مفهوم العدل في الفكر السياسي الغربي وهكذا، ومن هنا يمكننا أن نقرر أن الخلاف بين الحسبة السياسية وبين المعارضة السياسية خلاف كبير وعميق، وهو أعمق بأكثر مما يتخيله كثير من الناس؛ إذ إن ما بينهما من الخلاف في الأصول والدوافع والغايات يربو بكثير جداً على ما بينهما من الموافقات في الفرعيات؛ فالموافقات في أغلب أمرها ما هي إلا موافقات ظاهرية.
الحرية الحقيقية: الحرية تعني الخروج من أسر القيود، والانعتاق من ذل العبودية، والحر يقابله العبد، لكن متى يكون الإنسان حراً حقيقياً وليس عبداً؟ إذا كان الإنسان لا تكبله نفسه، ولا تكبله أعراف المجتمع، ولا تكبله السلطة القائمة، أي خرج من أسر عبودية النفس والمجتمع والحكومة؛ فهو قد استوفى مظاهر الحرية، لكن متى يحدث ذلك؟ إن ذلك لا يحدث في الحقيقة إلا إذا كان الإنسان ملتزماً بالشريعة متقيداً بها مقاوماً كل ما يشوش على ذلك الالتزام، وإلا فإن الإنسان واقع لا محالة في نوع أو أكثر من أنواع العبودية؛ بحيث تنتفي حريته الحقيقية؛ إذ الإنسان منذ أن يولد تشده القيود المادية بوصفه مخلوقاً لا يملك الخروج عن نظام الكون، فهو مجبر على ذلك؛ فإن الجاذبية مثلاً تشده ولا يملك الانفكاك منها، وهكذا. ثم تبدأ القيود المعنوية في الورود عليه، فإذا لم يكن عليه قيد غير قيد الشريعة، كان الإنسان بذلك حراً حقاً؛ لأنه لا يقيده إلا خالقه. أما إذا ابتعد عن الشريعة فإنه يدخل في نطاق قيود أخرى متشاكسة في أكثر الأحيان، ويفقد الإنسان بذلك حريته الحقيقية وإن بدا له في الظاهر أنه حر في أن يعتقد ما يشاء، وأن يقول ما يشاء، وأن يفعل ما يريد.
فالحسبة التي تعيد الإنسان إلى مجال قيد الشريعة فقط، وتخرجه من مجال القيود الباطلة، فتقيمه على الجادة وتبعده عن بُنَيَّات الطريق، هي مظهر أصيل من مظاهر تحرر المسلم وتحلله من القيود الباطلة التي تعيق حركته.
إن الانفلات من كل ضابط والخروج من كل قيد والذي يعد أقصى مدى للحرية عند كثير من الناس هو في حقيقته أقصى مدى للعبودية؛ حيث يصير الإنسان عبداً لنفسه وشهواته وللشيطان، وهذه هي الحرية التي يوفرها الفكر السياسي الغربي الذي تنطلق منه المعارضة السياسية، وفي هذا الفكر فإن الإنسان له أن يضر نفسه وأن ينتحر ليتخلص من حياته؛ إذ لا ضرر من ذلك على أحد، وهو القيد الوحيد على الحرية في ذلك الفكر. بينما المسلم لا يجوز له إيقاع الضرر على نفسه حتى ولو لم يكن في ذلك ضرر على الآخرين؛ فللإنسان في هذا الفكر التعامل بالربا، وشرب الخمور، وتكوين العلاقات الجنسية مع غير الزوجات، ونحو ذلك، مما لا ضرر فيه على غير من يزاوله.
والمعارضة يمكنها انطلاقاً من دعوى الحرية الشخصية أن تتبنى الدعوة إلى الزواج المثلي، أو حق إباحة الإجهاض، وغير ذلك من الأمور؛ وقد حدث إقرار ذلك في المؤتمرات الدولية التابعة للأمم المتحدة على أن هذا من الحرية التي هي حق لكل إنسان ولا يمكن تقييدها.
والحسبة تمنع الضرر سواء كان يوقعه الإنسان على نفسه أو على غيره لعموم الأدلة المانعة من ذلك، وللقاعدة الشرعية الثابتة بقوله -صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار» (2) . ومنع الإنسان من أن يضر نفسه لا يعد في فقه الحسبة تدخلاً في الحرية الشخصية؛ لأن الإنسان لم يخلق نفسه، ومن ثَمَّ فإن الذي خلقها هو الذي يملكها، وهو الذي يشرِّع لها.
بين الإعلان والتغيير: الحسبة السياسية تقوم على إحداث التغيير المطلوب وفق المقررات الشرعية انطلاقاً من النصوص المتكاثرة الداعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله ـ تعالى ـ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] ، وكقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فلغيره..» الحديث (3) وكقوله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (1) . فالمطلوب منع الباطل من الوقوع، وكفه عن التمادي في باطله أثناء فعله، وتغييره بعد وجوده؛ فالدعوة للتغيير وليس للإعلان فقط، وهذا يعني أن النظام السياسي الإسلامي لا يقف من المنكرات موقفاً سلبياً، بل موقفه إيجابي؛ فهو داعٍ إلى التغيير وآمر به، وهو أكثر من مجرد السماح بذلك، ولا بد أن تكون فيه من الآليات ما تمكن من ذلك، وعند امتناع الحكومة عن الاستجابة على أساس أنها لا ترى ما تراه الحسبة؛ فإنه بالإمكان اللجوء إلى المحكمة للفصل في ذلك، والذي يكون حكمها ملزماً للأطراف جميعاً.
والحسبة ينبغي أن تكون قوية، وهي تأخذ قوتها من كونها مؤسسة على أمر الشرع كما قال ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] ، لكن لا تدفعها قوتها في مقابل السلطة إلى أن تكون بديلاً عنها، أو أن تحاول الاستيلاء على السلطة؛ لأن طلب الحكم والسعي في الوصول إليه ممنوع بمقتضى النصوص الشرعية التي تحظر على المسلمين طلب الولاية، وإذا وصلت الأمور بالحكومة إلى أن تخرج عن الحد الذي ينبغي فيه عدم منازعتها؛ فإن الحسبة السياسية ليست هي البديل، وكذلك الأمر إذا دعت الحسبة إلى حجب الثقة أو إلى السعي في تغيير السلطة؛ لأنه عندما تخرج السلطة الحاكمة عن حدود الشرعية وتصبح بمقتضى الأحكام الشرعية لا حق لها في تولي الأمر، ويصير تغييرها مطلباً شرعياً؛ فإن البديل ليس هو أهل الاحتساب، وإنما البديل من تنطبق عليه الصفات ويحقق الشروط فيمن يتولى الأمر، ولا تتم توليته إلا بالطرق الشرعية المعلومة في كيفية اختيار الولاة، وليس من ذلك بالطبع استخدام القوة وشهر السلاح، كما أسلفت، ولعل هذا يكون أحد أسباب التعاون والتفاهم بين الحكومة والحسبة؛ إذ ليس واحد منهما ينافس الآخر، بل كل منهما يعمل من أجل مصلحة الأمة.
وأما المعارضة السياسية فليس فيها سوى الإعلان أن ذلك الأمر الفلاني باطل، وتنظيم مظاهرة من أجل ذلك، أو الإضراب كنوع من الاعتراض على ما يرونه من الأمور باطلاً، لكنهم لا يملكون التغيير؛ لأن التغيير بيد الأغلبية، وكل ما تملكه المعارضة تنبيه الأغلبية على ذلك، أو إشعار العامة على أمل أن يكون ذلك رصيداً لهم في الانتخابات القادمة. وفي الجانب المقابل فإن المعارضة قد يدفعها شعورها بالقوة المتزايدة في مقابل السلطة فتقوم بتنظيم المظاهرات والإضرابات التي تعجل أو تعمل على إسقاط الحكومة القائمة لتحل محلها، وهذا يجعل العلاقة بينهما علاقة تضاد وشكوك وارتياب، مما يترتب عليه سعي كل منهما في تعطيل الآخر وتعويقه لإخراجه من حلبة المنافسة حتى ينفرد هو بالتحكم في القرارات والاستقلال بها.
السعي للسلطة: الحسبة في عملها تسعى لإقامة المجتمع على الجادة، والجادة لا يراد بها هنا الحالة الدينية فقط؛ إذ إن من المعلوم أن الإنسان ليس روحاً فقط، وإنما هو روح وجسد، والجسد له متطلباته سواء في حالة انفراده أو اجتماعه؛ ولذلك فإن المجتمع في حاجة إلى أن يقام على الجادة في أمور كثيرة كالتعليم والصحة والسياسة والاقتصاد، وفي كل ذلك جاءت تشريعات أو أحكام: إما منصوص عليها، وإما يُجتهد فيها من خلال النصوص الموجودة، وإما أحكام تُستنبط من القواعد الأصولية أو القواعد الفقهية، والحسبة تعمل على التزام المجتمع بذلك: فتبصره بذلك عن طريق العلم، وتعينه عن طريق تيسير سبيل الالتزام، وتكف عنه العوائق والعوارض التي تعمل في الاتجاه المعاكس؛ كل ذلك ابتغاء وجه الله ـ تعالى ـ ورضوانه؛ فالهمة أصلاً متوجهة إلى الإصلاح: سواء إصلاح المجتمع، أو إصلاح الحكومة، والإعانة على ذلك. وأما المعارضة فإن جهدها كله منصبٌّ على الوصول إلى الحكم، وما تظهره من آراء أو أقوال أو تصورات أو اعتراضات، وما تقدمه من رؤى في الإصلاح؛ فإن الهدف من ذلك أن يكون معيناً ومساعداً في الوصول إلى الحكم؛ فالهمة متوجهة إليه أصلاً، وليس تغيير الحكومة إذا فسدت أو خرجت عن حد الصلاح، أو لم تعد قادرة على ضبط الأمور، أو تأخرت أحوال الأمة في زمنها تأخراً بيناً يعد عيباً أو شيئاً يمنعه الإسلام. لكن الذي يأباه الإسلام ويمنعه أن يتخذ الخلاف في الرأي في مسائل كلها من قبيل الاجتهاد ذريعة لتغيير حكومة مستقرة قائمة بما وجب عليها، محققة للغرض الذي نُصبت من أجله، غير مقصرة فيما هو مطلوب منها، وليست ظالمة لرعيتها بمنعها من حقوقهم الشرعية.
القدرة على التأثير: الحسبة لا تعتمد في عملها على قوتها العددية، وإنما ينبثق عملها من الاحتكام إلى محددات وأمور متفق عليها بين الجميع، وتملك الإلزام بالحق عن طريق اللجوء إلى المحكمة؛ بينما المعارضة تعتمد في عملها وقدرتها على التأثير في القرارات لا على صواب منطقها ولا جودة رأيها وفائدته للأمة، وإنما تعتمد على الكثرة العددية؛ فإذا استطاعت أن يكون لها الغلبة العددية فحينئذ تملك القدرة على التأثير وتحقيق ما تريد، حتى ولو لم يكن رأيها صواباً؛ إذ الصواب هو موافقة الأكثر عليه، فالصواب ليس شيئاً زائداً عن ذلك. أما إذا لم تستطع أن تستقطب حول مشروعها الأغلبية الكافية فإنها لا تستطيع التأثير، ولو كان ما تذهب إليه هو الصواب نفسه؛ لأنها فقدت شرط الصواب الذي يُعَوَّل عليه وهو الحصول على الأغلبية، ويصبح تأثيرها في ذلك لا يتعدى كونه ظاهرة صوتية إلا أن تتعدى حدود المشروعية في النظام الذي يحدد عملها، فتخرج إلى الشارع وتخاطب العامة وتستثيرهم لاتخاذ مواقف ضاغطة على الحكومة عن طريق التظاهر والإضرابات وتعطيل الأعمال وغير ذلك. لكن هذا يعد خروجاً على النظام الذي ينظم المعارضة، فالمعارضة يمكنها إلقاء خطبة عصماء، أو كتابة مقالة أو كتاب مدعوم بالحجج والبراهين والأدلة والوثائق وكل ما يحتاج إليه في إثبات صواب الرأي، ثم بعد ذلك كله فإن الذي يحسم القضية هو الكثرة العددية؛ حيث يتم عد الأصوات الموافقة والمخالفة ثم تكون الغلبة في النهاية أو الفيصل بين الحق والباطل لأصحاب العدد الأكبر، بل قد تملك الأغلبية سن تشريع أو نظام أو قانون تمنع به المعارضة أو تعرقل بعض أنشطتها، وتحبط مشروعات القرارات التي تتقدم بها المعارضة.
وفي حالات الاستقامة النفسية والإخلاص والتجرد من الأغراض الذاتية قد تكون الكثرة العددية دالة على رجحان الرأي الذي هي في صفه، لكن في أوقات أخرى مثل حالات فساد الذمم، واعوجاج النفوس، وحالات الضعف الفكري، وسيطرة الدعاية والإعلام والإعلان على العقول والأفكار، لا يأتي من وراء ذلك إلا الأقدر على الدعاية والإعلان والأكثر كذباً وخداعاً بغض النظر عن الصواب والخطأ.
وإذا علمنا أن النظام الذي يعتمد المعارضة لا يشترط فيمن يزاولون السياسة (مرشحين وناخبين ـ معارضة وحكومة) شروط تحول ببن الكذب والخداع مثل التقوى والعمل الصالح وأداء الفرائض واجتناب الكبائر؛ فإن هذه الأساليب الممقوتة تروج بينهم بكثرة شديدة، ولو قال قائل: بل ينبغي اشتراط قدر من التقوى والعمل الصالح يمنع الكذب والخداع، وقدر من الغنى يمنع من الخيانة ويدعو إلى الأمانة، وقدر من العلم يمنع من الانجراف وراء الآلة الإعلامية، قيل: ليست هذه هي المعارضة، وينبغي أن يبحث لها عن اسم آخر؛ إذ المعارضة عندهم إحدى نتائج فكرة كلية تقول: إن الشعب هو صاحب الكلمة العليا في شأن سياسة المجتمع وتنظيمه، والشعب هو كل مواطن بالغ عاقل بغضِّ النظر عن دينه أو علمه ومنزلته وجاهه، فيستوي الجميع في هذه السيادة التي تكفل لهم الحرية المطلقة، ولو طلبنا اشتراط قدر من التقوى لهاجمنا أصحاب ذلك الفكر وعدُّوا ذلك انتقاصاً من تلك الحرية.
والقدرة على التأثير من المعارضة شكلية إلى حد كبير جداً؛ إذ إن الرأسماليين أصحاب رؤوس الأموال هم الفئة المسيطرة في الحقيقة على المجتمع، وهم مُلاَّك وسائل الإعلام التي يقومون بتوجيهها لصناعة الرأي العام من أجل مصالحهم ومصالح طبقتهم، وقد أصبح وجود وسيلة إعلامية ليس لها من هَمٍّ سوى تقديم المعلومة الصائبة، بغض النظر عمن تخدمه تلك المعلومة، أمراً عسيراً، بل نادراً؛ لأن هذه الوسائل إنما تعمل في خدمة ملاكها الذين يهمهم توجيه المجتمع إلى حيث مصلحتهم، ثم إن التكلفة المالية الضخمة لممارسة العمل السياسي من حيث الدعاية والإعلان لا يقدر عليها إلا كبار الأثرياء، وهذا ما يحول بين فئة كبيرة من الناس من المشاركة في العمل السياسي، أو تجعلهم رهينة في أيدي أحزابهم التي تنفق على حملاتهم السياسية؛ فقد تصل تكلفة بعض الحملات الانتخابية للرئاسة عشرات الملايين، وفي بعض البلدان تصل تكاليف الحملات الانتخابية إلى عدة مئات من ملايين الدولارات؛ فمن الذي يقدر على ذلك؟ وهذا كله يمنع في النهاية من أن تكون هناك معارضة حقيقية نابعة من رؤية الفرد الخاصة إذا كانت تخالف رؤية الحزب، فعندما توجد مثل هذه الرؤية الخاصة فإن الأفراد لا يملكون البوح بها وإظهارها، إلا إذا كانوا قد قرروا ترك الحزب، وهذه هي الحرية التي يتشدقون بها، وإذا ما خرج من الحزب فإنه يفقد مكانته السياسية لعدم قدرته على الإنفاق في غالب الأحيان، وهو في هذه الحالة بين أمرين: إما أن يتقاعد سياسياً، وإما أن يتحول إلى حزب آخر سوف يمارس معه الدور نفسه بعد قليل.
وإذا كان الوصول إلى المقاعد النيابية لا يستطاع إلا بالإنفاق؛ فهذا يعني أن المعارضة لا تتاح حقيقةً إلا للأغنياء الذين لديهم الأموال الكافية التي تمكنهم من المحافظة على آرائهم. لقد أثبت ذلك النظام إخفاقه الشديد في بلدين يُنظَر إليهما على أنهما من البلاد التي تتمتع بالحرية الكاملة والمعارضة القوية؛ فقد شنت أمريكا وحليفتها بريطانيا الحرب على العراق بدعوى امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل التي تهدد السلام العالمي، ولا بد من القضاء على ذلك كشرط أساس حتى ينعم العالم بالسلام والأمان، وظل النظامان يرددان تلك الأكذوبة فترات طويلة، ثم ظهر بعدما شنوا الحرب وقتلوا أكثر من مائة ألف عراقي أن ذلك كله كان كذباً في كذب، وقد اضطر نظاما الحكم في البلدين إلى الاعتراف بكذب المعلومات التي استندوا إليها في شن الحرب، وأنه قد جرى تزويدهم عمداً بمعلومات غير صحيحة من قِبَل أجهزة مخابراتهم؛ فماذا فعلت المعارضة بعد ذلك؟ لم تتمكن المعارضة من فعل شيء؛ لأن الأمور يحكمها في النهاية عدد الأصوات، وقد نجح رئيسا البلدين في الفوز في الانتخابات التي أجريت بعد ذلك مع تلك المصائب.
التعددية وأثرها على الواقع: التفاوت والفروق الفردية بين الناس أمر مدرَك لا يمكن جحده وله ما يسوِّغه؛ إذ لا يمكن صب الناس في قالب واحد وخاصة في الأمور الاجتهادية سواء كانت مما يتعلق بالدين أو بالدنيا، وعلى ذلك فإن الشريعة تعترف باختلاف المشارب والقدرات وما ينتج عن ذلك من تعدد في الرؤى، ومن ثم فهي لا تنظر إلى هذا التعدد أو تقف منه موقف المستريب أو تعمل على القضاء عليه بكل سبيل، ما دام أنه داخل الحدود المعتبرة، كما أن هذا التعدد لا يكون مصدر ضعف بل يكون مصدر رحمة وتوسعة كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. ثم إن هذا التعدد محكوم في النهاية بإطار يقلل من التعدد الواهي الذي يضعف الأمة، ويمنع من التعدد الانفلاتي القائم على الحرية المطلقة (1) وفق الفكر السياسي الغربي؛ حيث تتعدد قوى المعارضة وتأخذ اتجاهات شتى في ظل عدم وجود إطار يحصر هذه القوى، مما يضعف هذه القوى جميعاً؛ فلا يصير لها من أثر على واقع الحياة السياسية؛ فإذا أرادت التأثير فإنها تعمد إلى أن تكون كتلة واحدة (أو ما يسمى بالتكتل) حتى تستعين بعدد هذه الكتلة للوقوف أمام الحكومة فتعرقل قراراتها أو مشروعاتها أو تحبطها، وهنا يتحول الواقع السياسي إلى مشهد البحث عن تضخيم المكاسب والمغانم، وتقليل الخسائر والمغارم، فلم يعد المشهد مشهد الحفاظ على مصلحة الأمة، ويكون المشهد في ذلك أقرب إلى مشهد المعارك والحروب لا مشهد التعاون والتعاضد، وتظهر اتهامات بالفساد المتبادل بين الطرفين سواء بالحق أو بالباطل في إطار حملة كسب تأييد الرأي العام أو الشعبي إلى صفه.
ثم إن المعارضة في تكتلها تضطر إلى التنازل عن شيء من خطتها في سبيل جمع الكلمة والالتقاء حول قاسم مشترك يُتفق عليه لمواجهة الحكومة؛ فقد تحولت فكرة مواجهة الحكومة إلى أصل يلتقي عليه الجميع، وهذا مما يبين كيف أن الأسماء تؤثر على الأفعال والتصرفات؛ فكون أن اسمها معارضة يجعلها تعمل وتتصرف على خلاف الحكومة حتى لا تفقد مسوِّغ وجودها أو تميزها عن الحكومة، حتى وإن كان ذلك في أمور ليست جوهرية.
ثم إن المعارضة إذا قبلت بمبدأ التنازل عن بعض تصوراتها أو خططها من أجل التوحد في مواجهة الحكومة؛ أفلا يكون من الأجدى لها التنازل عن بعض تلك التصورات أمام الحكومة للوصول إلى قاسم مشترك فيه مصلحة الأمة؟ لكن إذا كان الهدف هو الوصول إلى السلطة فإن هذا الحل يصبح غير مناسب، وإذا قيل: لا، بل لأن الخلاف كبير ولا يمكن الوصول بشأنه إلى حل وسط، وأن ذلك التصرف يمثل خيانة لطموحات الشعوب وآمالها؛ فهذا يعني أن هذا النظام لا يصلح إلا عند وجود التباين الشديد والتنافر العظيم بين مكوناته وأجزائه.
الحجة والمرجعية: الحسبة تنطلق من نظام سياسي يعتمد الشريعة حجة ومرجعاً يُرجَع إليه، ومن ثَم فما وافق الشريعة فهو حق وصواب، وما خالفها فهو خطأ وباطل، بغض النظر عن أعداد القائلين في كل حالة. ويمكن الاعتراض على القرارات والتشريعات ولو كانت متعلقة بالأمور الدنيوية إذا كان فيها ما يخالف الشريعة، أو كان يترتب عليها عَنَتٌ ومشقة على الرعية بغير مسوِّغ، حتى لو أقرت ذلك السلطة الحاكمة، ويمكن الاعتراض على ذلك في حالة عدم استجابة الحكومة أمام المحكمة، ويصير حكم المحكمة ملزماً للأطراف كلها؛ فالإلزام إنما يكون بالشريعة؛ وفي هذا محافظة كبيرة على مكانة أفراد الأمة والاعتراف بكرامتهم.
وأما المعارضة فإن الحجة فيها راجعة للأغلبية فلا يمكن وصف رأي أو تَصوُّر بالبطلان ـ حتى لو كان خطأ تماماً ـ إذا حاز على الأغلبية ووافقت عليه الأكثرية؛ إذ لا معنى للصواب عندهم إلا أن يكون ذلك مُوافَقاً عليه من الأغلبية، وحينئذ يمتنع الاعتراض عليه أمام المحاكم، ويصبح نافذ العمل بمجرد إقراره، وتكون في النهاية الأغلبية هي المتحكمة في مصائر الأمة، حتى لو كانت أغلبية صورية أو كانت أغلبية جاهلة أو فاسدة.
الاستمرارية في العمل: الحسبة وجودها ونشاطها غير مرتبط أو متوقف على الاعتراض على تصرفات الحكومة، بل هي تعمل مع الحكومة في الاتجاه نفسه، وتشارك عن طريق العمل الإيجابي مع الحكومة في تحقيق أهداف المجتمع؛ ولذلك فإن الحسبة تظل مزدهرة في حالة استقامة الراعي وفي حالة اعوجاجه، ولذلك قال أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيما نقلناه عنه سابقاً: «راعوني؛ فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني!» (1) ؛ فالحسبة تعمل وتنشط في كِلا الحالين مما يعني استمرارية عملها في المجتمع في كل أحيانه؛ فعن أبي قلابة: «أن رجلاً من حمص يقال له كريب بن سيف ـ أو سيف بن كريب ـ جاء إلى عثمان، فقال: ما جاء بك؟ أبإذن جئتَ أم عاصٍ؟ قال: بل نصيحة أمير المؤمنين، قال: وما نصيحتك؟ قال: لا تكل المؤمن إلى إيمانه حتى تعطيه من المال ما يصلحه ـ أو قال ما يعيِّشه ـ ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك، ولا ترسل السقيم إلى البريء ليبريه؛ فإن الله يبرئ السقيم، وقد يُسقِم السقيمُ البريء، قال: ما أردت إلا الخير. قال: فردهم، وهم زيد بن صوحان وأصحابه» (2) ؛ فقد جاء المسلم من حمص في سوريا إلى المدينة النبوية يحتسب عند أمير المؤمنين في إسداء النصيحة.
أما المعارضة فإنها قائمة على أساس التربُّص بتصرفات الحكومة ومخالفتها، وهي بمقتضى قيامها تعد نفسها البديل للحكومة؛ فهي لم تقم إلا لمعارضة الحكومة لا لمعاونتها، وأقصى ما يمكن أن تشارك به هو تقديم وجهة نظر فيما يراد عمله أو إقراره من قِبَل الحكومة بهدف إظهار تفردها وتميزها على الحكومة وأحقيتها في أن تحل محلها؛ وهذا يعني أنه عند استقامة الحكومة أو عند وجود خلافات غير جوهرية فإن استمرارية المعارضة وفعاليتها تصل إلى أدنى درجاتها، وحتى تحافظ المعارضة على استمراريتها وفعاليتها وعدم غيابها عن حس المواطن العادي، فإنها إما أن تفتعل الاختلاف مع الحكومة افتعالاً، وإما أن تضخم الخلاف الموجود.
الحسبة ضمان وأمان: قد ترفض السلطة في كثير من بلاد المسلين أي نوع من أنواع المتابعة والمراقبة لسياستها تصوراً منها أن ذلك يقدح في هيبتها أو أحقيتها بالولاية، ومن ثم ترفض الاقتراحات المقدمة والمشاركة في حل المعضلات أو المشكلات، وهذا فضلاً عن مخالفته للأحكام الشرعية فإن فيه محاذير أخرى نذكر منها: حرمان الأمة والمجتمع من كفاءات العديد من خيرة أبنائه الذين ينأَوْن بأنفسهم عن الدخول في هذه المواقف الحرجة، كما يحرم الأمة من مشاركتهم لها وقت الأزمات، وفي المواقف الحرجة التي تحتاج إلى جهدهم وفكرهم، فتقف وحيدة من غير معاونة في وقت هي أحوج ما تكون فيه إليهم. وبينما هناك فريق ينأى بنفسه فإن هناك الفريق المقابل الذي قد يلجأ إلى خيارات يترتب عليها نشوء أفكار مشوهة أو غير صحيحة، ومواقف غير رشيدة لا تجني الأمة من ورائها إلا الشوك، وقد ينقلب الأمر عند فئة ثالثة إلى المداهنة والنفاق وإظهار الرضا والموافقة على كل تصرفات الحكومة. وخطورة هذا المسلك على مجموع الأمة معروف لا ينكر، فلا يُظهر الحق ولا يُخمد الباطل إلا ما وافقت عليه السلطة، وهو ما يعني في النهاية اختزال الأمة كلها في الحكومة، بينما الأصل أن الحكومة إنما وجدت لمصلحة الأمة، كما يترتب على منع الحسبة إضعاف التفاعل بين الدولة والأمة، حتى يتصرف كثير من الناس بنفسية الأجير لا بنفسية صاحب الدار، ويترتب على ذلك تعرض الأمة للغزو الفكري والقبول بأشكال الفكر السياسي الغربي الوافد بأشكاله ومشكلاته. وفي ظل التقدم التقني الهائل في وسائل الاتصالات صارت المعلومات والأخبار بمنزلة الكلأ المباح يَرِدُه كل من احتاج إليه، وأصبح التحكم في ذلك صعباً للغاية، ولم يعد بوسع الدول أن ترد عادية هذا الأمر إلا بحكم الشعوب بشريعة الله التي تضمن التَّواؤُم بين الجميع والعمل الجاد العام لصالح الجميع.
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب الحيل، رقم 6464.
(2) انظر البخاري كتاب المغازي، رقم 3994.
(3) مصنف عبد الرزاق، 11/336.
(1) قال في لسان العرب: تَجْمِيرُ الجيش: جَمْعُهم في الثُّغور وحَبْسُهم عن العود إِلى أَهليهم.
(2) الغِياضُ: جمع غَيْضة وهي الشجر المُلْتَفّ؛ لأَنهم إِذا نزلُوها تفرّقوا فيها فتمكَّن منهم العدوّ.
(3) أخرجه أحمد رقم 273، والحاكم في المستدرك، 4/ 485، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، لكن أبا فراس الراوي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ ليس من رجال مسلم ولم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين (ذكر ذلك الشيخ الأرناؤوط) .
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/501، وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/ 502، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (6) أخرجه البيهقي، 9/138.
(1) فضائل الصحابة، 1/290.
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/66، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وابن ماجه، كتاب الأحكام، رقم2332 وأحمد، رقم 2719، وقال الشيخ الأرناؤوط: حسن.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم 70.
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، رقم 2094، وقال: هذا حديث صحيح. وأبو داود، كتاب الملاحم، رقم 3775. وابن ماجه، كتاب الفتن، رقم 3995. ومسند أحمد، رقم 1.
(1) من حيث الواقع ليست هناك حرية مطلقة إلا في جانب التصرفات الفردية في مخالفة الدين أو الأعراف.
(1) مصنف عبد الرزاق، 11/336.
(2) مصنف عبد الرزاق، 11/334.(215/6)
النصر بين أيدينا
د. عبد الله بن عبد العزيز اليحيى
الأمة الإسلامية كانت ـ ولا زالت ـ مرشحة لتكون قوة فاعلة ومؤثرة مع بداية القرن الخامس عشر الهجري ـ الحادي والعشرين الميلادي ـ صرح بذلك أفذاذ من الباحثين في الشرق والغرب، خاصة قبل سقوط الشيوعية وأثناءه، ولا يزال الترشيح يحتل مساحات كبيرة في الكثير من الدراسات الاستشرافية رغم الواقع المرير للمسلمين في الداخل، ومن الخارج، إلا أن النظرة التفاؤلية تتمركز ـ أولاً ـ حول الإسلام وخصائصه، متخذة عدة أسباب، يمكن إجمال أهمها بالنقاط الثلاث التالية:
1 - الجانب العقدي في الإسلام: حيث إنه دين الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومحور التوحيد، وآخر الرسالات السماوية، وهو للعالم أجمع، إضافة إلى ما فيه من معالم تحفظ أسس الفطرة الإنسانية، وتنظم كل الغرائز البشرية، وتلتقي مع العلم وترتب الحياتين ـ الأولى والآخرة ـ للفرد والمجتمع والأمة، وتترافق مع كل خطوات المسلم، في عباداته وعمله ونومه وضحكه، وحديثه ومشاعره ونياته، محققة للإنسان مطالبه بميزان تعادلي، لا يطغى موضوع على آخر، سواء أكان ذلك المسلم في الصحراء داخل خيمته وأمام إبله، أم في جزء صغير من ناطحة سحاب في طوكيو بين يديه (ريموت) يدير به منزله، أو ينظر من خلاله إلى العالم من الزاوية التي يريدها، فالمسلم ـ فقط ـ هو الذي يعرف مكانه الحقيقي في هذا الكون، ورسالته، وأهدافه، ووسائله، ومن أين جاء؟ وماذا يريد؟ وإلى أين يتجه؟
2 - الجانب الأخلاقي: المرتبط بالعقيدة والعبادة، المنطلق من علاقة المسلم بربه ونبيه وكتابه، لتمتد إلى أحواله مع نفسه ووالديه وأولاده وأقاربه وجيرانه، فتصل إلى غير المسلمين، وتشمل الأبيض والأسود، والحيوانات والنباتات والجمادات، على شكل بناء هندسي متناسب، ودوائر جميلة دفعت من لم يسلم من العقلاء ـ في كثير من زوايا الأرض ـ إلى الإعجاب بالإسلام وتقديم شهادات التقدير له.
إن المسلم الملتزم يقدم في كل لحظة صوراً هنا وهناك عن الروح السامية في دينه، مع إمكانات هائلة على التكيف مع الشعوب الأخرى، ومرونة رائعة أخاذة لا تصل إلى الثوابت، وتتفاعل مع ثقافات الآخرين، وتقتطف المفيد منها، ثم لا تسيء لما بقي منها بعد ذلك.
أخلاق إسلامية لم تُسبق فيما مضى، ولن تُلحق في هذا العصر رغم وجود منظمات حقوق الإنسان المتعددة والمتنوعة، والتي لم تصل إلى حقوق الجنين، وتسمية المولود، ومعنى مسح رأس اليتيم، ومراعاة المسنين ورعايتهم، وأهمية ربط الأخلاق بالعبادة، أو كون المكافأة «الجنة» .
3 - الجانب التعبدي في الإسلام: وإن كانت محاوره الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج؛ فقد تجاوزها لتشمل أعماقاً وزوايا في الحياة والإنسان، فيصبح المسلم الملتزم وقد تشابكت معالم التوحيد مع قضايا الوجود ـ بعد تفعيل العبادة ـ في عقله وقلبه، لتثمر الإنسان المتماسك أمام أتراح الدنيا وأفراحها، الباذل في الرخاء والشدة، المطمئن في الليل والنهار، الساعي في مناكب الأرض من أجل نفسه والآخرين، الشاكر المستغفر الصابر العامل.
هذه الجوانب الثلاثة كونت مضادات حيوية قوية مستمرة، ضد أي هجمة، وصاغت للأمة الإسلامية خصائص تظهر واضحة جلية أمام المحن، ومنها:
أ - أن الأمة الإسلامية ـ في مجملها ـ لم تهزم أو تساوم أو تتنازل عن هويتها الدينية عبر التاريخ، وأثناء المحن، بل يكبر إيمانها بإسلامها وتمسكها به حينما يتكالب عليها الأعداء؛ فالهوية تشكل الذات بالنسبة للفرد، والمجتمعات، والشعوب، والأمم، وتمثل الثقافات، للحضارات، والمدنيات، وأي اعتداء عليها فإنما هو إساءة لحقوق الإنسان. أما إلغاؤها ـ وهو الأخطر ـ فسيؤدي إلى الفصل بينه وبين مقومات وجوده المعنوية المتمثلة بالدين والتقاليد واللغة حتى تصل إلى السلوك والأكل والملابس؛ ولذا نلمس تجذر المسلم الحقيقي في إسلامه، وثقته به، وممارسته له، والدعوة إليه والدفاع عنه، وتقديم دينه على نفسه وماله وأحب الناس إليه.
والمسلمون ـ في بداية مسيرتهم ـ انتصروا على القوى الكبرى (الروم والفرس) رغم التباين الكبير في العدد والعدة بينهم وبين تلك القوى، ولم يقعوا في أحابيل الفلسفة اليونانية رغم ترجمتهم لها، ولم يتحطموا أمام التيار، وتجاوزوا الحروب الصليبية، ولم يؤثر فيهم كيد تحالف الصهيونية اليهودية مع الصهيونية المسيحية في هذا العصر، ولن يحققا أول أهدافهما وهو ضم العالم الإسلامي إلى هوامش منظومة ما يسمى بـ (الحضارة الغربية) وفرض النمط الغربي عليه بوسائل جديدة ومتنوعة، وهذا ما يلمسه المتابع من ممانعة ومقاومة في ميادين مختلفة، وقضايا متنوعة، ومن انكشاف زيف القوى الكبرى، وسقوط شعاراتها، وظهور شرائح منها تحذر من الهزيمة أو تعلنها.
ب ـ أنها أمة تتجدد في كل عصر، مع احتفاظها بثوابتها، بل إنها تغذي صحوتها من نبع عقيدتها السمحاء، وكأنها ولدت في هذا المكان لهذا العصر، ولذا نجد هنا وهناك ـ رغم الجور ـ الوعيَ بالذات على مستوى العلماء والمفكرين، وتديناً فعالاً على مستوى الأمة، وتمدداً طليعياً للإسلام في أنحاء العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا وكأنها تمثل القوة الناعمة المنتصرة على خشونة خصومها، دون أن يدعم هذ التمدد ضغوط سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، وأصبح المراقب ـ هناك ـ يتساءل:
ما هذه القوة الخفية؟ والقدرة على الحركة؟ والممانعة من الوقوع في المغريات الغربية، والتمرد على الضعف المادي؟
ج ـ أنها لا تنظر إلى خصومها على اختلاف درجاتهم ومشاربهم بمقاييس مادية فقط، ولا تتساءل كم لديهم من طائرات، ودبابات، وبواخر؟ إن الجوانب المعنوية وما يغذيها من إيمان، والرؤيا الواضحة للكون وما بعده، والتوجه إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ رغم العوائق، هو مربط الفرس، ثم يأتي بعد ذلك ـ وأثناءه ـ استفراغ الجهد، وحمل همّ العمل، والأخذ بالأسباب. أما النصر فأمره إلى الله الحكيم العليم جل وعلا.
هذه الخصائص الثلاث تفاعلت لتشكل خنادق وحصوناً تحمي هوية المسلم وتستعصي على الاختراق، أو الذوبان، أو التجزئة، في مجمل الأمة الإسلامية، مهما كانت قوة الهجوم، أو حجم التكاليف، أو عدد مساراته الخفية والمعلنة.
والشيء اللافت للنظر أن ما تم بذله من أجل تحطيم أو تهميش هوية المسلمين أثمر ثلاث ثمار يانعة، لم تكن في الحسبان ولا تقدر بثمن، وهي:
1 ـ عودة المسلم إلى إسلامه، ودخول مسلمين جدد، وتقارب بين المسلمين، وإعادة ترتيب الأفكار الكلية والجزئية، ثم المؤسسات الإسلامية ـ إن شاء الله ـ بعد ذلك.
2 ـ سقوط ورقة التوت الصغيرة والأخيرة عن سوءة دعاة الحرية، وذوبان ملامح التلميع والادعاء بأنهم حماة الحقوق، ودعاة الديمقراطية، وأهل التقدم والرقي والأخلاق، ومنطلق العلم والعقل والحق.
3 ـ وقوف الأمة الإسلامية في خط الدفاع الأول عن أمم وشعوب متعددة يفترس (القطب الواحد) بعضها، ويسعى إلى الوصول إلى بعضها الثاني، هذه الوقفة المتميزة أنعشت آمال الضعفاء، وشتتت الخطط، وأعاقت العجلة، وأدخلت الكثير من علامات الاستفهام والتعجب في قلب العولمة، وظهرت معالم عالمية الإسلام أمام عولمة الغرب.
ولا شك أن المسلمين يملكون إمكانيات كبيرة ومتنوعة، والمسلم لديه طاقات كثيرة، ولم يبق إلا أن يستشعر كل فرد من
__________
(*) مساعد الأمين العام، للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالسعودية.(215/7)
مبشرات في زمن الأزمات
أم عبد الرحمن الزيد
للفتن حِكمٌ ولو لم نعرف منها إلا واحدة لكفانا، وهي الابتلاء والامتحان.
قال ـ جل وعلا ـ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «اقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب من أنواع الابتلاء والامتحان» ا. هـ (1) .
1 - فأول هذه المبشرات:
حصول الأجر ووضع الوزر: وذلك إذا قُرن بالصبر والاحتساب. يقول أبو طالب المكي: اعلم أن الصبر سبب لدخول الجنة والنجاة من النار؛ لأنه جاء في الخبر: «حُفَّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» (2) .
بل إن العبادة في وقت الفتن وعند غفلة الناس لها أجر مضاعف؛ فعن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ» (3) .
يقول النووي ـ رحمه الله ـ: «المراد بالهَرْج هنا الفتنة، واختلاط أمور الناس. وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد» ا. هـ (4) .
2 - وعد الله الصادق والخبر الجازم باستخلاف المؤمنين العاملين الصالحات، وتمكينهم الأرض، وإقامة العبودية لله وحده لا شريك له:
قال ـ جل وعلا ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .
يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: هذا وعد من الله ـ تعالى ـ لرسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} «من الناس {أَمْنًا} وحكماً فيهم، وقد فعله ـ تبارك وتعالى ـ وله الحمد والمنة؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين واليمن وسائر الجزيرة العربية بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة. قال الربيع بن أنس عن أبي العالية: كان النبي -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدِموها، فأمرهم الله بالقتال؛ فكانوا بها خائفين يُمسون في السلاح ويُصبحون بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله! أبد الدّهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لن تغبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة، فأنزل الله هذه الآية» ا. هـ (1) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية وهي لم تشهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها والتمكين من إقامة الدين الإسلامي والأمن التام؛ بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً ولا يخافون أحداً إلا الله، فقام صدر هذه الأمة من الإيمان والعمل الصالح بما يفوق على غيرهم؛ فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام؛ فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة. ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة مهما قالوا بالإيمان والعمل الصالح؛ فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط الله عليهم الكفار والمنافقين ويديلهم في بعض الأحيان بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح» (2) . وقال أحد السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس.
3 - أن الله أقسم بعزته على نُصرة المظلوم:
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول: وعزتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين» (3) .
ويقول ـ جل وعلا ـ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: «ولا يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه وحاربوا رسوله أنَّ تَرْكَنا إياهم في هذه الدنيا وعدم استئصالنا لهم وإملاءنا لهم خير لأنفسهم ومحبة منَّا؛ كلاَّ! ليس الأمر كما يزعمون، وإنما ذلك لشرٍ يريده الله بهم وزيادة في عذاب وعقوبة إلى عذابهم، ولهذا قال: {إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] ؛ فالله - تعالى - يملي للظالم حتى يزداد طغيانه ويترادف كفرانه، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. فليحذر الظالمون من الإمهال ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال» ا. هـ (4) .
وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] » (5) .
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعلم أن مع الكرب فرجاً، ومع الشدة يسراً، ويثبت أمام أقوال الظالمين؛ فمنهم من يقول: ألم يجد الله غيرك رسولاً يرسله؟ ويقول آخر: لو رأيتك متلعقاً بأستارالكعبة ما صدقتك. فيصبر ويحتسب حتى يظهر الله دينه، وينصره على الظالمين.
4 - تكفل الله بحفظ الدين وإظهاره على سائر الأديان:
يقول ـ جلت قدرته ـ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: الهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح، والعلم النافع، ودين الحق هو الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} : أي على سائر الأديان؛ كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلك أمتي ما زوي لي منها» (6) .
وروى الإمام أحمد عن تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله هذا الدين يُعزُّ عزيزاً ويذلُّ ذليلاً، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر» ، فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي: لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية» ا. هـ (7) .
5 - المحاسبة الدقيقة للنفس المؤمنة (8) :
والوقوف على المنح الربانية والعطايا الرحمانية من هذه الفتن: ذلك أنه يكون من جملة أسباب هذه الفتنة ذنب أو تقصير أو غشيان معصية أو إخلال في العقيدة والثقة بالله؛ والتوبة ومراجعة النفس وسيلة لدراسة الحاضر واستهشراف المستقبل؛ فالمتأمل في غزوة أحد وفي ذنبٍ واحدٍ وهو نزول الرماة؛ وذلك بعد أن ظنوا أن المعركة انتهت؛ فماذا حصل؟ لقد وقع فيهم سبعون شهيداً، ومُثِّلَ بهم أقبح تمثيل. لقد شُج رأس النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته وهشموا البيضة على رأسه، وهي الخوذة التي يضعها الفارس على رأسه.
قال ـ جل وعلا ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] .
يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: أي بسبب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حين أمركم أن لا تبرحوا مكانكم فعصيتم. ويعني بذلك الرماة» (1) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون؛ فعودوا على أنفسكم باللوم، واحذروا من الأسباب المردية؛ فإياكم وسوء الظن بالله؛ فإنه قادر على نصركم، ولكن له أتم الحكمة في ابتلائكم ومصيبتكم» (2) .
ويقول أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه.
ومن صور محاسبة النفس تقوية عقيدة الولاء والبراء وإثباتها في النفس؛ وذلك باستمرار المقاطعة الجادة للمنتجات اليهودية والنصرانية.
يقول الدكتور محمد بن عبد الله الشباني: في مقال (واجبنا زمن الانهزام) : «وبهذه المقاطعة يتحقق أمران:
الأول: تشجيع منتجات البلاد الإسلامية وتقوية اقتصادياتها.
الثاني: محاربة العدو اقتصادياً بالامتناع عن شراء السلع المنتجة في تلك البلاد، ومحاربة كل تاجر مسلم يستورد السلع الاستهلاكية من بلاد أعداء المسلمين، وعلى كل فرد رفع شعار (قاطعوا الأعداء) بالامتناع عن شراء أي سلعة منتجة وموردة من بلاد النصارى وبالأخص الدول التي تتولى قيادة دول النصارى (3) .
6 - وبالجملة فإن للفتن خيرات وفي المحن عطايا ومبشرات ومنافع ومسرات نذكر منها إجمالاً:
1 - دفاع الله عن الذين آمنوا: يقول ـ جل وعلا ـ: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] .
يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: يخبر - تعالى - إنه يدفع عن الذين توكلوا عليه، وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم كما قال ـ تعالى ـ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] (4) .
ويقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: «هذا إخبار ووعد وبشارة من الله للذين آمنوا أن الله يدفع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم بسبب إيمانهم كل شر من شرور الكفار وشرور وسوسة الشيطان وشرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف كل بحسب إيمانه له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقلٌّ ومستكثر» (5) .
2 - صلابة الإيمان وقوته وقت المحن والأزمات: يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورةً ويتجنب المحظورات فحسب؛ إنما المؤمن هو الكامل الإيمان لا يختلج في قلبه اعتراض، ولا يساكن نفسه فيما يجري وسوسة؛ وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه» .
3 - إبراز الشخص بصورة أقوى لمقابلة الأزمات والشدائد: يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي: «ومثل الابتلاء كقشر البيضة سجن لما فيها تحفظ ما بداخلها حتى يتشكل ويخرج بعد ذلك خلقاً آخر؛ وكذلك المبتلى يكون ابتلاؤه سجناً له، ويتشكل وهو فيه حتى يخرج من الابتلاء وهو خلق آخر» .
4 - ما ذكره الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله في مقال: (القضية البوسنية دروس وعبر) :
أولاً: رجوع الناس في تلك البلاد إلى الإسلام؛ حيث برز منهم من يفهمه فهماً صحيحاً بعد أن كان إسلاماًِ صورياً بالهوية فقط وما نتج عن ذلك من التمايز عن الكفار بعد أن كانوا في حالة من الانصهار والذوبان معهم دون علم بحقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر.
ثانياً: أظهرت هذه الأحداث طرفاً من خيرية هذه الأمة، وأن الشعوب رغم ما دهاها في دينها فلا تزال فيها بقية من خير وحب للإسلام؛ وذلك فيما ظهر من التعاطف الشديد من المسلمين بعامة مع إخوانهم المنكوبين؛ حيث برزت أمثلة رائعة في البذل والتضحية والدعوة والجهاد من دعاة وخطباء ومجاهدين وأثرياء (6) .
- آخر المطاف:
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمانٌ الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» (7) .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: وهذا الحديث يقتضي خبراً وإرشاداً: أما الخبر فإنه -صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه في آخر الزمان يقلُّ الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل؛ وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة كحالة القابض على الجمر؛ من قوة المعارضين وكثرة الفتن المضلة.
أما الإرشاد فإنه إرشاد أمته أن يوطنوا أنفسهم على هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات وصبر على دينه وإيمانه مع المعارضات فله عند الله أعلى الدرجات، وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه؛ فإن المعونة على قدر المؤونة.
ولكن مع ذلك فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصوراً على الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتاً في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه ووعده الذي لا يخلفه بأنه سيجعل له بعد عسر يسراً، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات (8) .
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 125.
(2) رواه مسلم عن أنس ـ رضي الله عنه ـ في وصف الجنة، رقم 2822.
(3) رواه مسلم، رقم 7326.
(4) شرح صحيح مسلم للإمام النووي (18/288) .
(1) المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، ص 949 - 950.
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 521 - 522.
(3) الفتح، (3/ 1423) .
(4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 125.
(5) رواه مسلم (2583) .
(6) رواه مسلم (4/ 2215) .
(7) رواه أحمد (4/130) .
(8) يحسن الرجوع إلى كتاب: (قل هو من عند أنفسكم) ، للشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل.
(1) المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، ص 258.
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 123.
(3) مجلة البيان، عدد 76، شهر ذي الحجة عام 1414هـ.
(4) المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، ص 897.
(5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 488.
(6) مجلة البيان، عدد (94) شهر جمادى الآخر، 1416هـ.
(7) رواه الترمذي، كتاب الفتن، رقم 2186.
(8) كتاب بهجة القلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، ص 200- 201.(215/8)
ماتت غدير
عبد الحميد سالم الجهني
«غدير مخيمر، طفلة فلسطينية اخترقت صدرَها رصاصةٌ وهي على كرسي الدراسة
.. بقيت يوماً في المستشفى ثم.. ثم.. ماتت غدير.. ماتت غدير»
ماتت غديرْ
ماتت غديرْ
وتناثرتْ أشلاؤها
وترددت أصداؤها: أين النصيرْ؟
وترنَّحت من ذلك الكرسي فاهتزَّ الحضورْ
كانت غديرُ حمامةً
بيضاءَ تختصر العصورْ
كانت غدير رسالةً
للحب كالنبع الغزيرْ
كانت هنالك روْضةً
للدرس.. تحلم بالحياهْ
كانت تود لو أنها أنشودةٌ
لتسير.. في الوطن الكبيرْ
وتقول: إني هاهنا.. لا زلت أحلم بالحياةِ
وبالسرورْ
لا زلت أحلم باللقا.. لا زلت أحلم بالكثيرْ
وأن تطوِّق فرحتي.. الأمل الكسيرْ
وأعود للعش الصغيرِ ... وللحصيرْ
ألقى أبي تحت الشُجيرة واقفاً
ليقول لي: أهلاً وسهلاً يا غديرْ
ماذا أخذتِ اليوم من درسٍ فإنَّ العلم نورْ
أماه! جئتُ إليكما
ولقد حملتُ لكم معاً درسي الأخيرْ
هذي رصاصة فاجرٍ
قد جاورتْ حُزني ومزقت الستورْ
أماه! لا تخشَيْ فقد غَطَّتْ دمائي ذلك الجسد الأسيرْ
أماه! هذا الدرس ليس لكم فقط
يا مسلمون! أنا هنا.. هل تعلمون بقصتي؟
يا ويحكم.. حتى متى تستنكرون وتشجبون.. تنددون؟
فليهنأِ المتآمرون!
فليهنأِ المتآمرون!(215/9)
دموع على أسوار قبرص
د. حمدي شعيب
«لما فُتِحَت قبرص، فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيتُ أبا الدرداء جالساً وحده يبكي.
فقلت: يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يومٍ أعزَ اللهُ فيه الإسلام وأهله؟
فقال: ويحك يا جُبَيْر! ما أهونَ الخلق على اللهِ ـ عز وجل ـ إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةٌ قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمرَ اللهِ فصاروا إلى ما ترى» (1) .
حادثة غريبة رواها عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن والده رضي الله عنهما، وهو يستغرب موقف أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ الباكي الوحيد، ويستغرب تفاعل مشاعره المناقضة لمعظم مشاعر من حضروا فتح قبرص.
وهو الموقف الذي يذكرنا بموقف مؤمن آل فرعون، عندما وقف وحده، لينصح قومه المعرضين عن رسالة موسى ـ عليه السلام ـ إليهم، لعلهم يفيقون ولا يغترون وينخدعون بحاضر ينذر بمستقبلٍ مغاير: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} [غافر: 29] .
ثم كانت فراسته التي تدل على عمق دراسته للتاريخ البشري؛ إذا تأملنا تحذيره: {يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: 30] .
وهو نفس شعور وتخوُّف خبير الفتن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عندما خالف غيره؛ ووقف وحده، ولم يسأل عن الخير؛ بل سأل -صلى الله عليه وسلم - عن أسباب الشر والفتن مخافة تداول الأيام، فتدركه وتهدد أمته.
عن أَبي إِدْرِيس الْخَوْلَانِي أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - عَنِ الخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
قَال: َ نَعَمْ!
قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟
قَالَ: نَعَمْ! وَفِيهِ دَخَنٌ.
قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟
قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ.
قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟
قَالَ: نَعَمْ! دُعَاةٌ إلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا!
فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا.
قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟
قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإمَامَهُمْ.
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ؟
قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (2) .
ولا تستغرب رهبة حذيفة ـ رضوان الله عليه ـ وقلقه من خطر تداول الأيام! إذا تدبرت ذلك التحذير من خطر المداولة؛ والذي جاء في سياق خطاب معلمه -صلى الله عليه وسلم -، وهو يحاور مندوب قريش؛ عتبة بن ربيعة، أثناء الجلسة التفاوضية، فأنذرهم: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] .
وهي كذلك؛ رؤية الرجل المؤمن في حواره مع صاحبه الكافر؛ وتدبر أهم وأبرز مفردات خطابه الديني الهادئ الراقي: {وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ إن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 39 - 42] .
ولقد ارتكزت أهم نقطتين في هذا الخطاب الديني الرائد على قاعدة فقه الرجل المؤمن لسننه ـ سبحانه ـ الإلهية:
فالنقطة الأولى: تبين فقهه لسنة الله في بطر النعمة وتغييرها، أو قانون النعم وتغييرها، أو الرؤية الإسلامية للتعامل مع النعم:
لقد «أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو يحاوره إلى التصرف اللائق الصحيح، الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة الله عليه. وطالبه بأن يلجأ إلى الله، وأن يعلِّق الأمر على مشيئته، ويجعله مرهوناً بقدرته، وأن يستمد قوته من قوة الله سبحانه» (1) .
وهي رؤية خطاب التيار الإسلامي نفسها، في كل عصر؛ الذي يعبر عن رؤية أمة، اكتسبت خيريتها من الخروج إلى الناس، كل الناس، لتقودهم إلى خَيْرَي الدنيا والآخرة،؛ أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، منطلقة من قاعدتها الإيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
النقطة الثانية: تبين فقهه للسنن الإلهية في الذنوب؛ والظلم، والطغاة، والابتلاء؛ وهي القوانين الربانية التي من ثمار فقهها ومعرفتها؛ الرؤية العميقة لقراءة مصير الأمم والجماعات والمؤسسات والأفراد.
وتدبر كيف ختم الرجل المؤمن حواره الهادئ، محذراً صاحبه من الخطر القادم من قِبَلِهِ سبحانه؛ ذلك الخطر الذي يأتي دوماً نتيجة لمقدمات معروفة، وحصاد لأسباب معلومة: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 40 - 41] .
هكذا ختم حواره، بنبره تحذير وإنذار، معلناً في ثقة: إن الله عز وجل المعز المذل، قادر على أن يوكلك إلى سبب عزتك وبطرك وغرورك، ولن ينفعك عندما يرسل ما لم تحسب له حساباً؛ إن الله قادر على أن يهلك جنتيك ويدمرهما. فتوقع يا صاحبي صاعقة مدمرة، تدمر جنتيك، وتزيل ما فيهما، فتصبح كل واحدة منهما تراباً أملس أجرد. أو توقع أن يذهب النهر الذي بين الجنتين، وأن يغور في باطن الأرض بأمره سبحانه، ولن تستطيع أن تعيده!
وهي نظرة مستقبلية استشرافية، لا يدَّعي فيها الرجل المؤمن علمه بالغيب، ولكنها مبنية على قراءة تاريخية ماضوية، واستقراءٍ لحاضر تشهد مسبباته بالمصير المستقبلي المتوقع.
فلمسنا كم كانت دراية ووعي الرجل المؤمن، بكل شهود التاريخ البشري، وبكل سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية في الأنفس أي في عالم الأحياء؛ وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق أي في عالم المادة؛ وهي السنن الإلهية الكونية.
وتوقع لصاحبه الكافر مصيراً، يفسره ويدركه كل من فقه السنن الإلهية المختلفة؛ والتي تعين على قراءة المستقبل من خلال استقراء الحاضر.
- فراسة يصنعها فقه حضاري:
ولو تدبرنا المواقف الراقية لهؤلاء الرواد العظام؛ لوجدنا الكثير من الملامح التربوية الطيبة:
1 - قليلٌ هم أولئك الذين يفكرون عكس التيار؛ فيقرؤون المستقبل المغاير للحاضر، فيكون تفاعلهم مع الأحداث مختلفاً عن غيرهم.
2 - قليلٌ هم كذلك الذين يفقهون سننه سبحانه الإلهية؛ لأن هذا الفقه يهبه الله لمن يستجيب لندائه ـ سبحانه ـ: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ}
[غافر: 21] .
أي يقرؤون التاريخ فيتدبرون عوامل سقوط ونهوض الحضارات والأمم والمؤسسات بل الأفراد.
وعندما نقول إنهم فقهوا السنن الإلهية، فإننا نقصد أنهم عرفوا القوانين الربانية، والقواعد الإلهية الثابتة، وهي التي تؤدي إلى نتائج معينة، لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية معينة، انطبقت عليها هذه القوانين الإلهية فكان الجزاء أو النتيجة من جنس السبب أو العمل.
وهذه السنن الإلهية تتميز بسمات ثلاث هي: العموم، والثبات، والاطراد أي التكرار إن وجدت الظروف البشرية والمكانية والزمانية.
ونذكر أن السنن الإلهية هي:
أولاً: سنن إلهية كونية تنظم عالم المادة في الآفاق.
ثانياً: سنن إلهية اجتماعية تنظم عالم الأحياء أو الأنفس خاصة البشر.
والقسم الثاني هو الذي يهمنا؛ وهو ما يعرف بالفقه الحضاري.
وهو الفقه الذي يستمد مادته من قراءة التاريخ، ومن التدبر في القصص القرآني.
فكل حدث تاريخي أو بشري فردي أم جماعي، إنما له أسباب أوجدته.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي، أو الجزاء.
وهذا العقاب أو الجزاء تحكمه قوانين؛ تُعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية هي كما يلي:
(أسباب تعود إلى العبد، خلل تربوي، عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل) .
3 - ومن هذه السنن الإلهية الاجتماعية التي فقهها هؤلاء الرواد (سنة الله في الأسباب والمسببات؛ أو قانون السببية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] .
ومنها سنة الله في الفتنة، أو قانون الابتلاء: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] .
ومنها سنة الله في الظلم والظالمين، أو قانون الظلم: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13] .
ومنها سنة الله في الطغيان والطغاة، أو قانون الطغاة: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 11 - 14] .
ومنها سنة الله في بطر النعمة وتغييرها؛ أو قانون النعم وتغييرها: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] .
ومنها سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52] .
ومنها سنة الله في الاستدراج؛ أو قانون الاستدراج: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44 - 45] (1) .
ومنها أيضاً: سنة المدافعة أو قانون التدافع الحضاري: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] .
وهو القانون الإلهي أو السنة الإلهية التي تفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء؛ سواء كانت أفكاراً أو آراء أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية المختلفة الصور لكان الفساد؛ وهذا من فضله ـ سبحانه ـ من أجل ديمومة واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض.
ومنها سنة المداولة أو قانون التداول الحضاري: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] .
وكذلك سنة أو قانون الاستبدال: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
4 - الفراسة الإيمانية إنما تستمد من واقع الخبرة، والدراسة العميقة للفقه الحضاري.
وهؤلاء الرواد كانت لهم خبرة ودراية بعوامل السقوط والنهوض والتداول؛ فلم يغرهم الحاضر، وقرؤوا الأسباب الحاضرة المؤدية للمستقبل المغاير؛ فأنذروا قومهم لعلهم يحذرون أو يرجعون.
وتدبر هذا البكاء المر والعجيب لأبي الدرداء رضي الله عنه!
وتذكر خوف ورهبة حذيفة رضوان الله عليه!
وتذكر، أيضاً، عرضه -صلى الله عليه وسلم -، لصفحات معينة من ملفات عاد وثمود التاريخية!
وتأمل أيضاً فقرة الختام في حوار الرجل المؤمن، وهو يرسم صورة دقيقة لمصير الرجل الكافر، والتي صدَّقتها حوادث القصة بعدها، ولهذا تعتبر أخطر ركائز الخطاب الديني، في كل عصر، بل وتُعتبر حجر الزاوية.
تلك الركيزة التي تفسر لنا أن من بعض أسرار وأسباب وصف المؤمن بالفراسة، وأنه يرى بنور الله سبحانه؛ ذلك لأنه يفقه سننه ـ سبحانه ـ الإلهية؛ ومن خلال هذا الفقه فإنه يستطيع أن يمتلك الرؤية المستقبلية الاستشرافية؛ وذلك باستقراء حوادث الماضي، ومن خلال فقه الواقع والأسباب الحاضرة.
5 - المؤمن، والمؤمن وحده؛ يحتكر (ظاهرة الأنس الكوني) ؛ وهي سمة التناسق والتوافق والتعاون والأنس مع الوجود.
ويستشعر جنديته، وجندية جميع الخلائق، بل الوجود كله للخالق سبحانه.
ويشعر المؤمن أنه والوجود، والوجود كله عبارة عن ستار لقدر الله؛ يتم بهم على الأرض قدر الله وحركة السنن الإلهية، وأنه كأحد الخلائق التي يجري بهم الخالق سبحانه سننه وأقداره، وبحركتهم تتم العملية التغييرية.
وتدبر كيف أن الرجل المؤمن، قد أخبر صاحبه أن السماء وكذلك الأرض، ستشاركان في عملية التغيير والهدم لملكه!
وتأمل كلماته -صلى الله عليه وسلم -، وهو يستقرئ المستقبل والمصير؛ عندما يتم قدر الله بقوم عاد ثمود المارقين عن لحن الوجود المؤمن، على يد الصواعق؛ وكأنها جند رباني تنفذِّ سننه سبحانه.
أما غيرُ المؤمن؛ فإنه يتعامى عن هذه الرؤية؛ لأنه ينتسب إلى تيارٍ، قد وصفه ـ سبحانه ـ بعدم الفقه؛ أي بعدم فقه سننه ـ سبحانه ـ في الكون والحياة: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] .
- شهداء على عصرهم وأممهم:
ولو حاولنا ربط مواقف هؤلاء الرواد؛ لوجدنا سمات عامة تجمع خطابهم، سواء من الجانب التربوي أو الإداري؛ فمنها:
1 - الفراسة الإيمانية أو (الرؤية المستقبلية) .
2 - الرؤية البصيرة المميزة للأشخاص والأشياء والأحداث (مهارة التحليل) .
3 - القدرة على الحوار، وقوة الحجة والمنطق أو (مهارة التفاوض والاتصال) .
4 - الثبات على المبدأ، أو (الشجاعة الأدبية) .
5 - الدراية بالواقع وأخباره، أو (مهارة إدارة المعلومات) .
6 - المبادرة، أو (الإيجابية) .
7 - حب الخير، أو (نظرية اربح وربِّح، أي التوازن في العلاقات والإنجاز) .
8 - الدراية بالتاريخ وأحداثه، أو (الفقه الحضاري) .
9 - الرجولة، وتحمل تبعات الموقف، أو (القيادية) .
وهذه السمات كلها تندرج تحت معنى شامل لها؛ وهي صفة الرائد الذي لا يكذب أهله.
ونقصد بهذه السمات؛ أنها ركائز شخصية الشهيد؛ الذي يتحمل تبعات مقام الشهادة على الواقع وأحداثه وأشخاصه وأشيائه، كما تحدث عنها القرآن الكريم.
ولقد صدق كل منهم في شهادته، وصدَّقه الحق سبحانه.
لذا يمكننا اعتبار كل منهم شاهداً على عصره.
وتأمل كيف ذكرت صفة (الشهيد) ، و (مقام الشهادة) في السياق القرآني؛ في موقف يوم القيامة عندما يبعث الحق ـ سبحانه ـ من كل أمة شهيداً عليها، وهو رسول كل أمة: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}
[النساء: 41] .
فإن المؤمن أيضاً من هذه الأمة القوّامة الراشدة، يستشعر أنه مُكرَّم من قِبَل الحق ـ سبحانه ـ بوضعه في المكانة الرائدة؛ بجعله من الشهداء على الناس: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] . فالرسول -صلى الله عليه وسلم - يشهد على هذه الأمة، ويحدد نهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها، وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة. ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج، المختار من الله. ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية؛ حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة. وما تزال. ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله) (1) .
ولهذا فإن حملة التيار الديني، يجب أن يستشعروا دورهم القيادي الريادي، وتبعاته الشاقة؛ لأنهم يمثلون الأمة التي جعلها الله من الشهداء على الناس؛ وذلك بشرط الالتزام بالمنهج والجهاد في سبيله.
- المدمرات ... المغيّرات ... الساحقات ... الماحقات:
وسنختزل قضية فقه السنن الإلهية، أو قضية الفقه الحضاري، من خلال المنظور التربوي، إلى قضية هذه الدراسة المتواضعة؛ وهي فقه سنة الله في الذنوب والسيئات، أو قانون الذنوب والسيئات: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52] .
حتى نتبين آثار الذنوب والسيئات على الفرد والمؤسسات والجماعات والأمم.
وقد تكون المحصلة النهائية واحدة، وهي التغيير والتدمير سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
وسنخلص إلى حقيقة ثابتة؛ هي: أن الذنوب مغيِّرات للنعم والخيرات، مدمرات للفرد والمجتمعات، ساحقات للحضارات، وماحقات للبركات، سوس الحضارات.
أما على المستوى الجماعي، أي على مستوى الجماعات والمؤسسات والأمم؛ فإن الذنوب ما هي إلا قوارض أو سوس ينخر في عظام الحضارات، حتى يسقطها.
ويؤيد ذلك الكثير من الشواهد القرآنية والنبوية والتاريخية والواقعية.
والشواهد القرآنية؛ تعلمنا الخطوات المنهجية لدراسة الفقه الحضاري:
1 - وتبدأ الخطوة الأولى: فيأمرنا ـ سبحانه ـ بقراءة التاريخ البشري، والتدبر العميق في ناموسية التغيير الحضاري:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
[الأنعام: 11] .
2 - ويقرر ـ سبحانه ـ أن الذنوب والمعاصي هي سبب عملية التغيير الحضاري:
« {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21] ، يقول - تعالى -: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا} هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد {فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ} أي من الأمم المكذبة بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال ـ عز وجل ـ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] أي مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده، عنهم راد ولا وقاهم واق، ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها» (1) .
3 - ويخبرنا ـ سبحانه ـ أن الكوارث والزلازل، إنما تأتي نتيجة لِمَا اقترفته أيدي البشر، لعلهم يدركون هذه السنة الإلهية الاجتماعية؛ وهي سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات، فيرجعون ويتوبون: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .
4 - ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ كيف تتم عملية التغيير والتبديل الحضاري، وكيف تعمل ناموسية التاريخ في الأمم؟!
وتدبر كيف تحدث عملية التسوس الحضاري، وكيف تهلك الذنوب أصحابها؟!
وتأمل أيضاً؛ كيف تعمل السنن الإلهية الثابتة العامة والمتكررة؟!
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6] .
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} ، أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود؛ ولهذا قال: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا} أي شيئاً بعد شيء {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} أي كثَّرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض أي استدراجاً وإملاءً لهم {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي فذهب الأولون كأمسٍ الذاهب وجعلناهم أحاديث {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي جيلاً آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فأُهلكوا كإهلاكهم؛ فاحذروا أيها المخاطَبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم؛ فما أنتم بأعز على الله منهم» (2) .
وهكذا تسير سلسلة التغيير:
قانون الابتلاء، نعم ربانية، بطر إنساني، قانون السببية، قانون النعم، قانون الاستدراج، قانون الذنوب والسيئات + قانون الظلم + قانون الطغاة + قانون الاستبدال + قانون التداول الحضاري، قانون التدافع الحضاري.
- الأَكَلَة:
أما على المستوى الفردي؛ فإن الذنوب تسبب خللاً في توازن التركيبة الثلاثية للإنسان التي هي: البدن، والعقل، والروح.
وتبدأ الذنوب عملها في الجانب الروحي، فتؤدي إلى حدوث تصدعات روحية وشروخ نفسية.
وهذه التصدعات والشروخ قسمان:
القسم الأول: التصدعات الظاهرة: وهي الآثار المعلومة، وهي كثيرة؛ فمنها:
1 - الذنوب سبب المصائب:
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] .
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
2 - الذنوب تضعف مقاومة الشيطان:
{إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] .
3 - المحقرات ... المهلكات!
وصغار الذنوب لها آثارها التراكمية المهلكة: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلاً وكمثل القوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سواداً وأججوا النار، وأنضجوا ما قذفوا فيها» (3) .
وتكون النتيجة سقوطاً في حبائل (سلسلة الذنوب) وحلقاتها المتتابعة التي تبدأ بذنب، يتبعه ذنب، ثم يتبعه آخر، حتى يؤدي إلى تغطية القلب بالران، والذي ينتج حجاباً مهلكاً، والعياذ بالله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15] .
4 - ثمانية العجز ... ورباعية الابتلاءات:
«فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته ولا بد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ وهي: «الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال» .
وكل أثنين منها قرينان:
فالهم والحزن قرينان؛ فإن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقعه أحدث الهم. وإن كان من أمر ماض قد وقع أحدث الحزن.
والعجز والكسل قرينان؛ فإن تخلف العبد عن أسباب الخير والفلاح، إن كان لعدم قدرته فهو العجز، وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل.
والجبن والبخل قرينان؛ فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل.
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان؛ فإن استعلاء ـ أي استيلاء ـ الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلع الدين، وإن كان بباطل فهو قهر الرجال.
والمقصود أن الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة: «لجهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء» .
ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله، وتحوَّل عافيته إلى نقمته، وتجلب جمع سخطه» (1) .
5 - ناسفات الجبال:
وهناك من الذنوب ما لها القدرة على نسف جبال من الحسنات؛ وهي التي تتم بعيداً عن أعين الناس.
عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَال: َ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ! قَالَ: أَمَا إنَّهُمْ إخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» (2) .
وما تجرؤوا على هذا إلا أنهم {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] .
و «هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها؛ لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} . تهديد لهم ووعيد) (3) .
القسم الثاني: التصدعات الباطنة:
وهي الآثار النفسية الخفية، والروحية الباطنة.
حيث تعمل الذنوب عملها في تركيبة الإنسان الثلاثية دون استشعار العبد لها، خاصة الجانب الروحي؛ فتؤدي إلى حدوث تآكلات روحية، وكأنها قوارض أو آكلة.
وينتج عن ذلك ظاهرة اعتلالية تربوية وروحية؛ تسمى (ظاهرة التآكل الروحي) .
1 - فما معنى ظاهرة التآكل الروحي؟
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة، وهي: طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح. حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعمال العبد، مثل التفريط في بعض الفرائض، وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، مثل الذكر والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن.
وينشأ نوع من الخلل أو الانفصام المركب:
أولاً: داخلياً يستشعر العبد قسوةً وجفاء مع نفسه.
ثانياً: خارجياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع الوجود كله.
والنتيجة هي الشعور بأن النفس والوجود يتنكران له؛ فما هي بالنفس، وما هو بالوجود الذي يعرفهما.
وبمعنى آخر؛ هي الظاهرة التي تبحث في حالة صدأ القلب، أو حالة الجفاء الروحي، التي يستشعرها العبد المؤمن، عندما يقصر في طاعته سبحانه؛ فلا يستشعر للعبادة حلاوة، ولا للطاعة لذة، ويقاسي ألم البعد عنه عز وجل، ويتحول هذا إلى شعور بوحدة قاسية، ومسافات شاسعة، وحواجز نفسية تفصل بينه وبين الخلائق، خاصة الصالحين.
ويسير في الأرض ـ والعياذ بالله ـ كالحيران الذي تتقاذفه عوامل الجذب في كل اتجاه، ويصبح كحلبة يلتقي عليها المتصارعون؛ أو يكون نقطة التقاء للصراع عليه بين استهواء وإغواء شياطين الإنس والجن، وبين رفقة الخير من الدعاة المصلحين: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] .
ويمتد هذا الشعور بغياب لذة الطاعة وألم البعد عنه ـ سبحانه ـ إلى حالة من غياب الرغبة في الحياة عموماً، وضياع اللذة في المعيشة في الدنيا، ثم فوق ذلك؛ استشعار خيبة الأمل في النجاة في الآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] .
وهو تحذير إلهي، لكل من «خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه؛ فإن له معيشة ضنكاً؛ أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله؛ وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى؛ فهو في قلق وحيرة وشك؛ فلا يزال في ريبة يتردد؛ فهذا من ضنك المعيشة. عن أبي سعيد في قوله {مَعِيشَةً ضَنكًا} قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه. وقال عكرمة: عَمِيَ عليه كل شيء إلا جهنم، ويحتمل أن يكون المراد أنه يُبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة» (4) .
وهذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله ـ عز وجل ـ للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
2 - هل ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية؟
وعندما نقول إنها سنة إلهية، فإننا نقصد أن هذه الظاهرة هي محصلة لفعل قوانين ربانية، وقواعد إلهية ثابتة، أو هي نتيجة لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية انطبقت عليها القوانين الإلهية فكان الجزاء في صورة تلك الظاهرة.
إذن هذا الجفاء الروحي نتيجة لخلل ترتب على وجود أسباب بشرية من فعل العبد.
وعندما نقول إن ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية اجتماعية؛ فإننا نقصد أنها من القوانين الربانية والقواعد الإلهية المنظمة لعالم الأحياء، أو الأنفس، وخاصةً البشر.
أي أن لها أسباباً أوجدتها.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي؛ أو الجزاء.
وهذا العقاب تحكمه قوانين؛ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والأسباب أو الظروف البشرية هنا هي التقصير بكل درجاته.
والنتيجة المترتبة هي حالة القسوة القلبية والانفصال عن المنظومة الكونية العابدة.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية؛ هي كما يلي:
(أسباب تعود إلى العبد، خلل تربوي، عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل) .
وبمعنى أبسط: هذه الظاهرة، أو هذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله ـ عز وجل ـ للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
أي إذا قصر العبد في طاعته ـ سبحانه ـ فإنه يترتب على ذلك خلل داخل العبد مع نفسه، وخارجه؛ أي مع المجتمع ومع الوجود العابد لربه، وهنا تأتي السنة الإلهية في هيئة عقاب من نفس نوع الأسباب التي عملها العبد؛ أي يزيده بعداً وجفاءً مع نفسه ومع الوجود من حوله.
وتدبر هذا الحوار بين العبد وربه؛ فلقد تساءل العبد ما جرمه وما سبب هذا العقاب، وكانت الإجابة منه ـ عز وجل ـ حيث يبين الحق سبحانه هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على كل من أسرف في الذنوب، وقصر في الطاعة.
«ولهذا يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه: 125] ؛ أي في الدنيا. {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126] ؛ أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها؛ كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] ؛ فإن الجزاء من جنس العمل» (1) .
ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في غيه وكذب بآياته سبحانه:
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] .
«يقول ـ تعالى ـ: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. لهم عذاب في الحياة الدنيا {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [الرعد: 34] ، ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} ؛ أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم؛ فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» (2) .
وللمزيد من تحليل هذه الظاهرة؛ من حيث الأعراض العامة والخاصة، وكذلك سبل العلاج؛ والتي منها العام ومنها الخاص؛ فتراجع (ظاهرة التآكل الروحي) عند المسلمين عامة، وعند الدعاة خاصة (3) .
- حذارِ ... من المثيرات ... والقوادح!
وأخيراً؛ إذا كانت السنن الإلهية ما هي إلا سلسلة أو متوالية من التفاعلات يحكمها قانون رباني ثابت وعام ومتكرر إن وجدت ظروفه البشرية والمكانية والزمانية، وكأنها معادلة كيمائية تحتاج إلى ظروف معينة وعامل مساعد؛ يحركها أو يقدح شرارة التفاعل.
فعلى العبد دوماً أن يخشى أي عامل إثارة يقدح زناد معادلات القوانين الربانية؛ فتعمل عملها فيه كفرد وفي مؤسسته التي ينتمي إليها، ثم في أمته.
وهذه تسمى أيضاً مثيرات السنن الإلهية.
وتسمى أيضاً قوادح السنن الإلهية.
وإذا كانت الدموع المرة التي سكبها أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ عند أسوار قبرص في يوم من أيام الله؛ وذلك لخشيته من خطر الذنوب على الفرد والأمم؛ كان برؤيته هذه ينبه إلى أخطر قادح أو مثير من مثيرات السنن؛ ألا وهي الذنوب.
فإن أفتك ما يتعرض له العبد والأمم أيضاً؛ من مثيرات للسنن الإلهية بعد الذنوب؛ هي سهام الليل التي يرسلها المظلومون.
لذا ينبغي للعبد ألا يعرض نفسه لهذه الأنات المكبوتة:
ألا أقولُ لشخصٍ قد تَقَوَّى على ضعفي ولم يخشَ رقيبَهْ
خبأتُ له سهاماً في الليالي وأرجو أن تكونَ له مصيبَهْ
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
(1) رواه أحمد في المسند وانظر البداية والنهاية، 10/229. تحقيق د. عبد الله التركي.
(2) رواه البخاري، رقم 3338.
(1) مع قصص السابقين في القرآن، د. صلاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 2/ 140.
(1) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان، طبعة مؤسسة الرسالة، 21 - 235 بتصرف.
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، 17/2446.
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير سورة غافر، الآية 21.
(2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير سورة الأنعام، الآية 6.
(3) رواه البخاري، كتاب الرقائق باب 32، أحمد، 1/402، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب 29، الدارمي، كتاب الرقائق، باب 17.
(1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، المطبعة السلفية، الطبعة الثالثة، 1400هـ، 84 - 85.
(2) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، 4235.
(3) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير آية النساء، 108.
(4) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير سورة طه الآية 124 بتصرف.
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير آيتي سورة طه، 125 - 126.
(2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تفسير سورة طه الآية 127.
(3) فقه الظواهر الدعوية في ضوء السنن الإلهية، ظاهرة التآكل الروحي، الدكتور حمدي شعيب.(215/10)
الأساس الصلب
تكوينه.. أهميته.. دوره
سالم بن أحمد البطاطي
إن أي دعوة جادة تنشأ لأول مرة في مجتمع من المجتمعات تكون غريبة عليه، وغير مألوفة لديه؛ ولذلك تواجه في أول أمرها الاستغراب والتوجس والشك؛ بل تواجه في معظم الأحيان: الرد، والرفض، والاستنكار.
وكلما بعدت الشقة وعظم الفرق بين الحال التي يعيشها هذا المجتمع؛ عقيدة وسلوكاً وتشريعاً، وبين الصورة التي جاءت بها هذه الدعوة الجديدة؛ كان ذلك أدعى إلى عظم المواجهة، وضراوة الحرب، وشدة النفور.
ولو تصورنا الحال التي كانت تعيشها الجاهلية العربية الأولى التي بعث فيها النبي -صلى الله عليه وسلم -، ومدى تغلغل الفساد، والهوى، والانحراف العقدي والتشريعي، والسلوكي فيها، وتعارف الناس على الأوضاع والمعتقدات الوثنية، وبناء حياتهم وتصرفاتهم كافة ـ حضراً وسفراٌ، فعلاً وتركاً ـ على هذه المعتقدات والتصورات.
ثم تصورنا الدعوة التي يحملها المصطفى -صلى الله عليه وسلم - من لدن ربه ـ عز وجل ـ وما فيها من الكمال، والجمال، والنقاء، والتطهر، والتوحيد، ورد الأمور كلها لله ـ عز وجل ـ ورفض كل الآلهة المدعاة، وتسفيه أحلام عابديها على مدار الزمان، وإعادتها إلى أوضاعها الطبيعية: أحجاراً أو أشجاراً أو تماثيل؛ لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، ونبذ المعتقدات الضالة المتعلقة بالملائكة، أو بالجن، والمتأصلة في عقلية الرجل العربي، وتغيير الشعائر، والمناسك، والتشريعات، والعادات الاجتماعية، والقبلية، والدينية التي تسيطر على هذه البيئة.
لو تصورنا هذه إلى جنب تلك في كل مجالات الحياة، والاعتقادات التي جاء الإسلام لتغييرها، وإعادتها إلى أصولها الصحيحة؛ لأدركنا طبيعة المعركة التي كان لا بد أن تثور وتدور بين هذا الوضع الثابت المستقر الموروث، وبين هذه الدعوة الجديدة الناشئة.
وهذا الأمر وحده ـ وهو الفرق الشاسع بين صورة الجاهلية المهلهلة المظلمة المضطربة، وبين الحقيقة الناصعة القوية التي جاء بها الإسلام ـ كافٍ في تعليل الغربة الأولى التي واجهها، وعاناها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في مطلع الدعوة، واستمرت آثارها فترة ليست بالقصيرة من عمر الدعوة الأولى.
لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه؛ وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى إلهية الله للعالمين؛ في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من إلهية العباد للعباد؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد يتبع في تحركه قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض.
- كيف يكون الأساس صلباً؟
لا بد أن نعلم أن الابتلاء سنَّة {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3] ، والتمحيص قبل القضاء على الأعداء سُنة {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] ، وفي فترة الابتلاء والتمحيص تتم جوانب كثيرة من التربية المطلوبة لحَمَلَة الأمانة الذين يواجهون الجاهلية في أول جولة، والذين يحتاجون إلى صفات وأحوال غير التي تحتاج إليها الأفواج الداخلة فيما بعد، بمقدار ما تختلف إقامة الأعمدة الراسية في الأرض، التي تحمل البناء كله، عن إقامة الأحجار في أماكنها بين هذه العمدان.
إن هذه الأعمدة تحتاج إلى صناعة خاصة، ومكونات خاصة، ومقومات خاصة، وزمن معين لاستكمال تلك المقومات؛ فإن لم تستوفِ كل مقومات صناعتها، فإنها تعرض البناء كله فيما بعد للتشقق أو الانهيار.
لقد تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان، ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والولاء لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله، وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان.
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمار بن ياسر وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس؛ فما منهم إنسان إلا وقد وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد» (1) .
وقال عبد الله بن عمر: «.. كان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يُفتن في دينه، إما قتلوه، وإما عذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة» (2) .
وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وأوعده بأبلغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به (3) .
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته (4) .
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشاً، فتخشف جلده تخشف الحية (5) .
وكان أبو فكيهة ـ واسمه أفلح ـ مولى لبني عبد الدار، فكانوا يشدون برجله الحبل، ثم يجرونه على الأرض (6) .
وكان خباب بن الأَرَتْ مولى لأم أغار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعاً من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذباً، ويلوون عنقه تلوية عنيفة، وأضجعوه مرات عديدة على فحام ملتهبة، ثم وضعوا عليه حجراً؛ حتى لا يستطيع أن يقوم (7) .
وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضاً آخر درعاً من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة (8) .
وقائمة المضطهدين والمغتربين في الله طويلة ومؤلمة جداً؛ فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدوا له وآذوه. لقد كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة، وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط؛ وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل الله على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدم النصير الأرضي.. إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للأساس الأصيل الثابت عند نقطة الانطلاق الأولى.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحداث وفي هذه الظروف الصعبة يربيهم على ما يلي:
1 - التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل الأذى في سبيل الله.
2 - التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الشرك والعصيان.
عن خباب ـ رضي الله عنه ـ قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه، فقال: «لقد كان مَنْ قبلَكم ليمشَّط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمَنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله» زاد بيان: «والذئب على غنمه» (9) .
3 - التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي المشركين من زهرة الحياة الدنيا.
عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول لأبي عمار وأم عمار وعمار: «اصبروا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة» (10) .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - مر بعمار بن ياسر وبأهله يعذبون في الله ـ عز وجل ـ فقال: «أبشروا آل ياسر! موعدكم الجنة» (1) .
4 - ضبط النفس والتحلي بالصبر، وعدم مقارعة القوة بالقوة والعدوان بالعدوان، حرصاً على حياتهم ونظراً لمستقبل الدعوة، وإمساكاً بزمام الدعوة الوليدة أن يئدها الشر وهي لا تزال غضة طرية ولعل المشركين كانوا يحرصون على مواجهة حاسمة مع الدعوة تنهي أمرها، لكن الحكمة الإسلامية فوتت عليهم الفرصة.
أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بمكة فقالوا: يا نبي الله! كنا في عزة ونحن مشركون؛ فلما آمنا صرنا أذلة! قال: إني أُمرت بالعفو؛ فلا تقاتلوا القوم ـ فلما حوَّله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِىلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] (2) .
5- توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة. ولقد نزلت هذه الآيات في المرحلة المكية؛ حيث قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 1 - 6] ، وهي تأمر النبي -صلى الله عليه وسلم - أن يخصص شطراً من الليل للصلاة، وقد خيّره الله ـ تعالى ـ أن يقوم للصلاة نصف الليل أو يزيد عليه أو ينقص منه، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معه قريباً من عام حتى ورمت أقدامهم، فنزل التخفيف عنهم بعد أن علم الله منهم اجتهادهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربهم فخفف عنهم فقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] . ولا شك في أن امتحانهم في هجر الفُرُش ومقاومة النوم ومألوفات النفس لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيداً لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم؛ إذ لا بد من إعداد روحي عال لهم.
وكان -صلى الله عليه وسلم - يربي الصحابة على هذه المبادئ وغيرها تأكيداً عبر المواقف والأحداث اليومية كما مر معنا مع آل ياسر وخباب. وتأسيساً عبر اللقاء التربوي في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا.
لقد كان الذين استجابوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - في مكة خلال ثلاثة عشر عاماً قلة محدودة لا تبلغ المائتين من الناس، ولكنهم كانوا هم نواة ذلك الجيل الفريد الذي تفرد في التاريخ البشري كله.
كانوا قلة، نعم! ولكنهم كانوا ـ بلغة البناء ـ هم الأعمدة الراسية التي يقوم عليها البناء كله، فتحمله وتمكِّن له في الأرض. وكما يعمد البنّاء حين يشرع في إقامة بنائه إلى دك الأساس دكّاً متيناً بادئ ذي بدء، ثم إقامة الأعمدة التي تحمل البناء، قبل أن يضع الطوب والأحجار.. فكذلك فعل قدر الله بهذه الدعوة على يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقيض له تلك الفئة القليلة حوله -صلى الله عليه وسلم - تتلقى كل رعايته، وكل توجيهه وكل تربيته، وتتلقى منه الشحنة كاملة، فتكون كما شاء الله لها أن تكون، عُمُداً راسية في كل اتجاه.
بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى؛ وكان هذا النوع قليلاً؛ فقد كان الأمر كله معروفاً مكشوفاً من قبل؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.
وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة والأعمدة الراسية لهذا الدين في مكة؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة والأعمدة الراسية لهذا الدين بعد ذلك في المدينة؛ مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين.
- أهمية الأساس الصلب:
إن هذه الصفوة (المتمثلة في الأساس الصلب) هي التي تستطيع بحكم متانة تأسيسها أن تصمد لكيد الجاهلية التي تحاول بكل جهدها أن تقضي على الدعوة الجديدة قبل أن تمد لها جذوراً في التربة؛ لأنها تعلم جيداً أنها إن لم تبذل كل طاقتها في ذلك فسيفلت الأمر من يدها، ولا تستطيع أن تسيطر عليه؛ لذلك يكون البطش في أقصى عنفوانه في جولته الأولى، ولا يصمد له إلا تلك الصفوة المختارة من المؤمنين الذين يتلقون الشحنة الكاملة من قائدهم الذي يتعهدهم بتربيته ورعايته.
ثم إن نجاح هذه الصفوة في الصمود للكيد هو الذي يشكل في الحقيقة نقطة التحول في خط سير الدعوة؛ لأنه يعطف القلوب نحو أولئك المؤمنين الذين يتلقون هذا القدر الهائل من البطش والتعذيب دون أن يتحولوا عن الحق الذي يؤمنون به، فيكون صمودهم شهادة لهذا الحق، تجتذب نفوساً جديدة تؤمن به وتجاهد في سبيله، فتتسع القاعدة وهي على القدر ذاته من المتانة وقوة التأسيس.
ثم إن هذه الصفوة تشكل جنوداً فائقين لقائد الدعوة، ولكنهم في الوقت ذاته يربَّوْن ليكونوا قادة، وليكونوا خَلَفاً للقائد من بعده.
انظر إلى صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -! لقد كانوا جنوداً فائقين للدعوة ولقائدهم -صلى الله عليه وسلم - على الصورة التي يعرفها التاريخ، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - رباهم في الوقت ذاته بحيث يكون كل واحد منهم ركناً في الموقع الذي يكون فيه، فقاموا بالمهام التي وكلها إليهم على المستوى الفائق الذي يعرفه التاريخ، وكانوا هم القدوة للناس في تربيتهم على هذا الدين، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قدوتهم هم في هذه التربية الفريدة، ثم كانوا هم حَمَلَة الأمانة من بعده، والقادة الذين قادوا الأمة من بعده في الخلافة الراشدة التي يعرفها التاريخ.
- دور الأساس الصلب:
لقد كان للأساس الصلب دور بارز في نصرة الدين وتثبيته والدفاع عنه وحمايته؛ هذا الدور هو الدور المنتظر لهذه الصفوة المختارة أن تكون عوناً في نصرة الدين وتثبيته وحمايته والدفاع عنه تتبنى ذلك وتعتقده، عقيدة في القلب لا تساوم عليه، تقدم من أجله الغالي والنفيس وهذا الذي حصل.
ولعلنا نعرض مثالين لهذا الدور البارز في فترتين مختلفتين:
1 - بعد غزوة بدر.
2 - بعد فتح مكة.
وقبل أن نشرع في توضيح دور الأساس الصلب في هاتين الفترتين حري بنا معرفة حال المجتمع خلالهما.
- المجتمع المدني بعد غزوة بدر:
لم يظل المجتمع المدني بهذا الخلوص والنقاء. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة؛ واضطر أفراد كثيرون ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم؛ حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد الله بن أُبَيّ بن سلول: «هذا أمر قد توجه» وأظهر الإسلام نفاقاً. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً ـ ولو لم يكونوا منافقين ـ ولكنهم لم يكونوا بعدُ قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه؛ مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
إذاً المجتمع المدني بعد بدر كان مجتمعاً مدخولاً بعناصر جديدة تحتاج إلى تصفية وصهر وتربية.
آثار عدم تمكن الإيمان والتربية من القلوب (بعد بدر) :
هذه بعض آثار عدم تمكن الإيمان والتربية من قلوب العناصر المختلفة الجديدة الداخلة في جسم المجتمع الوليد. لقد كانت تظهر بين الحين والحين ـ وبخاصة في فترات الشدة ـ أعراض من الضعف، والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر؛ وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية. وهناك نصوص قرآنية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة نذكر منها على سبيل المثال:
1- قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًَا * وَإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ فَإنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 71 - 73] .
2 - قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 36 - 38] .
3 - قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 11 - 13] .
4 - قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 9 - 11] .
وحسبنا هذه النماذج من شتى السور، للدلالة على أن ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد وتربية مستمرة.
إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار؛ وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعدُ صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.
وبهذا يظهر دور الأساس الصلب في تلك الأثناء وهو القيام بعملية الصهر للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد والارتقاء بهم عبر معايشتهم ومحاكاتهم؛ وبالفعل كانت هذه العناصر تنصهر شيئاً فشيئاً وتنساق مع القاعدة والأساس الصلب؛ ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين؛ ومن المترددين كذلك والمتهيبين وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين؛ حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة؛ وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد، فتقاربت المستويات الإيمانية وتناسقت، وتوارى من ذلك المجتمع؛ الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقدي، والنفاق بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.
- حال المجتمع المدني بعد فتح مكة:
إن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف ـ وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة ـ قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية؛ وفيهم كارهون للإسلام منافقون؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر، وفيهم المؤلفة قلوبهم، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية.
غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر ـ ولكن على نطاق أوسع ـ بعدما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى؛ ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركيز لهذا المجتمع؛ لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة. ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر، كما أنه ـ سبحانه ـ كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة. والله أعلم حيث يجعل رسالته.
- آثار عدم تمكن الإيمان والتربية من القلوب (بعد الفتح) :
كما ذكرنا سابقاً أن الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر، ولكن على نطاق أوسع؛ وهذه بعض آثار عدم تمكن الإيمان والتربية من قلوب العناصر المختلفة الجديدة الداخلة في جسم المجتمع بعد الفتح منها:
1 - يوم حنين: قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] .
وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من (الطلقاء) الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة، فكان وجود هذين الألفين ـ مع عشرة آلاف سبباً في اختلال التوازن في الصف بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن ـ ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.
2 - كذلك ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع؛ ودخول تلك الأفواج الجديدة بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة؛ وقد تحدثت سورة التوبة عن هذه الظواهر والأعراض.
3 - بعد عامين اثنين من الفتح، عندما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فارتدت الجزيرة العربية كلها، ولم يثبت إلا مجتمع المدينة ـ القاعدة الصلبة الخالصة ـ هذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها. إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين الله بعد الفتح، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة. فلما قُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ارتجت الجزيرة المخلخلة، وثبتت القاعدة الصلبة. وبهذا يظهر جلياً دور الأساس الصلب والقاعدة الصلبة في تلك الأحداث العظيمة بثباتها على دين الله وتضحيتها وبذلها من أجله خاصة في أوقات العسرة، وحراسة الإسلام وصيانته من الهزات العنيفة بعد الفتح، ومن الهزة الكبرى بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم - وارتداد الجزيرة.
- ملخص دور الأساس الصلب:
1 - هم القاعدة في مكة والمدينة (قبل بدر) .
2 - هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتظيمي، فقاموا بعملية الصهر للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد والارتقاء بهم عبر معايشتهم ومحاكاتهم.
3 - هم الذين ثبتوا وضحوا وبذلوا وحرسوا الإسلام وصانوه من الهزات العنيفة بعد الفتح، ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وارتداد الجزيرة عن الإسلام.
- خلاصة الدروس المستفادة:
1 - تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة ـ في أول الأمر ـ وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها، ويفتنونها عن دينها، ويهدرون دماءها، ويفعلون بها الأفاعيل. لقد كان الله ـ سبحانه ـ يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة، وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط؛ وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل الله على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدام النصير الأرضي؛ إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى.
2 - إن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان وفي أي مكان، يجب أن تبدأ بتوجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخُلَّص، الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها؛ والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً.
3 - الحذر الشديد من التوسع الأفقي في الدعوة قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة.
فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ماحق يهدر وجود أية حركة لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.
على أن الله ـ سبحانه ـ هو الذي يتكفل بهذا لدعوته؛ فحيثما أراد لها حركة صحيحة عرَّض طلائعها للمحنة الطويلة، وأبطأ عليهم النصر؛ وقللهم؛ وبطأ الناس عنهم؛ حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا، وتهيؤوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة، ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده ـ سبحانه ـ والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ذلك هو الترتيب الرباني الذي به نجحت الدعوة وتمكنت في الأرض.
ولْنتخيل الأمر تم على غير هذه الصورة، فدخل الناس في دين الله أفواجاً منذ أول لحظة أو في السنوات الأولى للدعوة، فهل كان يقوم البناء على الصورة ذاتها، وهل كان يرسخ في الأرض كما قدّر الله له الرسوخ؟!
إن الله يقول للشيء كن فيكون، ولو شاء الله لفعل، ولو قدر شيئاً لكان، ولكن الله ـ جلت مشيئته ـ قد جعل سنناً في الكون وسنناً في الأرض وسنناً في حياة الناس، وجعل تلك السنن هي العاملة بمشيئته ـ سبحانه ـ في الكون والأرض والناس، وجعل من سنته في الدعوة أن يستجيب لها قوم محددون، ينالون من رعاية النبي المرسل النصيب الأوفى، فيكونون كالأعمدة الراسية التي يقوم عليها البناء.
والتربية عملية شاقة بطيئة تحتاج إلى كثير من الجهد.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - هو أعظم مرب في التاريخ، ولكنه لو واجه الألوف من أول لحظة فما كان من المستطاع أن يعطيهم كل رعايته وكل توجيهه وكل تربيته، كما أعطاها لتلك الحفنة القليلة العدد، فتحقق فيها على أكمل صورة وبأكمل قدر قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وكان إتمام الأمر على هذا النحو متمشياً مع السنن الجارية التي يجري بها قدر الله في حياة الناس. فلقد شاء الله لحكمة يعلمها ـ سبحانه ـ أن يجري أمر هذا الدين كله على السنن الجارية لا على السنة الخارقة، حتى لا يأتي جيل من أجيال المسلمين يتقاعس، ويقول: لقد نصر الأولين بالخوارق، ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم الرسالة وانقطاع النبوات.
4 - دور الأساس الصلب في كل زمان ومكان ما يلي:
أ - القيام بعملية الصهر للعناصر المختلفة الجديدة والارتقاء بهم عبر معايشتهم ومحاكاتهم.
ب - هم الحراس الأقوياء الأشداء الذين يحرسون الإسلام ويصونونه من الهزات العنيفة، ويقفون في وجه التيار ويردونه عن مجراه الجارف ويحولونه إلى الإسلام مرة أخرى.
ج - السعي الحثيث في إبقاء وتثبيت الإسلام على هذه المعمورة مهما كانت صعوبة الظروف وخطورة المواقف.
- أخيراً:
إن بعض الناس ينتظر من هذا الدين ـ ما دام منزلاً من عند الله أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب! دون أي اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقاتهم الفطرية، ولواقعهم المادي.
وحين لا يرون أنه يعمل بهذه الطريقة يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها، أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته، أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً؛ وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد أساسي: هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته.
إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية. يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، ويتحقق بأن تحمله جماعة من البشر. تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه ـ بقدر طاقتها ـ وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
- المراجع:
1 - القرآن الكريم.
2 - السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري، ج 1 مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 6، 1415هـ.
3 - الغرباء الأولون، د. سلمان العودة. دار ابن الجوزي ط 1، 1424هـ.
4 - في ظلال القرآن ج 2، سورة التوبة، دار الشروق. الطبعة الشرعية الحادية والعشرون، 1414هـ.
5 - صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، دار النفائس، الأردن، ط 2، 1416هـ.
6 - الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار السلام، الرياض 1414هـ.
7 - واقعنا المعاصر، محمد قطب، ط 1، مؤسسة المدينة للصحافة، 1407هـ.
8 - هذا الدين، سيد قطب، دار الشروق القاهرة - 1399هـ.(215/11)
أهمية الواقعية والمعاصرة في موضوعات الخطيب
عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
من الميسور أن يختزل الخطيب الموضوعات الخطابية بما يمثل الجوانب الإيمانية والوعظية ونحوهما؛ حيث إنها موضوعات مطروحة مبحوثة، بل معدة للخطيب إعداداً تاماً من خلال بعض الكتب ومواقع الشبكة العنكبوتية، لكنه بهذا النمط لا يعد مبدعاً في الحقيقة، وليس مستحقاً لحيازة لقب النجومية في عالم الخطابة، إنما النجم الذي يصدق عليه هذا اللقب، هو ذلك الخطيب الثَقِف الذي يَفْتِلُ عضلات لسانه، في حلبة الصراع مؤلفاً بين الأصالة وروح المعاصرة والواقعية التي نفقدها في بعض خطباء اليوم. وهذه الروح، وإن كانت مهمة للخطيب في كل حين، إلا أنها في هذا الحين أهم، حيث تفاقمت فيه المستجدات، وكثرت فيه المغريات والمتغيرات التي تحتاج من الخطيب إلى وعي دائم، ومتابعة دائبة، وفهم شمولي صائب لكل مستجدة لها ارتباط بحياة المسلمين وواقعهم ومشاكلهم ـ وما اكثرها اليوم ـ وبهذه الصورة الواعية الواعدة، يمكن أن يعايش الخطيب هموم الناس، ويصنع من منبره سلماً يرتقي من خلاله الناس لمعالجة أوضاعهم، وتخفيف معاناتهم الممتدة في أودية العناء الشاسعة، وبحور الهموم الواسعة، وبهذا الاقتراب والملامسة لواقع الناس، يكون نتاج الخطيب مثمراً، وعطاءاته موقظة، وكلماته مؤثرة، وإذا كان الخطيب اقرب لملامسة حاجات الناس، كان أَذْكَر في ألسنتهم، وأنفع لجمهورهم «وكلما كان صادقاً في قصده، مهتماً بجمهوره وسامعيه، جاداً في طرحه، محترماً لنفسه، فسوف يحسن الاختيار، ويقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار وحسن الاختيار، يضاف إلى ذلك الظروف المحيطة، والأحوال المستجدة، والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع، والتعليق على بعض الأحداث، والتفسير لبعض المواقف، وتصحيح بعض المفاهيم» (1) .
وقد كان هذا هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم - كما بينه ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث قال: «كان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم» (2) .
ولهذا أمثلة كثيرة من السنة النبوية، من ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء رجل يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم - يخطب بهيئة بذة (1) ، فقال له رسول -صلى الله عليه وسلم -: أصليتَ؟ قال: لا، قال: صل ركعتين، وحث الناس على الصدقة، فألقوا ثياباً، فأعطاه منها ثوبين، قال: فلما كانت الجمعة الثانية جاء ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - يخطب، فحث الناس على الصدقة، قال: فألقى أحد ثوبيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: جاء هذا يوم الجمعة بهيئة بذة، فأمرت الناس بالصدقة فألقوا ثياباً فأمرت له منها بثوبين، ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة، فألقى أحدهما، فانتهره، وقال: خذ ثوبك» (2) وفي هذا الحديث، يتبدى لنا بجلاء، كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم - لامس مشاعر هذا الصحابي، وتفاعل مع حاله وهو يخطب، واستنهض همم الصحابة للقيام بواجب المواساة، وتخفيف المعاناة.
ومن خلال هذا الحديث يمكن أن نستوقف خطباءنا الميامين ونستفهمهم: ما الذي ستقدمونه اليوم، ليس لفرد واحد يحضر الجمعة، وإنما لملايين المسلمين الذين يحضرون الجُمع، بصدور مليئة بالهموم، وقلوب قد نفث في روعها طول العناء، ماذا أعددتم لجيل اليوم والغد، الذين لم تكن معاناتهم من الفقر والقلة، ولا من الضعف والعيلة، فحسب، بل من شيء اكبر من ذلك، هو مسخ الهوية، وغزو العقول، وحرب الأفكار، ونقض الثوابت، وتبديل الأصول والمفاهيم؟ لكننا ـ وبحمد الله رغم هذا ـ عندما نجول بالنظر إلى واقعنا المعاصر، نفرح بطلائع الأمة من شيوخها ودعاتها وخطبائها، الذين يرتسمون الهدي النبوي، في معالجة النوازل، ومجاوزة الخطوب، والذين لهم فيه وفي صحابته ـ الذين تحملوا الحمالات من أجل هموم المسلمين، وجمع كلمتهم، واستصلاح واقعهم ـ أسوة حسنة.
فهذا فاروق الأمة ـ رضي الله عنه ـ لما أحس بالرحيل وقرب الأجل، وتخوف أن يختلف الناس من بعده، في أمر الخلافة، وفي شأن الكلالة، آثر أن يجعلهما حديث خطبة من أواخر خطبه، لمناسبتهما للحال، ولكثرة الاختلاف فيهما، فقال ـ رضي الله عنه ـ في مستهل خطبته: «إني رأيت كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أراه إلا حضور أجلي، وإن أقواماً يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيه -صلى الله عليه وسلم -؛ فإن عجل بي أمرٌ فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ، وإني قد علمت أن أقواماً يطعنون في هذا الأمر، أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام؛ فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال. ثم إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بأصبعه في صدري، فقال: يا عمر! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء، وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن ... ، ثم ثلَّث ـ رضي الله عنه ـ بعد ذلك بالتنبيه على مخالفة ذاعت في أيامه تلك، وتوارد بعض الناس عليها، فبين أن واقع هذه القضية مخالف لهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: «إنكم أيها الناس! تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم» لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهم فليمتهما طبخاً» (3) وهذه الموضوعات الثلاث التي اختارها ـ رضي الله عنه ـ لخطبته دليل جلي على اهمية مراعاة مقتضى الحال في خطب الجمعة، وأنها ليست على رتابة دائمة.
وما أجمل تلك الكلمات التي سطرها يراع الشيخ (محمد أبو زهرة) رحمه الله، في بيان هذا الجانب المهم لدى الخطيب ـ وهو مراعاة مقتضى الحال ـ حيث قال: «مراعاة مقتضى الحال لب الخطابة وروحها؛ فلكل مقام مقال، ولكل جماعة من الناس لسان تخاطب به؛ فالجماعة الثائرة الهائجة تخاطب بعبارات هادئة، لتكون برداً وسلاماً على القلوب، والجماعة الخَنِسة الفاترة، تخاطب بعبارات مثيرة للحمية، موقظة للهمم، حافزة للعزائم، والجماعة التي شطت وركبت رأسها، تخاطب بعبارات فيها قوة العزم ونور الحق، فيها إرعادة المنذر، ويقظة المنقذ.. وفيها روح الرحمة، وحسن الإيثار، ليجتمع مع الترهيب الترغيب، ومع سيف النقمة ريحان الرحمة؛ لذلك وجب أن يكون الخطيب قادراً على إدراك الجماعة وما تقتضيه، والإتيان بالأسلوب الذي يلائمه» (4) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا واصفاً مراعاة الخطيب لمقتضى الحال، وواقع الزمان:
«بينّا لك أن خير الخطب ما كان مصدره نَفَس الخطيب وشعوره وإحساسه، لا نفَسَ غيره ممن مضت بهم القرون، وكانوا في عالمٍ غير عالمنا، ولهم أحوال تخالف حالنا؛ فمن أراد العظة البالغة، والقولة النافذة، فليَرْمِ ببصره إلى المنكرات الشائعة، والحوادث الحاضرة، خصوصاً ما كان منها قريب العهد، لا تزال ذكراه قائمة في صدور الناس، وحديثه دائراً على ألسنتهم، أو ذائعاً في صحفهم، أو تراه مشاهداً بينهم، ثم يتخير من هذه الحوادث ما يجعله محور خطابته ومدار عظته، ثم ينظر ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة في الموضوع الذي تخيره، ويجيد فهمها، ويفكر في الأضرار المالية والصحية والخلقية والاجتماعية التي قد تنشأ عن هذه الجريمة التي جعلها موضع عظته، ويحصي هذه الأضرار في نفسه أو بقلمه، هذا إذا أراد التنفير من رذيلة، أو الإقلاع عن جريمة ذاع بين الناس أمرها، أو طفح عليهم شرها، فإن أراد الترغيب في فضيلة، أو الحث على عمل خيري، أو مشروع حيوي، فليفكر في مزاياه تفكيراً واسعاً مراعياً الصالح العام دون المآرب الخاصة» (1) .
وفي سؤال موجه للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية برئاسة سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ جاء فيه: «هل يصح أن يتدخل الخطيب أثناء الخطبة في مواضيع تواجه الحياة؟ وتَدَخُّلُ بعض الشيوخ في السياسة؟
أجابت اللجنة بما نصه: «للخطيب أن يبين في خطبة الجمعة وفي دروسه ومحاضراته ما تحتاجه الأمة من المعارف النافعة، وأن يعالج أمر الشعب، ويحل مشاكلهم قدر استطاعته، بالحكمة والموعظة الحسنة، سواء سمي ذلك سياسة أو خطبة جمعة، أو تعليماً أو إرشاداً، وما كان يترتب عليه من كلامه فتنة أو مفسدة راجحه على ما يقصد من المصلحة أو مساوية لها، ترك الحديث فيه إيثاراً للمصلحة الراجحة، أو حذراً من وقوع ما لا تحمد عقباه. وبالله التوفيق» (2) .
ولعلي ألفت النظر، هنا، إلى أن دعوة الخطيب إلى المعاصرة والواقعية في موضوعاته، ليس معناه أن يُشِيح بوجهه عن الموضوعات الأخرى، كموضوعات الرقائق والمواعظ ونحوها، إنما هي دعوة إلى المزايلة بين هذه وتلك، ودعوة أيضاً إلى الممازجة بينها وتوظيف بعضها لخدمة بعض، وربما اللوم هنا، هو لمن ليس له إلا لون واحد من الموضوعات، ولمن أعرض صفحاً عن واقع الناس، ولم ينزل بساحتهم، ولم يمتطِ صهوات رواحلهم، ولم ينبض قلبه بهمومهم، وكان بعيد التصور لأحوالهم وحياتهم.
ولعل من الأمثلة القريبة التي هي في صميم موضوعنا، الخلل العقدي الذي تكشَّف في الأمة عندما مات بابا الفاتيكان، وما لحق ذلك من التشكيك في كفره، أو الثناء أو الترحم عليه، رغم أن حكم هذا الرجل ومن شابهه من رؤوس الكفر، ودعاة التثليث والتنصير، بيّن بيان الشمس في وضح النهار، ومثال ثانٍ قريب: وهو الفساد الأخلاقي المدمر الذي نتج من البرنامج الفضائحي (ستار أكاديمي) الذي يعرض الخنا والفحش، ويدعو إليه، وطبّل له الملايين من شبابنا، وغيرهما من الأمثلة الكثيرة في عالم اليوم؛ فهل يسوغ للخطيب المؤتمن على رسالة المنبر، أن يتجاهل هذه الحوادث، التي تمزق كيان العقيدةِ والأخلاقِ والعفاف؟ لا أظن ذلك يسع الخطيب الذي ائتمنه الله، والمسلمون على أغلى رسالة، وأنبل وظيفة في الحياة.
ولعلي في خاتمة المطاف، اقترح على الخطيب، ليتحقق في موضوعاته، المعاصرة والواقعية، وليبلِّغ رسالته، ويصل إلى هدفه المنشود ما يلي:
1 - الاحتساب في معايشة الناس، ومعرفة واقعهم، إذ إن من عوامل نجاح الداعية والخطيب الذي ينشد إصلاح الناس، أن يكون عالماً بأحوالهم، مدركاً لمشكلاتهم. ومن الأمور المتقررة عند أهل المعرفة أنه لا يستطيع العمل على تغيير واقع الناس وانتشالهم من الضلال إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنَّة، بصورة صحيحة مؤثرة، إلا من عاشرهم، وداخلهم، وعرف أحوالهم؛ ولذا على الداعية وطالب العلم أن يستشعر الخيرية، التي جاءت في قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «المسلم الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (3) ، ومذهب جماهير السلف تفضيل الاختلاط بالناس، في الأحوال الطبيعية التي لا يلحق المسلم فيها ضرر في دينه، على اعتزالهم والبعاد عنهم، ولهذا قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «خالطوا الناس وزايلوهم، وصافحوهم، ودينكم لا تَكْلِمُونه» (4) (5) .
وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: «خالطوا الناس بما يحبون، وزايلوهم بأعمالكم، وجِدُّوا مع العامة» (1) .
وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم؛ فإن لامرئ ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب» (2) ، وفي هذه الآثار المذكورات عن عمر وعلي وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ بيان للمنهج الشرعي في هذه القضية، وهو مخالطة الناس ومخالفتهم، مع مزايلتهم ومخالفتهم، وليس بين الأمرين تعارض؛ إذ الأمر كما توضحه هذه الآثار والآثار الأخرى، يراد به مخالطتهم بالأجسام، ومزايلتهم بالأعمال، مع المحافظة التامة على الدين، أن يصاب بضرر بسبب هذه المخالطة. ولأهل العلم تفصيلات مطولة في هذا الباب، ولعل من أجمعها ما نقله ابن حجر ـ رحمه الله ـ عن بعض أهل العلم وهو أن ذلك «يختلف باختلاف الأشخاص؛ فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين، ومنهم من يترجح وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا اختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات؛ فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر، فيجب عليه إما عيناً، وإما كفاية، بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه، ولكنه يتحقق أنه لا يطاع» (3) .
ويحسن التنبيه هنا إلى أن أهل العلم لا يقصدون بذلك أن يختلط العالم والداعية بالناس اختلاطاً طاغياً على شؤونه وأموره الأخرى، بل هم مجتمعون على أن القدر الذي يطالب به من الخلطة، لا بد أن يكون معتدلاً في الجملة، ثم هو يتفاوت بعد ذلك بحسب المصلحة.
2 - الاستنارة بما لدى الغير ـ ولا سيما أهل الاختصاص منهم، كلٌ في اختصاصه ـ في معرفة الموضوعات الحية التي تمس الحاجة لبيانها.
وبالتجربةِ تبيّنَ أن الخطيب قد يستفيد في إثراء بعض الموضوعات، من المختصين، أكثر مما يستفيده من البحث والاطلاع، ويظهر هذا بجلاء فيما يخص الموضوعات الأسرية، والمشاكل الزوجية والاجتماعية، التي قد لا يخدم الخطيب في علاجها، ومعرفة أدوائها، وتلمس دوائها أكثر ممن له سبح طويل في أعماقها.
3 - الاستفادة من الخطباء المبدعين في هذا الباب، ومن النَصَف الذي ينبغي أن يذكر فيشكر لثلة من خطباء اليوم، أنهم نزلوا بساحات الناس وعايشوهم في أفراحهم وأتراحهم، وعرفوا كثيراً من مشكلاتهم وشكاواهم، فاستطاعوا بهذا السبق أن يحوزوا على لقب النجومية في الخطابة، لما حملوه على عواتقهم من همِّ استصلاح أوضاع الأمة، ومعالجة قضاياها، وأسباب اليقظة من كبوتها، ومعرفة مشاكل المجتمع وأسبابها وأبعادها ووسائل الخروج من مضايقها.
وهؤلاء كما يطالَبون بنشر إبداعهم، وبث نتاجهم المتميز، فغيرهم أيضاً يطالَب بسلوك هذا المسلك الرائد، والاستفادة ممن سبقهم، والاستنارة بآرائهم، والأخذ من تجاربهم.
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر فالحق لا يخفى على الاثنين
المرء مرآة تريه وجهه ويرى قفاه بجمع مرآتين
4 - الرجوع إلى الكتب المتخصصة في بعض قضايا الناس المعاصرة، وقد اصبحت المكتبات ـ بحمد الله ـ زاخرة بالعديد من الكتب التي عُنيت بمشاكل المجتمعات المسلمة، والمستجدات والمتغيرات التي تهدد كيانها، وقد بادرت بعض المكتبات ـ مشكورة ـ بإيجاد خدمة تزويد روادها بأسماء الكتب الجديدة، من خلال البريد الإلكتروني أو الفاكس، وهناك من مواقع الشبكة العنكبوتية، ما له عناية خاصة بالجديد، وبهذا يمكن للخطيب، الذي يحمل هموم الناس، ويسعى لصقل مواهبه، وتطوير عطائه، أن يهتبل هذه الفرص المباركة.
5 - هناك جملة وافرة من المواقع الإسلامية، في الشبكة العنكبوتية، لها عناية خاصة بكثير من الموضوعات المعاصرة الحية، بل إنها في بعض الأحايين تقوم بدور رائد جميل، في توفير ملفات خاصة موسعة، عن كثير من هذه الموضوعات، وهي بذلك تقدم خدمة جليلة للخطباء وأهل العلم، وتفتح لهم آفاقاً للإبداع، وتحقيق النجاح.
__________
(*) قسم السنة، كلية الشريعة، جامعة القصيم.
(1) انظر «منهج في إعداد خطبة الجمعة» ، الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، ص 19 ـ 20.
(2) زاد المعاد، 1/189.
(1) البذاذة: رثاثة الهيئة وهي في الغالب علامة على الفقر والحاجة.
(2) أخرجه النسائي، في سننه، في كتاب الجمعة، باب حث الإمام على الصدقة يوم الجمعة في خطبته، ح 1407، بسند حسن.
(3) أخرجه مسلم، في صحيحه، في كتاب «الفرائض» ، رقم 1617.
(4) الخطابة، لمحمد أبو زهرة، ص 56.
(1) مجلة المنار، 29/340.
(2) فتاوى اللجنة الدائمة، 8/230، وينظر كتاب «الشامل في فقه الخطيب والخطبة» للشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب الذي يصبر على أذى الناس، رقم 388، والترمذي في جامعه، في كتاب «صفة القيامة» ، رقم 2507، والطيالسي في مسنده، رقم 1876، من حديث ابن عمر، وإسناده صحيح.
(4) الكلم: هو الجرح.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، باب مخالطة الناس ومخالفتهم، رقم 6272، ووكيع في الزهد، باب كتاب أهل الخير بعضهم لبعض، رقم 531، بسند رجاله ثقات.
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11/144، بإسناد مرسل.
(2) أخرجه الدارمي في مسنده، 1/78، والبيهقي في الزهد الكبير، ص 141.
(3) فتح الباري، 13/43، وينظر في هذه المسألة، كتاب العزلة والخلطة للشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة(215/12)
الأخلاق والنظم
أ. د. جعفر شيخ إدريس
أعني بالنُّظُم كل ما يتعلق بالترتيبات الظاهرية لعلاقات الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها في مجتمع من المجتمعات. وأعني بالأخلاق مكارم الأخلاق من صدق وأمانة وعدل وغيرها. ما العلاقة بين هذين؟ إن التجربة تدل على أنه لا قيام لنظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو حتى أسري، إلا بقدر من هذه الفضائل. تصور لو أن معظم الناس في مجتمع من المجتمعات صاروا كذابين، وخونة ولصوصاً: التاجر يكذب، والعالم يزوِّر، والقاضي يحابي، والسياسي يسرق، ورجل الأمن يرتشي، والزوج يخون!
ليس هذا فحسب، بل إن النظام نفسه مهما كان نوعه لا يتأتى إلا بقدر من هذه القيم. كيف تكون ديمقراطية مثلاً إذا كانت الانتخابات تزور؟ وكيف يكون نظام إسلامي إذا كان الحاكم يستغل الدين ليأكل أموال الناس بالباطل؟ ألم يقل الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ؟
إذا كانت مكارم الأخلاق هذه ضرورية لتلك النظم الخارجية؛ فمن أين تأتي بها، وكيف تحافظ عليها؟
غلت النظرية الماركسية فزعمت أن الأخلاق إنما هي نتيجة النُّظُم، ولذلك عزت كل ما اتصف به الناس من مساوئ الأخلاق كالسرقة والكذب والأنانية إلى النظام الرأسمالي، وكانت ترى أنه بحلول النظام الاشتراكي أو الشيوعي فإن كل هذه المساوئ ستتحول إلى حسنات، فتحل الأريحية محل الأنانية، والصدق محل الكذب، والأمانة محل الخيانة، وهكذا. لكن التجربة قد أثبتت بطلان هذه النظرية الماركسية؛ فقد بني النظام الاشتراكي في كثير من البلاد لكن الناس ظلوا كما كانوا يخونون ويكذبون ويسرقون. هذه نظرية كان يمكن أن يعرف بطلانها قبل التجربة وبمجرد النظر. إن الذين دعوا إلى الاشتراكية كانوا هم أنفسهم من نتاج المجتمع الرأسمالي؛ فما الذي جعلهم يذمون تلك المساوئ حتى قبل حلول الاشتراكية؟ وما الذي جعلهم يفكرون في نظام يقضي عليها لولا أنهم كانوا منذ البداية مؤمنين بأن القضاء عليها شيء حسن تقتضيه مكارم الأخلاق؟
لا تذهب النظريات الغربية من ديمقراطية وليبرالية ورأسمالية مذهب الماركسية، لكن الغريب فيها كلها أنها تكاد تهمل هذا الأمر إهمالاً كاملاً في تقعيدها النظري. إنها تفترض في الناس أن يكونوا أمناء، وتفرض عقوبات على أنواع من الجرائم الخلقية كالسرقة والخيانة. ما مصدر هذه الأخلاق؟ وما الذي يدعو الناس إلى الالتزام بمحاسنها، أو يغريهم باللجوء إلى مساوئها؟ ليس في هذه النظريات حتى محاولة للإجابة عن مثل هذه الأسئلة، بل ربما عدت الكلام فيها أمراً خارجاً عن نطاق النظم السياسية أو الاجتماعية.
أما الإسلام فيولي هذا الأمر أهمية قصوى. فهو يخبرنا بأن أصل هذه المكارم في فطرة الإنسان. فالرسول -صلى الله عليه وسلم - يخبرنا بأن «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» (1) . والفطرة هي كل ما في الإنسان من فضائل وعلى رأسها اعترافه بعبوديته لله تعالى. ويؤكد هذا قوله -صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة في الصحيحين: «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال. ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» (2) ، والجذر هو الأصل.
إن في وجود هذه المحاسن في كل مجتمع من المجتمعات دليلاً على صدق هذا الذي يقرره الإسلام.
لكن كونها مما فطر الله الناس عليه لا يعني أن فطرتهم تُلزمهم بها؛ لأن الفطرة إنما هي بمثابة الصوت الداخلي الذي يقول للإنسان: يا عبد الله! هذا خير فاتبعه! لكن الإنسان مخير بين أن يستمع إلى هذا الصوت أو يعرض عنه، كما أنه مخير بين أن يستمع إلى صوت الهداية الخارجي أو يعرض عنه.
بعد الفطرة يأتي الدين الحق الذي هو دين تلك الفطرة، فيقوى داعي هذه المكارم في قلوب المؤمنين. إن الإيمان بالله هو الأساس والمحور الذي تدور حوله كل الفضائل التي فطر الله الناس عليها، فبقوته تزداد قوتها، وبضعفه يزداد ضعفها. إن الإيمان بالله وحبه يثمر في القلب ضرورة حب كل ما يحبه الله من الفضائل. ثم يأتي الإيمان بالحياة بعد الموت ليؤكد للملتزم بالمكارم أنه إذا كان يخسر خسارة مادية مؤقتة في هذه الحياة الدنيا القصيرة لالتزامه بصدق أو أمانة؛ فإنه هو الرابح في الحياة الآخرة الدائمة.
إذا كان الإيمان بالله ـ تعالى ـ وبالدار الآخرة يجعل اعتقاد الإنسان متوافقاً مع صوت فطرته الداعي إلى مكارم الأخلاق؛ فما هكذا تكون سائر المعتقدات. إن الذي ينكر وجود الخالق، ومن ثم وجود حياة بعد الموت، يجد في نفسه نزاعاً بين داعي فطرته، ومقتضيات فكرته. إذا عُرضت عليه حالةٌ تغريه بنوع من الظلم، خيانة أو سرقة أو كذباً، أو اعتداء في سبيل مكسب مادي، فلن يجد في فكرته أو معتقده ما يقول له: إن هذا خطأ فلا ترتكبه، بل سيجد فيها ما يسوِّغ له ارتكابه. سيقول لنفسه مثلاً: إذا كانت هذه الحياة هي الحياة الوحيدة التي لا حياة بعدها؛ فلماذا أضحي بهذه المكاسب؟ ما الذي أكسبه من التضحية بها؟ لكنه باعتباره إنساناً سيجد في قلبه ما يقول له: إن هذا خطأ؛ إنه أمر لا يليق؛ إنه وإنه. فإما أن يستمع إلى صوت فطرته، أو يتصرف بحسب فكرته.
أما المؤمن فإنه حين يلتزم بالعدل حتى لو كان عليه فإنه يفعل ذلك تلبية لداعي فطرته الإنسانية، وتمشياً مع مقتضيات إيمانه الذي يقول له: إنك في الحقيقة تكسب حين تضحي هذه التضحية؛ لأن الله ـ تعالى ـ سيعطيك في حياتك الآخرة، وهي الحياة الدائمة أكثر مما خسرت في هذه الحياة الدنيا الفانية.
إن مكارم الأخلاق أمر ضروري لكل مجتمع لكن الإلحاد يجعلها متنافية مع العقل؛ إذ يجعلها تضحية مطلقة لا مكسب من ورائها والإنسان العاقل لا يعمل عملاً لا ثمرة له، ولا يضحي تضحية مطلقة لا مكسب من ورائها.
إن مثل هذا التصور يجعل الحياة الدنيوية كلها حياة متناقضة؛ فأكثر الناس نفعاً للمجتمع هم أكثر الناس خسارة. وفي هذا يقول ربنا: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36] .
فالحياة الدنيا تكون حياة ناقصة ومتناقضة من الناحية الخلقية، ولا تكتمل وتتسق إلا بوجود دار آخرة يثاب فيها المحسنون ويعاقب المجرمون.
الإيمان بالله ـ تعالى ـ يجعل الالتزام بتلك الفضائل هي السلوك الذي يقتضيه العقل. فربنا الذي غرس محاسن الأخلاق في قلوبنا جعل الاعتقاد بالثواب عليها من مقتضياتها؛ أعني أن الثواب على عمل الخير هو مما يقتضيه الخير؛ ولذلك فإن الله ـ سبحانه ـ يجزي عليها، ويسألنا سؤالاً استنكارياً: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ} [الرحمن: 60] .
ويقول ـ تعالى ـ تعليقاً على قول عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117] : {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] .
إذا كانت مكارم الأخلاق ضرورية لقيام النظم؛ فإن من النظم ما يساعد الناس على الالتزام بها، ومنها ما يجعل هذا الالتزام أمراً عسيراً عليهم.
ولولا هذه الصلة بين ما في الباطن من قيم، وما في الظاهر من نظم، لما جعل الله دينه شاملاً لهذه النظم، بل لجعله أمراً خاصاً بأحوال القلوب كما يريد له بعض الناس أن يكون. لكن الله ـ تعالى ـ العليم بخلقه شرع للناس شرائع تتعلق بحياتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأسرية، شرائع تعينهم على الاستمساك بكل ما فطرهم عليه وشرعه لهم من فضائل إيمانية وخلقية.
وقد تميزت هذه الشرائع الإسلامية النظمية باهتمام بمكارم الأخلاق لا نظير له في نظام من النظم البشرية.
ففي مجال السياسة مثلاً يقول الله ـ تعالى ـ عن مهمة الحاكم: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج: 41] .
ويقول عن هذه الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45] .
فالمهمة الأولى لمن يعطيه الله قوة يسوس بها الناس هي أن يعينهم على أمر لا تقوم الحياة الفاضلة إلا به، وهو عبادة الله وما تثمره هذه العبادة من نهي عن مساوئ الأخلاق.
وإذا كان المعنى الواسع للصلاة هو كل صلة بين العبد وربه، فإن المعنى الواسع للزكاة هو الإحسان إلى الناس، ولذلك كانت هذه هي المهمة الثانية لمن يعطيه الله السلطة. أما المهمة الثالثة فهي مهمة عامة يدخل فيها هاتان المهمتان وغيرهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذه أمور لم يعد مألوفاً جعلها من مهام رجال السياسة بحسب التصور الغربي اللاديني الذي صار مع الأسف هو التصور السائد في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي.
لكن عدم جعلها من مهام رجال السياسة لم يُنْجِ السياسيين من محاسبة الناس لهم بمعاييرها؛ ولذلك تجد أن أكثر ما ينتقد به الناس حكامهم هو نقد خلقي: أنهم لا يعدلون، لا يوفون بوعودهم، يكذبون، يعملون لمجدهم الشخصي، وهكذا.
هذا موضوع كبير وعظيم أرجو أن نعود إليه مرة أخرى.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) أخرجه البخاري كتاب الجنائز، رقم 1270، ومسلم، كتاب القدر، رقم 4803.
(2) رواه البخاري، كتاب الرقاق، رقم 6016، ومسلم، كتاب الإيمان، رقم 206.(215/13)
استقالة
إبراهيم بن سليمان الحيدري
سعادة المدير العام: حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
لقد عرفتُ فيكم شخصاً نبيلاً يحمل بين جنباته قلباً محباً للخير، تواقاً لخدمة الآخرين، ولقد نسجتَ بخصالك الكريمة قدوة حسنة في حسن التعامل وسمو الأخلاق. عشتُ في منظمتكم السنوات الماضية فتنفست هويتها وجرت سياساتها في عروقي، وكانت أهدافها سواد عيني؛ إلا أني ومع ذلك كله ها أنا ذا أقدم استقالتي التي لم تأتِ لتأخُّر ترقية أو فوات علاوة؛ بل لتتوقف رحلة الصراع الداخلي الذي ما عدت أطيقه.
لقد سئمت أيها الفاضل الفوضى الإدارية التي عششت في المنظمة، وتداخل الصلاحيات الذي لا يُحتمل، وتلك القرارات الفردية التي تُصنع في دقائق. لقد استهلكتنا المشكلات وأرهقتنا صافرات إنذارها، وانقطعت الأنفاس عن ملاحقة مشاريع ارتجالية تقترب حيناً من الأهداف، وتبتعد في أحايين كثيرة.
فوضى أوهنت العزيمة ووأدت التفكير في التطوير، وبددت كل وقت للحديث عن المستقبل بفرصه وتحدياته.
سعادة المدير: إن حسن التعامل وطيب الأخلاق وحدها لا تكفي للإدارة، وإن من واجبكم وقد استرعاكم الله أمانة إدارة هذه المنظمة أن تعملوا على بنائها وفق أسس إدارية متينة تضمن لها البقاء وتفتح أمامها دروب النجاح.
ختاماً أكرر تقديري لشخصكم الكريم راجياً قبول استقالتي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
موظف متميز
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(215/14)
الانضباط الذاتي
د. عبد الكريم بكار
تقدُّم أمة الإسلام، واحتلالها المكانة التي تليق بها بين الأمم مرتهن بحصول تقدُّم على صعيد الحياة الشخصية لشريحة واسعة من أبنائها، وبناتها. وهذا التقدم ملموس اليوم لكنه بطيء للغاية، وضيق النطاق، والسبب في هذا ربما كان كامناً في عدم امتلاكنا تقاليد ثقافية تمجد العمل الشاق، وتُعلي من شأن الإنجاز وتأجيل الرغبات. والمشكل أن كثيرين منا غرقوا في حياة، يُقضى الكثير من متطلباتها عن طريق لمس الأزرار، مما جعلهم يعتقدون بضرورة الحصول على الأشياء بطرق سهلة وعاجلة.
إن هذه الفئة من الناس، تتعامل مع الشدائد والضغوط بوضعية يسودها الكثير من الكسل والفوضى واللامبالاة، ويتعاملون مع الوفرة والرخاء والجدة بالاستمتاع والإسراف والتبذير؛ وما تتم التضحية به في كلتا الحالتين هو صلابة الشخصية والانضباط الذاتي.
حين نتحدث عن مسألة الانضباط الذاتي؛ فإن قسماً من الناس يعتقدون أننا نتحدث عن شيء يتصل بمعاقبة الذات أو تقييدها أو تجاهل حقوقها. وبعضهم ينظر إلى الانضباط الذاتي على أنه نوع من الحرفية أو الجمود والتكلس أو النقص في المرونة. وهذا كله غير دقيق، ولا يعبر عن جوهر هذا المصطلح. إذن ما الذي نريده منه، وما أهمية اكتساب هذا المعنى في حياتنا الشخصية؟
لعلِّي في الإجابة على هذا التساؤل أجلو الملامح الآتية:
1 - إن التدين الحق يرسم صورة زاهية وبليغة للانضباط الذاتي. إنه يجعل المسلم يقوم بالكثير من الأشياء، ويكف أيضاً عن كثير من الأمور في المنشط والمكره والرخاء، وتطبيق السُّنة في حياة المسلم يعني يقظة الوعي نحو التفاصيل، والقدرة على السيطرة على الأهواء والرغبات. لكن مشكلة كثير من الملتزمين أنهم لم يستطيعوا تعميم هذا المعنى على حركتهم اليومية؛ حيث إنهم كثيراً ما يجدون أنفسهم بعيدين عن الإنجاز العالمي وعن المثابرة على أداء العمل الشاق، وهذا أدى بالطبع إلى انخفاض إنتاجية الإنسان المسلم على نحو مخيف. إن الناتج القومي لليابان يشكّل أربعة أضعاف ناتج العالم الإسلامي برمته؛ وإذا عرفنا أن عدد المسلمين يساوي عشرة أمثال سكان اليابان ظهر لنا أن متوسط إنتاج الفرد الياباني يساوي إنتاج أربعين من المسلمين؛ أليس هذا من الأمور المحزنة؟
2 - يعني الانضباط الذاتي فيما يعنيه تنظيم الذات؛ حيث وضوح الأهداف واستمرار البرامج وتأجيل الرغبات. إن الشخص المنضبط يتحمل بعض الآلام، إنه يعمل وينتج ويقاوم المشتهيات؛ إذ يستسلم غيره للنزوة ويدمن الاسترخاء. وقد تبين أن حفز الذات على العمل يظل بعيد المنال ما لم يكن للإنسان أهداف مرحلية واضحة. لو تأملت في حياة كثيرين منا لوجدت أنهم يعانون من الفَوْضى الشخصية والنقص في التركيز؛ وهذان الأمران هما العدوان اللدودان للانضباط الشخصي. جرب واسأل عينة ممن حولك عما يحاولون إنجازه خلال عام، وما الخطوات التي يتبعونها في سبيل بلوغ ذلك؟ سل من حولك عن الأشياء التي يعدها أولوية في حياته خلال العام الحالي؟ ولماذا هي أولوية؟ وكيف يعبر سلوكياً عن نظرته إليها؟ إن معظم الناس لن يجدوا شيئاً يقولونه، أو أنهم سيحدثونك عن أشياء لا معنى لها.
3 - المنضبط ذاتياً يشعر أنه يدرِّب نفسه شيئاً فشيئاً على إنجاز الأمور. وهو إلى جانب ذلك يطور خطته للإنجاز، ويتابع تنفيذ العهود التي قطعها على نفسه. إنه يعرف أن تحرير الإرادة يشكل أكبر علامات النصر على طريق طويل، وفي معركة حاسمة، ويدرك أن تحرير الإرادة يكون شيئاً مجوفاً وفارغ المضمون إذا لم يجد المرء نفسه قادراً على أداء الأعمال المهمة وإن كان يفقد الرغبة للقيام بها. وقد سألت غير واحد ممن يشتغل بالبحث العلمي عن جوهر ما يقوم به، وكان الجواب هو حب التسلي وشغل الوقت بشيء قد يكون مفيداً.
وهذا الفريق من الناس ليس ضئيلاً؛ فهو يشكل شريحة واسعة بين أولئك الذين لا يؤمنون بأهمية ما يقومون به، كما لا يعرفون بالضبط الجهة التي ستستفيد من مجهوداتهم.
4 - حين نشعر بالمسؤولية الشرعية والأخلاقية والأدبية عن أعمارنا وعن الإمكانات التي أتاحها الله ـ جل وعلا ـ لنا، فإننا سنضبط إيقاع حركتنا، وسنتعلم الاقتصاد في الجهد وفِقْه الخطوة المناسبة، وسنحاول باستمرار اكتساب العادات الجيدة. وهل السلوك الحسن سوى عدد جيد من العادات الحسنة؟ وسوف نقوم بتكرار الأعمال المثمرة والصغيرة؛ لأن ذلك يعبر عن بعض وجوه الاستقامة، كما يدل على تحلينا بفضيلة الإصرار على التقدم.
مفتاح خلاص الأمة مما هي فيه شيء كامن في عقولنا ونفوسنا، حيث تدور أشرس المعارك وأنبلها، والبحث عنه في أي مكان آخر سيكون من هدر الوقت. فهل اتضحت معالم الميدان؟ وهل آن أوان التحرير؟ هذا ما أرجوه.(215/15)
جيل الصحوة بين الهزيمة والانطلاق
(2 - 2)
التحرير
- ضيوف الندوة:
- فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر: المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
- فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- فضيلة الدكتور عبد الله الصبيح: الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
في العدد الماضي دارت الأسئلة والأجوبة حول: هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة، وهل هي موجودة في أوساط العامة؟ وقد بين المشاركون أن الصحوة من حيث العموم لا تشهد هزيمة وإنما هناك ارتباك فكري أدى إلى بعض الظواهر التي قد تفسر عند بعضهم بالهزيمة، وتفسر عند آخرين بالارتباك الفكري. وتطرقت الندوة إلى أمور عدة منها الأطروحات العصرانية. - البيان -
البيان: نعود لقضية تطويع النص على اعتبار أنها من الممارسات التي بدأت تظهر بشكل أوسع، ومن نتائجها محاولة التأقلم مع المتغيرات الحضارية والمتغيرات الثقافية والتأثر بطوفان العولمة؛ فهل أصبحت قضية تطويع النص ظاهرة؟ وهل تمثل هذه القضية مشكلة في واقع الصحوة أم أنها مجرد ممارسات فردية يمكن تجاوزها بيسر وسهولة؟ مثلاً أصبح الآن عدد من المفكرين والمثقفين يحاول أن يبحث عن اجتهادات فقهية سابقة، ويحاول أن يعيد الحياة إليها من جديد؛ ليس لأن الدليل الشرعي يقويها، وليس لأن المصلحة الشرعية تقتضيها، ولكن لأن الواقع السياسي أو الواقع الثقافي والاجتماعي ربما يتجاوب معها؛ فبدأت تظهر بعض الاجتهادات الفقهية التي قد يعدها بعضهم جزءاً من الهزيمة.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: حتى يكون في الأمور شيء من الوضوح أريد أن أبين أن حديثي هنا يتناول تيارين مختلفين:
1 - تيار تحريف النصوص.
2 - تيار منهج التيسير أو ما يسمى الآن: منهج أصحاب التيسير؛ وهما خطان مختلفان.
بالنسبة لمنهج تحريف النصوص؛ فهذا لا يوجد في دائرة الصحوة، بل هو خارج دائرة الصحوة، وهذا له مقتضى ظرفي؛ فهو ما ظهر إلا لبروز الصحوة. ومشكلة أعداء الإسلام قديماً وحديثاً هي قضية قدسية النص القرآني لديهم؛ هذه هي أعمق مشكلة لدى أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، وقد صرحوا بهذا كما تعلمون في فرنسا؛ حيث حاول المستشرقون جهدهم عبر قرون أن يسقطوا قدسية النص، واستبشروا حينما رأوا الالتزام بالقوانين الوضعية بعد دخول الاستعمار، إلا أن المشكلة التي فاجأتهم هي عودة الصحوة الإسلامية لتجعل شعارها العودة إلى القرآن والسنة، يعني أن الأمر انعكس عليهم، وكما يقولون: انقلب السحر على الساحر، وهنا أصبحت الصحوة الإسلامية مزعجة لهم، وقامت دراسات ومراكز دراسات متخصصة في الغرب، وعقدت مؤتمرات في الغرب لدراسة واقع الصحوة وفكرها.
ومن هنا برزت جهود متعددة منها الجهد المتمثل بدراسات مفكرين عرب والذي يمكن تسميته بالاستشراق العربي، وهو قيام أناس بالتعامل مع النصوص الشرعية، وهم في الأصل غير إسلاميين، وقد يكون أصلاً بعضهم غير مسلمين بالمعنى الفكري، يعني أنهم يتبنون الماركسية المخالفة للإسلام تماماً، لكنهم جاؤوا ليدرسوا النص الشرعي، وليقدموا للمسلمين صورة منه تنتهي بهم في مجملها بنظرة استشراقية، والمقصود بالنهاية هو هدم قدسية هذا النص، وقد ذكرت النماذج من خلال الأسماء مثل: (حامد نصر أبو زيد) ، وكل كتبه تتعلق بهذه القضية، ومثله (الدكتور محمد شحرور) في كتابه (القرآن والكتاب.. قراءة معاصرة) ، ومثله (محمد أركون) الذي يقرأ القرآن من خلال المنهج الألسني.
البيان: لا شك أن هذا الكلام مهم جداً، لكنه استطراد في محور آخر، وكلامنا هنا عن تطويع النصوص في دائرة الصحوة، وهؤلاء ليسوا من أوساط الصحوة؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: هذا الذي ذكرته موجود خارج دائرة الصحوة، وكما قلت هم لا يعدون أنفسهم من الصحوة، بل يعدون أنفسهم من أعدائها، والصحوة لا تعدهم منها، ولا غيرهم أيضاً من المحايدين يعدهم من الصحوة.
أما المسار الثاني فهو مسار ما يسمى (منهج التيسير) ، وهو الذي ذكر فضيلتكم أنه ظهر نتيجة تفاعلهم مع الواقع المعاصر. ربما يقول بعض الناقدين إنه نتيجة ضغط الواقع عليهم، ويمكن أن نعبر تعبيراً آخر فنقول: نتيجة تفاعلهم المباشر مع الواقع. والحقيقة أن الواقع له ضغطه بلا شك، ونتيجة لهذا حاولوا أن يبحثوا فيما يعتبرونه هم الدائرة الإسلامية التي تشمل النصوص المباشرة وقطعيتها.
ثم في مجال الاجتهادات فإن هذه الاجتهادات الموجودة منها اجتهادات راجحة، واجتهادات مرجوحة. المذاهب المشهورة عندنا أربعة؛ لكن هناك اجتهادات خارج هذه المذاهب، فيقولون: لماذا لا نأخذ بها؟ عندهم عدة مناهج في قضية منهج التيسير أو بناء أحكام جديدة غير ما توافَق عليه المسلمون في عصور سابقة، وإن كانت هي موجودة ولكنها مطمورة في هذا. حقيقة أنا لا أُدخل هذا فيما يسمى بـ (الهزيمة النفسية) ، أنا أُدخله في (قضية التفاعل مع الواقع) الذي كان لهذا الواقع فيه ضغط عليه، وأن هذا وضع طبيعي. أقول: إن هذا وضع طبيعي لمن يلابس الواقع، ولا بد لمن يلابس الواقع ألا يبقى في دائرة صورة مثالية؛ فما كان نظرياً مثالياً يتغير في دائرة التطبيق؛ فالتطبيق يستلزم مرونة في التدرج ومراعاة الظروف وما تعم به البلوى ... إلخ. أنا باستطاعتي أن أجمع مجموعة من الكتب في التربية فأصوغ خطبة عن تربية الأولاد التي تخرج الملائكة، وأخطب في الناس، ويتخيلون أنني ملاك، لكن أنا إذا ذهبت إلى بيتي أجد أنني لا أستطيع أن أطبق لا نصف ولا ربع ما أتحدث به إليهم أحياناً؛ فالأمر النظري شيء، والأمر التطبيقي الواقعي شيء آخر. أمامك وضعيات، أمامك نفسيات، أمامك بشر له اهتماماته ومصالحه وأعرافه وعلاقاته.
البيان: لكن ألا تلاحظ أنه حصل في هذا الاجتهاد نوع من الارتباك؛ بمعنى أن الفقهاء تفاوتوا في هذه القضية، فتوسع أقوام وانضبط أقوام آخرون؛ وبعض الذين توسعوا كانت توسعاتهم غير مرضية وغير متزنة؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: القضية نسبية؛ لأن كل واحد يحكم من موقعه، ويرى أن دائرته منضبطة، وما تجاوزه هو نوع من الارتباك. أما الارتباك فهو سيحدث حتماً. المسلم العالم الداعية حينما يعالج هذه القضية، ويتنزل فيها تجاوباً مع الواقع سيشعر بحرج، ليس فقط حرجاً نفسياً، بل أيضاً حرجاً فكرياً، يعني هو يشعر بأنه مسؤول أمام الله في فتواه إن أفتى بها، ومسؤول أمام الله إن نأى بنفسه عنها.
- د. ناصر العمر: أما جانب تحريف النصوص فإنه بيّن، لكن ما يسمى بالتيسير أرى أنه يجب أن نفرق بين أمرين: ما ندعو إليه الناس وبين تطبيقات الناس، وقد نجد للناس مخارج أو حلولاً بعدما يقع منهم الفعل، الخطورة في أن يتابع واقع الناس المتردي، وذلك بسبب ضغط الواقع على المفتين وعلى الناس.
والإشكال هو أن يتحول الاستثناء إلى منهج، أو أن تتحول الرخص في الشريعة إلى منهج، ويبدو لي أن هذا هو الذي وقع فيه بعض الفقهاء. يقابل هذا المنهج جانب متشدد فتراه يتعامل بمثالية، وكِلا هذين المنهجين خطأ. والخلاصة أن نكيِّف الواقع مع الإسلام، ولا نكيف الإسلام مع واقعهم.
- د. عبد الله الصبيح: في قضية تطويع النص للواقع كما قلت بعضهم يسميه نوعاً من الاجتهاد، وقد يكون كذلك، وقد يسميه الطرف الآخر تطويعاً للنص؛ فالقضية موضع إشكال وتباين في وجهات النظر، وهذا الأمر له أسباب في واقعنا المعاصر، ومنها:
1 - انتشار الفتوى وشيوعها بسبب الفضائيات؛ فالفتوى الآن لم تعد خاصة بالمجتمع الذي تصدر له فلا يطَّلع عليها غيره؛ والأصل في الفتوى أن تكون خاصة بمن صدرت له، ولكن الفضائيات نشرتها وأصبحت الفتوى التي يفتي بها الفقيه لشخص يعيش قضية خاصة في فرنسا يسمعها الشخص في السعودية وفي اليمن وفي غيرهما من بلاد المسلمين، وهذا يجعل الشخص المستفتي ربما يعترض على مفتيه في بلده الذي يعرف ظروفه ويقدر وضعه، ويبحث عن فتوى أخرى ربما يظنها أيسر أو ربما يظنها أتقى لله عز وجل.
2 - أن بعض ما نظنه ليّاً للنصوص هو نوع من الخلاف الفقهي الذي ربما يكون أحياناً معتبراً، ومن الأمثلة على ذلك ما يحصل من خلاف حول قضية تغطية الوجه: الرأي الفقهي المعتبر في السعودية هو وجوب تغطية الوجه، وعلماء آخرون لهم رأيهم ولهم أدلتهم يرون خلاف ذلك، ومن هؤلاء (الشيخ ناصر الألباني) ، ولا يمكن أن تتهم الشيخ ناصر الألباني بأنه أراد أن يجاري الواقع، ولكن هذا نوع من الاجتهاد السائغ والخلاف المعتبر.
البيان: هذا صحيح، لكن لا شك في أن بعض الفقهاء المعاصرين رجَّح هذا الرأي أو ذاك ليس من منطلق دراسة النصوص الشرعية، بل بسبب ضغط الواقع، أو الاستسلام للإلف والعادة.
- د. عبد الله الصبيح: ربما؛ وهنا تأتي أهمية وعي الفقيه وتجرده للحق، ولا بد من ملاحظة ضرورة اتساع الصدر للرأي المخالف.
البيان: أعود لأصل الموضوع وأقول: كيف يمكن إعادة التوازن في بناء الصحوة من جديد؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: الصحوة الإسلامية تيار عام، الصحوة تعم الأمة بمختلف شرائحها، ومن ثم فينبغي أن لا نضع صورة مثالية نحكم بأن عدم الوصول إليها اختلال وسقوط.
وحتى أوضِّح الصورة؛ فإن غالب التيارات الأخرى في العالم الإسلامي تيارات نخب ثقافية وسياسية محدودة، ومن ثم يمكن مطالبتها بأن تكون على مستوى دعوتها، لكن الأمر غير ذلك بالنسبة لصحوة أمة تحتوي وستبقى محتوية على الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.
لا يعني ذلك أن نقف في البناء الصحوي عن ترقيته نحو الأفضل إلى مجرد النظر المعجب بها فقط، كلاَّ! إن ترشيد مسيرة الصحوة، وعلاج الأدواء العارضة لها أمر واجب؛ إذ هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين.
ومن أهم قضايا الإصلاح المطلوبة في الصحوة الإسلامية تحقيق التوازن المعتدل بين جوانب بناءاتها بين الجانب التعبدي والجانب الاجتماعي، بين المجال التربوي، والمجال السياسي، بين الاندفاع في حماية الدين ونصرة الحق والتعقل ورعاية المصالح في اتخاذ المواقف والتصرفات ... إلخ.
من أهم وسائل تحقيق هذا التوازن فقه الدين؛ فقه منهج الإسلام المبني على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، منهج الإسلام الشمولي، وعدم الاندفاع مع ردات الفعل غير محسوبة العواقب للأحداث والمفاجآت.
البيان: كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية لدى عامة المسلمين والتقليل من آثار الارتباك؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: نعم! للارتباك وجه سلبي من حيث كونه اضطراب رؤية، وتخويفاً من الجو المحيط، وعجزاً عن اتخاذ مواقف، أو عدم ثقة في المواقف المتخذة، لكنَّ له وجهاً مشرقاً يتمثل في أنه يحمي الإنسان من الاندراج في تيار الأحداث انسياقاً معها أو مضادة لها دون وعي، وفي أنه ليس مجرد وعي، وإنما هي لحظات استبصار وتأمل يبحث عن الأرشد؛ ولهذا فالسؤال هو: كيف نتجاوز موقف الارتباك نحو مواقف إيجابية مبنية على هدي الشريعة وعقلانية النظر وحساب كل جوانب القضية؟
السبيل هنا هو ما ذكرته ـ ربما ـ قبلاً من الانطلاق من الرؤية الشرعية المتزنة لا من ردات الفعل، والفقه السديد بمقاصد الشريعة وأولويات المصالح؛ لأن غالب إشكاليات الصحوة ليست في مسائل تعبدية جاءت عموم أحكامها محسومة في الشرع، لكنها في مناهج دعوية وفي شؤون اجتماعية مدارها مقاصد الشريعة وجلب المصالح ودرء المفاسد، وأيضاً فقه الواقع بامتلاك تصورات صحيحة متماسكة لهذا الواقع ليكون الحكم عليه المنطلِقُ من هذا التصور سديداً.
البيان: هل من تجارب معاصرة تُستثمر في تجاوز الأزمة؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: أزمة؟ أية أزمة؟ الأمة الإسلامية ممثلة بصحوتها الشاملة لمختلف شرائحها تعيش حالة تطلع وتحفز نفسي للنهوض، وتهيؤ لتقديم الجهود لتحقيق هذا النهوض الحضاري.
نعم! المعوقات كثيرة وضخمة، ونواقص العلم والمعرفة حقيقة موجودة، وبطء الحركة مشهودة، لكن كل ذلك لا يبرر وصف الأمر بأزمة، بل ربما بعض هذه الأشياء تعد نعمة للصحوة، وبالذات المعوقات وجهود الأعداء؛ لأنها تشحذ العزم وتستحث لجمع الجهد، وللتوحد في العمل، وهي متطلبات ضرورية لحركة النهوض الحضاري.
البيان: النظر للجانب المحزن المولد للاحباط.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: ليس هذا منهج المسلم، منهج المسلم دائماً استبشاري تفاؤلي، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس تفاؤلاً في الساعات الحرجة، وكيف تحجب النظرة السوداوية رؤية المسلم وهو الذي يوقن بحكمة الله في تدبيره، وبمعية الله لعباده المؤمنين، وبأنه ما دام محتسباً مستقيماً على خير في كل أحواله «إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» .
ليس معنى هذا طبعاً أن يتجاهل المسلم ما تعيشه الأمة من تخلف، وما يعتور سيرها من عثرات ونواقص، بل يستحضرها في حسبانه، لكنه لا يقعد عندها نائحاً نادباً دون حراك وتطلع؛ إنه يُبعد هذه الحجارة عن طريقه ما دام نظره إلى أهدافه من ورائها سائراً إلى تلك الأهداف مزيلاً تلك الحجارة عن طريقه.
البيان: هل هناك مؤشرات حقيقية لهذا التفاؤل؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: إذا تجاوزنا القاعدة الشرعية لموقف التفاؤل شعوراً بعدل الله وحكمته في أمره، وبمعيته للمؤمنين، وبحربه لمن يعادي أولياءه الصالحين؛ فإن مؤشرات السنن الاجتماعية والمعطيات الواقعية إذا قُرئت من زاوية أوسع من الأحداث الفردية بانفعالاتها السريعة اشتعالاً وانطفاء، كلها تدعم التفاؤل بظهور الإسلام ونهضة المسلمين نهضة مرتكزة على الإسلام بصفته المبدأ الأرشد في إصلاح الأحوال وحل المشكلات والشهادة على الناس.
- إن تحولات الأمة إذا نُظر إليها عبر مسيرة قرن كامل أو نصف قرن أو حتى ربع قرن تؤكد التقدم نحو الأفضل في القرب من الإسلام وارتقاء مستوى الفقه فيه وبناء الحياة على مقرراته.
- إن انفتاح رواد الصحوة علماءً ودعاةً ومثقفين على عصرهم بروح الإسلام دون انبهار مُعمٍ، ولا استغلاقٍ انكماشي.
- إن سقوط رايات الكفر والضلال والشرود والاغتراب في العالم الإسلامي كله على المستويات الثقافية والسياسية.
- إن الاستثمار الراشد لمنجزات العصر في الدعوة إلى الإسلام والبناء الحضاري.
- إن التفاعل الإيجابي مع تداعيات العولمة السلبية والإيجابية.
- إن اعتراف أعداء الأمة ودينها بأن صحوتها الراهنة ليست محصورة في تدين شخصي، وإنما هي انبعاث حضاري بمشروع شامل ينبغي أن تُستنفر القوى الكبرى لمواجهته.
- ثم إن إحسان المواقف تجاه هذه التداعيات العولمية والاستفزازات والتضييق، وضبط النفس وتلمس بدائل ممكنة للأبواب التي تغلق تجاه الدعوة وحركة النهوض.
كل ذلك يمثل مؤشرات للتفاؤل والاستبشار والآمال التي ينبغي أن تحفز على الحركة والتواصل وتقوية الذات أكثر فأكثر. إن وجود معوِّقين ومخذِّلين وأُجَراء لأعداء الأمة حتى أحياناً باسم الدعوة والغيرة على الدين، وإن وجود متطرفين يقفزون فوق سنن الله في التغيير الاجتماعي، ونحو ذلك لا يمثل عامل إحباط يُسقط تلك المؤشرات؛ خاصة ونحن نشهد أن مثل هؤلاء أصبحوا شذوذاً عن مسيرة الصحوة العامة محدودين في أعدادهم ومساحة التقبل لهم.
- د. عبد الله الصبيح: يقال دائماً «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» فالتصور الصحيح يؤدي إلى حكم صحيح، وما تحتاجه الصحوة من أجل إعادة التوازن في البناء ـ في نظري ـ هو إعادة بناء تصوراتها المعرفية بناء صحيحاً؛ وهذا يقتضي وجود تكامل معرفي يحتوي على مجموعة من المعارف: الشرعية، والفلسفية، والاجتماعية، والاقتصادية. في الماضي كان ما يدرسه الفقيه في المتن الفقهي هو ما يمارسه الناس في الواقع أو قريب منه؛ أما الآن فلم يعد المتن الفقهي الذي يدرسه الطالب يمثل مرجعية للسلوك في كثير من شؤون الناس، وأصبحت المعارف الأخرى بل تجارب الشعوب الأخرى تمثل مرجعية للسلوك أكثر من كتاب الفقه. والفقيه كي يعدِّل سلوك الناس ويحكم على الواقعات التي يراها أمامه لا بد له من معرفة بهذه العلوم والمعارف التي تؤثر في سلوك الناس.
والتكامل المعرفي يكون بإعادة بناء مناهجنا الدراسية في الأقسام الشرعية والأقسام الاجتماعية على حد سواء، وإذا لم يتحقق ذلك فلا أقل من إقامة ندوات مشتركة يشترك فيها أصحاب التخصص الشرعي مع نظرائهم من أصحاب التخصصات الأخرى، وهذه الندوات سوف تثري الطرفين بلا شك، ويطلع كل فريق على ما خفي عليه مما يعلمه الطرف الآخر.
البيان: كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية الموجودة عند عامة المسلمين، والتقلل من آثار الارتباك التي أشرنا إليها في أول الندوة؟
- د. ناصر العمر: لعلِّي أركز على أبرز الأسباب التي توقع في الهزيمة النفسية، فمنها:
الفتور، الانقطاع عن الطريق، اختلاف القلوب، تنقّص العلماء والحكماء، الانتكاسة والعياذ بالله، الاستسلام للعدو، ذهاب ريح الأمة، كل هذه الأسباب توصل في النهاية إلى الهزيمة النفسية إذا وقعت، فتجنب هذه الأشياء بكاملها، وتصور عقبات الطريق كل ذلك ينقذ ـ بإذن الله ـ من هذا الأمر؛ ومن هنا فإن الأسباب التي تنجي، وتكون حصانة وعلاجاً ألخصها فيما يلي:
أولاً: فهم القرآن: إننا لم نُعطِ القرآن حقه الواجب من الفهم والتدبر، ولا شك أن للقرآن تأثيره الإيجابي في التخلص من كثير من الأمراض والآفات الحسية والمعنوية؛ ففهم القرآن هو المنجي بإذن الله والمخلص، بل أكاد أجزم أنه مانع بإذن الله من الهزيمة، والآيات صريحة في توضيح هذا الأمر، مثلاً: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] ، هذا نموذج للخلاص من الهزيمة النفسية.
ثانياً: سيرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم - وسير الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ: فالذي يدرس سيرة الأنبياء يتعجب، مع ما مروا به من أحوال قاسية وظروف صعبة يلحظ أنه لم تمر بهم الهزيمة النفسية أبداً في حياتهم؛ فدراسة سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم - وسيرة الأنبياء الثابتة في القرآن والسنة هذه أيضاً تخلِّص من الهزيمة، وكلمةُ تخلِّص تتضمن المعنيين: عدم الوقوع، والنجاة إذا وقعت.
ثالثاً: سِيَر المجددين والمصلحين: وهذا أيضاً مهم جداً؛ لأن المجددين والمصلحين ليسوا أنبياء، ومع ذلك نرى كيف واجهوا ذلك ونقلوا الأمم من واقع إلى واقع، ولو أنهم استسلموا للهزيمة النفسية لما أصبحوا من المجددين، وما أثروا في تاريخ الأمة.
رابعاً: أيضاً من أبرز ما يحتاج أن يربى عليه الناس عدم الاعتماد المجرد على المظاهر المادية؛ فالإشكال أن أكثر ما يوجِد الهزيمة النفسية هو التعامل المباشر مع المظاهر المادية دون الرجوع إلى السنن الكونية والكتاب والسنة، فلا شك أنها تؤثر؛ فالأحداث الجارية صباح مساء مؤثرة في حياة الناس؛ إذن عدم الاعتماد عليها فقط وفهم وإدراك هذه الأحداث يساعد بإذن الله.
خامساً: فهم الواقع على حقيقته دون مبالغة، والتعامل معه بفقه ووعي، كل هذا يخلص بإذن الله.
وأركز هنا على ضرورة أن تكون الدعوات مبنية على أصول شرعية ثابتة وهي أصول الكتاب والسنة؛ فإذا كانت الدعوات مؤصلة فإنها لا تنهزم ولا تهتز، كالبناء الذي له أسس قوية جداً، أما إذا كانت هشة ضعيفة فهي عرضة للتبديل والتغيير، والله أعلم.
البيان: ذكرتم فضيلة الشيخ! سِيَر الأنبياء والمجددين والمصلحين؛ فهل ثمة تجارب من التاريخ أو من الواقع المعاصر يمكن من خلالها أن نستثمر تلك التجارب وتعيننا في تجاوز الأزمات التي يمكن أن تحدث في المستقبل؟
- د. ناصر العمر: أبرز التجارب المعاصرة لدينا تجربة أفغانستان، ويجب أن ننظر إليها من الزاوية الإيجابية. لما دخلت روسيا بجبروتها وقوتها وغطرستها إلى أفغانستان؛ فإن الذين يتعاملون مع المادة يرضون بالهزيمة، وقد يستسلمون مباشرة وحدث هذا، لكن الذين تعاملوا بأسلوب آخر وأعلنوا الجهاد الحقيقي في حينه ماذا حدث بسبب ذلك؟ كما تعلم ما هي إلا سنوات معدودة ـ اعتقد أنها قصيرة جداً ـ في عمر الزمن حتى تداعت الأمة إلى الجهاد مع حداثة التجربة، ومع أن الأمة منقطعة لفترة طويلة عن الجهاد، وما يجري في فلسطين لم تشارك فيه الأمة من خارج فلسطين إلا قليلاً، مع ذلك انظر كيف كانت النتائج؟ أما ما حدث من سلبيات بعد ذلك فمسألة أخرى ليست مقصودة في حديثي، ولم يستثمر هذا الانتصار في أفغانستان واستغله الأعداء. وقد تحقق في قضية فلسطين انتصارات ضخمة مع أن العالم تقريباً يكاد يُجمع ـ حتى من داخل الدول العربية وغيرها ـ ضد المسلمين وضد المجاهدين، ومع ذلك فالانتصار ظاهر وبارز. بالأمس القريب كنت أنظر إلى محاولة اليهود اقتحام المسجد الأقصى، وفجأة نجد هذا الحشد الهائل بعشرات الآلاف من الفلسطينيين مع قوة الضربات، ومع شدة الأزمات، ومع الظروف المعيشية ومع التعذيب ومع التنكيل، ومع ذلك كله نلحظ القوة والسيطرة وتراجع العدو في أماكن كثيرة.
يكفي أن أقول كلمة واحدة: إن الصوت الأعلى هو صوت الجهاد ضد تلك المؤامرات، بل حتى في العمل السياسي عندما أجريت الانتخابات البلدية الفلسطينية، حصلت حماس على 70% تقريباً، مع أننا لا نسلِّم بنزاهة الانتخابات تماماً؛ فكيف لو كانت نزيهة؟
في المشهد العراقي مثال آخر؛ لما دخلت أمريكا للعراق ما كان أحد يتصور أن يصمد الشعب العراقي هذا الصمود، الآن أمريكا في مأزق لا يُشَك فيه.
وهذا الثبات بحد ذاته انتصار عظيم، وعدم استسلام المصلحين لروح الهزيمة هي البداية القوية للنصر. قارن بين ما يحدث في العراق خلال السنتين الماضيتين وبين أيام التتار عندما استسلم الناس وهُزموا نفسياً!
إن هذه الأمثلة من أعظم التجارب. أيضاً تجربة البلقان وما حدث فيه يؤكد هذه الحقيقة.
إذن هذه تجارب واضحة وقوية لم يستسلم أصحابها للهزيمة النفسية أبداً؛ مع أن كل الأدلة الظاهرة المادية قد تدعو إلى مثل ذلك.
وأؤكد أن من أعظمها وأبرزها لديَّ قضية فلسطين، ولا تزال وستظل بإذن الله أنموذجاً حياً حتى يتحقق الانتصار الحاسم.
- د. عبد الله الصبيح: جواباً على سؤالك: «كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية الموجودة عند عامة المسلمين والتقلل من آثار الارتباك؟» أقول: قد ذكرت في مطلع حديثي عن الهزيمة النفسية أن لها صورتين: الأولى: هي هزيمة الذات أمام المبدأ. والثانية: هي هزيمة المبدأ أمام الواقع. وعلاج الصورة الأولى يكون بالتربية الإيمانية، والتربية على الزهد في الدنيا. وعلاج الصورة الثانية يكون بأمور:
الأول: بالتكامل المعرفي، والجمع بين الثقافتين الشرعية والمدنية.
الثاني: بتجاوز صدمة الانبهار أمام الواقع؛ فبعض الأساليب التربوية تحول بين الفرد والاتصال بالواقع ومعايشته، ويصور له بأنه شر وفساد؛ فإذا واجه الشخص الواقع فربما اكتشف أن الواقع ليس كما صُوِّر له، أو يكتشف أن أدواته عاجزة عن التعامل مع الواقع الجديد، فيشعر بالانبهار، وينهزم أمامه. ومعالجة هذا بتربية الفرد على مواجهة الواقع والتعايش معه بدلاً من العزلة عنه ثم مواجهته فجأة. إن المواجهة المستمرة المتدرجة مع الواقع تجبر الشخص على تطوير أدواته في التعامل مع واقعه والتكيف معه.
الثالث: الاطلاع على التجارب الناجحة التي استطاعت مواجهة الواقع وقدمت نماذج سليمة. إن توسيع المدارك بمعرفة بدائل عديدة من تجارب الشعوب سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة لا يجعل الشخص يشعر بالإحباط في مواجهة الواقع، بل يكبر عنده الأمل في التغلب عليه لما يعلمه من بدائل ناجحة.
البيان: لكن لو نظرنا إلى واقع بعض الناس فإننا نجد أنهم ينظرون إلى الجانب المحزن من هذه التفاعلات العالمية في الواقع المعاصر، وهذا ولَّد شعوراً بالإحباط عند بعض الناس.
- د. ناصر العمر: هذا يفسر ما قلته لك سابقاً. لا ينبغي أن نتعامل مع الحدث اليومي مباشرة بمعزل عن السنن الكونية والمنهج القرآني وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم -. فالذي يدرس سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم - يرى أنه مر بمكة في ظروف أقسى من التي نمر بها ونعيشها الآن. يقول الله ـ عز وجل ـ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] .
الذي يتعامل مع الجانب المادي والحدث اليومي فقط قد يحدث عنده شيء من الانهزام، وأما من يتعامل مع القرآن والسنن الكونية، مع الأخذ بالأسباب فإنه لا يشك ـ بإذن الله ـ في تحقيق نصر الله. لكن نؤكد على حكمة الله ـ جل وعلا ـ البالغة في جعل الأسباب مؤثرة في الحياة؛ فمثلاً: الخلاف والاختلاف بين الدعاة عوامل مؤثرة تؤخر النصر، وكذلك سوء الظن بالله ـ جل وعلا ـ من أبرز الأسباب التي تؤخر النصر؛ وفي هذا الأمر يقول ـ تعالى ـ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] .
ولذلك لو أن الناس تلافوا الأسباب التي هم واقعون فيها واجتهدوا في هذا الأمر؛ فإن النصر سيكون أقرب مما يتصورون. قد يقول قائل: الناس الآن لم يتلافوا هذا الأمر؛ فمعناه أن الهزيمة قد وقعت. هذا غير صحيح، بل الانتصار قائم الآن ولله الحمد، والمناطق الساخنة في العالم مثل فلسطين، العراق، الشيشان، نموذج لذلك.
إذن نحن نتعامل مع نصوص الوحي ونتعامل مع الأسس والقواعد والسنن الكونية، ولا نتعامل فقط مع مجرد الحدث اليومي، مع أهمية مراعاة الحدث اليومي؛ فقد جعل الله ـ جل وعلا ـ له أساساً في الانتصار. قال ـ تعالى ـ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ، ولكن يراعى في حدود، ولكن لا يعني الاستسلام كما قال ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] .
البيان: لكن هل هناك مؤشرات حقيقية لهذا التفاؤل. نحن نؤمن بأن النصر قادم وبأن العاقبة للمتقين، لكن هل يمكن أن يتحول هذا الفأل الحسن إلى واقع تعيشه الأمة؟
- د. ناصر العمر: نعم! يمكن، بل هذا هو الذي يجب أن يكون، وهذا دائماً أطرحه باسم التفاؤل الإيجابي، وهو أن يتحول التفاؤل الذي تطرحه الألسنة وتتلقاه الأسماع والقلوب إلى برامج عملية، مع ما أشرت إليه سابقاً بعدم الاستسلام للهزيمة مهما كانت النتائج.
التفاؤل الإيجابي ليس تحقيقه مرتبطاً بتحقق النتائج المباشرة؛ إنما يتحقق بإيجاد التفاؤل الإيجابي الدافع للعطاء، وبهذه المناسبة أوضح هذا المفهوم؛ لأن بعضاً قد أخطأ في فهمه للتفاؤل. فالتفاؤل هو مقدار تحقق التزام الدعاة بالمنهج الذي أنزله الله ـ سبحانه ـ سواء التزم به الناس أو لم يلتزموا؛ فثبات الدعاة وثبات المصلحين على مناهجهم مهما كان الأمر يعتبر انتصاراً، وأعطي دليلاً يؤكد هذه الحقيقة؛ فقد بينت قبل سنوات في كتاب (حقيقة الانتصار) أن الله ـ جل وعلا ـ قال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] ؛ فبعض الأنبياء كما في الحديث الصحيح لم يؤمن معه أحد، وبعضهم آمن معه رجل واحد فقط، مع أن الله ـ تعالى ـ قال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] ، ليس فقط في الآخرة ويوم يقوم الأشهاد، بل في الدنيا. إذن مفهوم النصر والهزيمة في أذهان كثير من الناس خطأ، لأنه يتعامل مع الواقع المادي فقط، وهذا خطأ، والصواب أن ثبات الداعية وثبات النبي والرسول وثبات المصلح والمجدد على مبدئه ومنهجه هو الانتصار بذاته، وهو أعظم الانتصارات.
أيضاً لفت نظري في سورة القصص قوله ـ تعالى ـ والخطاب لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] ، بعد ذلك جاءت قضية السحرة؛ والقول الراجح أن فرعون قتلهم ومع ذلك فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، والسحرة ممن اتبع موسى وهارون؛ إذن وهم قتلوا فأين الغلبة؟ الغلبة أنهم ثبتوا عندما هددهم فرعون بالقتل، وكان جوابهم له كما في سورة الشعراء، وطه: {قَالُوا لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] ، وأيضاً في السورة الأخرى: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] .
كل الآيات تدل على أنهم ثبتوا على منهجهم إلى آخر لحظة، سواء أكان فرعون نفذ تهديده أم على القول الآخر أنه لم ينفذ، لكن الراجح أنه نفذ، وهذا الذي يدل عليه سياق الآيات، ومع ذلك ثبتوا، ولهذا يعتبر هذا انتصاراً عظيماً كما قال ـ تعالى ـ: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] ؛ فهذه هي الغلبة في الحقيقة.
على مدار التاريخ نجد أن حاكماً أو غيره يقتل مصلحاً لكن القاتل يشعر في داخله أنه هو المغلوب، ويشعر أن المقتول هو المنتصر، وأقوى دليل على ذلك قصة أصحاب الأخدود أنهم كلهم قتلوا ومع ذلك فهذا انتصار عظيم: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11] .
لو أننا تعاملنا مع هذه الحقائق لما كان لليأس مكان. إذن التفاؤل الإيجابي هو تفاؤل النبي -صلى الله عليه وسلم - حيث كان يربي في أصحابه التفاؤل، لكنه كان يعمل، وكان يجتهد، وكان يستحثهم على العمل والإنجاز.
هنا أختم بكلمة: لا أعرف فترة خلال السنوات الماضية مرت بها الصحوة من الانتشار والقوة والمكانة والتمكن كما هي اليوم، ومع ذلك لو أن كل واحد من هؤلاء الدعاة أو كل مجموعة دعوية قامت بمشروع إيجابي عملي لتغير واقع الأمر لانتصرت الأمة، لكن مع الأسف نميل للنقاش والجدال والخصومة وخدمة الأعداء من حيث لا نشعر.
وأخيراً: وجدت تلازماً بين تفاؤل النبي -صلى الله عليه وسلم - وبين اشتداد الأزمة؛ فإذا اشتدت الأزمة على محمد -صلى الله عليه وسلم - وجدنا أنه أكثر الناس تفاؤلاً، وهذا واضح في كل سيرته، بل وجدت في القرآن تلازماً بين الشدة والفرج، والعسر واليسر. إذن فالشدة التي يجدها بعضهم طريقاً للهزيمة النفسية، أو دليلاً عليها، اعتبرها من أكبر أدلة التفاؤل؟ لأن الانتصار يأتي بعدها إذا أخذت الأمة بأسبابه، وكانت إيجابية، وكانت عملية، ولا أشك في تحقق هذا، وأقوى مثال عندي قضية فلسطين؛ فلو خُلّي بين الأمة وبين عدوها في فلسطين ما لبث اليهود إلاَّ قليلاً، هذه قناعتي، لكن مع الأسف الواقع غير ذلك.
- د. عبد الله الصبيح: هناك عدد من العوامل مرتبطة بنظرة التشاؤم هذه التي تتحدث عنها منها:
1 - النظر إلى الجانب المحزن والنظر إلى الجانب الإيجابي من واقع الأمة هو نتيجة للتربية التي يتربى عليها الشخص؛ فإذا كان المنهج التربوي يتصيد الأخطاء عند الأمة والمصائب التي تمر بها، ويتربى على نظرية المؤامرة؛ فإن النتيجة هي الشعور بالإحباط أو الثورة على الأمة والتغيير بالقوة.
2 - النظرة المثالية التي يتربى عليها بعض الناس ويريد الأمة أن تكون عليها. إن الذي يجب أن نعلمه أن الفساد والضعف حدث في الأمة متدرجاً عبر عشرات السنين، بل مئات السنين، وليس نتيجة يوم وليلة؛ إنه لم يحدث فجأة وحاشا لله أن يقع فجأة؛ وزواله لا يكون فجأة، بل لا بد من التدرج في إصلاحه. ولهذا لا بد أن يتربى الشباب على الواقعية في الإصلاح، فيُسَرَّ بالإصلاح الجزئي ويشارك فيه ويسعى لما بعده من الإصلاح ويطالب به. أما أن يرفض كل خطوة نحو الإصلاح؛ لأنها لا تحقق ما يسعى إليه من الصورة المثالية التي في ذهنه؛ فهذا سوف يفضي به إلى النظرة التشاؤمية واليأس في صلاح الأمة؛ وربما ينتج عن هذا هزيمة نفسية، وهي هزيمة المبدأ أمام الواقع الذي أشرت إليه من قبل.(215/16)
مصر الجائزة (2)
د. عبد العزيز كامل
رياح التغيير
مشاريع بلا مشروعية.. ومشروعية بلا مشاريع
لأول مرة بعد انتهاء العهد الاشتراكي في مصر، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية راغبة في إجراء تغيير حقيقي في ذلك البلد، وهو ما يدخل ضمن التوجه نحو التغيير الجذري في المنطقة كلها. والتغيير الذي ترمي إليه الولايات المتحدة قد لا يكون عاجلاً، ولكنها تريده شاملاً ومفتوحاً على النواحي السياسية والثقافية والإعلامية والتعليمية. وقد وقع الاختيار على مصر ـ كما تشير التطورات والتصريحات ـ لتكون محوراً لبناء نظام عربي جديد، يتواءم مع النظام العالمي الجديد، القائم على هيمنة أمريكية على المستوى الدولي، وهيمنة إسرائيلية على المستوى الإقليمي.
وهذا التغيير، لن يكون كله بالضرورة في ظل المرحلة الراهنة، بل إن المؤشرات تشير إلى توجه نحو إنشاء أو تقوية جهات أو منظمات أو أحزاب علمانية أو ليبرالية جديدة تقبل التعامل المباشر مع الأوامر العليا والتوجهات الخاصة للولايات المتحدة، دونما تحرج أو استحياء. وهناك العديد من منتديات وفعاليات العمل السياسي، تعرض نفسها للقيام بهذا الدور، وقد تشجعها أكثر تلك الإشارات التي بعثت بها الولايات المتحدة عن طريق وزيرة خارجيتها كوندليزا رايس، حيث طلبت من لجنة بالكونجرس الأمريكي أن تدرس تحويل المعونة الأمريكية السنوية التي تتسلمها الحكومة المصرية منذ إبرام معاهدة السلام مع (إسرائيل) والبالغة ملياري دولار، إلى منظمات المجتمع المدني والفعاليات السياسية المتطلعة إلى التغيير، وهو ما سيدفع ـ إن حدث ـ تلك الأحزاب والمنظمات المدنية إلى التنافس فيما بينها لاسترضاء أمريكا لأجل الحصول على حصتها من هذه (المعونة) .
إلا أن التغيير المرجو عن طريق تبني قوى جديدة، قد يستغرق وقتاً؛ ولهذا فإن الخيارات الأمريكية تظل محدودة في الوقت الحاضر، وهو ما يفسر التضارب بين إشاراتها بتبني هذه الجهة أو تلك، في المرحلة الحالية.
وأياً كانت الرهانات الراهنة للموقف الأمريكي؛ فإن الولايات المتحدة تريد أن تضمن استمرار وتطوير مصالحها التي ظلت تجنيها منذ التحول المصري إلى المعسكر الغربي بعد حرب أكتوبر 1973م، وإبرام معاهدة السلام مع الدولة اليهودية. وهذه المصالح تتلخص في:
1 - الحفاظ على نظام علماني خالص، قوي أمنياً، وضعيف اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، بما يضمن بقاء مصر بعيدة عن احتمال التحول إلى طليعة نهضة إسلامية أو عربية من أي نوع: اقتصادي أو سياسي أو عسكري أو حتى اجتماعي.
2 - استمرار الأوضاع الضامنة لأمن (إسرائيل) ، بحيث لا تصل أي قوة إلى السلطة تنقض ما فرضته الولايات المتحدة من (سلام) ثنائي راهنت أمريكا ـ ولا تزال ـ على تحويله إلى استسلام عام يحول دون الوقوف أمام مشاريع الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية.
3 - الإبقاء على الدولة المصرية، شريكاً فعالاً في حرب أمريكا العالمية على ما تسميه بالإرهاب، وهي الحرب التي يُنتظر من النظام القادم في مصر ـ أياً كان ـ أن يقوم بدور بارز فيها على المستوى الإقليمي لفترة ربما تطول، لشمول هذه الحرب، وكونها تستهدف تغييراً عميقاً في بنية الشعوب العربية، لا يقوى على التعاون الفعال فيه إلا بلد مؤثر كمصر.
4 - استمرار الاستفادة من إمكانات مصر الاستراتيجية، جغرافياً وعسكرياً لخدمة مشروعات الهيمنة العالمية لأمريكا، والإقليمية لـ (إسرائيل) .
5 - ضمان الإبقاء على حالة العجز والوهن العربي والإسلامي الراهن، الناتج عن عزل دول الريادة ـ ومنها مصر ـ بعضها عن بعض، وإشغالها بهموم داخلية وقضايا هامشية تأخذها بعيداً عن أي تحرك فاعل تجاه أي تطورات جادة تطرأ في المنطقة في المستقبل المنظور: (السودان ـ سوريا ـ لبنان ـ ليبيا ـ دول الخليج ـ اليمن) .
ولكن أكثر الناس في مصر ـ فيما يبدو ـ تستغرقهم تفاصيل اللحظة، وربما غاصوا في فرعيات وجزئيات تلهيهم عما وراء التحرش الأمريكي الذي تحركه نوازع الهيمنة الإمبراطورية التي تضع مصر في قلب حركة التغيير ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو المشروع الذي لن يقوم إلا على ذلك التحالف غير المقدس، بين العلمانيين وأعداء المسلمين.
- العلمانية في المشهد المصري الراهن:
ألقت مأساة غزو العراق أول حجر في البِِركة السياسية الراكدة في مصر، مثلما ألقتها في بِرك عربية عديدة أخرى، حيث حركت تلك المأساة الضمائر وأيقظت المشاعر ليتساءل الناس: ما الذي أوصلنا إلى هذا الدرك الوضيع..؟ وما السبب في تتابع الهزائم في ظل أنظمة جاءت لأجل التحرر والاستقلال؟ وهل هذه الأنظمة مستقلة حقاً؟.. وهل كانت مشاركتها في صنع هذا الهوان مشاركة اضطرار أم اختيار؟! وهل كانت كلها في غفلة نائمة ... أم أن بعضها كانت في يقظتها خائنة؟ وهل استفادت واعتبرت.. أم أنها تمادت واغترت؟! هل هناك متسع للتدارك والإصلاح والتغيير ... أم كل ذلك لا يُنتظر إلا على يد الغير؟!
وقد أضافت ضغوط المشكلات في الداخل ـ في مصر وغيرها ـ جرعات من الشعور بالضيم تجاه التحديات من الخارج، فأصبحت كل التساؤلات تؤول إلى التنادي بالتغيير والتطلع للإصلاح. وصادف هذا تنادياً وتطلعاً أمريكياً إلى «الإصلاح» والتغيير، ولكن وفق برامج معادية في أجندة مغايرة، عرف الجميع الآن معالمها الرامية إلى تغيير القيم وتوطين الوهن.
ولكن طرفاً ثالثاً وجد في شعار الإصلاح والتغيير مناسبة سانحة للقيام بدور ما، وهذا الطرف هو قوى العلمانية المهمشة، التي لم تجد طريقها بعد إلى القوة والسلطة، وهى قوىً؛ بعضها هرمة تجاوزها الزمن، وبعضها فتية تراهن على تقلبات الزمن. وبين هذه وتلك، لا يكاد المرء يرى اهتماماً بما وراء شعارات الإصلاح والتغيير الأمريكي ـ مما سبق ذكره ـ ولا يكاد يسمع حديثاً عن الهوية المستهدفة لهذه الأمة باسم ذلك الإصلاح والتغيير وهي الهوية الإسلامية.
في مصر الآن 21 حزباً رسمياً، ونحو 15 حركة سياسية غير رسمية، كلها تنادي بالتغيير والإصلاح، والغالب عليها كلها، أنها ذات منطلقات علمانية، ليبرالية أو يسارية أو ناصرية أو قومية أو شيوعية، وكلها ـ باستثناء حزب العمل والإخوان المسلمين ـ يعملون للوصول إلى السلطة القادمة أو المشاركة فيها لصنع المتغيرات، بنَفَس علماني، وفكر لا ديني، مع أن هذا التيار العلماني يعلم علم اليقين، أنه مجرد «تيار» يسير عكس طوفان بشري لا يزال مخلصاً لدينه، متشبثاً بشريعته، راغباً في حمايتها والحياة تحت مظلتها، غير رهَّاب من إرهاب الحرب الأمريكية، ولا هيَّاب من مواجهة خطتها التغييرية الشريرة التي تستهدف فرائض الشريعة وثوابت العقيدة وأمهات القيم والأخلاق، إضافة إلى استهداف كل ثمين وغالٍ قي الثروات والمقدرات.
إننا أمام منظومات فكرية علمانية جديدة، لا ندري ماذا ستفعل في المرحلة المقبلة، إلا أننا نعلم أن أمثالها درج على امتداد عقود متطاولة مضت ـ في مصر وغيرها ـ على احتكار السلطة، والاستئثار بالثروة، والانتداب لتحديات ليست لها ولا أهلها، مع إصرار فظيع على (نفي الآخر) إذا كان إسلامياً، وعدم القبول بـ (التعددية) مع أي توجهات دينية، وهي منظومة طالما مارست (الإرهاب) بكل معانيه الجسدية والنفسية والفكرية، مع كل الاتجاهات الإسلامية، التي لم تحظ يوماً بكامل (حقوق المواطنة) أو أقل فرص (حرية التعبير) أو أدنى حدود التمتع بما تكفله ـ حتى الدساتير العلمانية ـ من حرية تكوين الأحزاب وإنشاء الجمعيات والمنتديات والصحف والمجلات.
ونحن أمام حراك حقيقي في مصر، ولكنه قد يكون حراكاً نحو مزيد من الخصومة بين الدين والسياسة، ومن ثم بين السياسة ومصالح الأمة، إذا استمر هذا الحراك على صورته الحالية، شبه الخالية من المشروعات التغييرية الإسلامية التي تعكس القدر الحقيقي لثقل مصر الإسلامي.
إن الليبراليين والعلمانيين ـ في مصر وغيرها ـ أصبحوا من حيث يدرون أو لا يدرون، واقفين في خندق واحد مع الموقف الأمريكي المعادي للأمة، والذي ينطلق من رؤى هنتنجتون وفوكوياما، وبرنارد لويس التي تعد الإسلام هو «الأيديولوجية» الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه المنظومة الفكرية الغربية في صيغتها وصبغتها الإمبريالية الأمريكية. وهؤلاء الليبراليون والعلمانيون الذين ينحازون اليوم إلى المنظومة الفكرية الغربية في تجلياتها الأمريكية، لن يجدوا تجسيداً لهذا الانحياز إلا بالوقوف في وجه التوجهات الإسلامية نحو العودة إلى الهوية؛ ذلك أن مناطحة الإسلام اليوم ـ كما كانت بالأمس ـ تسير على محورين: أحدهما: محاولة الإخضاع السياسي والأمني، وهي ما أسمته أمريكا الآن (حرب الإرهاب) . والثاني: هو محاولة الاختراق الفكري والقيمي، عبر ما أسمته أمريكا أيضاً (حرب الأفكار) .
لا شك أن هناك طوائف وطوابير لن تتردد في الوقوف خلف برامج الحرب الأمريكية، بشقيها، دون أدنى تحرج أو حياء (كما حدث في أفغانستان والعراق) ، وهنا سيحتاج الأمر إلى رفع شعارات خادعة، تتغنى بالإصلاح وتمني بالتغيير.
- العلمانيون و «الإصلاح» : إجماع المختلفين:
بالرغم من أن الغرب يصنف مصر ضمن النظم العلمانية، وبالرغم من أن الممارسات القولية والعملية منذ إلغاء المحاكم الشرعية عام 1954م لا تنفي ذلك؛ فإن هناك جيلاً من العلمانيين غاضب على ما يعتبره مسلكاً مهادناً للدين؛ فهم يريدونها علمانية متطرفة تعلن الحرب على الدين ولا تتسامح مع نشاط المتدينين، كعلمانية أتاتورك أو عبد الناصر.
ومن العجيب أن الأطياف العلمانية في مصر، تختلف فيما بينها حول أمور جوهرية كثيرة، إلا أنها تكاد تتفق على استبعاد الإسلام من أي برنامج إصلاحي.
وفي الأجواء المحمومة المنادية بالتغيير في الآونة الأخيرة، انبرى الشيوعيون اليساريون الذين يحظون دون الإسلاميين بحزب رسمي معترف به للآن في مصر الإسلام؛ للمناداة بـ (الإصلاح) وأصدروا في ذلك مبادرة تتضمن ستة بنود: ثلاثة منها تتعلق بقضايا: (تجديد الخطاب الديني) و (حقوق النساء) و (التجديد الثقافي) والباقي عن الإصلاح السياسي والاقتصادي والعلاقات الدولية. وحديثهم عنها ـ لمن تأمل ـ هو مجرد صدى شيوعي مهزوم، لدعوات الإصلاح الأمريكي المزعوم.
وما يهمنا هنا من هذه المبادرة، هو البنود الثلاثة الأولى، حيث يتساءل المرء: ما عسى أن يكون «الإصلاح» الشيوعي في قضايا مثل: تجديد الخطاب الديني، وحقوق المرأة، والتجديد الثقافي؟! وهم الذين أجرموا في حق الأمة ـ في مصر وغيرها ـ بشأن تلك القضايا على وجه الخصوص؛ إنهم ـ وفيما يتعلق بتجديد الخطاب الديني ـ ينادون بـ «تجديد المضمون الديني» نفسه لكي يصبح ـ كما تنص مبادرتهم ـ قادراً على تنشيط الاجتهاد الإنساني في تفسير وتأويل النصوص. وينادي اليساريون أيضاً بـ «حرية العقيدة» التي تعني عندهم: «رفض أي تمييز على أساس الدين» وتعني: «التمسك بالطابع المدني للنظام والحكومة المدنية و (التشريع المدني) وهو ما يعني صراحة: استبعاد الدين عن النظام والحكومة والتشريع؛ فهذا هو المقصود بتعبير (المدني) في الخطاب اللاديني، وكأن هذه المعاني غائبة حتى يطالبوا باستدعائها.
أما بالنسبة لما وصفوه بـ (حقوق النساء) فإن اليساريين ـ باسم الإصلاح ـ ينادون بتنقية قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية (الوضعية) وكذلك تشريعات الأحوال الشخصية مما أسموه بـ «قيم الثقافة الرجعية المعادية للنساء» !
وينعى اليساريون الطامحون إلى حكم مصر أو المشاركة في حكمها من جديد، على من وصفوهم بـ «الظلاميين المتسترين بالدين» أنهم ينظرون إلى المرأة على أنها عورة، في مقابل نظرة «الانفتاحيين» من غير الشيوعيين، الذين ينظرون إليها على أنها سلعة. وفي الحالتين ـ كما تقول المبادرة ـ يجري قهر المرأة معنوياً وجسدياً وقانونياً. وتخلص المبادرة إلى ضرورة مساندة الحركة النسائية المصرية، من أجل: «تعديل فلسفة التشريع» وإصدار قانون جديد يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث وفي المناصب العامة، بما فيها بالطبع، الولاية العامة!
أما في المجال الثقافي، فهم ينادون ـ في لمز واضح بالصحوة الإسلامية ـ بتضييق الفجوة بين النخبة المبشرة بالعقلانية والمنهج النقدي، وبين القاعدة الشعبية، ويطالبون بالحد من «ثقافة التخلف» التي روجت لها «مطبوعات الرصيف الرخيصة» وكذلك: «ثقافة التعصب والكراهية التي شقت لنفسها مجرى عميقاً في نسيج المجتمع» . وطالب اليساريون بوضع خطة شاملة لمقاومة ما أسموه «ثقافة التخلف» ونقد ومواجهة «كل ما هو قائم على تخلف ورجعية، بفضح آلياته، وخاصة في وسائل الاتصال الجماهيري» ونادوا برفع «كل الخطوط الحمراء» عن حرية الثقافة والإبداع الأدبي والفني والعلمي. والسؤال هنا: هل هذه مبادرة إصلاحية، أم جولة «إعادة» ثأرية مع الصحوة الإسلامية؟ وما الفارق بين هذه البرامج والشعارات الشيوعية، وبين ما تطرحه برامج «الإصلاح» الأمريكية..؟!
لم ينسَ الشيوعيون واليساريون الذين تجاوزهم التاريخ وقزَّمتهم الجغرافيا، أن يُضمِّنوا خطتهم للإصلاح أطروحات وشعارات «ثورية» ، تحاول تذكير الناس بأنهم شيء مختلف عن «عملاء أمريكا» ، مثل: دعم المقاومة.. تفعيل المقاطعة.. تطوير الجامعة العربية.. النهوض بالتنمية.. بعث (الوحدة) العربية.. إلخ، وهي كلها شنشنة نعرفها من أخزم، الذي ملك فأضاع.. وحكم فظلم.. وحارب فانهزم.
لا تزال لهؤلاء منابرهم (الرسمية) ولا يزالون ـ دون سائر الإسلاميين ـ مسموحاً لهم، بأن يمارسوا السياسة على أعلى مستوياتها، من خلال حزب وصحيفة ودعم حكومي.
هذا عن العلمانية اليسارية.
أما العلمانية الليبرالية (1) ، التي تحاول احتكار شعار (الإصلاح) ؛ فإن الليبراليين يعبِّرون عن هذا عن طريق نشاطهم الحزبي أو الفردي، وهناك خلافات بينهم؛ فمنهم من يعتقد أنه سيكون له الدور الرئيس في قيادة الدفة من خلال «الليبرالية الجديدة» التي تتبناها أمريكا الآن في العالم الإسلامي، وهناك من يعتقد ـ كحزب الوفد الليبرالي القديم ـ أنه صاحب أكبر تجربة علمانية حكمت مصر حكماً ليبرالياً في العهد الملكي.
وهناك تيارات علمانية أخرى مثل مركز ابن خلدون للدراسات، الذي يترأسه الدكتور سعد الدين إبراهيم. ولهذا المركز دور مشبوه تقف وراءه دون مواربة الولايات المتحدة الأمريكية؛ فهو يقوم بتكليف منها بتنظيم ملتقيات تهدف إلى إرساء ما أسموه (الإسلام التنويري) يشارك فيها مفكرون متهمون في دينهم، ويطلقون على أنفسهم وصف (الإسلاميين التنويريين) من أمثال سيد القمني، وجمال البنا، ومحمد شحرور، ومحمد عبد الكريم، وغيرهم؛ حيث تتركز طروحاتهم حول العديد من أفكار الزندقة الواضحة، كاللمز في الرسالة، والتشكيك في الوحي، والطعن في الصحابة، وتجهيل علماء الأمة، وتشوبه التاريخ، ويطالب هؤلاء بوضع أطر جديدة لما يوصف بـ (تجديد الفكر الديني) و (مراجعة التراث الإسلامي) ، ليكون ذلك فتحاً لباب «الاجتهاد حسب المتغيرات» . وتمخضت لقاءاتهم عن دعوات جريئة لـ «تغيير الإسلام» من الداخل، تطبيقاً لما جاء في تقرير (دولارات وعقول وقلوب) ، فصدرت عنهم دعوات مباشرة لإيقاف الجهاد وإلغاء الحجاب وحد الردة بدعوى (مناقضتها للشريعة) . ومن المشروعات الفكرية لسعد الدين إبراهيم إيجاد تيار إسلامي يقتصر على القرآن فقط دون السنة، وهو ما دعا إليه تقرير معهد (راند عن الإسلام المدني الديمقراطي) .
وقد أعلن سعد الدين إبراهيم نيته ترشيح نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004م، ولكنه تراجع بعد الشروط التعجيزية التي فرضها تعديل المادة 76 من الدستور، والتي فُرغت من مضمونها لضمان عدم إيجاد فرص لأحد من خارج الحزب الوطني للمنافسة في منصب الرئاسة.
ولا شك أن (نموذج) سعد الدين إبراهيم، أحد الخيارات الأمريكية في المرحلة المقبلة، وهو وإن تقلصت فرصته شخصياً في الرئاسة؛ فإن المجال مفتوح أمامه لتفريخ المزيد من الكوادر العلمانية القادرة على التأثير مستقبلاً من خلال ما يلقاه من دعم مادي ومعنوي لمركز الأبحاث التابع له.
وما يقال عن سعد الدين إبراهيم، يقال قريباً منه ـ من حيث النموذج ـ عن نوال السعداوي، التي أعلنت منذ مدة أنها سترشح نفسها للرئاسة، إلا أن أحلامها تبخرت، وبقي من ذاكرة هذه الأحلام أن الدستور المصري لا يمانع من أن يكون منصب الرئاسة لامرأة، لا تملك من مؤهلات الولاية الشرعية أي شرط!
وبالمناسبة فإن هذا الدستور لا يضع قيوداً على أن يتولى الرئاسة أشخاص معارضين صراحة وعلناً لشريعة الإسلام، من أمثال رؤساء الأحزاب اليسارية والشيوعية، الذين لا يمنعهم من التقدم لمنصب الرئاسة إلا قلة المؤيدين!
وقد برز في الآونة الأخيرة من بين الليبراليين اسم الكاتب الصحفي (أيمن نور) الذي استطاع بعد حصوله على الموافقة القضائية أن يؤسس (حزب الغد) منشقاً بذلك عن حزب الوفد العلماني الليبرالي القديم، وقد انفصل أيمن نور عن الوفد بعد وفاة زعيمه فؤاد سراج الدين، واختلافه مع الزعامة الجديدة للحزب، وقد انحاز إليه فريق من شباب حزب الوفد، وتصاعد نجمه بعد أن أعلن عزمه على الترشيح لرئاسة الجمهورية، ولم يجد الحزب الحاكم وسيلة للحد من لمعانه إلا باتهامه رسمياً بتزوير مئات التوكيلات لتأسيس حزبه، وبالرغم من أن هذه التهمة تقدح في (الشرف) الديمقراطي؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعاطفت معه بشكل رسمي؛ حيث تكررت تصريحات الخارجية الأمريكية بضرورة الإفراج عنه، وقابلته كونداليزا رايس خلال زيارتها للقاهرة، وكذلك تعاطف معه الاتحاد الأوروبي وعدَّه رمزاً من رموز الإصلاح في مصر؛ هذا مع أن كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صمتا صمت القبور عن اعتقال رموز إسلامية لمجرد الإعلان عن تنظيم مظاهرات سلمية، بل خرست كذلك عن مجرد التنديد باعتقال المئات بل الآلاف في بعض تلك المظاهرات التي سقط فيها قتلى.
قد يكون أيمن نور شخصاً عادياً لا يحمل مؤهلات الزعامة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر، ولكن متى كان الزعماء في بلاد العرب والمسلمين يحملون تلك المؤهلات في كل الحالات؟
لقد طرح أيمن نور شعاراً مضاداً لشعار الإسلاميين في مصر: (الإسلام هو الحل) .. فأطلق شعاراً مخالفاً هو (الليبرلية هي الحل) ! والوصف الرسمي لحزبه هو (حزب الغد الليبرالي) . ومن غريب اهتمامات أيمن نور أنه درس تفاصيل العمل الإسلامي، من خلال رسالته في الماجستير عن نشاط الجماعات الإسلامية في مصر، من عام 1980 إلى 1990م، وهو ما يجعله خصماً عليماً للإسلاميين، إذا ظل على عصبيته الليبرالية، وهو لا يخفي اختلافه الجذري معهم؛ فقد قال في لقاء مع صحيفة نيوزويك الأمريكية: «ليس بيننا وبين الإسلاميين شيء مشترك، ولن نشكل تحالفاً معهم» وقال: «إن الإسلاميين لن يصعدوا أبداً إلى السلطة في مصر، حتى لو كانت هناك ديمقراطية» !
وقد حرص على إدخال السرور على الأمريكيين بإسماعهم ما يحبون فقال: «إذا أصبحت رئيساً للبلاد، فسوف يتوقف المصريون عن الحديث عن المسائل التي لا تمت لمصر بصلة» وقال: «لقد أهدرنا 75% من وقتنا نتحدث عن العراق وفلسطين» !
أياً كان المستقبل السياسي لأبرز المنافسين في الرئاسة حتى اليوم ـ أيمن نور ـ فإن احتفاء الأمريكيين والأوروبيين به؛ يعطي إشارات لا ينبغي إغفالها عن المستقبل الذي تريده أمريكا لمصر، ومن ثم للعالم العربي كله.
- التغيير.. نعم.. ولكن!
إضافة إلى الواحد وعشرين حزباً رسمياً؛ يتتابع في الآونة الأخيرة الإعلان عن حركات عديدة تنادي بالتغيير، والقاسم المشترك بينها، أنها تريد تغيير الوجوه والسياسات التي (اكتفى) الناس منها في مصر، بعد نحو ربع قرن من الرتابة التي لا تلائم أبداً التسارع المذهل للتطورات في العالم على كل صعيد.
ولعل اتفاق غالبية الناس على هذا الاكتفاء، هو الذي أعطى للحركة المصرية من أجل التغيير المشهورة بـ (كفاية) ذلك القبول وتلك الشهرة داخلياً وخارجياً، فقد اختصرت في كلمة واحدة معانيَ تُملأ بها الصفحات وتطول البيانات، ولكن تلك الحركة مع ذلك لا تملك برنامجاً للتغيير، ولا تنوي أن تتحول إلى حزب، ولكنها مجرد ائتلاف من عدد من الأفراد المختلفين في التوجهات، على مطلب عدم التجديد أو التوريث. وقد اختارت الحركة (جورج إسحاق) أمين المدارس الكاثوليكية في مصر، منسقاً لها، وهي تضم في قيادتها أفراداً من اتجاهات شتى (ماركسيين ـ قوميين ـ ناصريين ـ نصارى ـ مستقلين ـ إخوان مسلمين ـ منشقين عن الإخوان المسلمين) ، وهو ما يدل على عدم وجود انسجام فكري بينهم، ومن ثم فلا برنامج لهم إلا مجرد الرغبة في التغيير.
في النهاية لن تكون حركة كفاية ـ رغم صوتها العالي ـ إلا مجرد صرخة أُطلقت في وادي الصمت، أو حجر أُلقي في بِركة الركود، ولهذا تتابعت بعدها الحركات المطالبة بالتغيير وتداول السلطة واستقلال القضاء وتعديل الحياة الحزبية وإلغاء القوانين الاستثنائية، فأُعلن عن حركة: (صحفيون من أجل التغيير) و (أطباء من أجل التغيير) و (المنظمات المدنية من أجل التغيير) و (شباب من أجل التغيير) و (مهنيون من أجل التغيير) و (فنانون من أجل التغيير) ، و (الحملة الشعبية من أجل التغيير) .
ثم نشأت تحالفات بين بعض الأحزاب والحركات، منها: (التحالف الوطني من أجل الإصلاح) وهو تحالف دعا إليه الإخوان المسلمون، وهدفه ممارسة الضغط السلمي للاستجابة لمطالب الإصلاح، وقد رفضت أغلب الأحزاب الرسمية الاشتراك في هذا التحالف إلا بتمثيل شخصي من بعض أعضائها، دون الانضمام بصفة حزبية رسمية، وأصبح مفهوماً أن التباعد العلماني يهدف إلى إضعاف هذا التحالف الذي جاء بمبادرة من طرف إسلامي، وهو ما يؤشر إلى استنكاف غالبية العلمانيين عن مجرد التعاون في المتفق عليه مع الإسلاميين، وهو ما يثير الشك في جدوى الدعوى التي دعا إليها الكاتب المشهور (فهمي هويدي) إلى ضرورة إنشاء (حلف فضول) بين الإسلاميين والعلمانيين!
ومن التحالفات التي أُعلن عنها مؤخراً أيضاً: (التجمع الوطني للتحول الديمقراطي) وأبرز رموز هذا التجمع رئيس الوزراء المصري الأسبق (عزيز صدقي) الذي شغل هذا المنصب في عهد عبد الناصر، ومن رموزه أيضاً وزير الإسكان الأسبق (حسب الله الكفراوي) وأستاذ القانون (يحيى الجمل) ، ويهدف هذا التجمع إلى فتح الباب أمام التحول الديمقراطي في مصر، وهي دعوة تجيء متزامنة ومتناسبة مع الدعوات التي أُطلقت من الولايات المتحدة بضرورة قيادة مصر للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية. لكن أهم ما ينوي هذا التجمع فعله، هو تشكيل لجنة للاتصال بمختلف القيادات والقوى السياسية المصرية لعقد مؤتمر وطني عام تكون مهمته صياغة دستور جديد للبلاد.
الغالب إذن على هوية تلك التجمعات ومطالبها، هو الطابع المدني الدنيوي الجاف، وهو طابع قد تكون فرضته طبيعة المطالب في هذه المرحلة، وغالبية الإسلاميين يقرون بهذه المطالب، ولكن المحذور هنا أمران:
الأول: التغافل عن الهوية الفكرية لغالبية الرموز الداعية للتغيير.
الثاني: عدم التساؤل عن نوعية هذا التغيير؛ فلم يقل أحد أن التغيير مطلوب لذاته، أو أن الإصلاح يحدث لمجرد وصفه بأنه إصلاح ... فالسؤال ينبغي أن يُطرح عن كل مفردة من مفردات ذلك التغيير، فإذا كان ثمة مطلب بتغيير الدستور مثلاً، فالسؤال هو: تغيير: إلى ماذا..؟ وعلى أية أسس، وبأية مرجعية وعلى يد مَنْ؟! فإذا كان الدستور القائم فاسداً؛ فقد يكون الدستور القادم ـ الذي تريده أمريكا ـ أفسد وأسوأ (مثلما يحدث في العراق وما حدث في أفغانستان) ! وأيضاً: إذا كانت هناك مطالبة بتغيير الوجوه والبرامج في هرم السلطة؛ فما هي الوجوه الجديدة وما هي برامجها في التغيير؟ فقد يبشر البديل (الجديد) بمستقبل غير سعيد. أيضاً (مثلما يحدث في العراق وما حدث في أفغانستان) !.. وهكذا يمكن أن يقال في العديد من المطالب الجوهرية في التغيير والإصلاح مثل (إصلاح الاقتصاد) و (إصلاح التعليم) و (الإصلاح الاجتماعي) فهل سيكون إصلاحاً بالفعل، أم أنه مزيد من الإفساد على طريقة الذين قالوا: {إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] في حين أن حقيقتهم كما قال الله: {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] ؟.
ومن الناحية الواقعية؛ فإن بعض البدائل المطروحة في ظل علمانية أو ليبرالية أو شيوعية أصحابها، هي بالفعل أسوأ، وهي بالفعل أفسد.
لكن: هل يعني هذا السكوت عن المطالبة بالإصلاح الحقيقي الآن ... ؟ بالطبع لا.. وبالقطع لا.. وإنما المطلوب هو أن يقترن باقتراحات التغيير؛ للبرامج أو على الأقل الضوابط المصاحبة لها، والتي ينبغي ألا تخرج عن ثوابت الدين الذي تدين به الغالبية الساحقة من الأمة، وإلا فإن كل حديث عن حكم الأغلبية واحترام رأي الأكثرية سيكون مجرد وهم أو هراء.
وهنا تبرز أهمية الموقف العام للإسلاميين مما يحدث في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ مصر، وهنا تتأكد أهمية بلورة طرح إسلامي واضح، إن لم يكن في برامج وبدائل التغيير والإصلاح. فعلى الأقل في مراقبة ضوابطها والأسس التي تُبنى عليها.
- لسنا تياراً.. بل نحن أمة:
لا يُعقل أبداً، ولا يليق مطلقاً، أن يظل المعبرون عن الأغلبية الصامتة من الأمة صامتين أيضاً، وأعني بذلك النخب الإسلامية من أهل العلم والدعوة، ورموز الفكر والثقافة والاختصاص من حملة المنهج الإسلامي؛ فهؤلاء هم في الحقيقة طليعة الأمة بحسب تصوراتنا الإسلامية، هم ولاة الأمر إذا مرج الأمر.. وهم أصحاب الفكر إذا شذ أو تضارب أو عُدم الفكر، وهم أهل المشروعية إذا فقدت المشروعية، ولذلك فهم الأوْلى بأن تكون لهم مشاريعهم التي تسندها مشروعيتهم، وهم الأوْلى بالعمل والنشاط والتحرك من كل أصحاب الاتجاهات المنحرفة في العمل والنشاط والتحرك. فإذا كان للشيوعيين واليساريين والقوميين والليبراليين ولسائر العلمانيين مبادراتهم أو برامجهم للإصلاح من منطلقات علمانية، وإذا كان للحزب الحاكم نفسه (استجابة للضغط الأمريكي) رؤيته أيضاً للإصلاح؛ فأين الصوت الإسلامي العام المعبر عن سائر الأمة في هذه الملمة..؟! وأين مشاريعه في التآلف والتحالف، وفي تقديم البرامج وتقويم المناهج؟
قد يُقال إن الإخوان المسلمين يتحركون.. والجواب أن الإخوان المسلمين، ليسوا كل المسلمين، مع الاعتراف لهم بفضل السبق في التحرك من بين الإسلاميين، وحفظ الحق لهم في التحدث وفق برامجهم ورؤاهم التكتيكية أو الاستراتيجية.
إن الإخوان المسلمين ـ مع ثقلهم في الشارع الإسلامي ـ ليسوا إلا فصيلاً من فصائل العمل الإسلامي، يمثلون طيفاً في شعاعه أو عرقاً في دماغه، ولهم ـ ما داموا على هذا ـ كامل الولاء ... وتام الانتماء للجسد الإسلامي العام. أما بقية الإسلاميين والمتدينين من فصائل أهل السنة في مصر ـ والإخوان معهم ـ فليسوا مجرد تيار، بل هم الأمة، والخارجون عن نهجهم العام من بقية الشعب ما هم إلا «تيارات» .. «تيار شيوعي» .. «تيار ليبرالي» .. «تيار ناصري» «تيار ساداتي» .. «تيار وطني» و.. «تيار قبطي» (1) «تيار قومي» .
إن عامة المسلمين وفي طليعتهم الإسلاميون العاملون هم جمهور الأمة في مصر، وهم الأوْلى بالرعاية والنظر في مطالب التغيير لو صدق الديمقراطيون؛ لأن هذا التغيير سينصب حولهم وسيقع عليهم وعلى أجيالهم؛ فمن غير المعقول ولا المقبول أن يفرض العلمانيون أو أحد تياراتهم عليهم واقعاً تغييرياً جديداً تحت ضغط التحرش الأمريكي، سواء كان هذا الواقع في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي أو التعليمي أو الاجتماعي، ومن هنا تظهر دقة المرحلة، وخطورة المواقف العملية المتعلقة بها.
وبالنظر إلى أن الأمر جد ليس بالهزل، فلنا في ذلك الشأن عدد من الوقفات، أهمها:
أولاًِ: الموقف الأمريكي واضح ومحسوم في تجديد دماء العلمانية والليبرالية في مصر في السنوات والعقود المقبلة، لحساب أمريكا ومشاريعها في المنطقة؛ حيث لن ترضى أبداً بقبول «آليات» الديمقراطية دون «قيمها» التي هي نفسها «قيم» الحضارة الغربية ونمطها في الحياة، وإن استمرار الإعلاء من شأن هذه (القيم) في تجاهل مؤسف لمبادئ الشريعة المناقضة لها، يُعد ـ بقصد أو بدون قصد ـ مشاركة في إنجاح المشروع الأمريكي الهادف إلى محو الشخصية الإسلامية و (تغيير) الدين الإسلامي. والإسلاميون أوْلى الناس في هذه المرحلة باستقلال الشخصية ووضوح الهوية ومواجهة الهجمة الجديدة عليها.
ثانياً: لسنا ملزمين بأن نعد الديمقراطية ـ كأحد تجليات العلمانية ـ ركناً سابعاً في الإيمان، أو سادساً في الإسلام، وشدة انبطاح العلمانيين أمام هجمة الأمريكيين! لا تسوِّغ تحويل الديمقراطية عندنا إلى ما يشبه الفريضة الدينية؛ فبعض «قيم» هذه الديمقراطية المفروضة قسراً، مرفوضة عندنا قطعاً، بل مجمع على رفضها وتحريمها مثل «حاكمية الشعب» دون حاكمية الشريعة، وقبول الآخر «الكافر» بإطلاق إلى حد إيصاله إلى منصب الولاية العامة (2) والمناداة بـ (التشريع المدني) المنافي للشرع الديني، حتى في الأحوال الشخصية، إلى غير ذلك من المخالفات.
ثالثاً: آليات الديمقراطية من الانتخابات والبرلمانات؛ برغم وجود بدائل عنها في الإسلام؛ فإن ما لا يتعارض منها مع شريعتنا، لا ينبغي أن يُخلط بينه وبين تلك «القيم» الديمقراطية المرفوضة، ولا ينبغي أن يطأطئ الإسلاميون الرأس إجلالاً لها ولا لآلياتها، وبخاصة أن أكثر مفرداتها تعاديهم فـ «التعددية» تقصيهم وحدهم، و «حكم الأغلبية» يتجاهلهم، و «الحريات» محبوسة عنهم، و «حقوق الإنسان» تبحث عن كل إنسان غيرهم، و «قبول الآخر» يتجهمهم، و «المجتمع المدني» لا يتعامل بالعسكرية الصارمة إلا معهم.
رابعاً: ليست هناك علمانية أصيلة وأخرى عميلة، فالعلمانية كلها نقيضة للإسلام، وإضفاء المشروعية على أي علمانية، هو ـ بقصد أو بغير قصد ـ إضفاء للمشروعية على الخطة التغييرية الأمريكية؛ لأن العلمانية في ثوبها الجديد (الليبرالية) هي الأداة الأمريكية المفضلة للتغيير في الشرق الأوسط الكبير، وإضفاء الشرعية على العلمانية المعارضة أيضاً، لا يقل خطأ أو خطراً عن إضفاء الشرعية على العلمانية المتسلطة، أو العلمانية الأمريكية المستوردة.
خامساً: لا يعني عدم إضفاء الشرعية على العلمانية كمناهج وبرامج، الوقوف ضد بعض رموزها وتياراتها ـ غير المعادية ـ في قضايا الحقوق والحريات وغير ذلك من القضايا الإنسانية العامة، بل التعاون في ذلك ـ إن أمكن ـ على شاكلة (حلف الفضول) جائز على ألا يمنع هذا التعاونُ على البر من التناهي عن الإثم.
سادساً: تشكيل ملامح المرحلة القادمة، تدخل فيه عوامل كثيرة، من أهمها الضغوطات الخارجية، وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الضغوطات الداخلية من فصائل التيارات العلمانية. وإذا كان التغيير واقعاً على الأغلب، وكان التأثير الأكبر فيه للضغط الأكبر، فلماذا يكون التغيير بضغط خارجي أمريكي أو داخلي علماني فقط؟! ولماذا يضغط هؤلاء من أجل مصالحهم وبرامجهم وفلسفاتهم، ولا يوجد من أصحاب الشأن وملاَّك الوطن من أهل الإسلام الضغط المماثل أو الأشد ضمن آليات سلمية وأساليب حضارية؟
سابعاً: الأمريكيون أزالوا جدار الصمت، والعلمانيون كسروا حاجز الخوف، من أجل مشاريع لا مشروعية لأصحابها، فلا أقل من أن يتجاوز الإسلاميون حواجز «عدم المشروعية» لضبط دفة التغيير، حتى لا تجور أمواجه على ما تبقى من آثار للشريعة في حياة الناس، وحتى لا تنحسر تلك الأمواج عن واقع مغاير، على صعيد دعوة الإسلام بوجه عام.
ثامناً: التوجه الإسلامي السني الذي تمثله جميع فصائل أهل السنة والجماعة في مصر وغيرها هو مركز استهداف الصائل الأمريكي، الذي يعلم أنهم هم الوحيدون الذين سيبقون صامدين في وجه الهجمة التغييرية الجائحة، ولهذا فإنه يشجع ويصنِّع البدائل، لتقَدَّم للأمة على أنها الدين الصحيح والمنهج المختار، سواء كان شطحاً صوفياً، أو تسطيحاً عصرانياً أو انتهازية شيعية، وخطط الأمريكيين المعلنة في ذلك لا ينبغي تجاهلها في مراقبة التغيير على المسار الديني.
تاسعاً: المراهنات تتفاوت بين البدء بالإصلاح السياسي أو البدء بالإصلاح الاقتصادي أو الاجتماعي، وفي مفهومنا الإسلامي، لا إصلاح على الحقيقة إلا بمنهج الصلاح المتمثل في الشريعة، وهنا تكمن المفارقة المفرِّقة بين موقف العلمانيين المناهضين للشريعة، وبين الإسلاميين المنادين بجعلها المرجعية الوحيدة في التشريع، وإذا ظل صوت الشريعة وأهلها غائباً في أي تغيير قادم، فقد تُتجاوز الشريعة بالمرة حتى في اعتبارها «مصدراً أساسياً (من) مصادر التشريع» كما ينص الدستور الحالي، لا بل قد تُرسِي (قيم) الديمقراطية أسساً وقواعد جديدة، تجرِّم الدعوة لها والتحاكم إليها والتحالف لأجلها، باعتبارها المنهج الوحيد الباقي على الأرض، القادر على صياغة حياة أكثر احتراماً للإنسان ولقيمة الإنسان في مصر أو في غير مصر.
عاشراً: بما أن الإسلاميين هم أصحاب الشرعية الحقيقية التي فُتحت بها مصر، وظلت وستظل ـ بإذن الله ـ وطناً إسلامياً؛ فإن أضعف الإيمان، وأقل واجب الآن (وأعظمه في الوقت نفسه) أن ينافح أصحاب تلك المشروعية عن أصل مشروعيتهم، وهي شريعة الإسلام الخالدة، والحد الأدنى في نصرتها وحماية جنابها من هجمة التغيير الأمريكية العلمانية؛ هو أن يقال للأمريكان وأوليائهم، بلسان القادة والنخبة: ها هنا أمة لا ترضى بمحادَّة الشريعة في أي تغيير دستوري أو قضائي أو سياسي أو اقتصادي أو إعلامي أو تعليمي؛ فإن كنتم أيها المشمرون لسلطة جديدة غير قادرين على(215/17)
نجاد أو السهم الأخير
د. يوسف بن صالح الصغير
مثلت الانتخابات الإيرانية الأخيرة منعطفاً هاماً في تاريخ الثورة الإيرانية؛ حيث تولى رئاسة الوزارة لأول مرة أحد أبناء ثورة الخميني المخلصين وممن يوصفون بالسائرين على نهج الإمام ومن قادة الحرس الثوري. لقد كان منهج (الخميني) في إدارة البلد قائماً على استغلال طبقة من السياسيين الموالين للثورة والمحسوبين على التيار الوطني مثل (مهدي بازركان) و (أبو الحسن بني صدر) و (صادق قطب زاده) الذين انتهى بهم المطاف إلى الإبعاد أو النفي أو الإعدام. لم يكن الخميني يوماً رئيساً للجمهورية ولا رئيساً للوزراء، إنه المرشد الأعلى للثورة، كان الثابت وغيره المتغير. لقد استبدل بالطبقة الحاكمة أخرى هي أقرب لروح الثورة وهي طبقة المحافظين المعتدلين مثل (رفسنجاني) ومن بعدهم طبقة الإصلاحيين ويمثلهم رئيس الجمهورية الحالي (خاتمي) والسؤال المهم هو: لماذا انتظر السائرون على نهج الخميني ربع قرن لتتسلم السلطة التنفيذية بصورة مباشرة؟
على الرغم من أن (الخميني) يمثل رمز الثورة؛ فإن الذين تولوا تصفية نظام الشاه هم (مجاهدو خلق) و (التيارات الوطنية) ، وكان الشارع متحمساً لمبادئ الثورة؛ ولذا قامت الإدارة على أكتاف من يمكن التضحية بهم بسهولة في حالة الإخفاق. ومع ابتعاد الشارع عن التحمس للثورة التي تحولت إلى مجرد دولة لا تملك مشروع التوسع ونشر المذهب بصورة علنية؛ فإن ضبط الأمور يحتاج إلى أناس أقرب للثورة خاصة مع بروز إمكانية التمدد في العراق وما حوله؛ ولكن بدلاً من كونه تحت شعار: (الموت لأمريكا) و (محاربة الشيطان الأكبر) فإن الشعار الجديد هو (محاربة الإرهاب القادم من بلاد العرب) و (تثبيت الأمن في العراق) و (دعم حكومة الجعفري الشيعية) والاستعداد لمرحلة الانسحاب الأمريكي من العراق وكل هذا تحت مظلة (التنسيق التام) مع الاحتلال.
إن المرحلة الحالية من التنسيق الدقيق مع الغرب في إدارة الصراع في المنطقة يحتم وجود شخصية أصيلة قادرة على تنفيذ أهداف الثورة الحقيقية بعيدة المدى، وهو السيطرة المذهبية على العراق والخليج حتى ولو استظلت بأعلام التحالف الصليبي. لا شك في ارتباط أقطاب الحكومة العراقية بإيران، ولا شك أن (فيلق بدر) و (ميليشيا حزب الدعوة) صنيعتان لإيران؛ والأهم الآن أن إيران ستقوم بتدريب وتسليح الجيش العراقي الجديد.. إنه مجرد القيام بمهمة كان يجب أن تقوم بها أمريكا.
إن إيران تستعد من جديد لتلعب دور الشرطي في المنطقة نيابة عن الغرب، وبدلاً من مواجهة المد الشيوعي أيام الشاه؛ فإن الهدف الجديد هو مواجهة المد السني في أفغانستان والمنطقة العربية.
إننا نشهد حالياً مغامرة شيعية قائمة على تحقيق المصالح بالتحالف مع الغرب؛ وهذا التحالف لا يمثله علمانيو الشيعة المرتبطون بالمخابرات الغربية مثل (الجلبي) ، و (إياد علاوي) ولكن يمثله مراجعهم ورساليوهم؛ إنها مغامرة؛ لأن العدو المشترك هم السُّنَّة، والإخفاق يعني الكثير، ولنتساءل عن الشيعة بعد هزيمة التتار!
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(215/18)
الرسائل الأمريكية
نظرات في التسريبات الإعلامية
وهل هي سبق صحفي أم لتحقيق أهداف مرسومة؟
د. باسم خفاجي
تهدف هذه المقالة إلى تفسير تكرر ظاهرة تسريب الأخبار الإعلامية التي تظهر وكأنها فضائح تدين تصرفات الإدارة الأمريكية وتعاملاتها مع العالم العربي والإسلامي. فهل من الممكن أن يكون الكثير من هذه التسريبات الإعلامية مقصودة لتحقيق أثرٍ مَّا يساهم في خدمة المشروع الأمريكي للسيطرة على المنطقة، وليس مجرد سباقات صحفية للنيل من الإدارة الأمريكية من قِبَل من يعارضونها؟ يقدم المقال مجموعة من التساؤلات حول هذا الموضوع، ومتابعة لحقيقة المستفيدين من تسريب هذه الأخبار على مدى الأعوام الماضية. يخلص المقال إلى أنه قد لا تتوفر أدلة دامغة لإدانة الإدارة الأمريكية بتعمد تسريب الأخبار طوال الأعوام الماضية، ولكن هناك ما يكفي من القرائن لإثارة الشكوك حول تكرار هذه الظاهرة خاصة فيما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي.
- الفضائح الإعلامية:
انتشرت ظاهرة التسريبات الإعلامية المتعلقة بتعامل الإدارة الأمريكية مع العالم العربي والإسلامي بشكل ملحوظ منذ أحداث سبتمبر الشهيرة. موقف الإدارة الأمريكية من هذه الظاهرة متكرر أيضاً ويجمع بين النفي والإثبات في الأمر.
وعدم البحث عن سبب التسريب أو من قام به. لم يحدث في معظم هذه الحالات أن عرف العالم حقاً من الذي سرب الخبر أو لماذا فعل ذلك؟
ولنا أن نتساءل: هل ما يحدث لأمريكا هي فضائح إعلامية يتم الكشف عنها واحدة تلو الأخرى نتيجة لجهود من يعارضون أمريكا، أم أننا أمام حيلة من حيل الإعلام والسياسة الأمريكية التي لا تعترف بأخلاق أو قيم عدا القيم النفعية وكل ما يبرر أو يدعم مشروعات الهيمنة؟
لقد شهدت الأعوام الماضية مجموعة من الأخبار التي تسربت للعالم رغم رغبة الإدارة الأمريكية فيما بدا للجميع. فانتشر خبر إنشاء مكتب نشر الأكاذيب بالبنتاجون، وسارعت أمريكا إلى نفي الخبر، وبعدها تسربت الأخبار عن انتهاكات حقوق المسلمين في القارة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر.
ظهرت بعد ذلك صور التعامل مع المعتقلين المتهمين بمحاربة أمريكا، والذين تم ترحيلهم إلى معتقل جوانتنامو، وتلا ذلك أخبار فضائح سجن أبو غريب من قتل وإهانة للسجناء، واغتصاب الرجال والنساء، وسجن الأطفال.
تسربت كذلك إلى الإعلام الصور المقززة عن تصرفات الجنود الأمريكيين عندما يقتحمون المنازل في العراق وأفغانستان على أهلها العزل والأبرياء، وكيف يتم العبث بكل الممتلكات وإهانة الرجال والنساء وترويع الأطفال. أظهر الإعلام أيضاً كيف يُعتقل المسلمون في أمريكا في ساعات الفجر، وكيف يتم سحبهم على مرأى من وسائل الإعلام وهم بملابس لا تليق، ويظهر بعد ذلك أنهم أبرياء.
حصلت وكالات الأنباء أيضاً بطريقة ما على صور جنود الاحتلال وهم يطلقون الرصاص على الجرحى في العراق، وتبعتها أو سبقتها أخبار الاستهزاء بالقرآن في معتقل جوانتنامو، وسبق كل ذلك فضائح تعذيب المعتقلين على يد مخابرات الدول التي تتعامل معها الإدارة الأمريكية في حربها ضد الإرهاب.
- أحداث ومصادفات:
تسربت كل هذه الأخبار الى الإعلام في تسلسل عجيب يتناسب مع ظروف تلك الأوقات. كانت الإدارة الأمريكية تسعى ظاهراً في كل مرة إلى تكذيب الخبر، ثم عدم نفيه قطعياً، ثم الحديث عن محاسبة المقصرين، والانتقال من ذلك إلى التعامل مع التسريب التالي للأخبار، وكأن الأمر بمجمله يتم رغم إرادة أو تدبير الإدارة الأمريكية.
قد لا يكون الأمر إلا مجموعة من الأحداث التي لا يربط بينها سوى كراهية وبغض بعض الإعلاميين لما تقوم به أمريكا من انتهاكات للقيم والأخلاق التي تدعو إليها الحضارة الغربية، والتي يعتنقها ويدافع عنها الكثير من الصحفيين الغربيين، وهذا هو التفسير الإيجابي لتكرر حدوث هذه التسريبات إلى الإعلام. ولكن هناك أكثر من سؤال يتبادر إلى الذهن ويلقي بالشك على هذا التفسير الإيجابي لما يحدث ويتكرر في الأعوام الماضية.
- أسئلة وشكوك:
أول هذه الأسئلة هو: لماذا لم تتحرك الإدارة الأمريكية لمنع مثل هذه التسريبات أو الكشف عمن قاموا بها ووضع القيود التي تمنع من تكرارها على افتراض أنها تؤذي جهود الإدارة الأمريكية في تحسين علاقاتها مع العالم الإسلامي؟
والسؤال الثاني هو: لماذا تتكرر هذه التسريبات في أوقات تتناسب تماماً مع الرغبات الأمريكية في تركيع المقاومة أو تهديد الحكام أو إرهاب الشعوب العربية والإسلامية من مقاومة المشروع الأمريكي، ومن المستفيد حقاً من هذه الأخبار التي تتسرب إلى الصحف ووسائل الإعلام، ولماذا لا يعاقب أحد على هذه التسريبات، وهل من تفسير آخر لحدوثها؟
وأخيراً: لماذا تحدث التسريبات دائماً في دول حليفة لأمريكا ومشاركة معها في الحملة على الإرهاب، وليست الدول المعادية لأمريكا والرافضة لمشروعات الاحتلال؟ أليس من الملفت للنظر أن التسريب في معظم الأحيان لا يحدث في الدول المعادية لأمريكا، وإنما في الدول الصديقة لها كبريطانيا وإيطاليا أو في أمريكا نفسها، وأن عدداً من هذه التسريبات تمت من خلال المؤسسة العسكرية نفسها.
إن الرؤية التي تقدم في هذا المقال هي أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر من نشر هذه الأخبار حتى لو تسببت في بعض الآثار السلبية على المدى القصير. لا يوجد ما يمنع من أن تكون الإدارة الأمريكية هي المحرك الرئيس في هذه التسريبات. لا يخفى على كاتب هذا المقال أن من السهولة بمكان أن توصم هذه الفكرة بأنها من نتاج من يعانون من «ذهنية المؤامرة» في كل شيء؛ وليس الكاتب منهم. لكن من المهم إدراك مدى عدم عقلانية تكرار المصادفات التي تصب في خدمة جهة ما دون أن يكون لها طرف في صنعها أو على الأقل غض الطرف عن حدوثها وتكرارها.
- تعمد التسريب:
إن تعمد تسريب أخبار مقززة وتنافس بعض وسائل الإعلام الأمريكية المعروفة بولائها للإدارة الأمريكية في نشر هذه الفضائح مقصود لذاته؛ وأدلته كثيرة، ويعارضها بعض العقلاء في الصحف والمجلات الأمريكية، ولكن الإدارة لا تلقي لهم بالاً. لقد كتب المحلل السياسي الأمريكي (رودجر باربر) في مقال صدر مؤخراً قائلاً: «إن سلسلة التفاصيل التي ظهرت والمتعلقة بقتل سجينين أفغانيين في قاعدة باغرام الجوية مفزعة للغاية، وتثير في النفس القشعريرة؛ حيث عذب هذان السجينان على ايدي الجنود الاميركيين حتى الموت. وملف التحقيقات لما جرى في باغرام الذي حصلت عليه «نيويورك تايمز» يظهر ان عمليات الإساءة للسجناء شيء روتيني تمارس فيه تصرفات في غاية الوحشية من تقييد أيدي السجناء، وتعليقهم في سقف زنازينهم، وحرمانهم من النوم، وركلهم وضربهم وإذلالهم جنسياً، وتهديدهم بالكلاب البوليسية؛ وهي أمور للأسف قد سبق استخدامها بالكامل في السجون الأمريكية» . وهذه الأمور جميعها تتنافى مع الحرية والالتزام بالقانون واحترام حقوق وآدمية الإنسان التي تدعو لها الحضارة الغربية؛ فلماذا تجتهد الإدارة الأمريكية في نشر هذه التسريبات والسماح بها دون بحث أو معاقبة لمن يسربون هذه الأخبار؟
يمكن أن تكون هذه الأفكار من نتائج نظريات المؤامرة، ويمكن أن تكون أمريكا بريئة من كل ما نسب إليها في هذا المقال من تخطيط وسوء نية، ولكنها في كل الأحوال مستفيدة من كل هذه التسريبات، ولعلها لذلك لا تمانع في حدوثها، بل تسارع في نشرها عبر وسائل إعلامها التي تتحكم في 85% من إعلام العالم.
إن أمريكا ترسل رسائل ضمنية لهذه الأمة العربية والإسلامية من خلال تلك الأخبار التي تظهر وكأنها قد سربت رغم إرادة أمريكا، ومن ثم لا تمانع الشعوب من نقلها وتداولها بسرعة كبيرة وبعاطفة حقيقية، وهو ما أرادته أمريكا في المقام الأول لينشر الفزع من الحماقة الأمريكية، وهو ما يصب في خدمة إضعاف كل جهود مقاومة الهيمنة.
- الرسائل الأمريكية:
إن الولايات المتحدة في حاجة إلى قتل روح أي شكل من أشكال المعارضة أو المقاومة في الأمة العربية والإسلامية حتى يتمكن مشروع الهيمنة من المضي قدماً في هذه المنطقة من العالم. ولا نعني هنا المعارضة المسلحة، وإنما كل أشكال المعارضة أو التأجيل أو المقاومة للخطط الأمريكية للشرق الأوسط.
الأمر ليس مرتبطاً فقط بمن يحملون السلاح، ولكنه يمتد للجميع من حكام ومن محكومين.. من أنصار الإسلام ومن دعاة القومية.. من الشعوب إلى القادة.. ممن يعادون ويبغضون أمريكا؛ والأهم من ذلك من يؤمنون بأهمية وجدوى التعاون معها. الجميع مستهدف برسائل إعلامية سياسية أمريكية مركزة ومعلبة ومطلوب تمريرها من خلال المفكرين والقادة وعموم الشعوب إلى أجيال المستقبل.
تعتقد أمريكا أن أي مقاومة أو تعطيل لمشروعاتها هي جريمة يجب أن يعاقب من يفكر فيها، ولا بد أن يشاهد الجميع ماذا يمكن ان يحدث لهم من جراء التصدي لأمريكا، وكأنها تقول: «إياكِ أعني واسمعي يا جارة!» .
إن تسريب الأخبار عن التعذيب والإهانات والقتل العمد للجرحى، وانتهاك حقوق الشعوب ومقدساتها.. كل ذلك قد يكون مقصوداً لتكوين ثقافة الخوف من مواجهة أمريكا، وهو ما يخدم المشروع الأمريكي على المدى الطويل. سيتسبب ذلك أيضاً في فضائح إعلامية يظن القائمون على مثل هذا النوع من التخطيط الإعلامي أنها لا ترقى إلى درجة تهديد الفوائد الكثيرة التي تجنى من تسريب هذه الفضائح إلى العامة. إن أمريكا ترسل عدداً من الرسائل الضمنية إلى الشعوب وقادتها ومفكريها وعامتها من خلال ما يظهر وكأنه حدث رغماً عنها. وفيما يلي عرض لهذه الرسائل الموجهة للأمة من خلال استقراء ما تم تسريبه إلى وسائل الإعلام:
- رسالة إلى القادة:
إن تعمد تصوير الرئيس العراقي السابق في صور مهينة لا تليق بالرؤساء وتتنافى حتى مع حقوق المساجين التي حددتها القوانين الدولية هي رسالة لكل قائد يفكر في تحدي الإدارة الأمريكية.
الرسالة تحمل معانيَ كثيرة من بينها أن صداقة أمريكا لفترةٍ ما لا تعني ضمان استمرار هذه الصداقة، وأن ما يمكن أن يحدث لطاغية عندما تستهدفه الإدارة الأمريكية بسهامها الإعلامية يمكن أن يتحول إلى لعنة تلاحق هذا القائد وأسرته وكل من يمت إليه بصلة أو نسب أو قرابة، وهي أمور هامة في الحياة العربية وفي تقاليد القبائل والأسر. كما أن الرسالة الإعلامية تقدم صورة مقززة لما يمكن أن يقوم به الإعلام الغربي الذي لا يراعي أي أصول حرفية أو قواعد أخلاقية.
لقد تنبهت لذلك بعض وسائل الإعلام الأمريكية التي تحاول الالتزام بالمصداقية الصحفية. فقد لاحظت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» أنه يمكن النظر إلى الصور ونشرها على أنها صفعة إهانة للمسلمين العرب السنة. وأضافت أن كثيراً من أهل السنة يشعرون بأن ثمة تحيزاً تجاههم وإجحافاً بحقوقهم، وأنهم يتعرضون للإهانة من قِبَل الاحتلال ... وأضافت «التايمز» : «كما يمكن أن تثير الصور مشاعر السخط في أوساط المسلمين خارج العراق؛ إذ يشعرون أن الولايات المتحدة لا تأبه بأحاسيسهم ولا تقيم وزناً لمعتقداتهم وثقافتهم، ولا تعبأ بالحساسية الشديدة التي تنفخ هذه الصور في نارها. فقد عرف عن المسلمين عموماً أنهم يتجنبون الظهور في الأماكن العامة من دون أن يكونوا بكامل هندامهم وأفضل ملابسهم» (1) .
ليس (صدَّام) هو المقصود بتسريب صوره إلى الإعلام؛ فهو ورقة قد احترقت منذ زمن، ولكن الرسالة موجهة إلى من يفكر في مقاومة المشروع الأمريكي من قادة ومسؤولين. الرسالة بسيطة ومؤثرة وحقيرة أيضاً.. إنها تخاطب مشاعر كل من هؤلاء القادة قائلة: هل معارضة أو تحدي أمريكا تساوي أن تتناول وسائل الإعلام العالمية صورتك أنت بدلاً من صور الرئيس السابق للعراق؟
- رسائل إلى المقاتلين:
عندما بدأت الحرب الأمريكية على أفغانستان كان من المهم للإدارة الأمريكية أن تقنع المسلمين بعدم جدوى أو فائدة التدخل فيما يحدث في أفغانستان؛ لذلك حرصت أمريكا على أن يتم تسريب أخبار عن كيفية تعامل أمريكا مع الأسرى الذين يتم اعتقالهم في معارك أفغانستان، أو ترحيلهم إلى معتقل جوانتنامو في كوبا.
كانت الصور التي نشرت في تلك الفترة تقدم حقيقة ما يحدث هناك بشكل مرعب ومخيف لكل من يشاهده. لم يتساءل العالم: كيف تم تسريب هذه الصور من أحد أشد المواقع العسكرية سرية في العالم أجمع؟ وتناقل العالم أجمع صور المعتقلين وهم يُنقلون داخل أقفاص حديدية كالحيوانات المفترسة، ووضعت صحيفة «ذي ميل أون صنداي» البريطانية على غلاف عددها الأسبوعي صور المعتقلين مع تعليق ضخم يقول: «إنهم لا يسمعون شيئاً، ولا يرون شيئاً، ولا يشعرون بشيء.. أيديهم وأرجلهم ترسف في القيود. إنهم يركعون مذعورين.. أبهذه الطريقة يدافع بوش وبلير عن حضارتنا؟» . تناقل العالم هذه الصور التي كانت رسالتها الضمنية تحذير كل من يفكر في القتال مما سيحدث له في حال الاعتقال، ولعل الإدارة الأمريكية كانت تعتقد أن ذلك سيخيف ويوقف التيارات الجهادية من تقديم الدعم للطالبان.
إن الوسائل المستخدمة في الاستهزاء بالمعتقلين كانت تتجاوز ما يتطلبه التحقيق إلى الاستهزاء بالقيم والأعراف والأخلاق الإسلامية والعربية، وهي رسالة إلى أبناء هذه الشعوب التي تعرف بالكرامة والإباء أن الوقوع تحت طائلة الجندي الأمريكي سيعني العديد من الإهانات التي تأباها النفس العربية. ولذلك جرى تسريب بعض الأخبار والأحداث التي لا علاقة لها بالضرورة بتعذيب المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم، وإنما كان الهدف هو الإهانة لذات الإهانة، وتعريف العالم بأنها تحدث وستكرر.
لقد رصدت الكاتبة الأمريكية (ميري بارتون) بعض هذه الوسائل المقززة في مقال لها صدر مؤخراً بعنوان: (من المسؤول عن إثارة مشاعر المسلمين؟) ، تقول فيه: «إن هذه القصة أخذت أبعاداً كبيرة نظراً للتقارير المتداولة عن أساليب التحقيقات التي تتبعها القوات الأميركية مع المعتقلين.. قام المحققون باستخدام الكلاب بشكل واسع؛ نظراً لأنهم يعرفون أن المسلمين لديهم حساسية من النجاسة المرتبطة بالكلاب.. إن رامسفيلد نفسه أقر هذا الأسلوب [تعرية المعتقلين] حيث وقع على مذكرة في نوفمبر عام 2002م تقضي باستخدام هذا الأسلوب مع الأسرى إلى جانب قلع شعر اللحية لما يمثله ذلك من إيذاء للملتزمين دينياً ومطلقي اللحى ... وأكد الرقيب (إريك سار) الذي كان يعمل مترجماً في معتقل غوانتانامو والذي قال لوكالة الأسوشيتد برس إنه سيقدم وصفاً تفصيلياً لحادثة قيام واحدة من المحققات برشّ أحد المعتقلين بسائل أحمر اللون قالت عنه إنه دم حيض، ثم قالت للمعتقل: انعم بدم الحيض الليلة في زنزانتك؛ حيث إنه ليس هناك ماء لتطهير نفسك من هذا الدم» (1) .
لم تكتف الإدارة الأمريكية بذلك، ولكنها سربت أيضاً للإعلام أن المعتقلين يُنقلون إلى الدول التي تُعرف بممارسة التعذيب الوحشي في معتقلاتها من أجل الحصول على الاعترافات. والغريب أن الدول التي ذُكرت بالاسم لم تسارع إلى النفي، ولم تبذل الإدارة الأمريكية أي جهد لتصحيح الصورة السلبية التي نجمت عن ذلك، وإنما شغلت العالم بالحديث عما إذا كان المعتقلون يمكن أن يعاملوا كأسرى أم كمجرمي حرب. وتكرر في وسائل الإعلام تسريب الأنباء عن الممارسات المخالفة للقوانين الدولية في تعذيب المعتقلين في الدول المتحالفة مع الإدارة الأمريكية في الحرب ضد الإرهاب، ولم تبذل أية جهود للتعرف عمن قاموا بتسريب هذه الأخبار.
- رسالة إلى المقاومين:
إن تسريب صور وأخبار اغتصاب النساء والعبث بكرامة الرجال، وسجن الأطفال واضطهاد كل من يعترض على الاحتلال هي رسالة لشعوب المنطقة أن تحذر من مغبة المقاومة، وأن تعارض أي رغبات حكومية أو شعبية في تحدي أمريكا أو معارضتها. المطلوب أن يفكر كل مواطن في بلادنا في كيفية تجنب ما يمكن أن يحدث له ولأسرته وأمته في حال مواجهة أمريكا.
هذه الحيلة الإعلامية والنفسية ليست جديدة أو مستحدثة في الفكر النفعي الأمريكي. ففي نص محاضرة ألقاها في عام 1713م (وليام لنش) ، وهو أحد ملاك العبيد على أسماع «ملاك عبيد» آخرين، يشرح فيها نظرية ترويض (الإنسان - العبد) أوصى ملقي المحاضرة بقتل الرجال من العبيد علناً أمام أسرهم وخاصة أمام النساء والأطفال، ثم الاعتماد بعد ذلك على نساء العبيد لتربية أجيال من العبيد الخاضعين المروضين ـ بحكم تجربتهم لنتيجة المقاومة وما ستمليه المرأة الضعيفة على الأجيال الناشئة التي شهدت فيها قوة إجرام الرجل الأبيض وجبروته وفتكه بالرجل الذي هو مصدر القوة والحماية لها.
هذه هي الرسالة الإعلامية التي توجه لأمتنا بشكل غير مباشر من خلال التسريب المتعمد للمعاملة الوحشية للأسرى والمعتقلين وكل من يقاوم المشروع الأمريكي للهيمنة على المنطقة.
- إلى مسلمي أمريكا:
وعلى نفس المنوال يجري التعامل مع المسلمين في أمريكا. فما يجري حالياً هو محاولة ضمنية ليكون كل منهم عيناً للإدارة الأمريكية على الجالية لكي يأمن على نفسه من الإهانات والاعتقالات التي تصور إعلامياً وتصبح مادة دسمة لوسائل الإعلام الأمريكية عن طريق تسريب الأكاذيب للإعلام.
لقد شعرت أمريكا أن الوجود الإسلامي في القارة قد ساهم بشكل غير مباشر في حدوث ما تعتبره أمريكا كارثة أمنية في سبتمبر 2001م. وقد اختارت أمريكا أن تواجه هذا الوجود الإسلامي في أمريكا، وأن تقلم أظفاره بشكل لا يسبب أي إزعاج أمني في المستقبل حتى لو كان ذلك على حساب الحقوق المدنية للجالية.
لذلك جرى اعتقال نماذج من كل فئات المجتمع المسلم في أمريكا والتنكيل بهم بشكل مقزز ومعلن أيضاً لتصل الرسالة واضحة دون أي لبس للجالية المسلمة في أمريكا. ومن يتابع مسلسل الاعتقالات يجد أن الإدارة قد اختارت نماذج لجعلها عبرة لغيرها، وجمع ذلك بين اعتقال الدعاة إلى رؤساء الجمعيات الخيرية إلى الكتاب والمفكرين وحتى من يجيدون استخدام التقنيات الإليكترونية أو من يساهمون في خدمة العمل الدعوي بأي شكل من الأشكال.
فقد شهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة اعتقال العديد من الشخصيات الإسلامية في القارة الأمريكية كالدكتور سامي العريان الذي اتهم بالتعاون مع حركة الجهاد الإسلامي، والدكتور رافل ظافر الذي اعتقل بتهمة مساعدة الشعب العراقي خلال فترة المقاطعة، وكذلك الدكتور علي التميمي الذي يواجه أحكام تصل إلى السجن مدى الحياة بدعوى التحريض على مساعدة الطالبان. وفي كل الحالات السابقة لا توجد أدلة اتهام حقيقية، وإنما تقوم الإدارة الأمريكية بإعادة تفسير أحداث معينة بشكل يتناسب مع المزاج النفسي الأمريكي في الآونة الأخيرة، ويُستخدَم ذلك مبرراً للاعتقال والمحاكمة وتشويه تاريخ هذه الشخصيات واتهامها بما لم يحدث. وكان من نتيجة ذلك أن ابتعد الكثير من أبناء الجالية عن العمل الخيرى وعن المشاركة في أنشطة وفعاليات المساجد وجمعيات المسلمين في تلك القارة.
- رسالة إلى عموم الأمة:
أما الرسالة الأمريكية الأخيرة فهي موجهة إلى عموم الأمة بمفكريها وبسطائها أيضاً.. إلى كل من يرى عدم جواز الإساءة إلى المصاحف أو إهانة القرآن.. إليهم جميعاً كانت الرسالة الأمريكية الإعلامية هي أن يعلموا أن معارضة أمريكا قد تسببت في ذلك، وأدت إلى أن الجنود الحمقى ـ هكذا يراد تصويرهم ـ لن يردعهم شيء عن الاستهزاء بالقرآن ما دام هناك من المسلمين من يخطط لإزعاج أمريكا.
ولذلك فحتى عندما نفت مجلة «نيوزويك» الأخبار التي تسربت عن طريقها في أن القرآن قد أهين في جوانتانامو، وقَبِلَ العالم بذلك.. خرجت المباحث الفيدرالية الأمريكية لتؤكد أن تحقيقاتها تثبت أن القرآن قد تمت إهانته. هل يعقل أن يكون ذلك من المصادفات أيضاً؟
لقد وصفت وزيرة الخارجية (كوندوليزا رايس) المقال الذي صدر في «نيوزويك» بأنه «مخيف» ، مشيرة إلى أنه «سبَّب مشاكل كثيرة» . وقالت إن المقال «خلق مشكلة خطيرة» لواشنطن في العالم الإسلامي؛ ومع ذلك فلم يتحدث أي مسؤول أمريكي عن تسريب الخبر، وإنما جرى التأكيد على تبعاته، وتضخيمها. ويركز على هذه النقطة الكاتب الأمريكي (جون مارتن) قائلاً: «إن السبب الرئيسي للغضب هو إخفاق الولايات المتحدة بإجراء تحقيق مناسب بعد سنوات من نشر تقارير تؤكد حدوث الإساءات، والولايات المتحدة ممثلة بإدارة بوش لم تكلف نفسها الرد على الاتهامات التي تقال حول قيام المحققين بتدنيس القرآن الكريم في غوانتانامو وأماكن أخرى، كما أنها لم تتحمل أي مسؤولية عن هذه الاتهامات، وبدل ذلك دعا المتحدث باسم البيت الأبيض (سكوت ماكليلان) مجلة «نيوزويك» للمساعدة في إصلاح الأضرار التي تسببت بها» (1) .
- جرائم مع سبق الإصرار والترصد:
إن قتل الجرحى جريمة.. وترويع الأبرياء جريمة.. واغتصاب النساء والرجال من قِبَل الجنود جريمة.. ونشر صور طاغية بملابسه الداخلية جريمة حتى في قوانينهم أيضاً حتى وهو طاغية.. ولكنها جميعاً جرائم مقصودة مع سبق الإصرار والترصد، ولم تُرتكب عبثاً.
المطلوب هو أن تتعلم الأمة بجميع فئاتها وطبقاتها وتنوعاتها فنون الركوع للحلم أو الكابوس الأمريكي، وأن تتوقف كل صور وأشكال المعارضة أو المقاومة، وإلا فسيتكرر ما تم تسريبه من أخبار وصور لتمس القادة والشعوب والمقاومين وغيرهم أيضاً.
لقد تحدث (ميكيافيللي) في كتابه (الأمير) عن التعامل مع المقاومة فقال: «نلاحظ أن الرجال إما أن يُستمالوا أو تتم إبادتهم، كما أنهم يثأرون لأنفسهم في الأمور الصغيرة لكنهم لا يستطيعون ذلك في الأمور الكبيرة؛ فإذا ما أضير الرجل مضرة كبرى فلا يجب علينا أن نخشى انتقامه» (1) . ما تسعى إليه أمريكا اليوم هو ان نستشعر جميعاً أن المضرة من المقاومة أو أي شكل من أشكال المعارضة ستكون مضرة كبرى.
وفي سياق نصائح (ميكافيللي) ـ رائد الفكر النفعي السياسي ـ للأمير عن كيفية الحفاظ على هيبته في مواجهة المقاومة كتب قائلاً: «أنا أعتقد أن ذلك سببه القدرة على استعراض القسوة بطريقة مناسبة. فحُسن ارتكاب الجريمة القاسية ـ إذا كان بإمكاننا استخدام كلمة «حُسن» عند الحديث عن النوايا الشريرة ـ يمكِّن من جني الثمار فيما بعد» .
وفي نص المحاضرة التي ألقاها (وليام لينش) عن ترويض العبيد في أمريكا تظهر السياسة الأمريكية في التعامل مع المخالف عندما يقول ناصحاً المستمعين في كيفية كبح جماح المقاومة: «استخدم الخوف وعدم الثقة والحسد لأغراض السيطرة.. أؤكد لك أن زرع الشك وفقدان الثقة هو أقوى من الصدق، وأن الحقد أقوى من التملق والإعجاب.. وإن العبد الأسود بعد أن يتشرب هذه المشاعر فسيحملها ويغذيها تغذية ذاتية وسيولدها لنفسه لمئات من السنين» (2) .
- أثر مواجهة الحقيقة داخل أمريكا:
قد لا يكون من الممكن أن يتم إثبات تورط أمريكا في تسريب الأخبار بأدلة دامغة لا تقبل الشك؛ لأن الحياة السياسية لا تبنى على حقائق قاطعة. ولذلك فلا بديل عن الاكتفاء بالقرائن التي تربط بين العمل وبين نتائجه والمستفيد منه، وتوقيت التسريب وارتباطه بالمصالح الأمريكية في نفس التوقيت. وإن جاز أن ينظر إلى هذه الفكرة على أنها حقيقية، فلا بد أن لها آثاراً على من يرتبط بها.
قد يظن بعض القراء أن تأثير هذه الحيل الأمريكية سينحصر فقط في العالم العربي والإسلامي، وأنها قد تأتي بنتائجها سلباً أو إيجاباً في هذا الجزء من العالم وحده دون ان يكون لها تأثير على المجتمع الأمريكي نفسه. ولكن الواقع خلاف ذلك.
إن الشعب الأمريكي بمجمله لا يزال يعتقد أن أمريكا يمكن أن تكون «إمبراطورية خيِّرة» وأنها حقاً تعتنق الكثير من المبادئ والقيم الأخلاقية التي تسعى إليها الإنسانية من حرية ورفاهية. ولكن تسريب أخبار القسوة الأمريكية والوحشية في التعامل مع المخالف ـ والتي قد يكون المقصود منها هو تركيع هذا المخالف ـ قد تأتي بنتائج عكسية في المجتمع الأمريكي نفسه الذي يواجه اليوم تناقضاً حاداً بين ما كان يظن أنه يعتقده وبين ما يمارسه فعلاً.
وكما عبر عن ذلك الكاتب الغربي (هورهي أنايا) في مقال صدر له مؤخراً عن الإمبراطورية الأمريكية، فقال: «الشعب الأمريكي سيجد نفسه مضطراً لمواجهة حقيقة أن حكومته لن تحقق النصر في هذه الحرب، وبأنهم هم من سيدفعون فاتورة حرب خاسرة. على الرغم من كل ذلك؛ فإن واشنطن لن تتراجع في سياستها؛ فرجال الحرب المدنيون الأميركيون بثوا أفكارهم بأن أمريكا هي القوة الوحيدة المسيطرة على العالم، والتي لا تقهر» . إن عدم التراجع من الإدارة الأمريكية سيتسبب في إرباك المجتمع الأمريكي داخلياً وفكرياً.
إن الشخصية الأمريكية شخصية تميل إلى التبسيط في كل الأمور، وما يحدث خلال الأعوام الماضية ـ في حال تبسيطه ـ يسبب خللاً كبيراً في هذه النفسية الأمريكية؛ لأنه يمثل تناقضاً صارخاً بين القيم التي عرفت أمريكا بالمناداة بها من أجل مستقبل أفضل لأمريكا وللعالم، والممارسات التي نتجت بسبب الرغبة في سيادة العالم وتحقيق ذلك الحلم الأمريكي. وهذا التناقض سيسبب إرباكاً حقيقياً للفكر الأمريكي، وسيتسبب في هزة للمسلَّمات التي قام عليها المشروع الحضاري الاستعماري لهذه الدولة، وهو ما سيؤدي بالتأكيد مستقبلاً إلى تآكل الرصيد الأخلاقي للحضارة، وهو ـ كما علَّمنا التاريخ ـ المقدمة الحتمية للانكفاء الداخلي وانهيار أحلام السيطرة على الآخر.
- الرد على الرسائل:
إننا نحيا في عالم لا تتوافق فيه المصادفات بهذا الشكل إلا لمن يقبلون أن يوصفوا بالمغفَّلين، وليست هذه الأمة منهم، ولذلك فإن الرسائل الأمريكية قد وصلت واضحة ومؤثرة، ولم تغفل الأمة عن فحواها حتى وإن لم تتمكن حتى الآن من صياغة الرد المناسب لهذه الرسائل.
سيؤكد المستقبل لهذه الإدارة الأمريكية أنها قد أخطأت خطأ جسيماً في تقدير رد فعل هذه الأمة، وهو ما عبر عنه الكاتب الأمريكي (توماس فريدمان) مؤخراً عندما قال: «إنني أعتقد جازماً ان القصص التي تخرج من غوانتانامو لها نفس التأثير السامّ علينا نحن الأمريكيين؛ فقد اثارت العواطف المعادية للولايات المتحدة حول العالم أجمع، ولها فعل المغناطيس في جذب أولئك المستعدين لقتل انفسهم من أجل قتلنا.. ومن الأفضل أن يكون هناك القليل ممن يطوفون العالم ويسعون لإلحاق الضرر بنا بدل أن يكون وراءنا جيل كامل من الكارهين لنا ولكل ما نمثله» .
(*) مدير المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب، وباحث متخصص في شؤون علاقة الغرب وأمريكا بالعالم الإسلامي.(215/19)
المرأة العراقية المسلمة في جحيم الاحتلال
عماد عبد العزيز
إن أمر تكريم الإسلام للمرأة، واحترامه لها ولمكانتها لا يحتاج إلى برهان؛ فهذه نصوص الوحيين: الكتاب، والسنة؛ تزخر بالحث على الاهتمام بها سواء كانت أماً أو أختاً أو بنتاً أو زوجة؛ حيث شُرِعَ لها من الحقوق، وأوجب عليها وعلى المجتمع من الواجبات ما يجعلها تعيش عزيزة مكرمة وبما يتناسب مع بنائها الجسمي والنفسي الذي فطرها الله عليه. ولقد كانت المرأة المسلمة هدفاً لمخططات أعداء الإسلام؛ وذلك تحت شعارات عدة رفعها الأعداء أو من يسير في ركابهم ويدعو بدعوتهم ممن يُحسَبون على المسلمين؛ والإسلام وأهله منهم براء، ولعل أشهر تلك الشعارات شعار (تحرير المرأة) هذا الشعار الذي يُراد منه تحرير المرأة من الطهر والفضيلة التي أرادها رب العزة لها.
لقد أدرك الأعداء أن المرأة إذا فسدت أخلاقها كانت سلاحاً فتاكاً ينخر في كيان المجتمع من الداخل، فيميع الأمة ويجعلها تتخلى عن قيمها ومبادئها، ويغرقها في الشهوات ومن ثَم يسهل السيطرة عليها. كما أدرك الأعداء أن العكس صحيح؛ فالمرأة المتمسكة بدينها وقيمها وعفتها تمثل سداً منيعاً أمام مخططاتهم مانعاً لهم من تحقيق أهدافهم.
- طرق الأعداء في استهداف المرأة:
أصبحت المرأة العراقية هدفاً مركزياً من أهداف الاحتلال في العراق؛ فقد استهدفوها بجميع الوسائل وبمختلف الطرق؛ فهي مستهدفة فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وشخصياً؛ وسأفصل في بيان معاناة المرأة العراقية في كل ذلك مع بيان ما يُخطط لها ويراد بها من كيد الأعداء:
على الصعيد الفكري: تشير الوثائق الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية منذ بداية الاحتلال إلى المشاريع والبرامج المعدة لمحو شخصية المرأة العراقية، وتغيير منظومة قيمها الإسلامية من أجل تطبيعها وتطويعها لتقبل الفكر الغربي ومنظومة القيم اللا أخلاقية التي تعيش فيها المرأة الغربية وتعاني منها أشد المعاناة، ومن ثَم تتقبل فكرة الشرق الأوسط الجديد الذي يعد المشروع الاستراتيجي للإدارة الأمريكية والمحافظين الجدد الذين يسيطرون عليها، وأرادوا من احتلال العراق أن يكون بداية تحقيق مشروعهم. جاء في بيان حقائق صادر عن وزارة الخارجية في شباط/فبراير 2005م وتحت عنوان: (الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة بدعم المرأة العراقية في المجالات المختلفة) أنه تم تدريب عدد من النساء العراقيات في برنامج مدته أربعة أشهر كجزء من مبادرة الشراكة الأمريكية ـ الشرق أوسطية.
وأشار التقرير إلى المبالغ المصروفة والمخصصة لمشاريع ومبادرات الدعم للمرأة في العراق والتي تدل على ضخامة المخططات المعدة للمرأة العراقية؛ فقد خُصص مبلغ نصف مليار دولار من المبالغ المخصصة من الحكومة الأمريكية لإعادة إعمار العراق في العامين السابقين لمشاريع تساعد المرأة العراقية بشكل خاص في عمليتي التنظيم الديمقراطي والمناداة بالأفكار الغربية ومناصرتها وحشد التأييد لها.
كما أن هناك مبالغ تصرف من منظمات غير حكومية من أجل تحقيق الأهداف نفسها منها (مبادرة ديمقراطية المرأة) ، كما أسست وزارة الخارجية العراقية الشبكة النسائية الأمريكية ـ العراقية.
وفي أوائل عام 2005م هيأت (الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية) الدعم لمنظمة غير حكومية في جنوب العراق تضم أربعمائة عضوة لإقامة ندوات حول مشاركة المرأة في الانتخابات وتقديم لمحة عن العمليات الديمقراطية في الخارج، وتهدف إلى زيادة مشاركة المرأة في النشاطات السياسية والاقتصادية والثقافية وفق المنظور الغربي.
كل هذه الأموال والجهود تبلورت بشكل جمعيات ومنظمات ونقابات مهنية ومراكز تدريبية تقوم بتنفيذ المخطط الأمريكي؛ فهناك (منظمة حرية المرأة) التي تعتبر أحكام الشريعة انتهاكاً لحقوق المرأة، وتدعو جهاراً لتغيير قانون الأحوال الشخصية ذي الصبغة الإسلامية؛ لأنَّ فيه ظلماً للمرأة وانتهاكاً لحقوقها ـ كما تزعم ـ وذلك؛ لأنه يقر مبدأ تعدد الزوجات، ولكون الطلاق بيد الرجل، وكونه يطبق نظام الإرث الإسلامي، بل تطالب المنظمة بأن لا يكون للشريعة الغراء دور في صياغة الدستور الجديد. وهناك (منظمة آفاق العراق الجديد) التي تلتئم أسبوعياً في (مركز بغداد المجتمعي) ؛ حيث تقدم لسلطة الائتلاف معلومات عن فرص العمالة والتدريب للنساء. كما تم افتتاح العديد من المراكز في بغداد والمحافظات؛ ففي بغداد هناك (مركز النخلة الخضراء،) و (مركز المنصور للفرص النسائية) ، و (مؤسسة مركز الحوراء) ، و (مركز الديوانية لحقوق النساء في الديوانية) ، و (مركز فاطمة الزهراء لحقوق النساء في الحلة) ، و (مركز ختوزين في أربيل للعمل الاجتماعي) ؛ كل هذه المراكز والعديد غيرها تمول من قِبَل الاحتلال الأمريكي.
وتسهم هذه المراكز والمؤسسات في نشر الفكر العلماني والإلحادي بين نساء العراق بحجة الديمقراطية والحرية والمساواة مع الرجل، وتدعو إلى الاختلاط بين الجنسين وعدم تجريم الزنا؛ كما تدعو إلى خلع الحجاب وتصمه بالتخلف. كما تشن هذه الجمعيات حملة إعلامية تتهم فيها الإسلاميين بالاعتداء على غير المحجبات وملاحقتهن وإلحاق الضرر بهن، وهي تستغل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيش فيها شعب العراق لاجتذاب المرأة العراقية إليها. وقد فرض الاحتلال على أتباعه ممن كان في مجلس الحكم فيما يسمى قانون إدارة الدولة المؤقت أن لا يقل تمثيل النساء في الجمعية الوطنية المنتخبة عن 25% من المقاعد؛ وذلك لإعطاء الحقوق الكاملة للمرأة.
وهناك وزارة تسمى (وزارة شؤون المرأة) وذلك مما يثير السخرية؛ فكأن المرأة شيء مستقل عن المجتمع. وفي الوقت نفسه يؤكد ما سبق إن قلناه إن هناك مخططاً كبيراً يعد للمرأة العراقية يريدون من خلاله تغريب المجتمع العراقي ونشر الفساد فيه.
- المعاناة الاقتصادية للمرأة العراقية:
يعاني الاقتصاد العراقي من تردٍ كبير في مستوى أدائه؛ فالبطالة ضاربة أطنابها في المجتمع؛ إذ بلغت الحضيض، ومستوى المعيشة للأفراد في أدنى مستواه. فباب التعيين مغلق، ونسبة البطالة 70% إلا في مجال الأجهزة الأمنية والشرطة والجيش؛ مما ولد معاناة كبيرة لدى الأسرة العراقية التي بات الكثير منها لا يستطيع توفير القوت اليومي.
وهذه المعاناة الجديدة جاءت بعد معاناة متراكمة من جراء الحصار الذي استمر أكثر من عقد من الزمن. وقد أدى ذلك إلى حدوث تفكك في بناء الأسرة؛ حيث اضطرت الأسر إلى عدم إرسال أبنائهم إلى المدارس ودفعهم بهم إلى العمل في مهن الشوارع التي تكون بيئة صالحة للانحراف. وجل هذه المعاناة وقعت على المرأة العراقية خصوصاً؛ أن المجتمع العراقي مجتمع نسوي؛ إذ تشكل النساء فيه نسبة 52% فوجد الكثير من النساء أنفسهن دون معيل، بل هناك من وجدنَ حسب تعداد 1997م أنفسهنَّ مسؤولات عن إعالة عائلة كبيرة، فدفع ذلك بعضهن إلى العمل في مهن لا تناسبهن، فانخرط قسم منهن في الشرطة والأجهزة الأمنية، وقسم منهن انحرف أخلاقياً بحجة الظرف الصعب مما أدى إلى تعرض العديد من النساء لأنواع متعددة من العنف، وظاهرة التجارة بالبشر انتشرت في المجتمع العراقي.
كما أدى الوضع الاقتصادي المتردي إلى عزوف العديد من الرجال عن الزواج مما أدى إلى ارتفاع نسبة العنوسة بين النساء العراقيات. وكل هذه المعاناة للمرأة العراقية تسير وفق مخطط معد لذلك.
- أصالة المرأة العراقية:
ولكن في المقابل هناك العديد من الصور المشرقة التي تؤكد أصالة المرأة العراقية واعتزازها بقيم دينها وأمتها. لقد سطرت المرأة العراقية من المواقف ما يجعلها مصدر عز وفخر. لقد سدت غيبة زوجها وابنها وأخيها المجاهد، فقامت بالأسرة ولم تجعلها تحس بغياب المعيل الذي يثخن بالعدو ويستشهد وهو يوصي إخوته بزوجته وبناته. وعندما يذهب الناس للتعزية ويعرضون المساعدة تقف المرأة المسلمة وقفتها فترفض المساعدة وتقدمها لإخوته ليستمروا في الدرب، وتقنع هي وعيالها بالعيش الكفاف، وتصبر وتُصابر وتنتظر نصر الله لعباده وهو قريب بإذن الله. ومن هذه النماذج الأخت (أم أحمد) من أهالي الدورة في بغداد؛ فقد كانت هذه الأخت نصرانية تعرفت على أبي أحمد في الجامعة وهداها الله على يده، فأسلمت وتزوجا، ولما دعا داعي الجهاد كان أبو أحمد ممن لبى النداء وأكرمه الله بالشهادة، فعانت الأخت من أسرة زوجها ومن أهلها، فأهل زوجها أهملوها وأهلها يدعونها إلى الرجوع إلى دينهم ويقدمون لها المغريات على ذلك، ولكنها بقيت صابرة محتسبة تعيل سبعة أطفال أكبرهم يبلغ العاشرة تعاني من شظف العيش، ولكنها بقيت على دينها وعهدها للعقيدة التي استشهد من أجلها أبو أحمد.
وقد أنشأت المرأة العراقية العديد من المنظمات والجمعيات النسوية الإسلامية التي أخذت على عاتقها تحصين المرأة العراقية ثقافياً واقتصادياً؛ حيث وفرت هذه الجمعيات النسوية فرص عمل للعديد من النساء؛ كما مدت يد العون والمساعدة لهن كالرابطة الإسلامية لنساء العراق، ورابطة المرأة المسلمة، ومنتدى المرأة المسلمة وجمعية الأخت المسلمة، والفرع النسوي في هيئة علماء المسلمين. ولقد انتشرت المحلات المختصة بملابس المرأة المسلمة والحجاب مما يدل على بداية صحوة جديدة تعيشها المرأة المسلمة في العراق؛ وكما قيل فإن المحنة أحياناً تتحول إلى منحة.
- الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة العراقية من قِبَل قوات الاحتلال كثيرة:
تقول الأخت فارعة رفاعي: «لا أعتقد أن هناك امرأة في العالم تتعرض للانتهاكات كما تتعرض له المرأة العراقية من إهانات وضغط نفسي. إن المرأة العراقية تؤخذ من منزلها حالها حال الرجل مقيدة اليدين من الخلف، وتُحمل على سيارة (الهمر) وتؤخذ إلى المعتقل بملابس البيت، ولا يسمح لها بوضع الحجاب على رأسها» . هذا وصف لبعض ما يجري للمرأة العراقية وما خفي كان أعظم.
إن الطريقة التي تداهم بها البيوت من قِبَل قوات الاحتلال أقل ما يقال فيها أنها طريقة وحشية تترك آثاراً نفسية صعبة على الأسرة؛ فضلاً عن الآثار المادية. إنَّ استخدام القنابل والمدرعات في فتح الأبواب، واستخدام القنابل الصوتية لإثارة الفزع لدى أهل الدار، وحشر النساء والأطفال في غرفة، وإهانة الرجال أمامهم بوضع الأحذية فوق رؤوسهم والاعتداء بالشتم؛ كل هذه الأمور المروعة اعتادتها المرأة العراقية.
بل لم تكن المرأة العراقية فقط مشاهدة لذلك؛ فقد حصلت على نصيبها من هذه الانتهاكات؛ فيعتدى عليها بالضرب إذا حاولت الدفاع عن زوجها ومقتنياتها الذهبية مما يبحث عنه المحتلون لسرقته مع الأموال الموجودة في البيت؛ وبكسر أثاث بيتها أمام عينها، ويتركون البيت مقلوباً رأساً على عقب. بل لقد أصبحت المرأة وسيلة من وسائل الضغط على الرجال، فيأخذها المحتل رهينة لإجبار الرجال على تسليم أنفسهم؛ وهذا من الحوادث المتكررة بكثرة.
فسجون الاحتلال تغص بمئات النساء المسلمات التي لا يُعلَم عددهن بالضبط؛ فقوات الاحتلال لا تقدم إحصاءً بالمعتقلين فضلاً عن المُعتقَلات، والمنظمات الدولية مغيَّبة وإن سمح لبعضها بزيارة بعض السجون فهي لا تطلع إلا على النماذج التي تعطي صورة حسنة عن قوات الاحتلال.
إن المرأة العراقية تعاني من قسوة السجون الأمريكية فهي تتعرض للتعذيب والضرب والإهانة وشتى أنواع العذاب منها ما يصل إلى الاغتصاب والقتل. ولا يصل إلى وسائل الإعلام من هذه التفاصيل إلا القليل؛ فمن يخرجن من السجون لا يستطعن الحديث عن كل ما يجري لهن بسبب الوضع الاجتماعي العراقي الذي تغلب عليه العادات العشائرية.
ولكن ما وصل من ذلك تشيب له الرؤوس؛ فكثيراً ما كان النساء يبقين فترة طويلة دون طعام، كما أنهن يحرمن من الذهاب إلى المرافق الصحية إلا في أوقات يحددها السجن، وعندما تذهب إلى المرافق تمنع من وضع ستار يسترها، كما أنه لا تتوفر شروط الرعاية الصحية للسجينات. إنَّ تعرية الرجال وإدخالهم إلى سجون النساء وإبقاءهم مدة من الزمن داخل هذه السجون من الأمور التي تكررت بكثرة، وكانوا يركزون على العلماء والشيوخ وكبار السن في ذلك. وكذلك ممارسة الجنس أمام السجناء سواء المجندات مع السجناء أو الجنود مع المعتقلات أو الكفرة فيما بينهم.
هم يريدون إرسال رسالة للشعب المسلم بأننا نحاربكم بأعز ما تعتزون به وهو شرفكم، ولكن هيهات! لقد تحولت هذه السجون بفضل الله إلى دورات روحية يخرج منها العراقيون أكثر إصراراً وعزيمة على مواصلة الدرب، فكم من أخ وأخت أُخِذَ بطريق الخطأ فخرج من السجن مجاهداً يطلب الشهادة في سبيل الله، والنساء يخرجن عازماتٍ على مواصلة الدرب ولسان حالهن يقول للكفرة: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] .
لقد ساهمت المرأة العراقية بقوة في مقاومة المحتل بوسائل فريدة ومؤثرة كانت محل الإعجاب والتقدير ثبتها الله وربط على قلبها لمواجهة ما تعانيه من ضر.
هذه بعض من صور معاناة المرأة العراقية. قد تكون محنتها عظيمة، ولكنها جزء من معاناة الشعب المسلم في هذا البلد. إنَّ ما يتعرض له العراقيون وخصوصاً أهل السنة فيه لم يتعرض له شعب على مر التأريخ، ولكن الله معه وناصره لا محالة ما دامت بشائر العودة إلى الدين تنتشر بقوة بين نساء المسلمين ورجالهم؛ هذه العودة هي التي تبعث على التفاؤل بنصر الله رغم المحن {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .(215/20)
جارانج والرقص على أشلاء الإسلاميين
أحمد فهمي
عندما يستبدل الإسلاميون بوصلتهم العقائدية بأخرى سياسية، فإن الاتجاهات والمواقف تتبدل على الفور، ليصبح الصديق عدواً والعدو صديقاً، وهذا الأمر لا يتضح في مكان كما يتضح في السودان.
في نهاية التسعينيات وعندما بدأت الإشاعات والأقاويل تتسرب عن الخلاف بين الرئيس السوداني عمر البشير والزعيم الإسلامي حسن الترابي، كان الطرفان يحرصان على الظهور معاً أمام وسائل الإعلام للتأكيد على عمق الروابط الأخوية، وفي لقطات طريفة كانا يرقصان سوياً بالعصي على الطريقة السودانية، وهو ما اعتبره وقتها بعض المراقبين ذوي النظرات القاتمة مؤشراً على معارك «تحطيب» أو كسر عظام قادمة.
كان العدو الأول لجناحي الإنقاذ المنفصلين هو الحركة الشعبية التي يتزعمها جون جارانج، وكانت الحرب لا تزال مستعرة، لكن في سنوات قليلة تلاشت العداوة وتبدلت البوصلة، وأصبح جون جارانج نائباً للرئيس، والترابي غائباً في السجن، ومن المفارقات التزامن المعبر بين خروج الترابي من سجنه قبل شهر وخروج النائب الثاني علي عثمان طه من منزله في الخرطوم تاركاً إياه مؤقتاً على سبيل الضيافة للنائب الثاني جون جارانج.
وعلى الجانب الآخر لم يتوانَ الدكتور الترابي بعد خروجه عن شن هجمة شرسة على المؤتمر الوطني الحاكم رافضاً حصوله على نسبة 52% من الحقائب الوزارية، بينما أقر في نفس الوقت أحقية حزب جارانج بنسبة 30%، وقال صراحة: «لا أنتقد تمثيل الجنوب فهم يستحقون؛ لأنهم حُرِموا لفترة طويلة» أما رفاقه الإسلاميون فلا يستحقون.
وما بين عشية وضحاها أصبح جارانج محور التحالفات والأحداث في الخرطوم، وبمجرد أدائه لليمين الدستورية اشتعلت حرب الفتاوى والمصالح بين مختلف الأطراف، ما بين مؤيد للانضمام إلى حزب جارانج باعتباره ممثلاً للسودانيين كافة، وما بين محرِّم للانتماء إلى حزب علماني انفصالي يقوده النصارى.
وفي داخل المؤتمر الوطني لم يكن اتفاق السلام عامل استقرار، بل كان محفزاً للاستقطاب وإعادة ترتيب المواقف؛ فالبقاء على نهج الإنقاذ القديم كان يعني التقوقع سياسياً ودفع الأعضاء المترقبين كي يتحولوا إلى المؤتمر الشعبي للشماليين أو الحركة الشعبية للجنوبيين، كما أن الانفتاح على كافة الأطياف لن يرضي كافة الأطراف، وحتى الآن ليس واضحاً من سيتحول إلى عالم الظلال، ومن سيحظى بجزء من الكعكة التي انتفخت لاستيعاب 64 وزيراً، نصفهم على الأقل بلا وزارة.
يبقى أن المَعْلَم الأكثر وضوحاً هو المهمة المقدسة لجون جارانج وهي: إزالة الأطلال السياسية الإسلامية في السودان، والمهلة المتاحة: ست سنوات حتى انتهاء الفترة الانتقالية التي يستطيع بعدها أن يؤسس مطمئناً دولته في الجنوب، بعد أن يكون قد نقل اتجاهات البوصلة الأربع إلى الشمال المسلم.(215/21)
المسلمون في استراليا
سامي الدبيخي - أمير بتلر
تبعد دولة أستراليا عن أرض الحرمين 15000 كم، وفيها جالية إسلامية تقارب 300000 مسلم من أصل عشرين مليون نسمة؛ وبما أن القليل من يعرف عن شأن الإسلام في أستراليا؛ لذلك فإن الكاتبين أخذا المبادرة لكتابة تقرير موجه بالدرجة الأولى للعلماء والدعاة والجمعيات الإسلامية من أجل توضيح الصورة عن وضع الإسلام والمسلمين في أستراليا. وهذا التقرير يلقي الضوء على تاريخ الإسلام في أستراليا، والوضع السكاني والاقتصادي للمسلمين، والجمعيات والمدارس الخاصة بالمسلمين. وفي نهاية التقرير أعطى الكاتبان عناصر لتقييم الوضع للجالية الإسلامية في أستراليا. وللخروج بصورة أشمل عن الإسلام والمسلمين هناك، ينصح الكاتبان بالاطلاع على الحوار المنشور لهما في مجلة البيان العدد (201) جمادى الأول 1425هـ.
1 - تاريخ الإسلام في أستراليا:
عاصر دخول الإسلام إلى القارة الأسترالية وصول المستعمرات الغربية؛ حيث اعتمد الإنجليز على الأفغان المسلمين في نقل البضائع والتموين وتشييد الطرق، وقد وصل عددهم في عام 1931م إلى ما يقارب 393 رجلاً قدموا للعمل بغير عوائلهم التي فضّلوا بقاءها في أفغانستان بسبب عدم سماح النظام الأسترالي في ذلك الوقت بقدوم نساء الأفغان. وبما أن الإنجليز لم يمنحوا الأفغان الجنسية رغم مساهمتهم بتطوير البلاد، وقد وجد الأفغان البلد غير مناسبة للحفاظ على هويتهم الإسلامية؛ ولهذا فإن معظمهم عاد إلى أفغانستان، والقليل منهم مكث في أستراليا وتزوج من سكان البلد الأصليين والإنجليز، وقد خلّف الأفغان المسلمون خلفهم بعض العادات والتقاليد والمباني التي ما زالت إلى الوقت الحاضر ملموسة في الجالية الإسلامية.
إن نشر الإسلام في القارة الأسترالية في عام 1866م كان أهم وأعظم مساهمة قام بها الأفغان، وما زال الصدق والأمانة وحسن المعاملة والالتزام بتعاليم الدين الإسلامي متعلقة بأذهان الأستراليين حول أولئك الرجال، إلى درجة أن عدم شربهم للخمر قد أدهش الغربيين. ورغم احترام المسلمين للأنظمة إلا أن وضعهم كان صعباً وضعيفاً؛ لأن الغرب يراهم متخلفين بسبب تمسكهم بالإسلام، ولكن التأريخ يوضح أن الأفغان ليسوا أول من وصل إلى أستراليا؛ حيث إن التجار المسلمين كان لهم علاقات مع سكان شمال أستراليا الأصليين في القرن السابع عشر الميلادي. ولكن تأثير الأفغان حالياً هو القائم والمشهود له. ومساهمة المسلمين بشكل عام في التجارة والصناعة والزراعة ظاهر في جميع الولايات الأسترالية ومعترف به. واليوم فإن عدد المسلمين في أستراليا يقارب 300000 مسلم تقريباً، يقطن 80% منهم في مدينتي سدني وملبورن.
2 - المسلمون في أستراليا:
إحصائيات سكانية:
حسب آخر الإحصائيات الرسمية السابقة في عام 2001 فإن هناك ما يقارب 300000 مسلم من 20 مليون نسمة في أستراليا؛ ولذلك تعتبر الجالية الإسلامية قليلة، ويمكن ملاحظة ذلك في الجدول (1) ؛ حيث وجد بموجب الإحصاء الرسمي الأخير أن 36% فقط من المسلمين هم من مواليد أستراليا، وأما الأغلبية فهم من مواليد خارج أستراليا؛ وهذا يوضح أن المسلمين الأستراليين في الحقيقة هم من مهاجري الجيل الأول.
جدول (1)
دول الولادة للمسلمين الأستراليين
م دولة الولادة النسبة
1 استراليا 36%
2 لبنان 10%
3 تركيا 8%
4 أفغانستان 3.5%
5 البوسنة 3.5%
6 باكستان 3.2%
7 إندونيسيا 2.9%
8 العراق 2.8%
9 بنجلاديش 2.7%
10 إيران 2.3%
11 فيجي 2.00%
ومما يجدر الإشارة إليه أنه ليس من الضروري أن أغلب 36% من مواليد أستراليا المسلمين هم من أصول غربية، بل الإحصائيات توضح أن 30% من هذه الشريحة من أصل لبناني، و18% من أصل تركي. والجدول (2) يوضح أصول الجالية المسلمة الأسترالية حسب أصولهم.
جدول (2)
مناطق الولادة لمسلمي استراليا
المنطقة النسبة
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 28%
آسيا 16%
أوروبا 9%
أفريقيا 4%
سواحيليون (استثناء استراليا) 3%
وعلى الرغم من أن العديد من المسلمين من الجالية التركية إلا أن أغلب اللبنانيين في أستراليا في الواقع نصارى، وأكثر الأتراك مسلمون؛ إلا أن فيهم ديانات أخرى متعددة مثل العلويين (النصيريين) والنصارى.
والجدول (3) يوضح نسبة المسلمين حسب اغلب العرقيات المسلمة والموجودة في أستراليا. وتجدر الإشارة إلى أنه في أغلب الحالات مثل الأندونيسيين النصارى والباكستانيين النصارى طلبوا الهجرة إلى أستراليا تحت ادعاء الهروب من الظلم الإسلامي في دولهم.
جدول (2)
مناطق الولادة لمسلمي استراليا
موطن الولادة عدد المولودين خارج استراليا عدد المسلمين نسبة المسلمين
لبنان 34971 32129 41%
تركيا 82129 47923 79%
أفغانستان 29611 9239 88%
البوسنة 84823 8929 42%
باكستان 87511 2389 78%
إندونيسيا 15847 0878 17%
العراق 83224 7497 31%
بنجلاديش 0779 5967 84%
إيران 78918 3536 34%
فيجي 26144 7725 13%
وأما من الجانب السكاني فيشكل الذكور من المسلمين الأستراليين نسبة 53%، بينما الإناث 47% وهذه النسبة متباينة مع النسبة السائدة لجميع السكان في أستراليا؛ حيث يشكل الذكور 49% والإناث 51% مقارنة مع غير المسلمين في أستراليا. وشريحة المسلمين أغلبها من جيل الشباب، وتقل نسبياً شريحة من هم في سن العمل (25 - 64 عاماً) . وبناء على ذلك فليس من المستغرب أن 25.2% تقريباً من المسلمين لم يسبق لهم الزواج، و 67.8% متزوجون، و 2.4% منفصلون من أزواجهم، و 2.4% مطلقون، 2.2% أرامل. ومن المناسب الإشارة إلى أن 4.6% فقط من المسلمين مطلقون أو منفصلون وهذه النسبة أقل بشكل كبير من المعدل الوطني الأسترالي. وأما المسلمات الأستراليات اللاتي تتجاوز أعمارهن 15 عاماً، فإن 26.7% منهن ليس لديهن أطفال، و 13.1% لديهن طفل، و20.9% لديهن طفلان، و 15.8% لديهن ثلاثة أطفال، و 9.6% لديهن أربعة أطفال و 13.9% لديهن خمسة أطفال أو أكثر.
- التعليم والعمل:
هناك ظاهرة متعارف عليها في أستراليا وهي أن المسلمين كجالية أقل بكثير من الناحية التعليمية والمشاركة في سوق العمل؛ وذلك مقارنة ببقية الشعب الأسترالي، ومع الأسف فإن الإحصائيات الرسمية الأخيرة (2001م) أكدت هذه الظاهرة. 69.6% من المسلمين الذكور الذين تتجاوز أعمارهم 15 عاماً موظفون، وكذلك 38.6% من النساء المتزوجات موظفات، و36.15 % من النساء غير المتزوجات موظفات، و 26.8% من المسلمين الذكور الذين تتجاوز أعمارهم 15 عاماً يصفون أنفسهم غير موظفين، بينما 31.6% من النساء المتزوجات، و 33.5% من غير المتزوجات يصفن أنفسهن غير موظفات.
ويصور شكل (1) المستوى التعليمي لمسلمي أستراليا؛ حيث إن 4% فقط من المسلمين حاصلون على شهادة جامعية، و 1.6% على دبلوم، و 6% على شهادة تجارة و 10.7% على أنواع أخرى من الشهادات، و 76.7% ليس لديهم أي مؤهلات علمية. وحالياً فإن كل شخص من بين أربعة مسلمين عاطل عن العمل؛ مما يخلق قلقاً للجالية الإسلامية التي تعتمد على المساعدة الحكومية. ويتضح من ذلك أن الجالية الإسلامية في أستراليا تخطو إلى أن تعتبر فئة عاملة؛ حيث إن 47.7% يمكن وصفهم بأنهم فئة عاملة، و 8.5% يعملون في المجال المهني العالي.
يوضح شكل (2) أن أغلبية المسلمين يعيشون على الساحل الشرقي لقارة أستراليا وخاصة في ولايتي (نيوساوث ولز) و (فكتوريا) .
يوضح شكل (3) أن جميع المسلمين الذين تتجاوز أعمارهم 15 عاماً منهم 14.6% دخلهم السنوي 9000 دولار أسترالي فأقل، و 39.5% دخلهم السنوي بين 9001 - 15000 دولار أسترالي، و31.7% دخلهم السنوي بين 15001 - 22000 دولار أسترالي، و 10.2% دخلهم السنوي بين 22001 - 32000 دولار أسترالي، و 2.3% دخلهم السنوي بين 32001 - 40000، و1.7% دخلهم السنوي أعلى من 40000 دولار أسترالي. وهذا يوضح أن معدل الدخل السنوي 25000 دولار أسترالي سنوياً، وهو معدل منخفض جداً.
3 - المساجد والجمعيات الإسلامية في أستراليا:
لمحة تاريخية:
في الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي أُسست أول الجمعيات الإسلامية في كل من ولاية فكتوريا، وعاصمتها مدينة ملبورن، ونيوساوث ويلز، وعاصمتها سدني. وقد بدأت الجمعية الإسلامية في فكتوريا نشاطها في عام 1957م، وكان لها ممثلون من العرب والأتراك واليوغسلافيين والهنود، ولكن الأتراك كانوا من أول المنسحبين، وأسسوا جمعية خاصة بهم، وأنشؤوا في منطقة كوبرق في عام 1971م مسجد الفتح. وأصبحت الجمعية الإسلامية في فكتوريا جمعية إسلامية أغلب ممثليها من الجالية اللبنانية. وفي الجانب الآخر فإن الجمعية الإسلامية في ولاية نيوساوث ولز لم تتحول بنفس الأسلوب، ولكن الجالية اللبنانية غادرت الجمعية في عام 1961م وأنشأت جمعية مستقلة سمتها: (الجمعية اللبنانية الإسلامية) ومقرها مدينة سدني.
وأما المهاجرون المسلمون من العرقيات المختلفة، وحتى أثناء ازدياد ظاهرة الجمعيات الإسلامية العرقية على السطح؛ فقد حاولوا بناء درجة من الوحدة بين الجالية الإسلامية متجاهلين بذلك قضية العرقية؛ ونظراً للجهود التي بذلت من بعض القيادات الإسلامية أمثال الشيخ فهمي الإمام، وعبد الخالق قاصي، وإبراهيم ديلل وغيرهم، فقد أُسس الاتحاد الأسترالي للجمعيات الإسلامية (أفس) في عام 1946م، وبالرغم من أن الانقسام والنقاش كانا مشتركين كما هو في أي مجتمع يعتمد على العمل التطوعي فقد نما الاتحاد بقوة.
وفي عام 1974م حدثت نقطة التحول عندما قدم وفد من المملكة العربية السعودية مكوناً من الدكتور عبد الله الزايد، والدكتور علي كتاني المستشار لدى الملك فيصل؛ وذلك من أجل تقصي حاجات الجالية الإسلامية في أستراليا. وقد دعم الوفد منهجاً جديداً لجمعية إسلامية تعالج قضية الانقسام العرقي، ومشكلة توحيد جميع الولايات تحت مظلة واحدة ومشكلة القلق بين القيادات الإسلامية.
وكانت اول التحديات تدور حول: إذا كانت المنظمة الوطنية المقترحة سيسيطر عليها 90% من المسلمين في مدينتي سدني وملبورن؛ فلماذا الجمعيات الإسلامية في الولايات الأسترالية الصغيرة تكلف نفسها الانضمام من الأساس؟ وهذه كانت المشكلة نفسها التي واجهت الاتحاد الأسترالي للجمعيات الإسلامية. وتغلب الوفد على هذه المشكلة بتبني فكرة مجلس النواب الممثل من كل ولاية؛ حيث يكون التمثيل في المجلس بالمقاعد من كل ولاية، وليس اعتماداً على حجم المسلمين في كل ولاية. ورُحِّب بتوصيات الوفد من الاتجاه السائد في المجتمع المسلم، لكنها ما زالت بانتظار التطبيق بالكامل، وتتمثل التوصيات في الآتي:
أولاً: التخلص التدريجي من الجمعيات الإسلامية المبنية على أسس عنصرية أو طائفية أو اللغة المشتركة.
ثانياً: الشروع في تأسيس جمعيات إسلامية بناءً على أسس جغرافية في كل ولاية أسترالية.
ثالثاً: تأسيس مجلس إسلامي لكل ولاية.
رابعاً: تشكيل ائتلاف بين المجالس الإسلامية للولايات الأسترالية في اتحاد إسلامي على المستوى الوطني.
والتوصيتان الأخيرتان هما اللتان أخذتا الشكل العملي في حيز الواقع، بينما ما زال التفاخر العرقي يفرق ويقسم الجالية الإسلامية على الرغم من أنه حالياً يعاصر الجيل الثاني والثالث من المسلمين مواليد أستراليا. وبناء على ذلك أسس الاتحاد الأسترالي للمجالس الإسلامية (أفيك) في عام 1976م؛ نتيجة لوفد السعودية في عام 1974م؛ وذلك من أجل مساعدة الجالية الإسلامية لتأسيسها على أسس مالية صحيحة، وتبرع الوفد بمبلغ مليون ومئتي ألف دولار أسترالي لصندوق (أفيك) من أجل توزيعه على الجمعيات والمراكز الإسلامية في أرجاء أستراليا؛ لتأسيس المساجد والمراكز الإسلامية.
كما أوصى الوفد أن يعترف بـ (أفيك) كممثلة للمسلمين في أستراليا، وتصبح الهيئة العليا في أستراليا جهة للتصديق على الذبح حسب الشريعة الإسلامية، وكان القصد من وراء هذه التوصية جعل الجالية الإسلامية في أستراليا معتمدة على نفسها وأقل اعتماداً على الدعم الخارجي. وجاء القرار الملكي السعودي السامي في عام 1976م الذي حدد شهادات اللحم الحلال الصادرة من (أفيك) فقط؛ للموافقة على استيراد اللحم من أستراليا إلى السعودية، وقد عملت بالمثل دول إسلامية أخرى كالإمارات العربية المتحدة في عام 1980م، والكويت في عام 1982م.
وأصبح لشهادة اللحم الحلال فائدة، وفي نفس الوقت مشكلة لـ (أفيك) .. وقد كانت فائدة من حيث أن القيمة المحصلة من المذابح للحصول على الشهادة تستخدم كمصدر للجمعيات والمجالس الإسلامية لإنشاء المساجد، ولكن مع الأسف فإن تشييد معظم المساجد يتعارض مباشرة مع توصيات الوفد السعودي من حيث أن كل مجموعة عرقية ترغب في إنشاء المسجد الخاص بها، حتى وصل الأمر إلى أن المجموعات الفرعية من أصل الجماعات العرقية ترغب بأماكن خاصة بها للصلاة.
إن إعطاء (أفيك) الحق في إصدار شهادة اللحم الحلال قوبل بمعارضة كبرى من مجموعات قامت بتأسيس شهادات للحم الحلال مثل (شركة صادق للحم الحلال في بيرث) و (رابطة المسلمين في برزبن) و (الجمعية الإسلامية لمسجد ادليد) . وفي عام 1982م تدخلت الجهات الحكومية الأسترالية المعنية باللحم والذبح وعارضت النظام المعمول به في (أفيك) بناءً على أنها تفرض رسوماً عالية على المسالخ، ولعدم قدرة النظام على الاستمرار؛ لعدم وجود الموظفين المتفرغين للعمل، وكان هناك نقد للنظام والذي يعتقد أنه أنشئ للاستغلال.
والحقيقة أن الاستغلال كان كبيراً جداً؛ حيث أشارت إحدى التقارير الرسمية إلى أن النظام الحالي لا يمكن له السماح بالاستمرار، وكذلك فإن الشهادات والتواقيع زُوِّرت من أجل تجنب الرسوم المفروضة من (أفيك) ، وحتى المعينون للذبح من قِبَل (أفيك) قاموا بتوقيع شهادات مزورة، وقد أشارت إحدى الشركات إلى أن عدم التمكين من الحصول على شهادة اللحم الحلال في الوقت المحدد للشحن الجوي ساعد على مثل هذه الظاهرة؛ إلى درجة أن وزير الصناعات الأولية في مجلس الحكومة الأسترالية أفاد بأنه سمع في عام 1981م أن لحم الكناغر وجد في كراتين لحم الغنم في المملكة العربية السعودية؛ ولذلك تدخلت الحكومة الأسترالية في الموضوع من أجل حماية الصادرات الأسترالية.
دور (أفيك) حالياً ليس له علاقة قوية في حياة المسلمين، إلا أنه ينحصر في إدارة بعض المدارس وغالبها في ولاية (نيو ساوث ولز) والتي عاصمتها سدني، والحقيقة أن انعدام علاقة (أفيك) بحياة المسلمين راجع إلى أن معظم المسلمين في أستراليا لا يعرفونها أو لا يعرفون دورها ورسالتها على الإطلاق.
المساجد:
هناك 100 مسجد تقريباً في أستراليا، تنظم أغلبها بصفة رسمية أو غير رسمية على المحاور العنصرية. فعلى سبيل المثال: الجالية التركية لديها مساجد يترأسها أتراك ويؤمها أئمة معينون من قِبَل الحكومة التركية، وهناك القليل من المساجد يترأسها بعض متعددي الأعراق. وتؤيد الحكومة الأسترالية المساجد المتوافقة مع أنظمتها في دعم تعدد الجماعات الطائفية؛ ولذلك يقدَّم لها الدعم المالي للقيام بالأنشطة وتقديم الخدمات للجالية الإسلامية، وبالإضافة إلى كون المساجد دوراً للعبادة؛ فإن معظمها تنظم دراسة أيام إجازة نهاية الأسبوع (السبت، والأحد) حيث يدرس فيها القرآن واللغة العربية للأطفال. والعديد من المساجد تم تشييدها اعتماداً على الدعم المقدم من الجمعيات الخيرية وبعض الدول الأسلامية. ومما يجدر الإشارة إليه أن أحد أوجه النقص في سياسات الدعم الخيري للمساجد والجمعيات الإسلامية في أستراليا لم تكن مربوطة بمنهج الجمعيات والناس القائمين عليها.
المدارس الإسلامية:
هناك نظامان للتعليم الإسلامي في أستراليا: الأول: غير رسمي ويأخذ شكل المدارس الواقعة في المساجد والمراكز الإسلامية والتي تدرس القرآن والعلوم الإسلامية خلال إجازة الأسبوع. والنظام الثاني: عن طريق المدارس الإسلامية الرسمية المدعومة من قِبَل الحكومة الأسترالية، والتي تدرس في هذه المدارس العلوم الإسلامية بالإضافة إلى المنهج الأسترالي. وأكبر المدارس (مدرسة الملك خالد الإسلامية) في مدينة ملبورن و (مدرسة الملك فهد الإسلامية) في مدينة سدني، وتحوي كل منهما على ما يقارب ألف طالب وطالبة.
وعلى الرغم من أن معظم المدارس الإسلامية أسست على دعم مقدم من الخارج، إلا أنها تعتمد حالياً في التموين على الرسوم الدراسية، والدعم المقدم من الحكومة للمدارس الخاصة، ومعظم المدارس التركية الإسلامية تصرف عليها الحكومة التركية، وينعكس ذلك على نوعية الدراسات الإسلامية المقدمة. ويوجد هناك عشر مدارس إسلامية في ولاية نيوساوث ولز وعاصمتها سدني، وسبع مدارس إسلامية في فكتوريا وعاصمتها ملبورن، وثلاث مدارس إسلامية في غرب أستراليا وعاصمتها بيرث، ومدرسة إسلامية في كوينزلاند وعاصمتها برزبن، ومدرسة إسلامية في جنوب أستراليا وعاصمتها أدليد.
وعلى الرغم من أن هناك العديد من المدارس الإسلامية في أستراليا، إلا أن هناك حاجة ملحة لمدرسة إسلامية مبنية على منهج أهل السنة والجماعة. وأقرب مدرسة لهذا المنهج حالياً هي مدرسة (دار العلوم) في ملبورن والقائم عليها جماعة التبليغ. ومعظم المدارس الإسلامية تتبنى المنهج الإسلامي في التدريس، ولكن عليها بعض المآخذ مثل عدم عزل الطلاب عن الطالبات حتى في المراحل المتقدمة، وتقديم بعض دروس العزف والغناء والرقص للطلبة. ويعود ذلك بسبب قناعات القائمين على التعليم فيها.
المنظمات الإعلامية الإسلامية:
إن كلاً من مدينتي سدني وملبورن تتمتعان بمحطات راديو تبث على نطاق محدود من مواقع محدودة، ومدينة سدني هي الوحيدة التي تتمتع بمحطة راديو إسلامية تبث على مدى 24 ساعة؛ ومع الأسف فإن التصريح لهذه المحطة هو لطائفة الأحباش، وتستخدم المحطة لبث عقيدة تلك الطائفة ونقد منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب. ومن ثَم فإن هذه المحطة مصدر قلق للمسلمين، ولكن أغلب المسلمين ـ ولله الحمد ـ على علم بطائفة الأحباش، وبأنهم ضد المنهج الإسلامي الصحيح؛ لذلك فإن القليل منهم يأخذ ما يقال في الراديو على وجه الجدية. وللأسف فإن هذه المحطة تعتبر فرصة ضائعة على المسلمين.
وأما الصحف في أستراليا فلا يوجد هناك صحيفة إسلامية، بينما يوجد مجلتان:
الأولى: (سلام) ويصدرها «اتحاد رابطة الطلبة والشباب المسلمين في أستراليا» .
الثانية: (نداء الإسلام) وتصدرها «حركة الشباب الإسلامي» .
وهناك أيضا اللجنة الأسترالية للشؤون العامة للمسلمين (أمباك) ومقرها مدينة ملبورن، وهي من الجمعيات التي تمثل الإسلام في وسائل الإعلام، وتنشر الدعوة من خلال استعمال المنافذ المتوفرة للقارئ الأسترالي، وطرق الإقناع التي يستسيغها. وقد قامت الجمعية بنشر 100 مقال تقريباً في وسائل الإعلام حول العالم، وقد تم تشييد اللجنة اعتماداً على اعتقادات أهل السنة والجماعة. وأبرز الجمعيات الدعوية:
أولاً: المركز الإسلامي للمعلومات والخدمات في أستراليا (إيسنا) :
Islamic Information & Services Network of Australasia (IISNA)
إن هذا المركز يعتبر أكبر جمعية إسلامية تدعو إلى الفهم الصحيح للإسلام حسب منهج أهل السنة والجماعة، ويتمركز في مدينة ملبورن الأسترالية، ويعقد المركز سنوياً العديد من المؤتمرات، ويستضيف العديد من العلماء وأغلبهم من الجامعات الإسلامية السعودية. علماً أنه ليس للمركز علاقة بمنظمة إسنا العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية. وتنتج (إيسنا) أشرطتها الدعوية من خلال أستديو خاص بالإنتاج والتوزيع الإعلامي، وهي تحاول تغطية حاجة الدعوة في أستراليا وخارجها. ويتم دعم الجمعية بشكل رئيس عن طريق الجالية الإسلامية اعتماداً على برنامج (دولار في اليوم من أجل الدعوة) وقد حصلت على مساعدات من مؤسسات إسلامية في السعودية؛ لتفعيل أنشطتها وبرامجها الدعوية. وتركز جمعية (إيسنا) على المسلمين غير الناطقين بالعربية وغير المسلمين، وتعمل على الدعوة خارج مدينة ملبورن؛ حيث تقوم بعقد المحاضرات في كل من سدني وبيرث وادليد، وبالإضافة إلى ذلك يقوم دعاة هذا المركز بزيارة إلى دولة نيوزلندا وفيجي للدعوة، ويقدر عدد الحضور لهذه المحاضرات ما يقارب 1000 شخص مما يجعلها من أقوى الجهات الدعوية في أستراليا، ولله الحمد. ونتيجة لجهود هذا المركز في الدعوة فإن في كل شهر تقريباً يعلن شخص أو شخصان إسلامهم.
ثانياً: الجمعية الإسلامية في فكتوريا (آي إس في) :
Islamic Society of Victoria (ISV)
وتتخذ هذه الجمعية مسجد عمر بن الخطاب في منطقة برستون شمال مدينة ملبورن مقراً لها، وترتبط أنشطة المسجد بمركز (إيسنا) الإسلامي. وتعتبر (آي إس في) مركز الدعوة الرئيس لمدينة ملبورن والذي يستهدف المسلمين العرب. ويتمتع المسجد بموقع متوسط في المناطق التي يسكنها المسلمون في المدينة، ويغلب عليه المنهج السلفي ـ بحمد الله ـ ويتمتع بشعبية طيبة من الجالية الإسلامية على اختلاف عروقها. وقد عقد في هذه الجمعية العديد من المؤتمرات والمحاضرات بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية، والجامعات الإسلامية. ويغلب على المجلس والمسجد الإدارة اللبنانية ذات العقيدة السليمة والحماس المنضبط في نشر الدعوة.
ثالثاً: مركز رابطة الشباب الإسلامي (جي آي واي سي) : Global Islamic Youth Centre (GIYC)
يوجد هذا المركز في مدينة سدني، وهو موجه لخدمة وتغطية الأحياء الواقعة في الجهة الشرقية لمدينة سدني؛ حيث تتمركز الجالية اللبنانية. وقد تبنى إنشاء المركز الشيخ (فايز نشار) خريج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهذا المركز يقتصر على دعوة محاضرين من داخل أستراليا، وقد قام المركز بتسخير بعض أجزائه لصالة ألعاب، ومركز حاسب آلي؛ لجذب الشباب للأنشطة باعتبار أنهم المستهدف الرئيس.
رابعاً: جمعية اتحاد المسلمين (أمة) :
United Muslim Association (UMA)
هذه الجمعية أنشأها الشيخ شادي سليمان، وهو إمام تلقى تعليمه في سوريا. والجمعية صغيرة الحجم ومركزها منطقة لوكمبي في مدينة سدني، ولها تعاون مع جمعية المسلمين اللبنانيين. وهي تقدم أنشطة موجهة إلى الشباب. وقد نجحت الجمعية في جذب الشريحة غير المتعلمة من الشباب أصحاب المشاكل والقضايا الأخلاقية، ويضم المركز مكتبة ومركزاً رياضياً ومطعماً؛ لإبقاء الشباب داخل المركز معظم الوقت.
خامساً: اتحاد رابطة الطلبة والشباب المسلمين في أستراليا (فامسي) :
Federation of Australian Muslim Students and Youth (FAMSY)
بدأ تاريخ فامسي في عام 1946م مع تأسيس جمعية الطلبة المسلمين في ولاية كوينزلاند الأسترالية ومقرها جامعة كوينزلاند، وخلال مؤتمر أفيس في عام 1966م اقترحت جمعية الطلبة المسلمين في كوينزلاند أن تقوم كل جامعة أسترالية بتأسيس جمعية طلابية إسلامية، ومع الوقت تم تأسيس جمعيات طلبة إسلامية في كل من جامعة أدليد، وأرمديل، وملبورن، ونيوكسل، وتازمينيا. وقامت جمعيات الطلبة الست مجتمعة في عام 1968م بتأسيس اتحاد للجمعيات الطلابية الإسلامية وأطلق عليها في عام 1993م (اتحاد الجامعات الأسترالية) وفتحت عضويتها للطلاب غير المسلمين، وأطلق عليها اسم فامسي. وتصدر فامسي مجلة شهرية تدعى (سلام) ، وتعقد محاضرة سنوية كجزء من مؤتمرها الوطني، وعمل الاتحاد في السابق مشاريع متنوعة مع الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
سادساً: جمعية الدعوة لغرب أستراليا:
Dawah Association of Western Australia
تقوم جمعية الدعوة لغرب أستراليا بنفس الدور الذي يؤديه المركز الإسلامي للمعلومات والخدمات في أستراليا (إيسنا) من حيث إنها تركز على دعوة غير المسلمين وتصحيح الفهم الخاطئ لدى الغرب عن الإسلام. وتعتبر الجمعية ناجحة ولها ظهور ونشاط في مدينة بيرث الأسترالية، وقد قامت الجمعية بتنظيم العديد من المحاضرات بالتعاون مع مركز (إيسنا) ، واستضافت محاضرين من خارج أستراليا.
سابعاً: جمعية التطوير الإسلامي في أستراليا (أدكا) :
Islamic Development Committee of Australia (IDCA)
شُكلت أدكا على طريقة ومنهج المركز الإسلامي للمعلومات والخدمات في أستراليا (إيسنا) والتي مقرها مدينة ملبورن، وتقع أدكا في مدينة سدني أكبر المدن الأسترالية، ولكن نشاطها مقتصر ومحدود على نطاق معين وقد نجحت في تغطيته، وتطمح الجمعية حالياً إلى التوسع، وتتركز أنشطتها الرئيسة على الحلقات والدروس الأسبوعية الموجهة إلى الشباب المسلم ممن يتحدث اللغة الإنجليزية.
ثامناً: الجمعيات الإسلامية النسائية:
يوجد هناك العديد من الجمعيات النسائية على مستوى أستراليا أشهرها جمعية النساء المسلمات في أستراليا، والجمعية الوطنية للمسلمات في أستراليا. بالإضافة إلى ذلك يوجد العديد من الجمعيات النسائية الموجهة للمسلمات في كل مدينة. ففي مدينة سدني ثلاث جمعيات نسائية إحداها سلفية المنهج وتدعى (جمعية الرفاهة النسائية الإسلامية «أيوا» ) . وفي ملبورن أيضاً جمعيتان نسائيتان.
تاسعاً: الجمعيات الصوفية:
هناك مع الأسف العديد من الجمعيات الصوفية في أستراليا، تتمركز في مدينة سدني وملبورن. وباعتقادنا أن المراكز الإسلامية تحد من نشاطها في تلك المدينتين. وتعمل الجمعيات ذات العقيدة السليمة على إظهار عقائدهم الباطلة لدى الشباب.
عاشراً: طائفة الأحباش:
قال رئيس طائفة الأحباش والتي تدعى (الجمعية الإسلامية للمشاريع الخيرية) في مقابلة مع التلفزيون الأسترالي في سدني: «إن طائفة الوهابية والطائفة الأخرى المسماة الجماعة الإسلامية يشكلون خطراً على الحكومات الغربية والتي هي على علم وإحاطة بذلك الخطر، ولكون هاتين الطائفتين موجودتان في أستراليا فنحن في خطر بالغ، وعلينا العمل والاستعداد لذلك الخطر» . وتكمن خطورة طائفة الاحباش في امتلاكهم لمحطة راديو تبث على مدار الأربع والعشرين ساعة، ويعتبرها بعض غير المسلمين المحطة الإسلامية، ولكن العامة من المسلمين يعتبرونها طائفة منشقة ومنحرفة المبدأ وخاصة بين اللبنانيين؛ لأن الطائفة منشؤها لبنان.
- نواحي القوة، والضعف، والفرص والتهديدات في وضع الإسلام والمسلمين في أستراليا:
أولاً: نواحي القوة:
1 - أن الجالية الإسلامية في أستراليا في مرحلة تجديد وخاصة بين الشباب.
2 - بالرغم من أن هناك جالية إسلامية صغيرة في أستراليا؛ إلا أن المنشآت والخدمات تعتبر جيدة؛ فهناك العديد من المدارس الإسلامية على سبيل المثال.
3 - أن الحكومة الأسترالية تدعم الإسلام والمسلمين مقارنة ببقية الدول الغربية؛ وذلك بناءً على سياستها العامة في دعم وتأييد الطوائف والعقائد المختلفة في أستراليا.
ثانياً: جوانب الضعف:
1 - ضعف المستوى التعليمي للمسلمين الذي أوقعهم في العديد من المشاكل، بل جعلهم في مناصب أقل من الديانات الأخرى.
2- انتشار البطالة بين المسلمين، بالإضافة إلى أن المرتبات التي يتقاضونها اقل من مرتبات الطوائف الأخرى؛ لضعف تعليمهم. وهذا بدوره يؤثر على المسلمين في دعم أنفسهم وتحقيق رغباتهم من حيث الدعوة إلى الله.
3 - الضعف الرئيس الذي يكمن في عدم وجود العلماء المتمكنين الذين لهم المرجعية؛ بالرغم من أن العديد هم من خريجي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة؛ إلا أن اثنين منهم فقط يتحدثان اللغة بطلاقة؛ للتواصل مع الشباب والمجتمع.
4 - أن هناك العديد من المدارس الإسلامية المعتمدة على نفسها، ولكن القليل منها على المنهج الصحيح؛ حيث دروس الغناء وعدم عزل الجنسين ينتشر في هذه المدارس.
5 - أن الجالية الإسلامية مبنية على مبدأ العرقية، وهذا بدوره خلق صعوبة للمسلمين الجدد والمسلمين أنفسهم للتعايش ضمن فهم مشترك، ولكن هذه المشكلة تضمحل مع الجيل الجديد.
ثالثاً: الفرص المتاحة:
1 - هناك طلب عالٍ على المدارس الإسلامية، خصوصاً المدارس التي هي أكثر انضباطاً. والشاهد على ذلك أن مدرسة دار العلوم في ملبورن عليها طلب عالٍ، وعندها قائمة انتظار مرتفعة؛ وهذا بدوره يؤيد الحاجة إلى المدارس الإسلامية ذات الطابع الشرعي.
2 - أن هناك جيلاً جديداً من شباب المسلمين في الجامعات الأسترالية، والمأمول أن يتلقى هذا الجيل التربية الإسلامية الصحيحة والعلوم الإسلامية أثناء دراستهم بالجامعة، وسيعملون بعد تخرجهم في وظائف ذات تأثير وقوة في المجتمع الأسترالي مع احتفاظهم بشخصيتهم الإسلامية.
3 - حادثة 11 سبتمبر أعطت المسلمين الفرصة للمساهمة في الإعلام الأسترالي؛ وذلك إما للدفاع أو التعليق على الأحداث من منظور المسلمين. وهذه في حقيقة الأمر فرصة عظيمة أعطت المسلمين مجالاً للتواصل مع رجال الإعلام والصحافة والتي لم تكن متوفرة في السابق.
4 - زيادة اهتمام الغرب بالإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر، وهذا بدوره يعطي الجالية الإسلامية في أستراليا القدرة على تقديم الصورة الإسلامية الصحيحة عن الإسلام.
رابعا: التهديدات:
1 - عدم وجود شخصية قيادية للمسلمين في أستراليا تتميز بالعلم الشرعي ولها المرجعية لعامة المسلمين.
2 - أن هناك تحيزاً وتخوفاً من الحكومة الأسترالية ضد من ينتمون لمنهج السلف خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر، وهذا التحيز أيده وشجعه العرقيات والطوائف الإسلامية الأخرى في أستراليا ممن سخر الإعلام للتهجم وانتقاد المنهج السلفي المسمى هناك بالوهابي.
3 - الاتحاد الأسترالي للجمعيات الإسلامية والجمعيات المكونة له في الولايات الأسترالية لا يرغبون في التعاون أو العمل مع أي مجموعة من المجموعات التي تتصف بالسلفية.
4 - انتشار الصوفية خصوصاً بين الشباب.
5 - هجرة العديد من العراقيين والأفغان بعد الحرب يشكل تهديداً كبيراً على الجالية الإسلامية في أستراليا؛ لأن أغلب المهاجرين من الشيعة، وزادوا أعداد مساجد الشيعة، وحالياً يعملون في الدعوة للنمهج الشيعي وأكثرهم تأثيراً هم العراقيون بسبب قوة مستواهم التعليمي وتأثيرهم بالدعوة.
__________
(*) باحث في مرحلة الدكتوراه في أستراليا.
(**) المدير التنفيذي لجمعية الدفاع عن الحقوق المدنية لمسلمي أستراليا.(215/22)
قناة البحرين البديلة لقناة السويس
تحريك للمياة الراكدة أم تجديد للعلاقات المتوترة
رضا عبد الودود
يأتي إعلان الكيان الصهيوني يوم 6/3/2005م عن اتفاقه مع الأردن على بدء فعاليات التعاون المشترك بين البلدين والولايات المتحدة على إقامة تعاون مشترك بينهم من أجل حفر «قناة البحرين» التي تصل بين البحر الأحمر والبحر الميت كخطوة أولى نحو إنشاء الجزء الثاني من القناة التي ستسير غرباً لتصل للبحر المتوسط عند منطقة حيفا. وقد اجتمع النائب الأول لرئيس الوزراء الإسرائيلي (شمعون بيريز) في تل أبيب يوم 6/3/2005م مع وزير الخارجية الأردني (هاني الملقي) ، حيث تم الاتفاق على تعزيز التعاون في مجالي السياحة والمياه وغيرها، ومن ضمن ما اتفق عليه، بحسب الإذاعة العبرية، حفر قناة بين البحر الأحمر والبحر الميت «لمنع وقوع كارثة بيئية في هذه المنطقة» . وقال (بيريز) إن الأردن يمكنه أن يكون نموذجاً ناجحاً يحتذي به الفلسطينيون في مجالات الأمن والاقتصاد والتربية والتعليم.
وفي الحقيقة فإن مؤسسات البحث والدراسة الصهيونية تعكف بعيداً عن أي صخب إعلامي لبدء تنفيذ مقررات المؤتمر الدولي لإدارة الطلب على المياه الذي عقد في الأردن في يونيو/ حزيران 2004م والتي ناقشت بشكل صريح فكرة توصيل مياه البحر الاحمر بمياه البحر الميت كمرحلة أولى من مشروع قناة تربط بين البحر المتوسط بالبحر الاحمر تطمح لتنفيذها الأوساط الصهيونية. وكانت البداية العلنية لتلك الفكرة خلال مؤتمر قمة الأرض للتنمية المستدامة، انعقد آنذاك في (جوهانسبرغ) بجنوب أفريقيا؛ حيث تقدم وزير المياه الأردني بمشروع أردني إسرائيلي لربط البحر الميت بالأحمر إنقاذاً للأول من الجفاف.
- تاريخ فكرة قناة البحرين:
وفكرة ربط البحرين: الأحمر والمتوسط؛ تعود إلى عام 1850م حينما بدأت إنجلترا بوضع الخطط للوصول إلى قناة تربط البحر المتوسط بالأحمر بواسطة البحر الميت انطلاقاً من خليج العقبة، إلا أن سهولة إنشاء قناة السويس أفقدت المشروع أهميته.
ولكن الحركة الصهيونية لم تُسقط هذا المشروع من اهتمامها؛ حيث أكد (تيودر هرتزل) مؤسس الحركة الصهيونية أهمية هذه الفكرة، وطورها فيما بعد المهندس السويسري (ماكس يوركارت) الذي تهوَّد وأخذ اسم (أبراهام بن أبراهام) ووضع بدايات الخطة إلى أن وضع المهندس (كوتون) الخطط العملية لهذا المشروع في الفترة من 1950 - 1995م، وبناء على هذه الاقتراحات قررت الحكومة الصهيونية في 24/8/1980م ربط البحرين: الأحمر والميت، ووضع (مناحم بيجن) حجر الأساس لهذا المشروع في 28/5/1981م، إلا أن حزب العمل جمد المشروع؛ لأنه يحتاج إلى مبلغ 800 مليون دولار ونحو «8 - 10 سنوات» منها ثلاث سنوات للتخطيط.
ويرجع مخطط شق قناة تربط البحر الأحمر عند خليج العقبة والبحر الميت إلى أواسط القرن الناسع عشر عام 1840م عندما سعى الاستعمار البريطاني لتسهيل الاتصال مع الهند، ومع قيام الكيان الصهيوني في فلسطين تلقفتها الصهيونية العالمية بقيادة مؤسس الدولة العبرية (تيودور هرتزل) الذي تحمس لها وعرضها في كتابه (أرض الميعاد) الصادر عام 1902م، ثم بقيت الفكرة راكدة إلى أن جاء قرار تأميم قناة السويس 1956م؛ حيث بدأ الحديث يدور في الأوساط الاستعمارية والصهيونية المتضررة من قرار التأميم حول إمكانية شق قناة صهيونية تربط البحر المتوسط بخليج العقبة، وتكون بمثابة قناة بديلة للقناة المصرية؛ إلا أن إخفاق العدوان الثلاثي على مصر أجَّل تنفيذ الفكرة إلى حين. ثم جرت لاحقاً محاولة تنفيذها إبان رئاسة (مناحم بيغن) وتحديداً عام 1981م، إلا أن العمل بها قد توقف عام 1985م لأسباب غامضة.
ويمكن القول إن مشروع قناة البحرين الذي يخطط له الصهاينة يأتي في إطار استراتيجية طويلة المدي لتأمين الكيان واحتياجاته من المياه والطاقة؛ حيث نجح الصهاينة عام 1964م في تحويل مياه نهر الأردن إلى النقب التي كانت تشكل ثلثي مساحة الكيان الصهيوني بهدف الإسراع في تهويدها عن طريق توجيه مجرى الهجرة والاستيطان إليها.
كما استطاع الصهاينة السيطرة على عدة من مصادر المياه العربية باحتلال الجولان والسيطرة على جزء من البحر الميت والوصول إلى مياه نهر الأردن في 1967م. وعقب حرب 1973م ونجاح العرب في استخدام سلاح النفط في المعركة مع الصهاينة، ظهرت الحاجة الصهيونية الملحة لتنويع مصادر الطاقة وتخفيف عبء الاعتماد على البترول، واستقر الرأي على تنفيذ مشروع نقل مياه البحر الأحمر إلى البحر الميت مستغلة انخفاض مستوى البحر الميت عن سطح البحر 400م لتوليد الطاقة الكهربائية بالإضافة إلى إقامة مشروعات لتحلية المياه.
- «سيناريوهات» ومسارات القناة:
وتطرح الدراسات الصهيونية عدة «سيناريوهات» لحفر هذه القناة:
الأول: قناة تمر من إيلات «قرية أم الرشراش المصرية» متجهة ناحية الشمال مستغلة وادي عربة ومخترقة صحراء النقب وصولاً إلى وادي غزة على البحر المتوسط بطول 280 كم.
والثاني: قناة تقع إلى شمال من الأولى متصلة بالبحر المتوسط عند ميناء أشدود بطول 300 كم.
والثالث: قناة تسير في خط مستقيم من إيلات بامتداد وادي عربة شمال البحر الميت ومنكسرة ناحية الغرب لتتصل بالميناء الفلسطيني حيفا بطول 390 كم.
وقد أشار شيمون بيريز في كتابه: (الشرق الأوسط الجديد) إلى نفس السيناريوهات ولكن بصورة أخرى وهي توصيل البحر المتوسط بالبحر الميت عن طريق قناة، ثم توصيل البحر الميت بخليج العقبة، وبهذا يصبح البحر الميت شبيهاً بالبحيرات المرة المتصلة بقناة السويس.
- تعريب فكرة القناة:
بيد أنه تم مؤخراً تعريب هذه الفكرة بالكامل بعد تنقيح وتعديل بواسطة الأردن، على اعتبار أنها وسيلة للخلاص من مشاكل عديدة متفاقمة بالبلاد. غير أن تكلفتها المادية الباهظة (4 مليارات دولار) اضطرت الأردن لتدويلها وتسويقها عالمياً. ومن هنا؛ ورغبة في الحصول على دعم العالم لها، تم إلباسها أكثر من زي بأكثر من لون: في البداية ارتدت الفكرة زياً أخضر وعرضت كقضية علمية بيئية في مؤتمر الأرض (جوهانسبرج، سبتمبر 2002م) ، ثم تم لاحقاً صبغها باللون الإنساني ونوقشت في مؤتمر المياه (كيوتو، مارس 2003م) على أساس أن حل مشكلة العوز المائي في المنطقة يعد مطلباً إنسانياً ملحاً، ثم اصطبغت بعد ذلك بالصبغة الاقتصادية، وطرحت في المنتدى الاقتصادي العالمي (عمان، يوليو 2003م) على أنها فرصة جيدة لبدء شراكة اقتصادية بين أطراف النزاع في المنطقة، وأخيراً بالصبغة السياسية عندما نوقشت في المؤتمر الدولي لإدارة الطلب على المياه (عمان، يونيو 2004م) باعتبارها مشكلة سياسية مائية.
وحقيقةً يحار المرء بسبب هذا وبسبب تعدد الأسماء الحركية للمشروع في تصنيفه أيضاً: هل هو مثلاً (مشروع بيئي) يهدف للحفاظ على المنظومة البيئية الفريدة للبحر الميت كما يدل شعار (إنقاذ البحر الميت) ؟ أم هو (مشروع اقتصادي) بحت لا يرجى منه سوى تطوير المنطقة وتخليصها من بعض المشاكل المتفاقمة فيها وهو ما قد يعنيه مصطلح (مشروع قناة البحرين) ؟ أم هو (نموذج للتطبيع والمواءمة) مع إسرائيل كما يفيد مسمى (قناة السلام) ؟ أم هو (ترانسفير) جديد تنعقد عليه آمال الدولة العبرية في استقطاب وتوطين ملايين إضافية من يهود العالم المشتتين في الأرض؟ أم هو كل ذلك؟
والواقع أن كثرة الشعارات وتنوع الأقاويل والتصريحات المقترنة بهذا المشروع، إضافة إلى إفراط الجانب الأردني في الدعاية له قد أثار لدى بعض الناس حساسية وريبة، كما أنه ذكَّر كثيرين بحالة الهرولة نحو إسرائيل التي أصابت عدداً من الدول العربية إبان العقد الماضي.
- إسرائيل قتلت البحر الميت:
والبحر الميت عبارة عن بحيرة فاصلة للوادي المتصدع الأردني الذي يقع على حد نهر الأردن المتدفق من الشمال لوادي «عربة» جنوباً، ويتكون من حوضين: الحوض الشمالي الذي يبلغ عمقه 320م، والحوض الجنوبي الضحل، ويفصل بين الحوضين (شبه جزيرة ليسان) و (مضايق الموت) التي بها تل من الطمي يبلغ ارتفاعه 400م، ويصل تركيز الأملاح في البحر الميت نحو 32%. ويعاني البحر الميت تناقصاً حاداً في منسوب المياه به بنسبة 80 سم سنوياً، ويعد السبب الرئيس لهذا التناقص الشديد هو تقلص كمية المياه الواردة للبحر؛ فمنذ منتصف القرن العشرين والمياه المتدفقة للبحر من نهر الأردن التي كانت تبلغ حوالي 972 مليون م3 تتقلص كميتها لتصل إلى ما يقارب 125 مليون م3 عام 1985م، ولعل هذا التناقص في المياه الواردة للبحر الميت سببه الأساسي هو ممارسات الاحتلال الصهيوني الذي يقوم باستمرار بتجفيف منابع الأودية والأنهار التي تغذي البحر الميت؛ حيث أقام ما يزيد على 18 مشروعاً لتحويل مياه نهر الأردن المغذي الأساسي والرئيسي له، وتحويل الأودية الجارية التي تتجمع فيها مياه الأمطار وتجري باتجاه البحر الميت إلى المناطق المحتلة وخاصة للمستوطنات، وقد وصلت نسبة المياه المحجوزة والمحولة عن البحر الميت حوالي 90% من مصادره، كما قامت سلطات الاحتلال بحفر ما يزيد على 100 بئر غائرة لسحب المياه الجوفية من المناطق القريبة التي تغذي البحر الميت، علاوة على المصانع المقامة عليه والتي تنتج المواد المعدنية ومستحضرات التجميل التي تدر سنوياً 7.4 ملايين دولار، إضافة إلى استيلاء الكيان الصهيوني على أكثر من حصته من مياه نهر اليرموك الذي يصب مع رافده في البحر الميت، نظراً لحاجته المستمرة للمياه بسبب مستعمراته في النقب والساحل الفلسطيني المحتل.
- رؤى وحجج صهيونية:
وعبر كتاب (المياه والسلام - وجهة نظر إسرائيلية) للمهندس الصهيوني (إليشع كالي) الصادر في 1991م عن مخطط المشروع وتضمن نقل المياه عبر فتحة في البحر الأحمر (أخدود) إلى الجنوب من العقبة إلى بركة على ارتفاع 2250م وسعة 5.1 ملايين متر مكعب، وتتدفق المياه من البركة في قناة مفتوحة (القناة العليا) على امتداد 160 كم وطاقة 50 م3 في الثانية، وعلى بعد 80 كم تتجاوز القناة أعلى نقطة في عربة على ارتفاع 100م، وذلك عبر مسافة قصيرة ضمن حدود الكيان الصهيوني. وعلى بعد 150 كم تقام بركة لتنظيم تدفق المياه سعتها 3 ملايين م3 وعلى ارتفاع 2080م، وتحتها محطة طاقة (المحطة الأردنية) بقوة إنتاج 400 ميجاوات مع بركة أخرى بالسعة ذاتها، وتنقل المحطة المياه إلى القناة (السفلى) عبر ناقل، وفي هذه القناة تتدفق المياه مسافة نحو 60 كم من ارتفاع 100م إلى ارتفاع 1120م، ومن حدود الأردن إلى حدود الكيان الصهيوني، وتمر في مقطع واحد عبر نفق طوله 4 كم حتى منطقة معاليه عربة سدوم، وتقام هنا المحطة الثانية الصهيونية التي يبلغ إنتاجها 400 ميجاوات.
وتقام فوق المحطة بركة تخزين سعتها 3 ملايين م3، وعلى ارتفاع 1120م وتحتها القناة النهائية؛ حيث يكون ارتفاع المياه فيها مثل ارتفاع مستوى المياه في البحر الميت. ويقطع مسار القناة نحو 170 كم في الأراضي الأردنية، وتمتلك السلطة الفلسطينية نحو 25% من مساحة سطح البحر الميت (الجزء الشمالي الغربي) والصهاينة نحو 25% (الجزء الجنوبي الغربي) وللأردن 50% (كامل النصف الشرقي) .
ويتضح من المشروع أن هدفه ليس إحياء البحر الميت ومنع اندثاره (بسبب الممارسات الصهيونية التي صنعت الأزمة في الأساس) بل أيضاً إحياء المناطق التي تحيط به ثقافياً وصناعياً وزراعياً وسياحياً، وتوفير المياه للمناطق المحرومة منها، في محاولة لابتزاز الأردن وإغراء السلطة الفلسطينية؛ حيث إن من المخطط له إنشاء محطات لتحلية المياه بكميات تصل إلى 850 مليون م3 سنوياً يمكن أن يستفيد منها الفلسطينيون بنحو الثلث، والأردنيون، بالإضافة إلى الصهاينة أصحاب الحظ الأوفر.
وإزاء هذا الوضع يؤكد (عبد الغفار شكر) نائب رئيس (معهد البحوث العربية بجامعة الدول العربية) أن الكيان الصهيوني يهدف بمشروع إحياء البحر الميت كمرحلة أولى إلى استكمال مشروع ربط قناة البحر الأحمر ـ البحر الميت ـ البحر المتوسط لتكون قناة بديلة تضرب قناة السويس، وتستأثر بالنقل البحري في منطقة ملتقى قارات العالم.
بل إن الأخطر من ذلك تطبيع العلاقات الصهيونية مع دول المنطقة التي قد يشارك بعضها في دعم المشروع انطلاقاً من حسابات اقتصادية بحتة دون النظر إلى أبعاد ذلك التعاون على الأمن القومي العربي، في ظل تركيز الاستراتيجيات الأمريكية على تغيير معالم خريطة التحالفات الإقليمية في المنطقة بما يخدم أهدافها الاستراتيجية.
ويرى خبراء الجغرافيا السياسية أن محاولات الكيان الصهيوني للإسراع بتنفيذ المشروع عبر كافة المؤتمرات الدولية في (دافوس) وفي قمة الأرض، وقمة التنمية المستدامة) يرجع بالأساس إلى أن احتياجات الكيان الصهيوني من المياه تبلغ 2600 مليون م3 عام 2005م؛ أي أن العجز الصهيوني في المياه العذبة سيصل نحو 800 مليون م3 في ذلك العام مع احتمال نضوب المياه الجوفية التي تشكل ما يزيد على نصف رصيدها المائي، علاوة على تعرض تلك الآبار للتملح قبل نضوبها.
ويحلل الخبراء العسكريون تلك القناة بأن الكيان الصهيوني يرى أن إقامة أي حاجز أو مسطح مائي بينه وبين الدول العربية يعتبر حداً أمنياً استراتيجياً وعسكرياً يمنع تقدم الجيوش العربية والعمليات العسكرية ضد الكيان الصهيوني. وعندما ينجح الصهاينة في إتمام المشروع فإنهم سيملكون صِمَام أمان في إسالة المياه كيف يشاؤون، وبالمنسوب الذي يريدونه مما يشكل حداً أمنياً من جهة الأردن.
- فوائد للصهاينة وأضرار بيئية للعرب:
وتشير الدراسات إلى أن هذا المشروع الذي طُرح للتنفيذ هذه الأيام يمكن أن يؤدي إلى توليد طاقة بقدرة تصل إلى 600 ميجا وات قابلة للزيادة إلى 800 ميجا وات، علاوة على توفير المياه لمحطات الطاقة النووية التي تمكن إسرائيل من تشغيل مفاعل نووي ذي طاقة تقدر بـ «990» ميجا وات، وإنتاج ما يعادل ملياري طن من وقود الزيت الحجري؛ كما يؤدي حفر القناة إلى تنشيط الاستثمار السياحي وتأمين المياه العذبة لفترة طويلة قادمة وذلك بتحلية مياه البحر. وقدر لهذا المشروع أن يضيف لخزينة العدو دخلاً سنوياً يقدر بـ 900 إلى 1250 مليون دولار.
ومن الناحية الجيوستراتيجية يؤدي حفر هذه القناة إلى تطوير منطقة النقب لاستقدام المزيد من المستوطنين وجذب يهود العالم للهجرة إلى فلسطين.
ويعتبر هذا المشروع من أهم الأخطار الاستراتيجية التي تواجه الأمة العربية في صراعها مع العدو؛ حيث يلحق هذا المشروع الكثير من الضرر بالأراضي العربية في فلسطين والأردن بعد غمرها بالمياه؛ حيث يتم غمر «330» هكتاراً من الأراضي جنوب البحر الميت ونحو 100 كم2 في المنطقة الشمالية الشرقية من البحر الميت، بل ويعد طرح هذا المشروع في هذا الوقت بالذات رسالة للشعب الفلسطيني مفادها أن قضية تبادل أرض «جالوتسا» الواقعة في صحراء النقب مقابل بناء مستوطنات في الضفة الغربية قد انتهى إلى غير رجعة، بل سيفضي إلى إنهاء الأمل لدى السلطة الفلسطينية باستعادة أراضيها التي تم احتلالها عام 1967م بواسطة المفاوضات.
ورغم بعض الحوافز الاقتصادية التي تروج لها (الميديا) الصهيونية من حل أزمة الأردن وفلسطين المائية والاقتصادية ينطوي المشروع أيضاً على مخاطر عديدة على البحرين: الميت، والأحمر؛ وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد الاستماع لبعض أصوات المعارضة المتزنة؛ فالأمر يبدو من وجهة نظرهم عامراً أيضاً بالمضار والمحاذير، ومن أبرزها:
- سوف تتغير طبيعة البحر الميت كلية من حيث خواص مياهه الفيزيائية وتركيبها الكيميائي ومكوناتها البيولوجية، وهو ما سيترتب عليه فقد البحر الميت لهويته البيئية المميزة.
- سوف يؤدي تخفيف ملوحة البحر الميت كذلك إلى تداخل المياه العذبة الجوفية مع المياه المالحة لا سيما في المناطق المتاخمة للبحر الميت، وكذلك في زيادة معدلات البخر في المنطقة وهو ما سيترتب عليه حدوث أضرار وتداعيات اجتماعية وبيئية غير مأمونة العواقب.
- قد تتسبب الضغوط الهائلة الناتجة من زيادة كميات المياه الواردة للبحر الميت في وقوع زلازل قوية بالمنطقة، أو في تنشيطها على أقل تقدير، كما قد يتسبب ارتفاع مستوى المياه بالبحر في غمر مساحة عريضة من الأراضي الزراعية بالمنطقة وهو ما سيعرضها للتدهور وفقدان غطائها النباتي.
- كذلك هناك مخاوف من تضرر بيئة البحر الأحمر هي الأخرى من عملية نقل المياه؛ حيث من المحتمل أن يتعرض الميزان المائي بينه وبين المحيط الهندي للاختلال، كما قد يهيئ هذا الوضع الفرصة لبعض كائنات البحر الميت لأن تستوطن البحر الأحمر وهو ما قد يسبب ضرراً لعدد من العوائل الثرية والمميزة للأحمر.
- قناة السويس والنقل الدولي:
وينتقد (الدكتور جمال زهران) رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة قناة السويس الصمت المصري خاصة والعربي عامة إزاء مشروع قناة البحرين التي يسعى الصهاينة لأن تكون بديلة عن قناة السويس للضغط على مصر وتهميش دورها الإقليمي؛ حيث يخطط الصهاينة إلى عدم إفساح الباب لمصر للتفرد بإدارة ممر مائي دولي مهم كقناة السويس.
وأكد زهران أن مشروع القناة مشروع قديم جددته وبقوة الحرب الأنجلو أمريكية على العراق؛ لأن قناة السويس مثَّلت ورقة ضغط قوية لمصر، وطالبت منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية مصر بإغلاقها. ويرى (زهران) أن القناة الجديدة التي ستبدأ مرحلتها الأولى من البحر الأحمر إلى البحر الميت وتمتد لاحقاً إلى البحر المتوسط سوف تضعف من قناة السويس وتقلل من إيراداتها التي تبلغ ملياري دولار سنوياً. وسوف تدشن تلك القناة شراكة مستقبلية تجمع الأمريكان والصهاينة وفلسطين والأردن ومن خلالها يتم عزل سوريا ولبنان.
ولعل ما يدور في العقلية الصهيونية يتجاوز إيجاد بديل لقناة السويس إلى السيطرة التامة على البحر الأحمر، بعد أن طورت حكومة شارون ميناء إيلات على رأس خليج العقبة والذي مثَّل قاعدة تحرك صهيونية في اتجاه الغرب إلى السويس ومنطقة الحقول النفطية وإلى الشرق عبر ميناء العقبة الأردني الذي ينفتح على الشرق وشمال الخليج العربي وجنوب خليج العقبة الذي يحمل 25% من واردات الكيان الصهيوني البترولية و 9% من خاماته المستوردة، ولهذا اتجهت الإدارة الصهيونية لطرح فكرة تدويل باب المندب ومجموعة الجزر العربية التي تتحكم في المضيق ـ وهو الأمر الذي تنفذه واشنطن تماماً مع اليمن وجيبوني حالياً ـ وأخيراً اتجهت لتعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية الواقعة على البحر الأحمر والقريبة منه مثل إثيوبيا وكينيا مما أتاح لها إقامة قواعد عسكرية ونقاط مراقبة في عصب ومصوع وجزر دهلك وحالب وفاطمة، وركزت على إريتريا التي تملك شواطئ يبلغ طولها 2000 كم على البحر الأحمر. بما يهدد الأمن القومي العربي خاصة للدول التي يمثل البحر الأحمر منفذها الرئيسي للعالم الخارجي في السودان واليمن ودول الجنوب ومصر، في ظل تأرجح ميزان القوى العسكرية والبحرية لصالح الكيان الصهيوني وفي ظل تعطل القدرات العسكرية لمعظم دول الخليج العربي بسبب دخولها في تحالفات عسكرية مع واشنطن.
ويختلف الخبير الاستراتيجي (اللواء طلعت مسلم) مع من سبقه في خطورة هذه القناة على مستقبل قناة السويس، فيرى أنها لا تؤثر على قناة السويس إلا تأثيراً محدوداً؛ لأن المسافة التي ستقطعها باخرة في قناة السويس تقل بكثير عن المسافة التي تقطعها في قناة البحرين الصهيونية؛ علاوة على أن مرور البواخر في قناة البحرين يعرضها لخطورة أكبر؛ لأنها تمر في منطقة توتر تضم الأردن وفلسطين والكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي يختفي في حالة قناة السويس.
__________
(*) صحفي مصري.(215/23)
جعفر
أيمن درواشة
رحت أنفض الغبار عن وجهي وأنفي ناظراً إلى آخر السهل الممتد من أواخر البلاد السعيدة إلى أقاصي الجهة الشرقية حيث جبال المجوس تصفعنا بالنار حتى غدت سهولنا أفران نار ... وأنهارنا دخاناً وبركاناً ... فلا ريح تهب على ديارنا إلا ريح صرصر تنخر العظام.
كانت الأرض قد تشققت من شدة العطش؛ فمنذ زمن بعيد لم تصل إليها قطرة ماء؛ فقد شققها الظمأ حتى غدت كأنها أفواه وحوش.
أثناء حملقتي بالأرض المغبرة، لفح وجهي لفح ريح السموم، وطرق مسامعي صوت جعفر يسعل ... يسعل مرة أخرى ... فأجري إليه.
«جعفر» طفل ... ما زال يغترف البراءة من مهده جارياً نحو لحده ... يسعل الصغير مرة تلو مرة.. أسرعت نحو جرة الماء لعلي أجد فيها قطرات من الماء أو حتى قطرة واحدة، لم أتفاجأ بجفافها ... وأحسست أن كفي قد دخلت في جوف فرن مشتعل.
ويشتد السعال.
جعفر يمد يده حزيناً، ويحاول أن يتشبث بالحياة ... ويسعل مرة أخرى، وينظر في كوب الماء الفارغ حتى من قطرة واحدة.
شعرت أن «جعفر» يقفز ... يصرخ ... ثم يسكت ...
«جعفر» مات من أجل قطرة ماء ... يا أيتها الأرض التي تحاصرها المياه من أقصاها إلى أقصاها! مات طفلك الصغير شوقاً إلى جرعة من مياهك التي استباحها الأعداء ... ويدفعني الخوف إلى الهروب من منزل الموت إلى شوارع القحط، باحثاً عن دموع وأصيح لاعقاً الغبار.
مات «جعفر» .. فلا يجيبني سوى صدى الصوت: مات جعفر.. مات جعفر.
من يسمعني في هذا الوطن المثقوب؟ جعفر مات، هو ذا رجل في الشارع يجري كالمجنون مثلي ... ولكنني لما سمعت أنينه الشاكي أخفيت حزني وخبأت عبارتي وتابعته بعيني إلى آخر المنحنى.
هل أتوقف عند الحي الشعبي؟ أم أركض نحو الحي غير الشعبي أبلغ سكانه دمعتي؟ ... فلعلي أجد فيه عيوناً تحمل الهمّ ... والدمع ... فما زالت عيون أطفاله ونسائه غضّة عذبة نديّة.
شوارعهم تخلو من الهاربين ... قلت: لعلهم يعتصمون في حجراتهم احتجاجاً على مصرع «جعفر» ولعل النساء لجأن إلى مخادعهن يبكين ذلك الطفل المسكين؛ هل أطرق أبوابهم؟
افتحوا ... مات «جعفر» يشكو الظمأ.. ألم تعلموا بعد؟ ضاع صوتي في آفاق الكون.
أطرق باباً آخر.. أسمع البكاء والأنين ... لعلهم يبكون جعفر.. فهل أذاعت وسائل الإعلام هذا النبأ؟
ومن أعلمهم بالنبأ؟
نسيت أن أقفل عينَيِ الشهيد، فظلّ يحملق بالفراغ.
وفي شوارع الحي.. حيث ينام جعفر وعيناه مفتوحتان على فضاء الحي الشعبي.. سارت الدماء حتى وصلت الشارع الذي خلا من ساكنيه، وصرتَ لا تسمع في ذلك الحي صوت غناء أو عزف ... ولا قرعاً لكؤوس.. وظل القحط يأكل الشوارع والشجر.. وظلّت عيناً جعفر تمزّقان الفضاء، طالبتين قطرة دمع تعوّض قطرة الماء التي مات دونها.
أين حدب إخواني وأهل حيي في الحرص على إغاثة الملهوف والتصدق على الفقراء والمساكين ألم يقل الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم - وهو يحذر من الروح المادية التي لا تهتم بإخوانها المحتاجين بأنه لا يلوم الجائع بين المسلمين إذا لم يجد ما يغيثه أن يخرج شاهراً سيفه. حقاً إننا لم نعرف حقوق الفقراء والمساكين، أو على الأصح: إن كثيراً منا من لا يعرف حقهم.(215/24)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
- «إذا ما صوّب الأمريكيون صواريخهم وذخائرهم الموجهة نحو أراضي الصين.. فإني أعتقد أن علينا الرد بأسلحة نووية» اللواء زو شينغو، عميد جامعة الصين للدفاع القومي.
[سي. إن. إن، 17/7/2005م]
- «إن من قام بهذا العمل، فقد قام به باسم الإسلام» توني بلير رئيس الوزراء البريطاني في أول تصريح له بعد تفجيرات لندن. [االعربية نت، 12/7/2005م]
- «في بغداد يرى الكثيرون أن السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة هو ملازمة المنزل» باتريك كوكبرن مراسل صحيفة الإندبندنت البريطانية في العراق. [البي. بي. سي، 16/7/2005م]
- «ليس هناك من نظام مراقبة مهما كان مشدداً يمكنُ أن يتصدى لأشخاص مستعدين لتفجير آخرين» رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. [البي. بي. سي، 9/7/2005م]
- «الوكالة لم تعد ملتزمة باستشارة الحكومات العربية حول منظمات المجتمع المدني التي تقوم بتمويلها» أندرو ناتسيوز مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية يتحدث عن السياسة الجديدة لوكالته بتمويل المنظمات الأهلية العربية بغرض تغيير الحكومات. [رويترز، 23/7/2005م]
- «بيرلسكوني هو كالإيدز، إذا كنت تعرفه فتجنبه» القاضي الإيطالي أنتونيو دي بياترو ينتقد أداء رئيس وزراء بلاده سيلفيو بيرلسكوني. [السفير، 23/7/2005م]
- «على العراق دفع الدية الشرعية المقدرة بـ 4250 جراماً ذهباً أي ما يعادل نحو نصف مليون جنيه لأسرة الشريف باعتبارها ولي الدم، ولمصر المطالبة بحق آخر» علماء من الأزهر في مصر يعبرون عن موقفهم من اغتيال السفير المصري في بغداد إيهاب الشريف. [الزمان، 18/7/2005م]
- «ما حدث الخميس في العاصمة البريطانية يؤكد اسوأ الفرضيات حول طبيعة معركة ما زالت في بداياتها» صحيفة البايس الإسبانية تعلق في افتتاحيتها على تفجيرات لندن الأولى والثانية. [الوطن الكويتية، 23/7/2005م]
- «اللاجئون لا يستطيعون العودة كلهم لإسرائيل، وعلينا إيجاد الحلول لمشكلتهم» محمود عباس أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية يتحدث لصحيفة معاريف العبرية. [الرأي العام الكويتية، 23/7/2005م]
__________
أحاج وألغاز
- سخافة في عقل رجل
دعا الكاتب الروائي علاء حامد الذي ذاعت شهرته إثر مصادرة إحدى رواياته (مسافة في عقل رجل) بسبب ما تحتويه من فسق ومجون، دعا الشعب المصري إلى التظاهر حليقي الرؤوس وارتداء القمصان بالمقلوب وذلك من أجل المطالبة بالإصلاح، وقال: «لو تظاهر الشعب هكذا لاستطاع أن يضغط بقوة من أجل تحقيق الإصلاح المنشود» . [صحيفة الجزيرة، 13/6/1426هـ]
- شارون = حماس، دحلان =؟
اتهم محمد دحلان وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية حركة حماس بأنها تنفذ انقلاباً على السلطة في غزة، وقال لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية: «إن رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون وحركة حماس يسعيان إلى الهدف نفسه وهو تدمير السلطة الفلسطينية» .
[وكالات، 21/7/2005م]
- أبو تفليقة وأم الكبائر
قررت الجزائر رفع الحظر على استيراد الخمور إرضاء لمنظمة التجارة العالمية، واستغل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الأحد عطلة نواب البرلمان ليمرر مرسوماً يرفع حظر استيراد الخمور، وفي مصر نشطت ظاهرة إعلانات الخمور في عدة دوريات من بينها مجلات حكومية مثل المصور وروز اليوسف وصباح الخير. [موقع البوابة، إسلام أون لاين، 18/7/2005م]
- عندما يكفر الكافر
الأسقف جاك سبونغ ينتمي إلى ما يسمى بالمسيحية الليبرالية، وقد ألف كتاباً ينتقد فيه المسيحية محاولاً إدخالها القرن الحادي والعشرين، ويقول سبونغ: إن نصف الأساقفة من الروم الكاثوليك شاذون جنسيا، ويقول: إن استخدام الإنجيل كشيء تقتبس منه سلطة نهائية وعن أمر لا يعرف الإنجيل عنه شيئاً ـ أمر مثير للسخرية، ويقول: «إذا لم أتمكن من الحديث عن الرب بلغة القرن الحادي والعشرين فلا أعتقد أن الرب جدير بالحديث عنه» . [العربية نت، 20/7/2005م]
- «هنا: نحن»
قامت إذاعة يهودية تبث على شبكة الإنترنت بتقديم اختراع جديد لمستمعيها بهدف التقاطها عبر جهاز راديو، ونقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن الجهاز الجديد سيخصص فقط لالتقاط موجة إذاعة «القناة السابعة» المتطرفة التابعة للمستوطنين، وهو يشبه جهاز الراديو تماماً لكنه يستقبل إذاعة واحدة فقط وتم تصنيعه خصيصاً في اليابان. [مفكرة الإسلام، 20/7/2005م]
__________
مرصد الأخبار
- بريطانيا.. على الهواء مباشرة
تمكنت الشرطة البريطانية من كشف منفذي التفجيرات الأولى في لندن بعد فترة وجيزة نسبياً، وذلك باستخدام كاميرات المراقبة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، وكانت إحدى الصحف النمساوية قد ذكرت أنه يوجد نحو نصف مليون كاميرا في شوارع لندن، وهو ما ساعد على التعرف على منفذي الهجمات في العاصمة البريطانية، بعد خمسة أيام من حدوثها، وأضافت صحيفة (دي بريسه) هذا الدور الذي قامت به كاميرات المراقبة زاد من اهتمام باقي دول الاتحاد الأوروبي بنشر أجهزة مماثلة، وبخاصة في ألمانيا، التي سوف تستضيف نهائيات كأس العالم لكرة القدم عام 2006م، وأشارت الصحيفة إلى أن السلطات البريطانية لم تواجه مشكلة في نشر سبعة ملايين كاميرا في أنحاء البلاد، نظراً لاستنادها إلى دعم شعبي واسع، على العكس من فرنسا ودول أوروبية أخرى، لا تزال متحفظة على مثل هذا التدبير نظراً لكونه يمس الحريات الشخصية. وكشفت الصحيفة أن الشرطة النمساوية نشرت بالفعل، ومنذ بداية العام الحالي، كاميرات فيديو للمراقبة في إحدى المناطق السياحية المكتظة، وفي موقف السيارات الرئيسي في المركز التجاري الكبير، الواقع جنوب العاصمة فيينا، وكان المستشار النمساوي المحافظ فولفغانغ شوسيل قد طالب بفرض رقابة أوروبية واسعة على الاتصالات الهاتفية والرسائل الإلكترونية بهدف مكافحة الإرهاب. [سي إن إن، 17/7/2005م]
- تعدد الوسائط والمقاومة واحدة
حين يكون في قبضة المقاومين والمسلحين العراقيين، يصبح للهاتف النقال استخدامات أخرى من تلك النوعية التي تؤرق الاحتلال الأمريكي، وهو ما جعله أحد الأهداف الثمينة لحملات المداهمة الأمريكية لمنازل من تشتبه بانتمائهم لجماعات المقاومة أو العناصر المسلحة.
ويروي رجل أعمال عراقي أن رسالة تهديد تلقاها على هاتفه المحمول جعلته يتراجع عن مناقصة «يسيل لها اللعاب» رست عليه لتزويد أحد مستشفيات بغداد الواقعة داخل المنطقة الخضراء شديدة الحراسة ـ حيث مقر قيادة القوات الأمريكية في العراق ـ بأجهزة تكييف، وكانت الرسالة مرفقة بصور التقطت له بوضوح أثناء دخوله المنطقة الخضراء؛ وابتكرت المقاومة خططاً لاستخدام الهاتف النقال في هجماتها، ويتداول أهالي بغداد واقعة حدثت من ثلاثة أشهر بدأت بمكالمة أجراها شخص كان يتحدث من هاتف نقال ـ حتى لا يتم تحديد مكانه ـ يستغيث بوزارة الداخلية من عناصر مسلحة تحتجز رهائن، فهرعت قوات مشتركة عراقية وأمريكية إلى العنوان المذكور وما أن اقتربت حتى تم استهدافها بتفجير ضخم، مما تسبب في مقتل العشرات من تلك القوات، ومن بعدها أصبح الهاتف الخلوي مصدر رعب للاحتلال والهدف الأول خلال حملات المداهمات والتفتيش، وقبل شهر تقريبًا أعلنت قيادة الاحتلال اعتقال أربعة عراقيين معهم 6 هواتف محمولة حيث كانوا يقومون بالتقاط صور للمارين بالقرب من أحد المواقع العسكرية التابعة للقوات الأمريكية في منطقة أبو غريب غرب بغداد.
وبلغ خوف القوات الأمريكية من الهاتف النقال حد أنها توقف الشبكات أثناء سيرها في الشوارع الرئيسية في بغداد، وقد أحرج ذلك شركة عراقنا التابعة لشركة أوراسكوم المصرية التي تملكها عائلة قبطية. [إسلام أون لاين، 19/7/2005م
- 25 ألف جارانج يتم تجهيزهم في أمريكا
وجدت دراسة أجريت على مئات من شبان سودانيين وهم جزء من 25 ألف صبي فروا من قراهم بسبب الحروب الأهلية منذ عقدين من الزمان أن معظمهم نجحوا في التكيف مع الحياة في الولايات المتحدة بعد عام فقط من وصولهم.
وتقول الدراسة إن من بين عينة عددها 300 شخص شملهم المسح قال 58% إنهم عايشوا بصورة متكررة أفكاراً متجددة عن أكثر الأحداث إيلاماً وذكر 40% أنهم شعروا وكأن ما حدث يتكرر ثانية ويمكن تشخيص حالة واحد من بين كل خمسة على أنه يعاني من اضطراب ما بعد الصدمات.
ويخضع الشبان للدراسة لفترة بين ستة أشهر وعام بعد وصولهم بين أواخر عام 2000م ومستهل 2001م، وكان هؤلاء قد رحلوا إلى أثيوبيا التي طردتهم عام 1991م فذهبوا إلى كينيا حيث عاشوا في مخيمات للاجئين قبل أن تنقل الولايات المتحدة 25 ألفا منهم إليها حيث بدأت برنامجا للتوطين عم 2000م، وأغلب هؤلاء منقطعون عن ذويهم.
ويذكر أن جون جارانج قضى عدة سنوات في أمريكا وحصل على شهاداته من جامعاتها قبل أن يعود إلى جنوب السودان ليقود حركة التمرد بدعم أمريكي. [بتصرف عن موقع صحيفة الجزيرة على الإنترنت، 6/6/1426هـ]
- يهوذا الإسخريوطي وكتائب شهدء الأقصى
أصدرت كتائب شهداء الأقصى بياناً شديد اللهجة ألقت فيه اللوم على شخصيات تنتمي لحركة فتح والسلطة تتحدث إلى وسائل الإعلام مدعية انتماءها إلى كتائب شهداء الأقصى ومهاجمة حركات المقاومة وفي مقدمتها حماس، وقالت الكتائب في بيانها: إن ما ورد في المؤتمر الصحافي للمدعوّ أبو محمد لا يعبّر عن كتائب شهداء الأقصى» ، وكان الأخير عقد مؤتمراً صحافياً في غزة هدّد فيه حركة «حماس» بشنّ حربٍ لا هوادة فيها ضدّها ما لم تتوقّف عن استهداف مراكز السلطة الفلسطينية.
وقال البيان: «نفاجأ برأس الأفعى يطلّ من قطاع غزة الصامد، وليقوم بعضهم، وإنْ سمّى نفسه (أبو محمد) بدور (يهوذا الإسخريوطي) وهذا شأنهم دوماً» أكد البيان: «نعلن تبرؤنا مما جاء في المؤتمر الصحافي الذي نقلته العديد من وسائل الإعلام على الهواء مباشرة، وأنّ هذا المؤتمر من تدبير جهاز الأمن الوقائي في غزة، وأنّ المتحدث الذي أطلق على نفسه اسم (أبو محمد) وهو من جهاز الأمن الوقائي معروف لدينا، وتحوم حوله وحول شقيقه المسؤول في الجهاز شبهات كثيرة. ثانياً: إننا في كتائب شهداء الأقصى نعيد التأكيد على حرمة الدم الفلسطيني، وأننا لسنا في مشكلة مع الإخوة في كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذين لطالما كنا معاً شركاء في الدم، ولطالما وقفنا جنباً إلى جنب في مواجهة الاحتلال الصهيوني» .
[المركز الفلسطيني للإعلام]
- الفرس يغزون العراق
اعترف مسؤولون عراقيون أن مناهج التاريخ للعام الدراسي الجديد ستشهد تحريفاً كبيراً فيما يتعلق بتاريخ الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988م) والعلاقات بين العرب والفرس، وقالت مصادر مطلعة إن من بين تلك التغييرات حذف الإشارة الحالية إلى أن إيران هي من بدأ بشن الحرب على العراق، والتأكيد بدلاً من ذلك على أن العراق هو الذي بدأها، كما سينص التغيير على أن الحرب انتهت بدون منتصر أو خاسر، وأنها كانت واحدة من أبشع أخطاء النظام العراقي السابق.
كما ستذكر التعديلات الجديدة أن الفرس ليسو أعداء للعرب، وأنهم من أعمدة الإسلام، وستبحث لهم عن مناقب وإسهامات مزعومة في الحضارة الإسلامية، كما سيتم إلغاء الفقرات التي تشير إلى اضطلاع الفرس بعمليات التخطيط والاغتيال لعدد من الخلفاء الراشدين، وسترفع كل الحوادث التاريخية التي تكشف الدور التآمري لأفراد من الفرس عبر التاريخ، بالإضافة إلى إدراج عدد من الشخصيات في مناهج التاريخ والتربية الإسلامية تكون ذات صبغة شيعية، منها إضافة تاريخ آل الصدر ضمن المناهج المستحدثة.
ويذكر أن الحكومة العراقية الحالية، يرأسها الدكتور إبراهيم الجعفري، وهو شيعي من أنصار إيران، ويهيمن على الحكومة عدد كبير من المسؤولين الشيعة المحسوبين على طهران. [قدس برس، 18/7/2005م]
- بلير.. يكذب أم يتجمل؟
كشفت الحكومة البريطانية أن رئيس الوزراء توني بلير ينفق على مستحضرات واختصاصيات التجميل ضعفي ما تنفقه النساء البريطانيات.
وجاء ذلك رداً على استفهامات لبعض النواب، وأشار مسؤولون في رئاسة الوزراء أن بلير دفع أكثر من 1800 جنيه إسترليني على نفقات التجميل خلال السنوات الست الأخيرة، بينما البريطانيات ينفقن 195 جنيه إسترليني فقط سنوياً على ذلك، وخلال السنتين الأخيرتين دفع توني بلير مبلغ إضافي قدره 791.20 جنيه إسترليني لاختصاصيات التجميل. وأثناء الانتخابات الأخيرة لاحظ المراقبون أن بشرة بلير تميل بشكل غريب إلى اللون البرتقالي، لكن رئيس الوزراء صرح بأنه اكتسب سمرة من تعرضه للشمس في حديقة منزله. [موقع البوابة، 24/7/2005م]
- ماذا يحدث في سيناء؟
بعد وقوع تفجيرات شرم الشيخ كتب مصطفي بكري رئيس تحرير الأسبوع القاهرية: «من الواضح أن تنظيم طابا ليسوا جماعة من الهواة، إنها مجموعة محترفة وربما تلقت تدريبات خارجية، ولديها إمكانات هائلة تساعدها علي التنقل والاختفاء، وقد ترددت معلومات ـ قبل فترة ـ أن هؤلاء الإرهابيين يختبئون في جبال سيناء، ولذلك أرسلت السلطات مجموعة من أمهر الرماة من قوات مكافحة الإرهاب وبصحبتهم عدد من قيادات الوزارة في المقدمة منهم اللواء أحمد رأفت المسؤول عن النشاط الديني بالوزارة، إلا أن الإرهابيين أطلقوا رصاصاتهم على الطائرة ـ التي تقلهم ـ فأصابوها وأجبروها على الهبوط الاضطراري مما تسبب في إصابة عدد من الجنود والضباط البالغ عددهم 22 فرداً، وكان في مقدمة المصابين اللواء أحمد رأفت الذي أُرسل للعلاج في ألمانيا بعد ذلك» . [الأسبوع القاهرية، 19/6/1426هـ]
- العلاقة بين: سد أسوان ومكة المكرمة
رداً على سؤال في مقابلة مع إذاعة في فلوريدا حول طبيعة رد واشنطن إذا هاجمت القاعدة عدداً من المدن الأميركية بأسلحة نووية، قال السيناتور الجمهوري توم تانغريدو: «إذا حدث هذا الأمر، ونحن قررنا أن هذا من فعل المتطرفين والمتشددين الإسلاميين.. يمكننا تدمير مواقعهم المقدسة» .
ورداً على سؤال عما إذا كان يتحدث عن تدمير مكة، قال تانغريدو «أجل» ، إلا انه حاول التراجع في وقت لاحق، وقال إنه «كان يستعرض عدداً من الأفكار» ، وأن التهديد الأقصى قد يواجه برد فعل أقصى.
وكان موقع (وورلد نت ديلي) الأمريكي على الإنترنت قد نشر تقريراً في 7/7/2005م أن «الولايات المتحدة هددت بتوجيه ضربة نووية لمدينة مكة المقدسة لدى المسلمين في حال هاجمت القاعدة أمريكا مرة ثانية» ، وادعى كاتب التقرير جاك ويلر، وهو خبير استخبارات ومؤسس موقع «تو ذا بوينت» المعروف بقربه من المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية، ادعى أن إدارة الرئيس جورج بوش أدركت أهمية التهديد بمهاجمة مكة كنقطة ضعف تردع عن معاودة الهجوم على أمريكا.
وقال ويلر إن «إسرائيل أدركت أن سد أسوان هو السيف المسلط على رقبة مصر، ومن ثم لا توجد هناك إمكانية لأن تكسب مصر حرباً مع إسرائيل؛ لأنه إذا ما تم نسف سد أسوان، فإن المناطق السكنية في مصر ستصبح تحت 20 قدماً من المياه» ، وزعم ويلر: «عندما أوضح الإسرائيليون ذلك للمصريين، تلاشت أية إمكانية لأي هجوم مستقبلي من مصر كذلك الذي حصل خلال الأعوام 1948 و 1973م» ، وأضاف ويلر أن «هناك شائعة تطفو في أثير واشنطن منذ فترة حول أن جورج بوش اكتشف ما هو السيف المسلط على رقبة القاعدة، وهناك همس من قِبَل بعض أعضاء لجان الاستخبارات والخدمات العسكرية في الكابيتول هيل الكونغرس» .
ويعرف الموقع الذي نشر التقرير بتحيزه الشديد ضد المسلمين وتعاطفه مع (إسرائيل) وكان قد دعا قبل عامين إلى قتل مائة من المدنيين الفلسطينيين مقابل كل مدني إسرائيلي، وقتل ألف رجل فلسطيني مقابل كل طفل إسرائيلي، كما سبق أن دعا إلى تدمير مكة المكرمة من قبل، ويقول الموقع في إحدى مواده المنشورة إنه ينبغي: «نشر إعلان يمنح المسلمين مهلة قبل إخلائهم مدينتهم المقدسة، ولن نقتل مدنييهم الأبرياء ولكن سنمحو مدينتهم المقدسة مثلما فعلوا بتمثال بوذا في أفغانستان» . [موقع البوابة، 19/7/2005م]
__________
لقطا ت س ريعة
- ذكرت الجارديان البريطانية أن هناك خططاً تحاك الآن بين تحالف من متطرفين يمينيين ومشجعي كرة القدم المتعصبين المعروفين بالهوليجانز «أي من يحترفون أعمال البلطجة من مشجعي الرياضة» ، للانتقام من المسلمين، من خلال استهداف المساجد وتنظيم تجمعات مناهضة للمسلمين في لندن.
[العصر، 19/7/2005م]
- ذكرت مصادر أن عدد رسائل الجوال التي تم تداولها في يوم الجمعة الذي أصيب فيه الشيخ سفر الحوالي بأزمة صحية بلغ أكثر من مليوني رسالة وهو ما يزيد عن عدد الرسائل المتداولة خلال أيام الجمعة للستة أشهر الماضية. [العصر، 21/6/2005م]
- نشرت صحيفة بريطانية نتائج استطلاع للرأي حول موقف الأوربيين من انضمام تركيا للاتحاد، وتبين أن ثلث الأوربيين فقط يؤيد الانضمام، وأن 80% من النمساويين و 74% من الألمان و 70% من الفرنسيين يعارضون هذا الانضمام، وكان عدد المؤيدين في كل من بريطانيا وإسبانيا والبرتغال والسويد أكثر من المعارضين. [الجزيرة نت، 12/6/1426هـ]
- بعد 45 يوماً فقط من افتتاح المركز الإسلامي في مدينة خاركوف في أوكرانيا أعلن 15 أوكرانياً دخولهم في الإسلام وهم 8 فتيات و7 شبان، ويبلغ عدد مسلمي أوكرانيا 2 مليون مسلم من إجمالي 48 مليوناً هم عدد السكان. [/719/2005م]
- وصلت ساعات القطع المبرمج للتيار الكهربائي عن أحياء بغداد إلى عشرين ساعة يومياً بمعدل ساعة كهرباء مقابل ست ساعات قطع، وهو أدنى مستوى للطاقة منذ سنوات طويلة. [الزمان، 23/7/2005م]
- أعلن مصدر في إدارة السجون الأسبانية أنه تم توظيف ثلاثين مترجماً عربياً في السجون الأسبانية لمنع تشكل خلايا إرهابية فيها، وذلك بعد أن فككت السلطات الخريف الماضي خلية إسلامية تعرَّف أعضاؤها على بعضهم في السجن وخططوا لاعتداءات في مدريد على ملعب لكرة القدم ومبان رسمية أخرى. وكُلِّف المترجمون ترجمة الوثائق المكتوبة للمعتقلين الناطقين باللغة العربية التي تتم مصادرتها خلال عمليات التفتيش، وكذلك ترجمة مضمون الاتصالات الهاتفية التي يُسمح للسجناء بإجرائها. [أ. ف. ب، 23/7/2005م]
- تستعد السلطات الليبية بناء على طلب العقيد معمر القذافي إنهاء تواجد نحو 750 ألف عامل مصري في ليبيا على نحو قد يؤدي إلى كارثه قومية تهدد الاقتصاد المحلي بشكل غير مسبوق. [الزمان اللندنية، 14/7/2005م]
- طرح عضوان جمهوريان في الكونجرس الأمريكي مشروع قانون يقضي بطرد ما بين 10 إلى 12 مليون مهاجر غير قانوني موجودين في الولايات المتحدة. [رويترز، 21/7/2005م]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبي ان
محمد زيادة
تصريحات
«شارون مسؤول بطريقة مباشرة عن انهيار العملية التعليمية، وما يقوم به هذه الأيام لمحاولة معالجة الفساد التعليمي ما هو إلا مساعي كاذبة من رئيس الوزراء» الكاتب الصهيوني «مردخاي جيلات» . [صحيفة يديعوت أحرونوت، 1/6/2005م]
«نجح الموساد في تجنيد عدنان ياسين، عميلاً له في مكتب أبو مازن عام 1993م، حينما كان يشغل منصب نائب الرئيس عرفات، ونجح العميل في زرع أجهزة تصنت» . عوزي أراد، المستشار السابق لرئيس الوزراء الصهيوني الأسبق، بنيامين نتنياهو. [محاضرة بجامعة حيفا، 3/6/2005م]
«إن فوز حركة حماس في الانتخابات المقبلة للمجلس التشريعي الفلسطيني، يعني انتهاء آخر أمل للتوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل» . عضو الكنيست الصهيوني، أفرايم سنيه. [إذاعة جيش الاحتلال، 5/6/2005م]
أخبار
- 100 مليون دولار منحة مسيحية للكيان الصهيوني!
أكد الحاخام، يتشيل إكشتاين، رئيس الزمالة العالمية للمسيحيين واليهود (آي إف سي جي) ، أن التبرعات المسيحية شهدت ارتفاعاً كبيراً في الوقت الذي طرأ نقص كبير في تبرعات الوكالة اليهودية لـ (إسرائيل) . وأوضح أن مؤسسته قامت بتمويل الكيان بمائة مليون دولار في صورة منح، خلال العام الماضي وحده» . [الملحق الاقتصادي لصحيفة هاأرتس، 11/6/2005م]
- القوباء تنتشر في أجساد الضباط الصهاينة
«أصيب عشرات من الضباط (لإسرائيليين) المشاركين في دورة الضباط البحرية التدريبية التابعة لقوات الدفاع «الإسرائيلية» بمرض جلدي معدٍ يسمى «القوباء» مما أدى إلى تأجيل الدورة التدريبية، وتم إرسال الضباط إلى منازلهم في إجازة مرضية لمدة أسبوعين. كما تأجلت الدورة البحرية» .
[صحيفة يديعوت أحرونوت، 10/7/2005م]
- نصف دقيقة فقط لاستحمام الجنود الصهاينة
أبدى العديد من جنود سلاح البحرية تذمرهم بسبب عدم تمكنهم من قضاء مدة مناسبة للاستحمام، وقال الجنود إن 30 ثانية فقط للاستحمام تعني أن نصاب بالعديد من الأمراض المعدية» . [مجلة بمحانيه العسكرية الصهيونية، 1/7/2005م]
__________
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
- شبكة نصرانية تخطف أطفال المسلمين
بعد أقل من عام واحد تجددت ثانياً في العاصمة الكينية نيروبي حالات سرقة وشراء الأطفال المسلمين الذين يولدون في المستشفيات الحكومية لحساب شبكة كنسية تنصيرية كبرى لم تفصح التحقيقات الرسمية للسلطات الكينية عن اسمها، وكانت شبكة (CNN) قد نشرت العام الماضي أن التحقيقات أظهرت أن جيلبار دايا كاهن الكنيسة الكبرى في نيروبي هو المتهم الأول في القيام بهذه الأنشطة الإجرامية، وهو الكاهن الذي نصب نفسه رئيساً للكنيسة النيروبية ويتخذ من كنيسة يتبعها في لندن مقراً له، وكانت (CNN) قد أفادت أن المحققين الكينيين ركزوا على مستشفيات الولادة الرئيسية في كينيا، إثر مزاعم أشارت إلى أن بعض الأهالي أبلغوا أن مواليدهم توفوا، بينما الحقيقة أنه تم بيع هؤلاء الرضع من قِبَل شبكة دولية لتهريب وسرقة الأطفال. [تقرير إخباري: نيروبي، كينيا، 2/7/2005م]
- تنصير طالبي اللجوء المسلمين في النرويج
أفادت شبكة (مسلم نيوز) أن كنيسة بينتيكوستال النرويجية الواقعة غربي العاصمة أوسلو تستغل معاناة طالبي اللجوء للقيام بتنصيرهم. وأفادت الشبكة أنه منذ عام 1998م زار الكنيسة قرابة 16 ألف لاجئ أغلبهم من المسلمين.
وتفيد الأنباء أن نسبة المسلمين من هؤلاء الزوار بلغت 70%، وأن نشاط الكنيسة أدى إلى تنصير 80% منهم، وتقوم الكنيسة بحمل طالبي اللجوء من أماكنهم بحافلات خاصة إلى اجتماعات الكنيسة وإعادتهم ثانية؛ حيث يقدم لهم هناك القهوة والكعك وسط خلفية موسيقية لآلات وترية عربية. ويردد المنصرون جملة في بداية اجتماعاتهم وهي إلهنا وإلهكم واحد.. نحن هنا لنأكل الكعك ونجلس سوياً ونناقش أفكارنا. [الغد الأردنية الإثنين، 18/7/2005م]
- المجلس العالمي للكنائس يفاوض البابا
في خطوة إيجابية لصالح المجلس العالمي للكنائس وهو هيئة تنصيرية عالمية، استقبل بابا روما الجديد وفداً يمثل الهيئة العليا للمجلس تحت رئاسة صامويل كوبيا الأمين العام لمجلس الكنائس، وقد كانت بعض التوقعات تنفي إمكانية التعامل المباشر بين المجلس العالمي والبابوية؛ إذ ترفض بابوية روما الاعتراف بالمجلس الذي يضم ممثلي الكنائس الكبرى في العالم، كما ترفض العضوية فيه لأسباب غير معلومة، برغم التعاون الدائم بين المجلس والبابوية.
وكان على رأس جدول أعمال اللقاء، سبل التعاون في تحقيق نهضة تنصيرية في العالم الإسلامي مع الاحتفاظ بالطائفية التي تمثل أعضاء المجلس العالمي للتنصير. [الفاتيكان، 22/6/2005م](215/25)
نقد مفهوم العلمانية الجزئية والشاملة
عند الدكتور عبد الوهاب المسيري
محمد إبراهيم مبروك
يرتبط كاتب هذه السطور بعلاقة صداقة حميمة مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، ويدين له بالفضل في الكثير من المواقف، ويرى أن الناس سيحتاجون إلى قدر من السنين ليدركوا مدى الأهمية البالغة لأعماله العلمية والفكرية، ومدى ما أنعم الله عليهم بوجود هذا المفكر بينهم، بما يحمله من طاقة فكرية، لها قدرة كبيرة على تقويض الكثير من الأسس الفلسفية للحضارة الغربية الراهنة، وليعيد قدراً من التوازن بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، بعد غياب طويل انقطع فيه الفكر الإسلامي عن مواصلة السجال والصراع مع ذلك الفكر، الذي كانت له الغلبة والصولة، والمبادرة على امتداد قرون طويلة.
أقول هذا بداية حتى لا يحمل أحد النقد الموجه لفكر الرجل في هذه الدراسة على أي محمل شخصي، أو ينسبه إلى الجهل بقيمة الرجل وأعماله في خدمة الإسلام والمسلمين؛ خصوصاً أن أغلب الخطوط العامة لهذه الدراسة قد تم ذكرها في محاضرة في صالون الدكتور المسيري نفسه، ولم يُبْدِ الدكتور نفسه استياءه مما جاء فيها من نقد. وإن كان قد قام بالنقد للنقد الذي تم.
أثار الدكتور المسيري جدلاً حول موسوعة (اليهود واليهودية والصهيونية) ما زال قائماً.
وبين أيدينا كتابه الآخر (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) ؛ فقد أثار أزمة فعلية بين أوساط الإسلاميين، وأزعم أنه قد قوبل من أغلبهم بالرفض، وقبل أن أقوم بالنقد الفعلي للمقولات التي جاءت، فيه أُحب أن أُوجِّه الانتباه إلى الظروف العالمية التي صدر الكتاب فيها، وخطورة قضية تحديد الموقف من العلمانية، والتي تمثل من وجهة نظرنا الحد الحاسم بين: إما (معنا) أو (ضدنا) ، والتي باتت سيفاً مسلطاً على رقاب الجميع.
- معضلة تعريف العلمانية:
لا أريد الخوض في كثير من الإشكاليات المتعلقة بتعريف العلمانية، والتي تقدم الحديث عنها في مقالي السابق بالبيان، ولكني أنبه فقط إلى أن لفظ العلمانية ذاته هو لفظ قديم قِدم الحضارة الغربية ذاتها.
وعلى الرغم من ارتباط تعريف العلمانية بالرؤى الأيديولوجية، والسياسية المرادة منه، إلا أن الْتِماس ذلك لدى الفلاسفة الغربيين الذين تحتجب رؤاهم الحقيقية للأمور تحت سُتُر كثيفة من المحظورات الأيديولوجية والأغراض السياسية، والمصالح الخاصة.
وأهم تلك السمات التي يمكن التماسها عن العلمانية لدى الفلاسفة والمفكرين الغربيين هي ارتباطها بالاعتماد على العقل والاستقلال التام عن المقدس (الوحي) ، والحرية الكاملة في التفكير، وهي سمات تنطبق على الكثير من فلاسفة الإغريق، ومن ثم كان ذلك الربط الذي يشير إليه الفلاسفة والمفكرون الغربيون بين العلمانية وبين أسلافهم فلاسفة الإغريق.
وسأتحدث هنا عن التيار الأصيل في الفلسفة الإغريقية؛ أي تيار الفلاسفة الذين نشؤوا في كنف قاعدة شعبية تدين بالاعتقاد (الوثني) في آلهة الأولمب، وهو الأمر الذي كان له تأثيره الكبير على موقف هؤلاء الفلاسفة المعادي من تلك الآلهة، وهو تيار الفلاسفة الأيونيين، والإيليين، وأرسطو، وأبيقور، بعكس تيار ضئيل كان له تأثره الخاص بالصوفية الهندية، والذي يتمثل بشكل أساس في الفيثاغوريين.
أما بالنسبة لفلاسفة العصر الحديث فهل يمثل الانطلاق من (الكوجيتو الديكارتي) : «أنا أفكر إذن أنا موجود» لإدراك الحقائق انطلاقاً من أي فرضية دينية؟
أما (أسبينوزا) فقد كان يرى «أن الكتب المقدسة ليست مصادر للحقيقة النظرية، وما الأديان الكبرى إلا أدوات للتنظيم الاجتماعي، وللأخلاقية العملية أولاً وقبل كل شيء» (1) .
ولم يعترف (هوبز 1588م - 1679م) بأي مضمون نظري متميز للحقيقة الدينية التي نزل بها الوحي؛ وجوهر الدين ـ على المستوى الشخصي ـ لا يقوم على إدراك أية حقائق، بل على خوف الفرد من القوة المجهولة والمتوعدة التي ينطوي عليها الكون، ولم يعوّل (لوك 1632 - 1704) على شيء غير الخبرة الحسية مصدراً للمعرفة، وكان برهانه الأساسي على الإله هو حجة المراهن، والذي يكاد يكون هو نفسه غير مقتنع به: (أي رهان كون احتمال صدق الألوهية أكثر فائدة من احتمال عدم صدقها) .
و (هيوم 1711 - 1776م) التجريبي المتشكك في كل شيء، حتى تجريبيته؛ فقد حدد الدين الحق بأنه فلسفته الخاصة عن الدين، والتي ترجع ضرورة الاعتقاد في الله إلى الميل الذاتي في طبيعتها، وليس إلى أي دليل آخر ودون أن يؤدي ذلك إلى أية عقائد دينية.
وإنك لتعجب أن تجد عقلاً كـ (جان جاك روسو) يقيم اعتقاده في الله على الشعور الأخلاقي والعاطفة الباطنية، ومع ذلك فقد كان يخالف تماماً (الميتا فيزيقا) المسيحية، بل كان يفتقر إلى علم كبير بها.
وربما كان هذا أحد أهم أسباب ضمّه إلى فلاسفة التنوير على الرغم من تناقضه الأساسي معهم في التعويل على العوامل الذاتية في التفكير.
أما (كانت) صاحب المنهج الترانسفدتالي في المعرفة (والذي يتعلق ببنية العقل نفسها والمعرفة القبلية) ففي بحثه عن (الدين داخل حدود العقل وحده 1793م) لم يعترف بوحي متميز عالٍٍ على الطبيعة، ولم يرَ في العقائد المسيحية أكثر من رموز مؤثرة، أو أساطير وجودية تعمل على تشجيع الفاعل الأخلاقي على التمسك بإخلاصه للمثل الأخلاقية العليا.
فهل أكون قد خالفت الواقع إذا قلت إن الذي يجمع بين هؤلاء جميعاً هو الاقتصار على العقل الإنساني وخبراته في إدراك العالم وتصريف شؤون الحياة سواء كانوا عقليين مثاليين، أو ماديين تجريبيين؟ وذلك هو تحديد تعريفي للعلمانية.
- المسيري وتعريف العلمانية:
في حديث عن إشكالية تعريف العلمانية يذهب الدكتور المسيري إلى أن «الواقع الإنساني يتكون من بنيتين (أو مستويين) : البنية الظاهرة، والبنية الكامنة. وعادة ما تكون البنية الظاهرة تبدياً للكامنة. وأفضل أن أراهما دائرتين متداخلتين: الأولى صغيرة (ونشير إليها بالجزئية) ، والأخرى كبيرة (ونشير إليها بالكلية الشاملة) ، وهي تحيط بالأولى وتشملها، وهي بمنزلة الإطار الذي ينتظمها. ويمكن القول: إن الأولى إن هي إلا مجرد إجراءات، وأفعال تشكل تجلياً للثانية، ولا يمكن فهمها حق الفهم إلا بالرجوع إلى الدائرة الأشمل؛ لأن هذه الدائرة الأكبر هي البنية الكامنة، والمرجعية النهائية» (2) . ورغم أن هناك اضطراباً في التصور بين الداخل والخارج، وصنع البنية الكامنة، والدائرة الشاملة في موقعي تناقض، ولكني سأتجاوز ذلك لأربط بقوة على قول (المسيري) على فرض أننا مشينا معه في تصوراته ومحاولته تقسيم العلمانية إلى علمانيتين أن الأولى ما هي إلا مجرد إجراءات وأفعال تشكل تجلياً للثانية. إذن على فرض ذلك فكِلا العلمانيتين من حيث الجوهر شيء واحد، ولكن إحداهما تتخذ شكلاً إجرائياً يختفي وراءه المحتوى المعرفي، والمرجعية النهائية الذي تمثله الأخرى.
يكمل المسيري كلامه فيقول: «في حالة العلمانية يشكّل الفصل بين الدين من جهة، وبين الدولة وسلوك الناس في بعض مجالات الحياة العامة من جهة أخرى الدائرة الصغيرة الجزئية الإجرائية، وهي دائرة لا يمكن فهم ما يجري فيها إن نظرنا إليها (معزولة عما حولها) [أليست داخل الدائرة الشاملة، فلماذا سننظر إليها معزولة إذن؟] (3) ؛ إذ يلزم دائماً أن نعود إلى الدائرة الشاملة الأكبر التي تشمل الأمور النهائية» (4) . والسؤال هنا: لماذا نعود إلى الدائرة الأكبر إذا كانت الدائرة الأصغر داخلها؟ الحقيقة أن المسيري قد بدأ العزل بالفعل ليصل إلى حل التقسيم الذي يحاول به أن يرضي جميع الأطراف، كما سنُظهر فيما بعد بإذن الله، ومن ثم فإن النتيجة المباشرة التي سيلحقها بهذا الكلام هي قوله: «ويوجد في تصورنا علمانيتان لا علمانية واحدة: الأولى جزئية، ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة، ولا نعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية لا عن الدولة وحسب، وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص؛ بحيث تنزع القداسة عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى» (1) .
ألم تكن العلمانية الأولى هي مجرد إجراءات وأفعال تشكّل تجلياً للثانية؟ فلماذا تم الفصل إذن؟ وكيف صرنا الآن بعد بضعة سطور في مواجهة علمانيتين سيتم قبول الأولى، ورفض الثانية إسلامياً؟
وقبل أن أناقش هذا التكتيك السياسي سأنتقل إلى تعريف أكثر مباشرة في موضع آخر من الكتاب يقول عنه المسيري: إنه تكتيك بحثي مقبول؛ بسبب ارتفاع مقدرته التفسيرية (وسوف أتوقف كثيراً عند مقدرته التفسيرية هذه) .
يعرّف المسيري ما ادّعاه علمانيتين هكذا:
العلمانية الجزئية:
رؤية جزئية للواقع (برجماتية - إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية (المعرفية) ، ومن ثم لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يعبر عنه بعبارة «فصل الدين عن الدولة» . ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة؛ كما أنها لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية، وربما دينية، أو وجود ما ورائيات وميتافيزيقيات؛ ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية.
العلمانية الشاملة:
رؤية شاملة للعالم ذات بُعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات الغيبية (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة، وهي رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق، أو متجاوز له (فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية) ، وإن العالم بأسره مكون أساساً من مادة واحدة، ولا قداسة لها، ولا تحوى أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرد، أو المطلقات، أو الثوابت. هذه المادة ـ بحسب هذه الرؤية - تشكّل كلاً من الإنسان والطبيعة؛ فهي رؤية واحدية طبيعية مادية» (2) .
واضح أن الفصل هنا قد صار تاماً، وأن هذا التعريف يخالف تماماً التعريفَ الأوَّلي الذي تقدم به المسيري في بداية الكتاب للعلمانيتين، وهذا غير السقوط في الكثير من المشكلات الفلسفية التي سوف أتناولها في حينها، لكنها الآن تعود إلى مناقشة مفهوم المسيري للعلمانية من البداية.
فبعد أن عمل المسيري على الفصل بين العلمانيتين، واعتبر الجزئية هي فصل الدين عن الدولة حاول من خلال هذا الحل أن يدفع عن نفسه تهمة الإقرار بهذا الصدام الحتمي بين الإسلام والعلمانية، ومن ثَم بدأ يوغل في كلام لا يعني أي شيء سوى إسقاط الواقع الحضاري للنصرانية في الغرب على الرؤية الإسلامية للعالم، ويخلط بين هذا وذاك ليوهم بصحة القضية التي هو بصددها؛ حيث يقول: «المؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد مع المؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي وحضاري مركب، تماماً مثلما لا يمكن أن تتحد مؤسسة الشرطة الخاصة بالأمن الداخلي مع مؤسسة الجيش الموكول إليها الأمن الخارجي، كما لا يمكن أن تتوحد المؤسسة التعليمية والمؤسسة الدينية في العصور الوسطى النصرانية حيث كانت هناك سلطة دينية (الكنيسة) ، وأخرى زمنية (النظام الإقطاعي) ، بل داخل الكنيسة نفسها كان هناك من ينشغل بأمور الدين وحسب، ومن ينشغل بأمور الدنيا، وحينما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» فقد كان في واقع الأمر يقرر مثل هذا التمايز المؤسسي؛ «ففي القطاع الزراعي بإمكان المرء أن يؤبر النخل، وحسب ما يمليه عليه عقله، وتقديره للملابسات، متحرراً في بعض جوانبه من المطلقات الأخلاقية والدينية» (3) .
- المناقشة:
أذكّر القارئ بأنه من البدء قد ربطنا بقوة على ذهاب المسيري إلى أن كِلا العلمانيتين من حيث الجوهر شيء واحد، وأن إحداهما تتخذ شكلاً إجرائياً يختفي وراءه المحتوى المعرفي الذي تمثله الأخرى، ثم بدأت تنازلات الرجل شيئاً فشيئاً، حتى تم الفصل بين العلمانيتين تماماً بعد أن جعل منهما رؤيتين، رأى أن إحداهما يمكن لها التعايش مع الدين، وإذا كانت العلمانية ـ بحسب التعريفات الغربية، أو رؤية فلاسفة الغرب لها بشكل أدق ـ ترتبط باستقلال العقل في الإدراك وتنحية المقدّس؛ فإن تعريف المسيري للعلمانية الشاملة هو الأقرب للتعريف الحقيقي للعلمانية بوجه عام؛ حيث لا يغدو تعريف العلمانية الجزئية هذا ـ والتي قال عنها المسيري في البدء: ليست سوى إجراءات، وتجليات للعلمانية الشاملة ـ سوى تكتيك يتدرع به المسيري من تهمة الصدام، وأقول: هو الأقرب؛ لأن هذا التعريف للعلمانية الشاملة، سواء في شكله الأول أو الأخير، هو أقرب إلى رصد نتاج الرؤية العلمانية، أو نتاج إعمال المنهج العلماني.
وقاعدة أن المقدرة التفسيرية للتعريف هي التي تحقق مصداقيته هي التي تلقى قبولاً شديداً عند المسيري؛ حيث يعتمد عليها منهجياً في معظم أعماله تقريباً، وهي بوجه عام أكثر القواعد قبولاً في المنهج العلمي للتحليل.
والآن لنا أن نحاكم المسيري إما على ارتباط العلمانية، واستقلال العقل في الإدراك والتصور، وتنحية المقدمة كما هو مسلَّم به عند فلاسفة الغرب، أو على هذا التعريف الذي نصنعه (وقد ذكرنا حيثياته في مقال البيان المشار إليه) ، والذي نصنعه على محل قاعدة المقدرة التفسيرية للتعريف؛ حيث نرى أن العلمانية: «هي الاقتصار على العقل الإنساني وخبراته في إدراك حقائق العالم، وتصريف شؤون الحياة» .
ومن هنا فإن كل ما يقال عن انقسام العلمانية إلى علمانيتين (إحداهما إجرائية، والأخرى معرفية) لا يستقيم؛ لأن المسألة تتعلق أساساً بالمضمون الإدراكي، الذي يقف في الخلف، وليس هناك شيء يسمى إجراءات، أو سلوكيات، أو قيم ومواقف تتعلق في الهواء، ولا تعكس مضموناً فلسفياً ما، (حتى ولو كان هذا المضمون يعني اللامضمون، فلا بد من وجود رباط فلسفي بين هذا وذاك) .
ولكن لو أخذنا بمعيار المقدرة التفسيرية للتعريف الذي يأخذ به المسيري تماماً (1) ، وطبقناه على قولنا: «إن العلمانية هي الاقتصار على العقل، وخبراته في إدراك حقائق الوجود، وتصريف شؤون الحياة» لفهمنا من هذا التعريف أن العلمانية لا تنظر للأمور إلا من خلال العقل وخبراته كحقيقة مقدسة، ومن ثم لا تسلِّم بشيء مما يقول، والنتيجة الحتمية لكل ذلك ألا تسمح له بالتدخل في أي شأن من شؤون الحياة لا الدولة ولا المفاهيم ولا القيم، ولكن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى تحويل العالم إلى مادة استعمالية من وجهة نظر العلمانية، بل قد يؤدي إلى تصور ديني أيضاً قائم على العقل، ولكن تركيز المسيري على نتائج الرؤية العلمانية، وليس حقيقتها جعله يختزل موقفها على النتائج الأكثر انتشاراً في هذا الجانب المتعلق بالرؤية إلى العالم، وهو تحوُّل ما عن تحويل العلمانية في التعريف اللاحق إلى رؤيتين: إحداهما جزئية، والأخرى شاملة؛ فهو بمثابة إمعان في المغالطة، والمراوغة تحت ادعاء أنه تكتيك بحثي مقبول؛ بسبب ارتفاع مقدرته التفسيرية. وسنرى أن ليس له أية مقدرة تفسيرية، بل يتسبب في المزيد من الإرباك ليس للموقف الإسلامي فقط، ولكن في الرؤية الفلسفية بوجه عام.
فليس هناك رؤية لا تعكس مضموناً فلسفياً ما، حتى العبث فإنه يعكس (اللامعرفة) و (اللاجدوى) ، وعندما أتحدث عن فصل الدين عن الدولة؛ فهذه ليست رؤية وإنما هي موقف ينعكس عن رؤية فلسفية وراءه تعني إقصاء التدنس عن التدخل في العالم الدنيوي؛ فضلاً عن أنه ليس هناك (رؤيةٌ ما) يمكن تسميتها (رؤية جزئية) ؛ لأن الرؤية تعني تصوراً فلسفياً ما يحتم تداعي نتائجه في مختلف مناحي القضايا المتعلقة بالعالم.
ولكن مكمن المشكلة الأساسية في تعريفات المسيري للعلمانية: هو السقوط فيما نعاه على بعض التعريفات الأخرى من مشكلات؛ وأقصد بذلك تعويل هذه التعريفات على نتائج الرؤية العلمانية، وليس العمل على سبر حقيقة ماهيته؛ فعندما يذكر المسيري تعريفه الأول للعلمانية الشاملة (التي هي الأقرب للمقصود بالعلمانية بوجه عام) يذكر أنها لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما عن الطبيعة، وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص؛ بحيث تنزع القداسة عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى، وكل هذا نتاجات لإعمال الرؤية العلمانية، وليس تحديداً لها؛ لأن السؤال المطروح هو: لماذا تفصل العلمانية الدين (بمعنى الوحي) عن الدولة والقيم الإنسانية والأخلاقية، بل وعن الدين الفعلي الذي يجب اتباعه؟ إنه يذكر النتيجة، وليس السبب العام إلى مادة استعمالية، وسنزيد هذا الأمر شروحاً فيما بعد.
أما في التعريف اللاحق للعلمانية الشاملة فيذكر فيه: أن العلمانية رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، والواحدية المادية ... إلخ، كما ذكرنا من قبل. ويلاحظ في هذا أنه يتعلق بالنتاج الراهن للرؤية العلمانية، وليس بحقيقة الرؤية ذاتها؛ فحقاً إن العلمانية السائدة الآن هي علمانية مادية شاملة للإنسان والطبيعة، ولكن هذا لا يعني حتمية المطابقة بين العلمانية والرؤية المادية للعالم؛ فقد تأتي مرحلة لاحقة يؤدي إعمال الرؤية العلمانية إلى رؤية عقلانية مثالية للعالم، كما أنه لا يمكن تعميم ذلك على المراحل المختلفة للفكر العلماني الغربي، حتى في العصر الحديث، فلا يمكن أن يقال مثلاً: إن أياً من (ديكارت أو كانت) كان فيلسوفاً مادياً، بل كان عقلانياً مثالياً، وهو مما لا شك فيه أنه كان علماني التفكير.
- هفوة المسيري شديدة الوضوح:
أما هفوة المسيري شديدة الوضوح فهي في المقولة التي عمل على إيهام القارئ أنه يرتضيها (وإن كان هو لا يرتضيها حتماً إذا تمت مراجعة كلامه مراجعة حرفية، خصوصاً لو تم هذا في ظل ما يدلي به من أقوال في الندوات) .
وهي المقولة التي مفادها أن لا تعارُض بين الإسلام والعلمانية الجزئية؛ لأنه حتى لو كانت العلمانية الجزئية هي فصل الدين عن الدولة فهي تعني العمل على الانتقاص من شمولية الدين، بل وتهدف إلى تبعيضه، وهو الأمر الذي يتناقض مع قوله ـ تعالى ـ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] .
وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 150 - 151] . ولعل ذلك هو ما دعا الدكتور محمد البهي (وهو المفكر الإسلامي النابغ الذي جمع بين دراسته الأزهرية للدين ودراسته الألمانية للفلسفة) إلى أن يعنوِن كتابه عن العلمانية بالتالي:
(العلمانية وتطبيقها في الإسلام: إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر) .
ويبلغ السيل الزُّبى عندما يطبق المسيري ذلك على قول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ؛ حيث يقول وهو يورد في إطار إقراره للفضل النسبي بين الدولة والدين: «ففي القطاع الزراعي بإمكان المرء أن يؤبِّر النخل أولاً، حسب مقدار معرفته للملابسات، متحرراً في بعض جوانبه من المنطلقات الأخلاقية» . وما بين القوسين للمسيري ليس به شيء إذا أُخذ حرفياً، لكن المشكلة في الإيهام أن ذلك يعني إمكانية الفصل بين الدين والدولة في الإسلام اعتماداً على هذا الحديث؛ لأن الحديث بكل وضوح يتناول الجوانب العلمية التطبيقية من الحياة، وهي أمور عامة مجردة وموقف الإسلام (وليس كل الأديان) من هذه الأمور شهير جداً، ومفاده عدم التدخل والاعتماد على الخبرة، ولكن لا ينطبق ذلك على أي جانب من الجوانب السلوكية للحياة التي تنظمها الدولة، وهذا ما يوهم به كلام المسيري.
- إلى أي من الإسلاميين استند المسيري؟
أستطيع القول إن العذر العام الذي يظلل مواقف الدكتور المسيري أن الرجل حديث الانتقال في نقده للحضارة الغربية من المنظور اليساري إلى المنظور الإسلامي، أو بشكل أكثر دقة إلى منظور فلسفي يبدو عاماً ولكنه يستبطن رؤية إسلامية، ومن ثَم فإن تراكمه المعرفي يتشكل أساساً من التراكم المعرفي الغربي نفسه؛ ولهذا فإن منظوره الإسلامي لا يقوم إلا على بعض القواعد العامة وربما غير المحددة، ويفتقد التراكم المعرفي الإسلامي لدرجة محزنة؛ خصوصاً إذا تعلق الأمر بموقعه المتقدم المفترض في مواجهة الحضارة الغربية مما ينعكس على مواقفه في الكثير من الحالات بغياب الرؤية الإسلامية المحددة، أو ضبابيتها في مواجهاته الفكرية مع هذه الحضارة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من المشكلات حتى مع إقرارنا باشتراك المنظور الإسلامي والاشتراكي في بعض المواقف الناقدة للحضارة الغربية.
ولكل ما سبق كان من الطبيعي أن يحاول الدكتور المسيري الاستناد إلى بعض المفكرين الإسلاميين في تحديد موقف المنظور الإسلامي من العلمانية، ولأنه من الطبيعي أيضاً أن يتحدد استناده هذا بعاملين هما: محدودية تراكمه المعرفي الإسلامي وعزوفه الشخصي عن احتداد المواجهة في مواقفه السياسية؛ فقد وقع اختياره على تيار الوسط التوفيقي بين الإسلام والعلمانية، وهو ما اعتيد أن يطلق عليه في القنوات الإعلامية المرضي عنها بـ (التيار الوسطي) والذي يُعد الكاتب (فهمي هويدي) أحد أبرز رواده؛ ولذلك فقد كان هو الشخص الوحيد من المحسوبين على الإسلاميين الذي استند إليه المسيري في تعريفه للعلمانية.
و (الأستاذ فهمي هويدي) هو صاحب المقولة الشهيرة: «العلمانيون المعتدلون هم أقرب إلى الإسلاميين المعتدلين من الإسلاميين غير المعتدلين» ا. هـ.
والنتيجة التي ينتهي إليها الاثنان معا (هويدي والمسيري) هي كما يقول هويدي: «أن كل تيار سياسي يحترم عقيدة الأمة ويلتزم بنصوص الدستور المعبرة عن ذلك يصبح من حقه أن يكتسب الشرعية، وأن يكون شريكاً في الحياة السياسية للمجتمع الإسلامي ينسحب ذلك على مختلف فصائل العلمانيين المعتدلين سواء كانوا ليبراليين أو قوميين أو ناصريين أو ماركسيين» (1) .
ويعلق المسيري على ذلك بقوله: «وإن الحوار بين فصائل الأمة المختلفة ممكن في إطار التعريفات الجزئية، أما التعريفات المادية الشاملة فإنها تُسقط كل المرجعيات ولا تخلّف لنا سوى الصراع في الداخل والتبعية لقوى العولمة في الخارج. ولعل الذين قرؤوا مقال (الأستاذ فهمي هويدي) لاحظوا أن مطالبة الإسلاميين بتأكيدهم قبول التعددية التي تشمل التيار العلماني كانت موقفاً التقى عليه رأي آخرين من أهل الفقه والنظر في مقدمتهم الدكاترة: (يوسف القرضاوي) و (أحمد العسال) و (محمد سليم العوا) . ومما يجدر ذكره أن (فهمي هويدي) ليس وحيداً في موقفه هذا، بل يمكن القول بأن هذا الرأي هو الرأي الممثل للتيار الإسلامي الأساسي» (2) .
أعتقد أن القارئ النابه لا يستطيع أن يعرف ـ بعد هذا الذي سردته الآن ـ أين ذهب المسيري المفكر الفلسفي العميق؟
هل استغرقه الجهد في إيجاد مخرج للعلمانيين بهدف إيجاد مخرج لنفسه من الصدام مع النخبة الفكرية المسيطرة حتى ذاب تماماً في تيار السياسة؟
ولا بد أن ننظم الآن نقاط البحث حتى لا نذوب نحن أيضاً مع تيار السياسة هذا. ولذلك فإن ما يهمنا هنا هو ليس قبول التعايش أو عدم التعايش مع هذه العلمانية المعتدلة التي تتطابق إلى حد ما ـ لاحظ إصرار المسيري على استخدام مثل هذه الألفاظ (إلى حد ما) حتى يحتفظ لنفسه دائماً بالقدرة على الإفلات من المحاسبة الفكرية الدقيقة ـ مع العلمانية الجزئية.
ولكن المهم بالنسبة لنا: هل هذه العلمانية الجزئية أو المعتدلة تتناقض مع الإسلام أو لا تتناقض؟
والنقطة الثانية هي: هل هذه العلمانية الجزئية تخرج في شيء عن العلمانية الشاملة، أم أن المسألة لا تخرج عن كونها مجرد ادعاء سياسي يتم التستر به على الموقف الحقيقي من الدين أمام المجتمع الإسلامي؟
في الإجابة عن النقطة الأولى: ما هي المرجعية لنا في ذلك: هل هو الانتماء للوطن أو الانطلاق من المشروع الوطني العام أو الموقف من الاستعمار؟ إن مثل هذه الأمور قد تصح معايير للتعاون في القضايا العامة؛ وهذا أمر سياسي، ولكن ليس معايير لتحديد العلاقة بين العلمانية الجزئية والإسلام والتي لا يصح فيها إلا معيار واحد هو المرجعية الإسلامية التي تقرر أن الإسلام دين شمولي لا يقبل التجزئة، ولا يقبل الاستعاضة عنه كمرجعية في أي أمر من أمور الحياة سواء كانت السياسة أو غير السياسة. فإذا كانت هذه العلمانية الجزئية أو المعتدلة لا تقر الإسلام على ذلك، وتصر على تنحيته باعتباره مرجعية في مجال السياسة أو في أي مجال آخر؛ فهي تتناقض تماماً مع الإسلام. أما الحديث عن إمكانية التعاون مع هؤلاء العلمانيين أو عدم التعاون معهم فهذا حديث آخر، ولكنه حديث من الخارج. واستخدام ما قد يصح من مرجعية له كالموقف من الاستعمار أو الانتماء للوطن في تحديد العلاقة بين العلمانية المعتدلة والإسلام هو خلطُ ما هو سياسي بما هو عقائدي. ومن ثم يجب فهم موافقة أهل الفكر والنظر الذين ذكرهم (الأستاذ هويدي) في هذا السياق؛ أي إمكانية التعاون مع العلمانيين المعتدلين على هذه الأسس المذكورة دون أن يعني ذلك موافقة أهل الفقه منهم (وهم الذين يهموننا في هذا الموضوع) على أن هذه العلمانية المعتدلة (أو الجزئية) لا تتناقض مع الإسلام.
أما خلط هذه الأمور جميعاً لكي نصل إلى نتيجة مفادها عدم الاصطدام بالصفوة الفكرية فهو تضحية بالفكر على مذبح السياسة.
ومن ثم فإن تولي مثل هذه الرؤية لا يؤدي إلا إلى المزيد من الارتباك في الواقع الفكري، وينعكس سلباً على وضوح المواقف لدى الإسلاميين.
- المسيري والعلمانيون العرب:
يقول المسيري: «تتأرجح التعريفات العربية لمفهوم العلمانية بين العلمانية الجزئية بوصفها إجراء جزئياً لا علاقة له بالأمور النهائية مقابل العلمانية الشاملة بوصفها رؤية شاملة للكون» (1) .
والذي يعنيه هذا الكلام هو عدم استطاعة تقسيم المسيري ـ الذي استمد مصداقيته من قدرته على التفسير ـ استيعاب هذه التعريفات أو تفسيرها.
المسيري ماذا أدى به منهجه في التعامل مع العلمانيين العرب؟
يقدم حسين أحمد أمين (وما أدراك ما حسين أحمد أمين؟) فيقول عنه إنه يعرّف العلمانية بأنها «محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة» (2) ، ويعلق على ذلك قائلاً: «فكأن المرجعية النهائية هنا ليست علمانية، وإنما مستمدة من نسق معرفي وأخلاقي آخر، وكأن العلمانية تنحصر في الدائرة الصغيرة الجزئية» (3) ، ثم يقول في موضع آخر: «فكأن حسين أمين يرى أنه لا توجد ضرورة حتمية للصراع بين العلمانية والدين، وأن كل ما حدث هو صراع نتيجة ظروف تاريخية طارئة، وهناك بعض المفكرين الإسلاميين ـ ممن يؤمنون بالتعددية والتدافع وضرورة الاجتهاد ومن ثم استحالة احتكار الحقيقة ـ يتفقون في بعض النقاط الأساسية مع حسين أحمد أمين» (4) .
لم يذكر المسيري من هم هؤلاء المفكرون الإسلاميون الذين يتحدث عنهم، ولكن ذكر بعض الأوصاف التي تستخدم عادة كـ (كليشهات) سياسية دون أن يكون لها معنى محدد (ممن يؤمنون بالتعددية والتدافع وضرورة الاجتهاد) . المهم أنه بهذا الكلام الهلامي أعطى (حسين أحمد أمين) جواز مرور في عدم التصادم مع الإسلام.
وحسين أحمد أمين هذا (بعيداً عن علاقته الخاصة بالدوائر الغربية) له مؤلفات شهيرة في الهجوم على الشريعة الإسلامية كبيرها وصغيرها (راجع كتابنا: تزييف الإسلام وأكذوبة المفكر الإسلامي المستنير) ولكن من الطبيعي أن يجد له مكاناً إسلامياً في رؤية المسيري الفضفاضة والمرتبكة في العلاقة بين الإسلام والعلمانية.
أما الأمثلة الأخرى التي يتخدها المسيري للمفكرين فأشد غرابة؛ لأن نموذج (حسين أحمد أمين) نموذج معروف بالعلمانية الملتوية التي تحاول أن تتخذ ستاراً إسلامياً. لكن ما بالكم بـ (الدكتور فؤاد زكريا) ذلك المفكر المادي المعروف الذي قد تمثل صراحته الفكرية أهم مميزات فكره؟ فيذكر المسيري أن (الدكتور فؤاد زكريا) يصف العلمانية بأنها «الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة» (5) ، ويوضح (فؤاد زكريا) موقفه بقوله: «إن ما تريده العلمانية إن هو إلا إبعاد الدين عن ميدان التنظيم السياسي للمجتمع، والإبقاء على هذا الميدان بشرياً بحتاً تتصارع فيه جماعات لا يمكن لواحدة منها أن تزعم أنها هي الناطقة بلسان السماء. فأساس المفاضلة بين المواقف المختلفة يجب أن يكون العقل والمنطق والمقدرة على الإتيان بالحلول الواقعية الناجحة» (1) . ويذكر المسيري لـ (الدكتور زكريا) أيضاً قوله: «إن العلماني المتحمس يرفض توجيه التنظيم السياسي للمجتمع توجيهاً يرتكز على سلطة الدين، ولكنه في الوقت ذاته يتزوج بوثيقة شرعية إسلامية» (2) .
ثم يتساءل المسيري ـ بفيض من البراءة المصطنعة ـ هذا السؤال العجيب: «هل يمكن الحديث عن (فؤاد زكريا) بعد هذا باعتباره علمانياً شاملاً؟» (3) .
ولا أدري: هل ينتظر المسيري أن يرفض (الدكتور فؤاد زكريا) الزواج بوثيقة شرعية إسلامية وهو يعيش بين أكناف مجتمع مسلم له ضغوطه الخاصة حتى يقبل الحديث عنه باعتباره علمانياً شمولياً؟
ثم ما الذي يهمنا هنا في هذا المثال البين (مثال الدكتور فؤاد زكريا) في رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية في كونه علمانياً جزئياً أو شاملاً في تحديد موقفه من الإسلام؟ ولكن الدكتور المسيري بتلك الحيلة العجيبة (ادعاء أن العلمانية الجزئية يمكنها التوافق مع الإسلام، ثم ادعاء أن الدكتور فؤاد زكريا علماني جزئي) أوجد له مخرجاً من تناقضه الفكري مع الإسلام.
وهناك مثال آخر يورده المسيري عن صاحب ما يسمى بـ (العلمانية المنفتحة) الذي يقول: «كل ما أطلبه من أجل إدخال العلمنة الصحيحة في المجمتمعات العربية والإسلامية هو إلغاء برامج التعليم السائدة، وإلغاء الطريقة اللا تاريخية والعقائدية التبشيرية لتعليم الدين في المدارس العامة، وإحلال تاريخ الأديان والأنثرابولوجيا الدينية محله» (4) .
ويبدو أن هذه الخطوة الأخيرة أدت إلى ارتباك المسيري أو ادعائه الارتباك في تحديد موقف أركون من الدين، إذ يقول: «يبدو أن محمد أركون قد نسي الهدف الأساسي من برنامجه الإصلاحي، وهو إتاحة إمكانية وجود روحانية جديدة؛ إذ إنه بدلاً من ذلك يحدد الهدف من برنامجه بأنه «دراسة بنية العقل الديني وطريقة اشتغاله ووظائفه. ولا تهم مضامين العقائد والمذاهب بحد ذاتها» (5) .
وكأن المسيري قد صدق بالفعل أن علمانية أركون تسمح بإمكانية وجود روحانية جديدة كما يدعي.
- يا لبراءة المسيري!
ولهذه البراءة العجيبة وضع الرجلَ في خانة المترددين بين العلمانية الجزئية والشاملة.
والمسألة ببساطة هي أن أركون ما فعل سوى ما اعتاد فعله العلمانيون العرب وهو التهويم باقتصار الرؤية العلمانية على المسائل السياسية والواقعية فقط دون التدخل في العقائد، ولكن عندما يتعلق الأمر بالخطوات العملية فلا مناص من القفز إلى قلب هذه العقائد والإطاحة بها تماماً. لكن المسيري لا يقول إنه يفهم هذا ومن ثم يزعم أنه أصيب بالارتباك من موقف الرجل.
إن المسيري بعد أن ناقش التعريفات السابقة والكثير غيرها للعلمانيين العرب يعلق على ذلك فيقول: «معظم التعريفات أهملت قضية المرجعية النهائية للمصطلح (والمفهوم) [وهل تحتاج العلمانية إلى مرجعية نهائية غير نفسها؟] ومن ثم لم يتم التمييز بين الدائرتين: الصغيرة الجزئية والكبيرة الشاملة» (6) . وإهمال تعريفات العلمانيين العرب للتمييز بين الدائرتين ليس عيباً فيها، وإنما العيب في فكر المسيري الذي توهم وجود مثل هاتين الدائرتين، ثم جعل من هذا الوهم محكّاً للحكم على هذه التعريفات. بل إن اعتراف المسيري نفسه بإهمال هذه التعريفات لذلك التمييز يظهر مدى ما بذله من تكلّف في الاستخراج المصطنع لوجود مثل هاتين الدائرتين في تلك التعريفات. إن قلة قليلة من العلمانيين العرب (وهذا أمر طبيعي تماماً نظراً للتشبث المجتمعي بالإسلام رغم كل العداءات) هي التي من الممكن أن تتبنى صرامة موقف العلمانية الحقيقي الإقصائي من الدين، ولكن الغالب الأعم منهم يبحث دائماً عن شكل ما من أشكال الاحتيال الفكري الذي لا يضعه في هذا التعارض الصريح مع الدين. ويكاد يتمثل الجانب الأكبر من تاريخ الفكر العلماني في العالم العربي في تلك الجهود المبذولة في اتخاذ مثل تلك الأشكال المختلفة من الاحتيال الفكري.
ولكن (الدكتور عبد الوهاب المسيري) يعطي بهذا الاختلاف المصطنع لما يسمى بالعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة تسويغاً اجتماعياً (يحاول أن يضفي عليه مسحة من الإسلامية) لكل هذا الغالب الأعم.
ولأن أصعب شيء على نفس هؤلاء العلمانيين هو التأكيد على تلك الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية؛ فإن ذلك يبرز خطورة تيار الوسطية بين الإسلام والعلمانية (والذي أعطاه المسيري بكتابه هذا زخماً كبيراً) والذي يدفع للانتشار والهيمنة على الأجهزة الإعلامية من جهات عديدة، وتتمثل غاية ذلك التيار الأساسية التي تبذل من أجلها كل جهوده في محو تلك الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية.
- ما يؤخذ وما لا يؤخذ:
عندما نتجاوز الصفحات والفصول التي يبرز فيها المسيري السياسي المناور (وهي الصفحات التي تتحدث تحديداً عن علاقة العلمانية بالإسلام) وننتقل إلى الصفحات والفصول التي يتحدث فيها المسيري الحقيقي (المسيري الفيلسوف أو بقول أدق سسيولوجي الفلسفة أي عالم اجتماع الفلسفة) سنجد كتابات باهرة في تفكيك ونقد العلمانية والحضارة الغربية بوجه عام؛ وهذا هو الشيء الحقيقي الذي يجب أن يستفاد من المسيري برغم ما قد يسببه من إرباك شديد فيما يكتبه عن العلاقة بين الإسلام والعلمانية، ومن أمثال ذلك المستفاد ما كتبه حول (التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع ـ التمركز حول الأنثى ـ العقل الأداتي ـ علمنة الفكر ـ علمنة الرؤية ـ الإمبريالية وعلمنة العالم) . وكتب أيضاً كلاماً جيداً عن المتتالية العلمانية (وهي منظور المسيري الخاص للعلمانية الذي يوجه كل فكره) . وبالرغم من خلافنا مع المسيري حول تلك المتتالية إلا أنها تمثل تناقضاً فلسفياً مع ما كتبه عن علاقة العلمانية بالإسلام وتقسيمها إلى علمانية جزئية وعلمانية شاملة، ولكن الأمر يحتاج إلى الكثير من الشروح، وسنعمل هنا على تركيزه في حدود نقدنا الأساسي للمسيري حول تقسيمه للعلمانية.
يتحدث المسيري عن العلماني كمتتالية كما يلي: «يمكننا تخيل متصل من المدلولات في أقصى أطرافه وهو ما نسميه (العلمانية الجزئية) وفي الطرف الآخر ما نسميه (العلمانية الشاملة) » (1) . ثم يقول في موضع آخر: «والفرق بين ما نسميه (العلمانية الجزئية) وما نسميه (العلمانية الشاملة) هو في واقع الأمر الفرق بين مراحل تاريخية لنموذج واحد؛ فالعلمانية ليست مجرد تعريف ثابت، وإنما ظاهرة لها تاريخ، وتظهر من خلال حلقات متتابعة.
ولذا فبدلاً من أن نتحدث عن نموذج العلمانية (ومصطلح «نموذج» ينطوي على قدر كبير من الثبات) يجدر بنا أن نتحدث عن متتالية نماذجية تتحقق عبر الزمان وفي المكان (2) .
وما نراه أن العلمانية ليست متتالية مادياً، وإنما هي رؤية تؤدي إلى آلية إنتاج فكري تؤدي في بعض مساراتها مرحلياً إلى متتالية مادية قد تنعكس إلى وجهة مضادة؛ بينما تؤدي المسارات الأخرى إلى أشكال مختلفة من الإنتاج الفكري يكون من التعسف دمجها قسراً في تلك المتتالية المادية. فقد يمثل المسار الفكري (ديكارت ـ أسبينوزا ـ هوبز ـ لوك ـ هيوم) متتالية مادية ولكننا نجد ربوبية فولتير (أياً كان تفسير المسيري لها) فاصلة تمضي باتجاه معاكس ليعود تتبع المتتالية مرة أخرى ولكن بشكل أقل حدة مع (دولباك - ديدرو - دولمبير) لكنها تأخذ اتجاهاً معاكساً مع الإيمان الوجداني لـ (جان جاك روسو) والإيمان الأخلاقي لـ (كانت) على الرغم من عقلانية الرجليين العلمانية. لكن المسيري يميل إلى الترشيد في رصد النتاج الفكري العلماني، والترشيد في رصد الظواهر الفلسفية كلها في مسارات وقوانين محدودة (متأثراً في ذلك ـ بحسب رأينا ـ بماركسيته السابقة) وهو الأمر الذي يدفعه لجمع نتاج المسار المادي العلماني كله فيما يسميه (بالوحدانية المادية) والتي يطابق بينها إلى حد كبير وبين الوحدانية الروحية الصوفية وهي إجراءات تؤدي إلى زيادة التعقيد في تحليل الرؤى الفلسفية وليس إلى تبسيطها بحسب رأينا.
ولكن دع كل ذلك جانباً، ولنعد إلى قضية المسيري الرئيسية (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) فهل كون العلمانية ما هي إلا متتالية لا تختلف في مراحلها الزمنية إلا من حيثُ كمِّ المنتَج الفكري المادي الذي تنتجه. أقول: ألا يعني ذلك أن العلمانية كينونة معرفية واحدة، وأن الخلاف من حيث الكم في محتواه المادي لا يغير شيئاً من حيث نهجها المعرفي، ومن ثم يغدو تقسيمها إلى جزئية وشاملة من حيث كمها المادي تقسيماً تعسفياً لا معنى له؟ وهل يعني هذا أن المسيري عندما عرَّف العلمانية كمتتالية معرفية تناقض مع تقسيمها الأول إلى جزئية وشاملة، أم أن الأمر لا يعدو كون المسيري يدرك قبل الجميع حقيقة هذا التناقض ومع ذلك يصر على احتياله السياسي بتمسكه بهذا التقسيم؟
وأخيراً أذكِّر مرة أخرى بما قلناه في البداية ـ وهذا أهم ما في الموضوع ـ أنه أياً كان الأمر، وعلى فرض كون العلمانية جزئية أو شاملة، فهي في كل الحالات تتناقض مع الإسلام؛ لأن الإسلام منظومة شاملة لا تقبل التجزئة بأي شكل من الأشكال.(215/26)
يوم من أيام الله (موهاج) التي لم ينسها الغرب
في ظلال العثمانية ... درع الإسلام المفقود.
د. عبد الحميد الدخاخني
إذا ذُكرت الدولة العثمانية (دولة الخلافة الأخيرة) عند كثير من المثقفين وأنصاف المثقفين بادروك بالقول بأن الدولة العثمانية هي سبب المصائب والتخلف الذي نحن فيه غارقون، كما أنها السبب الأول في تدهور قوتنا وابتعادنا عن روح العصر وتحدياته، ولم يعطوا لأنفسهم فرصة للتثبت مما دسه وروجه أساطين ودهاقنة الشر وأعداء وحدة الأمة وتقارب المسلمين.
وللحق فإن تاريخ العثمانيين ليس هو تاريخ الملائكة المنزلين ولا تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين، ولكنه تاريخ إسلامي مشرف ينبغي لكل أجيالنا أن تعرفه وتتمثله؛ فتاريخنا الحالي مرهون بالماضي؛ فلننطلق ليوم من أيام الله؛ حيث كانت الدولة العثمانية درع الإسلام وسيفه الذي سلَّه الله للفتح وردع المعتدين؛ حيث كان الإسلام حياً في النفوس، وعلى أساس الإسلام تبنى الدولة في كل شؤونها؛ فلننطلق لعصر السلطان (سليمان القانوني) الذي لا يعرف شبابنا عنه معشار ما يعرفونه عن نابليون وأمثاله.
تولى السلطان (سليمان) عرش الخلافة العثمانية في عام 1520م، بعد أن ورث أباه السلطان (سليم الأول) فاتح مصر والشام، والذي كان يسعى لإنشاء دولة إسلامية واحدة تمتد من أواسط آسيا إلى غرب أوروبا، ولكنه لم يتمكن من تحقيق ما أراد.
وفي السنة الأولى من حكم السلطان سليمان 1521م فتح جزيرة رودس التي كانت شجا في حلوق المسلمين، وكان بها أشد الصليبيين حنقاً على الإسلام وإيذاءً لأهله في البر والبحر. كانت رودس تحت حكم (فرسان القديس يوحنا) الذين عُرفوا في كتب التاريخ الإسلامي باسم فرسان المعبد (الداوية) ، وكان الهجوم العثماني كما هي العادة قوياً وخاطفاً؛ حتى إن الغرب لم يشعر إلا وقد فتح المسلمون رودس، وكانت بحق قلعة الصليبيين في شرق البحر المتوسط تهدد شواطئ الإسلام وسفنه التجارية [ظلت طرابلس ليبيا تحت حكم الفرسان الصليبيين هؤلاء مدة سبعين سنة حتى طردهم منها العثمانيون] .
وفي السنة الثانية 1522م قام السلطان الخليفة (سليمان القانوني) بفتح بلغراد أحد أهم مدن المجر آنذاك وهي من قلاع أوروبا الوسطى القوية، وتشتهر بحصانتها ومتانة أسوارها، وقد صدت أسوارها المنيعة الهجوم العثماني المتعدد عليها منذ عهد السلطان (محمد الفاتح) ، ولكن الله قد ادخر هذا الفضل للسلطان سليمان القانوني الذي كانت أوروبا كلها تطلق عليه اسم سليمان المُعظَّم أو الفخم (Suliman the magnificent) ، ولا ينبغي أن ننسى دلالة هذا الاسم في وقت كان الغرب كله يدور حول الكنيسة ووصفها للمسلمين بالكفرة الذين يعبدون محمداً -صلى الله عليه وسلم -، ويملأ الغيظ والحقد قلوبهم عند ذكر اسم مسلم.
في السنة السادسة من حكم السلطان سليمان 1526م، كان الغرب الأوروبي يتشكل ككتلة عجيبة، كان أقوى ملك في أوروبا هو شارل الخامس (شارل كوان) وهو حفيد فرديناند وإيزابيلا اللذين قاما بطرد المسلمين من الأندلس، وقالت أم الملك المسلم الغرناطي الأخير أبي عبد الله الصغير الذي بكى حين رحلت به السفينة عن بلاده؛ قالت له أمه: أجل! ابكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال. ولكن الله لا يتخلى عن هذه الأمة، ولن يجعلها عاقراً من رجال صادقين؛ فلننظر بعدها بقليل ماذا حدث.
كان الملك الأسباني شارل الخامس يحكم كل أسبانيا وبعض البلدان في الأراضي الواطئة (من هولندا وبلجيكا وجوارهما) ونصف إيطاليا الحالية، ويحكم أخوه باسمه كل النمسا وألمانيا، وكانت أخواته متزوجات من ملوك: فرنسا، المجر، بولندا، وليتوانيا (وكانت دولة قوية متسعة) والسويد، وهكذا تهيأت أوروبا لتكون مسرحاً قوياً لحرب الإسلام وشوكة تهديد واستعمار لكل الشمال الإفريقي وأغلب بلاد العالم المعروف آنذاك؛ حيث كانت حركة الكشوف الجغرافية الصليبية التي أرادت خنق الإسلام في بلاده قد آتت ثمارها البغيضة القاسية، ولكن هكذا دبَّر الله قوانين الكون على أن يكون لكل مجتهد نصيب؛ فليجتهد المسلمون حتى لا يكونوا هم المفعول به دائماً، والله قد أراد المسلم فعّالاً إيجابياً لا كمّاً مهمَلاً.
رأى السلطان سليمان وإدارته أن أخطر حلقة في هذا العقد الجهنمي الذي يتكون في أوروبا هي دولة المجر التي تجاور الدولة العثمانية وتصل حتى حدود البوسنة حالياً؛ حيث كان ملك المجر (لايوش الثاني) بلا وريث؛ فإذا مات أو قُتل فسرعان ما تؤول مملكة المجر الضخمة لهذا الحلف الأوروبي المتناسق.
وكان القرار أنه لا بد من فتح المجر وضمها أو أغلبها للخلافة العثمانية أو تولية من يحفظها من الانضمام للغرب الأوروبي ويتبع الدولة العثمانية حتى لا تكون مصيبة على المسلمين.
في ذلك الوقت كانت الحملات العثمانية لا تستطيع أن تخوض المعارك في أوروبا إلا في أشهُر الصيف وخاصة يونيو ويوليو وأغسطس، ولكن السلطان سليمان خرج بجيشه البالغ تعداده مائة ألف جندي في شهر إبريل من عاصمة ملكه (إستانبول) وخرج معه مئات من السفن العثمانية النهرية الرفيعة تسير في الدانوب وتوصل المؤن للجيش المجاهد، وكان من تجهيزات الجيش العثماني المجاهد ثلاثمائة مدفع؛ ففي ذلك الوقت كان المسلمون هم من يمتلكون أحدث الأسلحة، نعم! كنا نحن الذين نمتلك التقنية المتفوقة والتكتيكات الحربية الرائدة، وبينما لم يكن الأوروبيون الصليبيون يستعملون المدافع في الحروب كانت الدولة العثمانية تستعمل هذا السلاح بحذق ومهارة شديدين كما سنرى.
وصل السلطان إلى نهر الدانوب (الطونة بالعثمانية) وكان أحد مشكلات الحملات العثمانية في أوروبا لسعته وتياراته وصعوبة عبوره. أمرالسلطان ببناء جسر حجري لعبور الجيش، فتم بناؤه في أربعة عشر يوماً، فعبر الجيش المجاهد عليه في أربعة أيام، ولما تم العبور بسلام، أصدر السلطان أمراً عجيباً؛ إذ أمر بهدم الجسر بنار المدفعية. أتعرف ما معنى هذا؟ إنه يعلن لكل الجنود أننا لن نعود منهزمين ومتعجلين: إما النصر، فلا مشكلة في إعادة بنائه، وإما الشهادة فما عند الله خيرٌ وأبقى!
بعد عبور النهر صعد السلطان إلى بلغراد التي كان قد فتحها منذ أعوام قليلة، واستقبل تهنئات وتبريكات عيد الفطر في بلغراد، ثم واصل صعوده في أوروبا الوسطى حتى سهل (موهاج) المجري، ويقع جنوب شرق العاصمة بوادبست بحوالي مائة وثمانين كيلو متراً، وكان الجيش المجري من أفضل جيوش أوروبا الصليبية في ذلك الوقت، وتعداده مائتا ألف فارس ومقاتل، منهم أربعون ألفاً من أفضل القوات الألمانية المختارة، وفوق كل ذلك كان هناك الحماس الغربي الصليبي المتقد. كثير من المسلمين اليوم يظن أن الحملات الصليبية هي الحملات التسع المشهورة على البلاد العربية فقط، ولا يعلمون أن الدولة العثمانية صدت منذ القرن الرابع عشر الميلادي ما يزيد على خمس وعشرين حملة صليبية دموية. رحم الله العثمانيين؛ فقد كانوا درعاً للإسلام!
كان الجيش المجري يدافع عن دولة عريقة وسلالة حاكمة قديمة؛ فالعرش المجري كان عمره ثمانياً وثلاثين وستمائة سنة كاملة؛ فهي إمبراطورية راسخة، وكان الفرسان المجريون مشهورين بشجاعتهم وبسالتهم وشدة بأسهم.
تدارس القادة العثمانيون الأكفاء مع السلطان الخطة التي ينبغي عليهم سلوكها، وقد أخبرت فرق الاستطلاع أن السهل محاط بمستنقعات واسعة من بقايا أمطار الصيف؛ ففي أوروبا الوسطى تمطر السماء صيفاً أيضاً.
أراد العثمانيون أن يستفيدوا من هذه المستنقعات، فرسموا خطتهم بحيث يستدرجون الفرسان المجريين إلى مدى المدافع مع الحفاظ على كتل الجيش المجري بدون انتشار حتى تستطيع المدافع إصابتهم بأعنف الضربات وأكثرها مفاجأة.
وكانت الخطة أن ينقسم الجيش العثماني كالعادة إلى ميمنة وميسرة وقلب؛ ففي القلب يقف السلطان مع أفضل الجنود وأشجعهم وهم الإنكشارية (الجند الجديد) والذين كانوا رعب أوروبا لما يقرب من ثلاثة قرون، ويكون وقوف السلطان براياته وعلاماته أمام المدافع حتى إذا اندفعت القوات المجرية إلى ساحة الوغى وتوجهوا لقلب الجيش الإسلامي واقتربوا، عندئذ تتراجع صفوف الإنكشارية والسلطان إلى ما خلف المدافع، ثم تطلق المدافع بأقصى طاقتها، حتى إذا تشتتت الصفوف المجرية اندفع جناح الجيش الإسلامي ودفع ما تبقى من القوات المجرية إلى المستنقعات.
كانت التوقيتات في التواريخ العثمانية بأوقات الصلاة. دخل السلطان عند صلاة الصبح كذا، وبعد صلاة العصر فعل كذا وكذا.
لبس السلطان درعه في صلاة الصبح، ثم دخل إلى صفوف الصاعقة وهي القوات المسلمة القادمة من إمارات القرم والبحر الأسود الذي ظل بحيرة إسلامية حتى نهايات القرن الثامن عشر الميلادي ـ وكانت هذه القوات ـ الخيالة ـ تقوم بمرافقة الحملات العثمانية النظامية في أوروبا وروسيا، فيقومون بالغزو والجهاد متساندين يدعم بعضهم بعضاً [هذا في أيام التخلف والرجعية (زعموا) ... إلخ]ـ وكان الدور الأساسي لفيالق الصاعقة هو حماية طرق اقتراب وسير الجيش العثماني وكذلك الاستطلاع وجلب الغنائم والأسرى وضرب عمق العدو.
كان السلطان الخليفة على رأس جيشه المجاهد في الميدان، كذلك كان الملك المجري على رأس جيشه الصليبي في الميدان ذاته ساعات.. ويتقرر مصير الأمتين والملكين.. هل سواء من كان في سبيل الله ومن كان في سبيل الطاغوت؟ بات المسلمون يقرؤون القرآن ويذكرون الله ويهللون ويكبرون (كانت أناشيد الجيش مليئة بالدعاء والتكبير حقيقة) ويذكِّرهم الدعاة والعلماء بفضل الجهاد وما أعد الله للشهداء.. وبات المجريون يدقون النواقيس ويحرضهم القساوسة والرهبان للدفاع عن الصليب وأوروبا ضد المسلمين الفاتحين.
دخل السلطان في فيالق الصاعقة بعد صلاة الصبح وذكَّرهم بالله وأن جهادهم هذا موقعة فاصلة في تاريخ الإسلام، وقال لهم: كأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ينظر إليكم الآن ... بكى الجنود وبكى معهم سلطانهم ... رحم الله السلاطين والجيوش الذين يبكون من خوف الله!
ثم دخل السلطان في صفوف السباهية (وهم الفرسان النظاميون العثمانيون) ففعل هكذا ... فبكوا أيضاً تأثراً.
وكأن الله رضي عنهم وقَبِل تضرعهم وبكاءهم؛ فلننظر ما حدث بعدها: انتظمت صفوف المسلمين، وقاموا بتنفيذ الخطة كما هي بحذافيرها، وأمر السلطان بعدم البدء بالحرب.
عند العصر لم يطق الفرسان المجريون صبراً، فاندفعت فرق الفرسان في هجومها المخيف لاجتياح المسلمين.
ولما اقتربت فرق الفرسان المجرية تراجع المسلمون بمقتضى الخطة المتفق عليها خلف المدافع، وانطلقت المدافع تهدر وتقصف هذه الفرق المهاجمة، وانطلقت ثانية، وثالثة.
تمزقت فرق الفرسان المجرية التي دوخت أوروبا كلها بفروسيتها وشجاعتها أمام المدافع العثمانية، ولكن الحرب لم تنته.
أعطى السلطان الأمر بهجوم الميمنة والميسرة والقلب على فلول الجيش المجري حتى لا تهرب البقية؛ كان قائد الميمنة والميسرة هما ابني عمة السلطان نفسه.
بعد أقل من ساعتين كانت معركة موهاج قد انتهت وحُسمت.
كان عدد الأسرى المجريين خمسة وعشرين ألفاً، بينما كان خمسة وسبعون ومائة ألف ـ وهم بقية الجيش المجري ـ يخوضون المستنقعات، وبلغ من شدة قوة الضربة العثمانية أن الملك المجري نفسه (لايوش/ لويس الثاني) لم يتم إنقاذه من الغرق.
كانت النتيجة النهائية مرعبة لكل أوروبا؛ فالجيش العثماني قد أنهى الجيش المجري وهو من أفضل الجيوش الأوروبيةأنهى معركة مائتي ألف فارس ومقاتل في ساعتين فقط بخسائر لا تذكر: جرحى العثمانيين ألفا جريح، ومائة وخمسون شهيداً (نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله) نعم! ليس هناك خطأ في العبارة: مائة وخمسون فقط.
صلى السلطان المغرب في أرض المعركة وصلى معه الجيش، وبعد الصلاة تقدم القادة الكبار وهم تسعة عشر قائداً وقبلوا يد السلطان (في ذلك الوقت العظيم لم تكن هناك رسوم من المبالغات والضلالات التي حدثت بعد ذلك مثل تقبيل حاشية الثوب أو تقبيل الأقدام وتقبيل الأرض وغير هذا من الترهات التي حدثت في أزمنة متأخرة؛ وكأن هذه الخزعبلات والتعظيمات الباطلة تنادي بخراب الدول، أو أن هذه الضلالات لا تحدث إلا مع قلة العمل والإعداد والقيام بأمر الله) .
فتح السلطان سليمان بعد المعركة مباشرة عاصمة المجر (بودا) وضم إليها (بست) وكان بينهما نهر، واستقبل السلطان تهنئات وتبريكات عيد الأضحى في عاصمة المجر، وهكذا كان العيد عيدين، وبدأ الحكم الإسلامي لمدينة (بودابست) لمائة وستين عاماً من 1526م حتى 1686م.
ظل السلطان سليمان القانوني ـ رحمه الله ـ بعد هذه الموقعة يبعث الرسل بالرسائل المهينة للأرشيدوق حاكم النمسا وألمانيا طالباً منه أن يخبره فقط أين هو حتى يأتي إليه سليمان وجنوده، بل وحاصر فيينا عاصمة النمسا في 1529م حتى يجبره على القتال، ولكن الأرشيدوق الشجاع أبى إلا أن يهرب ويترك عاصمته، وهل بعد سليمان وموهاج روح؟
هذه المعركة يقول عنها المؤرخون العسكريون إنها مثال لحروب الإبادة الكلاسيكية في مطلع العصور الحديثة، ولا تزال تدرس في الكليات العسكرية الغربية.
هل تعرف أخي المسلم! ما يقول أبو المؤرخين البريطانيين في هذا القرن (أرنولد توينبي) عن هذه المعركة الفاصلة؟ إنه يقول عنها: إن الضربة الديناميكية التي وجهها السلطان سليمان القانوني في موهاكس (موهاج) قد أجبرت ما تبقى من مملكة المجر على الالتحام مع ما تبقى من مملكة النمسا طيلة أربعة قرون حتى انهارت الدولة العثمانية» ا. هـ[مختصر دراسة التاريخ/ توينبي ـ سومرفيلد] .
هل نُدرِّس هذا التاريخ المجيد لأطفالنا وشبابنا، أم نملأ عقولهم ونفوسهم بخزعبلات مكذوبة عن الباشا التركي الهزلي الذي يتجبر على المستضعفين والمساكين من العرب؟ صورة كاذبة حقيرة لم ترسم إلا في خيال مريض أو من قِبَل الجيش الخفي الذي يدأب آناء الليل والنهار لحفر الأخاديد بين الشعوب المسلمة وتعميق الكراهية بين أمة الإسلام وخاصة الشباب؛ حتى لا يحلم أحد بجمع الأمة مرة أخرى؛ فقد كان أثر اجتماع الأمة ما حدث في (موهاج) التي لن ينساها الغرب أبداً.
إن كان أعداؤنا قد نجحوا في تثبيت باطلهم؛ أفليس لنا من فتية صادقين ينافحون عن تاريخنا المجني عليه؟!
اللهم أنر قلوبنا وعقولنا، واجعل ولاءنا لله ولرسوله وللمؤمنين. آمين.(215/27)
الدنانير والطوامير ووكالات الأنباء
يحيى بشير حاج يحيى
ذكر الإمام السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) بسنده عن (كتاب الأوائل) للعسكري: «كان عبد الملك بن مروان أولَ مَنْ كتب في صدور الطوامير (1) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وذِكْر النبي -صلى الله عليه وسلم -، مع التاريخ! فكتب ملك الروم: إنكم أحدثتم في طواميركم شيئاً من ذكر نبيكم فاتركوه، وإلا أتاكم من دنانيرنا ذكر ما تكرهون! فعَظُم ذلك على عبد الملك، فأرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فشاوره، فقال خالد: حرِّم دنانيرهم، واضرب للناس سككاً فيها ذكر الله وذكر رسوله، ولا تُعفِهم مما يكرهون في الطوامير، فضرب الدنانير للناس سنة خمس وسبعين» .
وبذلك حرر المسلمين من التبعية والاعتماد على الآخرين، ورد كيد ملك الروم، وأَعْلَنَ المسلمون في طواميرهم ودنانيرهم شعاراتهم التي تحمل مضامين عقيدتهم.
وما أشبه اليوم بالأمس! فالمسلمون يشتكون من سيطرة وكالات الأنباء ذات الخلفية الصهيونية والصليبية؛ فهي تفرض ما تريد من خلال نقلها للأخبار بالطريقة التي تتفق مع مخطط القائمين عليها، حتى إن بعض وسائل الإعلام في صحفها أو إذاعاتها المسموعة والمقروءة تلتزم بالعبارات والأوصاف نقلاً حرفياً وكأنه لا يجوز تغييره بألفاظ وأوصاف أخرى.
فمن ذلك (الملتزمون بالإسلام: أصوليون، والمجاهدون: مسلحون، والآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر: الشرطة الدينية) .
وحين نتذكر ما جاء في (بروتوكولات حكماء بني صهيون) ندرك إلى أي حد بلغ التقصير بالمسلمين في هذا الشأن فقد جاء في هذه البروتوكولات: «يجب ألا يصل طرف من خبر إلى المجتمع من غير أن يحظى بموافقتنا؛ ولذلك لا بد لنا من السيطرة على وكالات الأنباء التي تتركز فيها الأخبار من كل أنحاء العالم، وحينئذ سنضمن ألا ينشر من الأخبار إلا ما نختاره نحن ونوافق عليه» .
وللعلم فإن (وكالة رويتر) أسسها يهودي اسمه (جوليوس باول رويتر) قبل أكثر من مئة عام؛ كما أن وكالة (اسوشيتد برس) التي تحولت إلى تعاونية عام 1900م وقعت تحت السيطرة الصهيونية منذ ذلك الوقت، وكذلك الحال بالنسبة لوكالة أنباء (اليونايتد برس انتر ناشيونال) التي كان أحد مؤسسيها ويدعى «وليام راندولف هيرست» متزوجاً من يهودية، وقد سانده اليهود في حملته الانتخابية كحاكم لنيويورك، وحتى وكالة أنباء (هافاس) التي أصبحت فيما بعد الوكالة الرسمية للدولة الفرنسية؛ فإن اليهود هم الذين أسسوها، وقام عدد منهم بإدارتها.
أما الفضائيات ومواقع الإنترنت فحدث ولا حرج!
فلماذا لا نسعى سعياً جاداً للخلاص من الحاجة إلى وكالات أنبائهم؟ وبين أيدينا الإمكانات البشرية والفنية والمالية، كما فعل أجدادنا حين حرَّموا دنانيرهم، فيسلم لنا ديننا، وتسلم لنا دنيانا، فالحاجة ماسة، والقضية ملحَّة.
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي.
(1) الطوامير: جمع طامور وهو الصحيفة.(215/28)
من علمائنا الربانيين
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
عرفه منبر الجمعة خطيباً قوياً صادعاً بالحق، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم. كان يعتني بخطبة الجمعة عناية فائقة، ويعد لها إعداداً حسناً، جمع بين الأصالة العلمية والرسوخ الفقهي واستحضار الأدلة والشواهد القرآنية، مع معايشة حيّة لقضايا الأمة وهمومها.
أحيا للمنبر هيبته ومكانته في قلوب الناس، وكانت عبراته الندية، وصوته المتخشع، وبكاؤه المتكرر، يؤثر في المصلين تأثيراً عجيباً، فقد كان يربيهم بدموعه قبل كلماته.
إنَّه العلاَّمة الفقيه الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود ـ ختم الله له بالصالحات ـ.
كان مثالاً للعالم الورع المتثبت، ومن تواضعه أنه عند الفتوى كان ينسب الاجتهاد الفقهي إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ أو إلى اللجنة الدائمة للإفتاء، وخاصة في المسائل الخلافية، تورعاً وطلباً للسلامة، وأحياناً يحيل بعض المستفتين إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، أو سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، رحمهما الله. وتعجب منه عندما تراه يستشير بعض طلابه، أو يذاكرهم في بعض مسائل العلم، وكأنه من أقرانهم.
عرفه الناس زاهداً عفيفاً طاهر اليدين، حرّ الجبين، منصرفاً عن الدنيا وزينتها، ولا يخوض فيما يخوض فيه الناس من الزخارف والأهواء؛ فازدادت محبتهم له، وثقتهم بفتاويه، وخاصة في النوازل التي تتطلب صدقاً وتجرداً.
من محامده العجيبة أنه كان قريباً من الشباب حريصاً على مجالستهم ومناصحتهم، وعلى الرغم من كثرة التزاماته إلا أنه كان يحب زيارتهم ومجالستهم في مكتباتهم وحِلَقهم ومحاضنهم، حتى بعد أن ضعف جسمه وصعبت حركته.
وعندما تجرأ بعض الناس على الوقيعة في أعراض بعض الدعاة والمصلحين، واستطار شررهم في كل ميدان، سكت الكثيرون، لكن شيخنا الجليل انتصر لإخوانه، واجتهد في الذب عن أعراضهم، مع حرص شديد على عفة اللسان والإنصاف، وتربية الشباب على البعد عن القيل والقال.
ومن حكمة الله ـ عز وجل ـ أنه ابتلاه بمرض أقعده منذ عدة سنوات فعزله عن الناس، وعزل الناس عنه، لكن ذكره الحسن لا يزال يعمر قلوب الدعاة وطلبة العلم؛ فإذا تذاكروا الورع ورقَّة القلب والقوة في الحق، تذكروا الشيخ عبد الله بن قعود واستشهدوا بسيرته. وأحسب أن مرضه من فضل الله عليه؛ فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه» (1) ، وقال: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حطّ الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» (2) . وقال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا همّ ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه» (3) .
إنَّ الأمة أحوج ما تكون ـ خاصة في هذه المرحلة الحرجة ـ إلى العلماء الربانيين الذين يبصرون الحق ويستشرفون مآلات الأمور؛ فهم النور المبارك الذي يبدد الفتنة، ويضيء للناس الطريق بعيداً عن عثرات الشبهات، ومضلات الأهواء. وهم القلب الحي النابض الذي تسنَّم الذروة في ريادة الأمة وتوجيه مسيرتها.
إن العناية بتراجم العلماء ليست مجرد وفاء صادق لهم، وإن كان الوفاء مطلباً نبيلاً، لكنها مع ذلك دعوة للاقتداء وتجديد الثقة، وهذا يجعلني أذكِّر بضرورة الالتفاف حول العلماء الربانيين، وتقوية الصلة بهم، والعمل الجاد على رعاية طلاب العلم وبنائهم. وأحسب أن المناخ العلمي المتكامل الذي يتحرك فيه الدعاة، ويتربى فيه المصلحون، هو المنطلق الصحيح لسلامة المسيرة. وإن مما يؤسف له كثيراً تقصيرَ بعض الحركات الإسلامية في البناء العلمي لأبنائها، وجَعْلَ ذلك في آخر الاهتمامات، بل ازدراءه في بعض الأحيان، والتهوين من شأنه.
وإذا أردت أن تدرك منزلة أية حركة؛ فانظر إلى منزلة العلماء فيها؛ فما حصل الخلل والاضطراب في مواقف بعض المصلحين إلا حينما حصل الانفصام بين العلم والقيادة الدعوية.
قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] .
__________
(1) أخرجه: البخاري في كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض (10/103) رقم (5645) .
(2) أخرجه: البخاري في كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء (10/111) رقم (5648) ومسلم في كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه (4/1990) رقم (2570) .
(3) أخرجه: البخاري في كتاب المرضى، باب ما جاء في زكاة المرض (10/103) رقم (5641 ـ 5642) ومسلم في كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه (4/1992 ـ 1993) رقم (2573) .(215/29)
216 - شعبان - 1426 هـ
(السنة: 20)(216/)
الذبُّ عن الحرمات
التحرير
على الرغم من أنَّ معظم وسائل الإعلام العربية ـ الرسمية وغير الرسمية ـ تُدار بأيد علمانية لا تخفي انحيازها للمشروع التغريبي، إلا أنَّه من الظواهر اللافتة للنظر تكاثر المواقع الإلكترونية العلمانية على الشبكة العالمية (الإنترنت) ، حيث تنطلق الآراء والأفكار المغرقة في غلوها وانحرافها بكل حرية، وبدون ضوابط سياسية أو دينية على الإطلاق، وراح كثير من أولئك المفسدين يتقيؤون بكل رذيلة، ويرفعون أصواتهم بكل قبيح ومنكر من القول، وتمردوا تمرداً سافراً على الدين والقيم.
كان بعضهم يزعم أنَّ مشكلته الأساسية مع مجموعة من الظلاميين الإسلامويين على حد قولهم! لكن أطاريحهم الفجَّة أكدت أن مشكلة كثير منهم إنما هي مع الإسلام نفسه، ومع نصوص القرآن العظيم.
ولهذا ليس غريباً أن يتنادى أهل الباطل لنشر باطلهم؛ حيث رأينا حرص بعض تلك المواقع الإلكترونية على استقطاب فلول الشيوعيين وأضرابهم ممن لا يملكون إلا مؤهل الحماقة والجرأة على الولوغ في ثوابت الدين ومسلّمات الاعتقاد. قال الله ـ تعالى ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 - 176] .
لسنا قلقين من هؤلاء؛ لأن وضوحهم العقدي، وسقوط أقنعتهم الكالحة، كافٍ في إسقاطهم عند عامة المسلمين، فضلاًَ عن خاصتهم ومثقفيهم. لكن مع ذلك نحن في حاجة إلى آلية إعلامية ووسائل علمية لبيان الدين والذبِّ عن الحرمات بحكمة وبصيرة وسعة أفق وطول نَفَس، ومجادلة بالتي هي أحسن.(216/1)
الفوضى البناءة «والحرب على الاستبداد»
التحرير
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على سياسة الحفاظ علي الاستقرار في الشرق الأوسط طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأن المصالح الأمريكية كانت تستدعي ذلك الاستقرار، مهما كان مبنياً على حماية ممارسات دكتاتورية وزعامات مستبدة.
غير أن هذه السياسة تغيرت في الآونة الأخيرة بعدما اكتشفت الولايات المتحدة أن الاستبداد يولد الأحقاد، ويورث روح الانتقام التي قد يتطاير شررها حتى إلى الداخل الأمريكي أو العمق الأوروبي، فعمدت إلى اعتماد استراتيجية جديدة تقوم على قلع الأنظمة المستبدة فيما يمكن أن يسمى (الحرب على الاستبداد) في موازاة (الحرب على الإرهاب) . فبينما تخوض أمريكا حربها العالمية على ما تسميه بالإرهاب بلا سقف زمني ولا حد مكاني، فإنها بدأت ـ بعد غزو أفغانستان ـ الحرب ضد النظم التي ترى أنها تدعم الإرهاب أو تمارسه أو حتى تسكت عنه.
وقد جاء تحويل أمريكا لاستراتيجيتها من حماية الاستبداد باسم الاستقرار، إلى محاربته باسم الديمقراطية، في الإطار الذي أعلن عنه جورج بوش في 24/6/2002م في خطة للتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، وهو ما عبر عنه (كولن باول) وزير الخارجية الأمريكية السابق بـ «إعادة هيكلة الشرق الأوسط» فقد أعلن وثيقة تتضمن (استراتيجية الأمن القومي الأمريكي) أقرها البيت الأبيض في شهر سبتمبر 2002م، لتتضمن إعطاء الولايات المتحدة لنفسها الحق في أن تخوض حرباً في أي وقت وفي أي مكان من العالم للحفاظ على أمنها القومي، باعتبارها القطب الوحيد المسيطر على العالم، والذي ينبغي أن يستمر مسيطراً لقرن قادم على الأقل.
وباعتبار أن قضية فلسطين هي القضية المحورية التي من أجلها يتفجر الكثير من أعمال العنف في الشرق الأوسط؛ فقد رأت الولايات المتحدة بعين عوراء أن هناك فقط أنظمة مستبدة تتاجر بهذه القضية، ويتسبب استبدادها في تشجيع العنف، وعميت عن الظلم الفادح الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية، ولم ترَ مَنْ يستحق الإزالة إلا ياسر عرفات؛ لأنه كان يدعم «الإرهاب» كما تسميه، وكان لزاماً البحث عن قيادة جديدة (متفاهمة) وغير مستبدة، وغاب ياسر عرفات، أو غُيِّب، لتأخذ الهيكلة الجديدة للشرق الأوسط بعده وبعد صدام حسين دفعاً جديداً.
وفي الطريق إلى تلك الهيكلة، ظهر أن السياسة الأمريكية ترتكز على عدة أمور من أهمها:
- أن ما عُرف بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) لم يعد هو القضية الأهم في المنطقة، بل الأهم منه إعادة صياغة الأوضاع العربية كلها، ولو استدعى ذلك الإطاحة بمزيد من النظم المستبدة التي تتسبب في انبعاث الإرهاب.
- أن التغيير السياسي وحده لا يكفي، بل لا بد أن تصحبه تغييرات ثقافية واقتصادية وأمنية، تطال بنية المجتمعات العربية، بما يؤمِّن المصالح الأمريكية في إطار تشجيع سياسة الأسواق الحرة ومنظمات المجتمع المدني، ودعم مراكز الأبحاث الناشطة في التغيير على المنهج الأمريكي.
- أن مصالح إسرائيل لا تقل أهمية عن مصالح الولايات المتحدة في هذا التحول الاستراتيجي؛ لأنها حجر الزاوية ورأس الرمح في السياسة الأمريكية في المنطقة، وهذا يستدعي أن تظل (إسرائيل) استثناء في الاستقرار الذي قد تحرم منه العديد من الدول المحيطة بها، وخاصة أنها قد يستعان بها في الإطاحة ببعض الأنظمة (المستبدة) .
- أن الصراع العربي الإسرائيلي بالرغم من تراجع أهميته ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ يبقى محتاجاً إلى صيغة حل نهائي، تضمن عدم الإخلال بأمن الولايات المتحدة والغرب، وأن هذا الحل لا بد من حسمه، ولو جاء عن طريق فرضه على الأطراف المعنية، بغض النظر عن مدى تجاوب تلك الأطراف مع ذلك الحل اللازم والملزم.
- قد يستدعي هذا الحل إقامة دولة فلسطينية، وسوف يشترط في السماح بها أن تثبت السلطة الفلسطينية الجديدة قدرتها على وقف «الإرهاب» نهائياً، وذلك بالعمل على دمج المقاومة الفلسطينية في العمل السياسي ـ لمن يستجيب منها ـ والعمل على سحق ما تبقى منها مصرّاً على المقاومة.
ويجيء هذا في ظل قناعة أمريكية وأوروبية، بأن ترك قضية فلسطين بلا حل ظل يورث الاحتقان والاحتباس الذي لا يجد تفريغاً له إلا في مصالح الغرب وأمريكا، وفي هذا الإطار تأتي دعوة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى عقد مؤتمر دولي، لا لمحاربة الإرهاب، بل للبحث عن أسبابه. وقد جاءت هذه الدعوة بعد الضربات التي تعرضت لها العاصمة البريطانية لندن أثناء انعقاد مؤتمر دول الثمانية في 7/7/2005م. وقد تعالت هذه النبرة (البحث عن أسباب الإرهاب) أيضاً بعد تفجيرات شرم الشيخ الأخيرة.
لكن الولايات المتحدة مع مضيها في (الحرب على الإرهاب) تظل ماضية في مشروع (الحرب على الاستبداد) ، لقناعتها أن هذا الاستبداد سيظل عامل تفريخ للإرهاب في نظرها، ولهذا فإنها ترفع في سبيل ذلك الشعارات التي ربما تبدو متعارضة، فهي مرة تتحدث عن دعم الازدهار والاستقرار في ظل الديمقراطية والحرية، ومرة تتحدث عن ضرورة التغيير، ولو استدعى التغرير ببعض الأنظمة عن طريق ما اسمته (كوندليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية بـ (الفوضى البناءة) التي تعني أن الولايات المتحدة قد تتعمد إثارة الفتن والقلاقل في بلدٍ ما، لأجل العبور من فوق ركامها أو من تحت دخانها إلى ما تريد من أوضاع جديدة تدخل ضمن إعادة الهيكلة وإعادة رسم الخرائط وتوزيع موازين القوى.
وفي أجواء التناقض بين ما ترفعه الولايات المتحدة من شعارات في التعامل مع إعادة هيكلة الشرق الأوسط، تحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس بحماس شديد عن التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط؛ وذلك في حديث إلى صحيفة الواشنطن بوست في الأسبوع الأول من شهر أبريل 2005م، فقالت: «إن هذا التحول قد يستدعي تغيير واستبدال بعض الأنظمة الحليفة والموالية، فضلاً عن الدول غير الصديقة» . وقالت: «لا يمكن القبول بالأمر الواقع بدعوى الاستقرار» وسألتها الصحيفة عن تصورها إذا ما أسفرت تفاعلات التحول الديمقراطي عن فرض خيار حتمي بين الفوضى وبين سيطرة الجماعات الإسلامية على الأوضاع في بعض البلدان، فقالت: «إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي هي من نوع الفوضى الخلاَّقة، التي ستسفر في النهاية عن وضع أفضل» . وقد اشتهرت هذه العبارة (الفوضى الخلاَّقة) أو (البنَّاءة) وأصبحت مصطلحاً من مصطلحات السياسة الأمريكية، لكن هذا المصطلح جرى تفعيله في الحقيقة ـ قبل أن يستقر مؤخراً ـ في عمليات الإطاحة بالأنظمة المستبدة في أوروبا الشرقية في أوائل التسعينيات، وقد صدرت الإشارات المتعددة في الفترة الأخيرة عن ساسة ومفكرين أمريكيين، بضرورة إعادة هذا «السيناريو» في الشرق الأوسط.
- اختبارات «الفوضى البنَّاءة بعد حرب العراق:
كانت الأحداث التي أعقبت غزو العراق.. تطبيقاً صارخاً لاستراتيجية إحداث الفوضى؛ فقد حُلت كل مؤسسات الدولة بلا مقدمات، حتى الجيش والشرطة، لتختلط كل الأوراق، ويبدأ الأمريكيون إعادة ترتيبها من جديد وفق أجندتهم، وبحسب عملية إحلال وتبديل تستهدف إحلال العملاء الصريحين في مواقع المسؤولية، مع استبعاد كل معارض لهذا النمط البربري من التغيير.
وقد استعدت الولايات المتحدة للانتقال بالفوضى إلى كل من سوريا ولبنان بعد العراق، ولكن تفاقم المقاومة العراقية في وجه الفوضى الأمريكية، جعلها تعدل عن الأسلوب الفج المفاجئ في التغيير، فاتجهت إلى التخفيف من غلوائها بعد الخسائر الجسيمة التي لحقتها في العراق، لتستمر في إحداث ألوان من الفوضى بشيء من التأني، وعلى سياسة (الخطوة خطوة) .
(الفوضى البناءة) بطرق مختلفة تجري ممارستها على المسار السوري اللبناني أيضاً على يد الولايات المتحدة؛ فبعد الإصرار السوري على التجديد للرئيس اللبناني الموالي لسوريا (إميل لحود) استصدرت الولايات المتحدة قراراً من الأمم المتحدة، هو القرار 1559 في شهر سبتمبر/ أيلول (2004م) يتضمن بنوداً ثلاثة أهمها: ضرورة انسحاب سوريا من لبنان، وتفكيك الميليشيات المسلحة هناك (حزب الله) وفرض الحكومة اللبنانية لسيطرتها على كل أراضي لبنان، بما يعني نزع أسلحة الفلسطينيين في المخيمات.
وقد تمخض ذلك عن إحداث ارتباك وخلط أوراق على الساحة السورية اللبنانية، كانت إحدى نتائجه الخطيرة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14/2/2005م، وقد أعقب تلك العملية الغامضة ـ للآن ـ فوضى شديدة، تمكنت الولايات المتحدة من استغلالها لإكراه سوريا على الانسحاب من لبنان ـ دون قيد أو شرط ـ وهو ما أربك كلاً من الطرفين السوري واللبناني، لتستغل الجهات التي تتحرك بإيعاز من الخارج هذا الانسحاب لفرض أجندات جديدة في التركيبة اللبنانية الداخلية، كان منها إثارة التناقضات الطائفية من جديد، كعامل إثارة فوضوية لا حد لها، وهو ما يجري التمهيد له بإعادة أمراء طوائف الحرب الأهلية إلى الحياة السياسية (ميشيل عون ـ سمير جعجع) وتعمل الولايات المتحدة على استفزاز ما يسمى بـ (حزب الله) لإكراهه على التنازل عن سلاحه، كشرط أساسي لإدماجه في الحياة السياسية، وإلا فسيجري التعامل معه على أنه منظمة إرهابية، يمكن توجيه الضربات المباشرة لها، وهو ما يمكن أن يفتح باباً لفوضى أخرى.
والولايات المتحدة وهي تركز على إغراق لبنان وسوريا في الفوضى بوسائل متعددة على خلفية (محاربة الاستبداد) تضع عينها في الوقت نفسه على إيران، الظهير القوي لسوريا ولشيعة لبنان، مستهدفة إياها أيضاً، بلون آخر من الفوضى التي قد تنتج عن ضربات جوية، أمريكية أو إسرائيلية، للمفاعلات النووية الإيرانية، وقد يكون هذا ـ إذا حدث ـ فتحاً لباب من النزاع الداخلي في إيران تستغله أمريكا لإيصال عملائها إلى السلطة هناك، خاصة بعد مجيء الرئيس الجديد (أحمد نجاد) الذي ضاعف مخاوف أمريكا من ولادة نوع جديد من الاستبداد في إيران، وقد تستعد الولايات المتحدة لإحداث أشكال من الفوضى في أماكن أخرى بدعوى (حرب الاستبداد) .
إن أحداً لا يرضى عن الاستبداد أو يدافع عنه، لكن السؤال هنا: ماذا لو جرى التعامل مع الولايات المتحدة من قِبَل غرمائها بطريقة مشابهة على أنها قوة استبدادية عالمية طاغية، وقام ضحاياها بتعمد إحداث (فوضى خلاَّقة) ضدها هنا أو هناك، عسى أن يطيح هذا بطاقم الاستبداد داخلها على المدى القريب أو البعيد؟
ألن تجعل المعاملة بالمثل في هذه الحالة العالم أسوأ من غابة الوحوش المتصارعة ... ؟!
يبدو أن هذا ما تُغِذُّ أمريكا السير فيه، على غير علم أو هدىً أو كتاب منير.(216/2)
رؤية إسلامية لمشكلة التعددية
د. بسطامي محمد سعيد خير
لعل فكرة التعددية من أكثر المقولات تداولاً في عالم اليوم؛ إذ نالت شيوعاً وصيتاً في كل مجال من المجالات، من علم وفكر ودين، إلى اجتماع وثقافة وسياسة واقتصاد، وأصبحت من أكثر شعارات العصر الرنانة البراقة المستحسنة التي يلهج بها كل أحد ويتزين بها، وباتت دليلاً على الانفتاح والسماحة والتمدين. ومع هذا الشيوع والذيوع لا يماري أحد من المختصين بتعريف هذا المصطلح أنه من الصعب تحديد معنى دقيق له أكثر من المعنى اللغوي المتفق عليه، وهو أن التعدد يعني أكثر من الواحد. أما ما وراء هذا المعنى البسيط فإن المصطلح غامض غائم (1) ، ويستعمل في معان شتى حسب السياق الذي يرد فيه، حتى لقد وصل الأمر ببعض الدارسين للقول بأنه ينبغي لنا أن نسلِّم بتعددية التعددية (2) .
وقبل الاسترسال في بحث الموضوع من المهم التفريق بين أمرين أساسيين. فمما لا شك فيه أن التعددية وصف لظاهرةٍ مشاهَدةٍ محسوسة، ألا وهي التنوع والتباين والاختلاف بين البشر في ألوانهم وجنسياتهم وآرائهم ومعتقداتهم وقيمهم وثقافاتهم وأديانهم ومناهج حياتهم؛ هذه حقيقة واضحة جلية قد لا يتجادل حولها اثنان. لكن التعددية أصبحت اليوم مصطلحاً للمبادئ والمفاهيم التي تتناول أمراً آخر، ألا وهو منهج التعامل مع ظاهرة التباين والتنوع في حياة الناس. فالتعددية بوجهها الأول وصف لظاهرة طبيعية قائمة وواقعة في كل المجتمعات، والتعددية بوجهها الثاني نظرية وتصور لحقيقة حدود التباين والتنوع، وضوابط الاتفاق والافتراق وكيفية تنظيم المجتمع على أساس ذلك.
وعلى هذا فإن مصطلح التعددية السائد المتداول اليوم يُقصد به تلك التصورات والمناهج الغربية المعاصرة لتفسير وتنظيم مشكلة التنوع والتباين في المجتمعات البشرية، وقد نشأت هذه المبادئ والمفاهيم الغربية للتعددية خلال تطور طويل في الغرب، وكانت مرآة لفلسفته ونظرته للحياة في ميادينها المختلفة، ويريد الغرب الآن جعلها أنموذجاً يحتذيه العالم كله، بل فرضها في كثير من الأحيان ومع أن استعلاء ثقافة على ثقافة أخرى هو في حد ذاته يناقض مبدأ التعددية التى ينادي الغرب بها؛ إلا أن ازدواج المعايير أمر لا غبار عليه عند القوم في التعامل مع غير بني جنسهم.
ومقصود هذا البحث الموجز التأمل في قضية التعددية الغربية المعاصرة باعتبارها تصوراً ومنهجاً لحل مشكلات التنوع والاختلاف؛ مع محاولة تقديم رؤية إسلامية لها، ومن ثَم تقويمها وبيان المقبول منها والمرفوض، وسيقتصر البحث على أهم الميادين التي تطرح من خلالها مسألة التعددية؛ إذ الإلمام بأطرافها كلها لا سبيل إليه في هذا المختصر.
- تاريخ التعددية في الغرب والإسلام:
قد يكون من المناسب في البداية تقديم ملامح عن تاريخ فكرة التعددية ونشأتها في الغرب (1) مع بعض الملامح أيضاً عما يقابل الفكرة في الإسلام.
ترجع أصول التعددية في الغرب إلى بعض الفلسفة اليونانية؛ حيث ظهرت الفكرة لمناهضة فلسفة وحدة الوجود ونقضها لها؛ ومضمونها أن الوجود ليس واحداً، بل متعدداً، وحيث بدأ الغرب يحاول النهوض بإحياء مخلفات التفكير اليوناني، بعثت فكرة التعددية الفلسفية من جديد في القرن السابع عشر الميلادي، وظلت حبيسة في الإطار الفلسفي دون أن تجد لها سوقاً نافقاً حتى بداية القرن العشرين، ثم تنامت من جديد على يد المفكرين الإنجليز مثل (وليام جيمس) و (برتراند رسل) اللذيْن وجدت آراؤهما قبولاً فائقاً في مناخ من اليأس السائد بين العلماء آنذاك بسبب إخفاق العلوم التجريبية في حل كثير من معضلات الكون حتى لقد أعلن أحدهم انتصاره قائلاً: «لقد تكسرت هيمنة الحقيقة المطلقة على أيدينا» .
ومن الفلسفة انتقلت الفكرة إلى ميدان السياسة؛ حيث دعا العلماء في أوروبا وأمريكا ـ ومن أبرزهم هارولد لاسكي ـ إلى تحطيم سلطان الدولة المطلق. وفي الفترة التي تلت انهيار الاستعمار للبلاد الآسيوية والأفريقية ظهرت كثير من النزاعات والحروب الإقليمية والعرقية والدينية بسبب عوامل داخلية ومكائد، مما أبرز تفكيراً جديداً في العلوم الاجتماعية عن التعددية وتعايش الجنسيات والثقافات والديانات، ثم انتقل داء النزاع والصراع إلى عقر ديار الغرب وخاصة في عواصمه ومدنه الكبرى؛ إذ هاجرت وهُجِّرت أعداد كبيرة من سكان آسيا وأفريقيا واستوطنت هنالك، ووجدت بين الغربيين سحنات غريبة وثقافات وديانات غير مألوفة، فكانت التعددية محاولات لحل المعضلات التي نشأت من جراء هذه الهجرات، ولاستيعاب هذا التنوع والتباين في البرامج التعليمية والمؤسسات الاجتماعية.
وخلاصة الأمر: أحسب أن التعددية بمبادئها المعاصرة الرائجة ليست إلا حلولاً أبدعها الفكر الغربي لمشكلات مختلفة أحدثها تطوره التاريخي الخاص ونظرته للحياة ومناهجها ونظمها.
ويبقى السؤال: ما المقبول والملائم لظرف بلادنا من ذلك كله، وما المرفوض؟
- التعددية في الإسلام:
وإذا توجه المرء بنظره إلى الإسلام فالأمر جد مختلف؛ إذ إن أصول أي فكرة ترجع إلى الوحي ونصوصه في القرآن والسنة، اللذين يخضعان في التوثيق والتفسير لمنهج علمي معين واللذين يوجهان العقل والتجربة البشرية، والتطور التاريخى في أطر محدودة. ومما لا شك فيه ان كلمة التعددية لا توجد في قاموس مصطلحات العلوم الإسلامية، ولكن لا يمكن لعاقل أن يدعي أن الإسلام ليس له تصور ولا منهج لمسألة التنوع والتباين والاختلاف، بل من يراجع القرآن والسنة وكتب الأقدمين والمعاصرين يجدها ملأى بالحديث عن كثير من المبادئ والقيم والتوجيهات الخاصة بذلك، ويقوم التاريخ الإسلامي شاهداً على تنزيل هذه المبادئ والقيم إلى واقع ملموس؛ إذ ضم العالم الإسلامي في أراضيه على امتدادها وفساحتها، كمّاً هائلاً من الجنسيات والأعراق واللغات والمذاهب والآراء والمعتقدات والأديان، وتفاعلت فيما بينها وتلاحقت وتجاورت وتجادلت، وشاركت كلها في صنع الحضارة الإسلامية في علومها وفنونها ونظمها ومؤسساتها المختلفة، وإن ظهرت فيما بينها بين الحين والآخر نزاعات وصراعات وحروب فهي استثناء لا أصل.
ولكن هذا التاريخ الماضي والمجد التليد للمسلمين السالفين لا يوجد إلا في أضابير الكتب وبطون النظريات، ويحتاج إصلاح العالم الإسلامي اليوم إلى إحياء ذلك التراث وبعثه وتجديده، وتنزيله في الواقع؛ مع الاستفادة من معارف الغرب وعلومه ونظمه فيما يتفق مع مقاصد الإسلام والمصالح العامة بضوابطها المعروفة، جمعاً بين الاصالة والمعاصرة.
ووفق هذا المنهاج يتجه هذا المقال في قضية التعددية المعاصرة إلى التفصيل والتخصيص، وسوف يشمل النظر مجالات: تعددية الحقيقة، والتعددية الخلقية والدينية والعرقية والسياسية.
- تعددية الحقيقة والقيم (مدرسة التعددية الفلسفية) :
إن النظرة الفلسفية للتعددية الغربية المعاصرة هو المدخل لفهمها، وهي العمود الفقري لاستيعاب وجوهها وتطبيقاتها المختلفة في شتى الميادين. وتزعم هذه النظرية (2) أن الحقيقة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالظرف الذي تنشأ فيه، أياً كان هذا الظرف من شخصية المرء أو نظامه المعرفي أو ثقافته أو لغته أو زمانه أو مكانه. وبما أن الظروف تتعدد وتتغير فإن الحقيقة تبعاً لذاك متعددة؛ ذلك أن الحقيقة ليست إلا تصوراً جزئياً للأشياء، يعتمد في الأساس على الزاوية التي يُنظر منها للشيء. وبما أن زوايا النظر تتفاوت؛ فالحقيقة كذلك متفاوتة ومتعددة، وعليه لا توجد حقيقة مطلقة يمكن أن يُحكَم بها على صحة أو بطلان الآراء، وأحسب كل الحقائق نسبية بحسب الظرف الذي تنسب إليه، ومن نتائج ذلك القول بتعدد قيم الخير والشر أو ما يطلق عليه بالتعددية الخُلقية.
ولهذه المقولة ثلاثة عناصر أساسية:
الأول: أن تعريفات الخير والشر في الحياة الإنسانية متعددة، وكل له أحقيته في القبول دون أن يكون هنالك أي قسم مشترك أو معيار لقبول تعريف دون تعريف آخر.
الثاني: من الممكن إذن أن تتعارض قيم الخير والشر ولا تتفق، وليس في ذلك من بأس، بل كل حسب ما يراه صاحبه.
الثالث: ليس هنالك من منهج عقلي أو نظام معرفي يمكن له أن يزيل التعارض في قيم الخير بين مختلف الثقافات؛ ولهذا فكلها خير (3) .
- التعددية بين القبول والرد:
ومما لا شك فيه أن مدرسة التعددية الفلسفية تواجه نقداً عنيفاً من جهات عديدة، ولكنها أيضاً تلقى قبولاً متزايداً في كثير من الدوائر، ولا يسمح المجال هنا بذكر هذه الاعتراضات وردودها، ويكفي الإشارة إلى أن قبول فكرة تعددية الحقيقة والخُلق تعني في النهاية العدم المحض لكل من الحق والخير.
ومنهج الإسلام لإثبات الحقيقة يقوم على الدليل من العقل أو النص في القرآن أو السنة، ونصوص القرآن والسنة هي أيضاً مملوءة بالأدلة العقلية لإثبات ما فيهما من حق وخير (1) كما قال ـ تعالى ـ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] .
واحتمال الخطأ في الاجتهاد يعني أن الحق واحد؛ وهذا رأي عامة علماء الإسلام، إلا المعتزلة؛ فقد ذهبوا إلى أن الحق يتعدد، وأن كل مجتهد مصيب للحق. قال القرطبي: «وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذا اختلفوا، فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، قد نصب على ذلك أدلة، حمل المجتهدين على البحث عنها، والنظر فيها؛ فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق، وله أجران: أجر في الاجتهاد وأجر في الإصابة. ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين؛ فله أجر» (2) . والأدلة على أن الحق واحد لا يتعدد كثيرة، منها أدلة في القرآن والسنة، ومنها أدلة عقلية؛ وتفصيل المسألة مبسوط في كتب أصول الفقه (3) . فمما استُدل به قول الله ـ تعالى ـ عن اجتهاد داوود وسليمان في القضية التي عُرضت عليهما {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، فأثنى عليهما بالعلم واصابة القول والعمل عموماً، وخص سليمان بإصابته الحق في القضية المعينة المعروضة. وقد ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (4) . ومن الأدلة العقلية أن تصويب رأيين متناقضين مثل «كون الفعل محظوراً ومباحاً، أو صحيحاً وفاسداً؟ أو واجباً وغير واجب ممتنع لاستلزامه اتصاف الشيء بالنقيضين.
ومما يجدر ذكره في سياق تعددية الحقيقة ما قد شاع من فهم خاطئ عند بعض المعاصرين لقاعدة تغيُّر الفتوى بتغير الزمان، واعتبار ذلك مظهراً من تغيُّر أحكام الإسلام حسب الظروف. ولقد حصل خلط كبير في فهم هذه القاعدة، ولعل ذلك تأثُّرٌ بما شاع في الغرب من أن الفكر يتغير بتغير الظرف، ولكن قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان التي أسسها الفقهاء تقتصر على الأحكام التي مصدرها مصلحة لم يعتبرها أو يُلْغِها نص، أو مصدرها عرف لم تنشئه الشريعة أصلاً، ولم تتعرض له لا بمدح ولا بذم؛ فالأحكام المبنية على هذين الأساسين هي التي تتغير إذا تغيرت المصلحة، أو تغير العرف. أما الأحكام التي تؤسسها النصوص فلا أثر لتبدل الزمان أو المكان أو تغير الأحوال والظروف؛ فما ثبت بالنص فهو ثابت أبداً في كل زمان ومكان وفي كل حال إلا أن يكون هناك نص آخر ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى، وبيان هذا بتفصيل مبسوط في مواضعه (5) .
- التعددية الدينية:
يستعمل كثير من الناس التعددية لتعني التعايش السلمي بين الأديان تحت شعار عالم واحد للجميع (6) . ومما يجدر ذكره هنا أن تاريخ أوروبا مثخن بالجراح من النزاعات والحروب الدينية واستضعاف المخالفين؛ ليس فقط من غير النصارى من اليهود أو المسلمين، بل بين طوائف النصرانية نفسها، ولا تزال بعض النيران مشتعلة مثل ما يحدث في إيرلندا وأرض البلقان، ولم يضعف هذا الظلم إلا بعد أن كانت الغلبة للعلمانية التي زحزحت الدين عن موقع الصدارة، وزجت به إلى الأطراف وجعلته محصوراً في المجال الخاص، وحرمت عليه المجال العام وأباحت له في مجاله الضيق حرية المعتقد والعبادة للجميع. وفي ظل العلمانية وتحت كنف حمايتها وجدت التعددية الدينية التي تسمح بالتعايش السلمي بين الأديان أو بين طوائف الديانة الواحدة. ويُقدَّم هذا النموذج (العلمانية) للعالم على أنه الأمثل لحل مشكلة التنوع الديني. ولكن نظرة فاحصة لهذا النموذج تكشف عيوبه؛ فمن ناحية لا توجد مساواة بين الأديان أو طوائف الديانة الواحدة في كثير من بلدان الغرب مع دعواها التعددية الدينية؛ إذ تعطي كثيراً من مؤسساتها وتمولها كلياً أو جزئياً دون الكنائس الأخرى أو الأديان الأخرى مثل الكنيسة الإنجليزية في إنجلترا، أو الكاثوليكية في إيطاليا، أو اللوثرية في بعض البلاد الإسكندنافية. وتتفاوت البلاد الغربية في موقفها من بعض حقوق الأقليات الدينية مثل حق التعليم الديني؛ ففي فرنسا وأمريكا مثلاً المدارس كلها من المؤسسات العامة ولا يسمح فيها بالتعليم الديني؛ بينما تسمح بعض البلدان بالتعليم الديني داخل المدارس لطائفة خاصة دون الطوائف الأخرى مثل الحال في كثير من ولايات ألمانيا. أما الاعتراض الجوهري لجعل العلمانية الحارس للتعايش السلمي بين الأديان وطوائفها، فهو الطعن في الحيادية التي تدعيها؛ ذلك أن أهم مسوِّغ يقدمه المفكرون الأحرار في الغرب لجعل العلمانية في منزلة القوامة على ضمان التعايش السلمي بين الأديان هو حيادها. ولكن هذا الحياد المزعوم للعلمانية لا يسنده دليل نظري ولا واقعي، بل هو كما يصفه أحد الكتّاب الغربيين ليس إلا أسطورة، ويمضي للقول إن العلمانية لها تصورها للحقيقة وللقيم الأخلاقية ولمناهج الحياة مثل كل تصور ومنهج آخر تقدمه الأديان، وإعطاء العلمانية سلطة الهيمنة على غيرها من المناهج هو نوع من الاستبداد على غيرها والظلم له (1) وكثيراً ما يحتدم النزاع والصراع بين العلمانية والدين في بعض السياسات وبخاصة في المسائل التى تمس الأخلاق، ولكن الدين في الغالب مسلوب الحقوق والإرادة وما عليه إلا أن يسلِّم بالأمر الواقع.
والحوار الديني مظهر آخر من مظاهر التعددية الدينية التي يشيعها الغرب، وقد ابتدرته الكنائس النصرانية، ثم انضمت إليهم الأديان الأخرى، حتى أصبح حركة عالمية نشطة خلال مائة سنة من تاريخه (2) لها مجالسها ومؤتمراتها العلمية ومراكزها الدراسية في الجامعات، ويحظى بأهتمام رسمي وشعبي. ومن ثمرات هذا الحوار كسر الحواجز بين القادة الدينيين، وإتاحة منبر اللقاءات والتشاور، وإسماع العالم رأي الدين في بعض المشكلات العالمية. ولكن كثيراً من المشاركين فيه يلاحظون أنه قليل الأثر؛ إذ لا يتعدى دائرة الأقوال والبيانات والتصريحات، ومحصور في النخبة وليس له أي امتداد في القواعد، ويتحاشى الدخول في مواجهة جادة حول الأسباب الحقيقية للكراهية والعداء المتأصل في النفوس، ويكتفي بالمجاملات والمظاهر.
وأهم أوجه التعددية الدينية الغربية ذلك الذي يقوم على الرأي القائل إن جميع الأديان مرآة للحقيقة، وأنها جميعها حق. وهذه النظرة هي التي تتفق تماماً مع مبدأ تعددية الحقيقة، والذي يعد ركناً أساسياً للتعددية الفلسفية الغربية، وتعكس أيضاً النظرة السائدة وسط الحداثة الغربية من أن الدين يمكن إعادة تفسيره وتأويله وتنقيته من موروثات العصور الماضية ليتواءم مع العصر الحاضر (3) . تجد التعددية الدينية بهذا المعنى قبولاً أوسع كل يوم، بل قد أصبحت هدفاً من أهداف الحوار والتقارب الديني. ومن الرواد لهذا الاتجاه المفكر اللاهوتي الإنجليزي (جون هيك) (4) . ولا شك أن كثيراً من المتدينين الملتزمين يرفضون هذه الدعوة باعتبارها متناقضة، وهادمة للدين بالكلية.
- موقف الإسلام من تعدد الأديان:
أما نظرة الاسلام لتعدد الأديان ومنهجه في التعامل معها فيمكن تلخيصه في نقاط قليلة دون إسهاب لكثرة ما كتب فيه. فالدين في نظر الإسلام واحد في أصوله؛ إذ إن مصدره وحي من الله، ولكن الدين يعتريه عبر تاريخه تفسير وتأويل قد ينتهي به إلى التحريف والتبديل؛ وعلى هذا فمن الممكن تقسيم الدين إلى ثلاثة أقسام حسب ما شرح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (5) : شرع منزَّل، وشرع مؤوَّل، وشرع مبدَّل. أما الشرع المنزل فهو ما شرعه الوحي من الله، وأما الشرع المؤول فهو الاجتهاد في فهم الشرع الموحى فيما ساغ فيه الاجتهاد. أما الشرع المبدل فهو الذي دخله التحريف والتغيير ففارق أصول الشرع وخالفها وناقضها.
فالتعددية في الشرع المؤول في الأمور الأجتهادية أمر سائغ، ويدخل في ذلك طوائف المسلمين ومذاهبهم وطرقهم وجماعاتهم، ويسوغ للناس الاجتهاد كما يسوغ اتباع رأي أحد المجتهدين لمن رأى أن حجته قوية، أو لمن ساغ له تقليده. وقد أشير من قبل إلى أن الحق في الأمور المتنازع فيها واحد، والمصيب من المجتهدين واحد، ومن اتبع ما ظن أنه الحق فقد أدى ما عليه. أما الشرع المبدل فيشمل كل دين غير الإسلام، وقد وصف بها ابن تيمية أعراف وتقاليد التتار المجموعة في ما يسمى بـ (الياسا) (6) ، كما يشمل أيضاً التحريفات التي ظنها الناس إسلاماً. وإذا كانت الحقيقة الدينية لا تتعدد؛ لأن تعددها وتناقضها استحالة عقلية؛ فإن الدين الحق هو الإسلام، وما عداه من دين مبدل ليس حقاً، ولكن إذا نفى الإسلام تعدد الحقيقة الدينية؛ فإنه لا ينفي الحوار الديني الذي يكون هدفه تبليغ الرسالة وتاريخ الإسلام شاهد على ذلك.
- التعددية السياسية:
تسعى التعددية في معناها السياسي لتقديم الحلول لمشكلةِ مدى مشاركة فصائل المجتمع المتنوعة المتباينة في القرار السياسي والحكم. وينبغي التنويه هنا أن موضوع هذه المشاركة ليس المقصود منه الخيار بين الديمقراطية وغيرها من النظم؛ فالديمقراطية بأشكالها المختلفة وبخاصة غير المباشرة والتي تأخذ بنظام الانتخاب والتمثيل النيابي، أمر مفروغ منه ومتفق عليه في أوروبا وأمريكا، ولكن موضع النظر وراء ذلك؛ حيث إن المجتمع لا يتكون فقط من حكومة وأفراد يشاركون في السياسة من خلال الانتخاب وعضوية الأحزاب السياسية؛ بل هنالك شرائح أخرى كثيرة في المجتمع مثل الأقليات العرقية والثقافية والدينية والجمعيات العلمية والكنائس واتحادات العمال ومنظمات التجار والزراع وغير ذلك؛ فكيف يشارك هؤلاء في القرار السياسي الذي كثيراً ما يمس مصالحهم مباشرة؟ هذا هو السؤال الصعب الذي تزعم التعددية السياسية أنها الحل الأمثل له.
فالديمقراطية التي هي الأساس لهذه المشاركة في نظر النقاد لا تتيح مشاركة حقيقية، بل إن فئة قليلة جداً من الناس تشارك في الانتخابات لا تصل إلا إلى نسبة ضئيلة من مجموع الناخبين، وكثير من الناس يصوتون لممثلين وليس لسياسات؛ فاذا كانت الديمقراطية نفسها التى هى أساس مشاركة المجتمع أمراً نظرىاً أكثر مما هو عملي فإن التعددية السياسية ليست إلا حلماً قليلاً ما يتحقق. ويقترح بعض المفكرين حلاً (1) لا يختلف كثيراً عن الحل الإسلامي للتعددية السياسية؛ إذ يدعو للعودة إلى التعددية السياسية التي كانت قائمة في عصور ما قبل الحداثة المعاصرة، ومن ذلك تعددية الحكم العثماني، والتعددية السياسية الإسلامية يوضحها الشرح التالي:
لقد استُورِدَت الحكومة الغربية المعاصرة إلى حوزة ديار المسلمين عن طريق البطش الاستعماري أحياناً أو عن طريق التقليد الأعمى للغرب أحياناً أخرى. وهاهنا وقفة لا بد منها مع الفكر السياسي الإسلامي؛ إذ إن الفكر قد تقمص هذا الشكل للحكومة المعاصرة وألبسها ثوب الإسلام دون روية ودون تفكير في: هل هذا الشكل أمر حتمي لا بد للناس أن يلتزموا به ويأخذوا بقوالبه، أم لا؟ والسؤال الذي كان ينبغي أن يطرح في هذا المجال هو: هل ستضطلع الحكومة الإسلامية في العصر الحاضر بالدور الذي تؤديه المؤسسة الحكومية المعاصرة في الغرب، أم أن لها وظيفة مختلفة؟ وللإجابة عن هذا السؤال يحتاج المرء إلى النظر أولاً لتعريف علماء الإسلام للحكومة وتصورهم لوظيفتها، والبحث ثانية في نماذج الحكم الإسلامي في عصوره السالفة لنتبين من ناحية عملية ما دور الحاكم ودور المجتمع المسلم في التاريخ الإسلامي، ثم نخلص من ذلك إلى: هل الشكل الحالي للحكومة المعاصرة يتلاءم مع ذلك، أم يختلف؟
- وظيفة الحكومة الإسلامية:
تصوُّرُ المفكرين المسلمين للحكومة الإسلامية ووظيفتها أمرٌ يحتاج إلى وقفة متأنية ونظرة فاحصة؛ فقد تكرر في كتب الأولين أن السلطان حارس، وأن مهمته تدبير مهمات الدين والدنيا، كما أشار إلى ذلك الماوردي وإمام الحرمين الجويني (2) مثلاً. فالحكومة ممثلة في الإمام وأعوانه تقوم بدور القيادة والتوجيه والحراسة للمجتمع المسلم ليؤدي دوره بأكمل وجه. وحين ننظر في المسؤوليات التي أنيطت بعاتق الحكومة نجدها لا تتعدى من المهمات أموراً مثل الجيش والقضاء والشرطة والبريد والأموال العامة. وقد كان المجتمع المسلم يقوم بكثير من الوظائف الأخرى مثل التعليم والصحة وغيرها، وقد كانت كثير من المؤسسات غير الحكومية هي التي تشرف على هذه الخدمات وتديرها باستقلالية كبيرة. وقد عدد الدكتور مصطفى السباعي أكثر من ثلاثين نوعاً من هذه المؤسسات في كتابه: (من روائع حضارتنا) نذكر من ذلك على سبيل المثال: عمارة المساجد والمدارس والمستشفيات، وتوفير المياه بحفر الآبار وشق القنوات، وتعبيد الطرق وصيانتها، ورعاية الأيتام والطفولة والأمومة والعجزة والمكفوفين والفقراء، وإقامة مساكن الحجاج والفنادق والتكايا التي تؤوي وتطعم المسافرين والمحتاجين مجاناً، وإعانة المجاهدين بالسلاح والمؤن، والإشراف على المقابر وخدمات الدفن، وعيادات البيطرة وإيواء الحيوانات العليلة والضالة.
باختصار: يمكن القول إن المجتمع كان يقوم بالدور الأكبر في المصالح العامة، وكان دور الحكومة يقتصر على نطاق صغير من هذه المصالح. وقد كانت هذه المؤسسات الطوعية تؤدي دورها رغماً عن فساد الحكومات؛ لأن ذلك الفساد لم يكن ليشمل إلا دائرة ضيقة كأن يكون فساد الحاكم في سلوكه الشخصي أو سلوك حاشيته وأعوانه، ويتمثل في أكثر الأحيان في تعديهم على أموال الدولة أو حقوق الناس الخاصة، وظل المجتمع يضطلع بمهام جسام، وتؤدي مؤسساته دورها إلى أن أصاب الانحطاط المجتمع بكليته. وحين جاء الاستعمار الى أكثر بلاد المسلمين قضى أول ما قضى على مؤسسات المجتمع الوقفية، وألحق خدماتها بما أقامه من حكومة عربية الشكل والقالب، غريبة نافرة عن المجتمع المسلم.
ومن البدهي أن كثيراً من العورات قد بدأت تظهر في نموذج الحكومة الغربية المعاصرة كما ظهر ذلك في فكر التعددية الغربية، والمفكرون في الشرق بدورهم يشكون مر الشكوى من هذه النقائص.
ولعله من الأوْلى التحول إلى النموذج الإسلامي الذي يجعل المجتمع حاكم نفسه.
ويمكن تلخيص التعددية السياسية الإسلامية في النقاط التالية:
1 - يقوم الحكم على إعطاء الأمة حقها في اختيار الحاكم، وفي الاحتساب على الحكومة (3) .
2 - تعتمد الحكومة الإسلامية النموذج التاريخي الإسلامي من توزيع السلطة على أمصار الدولة وعدم احتكارها في المركز.
3 - تفويض الحكومة لمؤسسات المجتمع الطوعية أو ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني، القيام بأكبر قدر من الخدمات من تعليم وصحة ومواصلات ومياه وغيرها، تموَّل عن طريق أوقاف خيرية. ولا تختص الحكومة إلا بالخدمات العامة الهامة من جيش وقضاء وشرطة وخزانة المال العام.
4 - تتيح الدولة لكل فرد من أفرادها من مسلمين وغير مسلمين، بجميع طوائفهم وهيئاتهم وجمعياتهم الحق في تكوين مؤسسات طوعية وقفية تخدم مصالحهم الخاصة من ثقافية ودينية واقتصادية وفنية وغيرها.
- التعددية الثقافية:
ولعل ما يتصل بهذه القضية هو ذكر حق المواطنة؛ إذ إن الدول المعاصرة تقوم على مبدأ القومية، وتسود ثلاثة اتجاهات في هذا الصدد:
الاتجاه الأول: ومن أمثلته ألمانيا واليابان؛ حيث لا يعترف بحق المواطنة إلا لمن ينتمي بالنسب إلى أصول البلد، فحتى الجيل الثالث من الأتراك المستوطنين في ألمانيا ـ مثلاً ـ لم ينالوا حق المواطنة.
أما الاتجاه الثاني: فتمثله فرنسا التي تفصل فصلاً تاماً بين الحياة العامة والخاصة، فتعطي كل من نال المواطنة حقوقاً متساوية كأفراد وليس كمجموعات محافظةً منها على وحدة الدولة حسب زعمها، ومن ثم تتحاشى الاعتراف بأي انتماء عرقي أو طائفي في مجالات الحياة العامة، وإن كانت تسمح بتنظيم المجموعات لأنفسهم في جمعيات تحافظ على هويتهم الثقافية، ولكن لا يظهر عملياً أن ذلك يحقق التعددية، بل من الواضح أن الذوبان هو الغالب.
والاتجاه الثالث: وتمثله كندا وأستراليا أكثر من غيرها؛ فهو الذي يسمح بالتعددية العرقية والثقافية، ويظهر ذلك في السياسات العامة والتشريعات والتعليم. ومع هذا فإن المساواة من الناحية النظرية لا تتحقق عملياً؛ إذ إن العنصرية أمر مستأصِل في النفوس، ولا تحل بالقوانين ولا التعليم، إن لم يكن ذلك عقيدة راسخة في النفوس. ونضال حركة الحقوق المدنية وإزالة التمييز العنصري في كل من أمريكا وجنوب أفريقيا شاهد على ذلك (1) .
- ما موقف الإسلام من التعددية الثقافية؟
قد لا يكون هنالك حاجة لذكر تفاصيل المبادئ التي أعلنها الإسلام نحو مشكلة الاختلاف العرقي والثقافي، ولكن نشير إلى مجمل ذلك. من المعلوم أن القرآن قد أعلن المبدأ الجامع في ذلك حين نادى في البشرية جمعاء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، فكان بذلك إعلاناً عالمياً للمساواة بين البشر على اختلاف أعراقهم وأصولهم وألوانهم ولغاتهم، واتجه بهذا الإصلاح إلى مداخل النفس البشرية، وكان حرباً على التمييز العنصري بكل أشكاله، ولو كان احتقاراً داخل القلب، أو تغيراً في الوجه، أو همسة بالشفاه، ولم يفرق بينهم إلا على أساس ما كسبته أيديهم. وترجم ذلك إلى تشريعات عملية شهد عليها التاريخ، وقد عاشت أعراق كثيرة وثقافات ولغات جنباً إلى جنب، وإذا كان المجتمع في الدولة المسلمة هو الذي يحافظ على هوية نفسه، كما اتضح ذلك في شرح التعددية السياسية؛ فإن لكل فرد من أفراد الدولة المسلمة، من مسلمين وغير مسلمين، بجميع طوائفهم وهيئاتهم وجمعياتهم الحق في تكوين مؤسسات طوعية وقفية تخدم مصالحهم الخاصة من ثقافية ودينية واقتصادية وفنية وغيرها. أما الإقامة في الدولة الإسلامية فهو حق مكفول لكل مسلم سواء كان مولوداً في البلد أو مهاجراً إليه؛ إذ لا حدود أو قيود على دخول المسلمين إلى أي بلد تحت سلطان الإسلام ما داموا مقرين بالاعتراف بسلطات البلد وتشريعاتها، أو كانوا من المهاجرين إليه مؤقتاً أو دائماً بإذن السلطات، وتعهدوا بالإقرار بسلطات البلد وتشريعاتها (2) .
- الخاتمة: التوازن بين الوحدة والتعددية:
من الأمور التي قد تغيب حين الحديث عن التعددية بأنواعها المختلفة، أن التعددية قد اكتسبت القبول. ولكن لا ينبغي أن يُنسى أن التعددية إذا تطرفت فإنها تكون شراً محضاً؛ لأنها من الممكن أن تستأصل وحدة المجتمع وتنزلق به إلى مهاوي الفرقة والانقسام والتناحر. ويسعى كل من ينادي بالتعددية إلى الموازنة بينها وبين الوحدة حتى لا يطغى جانب على جانب. وتسعى الدول التي تسم نفسها بالتحررية أن تفصل بين المجالين العام والخاص في الحياة، فتجعل الاختلاف والتعدد في دائرة الحياة الخاصة؛ أما دائرة الحياة العامة فتستأثر بها الدولة ولا تسمح فيها إلا بأقل ما يمكن من التعددية. ويكاد أن يتبنى هذا الحل أكثر دول الغرب، ومن أحسن الأمثلة على الفصل الصارم بين العام والخاص فرنسا وتركيا، ولكن المغالطة هنا هو الادعاء أن العام محايد لا ينحاز إلى فئة من فئات المجتمع، بل هو يتخذ سبيلاً وسطاً بين تيارات المجتمع المختلفة، وهذا ادعاء غير مسلَّم به، ويواجه نقداً شديداً من الناحية النظرية ومن الناحية العملية (3) ؛ فمما لا شك فيه أن العام يقوم على تصورات وفلسفة ومناهج قد لا تتفق مع كل فئات المجتمع، بل قد توافق بعضاً وتصادم بعضاً آخر. والمحصلة النهائية أن بعض فئات المجتمع ينالها الظلم والتهميش؛ ومن أكبر الشواهد على ذلك الأقليات اليهودية في خلال القرن التاسع عشر في أوروبا، والسود والملونون في أمريكا، والأقليات المسلمة في الغرب في الوقت الحاضر. ثم إن التمييز بين حدود الخاص والعام أمر عسير؛ وكثيراً ما تختلط الأمور.
ومن الواضح أن الإسلام لا ينحو هذا المنحى؛ إذ إنه لم يعرف التفريق بين الحياة العامة والحياة الخاصة، لكنه من أجل المحافظة على الوحدة جمع الناس على مبادئ مشتركة. أما المسلمون فالأمر واضح؛ إذ الخلاف له حدوده وضوابطه وأدبه. وتجمع الناسَ أصول كثيرة مجمَع عليها بين المسلمين، والجماعات التي تخالف في هذه الأصول تجمعهم حقوق مشتركة، ومن المواقف المشهورة في ذلك قول علي بن أبي طالب للخوارج: «لكم علينا أن لا نمنعكم فيئاً ما دامت أيديكم معنا، وأن لا نمنعكم مساجد الله، وأن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدؤونا به» (4) . ومن الممكن أيضاً أن تكون هناك ثوابت جامعة بين المسلمين وغيرهم؛ ومن شواهد التاريخ في ذلك وثيقة العهد في المدينة بين الرسول الله -صلى الله عليه وسلم - والأنصار والمهاجرين واليهود الذين كانوا بالمدينة كما ذكر ابن كثير في سيرته؛ حيث قال: وقال محمد بن إسحق: «كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم» (5) .. وقد قال الرسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن حلف الفضول الذي كان في الجاهلية! لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم» رواه الإمام أحمد بسند صحيح. وجاء في رواية مرسلة: «لو دُعيت به في الإسلام لأجبت» .
هذا ما يسر الله ـ عز وجل ـ جمعه في هذه العجالة؛ فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان. ونسأل الله أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، ونعوذ بالله من الخذلان والضلال.
__________
(*) أستاذ في جامعة برمنغهام ـ بريطانيا.
(1) انظر:p.7,1995mminneapolis,unversity of minneo presspluralismgregormclennan
p.1. 1974london macmillanpress three varieties of pluralism david nicholls.
(2) pluralismgregormclennan ix. P.
(1) الفصل الثاني من المرجع السابق.
(2) راجع:Massachusetts truth in context:an essay on pluralism and objectivity michael p.lynch Massachusett institute of technolog 2001.
(3) راجع:Maria and attracta ingram in bagharamain wherepluralist and liberals depart john cray
(1) راجع رسالة الفرقان بين الحق والباطل، لابن تيمية، مجموع الفتاوى، 13: 5 ـ 229.
(2) تفسير القرطبي، سورة الأنبياء آية 97، وقد نقل عن أبي حنيفة أنه قال: كل مجتهد مصيب والحق عند الله تعالى واحد. ومعنى كلامه أن المجتهد مصيب غير آثم؛ لأنه اجتهد وسعه وليس قوله مثل قول المعتزلة.
(3) كشف الأسرار شرح أصول البزدو، عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري، باب أحوال المجتهدين، شرح التلويح على التوضيح، عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة، باب الاجتهاد فتاوى ابن تيمية، لابن تيمية، كتاب أصول الفقه، مسألة التمذهب.
(4) صحيح البخاري كتاب الأعتصام بالكتب والسنة، وصحيح مسلم، كتاب الاقضية.
(5) انظر الأحكام فى أصول الاحكام، ابن حزم، القاهرة، مكتبة عاطف، 1398، 5: 771 - 774، شرح المجلة العدلية، محمد خالد الأتاسي، حمص، مطبعة حمص، 1930م، 91: 1. الموافقات للشاطبي، طبعة ثانية 1975م، 2: 283 وما بعدها، مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد خير، مطبعة ليدز 1996م، 259، 272.
(6) انظر مثلاً: harvad university "the challenge of pluralism " project diana l.eck. http:www.pluralism.org
(1) انظرmaria and attracta ingram in bagharamain where pluralist and liberals depart john cray pp.87-88.2000london.routledge pluralism:the philosophy and politics of diversity (ed)
(2) التاريخ الحوار الديني انظرmarcus.- pilgrimage of hope:one hundred years ofglobal interfaith bray brook1992 aialogue london:scm press.
(3) راجع عن العصرانية كتاب: مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد، دار الدعوة الكويت 1982م، أو طبعة ليدز 1996م
(4) 1989basingstoke macmillan an interpretation ofreligion.john hick
(5) فتاوى ابن تيمية 28: 200 -2001، 35: 300ـ 306. (6) فتاوى ابن تيمية 35: 408.
(1) راجع في هذا انظر:
maria and attracta ingram in bagharamain where pluralist and liberals depart john cray pp.8788.2000london.routledge pluralism:the philosophy and politics of diversity (ed)
(2) الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي، القاهرة، 1973م، ص 5، الغياثي، أبو المعالي الجويني، تحقيق عبد العظيم الديب، القاهرة، 1401هـ، ص 22.
(3) الخلافة والإمامة العظمى، محمد رشيد رضا، القاهرة، 1988م.
(1) يعتمد الشرح على تقرير اليونسكو multiculturalism:apolicy response todiversity co1995 unes
(2) انظر: أحكام الذميين والمستأمنين، لعبد الكريم زيدان.
(3) in in. dealing with difference: the republican public - private distinction. Isult.honanpluralism:the philosophy and politics of. Maria and attracta ingram. (ed) .bagharamain pp. 156-176 2000london. Routledge. diversity
(4) البداية والنهاية، لابن كثير ج 7، فصل قتال علي للخوارج. (5) البداية والنهاية، لابن كثير.(216/3)
مكسبات الطعم واللون والرائحة
وموقف الإسلام منها
أ. د. عبد الفتاح محمود إدريس
في زمن غلبت فيه الماديات، واندثرث فيه القيم الروحية التي تدعو إليها الفطر السليمة والدين الصحيح، وأصبح جمع المال هو ولع الكثيرين وشغلهم الشاغل، سواء كان من حل أو من حرمة، من نفع أو من مضرة، قد يجد بعضهم من أقوات الناس وأغذيتهم الوسيلة المثلى لجمع المال، إما لأن الناس لا يستغنون عن القوت، وإما لأن هذا الغذاء يرتبط بتوقان النفس البشرية إليه، والتي قد يجذبها فيه أمور بعيدة كل البعد عن مواطن النفع، فتنجر لإشباع حاجتها منه، دون اعتبار لأمر آخر؛ ولهذا فقد تفتقت قرائح صانعي الغذاء، في جعل المواد الغذائية أكثر إغراء للنفس البشرية من ذي قبل، واتبعوا في ذلك وسائل شتى، منها خلط هذه المواد بإضافات كيميائية وغيرها، إما لإكسابها طعماً مستساغاً محبباً إلى النفس، أو نكهة طيبة تستريح إليها وتشتهيها، أو لوناً مبهراً يجذب الناظر إلى هذه المواد ويدعوه إلى التزود منها، أو نحو ذلك من إضافات قد يكون لها أثر فى زيادة استهلاك الناس لهذه الأغذية.
ولهذا كان لا بد من إماطة اللثام عن هذه الإضافات في عجالة سريعة، وبيان موقف الشريعة الإسلامية منها في ضوء ما تخلفه من آثار على أجزاء الجسم البشري.
- أولاً: حقيقة الإضافات الغذائية:
صدر التعريف الدولي الأول للمواد المضافة عام 1956م، بأنها: «أية مادة ليست لها قيمة غذائية تضاف بقصد إلى الغذاء، وبكميات قليلة، لتحسين مظهره أو طعمه أو قوامه أو قابليته للتخزين» .
إلا أن هذا التعريف أغفل المواد التي تضاف لرفع القيمة الغذائية، كالفيتامينات والمعادن، في الوقت الذي اعتبر فيه بقايا المبيدات والمواد الكيماوية التي تتسرب إلى الأغذية عن تعبئتها، مواد مضافة.
وقد صدر تعريف دولي حديث يعرِّف المواد المضافة بأنها «مادة لا تُستهلك بذاتها كغذاء، ولا تُستعمل عادة كمكون غذائي، سواء كان لها قيمة غذائية أم لا، وتضاف لتحقيق أغراض تكنولوجية، سواء أثناء التصنيع أو التحضير، أو التعبئة أو التغليف، أو النقل، ويتوقع أن تصبح هذه المواد جزءًا من الغذاء، وتؤثر على خواصه.
وهذا التعريف وإن أخرج من حقيقة المواد المضافة: بقايا المبيدات أو المضادات الحيوية أو الهرمونات والسموم، التي تفرزها البكتريا الممرضة أو الفطريات، أو الكيماويات التي تتسرب إلى الغذاء عن طريق مواد التعبئة، إلا أن هذا التعريف كسابقه لا يشمل المواد التي تضاف إلى الغذاء لرفع قيمته الغذائية.
- ثانياً: تصنيف الإضافات الغذائية:
اقترح المعهد البريطاني لعلوم الأغذية، تصنيف هذه الإضافات إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: المواد المضافة التي تساعد في عمليات التصنيع، وتشمل: مانعات التكتل، والإنزيمات، ومانعات الرغوة، ومانعات الالتصاق، ومساعدات الكبسلة، ومانعات الاسمرار، ومذيبات الاستخلاص، ومساعدات الترطيب، ومحسنات القوام.
المجموعة الثانية: المواد المضافة التي تؤثر على خواص المنتج النهائي، وقد صنفت في أربعة أقسام:
القسم الأول: المواد المضافة التي تؤثر على الصفات الفيزيوكيماوية، والفيزيائية للمنتج.
القسم الثاني: المواد التي تؤثر على الصفات الحسية، وتشمل: المستحلبات، ومثخنات القوام، والمثبتات، والمواد المنظمة ومساعدات الانتفاخ والمركزات البروتينية، ومواد النكهة، والزيوت الطيارة، والبهارات، والمواد الملونة، ونحوها.
القسم الثالث: المواد المساعدة على تخزين الأغذية، وتشمل: المواد الحافظة ومانعات الأكسدة، ومانعات التلون والمواد التي تساعد على الإنضاج، والمحلِّيات.
القسم الرابع: المواد التي تساعد على تحسين القيمة الغذائية لما تضاف إليه من غذاء وتشمل: الفيتامينات، والمعادن، والأحماض الأمينية0
- ثالثاً: أسباب استخدام الإضافات الغذائية:
يمكن إجمال الدوافع لاستخدام الإضافات الغذائية في: رفع جودة الغذاء أو نوعيته، وتحسين القيمة الغذائية له، والمحافظة عليه من الفساد أو التلف، وزيادة تقبُّل المستهلك للغذاء، وتيسير تحضيره، وتوفيره بصورة أفضل وأسرع، وتقليل الفاقد أو التالف منه بقدر الاستطاعة، هذا بالإضافة إلى العامل الاقتصادي المتمثل في زيادة تصريف المنتج من المواد الغذائية وتحقيق زيادة في عائد تسويقه.
- رابعاً: الأضرار الناجمة عن هذه الإضافات:
لم يكن يهتم بهذه الإضافات الغذائية منذ نصف قرن تقريباً، إلا من يقومون بالصناعات الغذائية، إلى أن صدر عام 1958م، مادة في شكل قاعدة قانونية، تسمى (قاعدة ديلاني) تمنع استخدام المواد المضافة في الغذاء؛ إذ ثبت أنها تسبب حدوث الأورام السرطانية لحيوانات التجارب، وعلى إثر ذلك زاد الاهتمام بهذه الإضافات الغذائية، وأثارت جدلاً حاداً بين العلماء ما بين مؤيد لإضافتها إلى الغذاء وبين معارض لذلك، إلى أن أعلن مختبر كيميائي بكندا عام 1969م، أن مادة «السيكلاميت» التي تضاف إلى بعض أنواع المرطبات، مادة مسرطنة، وذلك بعد مضي عشرين عاماً على استخدامها في هذه الصناعة، وكان من نتيجة ذلك زيادة السُّعار المحموم بين الناس، ضد كل مادة كيميائية تضاف إلى الأغذية التي يتناولها الإنسان، ثم أعلن بعد ذلك (د. فينجولد) ، العامل في إحدى مستشفيات فرانسيسكو، عن ملاحظاته عن المواد المنكِّهة والملوِّنة الصناعية، المضافة إلى الآيس كريم، وما لحق الأطفال الذين كان يعالجهم من أضرار بسبب تناولهم له؛ ونتيجة لذلك أخضعت الإضافات الغذائية لإعادة الفحص والتقويم، وكان من نتائج ذلك أن توصل العلماء إلى أن بعضها ضار، ويشكل خطورة على صحة الإنسان، ولهذا صدرت الأوامر في العديد من الدول بمنع استخدامها، لما تشتمل عليه من أضرار شديدة، وبلغت المواد الممنوعة منها حتى عام 1976م، خمساً وعشرين مادة، وعدد هذه المواد الممنوعة في تزايد مستمر، نظراً لما تسفر عنه البحوث العلمية من اكتشاف المزيد من أضرار هذه المواد.
ومن الإضافات الغذائية التي منع استخدامها في الصناعات الغذائية، لما تسببه من أضرار شديدة: المادة الصناعية الملونة المسماة (ButterYellow) ، التي تحدث سرطان الكبد، والمادة الملونة المسماة (FD & C Yellow) ، التي تتلف القلب، وحامض الخليك أحادي الكلور، الذي يستخدم كمادة حافظة، وهي شديدة السمية، ومادة الدولسين Dulcin (P-ethoty Phengl Urea) ، التي تستخدم في تحلية بعض المنتجات الغذائية، وهي مادة محدثة لسرطان الكبد، ومادة 8- سيتاريب بولي أوكس الإيثيلين (Poly oxy ethylene - 8-terabe) التي تستخدم كمادة مستحلبة لمنتجات المخابز، وهي مادة محدثة لأورام وحصوات في المرارة، ومادة كومارين (Comarin) وهي مادة منكهة، وتحدث تسمماً بالكبد، والمادتان الملونتان للأغذية (FD & C orange 8 2) اللتان تسببان تلف الأعضاء، وكذلك المادة الملونة (FD & C Red 1) المسببة لسرطان الكبد، ومادة (FD & C Red 4) الملونة، المحدثة لتلف الغشاء الكظري والمادة الملونة (FD & C Red 32) ، التي تسبب تلف الأعضاء، والمادة الملونة (Sudan 1) المسرطنة، والمادة الملونة (FD & C Yellow 1.2) ، التي تحدث أضراراً معوية، والمادة المنكهة (Safrole) التي تحدث سرطان الكبد، وزيت الكالاموس (Oil of Calamus) الذي يستخدم كمادة منكهة، وهو يسبب سرطان المعدة، وحمض (NDGA) المانع للأكسدة، والذي يسبب تلف الكلية، والمادة الحافظة للمرطبات، المسماة (DEPC) Deithyl Pyrocarbonate) ، التي تتحد مع الأمونيا وتكون اليوريات، والمادة الملونة (FD & C Violet 1) ، المسببة للسرطان، إلى غير ذلك من أمثلة يضيق المقام عن ذكرها (1) .
وقد ترتب على اكتشاف هذه الآثار الضارة بصحة الآدميين في هذه الإضافات أن انقسم المهتمون بها إلى فريقين، قام أحدهما بإعطاء صورة قاتمة لهذه الإضافات وحذر من استخدامها، بحسبانها ضارة ضرراً محضاً؛ فليس فيها نفع البتة لأحد، إلا لأصحاب مصانع الغذاء التي تستخدم هذه الإضافات، لتحقيق ثروات طائلة دون وازع إنساني أو أخلاقي؛ بينما اعتبر الفريق الآخر أن الهجوم على هذه الإضافات الغذائية هجوم على العلم والتكنولوجيا التي أنتجتها في المقام الأول.
وسواء كان الميل إلى الفريق المؤيد أو المعارض لاستخدام هذه الإضافات، فإنه لا بد أن يؤخذ في الاعتبار، مقدار الضرر الذي يمكن أن يتحمله المستهلك لهذه الأغذية، وحاجات ورغبات المستهلكين، وخاصة الأطفال الذين تغريهم الأغذية المضاف إليها مكسبات الطعم واللون والرائحة أكثر من غيرها، والذين تؤثر فيهم هذه الإضافات أكثر من غيرهم، لضعف مناعاتهم، وقلة مقاومة أجسامهم النحيلة للأمراض، وكثرة استهلاكهم للأغذية المشتملة على هذه الإضافات، والعوامل الاقتصادية، ومدى توافر عوامل السيطرة على مقدار هذه الإضافات، وإجراء التحاليل الدائمة للمنتجات المضاف إليها ذلك، لبيان مدى صلاحيتها للاستهلاك الآدمي.
ومما ينبغي مراعاته في مثل ذلك، أن إضافة مادة جديدة غير معروفة إلى النظام الغذائي، غالباً ما ينتج عنه ضرر، ومن ثم فإن إضافة مادة كيميائية إلى المواد الغذائية المصنعة، سواء كانت مادة منكهة، أو ملونة، أو حافظة، أو محسنة للقوام أو المذاق، أو نحو ذلك، يزيد من احتمال إصابة متناولها بالضرر، ولو كانت المادة المضافة قليلة؛ ولهذا اقْتُرِحَ وضع معادلة للموازنة بين المضار والمنافع، من تناول الأغذية المشتملة على هذه الإضافات، وفي ضوء ما تسفر عنه هذه المعادلة يتقرر استعمال هذه الإضافات في المواد الغذائية أو منعها.
إلا أنه في جميع الأحوال ينبغي منع استخدام هذه الإضافات في الغذاء، إذا كانت لتغطية الأخطاء أو العيوب في عملية التصنيع، أو لإخفاء فساد المادة الغذائية، أو لخداع المستهلك، أو إذا كانت إضافتها تؤدي إلى فقد مقدار كبير من القيمة الغذائية للغذاء، أو كان بالإمكان الاستعاضة عنها بأساليب التصنيع الجيد، أو اقتضى الحصول على النتيجة المرجوة منها، زيادة نسبة المضاف منها إلى المواد الغذائية.
- خامساً: موقف الشريعة من تناول الأغذية المشتملة على هذه الإضافات:
بينت من قبل مدى الضرر الذي يصيب الإنسان، من تناول المواد الغذائية التي أضيفت إليها مكسبات الطعم واللون والرائحة، والمواد الحافظة، ومساعدات التصنيع، وغيرها من إضافات، والذي قد يصل إلى حد الإصابة بالتسمم، أو الإصابة بالسرطان، أو الفشل الكبدي أو الكلوي، أو تلف الأعضاء، والذي قد ينتهي بالمصاب إلى الوفاة.
ومن ثم فإنه يحرم تناول المنتجات الغذائية التي أضيفت إليها هذه المواد التي ثبت بالتحاليل المعملية أو غيرها إضرارها بالإنسان، سواء على سبيل القطع أو الظن، وسواء كان هذا الإضرار متمثلاً في مجرد اعتلال الصحة، أو الإخلال بوظائف الجسم البشري، أو إحداث أمراض ولو في المستقبل، أو كان هذا الإضرار يصل إلى حد الإصابة بالأمراض المزمنة، أو التي لا يرجى البرء منها، أو مؤدياً إلى ذهاب منفعة عضو أو أكثر من أعضاء البدن، أو الإخلال بأدائه لهذه المنفعة، أو يؤدي إلى هلاك متناول الأغذية المشتملة على هذه الإضافة.
ومما يستدل به على حرمة تناول هذه المنتجات إن ترتب عليها ذلك ما يلي:
- أولاً: الكتاب الكريم:
1 - قال ـ تعالى ـ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
2 - قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] .
وجه الدلالة منهما:
نهى الحق ـ سبحانه ـ في الآيتين عن قتل النفس والإلقاء بها إلى ما فيه هلاكها، والنهي يفيد التحريم عند إطلاقه، ولما كان تناول الأغذية المشتملة على إضافات، قد يؤدي إلى الهلاك ولو على المدى البعيد، فإنه يكون محرماً.
3 - قال ـ تعالى ـ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] .
وجه الدلالة من الآية:
حرم الله ـ سبحانه وتعالى ـ كل ضار خبيث، ولما كان من شأن هذه الإضافات الإضرار بصحة من يتناول الغذاء المشتمل عليها، فإنها تكون خبيثة منهياً عنها 0
- ثانياً: السُّنة النبوية المطهرة:
روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (1) .
وجه الدلالة منه:
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن كل ما يشتمل على ضرر، وإذا كان في الإضافات الغذائية السابقة إضرار ببدن الآدميين، حرم استعمالها، وحرم تناول المنتجات الغذائية التي أضيفت إليها، إن كانت تؤدي إلى الإضرار بمتناولها، سواء اقتصر الضرر على اعتلال صحة أو بلغ حد إهلاكه.
- ثالثاً: القواعد الشرعية:
من هذه القواعد: قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» (1) .
وإذا كانت المحافظة على النفس أحد المقاصد الضرورية للشارع، فإن الحفاظ عليها يكون واجباً، ولا يتأتى الحفاظ عليها في حال الغذاء المشتمل على الإضافات الضارة، إلا بالكف عن تناوله، فيكون الكف عن تناوله واجباً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومن ثم فإن ما يتيقن أو يغلب على الظن اشتماله على إضرار بأعضاء البدن في الحال أو في المآل، أو يؤدي إلى الإصابة بأمراض مزمنة أو لا يرجى البرء منها، أو يودي بحياة متناوله، فإنه لا يباح في حال الاختيار، ولا في حال الضرورة كذلك؛ لأنه لا نفع فيه أصلاً أو هو مما يغلب ضرره على النفع الذي يرجى منه.
ومن الإضافات الغذائية السابق الإشارة إليها، ما له أثر مدمر لبعض أعضاء البدن، ومنها ما يسبب السرطان، أو الفشل الكلوي، أو الكبدي، أو يؤدي إلى التسمم، أو نحو ذلك من أضرار؛ فإذا أخذ في الاعتبار أن ما يمنع في بعض البلاد من هذه الإضافات لآثاره الضارة، قد يسمح به في بلاد أخرى لم تصلها نتائج تحاليل هذه الإضافات، أو ليس لديها من الأجهزة ما يمكنها من كشف أضرارها، وفي غيبة الرقابة على المنتجات الغذائية أو ضعفها، يكون ثمة إفراط في استعمال هذه الإضافات، بغية تحقيق الربح، ومن ثم فإن الضرر منها يكون أكثر، ولهذا فإنه ينبغي منع استخدام ما ثبت ضرره من هذه الإضافات في الصناعات الغذائية، وعدم التوسع في استخدام ما لم يتم الكشف عن آثاره منها، لدرء المفسدة التي قد تنجم عنها بقدر الاستطاعة، إذا تبين مستقبلاً أن لها آثاراً ضارة بالجسم؛ إذ درء المفاسد معتبر في الشرع.
وإذا كان هذا هو حكم تناول هذه الأغذية؛ فإن حكم إضافة المواد السابق ذكرها يتبع هذا الحكم؛ بحيث يحرم إضافة ما ثبت ضرره من هذه المواد، وعدم التوسع في إضافة ما لم يكتشف ضرره منها بعد؛ بغية تقليل المفسدة التي قد تنجم عنه، إذا اكتشف أن به ضرراً، يضاف إلى هذا أن من يتولى إنتاج الأغذية فيضيف عند تصنيعها هذه الإضافات التي ثبت ضررها، أو يقوم باستيراد الأغذية التي تشتمل على هذه الإضافات الضارة، يكون آثماً، لتعمده الإضرار بغيره، ويكون ضامناً ما يترتب على هذه الإضافات من أضرار، وفقاً لقواعد الضمان في الشريعة الإسلامية، إذا قامت علاقة السببية بين تناول هذه الأغذية الضارة وبين الضرر الناجم عن التناول، سواء كان اضطراباً معوياً، أو تسمماً، أو إتلاف عضو، أو ذهاب منفعته، أو إتلاف نفس، أو نحو ذلك من وجوه الضرر التي قد تصيب الآدميين.
ومما يدل على حرمة قيامه بذلك ما يلي:
1 - حديث ابن عباس السابق: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» .
وجه الدلالة منه:
ورد في هذا الحديث نفي بمعنى النهي، يقتضي حرمة إضرار الإنسان بغيره، ومن يتولى إضافة هذه المواد الضارة بصحة الآدميين إلى أغذيتهم، أو يقوم باستيراد الأغذية المشتملة على هذه المواد الضارة، يضر بمن يتناولها منهم، فيكون واقعاً فيما نُهي عنه في الحديث.
2 - روي عن تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين النصيحة ـ ثلاثاً ـ قلنا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» (2) .
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث أن عماد الدين الإسلامي هو النصيحة، ومن صنع للمسلمين أغذية، فأضاف إليها مواد ضارة بهم، أو استورد هذه الأغذية، فلم ينصح لهم، ويكون بهذا هدم دعامة من دعامات الإسلام.
3 - روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «من غش فليس منا» (3) .
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث أن من غش المسلمين فلا يكون متخلقاً بأخلاقهم، ولا يكون على طريقتهم وعادتهم، ومن يتولى إنتاج أو استيراد أغذية مشتملة على إضافات ضارة بالناس؛ فإنه يكون غاشّاً لهم ولغيرهم من الناس.
وهذا وغيره دليل على حرمة ما يأتي به من ذلك، يضاف إلى هذا النصوص الشرعية الكثيرة الموجبة للضمان عند تضرُّر الغير به، والتي يكون المنتج أو المستورد للمواد الغذائية المشتملة على هذه الإضافات الضارة، بمقتضاها ضامناً ما يترتب على تناول هذه الأغذية من أضرار؛ وذلك لا ينفي تأثيمه باعتباره قد اقترف أمراً لا يحل من وجهة نظر الشرع.
__________
(*) أستاذ الفقه المقارن بجامعتي الأزهر والإمارات والجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) د. علي كامل الساعد: المواد المضافة للأغذية، 7 ـ 15. Jacaboon , H.F. (1976) . Eatera Digest: The Consumers Factbook of Food dditives.
(1) أخرجه البيهقي وابن ماجة والدارقطني في سننه، وأحمد في مسنده، وصحح الحاكم إسناده (مسند أحمد 1/313، المستدرك، 2/57، السنن الكبرى، 6/69، سنن ابن ماجة 2/784، سنن الدارقطني، 3/77.
(1) السيوطي: الأشباه والنظائر، 286.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (الصنعاني: سبل السلام 4/210) .
(3) أخرجه الترمذي في سننه، وقال: حديث حسن صحيح، وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة (سنن الترمذي 3/1315، المناوي: التيسير في شرح الجامع الصغير 6/239) .(216/4)
عقلية التحزب والمواقف المسبقة.. ما العلاج؟
د. مفرح بن سليمان القوسي
الاعتداد بالنفس، وإساءة الظن بالآخرين تمثل بدايات طبيعية للتقوقع على الذات، ومن ثم صنع تكتلات صغيرة داخل المجتمع الواحد، ولا شك أن هذا يخالف ما يدعو إليه ديننا الإسلامي الحنيف من الاتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة وكل ما يمزق الجماعة أو يفرق الكلمة؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 102 - 105] .
ويبين الله ـ عز وجل ـ أن وشيجة الأخوة هي الرباط الحقيقي بين جماعة المسلمين، وهي العنوان المعبر عن ماهية الإيمان، حيث يقول الله ـ سبحانه ـ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] ، ويقيم ـ سبحانه ـ سياجاً من الفضائل والآداب الأخلاقية لكي يحمي الأخوة مما يشوهها ويؤذيها؛ من السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والغيبة؛ حيث يقول الله ـ سبحانه ـ بعد الآية السابقة مباشرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 11 - 12] .
وقد أكدت السنة النبوية وفصلت ما جاء به القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والائتلاف؛ والتحذير من الفرقة والاختلاف؛ فقد دعت إلى الأخوة والمحبة، وحذرت وزجرت العداوة والبغضاء، ومن ذلك على سبيل المثال قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة» (1) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «يد الله على الجماعة» (2) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهلية» (3) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (4) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم - كذلك: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً» (5) .
ولا يزعج أي غيور على دينه ثم بلده أن يكون في الساحة الفكرية والثقافية في كل مجتمع اتجاهات أو مدارس أو جماعات متعددة لكل منها منهجه في خدمة الدين والبلد، والعمل على التمكين لهما في الأرض، وفقاً لتحديد الأهداف وترتيبها، وتحديد الوسائل ومراحلها، والثقة بالقائمين على تنفيذها، من حيث القوة والأمانة والإخلاص والكفاية.
ومن السذاجة بمكان الدعوة إلى مدرسة واحدة أو اتجاه واحد يضم جميع العاملين على منهج واحد؛ فهذا تقف دونه حوائل شتى، وهو مطمع في غير محله، فلا مانع من أن تتعدد المدارس والجماعات والاتجاهات العاملة لنصرة الدين وخدمة البلد إذا كان تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تعارض وتناقض، على أن يتم بين الجميع قدر من التعاون والتنسيق، كي يكمل بعضهم بعضاً ويشد بعضهم أزر بعض، وأن يقفوا في القضايا المصيرية والهموم المشتركة صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص.
ولكن الذي يزعج ويؤلم حقاً أن يوجد بين الكُتَّاب والمفكرين من لا يقدِّر هذا الأمر حق قدره، وأن يدعو إلى التحزب واتخاذ المواقف المسبقة، ويركز دائماً على مواضع الاختلاف لا نقاط الاتفاق، وهو دائماً معتدٌّ بنفسه ومعجب برأيه، مزكٍّ لنفسه واتجاهه، متهم لغيره مسيء الظن به.
والحق أن الاختلاف في ذاته ليس خطراً، وخصوصاً في مسائل الفروع (وهل يوجد أصل غير أساسي؟) وإنما الخطر في التفرق والتعادي الذي حذر منه الإسلام بمصدريه الأساسين: الكتاب والسنة؛ كما تقدم.
ولعل من أسباب بروز مشكلة التحزب المذموم: التعصب لبعض المذاهب الفقهية، أو الشخصيات الدينية، أو الاتجاهات الفكرية.
ولذا نحن بحاجة ماسة إلى وعي عميق بما يسمى بـ (فقه الاختلاف) الذي عرفه خير قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى؛ فلم يضرهم الاختلاف العلمي شيئاً، وجهله كثير منا، فأصبحنا يعادي بعضنا بعضاً بسبب مسائل يسيرة أو بغير سبب.
- ركائز فقه الإخلاص:
ويقوم فقه الاختلاف على ركائز فكرية وأخلاقية عديدة لا تخفى على أهل الاختصاص من العلماء والمفكرين والباحثين، أُشير ـ بإيجاز فيما يلي ـ إلى أبرزها:
1 - الإخلاص لله وحده، والتجرد للحق، ومجاهدة النفس حتى تتحرر من اتِّباع هواها أو أهواء غيرها؛ فكثيراً ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات ظاهرها أنه خلاف على مسائل في العلم أو قضايا في الفكر، وباطنها حب الذات وحب الظهور أو الجاه وتحقيق المغانم واتباع الهوى الذي يعمي ويصم ويضل عن سبيل الله ـ نسأل الله العافية ـ.
2 - الوعي بأن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية الفرعية ضرورة لا بد منها أوجبتها طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة. فأما طبيعة الدين فقد أراد الله ـ تعالى ـ أن يكون في أحكامه: المنصوص عليها والمسكوت عنها، وأن يكون في المنصوص عليه المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنيات، والصريح والمؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط فيما يقبل الاجتهاد والاستنباط، وتسلِّم فيما لا يقبل ذلك، إيماناً بالغيب، وتصديقاً بالحق، وبهذا يتحقق الابتلاء الذي بنى الله عليه خلق الإنسان: {إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] ، ولو شاء الله لجعل الدين كله وجهاً واحداً وصيغة واحدة لا تحتمل خلافاً، ولا تحتاج إلى اجتهاد، من حاد عنها قيد شعرة فقد ضل، ولكنه لم يشأ ذلك، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة وطبيعة الناس، ويوسع الأمر على عباده.
وأما طبيعة اللغة فلا شك أن مصدر الدين الذي يُرجع إليه ويُستدل به هو القرآن الكريم والسنة النبوية. والقرآن نصوص قولية لفظية، وكذا معظم السنة. وهذه النصوص يجري عليها ما يجري على كل نص لغوي عند فهمه وتفسيره؛ ذلك أنها جاءت على وفق ما تقتضيه طبيعة اللغة في المفردات والتراكيب؛ ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يدل بالمنطوق وما يدل بالمفهوم، وفيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، وما دلالته قاطعة وما دلالته محتملة، وما دلالته راجحة وما دلالته مرجوحة.
وأما طبيعة البشر فقد خلقهم الله مختلفين؛ فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وطابعه المتفرد، يبدو ذلك في مظهره المادي كما في مخبره المعنوي؛ فكما ينفرد كل إنسان بصورة وجهه ونبرة صوته وبصمة بنانه، ينفرد كذلك بلون تفكيره وذوقه وميوله، ونظرته إلى الأشياء والأشخاص والمواقف والأعمال. ولذا فمن غير الممكن صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء، وجعلهم نسخاً مكررة، ومَحْوُ كل اختلاف بينهم؛ فهذا مخالف لفطرة الله التي فطر الناس عليها.
وأما طبيعة الكون الذي نعيش فيه؛ فقد خلقه الله ـ سبحانه ـ مختلف الأنواع والصور والألوان؛ كما قال ـ سبحانه ـ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر: 27 - 28] ، ولكن هذا الاختلاف الذي نبه عليه القرآن إنما هو اختلاف تنوع وتلوُّن، لا اختلاف تضارب وتناقض، ولهذا تكررت في القرآن عبارة {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} في أكثر من مناسبة، بل نجد القرآن الكريم ينفي بعبارة صريحة ما ينبئ عن التضارب أو التعارض في الكون، وذلك في قوله ـ تعالى ـ: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] .
وكذلك طبيعة الحياة؛ فهي أيضاً تختلف وتتغير بحسب مؤثرات متعددة، منها الزمان والمكان.
والاختلاف مع كونه ضرورة هو كذلك رحمة بالأمة وتوسعة عليها، وقد دل على ذلك بعض الأحاديث النبوية، حيث صاغ الشارع الحكيم كثيراً من الأحكام صياغة مرنة بحيث تتسع لتعدد الأفهام وتنوع الآراء والاجتهادات، وسكت عن النص على بعض الأحكام ليتيح للعقول المسلمة الاجتهاد في فهمها في ضوء المنصوص على حكمه. ولذا اجتهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يَضِيقُوا ذرعاً بذلك، وأتاحوا لنا باختلافهم هذا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم.
3 - اتباع المنهج الوسط الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيداً عن طرفي الغلو والتفريط. فهذه الأمة أمة وسط في كل شيء، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
والوسط هو مركز الدائرة الذي ترجع إليه الأطراف المتباعدة، وهو الصراط المستقيم الذي علمنا الله ـ تعالى ـ أن نسأله الهداية إليه كلما قرأنا فاتحة الكتاب في صلواتنا اليومية أو خارجها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] . ومن لوازم الوسطية اجتناب التنطع في الدين، وهو ما أنذر النبي -صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهلاك في قوله: «هلك المتنطعون» (1) قالها ثلاثاً، والمتنطعون ـ كما يقول الإمام النووي ـ: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
4 - التركيز على اتباع المحكَمات، وهن أم الكتاب ومعظمه، وعدم الجري وراء المتشابهات؛ فاتباع المحكمات واتخاذها الأصل والقاعدة في التفكير والسلوك من شأن الراسخين في العلم، واتباع المتشابهات من شأن الذين في قلوبهم زيغ ودغل.
5 - اجتناب القطع في المسائل الاجتهادية التي تحتمل وجهين أو رأيين أو أكثر، واجتناب الإنكار فيها على الآخرين، ولذا قرر علماء الإسلام: أنه لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية، فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك، بَلْهَ (*) أن ينكر على مجتهد.
6 - تحديد المفاهيم التي يقع فيها النزاع، وبيان مدلولها بدقة ووضوح يرفع عنها الغموض والاشتباه؛ فكثيراً ما يحتد النزاع حول معنى أو مفهوم معين، لو حدد بدقة وشُرح بجلاء لأمكن للطرفين أن يلتقيا عند حد وسط. ومن ثم كان علماؤنا السابقون يحرصون على «تحرير موضع النزاع» في المناظرات والمسائل الخلافية، حتى لا تُنصب معركة على غير شيء، وكثيراً ما يشتد الخلاف بين فريقين، ثم يتبين في النهاية أن الخلاف كان لفظياً، وأن لا ثمرة عملية تجنى من ورائه.
7 - التعاون (بين أصحاب المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية) فيما اتفقوا عليه ويعذر بعضهم بعضاً فيما يسع الخلاف فيه. وهذا التسامح المنشود يقوم على جملة مبادئ منها:
أ - احترام الرأي المخالف وتقدير وجهات نظر المخالفين، وإعطاء آرائهم الاجتهادية حقها من الاعتبار والاهتمام. وذلك مبني على أصل مهم، وهو: أن كل ما ليس قطعياً من الأحكام هو أمر قابل للاجتهاد؛ وإذا كان يقبل الاجتهاد؛ فهو يقبل الاختلاف، لاختلاف المنطلقات والرؤى والأفهام.
ب - الاعتقاد بإمكان تعدد أوجه الصواب في المسألة الواحدة المختلف فيها، وذلك تبعاً لتغير المكان والزمان، وتبعاً لتغير الظروف والأحوال.
ج - الاعتقاد بأن كثيراً من ألوان الخلاف الذي نشهده على الساحة الفكرية اليوم، ليس خلافاً على الحكم الشرعي من حيث هو، ولكنه خلاف على تكييف الواقع الذي يترتب عليه الحكم الشرعي، وهو ما يسميه الفقهاء (تحقيق المناط) .
8 - اجتناب التكفير بلا مسوغ صحيح والحذر منه؛ فلا يخفى على كل لبيب أن أخطر أدوات التدمير لبنيان الاتحاد أو التقارب بين العاملين في حقل الدعوة إلى الله هو التكفير؛ وذلك بأن تُخرِج مسلماً من الملة ومن دائرة أهل القبلة، وتحكم عليه بالكفر والردة؛ فهذا بلا ريب يقطع ما بينك وبينه من حبال؛ فلا لقاء بين مسلم ومرتد؛ فهما خطان متوازيان لا يلتقيان.
وقد حذر الإسلام أبلغ تحذير من رمي المسلم بالكفر؛ وذلك في أحاديث صحيحة مستفيضة، منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما؛ فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه» (2) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله وهو ليس كذلك إلا حار عليه» (3) ، أي رجع عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم - كذلك: «من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله» (4) .
وعليه فلا يجوز تكفير أهل الإسلام لذنوب ارتكبوها أو أخطاء اقترفوها.
9 - التحرر من التعصب لآراء الأشخاص، وأقوال المذاهب، وانتحالات الطوائف، بمعنى: ألا يقيد المرء نفسه إلا بالدليل، فإن لاح له الدليل بادر بالانقياد له، وإن كان ذلك على خلاف المذهب الذي يعتنقه، أو قول الإمام الذي يتبعه، أو الطائفة أو الحزب الذي ينتمي إليه؛ فالحق أحق أن يتبع من قول زيد أو عمرو من الناس؛ والله ـ عز وجل ـ إنما تعبَّدنا بما جاءنا في كتابه وما صح عن نبيه -صلى الله عليه وسلم -.
10 - إحسان الظن بالمؤمنين، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم؛ فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائماً على تزكية نفسه واتهام غيره. يقول ـ عز وجل ـ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] . إن سوء الظن من الخصال المذمومة التي حذر منها الإسلام؛ فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وألا نظن به إلا خيراً، وأن نحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها؛ تغليباً لجانب الخير على جانب الشر.
11 - الحوار بالحسنى، واجتناب المراء المذموم واللدد في الخصومة؛ فالإسلام ـ وإن أمر بالجدال بالتي هي أحسن ـ ذم المراء الذي يراد به الغلبة على المخالف بأي طريق، دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزانٍ حاكم بين الطرفين؛ وهذا ما ذم الله به الممارين من أهل الشرك والكفر، بمثل قوله ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 8 - 9] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56] .
__________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، رقم 2091.
(2) أخرجه النسائي، كتاب تحريم الدم، رقم 3954.
(3) رواه مسلم، كتاب الإمارة، رقم 3438، واللفظ له، والبخاري، كتاب الفتن، رقم 6531.
(4) رواه البخاري، كتاب الإيمان، رقم 12، ومسلم كتاب الإيمان، رقم 64.
(5) رواه البخاري، كتاب الأدب، رقم 5604، ومسلم كتاب البر والصلة، رقم 4646.
(1) رواه مسلم، كتاب العلم، رقم 4823.
(*) بَلْهَ: اسم فعل أمر بمعنى: (دَعْ أو اتركْ) .
(2) رواه مسلم كتاب الإيمان، رقم 92، واللفظ له، والبخاري، كتاب الأدب، رقم 5638.
(3) رواه مسلم، كتاب الإيمان، رقم 93.
(4) رواه البخاري، كتاب الأدب، رقم 5640.(216/5)
العبودية لغير الله
حقيقتها ـ صورها ـ أساليب دفعها
عبد المجيد بن عبد الرحمن باحص
عندما يكون هناك من يقيد حركة المرء بقيود الاستعباد، وعندما يضيق الحصار على الحرية يصبح للحياة آنذاك وجه آخر يعجز عن وصفه من أدرك وقائعها وعاش لحظاتها.. إنها العبودية الشنعاء (1) أي العبودية لغير الله ـ تعالى ـ التي تكبل بقيودها الإنسان لتجعله عبداً ذليلاً، فتحرمه الانطلاق الحر على وجه هذه البسيطه ليتفاعل مع مكنوناتها وينتج ما يخدم أمته ودينه.
وذل الاستعباد لم يعرف طعمه إلا من ذاق مرارته، ولم يشعر بشناعته إلا من رآه بأم عينيه؛ فهو داء يشل حركة المرء الروحية، ويقعد العامل عن العمل ـ إن استمر في ذلك ـ فلن يُزال الاستعباد حتى يتخلص منه المرء.
وعندما أتى ذاك القبطي إلى عمر الفاروق يشتكي الظلم أدرك عمر ـ رضي الله عنه ـ أن الاستعباد لن يصلح الدولة الإسلامية ولن يرفع شأنها وأمجادها، بل إن في حصول ذلك مضرة عظيمة على جميع أفراد الدولة الاسلامية ومصالحهم؛ فما كان منه إلا أن قام باستئصال ذلك فعلياً ليرسخ مبدأ أن ليس لأحد حق الاستعباد وإن ملك ما ملك، وأطلق كلمته العظيمة مخاطباً عمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟» .
علمت أن وراء الضعف مقدرة
وأن للحق لا للقوة الغلبا
ولأهمية الموضوع فقد وضعته في نقاط سائلاً المولى أن ينفع بها.
- أولاً: لمن الحق في العبودية؟
قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، والعبودية من أعظم ما يُصرَف لله؛ إذ إنها لا تكون إلا لله وحده، فإنه ـ سبحانه ـ لم يخلق البشر والخلق أجمعين إلا لعبادته والإذعان بالعبودية له. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له كان أقرب إليه وأعز له وأعظم لقدره؛ فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله» (2) ؛ لأن في ذلك سعادتهم في الآخرة قبل الدنيا، فيتوجه المرء بحسه وإحساسه نحو خالقه ورازقه، فيدعوه ويتوسل إليه ويلجأ ويلتجئ إليه؛ لأنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، لأن العبد يحتاج إلى معبوده في كل حين. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «فاعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به» (3) .
والعبودية هي روح العبد الحقيقية، فلا تُصرف إلا لله؛ لأن في صرفها لغير الله حصول مضرة وفساد «.. ومن عبد غيره وأحبه ـ وإن حصل له نوع من اللذه والمودة، والسكون إليه، والفرح، والسرور بوجوده ـ ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ، الشهي، الذي هو عذب في مبدئه عذاب في نهايته» (1) ، ولن نبلغ الكمال المنشود حتى تكمل العبودية لدينا و «أكمل الخلق أكملهم عبودية» .
- ثانياً: من صور الاستعباد:
للاستبعاد صور عديدة من أهمها:
أولاً: الاستعباد الباطني: من الناحية القلبية:
القلب أعظم ما يمتلك المرء؛ إذ إنه ملك الجوارح وسيدها المطاع وهو موجه الأوامر؛ ولذا فإن من أخطر أنواع الاستعباد أن يُستعبد قلب المرء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «إن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب» (2) ؛ فمن الأمور التي يستعبد بها قلب المرء:
1 - العشق والتعلق:
وهذا من أخطر الأمراض على العبد ومن أشدها عبودية؛ فهو عدو الصحة، وشلل الدعوة، وتوقف الحزم، وتبلد العقل، وطريق الشيطان؛ فالعاشق لا تجد لذكر الله محلاً بقلبه؛ إذ إنه أصبح متعلقاً بغيره، ولا تجد لبصيرة قلبه مسلكاً؛ لأن الهوى قد غلفها بظلامه، فهو يعيش ـ وإن رأيته حراً ـ أسير شهوته وقيد عشقه، فتراه عبداً ذليلاً لمعشوقه، لا يكاد يقاوم لهفة نفسه عند ذكره؛ فهو مستعبد داخلياً مُذلل خارجياً. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «المحب بمن أحب قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لبَّاه، وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس، ولا يسكن إلا سواه» (3) . وما أشنع من منظر رأته عيناك من منظر ذاك العاشق الولهان الذي ضاع عمره القصير في تفاهة أمر كان بإمكانه التخلص منه. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل والمعرفة؛ فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به، حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق، ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة» (4) .
والعشق يحصل به من الأمور ما لا يحصل في غيره، ولذا قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبَداً لها اجتمعت له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد» (5) ، وذكر ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ فقال: «عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيُّماً، والتتيُّم التعبد، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه» (6) .
قال ابن أبي حصينة:
والعشق يجتذب النفوس إلى الردى بالطبع، واحَسَدي لمن لم يعشقِ
وقال آخر:
العشق مشغلة عن كل صالحة وسكرة العشق تنفي لذة الوسنِ
ولو أخذنا جوانب العشق كاملة لطال المقام ولكثر الكلام (7) . وقانا الله وإياكم شر العشق وشر كل سبيل موصل إليه.
2 - حب الدنيا والاغترار بها:
لم يدخل حب الدنيا في قلب امرئ إلا سلبه لبه، وأفقده بذله للآخرة؛ فهي دار غرور وبلاء، وفتنة وشقاء، فيبدأ المرء بالتنازلات السريعة عن مبادئه وعن تقاليده حتى يبلغ ذلك دينه والعياذ بالله، «وأعظم الخلق غروراً من اغتر بالدنيا وعاجلها فآثرها على الآخرة ورضي بها من الآخرة» (8) ، وكما قيل في بعض المأثورات: «الدنيا مال من لا مال له، ودار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له» ، ولا يمكن لعاقل لبيب أن ينخدع بدار زوال عما قليل فانية؛ فعقله الحكيم يبصِّره بعواقب الأمور، وضميره المتيقظ يوقظه من غفلة هذه الدنيا. ويبين لنا الرب ـ جل وعلا ـ مَثَل الحياة الدنيا فيقول ـ عزوجل ـ: {إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] ، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: «وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا؛ فإن لذَّاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتاً قصيراً؛ فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها» (9) . ولأن هذه الدنيا دار غرور، ولأنها دار التنافس الدنيوي الدنيء ـ ذي النهاية المعروفة ـ فقد حذرنا منها نبينا -صلى الله عليه وسلم -، بل كانت من الأمور التي يخاف منها على أمته؛ ففي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي -صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: «إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض ـ أو مفاتيح الأرض ـ وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها» .
ورحم الله الشافعي حين قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إليَّ عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
3 - حب المال والجاه:
حب المال وحب الجاه من الأمور التي تستعبد قلب المرء؛ فهي كالغشاوة التي تحجب الرؤية المبصرة، فتراه لاهثاً خلفها، مجتهداً في الحصول عليها. إن اللاهث خلف المال والجاه يعمى بصره، فيقطع الأرحام من أجل المال والجاه، ويهتك الأرحام من أجل المال والجاه، ويتعامل بالمعاملات الربوية من أجل المال والجاه. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «لا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر؛ كما روى الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فذم النبي -صلى الله عليه وسلم - الحرص على المال والشرف، وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم؛ لأنه يفسد الدين الذي هو الإيمان والعمل والصالح؛ فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل، وهذان هما المذكوران في قوله ـ تعالى ـ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29] ، وهما اللذان ذكرهما الله فى سورة القصص، حيث افتتحها بأمر فرعون وذكر علوه في الأرض، وهو الرياسة والشرف والسلطان، ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال، وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص: 83] كحال فرعون وقارون؛ فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها، وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد» (1) . وما من شك في أن حب المال عندما يطغى على قلب المرء يصبح أسيره؛ فلا يرى معروفاً ولا منكراً، فتصبح كل الأمور لديه واحدة، والأهم في نظره هو جمع المال فقط وتحصيله من أي مصدر سواء كان حلالاً أم حراماً.
ويصور لنا الشاعر حال ذلك المرء الذي أنفق عمره في تحصيل المال فيقول:
ومن ينفق الأيام في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقرُ
وقال الآخر:
ولا تحسبن الفقر فقر من الغنى ولكن فقر الدين من أعظم الفقرِ
من الناحية العقلية:
العقل نعمة من الله ـ عز وجل ـ أنعمها علينا؛ فبه يميز العاقل بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، وبه تُستبصَر الأمور وتُدرك الحقائق؛ وذلك من خلال التعقل في الأمور والتمهل فيها، ولذا لما سئل الأحنف عن العقل قال: «العقل رأس الأشياء، فيه قوامها، وبه تمامها، وهو سراج ما بطن، وملاك ما علن، وسائس الجد، وزينة كل أحد، لا تستقيم الحياة إلا به، ولا تدور الأمور إلا عليه» . ومتى استخدم هذا العقل في غير مكانه ـ الذي هو الخير ـ أصبح مجرد كتلة لا تصلح لأي عمل وحيي على الشر وعلى تحقيق رغباته وأهوائه ولا نصيب للتفكير السليم فيه، فأصبح بذلك فرداً لا همَّ له سوى عبادة ما يمليه عقله عليه، فكان كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] .
- الأمور التي بها يُستعبد العقل:
1 - الانحراف الفكري:
الفكر هو لب العقل وأساسه، وتقويمه واعتماده؛ فإن سلم صحت تلك الأفكار التي يحملها فتنتج بإذن ربها ثمارها اليانعة، وإن خبثت واستقت أفكاراً خبيثة وهدامة لم يُجنَ منها إلا العلقم، ولم يبلَ العقل بمثل بلوى الانحراف؛ فهو مسلك خطير من سلكه هلك ومن اتقاه نجا واستدرك. فالانحراف الفكري كالرمال المتحركة التي سرعان ما تلقي بصاحبها داخل جوفها، هل تراه يعيش بعدها؟ وصاحب الفكر المنحرف يتلقى أفكاره من مصادر خبيثة لتصادف هوى، فيصبح بأذيالها متمسكاً وبشأنها متعبداً؛ فهي نواة تبقى في ذهنه، وسرعان ما تنمو وتكبر مع مرور الزمن وتلقِّيه المستمر، وما ذلك إلا من الخلل الذي أحدثه في البداية وهو تلقي الأفكار من غير مصادرها الأساسية الأصلية، ثم ينعكس ذلك تماماً على عقيدته وواقعه «.. وإذا كانت حرية العقيدة والرؤية الأساسية الكلية هي قضية لها جوانبها المطلقة والكلية؛ فإن حرية الفكر هي في أساسها انعكاسات للرؤية العقيدية الكلية على واقع الحياة وقضاياها» (2) . ولم يكن هناك شيء أخطر على الأمة من الانحراف الفكري؛ فبه تحدث المنازعات والخلافات العقدية والفكرية والشقاقات السياسية والاقتصادية ويصرفها عن النظر لواقعها وحالها، ومنه تخرج أجيال غاية علمهم التعصب لآرائهم والعداء لمن خالفهم، وتربية من خلفهم على ما تعلموه وما أتقنوه، وله تُدَس المؤامرات والدسائس والخطط والنقائص. قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] .
2 - التبعية:
لم يحدث استعباد العقول وانحرافها إلا عن طريق التبعية الخاطئة، ولذا عندما عطلوا عقولهم نفى ـ سبحانه ـ الاهتداء والتعقل عن هؤلاء الذين يتبعون الآخرين وإن كان أمرهم خاطئاً، فقال: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] ، فالأمر يزداد خطورة عند عدم إدراك من نتبع وأي طريق يسلك، وما كان انحراف الأكثرية في السنين الماضية إلا عندما سلكوا مسلك التبعية الخاطئة، وانتهجوا نهجه، ولنا في قصة (رفاعة الطهطاوي) و (عبد الرحمن الكواكبي) عبرة؛ وذلك حينما كانا على تبعية حمقاء؛ فـ «أزمة الطهطاوي تتلخص في أنه ابتعد إيمانياً عن فرنسا واقترب حضارياً ـ إلى حد التبعية ـ لها، واستسلم لمزلق تفصيل الفكر الإسلامي بما يناسب الفكر الأوروبي الحديث» (1) ، وأما الكواكبي «فقد أخطأ عندما تصور مجد الإسلام يعود بنظام سياسي على النمط الأوروبي، وأخطأ ثانية عندما أحسن الظن بالسياسيين الاستعماريين وبالقوى الصليبية» (2) . ولنعلم أن التبعية التي لا أصل لها من الكتاب والسنة لا تولِّد لا حضارة ولا فكراً؛ وإن حدث ذلك فهو ناقص وسرعان ما يزول؛ إذ إن من شأن الأمور الوضعية أنها تزول وإن استمرت برهة من الزمان؛ وذلك لأنها لا توافق البشر كلهم وإن رغبها بعضهم، ولا يظن آخرون أنه عند استمرار حضارة ما أو فكر ما قد خالطه تبعية غربية أنه باق ما بقي الدهر، أو أن زواله مستحيل، كلا! بل على العكس تماماً، إن زواله قريب وانهياره سريع.
- ثانياً: استعباد خارجي (بدني) :
وهذا الاستعباد أهون من الاستعباد الباطني بكثير؛ إذ إن هذا ليس من اختيار العبد وغالباً على أمره، وربما كان ابتلاءً من الله لعبده المؤمن وتمحيصاً له، وفترته قد لا تستغرق وقتا طويلاً. نعم! ربما سلبت حريته البدنية، ربما سلبت كرامته، وربما سلب كل أمر ظاهري منه، ولكنه لم يُسلب قلبه، ولم يسلب عقله وتفكيره؛ فهو يعيش الحرية داخلياً، ويفقدها خارجياً «ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولَّدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب» (3) .
أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي
وما صبر الكثير على طريق الايمان إلا عندما أوذي وسجن وعُذِّب، وما يظن عاقل انه بإمكانه الاستمرار على هذا الطريق دون ابتلاءات وفتن. قال ـ تعالى ـ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] ، «إن الايمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال؛ فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا؛ وهم لا يُتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب» (4) ، وقال ـ تعالى ـ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] ، «إنها سُنَّة العقائد والدعوات: لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة. وقد حُفَّت الجنة بالمكاره. كما حفت النار بالشهوات» (5) ، وعلى قدر إيمان المرء يكون ابتلاؤه، كما روى سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: «قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه؛ فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة» (6) . فالقهر والظلم والسجن والضرب وغيرها كلها وسائل ظاهرية تتولى الاستعباد الظاهري ولا تستطيع أن تملك الداخل؛ إذ إن من شأنها التعذيب والسياط والجلد، وفرض الهيمنة والسيطرة الخارجية، وما ظن أولئك أن من كان مع الله كان الله معه.
ولنا في السابقين عبرة؛ فهؤلاء الأنبياء ابتُلوا وغيرهم من الصالحين الذين حملوا همَّ هذا الدين؛ فقد سُجِن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وعذب وما زاده ذلك إلا ثباتاً ورسوخاً، وسجن شيخ الاسلام ابن تيمية فما كان منه إلا أن قال: «ما يفعل أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة» . وقُهِرَ أناس وظلم آخرون وهددوا فلم يردهم ذلك عن إيمانهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
- ثالثاً: نماذج من الاستعباد:
مرت العصور السابقة بألوان من الاستعباد؛ والنماذج في هذا كثيرة، وأقتصر في هذا ـ على سبيل الاختصار ـ على نموذجين من ذلك:
1 - استعباد فرعون:
لم تذق أمة من الأمم السابقة ذل العبودية والاستعباد مثل ما ذاقته أمة بني إسرائيل في عهد ذلك الطاغية فرعون؛ فقد فعل بهم الأفاعيل، وجعل منهم خدماً وعبيداً لا قيمة لهم. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] ، «وكل طاغوت يُخضِع العباد لشريعة من عنده، وينبذ شريعة الله، هو من المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون» (1) ، ولم يكتف ذلك الطاغية بهذا، بل بدأ يقتل الذكور فيهم ويبقي النساء للخدمة، وما كان قتله للذكور إلا لخوفه على ملكه عندما أعلمه أحد الكُهَّان أنه سيولد فتى سيفنَى ملكُه على يديه، ثم أتى موسى ـ عليه السلام ـ فقال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ، ولم يكن موسى ليهاب ذلك الطاغية فأطلق قوله: {يَا فِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104] ، فهاج ذلك الطاغية ليجمع بعد ذلك أتباعه من أجل أن لا تتهاوى مملكته أمام الحقيقة التي أعلنها له موسى ليكون في ذلك هلاكه وموته غريقاً تحت المياه.
وآثار الظلم والاستعباد باقية إلى اليوم شاهدة على أفظع الصور وأبشعها في إذلال العباد وإن سميت بغير اسمها ودُعيت بـ (الحضارة الفرعونية) .
2 - الشيوعية:
كان من الأنظمة التي لها النصيب الأعظم في الاستعباد الصريح نظام الشيوعية؛ فقد كان الشيوعي يعمل ويكدح وينصَب لأجل غيره، فلا يتملك ولا أحقية له في ذلك «ولقد زعمت الشيوعية أن الذل الوحيد في الأرض هو عمل الإنسان أجيراً لإنسان آخر، وزعمت أنها هي ستخلص الناس من الظلم وتمنع الاستغلال، حين تمنع تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر. نعم! ولكن ما الفرق بين تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر، وتأجيره للدولة التي هي شخص معنوي في الكلام فقط؟ ولكنها في الواقع مجموعة من البشر يحملون من السلطان ما يجبرون به الناس على أداء العمل الذي يطلبونه منهم، وما يعاقبونهم به إذا قصروا في أدائه؟ وصدق الله العظيم: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109] .
- رابعاً: كيف ندفع الاستعباد؟
ندفع الاستعباد بأمور كثيرة من أهمها:
1 - خشية الله ـ عز وجل ـ والخوف منه:
والخشية لله ـ تعالى ـ تزيد العبد اطمئنان القلب وتعلقاً بالله فلا يعبد سواه، ولا يخشى أحداً إلا اياه، فيتوجه إليه بالكلية، فلا تغره دنيا، ولا يهيبه ملك أو سلطان فقد مُلئ قلبه خشية وخوفاً من الله تعالى. وقد قرن ـ سبحانه وتعالى ـ خشيته بالفوز في الدنيا والآخرة فقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] «فالطاعة لله ورسوله تفتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية من علم وحكمة، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة، وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على المنهج، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه، فلا ينحرفون ولا يلتفتون» (2) . والخشية من المنجيات التي تنجي العبد من كل شيء.. من الدنيا وغرورها.. من الحياة وفتنها.. قال -صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى. وثلاثٌ مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه» (3) . وبالخشية يستعين العبد على دينه.. فيحفظه من الضلال.. ويحفظه من الزيغ والانحراف. عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: «كان يقال: ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله» (4) .
2 - اتباع المنهج السليم:
ومن الوسائل في دفع الاستعباد المنهج السليم الذي هو الطريق القويم الذي يضمن لذوي العقول السير الصحيح والتبصر الحكيم، وأي أمة فقدت المنهج الصحيح السليم حارت في دروب التيه العقدي والإعصار الفكري {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] ، ولكي نضمن منهجاً سليماً خالياً من الشوائب لا بد من أمرين:
أ - أخذ المنهج من مصدره الأساسي الذي هو المصدر الرباني المتمثل في الكتاب والسنه. قال -صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله» (5) .
ب - التلقي السليم الذي لا تتنازعه أهواء ولا تعصبات ولا منازعات، ولا يشوبها انحرافات فكرية، ولا يخالطها معتقدات فاسدة باطلة.
ولك أن تتصور حال المرء بلا منهج صحيح: كيف يكون حاله؟ إما إلى جهالة عمياء أو إلى ضلالة خرقاء. قال ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] ، عندما ضعف تأصيله ومنهجه الذي يعتمد عليه عَبَدَ اللهَ على شك وعلى انحراف وخلل عقدي؛ فلم يصبر على مواجهة أمواج الفتن العاتية، فانقلب على وجهه مهزوماً مخذولاً قد خسر دنياه وآخرته، وعلى المرء أن يتحرى الطريق الصحيح الذي يبقي له المنهج صحيحاً سليماً و «الطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، ذو العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل» (6) .
3 - الأخذ بزاد الصبر:
قال ـ تعالى ـ مبيناً شأن أولئك الذين صبروا وما آل إليه صبرهم: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] . والصبر أمر مطلوب؛ فقد حث الله ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين على الصبر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «والإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. قال غير واحد من السلف: الصبر نصف الإيمان. وقال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. ولهذا جمع الله ـ سبحانه ـ بين الصبر والشكر في قوله: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] » (1) . والصبر سبب في كمال المرء. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «أكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره» (2) . ولا تنال الإمامة في الدين إلا بشيئين ذكرهما ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال: «إنما تُنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين» (3) ، ويذكر ابن القيم تشبيهاً للصبر فيقول: «النفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية؛ فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب» (4) . ولنا في السابقين أبلغ العظات والعبر؛ فقد صبر سيد المرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم - أشد الصبر وأبلغه حتى بلَّغ دين الله عز وجل، وصبر من بعده أتباعه كبلال وخباب، وصبر كذلك إمام السنة أحمد بن حنبل، ومن بعده ابن تيمية، والكثير من أئمة الدعوة صبر؛ فما أوهنه القيد ولا غيَّره السجن؛ فهو صامد كالطود. قال -صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (5) . والمؤمن الصابر أمره في خير بإذن الله كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» (6) .
4 - تحرير الفكر:
ولكي يتحرر الفكر من قيود الاستعباد لا بد له من الاطلاع الواسع والقراءة المكثفة النافعة؛ فبها يرقى فكره ويعلو، فلا ينجرف فكرياً ولا ينقاد تبعياً، ويصبح ملمّاً بأمور الحياة مدركاً لفقه الواقع.
إن القراءة للعقل بمثابة الغذاء للجسد، ولذا كان خطاب الله ـ عز وجل ـ لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم - بداية {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 3] ، ولا يمكن لأحد أن يكون ذا فكر جيد وخيال واسع دون القراءة.
5 - البعد عن الاعلام الهابط والهدام:
الإعلام من أقوى الوسائل تأثيراً على البشر وعلى المجتمع؛ إذ إنه سلاح ذو حدين، ولا يُمنع أحد من عدم مشاهدته؛ لأنه في متناول الجميع، سواء كان مرئياً أم مقروءاً أم مسموعاً، ولذا كان من مراتب الجهاد جهاد الكلمة أو جهاد القلم، ولكن ما إن يتحول هذا الإعلام إلى وسيلة لإذلال العباد واستعبادهم حتى يصبح ذا خطورة عالية، فيهوِّل لهم الأمور حتى تصبح كالموبقات لديهم {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] ، فتجدهم لا يجرؤون على الكلام فيه أو الخوض في تفاصيله، فأصبح الجميع مستعبَداً لما يقوله الإعلام فيلعب بعقولهم كيف شاء؛ فتارة يُلهب عواطفهم ضد أمر ما، وتارة يحذرهم من أمر فيه خير، وقلما تجده يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، ولو أنهم رجعوا إلى عقولهم وبصيرتهم لوجدوا أن الحق خلاف ذلك، ولو أنهم تجنبوا ذلك الإعلام السيئ أو أخذوا الإعلام من مصدره الصحيح لما حدثت التغيرات الداخلية لديهم، ولما تقاعسوا وتراجعوا، ولأبصروا الحقيقة الحقة، {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] .
6 - الدعاء:
الدعاء خير سلاح يتسلح به المؤمن، وبه يدفع البلاء والاستعباد؛ فهو عدته وعتاده، ولا يرد القضاء إلا الدعاء كما قال -صلى الله عليه وسلم -: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» (7) . وحث ـ سبحانه ـ عباده على دعائه، فقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، «هذا من لطفه بعباده ونعمته العظيمة؛ حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه دعاء العبادة ودعاء المسألة» (8) ، و «من أعظم ما يجلبه الدعاء إلى الداعي أنه سبب في تحقيق التوحيد الذي به نجاة العبد وفلاحه؛ لأن الداعي الذي صرف دعاءه وسؤاله لله دون غيره وأخلص له فيه، فقد حقق جانباً من جوانب التوحيد وهو أن الدعاء عبادة لله وحده لا تصرف إلا له» (9) . والدعاء يحتاج من المرء إلى عزيمة وعزم. قال -صلى الله عليه وسلم -: «إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني؛ فإن الله لا مستكره له» (10) ، ولا عجز للمرء مثل عجزه عن الدعاء؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم -: «إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء» (11) . ويبين ابن القيم أهمية الدعاء وسبب تأخره، وأظنه جمع أهم الأسباب في تأخر إجابة الدعاء في كتابه (الجواب الكافي) .
- ختاماً:
عندما ابتعدت الدولة الإسلامية في عصر صدر الإسلام عن مظاهر الظلم والاستبداد والاستعباد ارتفع شأنها وبلغت رقعتها أقصى الأرض، وبلغ مجدها ذروته، فأصبحت رايتها خفاقة، وخيلها سباقة، وحق فيها قول الله ـ تعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] ، وما أن يظهر الاستبداد والظلم والقهر بأرض حتى يحل بها فساد وانتشار فتن وزوال نِعَم لا يرفعه إلا رجعة صادقة إلى الله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] .
والله يحفظنا هو مولانا وعليه التكلان.
__________
(1) لمزيد البيان لحقيقة العبودية لله ـ تعالى ـ اقرأ أن شئت كتاب (العبودية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الشيخ عبد الرحمن الباني.
(2) مجموع الفتاوى ج: 1.
(3) طريق الهجرتين وباب السعادتين.
(1) المرجع السابق.
(2) مجموع الفتاوى، ج 10.
(3) إغاثة اللهفان، لابن القيم.
(4) جامع الرسائل، لابن تيمية.
(5) العبودية، لابن تيمية.
(6) إغاثة اللهفان، لابن القيم.
(7) يرجع إلى الكتب المتخصصه في ذلك كالجواب الكافي لابن القيم، وروضة المحبين لابن القيم، وإغاثة اللهفان لابن القيم، وذم الهوى لابن الجوزي، والعبودية لابن تيمية، وكتاب الشيخ محمد الحمد في العشق؛ فقد استفاد فيه من المراجع السابقة.
(8) الجواب الكافي، لابن القيم.
(9) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ السعدي.
(1) مجموع الفتاوى، ج 20.
(2) أزمة العقل المسلم، للدكتور عبد الحميد أبو سليمان.
(1) بتصرف من: جذور الانحراف في الفكر الاسلامي الحديث لجمال سلطان.
(2) المصدر السابق.
(3) في ظلال القرآن لسيد قطب.
(4) في ظلال القرآن، لسيد قطب
(5) في ظلال القرآن، لسيد قطب.
(6) رواه ابن ماجه.
(1) في ظلال القرآن، لسيد قطب.
(2) في ظلال القرآن.
(3) رواه أبو الشيخ والطبراني في الأوسط بسند حسن ينظر: صحيح الجامع الصغير (1/583) .
(4) نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء لـ (محمد بن حسن موسى) ، ص 513.
(5) حسنه محقق جامع الأصول، 1/ 277.
(6) مجلة البيان، العدد 14.
(1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
(2) طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم.
(3) صلاح الأمة في علو الهمة.
(4) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
(5) رواه أحمد والترمذي والبخاري وصححه الألباني.
(6) رواه مسلم 425 7 شرح النووي ح 18 ص 325.
(7) رواه الترمذي برقم (2139) وقال: حديث حسن غريب، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (154) .
(8) تفسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي.
(9) كتاب الآداب لفؤاد الشلهوب.
(10) رواه البخاري برقم (7464) ومسلم برقم (2678) .
(11) حديث صحيح صححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1519) .(216/6)
فقه التعامل مع الناس
صالح بن فريح البهلال
إن الله ـ جل في علاه ـ خلق الإنسان، مدنياً بالطبع، يُوْثِر الاجتماع على العزلة، فتراه يمر في أطوار حياته بين أبوين وإخوان، وأقاربَ وجيران، ومعارفَ وخِلان، وزوجٍ وولدان، وقد حتَّم عليه الشارع حضور بعض العبادات جماعةً؛ وكل هذا يلزم بها أن يتقن فقه التعامل مع الناس؛ حتى يسلمَ من نزَق الطبع، وطيش الحِلم؛ لأنه ـ غالباً ـ لا يسلم من أن يَجْهلَ، أو يُجْهَلَ عليه.
وإن مُنْعِم النظر في أحوال بعض الناس في هذا الزمان لَيجد أنهم يعانون من انشقاق العصا بينهم، ويلقوْن في ذلك نصَباً ناصباً؛ وذلك جرَّاءَ أمور مَهينة، انتهز الشيطان فيها فُرصة، واهتبل فيها غِرة، فصعَّد فيها وصوَّب، فانجلت عن شقاق، وسوء أخلاق.
وإليك أمثلةً ليست من نسج الخيال، وإنما هي من واقع الحال.
فهذا قد شاكس أباه على منعه حقاً له؛ لا يساوي معشار كد والده عليه.
وهذا قد قطَّع أخاه؛ لأجل اختلاف في قسمة ميراث.
وهذا قد فارق زوجه؛ إثر سوء تفاهم بينهما يَرِد مثله في الحياة الزوجية كثيراً.
وهذا قد ترك حلقته التي يتعلم فيها القرآن؛ لأن أستاذه فيها قسا عليه ـ مرة ـ.
وهذا قد سخط على فلان ـ من جماعة مسجدهم ـ لأنه ـ بزعمه ـ قد ابتلاهم بفتح أجهزة التكييف في المسجد.
وهذا قد هجر جاره؛ لأن ولد جاره خاصم ابنه مرة.
وهذا قد قطع صلة قريبه؛ لأنه تذرَّع به في شفاعة، فلم يشفع، ولم يرفع.
وهذا شكاكٌ مرتاب تكاد مرارته تنفطر من الغيظ، على فلان وفلان، لا لشيء؛ وإنما لأنه كلَّف نفسه ما لم تُكلَّف، فاشتغل بتفسير المقاصد، فهو ثائرٌ على فلان؛ لأنه قال كلمة في مجلس، يظن أنه لا يقصد غيره بها، وهو ساخطٌ على فلان؛ لأنه ـ بزعمه ـ متكبر، وافقه مرة فلم ينظر إليه إلا بطرْف فاتر، وهو منقبض عن فلان؛ لأنه فيما يظهر له ـ يتلظى صدره علىه من الحسد.
وتلك امرأة، تزوي ما بين عينيها ـ دوماً ـ على امرأة ابنها؛ لأنها لم تقم بحقها ـ زعمت ـ.
وأخرى صرمت حبال الوصل مع شقيقتها؛ وذلك لأجل خصومة أولادهما المتكررة.
إلى غير تلك الأحوال التي تنقبض لها الصدور، وتشمئز منها النفوس، وتُحدِث فيها لوعة مؤلمة، ومسّاً موجعاً.
وهذا بعض الإشارات في فقه التعامل مع الناس، علَّها أن تنظم شملاً قد تمزق، وتجمع شتاتاً قد تفرق.
فإلى المقصود، والله المستعان، وعليه التكلان؛ فما أحرانا بضرورة مراجعة نفوسنا وحسن الظن بإخواننا والتزام ما يلي:
1 ـ توطين النفس على معاملة الناس بمحاسن الأخلاق، وجميل الخِلال، وهذا من مسلَّمات الدين، ولأجله بُعث سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم -؛ إذ يقول: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق» (1) ، والآيات والأحاديث التي تحث على التحلي بمكارم الأخلاق، وتنهى عن سفسافها وافرة معلومة.
وهي من أعظم ما يجلب الودَّ، ويُحِلُّ الوفاق، وينفي الفُرقة، ويزيل الشقاق.
وإنك لترى الرجلَ الذي يذكر بِغلَظ الطباع، وفظاظة الأخلاق، ما إن تتطلقْ في وجهه، وتَهَشَّ له بكلام لين، إلا وتجد أثر ذلك فيه.
والكلام في الخُلُق الحسن، وأثره على صاحبه، وعلى الناس، يطول جداً، والخلاصة فيه: أنه لا يخيب صاحب أخلاق حسان أبداً، ولا يعنو كمداً؛ لأنه لا يحمل حسداً، ولا يؤذي أحداً.
وما الإشارات الآتية إلا وتتفيأ ظلال هذه الإشارة، وتمتد إليها بسبب متين، وتأوي فيها إلى ركن شديد؛ فهي خلاصتها، وعصارتها.
2 ـ معاملة الناس حسب طبائعهم التي أعطاهم الله إياها؛ فإن الله ـ سبحانه ـ كما قسم الأرزاق قسم الأخلاق؛ فمن الناس من هو حُرُّ الخلال، أَرْيَحِيُّ الطباع، يترقرق في وجهه ماء البِشْر.
ومنهم من هو فظ الأخلاق، صعب المراس، كأنما قُدَّ من صخر.
ومنهم من هو مبتغٍ بين ذلك سبيلاً، وقد أبان الرسول -صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقال: «إن الله ـ عز وجل ـ خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزْن، وبين ذلك» أخرجه أحمد (1) وأبو داود (2) والترمذي (3) .
وقد تمثل بعض الشعراء بهذا المعنى، فقال:
الناس كالأرض، ومنها هُمُ فمن خشن الطبع، ومن ليِّنِ
فجنْدلٌ تدْمى به أرجلٌ وإثْمِدٌ يوضع في الأعينِ
وبهذا يعلم أن معاملة الناس، ينبغي ألا تكون على وتيرة واحدة، بل يعامَل كلٌ منهم حسب طبعه، كما ـ تعالى ـ: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] .
قال العلامة الشنقيطي: « ... العفو معروف في كلام العرب، تقول لك: «خذ العفو مني» أي؛ خذ ما تسهَّل لك من أخلاق الناس، ووجدت منهم طِيباً بلا كلفة فخذ، وما جاءك من غير ذلك فاصفح عنه وتجاوزه ... » (4) .
وقال العلاَّمة السعدي: «الذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم» (5) .
وقد حفظت لنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ موقفاً من المواقف النبوية التي تدل على حِذْقه -صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع الناس، تقول عائشة: «إن رجلاً استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم - فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلَّق النبي -صلى الله عليه وسلم - في وجهه، وانبسط إليه. فلما انطلق الرجل، قالت عائشة: يا رسول الله! حين رأيتَ الرجلَ قلتَ له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «يا عائشة! متى عهدتِّني فحَّاشاً؟ إن شرَّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاءَ فحشِه» أخرجه البخاري (6) ومسلم (7) .
قال القرطبي: «في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك، من الجور في الحكم، والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم؛ اتقاء شرهم ما لم يؤدِّ ذلك إلى المداهنة في دين الله ـ تعالى ـ» (8) .
كما يرى المسْوَر بن مَخْرَمة ـ رضي الله عنه ـ موقفاً في ذلك، فيقول: «قَدِمَتْ على النبي -صلى الله عليه وسلم - أقبيةٌ من ديباج، مزررة بالذهب، فقسمها في أناس من أصحابه، وعزل منها واحداً لمخْرَمة، فلما جاء مَخْرَمة، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «خبأت هذا لك» أخرجه البخاري (9) من طريق أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن المسور. وقال أيوب بثوبه، وكان في خلقه شيء، قال الحافظ ابن حجر: «والمعنى أشار أيوب بثوبه ليُري الحاضرين كيفية ما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم - عند كلامه مع مَخْرَمة، ولفظ القول يطلق ويراد به الفعل؛ وإنما قيل في مخرمة ما قيل؛ لِمَا كان في خُلُقه من الشدة، فكان لذلك في لسانه بذاءة» (10) .
وبهذا يعلم أن سبب كثير من الشقاق، وسوء الوفاق، بين ابن وأبيه، أو زوج وامرأته، أو إمام وبعض جماعة مسجده، أو نحو ذلك؛ إنما هو بسبب الجهل بالطبائع ونوع الأنفس.
3 ـ معاملة الناس حسب منازلهم التي أنزلهم الله إياها؛ فالناس فيهم العالم والجاهل، والملك والسُّوقَة، والسائد والمسود، والغني والفقير، والكبير والصغير، والعاقل والمجنون، وغيرهم، فيعامل كلٌ حسب منزلته لا وكس ولا شطط.
قال السعدي: «فلا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال، وتنشرح له صدورهم» (11) .
وفيما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قولُه: «أنزِلوا الناس منازلهم» أخرجه أبو داود (1) ، وهو وإن كان حديثاً ضعيفاً، إلا أن في السنة شواهد كثيرةً تدل على معناه، ومنها:
ـ قوله -صلى الله عليه وسلم -: «يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً ... » أخرجه مسلم (2) .
ـ وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «أراني في المنام أتسوَّك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواكَ الأصغرَ، فقيل لي: كبِّر، فدفعته إلى الأكبر منهما» أخرجه مسلم (3) .
ـ وقوله -صلى الله عليه وسلم -: إن من إجلال الله ـ تعالى ـ إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» إخرجه أبو داود (4) .
ـ وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا» أخرجه أبو داود (5) والترمذي (6) .
ـ بل انظر إلى مَلَكَة الحكمة التي أوتيها الرسول -صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكة فاتحاً، فجاء أبو سفيان فأسلم، فأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم - تثبيت إسلامه، فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» (7) فأبو سفيان من سادات قريش، ومثله يحب الفخر، فأشبع الرسول -صلى الله عليه وسلم - مشاعره بهذه الجملة.
وهكذا فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم - مع أولئك الرجال السادة في أقوامهم، الذين كانوا حدثاء عهد بكفر؛ فكان يعطيهم ما لا يعطي غيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يتألف قوماً، ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خُلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهير من ذنوبهم ... » (8) .
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم - في كتابه الذي أرسله إلى هرقل: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ، عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم..» أخرجه البخاري (9) ومسلم (10) .
فتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم -: «عظيم الروم» .
إلى غير لك من الأحاديث الوافرة في هذا الجانب، التي تحتِّم أن يُعطَى كلُّ ذي منزلةٍ حقَّه اللائق بحاله؛ فللأمير حق، وللعالم حق، وللوجيه حق، وللوالد حق، وللولد حق، وللزوج حق، وللزوجة حق، وللكبير حق، وللصغير حق، وللتلميذ حق، ولإمام المسجد حق، ولناقص العقل حق، وكلّ له حق بحسبه، وليس المجالُ مجالَ بسط لهذه الحقوق؛ ولكن القصد هو الإشارة بأن إنزال الناس منازلهم سبب متين؛ لتقوية آصرة الألفة والمودة، ونبذ الشقاق وسوء الأخلاق.
4 ـ معاملة الناس حسب ظواهرهم، فلا يُشتغل بتفسير المقاصد؛ فمن الناس من تجده شكاكاً في الناس، مرتاباً في تعاملهم معه، تتجاذبه فيهم الظنون، وتتوارد عليه الرِّيب؛ فلسان حاله: فلان قد رابني أمره، ولست على يقين من فلان، وإني لفي مرية من فلان.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدَّق ما يعتادُه من توهُّمِ
وعادى محبيه بقول عُداته وأصبح في ليل من الشك مظلم
فلا يزال هذا المسكين يعاني في هذا الأمر صعَداً، ويقاسي منه نَصَباً، حتى يخلد إلى الانزواء، فيتفرق شمله، وينتثر نظمه.
وإن في هذا الفعل مُجافاةً لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12] .
وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث» أخرجه البخاري (11) ومسلم (12) .
وقد ورد في السنة ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يتعامل مع الناس حسب ظواهرهم، دون إيغال في النيات، أو تحسس في المقاصد، فمن ذلك:
ما رواه أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال: «بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فصبَّحنا الحُرُقات من جهينةَ، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي -صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟» قال: قلت: يا رسول الله! إنما قال خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا؟! فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ» أخرجه البخاري (13) ومسلم (14) .
وما رواه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ في قصة الرجل الذي قال للرسول -صلى الله عليه وسلم -: اتق الله ـ لمَّا قسم الرسول -صلى الله عليه وسلم - تلك الذُّهَيْبة التي بعث بها علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من اليمن على المؤلفة قلوبهم ـ فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أُومَر أن أنقِّب عن قلوب الناس، ولا أشقَّ بطونهم» أخرجه البخاري (15) ومسلم (16) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن المنافقين الذي قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] هم في الظاهر مؤمنون يصلُّون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ولم يحكم النبي -صلى الله عليه وسلم - في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي سلول ـ وهو من أشهر الناس بالنفاق ـ ورثه ابنه عبد الله، وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين» (1) .
وقد أخرج البخاري (2) عن الخليفة المحدَّث، عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله: «إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيراً أمنَّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنْه ولم نصدقْه، وإن قال إن سريرته حسنة» .
فكل هذه الأدلة تبين بجلاء أنه يتحتم على المسلم أن يعامل أخاه بما يظهر منه، ويكل سريرته إلى الله؛ وبذلك تقوى صِلاته، وتطمئن نفسه، وتنجلي عنه مزعجات التفكير، ودوامات القلق.
5 ـ استحضار أن الخطأ من طبيعة الإنسان، وأنه لم يسلم منه إلا من عصمه الله من أنبيائه ورسله، وقد قرر النبي -صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» أخرجه الترمذي (3) ، وابن ماجه (4) .
ومن لك بالمهذب بالندب الذي لا يجد العيب إليه مختطى
فمن الخطأ أن يتصور امرؤٌ مثاليةً في شخص، سواء كان امرأة سينكحها، أو عالماً سيتتلمذ عليه، أو رجلاً سيخالطه ويعاشره، أو غير ذلك، ثم يحاسبه بناء على ذلك، وربما انتبذ عنه مكاناً قصياً؛ بل عليه أن يعامله معاملةً واقعيةً، نابعةً عن معرفة بطبيعة البشر التي يعتريها الجهل والخطأ والنسيان.
وانظر إلى فعل حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ وهو من البدريين الذين قال الله فيهم: «اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم!» حيث أرسل إلى كفار قريش كتاباً يخبرهم فيه بعزم الرسول -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في التوجه لفتحها، فأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية (5) .
قال الحافظ ابن حجر: «وفي هذا الحديث من الفوائد، أن المؤمن ولو بلغ بالصلاح أن يُقْطَع له بالجنة لا يُعصَم من الوقوع في الذنب؛ لأن حاطباً دخل فيمن أوجب الله لهم الجنة، ووقع منه ما وقع» (6) .
وتأمل في جواب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ لما قال له راويته مهنَّا: كان غُنْدَر (7) يغلظ؟ قال: «أليس هو من الناس؟!» (8) .
وأمعِن النظر في قول شيخ الإسلام ابن تيمية هذا:
يقول ـ رحمه الله ـ: «وليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة» (9) .
6 ـ التغافل؛ فبناء على ما هو مقررٌ من لزوم الخطأ لبني الإنسان، فإنه يحسن بالنابه الفطن أن يتغافل عن الأخطاء التي لا يترتب عليها مفسدة.
وقد أخرج البخاري (10) ومسلم (11) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دخل رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: السامُ عليك، ففهمتها، فقلت: عليكم السامُ واللعنة، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «مهلاً يا عائشة! فإن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت: يا رسول الله! أوَ لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «قد قلتُ: وعليكم» .
قال العلاَّمة ابن مفلح: «استُنبط منه استحباب تغافل أهل الفضل عن سَفَه المبطلين، إذا لم يترتب عليه مفسدة» (12) .
فإذا كان هذه التغافل في مثل هؤلاء الكفار، فإنه يتأكد على المسلم أن يتغافل عما يجري من أخيه المسلم من الأخطاء المعتادة؛ فالكمال عزيز، ولن تجد زوجةً، أو ولداً، أو أخاً، أو معلماً، أو صديقاً، أو إماماً لمسجد، أو نحوه إلا وفيه ما يصفو وما يتكدر، فلا ترجُ خالصاً نفعه؛ فانهل من صفو صاحبك، وتعامَ عن كدره، كأنك ما سمعتَ ولا دريتَ. ولقد أجاد أبو تمام حين قال:
ليس الغبيُّ بسيد في قومه لكنَّ سيدَ قومه المتغابي
قال الإمام الشافعي: «الكيِّس العاقل هو الفطن المتغافل» (13) .
وقال عثمان بن زائدة: «قلت للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، فقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل» (14) .
فأَجْمِلْ بالأب في بيته، والمعلم في فصله، والمدير في دائرته، وإمام المسجد مع جماعته، وكل مسؤول مع من تحت يده، أَجْمِلْ بهؤلاء كلهم أن يتحلوا بالإغماض عن الهفوات التي لا تمس ديناً، ولا تورث شراً، وإنما هو حقوقٌ شخصية.
ويتأكد التغافل عن الخطأ في حق من اشتدت مودته، وطالت صحبته، كما قال أبو فراس الحمداني:
لم أواخذْك بالجفاء لأني واثق منك بالوداد الصريحِ
وجميل العدو غير جميل وقبيح الصديق غير قبيحِ
7 ـ قبول أعذار الناس؛ فبما أن الإنسان لا يزال في حيِّز البشرية، يَرِدُ عليه الخطأ في تعامله مع الناس؛ فإن كفارة ذلك الذنب هو اعتذار ممن أخطأ معه.
ويتأكد في حق من اعتذر منه أن يقبل عذره، ويكل سريرته إلى الله، تأسياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه لما جاءه المخلَّفون عام تبوك، وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، قَبِلَ علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وهو مع ذلك لا يصدِّق أحداً منهم؛ بدليل أنه لما جاءه كعب بن مالك، وأخبره بحقيقة أمره، قال: «أما هذا فقد صدق» كما عند البخاري (1) ومسلم (2) .
قال الإمام ابن القيم: «من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته؛ فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله ... » .
ثم قال: «وعلامة الكرم والتواضع أنك إذا رأيتَ الخلل في عذره لا توقفْه عليه ولا تحاجَّه، وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدور لا مدفع له، ونحو ذلك» (3) .
قال الإمام الشافعي:
اقبلْ معاذير من يأتيك معتذراً إن برَّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره وقد أجلَّك من يعصيك مستترا
وقال المرُّوذي: قلت لأبي عبد الله: إن أبا موسى هارون بن عبد الله قد جاء إلى رجل شتمه لعله يعتذر إليه، فلم يخرج إليه، وشق الباب في وجهه، فعجب، وقال: سبحان الله! أما إنه قد بغى عليه، سيُنصر عليه، ثم قال: رجل نقل قدمه ويجيء إليه يعتذر لا يخرج؟! (4) .
ومما يقوِّي المسلمَ في قبول عذر أخيه إذا اعتذر إليه، استشعارُه أنه ربما احتاج لمثل هذا الموقف الذي وقفه أخوه أمامه؛ فهل يسرُّه حينَها أن يُرَدَّ خاسئاً وهو حسير؟ فكما تدين تدان.
فما أجمل ذلك الأب الذي لما أتاه ابنه يلقي معاذيره، قبل عذره، وبرأه من الملام.
وأكرم بذاك الزوج الذي إذا اعتذرت إليه زوجه من التقصير، نفض عنها غبار اللوم، ووجد لها في ذلك عذراً بيناً.
ولله در ذاك الصديق الذي لما أتاه صاحبه معتذراً إليه من هفوة فرطت، أو سقطة بدت ـ هوَّن عليه، وقال: لا درَك عليك في ذلك ولا لَحق.
بل إنه ينبغي لمن أوتي شهامة في طباعه، وسخاوة في أخلاقه، أن يعذر أخاه إذا سمع عنه سوءاً، وهذا قد دعا إليه ربنا في كتابه، فقال: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12] .
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً» (5) .
وقال أبو قلابة: «إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهه فالتمس له العذر جَهدك، فإن لم تجد له عذراً، فقل في نفسك: لعل لأخيك عذراً لا أعلمه» (6) .
{وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] .
8 ـ الإعراض عن الجاهلين؛ كما قال ـ تعالى ـ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وقال: {وَإذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] وقال: {وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] .
فمن الناس من تجد في طبعه نزَقاً، وفي لسانه رهقاً، يغمز فيه ويلمز دون جريرة في الملموز، وإنما هو طيش الحلم، وسفه العقل.
وإن شفاء مثل هذا الداء يسيرٌ على من يسره الله عليه، بأن يكون من أوذي رحب الصدر، وقور النفس، رصيناً، رزيناً، لا يستخفه سفه، ولا يستثيره غضب، طوداً لا تقلقله العواصف.
وما أجمل ما فعل الخليفة الراشد، عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما دخل عليه عيينة بن حصن، فقال: «هِي! يا ابن الخطاب! فوَ الله ما تعطينا الجزْل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى هَمَّ أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وقَّافاً عند كتاب الله ـ تعالى ـ» أخرجه البخاري (7) .
9 ـ العفو عن أخطاء الناس، ومقابلتها بالإحسان؛ امتثالاً لقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] .
قال العلاَّمة السعدي: «أي؛ فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصاً من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو الفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصِلْهُ، وإن ظلمك فاعفُ عنه، وعامله بالقول اللين، وإن هجرك وترك خطابك، فطيِّب له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة» (1) .
وقال العلاَّمة الشنقيطي: «فإن ذلك الإحسان وذلك الحلم والصفح يقضي على إساءته ويذهبها حتى يضطر إلى أن يصير في آخر الأمر من أصدق الأصدقاء» (2) .
ثم قال ـ عز وجل ـ بعد تلك الآية: {وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] .
قال السعدي: «أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله؛ فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه؛ فكيف بالإحسان» (3) .
نعم! فإن هذه لخلة شديدة على النفس، لا يسْطيعها إلا رجلٌ موفقٌ، قد تَسَنَّمَ ذِرْوَةَ المجد، وأمَّ معالي الأمور، فكرمت خليقته، ونبُلت نفسه، وجزُلت مروءته؛ فهمَّته قصيَّة المرمى، رفيعة المناط، قد تخطى هذه الأقذاء، وجاوز هاتيك الحفر، فلم تلن قناته لغامز.
وإن المتأمل لحال الرسول -صلى الله عليه وسلم - ليجد هذا الخُلُق الكريم قد أخذ فيه -صلى الله عليه وسلم - بحظ وافر، وإليك شيئاً من ذلك:
تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «ما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله» أخرجه البخاري (4) ومسلم (5) .
ويقول أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعليه رداءٌ نجرانيٌ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدةً، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء، من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فضحك، ثم أمر له بعطاء» أخرجه البخاري (6) ومسلم (7) .
وفي رواية عند مسلم: «ثم جبذه إليه جبذةً، رجع نبيُّ الله ِ-صلى الله عليه وسلم - في نحر الأعرابي» .
وفي رواية أخرى عند مسلم: «فجاذبه، حتى انشق البُرْدُ، وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم -» .
سبحان الله! ما أعظم أخلاق هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم - التي تملأ الصدور عظمة وإجلالاً، كيف قابل نزَقَ هذا الأعرابي وطيشَه، بهذه الأريحية، وهذا الندى؟! إنها رفعةٌ لا تُسامى، وعظمةٌ لا تُغالب.
وعلى هذا النهج النبوي سار شرفاء الناس وعظماؤهم، وسأذكر مثالاً واحداً فقط ـ والأمثلة كثيرة ـ على ذلك.
فهذا إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل، الذي استبطن دخائل العلم، وخاض عُبابه، قد لاقى في فتنة القول بخلق القرآن الألاقي، من سَجْنٍ وأغلالٍ، وجَلْدٍ يصل إلى أن يفقد الإمام وعيه، وحَبْسٍ في بيته يُمنع فيه من الخروج للصلاة، ومع ذلك كان يقول: «كل من ذكرني ففي حِل إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق ـ يعني: المعتصم ـ في حِل، ورأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ... } [النور: 22] أمر النبي -صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بالعفو في قصة مسطح» ثم قال الإمام أحمد: «وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك؟» (8) .
الله أكبر، إنه التوفيق الإلهي، وإذا أراد الله بعبد خيراً غرس فيه طباع الخير، فيبذلها بلا كلفة أسلس من الماء.
وفي الختام أقول:
ينبغي على المسلم أن يحسِّن أخلاقه مع الناس، مراعياً طبائعهم ومنازلهم التي أعطاهم الله ـ سبحانه ـ غير مشتغل ببواطنهم، وما انطوت عليه صدورهم؛ فإن أصابه خطأ منهم، فليعلم أن الإنسان محل الخطأ والنسيان، فليتغافلْ، وإلا فليعذرْ، وإلا فليصفحْ ويتسامحْ، ويفوضْ أمره إلى الله، فبذلك يعيش سالماً، والقول فيه جميل.
وربما كان تطبيق بعض هذه الأخلاق عسراً شديداً على النفس، يحتاج إلى مجاهدة ومعالجة بالِغين، ولكنَّ الحِلْمَ بالتحلُّم، والنفسُ راغبة إذا رغَّبتها، وقد قال ـ سبحانه ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] ، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «ومن يتصبر يصبره الله ... » (9) .
وليسألْ كلٌ منا ربه من فضله، وليستوهبْهُ من جوده؛ فإنه ـ وحده ـ هو المانُّ المتفضل.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء.
اللهم صلِّ على نبينا محمدٍٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
__________
(*) محاضر في جامعة القصيم، قسم السنة وعلومها. (1) مسند أحمد 2/381.
(1) مسند أحمد 4/400 ـ 406. (2) سنن أبي داود (4693) .
(3) سنن الترمذي (2955) .
(4) العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير، اعتنى به الشيخ خالد السبت 4/1788 ـ 1789.
(5) تفسير السعدي، ص 313. (6) صحيح البخاري (6032) .
(7) صحيح مسلم (2591) . (8) المفهم 6/573.
(9) صحيح البخاري، رقم (6132) . (10) فتح الباري 10/529.
(11) تفسير السعدي، ص 313.(216/7)
يا درة الأمجاد
فلاح الغريب
بَغْدادُ تنطقُ بالهوَى عيْنَاكِ
وكجَمْرِ أشواقِي بَدَتْ شَفَتاكِ
وقفتْ على الأطلالِ ساعةَ رهْبةٍ
تلك السّحائِبُ فاسْتَهلَّ نَدَاكِ
بغدادُ يحملُنِي الهَوَى ويُذيْبُنِي
شوقٌ لرؤيةِ ثغْركِ الضّحاكِ
ويزيدُني مَرُّ النَّسيمِ من الجَوَى
وتعيدُنِي الذّكرَى إلى ذكْرَاكِ
وتفيدني الأيامُ درْسَ عزيمةٍ
لمّا تسير إلى العُلا قدَمَاكِ
تتأوّه الأغصانُ من ألمِ النّوَى
ويتوهُ بالألحَانِ رَجْعُ صداكِ
أبكي ويرتعشُ اليراعُ وترتَمِي
منِّي الحروفُ على سَنَا نجْوَاكِ
بالله يا دارَ السّلامِ ترفّقِي
إنّي لأشكُو منْ لظَى شَكْوَاكِ
ورُبَى الحجازِ عليلةٌ ممّا جَرَى
والشامُ يسلبُها الهَوَى مَرْآكِ
وَرِمَالُ نجْدٍ أغرقتهَا أدمعٌ
فيَّاضَةُ الأحزانِ حينَ تَرَاكِ
وشواهقُ السَّرَواتِ تُعْلِي صرْخةً
لا تخضَعِي يا دُرَّةَ الأفْلاكِ
تتقاذفُ الأيامُ غابرَ مجدِنَا
ومراتعَ الذّكرى وبَوْحَ ثَرَاكِ
أيامَ كنتِ على الدِّيارِ أميرةً
تتضوَّعُ الأزهارُ نفحَ شذاكِ
أيّامَ يرسِلُها الرّشيدُ بعزَّةٍ
أينَ المكارم والهدى لَوْلاكِ
يا دارُ يأسرني الحنينُ لروضةٍ
تروي الظِّمآءَ وتنتمِي لرُبَاكِ
وأرى الصّبابةَ والمحبّةَ والنَّدَى
حَسْبُ العُلا والجُودِ أنْ عَرَفَاكِ
كمْ عَاشقٍ أفنى صَبَابةَ عُمْرِهِ
يرجو الوِصَالَ فأكرمتْهُ يَدَاكِ
والنورُ يحسبُ أنَّهُ من دُرّةٍ
حسناءَ يرمُقُها الهَوَى فيرَاكِ
والسيفُ يلمعُ في مقابضِ فتيةٍ
صانُوا حَرِيمَكِ واحتَمَوْا بحِمَاكِ
فاستبسلتْ تلكَ الأسُودُ ببَذْلِها
وأبَيْتِ يا بَغْدادُ أنْ ننسَاكِ
لا زالَ للمجدِ الأثيلِ بقيّةٌ
قد شادها في الخافقينِ فِدَاكِ
يا درّةَ الأمجادِ هل من سَائلٍ
عن فجْرٍ مَجْدٍ باسِمٍ يغشاكِ؟
بغدادُ ماذا قد يرومُ بِكِ العِدَا
والسيفُ والقرآنُ قد حَرَسَاكِ؟
وعنِ الكرامةِ والشهادةِ والهُدَى
والصِّيدُ قد لبَّتْ كَرِيمَ نِدَاكِ
وعنِ الجيوشِ الفاتحاتِ وأهلِها
وعنِ الفصَاحةِ تعتلي بِعُلاكِ
بغدادُ يا رمْزَ الثّباتِ تمسّكي
فالنّصر يا بغداد قد حيّاكِ
ولربَّمَا تَحيَا مَآثرُ أمَّتِي
وتعيدُها للمكْرُمَاتِ خُطَاكِ(216/8)
حول الانسحاب اليهودي من غزة:
الشيخ الدكتور نزار ريان القيادي في حماس للبيان:
لا بد من مواصلة العمل حتى يندحر العدو
استطاعت المقاومة أن تدحر المغتصب عن بلادنا في غزة، لكن احتفالنا وفرحتنا لا يعني السكوت عند هذا الحد؛ فلا بد من مواصلة العمل حتى يندحر العدو عن الضفة والقدس وحيفا ويافا وأراضي 48، ولن تقر عيوننا في حركة حماس ولن يهدأ بالنا حتى يخرج كل يهودي ويعود كل مستعمر وكل غريب إلى البلاد التي جاء منها. وإذا كان بعضٌ يستبعد هذا في الواقع السياسي المنهزم فإننا لا نستبعده وأمامنا قوله ـ تعالى ـ: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ؛ فحصونهم التي شيدوها يدمرونها بأيديهم الآن، وغداً ستدمر جميع المدن اليهودية ويعود الشعب الفلسطيني إلى دياره وأهل فلسطين إلى بلادهم.
وأضاف د. نزار في تصريحه للبيان أنه اتُّفِقَ على تكوين لجنة فلسطينية من مختلف الفصائل لوضع آليات تضمن عدم التفريط في الأرض المحررة؛ فأصحاب الأملاك الخاصة لا بد لهم من إقامة الدعاوى حتى يتم رد هذه الأملاك الخاصة لهم التي كانت قد اغتُصبت بشكل خاص من المستوطنات فيما مضى، والملك العام يبقى لخدمة المصلحة الوطنية؛ فإننا نحتاج إلى موانئ ومدن جديدة تستوعب أهالي المخيمات الذين يعيشون في أزقة ضيقة جداً؛ إذ لا بد من توسعة هذه المخيمات وإسكان الناس وإخراجهم من ضائقتهم كي يعيشوا؛ فهناك اسر شابة لا تجد لها مكاناً تحت الشمس في قطاع غزة.
وحول العلاقة مع السلطة بعد الانسحاب، قال: أؤكد أننا ننظر إلى إخواننا في السلطة وفتح على أنهم مسلمون لا نكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يرَ حِله؛ فنحن لا نكفّرهم، ولا نستحل دماءهم، ولا نحل التهجم عليهم بسلاح أو أي وسيلة أخرى؛ لكننا في الوقت نفسه لا نجيز لأحد أن يتهجم علينا بالسلاح؛ وعليه إذا اعتدى علينا رددناه ما أمكن؛ فنحن مجاهدون ودمرت بيوتنا، واستُشهد أولادنا وأصيبوا واسروا، ونحن الآن لا نريد أن يتغوَّل علينا أهلنا في السلطة بما يملكون من سلاح هو في حقيقته سلاح مدعوم من القوات الإسرائيلية، ولذلك نقوم بواجباتنا؛ أما المسؤولون عن هذا فهم معروفون لدينا.
أما بالنسبة للمفاوضة على سلاح حماس مع السلطة، فإن السلطة لم تفاوضنا على سلاحنا قط، ولم تتكلم فيه كلمة واحدة، وكان هناك حديث للسلطة سابقاً عن دور المرابطين وما ضرورتهم. كنا نقول: ما بقي الاحتلال بقي الرباط؛ فغزة محتلة، والضفة محتلة، وأراضي 48 محتلة، وسيبقى رباطنا مهما كلفنا ذلك. أما سلاحنا فلم يحدثنا فيه أحد، ولن نأذن لأحد أن يكلمنا فيه، وإذا تكلم أحد فسننهي الجلسة ونقوم؛ فالحدود المكشوفة علمتنا أن إسرائيل لا تحترم حدوداً، ولا تحترم شيئاًَ، وأنها في لحظة واحدة يمكن أن تعود إلينا وتدخل غزة؛ فما الذي يردها؟ الذي يردها المجاهدون والمرابطون؛ أما قوات الأمن الفلسطينية فقد رأيناها مرات ومرات متعددة قبل ذلك تفر، بل يبلِّغها اليهود أنهم سيدخلون منطقةٍ ما فيفرون منها، فلا يقف للدفاع عنها إلا الشباب المجاهدون.
وفيما يخص التكتلات الاستيطانية في الضفة فإن استطاعت إسرائيل أن تبقي مغتصباتها وقواتها في الضفة الغربية فلتفعل؛ فهم لم يخرجوا من غزة من لا شيء، بل خرجوا بالمقاومة، والمقاومة مستمرة في غزة والضفة، وقد تتغير آلياتها في غزة لكنها في الضفة ستحافظ على أي آلية تملكها، ونسال الله أن يلهمنا رشدنا في الضفة ويعيننا على تصنيع الأسلحة كالصواريخ ـ مثلاً ـ التي طردت اليهود من غزة والعمليات الاستشهادية وغيرها. سيخرج عدونا من الضفة الغربية كما يخرج من غزة الآن، لكن النَّفَس الطويل والنَّفَس القصير هو القضية.
ويختم د. نزار تصريحه بنظر حركة حماس إلى مستقبل غزة بعد الانسحاب، فيقول: مستقبل القطاع مرتهن باتصاله بالعالم، فإن اتصل القطاع بالعالم فمستقبله خير، وإن بقي سجناً كبيراً يحبس أكثر من مليون ونصف داخل الأسلاك الشائكة فلن يكون هنالك خير. نحن لا نزعم أننا حررنا قطاع غزة؛ فما لم يُحَرَّر جوُّنا وبحرُنا ومعابرنا فلن يكون هناك حرية، إن حُررت فالحمد لله، وإلاَّ فهي مزارع شبعا الجديدة التي تعني استمرار المقاومة بكل وسائلها في قطاع غزة.. فستستمر المقاومة، وسنقاتلهم ما بقي أي نوع من أنواع السيادة الاحتلالية اليهودية على قطاع غزة.(216/9)
الحوار الإسلامي بين الدواعي والمعوقات
(1 ـ 2)
إعداد: محمد بن شاكر الشريف ـ خباب بن مروان الحمد
في عالمنا المعاصر ولأسباب كثيرة تهتم العديد من الدوائر بالحديث عن الحاجة إلى الحوار الإسلامي النصراني؛ أملاً في التقريب بين الرسالتين، تمهيداً لتوحيد الأتباع في دين واحد يجمع بين الإسلام والنصرانية، وتُجنَّد لذلك هيئات ومؤسسات، وتُنفَق في سبيل ذلك الكثير من الأموال، لإعداد البحوث والدراسات بحثاً عما يدعونه من القواسم المشتركة تحت مسمى الإيمان بوجود إله خالق في مواجهة من ينكرون وجود الله؛ وذلك من خلال فعاليات كثيرة من المؤتمرات والندوات والبيانات المشتركة. ورغم ما يبذل من جهود ضخمة لإنجاح هذه المؤتمرات والندوات إلا أنها خائبة وخاسرة؛ لأنه لا يمكن حدوث تقارب حقيقي إلا إذا دخل الكفار في دين الله تعالى، وأما الخطوات التي يخطوها كِلا الطرفين للالتقاء في منتصف الطريق كما يزعمون؛ فإنها تبعد المسلم عن دينه حتى يكاد يخرج منه ولا تدخل الكافر في دين الإسلام.
والذي ينبغي أن تتجه إليه الهمة والجهد الحقيقي هو التقريب والتوفيق بين العاملين لدعوة الإسلام؛ لأن المسلمين في حاجة حقيقية لمثل هذا الجهد في واقعنا المعاصر، نظراً لما تتعرض له أمتنا الإسلامية من هجمة صليبية شرسة، ثم هو جهد يُبذل وينتج عنه ثمرة حقيقية؛ لأن عوامل نجاحها موجودة في الإسلام نفسه الذي يعمل له الدعاة. من هنا توجهت مجلة البيان إلى البحث في الحوار الإسلامي الإسلامي بين أطراف إسلامية تعمل لهذا الدين، تجمعها أطر عامة وكليات ثابتة، وإن حدث نوع من الاختلاف فيما دون ذلك، بغية إحداث تجانس أو تقارب فكري ومنهجي بين الجميع، ينتج عنه عمل يصب في صالح دعوة الإسلام. وقد تراءى لنا العديد من المحاور والأسئلة التي تخدم هذا الحوار، والتي تدور حول جدوى البحث عن التقارب في ظل النصوص التي يفيد ظاهرها قدرية الاختلاف، وأهمية التقارب الفكري والمنهجي ومدى مساهمته في إحداث التجانس والتعاون والتكامل بين الحركات الإسلامية، وما القواسم المشتركة التي يعمل من خلالها التقارب الفكري، وما خطة العمل الناجحة التي يسير عليها التقارب بين الحركات الإسلامية، والضوابط التي ينبغي مراعاتها في ذلك، كما تطرقت المحاور إلى المعوقات سواء منها الداخلية النابعة من ذاتنا وبيئة العمل، أو الخارجية القادمة إلينا التي تقف في سبيل الحوار والتقارب، فجمعنا العديد من هذه الأسئلة وتوجهنا بها إلى جمهرة من العلماء والدعاة في مختلف الأقطار الإسلامية فكان هذا التحقيق.
شارك في هذا التحقيق من أهل العلم والدعاة (بحسب الترتيب الهجائي) :
- الشيخ أحمد فريد من مصر.
- الشيخ تيسير عمران من فلسطين.
- الشيخ حامد البيتاوي من فلسطين.
- الشيخ حسن يوسف من فلسطين.
- الأستاذ جمال سلطان من مصر.
- الدكتور خالد الخالدي من فلسطين.
- الأستاذ خالد حسن من الجزائر.
- الشيخ رفاعي سرورر من مصر.
- الدكتور سفر الحوالي من السعودية.
- الشيخ سليمان أبو نارو من السودان.
- الدكتور صلاح الخالدي من الأردن.
- الشيخ عبد الله الغنيمان من السعودية.
- الدكتور عبد الله وكيل الشيخ من السعودية.
- الدكتور عبد الرزاق مقري من الجزائر.
- الدكتور عثمان جمعة ضميرية من سوريا.
- الدكتور عمر الأشقر من الأردن.
- الدكتور كسال عبد السلام من الجزائر.
- الشيخ كمال الخطيب من فلسطين.
- الشيخ محمد حسان من مصر.
- الدكتور محمد العبدة من سوريا.
- الدكتور منير محمد الغضبان من سوريا.
- الدكتور هَمَّام سعيد من الأردن.
- جدوى البحث عن التقارب:
البيان: هناك من ظواهر النصوص ما يدل على قدرية الاختلاف؛ فهل البحث عن التقارب يعد نوعاً من الجري وراء ما لا يمكن إدراكه أو الحصول عليه، أم أن هذه النصوص تفسيرات بحيث تلتئم مع النصوص التي تحض على الاعتصام بحبل الله جميعاً وعدم التفرق في الدين؟ بمعنى آخر: نريد ضبط العلاقة بين النص القدري والنص التشريعي.
- المشاركون:
يقرر الشيخ الدكتور سفر الحوالي أن دفع القدر بالقدر من عقيدة أهل السنة والجماعة، والذي أخبرنا بالافتراق أمرنا بدفعه بالاجتماع وأرشد إلى أسبابه ووسائله.
والفكرة نفسها يقررها الدكتور محمد العبدة فيقول: يجب أن توضح التفرقة بين القدر الكوني والقدر الشرعي؛ فإذا كان التفرق واقعاً فعلاً كما جاء في الأحاديث فإننا مأمورون شرعاً بالابتعاد عن التفرق ومأمورون بالتعاون على الخير، كما قال عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله» .
والفكرة نفسها أيضاً يدندن حولها الشيخ كمال الخطيب فيذكر أن علينا أن ندفع قدر الاختلاف بقدر الوحدة والتجمع والالتقاء والتقارب تماماً مثلما ندفع قدر الداء بقدر الدواء.
ويقول الدكتور هَمَّام سعيد: إذا كان الخلاف سنة من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه؛ فإن الاتفاق والاتحاد والعمل على إزالة الخلاف وأسبابه فريضة لقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
ويتطرق الشيخ أحمد فريد إلى قضية مهمة وهي أن القدر الكائن لا يُحتَجُّ به على ترك المشروع المطلوب؛ فالواجب على ذلك السعي وراء التعاون وجمع الكلمة على الحق، ولا يجوز ترك ما جاء به الأمر احتجاجاً بالقدر وتسليماً بالأمر الواقع.
وبنحوٍ مما تقدم يقرر الأستاذ خالد حسن أن التدافع سنة الله ـ تعالى ـ في الكون وعلينا أن ندفع قدر الاختلاف بقدر التقارب، ولا تعارض بين الأمر الكوني والأمر الشرعي؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يتعبدنا بما لا نطيق.
ويرى الدكتور عثمان جمعة ضميرية أن الخلاف إذا كان في جوانب تدخل تحت الإرادة وإذا كان فيما لا ينبغي أن يكون فيه خلاف واختلاف؛ فإن هذا ينبغي الدعوة إلى إزالته ورفع أسبابه ليعود الأمر إلى الاتفاق.
وكذلك يرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن الاختلاف ظاهرة بشرية، أي أنها حتمية لا فكاك منها، لكن التفرق مع ذلك مذموم، وهذا يعني العمل على دفعه.
ويرى الدكتور صلاح الخالدي أن الخلاف قدري؛ فلم يخلق الله الناس على نموذج واحد وإنما خلقهم متفاوتين، وكل إنسان نموذج خاص في عقله وفكره، وأن هذا الاختلاف إنما هو لضرورة تحقيق الخلافة في الأرض ـ وليس للتنازع والشقاق ـ فلا تعمر الأرض إلا بالتدافع والتزاحم بين هذه النماذج، لكن هذا التنوع والتدافع لا بد أن ينتج عنه الاختلاف بين الناس؛ فالاختلاف قدري لا بد أن يقع، وهذه سُنَّةُ الله التي لا تتخلف، ومع تأكيده على قدرية الاختلاف لكنه أيضاً يؤكد على أن القرآن دعا المسلمين في آيات كثيرة إلى الاتفاق والتعاون، ونهاهم عن التنازع والتفرق؛ فالله الذي جعل الاختلاف قدرياً بين المسلمين {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] ، هو نفسه الذي أمرهم بالاعتصام بحبله ودعاهم إلى التعاون، والتنسيق {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
ويذهب الشيخ تيسير عمران إلى أنه لا يصح التذرع بقدرية الاختلاف؛ لأن التذرع بالقدر شأنُ مَنْ لا يريد العمل، ويذكر أن النصوص تدعو إلى الوحدة وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأن المسلمين مكلفون دفع الاختلاف والفرقة والأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى ذلك.
ويرى الشيخ سليمان أبو نارو أن السعي والبحث عن التقارب والاجتماع فريضة شرعية قد نص عليها الكتاب والسنة، وتواترت في إجماع الأمة، وقد توعد الله أهل التفرق بما توعد به أهل الكبائر؛ فلا وجه أن تكون الدعوة إلى التقارب دعوة إلى ما يستحيل وقوعه؛ فنحن مأمورون بأن ندفع قدره الكوني بقدره الشرعي جهد الطاقة والوسع، وقد بيَّن أهل العلم أن النصوص الواردة في كل من الإرادة الكونية والإرادة الشرعية مجتمعة ومتسقة، وأن الإرادة الكونية لا تعني سوى المشيئة المطلقة القائمة على العلم السابق وهي واقعة لا محالة، كما أن الإرادة الشرعية تعني ما يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه من الإيمان والعمل الصالح، وبيان ما يبغضه وينهى عنه من الكفر والعصيان.
ويذهب الشيخ عبد الله الغنيمان إلى أن الله ـ تعالى ـ خلق بني آدم متفاوتين في الأفكار والأفهام والاتجاهات والميول؛ وكل ذلك من دواعي الاختلاف. قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] ، فهو يقرر بذلك قدرية الاختلاف، لكنه يبين أن أهل السعادة هم أهل الائتلاف فهم غير مختلفين. وأما أهل الشقاوة فهم أهل الفرقة والاختلاف، ثم يقرر أن الخلاف على ذلك قسمان: اختلاف على الرسل وما جاؤوا به؛ فهو المهلك لأهله، واختلاف من أجل تفاوت العلم والفهم، وهذا لا حرج فيه إذا لم يُتخذ سبيلاً للبغي والعدوان ولم يُجعل مسوغاً للفرقة والمعاداة، وبهذا يثبت أن التقارب والتآلف أمر ممكن وقريب، بل هو مأمور به وواجب، ولا يمكن أن نُؤمَر ونُكَلَّف بالممتنع، ولكن الوصول إليه يحتاج إلى جهد وعمل باستطاعة المسلم إدراكه وتحصيله.
ويذكر الدكتور منير محمد الغضبان أن قدرية الاختلاف ليست بالنسبة للمؤمنين وإنما هي بالنسبة للبشر بشكل عام {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] ، والاختلاف بين المؤمنين في الخط والمنهج هو خلل في التربية وليس قدراً مفروضاً عليهم، والأصل أن يفيء المؤمنون عامة والدعاة خاصة إلى كلمة سواء. وإلى نحوٍ من ذلك يذهب الأستاذ جمال سلطان حيث يذكر أن الخلاف ليس قدرياً وإنما هو اجتهاد بشري تحكمه خبرات الواقع وزوايا النظر إلى الأحداث وأولويات التصور عند كل طرف؛ فهذه التي تسبب الخلاف بين تيارات العمل الإسلامي.
ويرى الدكتور عمر الأشقر أن الخلاف الذي يذكره القرآن أنواع:
النوع الأول: خلاف في أصل الدين كالخلاف مع اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والبهائيين وأضرابهم.
والنوع الثاني: الخلاف القائم بين الفرق الإسلامية كالخوارج والمعتزلة والشيعة الذين أصَّلوا أصولاً تجمعوا عليها خالفوا بها أهل السنة والجماعة.
والنوع الثالث: الاختلاف في الأحكام وهو الخلاف المذهبي، والخلاف القائم اليوم بين الحركات الإسلامية ليس واحداً من هذه الثلاثة، بل هو اختلاف رأي واختلاف منهج، ويمكن أن يكون من نوع الخلاف المقبول، ومن الممكن لهذا النوع أن يتراجع أو يزول لو تواصلت قيادات العمل الإسلامي فيما بينها وجلسوا للحوار متآخين متحابين. وأما الشيخ رفاعي سرورر فيرى أن الاختلاف ظاهرة فكرية، ولكن له حقيقة قدرية وهي أن الاختلاف عذاب، وأن العذاب يُرفع بموجبات الرحمة، فتصبح موجبات الرحمة سبباً لمعالجة الاختلاف. قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] ومن موجبات الرحمة الدعاء وذكر الله وقراءة القرآن ومدارسة العلم؛ فهذا كله من أسباب رفع البلاء، وهذه ليست مسألة رقائق ولكنها حقيقة منهجية صحيحة مهمة جداً.
- أهمية التقارب الفكري والمنهجي ودور الحوار في تفعيل ذلك:
البيان: يتبين مما تفضل به الإخوة المشاركون أن الاختلاف بين الحركات الإسلامية ليس مسوِّغاً للتفرق والتشرذم؛ لأننا مأمورون باتباع الشرع الذي أمر بالجماعة ونهى عن التفرق، وهذا يعني إمكانية الاتفاق والالتقاء على كلمة سواء، وهو ما يجعلنا نبحث في توحُّد أو اتحاد هذه الحركات، لكن قد يكون اجتماع الحركات كلها في جماعة واحدة هدفاً بعيد المنال في ظل ظروف الدعوة المعاصرة لأسباب كثيرة منها الداخلي ومنها الخارجي، لكن هذا لا يعني التقاعس عن محاولة الوصول إلى ذلك، ولا ينفي أيضاً أهمية السعي لإحداث التقارب الفكري والمنهجي الذي يعد أحد أهم السبل التي تعين على الوحدة أو الاتحاد؛ فما رؤيتكم حول ذلك؟
- المشاركون:
يقرر الدكتور عمر الأشقر أن الحوار مهم جداً لتحقيق التقارب والتجانس بين تلك الحركات، ويضع لتحقيق ذلك قيداً مهماً بقوله: إذا أحسنوا العرض والحوار والاستدلال والبيان؛ فبذلك تُصْقَل الملكات وتُوضَّح المشكلات ونتقدم خطوة إلى الأمام.
ويؤكد الدكتور منير محمد الغضبان أننا لا نطمح إلى وحدة بين الحركات الإسلامية، لكن يجب أن نطمح إلى اتحاد بينها، وطريقه هو البحث عن التقارب من خلال الحوار ثم التنسيق ثم الاتحاد؛ فالاتحاد يتميز عن الوحدة بأن فيه محافظة على الكيان الخارجي لأي تنظيم إسلامي، مع تنازله عن بعض خصوصياته للمصلحة الإسلامية العليا. ويؤكد أن هذا لن يتم دون الحوار بين هذه الحركات.
ويذكر الدكتور عثمان جمعة ضميرية أن الاتفاق الكامل والتقارب الفكري ووحدة الأمة والعاملين في الدعوة كل هذا مما تحسن الدعوة إليه وبذل الجهد في سبيله؛ فالنية لا بد أن تتجه أولاً إلى تلك الوحدة وذلك الاتفاق، لكن الوحدة أو الاتحاد لا تعني أن يكون الجميع نسخة واحدة، وإنما يكفي اتفاقهم على قاسم مشترك أعظم يلتقون عليه فيكونون أمة واحدة في الغاية والهدف وفي الفكر والشعور، وفي السمات المميزة لهم؛ وذلك يمكن الوصول إليه بتوحيد منهج التلقي حتى يعصمهم من التفرق والشتات بما ينشئ من تصورات ثابتة وبما يضع لهم من موازين وقيم لا تتأثر بزمان معين أو مكان محدد.
ويبين الدكتور وكيل الشيخ أن الحوار مهم؛ لأن الإنسان مهما بلغ من العلم فهو في حاجة إلى أن يستنير برأي غيره، ويعدد فوائد الحوار بأنه مهم في اكتشاف الحق كما أنه مهم في اكتشاف فهم المخالف بما يعين على توجيهه أو تصحيحه، وهو مهم لإزالة أو تقليل كثير من صور البغي والعدوان بين المتخالفين، وهو مهم لرسم سياسة التعاون بين الهيئات والمؤسسات الإسلامية؛ إذ به تتضح المناهج والقدرات ومجالات العمل فيتم التنسيق المثمر، ثم هو في النهاية صورة من صور النصيحة التي يجب أن يبذلها المسلمون لبعضهم.
أما الدكتور همام سعيد فيوضح القضايا المهمة التي من شأنها أن تسهم بشكل فعال في إنجاح الحوار وهي الاعتراف بأن الخلاف سنة من سنن الله في خلقه، والاعتراف بأن العمل على الاتفاق فريضة من فرائض الدين لتحقيق مفهوم الأمة الواحدة، والرجوع إلى الأصول وعدم الجدل في الفروع، والانطلاق من نقاط الاتفاق لا نقاط الاختلاف، والانطلاق من المقاصد لا من الوسائل.
ويلخص الشيخ كمال الخطيب أهمية الحوار بقوله: من أجل اختصار المسافة بين صواب المصيب وخطأ المخطئ فليس من سبيل إلى ذلك إلا الحوار وتقليص نقاط التباين، مع تصحيح القصد بابتغاء وجه الله تعالى.
ويرى الأستاذ جمال سلطان أن الحوار مطلب شرعي وهو المنوط به فهم كل من المتحاورين منطلقات الآخرين ومسوغات مواقفهم، وعندما يغيب الحوار تتحول الأمور إلى الهواجس والظنون والشكوك والتصدعات وهذا هو الخطر؛ فالحوار يزيل هذه الهواجس والظنون، لكن في المقابل لا ينبغي أن يتصور أحد أن الحوار لا بد أن يتمخض عن وحدة في الصف الإسلامي، أو عن اتفاق كامل شامل بينهم؛ فالمطلوب من الحوار أن يتمخض عنه الالتقاء في مناهج العمل، وإن لم يتمخض عنه ذلك، فلن يخلو الحوار من الخير.
ويذكر الشيخ أحمد فريد أن الواجب على أهل العلم النصح للأمة والسعي إلى الاجتماع ونبذ الفرقة؛ لأن الاجتماع سبيل النصر بينما الفرقة سبيل الفشل وذهاب القوة {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ؛ ففي التقارب روح المودة وعود المخالف إلى الحق، ولا شك أن الحوار والنصح من أسباب الوصول إلى ذلك.
ويقدم الدكتور كسال عبد السلام نظرته للحوار من أنه السبيل لتوسيع المدارك، فيذكر أن مجال التقارب يكون أكبر كلَّما احتلت السعة في الفكر ثم في المنهج في مختلف التنظيمات مساحة أكبر وحيزاً أوسع يفضي إلى زوال العقبات والفواصل، وليس ثمَّة مجال إلى توسيع المدارك غير الحوار الفكري الصحيح، وقالبه السليم الموصول بخلق السعة في القلوب والنفوس حتى تصل المعاني إلى المدارك لتُفْحص، فيتقبل الطرفان منها ما يُقَوِّي ويرفضان ما يُضْعِف، دون شعور بنقص ولا عُقَد، وتحرراً من الالتزام بمنطق الغالب والمغلوب. ويشير إلى قضية مهمة وهي أن الرغبة في الوحدة أو التقارب لا ينبغي أن تكون باباً ينفذ منه من يريد الإخلال بالانسجام السلوكي في المجتمع الإسلامي ليكون الجري وراء الوحدة المظهرية هو أهم ما يُحرَص عليه، بينما يترك المضمون الذي هو الأساس في صلابة البناء العام.
وينظر الأستاذ خالد حسن إلى أهمية الحوار وضرورته من خلال أمرين: الأول: اشتراك الجميع في توجه الأمر إليهم بطلب الحق والصواب والعمل به؛ وهذا لا يتم على النحو المأمول إلا بالحوار. والثاني: أنه ليس بمقدور المتصدر للرأي وصناعة القرار ـ مهما علا قدره ـ أن يوفَّق للصواب منفرداً في كل حين وآن، وهذا ينطبق على المجموعة أو الجماعة أو التنظيم كما ينطبق على الفرد؛ لأن الجماعات والتنظيمات يغلب عليها التطابق والتماثل فيصير حوارها حواراً داخلياً لا مشاركة فيه للغير، وهو ما يدل على أهمية الحوار وضرورته في إشراك الغير في الرأي والنظر طلباً للحق ووصولاً إلى الصواب.
ويرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن التقارب الفكري والمنهجي هو سبيل الوحدة والتعاون بين الحركات الإسلامية، وان هذا التقارب يمكن أن يأتي من خلال الحوار الدائم، ويقترح لتحقيق ذلك أن يتم الاتفاق على منهج عام في تحليل الأحداث، وترتيب العلاقات بينهم والعلاقات مع غيرهم، وما الذي يجب تقديمه وما الذي يجب تأخيره؟ وما المفاسد التي يجب أن تُدْرَأ أولاً؟ وما المصالح التي تُمنح الأولوية في السعي لتحقيقها؟ وما المساحات التي يجب التقارب فيها؟ وما القضايا التي لا بأس أن يختلفوا فيها؟ وهو مع ذلك يؤكد أن الاتفاق الكامل غير ممكن؛ فالاختلاف الفكري موجود داخل الجماعات، والحركة الواحدة، كما أن الاندماج أمر بعيد المنال، ويذكر أنه سعى في بداية الثمانينيات لعدة سنوات مع عدد من الدعاة الأفاضل بهدف تحقيق الاتفاق الكامل والاندماج لكنه أدرك بالتجربة أن الهدف غير واقعي ولا بد من الاهتمام بالقواسم المشتركة.
وأما الشيخ سليمان أبو نارو فمع أنه مقر بأن السعي والبحث عن التقارب والاجتماع فريضة شرعية، إلا أنه يريد أن يكون الهدف الأعلى والغاية القصوى الاجتماع والتوحيد وليس التقارب، ويعلل لذلك بقوله: لأن جهد الإنسان قد لا يبلغ غايته؛ فإذا جعلنا الغاية التقارب فأخشى أن تكون النتيجة البقاء على التفرقة، وإن العجز في الطموح يحكي شيئاً من الضعف في الهمة والعزيمة في الأمر، إن الأمثل في أمرنا هذا الوحدة والاجتماع وليس التقارب، ولكن ضرورات الواقع المؤلم هي التي فرضت علينا الحديث عن التقارب.
ويرى الدكتور محمد العبدة أن الحديث عن الوحدة والاتحاد وإن كان مطلوباً لكنه في الظروف الحالية التي تمر بها الحركة الإسلامية كلام مثالي؛ والأوْلى من ذلك إذا أردنا أن نكون واقعيين أن يكون الكلام عن الحوار والتشاور والتقارب، ويضع القواعد التي يراها للإفادة من الحوار ومساعي التقارب؛ فمن ذلك: العودة إلى تفعيل دور العلماء في قيادة الأمة، وتفعيل دور المؤسسات الثقافية والعلمية؛ وإشاعة الحديث عن المصلحة العامة مصلحة الإسلام والمسلمين، وتطهير القلوب من الحزبية والحسد وحب الرئاسة.
وقريب من ذلك ما يذكره الشيخ تيسير عمران وهو أن محاولة جمع الحركات الإسلامية في بوتقة فكرية واحدة ومنهج عمل واحد طمع في غير مطمع، لكن المأمول أن تجتمع هذه الحركات في إطار من التنسيق والتكامل والحوار؛ فإذا قام الحوار في جو من الاحترام المتبادل والنقاش العلمي والبحث عن الحق دون اتباع الهوى أو تعصب للرأي فإنه سيثمر بإذن الله تعالى.
وعلى الدرب نفسه يقول الشيخ محمد حسان: القول بدمج وتوحيد هذه الجماعات أو الحركات على منهج واحد طمع في غير مطمع وأمل تحول دونه حوائل وموانع شتى، وهنا لا بد من الحوار كخطوة عملية على طريق التقارب.
وينظر الدكتور صلاح الخالدي إلى الموضوع من زاوية أخرى فيذكر قول الله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] ويقول: تدعو الآية أهل الكتاب إلى الالتقاء بالمسلمين والحوار معهم والانطلاق في ذلك من أسس ثلاثة: عبادة الله وحده، والإيمان به إلهاً وربّاً، وعدم الشرك به وعدم اتخاذ غيره إلهاً وربّاً؛ فإن أعرضوا عن ذلك ثبت المسلمون على الحق. ويعطف على ذلك بقوله: إذا كانت الآية تفتح باب الحوار بين المسلمين والكافرين فإن الالتقاء والحوار بين المسلمين أوْلى، وإمكانية نجاحه أكبر، وكل ما حول الجماعات الإسلامية يوجب عليهم ذلك اللقاء والحوار.
وينظر الشيخ حسن يوسف إلى أهمية التقارب بين الحركات من زاوية تحديات الواقع التي تجابه المسلمين؛ فهو يذكر أن العاملين في دائرة العمل الإسلامي كلهم مستهدَفون بقيادة أمريكا في حربها للإسلام تحت مسمى الحرب على الإرهاب، وليس أمام العاملين إلا أن يتكاتف الجميع كي يقفوا أمام هذه الهجمة الشرسة التي تسعى لسحق العمل الإسلامي، وإلا بقوا أشتاتاً متفرقين حيث يسهل ضربهم، وفي ذلك خسارة كبيرة للمشروع الإسلامي.
- القواسم المشتركة:
البيان: يكاد أن يكون هناك إجماع على أهمية التقارب الفكري والمنهجي بين الحركات الإسلامية وعلى ضرورة إدارة الحوار بينها من أجل تعميق هذا التقارب وإزالة ما يعطله أو يعوقه، ولا شك أن من عوامل نجاح مثل تلك الحوارات أن تكون هناك قواسم مشتركة بين المتحاورين تصلح منطلقا للحوارات، منها ينطلقون وإليها يفيئون؛ فهل توجد مثل هذه القواسم التي تجمع بين الحركات الإسلامية؟
- المشاركون:
ينظر الشيخ حسن يوسف إلى أن القواسم المشتركة هي القضايا التي تتفق فيها الحركات الإسلامية، ولذلك يقرر أن القواسم المشتركة التي يمكن أن تأتلف حولها الحركات الإسلامية بحيث تكون طريقاً للحوار البنّاء الذي يساهم في عملية التقارب المنهجي والفكري وهذه القواسم كثيرة جداً؛ في حين أن أوجه الخلاف ضيقة جداً، ومن القواسم الكبرى المشتركة أن ربنا وإلهنا واحد، ورسولنا واحد وكتابنا واحد وهمنا واحد وعدونا واحد ومشروعنا مشروع واحد.
وعلى المنهج نفسه يقول الدكتور صلاح الخالدي: إنَّنا نعتقد جازمين أنَّ صور ومظاهر الاتفاق بين العاملين للإسلام كثيرة، وأنَّ القواسم المشتركة بينهم عديدة، وأنَّ مظاهر الاختلاف قليلة، ويعدد القواسم المشتركة بين الحركات الإسلامية فيذكر منها القرآن والسنة وهما أساس منهج الدعوة والعمل والحركة، والاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ في الدعوة والحركة والعمل والجهاد، وأن المرجع عند الاختلاف هو القرآن والسنة، وأن الرجال تُعرف بالحق ووزن أفكارهم وأقوالهم بميزان الحق، وأن الهدف مشترك والعدو مشترك.
وعن تلك القواسم يقول الدكتور عمر الأشقر: الإسلام يجمعهم، وأصوله توحدهم، قبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، يعتمدون على الكتاب والسنة فيما يأخذون ويدعون، ثم يبين أنه لا ينبغي التوقف عند ذلك، بل ينبغي أن يتقدموا خطوة إلى الأمام لتعميق أصول التلقي عند أهل السنة والجماعة وأصول الفقه للكتاب والسنة والأصول التي يقوم عليها العمل، وأصول التآخي بين المسلمين، والأصول الضابطة في التعامل بين الحركات.
ويعدد الدكتور عبد الله وكيل الشيخ أهم القواسم المشتركة التي يمكن أن يتحقق بها التقارب، فيذكر منها الاتفاق على أصول الدين الكلية في مجالات الدين المتعددة، والاتفاق على الأدلة المتفق عليها بين أهل الاستنباط والفقه، والاتفاق على التحاكم إلى أدلة الشرع حين الخلاف واعتبارها هي الفيصل في حل النزاع، واعتبار لغة العرب هي الأصل في فهم نصوص الشرع وعدم الخروج على مدلولاتها لفهم الأدلة، ومن ثمَّ الحذر من الوقوع في التأويلات التي لا تقرها لغة الشريعة، ومراعاة مصلحة الأمة والاجتهاد في تحقيقها والاعتزاز بدين الإسلام، والإيمان بأنَّه المنهج الصالح المصلح للحياة وقصر الاستمداد عليه، مع الاطلاع على ما عند الناس من تجارب في شؤون الحياة مما يفيد في تطبيق النصوص الشرعية وتوسيع دائرة الأخذ بها.
ولا يخرج الدكتور همام سعيد في نظرته للقواسم عما تقدم؛ حيث يقرر أن القواسم المشتركة بين الإسلاميين أكثر من نقاط الاختلاف ومن هذه القواسم التي يشترك فيها الجميع أن الله ـ تعالى ـ ربنا، وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم - رسوله إلى العالمين، وأن الإسلام حق، وأن الدعوة إلى الله واجبة، وأن صلاحية الإسلام للعالم أجمع وللزمان كله، وأن الحكم بما أنزل الله ـ تعالى ـ فريضة محكمة من فرائض الدين، وأن الإمامة الكبرى فريضة من فرائض الدين، وأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وأن الكفر والشرك فتنة عظمى لا خلاص منها إلا بقوة المسلمين وجهاد أعدائهم.
ولا يخرج أيضاً الدكتور خالد الخالدي في تعداده للقواسم عما تقدم؛ غير أنه يؤكد على قاسم مشترك وهو كون الحركات الإسلامية تواجه عدواً مشتركاً من الأنظمة العلمانية والقومية الفاسدة تستهدفهم جميعاً، وأن سجونهم لا تفرق بين أتباع هذه الحركات على تعدد انتماءاتهم، وكذلك العدو الخارجي هو قاسم مشترك حيث الصليبيون والشيوعيون واليهود يستهدفون الجميع؛ ومن ثم ينبغي أن يكون هذا باعثاً على الوحدة. ويؤكد على مسألة مهمة وهي أن الجماعات المطلوب تقاربها هي الجماعات ذات التقارب الكبير في العقيدة والمقتنعة بأن تطبيق الإسلام في شؤون الحياة كافة يؤدي إلى حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فهؤلاء هم المقصودون بموضوع التقارب وليس الجماعات الأخرى الخارجة.
أما الأستاذ خالد حسن فإنه ينظر إلى القواسم المشتركة نظرة أخرى؛ حيث يراها القضايا التي ينبغي أن تعتني بها الحركات الإسلامية وتوليها اهتمامها، فيقول: القاسم المشترك الأبرز هو المستقبل وكذا التحديات المشتركة والعمل على إقرار الحريات المشروعة وتحقيق الاستقلال الثاني استقلال الإرادة والقرار وقضايا التنمية، ومواجهة الاجتياح الإمبريالي الظالم، والاستفادة من الغارة على المجتمع الإسلامي.
وعلى المنهج نفسه يرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن من أهم القواسم الاتفاق العام على أولويات العمل الإسلامي والصبر على الاختلاف، والاهتمام بوحدة الأمة الإسلامية، والابتعاد عن الفتن التي أصبحت تتغذى منها التيارات المعادية للمشروع الإسلامي وثوابت وقيم المسلمين، والتعاون والعمل المشترك من أجل قضية فلسطين، وكذلك المشاريع والمؤسسات الإعلامية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية التي تسع الناس جميعاً.
ومن المنطلق نفسه يرى الدكتور عبد السلام كسال أن أهم القواسم التي يجب التزامها: أنه ينبغي اعتبار أن الوعاء الذي تصب فيه الجهود واحد انطلاقاً من وحدة الهدف، وأن نجاح الغير نجاح للجميع؛ لأن فيه تحقيقاً للكفاية وإزالة للحرج لما لم يؤدَّ بعدُ بفعل القصور، كما أن إخفاقه زيادة في العبء. كما ينبغي التجرد من الأنانية؛ لأن الفرد مهما عظمت قدرته إلا أنها تبقى محدودة، وكذلك الابتعاد عن حب الزعامة؛ لأنها تعمي البصيرة عن إمكانات الآخرين ويكون من أسوأ نتائجها دفن طاقات لو أُخرجت من تحت التراب لأثمرت بذرتها نتاجاً كبيراً، إضافة إلى خفض الجناح ومعالجة مواطن الضعف في الآخر بدلاً من إقصائه.
وينظر الدكتور عثمان جمعة ضميرية إلى القواسم المشتركة أنها تشمل القضايا المتفق عليها أصلاً بين الحركات والتي من أهمها المنهجية التي توحد أمة التوحيد وهي العقيدة وأصولها وما يتصل بها، والاتفاق على المصادر التي نستقي منها، كما أنها تشمل القضايا التي ينبغي أن يتفق عليها العاملون والتي من أهمها النظر إلى طبيعة عمل الدعاة وتوزيع مهامهم ومسؤولياتهم والجهد الذي يقومون به؛ فإن الساحة تتسع لجميع العاملين، وما يعجز عنه بعضنا قد لا يُعْجِز الآخرين؛ وعندئذ تنصبُّ الجهود كلها لتحقيق هدف منشود وغاية واحدة.
وينحو الأستاذ جمال سلطان هذا المنحى، فيذكر أن القاسم الأعظم تحقيق المرجعية الشرعية؛ بحيث يكون الحكم بكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم -، ومن القواسم أيضاً إعادة روح النهضة والسبق والاستعلاء العلمي في مجالات العلوم والشؤون التي تخلف فيها العالم الإسلامي، وأيضاً إعادة العدل والحرية والحق والكرامة، كذلك تحقيق استقلالية العالم الإسلامي دولاً وشعوباً في المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجوانب الثقافية والعلمية.
ويكاد ينفرد الشيخ رفاعي سرور بعدم قناعته بفكرة البحث عن قواسم مشتركة؛ حيث يقول: هذه فكرة غير صحيحة بالمرة؛ لأن المسألة ليست توافيق وتباديل، ويقدم رؤيته بأنه من خلال تصور الحركة الإسلامية أحدد العلاقة بين الاتجاهات الفكرية، يعني ممكن أن أكون أنا مثلاً اتجاه كذا، وأتعامل معك كاتجاه كذا، تعاملاً صحيحاً محققاً النتائج المطلوبة، وذلك يوصلنا للغاية، من خلال إطار سياسي.
- خطة العمل من أجل التقارب:
البيان: تبين مما تقدم أنه يوجد تصوران عن القواسم المشتركة: أحدهما: أنها القضايا التي تتفق عليها معظم الحركات سواء في التصور النظري أو في التصرف العملي. والثاني: أنها القضايا المهمة التي ينبغي أن يحدث بشأنها اتفاق بين الحركات. فالأولى تمثل الواقع الكائن؛ بينما الثانية تمثل الواقع المأمول، وأياً ما كان الأمر؛ فإنه لا يوجد مسوِّغ شرعي لأحد في التباعد والتجافي وعدم الائتلاف مع إخوانه الباقين، ورغم العواطف المشحونة بأمل النجاح، فإن العواطف وحدها لا تغني عن وجود خطة واضحة يُسار عليها لتحقيق المراد؛ إذ التقارب والحوار عمل، والعمل لكي ينجح ويحقق المراد منه لا بد له من خطة واضحة قابلة للتحقيق، وفق الإمكانات المتاحة؛ فما الخطة أو المنهج المناسب للسير عليه؟
- المشاركون:
يقول الشيخ محمد حسان: هذا سؤال عملي في غاية الأهمية، والمنهج له ثلاثة جوانب لا تتجزأ ولا ينفصل منها جانب عن الآخر: جانب إيماني، وجانب علمي، وجانب عملي. ففي الجانب الإيماني تكون الخطوة العملية الأولى تصحيح العقيدة والمنهج حتى لا ننحرف عن الإسلام وسيلةً ونحن نتجه إليه غايةً. وفي الجانب العلمي ينبغي التأصيل العلمي لقضية الخلاف وذلك بمراعاة عدة أصول: الأصل الأول: معرفة أنواع الخلاف، والأصل الثاني: معرفة أسباب الخلاف، والأصل الثالث: تحقيق أدب الخلاف. وأما الجانب العملي فيكون من خلال عدة أمور: منها التقاء القادة والموجهين والعلماء المسؤولين في الحركات للتدارس والنقاش، التعاون في بعض الأنشطة التربوية والدعوية، تكوين مجلس للشورى لفض النزاعات والخصومات والتقريب بين الإخوة المتنازعين، منع كل جماعة لأبنائها من تناول مسائل الخلاف إلا لمن كان أهلاً لذلك حتى لا تتسع هوة التفرق والتنازع.
أما الأستاذ جمال سلطان فيرى أنه لا يوجد شيء نهائي في الأمر، ولكن يوجد تأملات واجتهادات من واقع الخبرة ومن واقع ما تم من خلافات وجدل بين فصائل العمل الإسلامي، ولكن هناك مفاتيح للحوار وأهمها إحسان الظن بين المسلمين.
ويذكر الدكتور صلاح الخالدي بعض القواعد التي تعين على التقارب فيذكر منها: وجوب شعور قادة الحركات الإسلامية بأهمية الحوار والتقارب وضرورته، جعله خطة استراتيجية للحركات الإسلامية تلتقي عليه كل فصائلها وأساليبها وأدبياتها وليس هبَّة عاجلة أو حماسة فاترة، تداعي مفكري الحركات الإسلامية إليه وتفكيرهم في استمراره وإنجاحه وتربية أفراد الحركات عليه، استمرار الحديث عن التقارب والتعاون والحوار في مختلف وسائل الإعلام لدى الحركات وعقد المنتديات وإعداد الأبحاث حوله، الوقوف أمام دعوات تعميق الفرقة بين الحركات الإسلامية والرد على أصحابها وتحذير الاتباع من الاستجابة لهم.
ويتحدث الدكتور منير محمد الغضبان عن منهج السعي للتقارب بين العاملين للإسلام والدعاة إليه في عدة نقاط: الأولى: القناعة بأنه لا يجوز شرعاً تفرق العاملين للإسلام، وإن كان هذا لا ينفي مراعاة خصوصية العمل لاختلاف البيئة والقطر الذي تعمل فيه الحركة الإسلامية، بل إن التوازن في تفهُّم خصوصية إقليمية كل عمل إسلامي وتفهُّم وجوب العمل على التنسيق هو أهم عناصر منهج حوار التقارب، النقطة الثانية: عدم احتكار العمل والحق والهدى عند فريق واحد بحيث ينظر إلى ما سواه على أنه ضلال أو انحراف. والنقطة الثالثة: فصل المبادئ عن الأشخاص.
ويعلق الدكتور عثمان جمعة ضميرية على طلب الخطة بقوله: نعم هذا حق لا مرية فيه؛ فإن التخطيط للأمر في غاية الأهمية، ثم يضيف: إن هذه الخطة لا يستقل برسمها فرد واحد أو مجموعة أفراد عاديين، بل ينبغي أن تتجه لها جهود العلماء والدعاة والمفكرون؛ وذلك كي تكون الخطة ناجحة قويمة.
وعلى المنهج نفسه يقول الشيخ أحمد فريد: تحديد خطة كاملة وشاملة للوصول لهذا الهدف يحتاج إلى حوار ومشاورة، ثم يذكر بعض المفاتيح في هذا الأمر فيشير إلى ضرورة الإخلاص ونبذ العصبية المقيتة، وعدم تغليب المصالح الشخصية، كما يشير إلى أن ولاء هذه الحركات ينبغي أن يكون لإمام واحد متبَع على كل حال وهو الرسول الأعظم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم - وجماعة واحدة هي جماعة الصحابة رضي الله تعالى عنهم. كما يشير أيضاً إلى عدم الغلو في مشايخ الدعوة كما يفعل متعصبة المقلدة الذين يقدمون كلام علمائهم على النصوص الشرعية، ثم يذكر بعض الخطوات العملية في ذلك، ومنها: حث الدعاة على التواصل والتناصح في المناسبات، عمل ندوات يشترك فيها أكثر من داعية من عدة حركات على أن يكون موضوعها من الموضوعات التي لا تختلف فيها هذه الحركات؛ وذلك بقصد الإيناس وكسر الحواجز، عمل دورات مكثفة للتقارب وتوحيد الفكر، عمل مؤتمر سنوي يدعى إليه وجهاء من الجماعات، عمل لجنة للتقارب بين أهل السنة وأهل السنة؛ فهذا أوْلى من البحث عن التقارب في خارج هذه الدائرة، إصدار نشرات أو مجلات متخصصة لهذا الغرض يكتب فيها كتاب من سائر الجماعات بقصد ترسيخ التقارب، الاتفاق على ميثاق العمل الدعوي الذي يشمل أدب الخلاف والإنصاف في التعامل مع الأفراد والجماعات.
وأما الأستاذ خالد حسن فيرى أن مشاريعنا لا يمكنها أن تحقق أثرها المرجو ما لم نرسخ مفهوم القيادة الجماعية والذي يعني أن القيادة مؤسسة وتخصصات وتقاسم أدوار عن طريق المنهجية في الأداء القيادي الجماعي والذي يظهره دليل القيادة العملي؛ وعلى ذلك فإن الخطوة الأولى في خطة العمل هي فك الحصار عن العقل الذي فرضه الافتتان بالمشيخة ووصاية التنظيم، والخطة أو المخرج إنما يصطنع بعد ذلك اصطناعاً وينضج بالمعاناة وإعمال العقل وإخصاب الرأي والمشاركة في الصواب، أما الانتظار حتى تصل إلينا الخطط الجاهزة المفصلة التي تأتي من القائد الفذ أو القائد الملهم أو رجل الملحمة فإن هذا قد ولى عهده وانقضى.
ويشير الدكتور عمر الأشقر إلى نقطة مهمة وهي أن مجال عمل الجماعات غير متداخل؛ فكثير من الأعمال غير متضاربة أو متعارضة وإنما هي متنوعة، لكن الجهد الأكبر في الحوار ينبغي أن يُبذل من أجل بلورة الأهداف المشتركة التي ينبغي التعاون فيها، ويقول: حبذا لو تشكل مجلس إسلامي أعلى تجتمع فيه قيادة الجماعات الإسلامية للتحاور والتشاور والتقارب فيما بينها، لتجاوز سوء الفهم القائم هنا وهناك، وللتخلص من الخلاف المفتعل والمتوهم، ولبلورة الأصول الجامعة للعمل الإسلامي، ولتخفيف غلواء المتشددين في النزاع؛ فإن لم نستطع بلوغ القمة في التوحد فلا أقل من أن نكون أقرب إلى القمة بخطوة.
ويرى الدكتور خالد الخالدي أن الخطة يمكن أن تتكون من: تشكيل لجنة أو هيئة مختصة مقتنعة بأهمية التقارب بهدف العمل على تحقيقه بين الإسلاميين، تتكون من العلماء والعاملين والدعاة الجادين الذين يحظون باحترام الجميع، ويراعى في هؤلاء الأعضاء أن تتنوع انتماءاتهم حسب تنوع الحركات الإسلامية، تنظيم مؤتمر سنوي يدعى إليه مندوب أو أكثر عن كل حركة، كما ينبغي لهذه اللجنة أن تبتعد عن تلقي الدعم من جهات رسمية وأن تكون نفقاتها من المتبرعين الذين يحرصون على التقارب، وأن تقوم بإقناع الإسلاميين بضرورة التقارب من خلال طرق متعددة كالمؤتمرات واستكتاب كُتَّاب معروفين في مجال التقريب بين الحركات ونشر مقالاتهم وكتاباتهم.
وأما الدكتور همام سعيد فيرى أن الخطة ينبغي أن تكون من مرحلتين: الأولى: الحوار والاتفاق بين الحركات ذات الأصل الواحد لحسم الجدل بينها والاتفاق على قواسم تصلح لحوار الآخرين، والثانية: الحوار بين الأطراف التي تحسن الظن ببعضها حتى يؤدي الحوار إلى نتائج سليمة. وأما الأطراف التي تسيء الظن ببعضها فهذه تحتاج أولاً إلى التعارف عن قرب في بعض المشاريع العلمية أو الاجتماعية لإزالة الشكوك وتحسين المناخ.
ويقدم الدكتور كسال عبد السلام رؤيته بقوله: الهدف إذا لم يوجد له من يفكر فيه ثم يسعى له لن يجد له إلى النور طريقاً، وينبغي على الدعاة أن يعوا هذه الحقيقة ويسعوا إلى تحقيقها؛ وذلك باتباع جملة من الوسائل، ثم يذكر من هذه الوسائل: المبادرة، معرفة طبيعة الأطراف حتى يكون البناء بدل الهدم والجمع بدل التشتيت، التحرك باتجاه الأطراف المختلفة بطرح الفكرة والاستماع بغية الإثراء، جمع الأطراف المختلفة حول طاولة للحوار الثنائي أو المتعدد الأطراف، الانتهاء إلى جمع الأطراف جميعاً في ندوة تؤسس للعمل المشترك توضع له أسس وأهداف ومراحل ووسائل.
ويضع الدكتور عبد الرزاق مقري شروطاً على الخطة بأن تأخذ بعين الاعتبار دراسة معطيات البيئة الداخلية من حيث القوة أو الضعف سواء بالنسبة للأمة أو الحركات الإسلامية، وكذلك معطيات البيئة الخارجية وما يميزها من تهديدات، على أن تتضمن هذه الرؤية أهدافاً كبرى يسعى الجميع لتحقيقها، والتي يمكن تحديدها في ستة أمور: الفكرة الإسلامية من حيث خدمتها بالتعليم والدراسات والبحوث، القيادات والرموز من حيث الإعداد والتأهيل، التنظيم من حيث الابتعاد عن الارتجال والفوضى والاهتمام بالعمل المنظم مع ضرورة تطوير الأنماط التنظيمية القديمة، الجمهور من حيث الارتباط به وحل مشاكله وتربيته بواسطة العلم المنهجي، المؤسسات الحكومية من حيث إنهاء القطيعة الموجودة بين الحركات الإسلامية والمؤسسات الحكومية التي هي ملك الشعوب وليس الأنظمة.
- ضوابط التقارب والتعاون:
البيان: جرى الحديث عن خطة أو منهج العمل الذي ينبغي اتباعه في سبيل إحداث التقارب بين الحركات الإسلامية المتعددة، لكن مع ذلك وبرغم النوايا الحسنة قد تبقى بعض القضايا العالقة التي لا تجتمع عليها الكلمة، وهذا يتطلب أن نحدد سقفاً لتلك القضايا حتى نتفادى أمرين خطيرين: أولاً: تمييع القضايا جرياً وراء البحث عن التقارب، ثانياً: التضييق على إمكانية التقارب بزعم الثبات على المواقف، وهذا يقودنا إلى الحديث عن الضوابط التي ينبغي مراعاتها أثناء العمل على التقارب بين الحركات الإسلامية؛ فما موقفكم من ذلك؟
- المشاركون:
يقول الأستاذ خالد حسن: هذه المسألة لا يمكن حسمها نظرياً، وإنما تنضج وتتحدد نسبياً من خلال التواصل والاحتكاك والتفاعل.
ويقول الدكتور كسال عبد السلام: ما يجمع من أمور الدين أكثر بكثير مما يمكن أن يُختلف فيه، ومن هذا الباب يمكن تحديد سقف هذه القضايا فيما يلي: بالنسبة للأهداف يمكن إجمالها في هدفين كبيرين: الارتقاء بالمجتمع إلى المستوى المنشود، وإيجاد البدائل الريادية من الرجال والبرامج، وبالنسبة للمبادئ يمكن جمعها في مسألتين: اعتماد الثابت من الدين، وفتح مجال الاجتهاد في خصوصية البيئات والظروف بما لا يستلزم قراءة موحدة للقضايا الاجتهادية. وبالنسبة للوسائل: فبالإضافة للوسائل المشروعة كلها جعل التعاون بين التنظيمات والحركات من أهم الوسائل لترتيب البيت الإسلامي، واعتماد القدرات الفكرية والبشرية والمادية لتحقيق الهدف المنشود، وبالنسبة للاستثناءات: مراعاة الخصوصيات الموضوعية لكل طرف حفاظاً على تصفية الأجواء ولبناء إطار من الثقة يقوي هذه الرابطة.
أما الدكتور عبد الرزاق مقري فيرى أن أهم ضابط هو الأخوة وحسن الظن، وأمن الدعوة الإسلامية وسلامة واستقرار الأمة الإسلامية، والثبات على ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق المقاصد والقواعد الشرعية.
ويشير الشيخ أحمد فريد إلى أهمية العامل الوجداني في تجاوز القضايا العالقة، فيرى أنه بعد بذل الجهد في نشر معاني الأخوة والألفة وحرص كل جماعة على التقارب مع الأخرى ومحبة الخير لها فقد تزول هذه الاختلافات أو يظهر سبيل لحلها خاصة مع الإخلاص والدعاء والرجاء.
ويرى الشيخ كمال الخطيب أن السقف الذي يحدد التقارب والتعاون هو عدم الاختلاف في العقائد والأحكام والشرائع. أما الاختلاف في وسائل العمل والتركيز على جانب دون جانب آخر فلا ينبغي أن يحول دون إمكانية العمل المشترك والتقارب والتعاون.
ويركز الشيخ سليمان أبو نارو على أن السقف الذي لا يضر بعده تفاوت في وجهات النظر هو الاجتماع على منهج الحق منهج أهل السنة والجماعة والذي لا سبيل إلى تجاوزه، وحينها لا يضر الخلاف في شيء من التفاصيل خاصة مع إعمال حسن الظن، ودوام التناصح، وانتهاج أحسن القول، مع الابتعاد عن أساليب الوصاية والحرص على تبعية بعضهم للآخر.
ويذكر الدكتور همام سعيد أهم ضوابط التقارب والتعاون: التسليم بأننا لا يمكن أن نتفق على جميع نقاط الاختلاف، تكثيف برامج العمل في الجوانب المتفق عليها، طلب الهدى من الله تعالى، الالتزام بالآداب الشرعية في اجتناب الغيبة والظن والتجسس.
ويربط الدكتور سفر الحوالي السقف بالقضية التي يجري فيها التباحث فيقول: إن الثوابت والقطعيات تظل بدون تنازل، ويظل هدف الاجتماع هو الذي يحدد الأولوية؛ فإذا كان الاجتماع لمقاومة العدو فالمراعَى هنا هو إحداث النكاية وتقديم ما يقوِّي الشوكة ويحقق النصر، ونجتنب ما قد يشق الصف ويثير التنازع المفضي إلى الفشل وذهاب الريح كما ذكر الله تعالى. أما إذا كان الاجتماع لغرض الإصلاح الاجتماعي مثلاً فيكون الاهتمام بثوابت الفضيلة والقيم، وتجنب ما قد يفضي إلى الفساد والرذيلة.
ويعدد الدكتور منير محمد الغضبان ضوابط التقارب فيذكر منها: التنازل عن الاعتداد بالذات وفهم الآخر وحسن الظن به والانطلاق من القاعدة الفقهية العظيمة التي تقول: موقفي صواب يحتمل الخطأ، وموقف أخي خطأ يحتمل الصواب، وكذلك قاعدة: نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه؛ وذلك في داخل الصف الإسلامي، واعتبار العاملين للإسلام جميعاً مدرسة تكاملية لا تنابذية.
وينظر الأستاذ جمال سلطان إلى السقف الذي لا ينبغي تجاوزه على أنه الثوابت الشرعية والتي سماها الأولون: المعلوم من الدين بالضرورة، ويستدرك على ذلك بقوله: لكن لا ينبغي أن نوسع هذه الدائرة؛ لأنها تمثل خطراً، وتوسيعها ضد مصلحتنا ولن يكون مفيداً؛ فالمعلوم من الدين بالضرورة والثوابت العقدية هي ثوابت العمل الإسلامي؛ أما ما بعد ذلك من اجتهادات فكرية وعقلية ومنهجية فما دام أنها لم تصطدم بقواعد شرعية واضحة فلا بأس في ذلك.
- منهج السلف الصالح ودوره في الحوار والتقارب الفكري والمنهجي:
البيان: سلفنا الصالح لهم مكانة عالية مرموقة وهم قمة سامقة في فهم الدين والعمل به، وما يمر بمجتمعات المسلمين اليوم من حيث الاختلاف والتنازع، قد مر بسلفنا الصالح شيء منه، إلا أنهم حرصوا على الوحدة والجماعة وحققوا ذلك، مما يجعل منهجهم في ذلك حرياً بالاتباع؛ فما رأيكم في ذلك؟
- المشاركون:
يقول الدكتور عثمان جمعة ضميرية: منهج السلف علماء الأمة ـ رحمهم الله تعالى ـ تطبيق عملي لفهم صحيح سليم؛ فهم رغم ما قد يقع بينهم من خلاف في مسائل الفقه أو أمور الفروع ولأسباب كثيرة متعددة رغم هذا فإنهم كانوا يلتقون ويتحاورون ويتناقشون ويرد أحدهم على الآخر رأيه، دون عداوة أو بغضاء أو تشهير أو تهمة.
وبنحوٍ مما تقدم ينظر الشيخ أحمد فريد.
وينظر الأستاذ خالد حسن إلى أهمية الممارسة السلفية التي تخلى عنها من جاء بعدهم، فيقول: يمكن القول إن أكثر المتحمسين للإصلاح وتحديات النهضة لم يلتفت إلى أهمية وحيوية المفهوم الجماعي للصواب الذي كان حاضراً بقوة في الممارسة التراثية (السلفية) في أوساط العلماء والنظار، إنه لا مناص من إحياء هذه الطريقة وإشاعة المفهوم الجماعي للصواب.
ويرى الدكتور عبد السلام كسال أن المنهج الفكري السليم في الإسلام يقوم على قواعد ثابتة أساسها الفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة المطهرة بحيث يتوافق مع ما كان عليه الصحابة الكرام دون ابتداع بالزيادة أو النقصان، ولكن بلا جمود يحول دون الاجتهاد في استيعاب الجديد من مسائل العصر، ويؤكد أن هذا المنهج برصيده الثري الحكم الفصل في حل كل خلاف وفي دفع كل عملية للتقريب.
ويقول الدكتور عبد الرزاق مقري: سلفنا الصالح هم قدوتنا من حيث المعايير الأخلاقية والتربوية والمقاصد الشرعية، وأصول فهم الشريعة الإسلامية، وتجربتهم منهج نسير عليه، غير أن هذا المنهج نفسه هو الذي رسم لنا سبل التجديد والاجتهاد لنعيش زماناً غير الزمان الذي عاش فيه سلفنا، يثْبُت فيه الثابت ويتغير المتغير.
ويشير الدكتور سفر الحوالي إلى مسألة مهمة قد تخفى على كثيرين وهي أن مذهب السلف ليس مذهباً فقهياً معيناً ولا التزاماً شكلياً، بل هو منهاج الاتِّباع المطلق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، والحرص على أن تكون الأمة على ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقد ظهرت في القرون المفضلة نماذج تدل على رحابة هذا المنهج؛ فقد كان منهم الفقيه والمفسر والمحدث واللغوي وأئمة التعبد والسلوك والجهاد، وهذا المنهج أعظم خصائصه قيامه على الحقائق لا على الدعاوى والأسماء.
ويركز الشيخ كمال الخطيب على أن آخر هذه الأمة لن يصلحها إلا ما أصلح أولها، ومن هنا فإن أي حوار أو تقارب يتم عبر إدارة الظهر أو العقوق لسلفنا الصالح ومنهجهم الفقهي مصيره إلى الإخفاق، لذلك لا يمكن الحوار مع هذه الاتجاهات التي يظهر عقوقها لمنهج السلف بقصد التقارب الفكري معها، بل إنه يجب رفض هذا من أساسه؛ لأنه ليس فقط عقوقاً لمنهج السلف وإنما هدم أسس وتقويض أركان ذلك المنهج، هذا في الوقت الذي لا يمكن قبول حصر المنهج السلفي على اتساعه من اتجاهات أخرى في قالب واحد ولون واحد وآلية تفكير واحدة.
ويرى الدكتور همام سعيد كما يرى إخوانه من أهل العلم أن منهج السلف هو حجر الأساس لأي تقارب، ولكنه يضيف أنه يلزم الوقوف على منهج السلف في مختلف المسائل، وأن يسعنا ما وسع السلف من الاختلاف.
ويقول الشيخ سليمان أبو نارو: مكانة سلفنا الصالح في فهم الدين والعمل به والدعوة إليه ليست علية فحسب، بل لا سبيل لفهم الإسلام إلاَّ عن طريقهم؛ إذ هم القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية من المعصوم -صلى الله عليه وسلم - وهم الفرقة الناجية المستمسكة بما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم - مما يجعل منهجهم هو الأبصر والأقوى حجة.(216/10)
هكذا يديرون أوقاتهم!
إبراهيم بن سليمان الحيدري
غنيُّ الناس وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم لا يملكون في يومهم سوى أربع وعشرين ساعة فقط، الوقت مورد محدود، ومع محدوديته فلا يمكن تخزينه أو ترحيله.
الوقت والموج لا ينتظران أحداً.
محدودية الوقت جعلت الناس يتعاملون معه بطرق مختلفة، راجين أن يجدوا وسيلة فعّالة لإدارته، مكوِّنين بذلك ما يمكن اعتباره شخصيات مختلفة، من هذه الشخصيات:
الشخصية المنظَّمة: وهي التي ترى أن الفوضى هي السبب الرئيس لضياع الوقت، لذا فهي تحاول أن تنظم ما حولها من الأشياء والأعمال والأشخاص، معتقدة أن العيش في بيئة منظمة كفيلٌ بتوفير مزيد من الوقت.
الشخصية المحصَّنة: وهذا النوع يرى أن الناس والاختلاط بهم سبب مؤثر في إهدار الوقت، ولذلك يلجأ إلى الانعزال الكلي أو الجزئي عن الناس، والتقليل من الاختلاط بهم، ليتوافر لديهم مزيد من الوقت وقدرة أكبر في التحكم فيه.
الشخصية التقنية: تعتمد هذه الشخصية على ما توفره الأدوات التقنية الحديثة ـ كالحواسيب الكفّية والمفكرات الآلية ـ من سرعة في الأداء وسعة في التخزين، مما يختصر لدى هذه الفئة الوقت والجهد، ويمنحهم كما يظنون مزيداً من الوقت.
مع الإيجابيات المتنوعة للآليات التي تستخدمها الشخصيات السابقة إلا أنها لا تخلو من سلبيات؛ فالشخصية المنظمة قد تغرق في التنظيم ليتحول لديها إلى هدف بدلاً من أن يكون وسيلة، بينما ستتفاجأ الشخصية المحصنة بأن لديها وقتاً كثيراً وعلاقات اجتماعية قليلة أو نادرة، وهو الوضع الذي لا يستطيع الكثير الاستمرار فيه، كما أن الشخصية التقنية سوف تكتشف أن الآلات لن يتعدى دورها سوى التنظيم والترتيب، وليس إدارة الوقت، كما أن مصدر أساليب الشخصيات السابقة كلها خارج نطاق الذات، وهذا ما فطنت إليه الشخصية التالية:
الشخصية المخطِّطة: هذه الشخصية تؤمن بأن الواجب أن ندير ذواتنا بدلاً من أن ندير الوقت، لأن الوقت ـ ببساطة ـ منظم جداً، فما لم تكن ساعتنا متعطلة فإن الوقت يسير بطريقة منظمة ودقيقة. إدارة الوقت لدى هذه الشخصية هي إدارة الذات، ولذا فهي تنطلق في تعاملها الإيجابي مع الوقت؛ من خلال فلسفة داخلية، تتمثَّل في تحديد الأهداف الشخصية بوضوح، وترتيب الأولويات بدقَّة، وتنظيم برامجها السنوية والشهرية واليومية وفقاً للوقت المتاح لديها، وهي مع ذلك لا تُغفل أهميةَ التنظيم والتقنية كعوامل مساندة في تعظيم الوقت.
يقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «السَّنَة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل. وإنما الحصاد يوم المعاد، فعند الحصاد يتبين حلو الثمار من مرِّها» .
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(216/11)
معايير العقلاء
أ. د. جعفر شيخ إدريس
كما أن هنالك خصائص بدنية تميز الناس باعتبارهم بشراً رغم اختلاف أزمانهم وأماكنهم وبيئاتهم، فهنالك أيضاً خصائص روحية تميزهم باعتبارهم بشراً رغم كل تلك الاختلافات الزمانية والمكانية والبيئية. فالناس ليسوا إذن كما تصورهم بعض النظريات الغربية سجناء في خلايا ثقافية هي التي تحتم عليهم كيف يفكرون وماذا يختارون. كلاَّ؛ بل إن ثقافات الناس المختلفة التي تشمل بالمعنى الحديث عقائدهم وتصوراتهم وقيمهم أشبه ما تكون بالمدن الحديثة. فكل مدينة لها خصائصها وطابعها، لكنها مرتبطة بالمدن الأخرى بشوارع معبدة وهواتف وغير ذلك من وسائل المواصلات والاتصالات. لو أن الناس كانوا كما تُصَوِّرهم أمثال هذه النظريات لما استطاعوا أن يتفاهموا ولا أن يغيروا من عقائدهم أو تصوراتهم التي أورثتهم إياها ثقافاتهم.
إن هذا ما كان ليمكن لولا وجود تلك الخصائص الروحية المشتركة والتي من أهمها ما يمكن تسميته بـ (المعايير العقلانية) التي يقر بها كل الناس باعتبارها معايير صحيحة وإن لم يلتزموا باستعمالها أو قبول نتائجها في كل وقت.
بعض الناس ينظر إلى خلافات الناس فيصيبه اليأس والقنوط: هذا مؤمن وذاك ملحد. هذا مسلم وذاك نصراني أو يهودي أو بوذي. هذا سني وذاك شيعي. هذا من جماعة كذا وحزب كذا وذاك من جماعة أخرى وحزب آخر. لو أن هذا اليائس البائس تذكر أن له عقلاً وأن له معايير يقيس بها ما يقبل وما يرفض لما أصابه هذا اليأس.
نذكر فيما يلي على وجه الاختصار شيئاً من هذه المعايير، ونبين أنها كلها مما افترض القرآن في الناس معرفته، ولذلك حاكمهم إليه. وهذا من أقوى الأدلة على أن هذا الدين هو بلا شك دين الفطرة التي تخاطب الناس باعتبارهم بشراً لا باعتبارهم أصحاب ثقافة محدودة بزمان أو مكان معين.
من هذه المعايير المشتركة بين جميع العقلاء من البشر:
1 - القوانين المنطقية:
أعني القوانين التي ننتقل بها من المقدمات إلى نتائجها اللازمة عنها، والتي نعرف بها أن كل كلام يخالفها لا بد أن يكون كلاماً باطلاً. من هذه القوانين، بل أهمها وجوهرها ما يسمى بـ (قانون الاتساق) أو (عدم التناقض) . فكل الناس، بل حتى الأطفال يدركون أن الكلام المتناقض كلام باطل. فحتى الطفل يدرك أن قولك له: «لقد جئتك اليوم بهدية جميلة، لكنني لم آتك اليوم بهدية» كلام لا معنى له. وكل إنسان حتى الأطفال يدركون أن قولك اشتريت سيارة غداً أو سأشتري سيارة بالأمس، كلام متناقض لا معنى له. لكن ما كل الكلام المتناقض يكون بهذه البساطة والوضوح، بل قد يكون غامضاً يحتاج إلى نظر وتدقيق. من ذلك مثلاً أن المعتزلة كانوا يقولون إن الإنسان خالق أفعاله. لكن هذا معناه أن بعض الأشياء لا يخلقها الله تعالى، وهذا يعني أن الله ليس بخالق لكل شيء وهذا معناه تكذيب القرآن الذي يقرر {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] ، وتكذيب القرآن كفر. فهل نقول لكل من قال ذلك القول إنك كافر؟ كلاَّ؛ فقد كان من إنصاف أهل السنة قولهم إنَّ لازم القول ليس بقول، أي إن القول الذي يلزم منطقاً وعقلاً عن كلام تقوله لا ينسب إليك قوله؛ لأنك قد تكون جاهلاً بلزومه عن قولك. لكن بيان هذا اللزوم من أحسن الوسائل التي يبين بها بطلان الكلام. من أمثلة ذلك في كتاب الله أن اليهود عندما أرادوا أن ينكروا رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم - جعلوا إنكارهم هذا تحت قاعدة عامة هي قولهم: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] لكن الذي يلزم عن هذه القاعدة العامة أن الله ـ تعالى ـ لم ينزل التوراة على موسى. لكن اليهود يؤمنون بأن التوراة كلام الله؛ ولذلك سألهم القرآن الكريم سؤالاً استنكارياً، فقال ـ تعالى ـ: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] ؟
لعل أعظم موضع استعمل فيه القرآن الكريم هذا المعيار هو في قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
فهذه الآية لا تقول فقط إن القرآن الكريم لا تناقُض فيه، بل تجعل عدم هذا التناقض دليلاً على كونه من عند الله تعالى؛ لأنه لا يمكن لمخلوق أن يكتب كتاباً في حجم القرآن الكريم وتعدد موضوعاته وخطورتها والمدة الطويلة التي نزل فيها، ثم لا يكون في ما قال تناقض. ولكي تعرف مصداق ذلك انظر في أي كلام كتبه بشر على مدى بعض الأعوام فستجده هو نفسه يعترف لك بأن ما قاله في سنة كذا أو شهر كذا ينقض ما قاله بعد ذلك في سنة كذا وشهر كذا. وانظر أيضاً إلى النظريات البشرية كالديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها تجد فيها من التناقض ما الله به عليم. وقد كان وجود مثل هذا التناقض السبب المهم والأساس في إنكار بعض النصارى ـ النصارى المسمون بالليبراليين ـ أن يكون ما يسمونه بالكتاب المقدس هو كله من عند الله تعالى. وكان أيضاً سبباً في إنكار الكثيرين منهم لهذا الدين.
ولأن هذا المعيار مما فطر الله ـ تعالى ـ عليه البشر قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن علم المنطق اليوناني إنه علم لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد. ولو أن الشيخ قال: لا يحتاج إليه العاقل لكان أحسن؛ لأن الإنسان مهما كانت درجته في البلادة لا بد أن يكون له إلمام بهذا المعيار، ولا بد له من استعماله في حياته اليومية.
ولذلك فإنني كنت أعجب من قول بعض الغربيين: إن المنطق شيء خاص بثقافتهم، وأن أمماً أخرى لا تعرفه. بل إن أحد المستشرقين المشاهير تلقَّف هذا القول الظاهر بطلانه فزعم أنه يصدق على العرب، فقال متحدثاً باسمهم.
والذي ينتج عن هذا أننا إذا اكتشفنا شيئاً من التناقض في القرآن؛ فإن هذا يكون دليلاً على غناه وتجاوزه المثمر للفكر التجريدي المجدب. يمكن الاحتفاظ بعبارتين متناقضتين؛ لأن كل واحدة منهما تكشف جانباً من الحقيقة تهمله الأخرى؛ وعليه فإن العبارتين وإن لم يمكن الجمع بينهما منطقياً تعطياننا معاً صورة أكمل للحقيقة (1) .
أقول بل إن العرب شأنهم في ذلك شأن سائر البشر لا بد لهم من إدراك بطلان الكلام المتناقض، وفي كلامهم من الشهود على ذلك ما لا يحصى. وعليه فكما أن هذه المعايير ليست من خصائص الأوروبيين فهي كذلك ليست من خصائص العرب. يدلك على ذلك أن كل أمة من الناس لا بد لها من لغة يتفاهم بها أفرادها، ولا بد أن يكون في هذه اللغة نفي وإثبات، ولا بد للمتكلمين بها من أن يعرفوا أن الشيء لا يمكن أن يثبت وينفى في وقت واحد؛ وهذا هو قانون الاتساق.
وهذا يدلك على خطأ الذين قالوا بتعدد الحق من الأصوليين إذا عنوا به أن يكون الأمر الواحد مُثْبَتاً ومنفياً، أو حلالاً وحراماً أو جائزاً وممنوعاً. ما أروع ما قال الإمام الشاطبي: الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك لا يصلح فيها غير ذلك؛ والدليل عليه أمور ... (2) .
لكن ما زال بعض الناس يستدلون على وجود مثل هذا التعدد المتناقض بقصة اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في فهمهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلِّيَنَّ العصر إلا في بني قريظة» . فيزعمون أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - أقر الفريقين رغم تناقض موقفيهم. وحاشاه -صلى الله عليه وسلم - أن يفعل. إنه -صلى الله عليه وسلم - إنما أقر كل فريق على ما فعل، وهذا يتضمن عدم إقراره له على ما أنكر. فالذين صلوا قبل بلوغ بني قريظة كانوا يرون أن تأخيرها خطأ. والذين أخروها كانوا يرون أن تأجيلها خطأ. فالرسول -صلى الله عليه وسلم - بيَّن لهم أن كِلا الأمرين جائز وهما أمران لا تناقض بينهما؛ فكما أنه لا تناقض بين أن تقول لإنسان إن الصلاة في أول الوقت جائزة وفي آخره جائزة، فكذلك لا تناقض في أن تكون الصلاة قبل بلوغ بني قريظة جائزة وبعد بلوغها جائزة.
وللحديث بقية.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) انظر إن شئت الرد على هذا في مقال لنا قديم منشور ضمن بحوث لآخرين في كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الجزء الأول، الرياض 1405هـ ـ 1985م، ص 142ـ 241.
(2) الموافقات في أصول الشريعة، كتاب الاجتهاد، المسألة الثالثة.(216/12)
دول أم كتل؟
د. عبد الكريم بكار
نحن نعيش في عصر جديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ما في هذا شك ولا ريب. ونحن مطالبون باكتشاف ملامح هذا العصر، وما يفرضه من متطلبات وتداعيات. وحين نتمكن من ذلك فإن الخطوة التالية تتمثل في إعادة برمجة وهندسة أحلامنا ورغباتنا وطموحاتنا بما تسمح به الظروف الجديدة، وإلا فإن تحقيق ما نصبو إليه يصبح بعيد المنال، ويصبح العمل من أجله نوعاً من هدر الوقت والجهد.
تقوم العولمة بعملية خلع وتفكيك واسعة النطاق، إنها تخلع الفرد من أسرته، والأسرة من مجتمعها، والمجتمع من أمته. وخلال هذا الخلع يحدث نوع من التهميش لكثير من القوى الجامعة والضابطة والمسيطرة؛ وذلك من أجل تكوين كتل ضخمة تكون لها السيطرة والنفوذ على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
العولمة تهمِّش فعلاً مجالات الحركة أمام الدول والحكومات من أجل تسهيل حركة الشركات العملاقة ذات الجنسيات المتعددة أو العابرة للقارات. ولهذا فإن من الممكن القول إننا نشهد اليوم إعادة تركيب العالم على الصعيد السياسي بطرق غير مباشرة.
نحن نحلم منذ زمن بعيد بأن يكون للمسلمين في العالم دولة واحدة، تجعل منهم قوة ضاربة، وتحمي بلدانهم من التآكل الداخلي والغزو الخارجي. وهذا الحلم ينبغي أن يظل موجوداً، لكن تحقيقه اليوم أو في مدى الثلاثين سنة القادمة يبدو بعيداً للغاية.. إننا نحب أن يكون لنا شيء هو أعظم بكثير من (الإمبراطورية) لكن في زمان يقاوم بناء الإمبراطوريات. وكلنا يشاهد الصعوبات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحاول توسيع نفوذها بما يشبه محاولة تشكيل إمبراطورية جديدة. ومن هنا فإن هناك من يقول: في المستقبل غير البعيد لن يكون هناك دول كبرى تفرض هيمنتها وتبسط سلطانها؛ ولكن سيكون هناك كتل ومجموعات عملاقة تفرض شروطها على الدول العظمى. والسبب في هذا أن الأموال والأعمال التي كانت تتركز في الدول العظمى، وتكوِّن من ثَم عناصر القوة فيها، باتت تتحرك في الأرض، وبات المستفيدون منها ينتمون إلى دول شتى. ويقدم جنوب شرق آسيا مثالاً على ذلك؛ حيث إن كثيراً من الشركات العملاقة باتت تهيئ فرص عمل كثيرة جداً لأبناء تلك المنطقة، وترتقي بقدراتهم الفنية، كما أنها تنقل اليوم الكثير من الخبرات التقنية خارج حدود أوطانها، مما يحرم الدول المسيطرة في العالم الكثير من امتيازاتها، ولكن تأثير هذا لا يظهر إلا بعد مدة.
ليس للعولمة قيادة مركزية وإن كان هناك من يحاول إخضاعها لرغباته ومصالحه، ولكن كل المشاركين في العولمة يتحركون على قواعد السوق وفي إطار التوجهات الليبرالية والرأسمالية، ومن هنا فإن العولمة تصنع وسائل انتشارها، وتستخدم وسائل موجودة، لكنها لا تستطيع في معظم الأحيان منع الضعفاء والمهمشين من استخدام تلك الوسائل لأهداف مضادة لأهداف العولمة ومصالحها؛ وهذا هو شأن الأفكار وشأن الوسائل، إنه المطاوعة للاستخدامات المختلفة.
انطلاقاً من كل ما تقدم فإن لمّ شعث أمة الإسلام في هذه الحقبة من التاريخ ينبغي أن يقوم على تكوين كيانات ذات طبيعة اختصاصية وعلى كتل ممتدة، يسهم فيها على قدر الوسعة والطاقة كل من يستطيع المساهمة على مستوى الحكومات والهيئات والمؤسسات والأفراد. ويمكن أن ترتكز البدايات على مواقع الإنترنت. نحن لا نريد تشكيل قوة ضاربة، ولكن نريد أن نقوي جسم الأمة ومعالجة المشكلات التي يعاني منها الكثير من أبنائها؛ وحين تتاح الفرصة لاجتماع الأجزاء القوية، فإنه يكون لوحدة الأمة معنى ودلالة وآثار ... أما اجتماع المرضى والضعفاء والمفلسين، فإنه لا يولد في العادة إلا المزيد من التوتر والمزيد من الشعور باليأس والإحباط.
وهذه بعض الأمثلة لما يمكن أن يتم:
1 - موقع عملاق علىِ الإنترنت ترعاه جهة أو هيئة يخصص لجمع معلومات عن العالم الإسلامي: سكانه واقتصاده وأحوال مجتمعاته والتقاليد والعادات السائدة في كل بلد؛ إلى جانب توفير معلومات عن التعليم في كل بلد وكذلك الصناعة والزراعة ... إن كثيراً من تباعد المسلمين عن بعضهم يعود إلى عدم توفر معلومات كافية عن العالم الإسلامي. والصعب دائماً هو البداية، وبعد ذلك تذلل العقبات، ويكثر العاملون والمتطوعون؛ ولا سيما أن لدينا أعداداً كبيرة من الشباب المتحمس والراغب في عمل شيء لكنه عملياً لا يقدم أي شيء.
2 - تكتل اقتصادي أو نادٍ لرجال الأعمال المسلمين يتبادلون فيه الخبرات، ويُجرون من خلاله الدراسات، ويعقدون الصفقات، وينشرون المعلومات عن الاستثمارات والفرص المتاحة في البلدان الإسلامية، ويقومون بإنجاز المشروعات الكبيرة التي تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة.
3 - إيجاد اتحاد عالمي يعمل على تحسين صورة الإسلام في العالم، ودفع الافتراءات الموجهة ضده.
4 - إقامة أكبر عدد ممكن من الروابط بين الشرائح الاجتماعية وبين المهن والقطاعات المختلفة، مثل اتحاد الشباب المسلم، واتحاد الأسرة المسلمة، واتحاد المعلمين المسلمين، ومثل ذلك للأطباء والمهندسين والمفكرين والناشرين وغيرهم.
لا شك أن الطريق إلى تحقيق هذا ليس معبّداً، لكنه ليس مغلقاً، وحين نفكر بواقعية، ونعقد العزم على أن لا نضيع الممكن في طلب المستحيل؛ فإننا سنندفع بكل قوة في هذا الاتجاه. المهم أن نبدأ.
ومن الله ـ تعالى ـ الحَوْل والطَّوْل.(216/13)
قصيدة (بانت سعاد) .. الإشكالية والحل
بدر بن علي المطوع
لقد احتلت المقدمة الغزلية مكاناً متميزاً في هيكل القصيدة العربية، فجرى الشاعر العربي على أن يستهل قصيدته بمدخل غزلي يفضي به إلى غرضه الأصلي من القصيدة. غير أن القصيدة الغزلية أخذت بالنزوع والاستقلالية في مرحلة مبكرة جداً عن أغراض الشعر الأخرى، فأُفْرِدت الدواوين لقصائد الغزل. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل تحول الشعر الغزلي من التعبير عن ألم الصبابة، وما يعتلج في النفس من تباريح الهوى، إلى التعبير عن مقدمات الجماع، وذكر القبلة والإفحاش في الوصف.
وعلى الرغم من أن المقدمة الغزلية التي صدَّر بها كعب قصيدته تعد وثيقة من وثائق الأدب الإسلامي، إلا أنها ـ مع الأسف الشديد ـ استخدمت في الاتجاه المعاكس لذلك، فاتخذ بعض النقاد مما جاء فيها أدلة اتكأ عليها لإباحة الغزل على إطلاقه.
وفي المقابل ذهب بعض آخر إلى رفض هذه المقدمة تحرُّجاً من القول بسماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - لها، بسبب ما جاء فيها من غزل تناول فيه الشاعر أوصاف معشوقته الحسية والمعنوية.
وقبل الخوض في الحديث عن الإشكالات التي دعت النقاد إلى الانقسام حولها أود أن أشير بداية إلى بعض النقاط:
- أولاً: توثيق القصيدة من حيث السند:
حظيت لامية كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ بشهرة وذيوع قل أن تنافسها عليه قصيدة أخرى؛ فقد سارت بها الركبان، وتوارثتها السنون، نظراً لشرف الموقف الذي قيلت فيه، وجلالة الممدوح، وسمو المناسبة، ولهذا فقد أصبحت هذه القصيدة ميداناً للبحث والدراسة قديماً وحديثاً.
ومن أهم ما أعلى شأن هذه القصيدة إلى هذا الحد، إنشادها بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم -، وإصغاؤه إليها، وإعجابه بها؛ فهي بذلك تعد جزءاً من السنة النبوية الشريفة، ومصدراً من مصادر التشريع والاحتجاح.
ولأنها كذلك، وجب أن يكون توثيق مقدمة القصيدة مقصوراً على كتب الحديث والسيرة النبوية، وعدم الالتفات إلى غيرها؛ لأن النتيجة التي سننتهي إليها ستكون مبنية على ما سمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ولا شك في أن ما سمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم - وأقره يُعد من السنة النبوية التي يحتج بها، لذا سيكون النظر والتعامل مع هذا الخبر والقصيدة على أنها وثيقة شرعية يجب توثيقها عن طريق أهل العلم بالحديث والأسانيد.
والمقدمة الغزلية المراد توثيقها للوقوف على ما سمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم -، وما لم يسمعه، جاءت في شرح السكري على ديوان كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ على النحو التالي:
بانَتْ سُعادُ فقَلْبِي اليومَ مَتْبُولُ
مُتَيَّمٌ إثْرَها لَم يُجْزَ مَكْبولُ
وما سعادُ غَدَاةَ البَيْنِ إذ رَحَلُوا
إلا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ
تَجْلو عَوَارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتَسَمَتْ
كأنَّهُ مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعلُولُ
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحْنِيَةٍ
صافٍ بأَبْطَحَ أَضْحى وَهْوَ مَشمُولُ
تَّجْلو الرِّيَاحُ القَذَى عَنهُ وأَفْرَطَهُ
مِن صَوْبِ سارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
يَا وَيْحَهَا خُلَّةً لو أَنَّهَا صَدَقَتْ
مَا وعَدتْ أَو لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقبولُ
لكنَّهَا خُلَّةٌ قَد سِيطَ مِن دَمِهَا
فَجْعٌ وَوَلْعٌ وإخلافٌ وتَبديلُ
فما تدومُ على حالٍ تكونُ بِها
كَما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغولُ
وما تَمَسَّكُ بالوَصْلِ الذي زَعَمَتْ
إلا كَما تُمْسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
كانَت مَواعيدُ عُرْقوبٍ لها مَثَلاً
وما مَواعيدُها إلا الأَباطيلُ
أرجو وآمُلُ أنْ يَعْجَلْنَ في أَبَدٍ
ومَا لَهُنَّ طَوالَ الدَّهْرِ تَعْجِيلُ
فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وَما وَعَدَتْ
إنَّ الأَمانِيَّ والأحلامَ تَضليلُ
أمْسَتْ سُعادُ بأرضٍ لا يُبَلِّغُها
إلا العِتاقُ النَّجِيباتُ المَرَاسيلُ
وبهذا يتضح أن عدة الأبيات الغزلية المثبتة في شرح الديوان هي: (ثلاثة عشر بيتاً) . فهل سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم - هذه المقدمة الغزلية كاملة دون زيادة أو نقصان؟ أم سمع بعضها؟ وهل هناك أبيات غزلية أخرى في هذه المقدمة لم تثبت في هذه النسخة التي بين أيدينا؟ وهل سمعها الرسول -صلى الله عليه وسلم -؟
كل هذه الأسئلة تبحث عن إجابة واضحة دقيقة موثقة.
ومن خلال الرجوع إلى كتب الحديث اتضح أن عدداً من أهل العلم قد نقل خبر إسلام وتوبة كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ وإنشاده قصيدته اللامية بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم -، مصدّرة بهذه المقدمة الغزلية بأسانيد مختلفة؛ فقد رواها بإسناد موصول كل من: إبراهيم بن ديزيل في جزئه، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، ودلائل النبوة، وأبي بكر الإشبيلي في فهرسة ما رواه عن شيوخه. كما رويت بأكثر من طريق موقوفة على موسى بن عقبة، أو علي بن جدعان، أو محمد بن إسحاق.
ويعد إسناد ابن ديزيل الموصول أعلى تلك الأسانيد، وإن كان فيه الحجاج بن ذي الرقيبة، وأبوه، وجده؛ فقد حسنه علي بن المديني، كما صححه الحاكم، وأشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر.
فقال علي بن المديني: «لم أسمع قط في خبر كعب بن زهير حديثاً قط أتم ولا أحسن من هذا، ولا أبالي ألا أسمع من خبره غير هذا» (1) .
وقال الحاكم: «هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي؛ فأما حديث محمد بن فليح عن موسى بن عقبة، وحديث الحجاج بن ذي الرقيبة فإنهما صحيحان» (2) .
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر بعض طرق القصيدة: «ووقعت لنا بعلوّ في جزء إبراهيم بن ديزيل الكبير» (3) .
وفيما تقدم دليل على صحة الخبر، وثبوت سماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - للقصيدة.
- ثانياً: عدد أبيات المقدمة الغزلية، واختلاف ألفاظها وترتيبها:
فقد اختلفت المصادر في عدد أبيات المقدمة الغزلية، التي تراوحت بين (اثني عشر إلى أربعة عشر بيتاً) ، وسأورد عدد أبيات المقدمة الغزلية عند من أثبت القصيدة كاملة، وبالله التوفيق.
فقد جاءت المقدمة الغزلية في رواية الديوان (ثلاثة عشر بيتاً) ، وهكذا عدها الحاكم في المستدرك، والذهبي في مغازيه.
أما ابن ديزيل فقد عدها (اثني عشر بيتاً) في جزئه الكبير.
وأوردها ابن إسحاق في السيرة النبوية (أربعة عشر بيتاً) ، ومثله ابن هشام في سيرته، وابن كثير في سيرته، والعامري في بهجة المحافل.
وبالإضافة إلى اختلاف عدد الأبيات في المقدمة الغزلية، نجد أن هناك اختلافاً في ألفاظ وترتيب بعض الأبيات أيضاً. فأما اختلاف الترتيب، واختلاف بعض الألفاظ، فهذا لا يضر، وهو موجود في الأحاديث الصحيحة، ولم يُطعَن في شيء منها لذلك ما دام أن الألفاظ ليست متضادة بل مترادفة.
أما اختلاف عدد الأبيات، فهذا راجع لاختلاف الطرق التي رويت منها القصيدة؛ فالرواة يختلفون في الحفظ والإتقان؛ فالأبيات التي تثبت في جميع الطرق، ثابتة لا محالة، أما الأبيات القليلة التي انفرد بها بعض الرواة، ولم يأت بها غيره فينظر فيها إلى حاله، فإن كان ثقة متقناً قُبلت منه، وعُدَّت من قبيل زيادة الثقة، وإن لم يكن كذلك فهي شاذة لا يحتج بها.
ومن الأبيات المنسوبة لكعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ في مقدمته الغزلية:
هَيْفَاءُ مُقْبلةً، عَجْزَاءُ مُدْبِرةً لا يُشْتَكَى قِصَرٌ منها ولا طولُ
فقد انفرد بروايته محمد بن إسحاق، حين قال: «حدثني عاصم، عن عمرو بن قتادة» ثم ساق الخبر والقصيدة. وواضح ما في هذا السند من انقطاع بيِّن؛ لأن الزمن قد شط بين عصر النبوة وعاصم. كما أن هذا البيت لم يرد عند غير ابن إسحاق بأي سند من الأسانيد التي سبق إثباتها في كتب الحديث، وإنما ساقه أهل العلم بالسيرة، كابن هشام، وابن كثير، والعامري، نقلاً عن رواية ابن إسحاق.
أضف إلى ذلك أن ابن إسحاق الذي انفرد برواية هذا البيت قد تعرض بسبب هذه الأشعار التي حشدها في سيرته إلى نقد شديد واتهامات جارحة، وممن وجه إليه هذا النقد ابن سلاَّم؛ حيث قال: «وكان ممن أفسد الشعر وهجَّنه، وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق ... وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك ـ فقَبِلَ الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أُتينا به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذراً، فكتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، أفلا يرجع إلى نفسه، فيقول: مَنْ حَمَلَ هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين» (1) .
وتبعه ابن النديم فقال: «كان يُعمَل له الأشعار، ويُؤتى بها ويُسأل أن يدخلها في كتابه في السيرة فيفعل، فضمَّن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر» (2) .
كما طعن فيه الذهبي بسبب إيراده هذه الأشعار المكذوبة أيضاً، فقال بعد أن ساق قول ابن سلام الآنف الذكر: «لا ريب أن في السيرة شعراً كثيراً من هذا الضرب» (3) .
وقريب من هذا قول ياقوت في معجمه: «محمد بن إسحاق كانت تُعمَل له الأشعار فيضعها في كتب المغازي، فصار بها فضيحة عند رواة الأخبار والأشعار» (4) .
وبما أن حال ابن إسحاق في الشعر مطعون فيه إلى هذا الحد، فلا يصح إذاً قبول هذا البيت منه، خصوصاً أنه انفرد بروايته، ولم يُرْوَ عن غيره ممن ساق القصيدة بسندها.
ومما يستأنس به في سبيل رد هذا البيت، ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، من أنه قد نفى (هيتاً) المخنث عن المدينة إلى الحِمَى لَمَّا سمعه يصف (بادية بنة غيلان) بقوله: «إنها تُقْبِل بأربع وتُدْبِر بثمان» (5) .
وما نسب إلى كعب في هذا البيت لا يخرج في معناه عما قاله (هيت) المخنث في هذه العبارة الثابتة في صحيح البخاري.
فهل يصح القول بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم - يجيز الفحش إذا كان منظوماً، ويرفضه منثوراً؟! حاشاه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وبناءً على ما سبق، لا يصح القبول بأن هذا البيت قد أُنشد بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم -، فأقر عليه صاحبه، ولم ينكر عليه.
ثالثاً: موقف النقاد (الإشكالية والحل) :
عند النظر في آراء النقاد المتعلقة بهذه المقدمة الغزلية نجد أننا أمام فريقين:
الفريق الأول: احتفل بهذه المقدمة وما جاء فيها، وحاول تحميلها ما لا تحتمل من التأويلات، ليبيح شعر الغزل على إطلاقه.
أما الفريق الآخر: فذهب إلى رفضها، منكراً ومستبعداً سماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - لها، لما فيها من أوصاف حسية، ومخالفات شرعية.
ويبدو لي أن أسباب الاختلاف حول قبول ورفض هذه المقدمة، تعود إلى ما فيها من إشكاليات ثلاث:
1 - فالإشكالية الأولى تكمن في البيت المنسوب لكعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ الآنف الذكر، وقد اتضح بطلانه وسقوط الاستشهاد به، وبذلك زالت الإشكالية الأولى.
2 - وتتجسد الإشكالية الثانية في التصوير الحسي للمرأة في قصيدة كعب؛ غير أنه عند تأمُّل المعاني التي اشتملت عليها أبيات المقدمة الغزلية نجد أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أبيات ذات أوصاف ومعان معنوية، وهي السمة الغالبة على أبيات المقدمة الغزلية، وتتجسد هذه الأوصاف في:
البيت الأول: حيث ذكر الشاعر شدة حبه لسعاد، وأثر فراقها على قلبه.
الأبيات من السادس إلى الثاني عشر: حيث ركز فيها الشاعر حديثه على خُلُق محبوبته، وما اتصفت به من خيانة للعهود، وعدم وفاء بالوعود، وتلوُّن ودِّها، وكثرة مواعيدها الباطلة، وإخلافها لذلك أبد الدهر.
البيت الثالث عشر: حيث تناول فيه الشاعر حقيقة بُعد محبوبته عنه، ليتخلص في هذا البيت من المقدمة الغزلية إلى وصف الناقة.
أما القسم الآخر من المعاني التي اشتملت عليها المقدمة الغزلية، فهي معان ذات أوصاف حسية، وهي أقل من سابقتها بمراحل، وتتمثل هذه الأوصاف في:
البيت الثاني: حيث شبه صوت معشوقته وعينيها المكحولتين بصوت ظبي أغن ذي طرف فاتر.
الأبيات من الثالث إلى الخامس: حيث وصف أسنانها وجمال ابتسامتها، ثم شبه رضابها وطعم ريقها بخمرة ممزوجة بماء بارد صاف.
ومن هذا التقسيم يتضح طغيان الأبيات ذات الأوصاف المعنوية على الأبيات ذات الأوصاف الحسية؛ فقد استغرقت الأوصاف المعنوية تسعة أبيات من أصل ثلاثة عشر بيتاً هي مجموع أبيات المقدمة الغزلية، بينما جاءت الأوصاف الحسية في أربعة أبيات فقط.
وبناء على هذا، أستغرب من تعميم بعض النقاد، حين يحاكم هذه المقدمة الغزلية على أساس أنها في مستوى واحد من حيث الأوصاف الحسية الواردة فيها، فيحكم (بحسية) هذه المقدمة الغزلية، دون تفريق بين ما جاء فيها من أوصاف معنوية، وأخرى حسية.
وعلى كل، اتضح من خلال ما سبق عرضه أن طابع العفة هو الغالب على أبيات المقدمة الغزلية، كما أن ما جاء فيها من أوصاف حسية لا تعدو كونها أوصافاً تقليدية أكل عليها الدهر وشرب، وملها الشعراء والقراء من كثرة تكرارها؛ فهي لا تستثير فيهم نزوة، ولا تحرك فيهم شهوة.
ولذا، قَبِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ما جاء في هذه الأبيات الغزلية، وبهذا تزول الإشكالية الثانية.
3 - أما الإشكالية الثالثة فتظهر فيما جاء في هذه القصيدة من وصف للخمرة ومدح لها على مسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -.
وتفسير ذلك هو: أن كعباً قد يكون قال ذلك على الظن ومن باب الاستعارة والتشبيه؛ ليدلل ويبالغ في وصف جمال وحلاوة معشوقته، وكل عاشق يظن ويتوقع أن ريق محبوبته طيب المذاق، خصوصاً أن الخمرة كانت من الأشربة المحببة إلى نفوسهم ولم يُقطَع بتحريمها إلا متأخراً، وقد روعي ذلك في طريقة تحريمها؛ حيث حرمت بالتدريج وكان ذلك على ثلاث مراحل، حيث قال ـ تعالى ـ بداية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] .
وفي المرحلة الثانية نزل قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] .
ثم نزل النهي عنها قطعياً في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] .
ولا يخفى أن هذه الآية الأخيرة وردت في سورة المائدة، وهي آخر سورة أنزلت، مع سورة الفتح، ويدل هذا على شغف العرب بها وصعوبة انفكاكهم عن شربها ومحبتها، ومن هنا لم يكن مستغرباً ذكر كعب ـ رضي الله عنه ـ لها، خصوصاً أن ذكره لها ليس فيه مدح للخمرة بقدر ما فيه مدح لريق معشوقته الخيالية، وأن طعم رضابها يفعل بالهائم بحبها فعل الخمرة بشاربها. ولذا كان تشبيهه ريق محبوبته بالخمرة لا حرج فيه.
ونظير ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان لسحراً» (1) .
فقد شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - البيان بالسحر، حيث يستميل الإنسانُ الذَّرِبُ البليغُ الفصيحُ اللسان بحلاوة كلامه، وروعة أسلوبه، وخلابة معانيه المستمعَ إليه، فيفعل ذلك بالنفوس فعل سحر الساحر الذي يستميل القلوب إليه بشعوذته وسحره.
فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - ـ قطعاً ـ في حديثه هذا لا يبيح السحر ولا يحله، كما أن كعباً ـ رضي الله عنه ـ في قصيدته لا يستبيح الخمرة ولا يدعو إليها.
وختاماً: فإن ما يمكن القطع به هو أن هذه المقدمة الغزلية عفيفة لا فحش فيها، أما ما جاء فيها من أوصاف حسية؛ فهي قليلة جداً، كما أنها لا جدة فيها ولا ابتكار، بل إنها لا تعدو أن تكون تكراراً لمعان أُنهكَت في سُنَّة التشبيه ومطالع الغزل.
والدليل على عفة هذه المقدمة الغزلية، سماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - لها دون تنبيه على شيء محظور فيها؛ فلو كان فيها ما يجافي الخلق الكريم، والذوق السليم لأبانه عليه الصلاة والسلام، ولو حصل ذلك لنُقِلَ إلينا، كما هو شأن سائر الأحكام.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(216/14)
الانسحاب الإ سرائيلي من قطاع غزة
الأسباب والأهداف والأسئلة التالية
ياسر الزعاترة
في سياق قراءة خطة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة التي نكتب هذه السطور قبل يومين من الشروع في تنفيذ أولى خطواتها، يمكن القول إن ثمة وجهات نظر مختلفة للمعالجة؛ أولاها ـ وربما أهمها ـ: وجهة النظر الإسرائيلية التي يمثلها شارون، صاحب الفكرة. وثانيها: وجهة نظر السلطة الفلسطينية، وإلى جانبها العربية، المصرية على وجه التحديد، فضلاً عن المواقف الدولية، الأمريكية على نحو خاص، إضافة إلى وجهة نظر قوى المقاومة، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس. بعد ذلك تأتي أسئلة المستقبل بالنسبة لقطاع غزة، ومن ورائه ما تبقى من الأراضي المحتلة عام 1967م، أي مستقبل ما يُعرف بعملية التسوية، بل ربما مستقبل الصراع برمته.
- خلفيات خطة الانسحاب:
لا بد بداية من العودة إلى عام 1999م يوم كان شارون يحضّر لمشروع عودته إلى السلطة والإطاحة بحزب العمل الذي لم يفلح في مسيرة التسوية؛ وذلك لعجزه عن فرض الحل المطلوب على الفلسطينيين في قمة كامب ديفيد، في تموز عام 2000م، وهو الأمر الذي مهد الأجواء لاندلاع انتفاضة الأقصى بعد ذلك بثلاثة شهور، وتحديداً في 28/9/2000م. في تلك الأثناء دخل شارون على خط المزايدة المحمومة على (باراك) وحزب العمل، معلناً أنه الوحيد القادر على جلب السلام والأمن للشعب الإسرائيلي.
خلال شهور، كان شارون قد نجح في الوصول إلى رأس هرم السلطة مؤكداً على مشروعه الرامي إلى القضاء على انتفاضة الأقصى في غضون (100) يوم لا أكثر، لكن الرياح لم تأتِ كما تشتهي سفنه؛ إذ تواصلت الانتفاضة على نحو جعلها مرحلة استثنائية في تاريخ النضال الفلسطيني. وبينما نسي الشارع الإسرائيلي قصة الأيام المئة تحت وطأة الخوف من التهديد الوجودي، وليواصل الاحتماء «بالقاتل الأزعر» حسب وصف أحد الكتاب الإسرائيليين، كان شارون يواصل حربه الشرسة على الفلسطينيين، على حين كان الإسرائيليون يصفقون له والخوف يملأ قلوبهم من الموت الذي يتربص بهم في المقاهي والباصات.
تصاعدت الانتفاضة خلال مطلع عام 2002م، وصولاً إلى معركة مخيم جنين، حين بدأ شارون عملية «السور الواقي» التي أعاد من خلالها احتلال معظم مناطق الضفة الغربية، وبدأ يطارد المقاومة بشكل استثنائي داخل المدن والقرى والبلدات الفلسطينية.
كان هدف عملية «السور الواقي» هو القضاء على الانتفاضة تحت ذريعة أن مناطق السلطة قد تحولت «ملاذاً آمناً» للمقاومة، لكن ذلك لم يحقق النجاح المطلوب؛ فعلى رغم الضربات الكبيرة والصعبة التي تعرضت لها قوى المقاومة، إلا أنها ظلت قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي وتعويض الخسائر على نحو يتفاوت بين حين وآخر.
في هذه الأثناء كانت تحضيرات الحرب على العراق قد بدأت، وقبلها بالطبع هجمات الحادي عشر من أيلول التي اعتقد شارون أنها تشكل فرصة سانحة للقضاء على المقاومة بوصفها إرهاباً لا بد من استئصاله.
الذي لا شك فيه هو أن شارون قد عوّل كثيراً على احتلال العراق؛ إذ شكل ذلك في وعيه ووعي الشارع الإسرائيلي والنخب اليهودية في العالم أجمع فرصة حقيقية للخلاص من «التهديد الوجودي» وإعادة تشكيل خريطة المنطقة، وإخضاع العرب والفلسطينيين لشروط التسوية الشارونية.
لم يحدث ذلك بالطبع؛ إذ جاءت المقاومة العراقية لتشطب حلم شارون الجديد، ولتبدأ موجة تراجع في بريقه الشعبي بسبب استمرار المقاومة.
- قطاع غزة، عقدة الاحتلال:
طوال عقود كان قطاع غزة مصدر إزعاج للاحتلال، وإلى جانب ما عرضه الإسرائيليون على المصريين مراراً من أجل التخلص منه، فقد تمنى (إسحق رابين) شخصياً أن يصحو من نومه ذات صباح ليجد قطاع غزة برمته قد غرق في البحر.
لعل ذلك هو ما يفسر كيف أن اتفاق (أوسلو) قد سمي في البداية: (غزة/ أريحا أولاً) ، وهو ما يفسر عبء القطاع من حيث المبدأ، بينما كان العبء قد زاد عقب بدء (حماس) ومعها (الجهاد) حرب عصابات ضد قوات الاحتلال مطلع العام 1990م.
يشار هنا إلى أن اتفاق أوسلو قد نجح في تحقيق الهدف المطلوب، حيث تمكن رجال السلطة خلال زمن قياسي من القضاء على المقاومة في القطاع، بينما لم يكن أمام رجال المقاومة بعد ذلك سوى الرحيل إلى الضفة، وهو ما سرّع في وضع سياج أمني يحول بينهم وبين ذلك. وقد فعل الاحتلال ما فعل بعدما تبين أن رجال حماس في غزة قد نقلوا أعمالهم وخبراتهم إلى الضفة الغربية؛ حيث بدأ جهاز (حماس) العسكري (كتائب القسام) بتنفيذ أعمال كبيرة هناك ظهرت بعد عام 1994م من خلال مجموعات الشهيد يحيى عياش.
منذ أن أحيط القطاع بالجدار الإلكتروني باتت المقاومة هناك تعيش حالة خاصة؛ فبينما هي تملك إمكانات كبيرة، فإن قدرتها على ضرب الاحتلال بطريقة أقوى ـ كما كان الحال في الضفة ـ كانت محدودة نظراً لعدم وجود قوات إسرائيلية، على حين أن المستوطنات محاطة بإجراءات أمنية رهيبة. لكن الإبداع الفلسطيني المقاوم ظل قادراً على تحقيق ما يشبه المعجزات والوصول إلى طرائق تجعل الوجود الإسرائيلي في القطاع مكلفاً إلى حد كبير، لا سيما حين يقاس بالعدد المحدود من المستوطنين الذين يلتهمون 40% من أرضه التي لا تتعدى 362 كيلو متراً مربعاً تشكل حوالي 6% من الأراضي المحتلة عام 1967م، وما يقرب من 1,5% من مجموع الأرض التاريخية لفلسطين، بينما يعيش فيه ما يقرب من مليون إنسان ونصف المليون.
- لماذا لم يُعِد شارون احتلال غزة؟
كان السؤال الكبير الذي طرح على الدوام هو: لماذا لم يفعل شارون بغزة ما فعله بالضفة الغربية من حيث الاجتياح الكامل وضرب مراكز المقاومة ورموزها؟
يجب أن نشير ابتداء إلى أن قطاع غزة لم يسلم من عمليات التوغل والإنزال والاغتيالات؛ فقد ناله منها الكثير، لكن ذلك لم يصل حدود ما جرى في الضفة الغربية من حيث الاجتياح الشامل. وقد حدث ذلك لسببين: الأول: أمني وعسكري، والثاني: سياسي ينطوي على أبعاد أمنية وسياسية أيضاً.
من الناحية الأمنية والعسكرية لم يكن بوسع شارون أن يدخل قطاع غزة ويحتله احتلالاً كاملاً لأيام أو أسابيع كما حصل مع المدن الأخرى في الضفة من دون أن ينطوي ذلك على خسائر كبيرة، على حين كان سيناريو مخيم جنين حاضراً على الدوام؛ وذلك نظراً لكثرة المقاتلين في قطاع غزة من جهة، ولطبيعة الاكتظاظ السكاني الرهيب الذي قد يحيل الاجتياح إلى مجزرة كبيرة، سيكون لها ثمنها السياسي الباهظ.
أما الاحتلال الكامل وبلا حساب فسيكون إيذاناً بانتهاء السلطة التي بقيت سليمة هناك، وعندما تنتهي السلطة فسيدفع الاحتلال أثماناً باهظة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، خلافاً لوضع (الاحتلال الديلوكس) الذي عاشه شارون خلال أكثر من عامين وتحديداً منذ نيسان/ أبريل عام 2002م.
نهاية السلطة هي «الكابوس» كما وصفها أحد الكتاب الإسرائيليين؛ إذ سيعني ثمناً اقتصادياً باهظاً بتحمل المسؤولية عن حياة الناس، وسياسياً ثمناً كبيراً بعودة الاحتلال إلى وجهه القبيح، وأمنياً بكسر ميزان القوى المختل مع المقاومة بإمكانية عودتها إلى حرب الشوارع كما كان الحال قبل أوسلو.
- إخفاق شارون الأمني والسياسي:
في ضوء ذلك كله برز الإخفاق الأمني الذريع لشارون بالعجز عن إخماد جذوة المقاومة. أما السياسي فتمثل في العجز عن فرض رؤيته للحل الانتقالي بعيد المدى الذي وعد بتحقيقه إلى جانب وقف الانتفاضة، وهو الحل القائم على دولة فلسطينية هزيلة على قطاع غزة و 42% من الضفة الغربية من دون القدس أو السيادة أو عودة اللاجئين.
هنا بدأ الشارع الإسرائيلي يعلن ضجره من شارون، وكذلك حال النخبة السياسية والعسكرية، وبرزت قصة (موشيه يعلون) وتحذيراته من كارثة سياسية على الدولة العبرية، ومثلها تحذيرات رؤساء الشاباك الأربعة السابقين، وإضرابات الطيارين وعناصر الوحدات الخاصة، والوضع الاقتصادي المتدهور، والمعلومات المخيفة حول الهجرة القادمة والمعاكسة، إلى غير ذلك من المؤشرات السلبية التي دفعت النخبة السياسية والعسكرية إلى مواجهة شارون بعدد من الفضائح، والتي ما كان لها أن تتفجر لولا ذلك، بل إن وثيقة جنيف الشهيرة ما كان لها أن تظهر بذلك الدعم اليهودي والدولي الكبير لولا ضعف شارون وهزاله السياسي، وبتعبير أدق: نهاية مشروعه الأمني والسياسي.
هنا كان على شارون أن يُخرِج كل ما لديه من سحر كي ينقذ نفسه من مصير بائس، فكان الجدار الأمني واحداً من محاولاته المستميتة للتخلص من الهواجس الأمنية، ثم كان الإعلان عن خطة الفصل أحادي الجانب في وقت لاحق عام 2003م، وهي الخطة التي أجمع المحللون الإسرائيليون في حينه على وصفها بالهزيمة أمام الإرهاب. وقد كان لافتاً أن يعلق على المشروع في اليوم التالي (في صحيفة معاريف) رجلان من اليمين (بنتسي ليبرمان) رئيس مجلس يشع للمستوطنين، و (يوسي بيلين) «الحمامة» اليساري المعروف؛ حيث أجمعا على أن شارون قد قدم بمشروعه هدية للإرهاب وأثبت هزيمته أمامه.
كان ذلك صحيحاً مئة بالمئة، ولن نتأكد من ذلك إلا عندما نتذكر أن مشروع شارون للفصل أحادي الجانب ثم إخلاء مستوطنات قطاع غزة، هو عينه مشروع الحل الانتقالي بعيد المدى الذي كان على الفلسطينيين أن يدفعوا مقابله استئصال الإرهاب وعقوداً ومواثيق لا حصر لها، لكنه عاد ليمنحهم إياه بلا ثمن، أقله في البداية وقبل بروز التطورات التالية.
بالمقابل كان المنطق الذي سوّق به شارون الخطة هو أنها مادة الفورمالين التي تجمد من خلالها العملية السياسية، بحسب تعبير مدير مكتبه (دوف فايسغلاس) ، فضلاً عن كونها محطة باتجاه تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس.
- تطورات المشهد العراقي والفلسطيني الداخلي:
خلال عام 2004م كان المشهد الفلسطيني والعربي يبدو مختلفاً إلى حد كبير؛ فقد استنفر الأمريكان والصهاينة في العالم أجمع من أجل إخراج الوضع الصهيوني من مأزقه، وقد بدأت الولايات المتحدة في الضغط على الوضع العربي، وهو الأمر الذي دفعه إلى تراجعات واضحة، حيث كان المشهد العراقي مرتبكاً إلى حد كبير، وخرجت مقولات الإصلاح التي أرعبت النظام العربي الرسمي وعززت من تراجعاته أمام الضغوط الأمريكية.
في هذه الأثناء بدأ شارون هجمته الأكثر شراسة على الشعب الفلسطيني، لا سيما بعد أن تحول قطاع غزة إلى عنوان المقاومة الأروع والأشرس في ظل تراجع المد المقاوم في الضفة الغربية، فكان أن اغتال الصهاينة مؤسس حركة حماس ورمز الانتفاضة (الشيخ أحمد ياسين) ، ثم أتبعوه بالشهيد البطل (الدكتور عبد العزيز الرنتيسي) ، ولم يمض وقت طويل حتى تخلصوا بالسم من الرئيس الفلسطيني (ياسر عرفات) ، وهي الجريمة التي لم يجرؤ النظام العربي ولا حتى الورثة في حركة فتح ومنظمة التحرير على الاعتراف بها، فضلاً عن مواجهتها.
- محمود عباس والمرحلة الجديدة:
مباشرة وبعد مقتل ياسر عرفات جاء (محمود عباس) إلى السلطة بدعم أمريكي مصري إسرائيلي، وليبدأ مرحلة جديدة كان يعلن الإيمان بها على الدوام، أي التفاوض من دون سلاح، وهو ما كان بالفعل؛ حيث جرى ترتيب وضعه بانتخابات رئاسية سريعة منحته بعض الشرعية، في الوقت الذي كان النظام العربي الرسمي في الحالة ذاتها من التراجع.
هنا تحول مشروع الانسحاب من قطاع غزة من مشروع أحادي الجانب إلى مشروع يتم بالتعاون مع السلطة بعد قمة شرم الشيخ مع شارون مطلع عام 2005م، على حين لم يكن بوسع قوى المقاومة أن ترفض مشروع التهدئة الذي جاء تابعاً لذلك، ليس بسبب عجزها عن مواصلة المقاومة؛ لأن وضعها كان قوياً قبل ذلك، بل بسبب تراجع فتح ووقوفها مع التهدئة، وبسبب الموقف المصري، وإلى حدٍ ما تراجع الموقف السوري تحت وطأة الضغوط الأمريكية.
تواصلت العملية بين شد وجذب وردود فلسطينية على الانتهاكات الإسرائيلية على التهدئة، لا سيما بعد أن تواطأ الأمريكان مع السلطة في تأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية خوفاً من فوز حماس، وصولاً إلى سعي من طرف السلطة إلى فرض الهيبة ولو بالقوة، وهو الأمر الذي أفضى إلى صدامات محدودة بين حماس والسلطة كانت مفتعلة كما تبين للمراقبين.
- أسئلة الانسحاب وتفاصيله:
الآن يبدأ الانسحاب من قطاع غزة، مع محاولة قادة السلطة الإمساك بكامل الملف بعيداً عن الآخرين، وهو ما لا يرضي حركة حماس التي تتعرض لضغوط من جمهورها للتدخل خشية تلاعب قادة السلطة الفاسدين بكل شيء، وفي حين اتهمت الحركة بمحاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة من قِبَل قادة حركة فتح؛ فإن موقف الحركة ما زال متردداً إزاء المرحلة؛ فهي تريد المشاركة في ترتيبات ما بعد الانسحاب لكي لا يستقر القطاف في جيوب الفاسدين على حساب من ضحوا وقدموا الغالي والنفيس، لكن الموقف العام لا يبدو مسانداً بحال؛ فالمصريون لن يقبلوا بحركة (أصولية) في خاصرتهم الفلسطينية، والأمريكان لن يقبلوا ولا الإسرائيليون، بينما لا تريد هي التعامل مع المحتلين أيضاً. ولا تسأل بعد ذلك عن موقف حركة فتح التي تملك الاستعداد للاقتتال الأهلي من دون حدود دفاعاً عن مكتسباتها، في حين لا تملك حماس أي استعداد لإراقة دماء الفلسطينيين على مذبح الانسحاب من 6% فقط من الأراضي المحتلة عام 1967م.
من هنا يمكن القول إن أوراق اللعبة ستبقى رهن يد الإسرائيليين وبعض رموز السلطة المتعاونين معها، بل إن هناك من يقول إن تنسيق العملية يتم بين (محمد دحلان) ، رجل الأمريكان وبين الإسرائيليين بعيداً عن محمود عباس نفسه. وفي العموم فإن مشاكل كثيرة لا بد ستندلع على خلفية التفاصيل الكثيرة المتعلقة بالانسحاب، ومن بينها أو على رأسها مسألة توزيع الأراضي التي كانت عليها المستوطنات، لكن فتح ستبقى سيدة الموقف كما يبدو، وإلا فهو الاقتتال الداخلي الذي لا تريده حماس، حتى لو كانت قادرة عليه؛ إذ ماذا تفعل بهذه المساحة من الأرض التي يسيطر عليها المحتلون من البر والبحر والجو؟
في هذا السياق ينبغي التذكير بقضية مهمة تتعلق بالسيادة على القطاع، وهي القضية التي لم تُحسم بعد في الدوائر الإسرائيلية؛ إذ ما زالت مسألة المعبر البري مع مصر، ومسألتا الميناء والمطار قيد التداول؛ فعلى حين يصر الفلسطينيون على سيادة كاملة، تبدو الدوائر الإسرائيلية مترددة حيال أمر كهذا، وإن قررت بناء سياجين أمنيين جديدين حول القطاع. وفي العموم فإن الدور المصري سيبقى حاضراً هنا، سواء كان ذلك بغياب الإسرائيليين أم بحضورهم، أم بحضور دولي في المعبر.
ما من شك أن هناك في الأروقة الإسرائيلية والأمريكية من يشجع على منح السيادة للقطاع من أجل إعطاء الانطباع بوجود دولة فلسطينية تتشكل على الأرض، وإن على مساحة محدودة ومحاصرة، ولا سيما وأن واشنطن ما تزال في حاجة ماسة إلى استمرار التهدئة في الملف الفلسطيني من أجل التفرغ للملف العراقي.
- أسئلة ما بعد الانسحاب من غزة:
لعل الأسئلة الأكثر أهمية هي تلك التي تطرح عما بعد الانسحاب من قطاع غزة وليس قبله، بل إن كثيراً منها قد طرح قبل ذلك، أعني تلك المتعلقة بالممارسات الإسرائيلية على الأرض التي تؤشر على أهداف الانسحاب والموقف من عملية التسوية برمتها.
في هذا السياق كان الإسرائيليون يستغلون التهدئة من أجل فرض وقائع كبيرة على الأرض تتعلق بالجدار الذي تُسرق الأراضي من أجل استكماله، وتتعلق بالتوسع الاستيطاني في الضفة والغور والقدس، وهي ممارسات لم تفعل السلطة حيالها أي شيء يذكر.
من المؤكد أن الانسحاب من غزة سيعيد طرح الأسئلة التالية بشكل أكثر وضوحاً، وعلى رأسها مستقبل التسوية فيما يتعلق بالضفة الغربية. وهنا تحديداً تنهض حقائق الجدار الأمني الإسرائيلي التي يراد لها أن تكون حدود الدولة المؤقتة. ومعلوم أن الجدار المذكور ما زال يقسم الضفة الغربية إلى كانتونات أو يحولها إلى جزر معزولة؛ بينما يسرق أهم أراضيها، وأهم أحواض المياه، من خلال الكتل الاستيطانية الثلاث الكبيرة، والتي يصر الإسرائيليون جميعاً على أن بقاءها غير قابل للمساومة.
وفي حين يحاول محمود عباس الحديث عن ضرورة القفز مباشرة نحو التسوية النهائية، على أمل الخروج من مأزق الدولة المؤقتة؛ فإن المعضلة التي تواجهه هي أن الدولة المؤقتة ذاتها هي المرحلة الثانية من خريطة الطريق التي يطالب هو بتطبيقها، بينما يصر شارون على تجاهلها، أو تمييع الموقف بالحديث عن موقف فلسطيني محسوم من مسألة الإرهاب والبنية التحتية لمنظماته. وفي العموم فإن العام القادم هو عام الانتخابات الإسرائيلية، وفيه لن يقدم شارون للفلسطينيين أي تنازل يذكر، وهو الذي لقي ما لقي من عنت بسبب قرار الانسحاب من القطاع وتفكيك مستوطناته.
هكذا يبدو الموقف الفلسطيني أمام حقائق الجدار والمستوطنات، وحقيقة الدولة المؤقتة التي هي الترجمة الحرفية لمشروع شارون للحل الانتقالي بعيد المدى. لكن قفزة أو تغيراً جوهرياً في لغة التفاوض أو الصراع لن يحدث من دون حدوث تطورات عربية وإقليمية ودولية مهمة، ذلك أن المسار القائم لم يُفرَض إلا بسبب السطوة الأمريكية على الوضع العربي والدولي تبعاً لاحتلال العراق. وإذا ما تواصل الإخفاق الأمريكي هناك، وصولاً إلى نهاية لمشروع الشرق الأوسط الكبير؛ فإن من غير الممكن عندها الاستمرار في لعبة الدولة المؤقتة، وهنا إما أن يمنح شارون للفلسطينيين دولة حقيقية في الضفة والقطاع، أو يعود الصراع إلى دائرة المقاومة المسلحة من جديد.
وفي حين يرى شارون أن ما عرضه باراك على الفلسطينيين في كامب ديفيد عام 2000م كان كارثياً؛ فإن من العبث على المراقب أن يتوقع منه العودة إلى تلك الصيغة التي لن يقبلها الفلسطينيون أيضاً.
خلاصة القول هي أن مشروع شارون للحل الانتقالي بعيد المدى، أو مشروع الدولة المؤقتة التي تبقى مشكلتها مع الدولة العبرية مشكلة نزاع حدودي لا أكثر بينما تبدأ رحلة التطبيع الجديدة مع المحيط العربي، هذا المشروع الذي بدأ في غزة وينبغي أن يتوج بسيطرة إسرائيلية على المنطقة في غضون سنوات قليلة، لا يمكن أن يمر من دون إذلال الأمة ونجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير، أما وأنه مشروع في طور الإحباط كما تقول المعطيات الموضوعية في العراق؛ فإن العودة إلى لغة المقاومة تبدو استحقاقاً طبيعياً، سواء كان ذلك بعد شهور أم أعوام. لكن ذلك لا يغير حقيقة أن تحرير غزة بالكامل قد تم بالفعل بسيف المقاومة، لا بالتفاوض والاستجداء، وهي القناعة التي لا يحب المهزومون الاعتراف بها، لسبب بسيط هو أنها نوع من الإدانة للخط الذي سلكوه وما زالوا يسلكونه رغم أن سواهم قد سبق أن جربه دون جدوى(216/15)
الاستراتيجية الإسرائيلية وحقوق الإنسان الفلسطيني
لواء. أ. ح. د. زكريا حسين
لقد أجمع المحللون والمتابعون للمأساة الفلسطينية أن الممارسات اليومية للجنود الصهاينة إنما تعود إلى بداية نشأة جيشهم منذ قيام الدولة عام 1948م، بل قبل ذلك، وهو ما عكسته المذابح التي ارتكبها بحق الفلسطينيين، مثل: «دير ياسين، وكفر قاسم» عام 1948م، «وصبرا وشاتيلا» عام 1982م، و «قانا» عام 1996م، والتي تعد جرائم حرب تكشف الطبيعة الدموية للقوم وعساكرهم، وافتقارهم للمعايير الأخلاقية والقانونية. ويمثل قتل الطفلة الفلسطينية «إيمان الهمص» ذات الثلاثة عشر عاماً ـ دون مسوغ ـ مدى التزام الجيش الإسرائيلي بأخلاقيات الجندية، والمعايير الدولية في التعامل مع المدنيين الفلسطينين والأجانب، وخاصة أن عملية قتل الطفلة الفلسطينية التي وصفها أحد الجنود الصهاينة بأنها تمّت «بوحشية ولا مبالاة» تمثل حلقة من سلسلة الجرائم التي اعتاد ذلك الجيش ارتكابها بحق المدنيين في صراعه غير المتوازن مع الفلسطينيين، والتي أصبحت تمثل عملية منهجية بفضل غياب المحاسبة العسكرية، وتجاهل المعايير أو غيابها؛ حيث أكدت الإحصائيات المعلنة أنه مع نهاية العام الماضي ومطلع عام 2005م قتل الجنود الصهاينة خمسة أطفال فلسطينيين بالأسلوب ذاته، منهم الطفلة «رغد عدنان» ذات الأعوام العشرة التي أطلق عليها الجنود الإسرائيليون النار داخل مدرستها في سبتمبر 2004م، والطفلة «رانيا إياد عرام» التي لم تتجاوز الثماني سنوات والتي قتلت وهي في طريقها لمدرستها في 29/10/2004م. وإلى جانب ذلك نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية والأجنبية صوراً لجنود يمثلون بجثث فلسطينيين وممارسة أنماط مختلفة من التعذيب والتنكيل بحق المدنيين بصفة عامة والمعتقلين الفلسطينيين بصفة خاصة.
من هنا كان من الأهمية بمكان عرض هذه الاستراتيجية الشاملة لجيش العدو بشقيها الاستراتيجية التفاوضية، والاستراتيجية العسكرية، وانعكاساتها على حقوق الإنسان الفلسطيني من خلال محاولة الإجابة عن ثلاثة تساؤلات رئيسة:
أولها: هل الدولة العبرية جادة حقاً في مسيرتها السلمية مع العرب بعد مواجهات دامية بين الحرب والسلام استمرت أكثر من نصف قرن؟
ثانيها: ماذا عن حقوق الإنسان الفلسطيني التي ينتهكها الصهاينة تحت دعاوى الدفاع الشرعي عن النفس، واستخدامها المفرط للقوة العسكرية؟
ثالثها: إذا كانت انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني هي النتيجة لحق القوم في الدفاع عن النفس؛ فماذا عن حق الإنسان الفلسطيني المطلوب إيقاف انتفاضته؟
وفي مجال الإجابة عن التساؤلات المطروحة ستتركز الدراسة على ثلاثة موضوعات رئيسة:
أولها: عرض الاستراتيجية الشاملة للصهاينة بشقيها: استراتيجية التفاوض، والاستراتيجية العسكرية.
ثانيها: كيف تم تفعيل الاستراتيجية الشاملة الإسرائيلية، بدءاً بتوقيع اتفاق «أوسلو» للسلام في إطار استراتيجية التفاوض والمبادئ الصهيونية التي حكمتها ثم عرض لنقطة التحول الرئيسية في «كامب ديفيد الثانية» ، واشتعال انتفاضة الأقصى في 28/9/2000م، وبدء تفعيل استراتيجيتهم العسكرية.
ثالثها: ما انتهى إليه تفعيل استراتيجيتهم العسكرية في إهدار حقوق الإنسان الفلسطيني.
وعن الموضوع الأول: الاستراتيجية الشاملة للقوم، بشقيها: استراتيجية التفاوض، والاستراتيجية العسكرية؛ فقد تم صياغة استراتيجية التفاوض في إطار مبادئ وخطوط حمراء تحكم كل طوائف الشعب الصهيوني منذ عام 1982م، وقد توافقت مواقفهم على المبادئ الآتية:
- لا عودة إلى حدود ما قبل الخامس من يونيو 1967م.
- إن نهر الأردن يمثل حدودهم الشرقية (الأمنية والسياسية) .
- يجب أن يكون الكيان الفلسطيني منزوع السلاح، ولا يُنشِئ جيشاً، ولا تدخلة قوات أجنبية، ويكون جيشهم هو الجيش الوحيد الذي يتاح له ذلك، وأن يتولى مهام الدفاع، وأن يسيطروا على المجال الجوي الفلسطيني.
- أن يكون الكيان الفلسطيني ناقص السيادة، محدود السلطات، وبوجه خاص يُمنع عليه عقد اتفاقات عسكرية، ويظل مرتبطاً بالدولة الصهيونية (مع الاختلاف بشأن طبيعة هذه الروابط) .
- أن تبقى معظم المستوطنات المغتصبة (مع الاختلاف حول ضمها لهم، أو إبقاء بعضها تحت السلطة الفلسطينية) .
- أن تظل القدس الموحدة والموسعة عاصمة لدولتهم، وخاضعة لسيادتها المنفردة.
- أن توضع ضمانات كافية لسيطرة الصهاينة على مصادر المياه في الأراضي الفلسطينية.
- رفض مبدأ عودة (اللاجئين) الفلسطينيين إلى إسرائيل، وتنظيم عودة (النازحين) إلى الكيان الفلسطيني، حتى لا تشكل كثرتهم، وتوطينهم خطراً على أمن الدولة الصهيونية.
كما تم صياغة استراتيجية عسكرية بنيت على فك الارتباط، والتداخل بين المستوطنين اليهود والشعب الفلسطيني، وإعادة تكثيف المستوطنات والمستوطنين في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، وإعداد ترتيب مخطط تدريب مشترك بين المستوطنين والقوات المسلحة للعدو بما يسمح بتحقيق أكبر قدر من النجاح في تنفيذ العمليات المسلحة في أقل وقت ممكن، وبأكبر قدر من الخسائر في الشعب الفلسطيني، وقد تزامن مع هذه الصياغة توقيع العديد من الاتفاقيات الأمنية مع الجانب الفلسطيني؛ بما يضمن عودة قيادات السلطة الفلسطينية، وكوادرها السياسية والعسكرية لتكون هدفاً سهلاً للتصفية والقتل والاغتيال في إطار الاستراتيجية العسكرية الصهيونية المخططة.
وعلى الجانب الآخر وفي مجال تقييمنا الموضوعي للاستراتيجية الفلسطينية نقول: لقد قامت السلطة الفلسطينية بالتحول عن المقاومة والكفاح المسلح، وبدأت مسيرتها للسلام ووقعت على إطار السلام المزعوم في 13/9/1993م، حيث وافق الجانب الفلسطيني على مفهوم ورؤية القوم للسلام والاعتراف بالدولة المغتصبة، ووافق على قيام كيان فلسطيني في الضفة الغربية وغزة ـ بما يمثل 22% من مساحة إسرائيل متنازلاً بذلك عن حقة الذي قررته له عصبة الأمم في القرار رقم 181 الصادر في عام 1948م بإقامة دولة فلسطينية على 48% من فلسطين.
هذا؛ ورغم تنازلات السلطة الفلسطينية المتعددة التي قُدمت للعدو إلا أنها وافقت على تأجيل التفاوض بشأن القضايا الجوهرية الخاصة بمدينة القدس، واللاجئين، والمستوطنات، والحدود، والتعاون مع دول الجوار، وغيرها؛ لتبدأ بعد ثلاث سنوات في مرحلة لاحقة للمفاوضات للاتفاق على ما أطلق عليه «المكانة الدائمة» . كما نص الاتفاق على استمرار المستوطنين والمستوطنات الصهيونية في قطاع غزة والضفة الغربية دون فرض أي قيود على بناء هذه المستوطنات، أو زيادة حجم مستوطنيها، أو تعديل أوضاعها، مع الموافقة على استمرار الدولة العبرية في تحقيقها للأمن الداخلي والخارجي، والنظام العام داخل المستوطنات، من خلال نشر أفراد حرس مدنيين داخلها للحفاظ على الأمن والقانون؛ مما يعني الموافقة على استمرار الحضور الأمني الداخلي إلى جانب القبول باستدعاء القوات المسلحة للتدخل في أي وقت لتوفير الحماية للمستوطنين والمستوطنات عند تعرضهم لأي تهديد، أو حدوث اضطرابات قد تتهددهم.
هذا إضافة إلى حق القوات المسلحة الصهيونية وقوات الشرطة، والمدنيين الصهاينة للاستخدام الحُرّ للطرق في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ بما فيها المناطق والمدن والقرى التي تنتقل إدارتها للسلطة الفلسطينية، كما أكد إحكام السيطرة الأمنية على مناطق السلطة الفلسطينية، وهيأ الظروف المناسبة لقيام حكومة «باراك» ، وبعدها حكومة «شارون» بتنفيذ كل مخططاتها بالقدر الذي انتهى إليه الوضع السائد في الضفة الغربية وقطاع غزة حالياً.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد لغياب الرؤية الاستراتيجية للسلطة الفلسطينية، بل وقّعت اتفاق «واي ريفر» في 23/10/1998م لينتزع من الجانب الفلسطيني تنازلاً جديداً؛ حيث اتفق الجانبان على اتخاذ كافة التدابير الضرورية؛ بغية منع أعمال الإرهاب والجريمة والعمليات الفدائية ضد الطرف الآخر، مع إعداد خطة أمن فلسطينية تطّلع عليها الولايات المتحدة، مع المكافحة المنهجية والفعالة للمنظمات الإرهابية وبنيتها الأساسية، واستئناف التعاون الأمني الفلسطيني معهم، وتشكيل لجنة فلسطينية ـ أمريكية لمراجعة الخطوات الفلسطينية المتخذة ضد الجماعات المتشددة، وتشمل الخطة قيام السلطة الفلسطينية باعتقال أشخاص معينين يشتبة في قيامهم بأعمال عنف والتحقيق معهم، ومحاكمتهم، وتعمل السلطة الفلسطينية على مساعدة الولايات المتحدة على تجريم حيازة الأسلحة، ومصادرة الأسلحة غير المرخصة في المناطق الخاضعة لسيطرتها، كما وافقت السلطة الفلسطينية على قيام لجنة أمريكية ـ فلسطينية ـ صهيونية رفيعة المستوى بتقديم التنسيق الأمني ومكافحة المتشددين.
وعلى ضوء ما التزمت به السلطة الفلسطينية مع الجانب الصهيوني، وما وقّعت عليه من التزامات عجزت تماماً عن تحقيقها؛ حيث كان واضحاً أن منظمة حماس وتنظيم الجهاد الإسلامي هما التنظيمان المعنيان بأعمال الإرهاب، والجريمة، والأعمال الفدائية، والتي كان مطلوباً من السلطة الفلسطينية طبقاً لما أقرته ووقّعت عليه من اتفاقيات أن تتعاون أمنياً مع الدولة العبرية في القضاء عليهما، بل كان التزامها الأشد خطورة: هو القبول بقيام لجنة أمريكية ـ فلسطينية ـ صهيونية بالتخطيط ومكافحة الأجنحة العسكرية لكل من منظمتي حماس والجهاد؛ مما استحال على السلطة الفلسطينية تنفيذ ذلك الالتزام لأنه ينهي كل المقاومة الفلسطينية، وكفاحها المسلح، وثوراتها وانتفاضتها عبر نصف قرن من الزمان مقابل عدم الحصول على أي ضمانات، أو التطرق لحل أي من القضايا الجوهرية الخاصة بالصراع الفلسطيني ـ الصهيوني، وهو الأمر الذي هيأ للدولة العبرية وحكوماتها المتعاقبة انتهاءً بحكومة شارون اعتبار السلطة الفلسطينية، ورئيسها المنتخب ياسر عرفات لا يملكون الإرادة السياسية لإبرام اتفاقيات سلام مع الصهاينة من منطلق عجزهم عن تنفيذ ما التزموا به من اتفاقيات. وعلى ضوء هذه الحقيقة التي رسختها الحكومات الصهيونية كانت خطة «خارطة الطريق» التي بدأت بإلزام السلطة الفلسطينية بتنفيذ ما التزمت به من تعهدات تحت مسمى «تدمير البنية الأساسية للإرهاب الفلسطيني» باعتباره شرطاً رئيساً مع تغيير القيادات الفلسطينية؛ لإمكان القبول الصهيوني الأمريكي ببدء مسيرة سلام جديدة.
- تساؤل هام:
وأنتقل إلى التساؤل الهام والأخير عن كيفية إهدار حقوق الإنسان الفلسطيني، والمدى الذي وصل إليه ذلك تحت سمع وبصر ومتابعة المجتمع الدولي كله؟!
- إن نقطة التحول الرئيسة كانت في حكومة (باراك) رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق عن حزب العمل، وإدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وعقد لقاء قمة بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الصهيوني لعقد اتفاق نهائي شامل بين طرفي الصراع في 11/7/2000م في منتجع كامب ديفيد.
- ومن متابعة ما تم في هذه القمة يتضح أن «أيهود باراك» قد جاء إليها، وهو يحمل نوايا إحباطها؛ حيث طرحت هذه القمة «خطة أمريكية» كاملة لحل كل قضايا الصراع الرئيسة، وقد عمدت أجهزة الإعلام الأمريكية والصهيونية إلى المبالغة في حجم التنازلات التي قبلها الجانب الصهيوني في هذه الخطة والتي منها على سبيل المثال:
- الإعلان عن الموافقة على قيام دولة فلسطينية على مساحة 95% من الضفة الغربية، وقطاع غزة، خلافاً لواقع ما طرح في الخطة الأمريكية.
- الترويج الإعلامي المكثف عن تفكيك مستوطنات خارج مناطق التركيز الاستيطاني.
- القبول بعودة عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين على مدى عدة أعوام.
وكان المطلوب من الجانب الفلسطيني إقرار ثلاثة تنازلات هامة:
- القبول بتسوية القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع الفلسطيني مع المحتلين الصهاينة.
- التنازل عن القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية.
- التنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
ومع رفض السلطة الفلسطينية لتنازلات اندلعت انتفاضة الأقصى، وظهرت حقيقة النوايا الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية، وإهدار حقوق الإنسان الفلسطيني؛ فقد تنوعت ممارسات قوات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، من مذابح جماعية إلى توسيع سياسة الاغتيالات، والقتل خارج القانون، وحصار القرى والمدن، وتجويع أهلها، وتدمير منازلهم، واتباع سياسة الأراضي المحروقة، وغيرها من الممارسات التي وصفها العديد من المنظمات الحقوقية بأنها انتهاك حقوق الإنسان التي ترقى لمستوى جرائم الحرب، وطبقاً لتقدير منظمة حقوق الإنسان الصهيونية الصادر في 27/11/2004م؛ فقد قام جيش العدو بتدمير أكثر من 4100 منزل فلسطيني منذ انطلاق انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000م، منها 628 منزلاً كان يعيش فيها 3983 فلسطينياً تم هدمها كإجراء عقابي لأهالي المقاومين؛ بينما قدرت (منظمة العفو الدولية) في تقريرها في 20/11/2004م: أن عدد القتلى من الأطفال الفلسطينيين على أيدي الجيش الإسرائيلي خلال نفس الفترة وصل لأكثر من 550 طفلاً.
وطبقاً لبيانات مركز المعلومات الوطني الفلسطيني خلال الفترة من 29/9 وحتى 31/10/2000م وصل إجمالي الشهداء الفلسطينيين إلى 3800 شخص، إلى جانب 82 آخرين لم يتم تسجيلهم، منهم 699 من الأطفال أعمارهم أقل من 18 سنة، و 249 من الإناث، في حين بلغ عدد الشهداء نتيجة الاغتيالات 303 أشخاص، وبلغ عدد الشهداء من المرضى جراء الإعاقة على الحواجز الإسرائيلية 121 شخصاً ما بين طفل وسيدة وشيخ مسن، ووصل إجمالي المرضى إلى 43569 شخصاً؛ بينما بلغ عدد الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال 7200 رجل منهم 128 سيدة.
هذا وقد وصل عدد المنازل التي تضررت من عمليات القصف والتدمير إلى 69120 منزلاً منها 7149 منزلاً دمرت تدميراً كاملاً. كما بلغت مساحة الأرض التي تم تجريفها 71914 دونماً.
بينما بلغ إجمالي مساحة الأراضي التي تم مصادرتها لمصالح بناء الجدار العازل منذ مارس 2003م إلى نحو 211624 دونماً.
وقد تعرضت هذه الممارسات لانتقادات دولية واسعة؛ فقد انتقدت «منظمة العفو الدولية» في بيان لها في مطلع أكتوبر 2004م عمليات إطلاق النار المستمر من جانب قوات الاحتلال ووصفتها بالتهور؛ مؤكدة أنها تمثل انتهاكاًً لاتفاقية جنيف الرابعة، كما وصفتها «مفوضية حقوق الإنسان» التابعة للأمم المتحدة في مايو 2004م بأنها انتهاك لحقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدولي.
تلك هي الصورة التي تعكس تصرفات الجيش الصهيوني والتي تكشف عن غياب واضح لأي قواعد قانونية، أو أخلاقية في التعامل مع المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسط تجاهل بل تأييد الولايات المتحدة التي تعتبر تلك الممارسات الإجرامية دفاعاً عن النفس.
صراع حدود أم صراع وجود؟
وعلى ضوء هذه الحقائق فإنه يمكن القول: إن الشعب الفلسطيني تحت سيطرة قوة الاحتلال قد انتُهكت العديد من حقوقه الشرعية، ونذكر منها: حق التسلح ـ حق الدفاع عن النفس ـ حق العلاج ـ حق حرية الحركة ـ حق الاعتراض والمقاومة ـ حق الإعلام بالواقع ـ حق العمل ـ حق الملكية الفردية والجماعية ـ حق التقاضي والمطالبة بعدالة القصاص ـ حق الثأر ـ حق البقاء والمحافظة على الذات ـ حق الحرية للفرد والوطن والإرادة الوطنية. باختصار: الحق في الحياة الكريمة، في إطار من العدل والحرية والمساواة وهي أبرز حقوق الإنسان في أي مكان.
من هنا تتضح، وتتأكد الإجابة عن التساؤل الدائم: هل نحن بصدد صراع حدود أم صراع وجود؟
إنه بالقطع صراع على حق الوجود ذاته.
ومن هذا المنطلق فقد كان لزاماً أن تستكمل الدراسة والبحث بعرضٍ لما عكسته انتفاضة الأقصي المباركة على القوة المسلحة، والمستوطنات، والمجتمع والاقتصاد الصهيوني تصديقاً لقول الباري ـ سبحانه وتعالى ـ: {إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104] .
- أثر الانتفاضة الفلسطينية على العدو:
- عند قيام الانتفاضة الفلسطينية كانت نسبة القتلى من الصهاينة 1 إلى 50 من الفلسطينيين، ومع استمرار الانتفاضة ارتفع عدد القتلى من المستوطنين من 3 قتلى شهرياً إلى 17 قتيلاً، ووصل إجمالي القتلى إلى حوالي 500 قتيل، وأكثر من 3500 جريح، وقد تم وصف ذلك بأن: «هذه المسافة بين الخوف والذعر، والجمهور الصهيوني يعيش بين هذا وذاك» .
- 78% من الصهاينة لم يعودوا يسهرون في أماكن عامة؛ خشية الإصابة في عمليات استشهادية.
- قالت صحيفة (معاريف) في 2/4/2004م: «إن قوة الجيش تتآكل بمنهجية، بعد أن غرقت في مستنقع الانتفاضة، إلى درجة أن المطلوب هو جندي في كل دكان، وفي كل موقف سيارات، وفي كل محطة حافلات، وسبعة معهم في كل مفترق طرق» .
- أكد (أكيس فيشمان) في مقال في صحيفة (يديعوت أحرنوت) : «أن سياسة الأمن لديهم تحتضر، وأن الوضع الأمني الذي يعيشونه يعتبر إفلاساً أمنياً» .
- برز الانهيار المعنوي لقوات العدو، من خلال البيان الذي أعلنه الرافضون للخدمة العسكرية، وعددهم يتكاثر بالمئات حتى بلغوا الآلاف، وقد أعلنوا رفضهم في الخدمة في الضفة الغربية باعتبارها أرضاً محتلة، والقتال فيها غير شرعي.
- تزايد وتيرة الانتقاد للاستخدام المفرط للقوة والتي تعني «أن الوحشية في الانتقام والعنف المفرط هما دليلان واضحان على بلوغ مرحلة اليأس التي تسبق عادةً مرحلة الاستسلام، أو الموت للكائنات الحية» .
في استطلاع للرأي أجراه المجلس الصهيوني بيّن أن غالبية الشعب يفكرون أكثر من أي وقت مضى في المغادرة، وأن نسبة 50% من اليهود العلمانيين فكّروا بالهجرة، كما أن نسبة عالية أخرى تشتري شققاً في الخارج تحسباً لليوم الأسود، وفي استطلاع أمريكي مماثل عبّر 18% عن رأيهم بأن دولتهم ستختفي من الوجود، وقال 23%منهم إنها لو استمرت في البقاء فلن تكون دولة يهودية.
- ألحقت الانتفاضة خسائر باقتصادهم قدرت في يوليو 2002م أي خلال سنتين فقط من الانتفاضة بـ 11 مليار دولار، أي 50 مليار شيكل.
- نقص الاستثمار الخارجي في الداخل بنسبة 98%، وارتفع في المقابل عدد المستثمرين اليهود في الخارج بنسبة 93%.
- بلغت خسائر قطاع السياحة عام 2001م فقط مبلغ 2.2 مليار دولار أمريكي.
- جاء في تقرير صندوق النقد الدولي أن العجز الحكومي في الموازنة عام 2003م وصل إلى 2.66 مليار شيكل.
- أعلن رئيس اتحاد المصانع الإسرائيلية عن إغلاق 60 مصنعاً في عام 2002م، إضافة إلى إغلاق 150 مصنعاً للتقنية المتقدمة، وشهد عام 2003م إغلاق 90 مصنعاً للأثاث، و150 مصنعاً للتقنية.
كشفت صحيفة (هآرتس) عن خطط طوارئ لمواجهة عجز الموازنة تمثل في:
- تسريح 10% من موظفي الدولة ـ تخفيض المرتبات بنسبة 10% ـ تقليص عدد الوزارات من 23 إلى 19 فقط ـ تقليص موظفي الإدارة المحلية 40%.
- تفشت في المجتمع اليهودي ظاهرة الانتحار، وارتفاع مستوى الجريمة، واتساع الخلاف بين الفئة العلمانية والدينية.
تلك بعض ملامح ما فعلته انتفاضة الأقصى المباركة في المجتمع الصهيوني، في مواجهة كل عوامل القهر، والإذلال والحصار، والتجويع الذي تمارسه قوة الاحتلال الإسرائيلي؛ فهل يمكن أن يتعايش الشعبان الفلسطيني والصهيوني بعد هذا الكم المتراكم من عوامل الكراهية والحقد، والتي ترسخت في أذهان وعقول أطفال، ونساء، وشباب، وشيوخ الشعب الفلسطيني؟
إن الحقيقة التي أكدتها الاستراتيجية الصهيونية عبر أكثر من نصف قرن من الزمان تشير إلى أنه لا سبيل للأمة العربية بوجه عام، وللشعب الفلسطيني بوجه خاص سوى الإعداد والتحضير والتخطيط الاستراتيجي للمواجهة الشاملة؛ للحد من المخططات الصهيونية الأمريكية التي لا تستهدف سلاماً بقدر ما تستهدف استسلاماً وخضوعاً للرؤية الصهيونية المنسقة استراتيجياً مع الولايات المتحدة الأمريكية، لاقتلاع الجذور العربية، وفرض الهيمنة للمحتل ليس فقط على مقدرات الشعب الفلسطيني، وطموحاته وحقه في إقامة دولته المستقلة، بل على الشعب العربي كله، التي أظهرت النوايا الحقيقية المدمرة له، من خلال الإعلان الأمريكي الصهيوني عن مبادرة (الشرق الأوسط الكبير) .
__________
(*) المدير الأسبق لأكاديمية ناصر العليا، مستشار رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا بمصر.(216/16)
الحكيم وفن الممكن
د. يوسف بن صالح الصغير
لقد مثَّلت مطالب عبد العزيز الحكيم أثناء التجمعات الشيعية الحاشدة بمناسبة مرور سنتين على اغتيال محمد باقر الحكيم بإقامة إقليم شيعي في جنوب ووسط العراق على غرار الإقليم الكردي، وتأييد موفق الربيعي مستشار الأمن القومي العراقي ـ مثَّلت بروز الوصفة الأمريكية الرابعة للتحكم في العراق حيث؛ تحولت هذه المطالب إلى محور أساسي في نقاشات الدستور الجديد الذي تم طرحه على الرغم من اعتراضات السنة المشاركين في لجان الصياغة. لقد طبقت أمريكا في العراق مبدأ (فن الممكن) والانتقال من وسيلة لأخرى؛ فقد حاولت حكم العراق عن طريق اعتبار الأمم المتحدة أمريكا وبريطانيا محتلين مما يمكنهما من النهب القانوني لثروات العراق، وتم تعيين حاكم أمريكي، ومع تطور المقاومة أضيف مجلس حكم عراقي لمعاونة الاحتلال، ومع تزايد العمليات تم تحويل هذا المجلس إلى حكومة مؤقتة، ثم أجريت انتخابات ليتم تشكيل حكومة موالية للاحتلال؛ مع ملاحظة ان الشخصيات المشاركة في الهياكل السابقة لم تتغير كثيراً. لقد تصورت أمريكا أن حكومة يديرها زعماء الميليشيات الشيعية والكردية مع شخصيات سنية تم تعيينها قادرة على تقديم دعم حقيقي لإدارة الاحتلال، ولكن هذا الخيار أحبط؛ لأن السنة كان خيارهم هو المقاطعة أو المقاومة.
لقد تزامن في وقت واحد تلميحات الإدارة الأمريكية بالانسحاب عندما يصبح العراقيون الموالون لها قادرين على الإمساك بزمام الأمور بتصريحات متكررة من وزير خارجية الحكومة ثم من رئيس الوزراء بأن الانسحاب يجب أن يكون بالتنسيق مع الحكومة العراقية وكأنهم يقولون: لا تتركونا إننا عاجزون عن الوقوف بدونكم. إن مسألة الانسحاب هي مجرد مسألة وقت مع تزايد الخسائر الأمريكية، وقد يحدث ما يجبر أمريكا على انسحاب متعجل تكون فيه الحكومة الحالية لقمة سائغة للمقاومة. إن الطرح الحالي يتلخص في أن العراق يُقَسَّم بصورة يمكن فيها لمن تعاون مع الاحتلال أن يكون أكثر قدرة على الثبات؛ حيث يتم تقسيم العراق إلى أقاليم حكم ذاتي، ويتوقع ان تكون على النحو التالي:
1 - إقليم كردي في الشمال.
2 - إقليم شيعي أو أكثر في الجنوب والوسط.
3 - يمكن للسنة أن يبقوا على محافظاتهم ويرتبطوا بالمركز أو يكوِّنوا إقليماً أو أكثر.
ويلاحظ هنا أن الشيعة والأكراد يسيطرون على مواطن الثروة في العراق، وإذا طبقت الخطة فإن محافظات الشيعة والأكراد تتولى إدارة شؤونها وحماية نفسها، ويتم حصر السنة في محافظات مهمشة فقيرة ويدخل فيها العراق في دوامة صراع لا نهائي من أجل البقاء، وسيتم نهب خيرات العراق من أجل الحصول على أدوات الموت. إنه مشهد قائم في أفريقيا ومجرب: خذ منهم البترول والأحجار الكريمة وأعطهم البندقية. إنها فكرة شيطانية ولكن إخفاق مسعاها محقق؛ لأن جو المقاومة السنية لن يتيح لهذه الخطط أن تجد طريقها للتطبيق، إنها خطة جميلة على الورق مثل ما سبقها، وهي لن تنجح؛ لأنها لم تضع تصوراً لتطبيقها في ظل الظروف الحالية. ولمن عاصر حرب فيتنام وشاهد كيف تعلق العملاء بالطائرات الأمريكية المغادرة لسطح مبنى السفارة الأمريكيه بـ (سايجون) ، أقول: هل هو بعيد ذلك اليوم الذي يتكرر فيه المشهد ولكن في المنطقة الخضراء؟
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(216/17)
قف واستدر ولا تخف!
يوسف العمايرة
«بوبي» ، «دودو» ، «روبي» هي أسماء ليست بعربية، وليست لأشخاص حقيقيين، بل هي (أكرمكم الله) لكلاب ذكية تابعة لما يمكن تسميته (وحدة الكلاب) في الجيش الصهيوني التي دخلت مجال الخدمة الفعلية بشكل واضح خلال انتفاضة الأقصى.
الحواجز العسكرية الصهيونية التي تقطِّع أوصال مدننا وقرانا ومخيماتنا، وعددها بالمئات في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع التهدئة أزيل منها حواجز ثابتة كانت موضوعة على المداخل الرئيسة لتجمعاتنا السكانية، واستُبدلت بحواجز متحركة يمكنها في أية لحظة أن توضع بجوار متجرك، أو أمام مؤسستك، أو بالقرب من شرفة بيتك، ولن تتفاجأ للحظة إذا سمعت يداً غريبة تطرق بابك أو نافذتك بخفة ورشاقة، ليلاً أو نهاراً، فافتح.. فلا وقت للاستعلام عن هوية الطارق.
ضيفك لا بد من استقباله، راضياً أم مرغماً، وقد تعلمنا منذ الصغر أن نكرم ضيوفنا ولو كانوا أغراباً أو كلاباً؛ فإكرام الضيف من شيمنا الأصيلة. ومن الضروري أن تتحلى بالصبر والصبر الجميل وأنت ترى كلباً يدخل بيتك رغماً عنك ولا تستطيع أن تزجره أو تنهره. لا بد أن تستعين بالله ـ تعالى ـ إذا رأيت من ضيفك ما يضرّك؛ فهو في هذه الحالة ليس زائراً كريماً، ولا ضيفاً وقوراً، بل هو عدو يملؤه الحقد والغلّ، لن يطرح عليك السلام ولو بلغة سيئة، ولن يمد يده ليصافحك؛ فليس لديه متسع من الوقت، ربما يكون لطيفاً معك لدرجة أنه لن ينقضَّ عليك مع أول إطلالة لك من خلف الباب، فيومئ برأسه ويده أن استَدِرْ أو تنحَّ جانباً وافتح له صدر البيت، فهو لا يريد أكثر من البحث عن الأنفاس الموجودة، وعدّها روحاً روحاً، وتجميعها في ركن واحد أو طردها خارجاً، ثم يأتي بسيده المدجج، وقد أمّن له الدرب ليعيث الاثنان في بيتك أو مكتبك خراباً وإفساداً.. ولا حول لك ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... هذه قصتنا مع كلابهم، بل هي رواية تتعدد معها فصول المعاناة يوماً إثر يوم، ولا أمل بأن تنتهي إلا أن يشاء الله.
النظرية الاحتلالية الصهيونية، تقدس منظومة الآلة العسكرية بكافة أشكالها، ابتداء من الجندي المدجج، إلى السلاح المحدَّث، مروراً بالقذائف الذكية، وليس انتهاء بكل آلات التدمير المنتشرة في البر والبحر والسماء. كيف لا؟! وكل مظاهر هذه المنظومة التي يُنفَق عليها أكثر من عشرة مليارات دولار سنوياً، تشكل الدرع الواقي للأمن «القومي» للقوم، والأمن الشخصي لكل من يحمل جنسيتهم أو «الهمَّ اليهودي» عبر العالم.
خلال انتفاضة الأقصى قام الجيش الصهيوني بتفعيل دور الكلاب كقوة احتلالية ضاربة، لمواجهة عناصر المقاومة الفلسطينية، ثم للتنكيل بالمواطن الفلسطيني لما في ذلك من محاولة للإذلال النفسي والمعنوي. ولعل هناك أسباباً تدفع جيشهم إلى إقحام هذه الحيوانات في الخدمة العسكرية، ولا ندري تحت أي مسمى أُدرجت: هل في إطار القوى البشرية في الجيش، سلاح المدفعية أو المشاة، أم الأذرع الأمنية الاستخبارية، أم الإمداد اللوجستي..؟ المهم أنها أدرجت وصنفت كقوة عسكرية فاعلة، وأهم المقاصد من ورائها، تخفيف حالة الإحباط وتقليل الإصابة بين الجنود والضباط الذين لا يقل الإنفاق عليهم لتأهيلهم في الخدمة العسكرية ذاك الإنفاق على الكلاب التي يحتاج تدريبها وتأهيلها قدرات بشرية ومادية فائقة؛ غير أنها وعند سقوطها في المعارك ليس لها من يبكيها، ولا وجود لمجموعات رأي عام تناضل من أجلها.
على معظم الحواجز العسكرية التي يتجاوزها الفلسطينيون في تحركاتهم داخل أراضيهم المحتلة، تنتشر الكلاب، ويتناقل الناس الأحاديث والنوادر عن هذه الآفة المنغصة «النجسة» ، حيث يتسلى الضباط والجنود في إطلاق العنان لها لتمارس هوايات التفتيش والإذلال في أمتعة الناس ومركباتهم؛ فإذا كنت طالباً جامعياً، أو باحثاً، أو سياسياً واقتربت من حاجز عسكري؛ فكن رابط الجأش، استرخِ على مقعدك بانتظار الوصول إلى نقطة التفتيش، ولا بأس بأن تطلق العنان لخيالك عبر النافذة، فكّر ملياً بالمستقبل، والتفوق، وواجبات يومك، وجداول أعمالك ومحاضر اجتماعاتك، ومتابعة القرارات الصادرة، وآليات بناء ذاتك، ومدى حاجة أسرتك ووطنك لك ... ولا ضير إن عاد بك الخيال إلى واقعك، لتحاوره بصوت منخفض عن التهدئة مع الاحتلال، ولماذا هذا التأخير عن جامعتك أو عملك؟ ولماذا يستمر الإذلال على الحواجز؟ ... وما أن تبدأ تراقب تلك العجوز أو ذاك الشيخ بعكازتيهما وهما يتسلقان الجبل لاجتياز نقطة التفتيش تفادياً لأوامر الاستدارة ورفع الثياب ـ خوفاً مما وراءها ـ والتدقيق في الهويات، حتى تكون مركبتك قد اقتربت وحان الدور للتفتيش.. اصمد وراقب فقط؛ فالتفتيش سيجري كما جرى في السابق، ولكن ليس على أيدي الجنود هذه المرة، سيكون بوساطة الكلاب قطعاً للنمطية المملة، ومن باب تغيير الوجوه على المواطن الفلسطيني؛ فحالة التهدئة تتطلب تغيير الوجوه والأدوار، ومن يدري؛ فلربما يكون «بوبي» أو «دودو» أو «روبي» أقل قسوة من أولئك البشر الذين فاقت همجيتهم طغيان الحيوان في غابته. لكن المشكلة هنا، أن كلابهم تربية أيديهم، ونتاج إبداعاتهم الخارقة في مجال الإذلال. سيبادرك الكلب بإيماءة، تلحظ منها أنه يأمرك بالترجل من مقعدك، وربما يكرر بأخرى، تأمرك بأن تستدير وترفع ثيابك وتكشف عن بطنك.. فمن يدري؟!! لعلك تتوشح حزاماً طبياً لعمودك الفقري، وحينها لا بد من تفتيشه، هكذا يأمرك كلبهم و «القانون» «قانون» . لا تضجر إذا تسلل «بوبي» إلى حقائبك وأجرى عملية تفتيش دقيقة لأمتعتك؛ فهو يعمل لمصلحتك، ويحرس أمنك الشخصي من نفسك التي يمكن أن تسوِّل لك في لحظة من اللحظات فعل شيء يضرك لا تشكّ بـ «دودو» وامنحه ثقتك المطلقة على كل ما يقوم به؛ فهو ذو يدٍ أمينة، ليست كتلك اليد الطويلة التي كانت تتسلل إلى جيوب محفظة نقودك بحثاً عن أسلحة، فتخرج وقد اختلست الدينار قبل «الشيكل» أو ملاحظة ما هو محظور، أو ما يسيء لدراستك وبرامجك ومحاضر اجتماعاتك.. لا تغضب! «روبي» قصدها شريف، وما في قلبها على لسانها وبين أنيابها، إنها أليفة ولو رأيت عيونها تكتحل باحمرار كلون الدم.. وإن تأخرتَ ساعات على نقطة التفتيش، أو تعطلت بعض أمتعتك؛ فكن ذا روح مرحة، وتمتع بمنظره وهو يمارس هواياته ويفرغ طاقاته الفذة بروح مفعمة بالحيوية والنشاط، وكأنه ينتظر بعد كل إنجاز إشارة تقدير أو رتبة عسكرية لائقة.
إنها كلاب طموحة، وليس من حقك أن تنغص عليها واجباتها، فأعباؤها ثقيلة. بإمكانك أن تعوض نفسك عن أية خسارة لحقت بك بسببها، لكن مهامها غير قابلة للتأخير أو التعويض.
لا تخف إن علا نباحها، أو كشفت عن أنيابها، أو حفرت بأرجلها الأرض؛ فهي لا تستطيع أكثر من إجراء بعض عمليات «التخميش» في الوجه و «التجريف» في الأطراف كما حدث مع بعض الفتية في زنازين (باسْتيلاتهم) احمَدِ الله أنها لم تمتشق السلاح بعد، وإلا كانت كارثة تذكرنا بالمجازر التي قاموا بها وكشفت تقاريرهم أن منفذيها «مجانين» .. والعذر هذه المرة ألطف وأكثر دبلوماسية؛ فالقتل سيكون ناتجاً عن رصاصة «كلب طائش» ، ليس بمقدور أحد أن يوجه له اتهاماً بالقتل أو الإرهاب، لكونه يتفيأ ظلال منظمات عالمية للرفق بالحيوان.
في عصر أحد الأيام من عام 1997م، وعلى مرأى من الأسرى الفلسطينيين في معتقل (مجدو العسكري) المطل على سهل مرج بني عامر شمال فلسطين، ضل أحد القطط طريقه، فاخترق الأسلاك الشائكة ليقع في قبضة أحد كلاب حراسة السجن الضخمة، فالتقطه الأخير بقبلة واحدة مميتة، مزقّته إرباً، ثم حفر له في الأرض ودفنه، وجلس على قبره يهز ذيله هانئاً بجولة مشهودة.
إنها رواية الفلسطيني اليومية مع الاحتلال بكل أشكاله، جيشه وجنوده وطائراته ومدافعه وبوارجه وجداره الفاصل، ثم ها هي كلابه تدخل المعمعان، وهي على مقدرة كبيرة من الحرفية في العمل، والمهنية في أداء الواجب وتنفيذ الأوامر، تتسابق في تفانيها خدمةً لسيدها المحتل مع ثلة بشرية اعتلت رقاب العباد من المحيط إلى الخليج، وأفنت أجيالاً متتابعة من الأحرار والشرفاء، كي تبقى تستظل رضا العم «سام» في محفله، والقوم في بيوتهم الملونة «أبيضها وأحمرها» والوطن والمواطن في حقبة الحُكمين يتلذذ الألم، ويتجرع الأسى، ويتدثر المعاناة.
__________
(*) صحفي فلسطيني ـ الخليل.(216/18)
المسلمون في اليونان بين الواقع والمأمول
شادي الأيوبي
- لمحة عامة:
ينقسم المسلمون في اليونان إلى فئتين أساسيتين: المسلمين الأصليين من أهل البلد، والوافدين من الخارج.
ويكاد المرء يجد صعوبة كبيرة في ربط المجموعتين بعضهما ببعض؛ فبينهما آمال متفرقة وآفاق ورؤى مختلفة للمستقبل، وأهم من هذا كله، أن أيّاً من الفريقين لا يرى أهمية للتواصل والتعاون، رغم كثرة التحديات وصعوبة المرحلة.
- المسلمون اليونانيون:
ويسكن معظمهم في مناطق (ثراكي) شمال البلاد، وهم من أصول تركية وبلغارية، وكانت اتفاقية لوزان بعد الحرب العالمية الأولى رتبت مسألة تبادل السكان بين تركيا واليونان، وقد بقوا في موطنهم بعد رحيل الجيوش العثمانية عن أراضي اليونان إثر ثورات عديدة.
ولا يوجد إحصاء رسمي يفيدنا بأعداد المسلمين اليونانيين بالتاكيد، بينما تتراوح التقديرات بين 150 و200 ألف شخص، يتوزعون بين محافظات (كوموتيني) و (كسانثي) و (روذوبي) الشمالية.
ويعمل الكثير من المسلمين اليونانيين بالزراعة، ولا سيما زراعة التبغ، ويبدو أنهم حتى فترة قريبة لم يكونوا واثقين تماماً من مستقبل وجودهم في اليونان؛ حيث كانوا يعمدون إلى شراء أراض زراعية في تركيا المجاورة كحل أخير في حال نشوب أي توتر في المنطقة.
ويقول (حسن إيماموغلو) وهو محام يوناني مسلم تولى عدة عمليات شراء: إن أبناء الجالية المسلمة في اليونان لهم مساهمات كبيرة في مجال شراء العقارات المختلفة في تركيا، لكن بعد عام 1993م الذي تم فيه الاعتراف بحقهم في التملك في اليونان، خفَّت رغبتهم في شراء العقارات التركية، وتحولوا إلى شراء عقارات يونانية.
ولعل من أهم مشاكل المسلمين اليونانيين أنهم تاريخياً رُبط مصيرهم بتركيا للتدخل لصالحهم والدفاع عنهم من خلال وصفهم بالأقلية التركية وليس الإسلامية، مما أسفر عنه عزلة كبرى لهم، انعكست عليهم جهلاً وتخلفاً في كافة الميادين، وفيما يدل على قوة النفوذ التركي أن مصطلح الدولة الخفية لا يزال يستعمل إلى يومنا هذا، ويُقصد به القنصلية التركية ومناصروها في المنطقة.
ويتجلى تعلق الجالية المسلمة بالقومية التركية في مسألة اللغة، حيث لا تزال اللغة التركية هي المستعملة لديهم، بينما يكاد العديد منهم لا يحسن اللغة اليونانية، وهذا الواقع بدأ يتغير شيئاً فشيئاً مع الجيل الجديد الذي دخل الجامعات اليونانية ومجالات العمل المختلفة.
ويبدو أن الحكومة التركية الجديدة في سعيها إلى كسب عضوية الاتحاد الأوروبي، والتصويت اليوناني لصالح ذلك الانضمام، تميل إلى التخلص من تركات الملف الثقيل للأقلية المسلمة في اليونان، وتوصيفها بالأقلية المسلمة، وهذا ما بدا واضحاً في زيارة رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان) الأخيرة لليونان.
ففي كلمة له في إحدى القرى عبر (أردوغان) عن توجهاته الأوروبية بشكل أكبر؛ إذ قال في كلمة له في مركز البلدية حيث كان يرفرف علم اليونان وعلم الاتحاد الأوروبي: هنا يرفرف العلم الأوروبي، أما تركيا فلم تندمج بعد في الاتحاد الأوروبي، وبفضل الجهود التي نقوم بها، وبمساعدة اليونان سننجح في ذلك، وأضاف متوجهاً للمسلمين: لم أقل لكم أن ترفضوا هويتكم، لكن أن تمارسوا حقوقكم ضمن إطار القوانين اليونانية.
الملفت للنظر أن (أردوغان) تجنب تماماً وصف الأقلية المسلمة في المنطقة بالأقلية التركية، وهو الوصف الذي كثيراً ما يسبب التوتر لدى الحكومة اليونانية، التي ترى بهذا الوصف ومردديه مدعاة للتدخل الخارجي في شؤونها الداخلية.
وتتحكم الكثير من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في مصير المسلمين اليونانيين، وهم بشكل عام عرفوا في المدة الأخيرة انفتاحاً على المجتمع اليوناني تجلى في دخولهم إلى الجامعات والجيش، ونزوح قسم منهم إلى العاصمة أثينا للعمل والإقامة، وهذا الانفتاح لم يكن يعني بالضرورة المزيد من تمسكهم بالدين لأسباب، منها:
- أنهم لم يكونوا مهيئين لهذا الانفتاح، والذي كان يقصد منه فيما يبدو أن يذوبوا في المجتمع المحيط بهم.
- تَدَخُّلُ الكثير من الأطراف الداخلية والخارجية في أمورهم، وتشتتهم إلى فئات عديدة لا تتفق حول معظم الأمور.
- الخلط بين العوامل الدينية والقومية والوطنية عندهم بحيث ترتبط ببعضها أو تتعارض أحياناً بشكل غير مفهوم.
- ندرة الدعاة المؤثرين؛ فالأقلية المسلمة لا تعرف الكثير من الدعاة الذين يعرفون كيف يحركون الأمور بحكمة وروية، وزاد من سوء الأمور عدم وجود أوقاف تدعم مشروعاتهم الدعوية، ثم تعيين مفتين لهم من قِبَل الدولة اليونانية وهو الأمر الذي لم يقبلوا به ولا تزال المسألة إلى اليوم عالقة في المحاكم اليونانية.
ورغم وجود المئات من المساجد، والقليل من المدارس للأقلية المسلمة في شمال اليونان، فلا يمكن الحديث اليوم عن صحوة أو نهضة إسلامية في مناطقهم؛ حيث لا توجد أي آثار أو علامات لتلك النهضة؛ فالشباب بعيدون بشكل عام عن الالتزام الديني، ومعظم رواد المساجد من العجائز والمسنين، ولا تبدو مظاهر إسلامية مهمة إلا ما يكون في المناسبات الدينية مثل شهر رمضان والأعياد، وهذه تكون أقرب إلى التقاليد منها إلى الدين.
- الوافدون:
أما المسلمون الوافدون فلا يزالون إلى اليوم تحت رحمة الأجهزة الحكومية التي لم تعط حتى الآن أي نوع من أوراق الإقامة الثابتة للمهاجرين، وهذا الأمر أثر على كل الوافدين حيث لا يشعر أحد منهم بالاستقرار في البلد، مما جعل الآمال والطموحات باستقرار المشروعات الدعوية بعيدة في الأمد المنظور.
ولا يمكن إلى اليوم الحديث عن جالية مهاجرة كاملة؛ حيث ما زالت الإجراءات البيروقراطية تحول دون لَمِّ شمل الكثير من الأسر. ومن المعروف أن أثينا إلى اليوم لا يوجد بها أي مسجد رسمي، ولا يُعرف إن كان سيبنى أصلاً في ظل التنازعات السياسية والنفاق الرسمي حيال القضية، وعدم الجدية من قِبَل المتابعين المسلمين لها.
ويقدر عدد المسلمين الأجانب في اليونان بأكثر من نصف مليون شخص يتحدرون من أصول ألبانية وآسيوية وعربية، ويعملون في مجالات البناء والزراعة والتجارة الحرة، إضافة إلى أعداد من الطلاب.
- المفوضية الأوروبية تنتقد اليونان بسبب المهاجرين:
وكان تقرير صادر عن المفوضية الأوروبية قد انتقد الحكومة اليونانية بشكل لاذع، بسبب الظروف غير الإنسانية التي يعيشها المهاجرون الأجانب في أثينا.
وقال التقرير الذي نشرته جريدة «تانيا» أوسع الجرائد اليومية انتشاراً في اليونان: إن حالة المهاجرين الأجانب في اليونان بعيدة جداً عن الاندماج التام الذي تسعى إليه المفوضية.
وقالت المفوضية الأوروبية: إنه لا بد من اتخاذ إجراءات صارمة ضد الموظفين الذين يتصرفون بشكل عنصري مع الأجانب، أو لا يتصرفون وفق قوانين التعامل معهم، وكذلك ضد الموظفين الذين يرفضون خدمتهم.
تقرير المفوضية نصح بإضافة فقرات خاصة لقانون العقوبات الجزائي، بهدف تجريم التصرفات العنصرية، وتشكيل لجنة خاصة لمراقبة حوادث استعمال القوة المفرطة من الشرطة اليونانية، ضد الأجانب.
ولاحظ التقرير أن الأجانب يلاقون الكثير من العناء والانتظار في الطوابير أمام البلديات والمستشفيات لساعات وربما لأيام لأجل تأمين الأوراق الضرورية لتجديد الإقامات الخاصة بهم.
وطالبت المفوضية بتخفيض المبلغ المطلوب لتجديد الإقامة، والذي اعتبرته باهظاً جداً، كما طالبت بمنح المقيمين منهم منذ زمن طويل حق الانتخاب والترشح في الانتخابات البلدية.
ويعود وجود الأسر المسلمة المهاجرة في اليونان إلى أمد غير قريب؛ حيث كانت أثينا محطة لكثير من العائلات القادمة من العالم العربي، ثم زاد هذا الوجود أثناء الحرب الأهلية اللبنانية؛ حيث هاجر عدد كبير من المسلمين إليها هرباً من شبح الحرب الدامية، وكانت العلاقات المستقرة بين اليونان ومعظم الدول العربية من عوامل طمأنة هذه الهجرة المؤقتة، وإن كانت البلد لم تعرف هذا العدد الكبير من المهاجرين إلا بعد منتصف الثمانينيات وأوائل التسعينيات، خصوصاً بعد حرب الخليج الثانية التي ساهمت في تهجير أعداد كبيرة من الأكراد وغيرهم، وشهدت هذه الفترة زيادة كبرى في الهجرة الجماعية السرية؛ حيث تعمد أسر كاملة إلى دفع مبالغ طائلة إلى المهربين الذين يتعهدون بإرشادهم إلى طريق الوصول دون أي ضمانات، وكثيراً ما كان هؤلاء يعجزون عن إعانة زبائنهم عند المناطق الحدودية الخطرة، أو عند وقوعهم في أيدي حرس الحدود الذين يعيدونهم بعد فترة قصيرة من حيث جاؤوا.
كذلك فإن فترة التسعينيات شهدت توافداً كبيراً لليد العاملة من الدول العربية، ومن دول شرق آسيا، ومن الدول الأوروبية المجاورة (ألبانيا، دول شرق أوروبا) حيث دخلت اليد الأجنبية الرخيصة إلى مجالات البناء والزراعة وصيد السمك، وكانت استفادة أرباب العمل من العمال الأجانب غير محدودة؛ فقد كان هؤلاء ـ بسبب عدم شرعية وجودهم في البلد ـ يعملون مقابل أجر زهيد ولساعات طويلة، مع عدم تقديم الضمانات الاجتماعية المفروضة لهم.
أمام هذه الأحوال كان لا بد أن يلجأ قسم من الأجانب إلى مختلف الوسائل لتسوية أوضاعهم القانونية، فلجأ عدد منهم إلى الزواج بمواطنات من البلد، ولم يكن هدف الجميع مجرد تسوية أوضاع فقط، بل إن بعضهم لجؤوا إلى الزواج حفاظاً على أنفسهم من الوقوع في المعاصي بسبب عدم قدرتهم على الزواج من مسلمات من بلادهم، أو لعدم قدرتهم على الرجوع إلى بلادهم أصلاً، كذلك كان عدد لا بأس به من الطلاب قد لجأ إلى نفس الأسلوب لتأمين إقامة دائمة بعد إكمال دراساتهم وانتهاء أذون الإقامة الطلابية.
وعند حلول القرن الحالي كان في البلد عدد كبير من الأسر المسلمة تضم إلى المتزوجين من يونانيات أسراً لعمال استطاعوا إحضار أهلهم، إضافة إلى أسر الموظفين في الشركات التجارية العربية المختلفة.
- مصاعب اليوم وهموم الغد:
المصاعب والهموم تنبع كما هو معروف من اختلاف البيئة وتحديات التأقلم مع البلد مع تجنب ما في هذه القضية من سلبيات ومخاطر خصوصاً على الجيل الناشئ، وقد بدأت فعلاً بعض نتائج الاندماج غير المدروس وغير المراقب تظهر على مستوى الشباب الناشئ من الجنسين من تفلت أخلاقي وانجراف مع التيارات المشبوهة، والانسلاخ عن كل ما هو إسلامي وأخلاقي، إضافة إلى تورط بعض منهم في شبكات تهريب المخدرات والسرقة.
- الانسلاخ الحضاري أكبر الأخطار وأعظمها:
وتعد هذه المعضلة الكبرى وهاجس الخوف الذي يلوح للمغتربين عند أول وصولهم للبلد وبدء احتكاكهم بمشاكله وظروفه، وتبقى هاجساً مسيطراً على الأهل الذين يخشون من انجراف أبنائهم مع موجة الفساد والإباحية السائدة والتي تحاصر المجتمع في البيت والشارع والمدرسة وأماكن العمل.
- ابنتي ترفض الزواج من مسلم:
هذه الشكوى تتكرر من العديد من الآباء الذين أفنوا أعمارهم وأيامهم في العمل الطويل المضني دون الانتباه إلى ضرورة العناية بتربية أبنائهم وتلقينهم تعاليم دينهم وتحصينهم من الذوبان في موجة الانفلات الأخلاقي، فكانت النتيجة خسارة العمر في السعي وراء المال، وخسارة الأبناء الذين لا يرفضون فقط العودة إلى أوطانهم الأصلية، بل ينفون بقوة أية صلة تربطهم بها أصلاً.
- الإسلام حصن من الانفلات حتى لدى غير المسلمين:
ومن الإنصاف أن نقول إن الكثير من الزوجات غير المسلمات، يراعين إلى حد كبير رغبة أزواجهن في تنشئة الأبناء تنشئة صالحة وإبعادهم عن شرور الكحول والتدخين والمخدرات، وكثيراً ما تكون حوادث السرقة والعنف وتهريب المخدرات التي تقوم بها عصابات من الأطفال وغير الراشدين والتي تنشر في وسائل الإعلام المختلفة، دافعاً لديهن لحث أبنائهن على الالتزام بتعاليم الإسلام وأخلاقه لما يرين فيه من سمو روحي وإنساني، ولك أن تتخيل كم هو رائع ومؤثر منظر تلك الأم غير المسلمة التي توقظ أبناءها لصلاة الفجر أو تبحث في مواقيت الصلاة عن موعد الإفطار والسحور لهذا اليوم، لكن هذا بالطبع لا يلغي المشاكل الناجمة عن اختلاف العادات والتقاليد والثقافات، إضافة إلى أن قلة الوعي لدى الكثير من الآباء وانعدام معرفتهم بأمور دينهم، وعدم التزامهم بها كثيراً ما يسير بالأمور نحو السلبية والتأزم، وكذلك فإن عدداً من الأزواج الذين يلتزمون بعد زواجهم بدينهم يواجهون مشاكل في إقناع زوجاتهم بمبادئهم الجديدة، ولا يلقون الاستجابة المطلوبة إما لاستعجالهم للنتائج، أو لعدم عرضهم لمبادئهم بشكل صحيح ومناسب، فضلاً عن مخالفتهم إياها في كثير من الأحيان.
- الواقع الصعب: غياب المرجعيات الواعية والتقوقع ضمن الجاليات القُطرية:
إن عدم وجود مرجعية دينية عليا تجمع المسلمين تحت رايتها، وعدم وجود المرافق الأساسية لتنشئة الجيل الصاعد من مدارس ونواد ومجمعات ثقافية وروابط للشباب، تجعل الكثير من أصحاب الأسر يفكرون جدياً في ترك البلد والاستقرار في مكان آخر أو العودة إلى بلادهم الأصلية، يضاف إلى ذلك أن المسلمين في اليونان هم الأضعف بين جميع إخوانهم في أوروبا وأقلهم إنجازات في جميع الأصعدة.
كذلك فإن عدم وجود مرجعية فكرية أو سياسية موثوقة في البلد جعلت آراء المسلمين وتصوراتهم حول القضايا والهيئات السياسية المختلفة من أحزاب سياسية وقرارات حكومية متشتتة إلى درجة كبيرة. أضف إلى ذلك أن طبيعة التكتلات القائمة بينهم والتي أخذت شكل الجاليات القُطرية المستقلة أسهمت في إيجاد جو من الشعور بالفرقة والتشتت نظراً إلى محدوديتها وقلة فاعليتها وسيطرة أشخاص معينين على إدارتها.
- الجهل باللغة المحلية عائق مهم:
ومما يؤسف له ان المسلمين الوافدين من أزهد الوافدين في تعلم اللغة المحلية وإتقانها، بحيث يعدون من اكثر الجاليات بُعداً عن الوعي بواقع البلد السياسي والثقافي، مما جعل تأثيرهم معدوماً بشكل تام، رغم أعدادهم الكبيرة.
وكانت فترة التسعينيات الأولى تشهد من حين إلى آخر زيارات لعلماء ودعاة يمرون بالبلد لفترات قصيرة، أو يأتون تلبية لدعوة من أحد المصليات الموجودة، وكان لهذه الزيارات أثر طيب في تجميع الشباب لكون هؤلاء الدعاة والعلماء على قدر كبير من المعرفة الفقهية والخبرة بالواقع الأوروبي، والمؤسف أنه منذ حوالي 10 سنوات ندرت هذه الزيارات، مما ترك جواً من الحيرة والقلق خصوصاً بالنسبة لمسائل الاستفسارات الفقهية التي تواجه المسلم في حياته، مما جعل الكثيرين يلجؤون إلى البحث عن مصادر للفتوى من بلادهم، تكون في أحيان كثيرة مفتقدة إلى فقه الواقع الذي يعيشون فيه.
- جهود جيدة لكنها غير كافية:
والواقع أنه كانت تجري من حين إلى حين ولا تزال إلى اليوم محاولات لإيجاد نوع من التنظيم لجهود الشباب من خلال بعض اللجان الاجتماعية والفرق الرياضية التي كانت تقوم بنشاطات متعددة كالمباريات الرياضية وإحياء المناسبات الإسلامية، وكان لها دور في عملية التربية بالنسبة للأطفال أخذ نموذج مدارس نهاية الأسبوع، لتعليم اللغة العربية والقرآن الكريم، وكانت لها نتائج مقبولة؛ لكنها بحكم كونها مبادرات فردية فهي أقرب إلى العمل المتحمس منها إلى العمل المنظم، وهي تشكو من الفوضى في الإدارة وعدم وجود منهج مناسب، إضافة على عدم قدرتها على الاستمرار والدوام في العطاء بسبب اعتمادها على متطوعين غير متفرغين ولا أهل خبرة وسابق تجربة.
ويعد الإسلام من أكثر الديانات حيوية في البلد؛ حيث يستقطب الكثيرين من الشباب والمثقفين الذين يترددون على الأماكن البسيطة التي تُستأجر لأداء الشعائر والمناسبات.
- مسلمون جدد:
وفي المدة الأخيرة بدأت ظاهرة جديدة تظهر ولو بشكل فردي ضعيف، وهي اعتناق أفراد من المجتمع اليوناني الإسلام باجتهاد فردي وبحث شخصي، وهؤلاء معظمهم من الشباب والمثقفين الذين قضوا أعواماً طويلة في البحث والتقصي في المبادئ والديانات والأفكار.
وهؤلاء من أكثر العناصر وعداً بالنسبة للعمل الدعوي في البلد لكونهم يعرفون طبيعة اليونان وخصائصها الثقافية والسياسية، لكن ينقصهم الكثير من الخبرة في مجال العمل الدعوي الإسلامي، وتتويج حماستهم وخبرتهم بالبلد بخبرة وتعقل في مجال الدعوة والعمل الإسلامي.
مستقبل الإسلام في البلد رهن بنشاط أبنائه في كل مجال، لكنهم لا يزالون وللأسف بعيدين عن التأثير في سياسة البلد العامة، وحتى تلك الموجهة إليهم.
__________
(*) عضو اتحاد الصحفيين الأجانب في اليونان.(216/19)
قد كان ها هنا.. عراق
أحمد فهمي
السؤال الذي يراود الكثيرين، ويهرب أكثرهم من الإجابة عنه، هو: هل يمكن أن يعود العراق دولة موحدة يحكمها السنة كما كانت؟ الجواب الأكثر واقعية: لقد انتهت دولة العراق، وبمعنى آخر: ما نراه ماثلاً أمامنا هو كيان أو كيانات جديدة قد تتطور في المستقبل المنظور إلى دول ليس لها علاقة بالعراق القديم من قريب أو بعيد.
إن الدستور الجديد الذي يتجاذبه ويتقاذفه الأكراد والشيعة فوق رؤوس العرب السنة يرسخ الفيدرالية وهي لفظة مهذبة للحكم الذاتي، الذي هو بدوره عبارة لطيفة تمهد لظهور دول جديدة. والأمر الذي يجب الإقرار به هو أن العراق القديم لا يوجد من يحفل به أو يحرص على عودته إلا العرب السنة، وهم حالياً أضعف الأطراف وأقواها في نفس الوقت؛ فهم ضعفاء من الناحية السياسية، وإن كانوا أقوياء بقدرتهم على المقاومة، ولكن للأسف فإن حسم مسألة العراق كدولة واحدة يتم في ميدان السياسة، ولا نستبعد في تطورات الأحداث أن تتزامن لحظة انتصار المقاومة ـ بانسحاب الاحتلال ـ مع لحظة انتهاء العراق الموحد؛ فقد أصبح جلياً أن واشنطن ترى في الفيدرالية طوق نجاة يمكن أن يسهل عليها إعادة الانتشار في العراق.
وهذه الوضعية تدفع إلى السطح سؤالاً بالغ الأهمية: إن كانت أمريكا تؤيد الفيدرالية في العراق، فهل يعني ذلك أنها توافق على ظهور دول جديدة مستقلة؟ المفارقة الغريبة في السياسة الأمريكية أنها ترفض تماماً الحلول المطلقة والنهائية، وتعمل وفق مبدأ: إدارة الصراعات وليس حلها، وهذا ما يحدث في العراق: إدارة الصراع، والوصول بالأطراف المتصارعة إلى مرحلة تقترب من الحل النهائي، وعندها يتوقف الدعم فجأة، وتترك الأوضاع على حافة الانفجار. هذا ما فعلته أمريكا في أفغانستان، وما تفعله في العراق، وما ينتظر أن تفعله في دول عربية أخرى تترقب الأقليات فيها أن يحل عليها الدور لتنعم بالفيدرالية.
والسودان يمثل نموذجاً للدولة التي يتم تفكيكها على نار هادئة عن طريق العزف على أوتار أقلياتها، ولا يُخفي الكثيرون توقعاتهم بصعوبة استمرار السودان كدولة موحدة لفترة طويلة، والأمر الخطير أن سلاح الاغتيالات الفعال بدأ يشق طريقاً في الساحة السودانية، والاغتيالات الوسيلة المفضلة لدى أجهزة المخابرات الأجنبية لقلب الأوراق السياسية في أي بلد، وتبدو أسماء ذات ثقل مرشحة لأن تتعرض لمحاولات مماثلة لما تعرض له (جارانج) ونعني طبعاً من رجالات المؤتمر الحاكم، ونصيحتنا لهم أن يتجنبوا ركوب المروحيات، على الأقل في الأيام القادمة.(216/20)
مستقبل الإسلام والمسلمين في الغرب!
يحيى أبو زكريا
استطاع الإسلام بما يملكه من حيوية ذاتيّة أن يفرض نفسه على الخارطة الغربية، وأن يصبح سؤالاً ملحّاً على الغربيين بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والفكريّة.
وقد خططت الاستراتجية الإعلامية الصهيونية في الغرب أن يكون الإسلام العدو ذا الرقم واحد للحضارة الغربية والغربيين والديانة النصرانية، لكنّ هذا التخطيط نجح في وسائل الإعلام الغربية إلى حدّ ما؛ غير أنّه أنتج حالة فضول لدى الإنسان الغربي بضرورة التحرك فكريّاً لإجراء مراجعة فكرية وثقافية للإسلام من خلال البحث عن الكتب التي تتحدث عن الإسلام والإقبال على شراء معظم الكتب المعرفيّة التي تشرح الظاهرة الإسلامية في أبعادها العقائديّة والتشريعية والثقافيّة، إلى درجة أنّ صحيفة سويدية مشهورة سألت مطربة سويدية مشهورة أيضاً عن الكتاب المفضّل الذي تقرؤه هذه الأيّام فأجابت بأنّه (القرآن) . وللعلم فإن القرآن الكريم ترجمت معانيه مؤخراً للغة السويدية.
وفي هذا السياق يشار إلى أنّ الكتب التي تتحدّث عن الإسلام باتت تحقق أعلى المبيعات في معارض الكتب في الغرب، كما أنّ دور النشر الغربية اتصلّت بالعديد من المتخصصين في الدراسات الإسلامية والحضارة الإسلامية والعربية للكتابة في مواضيع بعينها على صلة بالإسلام، كما أنّ المعاهد الجامعية الغربية باتت تحضّ الباحثين الراغبين في إنجاز أطروحات دكتوراه للكتابة عن الحركات الإسلامية أو المذاهب الإسلامية وغيرها من المواضيع ذات العلاقة بالإسلام.
أمّا البرامج التلفزيونيّة التي تصوّر حياة المسلمين في أكثر من قطر إسلامي فقد أصبحت من الكثرة بحيث يندهش المشاهد للقنوات الغربية لهذا السيل الإعلامي الذي يتناول ظواهر الإسلام والمسلمين في خطّ طنجة ـ جاكرتا.
ورغم جدارات برلين الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية والاستراتيجية المتعددة التي أقامها الغرب بينه وبين الإسلام منذ طرد المسلمين من الأندلس، ومروراً بالحركات الاستعمارية، ووصولاً بالغارة الكبرى على عالمنا الإسلامي، إلاّ أنّ الإسلام استطاع أن يصل إلى جغرافيا الغرب، تماماً كما تمكن الغرب من الوصول إلى مواقعنا على متن البواخر الشراعية فالبواخر الحربية والطائرات. والمفارقة الأساسية بين قدوم الغرب إلى مواقعنا الجغرافية وذهاب الإسلام إلى مواقع الغرب الجغرافية تكمن في أنّ المعسكر الغربي قدم إلى مواقعنا بقوّة السلاح بينما ولج الإسلام الخارطة الغربية بقوته الذاتية منذ فتح الأندلس وإلى يومنا هذا. بالإضافة إلى ذلك فإنّ حركة انتقال المسلمين من الإسلام إلى النصرانية ضئيلة للغاية إذا ما قورنت بحركة الأسلمة وسط الشباب والشابات والأكاديميين الغربيين التي باتت ظاهرة في حدّ ذاتها.
وهذه الحركية التي يتمتّع بها الإسلام في الغرب لم تكن وليدة تخطيط معمّق واستراتيجية دقيقة من قِبَل مسلمي الغرب الذين لجأ ثلثاهم إلى الغرب بداعي تحسين الوضع الاقتصادي أو الفرار من الوضع الاجتماعي أو السياسي القائم في واقعنا العربي والإسلامي، بل إنّ جزءاً كبيراً من جاليتنا العربية والإسلامية أساءت إلى حضارتها وحدّت من حركية الإسلام في الغرب ولو بشكل محدود، بل إن الإسلام يملك عوامل القوة الحضارية الذاتيّة.
فماذا لو كان للمسلمين في الغرب تلك الاستراتيجية التي بموجبها يصلون إلى العقل الغربي عبر تفعيل حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الغربية، وعبر تملّك وسائل إعلام هادفة؟ فلو تحققّت هذه المعادلة أي حيوية الإسلام مضافاً إليها وعي المسلمين في الغرب لأمكن في ظرف وجيز أن يصبح الإسلام ظاهرة حضارية وفكريّة راقيّة، وقد صدَّق ذلك الأستاذ الأوروبي الذي أسلم وقال لأحد علماء الأزهر: «أدرِكوا أوروبا بإسلامكم قبل أن تتهندس أو تتبوّذ» أي تصير هندوسيّة أو بوذيّة.
ومع كل ما جئنا على ذكره فقد أصبح مستقبل الإسلام في الغرب سؤالاً ملحّاً ومكرراً لعشرات الدوائر والمعاهد، وأفرز هذا السؤال مجلدات وكتباً من الأجوبة، وما زال يحرك العديد من الخلايا الدراسية في الدوائر الحسّاسة والمراكز الاستراتيجية السريّة والمعلَنة أحياناً.
وتذهب بعض هذه الدراسات التي وُضِعت من قِبَل منظِّرين غربيين إلى أنّ الإسلام في الغرب أصبح حقيقة قائمة لا مناص منها ولا مفر، فلا يخلو شارع أوروبي من مسجد أو امرأة محجبة أو مدرسة إسلامية أو ملحمة كُتِبَ على بابها: نبيع اللحم المذبوح شرعياً، أو لحومنا مُذَكَّاة على الطريقة الإسلاميّة، وغير ذلك من التمظهرات الإسلاميّة.
كما أنّ بعض هذه الدراسات تؤكّد أنّ ملايين المسلمين أصبحوا أوروبيين بحملهم الجنسيات الأوروبية، وأنّهم متساوون في الحقوق والواجبات مع السكّان الأوروبيين الأصليين، لهم أن يصوتوا، ولهم أن يشكّلوا أحزاباً؛ ولهم أن يفتحوا إذاعات وتلفزيونات وما إلى ذلك. والأخطر ما في هذه الدراسات الإشارة إلى أنّ التكاثر بين المسلمين الغربيين في اضطراد بينما النسمة الغربية آيلة إلى الشيخوخة، وقد أشارت دراسة حديثة إلى أنّ نسبة المتقاعدين من الغربيين بعد عشر سنوات سيكون مذهلاً، والذي سيعوّض مناصب الشغل سيكونون من المهاجرين العرب والمسلمين وبقيّة القادمين من العالم الثالث؛ ومعنى ذلك أنّ المسلمين سيدخلون في قلب المعادلة الاقتصاديّة للغرب، والغرب يعتبر أنّ أمنه الاقتصادي كأمنه السياسي.
- خطط للمستقبل:
يعتبر الغرب شغوفاً إلى أبعد الحدود بالدراسات المستقبلية والاستشرافيّة Futurlogie وقد أوجد لهذا الغرض مئات المراكز الاستشرافية التي ترصد حركة المستقبل؛ في الوقت الذي يخلو فيه العالم العربي والإسلامي من أي مركز من هذا القبيل، وتداركاً للموقف وإنقاذاً للمستقبل الغربي من الأسلمة الزاحفة ذاتيّاً بدأت الدوائر الغربية في وضع خطط تُعنى بالقضاء على شبح الأسلمة الذي قد يهدد مستقبل الغرب. ومن هذا الخطط فصل الجيل المسلم المولود في الغرب عن آبائه عبر بذل جهد مضاعف لجعل هذا النشء الإسلامي ذائباً في الخارطة الغربية منسجماً مع ثقافتها وعقيدتها، وقد حقق في هذا المجال بعض النجاح؛ حيث بات مألوفاً أن يصبح للشابة المسلمة عشيق غربي يعاشرها ساعة تشاء، وقد يحدث أن تجلب عشيقها هذا إلى بيت أبيها كما حدث مع عشرات العوائل المسلمة، وعندما أراد الأب المسلم أن يقوِّم سلوك ابنته، هرولت البنت إلى سمّاعة الهاتف واتصلت بالشرطة ـ والعجيب أنّ الأطفال يُلَقَّنون في المدارس من قِبَل المعلمين أنّه إذا نشبت بينكم وبين والديكم خلافات فعجّلوا بالاتصال برقم هاتف الشرطة، وهو رقم يسير ويحفظ في ثوانٍ في معظم الدول الغربية، وعندها تتدخّل الشرطة لحماية البنت من معتقدات أبيها، وقد تُمنح بيتاً لوحدها لتواصل رحلة العشق ـ نسأل الله العافية.
وحدث مرّة أن نهر أب مسلم ابنه المراهق الذي استقدم فتاة أوروبية إلى بيت أبيه ليمارس الجنس معها، فاتصل الابن بالشرطة التي وصلت إلى بيت والد هذا الشاب في ظرف دقائق معدودات، ووجهت إنذاراً للأب؛ حيث قال الشرطي لوالد الطفل وبصريح العبارة: ابنك حرّ في عورته أو آلته التناسلية وليس لك عليه سلطان، وإذا نهرته مرة أخرى فمآلك السجن. ومثل هذه القوانين شجعت الأبناء المسلمين وكذا البنات على الخروج عن طوع آبائهم والعيش بمسلكية الذين يعتبرون الشرف والقيم من الأساطير المنقرضة.
وهناك استراتيجية أخرى يتمّ تنفيذها في الغرب وهي التسهيل والحث أحياناً على الطلاق بين المرأة والرجل المسلميْن، باعتبار أنّ الأبناء تضمحلّ شخصيتهم وتضعف في ظل أسرة هزيلة ومشتتة، وقد يحتدم العراك بين الرجل وزوجته وعندها تحكم المؤسسات الاجتماعية بعدم أهلية هذه الأسرة لرعاية الأطفال؛ باعتبار أنّ الأطفال يحتاجون إلى دفءٍ عاطفي وحنان واستقرار نفسي؛ وهذا الحكم كفيل بتوزيع الأبناء على العوائل الغربية.
وقد أصدرت بعض الدول الغربية قوانين تنص على حقّ رعاية المجتمع للأطفال الذين ينتمون إلى عوائل متدنية الدخل، وأغلب هذه العوائل عربية وإسلامية، وهذا القانون يجعل الأطفال تحت رعاية عوائل غربية تلجأ إلى تغيير أسمائهم وتعويدهم على التردد على الكنيسة أسبوعياً، وفي أحايين كثيرة لا يوافق الوالدان على ما يجري لأولادهم لكنّ حجّة المؤسسات الاجتماعية الغربية أنّ الطفل يجب أن لا ينشأ في بيئة عنيفة، والمقصود الخصام المتواصل بين الرجل وزوجته.
كما أنّ المدارس الغربية باتت تركّز على تدريس (مادة الجنس) وهي مادة ضرورية؛ وأحياناً ورغم أنّ الصف يكون معظمه من المهاجرين العرب والمسلمين فإنّ المعلمة تسترسل في توصيفات من شأنها أن تفجّر الشهوات المكبوتة لدى الأطفال وخصوصاً في سنّ المراهقة، وهذا ما يجعل نسبة الفساد الخلقي بين الأطفال المراهقين مرتفعة بشكل كبير، وكثيراً ما تدعو البنت الغربية الطفل المسلم إلى أن يطبّق معها ما درسوه أو شاهدوه، وقد بدأ يشاع بين الفتيات الغربيات أنّ العربي أو المسلم وكذا الإفريقي ذو فحولة جنسية، ولذلك تسعى هذه الشقراء أو تلك لاصطياد هذه الأصناف المطلوبة وسط برودة الإنسان الغربي الذي ملّ من هذه الأمور. وقد بدأت بعض الجهات بترشيد هذا المناخ والاستفادة منه لتحقيق المراد المعروف.
وفي نظر هؤلاء الاستراتيجيين فإنّ أبناء المسلمين هم الأقدر على نقل حضارة الإسلام إذا كانوا واعين إلى الأطفال الغربيين؛ لأنّهم يتقنون اللغة كأبناء البلد، ويعرفون عقلية الأولاد الغربيين، بالإضافة إلى أنّ أبناء الغربيين فارغون عقائديّاً ودينياً، ويسهل تعبئتهم وتقديم البديل الإسلامي إليهم؛ ومن هنا كان الحرص على تدميرهم وفصلهم عن هويتهم. وبالإضافة إلى ذلك فقد يصادف أن يصبح أحد أبناء المسلمين من صنّاع القرار في الغرب، ولا إشكال لدى الغربيين إذا كان صانع القرار الغربي يدعى محمداً إذا كانت مسلكيته غربية قحّة، والإشكال فيما لو كان محمد الواصل إلى دوائر القرار يقتدي بمحمّد الذي أوصل الإسلام إلى المعمورة قاطبة.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(216/21)
أنا والقطة السوداء
خالد عبد الله سالم الباز
لن أستطيع النوم هذه الليلة.. الريح تزأر بالخارج، وصفيرها المزعج يختلط بنباح ممطوط لكلب ضال.. والأوراق الجافة تُحدث خشخشة حادة عندما تكسحها الريح أمامها على الأرض.. وعلى نحو مباغت تجمد هذا المشهد.. هدأت حركة الريح، وكفَّ الكلب عن نباحه، وتوقفت خشخشة الأوراق الجافة.. ظننت أنه بإمكاني أن آخذ قسطاً من النوم يعينني على القيام بنشاط لصلاة الفجر.. وكان من الممكن أن يحدث هذا لولا ذلك الصوت الخافت.. صوت خافت يشبه الأنين.. ما هذا؟
إنسان يُحتَضَر؟ هذا ما حدثتني به نفسي وأنا أُرهف السمع لأتبين حقيقة الأمر.. كانت الحركة الخفيفة للريح لا تزال تشوِّش على الصوت فيصل أذنيَّ غير واضح، ثم بدأ الصوت يتضح شيئاً فشيئاً.. هل سكنت الريح تماماً أم أن مصدر الصوت يقترب من منزلي؟.. وارتسمت صورة مرعبة في خيالي: «شخصٌ ما مطعون بخنجر والدماء تسيل على ثيابه بغزارة من موضع الطعنة.. ويقترب مترنحاً من منزلي مطلقاً أنيناً قوياً، وعيناه متسعتان في رعب، ثم يطرق الباب بيديه الملوثتين بالدماء طلباً للمساعدة و ... » .
هززت رأسي بقوة لأنقض عن خيالي هذا المشهد المرعب الذي أفلح في إدخال الخوف إلى نفسي، وجعل ضربات قلبي تتزايد.. تبسمت ساخراً من نفسي ومن تصوراتها الساذجة، وعدتُ أُنصت باهتمام إلى الصوت الخافت.. الصوت الذي يشبه الأنين.. أنين إنسان يُحتضَر.. الآن أصبح الصوت واضحاً تماماً.. إنه.. صوت.. قطة.. نعم.. صوت قطة تموء في ألم وفي تتابعٍ حزين. تُرى هل هي جائعة؟ أم فقدت وليداً لها فهي تبكيه بكاء الثكلى؟
لم أسترسل كثيراً مع هذه التساؤلات وإنما نهضت لاستطلع الأمر بنفسي.. فتحت الباب الخارجي لمنزلي بهدوء.. ألقيت نظرة حذرة عن يمين ويسار. الإضاءة ضعيفة للغاية في الشارع. معظم أعمدة الإنارة مصابيحها معطلة مما نشر حولها بقعاً مظلمة.. أما المصابيح التي تعمل فضوؤها أصفر شاحب لا يكاد يبين.. فجأة تنبهت إلى الصمت التام حولي.. لقد سكنت الريح تماماً واختفى صوت القطة.. هل خافت مني فاختبأت في مكانٍ ما ولزمت الصمت؟
ضاقت عيناي وهما تجوبان الشارع شبه المظلم بحثاً عنها و.. والتقت عيناي بعينيها.. كانت عيناها كجمرتين متوهجتين تبرزان من كتلة سوداء. هل هي قطة أم مخلوق آخر؟
* * * * *
أثار هذا التساؤل رجفة خفيفة في جسدي؛ فقد كنت متأثراً بقصص الجن إلى حد بعيد.. أخذت أحدق في القطة السوداء وقد ربضت على الخط الفاصل بين الظلام وبين الضوء الشاحب. وعادت القطة تموء بصوت واهن متتابع وعيناها تنظران نحوي في برود.. لماذا تموء بهذه الصورة؟ الجو بارد ولا شك في ذلك.. فهل هذا هو السبب؟ ربما.. وربما لأنها جائعة. أما إذا كانت تئن من البرد فيمكنني استضافتها في حجرتي الدافئة، إلا أنها لن تقبل ذلك؛ فهي قطة مشردة أَلِفتْ حياة الشوارع حيث الحرية والانطلاق ولن ترضى بأن تسجن نفسها في حجرتي حتى وإن كانت دافئة وبها أشهى الطعام.. ومن المؤكد أن رد فعلها سيكون عنيفاً إذا حاولت استضافتها رغماً عنها.. ستثور وتراوغ وربما تهرب بعيداً عني فلا أتمكن من مساعدتها.. أما إذا كانت جائعة، فالأمر يسير جداً سأحضر لها قطعة لحم مناسبة.
وفي هذه اللحظة بدأت الريح تتحرك ثانية.. وهممت بدخول المنزل و.. وفجأة تسمرت قدماي مكانهما؛ فقد لمحت شيئاً أثار انتباهي في البقعة التي تشغلها القطة. استدرت بحذر.. ركزت بصري.. و.. وشهقت بقوة واتسعت عيناي في رعب هائل ودق قلبي بعنف.. وسرت قشعريرة باردة في جسدي كله.. وأحسست بشعر رأسي كله يقف.. كان ما أراه عجيباً.. عجيباً للغاية.
كانت القطة تتضخم وتتضخم ثم تنكمش وتنكمش في تتابع مخيف..
جفَّ ريقي تماماً وارتعشت ركبتاي، وضغط الخوف على جسدي حتى شعرت بأنني لا أقوى على الوقوف.. وتجمدت تماماً في مكاني غير قادر على الحركة.. وعادت تموء بقوة وهي تتضخم ثم تنكمش في تتابع سريع.. تلاحقت أنفاسي من شدة الرعب.. وغمرني عرق بارد.. ثم.. ما هذا؟ في هذه اللحظة حانت مني التفاتة إلى مصباح أحد الأعمدة قريب من موضع القطة السوداء يتأرجح بفعل الريح ولاحظت وجود علاقة بين حركة المصباح وتضخم القطة وانكماشها و.. وفهمت الأمر كله.. يا لخيالي الجامح.
نعم! كان خيالي جامحاً يصور لي أشياء لا وجود لها؛ فلم تكن القطة شبحاً مخيفاً يتضخم وينكمش وله أنياب طويلة وعينان دمويتان، كل هذا مجرد خيال غذاه الاجتهاد وقلة النوم وضبابية الرؤية.. وكل ما في الأمر أن المصباح الذي يتأرجح بفعل الريح كلما اقترب ضوؤه من القطة صنع لها ظلاً كبيراً على الحائط الذي خلفها وكلما ابتعد انكمش الظل إلى حجمه العادي، ومع شعوري بالإرهاق لعدم النوم حتى هذه الساعة المتأخرة كان من الطبيعي أن أتصور الأمر على غير حقيقته. هكذا تبينت الأمر فتنهدت في ارتياح وهززت رأسي في تعجب وسخرية من خيالي الجامح المشوَّش.. عاد تنفسي إلى معدله الطبيعي، وانتظمت ضربات قلبي وشعرت بالهدوء والراحة كمن أزاح عن صدره حملاً ثقيلاً، وقبل أن أدخل المنزل ألقيت نظرة سريعة على القطة ولكن.. ولكنها كانت قد اختفت.. اختفت تماماً.
* * * * *
دارت عيناي في المكان.. لا أثر لها.. تبخرت.. وقبل أن تصيبني خيبة الأمل لفقدها عاد مواء القطة الواهن المتتابع مرة ثانية.. أرهفت سمعي لأحدد مكانها.. إنها هناك.. في موضع شديد الظلمة لهذا عثرت عليها بصعوبة.. وقبل أن تختفي مرة ثانية أسرعت للداخل وأحضرت قطعة لحم وضعتها على ورقة نظيفة، ولأنني لم أتناول عشائي حتى هذا الوقت المتأخر فقد تحركت شهيتي وتحرك معها شعوري بالجوع.. ولست أدري لماذا توقفت على باب منزلي وطرحت على نفسي هذا السؤال: لماذا أصنع كل هذا من أجل قطة ضالة لا يعنيني من أمرها شيء؟! لقد خرجت من حجرتي الدافئة إلى الشارع حيث الريح الباردة.. وعرَّضت نفسي لخوف قاتل من شبح موهوم، والظلام من حولي مخيف؛ ليس هذا فحسب بل آثرتُ القطة على نفسي بقطعة اللحم لتأكل هي.. ابتسمت بامتنان حين جاءتني الإجابة من أعمق أعماقي: إنها عاطفة الرفق بالحيوان التي غرستها في نفسي تلك المحاضرة الشيقة الموسومة بـ «حقوق الحيوان في الإسلام» والتي ألقاها أحد العلماء بمسجد القرية الرئيس.. ما زلت أذكر ذلك الحديث النبوي المؤثر.. امرأة دخلت النار لأنها حبست قطة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها حرة تأكل من خشاش الأرض، وامرأة عاهرة غفر الله لها ذنوبها وأدخلها الجنة لأنها سقت كلباً أشرف على الموت من شدة العطش. في ديننا أصبح للحيوان حقوق على الآدميين. سبحان الله!
انتزعت نفسي من أفكاري هذه واتجهت مباشرة نحو القطة السوداء.. ها.. سوداء؟ قفز إلى ذهني قول مأثور يحذر من القطط السوداء بالليل؛ فهي الهيئة المثالية التي يتلبَّس بها الجن إذا أرادوا أن يظهروا للبشر.
ترى هل هذه القطة إحدى الجن؟ يا إلهي ماذا أصنع؟ هل أرجع إلى منزلي؟ .. ربما تكون قطة عادية.. آه.. ماذا أفعل؟ بعد فترة من الجمود والصمت والحيرة توجهت لموضع القطة وليكن من شأنها ما يكون وأنا أتمتم بدعاء مأثور: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» اقتربت منها.. اقتربت أكثر وأكثر وهي ثابتة مكانها.. وعيناها تراقباني في برود ولا مبالاة؛ ومع حركة الريح سقط ضوء المصباح على القطة فرأيتها بوضوح.. كانت سوداء قاتمة شديدة الهزال كأنها لم تأكل منذ أسابيع.. لعل هذا هو السبب في موائها الضعيف.. أصبحت في مواجهتها تماماً.. اندهشت عندما وجدتها ساكنة مكانها لم تتحرك بل لم ترفع رأسها نحوي.. هل استسلمت لي؟ .. ظلت جامدة لم تبدِ أيّ انفعال نحو قطعة اللحم وكأنها فقدت حاسة الشم، بل لعلها فقدت حاسة البصر أيضاً فعيناها تشبهان عيني الأعمى باردتان ومثبتتان في اتجاه واحد.. دفعتها بيدي برفق لأستحثها على الحركة فانقلبت على جانبها مفتوحة الفم وقد رفعت إحدى قدميها الأماميتين قليلاً وفقدت عيناها بريق الحياة.. لقد ماتت من الجوع؟.. سبحان الله!(216/22)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
- «دمَّروا بيوتنا فتركناهم يدمِّرون بيوتهم بأيديهم» شعار رفعته المسيرة التي قام بها آلاف من أنصار حماس احتفالاً ببدء إخلاء مستوطنات قطاع غزَّة. [الوطن، 17/8/2005م]
- «يبدو أن إسرائيل تريد أن تغلق غزَّة ثم ترمي بالمفتاح بعيداً» . [صحيفة الإنديبندنت البريطانية، 16/8/2005م]
- «يمنح الأمريكيون (15) سنتاً يومياً للشخص في معونة تنمية رسمية.. إنهم الأخيرين تماماً بين (22) بلداً مانحاً» نيكولاس كريستوف الكاتب في نيويورك تايمز.
[فورين بوليسي مايو/ يونيو 2005م]
- «معارضو مبارك يتعيَّن عليهم أن يحصلوا على موافقة أعضاء حزبه قبل أن يُسمح لهم بترشيح أنفسهم ضدَّه في الانتخابات» الصحفي البريطاني البارز روبرت فيسك.
[البي بي سي، 20/8/2005م]
- «أغلب الكاريبيين يعتنقون الإسلام؛ لأنهم يجدون فيه ضالَّتهم التي يستطيعون من خلالها أن يحسُّوا بالأمل ويجدوا معنىً لحياتهم» . [صحيفة الجارديان البريطانية، أغسطس 2005م]
- «خلال (24) سنة لم نقترب أبداً من التغلغل في المكتب السياسي السوفييتي، أو هيئة موظّفيه، وهي مهمة أسهل كثيراً من التغلغل في الخلايا الإرهابية الصغيرة» ملفين أ. غودمان، زميل رفيع.
[مركز السياسة الدولية واشنطن السياسة الخارجية، العدد 183]
- «أربع سنوات من المقاومة غلبت عشرَ سنوات من المفاوضات» أحد عناصر حماس في تصريح صحفي خلال احتفالات انسحاب الاحتلال من غزَّة. [وكالات، 16/8/2005م]
- «سياسة الولايات المتحدة النووية الحالية غير أخلاقية، ولا شرعية، وغير ضرورية من الناحية العسكرية، وخطرة بشكل مرعب» روبرت س. مكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (1961م - 1968م) . [موقع www.foreignpolicy.com]
- «إننا لم نعد نناقش الفوائد من وراء غزو العراق؛ وإنما نناقش فوائد مغادرة العراق» لورنس إف كابلان رئيس التحرير في مجلة «ذا نيو ريبابليك» الأمريكية. [السياسة الخارجية، العدد 184]
- «شارون شجاع وجريء، لديه القوة والتصميم والقدرة والمفهوم الأمني حول كيفية صنع السلام» الرئيس المصري حسني مبارك في حديث مع يديعوت أحرونوت. [الزمان، 20/8/2005م]
- «هنالك ترجيح يفوق نسبة (50%) بوقوع هجوم ذري على أهداف في الولايات المتحدة خلال عقد» .
[وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ويليام ج. بيري يتحدث في اجتماع للأكاديمية القومية الأمريكية للعلوم، يونيو 2005م]
__________
أحاج وألغاز
- السلطة للمنظفات
ربما كان أسهل على أحمد قريع رئيس حكومة السلطة أن يجهر بالعداء لحماس ويصرخ في وجوه أنصارها بجرأة، من أن يتكبَّد عناء اختراع شعارات وحملات من قبيل: «غزَّة حرَّة نظيفة» ، دون أن يوضِّح لأحد العلاقةَ بين الحرية والنظافة، ثم يسوغ تلك الحملة بأنها من أجل محو آثار الاحتلال، ثم يبادر بمحو آثار وشعارات المقاومة على جدران المنازل، وقال قريع ـ بينما كان يرتدي قميصاً قطنياً أبيض عليه شعار حملته ويمسك فرشاة دهان ـ: «مع رحيل الاحتلال ننظف شوارعنا، ولا نترك أثراً من آثاره في أرضنا، حتى لا يعود، لقد كرهناه فليرحل» .
[بتصرف عن أ. ف. ب، 17/8/2005م]
- الكرة دائماً.. في ملعب المسلمين
بدلاً من حلِّ مشكلة إقليم فطاني ذي الأغلبية المسلمة وفق معايير عادلة، تسعى حكومة تايلاند إلى السيطرة على الإقليم بإغراق شعبه في اللهو؛ فقد بدأت السلطات في بثٍّ مجَّانيٍّ خاص لبرامج القنوات التلفزيونية المشفَّرة، ومنها الأحداث الرياضية، مثل: بطولة الدوري الإنجليزي، بحجة تهدئة التوترات في المنطقة، وتحوُّل وزير الداخلية كونجساك وانتانا إلى وزير للإعلام عندما صرح للصحفيين بأن دفعة أولى من (500) جهاز تلفزيون باشتراكات ستُركَّب قريباً في مقاهي القرى المسلمة. [بتصرف عن صحيفة الجزيرة، 12/7/1426هـ]
- للكبار فقط
قالت جماعات الحريات المدنية الأمريكية إن أسماء «أطفال رُضَّع حديثي الولادة» وُجدت على القوائم الأمريكية التي استحدثت بعد هجمات (11) سبتمبر لمنع مشتبه بهم ـ في كونهم إرهابيين ـ من الطيران إلى أو فوق الولايات المتحدة، وهي تضمُّ حالياً (100) اسم، وتقدم ذوو (89) طفلاً أمريكياً بطلبات لإزالة أسمائهم من القائمة حتى الآن، وكلهم تحت عمر (12) عاماً، منهم (14) رضيعاً تحت سنِّ عامين.
[الشرق الأوسط، 18/8/2005م]
__________
مرصد الأخبار
- ألمانيا حرة نظيفة.. رؤية أخرى
تُعتبر ألمانيا البلد الأشدَّ صرامةً في العالم من ناحية القوانين البيئية؛ فهي أول دولة يدخل فيها حزب الخضر إلى البرلمان، كما أنها تطبِّق نظاماً دقيقاً في فرز القمامة، الذي يجد القادم إلى ألمانيا بعض الصعوبة في فهمه وتطبيقه في بداية الأمر، فالفرد ينتج في ألمانيا في المتوسط (10) كيلو جرامات من القمامة يومياً، والدولة إما أن تصرف عشرات الملايين للتخلص من هذه النفايات أو تستثمرها وتعيد تصنيعها، وقد اختارت ألمانيا الحلَّ الثاني، فأنشأت منظومة كاملة تعتمد على إعادة تصنيع النفايات، ويتطَّلب هذا الأمر أن تصنع العبوات والمنتجات منذ البداية بطريقة تسمح بإعادة تصنيعها، وهذه العبوات تحمل علامة خضراء مميزة.
والقمامة مُقسَّمة أربعة أقسام أساسية بالإضافة إلى صناديق خاصة، هذا بالإضافة للزجاجات البلاستيكية والزجاجية، والتي يجب إعادتها للسوبر ماركت وفق قانون حكومي يفرض عليها رهناً، أما الفضلات الكبرى كقطع الأثاث أو الأجهزة الكهربائية فهي تُترك في الشارع في مواعيد خاصة تُكتب في كُرَّاسٍ يوزَّع على كل أسرة لتتخلَّص من الأشياء المزعجة بالمنزل، ولكن أحياناً ما تكون هذه الأشياء في حالة جيدة جداً، ولذلك فهذه «الفضلات» تُترك على الأرصفة لمدة يوم كامل، لتُتاح الفرصة لمن يرغب في أخذ ما يحتاجه منها، وفي الواقع هناك الكثير من الناس يقومون بفرش منزلهم بالكامل من هذا الأثاث المستعمل. [الوطن عن دوتشيه فيللي الألمانية، 11/7/1426هـ]
- الغرب يحذر من عولمة القاعدة
أثارت عمليتا التفجير في لندن جدلاً كبيراً حول التغيُّرات المحتملة في تكتيك الهجمات ضدَّ دول غربية، وأجرت مراسلة النيوزويك الأمريكية حواراً مع بريان مايكل مركيز ـ الخبير في الإرهاب وأمن وسائل النقل في مؤسسة راند ـ حول هذه القضية، وهذه مقتطفات مهمة:
«س: هل حقيقة أن حصول هذه الهجمات بهذه السرعة بعد سابقتها يشير إلى اختلاف في تكتيكات المجموعات الإرهابية؟
- أحد الأسئلة الكبيرة المطروحة في التحقيق الآن هو: هل ما نشهده الآن شكل جديد من الإرهاب؟ ونحن نفرِّق هنا بين مشروع إرهابي مستمرٍّ وهجمات تُنفَّذ مرة واحدة لا ماضي لها ولا مستقبل، ففي المشروع الإرهابي المستديم هناك تعامل وتواصل مستمرَّان مع القيادة، وهناك أشخاص يعبرون الحدود، وعمليات نقل أموال وهي أشياء يمكن مراقبتها عن قُرْب، ولكن ربما أن الجهاديين في ردِّهم على ذلك تحوَّلوا عن مشروعهم المستديم سهلِ الاختراق والمتابعة إلى تنفيذ سلسلة من العمليات المنفردة.
س: لو صحّ ذلك، فكيف سيؤِّثر ذلك على قدرتنا على احتوائهم؟
- يقلل ذلك من فرصة تحديد هذه الأشياء والسيطرة عليها مقدماً، إنه نوع من الجهاد على طريقة مزارع شجر التفاح، ربما تتذكرين أن البطل الشعبي جوني آبلسيد كان يقوم ببساطة بنثر بذور التفاح التي يتطاير الكثير منها في الريح، لكن بعضها كان يتحوّل لشجر تفاح، ولا ندري بعدها إن كان شخص ما سيأتي يوماً ليلتقط بعض الجهاديين ويسخِّرهم لمهمة ما، أو أنهم سيقومون بأنشطتهم من دون إشراف، ومن ذلك تجنيد أناس آخرين.
وهناك نموذج آخر وهو جهاد الاعتماد على الذات حيث لا توجد صلة بين المنفِّذين وقيادات الإرهاب، بل هم مجرَّد أفراد ألهمتهم الأيديولوجية وتعرَّضوا للتحريض للقيام بالعمل» . [نيوزويك العدد (268) ]
- الجد والأحفاد من فيتنام إلى العراق
الجنرال ويليام ويستمورلاند، 91 عاماً، سُئل يوماً: «ما هو الردُّ على التمرُّد؟» فأجاب بكلمة واحدة فقط «بالنار» .
وقد شغل هذا الجنرال منصب قائد القوات الأمريكية في فيتنام من عام (1964 ـ 1968م) والتي وصل قوامها إلى (500.000) جندي، وهو الذي اتَّبع إستراتيجية «الاستنزاف» : قتل الفيتناميين الشماليين بصورة أسرع من إحلال غيرهم مكانهم، وقال: إن الحياة رخيصة في الشرق، وكان يقول بصورة دائمة: «ليس لدي أيُّ اعتذار، ولست نادماً على شيء» بشأن فيتنام، وعام (1982م) رفع ويستمورلاند قضية ضدَّ شبكة (سي بي إس) بسبب فيلم وثائقي ينتقد حرب فيتنام ولكنه قام لاحقاً بسحب قضيته، وأعلنت الشبكة أنها تعتقد أن ويستمورلاند كان وطنياً مخلصاً في أداء واجباته كما رآها. [مجلة نيوزويك، 2/8/2005م]
- العتبة الخضراء في بغداد تحت الحصار
«قُلْ ما تريد حول إذا ما كانت الولايات المتحدة تملك التبرير لغزو هذا البلد، لكننا الآن في معترك اللعبة، وقد فات الأوان للجدال عمن ارتكب الغلط في البداية، ولكن وقبل شهر إبريل عام (2003م) لم يكن هناك انتحاريون في بغداد، وكانت البلاد تنعم بالكهرباء على مدى (24) ساعة، وكان الناس يخرجون للشوارع ليلاً، أما الآن فإذا ما قمت بقيادة السيارة للمدينة من المطار، فهناك احتمال منطقي بأن تُقتل.
بالكاد يكون الوضع داخل المنطقة الخضراء أفضل؛ فالقوات المدججة بالسلاح تحرس المباني الحكومية والمستشفيات مشهرة أسلحتها ومهدِّدة أيَّ شخص يقترب، والجنود الذين يشرفون على نقاط التفتيش قد يستخدمون الأسلحة الفتَّاكة ضدَّ سائقي السيارات الذين لا يمتثلون لأوامرهم، وهذا ما تشير إليه أيضاً الإشارات ـ التحذيرية، إن كل هذا الخوف والتوتر يحدث داخل منطقة مساحتها ستة أميال مربعة، والتي يفترض أن تكون آمنة، وفي هذه الحال ـ من انعدام الأمن والاضطراب وحرارة الصيف القائظ ـ فإن فكري يدور ويجول ويعود إلى شيء واحد: وهو «ديك تشيني» ، فأنا لا أستطيع أن أفهم كيف توصَّل نائب الرئيس الأمريكي أخيرا إلى استنتاجٍ مفادُهُ أن حركة التمرد التي ترهب العراق هي في «مراحل احتضارها الأخيرة» .
لكن السؤال هنا: إلى متى سيستطيع المتمردون الاستمرار في أعمالهم؟ لا أحد يعلم الإجابة» المراسل الأمريكي جو كوك يكتب من العراق.
[موقع msnbcnews.com]
- اقتل واكسب
في البلقان تُحقِّق جرائمُ الحرب ربحاً، في هذا العام تمَّ تسليم (20) من المتهمين بجرائم حرب في يوغوسلافيا السابقة إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
تقول ناتاسا كانديتش رئيسة مركز القانون الإنساني في بلغراد: «الجميع هنا في صربيا يعتقدون أن الحكومة تدفع مبالغ كبيرة للمتهمين» ، وقد أصدرت صربيا قانوناً في العام الماضي لتقديم معاشات تقاعدية كاملة للمتهمين بجرائم حرب، إضافة إلى «تعويض» غير محدد للعائلة وللنفقات القانونية.
وفي جمهورية صربسكا ـ جزء من البوسنة الذي يسيطر عليه الصرب ـ المزايا أكثر سخاءً: راتب كامل للمتهم، ضعف الراتب لعائلته، (80) يورو شهرياً لكل طفل، وحصل الجنرال فويادين بوبوفيتش على منحة قيمتها مليون يورو عندما سلَّم نفسه في 14 أبريل، كان بوبوفيتش قائد فيلق في البوسنة، ونفَّذ أبشع حملات التطهير العرقي في المنطقة.
أما الجنرال راتكو ملاديتش، المتهم بأنه مهندس مذبحة سربرنيتشا، فقد تلقى عرضاً قيمته (5) ملايين يورو ليسلِّم نفسه، لكنه رفض، وعندما سلَّم الجنرال فلاديمير لازارفيتش ـ المطلوب لجرائم حرب في كوسوفا - نفسَه امتدحه الرئيس الصربي كوستونيتشا كرجل وطني، واستقبله البطريارك الأرثوذكسي الصربي، ومُنح سيارة جديدة لعائلته في احتفال حضره وزراء في الحكومة، ويتذمَّر جيمس ليون مدير مجموعة الأزمات الدولية في بلجراد من أن الحكومة الصربية قامت بترتيبات مالية من أجل مجرمي الحرب، بينما لم توفر بعد ترتيبات قانونية لرعاية ضحايا تلك الجرائم. [نيوزويك، 2/8/2005م، العدد (268) ]
- منهم وإليكم.. شعار البنتاجون العراقي
أبدى مسؤولون بريطانيون قلقهم العميق من المستوى الذى وصل إليه الفساد بوزارة الدفاع العراقية بعد اختلاس مبالغ طائلة من الأموال المخصصة لبناء قوات الأمن، وأشارت صحيفة الغارديان إلى أن تقريراً أعدته الهيئة العراقية لتدقيق الحسابات الحكومية فى وقت سابق «خلص إلى أن أكثر من نصف الأموال العراقية التى أُنفقت على المشتريات العسكرية والبالغة (1.27) مليار دولار اختفى بتأثير الابتزاز أو ذهب إلى وسطاء اختفوا بعد حصولهم على الأموال أو ذهب هدراً على شراء معدات لا تنفع» وتضمنت العقود بنداً يشترط دفع كامل قيمة الصفقات بشكل مسبق ونقداً» .
ووجد التقرير «أن الصفقات أُبرمت عبر طرف ثالث من الشركات أو الوكالات إدارها وسطاء عراقيون سرعان ما اختفوا بعد حصولهم على الأموال» ، وقال: «أن الوثائق الداخلية تورد وبشكل غير صحيح أن وزارة الدفاع العراقية أبرمت عقوداً مع بولندا ودول عربية والولايات المتحدة وأوروبا، غير أن تلك العقود أُبرمت أصلاً مع شركات عراقية» ، مشيراً إلى «أن أحد الوسطاء المختفين يُدعى نير محمد الجميلي وانتفع حصرياً من (43) عقداً من أصل (89) عقداً أبرمتها الوزارة خلال فترة الثمانية أشهر الأولى للاحتلال، وأشار التقرير إلى «أن (20) مسؤولاً أمريكياً عملوا بوزارة الدفاع العراقية خلال الفترة التى غطاها التقرير» . [العرب أون لاين، 22/8/2005م]
__________
لقطات سريعة
- قبل مغادرته القاهرة، التقى إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق برجل الأعمال المصري القبطي نجيب ساويرس في قاعة كبار الزوار بمطار القاهرة، وأجريا جولةَ مباحثات استغرقت أكثر من نصف ساعة، بعدها غادر باراك القاهرة عائداً إلى تل أبيب. [الشرق الأوسط، 17/8/2005م]
- شملت حملة تفتيش قامت بها إيطاليا مؤخرا تفتيش (7318) هدفاً في عمليات طالت المراكز الإسلامية والمحلات الخاصة بالإنترنت والاتصالات الدولية التابعة لبعض المهاجرين العرب والمسلمين، إضافة إلى اعتقال (141) من المشتبه بعلاقتهم مع بعض الجماعات الإرهابية، وترحيل (701) من المهاجرين غير الشرعيين الذين تمَّ القبض عليهم أثناء هذه الحملة. [الوطن، 17/8/2005م]
- صرح برلماني عراقي أن من بين الخلافات التي نشبت بين العرب السنة والشيعة حول الدستور موضوعَ القَسَم القانوني؛ فقد أصرَّ ممثلو الشيعة على أن تكون صيغة القسم (أقسم بالله العلي العظيم) ، بينما أصرَّ ممثلو العرب السنة على أن يكون نص القسم (أقسم بالله العظيم) ، والفرق واضح بينهما. [الشرق الأوسط، 12/7/1426هـ]
- في حين أن (24%) من جملة الأمريكيين يحملون درجات جامعية، فإن (41%) من العرب الأمريكيين يحملونها، ومتوسط دخل الأسرة العربية التي تعيش في الولايات المتحدة هو (52300) دولار بزيادة (4.6%) عن باقي الأسر الأمريكية، كما أن أكثر من نصف العرب الأمريكيين يملكون منازلهم، (42%) منهم يعملون مديرين أو مهنيين، بينما ينطبق هذا على (34%) فقط من عموم الأمريكيين.
[مجلة فورين بوليسي مايو/ يونيو 2005م]
- قدَّرت وزارة التجارة البريطانية أن خسارة محلات التجزئة في وسط لندن ومبيعات الفنادق والمطاعم وقطاعات اقتصادية أخرى تُقدَّر بـ (1.4) مليار دولار بسبب تفجيرات يوليو. [وكالات، 12/7/1426هـ]
- أنفقت الولايات المتحدة حتى اليوم أكثر من (250) مليار دولار أمريكي على عمليات عسكرية ومشاريع إعادة بناء في حربها على الإرهاب وأظهرت أرقام كشف عنها البنتاجون أن المصاريف الأساسية للجيش تصل إلى (6) مليارات دولار شهرياً وإذا استمر الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط لخمس سنوات إضافية ستصل كلفة الحرب على الإرهاب إلى (1.3) تريليون دولار.
[العربية نت نقلاً عن النيويورك تايمز، 20/8/2005م]
- أكد ليث كبة، الناطق باسم رئيس الوزراء العراقي إبراهيم الجعفري أن السلطات الأمنية تعتقل حالياً (281) مواطناً عربياً وأجنبياً من جنسيات مختلفة بتهم التورط في أعمال المقاومة العراقية، وقال كبة أن المعتقلين: «من مصر (80) شخصاً ومن سورية (64) ومن السودان (41) ومن السعودية (22) ومن الأردن (17) ومن ليبيا (7) ومن فلسطين (10) اشخاص ومن الجزائر (7) ومن تونس (6) ومن تركيا (4) ومن إيران (12) ومن قطر (2) وواحد من بريطانيا، إضافة إلى دول أخرى» . [أ. ف. ب، 22/8/2005م]
- تشير إحصاءات المركز الأمريكي لمكافحة الإرهاب إلى أنه وقع في العام 2004م، (3192) هجوماً إرهابياً أسفرت عن مقتل أو إصابة أو خطف (28) ألفاً و (433) شخصاً.
[الرأي العام الكويتية، 22/8/2005م]
- يواجه سكان العاصمة العراقية بغداد، الذين يقدر عددهم بأكثرمن ستة ملايين نسمة، أزمة خانقة في الكهرباء وفي مناخ بلغت فيه درجة الحرارة (45) درجة مئوية، وقد وصلت ساعات القطع المبرمج إلى (22) ساعة يومياً في العديد من أحياء بغداد بمعدل ساعة كهرباء مقابل (11) ساعة قطع، وهو أدنى مستوى لتوزيع الطاقة منذ سنوات طويلة. [القبس، 17/7/1426هـ]
- بلغ عدد المستوطنات اليهودية التي تم الانسحاب منها وإفراغها في قطاع غزة (21) مستوطنة كان يسكنها (8) آلاف يهودي، ومنها: دوغيت ويسكنها (60) شخصاً، وإيلي سيناي (350) شخصاً، كفار داروم (400) شخص، غوش قطيف (340) شخصاً، نيتساريم (450) شخصاً، نيسانيت (1000) شخص، وأكبر مستوطنة هي نيفي ديكاليم وكان يسكنها (2600) شخصاً، وأصغرها كفر يام وكان يسكنها عشرة أشخاص فقط. [وكالات، 17/7/1426هـ]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
تصريحات
- «علاقتنا مع أنجولا يمكن وصفها بأنها قدوة لدول القارة الإفريقية، وزيارتك اليوم لنا هي خطوة كبيرة على طريق الانفتاح الإفريقي على تل أبيب» . [وزير الخارجية الصهيوني «سيلفان شالوم» خلال اجتماعه بالرئيس الأنجولي «أنجولا جوزيه إدواردو دوس سانتوس، 6/8/2005م]
- «أعتقد أن معظم اللاجئين الفلسطينيين يدركون أنهم لن يعودوا إلى منازلهم وممتلكاتهم التي فقدوها في داخل إسرائيل، وهم لا يفكرون بحق العودة كإمكانية عملية» . [مفوضة اللاجئين في وكالة الغوث (الاونروا) التابعة للأمم المتحدة، «كارين أبو زيد» ، لصحيفة معاريف، 10/8/2005م]
- «يحاولون إقالتي وأنا بحاجة لمساعدتكم. ليس من عادة شارون أن يتلفظ بمثل هذه العبارات التي تدلِّل على حالة ضغط وتوتر، وحالة مزاجية قتالية ولا تخلو من الشعور بالإهانة» . [شارون لأعضاء حزب الليكود، 7/8/2005م]
أخبار
- نقاط الشَّبه بين بيريز وشارون.. أهمُّها «دعم الرئيس الأمريكي»
«طالما أننا قد عقدنا مقارنة بين بيريز وشارون، فمن الممكن إيجاد نقطة شبه أخرى بين الاثنين.. فالدَّعم الذي يقدمه رئيس الولايات المتحدة لأحد المرشحين عشيَّة الانتخابات مخالفٌ لخصمه الآخر. في عام 1996م دعم كلينتون بيريز في مواجهة نتنياهو، وفي (2001م) دعم كلينتون باراك في مواجهة شارون وخسر كل من بيريز وباراك على التوالي. أما اليوم فبوش يؤيِّد شارون» . [صحيفة هاآرتس، 9/8/2005م]
- الانسحاب من غزة يؤدي لفقدان المستوطنين مشاعرَهم
أفقدت عمليات إخلاء المستوطنات اليهودية بغزة المستوطنين مشاعرَهم؛ فقد نشبت مشادَّات عنيفة بين مستوطنين متطرفين رافضين للانسحاب وآخرين أشدَّ تطرُّفاً على بوابة مستوطنة «نافيه ديقاليم» ، حيث قام مئات المستوطنين الشبان الذين جاؤوا من مستوطنات الضفة بأعمال عنف، فألقوا بأنفسهم على السيارات العسكرية، ومزَّقوا إطارات السيارات، وحطَّموا زجاج نوافذها بطريقة هستيرية، غير مهتمين بالدعوات التي أطلقها قادة المستوطنة الرافضين للمعارضة العنيفة لعملية الانسحاب من قطاع غزة، وتطور الموقف ليقوم أحد شبان المستوطنين بإلقاء حاخام مسنٍّ ـ كان يدعو إلى المعارضة السلمية ـ أرضاً وضربه. [صحيفة معاريف العبرية، 16/8/2005م]
__________
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
- بابا روما الجديد: اجمعوا الأموال لاستعادة القدس
في اجتماع هيئة المنظمات الدولية المدِّعمة للكنائس الشرقية في بلاد المسلمين (الرواكوا) ـ والذي استمرَّ لمدة ثلاثة أيام، وحضره كبار رجال الدين الكاثوليكي في المنطقة العربية وجنوب وشرق آسيا ودول الكومنولث ـ ركَّز البابا الجديد بنديكتس السادس عشر على أهمية جمع الأموال والدعم المادي الذي تحتاج إليه الكنائس الشرقية لأداء مهمتها، وحث المسيحيين من أصحاب الأموال على البذل والعطاء أكثر من أي وقت مضى. وقال بندكتس متحدِّثاً عن فلسطين: إن لهذه الأرض دَيناً في رقبة كل مسيحيي العالم، لاستعادتها إلى حظيرة اليسوعية، مخبراً أن هناك علامات إيجابية قد تحقَّقت هناك في الأشهر القليلة الماضية. [لوالسلفادور رومانو، 1/7/2005م]
- بطريرك جديد لدولة الكويت
بناءً على قرار بابوي مفاجئ، أصدر الكاردينال أسطفانوس الثاني بطريرك الكنيسة الكاثوليكية الجامعة في مصر والعالم العربي، قراراً بتعيين الأب كاميلو بالين ـ مدير مركز الدراسات العربية والإسلامية التابع للمجلس البابوي بالقاهرة ـ نائباً فاتيكانياً لرئاسة الكنيسة الكاثوليكية في دولة الكويت، خلفاً للمطران فرانسيس ميكاليف.
والمطران الجديد للكويت من مواليد (1944م) بإيطاليا، والتحق بالكنيسة عام (1968م) ، وأصبح كاهناً بعد ستة أشهر فقط، ثم أرسلته البابوية في بعثة خاصة إلى سورية ولبنان لتعلم اللغة العربية حتى أجادها إجادة تامة، ثم انتقل إلى القاهرة ليرأس كنيسة القديس يوسف لطائفة اللاتين الكاثوليك بمنطقة الزمالك بالقاهرة، وحقَّق نشاطاً ملموساً في المحيط الكنسي والتعاون مع بعض الشخصيات ذات المناصب الدينية الإسلامية، إلى أن تمَّ تعيينه مديراً لإرسالية المنصرين الكومبانيون بالقاهرة منذ سبع سنوات.
أما الإرسالية التنصيرية في الكويت، فقد اعتمدتها الحكومة الكويتية عام (1954م) ، ويبلغ عدد أتباعها في يوليو من العام (2004م) ، حوالي (158) ألف كاثوليكي، يتبعون أربعة طوائف كاثوليكية كبرى، ويقوم على رعايتهم عشرة من الكهنة وثلاثة عشرة راهبة، غير الإرساليات التنصيرية الكاثوليكية المؤقتة التي تنشط في البلاد تحت أشكال متنوعة، مثل: المجمعات الصناعية أو التجارية أو المجالات الطبية والإلكترونية.
وفي إحصاء رسمي لهيئة الإرساليات العالمية، بلغ عدد المتنصرين من أبناء الكويت (80) مسلماً خلال السنوات القليلة الماضية، هذا غير الأجانب الذين يعملون في الكويت ويخضعون لحملات تنصيرية مكثَّفة. [دعم ـ القاهرة، 20/7/2005م](216/23)
الإرهاب الفكري وخطره على الأمة
عبد الله بن نافع الدعجاني
عانت الأمة الإسلامية طويلاً من أزمات حضارية متعددة، كانت سبباً رئيساً في تخلفها وضعفها، وهيمنة أعدائها عليها، وجوهر هذه الأزمات الحضارية الخانقة تكمن في الفكر لا في الوسائل؛ إذ إن الأمة الإسلامية تمتلك من وسائل النهضة، وأدوات الحضارة ما يؤهلها لقيادة العالم كما كانت سابقاً، وهذا التشخيص للأزمة الحضارية في العالم الإسلامي، هو ما أفصح عنه المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي؛ إذ يقول: «إن أزمة العالم الإسلامي منذ زمن طويل لم تكن أزمة في الوسائل، وإنما في الأفكار ... » (1) .
ومن أعظم الأزمات الفكرية الضاربة بجذورها الغليظة في عمق الحضارة الإسلامية هي مسألة «الإرهاب الفكري» ، ذاك الناب الحاد الذي مزق فكر الأمة، والمخلب البشع الذي جرَّح وجهها الحضاري، وما تزال الحضارة الإسلامية مثخنة بالجراح من جراء آثاره الخطيرة الذي ذاقت منه الأمرَّين.
إنه «الإرهاب الفكري» الذي قمع كل قول يخالف سلطته الدينية، أو ينازع قوته السياسية، كما مارسه الإرهابيون الأُوَل بقولهم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] .
إنه ذلك الأسلوب نفسه الذي يمارس تسفيه وتحقير كل رأي لا يوافق هوى آبائه أولاً، أو لا يناسب ذوق أجداده؛ إذ قد قال أصحابه قديماً: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78] .
إنه الأسلوب الذي يغتصب العقول قسراً، ويرغمها على موافقة عقله، وتأييد رأيه؛ فلقد قال أستاذه سلفاً: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي}
[القصص: 38] .
وما تزال معركة المصلحين مع مسألة «الإرهاب الفكري» قائمة لا يهدأ سُعارها، ولا يخبو شررها؛ ذلك لأن «الإرهاب الفكري» شديد الصلف، كثير السرف، نزق طائش؛ فما من وسيلة قذرة إلا استعملها؛ فها هو ذا يجيِّش جيوشه، ويجمع جموعه من المتملقين والمتمصلحين والغوغاء والرعاع لقمع الرأي الذي لا يراه، ولقطع اللسان الذي لا يعجبه، حتى يخيل للبسطاء السذج أن الناس قد أجمعوا على قوله، وما هو صنيعة إرهابه، وثمرة مكره؛ وذلك مثل ما وقع في «فتنة القول بخلق القرآن» تحت دعوى «تنزيه الخالق» وما تفعله أمريكا الآن باسم «مكافحة الإرهاب» وما سيقع مستقبلاً تحت شعارات مبهمة مجملة لا خطام لها ولا زمام.
وإذا أخفق الإرهاب الفكري في تلك الوسيلة القذرة جرّب وسيلة السجن والتهجير والإبعاد والنفي، وما له ألاَّ يفعل وهو المطاول المختال البذَّاخ الشمَّاخ؟! وهذا عين ما حصل لبعض من قاومه من أئمة المسلمين المجاهدين: كابن تيمية، وابن حزم، وابن الوزير، وأمثالهم ممن قبع في سجون «الإرهاب الفكري» ومعتقلاته.
فإذا كبرت غلظته وعظمت شراسته، وضاقت به حيله جرب وسيلة للقمع بالغة الحقارة والدناءة، وسيلة القتل والتصفية الجسدية، وما له ألاَّ يفعل وهو الكريه النفس، الغليظ الطبع، القاسي القلب؟! فالقتل آخر وسائله الدنيئة وأحقرها، القتل بأي كيفية وعلى أي صفة إما رجماً كما هُدد به نوح عليه السلام، وإما صلباً كما هُدد به سحرة فرعون المؤمنون، وإما حرقاً كما أُريد بإبراهيم عليه السلام.
إن العلماء الأحرار والمصلحين الأبرار هم من يتصدى لهذا الطوفان الهائج، والشيطان المارد، مستندين في ذلك إلى موقف الإسلام من الفكر الحر؛ فلقد كان أُسّه وأساسه تحرير العقول والنفوس من عبودية غير الله، وبناءً على هذا الأساس مع أتباعه بالحرية في كل قول، وفي كل فكر بنَّاء؛ فقواعده تقرر أصالة الإباحة في كل شيء، ومقاصده تؤكد على حرية الإنسان في فكره، ما لم يصادم ضرورة من ضرورات الإسلام القطعية، وهذا القيد قيد عادل؛ لأنه من لوازم العقد المبرم بين المسلم وربه، المتمثل في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فالعدالة تحتم علينا الوفاء لهذا القيد، وعدم تجاوزه ما دمنا مسلمين؛ ولذلك جاءت السنَّة المطهرة مؤيدة لتلك الحرية الفكرية بقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» (1) .
وقد استنبط العلماء من هذا الحديث قاعدة فقهية جليلة ترسخ مفهوم الحرية الفكرية بقولهم: «الاجتهاد لا يُنقَض بالاجتهاد» (2) .
ولبشاعة «الإرهاب الفكري» في التعاليم الإسلامية نفَّر منه الإسلام، حتى مع المخالفين له جذرياً، وهذا القرآن الكريم مليء بالمناظرات العلمية مع خصومه في جو تسوده الحرية والأمن الفكري؛ إذ يقول الله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] .
بل نهى الله المؤمنين عن أدنى درجات «الإرهاب الفكري» في مناظراتهم لأهل الكتاب؛ إذ يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] .
وهكذا سيرة المصلحين مع خصومهم، كما هي سيرة علي ـ رضي الله عنه ـ مع الخوارج لما ناظرهم بنفسه، وبواسطة عبد الله بن عباس مناظرة تبعث الطمأنينة في النفوس على قاعدة «الأمن الفكري» ، وهذا مع شدة صلف الخوارج وعنادهم، وحاشا أمير المؤمنين علياً أن يستعمل في حقهم وسيلة من وسائل «الإرهاب الفكري» فلم يقاتلهم لأجل فكرهم، بل قاتلهم لأجل اعتدائهم على المسلمين.
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الموصوف بالشدة في الحق يناظر (قدامة بن مظعون) في مسألة قطعية ضرورية، مناظرة هادئة مسامحة؛ ذلك لما استباح قدامة شرب الخمر مستدلاً بقوله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93] .
فقال له عمر: «إنك أخطأت التأويل يا قدامة! إذا اتقيتَ الله اجتنبتَ ما حرم الله!» (3) . هكذا بكل طمأنينة وهدوء.
وقد ضرب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أروع الأمثلة في نبذ «الإرهاب الفكري» لما رغب أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بكتابه (الموطأ) ، عندها قال الإمام مالك: «يا أمير المؤمنين! لا تفعل! فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم ما سبق إليهم ... » (4) . وهذا موقف من إمام دار الهجرة يمثل صورة مشرقة في التعامل الحضاري الرفيع.
ويبلغ «الإرهاب الفكري» مداه حينما تحتضنه قوة التحالف المكونة من الاستبداد السياسي والديني، ذاك التحالف المشؤوم الذي أخاف السبيل، وهتك حرمة الدليل، وانتهك المحارم، وارتكَب العظائم، كل ذلك من أجل مصالحه الشخصية ومآربه الضيقة.
وكما كان في الغرب ممثلاً في الكنيسة والإقطاعيين؛ فهو اليوم عندنا ممثل في بعض العلماء، والحكومات المستبدة التي لا يقيدها قانون ولا يلجمها نظام؛ ففقهاء من ذلك القبيل يمثلون القوة التشريعية لـ «الإرهاب الفكري» وحكام الاستبداد يمثلون القوة التنفيذية له، حتى أصبح «الإرهاب الفكري» إحدى الأيدي الباطشة لأخطبوط الاستبداد، ولطالما طالت تلك اليد الغاشمة المجاهدين من العلماء والمصلحين، وما بروز مصطلح «الوشاية» في ثقافتنا العربية إلا من أثر هذا التحالف المقيت، بل أصبح هذا المصطلح محفوراً في ذاكرة تاريخ سير هؤلاء العلماء والمصلحين؛ فهذا الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أحد ضحايا لطمات تلك اليد القاسية، وذلك لما وُشِيَ به إلى أبي جعفر المنصور أنه لا يرى صحة إيمان بيعة السلطان بالإكراه، فجُرِّدَ من ثيابه، وضُرِب بالسياط، ومُدَّتْ يده حتى انخلعت كتفه (1) .
وقد يكون الجهل المركّب حليفاً لهذا التحالف الظالم، فيلتقي معه في كراهية الدليل والبرهان والحجة، ويفترق معه في درجات الشيطنة؛ فشيطان «الإرهاب الفكري» قابع في أغوار نفس الجاهل جهلاً مركباً، يهيج عندما يُذَمُّ التقليد أمامه، ويُزْعَج عندما تحاول أن ترتقي به فكرياً بأسلوب العلم الرفيع، عندها يثور ذاك الشيطان من قمقمه، كما ثار على المجاهد المصلح المظلوم محمد بن إبراهيم الوزير، فاعتزل قومه وفي ذلك يقول:
أعاذل دعني أرى مهجتي أزوف الرحيل ولبس الكفن
وأدفن نفسيَ قبل الممات في البيت أو كهوف القنن (2)
وما زالت مسيرة البذل والتضحية في تمزيق هذا التحالف الجائر زاخرة بمواقف الدعاة المصلحين: كموقف أبي حنيفة، وأحمد، والبخاري، وابن حزم، وابن تيمية، وابن الوزير وأمثالهم، عليهم رحمة الله (3) . إلا أن آثار ذلك التحالف الباغي على الفكر الحضاري للأمة مؤلمة لطول زمنه الجاثم على فكر الأمة وحضارتها؛ فقد أضرم البلاد ناراً، وأسعرها بالجور إسعاراً، وأحوج أهلها إلى الجلاء والتفرق في البلاد، ولعلِّي في هذه العجالة أُعدد بعض آثار الإرهاب الفكري المدمرة على الحضارة الإسلامية، فمنها:
1 ـ ترسيخ مفاهيم الاستبداد في المجتمع المسلم، حتى تصبح ثقافة سائدة في السياسة والدين، والبيت، والشارع، والجامعة، وفي كل نواحي الحياة، وهذه أخطر آثاره المدمرة.
2 ـ ترسيخ المفاهيم المغلوطة في نفوس البشر، وتزويق الباطل، وتصويره بصورة الحق الذي لا يقبل النقاش؛ وذلك ما حصل في «فتنة القول بخلق القرآن» .
3 ـ زرع الالتباس في أذهان الناس بين الأحكام الشرعية والأحكام الوضعية؛ فأعلاها أن يلتبس على العوام الفرق بين الحاكم والإله، كما حصل لقوم فرعون، ولأتباع الحاكم بأمر الله العبيدي المعروف بالفاطمي، ومن صور هذا الأثر السلبي في أحكام «الإمامة العظمى» بين الحق الذي أراده الله، والباطل الذي أراده الاستبداد.
4 ـ قمعه للإبداع الفكري، وهذا ما حصل للفكر في أعقاب زمن الحضارة الإسلامية؛ فقد مرت على الأمة قرون كان الاجتهاد فيها محرماً؛ ونودي فيها بإقفال بابه.
5 ـ ازدهار سوق النفاق والتملق في عهد ذلك التحالف المشؤوم؛ إذ هو عدو لدود للصدق والصفاء والنقاء. كما كان هو الفلاَّح المشؤوم الذي زرع الجبن والخور والكذب في نفوس أُسرائه، ومن لطيف ما يرويه التاريخ لنا أن رجلاً دخل على المهدي (أحد خلفاء بني العباس) فوجده يلعب بالحمام، فساق في الحال حديثاً يتلمس به رضا سيده، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح» فزاد «أو جناح» كذباً ونفاقاً (4) .
فقاتل الله الاستبداد والاستعباد الذي لا تكاد تفقده عند المطامع المردية والمآكل اللئيمة والمعايش المخزية، وإني في الختام أدعو علماء الأمة ومثقفيها وقراءها وحكماءها إلى المساهمة في مشروع نهضوي فكري، عنوانه «مكافحة الإرهاب الفكري» .
وذلك بالسعي إلى الإصلاح الديني، وتنقية المفاهيم الشرعية من علائق وشوائب الاستبداد؛ فالإصلاح الديني أقرب طريق للإصلاح السياسي، والإصلاح السياسي هو المؤثر إيجاباً وسلباً على النواحي الحضارية الأخرى، مثل: الاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، كما أنني أدعو إلى تجديد ثقافة الحوار المبني على قاعدة «الأمن الفكري» ؛ فما أجمل الإعذار والتسامح مع الفكر ما دام أنه يدور في فلك الشريعة، لا يصادم ضروراتها، ولا ينتهك قواعدها القطعية!
وما أقبح «الإرهاب الفكري» حتى مع المخالفين لنا جملة وتفصيلاً!
__________
(1) مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، دمشق، دار الفكر، سنة 1979م. ص 115.
(1) أخرجه البخاري صحيحه برقم (73520) ، ومسلم في صحيحه برقم (1716) .
(2) انظر: «الأشباه والنظائر في قواعد فروع الشافعية، مطبعة دار إحياء الكتب، مصر، ص 113.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 9/546، والبيهقي في السنن الكبرى (8/135) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/154.
(4) أخرج هذه القصة ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» برقم (870) بتحقيق الزهيري، دار ابن الجوزي 1419هـ 1998م، والقصة وإن كان في سندها «محمد بن عمر الواقدي» وهو متروك إلا أن الذهبي قال بعد إخراجه للقصة برواية أخرى: «هذا إسناد حسن» انظر سير أعلام النبلاء 8/62.
(1) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط وآخرين، ط 2 بيروت، مؤسسة الرسالة 1401هـ ـ 1981م. 8/61 ـ 62.
(2) الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، وكتابه العواصم والقواصم «للقاضي إسماعيل الأكوع، مطبوع في مقدمة كتاب «العواصم والقواصم» تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، 1/63.
(3) ومن الجهود التي تذكر ولا تنكر في تمزيق هذا التحالف المشؤوم، جهود الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» ويلاحظ أن الكواكبي لديه بعض الانحرافات الفكرية التي تقربه من العلمانية انظر كتاب: (جذور الأنحراف في الفكر السياسي) للاستاذ جمال سلطان.
(4) تلك القصة في «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» للذهبي، دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان، ط الأولى، 1416هـ ـ 1995م، 5/407 في ترجمة غياث بن إبراهيم النخعي، والقصة في مصادر كثيرة(216/24)
لماذا ندرس التاريخ؟
إبراهيم بن سعد الحقيل
يقول القاضي الأرجاني:
إذا علم الإنسان أخبار من مضى توهَّمْتَه قد عاش من أول الدهرِ
خلق الله الإنسان وجعل له عمراً لا يساوي شيئاً في مقابل الأزمان والعصور التي عاشها أسلافه منذ بدء الخليقة. هذه الأزمان الطويلة ولَّدت لدى الإنسان حنيناً إلى معرفة ما كان عليه أسلافه، وكيف كانت حياتهم، والأحداث التي أثرت على حياتهم وغيرت مجرياتها؛ لذلك تولد علم التاريخ.
وهو من العلوم القديمة قِدَم الخليقة، نُقل بالرواية حتى عرف الإنسان الكتابة فدوَّنه، واهتمت به الأمم فلا تجد أمة تحيا من دون تاريخ.
يقول ابن الأثير (1) : «لقد رأيت جماعة ممن يدعي المعرفة والدراية، ويظن بنفسه التبحر في العلم والرواية يحتقر التواريخ ويزدريها، ويُعرِض عنها ويلغيها ظناً منه أن غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار؛ وهذا حال من اقتصر على القشر دون اللب نظره، ومن رزقه الله طبعاً سليماً وهداه صراطاً مستقيماً علم أن فوائدها كثيرة ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة» .
ويقول ابن خلدون (2) : «إن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جَمُّ الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم والأنبياء في سِيَرهم، والملوك في دولهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يروم أحوال الدين والدنيا» .
وقد نحا المسلمون في تاريخهم منحى شرعياً حين ربطوه بالقضاء والقدر، واعتقدوا الحكمة الإلهية في حوادثه سواء كانت خفية أو ظهرت وتبينت.
أسباب دراسة التاريخ والفوائد المرجوة من ذلك:
- أخذ العظة والعبرة:
لقد ورد في القرآن الكريم تاريخ كثير؛ فقد قص ـ سبحانه وتعالى ـ علينا قصصاً كثيراً عن الأنبياء والمرسلين، والطغاة المتجبرين أبانت حال المرسلين ـ عليهم السلام ـ وما كابدوا من مشقة وعنت وتكذيب واستهزاء وقتل في سبيل إيصال الرسالة الإلهية إلى الخلق. وما آل إليه مصير المكذبين؛ فقد سلط الله عليهم العقوبات الدنيوية التي أهلكتهم شر مَهْلك، فصاروا مثلاً لمن بعدهم. يقول شعيب ـ عليه السلام ـ محذراً قومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [هود: 89] ، ويقول ـ سبحانه ـ محذراً الكافرين: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] .
كما بين ـ سبحانه ـ مصير الطغاة والمتجبرين كفرعون وهامان وقارون؛ فهذا فرعون بعد أن أدركه الغرق وحانت ساعة الاحتضار وهو في ذل وصَغار يقول ـ تعالى ـ في شأنه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] ، بعد أن كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} . [النازعات: 24] .
وبين ـ سبحانه ـ ما جرى للأمم المكذبة في مواضع كثيرة من القرآن.
فمن عرف مصير الطغاة والمتجبرين وما جرى للأمم السابقة المكذبة اتعظ وأخذ العبرة إذا كان ذا لب.
وفي التاريخ كَمٌّ هائل من الحوادث التي حطَّتْ العالي وأنزلته من ذراه إلى الذل والمهانة؛ فهذا مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية بعد أن كان خليفة أمرُهُ مطاع يُلاحَق ويُقتل، فتسرع هرة إلى لسانه فتآكل هذا اللسان الذي كان يأمر وينهى، فأصبح في فم هرة تلوكه، ويقول عن ذلك القائد عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس الذي حُمل إليه رأسه (1) : «لو لم يُرِنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم هرة لكفانا ذلك» .
أما محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم والواثق مَنْ كان له الأمر والنهي فيُلقى في تنور مليء بالمسامير، فلا يستطيع أن يتحرك، وتوقَد عليه النار مرة بعد مرة حتى يَهْلك في قعر هذا التنور الذي أعده ليعذب به أعداءه ومن لا يثق فيهم ممن هم حوله وحول الخليفة (2) .
وشاه إيران (محمد رضا بهلوي) الذي اكتوى بظلمه وجبروته الملايين يصبح طريداً بين البلدان كلٌّ يرفضه ولا يود استقباله، فيموت حسرة وندامة قبل أن يموت حقاً.
والأمثلة كثيرة متوافرة في كتب التاريخ. يقول ابن الأثير عن ذلك (3) : «إن الحكام ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سِيَر أهل الجور والعدوان رأوها مدونة في الكتب يتناقلها الناس، ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد وهلاك العباد وذهاب الأموال وفساد الأحوال استقبحوها وأعرضوا عنها واطَّرحوها.
- عظمة الله سبحانه وتعالى:
من قرأ التواريخ وجد أن مصرِّفها عظيم حكيم يَدَعُ الظالم؛ فإذا أخذه لم يفلته وإن طال الزمان وكاد اليأس يدخل أهل الإيمان، كما أنه ـ سبحانه ـ رتب سنناً كونية فيها حِكَم بالغة، وعبر لا تتبدل بتبدل الزمان والمكان بل تعيد نفسها.
فالدولة المتجبرة الظالمة لا بد أن تسقط وتدول وإن رأى الناس بُعد ذلك؛ فكم من دولة كانت تضم بين أجنحتها بلاداً كبيرة وخلقاً عظيماً؛ فلما طغت وظلمت نفسها ورعيتها وجيرانها سقطت وتفرق حكامها وأهلها شذر مذر، فلم يبق لنا منها إلا الذكر والأحداث المسطرة في بطون الكتب، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فالفراعنة بنوا حضارة لا زالت تبهر العقل بأهراماتها؛ أين هي؟ لقد ذهبت مع من ذهب وأصبحنا نتعجب من هلاكها واندثارها بمقدار تعجبنا من براعتها وعظمتها.
وما الاتحاد السوفييتي منا ببعيد لقد هوى في ساعة كان الكل يعتقد بُعدها، وتفرقت دوله التي جمعتها الشيوعية الظالمة، وسيتبعه ـ إن شاء الله ـ دولة أصبحت ترى الظلم والعدوان حقاً لها ولا تأبه بغير مصالحها، فتذيق المسلمين صنوف القتل والدمار والذل والمهانة، وقد نرى ذلك بعيداً ولكنه قريب جداً بمقياس التاريخ.
- حفظ هوية الأمة:
إن هذا السبب من أهم أسباب دراسة التاريخ في هذا الزمان؛ فهذا التاريخ يحفظ هوية الأمة؛ فمن ليس له تاريخ فهويته مبتورة وليس له جذور؛ فالشجرة إن كانت من غير جذور لا شك أنها ستموت وتقتلعها الرياح، ونرى أثر ذلك فيمن تدثروا بلباس العصرية والإنسانية؛ فهم أصبحوا تابعين للغرب؛ لأنهم انْبَتُّوا عن تاريخهم؛ وهذا ما يريده ويسعى إليه الأعداء؛ ففي الشام أحيا لهم الأعداءُ الفينيقيين والكنعانيين فأصبحوا يفتخرون بهم وينتمون إليهم، بل يربطون حقوقنا في أرض فلسطين السليبة بهم. وفي مصر أحيا الأعداءُ الفراعنةَ بل نقبوا عن آثارهم وأصبحوا يسمون أهل مصر بأحفاد الفراعنة، وأصبحوا يتحدثون عن حضارة مصر ذات الخمسة آلاف سنة. وفي العراق تغنوا بالآشوريين وشريعة حمورابي التي يجعلونها أول قانون مدني على ظهر البسيطة، وتحدثوا عن الحضارة البابلية وغيرها من الحضارات التي قامت في العراق. وفي جزيرة العرب بعثوا ممالك اليمن من مملكة معين إلى مملكة سبأ.
وفي المغرب العربي نفخوا الروح في القومية الأمازيغية وحرصوا على أن يدوِّنوا لغتهم وأن يوجدوا لهم تاريخاً قبل الإسلام، رغم أنهم مسلمون ويعدُّون أنفسهم عرباً كما يعدهم العرب منهم نظراً للتمازج الذي حدث بينهم منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً.
وجميع ما أحيوا من تواريخ البلاد الإسلامية تواريخ أقوام طغاة ظالمين كانوا يشركون بالله فأهلكهم بذنوبهم فأصبحوا في ذمة التاريخ، ولكن كما يقال في المثل: «لأمرٍ ما جدع قصير أنفه» إنهم بهذا يقطعون صلتهم بتاريخهم المرتبط بالإسلام، ويحاولون أن يصلوهم بمن عاش في هذه الأرض في العصور الغابرة من الأمم الكافرة لينسلخوا من الإسلام، بل ليرتبطوا بالكفر ممثلاً في تاريخهم الجديد المزعوم. ونجد صدى ذلك ظاهراً في المناهج الدراسية التي تولي عناية كبيرة بتاريخ الأرض لا تاريخ سكانه. ففي مصر يدرس الطلاب تاريخ الفراعنة بشكل مطول في حين يُختزل التاريخ الإسلامي بدءاً من السيرة النبوية إلى التاريخ العثماني في صفحات عديدة لا توازي ما كتب عن الفراعنة أو القومية التي أطلت برأسها في أوائل القرن الماضي.
وسارعت أمريكا إلى تغيير مناهج التاريخ في العراق حتى لا يُتخذ مظهراً للعداء لأمريكا أو أن يطغى عليها التشدد الديني والراديكالية المتطرفة، كما تريد أن يغدو منهج التاريخ في المدارس العراقية مركِّزاً على الأدوار الحضارية والاجتماعية، ودور العراق منذ القدم في بناء الحضارة الإنسانية (1) .
هذه الأساليب الشيطانية أنتجت في مجتمعاتنا كل منبتٍّ عن دينه وأصله وتاريخه، فأصبح يتبرأ من حضارة الإسلام ليقع منتكساً في أحضان الحضارات الكافرة من أولها حتى الحضارة الغربية، ونتاجها كل فكر مسموم يهدم أساس المجتمع المسلم ينفثونه في كتبهم ومقالاتهم.
وشاهدنا تركيا التي انسلخت من تاريخها الإسلامي الزاهر ونبشت ما يسمى تاريخاً للبدو الترك قبل إسلامهم وتكوينهم لدول عظيمة أهمها وأعظمها الدولة العثمانية. لقد تعلقوا بأوروبا؛ فهم منذ ثلاثين عاماً يطرقون أبواب الاتحاد الأوروبي فلم يقبلهم ولم يعترفوا بتاريخهم الجديد، فأضاعوا ماضيهم وحاضرهم.
أما دولة المسخ دولة يهود فقد انتسخت لها تاريخاً من سراديب التاريخ تدرِّسه لأبنائها يقوم على صهينة التاريخ؛ بحيث تأخذ من التاريخ الإنساني ما يناسبها وتلبسه لباساً يهودياً يقوم على ادعاء الحق في فلسطين وغيرها، ووجوب بناء الهيكل (2) .
- الحكم على الدنيا:
يقول ابن الأثير (3) : إن العاقل اللبيب إذا تفكر فيها ورأى تقلُّب الدنيا بأهلها وتتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها، وأنها سلبت نفوسهم وذخائرهم، وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم، فلم تُبقِ على جليل ولا حقير، ولم يسلم من نكدها غني عشقها وذاب فيها، ولا فقير زهد فيها وأعرض عنها وأقبل على التزود للآخرة، ورغب في دار تنزهت عن هذه الخصائص» .
فانظر إلى سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم -؛ ففيها المثل الأعلى على احتقار الدنيا. يقول -صلى الله عليه وسلم - وقد دعاه أحد أصحابه إلى بعض اللين في العيش: «ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» (4) .
وهذا طلحة بن عبيد الله ـ رضوان الله عليه ـ يُؤتى إليه بمال كثير فيفرقه وهو في مجلسه ولم يبقَ معه قليل ولا كثير منه (5) .
أما عمر بن عبد العزيز فقد ترك الدنيا وترك معها أولاده وليس لهم مال وهو الخليفة وبيده الخزائن والأمر والنهي (6) .
والإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ عرف الدنيا وحقارتها وأنها لا تساوي عند الله جناج بعوضة فأعرض عنها، وكان يعيش على الخبز رغم جوائز الخليفة التي يتمنى منه أن يقبلها.
وما الإمام ابن باز، والإمام الألباني ـ رحمهما الله ـ ببعيدين عنا تركا الدنيا وهما لا يملكان من حطامها شيئاً، رغم أنهما يستطيعان جمع الكثير بدون سؤال.
- قراءة الأحداث:
ذلك أن أحداث التاريخ تتكرر؛ فهي سنن كونية تتكرر مرات ومرات؛ فما يجري أمامك لا شك أنه قد جرى نظيره قبل ذلك. يقول البيهقي (7) : «لا توجد حادثة لم يحدث مثلها من قبل» .
ويقول ابن الأثير (8) : «إنه لا يحدث أمر إلا تقدم هو أو نظيره» .
ويقول نيو توكررش (9) : «إن التاريخ كله تاريخ الحاضر» .
وفي عالمنا المعاصر نوقن أن نهاية الحضارة الغربية قريبة قرباً تاريخياً؛ فقد دفعت حضارات وإمبراطوريات كبيرة ثمن انغماسها في الشهوات والملذات واطِّراح الأخلاق، ناهيك عن التوحيد، كالإمبراطورية الرومانية، والبيزنطية، والفرعونية، كما هوت دول؛ لأنها تعجرفت وتجبرت وتعدت على غيرها ورأت أن لا شيء فوقها كما تفعل أمريكا اليوم في العالم. يقول ـ سبحانه ـ عن قوم عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} .
[الشعراء: 128 - 130] .
فصب الله عليها شآبيب العقاب فأصبحت كأمسٍ الذاهب.
ولا نشك لحظة أن التاريخ يعيد نفسه في صحوة الأمة ورجوعها إلى قيادة العالم نحو التوحيد والسلام؛ فقد أفاقت قبل تسعمائة سنة على غزو صليبي هادر أكل الأخضر واليابس، فلملمت أطرافها وطردتهم شر طردة، بل نقلت المعركة إلى عقر دارهم، فقرع أبطالها أبواب فيينا في معقل النصرانية الوثنية أوروبا، وها نحن اليوم نرى إرهاصات تلك الصحوة ولعلها تؤتي ثمارها قريباً فنرى المستعمر المتسلط المتبجح يهرب كما هرب من تسعة قرون.
- التخلق بالصبر والتأسي بالصابرين:
وهو سبب مهم؛ فالصبر حث عليه ديننا. يقول ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] ، وإمام الصابرين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -.
يقول ابن الأثير (1) : ومنها التخلق بالصبر والتأسي، وهما من محاسن الأخلاق؛ فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرَّم ولا ملك معظم ولا أحد من البشر علم أنه يصيبه ما أصابهم وينوبه ما نابهم، ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد.
ويقول الثعلبي (2) : ومنها قصص التهذيب والتأديب لأمته -صلى الله عليه وسلم -، ومنها قصص التأسي بهم فيما أثنى الله عليهم به.
وقد كابد المرسلون المشاق من تكذيب وامتهان وازدراء، وقتل منهم في سبيل الدعوة من قُتل؛ فهم الأسوة والقدوة لنا.
وفي قصة يوسف ـ عليه السلام ـ أكبر دليل على عاقبة الصبر؛ فقد صبر وتمنى السجن ودخله مدة حتى أذن الله بخروجه منصوراً مؤيداً. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] .
والتاريخ مليء بقصص الصابرين؛ فهذا الوزير المهلبي (3) يتمنى الموت من الفقر والإقلال وسوء الحال فيقول:
ألا موت يباع فأشتريهِ فهذا العيش ما لا خير فيهِ
إذا أبصرت قبراً من بعيدٍ وددت لو انني مما يليهِ
ويتمنى أن يأكل لحماً وكان معه صديق له فاشترى لحماً وأطعمه إياه، وتدور الأيام ويتولى المهلبي الوزارة والأمر والنهي حتى إن مائدته مليئة بأصناف الطعام ويأكل كل لقمة بمعلقة من زجاج.
- معرفة نعم الله وتقديرها:
من قرأ التاريخ وهو في دَعَةٍ علم مقدار ما قاساه من قبله من الشدائد وشظف العيش وكَلَب الزمان وانعدام الأمن والأمان، فلا بد أن يعرف مقدار نِعَم الله التي لا تحصى، فيقدرها بالشكر للمنعم الوهاب.
ولذلك كان الصحابة ممن أدرك الشدة والعناء مستحضرين لها دائماً؛ فقد بكى سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ وقد رأى ما يعيش فيه وتذكر مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ لمَّا لم يجدوا له كفناً يواري جميع بدنه (4) .
فقد مرَّت على البلاد المعروفة الآن بالسعودية والخليج قرون شداد، المعيشة قاسية، والأمن معدوم. كانوا يهاجرون للعمل في البلدان المجاورة والبعيدة أعمالاً يستنكفون منها الآن، فلما دار الزمان صب الله عليهم من نعمه فأصبحت بلادهم مطلب الكثيرين، ونعموا بسعة العيش ونضارته وبالأمن والاستقرار. فيجب عليهم شكر هذه النعم؛ لأن تاريخهم القريب إذا قرؤوهُ فلا شك أنهم لا يودون التفكير فيه ناهيك عن العيش فيه؛ فبالشكر تدوم النعم: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] .
- التشبه بالصالحين والأعلام:
يقول السخاوي (5) عن فوائد علم التاريخ: «التشبه بذوي المروآت والأجواد والوفاء والفرسان والشجعان» .
إن من أسباب هداية الإنسان التأثر بغيره ممن سبقه من أهل الصلاح والتقوى والمروءة في جميع جوانب حياتهم؛ فإذا اطَّلع على سِيَرهم وأحوالهم تاق إلى التشبه بهم ومحاكاتهم فتحول إلى إنسان آخر، وهذا يساعد المربين فيجعلون التاريخ مدرسة تربوية ينهل منها المربون في كل زمان. فكم من مسلم تأثر بسيرهم وحاول أن يسير على خطاهم، وكم تأثر مسلم بضروب الشجاعة والإقدام التي يقرؤها، فترسخ فيه روح الحماس والشجاعة، لذلك حرص الناس بجميع مذاهبهم على السِيَر والتراجم، وصنف المسلمون فيها كتباً لا حصر لها.
__________
(1) الكامل في التاريخ، ج 1، 7/8.
(2) المقدمة، 6.
(1) تاريخ الخلفاء، 255.
(2) تاريخ الطبري، أحداث 233 هـ.
(3) الكامل في التاريخ، 1/8.
(1) بناء التاريخ هاجس المجتمع العراقي النخبوي، سيار الجميل، الشبكة العنكبوتية.
(2) التعليم في إسرائيل وتربية العنف، الدكتور عبد الله اليحيى، موقع المسلم نت.
(3) الكامل في التاريخ، 1/8.
(4) رواه الإمام أحمد في المسند، 1/391، والترمذي، وقال حسن صحيح برقم 2378، وصححه الحاكم في المستدرك، 4/310.
(5) الطبقات الكبرى، 5/220. (6) سير أعلام البنلاء، 5/140.
(7) الإعلان بالتوبيخ، 33. (8) الكامل في التاريخ، 1/ 8.
(9) موسوعة التاريخ الإسلامي، 1/36.
(1) الكامل في التاريخ، 1/8.
(2) الإعلان بالتوبيخ، 36/37.
(3) وفيات الأعيان، 3/126.
(4) الطبقات الكبرى، ج3.
(5) الإعلان بالتوبيخ، 36/37.(216/25)
رؤية حول: العدمية وما بعد الحداثة
مبارك عامر بقنة
منذ أن انفلت العالم الغربي من عقال الدين وخاصة بعد ما سمي بعصر التنوير، أصبح يرتاد بعقله في كل شيء: المعقول وغير المعقول، فصار ينتج أفكاراً وفلسفات متناقضة متعارضة؛ فلا يكاد يرفع من قيمة فلسفة حتى يبادر بنقدها بعد قليل ويدعو إلى هدمها، إضافة إلى تعدد الرؤى الفلسفية وتناقضها بالنسبة للشيء الواحد؛ فليس عندهم شيء ثابت، ولا تكاد تعثر على رأي متفق عليه في النظر إلى هذه الفلسفات، حتى من جهة التعريف بها، وفي هذه الأجواء تُكتب هذه المقالة.
العدمية لقب ينطبق على فلسفات متطرفة متنوعة تشكل النهاية المنطقية لمعظم الفلسفات الإنسانية الغربية الحديثة. وهي ـ كما يعرفونها ـ حالة نفسية وجودية يمارسها الشخص، تقوم على رفض كل شيء من (اللاهوت إلى الفكر العلماني) ، أو بعبارة أخرى: هي الاعتقاد بلا شيء؛ فالإيمان والقيم الإيجابية تنعدم وتتلاشى في العدمية؛ فلا يوجد فرق بين الوجود الإلهي وعدمه، ولا يوجد هناك مطلق أو أي أرضية موضوعية للحقيقة وخصوصاً الأخلاق الحقيقية الفاضلة؛ فكل شيء مباح ولا اعتبار للأخلاق مطلقاً. والأمر الآخر التي ترفضه العدمية هو الإيمان بالغاية النهائية؛ إذ لا يوجد لديهم دليل يثبت أن الكون ذو هدف ويعمل لغاية؛ فالعدم نهاية الوجود.
والدين عند العدميين يعتبر خطراً أساسياً على الفرد والمجتمع؛ لأنه يعطل العقل، ويلوِّث الفِطَر السليمة، ويفسد التحليل النقدي. فالدين يقول: اعمل ما أقول لك؛ لأني قلت ذلك فقط. فالأشياء التي لا يمكن إثباتها تحتاج إلى الدين.
- شيطان العولمة ماذا يقول؟
وقد لخص ـ شيطانهم ـ «نيتشه» العدمية فيما يدعيه بـ «موت الإله» و «سقوط القيم العليا» . فكل القيم والأخلاق الحديثة برمتها خاطئة وغير قابلة للتطبيق والتقدير.
والإنسان هو الذي يجعل هناك اختلافاً بين الخير والشر، والحق والباطل؛ فالعدمية جبرية صرفة؛ فهي تنفي قدرة الإنسان وإرادته، وتجعله كالقشة تحركها الرياح كيف تشاء؛ ولهذا فنحن لسنا مسؤولين عما نفعل. فكل شيء نعمله أو نفكر فيه أو نشعر به هو فقط نتيجة لأسباب مسبقة ـ ولا يهم هل هذه الأسباب المسبقة هي أعمالي وأفكاري ومشاعري الماضية ـ وهذه الأسباب المسبقة ستؤثر على الأسباب التالية.
ولو أننا تتبعنا أثر السلسلة أكثر فأكثر فإننا سوف نصل إلى هذه الأسباب التي هي خارجة عنا تماماً كالبيئة والوراثة؛ فنحن لا نملك حرية الإرادة؛ فليس هناك معنى للخير والشر؛ لسببين:
أولاً: لأننا لسنا مسؤولين عن أعمالنا؛ ولذلك فأنا لا أمدح ولا أذم على الخير والشر.
ثانياً: لأننا لسنا مسؤولين عن أفكارنا، فليس لدينا أي ثقة، أن عقلنا سيقودنا إلى الحقيقة لمعرفة الخير والشر.
وهنا تظهر محاولة العدميين في إسقاط وإلغاء إرادة الإنسان وقدرته على توجيه ذاته والسيطرة على أفكاره وسلوكه كي يكون مسوغاً في أن يفعل الإنسان ما شاء دون رقيب من ضمير، أو سيطرة من سلطة عليا تحول بينه وبين شهواته.
وهذه العدمية المقيتة التي تنافي الإدراك والحس؛ جعلت العدمي يشعر بعدم الرضا والارتياح، ولذلك هو يبحث عن الأسباب التي تجعله يعتقد بعدم وجود الإله. فالذنوب التي نقترفها تشكل مشكلة مع حالة علمنا بوجود الإله؛ لذلك يتجه العدمي إلى أن يجعل نفسه في حالة جهل؛ فيتجه للشك في وجود الإله. فالعدمية شكِّية أساساً في كل شيء: في الإله، والعالم، والحياة.
وللعدمية في الغالب تصنيفان:
الأول: عدمية هامدة (العدمية الاجتماعية) وهي في الغالب ما يُصطلح عليه بالوجودية. والعدمي الهامد عادة ما يُلازَم بأمزجة يأس، وحالات تدميرية عشوائية، وهي تنكر ـ في شكلها الوجودي المتطرف ـ الحياة نفسها بسبب مظهرها اللامعنى.
والانتحار عند نيتشه هو «عمل العدمية» . فالعدمية الهامدة هي قبول عالم دون معنى باستسلام يائس.
الثاني: عدمية نشطة (العدمية السياسية) وهي محاولة للقضاء على كل القيم بما في ذلك القيم المتصلة بالعالم الحق. فالعدمية النشطة تبحث في تدمير التصنيفات الموروثة المتبقية للقيم. وهي شكل العدمية الراديكالية. و (نيتشه) يمثل العدمية النشطة في هجومه على كل الأديان والأخلاق والقيم، وكذلك الإله والغيب والحقائق والعواطف والإنسانية، والتمييز بين الحق والشر والحق والباطل.
والعدمية النشطة تؤدي إلى العدمية الكاملة والتي تتحقق عندما لا يكون هناك أي قيمة تذكر. فالعدمية الكاملة هي التدمير الكلي لجميع القيم. وإذا تحققت العدمية الكلية فإنه بالإمكان التخلي عن العدمية وإيجاد تصنيفات جديدة للقيم والتقدير.
فعندهم غياب كل الموروثات والقيم الدينية يتيح الفرصة لعصر جديد بقيم جديدة، قيم بارزة تطبق على هذا العالم تستند على تأسيس متين لقدراتنا الإبداعية، والتي تشكل عصراً جديداً للتقدم الإنساني بعد انتصار العدمية. ووفقاً لـ (نيتشه) فالحداثة تتميز من قبل مجيء العدمية الراديكالية؛ فالتاريخ بعد قرنين سيكون تاريخاً للعدمية النشطة المتطرفة. والنقطة الحرجة لتفسير الحداثة عند (نيتشه) هي إمكانية انتصار العدمية أي (إعادة تقييم كل القيم) .
- العلاقة بين العدمية وما بعد الحداثة:
إن المُنظِّر الأساسي للعدمية في العصر الحديث هو (نيتشه) وهو أيضاً واحد من المتقدمين الأساسيين لنظرية (ما بعد الحداثة) في التراث الفلسفي الغربي. وهذا يعني أن تفكير (نيتشه) يضم عناصر كبيرة مما يسمى (ما بعد الحداثة) .
وتوصيف نظرية العدمية وربطها بـ (ما بعد الحداثة) أمر في غاية الصعوبة، وخصوصاً أن (نيتشه) إنسان غامض ونظريته ـ كباقي النظريات ـ مفتوحة لكثير من التفسيرات والملاحظات. إلا أنه بالإمكان قراءة نظرية (نيتشه) بطريقة حديثة. وقد قام بتفسيرها وربطها بالحداثة الفيلسوف الإيطالي (فاتيمو) حيث يتصور أن الأشكال العامة لما بعد الحداثة هي في تحولات العدمية؛ فالعدمية تؤكد وتثبت ولا تنكر عن طريق ما بعد الحداثة، فيصح إطلاق القول لما بعد الحداثة بالعدمية.
كتب (نيتشه) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: «العدمية هي علة عصر الحداثة، وخصوصاً، الحداثة الأرومية، فتأثيرها يطال المجتمع الغربي وثقافته بشكل عام بالإضافة إلى الفرد بشكل خاص» . وشخَّص (نيتشه) العدمية بالنبوءة؛ فهو يقول: «ما أرويه هو تاريخ القرنين القادمين؛ فأنا أصف ما سيأتي» وما يأتي قريباً هو: مجيء العدمية. فعند (نيتشه) أن جذور العدمية تنبثق من الماضي وتمتد في المستقبل. ويكشف الفيلسوف الإيطالي (فاتيمو) استقرائياً العلاقة بين العدمية وما بعد الحداثة ليبين وثاقة الصلة بين نظرية عدمية (نيتشه) مع حالة (ما بعد الحداثة) .
فما بعد الحداثة ـ وهو أسلوب من التفكير ـ يُتهم في الغالب بأنه عدمي، وينظر إلى مجتمع عدمي. وبتحليل أعمق للعلاقة بين العدمية وما بعد الحداثة والتي ـ نادراً ـ ما يهدف مشروع ما بعد الحداثة إلى تحرير الإنسانية من خلال تطبيق العقل في الممارسة الاجتماعية. فـ (ما بعد الحداثة) تعني تكاثر وتزايد العلم والتقنيات خلال التصنيع، وإدارة كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية، وتطبيق المشاريع السياسية والاقتصادية والسوق الرأسمالية. فـ (ما بعد الحداثة) تتميز بانشطار وتمزق المجتمع إلى مجتمعات متعددة، وأشكال جديدة غير قابلة للقياس. فهذه التشطرات لا يستطيع شخص وصف الواقع الاجتماعي فيها برمته. وبالرغم من الاختلافات بين النظريات المتنوعة لما بعد الحداثة، إلا أن (فاتيمو) يعتقد أنه يوجد اتفاق عام لمعنى فكرة ما بعد الحداثة. ولو كان لهذه الفكرة معنى فإنه يجب أن توصف بمصطلح (نهاية التاريخ) .
وفقاً لوجهة نظر (فاتيمو) ، توصف الحداثة عن طريق فكرة التقدم، والفكرة تستند إلى خط أُحادي النظرة للتاريخ؛ إذ لا نملك سوى نظرة أحادية للتاريخ. وهذه النظرة بُنيت كخط متسق مع المجتمع الذي يتقدم مع مضي الزمن. ففي ميزان الحداثة: الحديث أو الجديد هو بذاته قيمة. وستأتي الحداثة للنهاية عندما لا تنظر للتاريخ بنظرة أحادية، ومن ثَمَّ ينتج ما بعد الحداثة. لذا فإن الموضوع العام (نهاية التاريخ) تعني نهاية الخط الأحادي للتاريخ.
- ماذا تعني دعوى (نهاية التاريخ) ؟
نهاية التاريخ «تعني نهاية الخط الأحادي للتاريخ» : لماذا ينتهي التاريخ؟ يذكر «فاتيمو» ثلاثة أسباب لذلك:
الأول: نظرية أُحادي النظرة للتاريخ، وهي نظرية أيديولوجية تاريخية متحيزة بانتقائية تخدم أغراضاً سياسية لمجموعة من الناس على حساب الآخرين. وفلاسفة التاريخ والمؤرخون يقولون إن النظرة التاريخية الأحادية والتي تؤدي للتقدم الحديث هي فقط تمثل تاريخ الرجل الأوروبي. هناك تواريخ متعددة تظهر رؤى متعددة. وتأكيد تاريخ واحد مسيطر أو ملخص لهذه التواريخ يعني سحق وإبادة للآخرين بطريقة جائرة. مثال ذلك: الرؤية الغربية للتاريخ «تطور العقل» ، استُعملت لتبرير استعمار الشعوب الأقل عقلانية. فالأيديولوجية لهذا التاريخ أيدت الاستبداد والعبودية والإبادة الجماعية للسلالات الأقل درجة، وهي تمثل (نظرية داروين) المادية الملحدة.
الثاني: تفكيك أُحادي النظرة للتاريخ؛ وهذا أدى إلى نهاية الإمبريالية الأوروبية.
فالشعوب المُستبدة تمردت وأكدت وجودها مما جعل الآخرين يدركون أن هناك تواريخ بديلة، وأن التقدم الأيديولوجي يتسم بدرجة عالية من الظلم.
الثالث: وسائل الاتصال الضخمة في ظل وسائل الإعلام الهائلة؛ فإن الثقافة الأقل تُتاح لها الفرصة أن تعبر عن رأيها، ومن ثَم ازدياد التعددية في المجتمع؛ فالإعلام جعلنا مدركين لحقيقة التاريخ أحادي النظرة. فتقنية المعلومات والإعلام جعلت الناس يزداد لديهم الإدراك بأن هناك تواريخ متعددة، وليس تاريخاً واحداً.
باختصار: فإن (ما بعد الحداثة) عند (فاتيمو) وُصف عن طريق (نهاية التاريخ) في مجتمعات الاتصال الهائل المؤسس لعصر الانشطار والتعددية والتنوعية.
ومما يقبل الجدل أن العدمية الحديثة تتبع الحداثة في العموم في توظيف تفسير التاريخ الأحادي؛ فهي تذكر أنموذجاً واحداً وهو الرجل الأوروبي، والتي تقول إنه قدر الإنسانية جمعاء. بينما الحقيقة أن العدمية تعود فقط إلى الغرب كإشارة. لذلك فالعدمية الحديثة هي نقدية التاريخ، والتقدم هو تفكير تطرفي فيها.
فالعدمية كفلسفة تاريخية لا يمكن أن تطبق؛ ولا يمكن وصف نصرها استجابة ملائمة لطبيعتها؛ فمنذ فكرة انتصارها ـ على الأقل في حس الحداثيين ـ فإنها أُدمجت بطريقة معقدة في فكرة التقدم. فعندما ننجز شيئاً ما، فإننا نحقق تقدماً، ومن ثَم نجد أنفسنا في مرحلة جديدة من التاريخ. فالحداثة ذاتها عُرفت بمصطلحات الغلبة والتفوق على القديم. بينما انتصار (نيتشه) للعدمية هو التعايش مع العدمية الكاملة، وليس هناك شيء آخر بعد انتصار العدمية؛ فلا نستطيع وضع قيم جديدة يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون أكثر مصداقية من التي أزلناها بدون إيمان بأن هذه القيم لديها الأخطاء نفسها كما لدى القيم التي أزلناها. لذلك لا يمكن للعدمية الكاملة أن تنتصر، وما يمكن أن تنتصر فيه العدمية يمكن أن يتشكل في انتصار الرغبة بدلاً من انتصار العدمية نفسها.(216/26)
وارتحل الفارس أحمد ديدات
ومضات من حياته.. وشيء من عوامل نجاحه
فيصل بن علي البعداني
أُعلن في الساعة السابعة من صبيحة يوم الإثنين 3/7/1426هـ في مدينة (ديربان) في جنوب أفريقيا عن وفاة شيخ المناظرين، العلاَّمة المجاهد، والداعية الكبير: (أحمد بن حسين ديدات) ، عن عمر يناهز 87 عاماً. ولأن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ كان إماماً يُقتدى به في مجاله؛ فإن من الأهمية بمكان التعريف به، وتلمُّس أبرز عوامل نجاحه، غفر الله ـ تعالى ـ له، ورفع مقامه في الفردوس الأعلى.
- ومضات من حياة الشيخ (1) :
ولد الشيخ سنة 1918م في بلدة (تادكيشنار) بولاية (سوارات) الهندية. ونظراً لقلة ذات يد عائلته، وعدم توفر فرصة دراسية مناسبة أمامه في الهند هاجر عام 1927م، وعمره تسع سنوات إلى جنوب أفريقيا ليلتحق بوالده الذي يعمل خياطاً هناك، وقد كانت تلك السفرة آخر عهده بوالدته؛ لأنها ما لبثت أن توفيت بعد هجرته بشهور قليلة.
التحق بالمدرسة فور وصوله واستمر متفوقاً بها حتى نهاية الصف الثاني الإعدادي؛ ونتيجة للظروف المادية الصعبة التي شكلت حجر عثرة أمام مواصلته تعليمه، توقف عن مواصلة دراسته النظامية، وله من العمر إذ ذاك ست عشرة سنة.
ومن أجل توفير لقمة عيش شريفة تنقَّل في أعمال ووظائف مختلفة، فكان في عام 1936م بائعاً في حانوت لبيع المواد الغذائية، ثم عمل سائقاً في مصنع أثاث، ثم شغل وظيفة (كاتب) في المصنع نفسه، وتدرج في المناصب حتى أصبح مديراً للمصنع بعد ذلك.
وفي أواخر الأربعينيات من القرن الميلادي الفائت التحق الشيخ ـ رحمه الله ـ بدورات تدريبية للمبتدئين في صيانة الراديو وأُسس الهندسة الكهربائية ومواضيع فنية أخرى، ولما تمكن من توفير قدر مناسب من المال رحل إلى باكستان عام 1949م، ومكث هناك منكبّاً على إنشاء معمل للنسيج، لكن الشيخ لم يستطع المواصلة في باكستان؛ إذ اضطر إلى العودة مرة أخرى إلى جنوب أفريقيا بعد ثلاث سنوات للحيلولة دون فقدانه جنسيتها؛ إذ إنه ليس من مواليد جنوب أفريقيا، فعرض عليه فور وصوله استلام منصب مدير مصنع الأثاث الذي كان يعمل فيه سابقاً.
تزوج الشيخ أثناء سفره إلى باكستان ورزقه الله ـ تعالى ـ من الأولاد ابنين: إبراهيم ويوسف اللذين ما زالا على قيد الحياة، وبنتاً اسمها رقية توفيت منذ عدة سنوات.
- رحلته مع العلم والعمل:
يروي الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ سبب توجهه إلى الاهتمام بدراسة الكتاب المقدس للنصارى بعهديه القديم والجديد والرد على ترهاتهم فيهما وأباطيلهم حول الإسلام، فيذكر أنه كانت توجد كلية تنصيرية تابعة لإرسالية تدعى: (آدمز مشين) أمام الحانوت الذي كان يعمل فيه لبيع المواد الغذائية، وكانت تقوم بتدريس طلبتها وتدريبهم على الطعن في الإسلام وتشكيك المسلمين في عقائدهم، وكان الطلاب المتدربون يمرون على العاملين في الحانوت، ويلقون عليهم أسئلة يهاجمون بها الإسلام. يقول الشيخ: «كانوا يأتون إلينا ليقولوا: هل تعلمون شيئاً عن عدد زوجات محمد؟ ألا تدرون أنه نسخ القرآن وأخذه من كتب اليهود والنصارى؟ هل تعلمون أنه ليس نبياً؟ هل تعلمون أنه نشر الإسلام بحد السيف وأكره الناس على ذلك؟» ، ويستمر الشيخ قائلاً: «لم أكن أعلم شيئاً عما يقولونه، كل ما كنت أعلمه أنني مسلم.. اسمي أحمد.. أصلي كما رأيت أبي يصلي.. وأصوم كما كان يفعل، ولا آكل لحم الخنزير أو أشرب الخمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» .
حرك هذا الهجوم على ثوابت الإسلام الغيرةَ في نفس الشيخ على دينه، وزرع فيه باعثاً داخلياً قوياً للدفاع عنه، وأثناء بحثه عن سبيل للخروج مما هو وزملاؤه فيه يسَّر الله ـ تعالى ـ له نسخة من كتاب: إظهار الحق لـ: (رحمة الله الهندي) باللغة الإنجليزية، فقرأه ووجد في المعلومات والمناظرات التي يحتويها بغيته؛ مما كان له أكبر الأثر في حياته، حتى قال: «شعرت بعد قراءتي هذا الكتاب أنني أستطيع الآن أن أدافع عن نفسي وعن الإسلام، وبدأت أتصدى للمسيحيين بالمعلومات التي تعلمتها من الكتاب، وأزورهم في بيوتهم كل يوم أحد وأناقشهم، وكنت أقابلهم بعد خروجهم من الكلية لأحاورهم، ومن خلال تلك المناقشة تعلمت كيف أجادل وأناقش» .
وقد عكف في غضون ذلك كله على حفظ القرآن الكريم، ودراسة الإسلام ومبادئ الشريعة، وأوْلى عناية خاصة بدراسة سيرة الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم -.
واستمر الشيخ في تحسين أدائه في الإلقاء والحوار، وأخذ يتعلم ذلك ممن هو أفضل منه في هذا الباب، ثم حضر دروساً في كيفية استثمار تناقضات الكتاب المقدس في الدعوة إلى الإسلام، وعقب ذلك انتقل من التعلُّم إلى التعليم، واستمر على هذه الحال لمدة ثلاث سنين، قرأ خلالها العديد من نسخ الأناجيل المتنوعة، وانهمك في المقارنة بينها واكتشاف التحريفات والأباطيل التي تحتويها تلك النسخ، كما قرأ جملة من الكتب التي عُنيت بالرد على شبهات المستشرقين حول القرآن الكريم ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -، إلى أن اعتقد عقبها بأن من واجبه نقل معارفه وتجربته في دعوة النصارى إلى الآخرين، فأصدر في بداية الخمسينيات كتيبه الأول: «ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد -صلى الله عليه وسلم -؟» ، ثم نشر بعد ذلك أحد أبرز كتيباته: «هل الكتاب المقدس كلام الله؟» .
وفي عام 1956م اتفق مع رفيق دربه: (غلام حسن فنكا) ـ الذي كان شريكه في رحلة البحث والدراسة والقراءة المتعمقة في مقارنات الأديان ـ على تأسيس «مكتب الدعوة» في شقة متواضعة بمدينة ديربان، ومن ذلك المكتب جاب هو ورفيقه البلاد طولاً وعرضاً؛ حيث قام الشيخ بالعديد من المناظرات المبهرة والمفحمة، والتي هزت مفاهيم ومعتقدات راسخة لدى كثير من النصارى، وأحدثت اضطرابًا في الوسط الكنسي، ومن ثم في مجتمع جنوب أفريقيا كله.
وعقب ذلك تعرف الشيخ على (صالح محمد) أحد كبار رجال الأعمال المسلمين في مدينة كيب تاون ـ ذات الموقع السياسي والاقتصادي الهام، والتي تتميز بكثافة سكانية إسلامية عالية وغير منظمة، في مقابل أغلبية نصرانية قوية ومنظمة جداً ـ فدعاه لزيارة المدينة، ورتب له أكثر من مناظرة مع القساوسة في المدينة، ولكثرة عددهم ورغبتهم في مناظرة الشيخ فقد أصبحت إقامته في كيب تاون شبه دائمة، وتمكن ديدات من خلال تلك المناظرات أن يحظى بمكانة مرموقة بين سكان المدينة.
وفي عام 1977م كان موعد الشيخ الأول مع العالمية؛ إذ خرج إلى لندن للمناظرة في قاعة «ألبرت هول» الكبرى، وزار عقب ذلك العديد من دول العالم للغرض نفسه، واستمرت مكانته تسمو ونجاحاته تذيع، وبخاصة بعد مناظراته التي عقدها مع كبار رجال الدين النصراني أمثال: كلارك ـ جيمي سواجارت ـ أنيس شروش ـ ستانلي سجوبرج والتي أحرجت المنصرين أيما إحراج، وأظهرت عمق تمكن الشيخ في هذا الفن وسعة علمه في هذا الباب، حتى إنه من شدة حرج المنصِّرين اتهم بعضهم المنصر العربي الأصل (أنيس شروش) بأنه متواطئ مع الشيخ لهزيمة النصرانية.
أسس الشيخ معهد السلام لتخريج الدعاة، والمركز العالمي للدعوة الإسلامية بمدينة (ديربان) بجنوب إفريقيا، كما ألف ما يزيد عن عشرين كتاباً، من أبرزها: الاختيار بين الإسلام والمسيحية، وهو مجلد متعدد الأجزاء، القرآن معجزة المعجزات، المسيح في الإسلام، العرب وإسرائيل صراع أم وفاق، مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء، وقد طبع منها ملايين النسخ لتوزع بالمجان حول العالم بخلاف المناظرات التي طبع بعضها، إضافة إلى نسخ آلاف المحاضرات التي ألقاها؛ ولهذه المجهودات الضخمة مُنح الشيخ أحمد ديدات جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1986م.
اتُّهم الشيخ من قِبَل بعض المنصرين بالقاديانية، وهو ما يتعارض مع الجهود العلمية والدعوية التي قام بها، وهو أيضاً الأمر الذي نفاه الشيخ مراراً مؤكداً التزامه بمنهج أهل السنة والجماعة.
واستمر الشيخ صادعاً بالحق داعياً إلى الخير دون كلل أو ملل حتى أصيب في عام 1996م، بشلل تام في كافة جسده عدا رأسه بعد رجوعه من رحلة دعوية شهيرة إلى أستراليا، عولج عقبها لفترة طويلة في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، ثم انتقل إلى بلاده جنوب أفريقيا بعد أن استقرت حالته نوعاً ما، ومنذ ذلك الوقت بقي صابراً محتسباً طريح الفراش، يرد على الرسائل البريدية والإلكترونية وأسئلة الهاتف التي ترد إليه عبر ولده يوسف من خلال لغة إشارة خاصة به.
ومع مرض الشيخ إلا أن تطلعاته الدعوية كانت تكبر، فانظر إلى قوله: «لئن سمحت لي الموارد فسأملأ العالم بالكتيبات الإسلامية، وخاصة كتب معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية» ، وإلى توصيته لأعضاء مجلس أمناء المركز العالمي للدعوة الإسلامية في زيارتهم الأخيرة له بضرورة العمل على طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم ونشرها في العالم، والتي قال فيها: «ابذلوا قصارى جهودكم في نشر كلمة الله إلى البشرية.. إنها المهمة التي لازمتها في حياتي» .
واستمر الشيح بتلك الروح على تلك الحالة المرضية حتى وافاه أجله. وقد حاول أكثر من منصِّر تنصير الشيخ وهو على فراش المرض، ولعل من أشهر من حاول ذلك القس كلارك عام 1997م. وفي أثناء زيارة بعض القساوسة له أثناء مرضه كان بعضهم يشير إلى أن سبب ما أصابه مهاجمته لكتابهم المقدس، وعقب وفاته اتصل أحد المنصِّرين قائلاً: «إن غضب ربه عيسى هو السبب في موته، وهو من قتله انتقاماً منه» .
رحم الله ـ تعالى ـ الشيخ وأسكنه فسيح جناته، وبارك في عقبه وتلامذته، وأخلف الأمة من يقوم بدوره.
- عوامل نجاح الشيخ:
من تابع حياة الشيخ، وتأمل في مسيرته، يرى أنه ـ رحمه الله تعالى ـ وُفِّق في امتلاك صفات وعوامل عدة مكنته من تحقيق هذا النجاح المثير، ولعل من أبرز ذلك:
1 - الغيرة على الدين، وتعظيم ثوابته: ومن نظر في سيرة الشيخ اتضح له مدى امتلاكه لهذا الباعث المحرك على الفعل. يقول ـ رحمه الله تعالى ـ مصوراً الحالة النفسية التي كان يعيشها من جراء هجوم طلبة كلية (آدمز مشين) التنصيرية على أصول الإسلام ما نصه: «وقد أحال هذا الهجوم على الإسلام حياتنا إلى بؤس وعذاب وشقاء، وأحدثت عندنا حيرة وقلقاً بسبب عدم معرفتنا شيئاً نرد به عليهم، وكنت أرغب في ترك المحل والهرب إلى مكان آخر، ولكن ذلك كان مستحيلاً لصعوبة وجود مكان آخر» يلجأ إليه.
2 - الإصرار وقوة العزيمة: ولعل هذه الصفة من أبرز ما يميز الشيخ؛ إذ على الرغم من أنه ترك الدراسة النظامية وهو في سن السادسة عشرة، إلا أن ذلك لم يحُل بينه وبين استمرار بناء النفس ومداومة القراءة والتعلُّم الذاتي؛ حتى إنه صار آية في فنه، يشهد له بذلك القاصي والداني قبل شهادة نتاجه العلمي المقروء والمرئي والمسموع، مما جعل بعض الجامعات تراه أهلاً لدرجة الأستاذية في تخصصه وتقوم بمنحه إياها، هذا في الجانب العلمي. أما في الجانب العملي فالأمر أكثر وضوحاً؛ إذ إنه ما إن قرأ كتاب «إظهار الحق» حتى بادر إلى تخصيص يوم إجازته لزيارة طلبة كلية (آدمز مشين) وأساتذتها في منازلهم ويقارع أباطيلهم بالبراهين والحجج الداحضة، ومع ازدياد عود الشيخ صلابةً نجد نشاطه يتجاوز مدينته، فيخرج إلى جوهانسبرج وكيب تاون، وفي عام 1959م نراه يترك وظيفته ليتفرغ للعمل الدعوي كلياً، واستمر في الذهاب والإياب في أرجاء البلاد دون أن تعرف نفسه الملل، ليبدأ عقب ذلك الخروج إلى بقية البلدان؛ حتى إنه حاضر أو ناظر في نيويورك وشيكاغو ولندن وكوبنهاجن وسيدني، وغيرها من كبريات مدن العالم.
3 - الشجاعة الأدبية: وهب الله ـ تعالى ـ الشيخ إقداماً ورباطة جأش وقبولاً للتحدي بصورة جعلته لا يهاب الصعاب، ولا يرهب مكر الآخرين وكيدهم على صغر سنه وفقره وقلة حيلته، في مقابل قوة المنصرين وكثرتهم وكون السلطة بأيديهم، وهو وإياهم في بلد عنصري لا يرى لغير الجنس الأوروبي كرامة ولا قيمة، واستمرت شجاعته الأدبية معه إلى أن توفاه الله تعالى إذ استمر في مناظرة أرباب التنصير من كافة المذاهب في بلدانهم واحداً تلو الآخر، دون أن يدخل إلى قلبه خوف أو وجل.
4 - الحلم والتواضع: إن من أهم ما تمتع به الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ صفتي الحِلْم والتواضع؛ فحلمه مكنه من الهدوء بصورة ملفتة أمام خصومه، ومن القدرة على تجاوز الإهانات التي لاقى كثيراً منها أثناء الحوار والمناظرة، وتواضعه الجم وبساطته الظاهرة وبعده عن مظاهر الترف والتكلف ـ رغم مكانته المرموقة وشهرته الواسعة ـ مما أكسبه القلوب وساعده على تقريب الناس منه وجذبهم إليه.
5 - الرفقة المعينة: كان إلى جانب الشيخ رفقة جردت نفسها للوقوف معه لنصرة الحق، وأسهمت بفاعلية في تشجيعه وإعانته وفتح الآفاق والفرص أمامه، والحق يقال إن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ رغم عصاميته الظاهرة ما كان ليبلغ ما بلغ لو لم يوفقه الله ـ تعالى ـ بصحبة مقتنعة بشخصيته، مؤمنة برسالته، ملازمة له في حله وترحاله، تمهد له دروب النجاح وتثبته أثناء مضيه فيها.
6 - وضوح الهدف: إذ منذ أن بدأ الشيخ ـ رحمه الله عز وجل ـ نشاطه الدعوي، وهدفه بيِّن متمثَّل في الدفاع عن الإسلام، ورد شبهات النصارى حول القرآن المجيد والنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم -، وذلك من خلال بيان عقائد الإسلام كما هي، ونشر ترجمة معاني القرآن كما هي، والانطلاق من قاعدة: «خير وسيلة للدفاع الهجوم» ، ولذا فقد عمل على دراسة كتاب النصارى المقدس بعهديه، وإظهار ما فيه من تناقض مع مسلَّمات العقل، وما بين نسخه من اختلافات ضخمة ناتجة عن تبديل وتحريف بشري متكرر ومتعمد. وقد استمر الشيخ ـ رحمه الله ـ منذ أكثر من سبعين عاماً مرتباً لأولوياته، مركِّزاً على هدفه هذا الجلي، متجهاً نحو تحقيقه بكل ما يملك من جهد وإمكانات، لم يحد عن ذلك إلى أن توفاه الله تعالى.
7 - التخصص الدعوي: لم يتجاوز الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ المجال الذي نذر نفسه له، من مقارعة أباطيل النصارى ودحض شبهاتهم حول الإسلام، وقد مكنه استمرار التركيز على هذا الجانب من تحقيق مزيد من العمق والإبداع فيه، حتى إنه ـ رحمه الله تعالى ـ بلغ من إتقانه له حداً لا يجارى. فماذا يا ترى ستكون النتائج لو أن كل فرقة من الدعاة تخصصت في مجال دعوي محدد؟
8 - خدمة جانب حيوي وبِكر: لعل من أهم العوامل التي ساهمت بفاعلية في نجاح الشيخ وبروزه توفيق الله ـ تعالى ـ له بالتركيز على جانب حيوي مهم، حاجة الأمة إليه ماسة، وبخاصة في زمن غربة الإسلام، وضعف إمكانات الداعين إليه في مقابل قوة إمكانات التنصير وهيمنة إرسالياته على كثير من المؤسسات التعليمية والصحية والإعلامية في أصقاع الأرض، ولذا فقد كان للمشاركات المتميزة التي أسهم بها الشيخ حضورها الفاعل في الصراع العقدي الدائر بين الإسلام والكنيسة اليوم.
وزاد من فرص الشيخ في النجاح أن هذا المجال ما يزال على المستوى الدعوي الإسلامي شبه بكر، الجهد فيه محدود وقليل، ولذا فقد كان تقديم أي إسهام متميز من الشيخ ملحوظاً ومؤثراً في الساحة الدعوية بصورة بينة جداً.
9 - تنمية المهارات والقدرات الذاتية: عمل الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ على صقل مواهبه، وتنمية قدراته منذ أن بدأ في سلوك هذا الطريق، فمع أن الشيخ توقف عن الدراسة النظامية في سن مبكرة جداً إلا أنه استمر في تنمية لغته الإنجليزية، ومعلوماته من خلال القراءة والبحث، وبعد أن اطمأن إلى جودة معلوماته أخذ في تحسين مهارة الإلقاء لديه، فحضر دروساً في ذلك عند متميز في هذا الجانب (لا يكاد السامع يمل حديثه) ، ثم انضم إلى دروس تُمكِّن مَنْ يحضرها من استثمار تناقضات (الكتاب المقدس) في الدعوة إلى الله تعالى. وما فتئ الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ يوماً بعد آخر يحسِّن من قدراته على الإلقاء والمناظرة من خلال ممارسته العلمية المتكررة حتى بلغ فيها المبلغ الذي يعرفه الجميع.
10 - التركيز على الإنجاز: من تأمل في حياة الفقيد ـ رحمه الله تعالى ـ تجلى له بُعدُهُ عن التنظير الواهي، وتركيزه على تنفيذ الوسائل المحققة لهدفه الدعوي الذي ارتضاه لنفسه؛ فهو يناقش ويناظر ويحاضر وما زال يتعلم، وهو يقيم الدورس ويعقد الدورات ويصنف الرسائل وينتقل من مدينة إلى أخرى ليدعو الآخرين ويعلمهم ما تعلم، وهو يتفق مع رفيق دربه غلام حسن على تأسيس مكتب للدعوة لمقارعة الباطل وإقامة الحجة على المعاندين، وهو يترك وظيفته ليتفرغ لدعوته، وهو يدخل في شراكة دعوية مع بعض أغنياء المسلمين بغرض استثمار وجاهتهم وقدراتهم المالية في خدمة الدعوة إلى الله تعالى، وهو ينشئ المؤسسة تلو الأخرى لخدمة دعوته وتحقيق رسالته، وهو ينتقل من بلد إلى آخر ليثبِّت المسلمين ويقيم الحجة على خصومهم، وهو يعقد اللقاءات المتكررة مع المنصرين لمناقشتهم في أمور دينهم، ولفت نظرهم إلى جوانب القصور والضعف الموجودة في عقائدهم وكتبهم، وهو يوزع أكثر من: 20.000.000 مليون نسخة من رسائله وأشرطته المسموعة والمرئية، وأكثر من 400.000 نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم عبر المركز العالمي للدعوة الإسلامية الذي شارك مع إخوانه في تأسيسه في ديربان، وهو يرد على ما يرده من أسئلة من الآخرين مع أنه طريح الفراش مشلول اللسان والأطراف لا يتحرك منه غير عينيه وحاجبيه لمدة تزيد على عشر سنين إلى أن وافاه الأجل المحتوم ـ جعله الله تعالى في عليين ـ مما يجعلنا نقول بصوت مرتفع: حقاً إن امتلاك المبادرة الفاعلة والتركيز على إنجاز الأهداف المختارة هو سبيل الناجحين.
ويبقى توفيق الله ـ تعالى ـ وعونه وتسديده قبل ذلك وبعده هو العامل الأهم في قبول الناس لجهود الشيخ واستفادتهم منها وسمو النجاحات التي حققها.
لقد كان الشيخ تجربة دعوية ناجحة، وأنموذجاً في العلم والعمل يستحق الدراسة والاحتذاء، وعسى الله ـ تعالى ـ أن يسخر العاملين في المؤسسات الدعوية لتبني أصحاب التجارب الناجحة من أمثال الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ ليزداد النجاح نجاحاً والإشراق إشراقاً، وأن يسخر من المؤسسات أو الدعاة من يعمل على تدوين تجربة الشيخ وأمثاله من المبدعين، حتى لا تموت بموتهم وتتمكن الأجيال الدعوية القادمة من توارثها.
- وختاماً:
فقد كانت جهود الشيخ وإسهاماته المتنوعة إضافة متميزة في التجربة الدعوية المعاصرة، يُعتَقَد بأن نجاحها الأكبر كان في بهت الذين كفروا، وفي تثبيت المسلمين الذين يعيشون في أجواء نصرانية طاغية وإشعارهم بالعزة والتفوق العقدي. والمأمول من تلاميذ الشيخ ومحبيه أن يطوروا هذه التجربة وينطلقوا من حيث انتهى الشيخ لا من حيث بدأ، فيركزوا على المعرفة المتعمقة بالشريعة الإسلامية والديانة النصرانية المحرفة على حد سواء، ويعملوا على المزج بصورة أظهر بين إرادة تثبيت المسلمين وبين الرغبة في دعوة النصارى، فيحسنوا في الأساليب ويطوروا في الوسائل بصورة ملموسة تخفف من الشعور لدى الفئات النصرانية المترددة بأن هدف المسلم من المناظرة هو إفحام خصمه فقط لا العمل على هدايته، وتبرز بصورة أكبر يسر الإسلام وسماحته، وكون ـ مولانا القدير ـ أنزله رحمة للعالمين.
اللهم بجودك وفضلك تقبل الشيخ، وتجاوز عنه، وارزقه مرافقة نبيك -صلى الله عليه وسلم - في جنات الخلد، يا إله الأولين والآخرين، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلِّ اللهم وسلم على إمام المرسلين وعلى الآل والأصحاب أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر في ترجمة الشيخ: على موقعه الرسمي الإلكتروني، ومقالة للدكتور عبد الله قادري الأهدل بعنوان: (مع الداعية الإسلامي أحمد ديدات) ، على صفحات موقع صيد الفوائد الإلكتروني، ومقالة لـ: شعبان عبد الرحيم بعنوان: (أحمد ديدات.. رفاق على طريق الدعوة) ، على صفحات موقع إسلام أون لاين.(216/27)
الحوار الأخير مع عميد الأدب الإسلامي المقارن
صلاح حسن رشيد
الدكتور حسين مجيب المصري
عصر من التألق في الخارج.. والتجاهل التام في الداخل!!
مثل شمس الشتاء في خفوتها وضعفها وهوانها على الناس.. رحل عن دنيانا إلى جوار ربه الكريم الدكتور حسين مجيب المصري (88 عاماً) عميد الأدب الإسلامي المقارن في الوطن العربي وأستاذ الدراسات الشرقية بآداب جامعة عين شمس واللغات والترجمة بجامعة الأزهر، بعد حياة علمية وأكاديمية وأدبية منقطعة النظير أسس فيها لحقل الآداب الشرقية واستخرج نفائسه، وأرسى معالم مدرسة نقدية تقوم على المقارنات فيما بين الآداب العربية والفارسية والتركية والأردية من وشائج وصلات حضارية ونفسية ومعرفية.
وخلال مشواره العلمي الذي قارب على السبعين عاماً أنجز الدكتور حسين مجيب المصري عطاء فكرياً ثرياً أربى على الثلاثة والثمانين كتاباً كلها من عيون ودرر الدراسات الشرقية، علاوة على ترجماته الدقيقة من اللغات الفارسية والتركية والأردية إلى الشعر العربي، ولا ننسى ترجماته الرائعة لأشعار فيلسوف الإسلام محمد إقبال، في متانتها ودقة سبكها. ومن حسنات فقيدنا الكبير مراجعاته الدقيقة لترجمات معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية والإيطالية والفارسية والتركية، والتي أجازها الأزهر بمجرد انتهائه منها؛ لأنه كان موسوعي المعرفة يجيد ثماني لغات نطقاً وكتابة وتأليفاً، ويعتمد عليها في مراجع كتبه وأبحاثه.
كما حظي الدكتور المصري بسلسلة من الجوائز والتكريمات، كان فيها العربي الوحيد؛ حيث نال أعلى وسام من الرئيس الباكستاني ضياء الحق عام 1988م، ووسام الخدمة العالية من الرئيس التركي في الثمانينيات، والدكتوراه الفخرية من جامعة مرمر بتركيا، إلا أنه لم يحظ بأية جائزة مصرياً وعربياً. ويلاحظ على الدكتور المصري أنه أجاد خارج السرب الثقافي العربي، ولم يتقرب لأحد أو يطلب بنفسه شيئاً، برغم ريادته وتفوقه على كثيرين نالوا الجوائز وحصدوا الأوسمة تزلفاً وتقرباً.
التقيناه وهو على فراش المرض في حواره الأخير مع القراء، واستمعنا إلى آرائه في الأدب والفكر والثقافة، وإلى أدق أسرار حياته، وكيف حفر في الصخر ـ برغم العوائق ـ لكي يدعو عبر كتاباته وأبحاثه إلى الوحدة الثقافية الجامعة لأشتات العرب والمسلمين اليوم بعد أن استحالت سياسياً. وإلى التفاصيل:
- شجرة التراث:
- خلال هذه الرحلة الطويلة العاشقة لتراثنا الروحي والحضاري لا سيما في آداب الشعوب والأمم الإسلامية غير الناطقة بالعربية.. بماذا خرجتم؟ وما الفائدة التي تحصلت لديكم؟
- يخطئ من يظن أن تراثنا هو الموجود فقط في العربية، بل هو في العربية والفارسية والتركية والأردية والسواحلية وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية التي استظلت براية الإسلام وحضارته. ومن المعروف أن الأدب الاسلامى بمثابة الشجرة التي لها فروع هي آداب الشعوب الإسلامية سالفة الذكر، والتي يجمع بينها روابط روحية وثقافية وأدبية واجتماعية، لا توجد في أية حضارة أخرى. ومن خلال التوغل والدراسة العميقة، واكتشاف أسرار ونفائس ودخائل هذه الآداب تحصَّل لي بعد تعب وجهد أن توصلت إلى أن الوحدة الثقافية المستمدة من ماضينا العريق، وريادتنا الأصيلة هي التي يجب أن ندعمها اليوم بالتواصل فيما بيننا فكرياً وأدبياً، في ظل القطيعة السياسية فيما بيننا، وتطاول الإمبريالية الغربية، والفاشية الأمريكية والصهيونية على ديارنا في أفغانستان والعراق وفلسطين. فبماذا نحتمي بعد أن تكسرت عوامل القوة السياسية العربية الإسلامية؟ لا شك أن الثقافة هي المعين الباقي، والثغر الذي نستظل بظله من وقع الضربات الأمريكية والإسرائيلية. كما يخطئ من يهاجم مصطلح الأدب الإسلامى، لأنه موجود بوجودنا كحضارة ودين، ولان هناك آداباً اتسمت بالسمة الأيديولوجية والدينية كالأدب الماركسي والأدب اليهودي، والأدب المسيحي؛ فلماذا نصادر على الإسلام هذا الحق الموجود أصلاً؟
- الإخلاص والتفوق:
- كيف استطعت أن تجيد أكثر من ثماني لغات، وتطَّلع على آداب شرقية وغربية؟ ومن أين أتيت بالوقت؟ وهل من طريقة تخبرنا بها كى نحذو حذوك؟
- قد عشت في قصر جدتي، وكانت لي مربية نمساوية تتقن الفرنسية والإنجليزية والألمانية، فتعلمت هذه اللغات عن طريقها صغيراً، قبل أن التحق بالمدرسة. ولما كبرت أحسست أنني أميل إلى تعلم اللغات وفهم أسرارها، والنهل من آدابها، وهكذا استطعت أن أقرأ لكبار الأدباء قديماً وحديثاً، في العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. ولما دخلت جامعة فؤاد الأول في الثلاثينيات من القرن العشرين درست الإيطالية على مدرس خاص بي، علاوة على الروسية، لكنني تخصصت في اللغات الشرقية، وهي الفارسية والتركية والأردية، وأتقنتها. ومن هنا صرت ـ وأنا معيد ـ أجيد ثماني لغات، وأترجم منها وإليها، وأكتب بها، بل إنني أكتب شعراً عربياً وفارسياً وتركياً وفرنسياً، ولى دواوين ستة بالعربية، وديوان فارسي ترجمته إلى العربية، وآخر تركي ترجمته أيضاً إلى الشعر العربي الموزون المقفى، ولي قصائد عديدة بالفرنسية. لكنني أنصح الأجيال الجديدة وصغار الباحثين ومحبي الآداب والفنون واللغات أن يجاهدوا من أجل التفوق والريادة، وليس بالاكتفاء بالمعرفة فقط، ولأن الآداب جميعها متصلة فيما بينها، ومتقاربة، برغم اختلاف اللغات والثقافات والعادات والتقاليد. كما كنت اقرأ بنهم شديد، وأذهب إلى المكتبات العامة، وأشتري أحدث الإصدارات من عواصم الدنيا وأتواصل مع الآخر، وهكذا كتبت في أكثر من مجال، وتخصصت في أكثر من علم. وطالما أن المرء يخلص في مهنته فلابد أن يدرك ما يريد، وأن يحقق ما يصبو إليه، وأن يقهر العوائق والسدود.
- نحن أمة تخاطب نفسها!
- يصفنا الآخر بالأمة المتخلفة فكرياً وحضارياَ، وينعتنا بنعوت عنصرية من قبيل: الإرهاب والعنف.. ترى كيف نرد على ذلك، ونصحح صورتنا ونصل لقلب هذا الآخر وعقله وفكره؟
- لا شك أن هذه معضلة شديدة الوطء، تحتاج إلى جهود نبهاء بل كتائب ومدارس وجامعات من العلماء والشعراء والأدباء والساسة والفنانين؛ لأن صورتنا أصبحت مهزوزة جداً، بل غائمة، وأصابها ـ نتيجة تقاعسنا وخمولنا ـ الصدأ وعوامل التعرية. وفي يقيني أننا مطالبون اليوم أكثر مما مضى بإحياء أمجادنا الأدبية والعلمية والحضارية والروحية، التي أشاد بها العالم قديماً، لكننا انغمسنا ـ حالياً ـ في أوحال التفرق والتشرذم، واكتفينا بالانطواء على الذات، والبكاء على الأطلال واللبن المسكوب، ولم نصنع شيئاً. وكيف يقف العالم، بل الرأي العام العالمي إلى جوارنا، ونحن لا ننتج ما نأكل، ولا نصنع ما نلبس؟ وكيف يستمع إلى شكوانا هذا الآخر المتعالي، ونحن لا نملك لغة رصينة للحوار معه، ولا نمتلك أدوات فاعلة للتواصل مع هذه الشعوب المتعطشة للاستماع إلينا، ولكن أين المنهج والرؤية والتصور؟ وما هي أدواتنا الصحيحة لغزو قلوب الآخر؟ وبأية لغة نتفاعل معه؟ فنحن اليوم ندعي الحوار الحضاري مع الآخر، في حين أننا نخاطب أنفسنا فقط.
- حفاوة الخارج وتجاهل الداخل:
- يقال إن لكم تلاميذ في أكثر من خمس وعشرين جامعة في العالم؛ فكيف ذاع صيتكم في الخارج، بينما كان التجاهل والنسيان والصمت المطبق هو مصيركم في الداخل؟
- إنني مؤمن بأن على المرء أن يعمل وينجز، وليس الاستجداء من هذا وذاك؛ ولهذا أخلصت وثابرت، وفتحت بيتي للباحثين من أقصى صعيد مصر إلى الإسكندرية، ومن جميع العواصم العربية لكي يفيدوا من مكتبتي وكتبي النادرة غير الموجودة في أية مكتبة أخرى، علاوة على توجيهاتي وإرشاداتي ونصائحي المخلصة لهم، ومساعدتي الدائمة في رسائلهم للماجستير والدكتوراه؛ لأنني لا أبخل على أحد بمعلومة. ومن هنا صار لي مريدون وتلاميذ في خمس وعشرين جامعة في مصر والأردن والكويت والسعودية والعراق والجزائر والمغرب والمجر وإنجلترا وإيرلندا والبرازيل والولايات المتحدة وأسبانيا وغيرها من دول العالم. أما حكاية عدم تقديري في وطني؛ فأنا لا أنتظر ثناء ولا مديحاً، ولا أكتب انتظاراً لجائزة من هنا أو هناك؛ لكنني أوقن أنه سيأتي يوم ويتم الحفاوة بي في مصر ودراسة مؤلفاتي، ولكن بعد رحيلي.
- دودة كتب:
- أسألك: ومن هو مثلك الأعلى الذي قادك إلى هذا التبحر العلمي الغزير إذن؟
- في صغري كنت متعلقاً وما زلت برمزين كبيرين، كانا القدوة لي، هما: أمير الشعراء أحمد شوقي بك، وزكي مبارك؛ فكلاهما في ميدانه كان الأول، وفارس الرهان، والحائز على قصب السبق. وهذا هو السبب في عصاميتي، واعتمادي على تثقيفي الذاتي، بعيداً عن المدرسة والجامعة؛ لأن الأديب الحق والمثقف الأصيل هو «دودة كتب» كما قال العقاد رحمه الله.
- وهل أنت حزين لعدم صدور أي كتاب لكم عن جهة حكومية، في الوقت الذي تطبع فيه الدولة أعمال من هم أقل شأناً؟
- هذا قد يسبب لي بعض الغصة، لكنني أعتقد أن كتبي متوفرة، وأن من يريد أن يقرأني فسيهتدي إليَّ. أما حكاية النشر الحكومي فهي تخضع لمعايير أخرى أربأ بنفسي أن أتحدث عنها.(216/28)
أقلوا عليهم من اللوم!
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
نقائص العمل الإسلامي كثيرة، ومعايب الدعاة وقصورهم كثير كذلك، وليس من الشرع ولا من العقل أن نتعامى عن تلك النقائص والمعايب، بل يجب أن نملك الجرأة في تصحيح الواقع الدعوي، وتسديد رجاله وحَمَلَته، مع الورع والتجرد الذي يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق، والذي يضع الأخطاء في حجمها الصحيح دون تهويل أو تهوين.
لكن التسديد والتصحيح مسؤولية من..؟!
الذي أحسبه أنه مسؤولية الجميع سواء كانوا في الساقة أو في الحراسة؛ فالعمل الدعوي ليس من أجل أحد من البشر، بل هو قُربة يتقرب بها الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له، لا يرجون فيه حمداً أو شكراً من أحد كائناً من كان؛ ولهذا تراهم حريصين على رعايته وتسديده قدر طاقتهم.
نعم! أعلم أنَّ كثيراً من الدعاة ـ بسبب الخلل التربوي ـ قد يضيق بالنقد صدراً، ويُصنِّف الناقدَ تصنيفاً منفِّراً، وكثيراً ما يجد الناقد المخلص صعوبة في التصحيح والترشيد، خاصة للممارسات التي ورثها الدعاة من بعضهم، وتجذرت في صفوفهم؛ لكن إذا لم نصبر على إخواننا ونقدِّر اجتهاداتهم فعلى من نصبر..؟!
ولست في هذه المقالة بصدد الحديث عن وسائل التصحيح والنقد، ولكن أشير إلى أن بعض الناقدين أو بعض (المتساقطين!) على جنبات الطريق، قد يتكلف النقد ليسوِّغ عجزه وقصوره، أو إعراضه وإدباره عن إخوانه، وهذه آفة من مداخل الشيطان خفية، تجره للتشكي والتذمّر المستمرين، والمبالغة في النقد الجارح وجلد الذات، حتى يصبح ذلك ملازماً له لا يقوى على فراقه، متناسياً قول الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ، ثم يبدأ بالتفلت من المسؤوليات والتهرب من الواجبات تدريجياً، ثم ينغمس بعد ذلك بأعماله الدنيوية الخاصة وارتباطاته الأسرية والاجتماعية التي قد تنسيه تطلعاته الدعوية السابقة.
ولو أنه حين رأى قصور إخوانه حرص على الإصلاح والتصحيح بإشفاق ورحمة ونَفَس طويل، وأخذ يدفع بالتي هي أحسن؛ لنفع الله به كثيراً، لكنه أغار عليهم بالتقريع، وصال عليهم صولة المحاربين.
ولو أنه حين هجر إخوانه أو تشاغل عنهم قدَّم لنفسه ولأمته بديلاً نافعاًَ يتزود به في عاجل أمره وآجله لكان الأمر هيناً؛ فأبواب الدعوة مشرَعة لكل محتسب جاد، والعبد الصالح مبارك أينما كان، وقد يُفتَحُ له في أبواب من البِر ما لا يُفتح له في أبواب أخرى. لكن ألا ترون معي أن سواداً كبيراً من أولئك الإخوة يحكي واقعُه غيرَ ذلك؟!
يؤلمني ـ والله ـ أشد الألم عندما أرى أحد الصالحين ممن كان ذات يوم من روّاد الدعوة، المتحمسين للبناء والتربية، الذين يسابقون إخوانهم على مقدمة الصفوف عطاء وبذلاً وعملاً، ثم أراه بعد ذلك وقد طارت به الدنيا بهمومها واشتغل بأمور أخرى. نعم! ربما بقي على صلاحه ـ والحمد لله ـ لكن أين هي همومه الدعوية؟! وأين همته وحيوته التي عهدناها منه؟! وأين مسؤولياته التي هجرها وأعرض عنها؟!
وربما يأتيك الجواب من بعضهم بالهجوم على إخوانه وتوبيخهم، وقد يكون بعض نقده صحيحاً، لكن هل الحل هو الإعراض والهجران؟! وإذا لم ُتجْدِ النصيحة؛ فهل الحل هو الانكفاء على الذات وترك العمل الدعوي بالكلية؟!
جميل أن يعمل الدعاة في مناخات تربوية خالية تماماً من القصور، لكن هل هذا ممكن في الواقع؟ ولِمَ لا نسدد ونقارب قدر الإمكان، وننظر إلى الخير الغالب؟ وبالتأكيد لا أطالب هنا بترك النقد والتواصي بالحق، لكن لا أرتضي تضخيم المشكلات، ولا أرتضي لغة التقريع والتوبيخ باعتبارها اللغة الوحيدة في التعامل مع مشكلاتنا.(216/29)
217 - رمضان - 1426 هـ
(السنة: 20)(/)
كاترينا لن تكون الأخيرة
ما أهون الخلق على الله حينما يبارزونه بالمعاصي، ولذلك توعدهم
بالعذاب الأليم حينما يخالفون سننه ويجترئون على حرماته. وقد حكى القرآن الكريم صوراً من العذاب بالريح العقيم والزلازل والأعاصير، وهي بلا شك من غضب الله وليست كما يقول الجاهلون «غضب الطبيعة» وهي وعيدٌ للعباد لعلهم يعتبرون وليس، وآخرها إعصار كاترينا الذي ضرب أمريكا فتهدمت البيوت، وأحدث من الخسائر بالبلايين، ومات آلاف من الناس والدواب وأصبحوا لا يُرى إلا آثارهم، وتشرد الكثيرون، ونزل الجيش لإجلاء الناجين ولمحاولة السيطرة على الأمن المتفلت في «أورليانز» فأُجلي أول ما أُجلي البيضُ وتُرك السود والملونون كما ذكرت ذلك الأنباء، فأحدث ردود فعل عنيفة من التدمير المتعمد والسرقات مما أوقع حكومة بوش في مأزقٍ أضطرها راغمة إلى شن حملة علاقات عامة لتلافي آثار الإعصار، وطالبت دول العالم بإعانتها لأول مرةٍ في تاريخها بعد أن عاشت سنين طوالاً تختال بغطرستها وقوتها، ويأبى الله إلا أن يذيقها ما أذاقت غيرها من العذاب. ومما يؤسف له أن بعض سفهاء الكُتَّاب شنوا حملة ساخرة ضد من قال إن هذه الكارثة عقوبة إلهية. وهذا يدل على جهلٍ وسفاهة لأمرين:
1 ـ تناسيهم غطرسة أمريكا وظلمها وإذلالها لكل من خالفها.
2 ـ ولجهلهم أن المحافظين الجدد الذين يحكمون أمريكا برؤى توراتية؛ حيث سيَّسوا الدين، وحكموا بنبوءات دينية خرافية بأنهم سادة العالم وأن الله اختارهم لقيادة هذا العالم.
وهذا ما كشفه كُتَّابٌ أمريكيون منهم (نعوم تشومسكي) و (وليم بلوم) ويكفي لفضح أولئك المتظاهرين بالموضوعية المزيفة أنهم يكذبون الوحي الإلهي كما جاء في قصة عادٍ قوم هود: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24 ـ 25] ، فالريح هي الريح ولن تدمر شيئاً إلا بأمر ربها، فهي سنَّةٌ جارية وقدر واقع مستمر يعاقب به الله الظالمين من كل البشر عندما يستحقون ذلك؛ فهل نعي العبرة من هذه الآية الربانية، أم على قلوبٍ أقفالها؟(217/1)
هيا إلى القرآن!
الحمد لله معلم القرآن، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى الصحب والآل، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد:
فإن معالم البِشْر، وصور الخير في أمتنا كثيرة، وهذا لا ينفي وجود خلل بيِّن، ومظاهر ضعف جسيمة قعدت بالأمة، وجعلتها في مؤخرة التسابق الحضاري في عالمنا اليوم.
وحين نتساءل عن مصدر الداء وطريق الدواء نجد ذلك جلياً في القرآن الكريم؛ إذ أنزل البَرُّ الرحيم كتابه لقوم يعقلونه هادياً للتي هي أقوم، فيه: {بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] ، {وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] ، {وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] ، و {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} [الجاثية: 20] ، و {نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174] ، و {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، و {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] ، {يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَإلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِمٍ} [الأحقاف: 30] ، و {تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} [طه: 3] ، {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9] .
وقد أفصح النبي -صلى الله عليه وسلم - عن هذه الحقيقة وجلاَّها، حين قال: «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله» (1) ، وأبان الباري ـ عز وجل ـ عاقبة الإعراض عن ذكره وعدم الاهتداء بنوره، فقال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124 - 127] ، حيث تكفل ـ سبحانه ـ لمن أقبل على كتابه وعمل به ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
وقد فقه الصحابة الكرام هذا المقام الرفيع للقرآن، فتلوه حق تلاوته، وتدبروا معانيه، وانطلقوا من توجيهاته، واتبعوا أحكامه، وتحاكموا في أمورهم كلها إليه، فسهَّل الله ـ تعالى ـ دربهم، وأنار سبيلهم، ووفقهم، وأعانهم، وأصلح بالهم، فتغيرت قلوبهم وعقولهم وأفعالهم، وصاروا سادة الدنيا وقادة الأرض، بعد أن كانوا أصحاب قلوب تائهة، ونفوس مريضة، وعقول ضيقة حائرة، لهم اهتمامات محدودة، وتتحكم فيهم الأنانية، وتشيع في أوساطهم الفرقة والبغضاء وكثير من السلوكيات المشينة، قابعين على هامش من التاريخ، لا يأبه لهم أحد، وليس لهم بين الأمم حساب أو وزن.
\ الصحابة والقرآن:
حين نتأمل هدي الصحابة الكرام في التعامل مع القرآن، نرى عجباً؛ فقد كان القرآن مرتكزهم ومحور حياتهم؛ فالتعظيم له كبير، والإقبال عليه شديد، والعيش معه طويل، والتأثر به والبكاء عند قراءته كثير، واتِّباعه والانطلاق منه وصناعة الحياة كلها وفق رؤيته أمر واقع، وقضية محسومة في حياة الصغير والكبير والفرد والمجتمع والدولة.
يقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ مبيناً منهج الصحابة في تلقي القرآن: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن» (2) ، ويقول أبو عبد الرحمن السلمي: «حدثني الذين كانوا يقرئوننا: عثمان ابن عفان وعبد الله بن مسعود وأُبَيُّ بن كعب ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أن رسول الله كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا» (3) .
وعن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: «كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم» (1) . وعن أبي صالح قال: «لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر فسمعوا القرآن جعلوا يبكون، فقال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست القلوب» (2) .
ويقول أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران يُعَدُّ فينا عظيماً» ، وفي رواية: «جد فينا» (3) أي: علت منزلته وعظمت.
وسِيَر القوم زاخرة بالشواهد على أن القرآن كان ربيع قلوبهم، ونور صدورهم، وجلاء أحزانهم، وذهاب همومهم؛ فهذا النبي -صلى الله عليه وسلم - «كان خلقه القرآن» (4) وكان «يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها» (5) ، ويقوم -صلى الله عليه وسلم - ليلة بآية يرددها حتى يصبح (6) ، ومرة يقوم الليل فيقرأ «البقرة وآل عمران والنساء في ركعة لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية عذاب إلا استجار» (7) .
وهذا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ كان «رجلاً بَكَّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن» (8) ، وهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ كان كثير التلاوة لكتاب الله، شديد التأثر به (9) .
وهذا عثمان ـ رضي الله عنه ـ يقول: «لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر في المصحف» (10) .
وهذا علي ـ رضي الله عنه ـ يقول: «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت» (11) .
وهذا ترجمان القرآن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان يتهجد من الليل، فيقرأ الآية ثم يسكت طويلاً من أجل التأويل يفكر فيها، ثم يقرأ (12) ، وكان يقول: «لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدَّبَّرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن أجمعَ هَذْرَمَةً» (13) .
وهؤلاء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - كان لليلهم من قراءة القرآن دوي كدوي النحل (14) ، وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقي يستمعون (15) .
وهذا أنس ـ رضي الله عنه ـ يخبر أنه كان يدير الخمر قبل تحريمها على جمع من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حتى مالت رؤوسهم من أثرها، فينادي منادٍ: ألا إن الخمر قد حُرِّمَتْ قال: «فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سُلَيْم، ثم خرجنا إلى المسجد» (16) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أُنزِلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وكل ذي قرابته؛ فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم - معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان» (17) .
وهذا عمر يقول له عيينة بن حصن: يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! فغضب عمر حتى همَّ بأن يقع به، فقيل له: يا أمير المؤمنين! إن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، وإن هذا من الجاهلين، يقول الراوي: «فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وَقَّافاً عند كتاب الله» (18) ، أي: يعمل بما فيه ولا يتجاوزه.
فحالهم كما وصف الله: {وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] .
إنها معرفة منشئة للعمل، وتلقٍّ للتنفيذ، وقراءة بتدبر بغرض تلمُّس التوجيه للانصياع له والعمل بما فيه.
\ إنه منهج متكامل لا مجرد تلاوة:
ولذا فلم يُعرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ القرآن في ليلة، بل قال -صلى الله عليه وسلم -: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» (19) ، وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: «إذا سمعتَ اللهَ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعِها سمعك؛ فإنه خير تؤمَر به أو شر تُنهى عنه» (20) ، ويقول ـ رضي الله عنه ـ: «ينبغي لحامل القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون» (1) .
ووجدنا أئمة الهدى يشتد نكيرهم حين يرون غياب هذا النهج الراشد في التعامل مع القرآن. يقول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «لقد لبثنا برهة من دهر وأحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، تنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم - فنتعلم حلالها وحرامها وآمِرَها وزاجِرَها وما ينبغي أن يوقَف عنده منها كما يتعلم أحدكم السورة، ولقد رأيت رجالاً يؤتَى أحدهم القرآن قبل الإيمان، يقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يعرف حلاله ولا حرامه ولا آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، وينثره نثر الدَّقَل» (2) ، ويقول أيضاً: «كان الفاضل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في صدر الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن - منهم الصبي والأعمى - ولا يُرزَقون العمل به» (3) .
ويقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لا تنثروه نثر الدقَل، ولا تهذُّوه هذَّ الشِّعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (4) ، ومرة قال: «إنَّا صَعُب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به» (5) .
ويذكر الحسن ـ رضي الله عنه ـ أن أناساً قرؤوا القرآن «لا علم لهم بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً، وقد والله أسقطه كله، ما يُرى له القرآن في خُلُق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَسٍ، لا والله ما هؤلاء بالقراء، ولا بالعلماء، ولا الحكماء، ولا الوَرَعة، ومتى كانت القراءة هكذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء» (6) .
وقال الفُضيل: «إنما نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملاً، فقيل له: كيف العمل به؟ قال: أي ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه» (7) .
وهذا ابن تيمية يوصي طالب العلم بأن يبدأ بحفظ القرآن؛ فإنه أصل علوم الدين، ثم يقول: «والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل؛ فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين» (8) .
\ القرآن منطلق النهضة:
واليوم نعيش في زمن تلاطمت فيه الأفكار والمفاهيم، وكثرت فيه الشبهات، وغرق فيه كثيرون في بحور الشهوات؛ ومظاهر المرض والتخلف بادية في جسم أمتنا (أفراداً ومجتمعات) ، في جوانب رئيسة، هي شروطٌ أساس لتحقيق نهضة جادة، كجانب الهوية والانتماء، والانطلاق من الثوابت، والجدية، والشعور بالمسؤولية، والعمق في البحث وامتلاك المعرفة، وحسن الإدارة والتنفيذ، والتمسك بمنظومة القيم والأخلاق العالية التي تمتلكها الأمة ... فنحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بعودة صادقة إلى الكتاب العزيز، نجعل فيه القرآن في حياتنا أولاً: إيماناً وتصديقاً، حفاوة وإجلالاً، تلاوة وحفظاً، تدبراً وفهماً، خشوعاً وخضوعاً، اتباعاً وتطبيقاً، تحاكماً وتحكيماً، ذبّاً عنه ودعوة إليه.. متى ما كنا نريد أن نأتي ربنا الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون بقلوب سليمة، ومتى ما كنا نريد لأمتنا عزة ورفعة، ونهوضاً وتمكيناً.
إن الابتعاد عن القرآن سبب الذل والهوان الذي تعاني منه أمتنا اليوم، وإن الانطلاق منه في كافة الأمور هو السبيل الوحيد النافذ أمامها للوصول لساحة العزة، وبوابتها الواسعة لنيل الرفعة والظفر بالتمكين، ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها.
وها نحن اليوم في شهر رمضان المبارك، الشهر الذي أنزل الله ـ تعالى ـ فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والذي يستحب فيه مدارسة القرآن والإكثار من تلاوته؛ ولذا يجدر بنا أن نستثمره في تعميق عودة صادقة إلى القرآن، فنعلِّم أنفسنا والناس تلاوته وتدبره وفقه معانيه، وننشر في الأمة المنهج الصحيح في التعامل معه، في كل وسط، ولكل أحد، كل بحسبه وفي الموقع الذي هو فيه، إن ربي لطيف لما يشاء، وهو على كل شيء حفيظ.
اللهم علِّمنا كتابك، وفقِّهنا فيه، وجنبنا هجره، وهذب به نفوسنا، وأَحْيِ به قلوبنا، وأصلح به حال أمتنا، وانفع به أولادنا وأهلينا، وارزقنا تلاوته وتدبره، واجعلنا من أهله الناشرين لعلومه، ووفقنا للاجتماع عليه والعمل به على الوجه الذي يرضيك عنا، بجودٍ منك وإحسان يا قريب يا مجيب!
__________
1) مسلم (147) .
(2) جامع البيان، للطبري: 1/60.
(3) السبعة، لابن مجاهد: 69.
(1) الجامع لأحكام القرآ، للقرطبي: 15/ 217.
(2) ابن أبي شيبة (35524) .
(3) أحمد (12236) ، و (12237) ، وقال الأرناؤوط في كل منهما: (إسناده صحيح على شرط الشيخين) .
(4) أحمد (24645) ، وصححه الأرناؤوط من حديث عائشة رضي الله ـ تعالى ـ عنها.
(5) مسلم (373) .
(6) ابن ماجة (1350) ، وصحح إسناده البوصيري، وحسنه الألباني.
(7) النسائي (1009) ، وصححه الألباني، وأصله في مسلم (203) .
(7) البخاري (2298) .
(8) انظر: تاريخ الخلفاء، للسيوطي: 116.
(10) شعب الإيمان، للبيهقي: (2223) .
(11) كنز العمال، للهندي (36404) .
(12) انظر: مختصر قيام الليل، للمروزي: 149.
(13) فضائل القرآن، لابن كثير: 157.
(14) انظر: الزهد، لابن المبارك (97) ، مناهل العرفان، للزرقاني: 2/297.
(15) انظر: الاستقامة، لابن تيمية: 1/ 342.
(16) جامع البيان، للطبري: 5/ 37.
(17) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير عن ابن أبي حاتم، وبعضه عند أبي داود (4101) من حديث أم سلمة بسند صححه الألباني.
(18) البخاري (6856) .
(19) سنن أبي داود (1394) ، وصححه الألباني.
(20) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 2/335.
(1) المصنف، لابن أبي شيبة (35584) .
(2) الإيمان لابن مندة (207) ، والدقل: رديء التمر.
(3) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 1/75.
(4) معالم التنزيل، للبغوي: 4/ 407.
(5) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 1/75.
(6) الزهد، لابن المبارك: 274، البداية والنهاية لابن كثير: 9/270- 271.
(7) اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي (116) .
(8) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 2/234.(217/2)
الدلالة المحكمة لآيات الحجاب
لطف الله خوجه
من مميزات هذا القرن، من جهة المسائل الفقهية: ظهور الجدل والتأليف في مسألة كشف وجه المرأة. وهذا بعكس القرون السابقة؛ حيث انحصر البحث في بطون الكتب الفقهية، والحديثية، والتفاسير. لم تكن هذه المسألة جدلاً في المنتديات، ولا دعوة على المنابر، ولم تؤلف فيها مؤلفات مستقلة، كلاَّ (1) ، بل كان العالِم يعرض رأيه
كان العلماء في هذه المسألة على قولين:
- الأول: إيجاب التغطية على جميع النساء، بمن فيهن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن.
- الثاني: استحباب التغطية على جميع النساء، حاشا أزواج النبي رضوان الله عليهن، فعليهن التغطية.
وبهذا يُعلم اتفاقهم في شيء، واختلافهم في شيء:
- فقد اتفقوا على وجوب التغطية في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، فكان هذا إجماعاً.
- واختلفوا في حق عموم النساء، بين موجب ومستحب، فكان هذا خلافاً.
وأهم ما يجب ملاحظته في مذهب المستحبين: أن قولهم تضمن أمرين مهمين هما:
- الأول: استحبابهم التغطية؛ وذلك يعني أفضليتها على الكشف؛ فحكم الاستحباب فوق حكم المباح. ففي المباح: يستوي الفعل والترك. لكن في الاستحباب: يفضل فعل المستحب.
- الثاني: اشتراطهم لجواز الكشف شرطاً هو: أمن الفتنة. والفتنة هي: حسن المرأة، وصغر سنها (أن تكون شابة) ، وكثرة الفساق. فمتى لم تُؤْمَن الفتنة فالواجب التغطية.
وبهذا يُعلم أن تجويزهم الكشف مقيَّدٌ غير مطلق، مقيد بشرط أمن الفتنة، ومقيد بأفضلية التغطية، وهذا ما لم يلحظه الداعون للكشف اليوم، وهم يستندون في دعوتهم إلى هؤلاء العلماء.
وقد التزم المستحبون ذلك الشرط وذلك التفضيل، فانعكس على مواقفهم:
- فأما الشرط: فالتزامهم به أدى بهم لموافقة الموجبين في بعض الأحوال، فأوجبوا التغطية حال الفتنة، فنتج من ذلك: حصول الإجماع على التغطية حال الفتنة. فالموجبون أوجبوها في كل حال، والمستحبون أوجبوها حال الفتنة، فصح إجماعهم على التغطية حال الفتنة؛ لأنهم جميعاً متفقون على هذا الحكم في هذا الحال.. هذا بالأصل، وذاك بالشرط.
- وأما التفضيل: فالتزامهم به منعهم من السعي في نشر مذهبهم، والدعوة إليه، وحمل النساء عليه؛ ولأجله لم يكتبوا مؤلفات مستقلة تنصر القول بالكشف ـ حسب علمي ـ. فما كان لهم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. ترتب على ذلك أثر مهم هو: إجماع عملي تمثل في منع خروج النساء سافرات؛ فلم يكن لاختلافهم العلمي النظري أثرٌ في واقع الحال.. وهذا ما لم يلحظه الداعون للكشف اليوم، وهم يستندون في دعوتهم إلى هؤلاء العلماء.
فملخص أقوالهم:
- ثلاثة إجماعات: إجماع على التغطية في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، وإجماع على التغطية حال الفتنة، وإجماع عملي في منع خروج النساء سافرات.
- وإيجاب على الجميع، بمن فيهن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، في كل حال.
- واستحباب على الجميع دون أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، مقيد بشرط أمن الفتنة، ومقيد بالأفضلية.
هذه هي المذاهب في هذه المسألة.
وهكذا مرت المسألة بينهم في تلك القرون: خلاف نظري، يمحوه اتفاق عملي. فانعكس على أحوال المسلمات، فلم تكن النساء يخرجن سافرات الوجوه، كاشفات الخدود، طيلة ثلاثة عشر قرناً، عمر الخلافة الإسلامية، حكى ذلك وأثبته جمع من العلماء، منهم:
1 - أبو حامد الغزالي، وقد عاش في القرن الخامس، في الشام والعراق (توفي 505هـ) ، الذي قال في كتابه: (إحياء علوم الدين) : «ولم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات» (1) .
2 - الإمام النووي، وقد عاش في القرن السابع؛ حيث نقل في كتابه: (روضة الطالبين) (2) الاتفاق على ذلك، فقال في حكم النظر إلى المرأة: «والثاني: يحرم، قاله الاصطخري وأبو علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد، والإمام، وبه قطع صاحب المهذب والروياني، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وبأن النظر مظنة الفتنة، وهو محرك للشهوة؛ فاللائق بمحاسن الشرع، سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال، كالخلوة بالأجنبية» .
3 - أبو حيان الأندلسي المفسر اللغوي، وقد عاش في القرن الثامن، قال في تفسيره (البحر المحيط) (3) : «وكذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة» .
4 - ابن حجر العسقلاني، وقد عاش في القرن التاسع، قال في الفتح (4) : «استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى: المساجد، والأسواق، والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال» .
5 - ابن رسلان، الذي حكى «اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق» (5) .
وهكذا كان الحال في بدايات القرن الأخير؛ فقد ظهر التصوير قبل مائة وخمسين عاماً، تقريباً، وصوَّر المصورون أحوال كثير من البلاد الإسلامية، منذ مائة عام، وزيادة، وفيها ما يحكي واقع حال النساء في بلاد الإسلام: تركستان، الهند، وأفغانستان، وإيران، والعراق، وتركيا، والشام، والحجاز، واليمن، ومصر، والمغرب العربي؛ حيث الجميع محجبات الوجوه والأبدان حجاباً كاملاً سابغاً، حتى في المناطق الإسلامية النائية، كجزيرة زنجبار في جنوبي إفريقيا، في المحيط الهندي، وقد زرتها عام 1420هـ، ودخلنا متحفها القديم، ورأينا صور سلاطينها من العمانيين، وصور نسائها، وكن جميعاً محجبات على الصفة الآنفة، وعندنا شاهد في هذا العصر: المرأة الأفغانية؛ فحجابها السابغ الذي يغطي جميع بدنها، حتى وجهها، قريب إلى حد كبير مما كان عليه النساء في سائر البلدان. فهذا الحال أشهر ما يستدل له؛ فالصور أدلة يقينية؛ فقد ظلت المرأة متمسكة بهذا الحجاب الكامل إلى عهد قريب، ولم يظهر السفور إلا بعد موجات الاستعمار والتغريب، حيث كان من أولويات المستعمر:
- نزع حجاب المرأة.
- تعطيل العمل بالشريعة.
وقد اتُّخذ لتحقيق هذين الهدفين طريقان: القوة، والشبهة. والأخطر طريق الشبهة.
لقد ظهر من يدعو وينادي بالسفور، من على المنابر، والصحف، والكتب، باعتبار أن كشف الوجه مسألة خلافية؛ حيث نظروا في تراث الإسلام، فتتبعوا مسائل الخلاف، وأفادوا منها في تأييد وإسناد دعواهم؛ فكانوا شَبَهاً بالمستشرقين، والفرق: أن المستشرقين بحثوا، وفتشوا للطعن في الإسلام نفسه، وهؤلاء بحثوا، وفتشوا للتشكيك في أحكام مستقرة، جرى عليها العمل، ومن ذلك: حجاب المرأة، وبخاصة كشف الوجه.
فوجدوا لطائفة من العلماء أقوالاً تجيزه، ولا تحرمه، لكن بشرط أمن الفتنة.
فأخذوا أقوالهم، وتركوا شروطهم. كما أخذوا قولهم بالجواز، وتركوا قولهم بالاستحباب.
ونسبوا قولهم الجديد، المحدَث، في جواز كشف الوجه مطلقاً، من غير قيد بشرط، ولا قيد بأفضلية إلى هؤلاء العلماء، فلم يحفظوا أمانة الأداء، ولم يحرروا نسبة الأقوال، ثم زعموا أنه قول جماهير العلماء.
وما كان لهم أن ينتسبوا لهؤلاء العلماء فيما أحدثوه من قول؛ فما هم منهم، ولا هم منهم.
ثم إنهم ربطوا بين السفور والتقدم، وزعموا أن سبب انحطاط الأمة، إنما كان باحتجاب المرأة، وبعدها عن ميدان الرجال. وسمع لهم من سمع، وانساق كثير من المسلمين لهذه الأفكار، لانتفاء الحصانة، وضعف القناعة، فتمثلوها، وطبقوها، فحدث في تاريخ الإسلام حدث غير سابق، غريب كل الغربة عن أخلاق المسلمين؛ حيث خرجت المرأة المسلمة سافرة، تتشبه في لباسها بالكافرة.
صارت المرأة في الصورة التي أرادها المتحررون، ومرت عقود، وشارف قرن على الأفول، لكن تلك البلدان المتحررة ما زالت من دول العالم الثالث؛ فأين التقدم الذي يجيء مع كشف الوجه، والتبرج، والاختلاط، وخروج المرأة من بيتها؟
والدعوات نفسها اليوم تعاد في مأرز الإسلام، ومأوى الإيمان، من دون اعتبار.
وأخطر ما في الأمر تبني مذهب الكشف طائفةٌ من المنتسبين للتيار الإسلامي، ممن كانوا يعارضون هذا المذهب؛ ذلك أن رأيهم مسموع، وقولهم له محل من القبول، لغلبة التدين، وإذا تذكرنا أن أول السفور ونزع الحجاب في البلاد الإسلامية، كان بدؤه كشف الوجه، فهمنا لِمَ كان تبني هؤلاء لهذا القول خَطِراً؟
ولا شك أن باعث هذا التغير في موقف هؤلاء الأفاضل اشتباه في المسألة. فالقناعة تامة بأنهم محبون للخير، متبعون للدليل، لكن الخلاف فيها غرّهم، فظنوا صحة مذهب الكشف، وربما رجحوه، ومحل الخلل عدم تحرير المسألة بدقة. وهذا ما لوحظ على أصحاب هذا الاتجاه، والشبهة إن أتت من نص شرعي، فلا تُزال إلا بنص واستدلال شرعي، ومجرد الخلاف لا يسوِّغ الانتقاء؛ إذ ليس كل خلاف سائغ، بل ثمة خلاف مردود. والواضح أن النصوص المستدل بها على جواز الكشف، ليست من القوة بحيث ترجح على النصوص الموجبة للتغطية؛ ففي القرآن ثلاث آيات، هي آيات الحجاب، وهن قوله ـ تعالى ـ:
- {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] .
ـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] .
ـ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] .
هذه الآيات كلها تدل دلالة محكمة على وجوب غطاء الوجه، فإذا ثبت إحكامها؛ فكل ما عداها متشابه، يُرَدُّ إليها. ومعلوم أن النصوص منها المحكم، ومنها المتشابه، فالمتشابه يُرَدُّ إلى المحكم، هذا سبيل أهل الإيمان الراسخين في العلم، كما دل عليه قوله ـ تعالى ـ:
- {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .
والمتبعون المتشابه:
- منهم القاصد، وهذا الذي في قلبه زيغ، يبتغي الفتنة بالتأويل، وهذا الذي حذر منه القرآن.
- ومنهم الواقع فيه بالخطأ، فهذا له أجر الاجتهاد، دون أجر الإصابة.
ففي مسألتنا هذه يوجد الصنفان، والمتأمل في نصوص الحجاب لا يملك إلا أن يحكم بأنها تدل على وجوب غطاء الوجه بدلالة محكمة، يصعب ويستحيل تعطيلها لأجل نصوص متشابهة، وإن كانت في نظر من قال بالجواز محكمة، لكن بيان الدلالة المحكمة لهذه الآيات، سيظهر صورة المسألة كما هي.
- الدلالة المحكمة لقولة ـ تعالى ـ: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] .
هذه الآية تدل دلالة محكمة على التغطية، وهذا لا خلاف فيه عند جميع العلماء؛ حيث اجتمع قولهم على هذه الدلالة، وخلافهم إنما جاء من جهة تعلق حكمها:
- فالموجبون التغطية على سائر النساء، مذهبهم في حكم الآية أنه عام.
- وأما المستحبون التغطية، فإن مذهبهم في الآية أنها خاصة بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن.
والمقصود هنا: بيان أن دلالة الآية محكمة في الجهتين: في دلالتها على التغطية، وفي كونها تعم جميع النساء، ليست خاصة بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، وذلك يتبين من الأوجه التالية:
- الوجه الأول: أن الأمر بالحجاب في الآية معلل، والعلة هي: تحصيل طهارة القلب. وهذه العلة موجودة في سائر النساء، ليست قاصرة على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن؛ فكل النساء في حاجة إلى طهارة القلب، لا يدعي أحد غير هذا، وهي تحصل بالاحتجاب عن الرجال.
- الوجه الثاني: أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - إذا كن أمرن بالاحتجاب؛ لأجل تحصيل طهارة القلب، مع اصطفائهن، وانقطاع طمع الرجال منهن؛ فسائر النساء من باب أوْلى؛ لأنهن أحوج إلى الطهارة، وليس لهن منزلة أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، ولأن للرجال فيهن مطمعاً.
- الوجه الثالث: أنه تقرر في الأصول: أن خطاب الواحد يعم الجميع، إلا إذا جاء استثناء، ولا استثناء هنا؛ فالخطاب وإن جاء في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، إلا أن الأصل في الحكم أنه عام؛ لأن المعنى الموجود فيهن، موجود في سائر النساء، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة» (1) .
- الوجه الرابع: أن مبنى التخصيص بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - عند القائلين به هو: الحرمة. وهذه العلة موجودة في بناته -صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يدخلوهن في حكم الآية، وحينئذ ينتفي التخصيص، أو يمتنعوا من إدخالهن فتبطل العلة، وحينئذ لا وجه لحمل الآية على التخصيص؛ فكيفما كان فالتخصيص باطل.
- الوجه الخامس: أن القول بتخصيص حكم الآية بالأزواج، يلزم منه جواز الدخول على النساء ببيوتهن، وهو باطل، ولا قائل به.
فهذه الأوجه صريحة المعنى، محكمة الدلالة، وبها يظهر بطلان من خص حكم الآية أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، وقد ذهب إلى القول بعموم حكم الآية جمع من المفسرين، وهم: ابن جرير، وابن العربي، والقرطبي، وابن كثير، والجصاص، والشوكاني، والشنقيطي، وحسنين مخلوف، وغيرهم.
- الدلالة المحكمة لقولة ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] .
هذه الآية دلالتها محكمة على التغطية، يتبين ذلك بالأوجه التالية:
- الوجه الأول: أن الجميع: أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، وبناته، ونساء المؤمنين: أُمرن بأمر واحد هو: إدناء الجلباب. فعُرف من ذلك أن صفة الإدناء للجميع واحدة، ولما كان من المجمع عليه: أن صفة إدناء أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ رضوان الله عليهن ـ هو: الحجاب الكامل مع التغطية، فينتج من ذلك: أن صفة الإدناء عند البقية (بناته -صلى الله عليه وسلم -، ونساء المؤمنين) كصفته عند أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -.
- الوجه الثاني: تفسير الإدناء بكشف الوجه، يلزم منه كشف أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن وجوههن، وهو باطل، ولا قائل به.
- الوجه الثالث: أنه قال: {يدنين عليهن} ، فالفعل عُدِّي بـ «على» ، وهو يستعمل لما يكون غطاؤه من أعلى إلى أسفل، فدل بذلك على أن الإدناء يكون من على الرأس منسدلاً حتى ينزل على الوجه، وبهذا المعنى قال جمع من أهل اللغة:
- كالزمخشري؛ حيث قال في تفسير هذه الآية: «يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن، وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك إلى وجهك» .
- وأبو حيان الأندلسي؛ حيث قال في تفسيرها: « {عليهن} شامل لجميع أجسادهن، أو {عليهن} ، على وجوههن؛ لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه» .
وإلى القول بدلالة الإدناء على التغطية ذهب كل من: ابن عباس، وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين، وابن علية، وابن عون. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة» ، وسند هذه الرواية صحيحة عند الأئمة: أحمد، والبخاري، وابن حجر. ورواها ابن جرير في تفسير الآية.
كما تظاهر المفسرون على تفسير الإدناء بتغطية الوجه، متابعة لابن عباس، منهم: ابن جرير، والجصاص، والكيا الهراس، والزمخشري، والبغوي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، وابن جزي الكلبي، وابن تيمية، وأبو حيان، وأبو السعود، والسيوطي، والآلوسي، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي، وجلال الدين المحلي؛ فكل هؤلاء وغيرهم ذهبوا إلى تفسير الإدناء في الآية بتغطية الوجه؛ وذلك أنهم اعتمدوا في تفسيرها على قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الآنف.
- الدلالة المحكمة لقولة ـ تعالى ـ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] .
هذه الآية دلالتها محكمة على التغطية، يتبين ذلك بالوجهين التاليين:
- الوجه الأول: في الآية جاء الفعل «ظهر» وليس «أظهر» فالاستثناء يعود إلى ما يظهر من المرأة، من زينتها، بدون قصد، فلا يُحمَل على الوجه إذن، لأن الوجه يظهر بقصد.
- الوجه الثاني: أن الزينة في لغة القرآن والعرب، تطلق على ما تزينت به المرأة، مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي واللباس؛ فتفسير الزينة بالوجه والكف خلاف القرآن وكلام العرب.
وممن قال بدلالة الآية على التغطية جمع من السلف، منهم: ابن مسعود، والنخعي، والحسن، وأبو إسحاق السبيعي، وابن سيرين، وأبو الجوزاء.
ثم إن هذه الآية عمدة القائلين بالكشف، حيث ورد في تفسيرها قول ابن عباس، ومن تبعه: «الوجه والكف» وتلقَّف هذا القول كثير من الناس، وحملوه على معنى جواز كشفهما للأجانب؛ وهذا فيه نظر من جهة ابن عباس نفسه؛ حيث سبق قوله في آية الجلباب، وهو صريح واضح لا يحتمل إلا معنى واحداً هو: وجوب غطاء الوجه، مع جواز إخراج العين، لأجل الرؤية. فإن أُخذ قوله هنا في الآية على معنى: جواز كشفهما للأجانب؛ فهذا تناقض، وحاشاه، ولا يلجأ إلى هذه النتيجة إلا بعد استنفاد أوجه الترجيح.
لكن إذا عرفنا أن ابن عباس نفسه فسر هذه الآية بأن المرأة تكشفهما لمن دخل عليها بيتها. انتفى الإشكال، واجتمع كلامه، وتلاءم؛ حيث المعنى: أنه يجوز لها أن تظهر ذلك للمحارم، غير الزوج. وقوله كما رواه ابن جرير في التفسير: «والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم؛ فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها» ، أي من يحل له الدخول عليها وهم المحارم ولا يُظَن بابن عباس أنه يجيز دخول الأجنبي على المرأة.
فهذا بالنسبة لابن عباس. أما غيره ممن فسر الآية بمثله، فإنه:
- إما أن يكون قد نقل قول ابن عباس، وقصد ما قصده ابن عباس، كما وضحنا آنفاً.
- وإما أنه قصد النهي لا الاستثناء، وبيان ذلك: أن قول من فسر الآية بالوجه والكف يحتمل أمرين:
- يحتمل أنه قصد النهي عن إبدائهما، فيكون كلامه تفسيراً للنهي.
- ويحتمل قصده الاستثناء، كما هو المشهور.
والاحتمال الأول له حظ من النظر، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره، فيكون معنى الآية:
ولا يبدين الوجه والكف، إلا إن ظهر منها شيء بغير قصد.
فيكون هذا مقابل التفسير الآخر:
ولا يبدين بدنهن وما فيه من الزينة سوى الوجه والكف.
فإذا ورد الاحتمالان وصحّا، فليس أحدهما بأوْلى من الآخر، إلا بنص مرجح، والمرجح ينصر الاحتمال الأول (النهي) ؛ وذلك بما ورد في الآيتين: الحجاب، والجلباب. من دلائل محكمة واضحة على التغطية. ويؤكد هذا المعنى ما تقرر من توجيه كلام ابن عباس آنفاً، وما ثبت عنه من وجوب غطاء الوجه.
وفي كل حال، فإن هذا التخريج لا يمنع من أن يكون ثمة طائفة قصدت الاستثناء، وقصدت كشف الوجه للأجانب؛ فهؤلاء هم القائلون بجواز كشف الوجه، غير أن المقصود أن ثمة توجيهاً آخر غُفْلاً عن الذكر.
وبهذه الأوجه يثبت القول بوجوب التغطية، وكونها من النصوص المحكمة، والأصول الثابتة؛ فما عارضها، وكان ثابتاً، فهو متشابه، يُحمَل على المحكم، ويُفهم في ضوئه، كأن يكون قبل فرض الحجاب، أو لظرف خاص. والله أعلم.
__________
(*) الأستاذ المساعد بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة.
(1) يشار إلى أن ابن القطان الفاسي المتوفى سنة 628هـ ألف كتاباً بعنوان (أحكام النظر) ، تكلم فيه عن الحجاب وجمع الأدلة من القرآن والسنة والمذاهب الفقهية على ما يراه راجحاً في ذلك، وتبعه في ذلك بعض المتأخرين كعطية بن الحسن الهيتي الحموي الشافعي المتوفى سنة 936 هـ تقريباً. ـ ^ ـ
(1) في الباب الثالث: في آداب المعاشرة، وما يجري في دوام النكاح، كتاب آداب النكاح 1/729.
(2) 5/366 - 367، وذكر هذا أيضاً: الشربيني في مغني المحتاج 3/129، (انظر عودة الحجاب 3/407) .
(3) البحر المحيط 7/250.
(4) فتح الباري 9/337.
(5) عون المعبود، في اللباس، باب: فيما تبدي المرأة من زينتها 12/162.
(1) أخرجه النسائي كتاب البيعة رقم 4110، وأخرجه أحمد في المسند رقم (25675) .(217/3)
حقيقة الشورى بين الاتباع والادعاء (1)
محمد بن شاكر الشريف
الشورى بما تحمله من مضمون تعاوني تكاملي في العمل على الوصول إلى المصالح المجردة، أو تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وكذلك بدفع المفاسد الخالصة أو بدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، أو بالاختيار من بين متعدد لمناسبة ظرف أو حال أو مكان؛ تُعد من السياسة الحكيمة التي يتبعها الإنسان الراشد.
وقد كانت الشورى من الأمور المشتركة التي مارستها كثير من الأمم على نحو ما؛ فهي من هذه الوجهة تعد من التراث الإنساني المشترك، وما تميزت به شريعة الإسلام في ذلك كان في الضوابط التي وضعت للقيام بعملية الشورى وتنفيذها لتُحَقِّق الغرض الذي من أجله شُرِعت على وجه صحيح، على ما سيأتي بيانه في هذا المقال إن شاء الله تعالى.
وقد سجل لنا القرآن بعض النماذج التي ظهر فيها أخذ أقوام من غير المسلمين بالشورى والعمل بها.
- نماذج من الشورى قبل الإسلام:
ففي قصة ملكة سبأ عندما أرسل إليها سليمان نبي الله تعالى ـ عليه السلام ـ يدعوها وقومها إلى الإسلام والدخول في دين الله ـ تعالى ـ ذكر الله ـ سبحانه ـ موقفها عند قراءة الخطاب: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32] ، والملأ هم أشراف القوم وعِلْيَتُهم، فشاورتهم في أمر هذا الخطاب واستنصحتهم في ذلك، لكن الملأ هنا كان موقفهم سلبياً؛ إذ لم يزيدوا على قولهم: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] ، فلم يقدموا لها مشورة ولم يقترحوا عليها تصرفاً، بل عرَّضوا باستعدادهم للحرب عن طريق بيان قوتهم وبأسهم، وهو أمر لم يكن خافياً على بلقيس حتى يذكروه لها، ثم فوضوا إليها التصرف وتركوا ما كان ينبغي عليهم من الإشارة بما يرون فائدته، وقالوا لها: والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين؟ وهذا أحد الفروق الهامة بين الشورى في الإسلام وبين الشورى في النظم الجاهلية؛ حيث يتنازل المستشارون عن القيام بدورهم لصالح التفويض المطلق للحاكم، بعكس الشورى في الإسلام؛ حيث يبذل المستشار جهده في الدلالة على ما يرى صوابه من الخير والصلاح، أو التحذير من الشر والفساد؛ انطلاقاً من كونه مأموناً على ذلك كما ورد في الحديث: «المستشار مؤتمَن» (1) ، فلا ينبغي له أن يدل على غير ما يرى، أو يتقاعس ويبخل بما عنده من النصيحة والإرشاد، وهذه الشورى الواردة هنا تعد طلباً للشورى في مسألة من مسائل السياسة الخارجية في تعامل الدولة مع غيرها من الدول.
وكذلك فرعون الطاغية قد شاور الملأ من قومه في أمر موسى ـ عليه السلام ـ فقد أثبت القرآن الكريم المحاورة التي جرت في ذلك بين فرعون والملأ من قومه؛ فقد قال الملأ من قوم فرعون لفرعون عن موسى ـ عليه السلام ـ: {إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 34 - 35] ، عند ذلك قال فرعون للملأ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] ؟ أي بأي شيء تشيرون في أمر موسى؟ لكن الملاحظ هنا أن طلب المشورة إنما جاء في الوقت العصيب الشديد الذي يفقد فيه القائد قدرته على التفكير بحيث يكون لجوؤه للشورى في ذلك الموضع من قبيل الضرورة لا من قبيل المنهج المتبع، وهو ما يفرق بين الشورى من المنظور الإسلامي وبينها من منظور الطواغيت والمستبدين؛ فعندما يسقط الأمر في يد الطاغية، وعندما يفقد القدرة على التصرف فإنه عندئذ يلجأ إلى الشورى، ويؤيد ذلك ما قاله الشوكاني في تفسير الآية: «ما رأيكم فيه وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفاً لهم واستجلاباً لمودتهم؛ لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال، وقارب ما كان يغرر به عليهم الاضمحلال، وإلا فهو أكبر تيهاً وأعظم كبراً من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم، وواحد منهم، مع كونه قبل هذا الوقت يدعي أنه إلههم، ويذعنون له بذلك، ويصدقونه في دعواه» (1) ، وهذه القاعدة لا ينافيها موقف الملكة بلقيس؛ فقد كان لها عقل وحكمة وكياسة، ولذلك هداها ذلك ودفعها إلى الإيمان عندما ظهرت لها دلائله؛ بعكس موقف فرعون الذي تبينت له الآيات هو وقومه كما قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، كما تشاور الملأ من قوم فرعون في قتل موسى ـ عليه السلام ـ فيما جاء على لسان المؤمن من آل فرعون؛ حين قال لموسى: {إنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] ، أي يتشاورون في قتلك. قال البيضاوي: «يتشاورون بسببك، وإنما سمي التشاور ائتماراً؛ لأن كلاًّ من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر» (2) ، وهذه الشورى التي طلبها فرعون تعد من قبيل الشورى في مسائل السياسة الداخلية.
وهناك نموذج ثالث قد تحدث عنه القرآن وهو ما كان من ملك مصر زمن يوسف ـ عليه السلام ـ حينما رأى رؤيا أفزعته، فقال للملأ من قومه: {إنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 43] إلى أن قال: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، فأجابوه بقولهم: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44] ، فقد استشارهم فيما رأى ليدلوه إن كان عندهم علم، لكنهم تكلموا ورجموا بغير علم، فقالوا: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} ، ثم ناقضوا أنفسهم وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44] ، وهذا أيضاً بعكس الشورى في الإسلام؛ حيث لا يشير المستشار إلا بعلم، ولا يرجم بالظن؛ لأن المسلم منهي عن القول بغير علم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ؛ فإن كان لديه علم أشار به، وإن لم يكن عنده في الأمر المعروض عليه علم قال: لا أعلم. وهذه الشورى التي طلبها ملك مصر لا تتعلق بجانب سياسي، بل بجانب شخصي. وهناك في التاريخ والأخبار نماذج كثيرة غير هذه ولا شك، والغرض الإشارة لا الحصر. قال ابن عاشور: «والشورى مما جبل الله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبة الصلاح وتَطَلُّب النجاح في المساعي ... وإنما يلهي الناس عنها حب الاستبداد، وكراهية سماع ما يخالف الهوى؛ وذلك من انحراف الطبائع، وليس من أصل الفطرة؛ ولذلك يُهرَع المستبد إلى الشورى عند المضائق. قال ابن عبد البر في بهجة المجالس: «الشورى محمودة عند عامة العلماء، ولا أعلم أحداً رضي الاستبداد إلا رجل مفتون، مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكِلا الرجلين فاسق» (3) .
والملاحظ هنا في جميع النماذج على اختلاف مجالاتها أنها لم تكن إلا مع الملأ من القوم، وقد جاء في النهاية أن: «المَلأ أشرافُ الناس ورؤَساؤُهم ومُقَدَّموهم الذين يُرجَعُ إلى قولهم» (4) ، فكأن هذا هو المؤهل الوحيد الذي يؤهلهم لذلك، بعكس الشورى في الإسلام فإن أصحابها لهم مؤهلات تؤهلهم لذلك غير كونهم من الملأ، سيأتي ذكرها في هذا المقال إن شاء الله تعالى. وقد كان الملأ دوماً أعداء الرسل الذين يكذبونهم ويصدون الناس عن اتباعهم كما هو موجود في قصص الأنبياء في القرآن الكريم.
ويمكننا أن نلخص ما تميزت به الشورى في الأمم غير المسلمة التي سبقت رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم - خير البشرية؛ فمن ذلك:
1 - قصر الشورى على الكبراء والرؤساء.
2 - تفويض أهل الشورى للملك أو الرئيس أو الأمير في اتخاذ القرارات وعدم المشاركة فيها؛ بحيث يكونون مجرد آلات للتنفيذ.
3 - الإشارة بغير علم أو بجهل، رجماً بالغيب، وهو ما يعني عدم تقدير المسؤولية.
4 - أن طلب الشورى لا يكون إلا عندما يسقط في يد القيادة، وأما في غير ذلك فالاستبداد هو القاعدة.
وتختلف الشورى في الإسلام عن كل ما تقدم، على ما سيتبين ذكره إن شاء الله تعالى.
- تعريف الشورى:
بالبحث في معاجم اللغة يتبين أن من معاني الشورى: الاستخراج، فيقال: شار العسل أي استخرجه واجتناه من موضعه، ومن ذلك أيضاً اختبار الشيء وفحصه ومعرفة كنهه، فيقال: شار الدابة يشورها شوراً: بلاها ينظر ما عندها، وقيل: قلَّبها، وكذلك الأَمَة، والتشوير أن تشور الدابة تنظر كيف سيرتها، وكذلك من معناها الأمر بالشيء، فيقال: أشار عليه بأمر كذا: أمره به، وهي الشُورى والمَشُورة بضم الشين، وتقول: شاورته في الأمر واستشرته بمعنى، وشاوره مشاورة واستشاره طلب منه المشورة، وأشار عليه بالرأي: أومأ إليه، ونبهه أو دله عليه، وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجَرْيٍ أو غيره، ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار، وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار، إذا أخذته من موضعه» (1) .
ومن مجموع ما تقدم يتبين أن الشورى عملية يحدث فيها استخراج الآراء المتعددة في الأمر المعروض ممن يحسنون ذلك، وتقليبها وفحصها والموازنة بينها، واختبارها لاختيار أنفعها وأصلحها، والدلالة عليها، قال البدر العيني: «وحاصل معنى شاورته عرضت عليه أمري حتى يدلني على الصواب منه» (2) .
والشورى ينظر إليها بعض أهل العلم على أنها اسم فتكون بمعنى الأمر الذي يُتشاور فيه. قال الراغب الأصفهاني: «والتشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل: إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه، والشورى: الأمر الذي يتشاور فيه» (3) ، وقال ابن عاشور: «والمشاورة مصدر شاور، والاسم الشورى والمشورة» (4) ، لكن ابن عاشور لم يثبت على هذا القول؛ فقد قال في موضع آخر متأخر عن هذا الموضع أن الشورى مصدر: «والشورى مصدر كالبشرى والفتيا» (5) ، بينما ينظر إليها فريق آخر من أهل العلم على أنها مصدر فتكون بمعنى التشاور في الأمر. قال القرطبي: «والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى» (6) والكلام نفسه كرره الشوكاني فقال: «والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى» (7) وقال الزمخشري: «والشورى: مصدر كالفتيا بمعنى التشاور» (8) والكلام نفسه قاله النسفي قال: «والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور» (9) وكذلك قال البيضاوي: «وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور» (10) وقد علق الآلوسي على كلام الراغب السابق بقوله: «والمشهور كونه مصدراً» (11) والأقرب في ذلك أن تكون الشورى مصدراً فتكون بمعنى عملية التشاور نفسها.
وأياً ما كان الأمر فليس لهذا الخلاف كبير تأثير على بحثنا؛ غير أن هناك من المعاصرين من حاول التفريق بين الشورى وبين المشورة أو الاستشارة، فخص الشورى بما يكون في الأمور الملزمة، وجعل المشورة والاستشارة في الأمور غير الملزمة (12) ، وهناك من عكس القضية فجعل الشورى هي أخذ الرأي مطلقاً، خص المشورة بأنها أخذ الرأي على سبيل الإلزام (13) ، ومنهم من جعل الشورى فيما يتعلق بأمر الأمة، أما ما يتعلق بالأمور الفردية فيمكن أن يسمى استشارة (14) وكل ذلك تفريق بلا دليل أو أثارة من علم.
- الشورى في القرآن الكريم:
وقد وردت مادة كلمة «شور» في ثلاث آيات من كتاب الله تعالى:
الأولى: الشورى في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وهي آية مكية نزلت قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة، وعلى ذلك فلا يمكن قصر هذه الآية على الجانب السياسي، وإن كانت تتضمنه بعموم اللفظ، وقد وردت في مدح الأنصار على ما ذكره طائفة من أهل التفسير. قال القرطبي: «كانت الأنصار قبل قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم - إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه، ثم عملوا عليه، فمدحهم الله ـ تعالى ـ به قاله النقاش ... وقال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له، وقيل: تشاورهم فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخبر دون بعض» (15) . والآية دالة على مدح الشورى، كما هي دالة على مدح من يعملون بها، وهم المؤمنون من أي قبيل كانوا وفي أي زمان وجدوا، وجملة: وأمرهم شورى بينهم، جملة اسمية مما يعني ثبات هذا الأمر واستقراره في الممدوحين بها. قال الجصاص: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] يدل على جلالة موقع المشورة لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة، ويدل على أنَّا مأمورون بها» (16) .
والثانية: شاور في قوله ـ تعالى ـ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وهي آية مدنية جاءت بلفظ الأمر، فهي تأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم - وكل من يقوم مقامه في قيادة الأمة بمشاورة المسلمين، وذلك لما في الشورى من الخير والمصلحة؛ فعن الضحاك بن مزاحم في قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، «قال: ما أمر الله ـ عز وجل ـ نبيه -صلى الله عليه وسلم - بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل» (17) ، «وعن الحسن في قوله ـ عز وجل ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال: علمه الله ـ سبحانه ـ أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده» (1) .
الثالثة: تشاور في قوله ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] وهي تتحدث عن فطام الرضيع؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد جعل للرضيع سنتين في الرضاعة كما قال ـ تعالى ـ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] إلا أن يتفق الوالدان على الفِطام فبل الحولين عن تراض منهما وتشاور، فيما فيه مصلحة المولود لفطمه كما جاء فى قوله ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن} [البقرة: 233] الآية.
- مجالات الشورى (متعلق الاستشارة) :
أنزل الله ـ تعالى ـ كتابه وأرسل رسوله ليبلغ للناس شرعه، فيأمرهم بما يحبه ويرضاه، وينهاهم عما يكرهه ويبغضه، ويبين لهم ثواب من أطاع، وعقاب من عصى، فكان في ذلك بيان أن المسلم الصادق في إيمانه ليس له إزاء ما شرعه الله إلا القبول والالتزام، والسعي في تنفيذ ما شرعه الله، وهذا يعني أن الشورى لا مدخل لها فيما شرعه الله تعالى؛ إذ ليس أمام المسلم إلا قبول الشريعة، وإنما تكون الشورى في هذا الجانب في البحث عن أفضل كيفيات التنفيذ عند تعددها؛ فهي شورى في سبيل تنفيذ الشرع، وليس في سبيل معارضته أو تعطيله، كما تكون الشورى فيها للفهم الصحيح عند تعدد دلالات النص.
وبالجملة فإن الشورى في هذا الجانب لا تكون إلا بمعنى التشاور والتباحث للفهم الصحيح للنصوص، والبحث عن كيفيات التنفيذ الموافقة للنصوص الشرعية والمناسبة للزمان والمكان، وبهذا يتبين أن الأمر الوارد في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وكذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قد خرجت منه النصوص الشرعية بالمعنى المتقدم، ويُحمل لفظ الأمر بعد ذلك على كل ما يتناوله، فيشمل الأمر الخاص كما يشمل الأمر العام، ويشمل الأمر الذي يخص فرداً أو مجموعة من الأفراد أو جماعة أو قبيلة أو بلدة، كما يشمل الأمر الذي يعم الأمة كلها، وذلك في الأمور المهمة أو المشكلة، وقد شاور الرسول -صلى الله عليه وسلم - في ذلك كله، فشاور في الأمر الخاص كما شاور عليّاً وأسامة في حادثة الإفك، وشاور في الأمر العام كما شاور في غزوتي بدر وأحد، والأمثلة كثيرة.
وعلى ذلك فمجالات الشورى هي: الحدود التي تعمل فيها الشورى؛ أي بيان الأمور التي يجب، أو يجوز، أو لا يجوز، أن تكون محلاً للشورى، ومجالها قسمان: قسم عام، وقسم خاص.
فأما القسم الخاص: فهو متعلق بطالب المشورة؛ فقد يشاور في بيع، أو في شراء، أو علاج، أو سكن، أو غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها، وقد يشاور قريبه، أو صديقه، أو أهل الاختصاص.
وأما القسم العام: فإن الشورى فيه وهي تتعلق بالأمة أو جمهورها أو طائفة كبيرة منها أَوْلى من الشورى في المسائل الخاصة التي تتعلق بأفراد، أو مصالح جزئية؛ لأن الأولى خطرها عظيم ونفعها كبير، ولذلك كانت الشورى في المسائل المتعلقة بالنظام السياسي الإسلامي ـ الذي يمثِّل السياج الواقي للإسلام ودولته ـ وكذلك المصالح العامة أَوْلى بكثير من غيرها، ولا يستغني ولي الأمر عنها في إدارته لشؤون ولايته إدارة حسنة.
وقد اختلف أهل العلم في تحديد المراد بـ «الأمر» الوارد في قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . قال القرطبي: «واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه ـ عليه السلام ـ أن يشاور فيه أصحابه، فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو ... وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي» (2) وقال الزمخشري: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] يعني في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي، لتستظهر برأيهم ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم» (3) . وقال ابن الجوزي: «وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان حكاهما القاضي أبو يعلى: أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة، والثاني: أمر الدين والدنيا وهو أصح» (4) . وقال البيضاوي: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] : أي في أمر الحرب؛ إذ الكلام فيه، أو فيما يصح أن يشاور فيه، استظهاراً برأيهم وتطييباً لنفوسهم، وتمهيداً لسنة المشاورة في الأمة» (5) وقال ابن كثير: «في مثل الحروب وما جرى مجراها» (6) ، وقال أبو السعود: «وشاورهم في الأمر أي في أمر الحرب؛ إذ هو المعهود، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة، استظهاراً بآرائهم، وتطييباً لقلوبهم، وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة» (7) . وقال ابن حجر: «وقد اختلف في متعلق المشاورة، فقيل: في كل شيء ليس فيه نص، وقيل: في الأمر الدنيوي فقط، وقال الداودي: إنما كان يشاورهم في أمر الحرب، مما ليس فيه حكم؛ لأن معرفة الحكم إنما تلتمس منه، قال: ومن زعم أنه كان يشاورهم في الأحكام فقد غفل غفلة عظيمة، وأما في غير الأحكام فربما رأى غيره أو سمع ما لم يسمعه أو يره، كما كان يستصحب الدليل في الطريق، وقال غيره: اللفظ وإن كان عامّاً لكن المراد به الخصوص، للاتفاق على أنه لم يكن يشاورهم في فرائض الأحكام، قلت: وفي هذا الإطلاق نظر؛ فقد أخرج الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان من حديث علي قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] الآية قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم -: ما ترى؟ دينار، قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ} [المجادلة: 13] الآية قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة، ففي هذا الحديث المشاورة في بعض الأحكام» (1) لكن المشاورة كانت في أمر مطلق وهو قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فالصدقة المطلوب تقديمها مطلقة غير مقيدة من الشارع، فلا تنافي المشاورة فيها أنه -صلى الله عليه وسلم - لم يكن يشاور في فرائض الأحكام (2) ، وقال الشوكاني: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، أي: الذي يرد عليك: أي أمر كان، مما يشاور في مثله، أو في أمر الحرب خاصة، كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم واستجلاب مودتهم، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك، حتى لا يأنف منه أحد بعدك، والمراد هنا المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها» (3) ، وقال ابن عاشور عن الشورى: «إنما تكون في الأمر المهم المشكل من شؤون المرء في نفسه، أو شؤون القبيلة، أو شؤون الأمة، و (أل) في: الأمر [يعني في قوله: وشاورهم في الأمر] للجنس والمراد بالأمر: المهم الذي يؤتمر له ... وقيل: أريد بالأمر أمر الحرب؛ فاللام للعهد ... وقد دلت الآية على أن الشورى مأمور بها الرسول -صلى الله عليه وسلم - فيما عبر عنه بـ (الأمر) وهو مهمات الأمة ومصالحها في الحرب وغيرها، وذلك في غير أمر التشريع» (4) . ومن خلال كلام أهل العلم المتقدم يتبين أن الأمر العام المتشاور فيه هو ما كان من المصالح العامة لجماعة المسلمين مما لم يأت به وحي، وسواء في ذلك ما كان متعلقاً بأمر الدنيا أو بأمر الدين على التفصيل المتقدم.
- متى تطلب الشورى؟
عندما يُشْكِل الأمر في قضية ما، أو عندما تتعدد الحلول لمشكلة ما، وعندما لا يكون المرء قادراً على اتخاذ القرار السليم في تلك الأوضاع المتقدمة، أو عندما يريد التأكد من صواب القرار الذي يريد أن يأخذه، أو يريد التوصل إلى الأيسر والأنسب من الحلول الصالحة المتعددة، أو عندما يكون الأمر ليس خاصاً بفرد، بل يعم مجموعة من الناس أو الجماعة المسلمة كلها، فإنه يلجأ والحالة هذه إلى من يعتقد أن لديه القدرة على القيام بذلك مع الأمانة والصدق فيما يشير به، ويطلب منه أن يعاونه برأيه في تلك المسائل، وقد يطلب ذلك من فرد أو مجموعة من الناس، إما على انفراد وإما على اجتماع، وقد يكرر الاستشارة في الأمر الواحد إذا لم يتضح له وجه الصواب، وقد يكتفي بإشارة أول من يشير عليه إذا تبين له صواب رأي المشير وصلاحه.
- أهل الشورى:
يختلف تحديد أهل الشورى باختلاف المجال الذي يراد الاستشارة فيه؛ فأمور الدين يستشار فيها العلماء، وأمور الخطط الحربية يستشار فيها قواد الجيوش، وهكذا. كما تختلف إذا كانت الاستشارة في أمور خاصة تخص فرداً أو أفراداً محصورين، أو في أمور عامة تشمل جماعة المسلمين. قال القرطبي: «قال ابن خويز منداد: «واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح (أي مصالح الناس) ، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها» (5) وقال القرطبي: «قال الله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك» (6) . وقال ابن الجوزي: «إنما أُمر النبي -صلى الله عليه وسلم - بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم» (7) . وأما الأمور الخاصة فيشاور فيها من تعنيهم. قال ابن عاشور في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، «وقوله {بَيْنَهُمْ} ظرف مستقر هو صفة لـ {شُورَى} ، والتشاور لا يكون إلا بين المتشاورين؛ فالوجه أن يكون هذا الظرف إيماءً إلى أن الشورى لا ينبغي أن تتجاوز من يهمهم الأمر من أهل الرأي، فلا يدخل فيها من لا يهمه الأمر» (8) .
- صفات أهل الشورى:
وينبغي أن تتوافر في كل هؤلاء صفات تؤهلهم لذلك: منها العلم أو الخبرة فيما يُستشارون فيه، والأمانة وتقدير المسؤولية التي تحجز عن التقاعس عن الانتصاب لهذا الأمر، أو الإقدام بغير علم أو خبرة؛ مع العقل الراجح والشجاعة في إبداء الرأي ولو خالف به الأكثرين. قال القرطبي: «قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالماً دَيِّناً؛ وقلما يكون ذلك إلا في عاقل» وقال: «وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً وادّاً في المستشير» (9) . قال ابن قدامة في مشاورة القاضي: «يشاور أهل العلم والأمانة؛ لأن من ليس كذلك فلا قول له في الحادثة، ولا يُسكَن إلى قوله. قال سفيان: وليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة، ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حجتهم ليبين له الحق» (10) . وقال البخاري: «وكانت الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها؛ فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم -. وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً أو شباناً، وكان وقَّافاً عند كتاب الله عز وجل» (1) . قال ابن حجر: «قوله: وكانت الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها: أي إذا لم يكن فيها نص بحكم معين، وكانت على أصل الإباحة؛ فمراده ما احتمل الفعل والترك احتمالاً واحداً، وأما ما عُرِف وجه الحكم فيه فلا، وأما تقييده بالأمناء فهي صفة موضحة؛ لأن غير المؤتمن لا يستشار ولا يُلتفت لقوله، وأما قوله: بأسهلها فلعموم الأمر بالأخذ بالتيسير والتسهيل، والنهي عن التشديد الذي يُدخِل المشقة على المسلم. قال الشافعي: إنما يؤمر الحاكم بالمشورة لكون المشير ينبهه على ما يغفل عنه ويدله على ما لا يستحضره من الدليل، لا ليقلد المشير فيما يقوله؛ فإن الله لم يجعل هذا لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وقد ورد من استشارة الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم - أخبار كثيرة منها مشاورة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في قتال أهل الردة، وقد أشار إليها المصنف، وأخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنَّة؛ فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم، وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك» (2) .
وخلاصة صفات المستشارين: العلم والعدالة والديانة، والعقل والبلوغ والأمانة والخبرة، وأنه لا يلزم لذلك سن معينة؛ فقد كان الشبان من العلماء من أصحاب مشورة عمر رضي الله تعالى عنه، ولم يكن يتقيد في ذلك بكونهم من الشيوخ أو كبار السن، كما لا يلزم أيضاً أن يكونوا من أشراف القوم أو أغنيائهم، وأفاد قوله: وكان وقّافاً عند كتاب الله: أي أن هذا المسلك في مشاورة أهل العلم من الشباب أو الشيوخ ومن الأغنياء أو الفقراء، ومن أشراف الناس أو عامتهم، مما دل عليه كتاب الله تعالى، وأن عمر كان يقف عند ما دل عليه ولا يتجاوزه.
- الشورى في الأمر العام:
الأمر العام هو الذي يشمل المسلمين جميعهم، وهو المصالح العامة التي يحتاجها المسلمون مما لم يأت في خصوصها أدلة شرعية واجبة الاتباع، والأمر العام تكون الشورى فيه لمن يعنيهم. وللشورى في هذا الموطن فوائد منها:
- الشورى تلغي فكرة الاستئثار بالصواب، والقدرة على التفكير المنتج، ورهن ذلك بالحاكم وأعوانه فقط.
- الشورى ترسخ فكرة اشتراك الأمة مع الحاكم في تحمل مسؤولية البحث عن الصواب، أو الأفضل، والعمل به.
- الشورى توجِد تلاحماً حقيقياً بين الأمة والحكومة، بحيث يشعر الناس أنهم أصحاب دار، ليسوا ضيوفاً أو أجراء.
- الشورى توجِد اطمئناناً لدى الشعوب بصواب العمل، وأنهم لا يُقادون من خلال نزعات فردية، مما يساهم بدرجة كبيرة في قناعة الناس بما يصدر من تنظيمات، أو ترتيبات، وهذا يسهم بدوره في الالتزام بها، والعمل على إنجاحها.
- الشورى تمثل دافعاً من دوافع العمل والإنتاج؛ حيث يشعر الإنسان بالانتماء إلى مجتمع كبير يقدره ويعترف بمكانته.
- الشورى تقود إلى المشاركة في تدبير الشأن العام وتحمل المسؤولية في ذلك، وتقضي على السلبية واللامبالاة التي تعاني منها المجتمعات.
- الشورى تعمل على إنضاج الرأي العام، وتسهم بدور كبير في تكوين الرأي العام الرشيد.
- حكم الشورى:
والشورى مأمور بها في الجملة، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب، فإنَّ ترك التشاور تعريض لمصالح المسلمين للخطر والفوات. لكن ليس كل ما نريد الإقدام عليه ينبغي فيه الشورى؛ فهناك أمور معلومة معروفة ينفذها الإنسان من غير احتياج إلى مشورة، وهذا الأمر يدركه كل واحد منا في نفسه، وإنما تراد المشورة أو تطلب عند الإشكال أو في الأمور المهمة، وقد درج كثير من الكاتبين في هذا الموضوع على سَوْق حكم واحد في هذا المجال، والتدليل عليه بما يرى من الأدلة؛ فمن الناس من يذهب إلى أن الشورى واجبة ونتيجتها ملزمة وينبغي التقيد بما دلت عليه، بينما هناك من يقول: إن الشورى مستحبة وليست واجبة، ونتيجتها غير ملزمة للحاكم، بل بوسعه مخالفتها إذا لم يقتنع بها، ويسوق كل فريق منهم الحجج التي يراها تؤيد قوله، والناظر في هذه الأقوال وما استدل به الفرقاء من أدلة، يمكنه القول: إن كل فريق قد أصاب فيما قال، والخطأ إنما يكمن في تعميمه لمقولته على موضوعات الشورى كلها؛ إذ هناك من الأمور ما تكون الشورى فيها واجبة ونتيجتها ملزمة حسبما يقول الفريق الأول، بينما هناك من الأمور ما تكون الشورى فيها مستحبة ونتيجتها غير ملزمة حسبما يقول الفريق الثاني، كما أن هناك من الأمور ما تكون الشورى فيها واجبة ونتيجتها غير ملزمة، ولسنا الآن في حاجة إلى سوق أدلة الفريقين، وإيراد ما أجاب به كل فريق على أدلة الفريق الآخر، بل في حاجة إلى بيان موضوعات الشورى الملزمة والشورى غير الملزمة، حسبما ذكرنا، وفي هذا الصدد يمكننا تقسيم تلك الموضوعات إلى ثلاثة أقسام: الأول: شورى واجبة ونتيجتها ملزمة، والثاني: شورى واجبة ونتيجتها غير ملزمة، والثالث: شورى مستحبة ونتيجتها غير ملزمة. (وهذا ما
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الزهد رقم 2292، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأبو داود، كتاب الأدب رقم 4463. وابن ماجه كتاب الأدب رقم 3735. وأحمد رقم 21326. والدارمي، كتاب السير رقم 2341، وصححه الألباني في أكثر من موضع. وانظر السلسلة الصحيحة رقم 1641.
(1) فتح القدير لمحمد بن علي الشوكاني 4/ 142.
(2) تفسير البيضاوي 1/ 287.
(3) التحرير والتنوير 1/ 850.
(4) النهاية في غريب الحديث 4/ 351.
(1) تفسير القرطبي 4/ 240.
(2) عمدة القاري 24/269.
(3) مفردات القرآن 1/ 799.
(4) التحرير والتنوير1/ 849.
(5) التحرير والتنوير 1/ 3879.
(6) تفسير القرطبي 16/34.
(7) فتح القدير 4/ 769.
(8) الكشاف 1/ 160.
(9) تفسير النسفي 4 / 105.
(10) تفسير البيضاوي 1/ 133.
(11) روح المعاني 25/49.
(12) انظر فقه الشورى لاستشارة د. توفيق الشاوي طه ص 101 وما بعدها.
(13) انظر الشورى د. محمود الخالدي ص 15.
(14) انظر فقه الشورى د. على بن سعيد الغامدي ص 29.
(15) تفسير القرطبي 16/34.
(16) أحكام القرآن 5/ 263.
(17) أورده الطبري 3/ 494.
(1) سنن البيهقي الكبرى 10/ 109.
(2) تفسير القرطبي 4/ 240.
(3) الكشاف 1/ 216.
(4) زاد المسير 1/ 486.
(5) تفسير البيضاوي 1/108.
(6) تفسير ابن كثير 4/ 150.
(7) تفسير أبي السعود 2/105.
(1) فتح الباري 13/340.
(2) على أن هذا الحديث من رواية علي بن علقمة الأنماري، وقد تكلم فيه أهل العلم، فقال البخاري في التاريخ الكبير: في حديثه نظر، ولخص ابن حجر كلامهم فيه في التقريب فقال: مقبول؛ يعني عند المتابعة وإلا فهو لين، والحديث قد ضعفه الألباني (ضعيف الترمذي/3300) .
(3) فتح القدير 1/593.
(4) التحرير والتنوير 1/ 849.
(5) تفسير القرطبي 4/ 240.
(6) تفسير القرطبي12/293.
(7) زاد المسير 1/ 488ـ 489.
(8) التحرير والتنوير 1/3879.
(9) تفسير القرطبي 4/ 240.
(10) المغني 11/396.
(1) صحيح البخاري كتاب الاعتصام باب قول الله ـ تعالى ـ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] .
(2) فتح الباري 13/342، وأثر ميمون بن مهران مرسل؛ فإنه لم يدرك أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علياً ـ رضي الله تعالى عنهم ـ جميعاً، وقد ذكر أهل العلم أن ميمون ولد عام أربعين من الهجرة.(217/4)
أثر القرآن الكريم في ضبط نفسية الإنسان
د. أحمد بن محمد العمراني
يتمحور هذا الموضوع حول مفهومين أساسيين: أولهما: النفس البشرية، وثانيهما: أثر القرآن في ضبطها وانضباطها.
فالإنسان مكوَّن من ثلاث لطائف: «العقل، والقلب، والنفس» حيث إن دين المرء محكوم بعقله، فلا دين لمن لا عقل له، وبعض الأفعال التي تقتضيها صورة الإنسان ـ كالغضب والرضا، والجرأة والخوف، والجود والشُّح، والسخط والقبول ـ محلُّها القلب، وبالنفس يشتهي الإنسان ما يستلذُّه من المطاعم والمشارب والمناكح.
- النفس البشرية، قواها وأنواعها:
حديثنا إذن يهم النفس؛ الهوية الحقيقية للإنسان، ومحتواها الحقيقي هو الذي يحدد وجهة الإنسان نحو السعادة، ويبين مصيره المستقبلي.
فالنفس في الإنسان هي صورته وهواه ورغباته وشهوته، وهي أثر من آثار الروح التي تمنح النفسَ القوةَ لأداء خواصِّها بأمر الله ـ تعالى ـ كما ورد عن بعض السلف: «إذا دخلت الروحُ الجسدَ سُمِّي نفساً، وبها تحسُّ النفس وتشعر وتبصر وتسمع وتشمُّ وتتذوق» .
فالنفس ترى بالعين، وتسمع بالأذن، وتحسُّ بواسطة مسام الجلد، وتتذوق بواسطة الخلايا الموجودة في اللسان. هذه الأحاسيس والإدراكات العقلية ـ بمجموعها ـ غير المادية هي ما يسمى بالنفس الإنسانية؛ فإذا أخذ الله الروح وخلي الجسد منها، انقطعت تلك الطاقة عن الأسلاك العصبية، وفقدت تلك الحواس، فماتت النفس التي عبَّر القرآن عنها في قوله ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] .
فعن طريق النفس ينصرف الإنسان إلى أمانيه المادية وشهواته الدنيوية، فينحطُّ بقدر اشتغاله في تلبية ذلك، وانصرافه عما يسمو به من فضائل وطاعات، أو يعلو ويسمو بانصرافه للفضائل الإيجابية، فيرتقي بقدر إعمال نفسه في الدرجات.
وهذا يعني ويبين أن للنفس مراتب، وأنها تخضع للتغيير والتبديل من حالة إلى حالة، كما حقَّق القرآن ذلك في قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
فإذا نظرنا إليها في تقلُّباتها هذه وجدناها تمرُّ عبر قوى أساسية تتمثل في:
قوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة العقل. فبالعفة تهزم الشهوة، وبالشجاعة ينهزم الغضب، وبالحكمة والحرص عليها يسمو العقل، ولجميعها يحتاج الإنسان؛ فلو كان عقلاً فقط لكان ملَكاً، لكن الله خلق الإنسان الذي يخطئ ويصيب، ولو كان غضباً فقط لكان سَبْعاً، لكنه يحتاج إلى القوة الغضبية ليدافع عن نفسه، ولو كان شهوةً فقط لكان بهيمة، لكنه يحتاج إلى الشهوة ليعيش ويتناسل. وحسب استخدام هذه القوى المذكورة تمرُّ النفس الإنسانية بمراحل تتصف فيها بصفات ثلاث، هي:
- أولاً: النفس اللَّوَّامة:
قال ـ تعالى ـ: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1 - 2] . حيث أقسم سبحانه بيوم عظيم؛ لتحقيق وقوعه وبيان هوله، وإيقاظ النفوس النائمة الغافلة عنه، فتصحو وتنتبه من سُباتها.
وقد ذكر الله ـ تعالى ـ النفس اللَّوَّامة إثر قسمه بيوم القيامة للعلاقة الوثيقة بين مصير النفس وقيام ذلك اليوم، حيث تقف فيه وحيدة دون نصير؛ فهي نفس تفعل الخير وتحبه وتعمل المعصية وتكرهها، نفس تعيش في داخلها صراعاً بين الخير والشر.
فالإنسان في بداية أمره إذا ارتكب ذنباً أو خطيئة ابتداءً، شعر في داخله بإحساس يؤنِّبه، وتمنَّى لو لم يفعله، وإذا عاد إليه ثانية ضعُفت خاصية الشعور بالذنب والخطيئة، وانتقل صاحبها إلى مرحلة الميل إلى المعصية واستحسانها، لتنتقل نفسه من لوَّامة إلى أمَّارة بالسُّوء.
- ثانياً: النفس الأمَّارة:
حيث تميل النفس إلى السوء وحب العصيان، والغفلة عن الطاعة والعبادة، ويُطلق عليها: النفس الأمَّارة بالسوء؛ نفسٌ استحوذ عليها الشيطان وسيطر على سلوكها وذوقها، وقتل فيها الحياء والعفَّة. هذه النفس تعلِّل فجورها واستمرارها في المعصية بنسبة كل ما يفعله الإنسان إلى البيئة والآباء أو المجتمع، قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] . فتستكبر وتقع في الظلم لتقع في الخسران الأبدي. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى: 45] . وسبب ذلك حدَّده الشارع في قوله ـ تعالى ـ: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} [الفرقان: 21] .
- ثالثاً: النفس المطمئنَّة:
نفس راضية استسلمت لخالقها برضىً وقناعة، لا تفعل إلا ما تيقَّن لها صلاحه، نفس تحقق لها الورع والإخلاص، وسمت عن الدنيا وشهواتها، واشتغلت عنها بعمارة عالم الآخرة الباقية الخالدة المحدَّدة في قوله ـ تعالى ـ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، نفس استحقت الذكر والتمجيد في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] .
- مفهوم الضبط والانضباط:
الارتقاء بالنفس والنهوض بها ـ باعتبار طبيعتها التغييرية ـ يحتاج إلى ضبط وانضباط خاصَّين، يستمدَّان أصولهما من كتاب الله، الذي تحدَّث عن مراتب النفس، وبيَّنها من خلال سوره وآياته. وقبل تحديد ذلك نحتاج إلى بيان مفهوم الضبط والانضباط.
فالضبط هو لزوم الشيء وحبسه، والضابط هو الذي يلازم ما يضبطه، ويصبر نفسه معه حفظاً وحزماً، والأضبط الذي يعمل بيديه جميعاً، و «ضبط» فعل يتعدَّى بنفسه، بمعنى أنّ له فاعلاً ومفعولاً، فالفاعل هو الضابط والمفعول هو المضبوط، أي الموضوع والمجال الذي يقع فيه أو به أو عليه الفعل والعملية الضبطية (1) . فإذا انصرف المعنى إلى ضبط النفس وانضباطها دلَّ على حبس النفس عن الشر وإلزامها بالخير مع الصبر عليها والحزم معها. وهو ما أطلق عليه علماء التربية بتزكية النفس في مقابل تدسيتها.
وقد أقسم الخالق ـ سبحانه ـ أقساماً سبعة في مطلع سورة الشمس على أن المفلح من زكَّى نفسه والخاسر من دسَّاها، فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 1 - 10] .
والمقصود بالتزكية هنا: طهارة النفس أو تطهيرها وتنظيفها، مخالفاً للدسِّ الذي هو كناية عن الإغراق في الوسخ والأوحال. ولا يعني ذلك أبداً التزكية مطلقاً لما تعترضها من سلبيات، مثل: الاستعلاء والتكبر والترفع الذي نهى الله ـ تعالى ـ عنه، كما في قوله: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} [النساء: 49] .
والقرآن هو طبُّ النفوس باعتباره روح الروح ونور البصيرة، به يتحقق الضبط والانضباط، كما قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] .
والنور يضيء ويبين الأمراض، ويهدي إلى طريق الصواب، ولا يتم ذلك إلا بتحديد أمراض النفس المهلكة التي سطَّرها القرآن، من أجل تقديم الدواء الناجع لها من آياته وسُوره العِظَام.
- آفتا النفس البشرية:
فالنفس معرَّضة لآفتين ذكرهما القرآن ـ وبمعرفتهما يُستعان على تحقيق الضبط والانضباط لنفس الإنسان ـ هما الخطأ والنسيان، وهما مستمدَّان من آية يعلِّمنا فيها الخالق أن ندعوه ونسأله عدم المؤاخذة فيهما في قوله ـ تعالى ـ: {لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ؛ حيث إن أول معصية وقعت في الكون من قتل الإنسان كانت بسبب النسيان، لقوله ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] . وسبب ذلك وسوسة الشيطان كما قال ـ تعالى ـ: {فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} [طه: 120] .
ووساوس الشيطان لا تنتهي، كيف وقد أقسم الشيطان بعزَّة الرحمن أن يغرِّر بالإنسان ويوقعه في جملة من المعاصي والآثام؛ حيث ذكر القرآن على لسانه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] . وقوله: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} [النساء: 118 - 119] . والهدف هو أن يقعـ الإنسان في نسيان ذكر الله، كما قال ـ تعالى ـ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19] .
ومن الطبعي أن تقع النفس البشرية في الخطأ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم -: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون» (1) . بل لو لم تخطئ لغيَّرها الله بغيرها من أجل التوبة والمغفرة، لقوله -صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تذنبوا لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم» (2) . والخطأ يصدر عن النفس بدلائل من القرآن، منها:
قوله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] . وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] . وما ورد على لسان الأبوين آدم وحوَّاء ـ عليهما السلام ـ: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وقوله على لسان ملكة سبأ: {قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] . وقوله على لسان موسى كليم الرحمن: {قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16] . وقوله على لسان امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53] .
وقوله ـ تعالى ـ حكاية لقول الشيطان حين القضاء بين العباد: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] .
- وسائل ضبط النفس وانضباطها:
ضبط النفس ليس بالأمر الهيِّن؛ إذ الصراع داخليٌّ مائة بالمائة، ولكن آثاره وبوادره داخلية وخارجية، ولكن لحسن السير، وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، لا مفرَّ من بذل مجهود مضاعف يُستطاع به ضبط أمراض النفس، ولن يتم ذلك إلا بأمور، منها:
1 - الاعتراف بعيوب النفس والتعرف عليها:
ويتم ذلك باتِّباع توجيهات القرآن التي سمَّاها بالبصائر في قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} [الأنعام: 104] .
فإذا أراد الله بعبده خيراً بصَّره بعيوب نفسه، ومن كملت له بصيرته لم تخفَ عليه عيوبه، وإذا عرف عيوبه أمكنه علاجها.
فالإنسان يلاحظ كثيراً على غيره، ولكنه لا يجرؤ على النظر في عيوبه، أو يبحث عنها، الكل يرى القَذَى في عين أخيه، ولكنه لا يرى ما في عينيه؛ ما يحصل للإنسان هو نفسه ما يحصل للجمل الذي يرى ما على ظهر أخيه من تقوس واعوجاج، ولكنه لا يعلم أن الاعوجاج عامٌّ في بني جنسه.
ولتحقيق هذا الاستبصار وجب سلوك سبيلين:
أ - أن يطلب ذلك بالجدِّ والاجتهاد والإخلاص؛ ولا يتم ذلك إلا بمراقبة من يعلم السرَّ وأخفى، على مستوى القول والفعل والسلوك، مع الاستعانة بمدِّ يد الرجاء إلى الله تعالى.
وحتماً بهذا الفعل ستكون النتيجة هي الاهتداء لقوله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] .
ب ـ مراقبة أحوال وأقوال وأفعال الآخرين، ليقف على السيِّئ منها فيلحظه في نفسه ليتجنَّبه، باعتبار تقارب طباع الناس، فيتفقد نفسه ويطهرها في ضوء ما يراه مذموماً في غيره. وقد قيل قديماً: «العاقل من اتّعظ بغيره» .
فالإعراض عن معرفة العيوب هو ضعف ونقص وفقدان للشجاعة في مواجهة النفس، ولهذا الإعراض سبب أساسي يوقع فيه وهو: اعتقاد الإنسان أنه بلغ مرحلة من الصلاح، مع أن كل إنسان معرَّض للنقصان والخطأ، ورحم الله عمر القائل: «أحب الناس إليَّ من رفع إليَّ عيوبي» (1) .
2 ـ مجاهدة أمراض النفس وأخطائها وصفاتها الذميمة:
أخطاء النفس كثيرة، لا يستطيع عادٌّ عدَّها أو حصرها، وإن كانت الإشارة إليها والتنبيه على أهمِّها أمراً أساسياً.
وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعض أخطاء النفس فقال: «في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتوُّ عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغيُ قارون، وقحّة هامان (أي لؤم) ، وهوى بلعام (عرّاف أرسله ملك ليلعن بني إسرائيل فبارك ولم يلعن) ، وحِيَلُ أصحاب السبت، وتمرُّد الوليد، وجهل أبي جهل.
وفيها من أخلاق البهائم حرص الغراب، وشَرَهُ الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضبِّ، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصَولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفَّة الفراش، ونوم الضَّبع (2) .
والحديث عن كل هذه الأخطاء بالتفصيل يحتاج إلى مِداد ليس بالقليل، ووقت ليس باليسير وجهد عسير، عسى أن يمنَّ به المولى العزيز الكريم، فنتصدَّى لها بالتفسير والتعليل، لكن ما لا يُدرك كلُّه لا يترك جلُّه، فليكن حديثي عن بعضها وأهمها في نظري انطلاقاً مما ذكر القرآن.
- أهمُّ أخطاء النفس:
1 ـ الشهوة ووسيلة ضبطها:
يقول الله ـ تعالى ـ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] .
وخطورتها تكمن في كون طريقها يؤدي إلى النار حيث يقول -صلى الله عليه وسلم -: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (3) .
- وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفَّها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فنظر فيها ثم جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لقد خشيت ألّا يدخلها أحد، قال: فلما خلق النار قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفَّها بالشهوات ثم قال: يا جبريل اذهب إليها فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لقد خشيت ألّا يبقى أحد إلا دخلها» (4) .
فالشهوة ما تشتهيه النفس وتتمنَّاه وترغب في تحقيقه مهما كان المقابل خطيراً. وقد جُبلت النفس على حب الشهوات التي لن تتجاوز ما ذكر في القرآن، ويمكن أن نُطلق على الآيات السابقة أصول الشهوات التي يتفرع عنها غيرها.
- فأصل الشهوات النساء كما أكَّد على ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم - في قوله: «ما تركت بعدي فتنة في الناس أضرَّ على الرجال من النساء» (5) . وقد يحصل الشذوذ والانحراف فتنقلب الشهوة إلى نمط آخر، كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف: 81 ـ والنمل: 55] .
- ويتبعها البنون؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «إن الولد مبخلة مجبنة محزنة» (6) .
ـ ثم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال» (7) .
- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن ممَّا أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومُضلاَّت الفتن» وفي رواية «ومُضلاَّت الهوى» (8) .
ووسيلة ضبطها «أي الشهوات» ذكرها القرآن بعد سردها كلها فقال سبحانه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار} [آل عمران: 15 - 17] .
وهذا يدل على الاعتقاد الجازم بقضاء الله، وأن محل تحقيق شهوات النفس ـ دون الوقوع فيما يغضب الله ـ الَجنانُ؛ حيث يقول ـ تعالى ـ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102] . وقال ـ تعالى ـ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] . وقال ـ تعالى ـ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] .
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يجيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ! فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ. فَقَالَ فِى الخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ! قالَ: رَبِّ! فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . قَالَ وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] (1) .
2 ـ الغفلة ووسيلة ضبطها اليقظة والتذكر:
واليقظة تعني ـ ضمن ما تعنيه ـ طرد الغفلة والتفريط الذي يحصل للنفس البشرية، وقد حذَّر الشارع الحكيم من الوقوع في ذلك فقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 55 - 56] .
والتفريط يعني: التقصير والتضييع كما في اللِّسان، فرط في الأمر أي: قصر فيه وضيعه (2) . وهو لا يحصل إلا بالغفلة والنسيان، أو التكاسل والإهمال.
ومسلمو اليوم كما غالى الكثير منهم في الكثير من أمور دينهم، ضيَّعوا الكثير من أمور دينهم، وابتعدوا عن منهج حبيبهم محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -.
ولكل ما وقع بالتأكيد أسباب أدَّت إليه وأوقعت فيه، أسباب محتاجة إلى تجليتها وبيانها، لعلَّ الأعين تبصر، والآذان تسمع، والقلوب تعقل، فتحصل الوقفة النقدية المرجوة، بحثاً عن التصحيح. وهي كثيرة، قد نصل إلى إدراك بعضها وقد تغيب أخرى، ومنها:
| الانشغال التامُّ بالدنيا.
| الاقتصار على بعض مظاهر التدين.
| عدم إدراك قيمة النِّعم وقدر المنعم.
| التسويف.
3 ـ الحسد ووسيلة ضبطه:
مصدر الحسد نفس الإنسان؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] .
وهو ثاني المعاصي التي وقعت في الكون، وتمثَّلت في قتل الإنسان لأخيه الإنسان، وسببه النفس الغضبية أو السبعية، أي: عدم كظم غيظ النفس والاستسلام لظلمها وسببه الحسد الذي هو خلق في الإنسان ويحتاج إلى محاربته في نفسه وإلا أوقعه في النيران.
وقد حسد قابيل أخاه هابيل لما قُبل قربانه ولم يتقبل منه، فقتله وفي ذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإثْمِي وَإثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 27 -.3] .
كما حسد إخوة يوسف أخاهم وسعوا إلى قتله حيث يقول ـ تعالى ـ حاكياً قولَهم: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] .
وليس لهذا الدَّاء من ضبط سوى:
| الاستعانة بالله أولاً، ثم الصبر وتقوى الله:
فمن وجد في نفسه حسداً لغيره فليستعمل معه الصبر والتقوى فيكره ذلك في نفسه.
| القيام بحقوق المحسود.
| عدم البغض:
وفي الحديث: «ثلاثٌ لا ينجو منهن أحد: الحسد، والظن، والطِّيَرَة. وسأحدثكم بما يخرج من ذلك: إذا حسدت فلا تبغض، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيّرت فامض» (3) .
| العلم بأن الحسد ضرر على الحاسد في الدين والدنيا، ومنفعته للمحسود في الدين والدنيا.
| الثناء على المحسود وبرّه: قال ـ تعالى ـ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] .
| القناعة بعطاء الله:
قال بعض الحكماء: «من رضي بقضاء الله ـ تعالى ـ لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد، فيكون راضياً عن ربه ممتلئ القلب به، ويتيقن بأن الحرمان أحياناً للإنسان خير من العطاء، وأن المصيبة قد تكون له نعمة، وأن الإنسان أحياناً يحب ما هو شر له ويكره ما هو خير له» (1) .
| قمع أسباب الحسد:
فأما الدواء المفصَّل فهو تتبُّع أسباب الحسد من الكِبْر وغيره وعزَّة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني، فهي مواد المرض ولا يقمع المرض إلا بقمع المادة.
بالإضافة إلى هذه الآفات، ذكر القرآن مجموعة من الأمراض تسيطر على النفس وتقودها إلى العصيان والخذلان، منها:
- الكِبْر، لقوله ـ تعالى ـ: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] .
- الشُّح، لقوله ـ تعالى ـ: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] .
- الاغترار بالرأي الشخصي واتباع الظن، لقوله ـ تعالى ـ: {إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ} [النجم: 23] .
- ضوابط أساسية لضبط النفس، ومن أهمّها:
1 - الاستعانة بعبادة الله تعالى:
التقرُّب إلى الله ـ عز وجل ـ بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرَّب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض التي فرضها الله جل وعلا، وعلى رأسها توحيد الله، ثم إن في النوافل لمجالاً واسعاً عظيماً لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله، كما قال -صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه» (2) .
ومن فضل الله علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتَّى، تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ بالليل والنهار، بالقلب والبدن التي يعتبر أداؤها من أهمِّ عوامل ضبط النفس، من قيام ليل وصيام تطوع وصدقة وقراءة قرآن، وذِكْرٍ لله آناء الليل وأطراف النهار. لا شكَّ أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتضبط النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَكِلُّ ولا تَسْأَمُ، لكن الانتباه لأمور تَرِدُ أمرٌ أساسي، ومنها:
| الحذر من تحوُّل العبادة إلى عادة.
| الحذر من تقديم المهمِّ على الأهمِّ، أو الأدنى على الأعلى - أي النوافل على الفرائض - كمن يقوم الليل - مثلاً - ثم ينام عن صلاة الفجر.
فالمسلم كالنَّحلة تجمع الرَّحيق من كل الزهور، ثم تُخرجه عسلاً مصفّىً شهياً سائغاً للآكلين.
| تقديم الواجب عند تعارضه مع المستحب.
| التركيز على أعمال القلوب، وتقديمها على أعمال الجوارح؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب» (3) .
إن استشعار المؤمن المكاره التي تحفُّ بالجنة، يتطلب منه هِمَّة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي للتغلُّب عليها، مع تنقية تلك الهمم من كل شائبة تدفع لوجه غير وجه الله، وإنما تفاوت الناس بالهِمَم لا بالصور والله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
ولنستمع إلى ثابت البناني الذي يقول: تعذَّبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل همَّ خروجي منها (4) .
وقد قيل للإمام أحمد: يا إمام! متى الراحة؟ فيقول وهو يدعو إلى المجاهدة: الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة (5) .
إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها.
هذه هي الصلاة التي تعد رمز الضبط والانضباط، قال ـ تعالى ـ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] . وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22] .
فالهلع والجزع والمنع نقائص وعيوب، وعلاجها يكون بالصلاة وعموم الطاعات والعبادات.
فهي قيام ومثول بين يدي الله سبحانه وتعالى، وحقُّها حضور القلب وخشوع الجوارح {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] . لكن كم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا التعب والنصب! كم من مصلٍّ يصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا النصف أو الثلث! وأن ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها. بل إنها لتدعو للإنسان أو عليه. ثم إن الصلاة مضبوطة بأزمنة وأمكنة، فالأزمنة منها ما هو اختياري، ومنها ما هو اضطراري، والأمكنة منها ما هو فاضل كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، ومنها ما هو عادي كسائر المساجد، ومن الأمكنة ما تحرم فيه الصلاة أو تُكره كالمزبلة والمقبرة والمجزرة.
والصلاة مضبوطة بالإمام والمأموم؛ فالإمام يحسن أن يمتاز بصفات، كأن يكون أقرأَ القوم وغير مكروه لديهم، والمأموم له أن ينبِّه الإمام عند السهو أو الخطأ، لكن يخشى عليه إن هو رفع رأسه قبل الإمام أن يُجعل رأسه رأس حمار، فإنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به.
والصلاة مضبوطة بالإحرام والتسليم، وبالركوع والسجود، وما يتخلل ذلك من تكبير وغيره، وهي إلى ذلك مضبوطة بالنواقض والجوابر ... إلخ.
إنها الصلاة التي كانت راحةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، كما أخبر الصادق المصدوق يوماً فقال لصاحبه: «أَرِحْنا بها يا بلال!» (1) ؛ عكس أبناء الأمة اليوم الذين يقولون «أرحنا منها» . وإن لم تنطق بها شفاههم، فإن أفعالهم بها ناطقة، إنها مَفْزَعُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، حيث كان «كلما حَزَبَهُ أمرٌ صلّى» (2) ، وهي قُرَّة عينه -صلى الله عليه وسلم - كما قال: «حُبِّبَ إليَّ من دُنياكم الطِّيب والنساء، وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة» (3) .
إنها المعين الحقيقي على تقوية الإيمان؛ فإقامة الصلاة بأداء أركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها يوصل الإنسان إلى تحقيق تلك الصلة المطلوبة بين العبد وربه، وحريٌّ بمن فعل ذلك أن يعينه الله، وحريٌّ به هو أن يكون لما سواها مقيماً، كما قال عمر في رسالة لعمَّاله: «إن أهمَّ أموركم عندي الصلاة، من حفظها أو حافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع» (4) .
الفريضة المرافقة لوجود الإنسان المؤمن فوق هذه البسيطة، فريضة لا تسقط أبداً مع جميع الأعذار، سواء كان مرضاً أو خوفاً أو حرباً.
إقامة الصلاة كما أرادها الله أن تقام، لا كما أرادها الناس.
والعجيب في القرآن أنه عند حديثه عن فلاح المؤمنين ذكر من صفاتهم السِّت، الصلاةَ مرتين، حيث بدأ بها وختم بها، فكان البدء بالخشوع فيها والختم بالمحافظة عليها، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 1 - 10] .
إنها مضخَّة الإطفاء التي تطفئ النار المشتعلة الموقدة التي تلفح القلوب والعقول، وممحاة للذنوب، حيث يروي (5) لنا سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يوماً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فأخذ منها غصناً يابساً، فهزَّه حتى تَحَاتَّ ورقُه، ثم قال: يا سلمان! ألا تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: ولِمَ تفعله؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتَّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق، ثم تلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .
- بل إنها كالماء الذي يطفئ النار وسوادها ويغسل أثرها من بين جوانح الإنسان، لهذا قال -صلى الله عليه وسلم -: «إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها» (6) .
وهو ما شرحه ابن مسعود: «تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا تكتب عليكم حتى تستيقظوا» (7) .
هذا بعض من كل، وغيض من فيض من عظمة الصلاة ودورها في ضبط وانضباط النفس، ولكل مؤمن أن يتساءل عن عدد المصلين وعدد مساجد المسلمين، وغياب الضبط المطلوب، فسيتعرف على السبب اليقين، ولن يلوم إلا نفسه، ولن يرجو إلا رب العالمين.
ومما يفيد النفس ويضبطها ويزكيها أمام باريها كثرة الذكر والاستغفار لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110] .
2 - الاستعانة بمحاسبة النفس:
قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] .
إن آيات القرآن لتذكِّر الإنسان بيوم لا مردَّ له، فيه مساءلة الرحمن لبني الإنسان بكل ما سعت له وإليه من أعمال، كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] .
والإنسان محتاج للتذكر والتذكير بأن هذا اليوم هو يوم العدل المطلق، ليس فيه ظلم {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17] . وليس فيه رخصة للرجوع والاعتذار أو المقايضة كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} [يونس: 54] .
بل سيجد الإنسان نفسه وبيده كتابه يقرؤه بنفسه، كما قال ـ تعالى ـ: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] .
ومحاسبة النفس تكون قبل العمل، كما قال الحسن البصري: «رحم الله عبداً وقف عند همِّه؛ فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره تأخَّر» (1) .
وتكون أثناءه، باستحضار شرع الله ومراقبته في السر والعلن.
وتكون بعده، باستحضار قوله ـ تعالى ـ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وقوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8] . قال أحد السلف: «فإذا سأل الله الصادقين فما بالك بالكاذبين؟» .
3 - تنمية الصفات الطيبة:
وذلك حتى يكون لها الغلبة؛ ذلك مثل: صفات الحلم والكرم والتواضع والشكر، ولا يكفي في ذلك قراءة كتاب أو حفظ نصوص، لكن تحصيلها لا بدَّ له من مجاهدة وتمرُّن وتدريب؛ فمثلاً من أراد أن يكون حليماً؛ فهذا ينبغي له أن يقوِّي إيمانه ويزيد في صبره ويكظم غيظه ويملك نفسه في مواقف الغضب، قال -صلى الله عليه وسلم -: «إنما الحلم بالتحلُّم» (2) .
وقد أثنى الله ـ جلَّ وعلا ـ على الكاظمين الغيظ، فقال ـ جلَّ مِنْ قائلٍ ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] .
فالحديث عن المتقين هنا هو حديث عن صفة مهمة من صفاتهم، وهي كظم الغيظ، وهو أحد أهم الوسائل المعينة على ضبط النفس.
قال القرطبي في معناه: «كظم الغيظ ردُّه في الجوف» (3) .
ويُقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه. فكظم الغيظ هو منعه من أن يقع (4) .
ومن خلال ما ذكر نستطيع القول بأن ضبط النفس في مثل هذه الحالة، يكون بمنعها من التصرف خطأ في المواقف الطارئة والمفاجئة التي تتطلب قدراً من الشجاعة والحكمة وحسن التصرف. وقد وردت أحاديث كثيرة عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم - فيها بيان فضل كظم الغيظ ومن ثَم ضبط النفس، منها: ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» (5) .
وبإيجاز، فضبط النفس يقتضي من المسلم أن يتجاوز مرحلة البناء التي يجب ألَّا تتوقف، باعتبار استمرارها إلى آخر رَمَقٍ من عُمْر الإنسان، لقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] . ليصلَ بالنفس إلى مرحلة الإعراب.
فأن يصبح المرء معرَباً، هذا هو المطلوب، فهو كالكلمة، المعرب منها له في موقع الفاعل الرفع، وفي موقع المفعول به النصب، وأحياناً تجرّ إذا سبقت بحرف صغير من حروف الجر، أما المبني فقد تجاهله النحاة من قبلُ، ولم يعيروه من الاهتمام كما فعلوا مع المعرَب، لأنه ثابت لا يتغير، كما أنه لا يتفاعل مع ما حوله من جمل وكلمات تفاعل المعرب.
فيجب على الإنسان أن يبادر (الفاعل) ليرفع سهمه عند الله، بحسن عمله في المجتمع بإبداعاته وإنجازاته؛ فالمؤمن كالغيث النافع أينما وقع نفع، وكل همِّه أن يسود الخير، وتنتشر المحبة، ويشارك في صناعة الحياة، همُّه أن يصبح راحلة يعين في رفع الأثقال عن أمته، وليس فقط واحداً يريد أن يحمل، وقد ورد في الحديث الصحيح: «الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» (6) . فليحرص الإنسان على أن يكون راحلة ينفع نفسه وينفع أمته.
__________
(*) أستاذ الفقه المقارن والتفسير بجامعة شعيب الدكالي كلية الآداب الجديدة ـ المغرب.
(1) لسان العرب، مادة: ضبط.
(1) سنن الترمذي: 4/659/2499، وحسنه الألباني، وسنن ابن ماجه: 2/1420/4251، ومسند أحمد: 3/198/13072.
(2) صحيح مسلم: 4/2105/2748، وسنن الترمذي: 5/548/3539، ومسند أحمد: 5/413/23562.
(1) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي: 1/299.
(2) الفوائد لابن القيم.
(3) صحيح مسلم، رقم: 7308.
(4) المستدرك للحاكم: 1/79/72/72، وسنن أبي داود: 4/236/4744، وصحيح ابن حبان: 16/406/7393، ومسند أحمد: 2/354/8674.
(5) صحيح مسلم، 2067.
(6) المستدرك للحاكم، رقم: 4771، وسنن ابن ماجه: /215/2972/3733، وصححه الألباني.
(7) سنن الترمذي، رقم: 2342، والمستدرك: 4/354/7896/53.
(8) مجمع الزوائد: 1/188/ و 7/301، والبزار: 9/292/ و 308/ رقم: 3844، ومسند أحمد: 4/420/ ورقم: 19872، والترغيب والترهيب: 2/184، والمعجم الصغير: 1/3، وصححه الهيثمي.
(1) صحيح مسلم: 485.
(2) لسان العرب، مادة: فرط.
(3) رواه ابن ابي الدنيا، من حديث أبي هريرة.
(1) المستطرف: 1/59.
(2) صحيح البخاري: رقم: 6137.
(3) صحيح ابن حبان: 1/531/2531، وسنن الدارمي: 2/319/2531، ومسند الطيالسي: 1/106/788.
(4) طريق الهجرتين: 1/474.
(5) الحلية: 10/132، وتاريخ دمشق: 6/13، وفيض القدير: 2/563/53.
(1) سنن أبي داود، رقم: 1985، والمعجم الكبير: 7/4.
(2) مسند أحمد، رقم: 23540.
(3) سنن النسائي: 3949، ومسند أحمد رقم: 12359 و13123 و14114، والمعجم الكبير: 20/420، وطبقات ابن سعد: 1/398/ و 2/220.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/164/ و10/364/ و11/123. وتفسير ابن كثير: 3/128/ والدر المنثور للسيوطي: 1/713.
(5) سنن الدارمي: 1/197، ومسند أحمد، رقم: 23873/ و23864، والمعجم الكبير: 6/257.
(6) المعجم الأوسط: 6448.
(7) المعجم الأوسط: 224526.
(1) شعب الإيمان: 5/458/7279، وفيض القدير: 2/499.
(2) الجامع الصغير وزيادته: 10/410/4093، والمعجم الأوسط: 2663.
(3) الجامع: 4/202.
(4) لسان العرب، مادة: كظم.
(5) صحيح الترغيب: 2752، وصحيح ابن ماجه: 2/407/4179.
(6) صحيح البخاري: 6133/ ج: 5/2383/، وصحيح مسلم: 4/1972/2547.(217/5)
معينات التعبد دعوة للتنافس في القرب والطاعات
فيصل بن علي البعداني
خلق الله ـ تعالى ـ الثقلين لعبادته وحده لا شريك له، وأوجب عليهم تقواه والاشتغال بطاعته، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، وقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] ، وامتحاناً منه ـ عز وجل ـ لهم سلط عليهم من نفوسهم الأمارة بالسوء ومن شياطين الجن والإنس ما يزين لهم المخالفة ويدعوهم إليها، وحف ـ سبحانه ـ طاعته بالمكاره، ومخالفة أمره بالشهوات، ليرى ـ تعالى وتقدس ـ من يُقبل عليه بإرادة واختيار، ومن يلهو في بحار الشهوات ويسرح في أودية الملذات فينسى نفسه والغايه من خلقه.
وأمام ذلك فلا بد لمريد النجاة من وسائل معينة له تثبته على الطاعة وعمل ما فيه نجاته إذا وقف للحساب بين يدي ربه، وتقوِّيه في مواجهة أعدائه، وتجاوز العقبات التي تدفعه إلى الزلل وتحول بينه وبين عمل الآخرة، وسأكتفي بإيراد شيء من أبرز ما يعين المرء على التعبد من خلال النقاط التالية:
- أولاً: الاستعانة بالله:
صلاح العبد في ركونه إلى الله ـ تعالى ـ واعتماده عليه وطلبه العون منه، ومضرته وهلاكه وفساد حاله في الاستعانة بما سواه ـ عز وجل ـ إذ المُلْك ملكه، والتدبير تدبيره، ولا حول للعبد ولا قوة في شيء من أمره إلا بعونه ـ سبحانه ـ وتوفيقه؛ فاستعانة العبد بمولاه سبيله لتحقيق مراده وتحصيل مقصوده، ومن أعانه الله ـ تعالى ـ فهو السعيد الموفق، ومن خذله ـ سبحانه ـ فهو الشقي المخذول. يقول ابن تيمية: (العبد محتاج في كل وقت إلى الاستعانة بالله على طاعته، وتثبيت قلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (1) ، ويقول ابن رجب: (فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها، في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله ـ عز وجل ـ فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه ... ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولاً) (2) .
ولمسيس حاجة العبد لعون الله ـ تعالى ـ جمع ـ سبحانه ـ بين العبادة والاستعانة في فاتحة الكتاب في قوله ـ تعالى ـ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وكأن العبد ينكسر بين يدي مولاه في كل ركعة صلاة قائلاً: لك يا مولاي نسكي وخضوعي وحدك لا شريك لك، وأنا عبد ضعيف محتاج إلى العون، وأنت إلهي عضدي ونصيري وحدك دون سواك، فجُدْ عليَّ بعونك وتسديدك!
فيا من تريد التوفيق لعمل الآخرة، وتطلب تذليل الصعاب التي تحول بينك وبين الاستكثار من الخضوع لله ـ تعالى ـ والانقياد له، وترغب في نزع الشعور بالعجز من داخلك، انطرح بين يدي ربك الرحيم، واسأله معونته وتسديده، وأن لا يكلك إلى نفسك؛ فإن الدين نصفه استعانة (1) ، وإذا لم يكن عون من الله ـ تعالى ـ للفتى أتته الرزايا من وجوه الفوائد، وكان أول ما يجني عليه اجتهاده.
- ثانياً: مجاهدة النفس:
جُبِلت النفس البشرية على الميل إلى اللذَّات الحسية، والانجذاب إلى الجهة السفلية؛ فتنةً من الله ـ تعالى ـ واختباراً لها. يقول ابن الجوزي: (النفس مجبولة على حب الهوى ... فافتقرت لذلك إلى المجاهدة والمخالفة، ومتى لم تزجر عن الهوى، هجم عليها الفكر في طلب ما شُغفت به، فاستأنست بالآراء الفاسدة والأطماع الكاذبة والأماني العجيبة، خصوصاً إن ساعد الشباب الذي هو شعبة من الجنون، وامتد ساعد القدرة إلى نيل المطلوب) (2) . ولخطورة هذا الأمر خاف علينا النبي الرحيم -صلى الله عليه وسلم - من اتباعنا الهوى؛ فعن أبي برزة الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى» (3)
فلا بد لمريد النجاة من صرف نفسه إلى ما يريده الله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، وبذله الوسع في قهر الشهوة والهوى ومخالفة داعيهما الذي يحول بين النفس وبين أداء الطاعة على وجهها (4) ؛ إذ (اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات) (5) .
وأصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير ما تهوى. وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات وامتناع عن الطاعات، ومجاهدتها تقع بحسب ذلك (6) . وأقوى مُعين (على جهاد النفس جهاد الشيطان بدفع ما يلقي إليه من الشبهة والشك، ثم تحسين ما نُهِي عنه من المحرمات، ثم ما يفضي الإكثار منه إلى الوقوع في الشبهات، وتمام المجاهدة أن يكون متيقظاً لنفسه في جميع أحواله؛ فإنه متى غفل عن ذلك استهواه شيطانه ونفسه إلى الوقوع في المنهيات، وبالله التوفيق) (7) .
والمجاهدة أمر رفيع القدر، عالي المنزلة يحتاج إلى صبر ورباطة جأش، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم -: «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل» (8) . يقول ابن عبد البر: (مجاهدة النفس في صرفها عن هواها أشد محاولة وأصعب مراماً وأفضل من مجاهدة العدو) (9) ، ويقول ابن بطال: (جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى....} [النازعات: 40] الآيات) (10) .
وأخبار القوم في مداواة نفوسهم ومعالجة أدوائها أكثر من أن تروى. يقول الثوري: (ما عالجت شيئاًً أشد عليَّ من نفسي، مرة لي ومرة عليَّ) (11) ، وقال: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي؛ لأنها تتغلب عليَّ) (12) . ويقول يونس بن عبيد: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من الورع) (12) ، ويقول ابن أبي زكريا: (عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قلَّ أن أقدر منه على ما أريد) (14) ، ويقول أبو يزيد: (عالجت كل شيء فما عالجت أصعب من معالجة نفسي، وما شيء أهون عليَّ منها) (15) ، ومرة قال: (عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد عليَّ من العلم ومتابعته) (16) .
فالنفس عدو منازع يجب على المرء مجاهدتها، وحين يفلح المرء في ذلك فإن إتيان الطاعات يتحول إلى نعيم ولذة، وعندها لا يجد المرء في القيام بها كلفة ومشقة، كما قال ثابت البناني: (كابدت القرآن عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة) (17) ، وكما قال بعض العُبَّاد: (عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة) (18) ، فالأُنس واللذة يحصلان من المداومة على المكابدة مدة طويلة.
وليس المراد بمجاهدة النفس منعها مما يُقيمها، ومخالفتها على الإطلاق؛ فإن ذلك يُفسِد حالها فيعميها ويشتت عزمها ويؤذيها أكثر مما ينفعها، بل المراد تقوية العقل على الطبع حتى يسلم المرء ولا يهلك. يقول ابن الجوزي في بيان جميل: (أعجب الأشياء مجاهدة النفس؛ لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة؛ فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها، وأثَّر ظلمهم لها في تعبداتهم؛ فمنهم من أساء غذاءها، فأثر ذلك في ضعف بدنها عن إقامة واجبها، ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس، وآلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض أو بر والدة.
وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول؛ فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه، فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده؛ فإنه لا ينبسط إليه الغلام؛ فإن انبسط ذكر هيبة المملكة، فكذلك المحقق: يعطيها حظها، ويستوفي منها ما عليها) (1) .
ومما يعين على مجاهدة النفس إفهامها عاقبة الانغماس في الشهوات. قال قتادة: (إن الرجل إذا كان كلما هوى شيئاً ركبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى؛ فقد اتخذ إلهه هواه) (2) ، وقال بعض الحكماء: (من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها محصوراً، في سجن هواها مقهوراً مغلولاً، زمامه في يدها، تجره حيث شاءت، فتمنع قلبه من الفوائد) (3) ، وقال يحيى بن معاذ: (من أرضى الجوارح في اللَّذَّات فقد غرس لنفسه شجر الندامات) (4) ، وقال بشر الحافي: (من أحب الدنيا فليتهيأ للذل) (5) .
فيا مجتهداً في تحصيل نعيم المولى! اجعل أعمال الآخرة في حياتك هي الأوْلى وجاهد نفسك وفق الشرع، وإياك أن تهمل قيادتها وتفلت لجامها فتسوقك - إن لم يَجُد المولى - إلى نار تلظى.
- ثالثاً: استحضار ثواب القربات:
جبل الله نفوس عباده على حب الثواب والسعي لنيله، ومهابة العقاب والحذر منه؛ ولذا فإن استحضار الثواب والعقاب من آكد دواعي لزوم الطاعة والاجتهاد في عمل الآخرة، ومن أعظم الزواجر عن اقتراف المعصية، والانغماس في بحور اللذة.
والمتأمل في النصوص يرى أن الترغيب والترهيب، وذكر ما أعدَّ الله ـ تعالى ـ لأوليائه من نعيم، وما أعد لأعدائه من عذاب أليم أحد الموضوعات الرئيسة التي اشتملت عليها الآيات والأحاديث، وقد جاء عرضه فيها من خلال مسارين:
أ - مطلق غير مقيد بأعمال مخصوصة، بل هو ثواب للطاعة بإطلاق، وجزاء للمعصية بإطلاق، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13 - 14] ، وقوله ـ سبحانه ـ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25] ، وقوله ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .
ب - مقيد بأعمال مخصوصة، ومترتب على طاعات بعينها، ومعاصٍ بعينها، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» (6) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» (7) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوِّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك، أنا كنزك» (8) .
وكلاهما له أثره في تزهيد النفس بمُتَع الدنيا وملذاتها، وتحفيزها على الاستكثار من الخير، وبذل الجهد في عمل الآخرة؛ فإنها متى علمت بأن الله ـ تعالى ـ مثيبُها على الطاعات بجنة فيها «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (1) ، ومعاقبُها على معصيته والإعراض عن ذكره بنار وقودها الناس والحجارة، ولَّد ذلك داخلها رغبة صادقة في أن تظفر بذلك النعيم، وتنجو من ذلك الجحيم، وسعت لذلك سعياً حثيثاً؛ فالرجاء يحدو القلوب إلى الله ـ تعالى ـ ويطيب لها السير، والخوف يبعدها عن الدنيا، ويحرق مواضع الشهوات منها (2) .
وقد أمر الله ـ تعالى ـ عباده بأن يكونوا كذلك في قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ، والمعنى: لا تشركوا بالله في الأرض، ولا تعصوه فيها، واعبدوه وحده خوفاً من وبيل عقابه، وطمعاً في جزيل ثوابه (3) . يقول ابن القيم: (المصالح والخيرات واللذَّات والكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسر من التعب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرَك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تحمَّل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل) (4) ، ومن شواهد كلامه النفيس هذا، قوله -صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصبغ في النار صبغة، ثم يُقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قَطُّ؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيُصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» (5) .
فمتى رغَّب العبد نفسه بثمار التعبد، ورهَّبها من عاقبة الانغماس في الشهوات طاوعته في الإعراض عن الدنيا، بل وتلذذت بمشاق العمل الصالح والإقبال على الله تعالى، فـ: (الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان ـ مع كونه بعيد الأرجاء، ثقيل الأعباء، محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء - إلا أَزِمَّة الرجاء، ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم - مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات، وعجائب اللذات - إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف) (6) .
فعلى العبد متى أراد إتيان طاعة أن يستحضر الثواب المترتب عليها والعقاب الذي يناله تاركها؛ ليكون ذلك معواناً له في مغالبته لنفسه وقهره لها.
- رابعاً: قصر الأمل:
ترقُّب الموت وتصوُّر أهواله والعلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء حياة المرء من أنفع الأمور للقلب وأعظم معينات التعبُّد؛ فهو يعلي الهمة، ويزهِّد في الدنيا، ويبعث على الجد في العمل، ويحث على اغتنام الوقت، وانتهاز الفرص.
ولذا جاءت النصوص حافلة به ومنبهة عليه، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] ، وقوله ـ سبحانه ـ: {قُلْ إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8] ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثِروا ذكر هاذم اللذات؛ فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليه» (7) . وعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكِّر الآخرة» (8) .
أما الآثار فقد امتلأت بالتذكير به والحث عليه؛ فعن مطرِّف ابن عبد الله قال: (القبر منزل بين الدنيا والآخرة؛ فمن نزله بزاد ارتحل به إلى الآخرة، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر) (9) ، وقال الأوزاعي: (من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير) (10) ، وقال مالك بن مِغْوَل: (من قصر أمله هان عليه عيشه) (11) ، وقال الداراني: (ينبغي للعبد المعني بنفسه أن يميت العاجلة الزائلة المتعقبة بالآفات من قلبه بذكر الموت وما وراء الموت من الأهوال والحساب ووقوفه بين يدي الجبار) (12) ، وقال النضر بن المنذر: (زوروا الآخرة بقلوبكم، وشاهدوا الموقف بتوهمكم، وتوسدوا القبور بقلوبكم، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة، فاختار لنفسه ما أحب من المنافع والضرر) (13) .
ولما كان الغالب على عامة الخلق طول الأمل ورجاء البقاء في هذه الدنيا، ونسيان أنها دار سفر وموطن امتحان، والغفلة عن الغاية العظمى من الخلق، وإهمال التوبة وعمل الآخرة، جاءت النصوص محذرة من هذا الوضع، ومنبهة إلى خطورة استمرار المرء في السير في طريق الهلكة، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] ، وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل» (1) .
ومن أقوال أهل العلم الواردة في هذا الباب قول أبي الحسن علي ـ رضي الله عنه ـ: (إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى؛ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق) (2) ، وعن الحسن قال: (ما أطال عبدٌ الأمل، إلا أساء العمل) (3) ، وقال الفضيل: (إن من الشقاء طول الأمل، وإن من النعيم قصر الأمل) (4) ، وقال بعض الحكماء: (الجاهل يعتمد على الأمل، والعاقل يعتمد على العمل) (5) ، وقال ابن القيم: (مفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل) (6) .
فطول الأمل من تزيين الشيطان وسلطانه على قلوب الغافلين (7) ؛ فلا آفة أعظم منه، بل لولاه ما وقع إهمال أصلاً، وإنما تفتر الهمم، ويسود العجز والكسل، ويقدم العبد على المعاصي، ويبادر إلى الشهوات، ويغفل عن الإنابة لطول أمله؛ فإنَّ الاستعداد نتيجة قرب الانتظار؛ فمن له أَخَوان غائبان وينتظر قدوم أحدهما في غد، وقدوم الآخر بعد عام فإنه لا يستعد للذي يقدم بعد عام وإنما للذي يأتي غداً؛ فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة مثلاً، اشتغل قلبه بالمدة ونسي ما وراء المدة، وذلك يمنعه من مبادرة العمل؛ لأنه يرى نفسه في متسع من الزمن، فيؤخر العمل (8) ، ولله در القائل: (إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجَلي أقل من ذلك) (9) .
فيا ناصحاً لنفسه أَقْصِرِ الأملَ! واستعد للحساب قبل حلول الأجل؛ فإن (ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أمانٍ، والوقت ضائع بينهما) (10) ؛ فإن لم تستطع ذلك فاعمل عمل قصير الأمل؛ فإن سعادتك في ذلك، ودع عنك التسويف؛ فإنه من أعوان إبليس (11) . يقول الحسن: (إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم) (12) .
- خامساً: فقه نهج التقرب:
غاية العبد من تعبده النجاة يوم القيامة وعلو المرتبة عند الله تعالى، وإن من أعظم السبل الموصلة لذلك فقه الكيفيات والتوجيهات التي رسمها الشارع في باب التعبد، والتي يتمكن بها العبد من مداومة العمل ومضاعفة الأجر، ولعل من أبرز ما ينبغي فقهه في هذا الجانب ما يلي:
1 ـ المسارعة إلى العمل:
حثت الشريعة على المبادرة إلى الطاعات وعدم الإبطاء في أدائها. قال ـ تعالى ـ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة» (13) ، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (14) ، وعن أحمد قال: (كل شيء من الخير يبادر به) (15) ، وقال ابن بطال: (الخير ينبغي أن يبادَر به؛ فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمَن، والتسويف غير محمود) (16) .
فيا باغي الرفعة لا تسرح لنفسك في الطول؛ فما أنت إلا في مزرعة، من يجني منها أكثر يعلو عند الله قدره، وترتفع في الآخرة منزلته؛ فبادر إلى العمل قبل أن يبادر بك، فإنك عندها تغتبط بالمبادرة إلى الخير، وتندم على التفريط في أعمال البر.
2 ـ المداومة على فعل الخير:
المداومة على الطاعات هدي راشد، وجَّه إليه النبي -صلى الله عليه وسلم - ومارسه؛ فعن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قلَّ» (1) ، وعنها ـ رضي الله عنها ـ أن عمله -صلى الله عليه وسلم - كان دِيمة (2) ، وأنه -صلى الله عليه وسلم - كان إذا عمل عملاً أثبته (3) .
وحتى يتمكن العبد من الاستمرار في المداومة على الطاعات نجده -صلى الله عليه وسلم - يأمر بالاقتصاد في العبادة، وينهى عن التعمق والتشديد على النفس فيها؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «القصدَ القصدَ تبلغوا» (4) ، وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: لزينب تصلي؛ فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حُلُّوه! ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد» (5) ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة، فقال: مَنْ هذه؟ فقلت: امرأة لا تنام تصلي، قال: خذوا من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا» (6) ، وعن عبد الله ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: «قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم -: ألم أُخْبَر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك حقاً، ولأهلك حقاً، فصُم وأفطر، وقم ونم» (7) .
قال النووي: (وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ ويثمر القليل الدائم؛ بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة) (8) ، وليس المراد من الأمر بالقصد في العبادة منع طلب الأكمل فيها؛ فإن ذلك من الأمور المحمودة، بل المراد التدرج في مراقي الخير، والإيغال في الدين برفق، وقياد النفس خطوة خطوة حتى يصلب عودها في باب التعبد، وتعتاد الإكثار من القُرَب دون أن تكره العمل، حتى لا يكون المرء كالمنبتِّ الذي لا هو قطع أرضاً، ولا أبقى أرضاً، فلا بد من (منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة) (9) .
وفَهْمُ طبيعة النفس من أعظم مُعينات العبد على مدوامة العمل الصالح؛ إذ لها إقبال وإدبار، وقد أوضحت ذلك النصوص والآثار؛ فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل عابد شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فإمَّا إلى سُنَّة وإما إلى بدعة؛ فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» (10) ، وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: «إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً؛ فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض» (11) ، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن لهذه القلوب شهوة وإقبالاً، وإن لها فترة وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها» (12) .
ومما يُكمِل مسألة مداومة العبد على العمل الصالح قضاؤه ما فاته منه، وقد جاءت النصوص دالة على مشروعية ذلك؛ فمنها حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل» (13) .
وبالعموم؛ فكل الخير في اجتهاد باقتصاد مقرون بمتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم -، وما أجمل مقولة أُبَيِّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ: «وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم - إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً - أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم» (14) ، فاللهم مُنَّ علينا بلزوم السنة في كل أمورنا.
3 ـ تنويع العمل:
جمع القرب وتنويع الطاعات من أمتن السبل المعينة على التعبد، وأبلغ الطرق الموصلة إلى مرضاة الله ـ تعالى ـ وعلو المنزلة عنده سبحانه؛ يدل على ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» (15) .
وما ذلك إلا لأن في تنويع الطاعات تأسياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم -، واستكثاراً من الخير، وتحفيزاً للنفس على العمل، ومراعاة لطبيعتها؛ لأنها قد تصاب بنوع من الرتابة والاعتياد نتيجة لزوم أنواع محددة من القُرَب، وقد يُفتَح لها في أبواب من الخير أخرى يكون القلب فيها أحضر؛ فكلما نوَّع العبد من قُرَبه، وتقلَّب بين جنباتها كلما جدد إيمانه، وتعرف على الحال التي هي أنفع لقلبه، وأتقى لربه، وتمكن من استغراق وقت أطول في عمل ما يحبه ـ سبحانه ـ ومكَّنه ذلك من استثمار قلبه ولسانه وجوارحه في طاعة مولاه، وقضاء جميع أحواله وأوقاته في مرضاة الله تعالى.
4 ـ إدراك مراتب الأعمال:
فاضَلَ الله ـ تعالى ـ بين الأعمال الصالحة، كما قال ـ سبحانه ـ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] ، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (1) ، وكما جاء في حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «قلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» (2) .
وتفاضل الأعمال مرده تارة إلى جنس العبادة؛ فمثلاً جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
وتارة إلى حال العبد فالتسبيح والذكر في حال الركوع أفضل من القراءة، والطواف للآفاقي (3) أفضل من الصلاة، بينما الصلاة للمقيم بمكة أفضل، وما يقدر عليه العبد من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل.
وتارة إلى وقت العمل؛ فالصدقة في رمضان خير منها في غيره، والقراءة والذكر والدعاء بعد صلاتي الفجر والعصر هي من الأعمال المشروعة دون الصلاة.
وتارة إلى مكان العمل؛ فالصلاة في المساجد الثلاثة أفضل من الصلاة في غيرها، والمشروع للحاج بعرفة ومزدلفة وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة.
وتارة إلى جنس العابد؛ فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج (4) .
فالذي يحسن أن يختار العبد من القُرَب أعلاها منزلة وأكثرها أجراً، هذا من حيث الإطلاق. أما من حيث التقييد؛ فمن الصعب القول بأن قُرْبة معينة هي الأفضل في حق شخص معين؛ إذ الأفضل في حق كل إنسان ما كان أنفع له وأجمع لقلبه وأشرح لصدره؛ فكل قُرْبة يأتي بها العبد على الوجه الكامل، ويكون فيها أتقى لله وأخشع، فهي أفضل في حقه من غيرها، وإن كانت هناك قُرْبة أفضل منها. يقول ابن تيمية مبيناً ذلك: (من الناس من لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول أنفع، كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع. فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه، ويرغب فيها ويحبها أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة) (5) ، وفي موضع آخر يقول: (فأكثر الخَلْق يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقاً؛ إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه، مثل: من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك فإنه قد يفسد عقله ودينه) (6) .
ولهذا فقد تكون قُرْبةٌ في وقت أفضل للعبد، وفي وقت آخر لا تكون الأفضل له، بل يكون الأفضل له قربة أخرى بحسب جمعيته لقلبه عليها، فينبغي للعبد أن يجتهد في اختيار القربة التي هي أرضى لربه، وأعظم لأجره، وأن يستهدي الله ـ تعالى ـ ويستعينه على ذلك، فإنه ما صدق عبد ربه إلا صنع له سبحانه.
5 ـ توسيع دائرة التقرب:
مهما اجتهد المرء في العبادات المحضة وأعطاها من وقته فإنها تبقى معدودة؛ إذ له قدرة محدودة لا يمكنه تجاوزها، كما أن له متطلبات جسدية، واحتياجات فطرية، وعليه واجبات اجتماعية لا بد من مجيئه بها وإعطائها جزءاً كبيراً من وقته، ولذا فقد فتح الرب الرحيم للمسابقين في الخيرات الحريصين على عالي الدرجات أموراً يمكنهم من خلالها توسيع دائرة تقربهم، ولعل من أبرزها ما يلي:
أ - احتساب الأجر في المباح، والتي لا يثاب المرء عليها إلا بنية رجاء الأجر على فعلها من الله تعالى، كما دل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة» (7) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك» (8) ، فالمباح (إذا قصد به وجه الله ـ تعالى ـ صار طاعة ويثاب عليه، وقد نبه -صلى الله عليه وسلم - على هذا بقوله -صلى الله عليه وسلم -: «حتى اللقمة تجعلها في فِيِ امرأتك» (1) ؛ لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها؛ فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح؛ فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر -صلى الله عليه وسلم - أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله ـ تعالى ـ حصل له الأجر بذلك؛ فغير هذه الحالة أوْلى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى؛ ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئاً أصله على الإباحة وقصد به وجه الله ـ تعالى ـ يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله تعالى، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطاً، والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكفَّ نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام وليقضي حقها وليحصل ولداً صالحاً، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم -: «وفي بضع أحدكم صدقة» (2) ، والله أعلم) (3) . وقد وردت آثار عدة عن بعض السلف تحث على هذا الأمر؛ فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين سئل: كيف تقرأ؟ فقال: «أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» (4) ، أي: أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم؛ ليكون أنشط عند القيام بالعبادة، وعن زيد الشامي قال: (إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتى في الطعام والشراب) ، وعنه قال: (انوِ في كل شيء تريد الخير، حتى خروجك إلى الكُناسة) (5) .
فيا من تريد توسيع دائرة قُرُباتك، والإكثار من أجورك أرد إرضاء الله ـ تعالى ـ بما تأتي من الأمور المباحة والأعمال المعتادة؛ فإن المرء يؤجَر عليها متى جعلها وسيلة لطاعة واجبة أو مندوبة أو تكميلاً لشيء منهما (6) .
ب - الهم بعمل الخير وإن لم يعمل؛ فإن نية الخير المجردة من الفعل يثاب المرء عليها، كما في حديث: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة) (7) .
فإن نوى الخير، وكانت النية مستقرة في القلب فحال بينه وبين عمله عذر أو عجز كان له أجر عامل، كما يدل على ذلك حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة،، فقال: «إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر» (8) ، وحديث أبي كبشة الأنباري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: فهما في الأجر سواء،....» (9) ، وحديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً» (10) ، وحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة» (11) ؛ فالنية أبلغ من العمل، والخير كله إنما يجمعه حُسن النية، وإن لم ينصَب العبد.
ت - إرادة أكثر من قُرْبة بالعمل الواحد؛ إذ يُشرَع في بعض الأعمال نية أداء أكثر من طاعة بعمل واحد؛ فالنية الصالحة تُكثِر العمل وتباركه وإن كان قليلاً، كمن يريد بمكثه في المسجد: الاعتكاف، وانتظار الصلاة، وينوي بتناول طعامه: حفظ النفس، والتقوِّي على أعمال البر، وينوي بطهارته: المكث في المسجد، والصلاة، وقراءة القرآن، والطواف، ... ونحو ذلك من الأعمال التي يثاب فيها المرء على تعدد قصده، ويكون جمع نيته فيها أفضل من كثير من الطاعات (12) .
فيا مسارعاً في الخيرات تفقه في كيفية الظفر بالأجور، ومرِّن نفسك على تطبيقها! فإن أمامك جبالاً من الأجور بإمكانك نيلها دون مشقة أو عناء.
كانت هذه بعض مُعِينات التعبُّد، والموضوع واسع، والمهديُّ من وفقه الله وأعانه. نسأل الله ـ تعالى ـ أن يلهمنا رشدنا، ويهدينا سواء السبيل بمنه وكرمه، إنه جواد تواب رحيم، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 1/171.
(2) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 192-193.
(1) يقول ابن القيم في مدارج السالكين: 2/113 (التوكل نصف الدين، والنصف الثاني: الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة) .
(2) ذم الهوى، لابن الجوزي: 36.
(3) أحمد (19787) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (52) .
(4) انظر: مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 1/40.
(5) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/67.
(6) انظر نحواً من ذلك من كلام القشيري في فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(7) فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(8) أحمد (23997) ، ابن حبان (4624) ، واللفظ له، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(9) الاستذكار، لابن عبد البر: 8/287.
(10) فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(11) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 7/5.
(12) الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع، للخطيب البغدادي: 1/317، الإخلاص والنية، لابن أبي الدنيا: 73.
(13) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 3/116.
(14) الصمت، لابن أبي الدنيا: 260.
(15) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 10/36.
(16) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 10/36.
(17) إحياء علوم الدين، للغزالي: 1/288.
(18) عدة الصابرين، لابن القيم: 39.
(1) صيد الخاطر، لابن الجوزي: 145.
(2) أضواء البيان، للشنقيطي: 6/330.
(3) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/66.
(4) ذم الهوى، لابن الجوزي: 27.
(5) البداية والنهاية، لابن كثير: 10/298.
(6) مسلم (2060) .
(7) البخاري (589) .
(8) البخاري (4289) . الشجاع: الحية الذكر.
(1) البخاري (3072) .
(2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم: 2/36، بصائر ذوي التمييز، للفيروز آبادي: 2/577.
(3) جامع البيان، للطبري: 5/515، تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 2/296.
(4) مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 2/15.
(5) مسلم (2807) .
(6) إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/142.
(7) صحيح ابن حبان (2993) ، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
(8) مسلم (977) ، أحمد (23055) ، واللفظ له.
(9) أهوال القبور، لابن رجب: 244.
(10) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 6/143.
(11) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (37) .
(12) الحلية، لأبي نعيم: 9/266.
(13) أهوال القبور، لابن رجب: 238.
(1) البخاري (6420) .
(2) فضائل الصحابة، لأحمد (881) .
(3) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (105) ، وقد أورد القرطبي في تفسيره: 10/6 مقولة الحسن هذه، وقال عقبها: (وصدق ـ رضي الله عنه ـ! فالأمل يِكْسِلُ عن العمل، ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويُخلِد إلى الأرض، ويُميل إلى الهوى؛ وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطالب صاحبه ببرهان، كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة) .
(4) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (90) .
(5) فيض القدير، للمناوي: 4/229.
(6) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم: 48.
(7) انظر: قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (103) .
(8) انظر: إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/459.
(9) شُعَب الإيمان، للبيهقي (10669) .
(10) الفوائد، لابن القيم: 48.
(11) انظر: صيد الخاطر، لابن الجوزي: 193.
(12) الزهد، لهناد: 1/289، رقم: (502) .
(13) سنن أبي داود (4810) ، وصححه الألباني.
(14) المستدرك، للحاكم: 4/341، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3355) .
(15) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 2/239.
(16) فتح الباري، لابن حجر: 3/299.
(1) مسلم (782) .
(2) البخاري (6101) ، ديمة: أي دائم شبهته بالمطر الدائم في سكون.
(3) مسلم (746) .
(4) البخاري (6098) .
(5) مسلم (784) .
(6) مسلم (785) .
(7) البخاري (1153) .
(8) شرح النووي على مسلم: 6/71.
(9) فتح الباري، لابن حجر: 1/94.
(10) أحمد (6477) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والشرَّة: النشاط والحرص.
(11) مدارج السالكين، لابن القيم: 3/126.
(12) الزهد، لابن المبارك (1331) .
(13) مسلم (747) .
(14) اعتقاد أهل السنة، لللالكائي (10) .
(15) مسلم (1028) .
(1) مسلم (58) .
(2) البخاري (2782) .
(3) الآفاقي: الآتي من الآفاق، أي من غير المقيمين في مكة.
(4) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/427 - 429.
(5) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 22/347-348.
(6) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 19/119، وانظر: 17/131-132، 18/238، 22/308 - 309، 23/63، 24/198 - 200.
(7) البخاري (5351) .
(8) البخاري (56) .
(1) جزء من حديث سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ، انظر: البخاري (3936) .
(2) مسلم (1006) .
(3) شرح النووي على مسلم: 11/77 - 78، وانظر: فتح الباري، لابن حجر: 5/368، عمدة القاري، للعيني: 8/91، فيض القدير، للمناوي: 5/32.
(4) البخاري (4342) .
(5) انظر قولي زيد في: الإخلاص والنية، لابن أبي الدنيا: 72، جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 13. الكُناسة: اسم موضع بالكوفة.
(6) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/460 - 461، فتح الباري، لابن حجر: 12/275، عون المعبود، للعظيم آبادي: 12/7.
(7) البخاري (6491) .
(8) البخاري (4423) .
(9) ابن ماجة (4228) ، وصححه الألباني.
(10) البخاري (2996) .
(11) سنن أبي داود (1314) ، وصححه الألباني.
(12) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي: 221.(217/6)
فقه الظواهر الدعوية في ضوء الكتاب والسنة ظاهرة التآكل الروحي
حمدي شعيب
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] .
هكذا قصَّ القرآن الكريم تلك النتيجة التي انتهت إليها حالة هذا الثلاثي الجليل من جيل الخيرية؛ وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، رضي الله عنهم؛ حيث تخلفوا عن ركب الجهاد، في غزوة العسرة ـ غزوة تبوك ـ وصدقوا مع الله ـ سبحانه ـ ثم معه -صلى الله عليه وسلم -، فلم يفعلوا كما فعل المنافقون الذين اعتذروا، ولكنهم أعلنوا على لسان كعب ـ رضي الله عنه ـ: «والله ما كان لي من عذر» (1) . أي ليس لهم حجة أو عذر للتخلف.
كانت تلك النتيجة شعوراً غريباً لم يألفه كعب ـ رضي الله عنه ـ منذ دخوله لهذا العالم وأُنْسه بهذا المنهج، وكان ألماً نفسياً ضاقت به نفسه ضيقاً شديداً حتى تنكر لها الوجود السابح الساجد لربه.
وتأمل هذه اللمحات الطيبة:
1 ـ التربية النبوية القرآنية كانت سريعة وشديدة؛ ليختبر صدقهم مع الله ـ عز وجل ـ ثم مع النفس، وحكى عنها كعب ـ رضي الله عنه ـ فقال: «ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه» (2) .
2 ـ وكأنما يشارك في هذه المقاطعة كل الخلائق، من البشر ومن الجماد بل والوجود كله، استجابة وجندية وطاعة لأمره سبحانه. وتدبَّر مشاركة الأرض: «فاجتنبنا الناس ـ أو قال: تغيروا لنا ـ حتى تنكرت لي في نفسي الأرض؛ فما هي بالأرض التي كنت أعرف» (3) .
3 ـ لقد كانت المحنة من الشدة بحيث أفرزت هذا الشعور؛ شعور أن الأرض والوجود كله يشارك في المقاطعة، والشعور أنه قد غدا شاذاً عن هذه المنظومة العابدة الساجدة الذاكرة لربها: «حتى تنكرت لي في نفسي الأرض» .
4 ـ هذا الشعور لا تحسّه إلا نفس مؤمنة عاشت طويلاً متناسقة ومتوافقة، وكانت معروفة لهذه المنظومة: «فما هي بالأرض التي كنت أعرف» .
لقد كانت هنالك علاقة حب وودّ، ليس فقط مع المجتمع؛ بل مع الأرض، ومع الوجود كله، ثم انقطعت بمجرد تقصير في طاعة الله عز وجل.
وكم من شواذ لا يستشعرون شذوذهم!
وما ذاك إلا لغياب الرابطة السابقة مع هذه المنظومة.
وعندما تغيب هذه الرابطة؛ يغيب الرصيد في بنك الخير والطاعة والعبودية.
وتأمل يونس بن متى ـ عليه السلام ـ وهو يبين فضل هذا الرصيد الذي نفعه في محنته:
{وَذَا النُّونِ إذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .
إنه الرصيد العظيم للأيام العظيمة؛ للمحن المركبة، والظلمة المركبة؛ (ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر. وأنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال: {لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .
5 ـ إنه لألم عظيم أن تستشعر الرفض والشذوذ ممن حولك، خاصة في المواقف الصعبة؛ وإنها لمصيبة كبرى أن تفتقد الرصيد، عند اللحظات الفاصلة، وهل هناك أصعب من المشاعر عند مشهد النهاية.
وتدبَّر مصيبة آل فرعون عند مشهد نهايتهم، ولحظات رحيلهم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29] .
فلم تك لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله ـ تعالى ـ فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا يُنظَروا ولا يؤخَّروا لكفرهم وإجرامهم وعتوِّهم وعنادهم.
6 ـ ضرورة الفهم لأي قضية، حتى لا يساء الظن، ولا تُترك في النفوس أي أقاويل.
وتدبَّر كيف فسر كعب ـ رضي الله عنه ـ قضيته مصححاً معنى أنهم خُلِّفُوا، وكأنها أحد جوانب محنته العظيمة؛ وهي عدم فهم قضيته؛ عدم فهم خطئه: «كنا خُلِّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله فيه؛ فلذلك قال الله ـ تعالى ـ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] ، وليس الذي ذُكر مما خُلِّفنا، تخلُّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيّانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه) (1) .
وإنه لشعور أليم أن يساء فهم موقفك؛ خاصة عند الابتلاء.
والشعور الأكثر إيلاماً أن لا تُترك لك الفرصة أن تصحح موقفك.
- ما معنى ظاهرة التآكل الروحي؟
هذه اللمحات الطيبة ما هي إلا بعض الإضاءات التي تركز على جانب واحد من الجوانب العديدة في قصة محنة كعب ـ رضي الله عنه ـ وهو الجانب المرتبط بسنة إلهية اجتماعية، تفسر لنا ظاهرة تربوية؛ وهي (ظاهرة التآكل الروحي) .
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاث، وهي: طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح؛ حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعمال العبد، مثل: التفريط في بعض الفرائض، وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، مثل: الذكر، والدعاء، والاستغفار، وتلاوة القرآن.
وينشأ نوع من الخلل أو الانفصام المركب:
أولاً: داخلياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع نفسه.
ثانياً: خارجياً، يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع الوجود كله.
والنتيجة هي الشعور بأن النفس والوجود يتنكران له؛ فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي يعرفهما.
وبمعنى آخر: هي الظاهرة التي تبحث في حالة صدأ القلب، أو حالة الجفاء الروحي التي يستشعرها العبد المؤمن، عندما يقصر في طاعة الله ـ سبحانه ـ؛ فلا يستشعر للعبادة حلاوة، ولا للطاعة لذَّة، ويقاسي ألم البعد عنه عز وجل، ويتحول هذا إلى شعور بوحدة قاسية، ومسافات شاسعة، وحواجز نفسية تفصل بينه وبين الخلائق، خاصة الصالحين.
ويسير في الأرض ـ والعياذ بالله ـ كالحيران الذي تتقاذفه عوامل الجذب في كل اتجاه، ويصبح كحلبة يلتقي عليها المتصارعون، أو يكون نقطة التقاء للصراع عليه بين استهواء وإغواء شياطين الإنس والجن، وبين رفقة الخير من الدعاة المصلحين: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] .
ويمتد هذا الشعور بغياب لذة الطاعة وألم البعد عنه ـ سبحانه ـ إلى حالة من غياب الرغبة في الحياة عموماً، وضياع اللذة في المعيشة في الدنيا، ثم فوق ذلك استشعار خيبة الأمل في النجاة في الآخرة:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] .
وهو تحذير منه ـ سبحانه ـ لكل مُعرِض «أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه؛ فإن له معيشة ضنكاً؛ أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. عن أبي سعيد في قوله (معيشة ضنكاً) قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه، وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، ويحتمل أن يكون المراد أنه يُبعث أو يُحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة» (2) .
- خطورة الظاهرة دعوياً:
فالخطورة تأتي من أن هذا التآكل يهدد الأساس الذي يُخرِج ناشئة الليل؛ وهم الربانيون ويعطّل حركة انبعاث أو عملية إيجاد هؤلاء الربانيين الذين سيحملون القول الثقيل؛ وهي الأمانة التي كان من قدر الإنسان أن يحملها؛ وهو المنهج الرباني، أو هو القرآن الكريم الذي أنزله ـ سبحانه ـ ليس إلى البشرية فقط؛ بل إلى الوجود كله، وتدبَّر مغزى هذه التوجيهات الكريمة المبكرة في عمر الدعوة والداعية: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 1 ـ 6] .
فكيف سيتخرج هذا الرباني المنشود دون قيام ليل، ودون ترتيل للقرآن الكريم وتدبُّر له؟!
وكيف سيحمل المنهج الرباني دون المرور على محطة السَّحَر التي هي أفضل الأوقات واللحظات؛ ليتوافق السمع مع البصر مع اللسان مع الفؤاد ـ أي كل كيانه ـ لفقه الرسالة وفهم المنهج؟!
وكيف يسير وحده على طريق مبارك يلزمه مشاركة الوجود معه دون التوافق مع سننه ـ سبحانه ـ الإلهية؟!
وكيف سيتوافق مع هذه السنن الإلهية، ويستشعر مشاركة الوجود معه في عبادته من قيام واستغفار بالسحر وترتيل للقرآن الكريم؛ إلا في تلك اللحظات الخاصة؟!
وكما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم - أن هذه اللحظات، يحتكرها فقط عباد الرحمن.
- هل ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية؟
وعندما نقول إنها سنة إلهية فإننا نقصد أن هذه الظاهرة هي محصلة لفعل قوانين ربانية، وقواعد إلهية ثابتة، أو هي نتيجة لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية انطبقت عليها القوانين الإلهية فكان الجزاء في صورة تلك الظاهرة.
ونذكِّر أن السنن الإلهية؛ هي:
1 ـ سنن إلهية كونية تنظم عالم المادة في الآفاق.
2 ـ سنن إلهية اجتماعية تنظم عالم الأحياء أو الأنفس.
وهذه السنن الإلهية تتميز بسمات ثلاث هي: العموم، والثبات، والاطراد ـ أي التكرار ـ إن وجدت الظروف البشرية والمكانية والزمانية.
إذن هذا الجفاء الروحي نتيجة لخلل ترتب على وجود أسباب بشرية من فعل العبد.
وعندما نقول إن ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية اجتماعية نقصد أنها من القوانين الربانية والقواعد الإلهية المنظمة لعالم الأحياء، أو الأنفس، وخاصة البشر.
أي أن لها أسباباً أوجدتها، وهذه الأسباب أوجدت خللاً، وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي أو الجزاء، وهذا العقاب تحكمه قوانينُ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية. والأسباب أو الظروف البشرية هنا هي التقصير بكل درجاته، والنتيجة المترتبة هي حالة القسوة القلبية والانفصال عن المنظومة الكونية العابدة، والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية هي كالتالي:
(أسباب تعود إلى العبد ـ خلل تربوي ـ عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل) .
وبمعنى أبسط: هذه الظاهرة، أو هذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله ـ عز وجل ـ للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
أي إذا قصر العبد في طاعته ـ سبحانه ـ فإنه يترتب على ذلك خلل داخل العبد مع نفسه، وخارجه؛ أي مع المجتمع ومع الوجود العابد لربه، وهنا تأتي السنَّة الإلهية في هيئة عقاب من نفس نوع الأسباب التي عملها العبد؛ أي يزيده بُعداً وجفاء مع نفسه ومع الوجود من حوله.
وتدبَّر هذا الحوار بين العبد وربه؛ فلقد تساءل العبد: ما جرمه؟ وما سبب هذا العقاب؟ وكانت الإجابة منه ـ عز وجل ـ؛ حيث يبين الحق ـ سبحانه ـ هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على كل من أسرف في الذنوب، وقصَّر في الطاعة.
«ولهذا يقول: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه: 125] ؛ أي في الدنيا. قال: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126] ؛ أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] فإن الجزاء من جنس العمل» (1) .
ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ هذا القانون القرآني العام الآخر، أو السنة الإلهية الاجتماعية الأخرى؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في غيه وكذب بآياته سبحانه:
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] .
(يقول ـ تعالى ـ وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والأخرة لهم عذاب في الحياة الدنيا، «ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واقٍ» ، ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ... » (2) .
- ما أعراض هذه الظاهرة؟
لهذه الظاهرة الكثير من الأعراض العامة والخاصة.
أولاً: الأعراض العامة:
وهي الآثار العامة الكثيرة للذنوب؛ أي العقوبات التي نغفل عنها ولا ندري ما سببها، والتي منها: «حرمان العلم والفقه في الدين، ووحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله ـ سبحانه ـ، والوحشة بينه وبين الناس، واستشعار الظلمة بالقلب، وضعف البصيرة، وحرمان الطاعة، ووهن القلب والبدن، وقصر العمر ومَحْقُ البركة، والوقوع في سلسلة الذنوب، وزيادة إرادة المعصية، وهوان العبد على الله عز وجل، واستصغار الذنوب، وذهاب الحياء، والحرمان من دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم - والملائكة واستغفارهم للمؤمنين والمؤمنات، وعدم توقير القلب لله سبحانه، ونسيان الله ـ سبحانه ـ لعبده، وزوال النِّعم وحلول النِّقم) (3) .
ثانياً: الأعراض الخاصة:
وهي التي نقصد بها الأعراض التي تؤثر على الجانب الدعوي التربوي.
ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: استشعار الغربة الداخلية مع النفس؛ مثل:
1 ـ عدم الشعور بحلاوة العبادة، مثل: الفرائض، وقراءة القرآن الكريم، والذِّكر.
2 ـ تسرُّب اليأس إلى النفس.
3 ـ فقدان الأمل بموعوده ـ سبحانه ـ وموعود نبيه -صلى الله عليه وسلم -.
4 ـ عدم الشعور بلذَّة البذل الدعوي، وكأنه عمل روتيني وظيفي.
5 ـ عدم الإقبال على حضور اللقاءات التربوية ومجالس العلم والذِّكر.
6 ـ التقصير في عمل اليوم والليلة؛ من صلاة وذكر وقراءة القرآن الكريم.
7 ـ عدم الشعور باللَّهفة للقاء أولياء الله من الدعاة والصالحين المتحابين في الله.
8 ـ الشعور بالكآبة والحزن والاكتئاب، واستفحال هموم الدنيا والرزق.
9 ـ الفتور العبادي.
الثاني: استشعار الغربة الخارجية؛ وهذا على أنواع ومراتب:
(أ) الشعور بالغربة مع المؤسسة التربوية؛ مثل:
1 ـ عدم الهمَّة في إنجاز التكاليف.
2 ـ التقصير في الواجبات.
3 ـ المطالبة بالحقوق.
4 ـ كثرة النقد.
5 ـ استشعار الجفوة بينه وبين أعضاء المؤسسة، وضعف رابطة الأخوة والمحبة.
6 ـ الفتور الدعوي.
(ب) الشعور بالغربة مع المجتمع؛ مثل: ضعف الشعور بمفهوم الخروج إلى الناس، ومقتضياته؛ مثل:
1 ـ التقصير في الواجب الدعوي، والمهمة الرئيسة للمسلم مع مجتمعه من أمر بمعروف ونهي عن منكر.
2 ـ التقصير في فعل الخير.
3 ـ ضعف الشعور بحب الناس والقرب منهم.
4 ـ الفتور الانعزالي، وبغض مخالطة الناس.
(ج) الشعور بالغربة مع الوجود الكبير؛ مثل:
1 ـ الشعور بعدم الأُنس بالوجود الكبير؛ مثلما حدث مع كعب رضي الله عنه.
2 ـ عدم التفاعل مع الخلائق والاندماج في المنظومة العابدة، وغياب الشعور بلذَّة العبودية الجماعية الشاملة.
وتدبَّر هذا الأُنس المؤمن، والتفاعل بين الخالق ونعمه، ومع الخلائق وامتنانهم بنِعَم خالقهم، وتأمَّل هذا الربط الطيب بين ذكر الرحمن، وبين ذكر نعمة تعليم القرآن الكريم وتفهيمه، ونِعَمة خلق الإنسان، ونعمة تعليمه النطق والبيان، وبين حركة الشمس والقمر المقدرة بإتقان وحساب دقيق، وسجود النجم؛ وهو النبات الذي ليس له ساق، فيمتد على الأرض ساجداً عابداً لربه العظيم، وكذلك سجود الشجر؛ أي النبات الذي له ساق، فيرتفع سامياً شامخاً بعبوديته، ونعمة رفع السماء بلا عمد، ووضع الموازين والمقاييس السماوية الربانية للوجود، والسنن الإلهية، ثم الأمر بالطاعة لهذه الموازين والسنن بالقسط والعدل، ثم ربط هذا كله بنعمة عظيمة مغفول عنها؛ ألا وهي نعمة تمهيد الأرض للخلائق للعيش بسلام.
كل ذلك في منظومة عابدة ساجدة لا يشذُّ عنها إلا هالك، ولا يغفل عنها إلا جاحد، ولا ينكرها إلا ضالّ.
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}
[الرحمن: 1 - 10] .
- ما سُبُل علاجها؟
وسُبُل العلاج منها العام ومنها الخاص.
أولاً: السبل العامة:
وهي طرق العلاج العامة المشروعة لأسباب التقصير في طاعته ـ سبحانه ـ، الباعثة إلى الخلل في مسيرة العبد، مما يترتب عليه جزاء من جنس العمل ألا وهو حالة الجفاء القلبي؛ أو ما يُعرف بظاهرة التآكل الروحي.
ونقول إنها عامة، للحالات العامة؛ أي تفيد أي عبد قاسى من هذه الظاهرة.
ومن هذه السُّبل:
1 ـ الذِّكر.
2 ـ تلاوة القرآن الكريم.
3 ـ الصلاة.
4 ـ صحبة الصالحين.
5 ـ الاستغفار.
6 ـ الدعاء.
7 ـ قراءة التاريخ.
8 ـ التفكُّر في خلق السماوات والأرض.
9 ـ زيارة القبور.
ثانياً: السُّبل الخاصة:
وهي السُّبل الخاصة المشروعة، للحالات الخاصة؛ والمفيدة لأسباب خاصة من التقصير في طاعته ـ سبحانه ـ.
حيث يستشعر العبد أنه يمتلك قوة معينة تنطلق من أدائه لعبادة معينة.
فإذا فتَّش في ذاته وتلمَّس سبباً معيناً من أسباب التقصير، وجد على الفور قوة ربانية معينة، تنطلق من طاعة معينة؛ فتعينه على معالجة هذا السبب الخاص.
فيظل يعالج سبباً سبباً، حتى يبرأ من كل أسباب التقصير، فينمحي الخلل، فيجازيه الحق ـ سبحانه ـ جزاءً من جنس عمله.
أي يبدأ في طاعة معينة تعالج سبباً معيناً اكتشفه في نفسه، ويجتهد فيها ويداوم عليها فترة، بينه وبين ربه الودود الكريم، فينمحي الخلل النفسي الداخلي، فيستشعر أنه بدأ المسير المبارك؛ فيجازيه الحق الحنان المنان الرحيم ـ سبحانه ـ بأن يهديه إلى طاعة أخرى وييسّرها له؛ فالطاعة عنده ـ سبحانه ـ تؤدي إلى طاعة، فيسمو روحياً، ويظل يترقى ما دام سائراً على طريقه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] .
وتدبَّر هذا الحديث، وتأمَّله وكأنك تقرؤه لأول مرة:
عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر يحيى بن زكريا ـ عليهما الصلاة والسلام ـ بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى ـ عليه السلام ـ: إن الله ـ تعالى ـ أمرك بخمس كلمات لتعمل بها؛ وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسَف بي وأُعذَّب. فجمع يحيى الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعد على الشرف، فقال: إن الله ـ تبارك وتعالى ـ أمرني بخمس كلمات أن أعملهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولُهنّ أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن من أشرك بالله كمثل رجلٍ اشترى عبداً من خالص ماله بذهبٍ ووَرِقٍ (*) ، فقال: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأدِّ إليَّ؛ فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده؛ فأيُّكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟
وإن الله أمركم بالصلاة؛ فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يكن يلتفت، وأمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجلٍ في عصابة معه صرّة فيها مِسك، كلهم يعجب، أو يعجبه ريحه، وإن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك. وأمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك مثل رجلٍ أسره العدو، فأوثقوا يديه إلى عنقه، وقدّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم. وأمركم أن تذكروا الله ـ تعالى ـ فإن مثل ذلك كمثل رجلٍ خرج العدو في أثره سراعاً؛ حتى إذا أتى على حصنٍ حصينٍ، فأحرز ـ أي حمى ـ نفسه منهم؛ كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: وأنا آمركم بخمسٍ، اللهُ أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإنه من فارق الجماعة قيدَ شبر فقد خلع ربقة الإسلام ـ أي عروة من الحبل تُشدّ إليه ـ من عنقه إلا أن يراجع، ومن ادّعى دعوى الجاهلية؛ فإنه جُثى ـ بضم الجيم وكسرها ـ جهنم. فقال رجل: يا رسول الله! وإن صلى وإن صام؟ قال: وإن صلى وصام ـ في المسند أضاف: وزعم أنه مسلم ـ فادعوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله» (1) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «في هذا الحديث العظيم الشأن ـ الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقُّله ـ ما يُنجي من الشيطان، وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه. فالمقصود أن الله عز وجل، قد أمدَّ العبد بالجنود والعدد والأمداد، وبيّن له ما يحرز به نفسه من عدوه، وبماذا يفتكُّ نفسه إذا أُسِرَ» (2) .
ونحن في هذا المقام سنحاول التركيز فقط على جانب الاهتمام بالدعاء والاستغفار؛ لما لهما من آثار وقوة تعين العبد في سيره المبارك، وكبابين عظيمين من أبواب التربية الروحية.
القوة الدعائية: وهي من القوى المطلوبة لعلاج هذه الظاهرة؛ ونعني بها تنمية فن استمطار التوفيق الإلهي، وذلك بالدعاء الخاشع، والثقة فيما عنده ـ سبحانه ـ، وحسن الظن به ـ سبحانه ـ.
وإذا كان للدعاء أهمية كباب عظيم من أبواب التربية الروحية عند الفرد المسلم، فهو في حق الداعية أوجب وأهم.
وذلك لأن الداعية في طريقه يحتاج إلى ركائز ثلاث؛ هي:
1 ـ الفكرة الربانية: أي القاعدة التي توجه كل سكناته وحركته، فيكون سلوكه في الحياة ترجمة لها.
فما من فرد أو جماعة أو مؤسسة أو أمم؛ إلا وتحركهم فكرة معينة دفينة أو ظاهرة.
2 ـ العمل الدؤوب: أي سلوكه في خدمة هذه الفكرة، وهو الجهد البشري المطلوب لأي عمل {إيَّاكَ نَعْبُدُ} .
فما من فرد أو مؤسسة أو أمة أو أمم؛ إلا وسلوكهم، ما هو إلا ترجمة للفكرة التي يحملونها.
3 ـ والدعاء الخاشع: وهو طلب التوفيق الإلهي {وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
فما من عمل موفق إلا ويقوم على دعامتين؛ جهد بشري، وتوفيق إلهي.
وللقوة الدعائية دورها التربوي الروحي، وأسرارها الطيبة البعيدة؛ والتي منها:
(أ) تدبُّر أمره ـ سبحانه ـ بالدعاء، ثم تحذيره للذين يستكبرون عن التوجه لله بأن يتوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .
فهي دعوة للتمسك بسلاح الدعاء كجانب عبادي، والعبادة من أهم وسائل التربية الروحية.
(ب) تدبُّر بعض ما ورد في فضل الدعاء وأسراره، وكيف أن بعض الدعوات المخلصة قد استحالت إلى قوى مادية حركت الصخرة التي عجز ثلاثة من الرجال أن يحركوها عن باب الغار! وذلك في قصة (الثلاثة والصخرة) التي رواها الحبيب -صلى الله عليه وسلم - (3) .
وهذه أسرار مباركة للدعاء، لا يشعر بها إلا من مرَّ بتجربة خاصة، يستشعر فيها كيف أن الحق ـ سبحانه ـ يمنُّ على عباده المتقربين إليه، المتذللين إليه بأنواع العبادة المختلفة، فيجدونها وقد استحالت من مجرد قوى معنوية، إلى قوى مادية ربانية ذات آثار ملموسة ومعلومة، وبذلك يُفتح للعبد أبواب متعددة من أبواب التربية الروحية.
«وهذه (القوة الدعائية) ـ التي كان لها الأثر المادي العظيم، كما ورد في قصة (الثلاثة والصخرة) ـ لا يدرك سرَّها إلا من عايش جوَّ هذه الآية: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} ، فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء؛ ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، ويتهاوى الأسناد، وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجرداً من وسائل النصرة وأسباب الخلاص، لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده، في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان نسيه من قبل في ساعات الرخاء؛ فهو وحده دون سواه، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فيجيبه ويكشف عنه السوء، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق» (1) .
(ج) تدبُّر ما ورد في دعاء الخليل ـ عليه السلام ـ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] .
وكيف طلب منه ـ سبحانه ـ أن يربط بين مشروعه الحضاري العظيم ـ وهو مشروع الحج ـ وبين أفئدة البشر، كعلاقة وجدانية قلبية، وعامل خفي يخاطب القلوب ويجذبها، كما جذبت فكرة هذا العمل العظيم عقول البشر.
وهذا يبين الفرق بين المشروع الحضاري الذي يقوم على فكرة ربانية، والمشاريع الأخرى القائمة على أفكارٍ مغايرة.
فالمشروع الحضاري الإسلامي يخاطب الفطرة البشرية، ويحىط الإنسان من كل جوانبه؛ على أساس التوازن بين الجانب العقلي والجانب البدني، والجانب الروحي، فهو يخاطب العقل بالفكر، ويخاطب الجسد بتحرِّي أكل الحلال، والاهتمام به كأمانة، ثم يخاطب الروح فترتبط القلوب والمشاعر بهذه العلاقة الوجدانية الروحية.
ولقد كانت وصايا الحبيب -صلى الله عليه وسلم - بالدعاء تفوق الحصر، منها: «الدعاء هو العبادة» (2) .
وكذلك كانت وصايا مصابيح أمتنا، ومنها: هذا النكير الذي أرسله الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ على من يهزؤون بالدعاء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد، وللأمد انقضاءُ
فيرسلها إذا ما شاء ربي ويمسكها إذا حُمَّ القضاءُ
وحتى تؤتي هذه (القوة الدعائية) أُكلها، كان على المسلم أن يلتزم بالآداب العشر لسلاح الدعاء:
(الأول: أن يترصد الأوقات الشريفة؛ كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السَّحَر.
الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة؛ كحال الزحف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وحالة السجود.
الثالث: أن يدعو مستقبلَ القبلة، ويرفع يديه.
الرابع: أن يخفض الصوت بين المخافتة والجهر.
الخامس: أن لا يتكلف السجع في الدعاء، والأوْلى الاهتمام بالدعوات المأثورة.
السادس: أن يتضرع ويخشع رغبة ورهبة.
السابع: أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه.
الثامن: أن يلحَّ في الدعاء، ويكرره ثلاثاً، ولا يستبطئ الإجابة.
التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله، وأن يصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم - ويختتم بها.
العاشر: وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة، أن يسبق الدعاءَ التوبةُ وردُّ المظالم) (3) .
القوة الاستغفارية: التي يستشعرها كل من استجاب لنداء التوبة، فأكثرَ من الاستغفار، فيجد أن لديه قوى خفية لم يعهدها من قبل، ويستشعر أن هنالك فيوضات وبركات تزيده يقيناً بموعوده ـ سبحانه ـ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] ، وننظر في هذا الوعد، وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة، وهي أمور تجري فيها سنةَّ الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال؛ فما علاقة الاستغفار بها؟ وما علاقة التوبة؟ فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور، بل واقع مشهود، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوةً، يزيدانهم صحة في الجسم: بالاعتدال، والاقتصار على الطيبات من الرزق، وراحة الضمير، وهدوء الأعصاب، والاطمئنان إلى الله، والثقة برحمته في كل آنٍ، ويزيدانهم صحة في المجتمع؛ بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحراراً كراماً، كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض) (4) .
وهكذا ...
ومن خلال تدبُّر القوى الخفية للعبادات والأسرار الدفينة للطاعات، يستطيع المسلم أن يتلمَّس باقي القوى العبادية الأخرى، والتي تناسب حالته الخاصة وظروفه الخاصة.
ثم ...
ومن خلال هذه اللمحات التربوية، في هذه المحاولة المتواضعة، نرجو أن نكون قد وفقنا بعونه ـ تعالى ـ في تحليل هذه السنة الإلهية الاجتماعية، التي تفسر (ظاهرة التآكل الروحي) عند المسلمين عامة، وعند الدعاة خاصة.
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
(1) جزء من حديث كعب الطويل في ذكر تخلفه عن غزوة تبوك، أخرجه البخاري، كتاب المغازي، رقم 4066، ومسلم كتاب التوبة، رقم 4973.
(2، 3) المرجع السابق.
(1) متفق عليه.
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة طه آية 124، بتصرف.
(1) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة طه الآيتان 125 ـ 126.
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة طه الآية 127.
(1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: الإمام ابن القيم رحمه الله، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الثالثة 1400هـ، 60 إلى 125، بتصرف شديد.
(*) الورِق: الفضة.
(1) أخرجه أحمد في مسنده 4/202، والترمذي من حديث الحارث الأشعري، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: الإمام ابن القيم رحمه الله، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1400هـ، 31 و 32، بتصرف. (3) متفق عليه.
(1) في ظلال القرآن: سيد قطب 20/2658.
(2) أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي.
(3) تهذيب موعظة المؤمنين: القاسمي 70 ـ 72، بتصرف.
(4) في ظلال القرآن: سيد قطب 12/1897.(217/7)
حول الفساد الإعلامي في شهر رمضان
إعداد: خباب بن مروان الحمد
لأهميَّة هذا الشهر وما يبذله بعض الإعلاميين من جهود كبرى للتضليل والصدِّ عن ذكر الله، ناسب بيان موقف أحد الإعلاميين المتخصِّصين، والذين يجمعون بين التخصص الإعلامي والثقافة الإسلامية، فكانت إجابة الأستاذ الدكتور: محمد بن سعود البشر، التي نأمل أن تعكس الواقع، ونرجو من الله أن يهدي من ساهموا في ترويج الفساد، في شهر البر والإحسان، وأن يردَّهم إلى الحقّ ردّاً جميلاً.
الدكتور: محمد بن سعود البشر ـ أستاذ الإعلام السياسي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية:
الإعلام العربي في رمضان: فُحش المشهد وبذاءة العرض:
شهر رمضان لكثير من المؤسسات الإعلامية في الوطن العربي، وبخاصة القنوات التلفزيونية، موسم للتنافس في جذب الجماهير وإشباع حاجاتهم، مثله مثل موسم جني الأرباح للمضاربين في السوق المالية.
المضاربون في الأسهم يتحيَّنون أوقات الهبوط المالي للشركات، حتَّى إذا ارتفع المؤشِّر أقبلوا زرافاتٍ ووحداناً على البيع؛ فمنهم المقلُّ، ومنهم المستكثر.
رمضان موسم لجني الأرباح المتمثِّل في تقديم كلِّ ما سبق إعداده والتخطيط له لجذب أكبر شريحة من الجماهير، وإذا أقبل الجمهور على الوسيلة الإعلامية، أقبل معه المُعلن، طوعاً أو كرهاً، للتعريف بسلعته، أو الترويج لها، أو ـ في أقلِّ الأحوال ـ تسجيل الحضور الاجتماعي في ذاكرة المشاهد.
وتزايد الإعلان في هذه الوسيلة أو تلك يعني زيادة في إيرادات الوسيلة، وارتفاع المؤشر المالي لوضعها الاقتصادي.
كلُّ ذلك عمل احترافي ومهني مشروع إذا كان ما يقدمه للناس مباحاً، في أقلِّ أحواله.
هذه المقدمة تقودنا إلى التساؤل الفصل:
هل كل ما يقدمه الإعلام العربي في رمضان يرقى إلى مرتبة (المباح) ؟
الإجابة تحتاج إلى دراسة شاملة موثَّقة بالحقائق والأرقام والإحصائيات، وتتطلب جهداً مضنياً، إن لم يكن مستحيلاً؛ إذ يتعذَّر دراسة كل وسائل الإعلام العربية في بحث علمي يقود إلى نتائج صحيحة ودقيقة.
لكن (الملاحظة) منهج علمي يقود إلى وصف الظاهرة بطريقة تحقق درجات عليا من الصواب.
فعمّا تنبئ الملاحظة؟
مجمل الاستقراء التتبعي لما يقدم لجماهير المشاهدين المسلمين، في شهر العبادة، لكثير من وسائل الإعلام العربية، ونخص بالذكر القنوات الفضائية: «صدود عن ذكر الله والصلاة» :
1 ـ موسيقى تختلط بمكبِّرات الصوت في المساجد الذي يُرفع فيها الأذان، والحديث، وصلاة الفريضة والتراويح.
2 ـ مسلسلات يُخدَش فيها الإيمان والحياء.
3 ـ برامج منتظمة يتلبَّس فيها (الفنِّي) بـ (الشرعي) ، يُلمز فيها أهل التقى والصلاح، ويُتطاول فيها على السنَّة، ويتقمَّص فيها أهل الفجور شخصيات من التاريخ الإسلامي، ورموز أئمة العلم في الأمَّة.
4 ـ توظيف باطل للقضايا التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية بدعوى الإسهام في معالجتها ـ كقضية الإرهاب في هذا العام والذي سبقه ـ ففيها تشويه لحقائق الدين، وتعزيز للصورة المشوَّهة التي روَّج لها الغرب عن أهل الصلاح والالتزام في المجتمع.
5 ـ مشاهد تلفزيونية، تزني بها العين، وتنقدح في عقول الناشئة ـ على وجه الخصوص ـ بطريقة تبالغ في فحش المشهد وبذاءة العرض.
هذه بعض ملامح إعلامنا العربي في رمضان، مضامينه تنقص الإيمان، وترفع مكاييل الإثم، وموازين الخطيئة.
سئل بعض الصالحين عن قوم يتعبَّدون الله في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضان تركوا، فقال: (بئس القوم لا يعرفون الله إلاَّ في رمضان) !!
فكيف بمن يجتهد في رمضان للصدِّ عن الذكر والعبادة؟
هذا هو حال جلِّ إعلامنا في رمضان.(217/8)
الحوار الإسلامي بين الدواعي والمعوقات (2 ـ 2)
إعداد: محمد بن شاكر الشريف ـ خباب بن مروان الحمد
في العدد الماضي طاف بنا المحاورون على رؤى مختلفة أو متفقة أو متفردة أحياناً فيما يخص الحوار الإسلامي الذي لم يُعطَ من الأهمية ما يستحق بل ما يجب، وقد كانت المحاور تدور في مسائل هامة هي:
جدوى البحث عن التقارب وأهمية التقارب الفكري والمنهجي ودور الحوار في تفعيل ذلك، والقواسم المشتركة، وخطة العمل من أجل التقارب، وضوابط التقارب والتعاون، ومنهج السلف الصالح ودوره في الحوار والتقارب الفكري والمنهجي. وفي هذا العدد تتمة للمحاور التي جال فيها المحاورن الأفاضل. ـ البيان ـ
- معوقات التقارب والتعاون:
البيان: رغم ما تبين من الحديث عن التقارب بين العاملين للإسلام أفراداً وحركات وأهميته واقتناع الكثيرين بضرورة السعي لتحقيقه وبذل الجهد في سبيل ذلك وعدم اليأس والصبر على صعوبة الطريق، إضافة إلى الحماس الذي يبديه الكثيرون لهذه المسألة؛ إلا أن الرياح لا تجري دائماً بما تشتهي السفن؛ فهناك الكثير من المعوقات التي تقف في سبيل تحقيق دعوة التقارب وهي في حاجة إلى إماطة اللثام عنها مع اقتراح آليات للتغلب عليها أو الحد من تأثيرها.
- المشاركون:
يرى الدكتور كسال عبد السلام أن المعوقات التي تعترض عملية التقارب تصنف إلى معوقات فكرية ونفسية وبيئية. أما المعوقات الفكرية فهي تختص بطريقة التلقي والتعلُّم من خلال المدارس أكثر من اختصاصها بالفوارق في القدرات الفكرية، تلك المدارس التي توجه إلى التعصب نحو فكر، أو قراءة تلغي غيرها، وكذلك التعلم الذاتي بغياب المعلم الذي قد ينتج عنه توجه يكون إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب؛ ولذلك فإن مراجعة سياسة التعليم والتلقين تظل مسألة أساسية وخطوة لا بد منها في طريق التقريب والوحدة. وأما المعوقات النفسية فإنها تعود إلى الأنانية الفردية والجماعية وحب السيادة والسلطة والزعامة والغرور، وهذه يمكن معالجتها عن طريق تبديل الأجواء النفسية والاحتكاك والتحرك والانتقال لاستيعاب الجديد والخروج من الفضاءات الاجتماعية والتعليمية الضيقة إلى فضاءات أوسع. وأما المعوقات البيئية فكالاختلافات الجغرافية والاختلافات التنظيمية، والاختلافات الذاتية كاختلاف القدرة والاستطاعة البدنية والفكرية والتي لا يمكن أن يوجد في ظلها اتفاق في مسار تختلف فيه الهموم والقضايا، وهذه يمكن معالجتها باعتماد أكبر قدر من الاستثناءات والاقتصار في مجال توحيد القراءة على الأساسي من الثوابت في أمور العقيدة والدين والحياة.
ويرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن من أهم العوائق الاختلافات الفكرية التي لا تعالج إلا بالعلم أولاً، ثم بالتجربة ثانياً، ثم بإرادة الحوار والاطلاع على تجارب الآخرين. ومن العوائق الأساسية اتباع الهوى وإرادة المحافظة على المصالح كالزعامة والمنافع المادية والمعنوية الفردية والجماعية.
ومن العوائق أيضاً قلة المهارة في إنجاز المشاريع المشتركة، ويرى الأستاذ خالد حسن أن التقارب ما عاد همّاً يشغل حيزاً كبيراً في العقول ولا في الخطاب ولا في الحراك، وصار الكل يتطلع إلى الهيمنة وتوسيع الرقعة وفرض الوصاية مما شكل عائقاً في حصول التقارب.
ويعدد الدكتور عمر الأشقر المعوقات فيذكر منها تعميق الخلاف وتأصيله بهدف أن تتميز جماعته ويكون فيها رئيساً أو قائداً، وطبع أتباع هذه الجماعات أنفسهم بطابع الأفضلية التي تؤول بهم إلى العصبية حتى لا يروا على الحق غيرهم، ثم الفهوم القاصرة والتصورات الخاطئة التي قرت في العقول وظن أصحابها أنها من الحق الأصيل، وتصور بعض المسلمين أن هذه الجماعات العاملة للإسلام فرق مبتدعة مثلها مثل الخوارج والشيعة.
ولا يخرج الدكتور محمد العبدة فيما ذكره عما تقدم إيراده من المعوقات الداخلية. وكذلك الدكتور منير محمد الغضبان.
ويوسع الدكتور عثمان جمعة ضميرية مجال العوائق؛ فلم تعد عنده هي العوائق الداخلية فقط، بل انضم إليها عوائق من خارج الحدود؛ ففي المجال الداخلي يرصد العجلة وعدم التأني والصبر، وكذلك حظوظ النفس والتأثر بالهوى والريبة والشك في الآخرين، وأما الخارجية فيرصد منها الكيد الذي يُبذل لتكريس فرقة المسلمين، وبذر بذور الفتنة وزرعها، والعمل على تمزيق وحدة الأمة ووحدة العاملين. وللتغلب على ذلك يدعو إلى بذل جهد أكبر بعد الاعتماد على الله ـ تعالى ـ وصدق النية وسلامة الطريق والوعي الكامل بما يجري.
ويتخذ الشيخ أحمد فريد المنحى نفسه؛ حيث يرى أن المعوقات بعضها من داخل الصف المسلم وبعضها يأتي من خارج الصف المسلم، ويرصد في المعوقات الداخلية اعتناء بعض الحركات ببعض الشرائع في مقابل إهمال أو نسيان شرائع أخرى مما يهيج العداوة والبغضاء بينهم لاعتقاد كل حركة بتقصير الحركة الأخرى وهو مصداق لقوله ـ تعالى ـ: {فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] ، ويمكن معالجة هذا عن طريق إعادة الصياغة واهتمام كل الجماعات بالإسلام كله. وكذلك اغترار بعض الجماعات بعددها وقوتها، وأيضاً حب الظهور، واحتكار بعض الجماعات لاسم السلفية ونظرتهم إلى بقية الجماعات على أنهم فرق نارية. وأما المعوقات الخارجية فتربُّص العلمانيين والمنافقين بالجماعات الإسلامية والتشهير بهم وإغراء الحكومات وتهييج الأنظمة عليهم.
ويبين الشيخ كمال الخطيب أن ضغوطات الأنظمة الحاكمة والجهات الرسمية تجعل عدداً من المدارس والحركات الإسلامية تفضل العمل المستقل بديلاً عن التقارب مع بقية الفصائل، بل إنها تسعى لدفع هذه التهمة عن نفسها. ثم إن هناك من الجماعات من يخشى من خطر الاحتواء من الآخرين أو التأثر بهم، فيفضل الاستقلال على التقارب والالتقاء مع الآخرين، وهذا كله من المعوقات التي تقف حجر عثرة في طريق التقارب.
وللدكتور خالد الخالدي إسهام مطول في ذلك، فيذكر من المعوقات الداخلية التنافس وحب الظهور، قلة الوعي عند الكثيرين من أبناء الحركات الإسلامية، الخلافات الشخصية بين قادة الجماعات الإسلامية، تركيز بعض الجماعات على جوانب وإهمالها لجوانب أخرى، قلة الاهتمام بالجوانب السياسية المتعلقة بهموم المسلمين. وأما المعوقات الخارجية فيذكر منها خوف بعض الجماعات من اتهامها بالإرهاب أدى إلى ابتعادها عن قضايا الأمة الجوهرية، تلقي بعض الجماعات الدعم المادي من دول وحكومات يهمها إبعاد هذه الجماعات المرتبطة بها عن العمل السياسي والجهادي، قيام العدو بزرع العملاء بين الجماعات الإسلامية، ثم يعقب على ذلك بالخطوات المقترحة لمواجهة تلك العقبات، فيذكر منها: توحيد الخطاب الإعلامي الذي يستهدف أبناء الجماعات الإسلامية، التحذير المستمر من عواقب التباعد وأثر ذلك على ضعف الأمة، إبراز أسباب الهجمة على المسلمين وأن ذلك بسبب تمسكهم بعقيدتهم وإقامة حكم الله في الأرض، نشر وترويج المبادئ والمقالات والكتب والمحاضرات التي تدعو إلى التقارب وتحض عليه، توضيح مخاطر الحزبية وتربية الشباب المسلم على أن يكون ولاؤهم للإسلام قبل أن يكون للجماعة أو التنظيم، التذكير المستمر بخطورة وحرمة الغيبة، الاستشهاد بالتاريخ لبيان أن الوحدة كانت من عوامل الانتصار في المعارك الكبرى، التذكير بواقع الأمة السيئ وأنه نتاج التباعد والفرقة.
ولا يخرج كلام كل من الدكتور همام سعيد والشيخ تيسير عمران فيما ذكراه عما تقدم إيراده من المعوقات الداخلية والخارجية وكيفية معالجتها.
أما الأستاذ جمال سلطان فيضيف مسألة في غاية الأهمية والخطورة في المعوقات الخارجية؛ حيث يبين ما تقوم به القوى الدولية الكارهة للإسلام من محاولة صناعة فكر إسلامي أو منهج إسلامي مِستأنَس أو مدجَّن؛ بحيث ينفصل عن واقع الأمة وأصول الدين ويتماشى مع القوى الدولية التي تكيد للإسلام أهله.
ويضيف الشيخ حامد البتاوي إلى المعوقات الخارجية عدم سماح كثير من الأنظمة لأبناء الحركات الإسلامية بالالتقاء وتنظيم مؤتمراتهم من أجل التقارب.
- تنوع البيئات وتعدد الثقافات والخصوصيات المحلية، وأثر ذلك على دعوة التقارب:
البيان: الحركة الإسلامية ليست محصورة في شارع أو حي أو مدينة أو دولة، بل تمتد على طول العالم الإسلامي وعرضه وهو ما يعني تباين البيئات واختلافها وتعدد الثقافات والخصوصيات، وهذه لها دور كبير في تربية الناس وتنشئتهم، وهو ما يلقي بظلاله وآثاره على دعوة التقارب، ويصبح من الأمور المهمة أن نعزل أو نقلل من أثر ذلك على خطة العمل للتقارب الفكري والمنهجي والحوار الإسلامي؛ فما رؤيتكم لهذه المسألة؟
- المشاركون:
يقر الشيخ عبد الله الغنيمان بأثر البيئة ويقول بإمكانية تقليل أثرها بأمرين: أحدهما: عقلي؛ وذلك ببيان أن ما يسعى إليه الإنسان للتخلص من البؤس والفقر والضيق والشدة كما أن الظفر بهناء العيش وسعادة البال لا يوجد إلا في طاعة الله وطاعة رسوله. والأمر الثاني: شرعي، وهو طاعة أوامر الله ورسوله التي تدعو إلى الاعتصام بحبل الله ـ تعالى ـ وتنهى عن التفرق والاختلاف، كقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن تقليل أو عزل المؤثرات البيئية لا يتم عبر إهمال البيئة والثقافة، بل باعتبارهما؛ ولكن بترتيب القضايا وتثبيت الثابت منها. وأما ما اختصت به بيئة دون أخرى مع عدم مخالفته للثابت في شرع الله ـ تعالى ـ فلا مجال للخوض فيه، ولا مُشَاحَّة في قبوله، وأما ما لا يثبت فهو محل تصحيح، كما يمكن قبول الطرف الآخر بهيئته التي هو عليها شريطة ألا يضيِّق على الآخرين واسعاً.
ويذكر الدكتور عبد الرزاق مقري أن التطور الهائل في تدفق المعلومات والاتصال أوجد فرصة كبيرة وسهولة في التواصل مما يقلل من تأثير البيئة والثقافة المحلية.
ويوافق الدكتور عثمان جمعة ضميرية على أثر البيئة والثقافة المحلية؛ ولعزل تأثيرها على التقارب أو تقليله يذكر أنه لا بد من صبر ومصابرة ومتابعة وتجرد، وكذلك معرفة طبائع من نحاورهم، ولا بد أن يشعر الجميع بصدق النية وحسن التوجه؛ فإن هذا من أسباب القناعة والتعاون والاتفاق.
ويرى الشيخ أحمد فريد أن تقليل تأثير البيئات والثقافات يكون بنشر الوعي والفكر السليم والاتفاق على أصول لا يتعداها الجميع في العمل بالكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة، وعدم إحداث ما يخالف ما كان عليه الصحابة.
ومع تفهم الدكتور محمد العبدة لأثر البيئة والثقافة لكنه ينبه إلى قضية خطيرة وهي الخوف من صبغ الإسلام بالصبغات المحلية، فيصبح لدينا إسلام مغربي وإسلام مشرقي وإسلام مصري وإسلام خليجي؛ والإسلام هو ما نزل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم -. فينبغي على الدعاة ألا يسمحوا للتقاليد والعادات أن تؤثر على صفاء العقيدة؛ وخصوصيات بعض البلدان لا تعني أن لا نتفاهم ونتفهم ما عند الآخرين.
ويوافق الشيخ تيسير عمران على أثر البيئة والثقافة الواضح على عقليات أبناء الحركة الإسلامية؛ لذلك يرى أن الحكمة تقتضي أن نحترم خصوصية كل بيئة قدر الإمكان ما لم تتعارض مع قطعيات الدين التي يتفق عليها الجميع، وينبغي في بداية الحوارات أن نُحَيِّد بعض القضايا ولو مؤقتاً إلى أن تصلب الأرضيات المشتركة.
ويرى الدكتور منير محمد الغضبان أننا في قضية أثر البيئة معذورون من جهة وملومون من جهة أخرى، أما العذر فلتراكم تباعد البيئات خلال القرون، ولزوال الخلافة الإسلامية، ولاحتلال الأقطار الإسلامية وما أوجد فيها من ثقافات تغريبية، وهذا يدفعنا إلى الاعتراف بخصوصية البيئات والثقافات المحلية، لكننا ملومون اليوم بعد تحوُّل العالم إلى قرية كونية تجعل عملية الخلافات هذه مذللة من خلال الاتصالات.
وينظر الأستاذ جمال سلطان إلى أن اختلاف البيئات يؤثر في أولويات العمل واختياراته؛ فبعض الأمور التي تكون ملحة في بلاد الخليج العربي قد لا تكون ملحة في تونس والجزائر وهكذا، لكنه يؤكد على قضية مهمة وهي أنه لا ينبغي أن نتعنت في البحث عن إذابة هذه الاختلافات في اعتبار الأولويات؛ لأنها فرز طبيعي لا بد من احترامه، والعمل وفق معطياته.
- ألفاظ جذابة فما حقيقتها وما دورها في الحوار والتقارب؟
البيان: في الأيام القريبة المنصرمة بدأ يكثر تداول بعض الألفاظ وما زال، فكثر الحديث عن الآخر وعن الاعتراف به وتجاوز أحادية الفكرة، والتسامح الفكري والثقافي، وضرورة الانفتاح على ثقافات وأفكار وقناعات الآخرين إلى نهاية تلك المنظومة؛ فهل تمثل هذه المنظومة عاملاً من عوامل التقارب، أم أنها تعد معوقاً من معوقات التقارب لكنها صيغت بلفظ جذاب؟ والشيء نفسه يقال عن لفظ التجديد الذي تحول إلى مصطلح يستبطن العديد من المصطلحات الأخرى كالعقلانية والتعددية والنسبية ذات المعاني والمضامين غير المحددة.
- المشاركون:
فيما يتعلق بالآخر:
يقول الدكتور عبد الرزاق مقري: لقد سلمنا في بداية هذا التحقيق بأن الاختلاف حتمية بشرية، فلنعش هذه الظاهرة في ظل تقوى الله، ونسيِّرها ضمن القواعد الشرعية التي تبدأ بالتسليم بأن المؤمنين مهما اختلفوا فهم إخوة في الله، ومهما اختلفوا فلا بد لهم أن يتعاونوا على البر والتقوى.
ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن معرفة الخصوم من خلال نوافذ غير التي كان العاملون يحصرون أنفسهم فيها جعل الكثيرين يعيدون النظر لتبني فكر متوازن لا يجعل الناس جميعاً في كفة واحدة.
ويكشف الدكتور عثمان جمعة ضميرية اللثام عن هذه الدعوات ويقول: إن التباس المفاهيم والمصطلحات أو وضعها في غير موضعها من أهم عوامل الافتراق، وبعض هذه المصطلحات يمكن حملها على محمل صحيح وفيها ما هو خاطئ وغير صحيح؛ فمثلاً يصبح التسامح سبباً للتفلت من الأحكام والتنازل عن الثوابت، والتسامح الفكري والثقافي دعوة للردة أحياناً وقبول الكفر والدعوة للانفتاح طريقاً لضياع الشخصية المستقلة. وعلى كل فلم يكن الهدف فيما يبدو من تلك المصطلحات هو الدعوة إلى اللقاء والتعاون وإنما الالتفاف على بعض المفاهيم والتشويش عليها باستغلال تلك المصطلحات.
ويتوجس الشيخ سليمان أبو نارو من هذه المصطلحات شراً فيقول: إن أصحاب هذه الشعارات والمصطلحات لا أعلم أنهم تجمعهم منظومة فكرية واحدة؛ فهم خليط من شتات الفكر والرأي، ولا يجمعهم إلاّ موقفهم من الإسلام على نهجه الذى جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم - ورضيه الله ديناً قيماً لهذه الأمَّة الإسلامية؛ فهم يبحثون عن كل وسيلة يفرِّغون بها هذا الدين من مضمونه، ويحرِّفون أحكامه وشرائعه بهذه الأساليب الماكرة بعد أن عجزوا عن مواجهته مباشرة؛ فهم كاسحات ألغام يمهدون الطريق لمن هو مُعَدٌّ لإتمام المهمة، ويعقب على ذلك بقوله: وبالقطع ليس لهؤلاء مدخل في تحقيق (التقارب الفكري وإثراء الحوار) إلاَّ إذا كان المقصود أنَّ الإحساس بخطر هذا الضجيج على هذه الأمة وعلى حفظ دينها، سيدفع العاملين المخلصين للإسلام إلى سرعة الاجتماع والتعاون في سبيل دفع هذه الشرور المعلنة والخفية وسد الطريق أمام كل هذه الشراذم وحيلها ذات الوجوه المتعددة، وهذا ما ينبغي حصوله إن شاء الله تعالى.
وينبه الدكتور سفر الحوالي في هذا الخصوص إلى قضية مهمة بقوله: من أهم ما يجب اجتنابه في القضايا العقدية والفكرية؛ المصطلحات المحدثة أو العامة، وأحسب أن مصطلح (الآخر) منها فهو عام مجمل، وينبغي أن نحدد فنقول مثلاً: العدو الكافر أو الخارجي، ونقول أهل البدع أو أهل القبلة المخالفون، ثم نقول: أخيراً: المخالفون في الاجتهاد والرأي، وهكذا. ونحن لا نستحدث شيئاً جديداً؛ فالأمة عرفت التفرق، وعرفت الغزو الخارجي بأنواعه والأصول في التعامل مع ذلك مضبوطة، نعم! نحن نحتاج إلى مزيد من الاجتهاد والوعي وهذا يقتضي التحديد والدقة وليس التعميم.
ويرى الشيخ عبد الله الغنيمان أن استعمال هذا اللفظ في وقتنا المعاصر إنما هو خدعة من أجل استخدامه بدلاً من لفظ اليهودي أو النصراني أو الكافر، ويبين أن هذه انهزامية، وأنه لا يستقيم إيمان عبد إلا بتكفير اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، ثم يعقب على ذلك بقوله: والمقصود أن إهدار عقيدة الولاء والبراء ومحاولة تجميع الناس على أساس ما يزعمونه من التعايش السلمي إنما هي محاولة لإخراج المسلمين عن دينهم.
ويعلق الشيخ أحمد فريد على ذلك بقوله: إن كلمات الاعتراف بالآخر وحق الآخر ينبغي أن تؤخذ بجانب الاعتبار في الحوار الإسلامي الإسلامي في السعي للتقارب، ولا ننصح بقبول كل هذه المصطلحات، ولكن نميز بين ما يُقبل منها وبين ما لا يقبل.
ويفرق الشيخ كمال الخطيب بين الآخر الإسلامي الذي يرفع لواء العمل للإسلام وخدمته؛ فهذا ينبغي السعي للتقارب والالتقاء معه حتى وإن وجدت اختلافات وتباينات معه في الفروع ما دامت الأصول متفقاً عليها، وبين الآخر المحارب للإسلام ودعاته وإن كان يحاول الظهور باسم الدين كالقاديانية مثلاً.
وعلى المنهج نفسه يفرق الدكتور همام سعيد بين (آخر) الإسلامي؛ فلا بد من إزالة الوحشة بينهم سعياً وراء التقارب. وأما الآخر المخالف في العقيدة. فهؤلاء أنواع؛ فمنهم الحربي الذي لا لقاء بيننا وبينه، ومنهم غير المحارب الذي يبقى في دائرة الدعوة والحوار لإقناعه بهذا الدين.
ويرى الدكتور محمد العبدة أن المسألة تعتمد على: مَنِ الآخر؟ هل هو في الكفار أم في المسلمين؟ فكل واحد من هؤلاء له حكم وطريقة وموقف في الحوار وغير الحوار.
ويرى الشيخ تيسير عمران أن المنظومة الفكرية التي تتحدث عن الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف يمكن أن تؤسس لحوار بين أصحاب الرؤى المختلفة، وتفسح المجال لإثراء موضوعات البحث، ويمكن أن تحقق شيئاً من التقارب الفكري والثقافي. ويستدرك الشيخ على هذا الإطلاق فيقول: لكنها في الوقت نفسه إن تركت دون ضوابط تجعل من ثوابت الأمة حاكماً عليها وموجباً لها؛ فإنها تقود إلى التشتت والانحراف.
ويقلق الأستاذ جمال سلطان من بعض المصطلحات التي لها رموز أو التي يصعب تحديد مدلولها كمصطلح الآخر والانفتاح على الآخر والحوار مع الآخر ويتساءل: من الآخر وما صفته؟ ثم يقول: عندما أتحدث عن الاتحاد الأوروبي فهذا يختلف عن الكيان الصهيوني؛ فهذا آخر وهذا آخر، ولكن منطق الحوار ومسوغاته ومشروعيته تختلف حتماً لاعتبارات كثيرة، ويعقب على ذلك بقوله: فأنا أتعامل بحساسية وحذر مع مصطلح الآخر؛ ولكن الحوار في حد ذاته مطلب نبيل.
وفيما يتعلق بالتجديد:
يتحدث الأستاذ خالد حسن عن الشروط الأساسية التي ينبغي توفرها في أي حركة تجديدية إصلاحية إسلامية حقيقية، فيذكر من ذلك: أن يتحقق الإنتاج الفكري التجديدي بصفات العمل الشرعي حتى لا يحرم من التوفيق الرباني، واستعمال العلم بحيث لا يحدث انقطاع عن العمل وتُتَجاهَل قيمته الفعلية في توجيه النظر والرأي، والتوسل في النظر بمفاهيم عملية شرعية من خلال التمكن من العلم الشرعي فهماً ودراية ومنهجية في التلقي والاستدلال.
ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن مصطلح التجديد من المصطلحات الخطيرة التي يجب التنبيه إليها؛ فمعانيه هلامية ولا يمكن الوقوف على حجم أو قياس أو معنى محدد له؛ حيث تظهر التصورات البدعية التي ترغب في التجرد من كل أساس يقوم عليه أمر الإسلام رغبة في إسلامٍ غير الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم -. إن أهم ما لدى المسلم عقيدته وإيمانه وهو مطالب منذ أيام الوحي بالتجديد فيه قراءة وتدبراً وهو من المسائل الثابتة، وقد كان التجديد للتقوية والتحلية؛ فكيف الأمر بما حُكْمُه حكم المتغير الذي وجب التجديد أن يكون تجديداً في ماهيته وليس في مواصفاته؟ هما في الخلاصة دعوتان صادقة وكاذبة، والواجب الالتزام بالأولى والإعراض عن الثانية.
ويقدم الدكتور عبد الرزاق مقري نظرة تحليلية متعمقة في هذه الظاهرة؛ حيث يقول: التجديد ظاهرة تفرضها الحتمية النصية والسيرورة التاريخية؛ فهذه الرسالة هي آخر الرسالات ولا بد أن تجيب عن احتياجات الناس في كل فترة من فترات التاريخ، وإذا اعتبرنا أن فترة التجديد السابقة التي كانت في بدايات القرن الماضي والتي كان الهدف الأساسي منها توعية المسلمين وإخراجهم من الذهول الحضاري الذي صاحب انهيار كيانهم السياسي واستعمار أوطانهم قد استنفدت أغراضها؛ فإننا في بداية قرن جديد والله ـ تعالى ـ يرسل لهذه الأمة من يجدد لها دينها كما جاء الوعد بذلك في الحديث الشريف، وقد بدأت صحوة إسلامية في العالم بأسره، وتحقق الشعور بالانتماء، وتأكدت إرادة التغيير، وبدأت الصحوة منذ سنوات تراوح مكانها من حيث الفكر والممارسة، ولم تستطع تحويل الطموحات إلى إنجازات عملية ثابتة ومستقرة، وهذا يحتاج إلى إضافات فكرية جديدة وممارسات شرعية في مختلف المجالات، وهذا هو مجال التجديد والاجتهاد. وما نراه من تجارب مثيرة للجدل في بعض الأحيان في المغرب والجزائر ومصر والسودان واليمن وتركيا وماليزيا وأندونيسيا هي بدايات التجديد، وسيثبت منها الأصلح ويجازي الله ـ تعالى ـ الجميع.
ويقول الدكتور عثمان جمعة ضميرية: الأصل أن عملية الإحياء والتجديد ترتكز على أصول شرعية ولها مفهومها وضوابطها وآثارها، وهي علامة على حيوية هذا الدين وأبنائه في العودة إلى أصوله وتنقيته مما علق به أثناء التطبيق العملي، وقد شاعت الدعوة إلى التجديد في هذه الأيام لكن بمفهوم يختلف عن أصل معناه، وعندئذ تنقلب الدعوة إلى وسيلة لتغيير الأصول والمناهج، وتصبح أداة لنبذ الأحكام أو تغييرها بحجة التجديد وما هو بتجديد؛ ولذا وجب التفريق بين هذين المنهجين، ويغدو التجديد في هذه الحالة عائقاً أمام التقارب الفكري والثقافي؛ إذ لا يلتقي المنهجان على أمور مشتركة أو ثوابت وضوابط متفق عليها بين الطرفين؛ وذلك بعكس التعامل مع مصطلح التجديد بضوابطه الشرعية؛ فإن ذلك يكون مدعاة للتعاون واللقاء.
وأما الشيخ سليمان أبو نارو فيتكلم عن أصحاب منهج التجديد المعاصر: كلام من خَبَر أصحابَه واكتوى بنارهم فيقول هذا المصطلح (التجديد) بمفهومه المعاصر هو من قبيل المنظومة سالفة الذكر (الآخر) ، والحديث عن التجديد تروِّج له المدرسة العصرانية والتي تربى رجالها في كنف رجال الاستشراق وأدعياء الحداثة والمعاصرة. وسعي هذه المدرسة بين الناس على هذا النمط يزيد من صعوبة التقارب والاجتماع، ويجعل الحوار (حوار طرشان) كما يقولون؛ حيث لا ثوابت ولا أرضية مشتركة، بل إلغاء للثوابت وتحريف للمفاهيم وتشكيك في المسلَّمات، وقد كان لتساهل بعض التيارات وتعاطف بعض عناصرها مع هذا (الطابور الخامس) لاعتبارات تقديرية أعظم أسباب القوة والقبول لدى بعض الطيبين من العامة بل والخاصة، وقد تحولت أطروحات هذه المدرسة إلى الجسر الذي يتحرك فوقه اليوم الأعداء من يساريين وعلمانيين، بل وجماعات تقارب الأديان وتعايشها؛ وينبغي اعتبار هذه المدرسة في قائمة أكثر قوة الهدم في ساحتنا الإسلامية.
ويبدو الأستاذ جمال سلطان حذراً من استعمال مصطلح التجديد، فيقول: يسري على مصطلح التجديد ما يسري على مصطلح الآخر؛ فهو مصطلح ليس له أصل علمي في تراثنا العربي الإسلامي (1) ، ومن ثم لم يخضع للضبط العلمي والمنهجي؛ بعكس مصطلح الاجتهاد، الذي صار له دلالة محددة وقواعد ومحددات شرعية وعلمية وموضوعية يمكن أن نتفهمها، أما مصطلح التجديد فعلى من يطلق لفظ المجدد؟ وما مواصفاته؟ وما التجديد؟ وهل هو وفق شرعية لا يخرج عنها؟ وكل هذه الأشياء تثير التساؤلات، ولذلك أنا دائماً حذر في بعض المصطلحات الجديدة؛ وأعتقد أنَّ الغموض فيها يتيح لكل سيئ نية أن يوظفها كيفما أراد دون أن يكون لها قيمة في حد ذاتها.
ويقول الدكتور محمد العبدة: قضية التجديد مطروحة في كل عصر فإنه مما يحث عليه الدين، وقد بشر به الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ولكن التجديد أو أي مشروع أو مفهوم لا يمكن أن يكون دون ضوابط وأسس صالحة. إنَّ ما يسمونه التجديد الذي شاع في هذه الأيام هو من النوع (المنفلت) من أي قيد والذي تتحكم فيه الأهواء ولكنهم يحيطونه باسم جديد هو (التجديد) ومثل هذه الأمور لا تساعد أبداً على التقارب الفكري أو الحوار البناء.
ويوضح الدكتور عمر الأشقر معنى التجديد المشروع فيقول: التجديد ليس هو لأمر مفقود يحتاج على إيجاد، ولكنه أمر موجود يحتاج على إعادة تأصيل وبيان. إن التجديد يعني فقه الإسلام في ضوء الحياة الإسلامية التي كان يحياها الرسول -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وليس هو باكتشاف منهج جديد لم يكن في الإسلام. إن التجديد يعني العودة إلى الإسلام في صفائه ونقائه بعيداً عن التحريف والتشديد والتطرف والمغالاة وليس بدعوة جديدة ومنهج جديد نحتاج أن يكشف عنه أصحاب العقول فيبتدع كل واحد منهجاً، ونصبح أمام تلال وجبال من المناهج والتصورات فنقع في الضلال.
ويبين الشيخ تيسير عمران بوضوح أن الحديث عن التجديد في الدين وأثره في التقارب الفكري لا يعني مطلقاً إعمال يد التغيير بالحذف أو الزيادة فيه، ولا يعني التنازل عن قيمه ومبادئه تحت دعوى العقلانية أو التعددية أو غيرها، وإنما يعني كما هو ثابت بالنص الصحيح: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» إنه تجديد لفكر الأمة بالاجتهاد، وإيمانها بالتربية، وفضائلها بالعمل، ومعالم شخصيتها بالعلم والمعرفة، ولا شك أنَّ لهذا التجديد؛ إذا ما تحقق، أثره البالغ في إنجاح الحوار الإسلامي الإسلامي.
ويؤكد الدكتور صلاح الخالدي على أهمية الضوابط في التجديد فيقول: التجديد ليس منفتحاً مطلقاً، وإنَّما هو تجديد منضبط بضوابط، حتى لا يتحوَّل إلى تخريب وإفساد، ونحن نعيش حمَّى الدعوة إلى التجديد المطلق، وهذه الدعوة تأتينا من أعدائنا، وقد يرددها بعض المغرضين أو المخدوعين في بلاد المسلمين، ومن أهمِّ الضوابط للتجديد:
أ - التجديد ليس في الأسس والقواعد والثوابت والمقاصد؛ فهذه حدَّدها الإسلام وأثبتها، ومنع التغيير فيها والتبديل، وعد تغييرها إحداثاً وتحريفاً مردوداً، ينطبق عليه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
ب - التجديد يكون في الأدوات والأساليب والوسائل، ويقوم على تحسينها وتجويدها؛ فالتجديد لا يكون في المضمون.
ج - الاستعلاء على ضغوط الآخرين بتغيير الخطاب، والاحتكام إلى المرجعية العالمية الدولية، المتمثلة بمجلس الأمن أو قرارات الأمم المتحدة أو غير ذلك، وعدم الاستجابة لتلك الضغوط والدعوات المشبوهة، والتعامل معها على أساس قول الله ـ عزَّ وجل ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49] .
ويرى الشيخ عبد الله الغنيمان أن دعوة التجديد الحداثية ينبغي أن تكون من الدوافع التي توجب على أهل الحق الاتفاق ونسيان الخلافات الجانبية أو الفروعية، وتقوية أنفسهم وتحصين شبابهم من تلك الدعوات التي يراد منها تمييع الدين وجعله مسايراً للديانات المحرفة.
- من يحمل هم الحوار والتقارب الإسلامي:
البيان: كلما تجاوب المجتمع مع دعوة من الدعوات كان ذلك أنجح لها وأدعى إلى الاستفادة منها، وفي المجتمع قوى علمية فاعلة كثيرة مثل الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية ودور النشر ووسائل الإعلام؛ فما طبيعة الدور المرتقب من تلك القوى، وكيف تكون مساهمتها فيه، وهل يمكن أن تساعد تلك المؤسسات في الحوار المطلوب، أم أن ذلك سوف يظل قَدَر الحركات الإسلامية وحدها؟
- المشاركون:
يرى الشيخ سليمان أبو نارو أنَّ بعض هذه المؤسسات لم تقم في الأصل لخدمة الإسلام وإحيائه، ولا لجمع العاملين له وتقوية صفهم، بل في غالب أمرها قامت لهدم الدين ومحاربته وتشويه صورته وتلبيس أمره، وصرف الناس عنه في عقائده وقيمه ومفاهيمه، والتشكيك في مسالمته وخاصة أنها أسست على أيدي الأعداء ووكلائهم؛ وقد قيل: (إنك لا تجني من الشوك العنب) ، لكنه يستثني ويقول: هذا في الأصل؛ فإذا كانت هناك استثناءات تخرج عن هذا التعميم، أو كان في الإمكان تأسيس مثل هذه المؤسسات على التقوى من أول يوم؛ فذلك من أعظم الواجبات اليوم، وربما يرى بعضٌ أن هناك إمكانية لخدمة الإسلام والتوفيق بين أهله من خلالها من غير أن يمس ذلك نقاء الدين وسلامة منهجه، ويبدي الشيخ وجهة نظره في ذلك بقوله: إنَّ التجارب والوقائع في جملتها لا تدل على ذلك، ولكلٍّ فيما يحاول مذهب.
ويتفق الشيخ حامد البيتاوي مع الرأي المتقدم فيقول: هذه الوسائل: الجامعات ووسائل الإعلام ممكن أن تلعب دوراً، ولكن هي غير معنية بهذا وخصوصاً أنَّ رؤساء الجامعات لهم عقول كبيرة ومفكرة، ولكن قناعاتهم في غير هذا الاتجاه، وفي رأيي أنهم إذا أرادوا ذلك فإنهم يستطيعون ويكون لهم دور فاعل لامتلاكهم القدرات.
وينظر الدكتور منير محمد الغضبان بواقعية لحال هذه المؤسسات، فيرى أن العمل على التقارب هو قدر الحركات الإسلامية، ويوضح ذلك بقوله: في رأيي أن المشكلة تشمل قوى المجتمع نفسها؛ فكثير منها لا يخضع لتوجيهات العاملين للإسلام ويحمل اتجاهاتهم، وقلَّما توجد الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية المستقلة، لكنها مع ذلك تمثل الطبقة المتقدمة في الأمة، وحاجتنا فيها إلى المنهج العلمي القائم على الأرقام والإحصاءات والاستبانات، ودور النشر تقذف كل يوم بالآلاف من الصفحات، وحيث إنها لا تكون قائمة على المنهجية فقد تكون عبئاً على عملية التقارب أكثر مما تكون عوناً له؛ فالجامعات والكتب والمؤسسات الموجهة تفرز فكراً أحادياً يؤصل للخلاف أكثر مما يؤصل للتقارب، وتبقى المسؤولية الكبرى في عملية التقارب في أعناق الواعين لأهميته وفي أعناق القيادات لهذه الحركات. إن الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ حين يختلفون وينشرون خلافاتهم على الملأ إنما ينقلبون دعاة ضد الإسلام أمام الحائرين الباحثين عن الحقيقة مهما كان إخلاصهم لله تعالى، وإن اتفاقهم على ضعفهم وعجزهم خير من تفرقهم وتطرفهم؛ فالتفرق يلتقي مع الكفر تحت راية واحدة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] .
ويربط الدكتور عثمان جمعة ضميرية بين دور هذه المؤسسات وبين استقلاليتها، فيقول: عندما تتحرر هذه المؤسسات من الضغوط الخارجية والاستغلال يمكن أن يكون لها تأثير في الدعوة إلى الحوار والتعاون بما تقدمه من دراسات، وبما تجمع بين جنباتها من خبرات.
ويباين الشيخ حسن يوسف الآراء المتقدمة بقوله: ما من شك في أنَّ الجامعات ومؤسسات السلام الاجتماعي أو ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني لها دور كبير؛ فهذه المؤسسات باستطاعتها أن يكون لها دور فاعل ومؤثر في تقريب وجهات النظر بين أطراف الحركات الإسلامية بعضها مع بعض وخاصة إذا سلطت الأضواء على المخاطر المحدقة بالأمة، وإذا ما سلطت على وجوب تلاحم المسلمين بعضهم مع بعض بجهود لا تبغي إلاَّ مرضاة الله، ولأنه في التوحد خير وفيه بركة، والله ـ سبحانه ـ حذرنا من التفرقة وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] .
ويتفق الدكتور همَّام سعيد مع الشيخ حسن يوسف فيقول عن قوى المجتمع: لها دور فاعل في التقارب بأن تفتح أبوابها للجميع والتركيز على المصالح أكثر من الوسائل، والاهتمام بالأصول أكثر من الفروع، وإشراك الجميع في عمليات الدفع والممانعة، وبناء المشروع الفكري الذي يلتقي على هذه الأصول والمصالح. وبنحو مما تقدم يقول الشيخ تيسير عمران أيضاً.
ويبين الدكتور خالد الخالدي الآليات التي يمكن من خلالها أن تؤدي تلك المؤسسات دورها فيقول: ينبغي لهذه المؤسسات أن تلعب الدور الأكبر في تحقيق أهداف التقارب، ويمكن ذلك من خلال:
1 - عقد المؤتمرات التي تدعو إلى الحوار والتقارب بين المسلمين، واستدعاء الطاقات الإسلامية ونشر الأبحاث خلال هذه المؤتمرات مما يؤدي إلى خلق رأي عام تجاه قضايا التقارب، ويشجع على تكرار هذه التجارب.
2 - دعوة أساتذة الجامعات إلى توضيح أهمية التقارب والوحدة باستمرار، حيث يقف يومياً آلاف الطلبة المسلمين المتحزبين كل إلى جماعته وكل يدعو إلى فرقته، ويمكن استغلال تجمعاتهم وبث روح الوحدة والقوة فيهم، والتشديد على مساوئ التحزب لجماعة إسلامية دون الأخرى.
3 - منع أساتذة الجامعات من مهاجمة الجماعات الإسلامية؛ لأن هذا يباعد من التقارب ويحقق الاختلال.
4 - نشر الكتب والأبحاث، واستكتاب الكتاب والمفكرين حول مواضيع التقارب والوحدة.
5 - إبراز ما حل بالأمة من دمار نتيجة الاختلاف والنزاع، وأن الأوطان لن تتحرر إلا بالوحدة والتكاتف والابتعاد عن الفرقة.
6 - تخصيص البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تسعى إلى التقريب، ومنع نشر كل ما يبث الفرقة بين المسلمين أو الجماعات الإسلامية.
7 - التحذير من البرامج التي تبثها بعض القنوات الفضائية العربية والتي تسعى إلى إظهار سلبيات الحركات الإسلامية التي تقف بوجه الحكومات.
ويرى الأستاذ جمال سلطان أن هذه المؤسسات مختلفة في اتجاهاتها، لكن ينبغي لخيارات العمل الإسلامي أن تهتم بآليات التأثير في العصر الحديث، والاستفادة من هذه الأدوات والآليات من أجل تحقيق الإصلاح المنشود، فلا ينبغي إهمال هذه المؤسسات وخاصة المؤسسات الدينية العريقة بسبب بعض فترات الضعف التي تمر بها، بل يجب علينا أن نعمل على إصلاحها وإحياء دورها.
ويخص الشيخ أحمد فريد المؤسسات الإسلامية بهذا الدور، فيقول: أرى أن من وظيفة المؤسسات الإسلامية كالجامعات الإسلامية ومراكز البحث والمؤسسات العلمية أن تهتم بقضية الحوار؛ فعندها وقت وجهد وباحثون، فتدرس ما يمكن قبوله من أفكار الجماعات وما لا يمكن قبوله، وتحدد من يمكن دعوته لمائدة الحوار ومن لا يمكن، إضافة إلى إعداد جداول للعمل على تقريب هذه الجماعات.
وللأستاذ خالد حسن نظرة متعمقة حيث يدعو إلى إنشاء المؤسسات التي نحتاج إليها؛ فهذه هي التي يعوَّل عليها في تحقيق المراد، ويشرح فكرته بقوله: إن صناعة الوعي تستحق التفرغ وبناء المشروعات والمؤسسات، وهناك مستوى آخر لا يقل أهمية وهو تجميع الفاعلين والمؤثرين في الأمة أو من تجاوب منهم مع أصل الفكرة والمبادرة في إطار مناهض لتوجهات الهيمنة والسيطرة والنهب، يرصد الخطط ويرسم استراتيجية المواجهة الشاملة ويقود الطاقات الجماهيرية ويوجه القوى الحية في ظل هذا التربص بالأمة ومقدراتها؛ فهل يعقل أن أمة بطولها وعرضها ومخزونها لا تملك مؤسسة مستقلة أو منتدى حراً أو مجمعاً للدراسات والاستراتيجيات يجمع أهل الخبرة والمفكرين سواء في أمريكا أو غيرها من دول الغرب لرصد خطط الهيمنة ووضع التصورات المستقبلية؟ وأمام الفتوحات الأمريكية للقارات والتحكم في مناطق الضخ يبرز مجال أوسع وأعمق في مهمة المفكرين والمصلحين والكتاب والفاعلين والقوى الحية في الأمة، وهو رفع مستوى التحدي. ومواجهة استراتيجيات الهيمنة والسيطرة ليس ببث الوعي المجرد والأعزل فقط، ولكن أن نؤسس لوعينا ولتصوراتنا مؤسسات ومنتديات تتابع الخطط وتكشفها، وتميط اللثام عن الاستراتيجيات، وترسم خطوط المواجهة الشاملة للأمة. إن أوقاتنا الراهنة لا يكفي فيها تسجيل موقف والتوقيع على بيان إبراء للذمة وإعذاراً إلى الله ـ تعالى ـ وبعدها يرجع كل منا إلى عرينه يستأنف مسيرة الوعي المجرد.
وينظر الدكتور كسَّال عبد السلام إلى أهمية التخصص وقدرة المؤسسات على القيام به فيقول: إن البناء المراد إنجازه في المجتمع يتكون من شقين:
الأول: يخص الفكرة والتنظيم الذي يمثِّلها في أرض الواقع.
والشق الثاني: يخص جانب الأعمال الذي لم يعد في الوقت الحاضر بتلك البساطة التي كان عليها قديماً، وباتساع هذا المجال صار الاختصاص في كل شيء ضرورة، وهذا الذي تقوم به مؤسسات المجتمع كلها، ولقد صار كل شق يستلزم تثمين الشق الآخر له. إن التزام جانب الدعوة المجرد يعني إبقاء الإسلام على هامش الحياة، ولذلك لا بد من الالتفات إلى هذه المؤسسات، وجعلها عوامل تقوية ودفع لدعوة التمكين للدين، وهو يمدها بأسباب القوة والنجاح وهي تدعمه بوسائل التمكين.
ويضيف الدكتور عبد الرزاق مقري: إن قوى المجتمع لا يسيِّرها الخطاب العام الذي كان له الفضل الكبير في إنشاء الوعي والصحوة؛ فلا بد من الاهتمام بالمؤسسات المجتمعية في مختلف المجالات فهي التي تثبت ولاء الجماهير، وهي التي تطور المشروع الإسلامي، وهي التي تحمي الدعوة، وهي التي توظف الطاقات وتؤهل القيادات، وهي التي تحقق الإنجازات وتفتح سبل النجاح بإذن الله تعالى.
نسأل الله أن يأخذ بيد الجميع لكل خير، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.(217/9)
وصية إدارية
إبراهيم بن سليمان الحيدري
أيها الإداريون! اعلموا أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد ابتلى الدعاة بقلة مواردهم المالية، وها هو العالم اليوم يكبِّل الصدقات، ويحاصر الزكوات، بل إن العليم الحكيم اختبر الدعاة بندرة مواردهم البشرية؛ فما يجدون في الإبل المائة إلا راحلة واحدة تتخطفها المسؤوليات وتنهشها المشاغل؛ فما بال أقوام ومنظمات خيرية ـ والحال كذلك ـ غفلت عن هذا الواقع الذي تنطق به الأرض التي تقلهم والسماء التي تظلهم، جمعوا في منظماتهم من الأهداف ما تباين، ومن الأعمال ما تناثر حتى عجزوا عن إدارتها فضلاً عن تحقيق أهدافها، ترى لمنظماتهم في المجال الطبي يداً، وفي الاجتماعي قدماً، وفي الدعوة ساقاً. ساقتهم حاجات الناس المتنوعة والثغرات المتجددة إلى تعدد الأهداف وتنويع الأعمال زاعمين أنهم يقطفون من كل بستان زهرة، وما علموا أن الأزهار سرعان ما تذبل وتموت، وتظل الأشجار تنمو ببطء لتثمر على الدوام.
أيها الدعاة إلى الله تعالى! وصية الإداريين من قبلي ولعلها ستبقى من بعدي هي التركيز على مجال واحد من مجالات العمل؛ فالتركيز ما كان في شيء إلا أنضجه، وما غاب عن شيء إلا شتته. ففي التركيز على مجال واحد خير كثير ونفع عظيم، ومن خلاله تتحقق الأهداف وتُنال الغايات، يتوحد الهمُّ وتتحفز الرواحل، تُبنى الخبرات وتنمو القيادات، توظف الأموال وتستثمر الموارد.
إن التركيز مطلب في المنظمات الإدارية باختلاف أنواعها وأعمارها وهو في المنظمات الخيرية مطلب ملحٌّ لحداثة نشأتها المؤسسية ولقلة مواردها المالية والبشرية. والعمل الخيري حقل واسع وميدان فسيح، والأوْلى لمن احتوى قلوبَهم حبُّ الخير وسقوه باحتساب الأجر أن يتوِّجوا ذلك بالتركيز في العمل؛ فهو أحد أوجه الإتقان التي حثنا عليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم - بقوله:
«إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» .
اللهم ألهمنا التركيز في أعمالنا، وقنا شر التشتت.
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(217/10)
معايير العقلاء
أ. د. جعفر شيخ إدريس
شهادة الحس:
1 ـ كل الناس في معظم أحوالهم يؤمنون بشهادة الحس، يؤمنون بأن ما رأوه بأعينهم أو سمعوه بآذانهم، أو أحسوه بجلودهم أو شموه بأنوفهم أو ذاقوه بألسنتهم هو كما شهدت به هذه الحواس. لكنهم قد ينكرون هذا في بعض الأحيان؛ لأنهم ـ لسبب من الأسباب ـ لا يريدون الاعتراف بالحقيقة التي شهدت بها. هذا الإنكار مسلك مخالف للعقل؛ ولذلك فإن القرآن الكريم يذم أصحابه في مثل قوله ـ تعالى ـ:
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7] .
لكن قلة من المفكرين من المسلمين وغير المسلمين يصرحون بأقوال فيها تشكيك في شهادة الحس. فهدا أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ يقول في أول كتابه (المنقد من الضلال) :
فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذت تتسع للشك فيها، وتقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم ـ بالتجربة والمشاهدة ـ بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة (واحدة) بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.
فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً» .
على كلام أبي حامد هذا استدراكات:
أولاً: أنه لو كانت الثقة بالمحسوسات باطلة بطلاناً مطلقاً لكان ينبغي أن ما قال له بصره إنه ظِلٌ ليس بِظل، وما قال إنه كوكب ليس بكوكب.
ثانياً: كيف اكتشف أن الظل ليس ساكناً كما قال له بصره؟ يقول: «بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة» وهل تكون تجربة ومشاهدة إلا بالحس؟ ألا يعني هذا أن الحس هو الذي صحح ظنه بأن الظل لا يتحرك؟
ثالثاً: إن شهادة الحس داخلة في الدليل على أن الكوكب أكبر مما ظن؛ وذلك أن الناس يعرفون بالتجربة الحسية أنه كلما كان الشيء أبعد بدا أصغر. ثم وجدوا أن هنالك نسبة بين مسافة البعد وحجم الشيء المرئي.
رابعاً: قد تقول: لكن هذا إنما عرف بالعقل. ونقول: أجل! وهل تعمل الحواس إلا بمعونة العقل؟ وهل يعمل العقل إلا بمعونة الحواس؟
2 ـ إن شهادة الحواس بالنسبة للمسلم أمر يقتضيه دينه كما يقتضيه عقله؛ وذلك أن في الإسلام أصولاً لا يكتمل الإيمان ولا العمل بها إلا بالاعتراف بشهادة الحواس. القرآن الكريم كتاب لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالنظر أو بالسماع، وهما أمران حسيان. وما يقال عن القرآن الكريم يقال عن سائر العلوم. الصلاة والصيام والحج كلها تعتمد في معرفة مواقيتها على شهادة الحس. هذه مجرد أمثلة.
وهذا يدلك على أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر من الحقائق العلمية ما شهد الحس يصدقه. أقول الحقائق كالقول بأن شكل الأرض كروي ولا أقول النظريات كنظرية دارْوِن.
3 ـ لكن ينبغي الاعتراف بأن حواسنا لا تعطينا علماً محيطاً بما نشاهد، إنما تعطينا جانباً منه. وهذا الذي تعطيناه وإن كان جزئياً إلا أنه حق وهو كافٍ لنا في معاملاتنا الدينية والدنيوية. مثال دلك أننا نعرف الآن بسبب الآلات التي تزيد من قوة حواسنا أن ما يبدو لنا صلباً من الأجسام ليس هو بالصلابة التي نراها، وإنما هو مكون من ذرات بينها فراغات. وقل مثل دلك عما نراه سائلاً. ونحن حين نرى الشمس قد غربت أو أشرقت تكون قد فعلت دلك قبل ثماني دقائق من رؤيتنا لها تشرق أو تغرب. بل يقولون إن كثيراً مما نراه من نجوم السماء يكون قد انفجر وتبدد مند آلاف السنين. ولكن بما أننا لا نرى الشيء إلا حين ينعكس الضوء منه على أعيننا وبما أن هذه الأجرام تبعد عنا ملايين الملايين من الأميال؛ فإن ضوءها لا يصلنا إلا بعد آلاف من السنين تكون هي في أثنائها قد ماتت؛ فما نراه منها إنما هو تاريخها لا حاضرها.
لكننا في معلاملاتنا اليومية وفي ديننا إنما نتعامل مع الأشياء بحسب ما تبدو لنا؛ فأوقات الصلاة والصيام والحج لا تعتمد على الحقائق الفلكية التي يتحدث عنها علماء الفلك وإنما تعتمد على ما يظهر لنا منها. ذكر لي بعض الشباب في أحد المؤتمرات ببريطانيا ذات مرة أن رجلاً زعم أن في الإسلام ما يخالف الحقائق العلمية وضرب لذلك مثلاً بافتراضنا أن الشمس تتحرك والأرض ثابتة؛ لأننا نقول مثلاً: إن وقت الظهر يحين عندما تصير الشمس في كبد السماء. قلت له: ألستَ تجد في جرائدكم اليومية مواقيت طلوع الشمس وغروبها؟ فلو أن الناس التزموا بالحقائق الفلكية وحدها لما جاز لهم الحديث عن شروق وغروب؟ لأنه إذا كانت الشمس ثابتة بالنسبة للأرض؟ فكيف يقال إنها شرقت أو غربت؟ لكنني ذكَّرته بأن العلماء أنفسهم يسمون هذا بالحركة الظاهرية للشمس، وهي الحركة التي نعتمدها في حياتنا اليومية.
4 ـ مما يتصل بهذا ـ أعني بعدم رؤيتنا للحقائق المحسوسة كما هي في حقيقتها أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد يفعل ذلك رحمة بنا. من ذلك قوله ـ سبحانه ـ:
{إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 43 - 44] .
وقوله ـ سبحانه ـ:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] .
5 ـ يتعلل بعضهم في عدم إيمانه يوجود الخالق ـ سبحانه ـ أنه لا يؤمن إلا بما يرى {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] . ويدعي بعضهم في عصرنا بأن هذا أمر يقتضيه المنهح العلمي. وكذبوا؛ فإنهم لو كانوا صادقين في عدم تصديقهم بما لا تراه أعينهم للزمهم أن لا يؤمنوا بحوادث التاريخ، وللزمهم أن لا يصدقوا بوجود شيء في الأماكن التي تبعد عنهم بُعداً لا ترى ما فيها أعينهم. بل للزمهم أن يذهبوا مذهب بعض الفلاسفة الذين كانوا يقولون إنهم إنما يؤمنون بما يرون ما داموا يرونه، ويقولون: من يدرينا أنه ما زال موجوداً حين نغمض عنه اعيننا أو نلفت عنه أنظارنا؟
وظن بعضهم أن الحواس لا تدرك إلا ما كان ذا طبيعة مادية (كما نقول بلغتنا الحديثة) ولذلك أنكروا إمكانية رؤية الخالق ـ سبحانه ـ لأن الله ليس كمثله شيء؛ فكيف تراه الأعين التي لا ترى إلا ما كان من نوع تلك المخلوقات؟ هؤلاء أخطؤوا عدة أخطاء:
فأولاً: إن كون المخلوقات تُرى (بضم التاء) لا ينهض دليلاً على أن ما كان من طبيعة غير طبيعتها لا يُرى. فرقٌ بين أن تقول: إن المخلوقات التي هي من النوع الفلاني تُرى، وبين أن تقول إنها هي وحدها التي تُرى.
ثانياً: نحن نعلم الآن أن هنالك موجودات لا تراها حواسنا المجردة لكنها تُرى بوساطة الآلات التي تساعد تلك الحواس. فنحن نرى بالتلسكوب من الأشياء البعيدة ما لا يمكن للعين المجردة أن تراه، ونرى بالميكروسكوب من الأشياء الدقيقة ما لا يمكن لها أن تراه. ولو أننا حكمنا على الأشياء بمنطق هؤلاء لقلنا إنها لا يمكن أن تُرى إطلاقاً؛ لأن الذي يُرى إنما هو الذي يمكن للعين المجردة أن تراه.
ثالثاً: نعم! إننا لا نرى ربنا ـ سبحانه ـ في هذه الحياة الدنيا؛ ولذلك عندما دعا نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ ربه قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال له الله ـ تعالى ـ: {قَالَ لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] .
لكن الله ـ تعالى ـ: قال عن المؤمنين في الدار الآخرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]
فدل ذلك على أن العلة في عدم رؤيتنا لخالقنا في هذه الحياة هو طبيعة أعيننا لا ذات خالقنا سبحانه. فذاته ـ سبحانه ـ لا تتغير وإنما الذي تغير هو طبيعة حواسنا. فكما أن عدم رؤيتنا للكائنات البعيدة والدقيقة لم يكن سببه طبيعة تلك الكائنات وإنما كان سببه طبيعة أعيننا، فلما ساعدتها الآلات على الرؤية رأت ما لم تكن ترى، فكذلك فإنه عندما تتغير طبيعة الناس في الجنة فيكونون مخلوقات تأكل ولا تخرج منها فضلات، وتتحرك ولا تتعب ولا تنام، فكذلك تتغير طبيعة حواسهم فترى ما لم تكن تستطيع رؤيته في دنياها.
7 ـ يقول بعض الفلاسفة المعاصرين كلاماً كان أئمة أهل السنَّة يقولونه قبلهم منذ سنين: يقولون إن ما لا تمكن مشاهدته بحال من الأحوال فليس بموجود. ولذلك فإن أهل السنة الذين كانوا يقولون ذلك كانوا يقولون للجهمية ومن ذهب مذهبهم في صفات الله ـ تعالى ـ: إنكم تعبدون عَدَماً. وقد كان هذا التصور العدمي لصفات الخالق ـ سبحانه ـ من أكبر الأسباب التي تعلق بها بعض الملحدين في الغرب. كانوا يقولون لزملائهم المؤمنين: عن أي شيء تتحدثون؟ شيء لا يمكن أن تراه الأعين ولا أن تسمعه الآذان ولا يُحَس ولا يُشَم ولا يُذاق؟
وقد ذكر الإمام أحمد في أول كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية كلاماً نفيساً في تفسير السبب الذي أدى بالجهمية إلى هذا التصور التعطيلي لصفات الخالق. قال ـ رضي الله عنه ـ:
فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله ـ تعالى ـ فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السُمنية فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك؛ فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك؛ فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألستَ تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم! فقالوا له: فهل رأيتَ إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممتَ له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدتَ له حساً؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى...... فقال للسُمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال: نعم! فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال فوجدتَ له حساً أو مجساً؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يُسمع له صوت ولا يُشَمُّ له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان...... فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة، ولا يفعل ولا له غاية ولا له منتهى، ولا يدرَك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، ولا يكون فيه شيئان، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون، ولا له جسم، وليس هو بمعمول ولا معقول، وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.
قال أحمد:
وقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو شيء لا كالأشياء. فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء.
معايير
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن أحد المعايير المشتركة بين جمع العقلاء من البشر بادئاً بالقوانين المنطقية. ويكمل في هذه الحلقة بقية الموضوع
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن أحد المعايير المشتركة بين جمع العقلاء من البشر بادئاً بالقوانين المنطقية. ويكمل في هذه الحلقة بقية الموضوع
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(217/11)
قبس تربوي
د. عبد الكريم بكار
يمكن القول: إن التربية السياسية تعد بين الأمور التي لا تلقى إلا القليل من الاهتمام في البيوت وفي المدارس وفي وسائل الإعلام. وربما كان هذا امتداداً لرؤية أسلافنا للدولة؛ حيث كان السائد أن الدولة المسلمة عبارة عن كيان يجسد المبادئ الإسلامية بشكل آلي وبدهي، أو أنها على أقل تقدير عبارة عن أداة تنفيذية بيد المبادئ والأخلاق الإسلامية، ومن ثم فإن تحسُّن التدين في المجتمع سيعني بصورة تلقائية تحسُّن أداء الدولة، وتحسُّن التعامل معها إلى جانب تحسُّن تعاملها مع الناس.
وقد تبين من خلال تجربتنا التاريخية أن هذه النظرة مفرطة في التبسيط والتفاؤل؛ حيث ظهر لنا ولغيرنا من أبناء الأمم الأخرى أن الدولة كيان مستقل، له طبيعته وخصائصه، وهو يتمفصل مع المجتمع في معظم الأحيان، ويلتقي معه في أحيان أخرى. ومن وجه آخر فإن شيئاً آخر في هذا السياق يحتاج أيضاً إلى تقييد، وهو الرؤية التقليدية للإنسان والتي كانت تقوم على افتراض أن الإنسان يولد سيداً حراً كريماً عقلانياً في ممارساته ومواقفه.
إن هذه المعاني الجليلة تُغرس في نفوس الناس وعقولهم من خلال التربية ومن خلال استهداف السياسات الإدارية والقانونية لتكوين المواطن الصالح المدرك لمسؤولياته وحقوقه.
لا يكمن جوهر التربية السياسية في حث الناس على ألاَّ يسكتوا على الظلم، وألاَّ يعبروا عن نزعاتهم الفردية بطريقة غير مسؤولة أو حثهم على اتباع القوانين والنظم السارية ... إنما يكمن في تعميق بعض المفاهيم الأساسية عبر ممارسة رجال الدولة، وعبر البيئة التربوية التي توفرها البيوت والمدارس.
ولعل من أهم تلك المفاهيم الآتي:
1 ـ التمسك بالحق القطعي الواضح والمنافحة عنه وحمايته والتضحية من أجله، والاستمرار في محاصرة الشر والباطل الصريح بالطرق المشروعة وفي إطار الآداب الإسلامية السامية.
2 ـ التسامح تجاه الأمور الخلافية، واحترام التعددية في الرأي، ما دام التباين في وجهات النظر في إطار المدلول العام للثوابت والقطعيات.
3 ـ تعزيز روح الحوار والتفاوض والمجادلة بالتي هي أحسن، واعتماد النقاش في بث الوعي أساساً في تغيير الموقف والأوضاع والاتجاهات بعيداً عن القسر والتخويف والإكراه.
4 ـ حين يختلف أهل العلم في مسألة من المسائل؛ فإن للحاكم المسلم أن يختار القول الذي يرى فيه ما يحقق المصلحة العامة في مرحلة من المراحل، واختياره يقطع النزاع على المستوى العملي التنفيذي. أما على المستوى العلمي؛ فإن لكل عالم ولكل فرد الاحتفاظ بما أوصله إليه اجتهاده.
5 ـ لا تستطيع الدولة أن تعمل وفق آراء كل الناس، وإلاَّ فإنها لا تكون مركزاً للتسويات وتنظيم الأولويات وتوازن المصالح.
6 ـ لا يمكن للدولة أن تلبي حاجات كل الناس مهما استهدفت ذلك وعملت من أجله؛ وذلك لأن إمكانات الدولة ـ مهما كانت قدراتها عظيمة ـ تظل في نهاية الأمر محدودة، وطموحات الناس غير محدودة. وقد تعوَّد الناس على مدار التاريخ أن يعملوا باستمرار على تحويل المرفهات والثانويات إلى حاجات أساسية عبر الإغراق في التنعم. لكن الذي يجب على الدولة النهوض له، ومن حق المواطنين المطالبة به هو العدل والإنصاف والنزاهة وتحقيق أكبر قدر من تكافؤ الفرص بين الناس.
7 ـ لا تستطيع أية دولة أن تقطع الجدل حول بعض تصرفات رجالها وحول بعض سلوكهم الشخصي. ومن واجب الناس في هذه الحالة التثبت والتبين، وعدم المسارعة إلى تصديق كل ما يشاع. وعلى القضاء أن يمارس دوره في الحفاظ على المصلحة العامة والبت فيما هو موضع نزاع.
8 ـ يجب على الفرد الامتثال للتنظيمات والقوانين التي تسعى إلى تحقيق الخير العام، ما دامت في إطار المباح والمشروع.
9 ـ حفظُ المال العام وصيانةُ المرافق العامة، وتكثيرُ الأطر التي تقدم خدمة عامة للناس مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ وحضاريةٌ في ذمة الدولة والمجتمع.
10 ـ للدولة حقوق على المواطن، وللمواطن حقوق على الدولة، حقوق الدولة واجبات على المواطن، وحقوق المواطن واجبات على الدولة. ويجب على كل طرف أن يؤدي ما عليه إذا أراد أن ينال ما يعده حقاً له.
11 ـ في إطار الدولة الواحدة لا يصح لأي شخص أن يتصرف على هواه فيما يعدّ شأناً اجتماعياً عاماً، وينبغي أن تضاف الحقوق المشروعة للأقلية، كما ينبغي عليها أن تنزل على حكم الأكثرية. وعن طريق الحجة والبرهان والنقاش الحر، يمكن لكل جهة أن تقنع الجهات الأخرى بوجهة نظرها.
12 ـ التشاور واستمزاج الآراء واكتشاف المواقف والتوجهات، والعمل على الاستفادة منها ومراعاتها، هو العمل الذي يبدأ، ولا ينتهي؛ لأنه يشكل حجر الزاوية في الممارسة السياسية.
إن التربية على هذه المبادئ والمفاهيم ـ ومبادئ أخرى على شاكلتها ـ سوف يخفف من حدة ثنائية الدولة/ المواطن، ويوسع أرضية التبادل، ويساعد على تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح المشتركة، كما يساعد على نهوض المجتمع المسلم واستقراره؛ لكن التربية حتى تؤتي ثمارها تحتاج إلى صبر ومثابرة، وتحتاج قبل ذلك إلى البذل والتضحية.(217/12)
رمضان في ديوان الشعر العربي
أمين سليمان الستيتي
ما كان رمضان ليختلف عن غيره من شهور العام لولا فريضة الصوم التي أعطته هذه الخصوصية. ولعل قول اللغويين: إنه يرمض الصائم حين يحر جوفه، فيه من الصحة الكثير. وقد شغلت أمور الدعوة، وحروب الردة الصحابة منذ زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم - وحتى نهاية عصر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلم يكن للشعر مكانه القديم، ولم يصفوا العادات المتعلقة بصومه، أو قيامه، سوى ما كان من أداء الفريضة، وقيام الليل، وغيرها
وفي سيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه جمع الناس للتراويح على إمام واحد، في رمضان الثاني من حكمه، ورأى الناس في ذلك خيراً عميماً، واستمعوا إلى ترتيل واحد شنف آذانهم، وعكفوا على تلاوته آناء الليل، مع التسبيح، وغيره من الأقوال والأعمال الصالحة، ليل نهار، وبرز دور الشعر في تخليد مثل هذه الصورة؛ إذ قال الشاعر:
جاء الصيام فجاء الخير أجمعه ترتيل ذكر وتحميد وتسبيحُ
فالنفس تدأب في قول وفي عمل صوم النهار وبالليل التراويحُ
وكأن هذا السياق الفطري، البعيد عن التكلف يبين بوضوح انتماء هذا القول إلى عصره، بعيداً عن كل الصور البيانية، أو المحسنات اللفظية، المعبر عن صدق المشاعر، وتأثير العبادة في نفوس المؤمنين.
لكن الشعراء عبر العصور رسموا صوراً وضّاءة لرمضان، وللمسلمين فيه، وزينوا صوره بكل ما استطاعوا من الصور والمحسنات، وتخيروا الألفاظ الموحية المعبرة؛ فهذا شاعر يقول:
أَدِم الصيام مع القيام تعبُّداً
فكلاهما عملان مقبولانِ
يا حبذا عينان في غسق الدجى
من خشية الرحمن باكيتانِ
فإذا طوينا شراعنا على عتبات العصر الحاضر، رأينا أدباءنا يرسمون لرمضان صوراً كثيرة، منها الإيماني المتعلق بأهداب العبادة، ومنها السلبي المتعلق بسدول غيرها، ومنها بين ذلك بعدد ألوان الطيف، أو يزيد.
وللجوع أثر في رائحة فم الصائم، والتي جعلها الله - سبحانه - أطيب من رائحة المسك، كما روى ذلك رسولنا -صلى الله عليه وسلم -، وقد صاغ الشاعر محمد حسن فقي هذا المعنى بألفاظ قريبة التناول، سلسة تنساب رقراقة بقوله:
وعلى فمي طعم أحس بأنه
من طعم تلك الجنة الخضراءِ
لا طعم دنيانا فليس بوسعها
تقديم هذا الطعم للخلفاءِ
ما ذقت قط ولا شعرت بمثله
ألا أكون به من السعداءِ
وفي القصيدة ذاتها يصف الشاعر استبشار المسلمين برمضان الكريم، وأيامه الجليلة، ووحي الله من السماء، بكلمات منقادة له انقياد العاشقين، حيث يرسمها على ألحانه، ويعزفها بألوانه فيقول:
قالوا بأنك قادم فتهللت
بالبشر أوجهنا وبالخيلاءِ
لِمَ لا نتيه مع الهيام ونزدهي
بجلال أيام ووحي سماءِ
وللشفافية في العصر الحديث بريق يشد الناظرين، ويصوغه الشاعر محمود حسن إسماعيل، فيرسم لنا لوحة رمضانية النفحات، بألوان أطياف التقى، ويجند قدراته البلاغية ليصل بها إلى قمة الإبداع الشعري فيقول:
أضيفٌ أنت حلَّ على الأنامِ
وأقسم أن يُحَيّا بالصيامِ
قطعت الدهر أنواراً وفيّاً
يعود مزاره في كل عامِ
نسخت شعائر الضيفان لمّا
قنعت من الضيافة بالمقامِ
بأن الجود حرمان وزهد
أعزُّ من الشَّراب أو الطعامِ
ومن الشعراء السعوديين أحمد سالم باعطب، الذي يصور الأنفس المؤمنة مسرعة في ساحات الدموع الراجية غفران الله - سبحانه - بعد أن رأت كف الحسنات الرمضانية، وتجلي الله العلي العظيم على عباده بالجزاء الحسن الذي وعدهم، بلغة يتضح فيها الأثر الروحي، وكلمات تحمل دفء التقوى فيقول:
رمضان بالحسنات كفك تزخرُ
والكون في لألاء حسنك مبحرُ
أقبلت رُحمى فالسماء مشاعل
والأرض فجرٌ من جبينك مسفرُ
هتفت لمقدمك النفوس وأسرعت
من حوبها بدموعها تستغفرُ
ولوحة نادرة يرسمها عبد الله بن سليّم الرشيد، وعلى صفحات ثقافة الجزيرة، تنطق بالوعي الديني المتزايد عند المسلمين في هذا الزمن الذي يبشر بالخير رغم كل المآسي، وعي يدفع الناس للبحث عن الفوز بالآخرة، والتخلص من الذنوب صغيرها وكبيرها، فيقول على هذا اللحن الراقص، رقصة الرجال في الفرح وغير الفرح:
مرَّ شعبان فلم تَحفَل به
روحُه الملقاةُ بين الهمَّلِ
عجباً من أغبر ذي شعثٍ
مرَّ بالنهر فلم يغتسلِ
ومن الشعراء الذين وقفوا مع التراويح: محمود عارف، وجعل لوحتها ماء يسبح فيه المؤمنون ليزدادوا إيماناً، ويرمز إلى بركة أيامه التي تعادل العمر كله؛ ففيه ليلة خير من ألف شهر، فيقول:
فيه التراويح المضيئة مسبحٌ
للقلب للإيمان يعمر مرفقا
ساعاته عمر الزمان، مليئة
بالذكر حيث العمر عاد محلقا
ويغوص بعض الشعراء إلى أعماق المسلمين يستجلون أثر قدوم رمضان على مجتمعاتهم، ويصورون البشائر، والرحمة التي تحل عليهم، وبهم، ومنهم، تصويراً حركياً يدفع إلى رؤية المنظر الحي، بألفاظ لا يكاد يظهر للصنعة فيها يد قريبة ولا بعيدة، بل السجية سيدة الموقف، والموهبة الشاعرة، التي تظهر في قول حسين عرب:
بشرى العوالم أنت يا رمضانُ
هتفت بك الأرجاء والأكوانُ
لك في السماء كواكب وضّاءة
ولك النفوس المؤمنات مكانُ
يا مشعلاً قبس الحقيقة بعد أن
أعيت عن استقصائها الأذهانُ
هذه لمحة من شعرائنا عبر الزمن، ليست شاملة، ولكنها مضيئة، تدفع المرء إلى قياس مشاعره، وحبه لهذا الشهر الذي جعله الله - جل جلاله - ظرفاً لفريضة الصوم، والتي اختصها لنفسه، وهو الذي يجازي المرء عنها؛ فهل تنشرح الصدور المؤمنة لاستقباله؟ وهل يستبشر المؤمنون في هذا الزمن بقدومه، ويرجون الله فيه النصر للمجاهدين في سبيله في كل مكان، رجاء الموقنين بالإجابة، وأن يزيل الهم والحزن عن صدور الأمة، ويكشف الغمة، ويأخذ بأيدينا إلى حيث أرادنا: خير أمة أخرجت للناس؟ أسأل الله ... آمين ... آمين ... آمين!
المراجع
- قرة العين في رمضان والعيدين، د. علي الجندي.
- رمضان بين الأطباء والشعراء، د. حسان شمسي باشا.
- رمضان في إبداعات الأدباء، محمد عمر.(217/13)
إعصار كاترينا آية للمتجبرين
ممدوح إسماعيل
كثيراً ما تهفو قلوب المؤمنين وتتشوق إلى آية من الله في ظل غيابات التيه المادي والظلم الذي يطغى على حال الناس في كل مكان؛ ودائماً ما تحتاج البشرية إلى التذكرة بقدرة الله القوي الجبار؛ فالتقدم العمراني والصناعي والتقني المتنوع، وابتكار أقوى الأسلحة القادرة على الفتك بالآخرين ولو على بُعد آلاف الأميال كلها قدرات وأسباب أفقدت الكثير من البشر والدول الإيمان بقدرة الله وقوته، وأنها قوة تفوق قوة الأرض ومن عليها، بل هي القوة القادرة وحدها، وأن ما على الأرض من قوة لا تكون إلا بإذن الله.
ولكن الله ـ تبارك وتعالى ـ عندما يبتلي المؤمنين في وقت من الزمان، ويعطي القوة لدولةٍ ما كافرة تستضعف المؤمنين يزداد طغيانها، وعندما ينتفخون غروراً وكِبْراً في الأرض يرسل الله الآيات للتذكرة والإعلان أن القوة لله جميعاً الواحد الأحد. وقد قص القرآن الكريم الكثير من القصص في هذا الشأن، وأيضاً بعض الكتب السماوية رغم ما ورد فيها من بعض التحريف عبر السنين والأيام، إلا أن سنن الله في الكون لا تتغير ولا تتبدل، وما زالت كتب التاريخ والآثار تحدث البشرية عما حدث للأمم الغابرة من آيات الله بعد علوها وطغيانها في الأرض.
ومنذ شهور اهتزت البشرية لِمَا حدث في جنوب آسيا من مآسٍ نتيجة (إعصار تسونامي) الذي شرد وقتل الآلاف ودمر بلداناً في شكل غير مسبوق. ولكن البشرية التعسة ببُعدها عن الإيمان بالله سرعان ما تناست تلك الآية وعادت إلى حياتها ولهوها وطغيانها، وفجأة وفي أواخر شهر أغسطس 2005م وفي عز ارتفاع الطغيان والكِبْر الأمريكي منتشياً بسيطرته على العالم؛ فأفريقيا المسكينة تتسول الرضا الأمريكي، وآسيا المثقلة بالمشكلات تتودد وتتقرب له بكل ما تستطيع درءاً لشره، حتى أوروبا القوية ضعفت أمام جبروته، والعالم كله حيران يدبِّر الخطط والأفكار كل لحظة كي يفلت من قبضة ذلك الطغيان، وكل ذلك يزيد الانتفاخ والكبر والغرور عند القوم؛ فهم يفعلون ما يشاؤون في العالم، ويستولون على مصالح وحقوق الشعوب من أجل مصلحتهم فقط، ويقولون: هذه سياسة. وقد استبدت هذه القوة الغاشمة واستكبرت، ومن مظاهر ذلك:
أولاً: حربها للدين الإسلامي وقولها بأنها حرب صليبية (وإن أظهروا التراجع عن ذلك) فحاربوا تعليم الدين الإسلامي في بلاد المسلمين، وتدخلوا في مناهجهم التعليمية وأفسدوها، وحاربوا تطبيق الشريعة في أي بلد من بلدان المسلمين، وروَّجوا للعلمانية، وعملوا على فرضها في بلداننا تحت زعم الإصلاح السياسي، ودنسوا المصحف الشريف، وحاربوا الجمعيات الخيرية التي تقدم المساعدات الإنسانية للمحتاجين.
ثانياً: حاربوا الله بالربا، فسيطروا على أموال العالم واقتصاده عن طريق بنوكهم الربوية، وأخضعوا حركة المال والتجارة في العالم كله لسيطرتهم الربوية، فأفقروا كثيراً من بلاد المسلمين، وجعلوها ذليلة تخضع لأوامرهم وطلباتهم.
ثالثاً: استحلوا دماء المسلمين في فلسطين، وأعانوا اليهود على قتل الفلسطينيين بكل سلاح متطور، وتدنيس المقدسات واستباحة الحرمات، واحتلوا أفغانستان والعراق ظلماً وعدواناً واستحلوا دماء المسلمين فيهما، ولم يفرقوا بين شيخ أو طفل أو امرأة، ودمروا البلاد واحتلوها، وتواطؤوا مع غيرهم على استباحة دماء المسلمين في الشيشان وكشمير وغيرهما من بلاد المسلمين، وفي العراق كان وما زال لجيش الاحتلال الأمريكي فظائع في حق المسلمين؛ ففي مدينة الفلوجة استباحوا كل شيء فلم تسلم المساجد من جبروتهم، بل قتلوا المسلمين الآمنين فيها من الشيوخ، ويوم الإثنين 29/8/2005 وفي أثناء هجوم القوات الأمريكية على مدينة القائم يُعلَن في القنوات الفضائية عن مقتل خمسة وأربعين من المدنيين العراقيين ومنهم نساء وأطفال، بل دُمِّر المركز الطبي بالمدينة، ثم يأتي بعده خبر يعلن عن إعصار يسمى (كاترينا) يجتاح الشواطئ الأمريكية. ثم تتوالى الأخبار عن الإعصار المدمر لمدينة (نيو أورليانز) وتحجب كل الأخبار، ويبقى فقط خبر (إعصار كاترينا) الذي اجتاح البلد ودمرها، وشرد وقتل الآلاف، ولم يوقفه لا الصواريخ العابرة للقارات ولا القنابل الذرية والهيدروجينية ولا قواعد الدفاع الجوية وبها أحدث أنواع الرادارات في العالم، ولا قوات المارينز مشاة البحرية الأكثر خبرة قتالية في العالم، ولم تحرك وكالة ناسا الفضائية ساكناً أمام الإعصار الرهيب وهي التي تتفاخر بإرسال الرحلات من رواد الفضاء إلى خارج نطاق الأرض، وهي الوكالة الجبارة التي تراقب كل سكان الأرض: كل هؤلاء وغيرهم من القوى العسكرية والتقنية الجبارة لم يستطيعوا وقف ذلك الإعصار المدمر.
وقد تمخض عن هذا الإعصار المدمر نتائج هي آيات للعالمين منها:
1 - أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعي حماية الأمن العالمي بقواتها وتملك أقوى جيش في العالم تعلن عن انتشار السرقات والسلب والنهب وفقدان الأمن تماماً، والشرطة في المدينة المنكوبة لا تقاوم بل تترك الميدان لِلُّصوص بحجة البحث عن ذويهم، وعمدة المدينة يعلن عن أعمال النهب من المدمنين للمخدرات. ويلاحظ من مشاهد المدينة أن تلك السرقات والنهب لم تحدث في بلاد المسلمين التي دمرها إعصار تسونامي. ومن آيات الله أن الأمريكان دبروا مثل هذه السرقات والسلب والنهب عند احتلالهم للعراق وسقوط بغداد وأظهروها للعالم كله على أن أهل العراق لصوص، واليوم أهل ولايات أمريكية كلهم لصوص. سبحان الله! ولكن بدون تدبير من أحد إلا إرادة الله أن يفضحهم ويفضح حضارتهم المادية.
2 - معظم أهل المدن المنكوبة من السود حيث إن 67% من سكانها من أصل إفريقي، ويتهم عمدة المدينة الإدارة الأمريكية الفيدرالية بالتأخر عن المساعدة العسكرية والاقتصادية لينفضح شكل من أشكال العنصرية الواضحة في المجتمع الأمريكي تهدد بانقسامه. وتاريخ الأنجلو ساكسون العنصري معروف بفظائعه مع السود وهم الذين يحكمون الولايات المتحدة الأمريكية الآن، وقد تجمع النواب السود في الكونجرس الأمريكي يعلنون غضبهم واحتجاجهم على تلك العنصرية.
3 - مراكز الأبحاث مثل شركة (ريسك ما نجمنت سوليوشتز) المتخصصة في إدارة الكوارث تعلن أن الخسائر تصل إلى أكثر من مائة مليار دولار. والعجيب أن مجلس الشيوخ الأمريكي يقرر صرف إعانة تبلغ عشرة مليارات ونصف فقط للمتضررين، ثم يُتبعها بخمسين ملياراً.
4 - بالنسبة لخسائر البترول الذي قيل إنه من أسباب الحرب الأمريكية على المسلمين؛ فقد انخفض معدل التشغيل في 12 مصفاة تكرير أمريكية، وانخفض معدل تكرير البترول بنسبة 17% وأصيبت أربع منصات بترول في خليج المكسيك بأضرار بالغة غير الانفجارات في مصانع الكيماويات في المدينة.
5 - يقدر عدد القتلى بعشرة آلاف والعدد قابل للزيادة؛ حيث إن معرفة عدد القتلى يحتاج إلى شهرين كما ذكرت التقارير في الولايات المتضررة؛ ذلك غير المشردين الذين لا حصر لهم، منهم حوالي 300 ألف طفل مشرد، ولم يفعل هذا بالمدينة جيش دولة معادية ولا تنظيم القاعدة ولا الإرهاب الذي تدعي الإدارة الأمريكية محاربته ولا أي إنسان مطلقاً، ولا غضب الطبيعة كما يقول بعض الجهلة والحمقى.
6 - تعلن الولايات المتحدة الأمريكية عن فتح باب التبرعات بكافة أشكالها من جميع الدول والمنظمات في العالم وهي الدولة الغنية؛ ولكن سبحان المعز المذل! وكأنه تفسير للآية: {ذُقْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] . ومن المحزن أن تسارع أكثر من ثمانين دولة ومنظمة إلى التبرع في الوقت الذي يتضرر فية ثلاثة ملايين مسلم في النيجر من المجاعة والأمراض المهلكة ولا يجدون غير مساعدات الأمم المتحدة التي تاتيهم على استحياء ليُفضَح ويسقط زيف قشرة الإنسانية التي تغطي شكل المساعدات للأمريكان الأغنياء (أصحاب الفيزا كارت) وبوالص التأمين؛ بينما أهل النيجر لا يجدون كسرة الخبز والدواء لأطفالهم.
7 - الرأي العام في أمريكا ينقلب على حكومته ويتهمها بالتأخر المتعمد عن تخفيف الأضرار وعلى رأسهم كولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق؛ ورفعاً للحرج أقالت الإدارة الأمريكية رئيس وكالة الكوارث دون غيره لتحمله المسؤولية وحده. وقد انتشر بين الأمريكان أن ما حدث هو بسبب حرب العراق وانشغالها بها وتوجيه كل الجهد لها، وانتشر هذا الرأي في كثير من البلاد الغربية وعند كثير من المحللين في الصحافة والإعلام العالمي.
8 ـ وأخيراً يبقى أن يتوقف كل مؤمن ومسلم مع تلك الآية العظيمة من الله في ظل الضعف الشديد للمسلمين والطغيان الشديد للأمريكان: يرسل الملك الواحد العدل آياته إنه هو الله رب السموات والأرض ومن فيهن، خالق الطبيعة وربها، ومصرف أمرها، خالق الماء والهواء وبأمره لهما دمرا كل شيء بأمر ربهم، إنها سنة الله في الحياة لكل أمة متكبرة في الأرض، وراجعوا التاريخ البشري وماذا فعل الله بالأمم التي طغت في الأرض؛ إنها قدرة الله القادر على كل شيء، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] وإنها أيضاً إجابة لدعوات المظلومين في الأرض التي قال الله لها: «وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين» ، وتسلية وبرهان للمؤمنين ليزدادوا إيماناً وتثبيتاً لقلوبهم، ودفعهم إلى العمل الصالح لبناء الأمة الإسلامية القوية لإصلاح الأرض ودحر الطغيان مهما كانت العقبات. وأخيراً: إن (إعصار كاترينا) ربما يسبب مشكلات داخلية للإدارة الأمريكية لا تنتهي سريعاً {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .
__________
(*) محام وكاتب مصري.(217/14)
لماذا يرفض أهل السنة مسودة الدستور؟
عبد الله الرشيد
مشروع مسودة الدستور وُلِد ميتاً على الرغم من محاولات إنعاشه من قِبَل الاحتلال، وأذناب الاحتلال، وبعض الممثلين في السلطة الانتقالية.
ومع أن هذا المشروع (سيُمَرر) من قِبَل الائتلاف والأكراد، وسيقر من الجمعية العمومية المكونة منهما كما هو معروف، إلا أنه سيصطدم بإرادة الأمة، وسيعمل شرفاء العراق من مختلف المكونات والطوائف ـ بإذن الله ـ على إحباطه ولو كره الكارهون.
نصت المادة (61) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية على الأمور التالية:
1 - على الجمعية الوطنية كتابة مسودة الدستور الدائم في موعد أقصاه الخامس عشر من آب 2005م.
2 - عرض مسودة الدستور الدائم على الشعب العراقي للموافقة عليه باستفتاء عام.
3 - يكون الاستفتاء العام ناجحاً ومسودة الدستور مصادقاً عليها عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق، وإذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر.
فالكلمة الفصل هي ـ إن شاء الله ـ لهذا الشعب الجريح من خلال عملية الاستفتاء العام التي ستجري في 15/10 من هذا العام، والتي سيقول فيها الواعون من أبناء العراق كلمتهم.
وأهل السنة كغيرهم من أبناء الشعب العراقي عندهم من الثوابت العقدية والوطنية ما يؤهلهم لقبول أو رفض أي عقد اجتماعي أو سياسي يخصهم أو يشتركون بموجبه مع المكونات الأخرى في عراقهم الذي يحرصون على سيادته ووحدته ومصالحه.
فمصلحة الدين الذي هو سياج كيانهم، وسر حياتهم والمصلحة الوطنية العليا المتسقة مع أحكام الإسلام فوق أي اعتبار فئوي أو طائفي أو حزبي ضيق.
ولا يحق لأي جهة أو حزب أن يدعي تمثيل الشعب العراقي أو التحدث عن حقوقه بالنيابة عنه.
من هنا؛ ولأسبابٍ سنذكرها يعلن أهل السنة مع غيرهم رفض هذا الدستور وعدم القول بشرعيته للمسوغات التالية:
1 - إن هذا الدستور كُتب من قِبَل الجمعية العمومية الوطنية التي انبثقت عن الانتخابات السابقة والتي لم يشارك فيها أبناء السنة لاعتبارات مقبولة ومنطقية، ومن ثم فهو كُتب بمعزلٍ عنهم، وفي ظل غيابهم أو تغييبهم.
وحتى الوجود السني الهزيل في لجنة صياغة الدستور وما تلاه في جلساتِ الحوار بعد إعداد المسودة لم يكن بالقدر الكافي، وقد مُرِّرَت المسودة بمعزلٍ عنه وبإرادة الائتلاف والأكراد.
2 - إن الطرف الآخر ـ المتحمس لإقرار هذا الدستور الناقص ـ لا يكترث بالآخرين والمخالفين، وهو ماضٍ فيما يراه صواباً بعيداً عن التعقل والموضوعية السياسية، والمصلحة الوطنية العليا، وإن بدا لوسائل الإعلام أنه طرف مفاوض ومرن ويقدم التنازلات.
أي تنازلات هذه التي يتخلى عنها المشاركون في الائتلاف أو الحزبين الكرديين؟ لقد فرضوا قائمة عريضة من البنود غير القانونية، ثم أخذوا يَمُنُّون على الطرف المغيَّب بالتنازل التدريجي عن بعضٍ دون بعضٍ آخر.
هذه لعبة سياسية ماكرة وليس تنازلاً من أجل إنجاح العملية السياسية كما يحلو لوسائل الإعلام أن تصوره.
3 - إن هذا (الدستور) مليء بالتناقضات والنواقص والأخطاء القانونية، والبنود الخطيرة التي يُراد تمريرها على الشعب لإقرارها، وفيها «مقتل العراق» . ولا أدري كيف سمح من ينسب نفسه للإسلام ويسمي نفسه بالإسلامي كيف سمح لنفسه ـ وهو في أعلى هرم السلطة ـ أن يقبل بمثل هذا الدستور القاصر، والممهد لتفتيت العراق وتمزيقه عرقياً وطائفياً؟
لا نريد أن نقول إنه «لعبة أمريكية» مفروضة بإرادة احتلالية وبمباركة من بعض أبناء الوطن لتمزيق البلاد وإضعافها، وإثارة الصراعات والتصدعات الداخلية التي ستعمل على تقويض البناء الوطني وفيها لا نجد شيئاً في بلاد الرافدين يُبكى عليه.
ولعل أبرز مكامن الخلل ومواضع الإشكال في «مسودة الدستور» المنشور نصها في موقع جريدة الصباح بتاريخ 25/8/2005م ـ وهو في تغيير مستمر على ما يبدو ولكن من سيئ إلى أسوأ كما يرى المراقبون.
أقول: أبرز هذه الأخطاء ما يلي:
أ - ديباجة الدستور:
وقد وُصِفَت بأنها بيان سياسي لحزب مضطهد، لا مقدمة لدستور سيحكم البلاد لقرون طويلة.
ومما يؤخذ ويؤشر على الديباجة:
- أنها وصفت النظام السابق بالطائفية و «القمع الطائفي» وهذه لغة طائفية، والنظام السابق لم يكن طائفياً في ممارساته القمعية؛ بدليل أنها شملت أهل السنة وبوحشية منقطعة النظير، كما شملت غيرهم من الأكراد والشيعة والتركمان وغيرهم.
- أنها أشارت إلى أن الإرهابيين وحلفاءهم أخذوا أهل المنطقة الغربية رهينة ومنعوهم من المشاركة في الانتخابات السابقة؛ وهذا خلاف الواقع، وهو مستل من الخطاب الإعلامي الحكومي المُسيس؛ فعدم المشاركة في الانتخابات السابقة هو خيار معظم أهل السنة بكل تياراتهم وحركاتهم إلا القليل منهم. وهو قرار هيئة علماء المسلمين والحزب الإسلامي العراقي وقوى المعارضة الشرعية، والعبارة السابقة تصفهم بحلفاء الإرهاب؛ فهل يجوز مثل هذا في دستور ينبغي أن يتوافق عليه كل العراقيين ولضمان جميع حقوقهم؟
- جاء فيها: «إن الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعباً وأرضاً وسيادةً» .
ولفظ «اتحاده» غير لفظ «وحدته» وهما في القاموس السياسي معنيان متغايران، ومفهومان متقابلان.
ونحن نصرُّ على حذف مفردة «اتحاده» وإبدالها بـ «وحدته» .
ب - صُلب الدستور:
- المادة (2) من المبادئ الأساسية: أولاً: الإسلام دين الدولة الرسمي وهو مصدر أساسي للتشريع. أ. هـ.
وهذه صياغة زائفة عن الحق والعياذ بالله؛ فالإسلام المصدر الأساسي للتشريع بـ «أل التعريف» لأنه يعطي مفهوماً مغايراً فيما إذا جُرد من «أل التعريف» .
وقد كان كتب في «المسودة التي قبلها» : المصدر الأساسي ثم غُيِّرت الصياغة مجاملة لغير المؤمنين بالإسلام، ومن قِبَل أحزاب تدعي أنها إسلامية وأنها ناضلت في سبيل الله، فهل هذه هي ثمرة نضالهم الطويل؟!
- المبادئ الأساسية: المادة (2) :
أولاً: فقرة (أ) لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.
فقرة (ب) لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
فقرة (ج) لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور. أ. هـ.
وهي عبارات ينقض بعضها بعضاً ولا يفهمها الفقيه أو السياسي إلا إذا كان واقفاً على رأسه.
فثوابت ألإسلام شيء والديمقراطية شيء آخر. وهو ما فهمه أحد بطارقة النصارى ـ في لقاء تلفازي ـ ولم يفهمه المشرعون من الأكاديميين وأصحاب العمائم.
فإذا أراد أنصار الديمقراطية سن قانون يسمح ببيع وشراء الخمور؛ فحينئذٍ يُعترَض عليهم بالفقرة (أ) فيقال لهم: لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام بنص الدستور.
وإذا أراد الإسلاميون سن قانون يفرض الحجاب في الجامعات والمعاهد والمدارس مثلاً، عارضه الديمقراطيون والعلمانيون بالفقرة (ب) و (ج) وبنص الدستور أيضاً؛ بأن هذا من تقييد الحريات ويتعارض مع الديمقراطية. وهكذا دواليك. وقد أشار بعض المراقبين للملف العراقي ولكتابة مسودة الدستور أن الفقرة (ب) و (ج) أضيفتا بمقابلة إصرار الإسلاميين على منع سن أي قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام، وأن أمريكا أوعزت إلى بعض أذنابها بذلك.
- المادة (3) من المبادئ الأساسية:
العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب وهو جزء من العالم الإسلامي والشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية. أ. هـ.
وهذه مكيدة ظاهرة، ولعبة مكشوفة!!
لماذا يراد للعراق أن يفصل من امتداده العربي؟ وهذا البند «تكريس قانوني واضح» لمبدأ الانفصال الكردي عن عموم العراق، أو هو تمهيد لذلك. وهما أمران أحلاهما مر.
للعلمانيين وغير المسلمين أن يعترضوا على عبارة: «وهو جزء من العالم الإسلامي» لهم أن يقولوا: «والشعب المسلم فيه جزء من العالم الإسلامي» إذ ما كل الشعب مسلم.
وهذا البند الركيك والهزيل يذوِّب الهوية والامتداد الحضاري والتاريخي، ولو تعرض كردستان العراق لا سمح الله لاعتداء عسكري فإن الدول العربية غير ملزمة بالدفاع عنه، لأنه ليس جزءاً من الأمة العربية.
الأكراد لا ينظرون إلى أبعد من أنفسهم، ويريدون تحقيق مكاسب قومية عاجلة تمهد لهم سبيل الانفصال والاستقلال التام وفي ذلك تحقيق لما يحلمون به، وهم مخطئون في تقديرهم المصلحي، ومصالح الدول الكبرى قد تحول دون تحقق ذلك، إضافة إلى ممانعة دول الإقليم كسوريا وتركيا وإيران وتخوفهم من هذا المشروع المشبوه.
- المبادئ الأساسية: المادة (5) :
السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات. أ. هـ.
هذه صياغة وضعية لا إسلامية، لأن مصدر السلطات والتشريع هو (الإسلام) وليس (الشعب) ، والعبارة تمر على كثير من أهل النظر من غير أن يلتفتوا إلى تعارضها مع دستورية القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بوصفهما مصدرين أساسيين للتشريع في أي مجتمع مسلم يدرك حقيقة الإسلام.
- المبادئ الأساسية: المادة (7) :
أولاً: يحظر على كل كيان أو نهج أن يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له.. إلخ أ. هـ.
هذه المادة غير أصولية وغير قانونية، وهي من املاءات الواقع السياسي المرير الذي يمر به العراق، ولا يمثل حالة ثابتة أو دائمة أو أصيلة.
والذي يهمنا هنا: هو خطر النهج التكفيري أو التحريض على التكفير أو التمهيد أو التمجيد أو الترويج أو التبرير له. وهي مادة غريبة جداًً؛ إذ قد يكون (التكفير) حكماً إسلامياً قائماً على نصوص قطعية من الكتاب السنة فكيف يمنع بالدستور؟
ثم إن المذاهب من سنة وشيعة فضلاً عن الأديان الأخرى يوجد فيها تكفير كما في تراثها؛ فهل نلغي التراث بجرة قلم خطها رجل يشكو من «عقدة التكفير» ؟
ثم ما الذي أقحم «قضية التكفير» في الدستور، وهل لهذا نظير في كل دساتير العالم.. وما الذي ألجأ المشرعين إليه؟
كثير من أعضاء الجمعية العمومية يتبنى «منهج التكفير» للمخالفين له في المذهب أو الرؤى الأساسية، وليس فيهم من لا يكفر النصارى أو (اليزيدية: عباد الشيطان. وبناء على دستورهم ينبغي عليهم أن يتخلوا عن «نهج التكفير» وفي ذلك الضلال المبين.
- المبادئ ألأساسية: المادة (7) :
ثانياً: تلتزم الدولة محاربة الإرهاب بجميع أشكاله.. إلخ. أ. هـ.
وهنا وقفات مهمة:
ينبغي: أولاً: تحييد معنى الإرهاب وصوره وأشكاله شرعاً وقانوناً، وأن لا يقتصر على العبارات الإنشائية العامة والمصطلحات غير المعرَّفة.
وإذا كان القضاء في الغرب متخبط في تعريف الإرهاب وتحديده؛ فما بالك بالمشرع العراقي وهو مأسور بقيود الاحتلال وإملاءات الانحياز المذهبي أو العرقي أو الطائفي؟
هل مقاومة المحتل من الإرهاب الذي ستلتزم الدولة محاربته نيابة عن قوات الاحتلال؟
هل ضرب الاقتصاد الأمريكي ومنشآته ومراكزه وقواعده ومن يمكِّن له من الشركات والمؤسسات من الإرهاب؟ مما يلزم تحديد المصطلحات بشكل دقيق.
- المبادئ الأساسية: المادة (9) : فقرة (هـ) :
تحترم الحكومة العراقية وتنفذ التزامات العراق الدولية الخاصة بمنع انتشار وتطوير وإنتاج واستخدام الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، ويُمنع ما يتصل بتطويرها وتصنيعها وإنتاجها واستخدامها مع معدات ومواد وتقنية وأنظمة للاتصال. ا. هـ.
هذه الفقرة كأنها فقرة من لوائح «مجلس الأمن» كتبت ووضعت هنا لتكون دستوراً للعراقيين ولقرون مؤبدة كما يتصورون.
طرحنا واقعي.. فيجب الإشارة إلى إلزام العدو الصهيوني ودويلة إسرائيل المسخ بهذا القرار لكي يشمل كل دول المنطقة. أم أنه حرام على العراقيين وبنص الدستور وحلال على اليهود؟
لماذا يُضاف هذا البند إلى الدستور؟ لقد منعوا وبشكل مؤبد حق العراق في شراء أو إنتاج أو تطوير الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية وكل ما يتعلق بها. وهذا بلا ريب من الأهداف الاستراتيجية لأمريكا في احتلالها للعراق؛ فهل سنبقى أسرى لأوامر من لا يرقبون فينا إلاًّ ولا ذمة؟
- المبادئ الأساسية: المادة (10) :
العتبات المقدسة والمقامات الدينية في العراق كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة تأكيد وصيانة حرمتها. ا. هـ.
لم تُذكر المساجد والجوامع، والبند عبارة عن اجتهاد مذهبي شيعي لا داعي لإقحامه في أصل الدستور!
وعلى الدولة تأكيد وصيانة حرمة المساجد (بيوت الله) التي يُذكر فيها اسمه ـ تعالى ـ قبل القبور والمشاهد والمقامات والعتبات.
- المبادئ الأساسية: المادة (11) :
بغداد عاصمة جمهورية العراق. ا. هـ.
كانت هناك (محاولات مشبوهة) لتغيير العاصمة كما في المسودة السابقة «ويجوز اتخاذ عاصمة أخرى بقانون» ثم ألغي بعد المناقشات على ما يبدو فالحمدُ لله.
- المبادئ الأساسية: المادة (13) :
أولاً: يعد هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق. ا. هـ.
عبارة فيها (مضاهاة للقرآن الكريم) يجب أن تحذف وتشطب، ولا أدري كيف رضي بها من ينعتون أنفسهم بـ: (الإسلاميين) ؟!
إن القانون الأسمى والأعلى في العراق هو القرآن لا الدستور المتناقض الذي ينطبق عليه قول الحق ـ جل وعلا ـ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
- الباب الثاني (الحقوق والحريات) : الفصل الأول: الحقوق:
أولاً: الحقوق المدنية والسياسية: المادة (14) : العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي. ا. هـ.
نسأل رئيس لجنة صياغة الدستور الدكتور همام وهو حوزوي معمم: ما هو حكم المرتد في نظركم وبحسب دستوركم؟
المسلم الذي يتحول إلى الكفر والإلحاد: ما حكمه؟
بحسب هذه المادة. لا شيء عليه! وهذا يتعارض مع ثوابت الإسلام وأحكام القرآن. {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
[الصافات: 154] ؟!
- المادة (40) : أولاً: أتباع كل دين أو مذهب أحرار في:
أ- ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية. ا. هـ.
لماذا هذا التنصيص والتخصيص؟!
من يسمى بالسلفي له أن يقول: «والشعائر السلفية الثابتة في الإسلام» كإعفاء اللحى وتقصير الثوب. فإن قيل: الشعائر الحسينية مستهدفة. قيل لهم: كذلك تلك الشعائر، وعلى الدستور أن يكفل الكل، أو يعدل. يبدو أن كتبة الدستور مأسورون بعقدة النظام السابق.
[يريدون أن يراعوا أحقية الشيعة فقط أم أنها إشارة دستورية يراد منها شرعية تلك الشعائر] ؟
- الحريات: المادة (43) :
ثانياً: وتمنع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان. ا. هـ.
ينبغي أن يضاف إليها: والتشريع الإسلامي.
- الباب الثالث: الفصل الأول: السلطة التشريعية:
المادة (49) صيغة اليمين الدستورية لأعضاء مجلس النواب.
لم يتضمن القسم «الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً» وهو أمر مريب. ويبدو أن هناك (طبخة) لتفتيت العراق (*) !
تنبيه: لم يتضمن (نقد مسودة الدستور) الباب الثالث (السلطات الاتحادية) وكل ما يتفرع عن الفيدرالية؛ لأنها مرفوضة من قِبَل أهل السنة وبعض من يتفق معهم من مكونات الشعب العراقي جملة وتفصيلاً.
وموقف أهل السنة من الفيدرالية بيَّنه الدكتور حارث الضاري الأمين العام لهيئة علماء المسلمين في حديثه لقناة المجد الفضائية مساء 28/8/2005م. ويتلخص بالآتي:
1 - إن مشروع الفيدرالية قنطرة لتقسيم العراق.
2 - إن لم يكن التقسيم؛ فتفتيت وحدة العراق وإضعافه.
3 - إن فيدرالية الأكراد قائمة على أساس عرقي وهو أمر مرفوض! [مع الاعتراف بخصوصية الوضع في شمال العراق] .
4 - إن الفيدرالية التي يطالب بها بعض الشيعة من الأحزاب السياسية قائمة على أساس طائفي وهو أمر مرفوض.
5 -إن غالبية الشعب العراقي يرفض الفيدرالية بهذا الشكل.
6 - المفهوم من التجارب الاتحادية أن ثمة دويلات أو كيانات متفرقة تتحد فيدرالياً في دولة اتحادية، وهؤلاء يريدون من العراق وهو دولة واحدة عبر تاريخه أن يفتتوه إلى أقاليم وفيدراليات ضعيفة! [يجزئونه عرقياً وطائفياً، ثم يوحدونه فيدرالياً] !!
إذن: المشكلة هي الطائفية.
وقد أشار إلى ذلك (عادل العامري) رئيس منتدى العراق الإعلامي في حديثه لإحدى الفضائيات بقوله: «المشكلة في لجنة صياغة الدستور؛ إنها بنيت على أساس المحاصصة (العرقية والطائفية) . وهذا هو مكمن (الخطر) » .
وإضافة إلى ما ذكرناه عن الدستور من الأخطاء القانونية والثغرات والنواقص الواضحة؛ فقد أشار بعضهم إلى الخطوط العريضة الآتية:
أ - لم تشر مسودة الدستور إلى طبيعة النظام الاقتصادي المستقبلي للعراق.
ب - لم تشر إلى الموارد والثروات: هل ملك للشعب، أم الدولة؟
ج - مع التسليم بالفيدرالية: ما هي الضمانات الدستورية للحكومة الاتحادية لتوفير استحقاقاتها من الثروة القومية؟
[بحسب الشائعات التي تطلقها وسائل الإعلام ستقوى الأقاليم ويضعف المركز] !!
د - لم تشر إلى قوات الاحتلال وواقع الاحتلال وقواعد الاحتلال مطلقاً.
خلاصة موقف أهل السنة في العراق من مسودة الدستور الحالية.
في الخامس عشر من ديسمبر (تشرين الأول) سيزحف كل شرفاء العراق إلى صناديق التصويت وسيُجمِعون على كتابة (لا) في الموضع المحدد لها في ورقة التصويت، ويبقى قانون إدارة الدولة على رفض مسودة الدستور وعدم إقرارها إذا رفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر.
إن الاستفتاء سيتضمن سؤالاً واحداً هو: هل توافق على مسودة الدستور، أم ترفضه ولا توافق عليه؟
والاستفتاء هنا يتضمن الإجابة بنعم أو لا بالنسبة لجميع الأحكام الواردة في الدستور، إذ ليس للناخب أن يوافق على بعض أحكام الدستور ويرفض بعضه، وإنما عليه الموافقة على جميع أحكام الدستور أو رفضها بأجمعها؛ فليس له التفريد أو التفريق أو اختيار الجزء ورفض الجزء، والموافقة هنا يشترط فيها الموافقة الأغلبية البسيطة وهي موافقة (50%+1) من الناخبين، فلو فرضنا أن عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في الاستفتاء 14 مليون ناخب، وكان عدد من قال (نعم) أكثر من سبعة ملايين فإن الدستور يعتبر مصادقاً عليه من قِبَل الشعب لأن هذا العدد يزيد على نصف الناخبين؛ مع ملاحظة أن الموافقة تتم على جميع الدستور وليس على بعض أحكامه؛ لأن الإجابة تكون (نعم) للكل أو (لا) للكل.
وبعد موافقة أكثر من نصف الناخبين في جميع العراق فإن (المادة 61/ج) من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية تشترط عدم رفض الدستور من (ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر) فلو فرضنا أن عدد الناخبين في المحافظة (أ) تسعمائة ألف ناخب فإن عدم موافقة ثلثي الناخبين يشترط أن يقول ستمائة ألف ناخب (لا) في صناديق الاقتراع، ولا يقبل أقل من هذا العدد حتى ولو كان جميع من أدلى بصوته في صناديق الاقتراع.
فلو فرضنا أن عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم 599 ألف ناخب وجميعهم قالوا (لا) فلا أثر يترتب على قولهم هذا وإن كان يمثل نسبة 100% من عدد المصوتين، ولكن لا يحقق ثلثي الناخبين؛ لأن القانون أخذ بالاعتبار عدد الناخبين (electors) وليس عدد المصوِّتين (voters) . والأمر نفسه يقال على عدد الناخبين في المحافظة (ب) التي يبلغ عدد الناخبين فيها 600 ألف ناخب؛ فإن الأمر يتطلب 400 ألف صوت (لا) باعتبارهم الثلثين، والأمر نفسه للمحافظة (ج) الذي يبلغ عدد الناخبين فيها 450 ألف صوت فإنه يشترط وجود 300 ألف (لا) في صناديق الاقتراع.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن حق ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات يكون لمرة واحدة فقط وفق الفقرة (ج) من المادة (61) من قانون إدارة الدولة العراقية؛ لأنه في حالة عدم موافقة أغلبية الشعب أو عدم موافقة ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات فإن الاستفتاء سيتم وفق أحكام الفقرة (5) من المادة نفسها وهذه الفقرة لم تمنح ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات هذا الحق مرة ثانية، ولأن هذا الحق استثناء من القاعدة العامة والاستثناء لا يجوز التوسع في تفسيره أو القياس عليه، كما أن هذا الحق (النقض) الممنوح لثلاث محافظات يخالف المبدأ الديمقراطي ـ بحسب ما يراه واضعوه ـ والذي يجعل قول الأغلبية له السيادة (أي أغلبية محافظات العراق الأخرى) .
ما يترتب على عدم الموافقة على الدستور؟
في حالة عدم موافقة أغلبية الناخبين العراقيين (أي أكثر من نصف من أدلى بصوته) أو في حالة رفض الدستور من ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات فأكثر (وهذا ما نعول عليه) فإن الجمعية الوطنية الحالية يتم حلها وتتم الدعوة لإجراء انتخابات لجمعية وطنية جديدة، وبعد إكمال الكتابة يتم طرح مسودة الدستور للاستفتاء العام على أن يتم إجراء انتخابات الجمعية الجديدة قبل نهاية هذه السنة وفي جميع الأحوال لا بد أن يتم إكمال الكتابة والاستفتاء والموافقة على الدستور وإجراء انتخابات جديدة وفقاً لأحكام الدستور الدائم الذي حصلت الموافقة عليه، وليس وفقاً لقانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي يعتبر منتهياً بدخول الدستور الجديد حيز التطبيق، ويتم تشكيل حكومة جديدة وفق الدستور الدائم الجديد.
وبعد: فأهل السنة ليسوا وحدهم في خيارهم المصيري الوطني هذا؛ فهناك قوى وحركات ومكونات تقف الموقف ذاته الرافض للدستور لما ترى فيه من الغبن والتهميش فضلاً عن البنود المشبوهة، وما المظاهرات ومظاهر الاعتراض التي شهدها الشارع العراقي مؤخراً من التركمان والتيار الصدري العريض والنخب المثقفة ووجوه العشائر وبعض الطوائف والأديان إلا دليل صارخ على الوعي السياسي والوطني لهذا الشعب العظيم.
وإن محاولات (التمرير) لمشاريع الاحتلال والوصفات الأمريكية الجاهزة لا يمكن أن تنطلي عليه أو أن تمر عليه بسذاجة مفرطة؛ فالأوراق مكشوفة، ودعاة السلام والوطنية من أهل السنة مع مؤيديهم لمنصورون بإذن الله.
وما ذاك على الله ببعيد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] .
__________
(*) كاتب عراقي.(217/15)
قل هاتوا برهانكم
د. يوسف بن صالح الصغير
هل يمكن القول إن السياسي والتاجر يملك ضميراً من نوع خاص مرتبط بالمصالح الذاتية المجردة ولا علاقة له بالحق والعدل والرأفة؟ والجواب في نظري هو: نعم، ولا. نعم: هي التي تجعل بوش يتجاهل إعصار كاترينا عدة أيام، ثم يكرر الزيارات بصورة مبالغ فيها. ونعم: هي التي تفسر تباكي زعماء الغرب على ما وصفوه بأكبر مأساة إنسانية في دارفور، بل هدد الأمين العام للأمم المتحدة بالتدخل العسكري من أجل إغاثة المحتاجين، ثم تسكت، بل وتمتنع عن إجابة استغاثات المسؤولين في النيجر عن بوادر المجاعة حتى اضطر رئيس الوزراء أن يوجه دعوات رسمية للمؤسسات الإسلامية للوقوف على الوضع رجاء المساعدة، ولكن أين المؤسسات الإغاثية الإسلامية التي برزت على مستوى العالم الإسلامي والتي تفوقت على المؤسسات الغربية العريقة، وبرز فيها مفهوم العمل التطوعي؟ هل ملَّ القائمون عليها أم ضعف دعم عامة المسلمين لها؟ أم، أم، أم حوصرت وشوِّهت ومنعت؟ لا شك أن الغرب ينظر للمؤسسات الإغاثية الإسلامية بنفس نظرته للمؤسسات الإغاثية الغربية التي تمثل احد أعمدة المد الاستعماري، أو بصورة ألطف «النفوذ الغربي» . ومن الأمثلة الحديثة التمرد في جنوب السودان، حيث الغالبيه وثنيون، بينما الذي رفع راية التمرد من البداية حتى الآن هم ممن تربى في الكنيسة واكتسب اسماً نصرانياً أوروبياً مثل (جون) وبالمثل تيمور الشرقية في أندونيسيا ولذا فإن وجود المؤسسات، الإسلامية بالنسبة لهم علامة تنذر بتنامي نفوذ الدول التي تنتمي لها هذه المؤسسات، وعامل مهم في إضعاف أثر العمل التنصيري بين المسلمين وإحباط مشروع تنصير أندونيسيا وأفريقيا. إن أعمدة نجاح المشروع التنصيري الاستعماري يعتمد على الإمكانيات وهي متاحه لهم. وعلى وجود المأساة الإنسانية وتفاقمها، وعلى انعدام المنافس. لقد سارعت بعض القوى في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر إلى انتهاز الفرصة ومحاربة منافسيهم؛ فتحت شعار محاربة الإرهاب تم حظر حركات إسلامية إقليمية مثل حماس والجهاد، وحوكم أناس بدعوى جمع تبرعات لأيتام فلسطين، وتجاوز الأمر إلى تجميد حسابات لرجال أعمال مسلمين لمجرد أنهم ناجحون، وليتبين بعد سنتين أنه بريء؛ فقد انتهى ودُمرِّ وهو المقصود، وهذا ما حصل مع مؤسسة الحرمين؛ فقد تمت مداهمة مكاتبها في أمريكا واتُّهمت بدعم الإرهاب وارتكاب مخالفات، وقام الإعلام المأجور أو الغبي بالتشهير والتشويه حتى إنك تتصور أنه إذا غضبت أمريكا على أحد حسبت الناس كلهم غضاباً؛ ولذا لم تعد هذه المؤسسة موجودة على الرغم من انكشاف أن التهم ليس لها أساس، وبعد سنوات من المرافعات والدعاوى يعلن القاضي الأمريكي «كوفن» من المحكمة الفيدرالية بولاية «أوريجون» الأمريكية الجمعة 9/9/2005 إسقاطاً شاملاً لجميع التهم الموجهة إلى مكتب مؤسسة الحرمين الخيرية بمدينة «آشلاند» في ولاية أوريجون بالولايات المتحدة، وعدم أحقية الحكومة في رفع القضية مستقبلا بنفس التهم. إن معاناة المسلمين في النيجر واستفراد المؤسسات التنصيرية بهم تحتم أن تعيد حكومات العالم الإسلامي النظر في المؤسسات الإغاثية، وان تعيد لها اعتبارها ومنحها الدعم المادي والمعنوي وحرية العمل لاعتبارات إنسانية أولاً، ولمصالح استرتيجية ثانياً
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(217/16)
الدستور العراقي الجديد عامل توحيد أم عامل تمزيق؟
إبراهيم العبيدي
لا زالت لجنة صياغة الدستور العراقي الجديد ـ حتى كتابة هذا المقال ـ تتبادل النقاش والحوار حول الخلافات الكبيرة بين الكتل السياسية العراقية ومن ورائهم الضغط الأمريكي، وحتى كتابة هذه السطور لم يتوصل المجتمعون المختلفون إلى حل مُرضٍ لجميع الأطراف بخصوص القضايا العالقة والخلافية فيما بينهم، وهو الأمر الذي يصفه كثيرون بأنه يندرج تحت قائمة الإخفاق السياسي الذي مُنيت به الحكومة المؤقتة؛ حيث أوكلت المهمة إلى ما يسمى بلجنة صياغة الدستورالمكونة من (71 عضواً) جُلُّهم غير متخصصين، والتي يغلب عليها طابع التحاصص الطائفي والعرقي. هذه اللجنة ومن خلال خطواتها الركيكة في إعداد وصياغة الدستور (الذي كتبه بريمر الحاكم المدني السابق للعراق، وأقره مجلس الحكم الانتقالي) 70% من الدستور منجَز، ولم يبقَ سوى 30% فقط يراد مناقشته لإنهائه، كما يفتخر به بعض أعضاء لجنة صياغة الدستور.
ومن الجدير بالذكر أن قانون إدارة الدولة الذي أقره الحاكم المدني الأمريكي للعراق «بول بريمر» والذي وقَّع عليه أعضاء مجلس الحكم الانتقالي «المعيَّن» آنذاك، هذا القانون هو الذي أوجد الأرضية والمرجعية القانونية لكل القضايا المختلف عليها الآن بين الكتل السياسية، بداية من الفيدرالية، ومروراً بهوية العراق، ونهاية بمصدر التشريع في البلاد، إلى آخره من أمور قد أسس لها هذا القانون المشبوه، وهو ما يقودنا إلى القول بأن الأمريكان هم الذين وضعوا هذا القانون الذي من شأنه أن يمزق العراق ويجعله دويلات صغيرة ومتناحرة تحت مسمى «الفيدرالية» ليكون عراقاً ضعيفاً لتحقيق ما يسمى بنظرية (أمن إسرائيل) ! وهو من الأهداف الرئيسة والهامة من عملية الغزو الأمريكي للعراق أصلاً، والذي يراد تحقيقه على كل حال. لذلك فإنه ليس مستغرباً أن تواجه لجنة صياغة الدستور خلافات كبيرة لا يمكن حلها إطلاقاً، وهي مستعصية بسبب غاياتها ومراميها الخطيرة لدى أصحابها من الكتل الحزبية التي جاءت من الخارج وولاءاتهم ليست للعراق إطلاقاً، وهم الذين يتعاملون مع العراق وكانه «سرقة» يجب تقسيمها بين اللصوص ومَنْ وراءهم الذين كان لهم النصيب الأوفر في التخطيط والتنفيذ لسرقة العراق وتدميره، وهو مؤشر خطير في مثل هذا الدستور على مستقبل العراق الجديد. فمثلاً لو نظرنا إلى مطالب الأكراد الرئيسية والتي لا يمكن المساومة عليها كما يقول (مسعود البرزاني) ، فسنجدها مطالب تعجيزية لا يمكن أن تقبلها أي حكومة وطنية ديمقراطية تكون في بغداد، وهي على النحو التالي:
1 ـ أن الدستور الجديد يجب أن يتضمن ما يشير إلى حق تقرير المصير للأكراد بعد مرور ثماني سنوات من العمل به وفي الحالات التالية: إذا تغير النظام الديمقراطي الفيدرالي أو إذا تعرض للعدوان أو للاضطهاد أو استقطاع أية منطقة منه تعرف وفق الحقائق الجغرافية والتاريخية بأنها جزء من كردستان العراق أو الامتناع عن إلحاقها به «في إشارة إلى مدينة كركوك الغنية بالنفط» والتي ستشكل عقبة كأداء أمام أي تسوية مع الأكراد دون أن تمنح المدينة لهم، وهو الأمر الذي سيتم ترحيله مع القضايا المرحَّلة خشية الاصطدام في الوقت الحاضر، وسيبقى الأمر كالقنبلة الموقوته يتفجر في أي لحظة.
2 ـ أن يكون اسم الدولة جمهورية العراق الفيدرالي أو الاتحادي، وأن يكون نظام الحكم جمهورياً برلمانياً اتحادياً فيدرالياً ديمقراطياً تعددياً، ويجري تقاسم السلطة بين الحكومة الاتحادية وبين حكومات الأقاليم، وأن يكون النظام الفيدرالي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية وليس على أساس عرقي أو مذهبي.
3 ـ أن تتكون دولة العراق من قوميتين رئيسيتين: العربية والكردية، وأن الشعب العربي جزء من الأمة العربية، والشعب الكردي جزء من الامة الكردية؛ مع إقرار الحقوق المشروعة للتركمان والكلدوآشوريين.
4 ـ يجب أن تخضع القوات المسلحة للسيطرة المدنية، وتحديد ميزانية للقوات المسلحة بحيث لا تتجأوز 4% من ميزانية العراق، وأن يحتفظ كل إقليم فيدرالي بقواته المسلحة، في إشارة إلى قوات (البيشمركة الكردية) التي يرفض الأكراد حلها واعتبارها ميليشيا وإنما يجب اعتبارها جيشاً قائماً في كردستان العراق.
5 ـ أن يمثل إقليم كردستان مسؤول في وزارة الخارجية العراقية لرعاية شؤون الإقليم في وزارة الخارجية، إضافة إلى ممثلين في سفارات العراق في الخارج.
6 ـ أن تكون الثروات الطبيعية والنفطية ملكاً للإقليم، وأن تتولى حكومة الإقليم عملية الاستخراج والإدارة والتوزيع، وتخصيص نسبة 5% من واردات الثروة للمحافظة، ونسبة 60% لحكومة الإقليم و35% للحكومة الاتحادية.
هذه هي مطالب الأكراد الرئيسية المعلنة والتي تمثل حقوق الأكراد وطموحاتهم كما يقولون، وهي كفيلة بان يرفض الأكراد التصويت على الدستور إذا تم تجاهلها، وكما قال في تصريحات أطلقها مؤخراً مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق مؤخراً برفض الدستور العراقي الذي تجري صياغته حالياً في حال عدم تلبيته طموحات الأكراد ومطالبهم مشيراً إلى أن الدستور إذا لم يعترف بحقوق الأكراد؛ فمن غير الممكن أن نقبل به. (إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هناك مادة في قانون إدارة الدولة تنص على إمكانية رفض الدستور من قِبَل أي ثلاث محافظات مجتمعة بأغلبية الثلثين) وهو أمر يمكن استخدامه من قِبَل الأكراد والشيعة والسنة، وهو ما يقودنا للقول بأن هذه الخلافات قطعاً سوف تعصف بمسودة الدستور قبل أن يجف الحبر الذي يكتب به؛ ولا سيما إذا لم تتضمن هذه المسودة مطالب الجميع وهو أمر بطبيعة الحال غير ممكن بسبب طبيعة هذه الطلبات وغاياتها، التي بعضها «مشبوه وغير وطني أصلاً» .
أما عن المطالب الشيعية فهي الأخرى مطالب يغلب عليها طابع الطائفية، ومن أبرزها:
1 ـ مطالبتهم بان يكون للمرجعية «الشيعية» دورها الإرشادي في البلاد.
2 ـ وكذلك ضمان احترام العتبات المقدسة في الدستور، وواردها المالي يكون خاصاً بالمرجعية الدينية.
3 ـ وأن تكون جمهورية العراق إسلامية (طبعاً على النمط الإيراني) .
4 ـ وآخر هذه المطالب الطائفية ما طالب به (عبد العزيز الحكيم) مؤخراً «بوجوب قيام إقليم شيعي في الجنوب والفرات الأوسط من العراق» أسوة بإقليم كردستان وتحت غطاء الفيدرالية المقيت، وهذه الدعوة من قِبَل المذكور رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ذي الولاء الإيراني الخالص، جاءت بعد إعلان المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في تعليقه على الفيدرالية بقوله: «لا باس بها إذا كانت خيار الشعب» وهو الأمر الذي طالب به الحكيم والأمين العام لفيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الاعلى للثورة الإسلامية المدعو: (هادي العامري) مؤخراً في جمع حاشد من الشيعة الموالين لإيران (أثناء حفل مناسبة مرور السنة الثانية على مقتل محمد باقر الحكيم الرئيس السابق للمجلس الأعلى) المذكور.
أما مطالب السنة العرب أو بالأحرى «التحفظات والمآخذ» على طلبات الفرقاء السياسيين فهي على النقيض من المطالب الكردية والشيعية؛ حيث تتسم بالموضوعية والحس الوطني المجرد للعراق بعيداً عن كل تأثير حزبي، أو طائفي، أو عرقي. ومن أبرز هذه المطالب والتحفظات على مسودة صياغة الدستور الجديد ما يلي:
1 ـ التحفظ على مسالة الفيدرالية التي يراد منها بحسب قول السنة العرب (تقسيم العراق إلى «كانتونات» منفصلة للأكراد في الشمال، والشيعة في الجنوب على أساس طائفي وعرقي) ؛ بحسب ما أشار إليه عضو لجنة صياغة الدستور عن السنة العرب الدكتور صالح المطلق، ويطرحون مشروعاً بديلاً عنها هو «اللامركزية» مع إعطاء صلاحيات أوسع للمحافظ في كل محافظة بالعراق.
2 ـ التحفظ على عدم ذكر هوية العراق العربية والإسلامية؛ حيث يراد إخراج العراق من عمقه العربي التاريخي والحضاري، وسلخه ليكون عراقاً دون هوية.
3 ـ التحفظ على جعل القومية الفارسية إحدى القوميات العراقية «كما يطالب بذلك المجلس الأعلى (الحكيم) » وهو مطلب غريب يفتقر إلى العلمية والموضوعية؛ حيث لا توجد أي قومية فارسية في العراق في كل دساتير العراق السابقة.
4 ـ التحفظ على الدور الإرشادي للمرجعية «الشيعية» وكذلك استقلال ما يسمى بالعتبات المقدسة بموارها المالية الكبيرة للمراجع الدينية يتصرفون بها كيف يشاؤون وضمان ذلك في الدستور، كما يطالب به الشيعة.
5 ـ ضرورة ترحيل القضايا المهمة والكبيرة العالقة مثل (الفيدرالية، ومسألة كركوك وغيرها) إلى ما بعد الانتخابات القادمة والجمعية الوطنية الجديدة التي يتوقع أن تكون أكثر تمثيلاً للشعب العراقي.
لذلك وبناءً على هذه المعطيات والمطالب والاختلافات الكبيرة بين الفرقاء السياسين العراقيين؛ فإنه يصبح من الصعب بل المستحيل الاتفاق طوعاً بين هذه الأطراف لتسوية جميع الخلافات العالقة، ولا سيما التي أشرنا إليها من بين الثماني عشرة نقطة «الخلافية» وهو الأمر الذي يرجح لنا السناريوهات التالية:
- ترحيل القضايا العالقة «التي ستبقى دون التوصل إلى اتفاق» إلى ما بعد الانتخابات العامة القادمة التي ستجري في ديسمبر/ كانون الأول لاختيار حكومة وجمعية وطنية جديدة «عسى أن تكون هذه الجمعية أكثر تمثيلاً للشعب العراقي عما عليه الآن» وهذا يتطلب بالضرورة مشاركة سُنِّية فاعلة في الانتخابات المقبلة. ومن ثَم سوف تتسم قرارات هذه الجمعية بنوع من القوة بسبب هذا التمثيل الذي سيفرض نفسه على الجميع على أنه قرار الشعب.
- انسحاب كردي مفاجئ من الحكومة المؤقتة، فيما إذا احتدمت الخلافات حول مطالبهم وهو ما يعني بالضرورة سقوط الحكومة الحالية المؤقتة وحلها. وهذا ما ألمح إليه قبل أيام الزعيم الكردي مسعود البرزاني في معرض حديثه في لقاء خاص مع قناة العربية.
- وبما أن مقترح التمديد للجنة صياغة الدستور قد رُفِضَ من قِبَل الأمريكان على لسان الرئيس جلال الطالباني وإن مُدِد مؤخراً أمام عدم الاتفاق وخشية الإخفاق الذريع؛ فهذا يعني حل الحكومة والاستعداد لإجراء الانتخابات العامة في البلاد كما هو مقرر نهاية العام. ومن ناحية أخرى يرى محللون أن قرار عدم التمديد هذا هو مؤشر قوي على التفكير الجدي للإدارة «الأمريكية والبريطانية» بوضع جدولة للانسحاب تدريجياً من العراق، ولحفظ ما تبقى من ماء الوجه للإدارتين، والقول بأن مهمتنا قد انتهت بوضع دستور للبلاد، والهروب من المأزق السياسي والأمني الذي تعيشه هذه القوات، وتوفير خسائرهما المتزايدة بفضل ضربات المقاومة الوطنية العراقية الباسلة.
- استخدام حق (الفيتو) من قِبَل العرب السُّنة إذا ما مُرِّرت القضايا التي تحفظوا عليها والتي أشرنا إليها آنفاً، عند عملية الاستفتاء على مسودة الدستور المزمع إجراؤها في اكتوبر. (وهو حق مشروع نص عليه في قانون إدارة الدولة) .
ويبقى السؤال الكبير الأهم الذي ينبغي أن يطرح وهو: هل الدستور العراقي الجديد والمرتقب، سيكون عامل توحيد وأستقلال للعراق أرضاً وشعباً وثروة، تُحفظ فيه الحقوق، وتُصان فيه الحرمات، وتُحترم فيه العقائد؟ أم سيكون دستوراً لتمزيق العراق أرضاً، وشعباً وسلباً لثرواته؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة في العراق الجديد إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التدخل الأمريكي السافر في إعداد وكتابة هذا الدستور، وما يراد له أن يكون دستوراً لعراق جديد «مشرذم» أرضاً وشعباً وثروة، يحقق الأهداف الأمريكية التي تم غزو العراق من أجلها، وعلى رأس هذه الأهداف حماية أمن العدو الصهيوني.
وقد يخطئ الأمريكان مرة أخرى إذا ما اعتقدوا أن الانتهاء من مسودة الدستور «المرضي عنه أمريكياً» سوف يكون البلسم الشافي لمأزق العراق الأمني والسياسي والأقتصادي والخدمي، وهو تكرار للخطاً الذي ارتكبته الإدارة في نتائج الانتخابات العراقية الأولى «الناقصة» والذي نتج عنها ولادة حكومة مشوهة، وما أعقبها من تدهور أمني وحالة عدم استقرار شامل، وهذه المرة سيكون الوضع أشد سوءاً؛ حيث سيوضع العراق كله في مرحلة جديدة من العنف والاقتتال الداخلي الذي ربما يتجاوز مداه الجغرافي. نسأل الله أن يحفظ العراق وأهله وأن يوفقهم لما فيه الخير والتوفيق.(217/17)
السفير زلماي زاده والرسالة الخفية في مهمته
سيف العبيدي
لم يكن مفاجأة استبدال (نغروبنتي) بأحد أهم أركان اليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية والمشارك الرئيس بوضع خطط واستراتيجية الحرب على العراق واحتلاله؛ وذلك لما تعانيه الإدارة الأمريكية من تخبط في سياستها في العراق، فكان المذكور ضالة الرئيس بوش المنشودة وهو من قبيلة البشتون الأفغانية
ولد في أفغانستان، وأكمل الدراسة في جامعة شيكاغو، وفي الثمانينيات من القرن الماضي عمل في الخارجية الأمريكية في فترة حكم ريغان. وقد كان له دور مهم في تلك الفترة؛ حيث قام بالمساعدة في إمداد المجاهدين الأفغان في حربهم ضد السوفييت. وهو عضو مؤسس لمشروع القرن الأمريكي الجديد، وقد عمل أعضاء هذا المشروع على اتخاذ موقف معاد وشديد تجاه العراق منذ بداية تأسيسه؛ فقد وجه أعضاء هذا المشروع عام 1998م رسالة إلى الرئيس كلينتون طالبوه فيها بإزاحة النظام العراقي بأي شكل من الأشكال، واعتبروا أن هذا هو هدف استراتيجي للسياسة الخارجية الأمريكية.
وصار دور (زاده) أكبر عند تولي بوش الرئاسة حيث جمع حوله مجموعة كبيرة من الساسة الأكثر تطرفاً وفاشية في الإدارة الأمريكية الحالية، وكان (زلماي) أحدهم، وازداد نجم (زلماي) سطوعاً بعد أن عُين عضواً في مجلس الأمن القومي الأمريكي ومساعداً خاصاً لبوش لشؤون الشرق الأدنى وجنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا. بعد هذا التطور الجديد في عمل (زاده) اعتبره المراقبون المسؤول الأول عن المناطق المشتعلة في العالم. ولا يفوتني أن أذكر أنه قبل الحرب على العراق عُين مبعوثاً من قِبَل الأمريكان ليتحاور مع الذين يدَّعون أنهم معارضة عراقية قبل الحرب؛ وذلك ليس غريباً إذا علمنا أنه يرتبط بعلاقة حميمة مع أحمد الجلبي الذي درس هو أيضاً في جامعة شيكاغو.
وقد كان (زاده) الراعي الأول لمؤتمرات لندن وأربيل عام 2002، وأشرف على مؤتمر الناصرية بعد السقوط بشكل مباشر، وقبل ذلك في عام 1992 أصبح (زاده) مساعد نائب وزير الدفاع لشؤون تخطيط سياسات الجيش الأمريكي. ولعل سبب تقلد (المذكور) لهذه المناصب الحساسة والتي آخرها منصب السفير الأمريكي لأخطر بقعة في الأرض عند الإدارة الأمريكية (العراق) ما هو إلا بسبب أفكاره اليمينية المتطرفة التي تدير دفة السياسة الأمريكية الآن. وأرى كما يرى كل المراقبين أن تعيين (وولفويتز) لرئاسة البنك الدولي و (جون بولتون) سفيراً لأمريكا لدى الأمم المتحدة و (زاده) سفيراً في العراق أن الإدارة الأمريكية عازمة على مخططات جديدة ومن ثَم مساع جديدة للسيطرة على دول أخرى هذا إذا استطاعت أن تخرج أقدامها من وحل العراق.
ونعود إلى الدور الذي جاء يحمله (زاده) إلى العراق.
إن لـ (زلماي خليل زاده) حقداً بل أحقاداً دفينة على العراق انتهت باحتلاله؛ فهو واضع السياسات التي أُعدت لحرب الخليج، وهو الذي طلب علناً من (بوش الأب) أن تُقَوَّى إيران وأن يُحتوى العراق؛ لأن ضعف إيران في المنطقة يعتبره الأمريكان مشكلة في سياساتهم غير المحدودة. وبالرغم من أن (زاده) يحمل الجنسية الأفغانية وهو مسلم؛ إلا أن المجموعة اليمينية المتطرفة في حزب الليكود تعتبره من أكبر الداعمين لها. وما ترشيح بوش لـ (زاده) للعمل سفيراً في العراق إلا تعبير عن أهمية العراق في السياسة الأمريكية والصهيونية، وليبعث رسالة في أن المحافظين الجدد هم من يحكم أمريكا اليوم.
ومن أسباب اختيار (زاده) لهذا المنصب هو خبرته النفطية التي تؤهله لذلك؛ فقد حاول التفاوض مع شركات نفط أفغانية، ولقد اضطر أن يدافع عن طالبان علناً ليحصل على ما يريد، وعلاقته بشركات (ديك تشيني) النفطية في العراق معروفة وهو الآن يمهد كثيراً لعمل هذه الشركات التي استولت على كل العقود النفطية تقريباً. ولكون الرجل قد نفذ مهمات كتلك في بلده أفغانستان حينما كان يدعم طالبان دعماً عسكرياً ولوجستياً، وهو الذي مهد لشخص مثل (حميد كرزاي) لتولي رئاسة أفغانستان، وسيَّر العملية السياسة بما يخدم مصالح أمريكا.
فهو الذي أدخل بعض قادة تحالف الشمال في العملية السياسية في أفغانستان، وبضغوط منه صدر العفو عن حركة طالبان. حتى إن تجارة الأفيون والهيروين بلغت أوجها خلال عمله سفيراً في أفغانستان؛ لأن هذه التجارة يسيطر عليها قواد تحالف الشمال. وعندما دفعت به أمريكا إلى العراق أرادت استخدامه كمحرقة للمتطرفين الشيعة في العراق مثل إبراهيم الجعفري والحكيم والجلبي وغيرهم؛ مثلما استخدم جنرالات تحالف الشمال في أفغانستان، وحتى يصبح العراقيون ناقمين على (المد الصفوي العارم المتطرف) وبحيث تصبح النظرة أن هؤلاء هم أكثر ضرراً من الأمريكان أنفسهم. أي بعبارة أخرى: القيام بحرق كل هذه الأوراق التي لعبت بها بعد أن استعملتهم سياطاً في كل من العراق وأفغانستان. وهكذا ستضطر الإدارة الأمريكية والعراقيون أنفسهم إلى استبدال هؤلاء الساسة والمجيء بآخرين أكثر اعتدالاً ليُرضوا طموحات هذا الشعب من جهة (إذا بقيت له طموحات تتعدى الحلم بالمحروقات والماء والكهرباء) ويؤمِّن البقاء الأمريكي ونهب الثروات وتفعيل المشروع الأمريكي من جهة أخرى ليس في العراق فحسب، بل في كل المنطقة. وهذه الخطة بدت معالمها واضحة وجلية على الساحة العراقية، وهذه هي أهم أسباب قدوم (زلماي) إلى العراق. أما السبب الإستراتيجي فيحتاج إلى وقفة.
فالإدارة الأمريكية تعي حرج موقفها بعد أن تكشفت لرجال الكونغرس ورجال الصحافة حقائق ما يحصل في العراق، وبدأت تتسرب الى الشعب الأمريكي تخبطاتها، فإنها لمست على أبواب الفلوجة المجاهدة عنوان إخفاقها في الملحمة الأولى، وكذلك جميع مدن السنَّة في شهري آذار - نيسان/ عام 2004. وبعد أن تصاعدت وتيرة العمليات النوعية والكمية للمقاومة التي تخطت 120 عملية مؤثرة في اليوم الواحد في أشهر آب، تشرين الثاني 2004، عكفت مراكز البحوث الأمريكية ومؤسسات الفكر على صياغة استراتيجية الخروج، ونشرت هذه المراكز عشرات الدراسات العسكرية والاستخباراتية والتحليلات السياسية التي اعتمدت على آراء القادة العسكريين الميدانيين والمسؤولين السياسيين والاستخباريين، فأكدت جميع تلك الدراسات على صعوبة أو استحالة القضاء على المقاومة العراقية عسكرياً، وأن قوات الاحتلال تواجه وضعاً صعباً للغاية؛ حيث وصل بها الإخفاق إلى حد العجز عن تأمين شارع واحد في بغداد طوله 7 أميال، سموه شارع الموت، وهو شارع المطار. ثم عجزت هذه القوة الخيالية بتسليحها وتجهيزاتها عن السيطرة على ناحية الكرابلة والمبيت فيها ليلة واحدة، أو الدخول إلى قضاء القائم وهو قضاء واحد من أقضية محافظة الأنبار؛ فما بالك بالباقي من العراق باجمعه؟
وقد حمل ذلك الرئيس (بوش) مؤخراً على الاعتراف بهذه الحقيقة في خطابه الأسبوعي عبر الإذاعة، وتأكيده على أن قواته تواجه مشكلات عسيرة، وأن المهمة في العراق ليست سهلة ولن تنجز بين عشية وضحاها، وهو نفسه الذي أعلن للعالم من على ظهر حاملة الطائرات يوم الأول من أيار 2002م بأن المهمة قد أُنجزت.
ويعد استبدال (نغروبنتي) بـ (زاده) ومن قبله استبدال (بريمر) الذي لحق بأول طائرة تنقله إلى داره من هذا الجحيم الذي تصبه المقاومة عليه وعلى رعيته التابعين من عراقيين ومتحالفين يُعَدُّ الأمر محاولة مستميتة أو هو ضربة يأس في النزع الأخير لإنقاذ أميركا من هزيمة كبرى.
ولخلفية هذا الشخص في (التفاوض والمكر) يبدو أنه الرجل الأول فيما يسمى بالمصالحة الوطنية. كما أن الإدارة الأمريكية بهذا الاستبدال ترسل رسالة خفية إلى المقاومة العراقية الباسلة بأن هناك مجالاً للمصالحة.
تُرى هل فهم العراقيون اللعبة، أم أنها ستنطلي عليهم مثل أفغانستان؟ لكن الثابت، وحسب ما هو واقع أن عموم العراقيين، الذين يحمون المقاومة بدمائهم ومالهم، يعلمون علم اليقين أن المقاومة الوطنية العراقية الباسلة غير معنية بهذه المفاوضات، لسبب بسيط جداً، هو إيمانهم المطلق بالمقاومة وبمصداقية برنامجها السياسي، وبعزمها على تحرير العراق من المحتل الغاصب مهما غلت التضحيات، ولولا هذه المصداقية لما كانت المقاومة قد حققت كل هذه الانتصارات. وما لا يعلمه الأمريكان وتوابعهم، هو أن العراقيين، لا يعيرون اهتماماً للمشاريع والبرامج السياسية، بقدر ما يعيرون اهتماماً بمصداقية أصحابها.(217/18)
التطبيع الصهيوني الباكستاني تداعياته وأهدافه
رضا عبد الودود
مع توالي الردود الشعبية والحزبيّة الباكستانيّة المندّدة والمستهجنة للقاء المفاجئ الذي جمع وزير خارجيّة باكستان خورشيد قصوري، مع وزير خارجيّة الكيان الصهيونيّ سيلفان شالوم، الخميس 1/9/2005م في مدينة إستانبول التركية اشتعلت الأراضي الفلسطينية بالمظاهرات الرافضة لتلك الخطوة التطبيعية، واعتبرت حركات المقاومة
ويأتي اجتماع إستانبول قبيل زيارة الرئيس الباكستاني لنيويورك في سبتمبر الجاري لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعزمه على إلقاء كلمة في اجتماع للتقارب بين الأديان ينظمه المجلس اليهودي العالمي خلال زيارته تلك (1) .
- مغزى وتوقيت قرار التطبيع:
على الجانب الباكستاني يُعد قرار مشرِّف ببدء التطبيع مع الصهاينة آخر ما أثار غضب الشارع الباكستاني الذي أغضبه أيضاً قراره المشاركة في الحرب التي أعلنتها واشنطن على ما يسمى بـ (الإرهاب) في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 التي طالت دولاً إسلامية، والذي تلاه قرار إغلاق أكثر من 2000 معهد ومدرسة دينية تضم طلاب علم من كافة انحاء العالم، تخدم مسلمي مناطق آسيا الذين يجدون صعوبة كبيرة في الانتقال إلى الدول العربية لتلقي المناهج الإسلامية.
وعلى الصعيد الاستراتيجي توافَقَ قرار التطبيع الباكستاني مع الكيان الصهيوني مع التطبيع السياسي الذي يشهده الملف الباكستاني الهندي، والذي يشمل زيارات دبلوماسية مشتركة، وتقديم تعهدات بعدم تنفيذ تجارب نووية إلا بعد إخبار الطرف الهندي، مع تقديم بعض التنازلات في القضية الكشميرية لصالح الجانب الهندي.
وعلى الجانب الصهيوني مثلت خطوة التطبيع مع باكستان خلخلة كبيرة وإنجازاً صهيونياً؛ إذ تمثل باكستان ثقلاً كبيراً في العالم الإسلامي في منطقة آسيا من المحتمل أن يفتح للصهاينة أبواباً كثيرة مغلقة.
وتأتي الخطوة في ضوء الترويج الإعلامي الصهيوني وتجميل صورتها الذي نجحت في تصويره للعالم باقتدار خلال انسحابها الصوري من غزة، بأنها تريد العيش في سلام.
كما تمثل الخطوة التطبيعية نجاحاً دبلوماسياً للصهاينة بعد (مؤتمر هرتزيليا) الأخير الذي قرر فيه الصهاينة توسيع دائرة التطبيع الشعبي والرسمي مع الدول العربية والإسلامية بصورة موسعة، والذي أكدته تصريحات الصهاينة بأن مفاوضات تطبيعية سرية تدور منذ أمد بعيد مع عشر دول عربية، وتلا ذلك الإعلان هذا الاسبوع عن افتتاح ملحقية ثقافية صهيونية بدبي بدولة الإمارات العربية.
وبذلك تنضاف باكستان إلى تركيا وموريتانيا وقطر ومصر والأردن وتونس والمغرب علاوة على عُمان وبعض دول الخليج العربي التي تجمعها والصهاينة علاقات تجارية واسعة - الذين ركبوا قطار التطبيع مع الصهاينة تحت مسميات اقتصادية أو لدفع السلام أو لتلقي المعونات الاقتصادية من واشنطن أو من تل ابيب وغيرها، أو بانتظار موافقة واشنطن على صفقات السلاح لباكستان ولتحقيق توازن للقوى في آسيا في إشارة إلى العلاقات الوطيدة التي تربط الصهاينة بالهند.. والبقية تأتي على حساب الدم الفلسطيني النازف.
ولعل اخطر ما في خطوة الرئيس الباكستاني هذه هو توقيتها، أي أنها تتم قبل بضعة أيام من ذهاب شارون إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومخاطبة العالم عبر منصتها، ليظهر بصورة صانع سلام، وشخصية محترمة مقبولة من العالم الإسلامي!!
- تطبيع باكستاني صهيوني في تركيا بأوامر أمريكية:
بالتدقيق في تفاصيل العلاقات المتشابكة بين باكستان وواشنطن وتل أبيب، والصراع الممتد بين الهند وباكستان، تتجلى لنا عدة حقائق تدحض حجج باكستان التي تسوّق لها من وراء خطوتها التطبيعية التي تمثل استجابة مهينة للضغوط الأمريكية المتلاحقة عليها، والتي بدأت مسلسل الاستسلام بمضايقات التعليم الديني ومحاربته، والهجمات العسكرية المتلاحقة على منطقة بلوشستان، وطرد نحو 2000 طالب علم شرعي وافد كانوا يدرسون في معاهد باكستان الدينية والمطالبة بتغيير المناهج الإسلامية.. وفي هذا الإطار لا بد من النظر إلى المقابل الذي ترجوه باكستان من تلك الخطوة التطبيعية والذي يتمثل في مجموعة وعود بتخفيف ضغوط اللوبي الصهيوني إزاء صفقات السلاح الذي تسعى لها إسلام أباد من واشنطن ومن الدول الاوربية، وتحقيق توازن استراتيجي مع جارتها الهند. ولكن المنافع المتوقعة تصبح متهافتة إزاء حجم التعاون الاستراتيجي الأمريكي الهندي الذي لن يسمح بامتلاك باكستان بصورة كبيرة ما يهدد جارتها الهند، كما أن العلاقات الصهيونية الهندية الاستراتيجية تعلو على كل الآمال الباكستانية من الصهاينة.
- العلاقات الأمريكية الهندية:
بدأ التفاهم والتعاون الاستراتيجي الأمريكي مع الهند منذ عهد الرئيس الأسبق «بيل كلينتون» الذي زار الهند وأمضى بها أسبوعاً مقابل أقل من يوم واحد أمضاه في باكستان؛ ذرّاً للرماد في العيون. وترى السياسة الأمريكية أن الهند أكثر أهمية للولايات المتحدة، خصوصاً في مواجهة الصين العدو التقليدي المتعاظم للسياسة الأمريكية في آسيا، وتعتقد واشنطن أن الصين هي التي ساعدت باكستان في تطوير مشروعها النووي الذي يمثل تهديدًا لحليفتها (الدولة العبرية) ، كما ترى أن الهند هي الدولة الوحيدة القادرة على مواجهة الصين ومناوشتها بحكم القوة العسكرية والبشرية المتقاربة والتنافس التقليدي على النفوذ بين البلدين.
- العلاقات الصهيونية الهندية:
وفي مواجهة التعاون العسكري الصيني الباكستاني شجعت الولايات المتحدة حليفتها تلك على تطوير تعاونها العسكري مع الهند، الذي شمل صفقات صواريخ متقدمة وطائرات تجسس تعمل بدون طيارين، ووجد الصهاينة في الأزمة المستمرة بين الهند وباكستان فرصة جديدة لدعم هذا التعاون الذي تطور إلى تحالف استراتيجي؛ حيث سارعت الحكومة الصهيونية إلى إعلان دعمها الكامل للتحركات الهندية لضرب ما وصفته بقواعد الإرهاب، الذي زعمت أنها تعاني منه منذ سنوات مثل الهند؛ في مقارنة واضحة بين حركات المقاومة الفلسطينية والكشميرية واتهامها جميعاً بالعنف.
وشكلت نيودلهي وتل أبيب مجموعة عمل مشتركة لمقاومة ما يسمونه الإرهاب؛ بحيث تستعين الهند بالخبرات الصهيونية في مواجهة المقاومة الكشميرية، كما استعانت الدولة الصهيونية بالمعلومات الاستخبارية والخبرة العملية والتقنية الهندية في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وما زالت أمريكا تسعى إلى إقناع الهند بإعلان دعمها الكامل للدولة الصهيونية في مواجهة الدول العربية والإسلامية، والعدول عن الموقف الهندي التقليدي الداعم لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وهو الموقف الذي بناه حزب «المؤتمر الهندي» طوال فترة توليه السلطة، وكان بمثابة سياسة هندية ثابتة تجاه الصراع العربي الصهيوني.
ويعتبر الجانب العسكري في العلاقات بين الدور الصهاينة والهند من أهم جوانب التعاون وخاصة ارتباطه مباشرة بالصراع في كشمير ومواجهة باكستان؛ ويظهر هذا التعاون من خلال أمور:
ـ عُقِدَ بين الطرفين عددٌ من الاتفاقات العسكرية للتعاون وتبادل المعلومات وأساليب قمع المقاومة الفلسطينية والمقاومة الكشميرية؛ وقد قدم عدد من قادة المقاومة عام 1998 دليلاً ملموساً حينما قتلوا أحد الجنود الصهاينة ضمن أفراد الموساد الذين يعملون إلى جانب الهنود لمساعدتهم في قمع المقاومة الكشميرية وحصول الهند على طائرات مراقبة بدون طيار من الصهاينة، إضافة للتعاون بين البلدين لإنشاء نظام «فالكون» للإنذار الجوي المبكر؛ وكانت الولايات المتحدة قد منعت الدولة العبرية من التعاون مع الصين لإمدادها بهذا النظام، وفضلت التعاون مع الهند في هذا المجال.
ـ تحديث المقاتلات الهندية من نوع (ميغ 12) ، وتطوير الدبابات الهندية من (آرغون) والطائرات الخفيفة. علاوة على استخدام الصهاينة الأراضي الهندية لإجراء التجارب النووية عليها وخاصة في أعقاب انهيار النظام العنصري في جنوب أفريقيا الذي كانوا يتعاونون معه لإجراء هذه التجارب، وتدريب الجنود الهنود على إجراء عمليات الملاحقة لأفراد الحركات المقاومة في كشمير ومشاركتهم في التدريب الميداني على ذلك.
ـ كما تقوم الدولة الصهيونية بإمداد الهند بنظام رادارات حديثة للمراقبة، وتزويدهم بصورة رئيسة بالصور الحديثة للقمر التجسسي الصهيوني (أفق-5) ؛ وبعض الخبراء الهنود يدرسون إمكانية استئجار هذا القمر الصناعي لمراقبة الجيش الباكستاني.
ـ وملاحقة الأفراد من الجماعات الإسلامية في كشمير، ومراقبة الصواريخ والصناعات الباكستانية.
ـ تعهد الصهاينة الدائم بالوقوف إلى جانب الهند في حال اندلاع أي أزمة؛ وبخاصة حول كشمير ضد باكستان.
ولعل أهم وأبرز العوامل المتحكمة في التوازن الاستراتيجي في شبه القارة الهندية هو عامل الدعم الأمريكي لكلٍ من الهند والصهاينة لتفعيل التعاون بينهما باستمرار؛ حيث تسعى الولايات المتحدة لإقامة محور يضم واشنطن وتل أبيب ونيودلهي لمواجهة أي تجمع بين دول الصين وإيران وباكستان مستقبلاً.
كما تمثل القنبلة الباكستانية أرَقاً مستمراً لكل من واشنطن وتل أبيب ونيودلهي، فيتعاون الجميع في وضع خطط استراتيجية بمساعدة أمريكية لتدمير المفاعلات النووية الباكستانية، في حال وصول أي حزب من الأحزاب الإسلامية القوية إلى السلطة، أو أي حزب يرفض التعاون مع الولايات المتحدة.
وإزاء هذا التعاون الاستراتيجي الحيوي بين البلدين ماذا تنتظر باكستان من الصهاينة من دعم؟ هل ستضحي الدولة العبرية بالهند من أجل باكستان؟
والإجابة عن هذا التساؤل: بلا شك من غير المعقول والمقبول سياسياً أن يضحوا بالهند من أجل باكستان الدولة الإسلامية التي تؤكد أجهزة المخابرات الصهيونية أنها تهديد حيوي ضد المشروع النووي الصهيوني.
وفي النهاية لا بد من التأكيد على أن المحصلة النهائية المنتظرة من التطبيع الباكستاني الصهيوني ربما تجعل الرئيس مشرف يفوز بالإطراء الرسمي الأمريكي، ويسهل حصوله على بعض المساعدات المالية المحدودة، ولكنه قطعاً سيضيف متاعب داخلية جديدة له ولحكمه قد تقصر من فترة بقائه في السلطة، وبخاصة أن الأوضاع في أفغانستان بدأت تتطور في غير صالح الإدارة الأمريكية وحلفائها، وعلى رأسهم الرئيس مشرف.
__________
(*) صحفي مصري.
(1) ولقد صافح الرئيس الباكستاني (برويز مشرف) (شارون) المخضبة يداه بدماء إخواننا الفلسطينيين ونتساءل بكل صراحة: ما الفائدة من هذا اللقاء التطبيعي الذي وصف بالحميمي وهل يا ترى سيقدم الصهاينة لباكستان شيئاً غير ما يقدمونه للهند من دعم عسكري وهذا غير وارد تماماً فيما نعتقد.(217/19)
حقيقة الانتصار والانكسار
أحمد فهمي
انتصرت الولايات المتحدة في العراق؟ الجواب: نعم!
س: هل انهزمت الولايات المتحدة في العراق؟ الجواب: نعم!
هذه ليست أحجية، ولكنها حقيقة واقعة ومعقدة تحتاج إلى مراجعة معالم النصر والهزيمة في العالم المعاصر؛ فالحروب أو العمليات العسكرية لم تعد محصورة بنتائجها الميدانية، ولم تعد الخسائر البشرية أو الاقتصادية المباشرة هي المؤشرات الوحيدة على النصر أو الهزيمة، وقد فرضت هذه الحقيقة أوضاعاً قد تبدو متناقضة للوهلة الأولى؛ فخسائر الانتفاضة الفلسطينية على سبيل المثال تتجاوز بكثير خسائر الجانب الصهيوني، ومع ذلك فإن المحصلة النهائية للانتفاضة هي الربح لا الخسارة، والكثيرون يؤيدون ذلك، وهو ما يعني أن القاعدة صحيحة، ولكن المشكلة أننا نطبق هذه القاعدة في اتجاه واحد، أي نطبقها على الجانب أو المعركة التي نؤيدها فقط، وبعبارة أوضح فإن خسائر المواجهة في الجانب العربي والإسلامي لا تعد دلالة على انهزام أو تراجع، بينما الخسائر على الجانب الآخر مهما تضاءلت تعتبر دلالة على النصر، وهذا يثبت وجود خلل في موازين الفهم ولا شك.
ونعود إلى الواقع الأمريكي المتناقض لنقدم تفسيراً أوضح، حيث نجد سؤالاً ثالثاً هو في حقيقته جواب على السؤالين السابقين، وهو: مَنْ أو ما هي الولايات المتحدة؟ الجواب: هي ليست طرفاً واحداً أو مصالح مترابطة، بل هي أطراف متنافرة ومصالح متناحرة، وبالنسبة للحرب على العراق يمكن أن نلخص الأطراف الأمريكية في ثلاثة: لوبي شركات السلاح، البيت الأبيض، الرأي العام. وكل منها له أجندته ومصالحه الخاصة التي تتعارض في جزء كبير منها مع الآخرين. وباستخدام القاعدة السابقة في حساب الربح والخسارة، نجد أن الطرف الأول - شركات السلاح - تتحقق مصالحه مع بقاء القوات الأمريكية في العراق، وقد اتُّهم وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد بأنه تجاوز نصائح العسكريين بإرسال عدد لا يقل عن 400 ألف عسكري أمريكي، والسبب معروف: لوبي السلاح لا يريد حسماً سريعاً للمعركة؛ لأن ذلك يعني خسارة سريعة لمصالحه.
وبالنسبة للطرف الثاني - البيت الأبيض - فإن المعركة قد انتهت منذ إسقاط نظام صدام والعبث في التوازن الطائفي لصالح الشيعة والأكراد. ومنذ انتخاب الرئيس جورج بوش لفترة رئاسة ثانية بات واضحاً أن ملف الحرب العراقية وبالأخص تحديد مستقبل الاحتلال أصبح من ملفات الإدارة القادمة بعد ثلاث سنوات، وأن إدارة بوش قد انتقلت إلى المرحلة التالية وهي: ترتيب البيت العربي من الداخل.
أما الطرف الثالث - الرأي العام - فإن الحرب العراقية بالنسبة له مبررة إلى حد كبير، ولا يعبأ الأمريكيون كثيراً بما ورد فيها من كذب أو تجاوز في المسوغات، والمشكلة في حجم الخسائر، لكن هذه أيضاً لا تمثل قضية جوهرية ولم تستحق أن يسقط من أجلها جورج بوش في الانتخابات؛ فالخسائر في المستوى المقبول، كما أن غالبية القتلى من فئات مهمشة أو مهملة في المجتمع الأمريكي، وقد أحدثت خسائر إعصار كاترينا انخفاضاً تاريخياً في شعبية بوش لم تحققه أقسى أيام الحرب العراقية.
وخلاصة القول أنه من أهم العناصر في تحديد استراتيجية المواجهة: تحديد المؤشرات الحقيقية للنصر والهزيمة لدى الأعداء، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في كتابه الكريم: {إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104] وليس بشرط أن ينحصر الإيلام في عدد القتلى والجرحى.(217/20)
أضواء على تغيير النظام في موريتانيا
علي عبد المتعال
بعد الترحيب الذي أبداه زعماء الحركة الإسلامية الموريتانية، بالانقلاب العسكري الذي أزاح حكم الرئيسط السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، حيث قال 18 من قياديي الحركة الإسلامية في بيان لهم: إن «الإسلاميين الموريتانيين يرحبون بالتغيير في البلاد ويؤكدون مجدداً «ضرورة التشاور مع مجمل الأطراف
جاء على إثر هذا الترحيب الاستجابة السريعة التى أبداها قادة الانقلاب بهذا الموقف والتي تمثلت في الإفراج عن المعتقلين الإسلاميين من سجون الرئيس المخلوع.
ومن ثم انطلقت المسيرات تضم الآلاف من أنصار التيار الإسلامي من أمام السجن المركزي بالبلاد ابتهاجاً بإطلاق سراح المعتقلين وعلى رأسهم الداعية الإسلامي المعروف الشيخ «محمد الحسن ولد الددو» .
وقالت وكالة «الأخبار» الموريتانية حينها: إن الشيخ ولد الددو خرج من السجن المركزي وسط تدافع شديد من قِبَل أنصار التيار الإسلامي الذين توافدوا ابتهاجاً بحريته.
وشكر الشيخ الددو في كلمة موجزة ألقاها أمام الحشود، شكر الموريتانيين وتمنى كل التوفيق للمجلس العسكري، كما تمنى أيضاً أن يفي هذا المجلس بالوعود التي قطعها على نفسه من أجل إخراج البلاد من الوضعية التي كانت تعيشها.
وفي تعليقٍ رسمي صدر عن جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر على إطلاق سراح المعتقلين من التيار الإسلامي وعلى رأسهم الشيخ محمد الحسن ولد الددو أعرب المهندس محمد خيرت الشاطر - النائب الثاني للمرشد العام للجماعة - عن ترحيبه بقرار الإفراج.
وقال الشاطر: «نحن نرحب بأي خطوةٍ في اتجاه تدعيم الحريات» .
بعد هذه الرسائل الإيجابية المتبادلة بين الجانبين، صار التساؤل يطرح نفسه: ما الدور الحقيقى للحركة الإسلامية في الانقلاب الذي وقع ضد حكم ولد الطايع؟
وهل من بين أعضاء المجلس العسكري ممثل لهذه الحركة؟ وهل سيكون للإسلاميين كلمة في حكم البلاد في ظل النظام الجديد؟
وهل سيتنفس التيار الإسلامي في موريتانيا بحريته كأي قوة سياسية من حقها الدعوة بحرية إلى ما تتبناه؟
أم أن السر في تلك الإجراءات الجزئية من قِبَل العسكريين، يكمن وراء رغبتهم في توصيل رسالة من شأنها أن تضفي عليهم شرعية مستمدة من الشعب هم بحاجة إليها.
تشير الدلائل إلى الطابع العلماني المهيمن على الطيف الذي نال عضوية «المجلس العسكري» الحاكم في نواكشوط؛ حيث يضم مجموعة من الشخصيات ذات التوجهات المعروفة في الأوساط السياسية الموريتانية بأنها ليبرالية أو علمانية التوجه وموالية بشكل تقليدي لفرنسا بجانب شخصيات ذات توجه قبلي.
وتعكس تشكيلة المجلس المؤلف من 17 عسكرياً غياب أي تمثيل للتيار الإسلامي أو أي حضور فعال للشخصيات ذات (التوجه القومي) أو العروبي.
ويعد رئيس المجلس العقيد «علي ولد محمد فال» والعقيد «عبد الرحمن ولد بوبكر» نائبه والعقيد «محمد ولد عبد العزيز» القادة الفعليين للانقلاب الذين قاموا بدور أساسي في التخطيط له وتنفيذه.
كما يضم المجلس أعضاء ذوي توجه قبلي. ورأى مراقبون أن هؤلاء الأعضاء تم إقناعهم من قادة المجلس الفعليين للانضمام إليه لأجل استمالة القبائل الكبرى في البلاد إلى المجلس ولطمأنة الأقليات الزنجية دون أن يكون لهؤلاء الأعضاء دور أساسي في الانقلاب.
مصادر سياسية مطلعة في موريتانيا تعتبر العقيد (ولد محمد فال) من «رجال فرنسا» وأحد المتحمسين لنشر اللغة والثقافة الفرانكفونية على حساب اللغة العربية التي يجهلها تقريباً!.
كما أنه ينتمي إلى مدرسة تدعو إلى ارتباط موريتانيا بالثقافة الفرنسية وبالفضاء الفرانكفوني بدلاً من المحيط العربي، ومعروف عنه توجهه العلماني الليبرالي.
أما تكوينه الأكاديمي فهو محدود؛ حيث إنه دخل الجيش في الستينيات بعد إكمال تعليمه الثانوي ولم يحصل على أي شهادات أكاديمية عليا.
وينتمي (ولد محمد فال) إلى جيل الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع وكان يشغل منذ وصول الأخير إلى السلطة عام 1984 منصب المدير العام للأمن حتى يوم الانقلاب. وهو من أبناء عرب جنوب البلاد، ويتحدر من قبيلة «أولاد بو السباع» .
ويقول بعض من عرفه عن قرب قبل قيادته الانقلاب إن الرجل يرى أن الأمن في موريتانيا لا يتحقق بالوسائل العسكرية، وأن نجاح بلاده في التصدي للموجة العنصرية خلال حرب 1989م لم يتم بسبب قوتها العسكرية وإنما عبر التفاف قوى أساسية حولها في الداخل والخارج.
عاش «ولد محمد فال» عشرين عاماً في الظل، وعرف عنه كرهه مظاهر السلطة، ويفضل قضاء أوقات الفراغ مع أسرته وأقاربه مستخدماً إلى حد الإفراط إتقانه لروح الدعابة.
أما الرجل الثاني في تلك القيادة فهو العقيد «عبد الرحمن ولد بوبكر» الذي اشتهر في أوساط الجيش الموريتاني بأنه من «الضباط الشرفاء» حيث لا تحوم حوله شبهات الفساد أو التورط في اختلاس المال العام عكس بعض زملائه في المجلس الذين ترددت حولهم بعض الشبهات.
كما تميز العقيد «ولد بو بكر» بأنه لم يكن يوماً من المقربين لولد الطايع، وظل يمارس عمله كعسكري في الميدان إلى أن كلفه ولد الطايع بعد انقلاب الثامن من يونيو 2003 المحبط بمنصب مساعد قائد القوات المسلحة في مسعى لإصلاح المؤسسة العسكرية واحتواء التذمر داخل الجيش، غير أنه سرعان ما اختلف مع قائد القوات المسلحة العقيد العربي ولد سيدي علي ـ المعتقل حالياً من طرف الانقلابيين ـ ووصلت الخلافات بينهما مؤخراً لحد الشجار العلني في اجتماع للضباط.
ويتصف العقيد «ولد بو بكر» بالتدين دون أن يكون مصنفاً من الإسلاميين أو متعاطفاً معهم.
أما العقيد «محمد ولد عبد العزيز» ، فهو ضابط شاب وينحدر من قبيلة «ولد محمد فال» نفسها وبرز اسمه إلى الواجهة بعد انقلاب يونيو 2003م المحبط حيث أسهم في إحباط التمرد العسكري؛ وهو ما كافأه عليه ولد الطايع بتعيينه قائداً للحرس الرئاسي وهي القوة التي كانت تتولى أمن الرئيس وحمايته.
ومما يحسب للعقيد «ولد عبد العزيز» ما صرح به في مقابلة مع إذاعة «صوت أمريكا» الناطقة بالفرنسية؛ حيث قال تعليقاً على قرار إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين: إن المجلس أطلق سراح الإسلاميين؛ لأنهم «معروفون في الداخل والخارج باعتدالهم وبمواقفهم الرافضة للعنف، وأنهم معروفون في بروكسل على المستوى الأوروبي، بأنهم أناس معتدلون جداً، وبأنهم لم يتبنوا العنف أبداً» ، مضيفاً أن «اعتقال أناس معتدلين يعتبر استفزازاً للشعب الموريتاني، وإننا نعتقد أن ذلك هو أقرب طريق لدفع الناس المسالمين لليأس فيصبحوا إرهابيين» .
ويعتبر بعض المراقبين أن هذا التصريح يعكس الاختلاف الواضح في الطريقة التي يدير بها المجلس العسكري العلاقة مع الإسلاميين، عن الطريقة التي كان النظام السابق يدير بها العلاقة مع الإسلاميين، الذين يعتبرون من أبرز القوى السياسية التي عارضت النظام السابق.
يذكر أن العقيد «محمد ولد عبد العزيز» هو قائد الحرس الرئاسي الذي كان له دور محوري في نجاح الانقلاب.
ولعل الخطوة التي قامت بها الحكومة الموريتانية مؤخراً تعكس شيئاً من الرغبة في التعامل بإيجابية مع التيار الإسلامي في البلاد؛ حيث منحت وزارة الداخلية الترخيص لحزب «الملتقى الديمقراطي» بزعامة الشيخ المختار ولد حرمة بعد أن قدم ملفه للاعتماد رسمياً.
وكان النظام السابق يرفض الاعتراف بالحزب، بحجة أنه يضم قيادات في الحركة الإسلامية الموريتانية، بل كانت وزارة الداخلية ترفض حتى استقبال ممثليه وتسلم ملفه؛ لأنه كان سيترتب عنه تسليم الحركة وصلاً بذلك، ومن ثم السماح لها بممارسة نشاطها لمدة الشهرين التي تستغرقها دراسة الطلب، كما ينص عليه القانون الموريتاني.
وقال رئيس مجلس الحزب الشيخ «المختار» : إن النظام السابق كان يخشى الحزب؛ لأن له قاعدة شعبية واسعة في موريتانيا لا تقتصر على الإسلاميين والزنوج بل تمتد حتى إلى المستقلين.
ويضم «الملتقى الديمقراطي» مجموعات سياسية من أبرزها الإسلاميون وبعض المجموعات القومية الزنجية التي كانت تدعم المرشح «محمد خونا ولد هيداله» خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت 2003م.
واعتبرت مصادر مقربة من الحزب أن الخطوة «إيجابية جداً ودليل على أن النظام الجديد يسير بالفعل على طريق القطيعة مع النظام السابق» ، متمنياً أن تتبع هذه الخطوة خطوات أخرى من أهمها إطلاق سراح بقية السجناء في أقرب وقت ممكن.
جدير بالذكر أن المكتب التنفيذي يضم شخصيات إسلامية ووطنية من أبرزها:
- الرئيس الدكتور الشيخ ولد حرمه ولد بابانه.
- نائب الرئيس الأستاذ محمد جميل ولد منصور.
- الأمين العام النائب البرلماني الأستاذ جاورا كنيي.
- رئيس المجلس الوطني السفير المختار ولد محمد موسى.
- الأمين الوطني للسياسة الاستاذ السالك ولد سيدي محمود.
- الأمين الوطني للعلاقات الخارجية السفير كون الله.
- الأمين الوطني للإعلام الدكتور عبدوتى ولد عالي.
- الامين الوطني للحريات وحقوق الإنسان الاستاذ كان إسماعيل.
واعتبر قادة الحزب اعتراف السلطات الجديدة بهم بادرة خير وخطوة مشجعة نحو بناء دولة ديمقراطية، وفتح المجال أمام مختلف مكونات الشعب الموريتانى للمساهمة في المرحلة القادمة.
وأكد الحزب خلال بيان له وزع على ضرورة الإسراع بإعلان عفو عام عن سجناء الرأي والمنفيين من مدنيين وعسكريين، وإطلاق سراح كافة المعتقلين.
كما طالب بفتح قنوات التشاور مع الناشطين السياسيين البارزين لسد الطريق أمام أي تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية للبلاد.
إلا أنه ورغم كل تلك الرسائل الإيجابية فإن هناك ما يشير إلى شيء غير قليل من الشكوك يختلج في نفوس قادة الحركة الإسلامية الموريتانية بشأن حقيقة نوايا هؤلاء العسكريين من الدور الذي ينبغي أن يقوم به الإسلاميون في نظام الحكم الجديد، ومن ذلك أن الشيخ «محمد الحسن ولد الددو» سئل عن تقييمه بشأن مجموعة القرارات التي أصدرها المجلس العسكري والإجراءات التي اتخذها، فكان جوابه: «إلى الآن البيانات والقرارات التي أصدرها المجلس العسكري، تسير في غالبها في الطريق الصحيح، ويشكل بعضها معقد آمال الشعب الموريتاني، وليست لها معارضة؛ فكل الشعب موافق عليها» .
وهي كمبادئ نظرية عامة تحتاج للتطبيق، ويبقى التطبيق في المستقبل هو المحك الحقيقي؛ فإن ساروا على النهج نفسه استحقوا التشجيع والتأييد، وكانوا رموزاً للإصلاح والإنقاذ مثل ما كان فعله «سوار الذهب» في السودان و «توماني توري» في مالي، وإن كانت الأخرى ـ ونسأل الله ألا تكون ـ فلن يسلموا من معارضة غيرهم، وسنكون نحن أول المنكرين لمنكرهم مثل ما كنا.
ثم سئل: ما هي الكلمة التي توجهونها للقادة الجدد؟ فقال: هي الكلمة التي وجهتها لهم يوم أمس في المسيرة (يوم خروجه من المعتقل) ؛ وهي نصيحة لهم: أن يفوا بالتزاماتهم، وأن يكونوا صادقين وافين بما عقدوه على أنفسهم، وما أبرموه من عهود أمام الله ثم أمام هذا الشعب المسلم الأبي، فبذلك سيكونون بحق رموزاً للإصلاح والتغيير الجدي، انطلاقاً من ثوابت هذه البلاد، ومرجعيتها الإسلامية الأصيلة.
وهناك خطوات قام بها المجلس العسكري والحكومة التي شكلها رأى فيها المراقبون مبعث قلق كبير بشأن حقيقة الرغبة في الإصلاح؛ حيث تعهد رئيس وزراء موريتانيا الجديد، (سيدي محمد ولد بو بكر) بأن تظل بلاده حليفة للولايات المتحدة في ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب.
وقال (ولد بو بكر) رئيس الوزراء المدني المعين من قِبَل المجلس العسكري في حديث لوكالة رويترز: إن العلاقات مع الولايات المتحدة مهمة للغاية، وإن الحكومة الجديدة واثقة من قوة تلك العلاقات.
وأضاف أن موريتانيا تجدد بكل وضوح رغبتها في احترام إسهاماتها الدولية بما في ذلك الدور الذي تلعبه في الحرب على الإرهاب.
وكانت واشنطن قالت في أعقاب الانقلاب على ولد الطايع: إنها ستتعامل مع المجلس العسكري إذا أظهر أنه سيفي بوعوده.
وقال (ولد بو بكر) : إن الحكومة الجديدة لن تتدخل في القضايا القانونية الجارية حالياً، لكنه قال: إن إسلاميين آخرين سيطلق سراحهم إذا لم تثبت ضدهم أدلة.
ورداً على سؤال بخصوص الدولة العبرية قال ولد بوبكر: إن سياسة موريتانيا الخارجية ستكون سياسة تتسم بالاستمرار. وأشار إلى أن زعماء الانقلاب التقوا بجميع السفراء الأجانب في نواكشوط بمن فيهم السفير (الصهيوني) .
من جهة أخرى قالت مصادر صهيونية: إن مسؤولين موريتانيين جدد من بين من قادوا الانقلاب العسكري، زاروا تل أبيب سراً وطلبوا تعزيز العلاقات بين البلدين.
وطمأن الوفد الموريتاني المسؤولين في (الأرض المحتلة) بأن العلاقات بين البلدين لن تتأثر بعد إقصاء ولد طايع عن الحكم، وإنما سيتم تعزيزها!!
وقالت صحيفة «المنار» الفلسطينية: إنها علمت أن الحكام الجدد في نواكشوط أوفدوا مبعوثاً بشكل سري إلى الكيان الصهيوني، لطمأنة قادة تل أبيب والتأكيد على حرص الانقلابيين على تعزيز العلاقات بين موريتانيا والدولة العبرية.
وذكرت مصادر مطلعة أن الموفد الموريتاني الذي وصل إلى مطار تل أبيب، طلب من المسؤولين الصهاينة بحكم علاقاتهم الجيدة مع الرئيس المخلوع ولد طايع إقناعه بالصمت والعيش في منفاه أو العودة بعد عام إلى موريتانيا للعيش كمواطن عادي.(217/21)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
قوال غير عابرة
- «لن تكون غزة أولاً وأخيراً ولن نقبل ذلك، نقول لشارون الأحمق: إنك تطالب السلطة الفلسطينية بأن تقوم بعمل لم تفلح فيه أنت» إسماعيل هنية القيادي في حركة حماس.
[وكالات 17/9/2005]
- «العبقرية في خطتك الأحادية للانسحاب من قطاع غزة أنها لم تترك للفلسطينيين خياراً آخر» . جورج بوش موجهاً حديثه لأرئيل شارون [صحيفة الجزيرة 17/9/2005]
- «لم تتم بأي حال من الأحوال سرقة أي سائح من السياح الذين تقطعت بهم السبل في أزمة تسونامي، الآن بمقدورنا أن نرى بسهولة أين هو الجزء المتحضر من سكان العالم» ساجيوا سينثاكا رجل سريلانكي يبلغ من العمر 36 عاماً متحدثاً عن النهب والجريمة في نيو أورليانز بعد الإعصار. [نيوزويك 13/9/2005]
- «ليس هناك أي شيء «عراقي» في كردستان؛ فعلم العراق لا يرفرف هناك، وللمنطقة جيشها الخاص، ويحظر على الجيش العراقي دخول المنطقة» . [بيتر جالبريث سفير أمريكي سابق في كرواتيا ومستشار للأكراد، موقع msnbc news]
- «تريد إيران رؤية عالم شيعي موحد، وهذا يعني أنها تريد السيطرة الكاملة على الشيعة في العراق، ونحن نرى في ذلك عنصر عدم استقرار» ضابط في الاستخبارات العسكرية الأمريكية طلب عدم ذكر اسمه نظراً لحساسية موقعه. [نيوزويك العدد 274 13/9/2005]
- «مبارك يجعلني أشعر بالأمان.. أخشى ألا يكون المرشحون الآخرون قادرين على احتواء الإخوان المسلمين وسيسمحون لمصر أن تتحول إلى دولة إسلامية» حبيبة، مواطنة مصرية قبطية. وكالات
- «العالم لم يجد تفسيراً مطلقاً ونهائياً للإرهاب؛ لأن الولايات المتحدة لم تحدد تفسيراً أخيراً له؛ فهو يتبدل ويتغير وفقاً لسياستها الخارجية» .
[رئيس فنزويلا هوجو شافيز يتحدث ساخراً فوق منبر الأمم المتحدة، وكالات 18/9/2005م] ، [صحيفة الجزيرة 18/9/2005]
- «إذا قام شارون بالتشويش على الانتخابات الفلسطينية المقبلة؛ فمن حقنا أن نشوش حياة المستوطنين في أي مكان في فلسطين المحتلة» .
[محمود الزهار، القيادي البارز في حركة حماس، السفير اللبنانية 19/9/2005م]
- «مَن يقول الحقيقة حول وفاة عرفات سيلحق به، هذه أقولها صراحة» .
[حافظ البرغوثي رئيس تحرير صحيفة الحياة الجديدة، برنامج ما وراء الخبر، فضائية الجزيرة، 9/9/2005م]
__________
أحاج وألغاز
- ويفترون على الله الكذب
كشف اليهودي يوري دان أحد المقربين من رئيس الوزراء الإسرائيلي أن الرئيس الأمريكي تحدث إلى أرئيل شارون عن عزم الأخير تصفية عرفات، فقال إنه: «سيكون من الأفضل ترك مصير عرفات بيد الله» فرد عليه شارون قائلاً: «إنه يتوجب علينا مد يد العون له لمساعدته في بعض الأحيان» .
[الوطن القطرية 15/6/1426هـ]
- تحت.. أم فوق الصفر
أصدر محمود محيي الدين وزير الاستثمار في الحكومة المصرية وأحد الأعضاء البارزين في الحزب الوطني الديمقراطي تقويماً جديداً للانتخابات الأخيرة، قال فيه: «على مقياس من واحد إلى عشرة فإننا ما بين سبعة وثمانية» وقال إن الدرجة (1) تمثل ما كان يحدث في الانتخابات العراقية في عهد صدام، والدرجة (10) تمثل ما يحدث في الانتخابات الأوروبية. [مجلة النيوزويك الأمريكية، 13/9/2005م]
- تطبيع الفتوى
أصدر شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي فتوى بخصوص التطبيع مع الكيان الصهيوني قال فيها: إن الإسلام لا يحرم التطبيع مع الدول الأخرى خاصة الكيان الصهيوني طالما كان التطبيع في غير الدين. [مفكرة الإسلام 10/8/1426هـ]
- «مرشح.. ما في معلوم»
كان على الناخبين الأفغان أن يواجهوا تحدي فك طلاسم بطاقات الاقتراع المعقدة، وهو أمر مرهق خاصة بالنسبة لشعب تبلغ نسبة الأمية فيه 70%، وتحوي بطاقات الاقتراع في بعض الأماكن أسماء نحو 400 مرشح وصورهم ورموزهم، وقد يصل عدد أوراق البطاقة الانتخابية إلى سبع أوراق مما قد يحدث ارتباكاً وتأخيراً وطوابير طويلة. [كابول وكالات 19/9/2005]
__________
مرصد الأخبار
- ربع سكان العالم يطلبون حكم الزعماء الدينيين
كشف استطلاع عالمي أجراه معهد جالوب لحساب إذاعة بي بي سي وشمل 50 ألف شخص في 68 دولة، أن ثلثي سكان العالم تقريباً يعتقدون أن دولهم لا تحكم بإرادة شعوبها، وأن 11% فقط يثقون برجال السياسة، وكانت الدول الإسكندنافية، وجنوب أفريقيا فقط هي التي عبرت غالبية سكانها عن أن الدولة تحكم طبقاً لإرادة الشعب.
وأظهر الاستطلاع أن فئة السياسيين هي أقل الفئات تمتعاً بثقة الشعوب، بينما ينال العسكريون والزعماء الدينيون ورجال الأعمال قسطاً وافراً من ثقة الشعوب.
وذكر الاستطلاع أن غالبية الشعوب تود أن يحكمها واحد من فئة المفكرين مثل الكُتَّاب والعلماء، وحصلت هذه الفئة على تأييد 35% من الأصوات، بينما قال 25% إنهم يودون أن يحكمهم زعماء دينيون، وكشف الاستطلاع عن أن 48% من الناس لا يصدقون أن الانتخابات في دولهم تجري بطريقة حرة ونزيهة، وتتفاوت هذه حسب المنطقة؛ ففي الولايات المتحدة وكندا يعتقد 55% فقط أن الانتخابات تجري بحرية ونزاهة، وتصل النسبة في غرب إفريقيا إلى 24%، وفي دول الاتحاد الأوروبي تصل النسبة إلى 82%، وفي جنوب إفريقيا 76%.
وأوضح الاستطلاع أن نحو 33% من الناس يعرفون أنفسهم بجنسياتهم، بينما يعرف 21% منهم أنفسهم بدياناتهم، وقال 61% إن النفوذ العائلي هو أقوى نفوذ يؤثر فيهم، وتتفاوت نسبة النفوذ العائلي على الشخص من منطقة لأخرى فتتدنى في أمريكا الشمالية إلى 35% وتصل في المكسيك إلى 88%. [صحيفة الأهرام 16/9/2005]
- السلحفاة الأمريكية والأرنب الياباني
اليابان الأولى عالمياً في الاتصال السريع بالإنترنت، بينما تراجعت الولايات المتحدة من المركز الرابع في التصنيف العالمي لخدمات الاتصال بالإنترنت فائق السرعة إلى المركز الثالث عشر خلال السنوات الثلاث الأولى من وصول بوش للبيت الأبيض للمرة الأولى عام 2001.
وتتميز خدمة الإنترنت السريع في اليابان بانخفاض تكاليفها بشكل كبير؛ حيث لا تتجاوز هذه التكلفة 22 دولاراً شهرياً، وبات من المقرر ان تتاح الفرصة لليابانيين للدخول للإنترنت عبر كابلات الألياف الضوئية بحلول ديسمبر من العام الجاري مقابل مبلغ يراوح بين 30 و40 دولاراً وليس أكثر.
وبات من الواضح أن طوكيو وجاراتها الآسيويات ستقود قاطرة العالم في مجال الاتصال فائق السرعة خلال الأعوام القليلة القادمة؛ فكوريا الجنوبية على سبيل المثال تضم أكبر عدد من مستخدمي الاتصال الفائق السرعة في العالم، كما أن عدد من تتوافر لديهم هذه الخدمة في المناطق الحضرية من الصين فاق خلال العام الماضي نظيره في أمريكا.
وفي طوكيو ارتفعت سرعة الاتصال من خلال الـ (دي سي إل) من 8 ميجابايت إلى 40 ميجابايت في الثانية وهي سرعة هائلة بالمقارنة بتلك المتوافرة في الولايات المتحدة التي لا تتجاوز 1، 5 ميجابايت في الثانية. كما تصل خدمات الإنترنت فائق السرعة إلى 40 مليون أسرة يابانية.
[مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية سبتمبر/2005]
- أمريكا.. هل تغزو فنزويلا؟
اتهم الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز في مقابلة مع شبكة التلفزيون الأمريكية إي بي سي الولايات المتحدة بأنها وضعت خطة لغزو فنزويلا تحمل اسم خطة بالبوا، وقال شافيز: أقول بأن لديَّ أدلة على وجود خطط لغزو فنزويلا، وأضاف: لدينا وثائق تتعلق بعدد الطائرات التي ستقوم بعمليات القصف وعدد السفن، وأكد شافيز أن خطة الغزو هدفها فنزويلا، وأطلق عليها اسم بالبوا، ووعد بإرسال نسخة من الوثائق إلى الصحافي الذي كان يجري معه المقابلة، لكنه لم يكشف المصادر التي نقلت إليه هذه المعلومات، واكتفى بالقول إنه حصل عليها عن طريق أجهزة استخباراته العسكرية.
[صحيفة الجزيرة 18/9/2005]
- مشرف ومشروع «نحو الأمية»
في إطار الحملة على المدارس الدينية قامت السلطات الباكستانية باعتقال 800 مسلح وطردت 1400 طالب أجنبي كانوا يدرسون في المدارس الدينية في البلاد التي تعتبرها الحكومة أرضاً خصبة لتفريخ الإرهابيين، كما حظرت المحكمة العليا في باكستان على الطلبة المنتمين إلى مدارس غير مسجلة الترشيح لخوض انتخابات عامة، وقال الرئيس الباكستاني برويز مشرف: «لن نسمح لأي مدرسة دينية بتوفير الملاذ للإرهابيين أو تعليم التطرف والتشدد» .
يأتي ذلك في الوقت الذي تبلغ فيه نسبة الأمية في باكستان 61%، كما كشف تقرير حديث لجمعية حماية حقوق الأطفال في باكستان حقيقة مفزعة عن وجود 13 مليون طفل لا يذهبون إلى المدارس أكثر من نصفهم إناث، وذلك من أصل 27 مليون طفل في سن المرحلة الابتدائية، كما أن أكثر من نصف الأطفال المسجلين في المدارس الحكومية لا يكملون دراسة المرحلة الابتدائية، وبسبب عدم توفر المدرسين تخلو 67% من القرى من مدارس البنات.
ومن ناحية أخرى كشفت المعلومات الصادرة عن مركز الإحصاء الحكومي الباكستاني أن ربع الشعب الباكستاني البالغ تعداده 160 مليوناً في حكم المشردين بسبب أوضاع المساكن المتردية؛ حيث يعيش نحو 40 مليون باكستاني بين حواجز طينية وخيام تفتقر إلى أي نوع من الخدمات، ومن بين أكثر من 19 مليون وحدة سكنية تم إحصاؤها في أقاليم باكستان الأربعة، يوجد أكثر من 11 مليوناً (53%) لا تتوفر على حمامات وتوجد هذه الوحدات خارج عواصم الأقاليم حيث يعتمد الناس على الخلاء في قضاء الحاجة وعلى مياه البرك والأنهار في الاستحمام، إضافة إلى لجوء الكثيرين إلى المساجد. [الجزيرة، النيوزويك، وكالات]
- حكاية العملاق والإعصار
ترك انعدامُ الاستجابة السريعة الناسَ في أمريكا والعالم يتعجبون كيف يمكن لمدينة أمريكية أن تبدو كمقديشو، مليون شخص بدون منازل أو وظائف أو مدارس، بصعوبة تلاءمت مع رؤى جورج بوش عن العملاق الأمريكي.
يعيش نحو خُمْس سكان نيو أورليانز تحت خط الفقر، وهم بغالبيتهم من أصول أفريقية، وللجنوب تاريخ قذر حين يتعلق الأمر بالسود الفقراء، وبعد الإعصار قيل لآلاف لم يستطيعوا مغادرة المدينة أن يذهبوا إلى ملعب سويدروم الذي تحول إلى دائرة من دوائر (جهنم) توقفت أجهزة التكييف أولاً، ثم انقطعت الأضواء، وكانت قوارير مياه الشرب قليلة، وازدادت رائحة الأجسام غير المغتسلة تحت لهيب الحرارة المرتفعة، وأغلقت جميع المجاري وطفحت المراحيض برائحة كريهة، وكانت جدران الحمامات الداكنة ملطخة بالبراز، ونمت سوق سوداء، البضائع الرائجة كانت السجائر وأدوية منع إدرار البول للسماح بالمكث وقتاً أطول دون تبوُّل، وكانت الإبر المستخدمة في حقن المخدرات ملقاة على الأرض، وبدأ بعض الناس يضعون حول أرجلهم أكياس البلاستيك ليتمكنوا من المشي عبر برك من البول، وداخل المدينة نزع الناس أرجل المقاعد واستخدموها كمشاعل بعد حلول الظلام، وانتشرت الفئران هائلة الحجم، وكان مستودع وول مارت الضخم قد قام بعمل مزدهر: حمل الناس كل شيء بالمجان، هل كل شيء مجاناً؟ سألت امرأة وهي تصل إلى الباب، وبعد أن جاءها الجواب بالإيجاب، أخذت تهتف: تلفزيون، تلفزيون، ولم يفت العرض رجال الشرطة؛ فقد تكدست أكوام من القمصان القطنية وأجهزة الفيديو الرقمية وعلب طعام الكلاب في سيارات الشرطة.. مجموعة من المراسلين والكتاب يصفون الآثار التي تلت إعصار كاترينا. [موقعmsnbc newsweek.com..]
- ماذا تعرف عن صندوق الأجيال؟
أعلن البنك المركزي النرويجي زيادة أرصدة صندوق النفط الذي تدخر فيه ثروة النفط للأجيال المقبلة إلى 1.18 تريليون كرون نرويجي (180.9 مليار دولار) في الربع الثاني من العام الجاري، وبلغت قيمة موارد صندوق النفط الذي تدخر فيه أموال النفط للسنوات المقبلة عند نضوب هذه المادة 1.09 تريليون كرون (166.6 مليار دولار) في نهاية مارس/ آذار الماضي، ويتولى البنك المركزي إدارة الصندوق الذي سجل نمواً كبيراً في أرصدته منذ تأسيسه عام 1996 في دولة هي ثالث أكبر مصدر للنفط في العالم وتمد الأسواق بنحو ثلاثة ملايين برميل يومياً. [الجزيرة نت 23/8/2005م]
- صاحب مسلماً واترك مسكرا
صدرت مؤخراً دراسة اجتماعية نرويجية تحت عنوان «الخمر يجتاح العالم ويغزو عقول الشباب» ، وتفيد الدراسة التي استمر إعدادها 3 سنوات وأعدتها (الباحثة إلين أموندسن الستغر) المختصة في مجال الكحول بمعهد الدولة لبحوث المسكرات أن كميات الخمر التي يعاقرها النرويجيون وصلت إلى أرقام مخيفة، وتزداد عند الجيل الجديد من الشباب النرويجي شيئاً فشيئاً، وأن تعاطي الخمر أصبح يتفشى بين الفئات العمرية الصغيرة رغم القوانين النرويجية التي تنص على فرض عقوبة على من يبيع الكحول لمن هم دون السن القانوني، وكان مفاجئاً أن الدراسة قدمت عدداً من النصائح للحد من تنامى تعاطي المسكرات، ومن أبرز تلك النصائح دعوة الجهات الحكومية وأولياء الأمور إلى ترك أبنائهم يتعايشون مع جيلهم من الأجانب المسلمين؛ نظراً لأن غالبيتهم لا يتعاطون الخمر بناء على قواعد الدين الإسلامي، وقالت إن هذه الخُلطة تؤثر بشكل إيجابي في الأبناء النرويجيين، مؤكدة أنها إن لم تنه الشاب النرويجي عن الإقلاع عن معاقرة الخمر فإنها ستساعده على التقليل من تناوله، وذكرت الدراسة أن المقارنة بين طلاب الصف العاشر في كل من شرق العاصمة أوسلو حيث تكثر نسبة الأجانب فيها، وبين طلاب الصف العاشر في منطقة غرب أوسلو حيث لا يوجد عدد يذكر من الأجانب بمدارس المنطقة التي تسكنها الطبقة الغنية في المجتمع، أظهر أن المنطقة الشرقية التي تقطنها غالبية من الأجانب يقل فيها شرب الخمر كثيراً قياساً إلى المنطقة الغربية، وذلك بسبب سكانها المسلمين. [بتصرف عن الجزيرة نت 25/7/1426هـ]
__________
أخبار سريعة
- قال مسؤول أمريكي استخباراتي في مجال مكافحة الإرهاب إن تنظيم القاعدة يبالغ في تبنيه للعمليات التفجيرية وأنها ليست أول مرة تلمح فيها القاعدة عن مسؤوليتها في هجمات، وذلك تعليقاً على الشريط الأخير لأيمن الظواهري الذي أعلن فيه تبني القاعدة لهجمات لندن. وقال المسؤول الاستخباراتي: «إن القاعدة فخورة بأن تنسب جميع الهجمات الإرهابية لها» وقال: «أن التسجيل الأخير ليس سوى تصعيد في جهود الدعاية والإعلان» . [موقع سي إن إن 21/9/2005م]
لقطات سريعة
- صرح رئيس اللجنة الوطنية لسلامة المرور بالسعودية أن حصيلة الوفيات المرورية في العام الماضي بلغت رقماً قياسياً 5179 حالة وفاة، وقال إن نسبة 50% منها ترجع إلى استخدام الهاتف الجوال أثناء القيادة والذي يضاعف نسبة وقوع الحوادث بمعدل 400%.
[صحيفة الجزيرة 17/9/2005]
- ذكرت إحصائيات وزارة حقوق الإنسان العراقية أن وزارة العدل تحتجز نحو 7300 سجين بينما يوجد 2300 معتقل لدى وزارة الداخلية و120 لدى وزارة الدفاع ونحو 9600 لدى القوات الأمريكية التي تحدد 180 يوماً كاملة للحكم على ما إذا كان السجين متهماً أم لا. [رويترز 17/9/2005]
- أفادت دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، وقام بها أنتوني كوردسمان أن عدد المسلحين الأجانب في العراق 3000 مسلح، تتألف حسب تقديراتها من نحو 600 مقاتل جزائري، 550 سورياً و500 يمني و450 سودانياً و400 مصري و350 سعودياً و150 مقاتلاً من دول اخرى. [الرأي العام 19/9/2005م]
- ارتفع مستوى مرتبات المديرين التنفيذيين للشركات التي تقوم بتوفير الإمدادات للقوات العسكرية الأمريكية في العراق بنسبة 716 % منذ عام 2001، مقابل ارتفاع قدره 6% لمديري الشركات الأمريكية التنفيذيين الآخرين.
[نيوزويك العدد 274]
- أطلق رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي مارتشلوبرا دعاوى عنصرية ضد المسلمين في إيطاليا، ودعا فيها الشباب الإيطالي إلى محاربة الجاليات المسلمة حتى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى السلاح. [الوطن 29/8/2005]
- أظهرت دراسة إسرائيلية جديدة أن ما يزيد عن نصف مليون شخص في الكيان الصهيوني يحصلون على الغذاء من حوالي 170 جمعية تعمل في مجال توزيع الغذاء فقط، في حين أنه لا تعمل في الوسط العربي سوى جمعيتين فقط. [صحيفة هآرتس 11/9/2005]
- نقلت صحيفة القبس الكويتية عن مصادر طبية قريبة من مستشفى ابن سينا أن هناك إشاعات تتردد عن أن قوات الاحتلال تتعمد إعاقة المصابين من المقاتلين التابعين للمقاومة العراقية أثناء تلقيهم العلاج في المستشفى إثر اعتقالهم. [القبس 16/8/1426هـ]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
تصريحات
- «الحقيقة أن نتنياهو شخص لا يمكن الاعتماد عليه، فهو متهور وقراراته دائماً تتسم بالانفعالية والتسرع» .
[وزير المالية الصهيوني المؤقت «أيهود أولمرت» لصحيفة هاأرتس 22/8/2005م]
- «أعتذر باسم حكومة إسرائيل عن عملية التجسس التي قام بها جهاز الموساد في نيوزيلندا العام الماضي، ونطلب من الملكة النيوزيلندية تقبل اعتذارنا» .
[وزير الخارجية الصهيوني «سيلفان شالوم» معتذراً لرئيسة وزراء نيوزيلندا «هيلين كلارك» استجابة لشرط الملكة بالاعتذار قبل استئناف العلاقات الثنائية 28/8/2005م]
- «إبرام اتفاق مع مصر بنشر قواتها على محور فيلادلفي يمثل أكبر تهديد استراتيجي لدولة إسرائيل»
[رئيس مجلس الأمن القومي «جيورا آيلاند» راديو جيش الاحتلال «جلاتس» 28/8/2005م]
أخبار
- الحاخامات سبب العداوة مع المسلمين
«الحاخامات اليهود ينثرون التطرف في كل معبد من المعابد اليهودية، وأجهزة الأمن تتواطأ مع رجال الدين اليهودي عقب كل جريمة ينفذها متشدد يهودي مثل «ناتان زاده» ، وتخرج بتصريحات للاستهلاك الإعلامي. لا أحد يمكنه التصدي لهم. الحاخامات هم سبب العداوة الكبيرة للمسلمين والعرب بسبب فتاواهم خلال مواعظهم الدينية الأسبوعية» . [الكاتب «الإسرائيلي» «رامي يتساهار» في موقعه الخاص على شبكة الإنترنت]
- «البلاك هوك» لحماية شارون
أوصت لجنة خاصة معنية بالحراسات الشخصية لكبار المسؤولين، طاقم حراسة رئيس الوزراء «أرييل شارون» بالتوقف عن ركوب السيارات المصفحة، واللجوء لاستخدام طائرة من طراز «بلاك هوك» تجنباً لتعرضه لمحاولات اغتيال» . [صحيفة «يديعوت أحرونوت» 26/8/2005م]
- شارون وأغنامه في بؤرة القسام!
أكد تقرير استخباراتي «إسرائيلي» أن مزرعة رئيس الوزراء «أرييل شارون» أصبحت قريبة من نيران صاروخ القسام التي وصل طول مداها لـ 16كم. وهناك تقديرات استخبارية بشأن زيادة مدى صواريخ القسام أدت إلى قرار بنصب نظام إنذار ضد القسام في عسقلان.
أرقام عبرية
- طالب وزير المالية المؤقت «إيهود أولمرت «المسؤولين الأمريكيين بدفع مبلغ 22 مليار شيكل للحكومة «الإسرائيلية» مكافأة لها على تنفيذها خطة فك الارتباط عن غزة. [صحيفة معاريف العبرية 12/8/2005م]
- «يوجد حوالي 17 حاخاماً يهودياً في انتظارك للإيجار على شبكة الإنترنت، حيث يقدمون فتاواهم الدينية ونصائحهم للأسرة الواحدة مقابل 250 دولاراً» . [صحيفة هاأرتس العبرية 20/8/2005م]
- «أصدرت اللجنة المشتركة لاتفاقية الكويز قراراً بحرمان صادرات 4 شركات مصرية من الإعفاء لمدة 3 شهور عند دخولها الولايات المتحدة بسبب عدم التزامها بنسبة المكون «الإسرائيلي» الذي يبلغ 11.7%. [صحيفة هاأرتس العبرية 23/8/2005م]
__________
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
- هجمة تنصير تنطلق من إثيوبيا
صرح مسؤول في شرطة العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أن مجموعات من الأرثوذكس الإثيوبيين المتطرفين ينطلقون من مركز «ديردوه» على الحدود الإثيوبية الصومالية ويقومون بأعمال ضد الإسلام ومبادئه وقد تم اعتقال 32 منهم، وترحيل المجموعة الأجنبية إلى خارج البلاد بعد حبسهم أياماً عدة، وقال المسؤول إن المجموعة نشطت في التنصير مستخدمة كل الوسائل المتاحة مثل الاستعانة بالمنحرفين والفقراء من الصوماليين، كما استخدموا السحر والمخدرات والخمور، واستأجروا بيوتاً خاصة في أماكن متفرقة من العاصمة لممارسة هذه المهام، كما تم رصد إحدى السيارات «لاندكروزر» التابعة لإحدى المنظمات الأجنبية في مصر. [اليوم الصومالية 11/8/2005]
- تنصير في الخليج
في نشرتها الدورية التي تصدر بالعاصمة الإنجليزية لندن، قالت منظمة فرونتييرز التنصيرية البريطانية إنها من أكبر الهيئات التنصيرية في العالم العربي، وقالت إن عمل أفرادها يتم تحت غطاء التعليم والطب وغيرها من المهن لتفادي حظر التنصير في بعض الدول، وكشفت المنظمة البريطانية «فرونتييرز» أن لديها 600 بعثة، في 40 بلداً إسلامياً، يعملون في خفاء ويتلقون دورات تدريبية قبل إيفادهم إلى تلك البلدان.
وقالت النشرة البريطانية إن نشاطها يشمل إنشاء كنائس خاصة للمتنصرين من ذوي الخلفية الإسلامية لا تمانع من تمسك المسلم المتنصر بجزء من ثقافته الأولى.
وأعرب التصريح الإعلامي عن تفاؤله بالسنوات القليلة الماضية في منطقة الخليج حيث تنصر عدد من الأشخاص نادراً ما يعلن عنهم لأسباب اجتماعية أو سياسية. [فرونتييرز نيوز: 12/8/2005غ]
- حملة تنصير في بلاد المغرب
صرح رئيس أساقفة الجزائر المونسينيور هنري تيسييه، بأن حوالي 170 «منصراً» قدموا إلى مختلف المدن الجزائرية خلال الربع الأول من العام الجاري 2005، تحت ستار ما يسمى بـ «حوار الأديان» ، ومن بينهم عدد من المرتدين والمقيمين في أوروبا. [خاص من وداو الولي: الجزائر ـ «دعم» : القاهرة 5/9/2005]
- الإنجيل لكل مصري
في دير الراهبات بمدينة القوصية في صعيد مصر عقدت منظمة جنود مريم مؤتمرها الأول تحت عنوان (المسيح واحداً من جنود مريم) بالتعاون مع المركز الرئيسي للمنظمة الأم بمنطقة ميرا هاوس في مدينة دبلن، وناقش المؤتمر كيفية استخدام الكتاب المقدس في التنصير وهو ما يعرف باسم (العمل الرسولي) ، وخاصة أن (2005) هو عام الإنجيل لدى كنائس الشرق، ووضعت لافتات ضخمة على الطرق الدولية في مصر تحمل عبارة (الإنجيل لكل جيل) . [حامل الرسالة 7/8/2005](217/22)
شجرة الليمون
عبد الستار فتحي عبد الحميد
نهض أحمد من فراشه، كفراشةٍ استهواها الطيران ... توضأ، كبَّر رافعاً يديه لخالقه، أتم صلاته خاشعاً كما علمه أبوه، هوى إلى الطابق الأرضي، دخل حديقة المنزل ليملأ رئتيه بالنسيم الذي يعشقه.
وجد أباه يغرس بعض الأشجار في جانب مقفر من الحديقة، بدا القفر روضة، ورق الأشجار الجديدة يتلألأ باسماً.
قال الأب كاسراً حجاب الصمت: هذه مجموعة متنوعة من الأشجار: برتقال، يوسفي، تفاح ... وأما هذه فهي شجرة ليمون ... قال أحمد في نفسه: إنّ الأشجار الجديدة تتمايل مع النسيم كأنها تُسَر ببعض الحديث.
الأب يسقي أشجاره كل أسبوع بالماء، الماء يطفئ صدى الشجر. أحمد وجد شجرة الليمون منكمشة كطفل أخطأ ويخشى العقاب.. قرر أن يقف جوارها ... يخفف من فزعها ... يتلطف بها ... أغدق بالماء عليها بكرة وعشياً ... لا بد أن تتميز عن غيرها ... إنها ضعيفة تحتاج لغذاء ...
أهلَّ الربيع بموكبه.. استقبلته الدنيا ببهجة غامرة.. كعروس أقبل موعد عرسها ...
أورقت الأشجار ونمت ... نورها ملأ الحديقة وفاض.. أحمد يستعجل شجرته ... يغمرها بالماء ... يرقبها نهاراً، ومن الشرفة ليلاً ... يقارن بينها وبين أخواتها ...
ماذا يجري؟ أي مكيدة تعرضتِ لها يا حبيبتي؟
الأوراق اصفرت ... ذوت ... ذبُلت ... كطفل ذوى عوده رويداً رويداً بين صرخات الأهل ...
تألم لحالها ... اغرورقت عيناه دامعة ... تساقطت الدموع كزخات من المطر ... توشح قلبه بالسواد عليها ...
أدرك الأب حاله: يا بني! إن حبك الزائد لها قد قتلها ... إن الشجرة يا بني! كالبشر تحتاج إلى فترة تصوم فيها لتصحّ ...
لعلك تدرك حكمة الصوم ... صوموا تصحوا ...
بلع أحمد ريقه ... نظر دامعاً لأطلال الشجرة.(217/23)